الكتاب: الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى اشترك في تأليف هذه السلسلة: الدكتور مُصطفى الخِنْ، الدكتور مُصطفى البُغا، علي الشّرْبجي الناشر: دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق الطبعة: الرابعة، 1413 هـ - 1992 م عدد الأجزاء: 8   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي مجموعة من المؤلفين الكتاب: الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى اشترك في تأليف هذه السلسلة: الدكتور مُصطفى الخِنْ، الدكتور مُصطفى البُغا، علي الشّرْبجي الناشر: دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق الطبعة: الرابعة، 1413 هـ - 1992 م عدد الأجزاء: 8   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ـ[الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى]ـ اشترك في تأليف هذه السلسلة: الدكتور مُصطفى الخِنْ، الدكتور مُصطفى البُغا، علي الشّرْبجي الناشر: دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق الطبعة: الرابعة، 1413 هـ - 1992 م عدد الأجزاء: 8 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى الجزء الأول في الطهارة والصلاة الدكتور مصطفى الخن ... الدكتور مصطفى البغا علي الشربجي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة الحمد لله رب العالمين القائل في محكم كتابه المبين: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين}. والصلاة والسلام على سيدنا محمد الرسول الأمين قائد الغر الميامين القائل: ... "من يرد الله به خيراً يفقه في الدين" وعلى آله الطاهرين وأصحابه الذين عملوا على نشر هذا الدين بالحجة والدليل الواضح المبين. وبعد: فغن خير ما يشتغل به الإنسان معرفة الحلال والحرام من الأحكام، وعلم الصحيح من الفاسد من الأعمال؛ وعلم الفقه هو الذي أخذ على عاتقه بيان ذلك. ولقد ألف كثير من علمائنا الأقدمين كتبا في هذا الفن يكاد لا يحصيها العدّ، ولا شك أن كل واحد من هؤلاء المؤلفين الأفاضل قد لاحظ أن هناك ثغرة يوجب عليه دينه أن يقوم بسدها وحاجة يجب عليه أن يبذل كل ما في وسعه لقضائها؛ فمن مطول يجد أن هناك حاجة ماسة للتطويل، ومن مختصر يجد أن هناك طلباً ملحاً للاختصار، ومن ناظم ومن ناثر، ومن باحث في أمهات المسائل وما ينبثق منها من فروع، ومن مقتصر على بيان أمهات المسائل من غير تعرض لكثير من الفروع، وكلهم يقصد بما ألفه ملء فراغ يجب أن يملأ، وفرجة في المكتبة الإسلامية يجب أن تسد، لعل الله سبحانه أن يكون راضياً عنه بما عمل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ومسجلاً عمله في عداد الصدقات الجارية والعلم النافع التي لا ينقطع ثوابها إلى يوم القيامة. ولقد لاحظنا أن هناك حاجة إلى سلسلة فقهية تذكر فيها أمهات المسائل مقرونة بأدلتها من الكتاب الكريم والسنة المطهرة، مشفوعة ببيان ما نستطيع أن نصل إليه بعقولنا من حكمة التشريع. مع سهولة في التعبير، وإكثار من العناوين المنبهة إلى ما تحتها من مسائل. ومع اعتقادنا بأننا لم نبلغ بعد درجة أسلافنا الفقهاء العظام فإننا شعرنا أن من الواجب علينا أن نقوم بالأمر، فاستعنّا بالله وقمنا بذلك على قدر استطاعتنا تاركين لأرباب الكفاءة الصحيحة تتميم ما نقص، وإصلاح ما اعوجَّ، وتصويب ما وقع فيه من الخطأ، إذ لا ندعي - ولن ندعي- أننا قد بلغنا الغاية مع إفراغ جميع ما لدينا من وسع. وها نحن أولاء نقدم الحلقة الأولى من السلسة في موضوع الطهارة والصلاة الواجب على كل مسلم العلم به؛ وأسمينا هذه السلسة (الفقه المنهجي) على مذهب الإمام الشافعي، وما على إخواننا الذين يريدون الوصول إلى الأفضل-لا تسقُّط والتقاط العيوب- إلا أن يرشدونا إلى ما فاتنا مما هدفنا إليه. اللهم أخلص نياتنا وأعمالنا، ووفقنا لما تحبه وترضاه، وانفع المسلمين بما عملنا، واهدنا سواء السبيل. المؤلفون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 مدخل في التعريف بعلم الفقه، ومصادره، وبعض مصطلحاته معنى الفقه: إن للفقه معنيين: أحدهما لغوي، والثاني اصطلاحي. أما المعنى اللغوي: فالفقه معناه: الفهم. يقال: فقه يفقه: أي فهم يفهم. قال تعالى: {فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} [النساء: 78]. أي لا يفهمون. وقال تعالى: {ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44]. أي لا تفهمون تسبيحهم. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن طولَ صّلاةِ الرَّجُلِ وقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌٌ مِنْ فٍقْهِهِ" (رواه مسلم: 869). أي علامة فهمه. وأما المعنى الاصطلاحي؛ فالفقه يطلق على أمرين: الأول: معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بأعمال المكلفين وأقوالهم، والمكتسبة من أدلتها التفصيلية: وهي نصوص من القرآن والسنة وما يتفرع عنهما من إجماع واجتهاد. وذلك مثل معرفتنا أن النية في الوضوء واجبة أخذاً من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّما الأعْمالُ بِالنيَّات " (رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وإن النية من الليل شرط في صحة الصوم أخذاً من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ لَم يبيَّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الفَجْرِ فلا صيام له" (رواه البيهقي: 4/ 202، الدارقطني: 2/ 172، وقال: رواته ثقات). ومعرفتنا أنَّ صلاة الوتر مندوبة، أخذاً من حديث الأعرابي الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الفرائض، ثم قال بعد ذلك: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُها؟ قال: "لا إلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ". (رواه البخاري: 1792/مسلم: 11). وأن الصلاة بعد العصر مكروهة أخذاً من نهيه عليه الصلاة والسلام عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس. [رواه البخاري: 561، ومسلم: 827]. وأن مسح بعض الرأس واجب أخذاً من قوله تعالى: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6]. فمعرفتنا بهذه الأحكام الشرعية تسمى فقهاً اصطلاحاً. والثاني: الأحكام الشرعية نفسها، وعلى هذا نقول: درست الفقه، وتعلمته: أي إنك درست الأحكام الفقهية الشرعية الموجودة في كتب الفقه، والمستمدة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وإجماع علماء المسلمين، واجتهاداتهم. وذلك مثل أحكام الوضوء، وأحكام الصلاة، وأحكام البيع والشراء، وأحكام الزواج والرضاع، والحرب والجهاد، وغيرها. فهذه الأحكام الشرعية نفسها تسمى فقهاً اصطلاحاً. والفرق بين المعنيين: أن الأول يطلق على معرفة الأحكام، والثاني يطلق على نفس الأحكام الشرعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ارتباط الفقه بالعقيدة الإسلامية: من خصائص الفقه الإسلامي - وهو كما قلنا: أحكامُ شرعية ناظمةُ لأفعال المكلفين وأقوالهم - أنه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإيمان بالله تعالى، ومشدود تماماً إلى أركان العقيدة الإسلامية، ولا سيما عقيدة الإيمان باليوم الآخر. وذلك لأن عقدية الإيمان بالله تعالى هي التي تجعل المسلم متمسكاً بأحكام الدين منساقاً لتطبيقها طوعاً واختياراً. ولأن من لم يؤمن بالله تعالى لا يتقيد بصلاةٍ ولا صيامٍ، ولا يراعي في أفعاله حلالاً ولا حراماً، فالتزام أحكام الشرع إنما هو فرعُ عن الإيمان بمن أنزلها وشرعها لعباده. والأمثلة في القرآن الكريم التي تبيِّن ارتباط الفقه بالإيمان كثيرة جداً. وسنكتفي بذكر بعضها لنرى مدى هذا الارتباط بين الأحكام والإيمان وبين الشريعة والعقيدة: 1 - لقد أمر الله عز وجل بالطهارة وجعل ذلك من لوازم الإيمان به سبحانه وتعالى فقال: {يا أَيُّها الَّذينَ آمنوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ} [المائدة: 6]. 2 - ذكر الله الصلاة والزكاة وقرن بينهما وبين الإيمان باليوم الآخر، قال تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل: 3]. 3 - فرض الله الصوم المفضي إلى التقوى، وربطه بالإيمان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 قال تعالى: {يا أَيُّها الَّذينَ آمنوا كُتٍِبَ عَليْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ على الَّذينَ مِنْ قَبْلٍكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. 4 - ذكر الله تعالى الصفات الحميدة التي يتحلى بها المسلم وربط ذلك بالإيمان به تعالى والتي يستحق بها دخول الجنة، فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11]. اللغو: الباطل وما لا فائدة فيه من قول أو فعل. لفروجهم حافظون: جميع فرج وهو اسم لعضو التناسل من الذكر والأنثى. وحفظها: صيانتها عن الحرام ومن الوقوع في الزنى خاصة. ما ملكت أيمانهم: النساء المملوكات وهن الإماء. غير ملومين: بوطئهن. العادون: الظالمون والمجاوزون. 5 - أمر الله تعالى بحسن معاملة النساء ومهَّد لذلك بنداء المخاطبين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء: 19] تعضلوهن: تمنعوهن من الزواج. بفاحشة: سوء خلق أو نشوز أو زنى. ... مبينة: واضحة وظاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 6 - أمر المطلقة أن تعتدّ ثلاثة قروء وألا تكتم ما في رحمها إن كانت حاملاً وعلق ذلك على الإيمان بالله واليوم الآخر، قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ... [البقرة: 228]. 7 - أمر الله سبحانه وتعالى باجتناب الخمر والميسر والأنصاب والأزلام بعد أن نادى المؤمنين بوصف الإيمان، مشعراَ بذلك اجتنابها مرتبط بخلوص إيمانهم، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. 8 - حرَّم الله سبحانه وتعالى الربا وربط بين تركه وتحقيق التقوى والإيمان، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ... [آل عمران: 130] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ... [البقرة: 278]. 9 - حضَّ على العمل وأحاطه بسياج من الشعور بالمراقبة الإلهية والشعور بالمسؤولية، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105]. وهكذا فقلَّما تجد حكماً من أحكام الدين في القرآن إلا وهو مقرون بالإيمان بالله تعالى ومرتبط بأركان العقيدة الإسلامية، وبهذا اكتسب الفقه الإسلامي قداسة دينية، وكان له سلطان روحي، لأنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 أحكام شرعية صادرة عن الله تعالى موجبة لطاعته ورضاه، وفي مخالفتها خطر غضبه وسخطه، وليست أحكاماً قانونية مجردة لا يشعر الإنسان لها برابط يربطها في ضميره، أو يصلها بخالقه. قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النساء: 65]. شمول الفقه الإسلامي لكل ما يحتاج إليه الناس: لا شك أن حياة الإنسان متعددة الجوانب، وأن سعادة الإنسان تقتضي رعاية هذه الجوانب كلها بالتنظيم والتشريع، ولمَّا كان الفقه الإسلامي هو عبارة عن الأحكام التي شرعها الله لعباده رعاية لمصالحهم ودرءاً للمفاسد عنهم، جاء هذا الفقه الإسلامي ملماً بكل هذه الجوانب، ومنظماً بأحكامه جميع ما يحتاجه الناي، وإليك بيان ذلك: لو نظرنا إلى كتب الفقه التي تضمن الأحكام الشرعية المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع علماء المسلمين واجتهاداتهم، لوجدناها تنقسم إلى سبع زمر وتشكل بمجموعها القانون العام لحياة الناس أفراداً ومجتمعات: الزمرة الأولى: الأحكام المتعلقة بعبادة الله من وضوء وصلاة وصيام وزكاة وحج وغير ذلك، وتسمى هذه الأحكام: العبادات. الزمرة الثانية: الأحكام المتعلقة بالأسرة من زواج وطلاق، ونسب ورضاع، ونفقة وإرث، وغيرها، وتسمى هذه الأحكام: الأحوال الشخصية. الزمرة الثالثة: الأحكام المتعلقة بأفعال الناس، ومعاملة بعضهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 بعضاَ من شراء ورهن وإجارة، ودعاوي وبينات، وقضاء وغير ذلك، وتسمى هذه الأحكام: معاملات. الزمرة الرابعة: الأحكام المتعلقة بواجبات الحاكم من إقامة العدل ودفع الظلم وتنفيذ الأحكام، وواجبات المحكوم من طاعة في غير معصية وغير ذلك، وتسمى هذه الأحكام: الأحكام السلطانية، أو السياسية الشرعية. الزمرة الخامسة: الأحكام المتعلقة بعقاب المجرمين وحفظ الأمن والنظام مثل: عقوبة القاتل والسارق وشارب الخمر وغير ذلك، وتسمى هذه الأحكام: العقوبات. الزمرة السابعة: الأحكام المتعلقة بالأخلاق والحشمة، والمحاسن والمساوئ وغير ذلك، وتسمى هذه الأحكام: الآداب والأخلاق. وهكذا نجد أن الفقه الإسلامي شامل بأحكامه لكل ما يحتاج إليه الإنسان، وملمَّ بجميع مرافق حياة الأفراد والمجتمعات. مراعاة الفقه الإسلامي اليسر ورفع الحرج: معنى اليسر: إن الإسلام راعي بتشريع الأحكام حاجة الناس، وتأمين سعادتهم، ولذلك كانت هذه الأحكام كلها في مقدور الإنسان، وضمن حدود طاقته، وليس فيها حكم يعجز الإنسان عن أدائه والقيام به، وإذا ما نال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 المكلف حرج خارج عن حدود قدرته أو متسبب بعنت ومشقة زائدة لحالة خاصة، فإن الدين يفتح أمامه باب الترخص والتخفيف. الدليل على أن الإسلام دين اليسر: وليس أدل على أن الإسلام دين يسر من قوله تعالى: {ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدَّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ومن قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة: 185]. ومن قوله تعالى: {لا يُكَلَّفُ اللهُ نَفْساً إلآ وُسْعَها} [البقرة: 286]. ومن قوله عليه الصلاة والسلام: " إنَّ الدَّينَ يُسْرُ" (رواه البخاري: 39). أمثلة على يسر الإسلام: ومن الأمثلة على يسر الإسلام ما يلي: 1 - الصلاة قاعداً لمن يشق عليه القيام، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنبٍ" (رواه البخاري: 1066). 2 - قصر الصلاة الرباعية والجمع بين الصلاتين للمسافر، قال تعالى: {َإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِِ} [النساء: 101] وروى البخاري (1056) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَجْمَعُ بَيْنَ صَلاةِ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ إذا كانَ عَلىَ ظَهْرِ سَيْرٍ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ المَغرِبِ وَالعِشَاءِ ". [على ظهر سير: سائر في السفر]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 مصادر الفقه الإسلامي: قلنا إن الفقه الإسلامي هو مجموعة الأحكام الشرعية التي أمر الله عباده بها، وهذه الأحكام ترجع بمجموعها إلى المصادر الأربعة التالية: القرآن الكريم - السنة الشريفة - الإجماع - القياس. القرآن الكريم: القرآن: هو كلام الله تعالى: أنزله على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وهو المكتوب في الصحف، والقرآن هو المصدر والمرجع لأحكام الفقه الإسلامي، فإذا عرضت مسألة رجعنا قبل كل شئ إلى كتاب الله عز وجل لنبحث عن حكمها فيه، فإن وجدنا فيه الحكم أخذنا به، ولم نرجع إلى غيره. فإذا سئلنا عن حكم الخمر، والقمار، وتعظيم الأحجار، والاستقسام بالأزلام، رجعنا إلى كتاب الله عز وجل لنجد قول الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. وإذا سئلنا عن البيع، والربا، وجدنا حكم ذلك في كتاب الله عز وجل، حيث قال عز من قائل: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. وإذا سئلنا عن الحجاب وجدنا حكمه في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] بخمرهن: جمع خمار وهو غطاء الرأس. وجيوبهن: جمع جيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وهو شق الثوب من ناحية الرأس، والمراد بضرب الخمار على الجيب: أن تستر أعالي جسمها مع الرأس. وكذلك في قوله تعالى: {أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 59]. يدنين: يرخين ويغطين وجوههن وأعطافهن. جلابيبهن: جمع جلباب وهو الرداء الذي يستر كامل البدن أعاليه وأسافله. أدنى: أقرب لأن تُميَّز الشريفاتُ العفيفات من غيرهن. فلا يؤذين: بالتعرض لهن. وهكذا يكون القرآن الكريم هو المصدر الأول لأحكام الفقه الإسلامي. لكن القرآن الكريم لم يقصد بآياته كل جزئيات المسائل وتبيين أحكامها والنص عليها، ولو فعل ذلك لكان يجب أن يكون أضعاف ما هو عليه الآن. وإنما نص القرآن الكريم على العقائد تفصيلاً، والعبادات والمعاملات إجمالاً، ورسم الخطوط العامة لحياة المسلمين وجعل تفصيل ذلك للسنة النبوية. فمثلاً: أمر القرآن بالصلاة، ولم يبين كيفياتها، ولا عدد ركعاتها. وأمر بالزكاة، ولم يبين مقدارها، ولا نصابها، ولا الأموال التي تجب تزكيتها. وأمر بالوفاء بالعقود، ولم يبين العقود الصحيحة التي يجب الوفاء بها. وغير ذلك من المسائل كثير. لذلك كان القرآن مرتبطاَ بالسنة النبوية لتبيين تلك الخطوط العامة وتفاصيل ما فيه من المسائل المجملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 السنة الشريفة: والسنّة هي كل ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير. فمثال القول: ما أخرجه البخاري (48) ومسلم (64) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " سِبَابُ الْمسْلِمِ فُسُوقٌ، وقِتالُهُ كُفْرٌ". ومثال الفعل: ما رواه البخاري عائشة رضي الله عنها لما سئلت: "مَا كَانَ يَصْنَعُ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته؟ قَالَتْ: كَانَ يَكونُ في مَهْنَةِ أَهْلَهِ، فَإذا حَضَرَتِ الصَّلاةُ قَامَ إلَيْها". مهنة التقرير: ما رواه أبو داود (1267) أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال: " صلاة الصبح ركعتان"، فقال الرجل: إني لم أكن صليت الركعتين التي قبلهما فصليتهما الآن، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاعتبر سكوته إقراراً على مشروعية صلاة السنة القبلية بعد الفرض لمن لم يصلِّها قبله. منزلة السنَّة: والسنة تعدُّ في المنزلة الثانية بعد القرآن الكريم من حيث الرجوع إليها: أي إنما نرجع أولاً إلى القرآن، فإن لم نجد الحكم فيه رجعنا إلى السنة، فإذا وجدناه فيها عملنا به كما لو كان في القرآن الكريم، شريطة أن تكون ثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسند صحيح. وظيفة السنة النبوية: وظيفة السنة النبوية إنما هي توضح وبيان لما جاء في القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الكريم، فالقرآن - كما قلنا - نص على الصلاة بشكل مجمل، فجاءت السنة ففصلت كيفيات الصلاة القولية والعملية. وصح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُوني أُصَلَّي" (رواه البخاري: 605). وكذلك بينت السنة أعمال الحج ومناسكه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " خُذوا عَنِّي مَناسِكَكُمْ" (رواه البخاري). وبينت العقود الجائزة، والعقود المحرَّمة في المعاملات، وغيرها. كذلك شرعت السنة بعض ما سكت عنه القرآن ولم يبين حكمه؛ مثل: تحريم التختُّم بالذهب ولبس الحرير على الرجال. وخلاصة القول: إن السنة هي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم، وإن العمل بها واجب، وهي ضرورية لفهم القرآن والعمل به. الإجماع: والإجماع معناه: اتفاق جميع العلماء المجتهدين من أمة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في عصر من العصور على حكم شرعيَّ، فإذا اتفق هؤلاء العلماء - سواء كانوا في عصر الصحابة أو بعدهم - على حكم من الأحكام الشرعية كان اتفاقهم هذا إجماعاً وكان العمل بما أجمعوا عليه واجباً. دليل ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن علماء المسلمين لا يجتمعون على ضلالة، فما اتفقوا عليه كان حقاً. روى أحمد في مسنده (6/ 396) عن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " سَأَلْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لاَ يَجْمَعَ أُمَّتي عَلى ضَلالَةٍ فَأَعْطَانيها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ومثال ذلك: إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أن الجد يأخذ سدس التركة مع الولد الذكر، عند عدم وجود الأب. منزلة الإجماع: والإجماع يأتي في المرتبة الثالثة من حيث الرجوع إليه، فإذا لم نجد الحكم في القرآن، ولا في السنة، نظرنا هل أجمع علماء المسلمين عليه، فإن وجدنا ذلك أخذنا وعملنا به. القياس: وهو إلحاق أمر ليس فيه حكم شرعي بآخر منصوص على حكمه لاتحاد العلة بينهما, وهذا القياس نرجع إليه إذا لم نجد نصاً على حكم مسألة من المسائل في القرآن ولا في السنة ولا في الإجماع. منزلة القياس: وأركان القياس أربعة: أصلُ مقيسٌ عليه، وفرعٌ مقيس، وحكم الأصل المنصوص عليه، وعلة تجمع بين الأصل والفرع. مثال القياس: إن الله حرَّم الخمر بنص القرآن الكريم، والعلة في تحريمه: هي أنه مسكر يذهب العقل، فإذا وجدنا شراباً آخر له اسم غير الخمر، ووجدنا هذا الشراب مسكراً حكمنا بتحريمه قياساً على الخمر، لأن علة التحريم- وهي الإسكار - موجودة في هذا الشراب، فيكون حراماً مثل الخمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 هذه هي المصادر التشريعية التي ترجع إليها أحكام الفقه الإٍسلامي ذكرناها تتميماً للفائدة، ومكان تفصيلها كتب أصول الفقه الإسلامي. ضرورة التزام الفقه الإسلامي، والتمسك بأحكامه، وأدلة ذلك من القرآن والسنّة: لقد أوجب الله على المسلمين التمسك بأحكام الفقه الإسلامي، وفرض عليهم التزامه في كل أوجه نشاط حياتهم وعلاقاتهم. وإحكام الفقه الإسلامي كلها تستند إلى نصوص القرآن والسنة، والإجماع والقياس- في الحقيقة - يرجعان إلى القرآن والسنة. فإذا استباح المسلمون ترك أحكام الفقه الإسلامي، فقد استباحوا ترك القرآن والسنة، وعطلوا بذلك مجموع الدين الإسلامي، ولم يعد ينفعهم أن يتسموَّا بالمسلمين أو يدَّعوا الإيمان، لأن الإيمان في حقيقته هو تصديق بالله تعالى، وبما أنزل في كتابه، وفي سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. والإسلام الحقيقي يعني الطاعة والامتثال لكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ربه عز وجل مع الإذعان والرضا. وأحكام الفقه الإسلامي ثابتة لا تتغير ولا تتبدل مهما تبدل الزمن وتغير، ولا يباح تركها بحال من الأحوال. أدلة ذلك من القرآن والسنة: والأدلة على وجوب التزام الفقه والتمسك بأحكامه كثيرة جداً في الكتاب والسنة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 أما في الكتاب: فقد قال الله تعالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} [الأعراف: 3]. وقال: {َلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء: 65]. وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]. وقال تعالى: {إنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} [النساء: 105] وبناءً على هذه النصوص الآمرة باتباع ما أنزل الله تعالى وتحكيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسنته في كل ما ينشأ من معاملة بين الناس، والناهية عن كل مخالفة لله ورسوله. بناءً على ذلك يعد من يختار من الأحكام غير ما اختاره الله ورسوله، قد ضلَّ ضلالاً بعيداً قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} [الأحزاب: 36]. وأما في السنة: فالأحاديث كثيرة أيضاً، منها: ما روى البخاري (2797) ومسلم (1835) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ أَطَاعَني فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصاني فَقَدْ عَصَى اللَّهَ". ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَالَّذي نَفْسي بيَدِهِ لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبعاً لَما جِئْتُ بِهِ" (ذكره الإمام النووي في متن الأربعين النووية: 41، وقال: حديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 صحيح). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَيْكُمْ بِسُنتَّي" (رواه أبو داود: 4607، والترمذي: 2678). وقوله: "تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّو بَعْدِي: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتي" (انظر: مسلم: 1218، وأبو داود: 1905، والموطأ: 2/ 899). هذه الأدلة من القرآن والسنة واضحة في وجوب إتباع الأحكام التي شرعها الله عز وجل للعباد في كتابه، وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. التعريف ببعض المصطلحات الفقهية: لا بد قبل البدء بأبواب الفقه ومسائله من التعريف ببعض المصطلحات الفقهية التي تدور عليها أحكام الفقه في جميع الأبواب وهذه المصطلحات هي: 1 - الفرض: الفرض هو ما طلب الشرع فعله طلباً جازماً، بحيث يترتب على فعله الثواب، كما يترتب على تركه العقاب. ومثاله الصوم، فإن الشرع الإسلامي طالبنا بفعله مطالبة جازمة، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]. أي فرض. فإذا صمنا ترتب على هذا الصيام الثواب في الجنة، وإذا لم نَصُمْ ترتب على ذلك العقاب في النار. 2 - الواجب: والواجب مثل الفرض تماماً في مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، لا فرق بينهما أبداً إلا في باب الحج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 فالواجب في باب الحج: هو ما لا يتوقف عليه صحة الحج، وبعبارة أخرى: لا يلزم من فوته فوت الحج وبطلانه، وذلك مثل رمي الجمار، والإحرام من الميقات، وغير ذلك من واجبات الحج، فإذا لم يأت الحاج بهذه الواجبات صح حجه، ولكن كان مسيئاً، ووجب جبر ترك هذه الواجبات بفدية هي إراقة دم. وأما الفرض في الحج فهو ما يتوقف عليه صحة الحج، وبعبارة أخرى: يلزم من فوته فوت الحج وبطلانه. ومثال ذلك الوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، وغير ذلك من الفروض فإنه إذا لم يأت بها بطل حجه. 3 - الفرض العيني: هو ما يطلب من كل فرد من أفراد المكلفين طلباً جازماً، مثل الصلاة والصيام، والحج على المستطيع، فإن هذه العبادات تجب على كل مكلف بعينه، ولا يكتفي بقيام بعض المكلفين بها دون الباقين. 4 - الفرض الكفائي: هو ما كان مطالباً بفعله مجموع المسلمين، لا كل واحد منهم، بمعنى: أنه إذا قام به بعضهم كفى، وسقط الإثم عن الآخرين، وإذا لم يقم به أحد أثموا وعصَوا جميعاً. ومثل ذلك: تجهيز الميت والصلاة عليه، فإن واجب المسلمين إذا مات فيهم ميت أن يغسلوه ويكفنوه، ويصلوا عليه، ثم يدفنوه، فإذا قام بهذا العمل بعض المسلمين حصل المقصود، وإذا لم يقم به أحد عصَوا جميعاً، وأثموا لتركهم هذا الفرض الكفائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 5 - الركن: وهو ما وجب علينا فعله وكان جزءاً من حقيقة الفعل، وذلك مثل قراءة الفاتحة في الصلاة، والركوع، والسجود فيها، فهذه الأمور تسمى أركاناً. 6 - الشرط: وهي ما وجب فعله، ولكنه ليس جزءاً من حقيقة الفعل، بل هو من مقدماته، وذلك مثل الوضوء، ودخول وقت الصلاة، واستقبال القبلة، فهذه الأمور كلها خارجة عن حقيقة الصلاة، ومقدمة عليها، ولا بد منها لصحة الصلاة، وتسمى شروطاً. 7 - المندوب: والمندوب هو ما طلب الشرع فعله لكن طلباً عير جازم، حيث يترتب الثواب على فعله، ولا يترتب العقاب على تركه. ومثال ذلك: صلاة الضحى، وقيام الليل، وصيام ستة أيام من شوال وغير ذلك، فهذه العبادات إن فعلناها أثبنا عليها، وإن لم نفعلها لم نعاقب على تركها. ويسمى المندوب سنة، ومستحباً، وتطوعاً، ونفلاً. 8 - المباح: وهو ما كان فعله وتركه سواءً، لأن الشرع لم يأمرنا بتركه، ولم يأمرنا بفعله، بل جعل لنا حرية الترك والعمل، ولذلك لم يترتب على فعل المباح أو تركه ثواب أو عقاب، ومثال ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 أفادت هذه الآية أن العمل بعد صلاة الجمعة مباح، فمن شاء عمل، ومن شاء ترك. 9 - الحرام: وهو ما طالبنا الشرع بتركه طلباً جازماً، بحيث يترتب على تركه امتثالاً لأمر الله ثوابٌ ويترتب على فعله عقاب، ومثال ذلك: القتل، قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} [الإسراء: 33]. وأكل أموال الناس بالباطل، قال تعالى: {وََلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. فإذا فعل الإنسان شيئاً من هذه المحرَّمات أثم واستحق العذاب، وإذا تركها تقرباً إلى الله استحق على تركها الثواب. ويسمى الحرام محظوراً، ومعصية، وذنباً. 10 - المكروه: والمكروه قسمان: مكروهاً تحريمياً، ومكروهاً تنزيهياً. المكروه تحريمياً: هو ما طالبنا الشرع بتركه طلباً جازماً لكن دون طلب ترك الحرام، بحيث يترتب على تركه امتثالاً لأمر الله تعالى الثواب، ويترتب على فعله العقاب، لكن دون عقاب الحرام. ومثال ذلك صلاة النفل المطلق عند طلوع الشمس، أو عند غروبها. فهذه الصلاة مكروهة تحريمياً. المكروه تنزيهياً: هو ما طلب الشرع تركه طلباً غير جازم، بحيث إذا عرفة للحاج، فإن ترك الصوم امتثالاً لأمر الدين أثيب، وإن صام لم يعاقب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 11 - الأداء: وهو فعل العبادة في وقتها المحدد لها من قبل الشرع، وذلك كصيام رمضان في شهر رمضان، وكصلاة الظهر في وقتها المحدد شرعاً. 12 - القضاء: وهو فعل العبادة التي وجبت خارج وقتها المحدد لها من قبل الشرع، وذلك كمن صام رمضان في غير رمضان بعد فواته، أو صلى الظهر في غير وقتها المحدد شرعاً بعد فواته. والقضاء واجب، سواء فاتت العبادة بعذر، أو بغير عذر، والفرق بينهما: أن فوتها بغير عذر موجب للإثم، وفوتها بعذر غير موجب للإثم. قال تعالى: {ِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]. أي من أفطر لعذر مرض أو سفر، فعليه قضاء ما فاته بعد رمضان. 13 - الإعادة: والإعادة هي فعل العبادة في وقتها مرة ثانية لزيادة فضيلة، وذلك كمن صلى الظهر منفرداً، ثم حضرت جماعة، فإنه يُسَنُّ له إعادتها تحصيلاَ لثواب الجماعة. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 أحكَام الطهَارَة معنى الطهارة: الطهارة لغة: النظافة والتخلص من الأدناس حسيَّة كانت كالنجس، أو معنوية كالعيوب. يقال تطهّر بالماء: أي تنظف من الدنس، وتطهر من الحسد: أي تخلص منه. والطهارة شرعاً: فعل ما تستباح به الصلاة - أو ما في حكمها- كالوضوء لمن كان غير متوضئ، والغسل لمن وجب عليه الغسل، وإزالة النجاسة عن الثوب والبدن والمكان. عناية الإسلام بالنظافة والطهارة: لقد اعتنى الإسلام بالطهارة والنظافة عناية تامة، ويظهر ذلك مما يلي: 1 - الأمر بالوضوء لأجل الصلاة كل يوم عدت مرات. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} م [المائدة: 6] 2 - الحضُّ على الغسل في كثير من المناسبات، قال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ} [المائدة: 6]، وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لِلهِ عَلَى كلَّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فيِ كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامِ يَوْماً يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسِهُ وَجَسَدَهُ" [رواه البخاري: 856، ومسلم: 849]. 3 - الأمر بقص الأظفار، ونظافة الأسنان، وطهارة الثياب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... " خَمْسٌ مِنَ الفِطْرَةِ: الْخِتان، والاسْتِحْدَاد، َوَنْتفُ الإِبط، وَتَقْليمُ الأََْظافِر، وَقَصُّ الشَّاربِ" [رواه البخاري: 5550، ومسلم: 257]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: " لّوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلى أُمَّتي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّواكِ عِنْدَ كلِّ صَلاَةٍ" [رواه البخاري: 847، ومسلم: 252]. وفي رواية عند أحمد ... [6/ 325]: "مع كل وضوء". [الاستحداد: هو استعمال الموسى في حلق العانة]. وقال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: " إِنَّكُمْ قَادِمُونَ عَلى إِخْوَانِكُمْ، فَأَصْلِحوا رِحَالَكُمْ، وَاَصْلِحُوا لباسَكم، حتى تكونوا كأنكم شامةٌ في الناس، فإن اللهَ لا يحبّ الفُحْشَ وَلا َالتَّفَحُّشَ" (1) [رواه أبو داود: 4089. وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، ولقد جعل الدين الطهارة نصف الإيمان، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " الطُّهور شَطْرُ الإيمان" [أخرجه مسلم: 223]. حكمة تشريع الطهارة: لقد شرع الإسلام الطهارة لحكمٍ كثيرة نذكر منها ما يلي:   (1) - رحالكم: جمع رحل وهو ما يوضع على ظهر البعير ونحوه للركوب عليه، وكل شئ يعدَ للرحيل من وعاء للمتاع وغيره. شاملة: هي علامة في البدن يخالف لونها لون باقيه. والمراد: حتى تكونوا ظاهرين ومتميزين عن غيركم. الفحش: القبيح من القول أو الفعل، والتفحش: تكلف الفحش والمبالغة فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 1 - أن الطهارة من دواعي الفطرة، فالإنسان يميل إلى النظافة بفطرته وينفر بطبعه من الوساخة والقذارة، ولما كان الإسلام دين الفطرة كان طبيعياً أن يأمر بالطهارة والمحافظة على النظافة. 2 - المحافظة على كرامة المسلم، وعزته، فالناس يميلون بطبعهم إلى النظيف، ويرغبون بالاجتماع إليه، والجلوس معه، ويكرهون الوسِخ، ويحتقرونه، وينفرونه، وينفرون منه، ولا يرغبون بالجلوس إليه. ولما كان الإسلام حريصاَ على كرامة المؤمن وعزته أمره بالنظافة، ليكون بين إخوانه عزيزاً كريماً. 3 - المحافظة على الصحة، فالنظافة من أهم الأسباب التي تحفظ الإنسان من الأمراض، لأن الأمراض أكثر ما تنتشر بين الناس بسبب الأوساخ والأقذار. فتنظيف الجسم، وغسل الوجه، واليدين، والأنف، والرجلين - وهذه الأعضاء التي تتعرض للوسخ كثيراً - عدة مرات كل يوم يجعل الجسم حصيناً من الأمراض. 4 - الوقوف بين يدي الله طاهراً نظيفاَ، لأن الإنسان في صلاته يخاطب ربه ويناجيه، فهو حرَ أن يكون طاهر الظاهر والباطن نظيف القلب والجسم، لأن الله تعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين. المياه التي يُطهر بها: المياه: جمع ماء، وهي ماء السماء، وماء البحر، وماء البئر، وماء النهر، وماء العين، وماء الثلج. وتندرج هذه المياه جميعها تحت قولنا: ما من السماء، أو نبع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 من الأرض، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان: 48]، وقال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} [الأنفال: 11]. وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يَا رَسولَ اللهِ، إنَّا نَرْكَبُ البَحْرَ، وَنَحمِلُ مَعَنا القَليلَ مِنَ المَاءِ، فَإنْ تَوَضَّأْنا بهِ عَطِشْنَا، أَفَتَوَضَّأُ بِماءِ البَحْرِ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " هُوَ الطَّهُورُ ماُؤهُ الحِلُّ مَيتَتُهُ" [رواه الخمسة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح] [الحل ميتته: أي يؤكل ما مات فيه من سمك ونحوه بدون ذبح شرعي]. الخمسة هم: أبو داود والترمذي والنَّسائي وابن ماجه وأحمد بن حنبل. **** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 أقسام المياه وتنقسم المياه إلى أربعة أقسام: طاهر مطهر، وطاهر مطهر مكروه، وطاهر غير مطهر، ومتنجس. الطاهر المطهر: وهو الماء المطلق الباقي على وصف خلقته التي خلقه الله عليها، ولا يخرجه عن كونه ماء مطلقاً تغيره بطول مكث، أو بسبب تراب، أو طحلب ـ وهو شيء أخضر يعلو الماء من طول مكث ـ أو تغيره بسبب مقرّه أو ممرّه كوجوده في أرض كبريتية، أو مروره عليها، وذلك لتعذر صون الماء عن ذلك والأصل في طهورية الماء المطلق: ما رواه البخاري (217) وغيره: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فقام إليه الناس ليقعوا به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " دَعُوهُ، وَهَريقُوا عَلى بَولِهِ سَجْلاً مِنْ ماءٍ ـ أَوْ ذَنُوباً مِنْ ماءٍ ـ فَإنَّما بُعُثُتْم مُسَيِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ ". [ليقعوا به: ليزجروه بالقول أو الفعل. سجلاً: دلواً ملأى بالماء، ومثله الذنوب]. فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإراقة الماء على مكان البول دليل أنه فيه خاصية التطهير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 الطاهر المطهر المكروه: وهو الماء المشمس الذي سخنته الشمس، ويشترط لكراهيته ثلاثة شروط وهي: 1ـ أن يكون ببلاد حارة. 2ـ أن يكون موضوعاً بأوان منطبعة غير الذهب والفضة، كالحديد والنحاس، وكل معدن قابل للطرق. 3ـ أن يكون استعماله في البدن لأدمي ولو ميتاً أو حيوان يلحقه البرص كالخيل. نقل الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ عن عمر - رضي الله عنه -: أنه كان يكره الاغتسال به، وقال: ولا أكره الماء المشمس إلا من جهة الطب، ثم روى: أنه يورث البرص. وذلك لأن الشمس بحدتها تفصل منه زهومة تعلو الماء، فأن لاقت البدن بسخونتها أمكن أن تضر به، فتورثه البرص، وهو مرض يصيب الجلد. الطاهر غير المطهر: وهو قسمان: الأول: هو الماء القليل المستعمل في فرض الطهارة كالغسيل والوضوء. ودليل كونه طاهراً ما رواه البخاري (191) ومسلم (1616) عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني وأنا مريض لا أَعْقِلُ فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ مِنْ وَضوئِهِ عَلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 [لا أعقل: أي في حالة غيبوبة من شدة المرض. من وضوئه: الماء الذي توضأ به] ولو كان غير طاهر لم يصبه عليه. ودليل كونه غير مطهر ما رواه مسلم (283) وغيره: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لاَ يَغْتَسِلْ أَحدُكُمْ في المَاءِ الدَّاثِمِ ـ أي الراكد ـ وَهُوَ جُنُب " فقالوا: يا أبا هريرة، كيف نفعل؟ قال: يتناوله تناولاً وحكم الوضوء في هذا حكم الغسل لأن المعنى فيهما واحد، وهو رفع الحدث. فقد أفاد الحديث: أن الاغتسال في الماء يخرجه عن طهوريته، وإلا لم ينه عنه، وهو محمول على الماء القليل لأدلة أخرى. الثاني: هو الماء المطلق الذي خالطه شيء من الطاهرات التي يستغني عنها الماء عادة والتي لا يمكن فصلها عنه بعد المخالطة، فتغير بحيث لم يعد يطلق عليه أسم الماء المطلق: كالشاي والعرقسوس، أما إذا كان المخلط الطاهر موافقا للماء في صفاته من طعم ولون وريح كماء الورد الذي فقد صفاته فإنه يعمد عند ذلك إلى التقدير بالمخالف الوسط، وهو في الطعم عصير الرمان، وفي اللون عصير العنب، وفي الرائحة اللاذن (1)، فإن قدر تغيره بمخالطة ذلك صار الماء طاهراً غير مطهر، وكونه غير مطهر لأنه أصبح لا يسمى ماء في هذه الحالة والشارع اشترط التطهر بالماء. الماء المتنجس: هو الماء الذي وقعت فيه نجاسة وهو قسمان:   (1) رطوبة تتعلق بشعر المعزى ولحاها إذا رعت نباتاً يعرف بقلسوس يستعمل للنزلات والسعال ووجع الأذن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الأول قليل: وهو ما كان دون القلتين. وهذا الماء ينجس بمجرد وقوع النجاسة، ولو كانت قليلة ولم يتغير فيه شيء من أوصافه كاللون والريح والطعم. والقلتان: خمسمائة رطل بغدادي وتساوي مائة وأثنين وتسعين كيلو غراماً وثمان مائة وسبعة وخمسين غراماً (857، 192 كلغ)، ويساوي بالمكعب ذراعاً وربعاً طولاً وعرضاً وعمقاً. روى الخمسة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يسأل عن الماء يكون بالفلاة من الأرض، وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: " إذَا كَانَ الماءُ قلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الخَبَث "، وفي لفظ أبي أبي داود (65): " فَإَّنهُ لا يَنْجُسُ ". [بالفلاة: الصحراء ونحوها. ينوبه: يرد عليه. السباع: كل ما له ناب يفترس به من الحيوانات]. ومفهوم الحديث: أنه إذا كان الماء أقل من قلتين بنجس ولو لم يتغير، ودل على هذا المفهوم ما رواه مسلم (278) عن أبي هري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَومِهِ فَلاَ يَغْمِسْ يَدَهُ في الإنَاءِ حَتَّى يَغْسلها ثَلاَثاً فَإنَّهُ لاَ يدْرِي أَيْنَ بَاَتت يدُهُ ". فقد نهى المستيقظ من نومه عن الغمس خشية تلوث يده بالنجاسة غير المرئية، ومعلوم أن النجاسة غير المرئية لا تغير الماء فلولا أنها تنجسه بمجرد الملاقاة لم ينهه عن ذلك. والثاني كثير: وهو ما كان قلتين أو كثر، وهذا الماء لا ينجس بمجرد وقوع النجاسة فيه، وإنما ينجس إذا غيرت النجاسة أحد أوصافه. الثلاثة: اللون، أو الطعم، أو الريح. ودليله الإجماع. قال النووي في المجموع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 (1/ 160): قال ابن المنذر: أجمعوا أن الماء القليل أو الكثير إذا وقعت فيه نجاسة، فغيرت طعماً أو لوناً أو ريحاً، فهو نجس. ما يصلح منها للتطهير: وهذه المياه الأربعة ليست كلها صالحة للطهارة ـ أي لرفع الحديث وإزالة الخبث ـ كما علمت، بل إنما الذي يصلح منها هو النوع الأول والثاني، مع كراهة النوع الثاني في البدن. أما النوع الثالث: فلا يصلح التطهر به، وإن كان طاهراً في ذاته بحيث يصح استعماله في غير الطهارة كالشرب، والطبخ وغير ذلك أما النوع الرابع: فهو متنجس لا يصلح لشيء. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الأواني الأواني: جمع آنية وهي الأوعية التي توضع فيها المائعات وغيرها وفيها أمور: أولاً ـ حكم استعمال أواني الذهب والفضة: يحرم استعمال أواني الذهب والفضة في جميع وجوه الاستعمال: كالوضوء والشرب، إلا لضرورة كأن لم يجد غيرها. روى البخاري (5110) ومسلم (2067) عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة ". [الديباج: نوع نفيس من ثياب الحرير. آنية: جمع إناه. صحافها: جمع صحفها وهي القصعة. لهم: أي الكفار]. ويقاس على الأكل والشرب غيرهما من وجوه الاستعمال، ويشمل التحريم الرجال والنساء. وكالاستعمال الاتخاذ، فإن ما لا يجوز استعماله لا يجوز اتخاذه، أي اقتناؤه للتزيين ونحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ثانياً ـ حكم استعمال الأواني المضببة بالذهب أو الفضة: يحرم استعمال ما ضبب بالذهب مطلقاً سواء كانت الضبة صغيرة أم كبيرة، وأما التضبيب بالفضة، فإن كانت ضبة صغيرة لغير زينه جاز، وإن كانت كبيرة لزينة فحرام، وإن كانت كبيرة لحاجة أو صغيرة لزينة كره، ودليل جواز ضبة الفضة الكبيرة لحاجة: ما رواه البخاري (5305) عن عاصم الأحول قال: رأيت قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أنس بن مالك وكان قد انصدع فسلسله بفضة، وقال أنس: لقد سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا القدح أكثر من كذا وكذا. ثالثاً ـ حكم استعمال الأواني المتخذة من المعادن النفيسة: يجوز استعمال الأواني المتخذة من المعادن النفيسة من نحو الماس واللؤلؤ والمرجان وغيرها، لعدم ورود نص بالنهي عنها، والأصل الإباحة ما لم يرد دليل التحريم. رابعاً ـ حكم استعمال أواني الكفار: يجوز استعمال هذه الأواني، لما رواه البخاري (5161) عن أبي ثعلبه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فاغسلوها وكلوا فيها". والأمر بغسلها للاستحباب لاحتمال تلوثها بسبب استعمال الكفار لها بخمر أو خنزير وغيرهما. ومثل الأواني استعمال ثيابهم ونحوها. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 أنواع الطهارة الطهارة نوعان: أولاً ـ طهارة من النجس. ثانياً ـ طهارة من الحدث. الطهارة من النجس: معنى النجس: النجس لغة: كل مستقذر. وشرعاً: مستقذر يمنع صحة الصلاة، كالدم والبول. الأعيان النجسة: والأعيان النجسة كثيرة نذكر أهمها في سبعة أشياء: 1ـ الخمر وكل مانع مسكر. قال تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس) أي نجس [المائدة: 90]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" [رواه مسلم: 2003، عن أبن عمر رضي الله عنهما]. 2ـ الكلب والخنزير: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب" [رواه مسلم: 279]. وفي رواية للدارقطني (1/ 65): "إحداهن بالبطحاء". [ولغ: شرب، البطحاء: صغار الحصى ويقصد به التراب]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 3ـ الميتة: وهي كل حيوان مات بغير زكاة شرعية، قال تعالى: (حرمت عليكم الميتة) [المائدة: 3). وتحريمها إنما كان من أجل نجاستها. ويدخل في حكم الميتة ما ذبح على الأنصاب، وما ذكر عليه غير اسم الله، قال تعالى: (وما أهل لغير الله به) [المائدة: 3]. ما سيتثنى من نجاسة الميتة: ويستثنى من نجاسة الميتة ثلاثة أشياء: الأول- ميتة الإنسان: قال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم) [الإسراء: 70]. ومقتضى تكريمه أن يكون الإنسان طاهراً حياً وميتاً. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سبحان الله إن المسلم لا ينجس" [رواه البخاري: 279]. وقال ابن عباس رضي الله عنهما " المسلم لا ينجس حياً وميتاً" [رواه البخاري تعليقا في الجنائز، باب غسل الميت ووضوئه]. والثاني والثالث ـ السمك والجراد: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحلت لكم ميتتان ودمّان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال " [رواه ابن ماجه]. 4ـ الدم السائل ومنه القيح: قال تعالى: (أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس) [سورة الأنعام: الآية 145]. ويستثنى من نجاسة الدم: الكبد والطحال للحديث السابق. 5ـ بول الإنسان وغائطه، وبول الحيوان وفرثه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 روى البخاري (217) ومسلم (284) أن أعرابياً بال في المسجد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صًُبُّوا عليه ذنوباً من ماء" أي دلواً، والأمر يصب الماء عليه دليل نجاسته. 6ـ كل جزء انفصل من الحيوان حال حياته فإنه نجس. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما قطع من بهيمة فهو ميتة" [رواه الحاكم وصححه]. ويستثنى من ذلك شعر وريش الحيوانات المأكول اللحم فإنه طاهر. قال تعالى: (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين) [سورة النحل: 80]. 7ـ لبن الحيوان غير مأكول اللحم: كالحمار ونحوه، لأن لبنه كلحمه، ولحمه نجس. النجاسة العينية والنجاسة الحكمية: النجاسة العينية: هي كل نجاسة لها جرم مشاهد، أولها صفة ظاهرة من لون أو ريح، كالغائط أو البول أو الدم. والنجاسة الحكمية: كل نجاسة جفت وذهب أثرها، ولم يبق لها أثر من لون أو ريح، وذلك مثل بول أصاب ثوباً ثم جف، ولم يظهر له أثر. النجاسة المغلظة والمخففة والمتوسطة: النجاسة المغلظة: وهي نجاسة الكلب والخنزير، ودليل تغليظها أنه لا يكفي غسلها بالماء مرة كباقي النجاسات، بل لا بد من غسلها سبع مرات إحداهن بالتراب، كما مر في حديث "ولوغ الكلب" وقيس عليه الخنزير لأنه أسوأ حالاً منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 النجاسة المخففة: وهي بول الصبي الذي لم يأكل إلا اللبن ولم يبلغ سنه حولين، ودليل كونها مخففة أنها يكفي رشها بالماء، بحيث يعم الرش جميع موضع النجاسة من غير سيلان. روى البخاري (2021)، ومسلم (287) وغيرهما: عن أم قيس بنت مِحْصن رضي الله عنها: أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه ولم يغسله. [فنضحه: رشه بحيث عم المحل بالماء وغمره بدون سيلان] .. النجاسة المتوسطة: وهي غير الكلب والخنزير، وغير بول الصبي الذي لم يطعم إلا لبن، وذلك مثل بول الإنسان، وروث الحيوان، والدم. وسميت متوسطة لأنها لا تظهر بالرش، ولا يجب فيها تكرار الغسل إذا زالت عينها بغسلة واحدة. روى البخاري (214) عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تبرز لحاجته أتيته بماء فيغسل به. [تبرز لحاجته: خرج إلى البزار وهو الفضاء، ليقضي حاجته من بول أو غائط]. وروى البخاري (176)، ومسلم (303): عن على - رضي الله عنه - قال: كنت رجلاً مذاءً، فاستحييت أن أسال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله، فقال: "وفيه الوضوء". ولمسلم "يغسل ذكره ويتوضأ". [مذاء كثير خروج المذي، وهو ماء أصفر رقيق يخرج غالباً عند ثوران الشهوة]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وروى البخاري (155): عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتية بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخلت روثه فاتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: "هذا ركس". والركس: النجس، والروثة براز الحيوان. فدلت هذه الأحاديث على نجاسة الأشياء المذكورة، وقبس ما لم يذكر منها على ما ذكر. كيفية التطير من النجاسات: التطهر من النجاسة المغلطة: وهي نجاسة الكلب والخنزير، وهذه لا تطهر إلا إذا غسلت سبع مرات إحداهن بالتراب، سواء كانت النجاسة عينية أم حكمية، وسواء كانت على الجسم، أو الثوب، أو المكان. التطهر من النجاسة المتوسطة: وهي نجاسة ما عدا الكلب والخنزير، والصبي الذي لم يطعم، وهذه النجاسة إنما تطهر إذا جرى الماء عليها وذهب بأثرها، فزالت عينها وذهبت صفاته من لون أو طعم أو ريح، سواء كانت عينية أم حكمية، وسواء كانت على ثوب أم جسم أم مكان، ولكن لا يضر بقاء لون عسر زواله، كالدم مثلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 تطهير جلود الميتة غير الكلب والخنزير: ويطهر جلد الحيوان غير الكلب والخنزير بالدباغ، والدباغ: نزع رطوبة الجلد التي يفسده إيقاؤها، بمادة لاذعة حِرِّيفة، بحيث لو تقع في الماء بعد إليه النتن والفساد. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" [رواه مسلم: 366]، ويجب غسل الجلد بالماء بعد الدبغ لملاقاته للأدوية النجسة التي دبغ بها، أو الأدوية التي تنجست بملاقاته قبل طهر عينه. بعض ما يعفى عنه من النجاسات: الإسلام دين النظافة، لذلك أوجب إزالة النجاسة أينما كانت، والتحرز منها، وجعل الطهارة من النجاسة شرطاً لصحة الصلاة سواء في الثوب أم البدن أم المكان. إلا أن الدين راعي اليسر، وعدم الحرج، فعفا عن بعض النجاسات لتعذر إزالتها، أو مشقة الاحتراز عنها، تسهيلاً على الناس، ورفعاً للحرج عنهم، وإليك بعض هذه المعفوات: 1ـ رشاش البول البسيط الذي لا يدركه الطرف المعتدل إذا أصاب الثوب أو البدن، سواء كانت النجاسة مغلظة أم مخففة أم متوسطة. 2ـ اليسير من الدم، والقيح، ودم البراغيث وونيم الذباب أي نجاسته ما لم يكن ذلك بفعل الإنسان وتعمده. 3ـ دم وقيح الجروح ولو كان كثيراً، شريطة أن يكون من الإنسان نفسه، وأن لا يكون بفعله وتعمده، وأن لا يجاوز محله المعتاد وصوله إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 4ـ روث الدواب الذي يصيب الحبوب أثناء دراستها، وروث الأنعام الذي يصيب اللبن أثناء الحلب ما لم يكثر فيغير اللبن. 5ـ روث السمك في الماء ما لم يتغير، وذرق الطيور في الأماكن التي تتردد عليها كالحرم الملكي والحرم المدني والجامع الأموي، وذلك لعموم البلوى، وعسر الاحتراز عنه. 6ـ ما يصيب ثوب الجزار من الدم ما لم يكثر. 7ـ الدم الذي على اللحم. 8ـ فم الطفل المتنجس بالقي، إذا أخذ ثدي أمه. 9ـ ما يصيب الإنسان من طين الشارع. 10ـ الميتة التي لا نفس لها سائلة أي لا دم لها من نفسها إذا وقعت في مائع: كالذباب، والنحل، والنمل، شريطة أن تقع بنفسها، ولم تغير المائع الذي وقعت فيه. روى البخاري (5445) وغيره: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم، فليغمسه كله ثم يطرحه، فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء". ووجه الاستدلال: أنه لو كان ينجسه لم يأمر بغمسه. وقيس بالذباب كل ما في معناه من كل ميتة لا يسيل دمها. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الاسْتنجاء وآدابُه معناه: هو إزالة النجاسة أو تخفيفها عن مخرج البول أو الغائط. مأخوذ من النَّجاء وهو الخلاص من الأذى، أو النجوة: وهي المرتفع عن الأرض، أو النجو: وهو الحُزْء، أي ما يخرج من الدبر. سمي بذلك شرعاً، لأن المستنجي يطلب الخلاص من الأذى ويعمل على إزالته عنه، وغالباً ما يستتر وراء مرتفع من الأرض، أو نحوها، ليقوم بذلك. حكمه: وهو واجب، وقد دل على ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي خلال البحث. ما يستنجي به: يجوز الاستنجاء بالماء المطلق، وهو الأصل في التطهير من النجاسة كما يجوز بكل جامد خشن يمكن أن يزيل النجاسة، كالحجر والورق ونحو ذلك. والأفضل أن يستنجي أولاً بالحجر ونحوه، ثم يستعمل الماء، لأن الحجر يزيل عين النجاسة والماء بعده يزيل أثرها دون أن يخلطها. وأن أقتصر على أحدهما فالماء أفضل، لأنه يزيل العين والأثر، بخلاف غيره، وأن أقتصر على الحجر ونحوه، فيشترط أن يكون المستعمل جافاً، وأن يستعمل قبل أن يجف الخارج من القبل أو الدبر، وألا يجاوز الخارج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 صفحة الآلية أو حشفة الذكر وما يقابلها من مخرج البول عند الأنثى، وأن لا ينتقل عن المحل الذي أصابه أثناء خروجه. كما يشترط أن لا نقل المسحات عن ثلاثة أحجار أو ما ينوب منابها، فإن لم ينظف المحل زيد عليها، ويسن أن يجعل وتراً، أي منفردة: كخمسة أو سبعة، ونحوها. روى البخاري (149)، ومسلم (271): عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله يدخل الخلاء، فأحمل أنا وغلام نحوي إدواة من ماء وعنزة، فيستجني بالماء. [الخلاء: مكان قضاء الحاجة. إداوة: إناء صغير من جلد عنزة: الحربة القصيرة، تركز ليصلى إليها كسترة. يستنجي: يتخلص من أثر النجاسة]. وروى البخاري (155) وغيره، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار. [الغائط: المكان المنخفض من الأرض تقضى فيه الحاجة، ويطلق على ما يخرج من الدبر]. وروى أبو داود (40) وغيره، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنها تجزئ عنه ". [يستطيب: يستنجي، سمي بذلك لأن المستنجي يطيب نفسه بإزالة الخبث عن المخرج]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وروى أبو داود (44)، والترمذي (3099)، وابن ماجه (357)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " نزلت هذه الآية في أهل قباء: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) [التوبة: 108]. قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية ". روى مسلم (2622) عن سلمان - رضي الله عنه - عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار". وروى البخاري (160)، ومسلم (237) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ومن استجمر فليوتر ". [استجمر: مسح بالحجار وهي الأحجار الصغيرة]. ما لا يستنجي به: لا يصح الاستنجاء بما كان نجس العين أو متنجساً لأنه ربما زاد في أثر النجاسة بدل تخفيفه. روى البخاري (155) عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجدهن فأخذت روثة فاتيته بها فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: "هذا ركس ". [الركس: النجس. روثة: براز الحيوان مأكول اللحم وغيره]. ـ ويحرم الاستنجاء بما كان مطعوماً لأدمي كالخبز وغيره، أو جني كالعظم. روى مسلم (450) عن مسعود - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرات عليهم القرآن ". قال: وسألوه الزاد، فقال: " لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم ". فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: " فلا تستنجوا بهما، فإنهما طعام إخوانكم" وعند الترمذي (18): ولا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن". فيقاس طعام الأدمي على غيره من باب أولي. ـ يحرم الاستنجاء بكل محترم، كجزء حيوان متصل به، كبده ورجله، ومن الآدمي من باب أولى، لأنه يتنافى مع تكريمه، فإن كان جزء الحيوان منفصلا عنه، وكان طاهراً كشعر مأكول اللحم وجلد الميتة المدبوغ، جاز ذلك. آداب الاستنجاء وقضاء الحاجة: هناك آداب يطلب من المسلم أن يراعيها عند القيام بقضاء حاجته واستنجائه وهي: 1ـ ما يتعلق بالمكان الذي يقضي فيه حاجته: فإنه يجتنب التبول والتغوط في: ـ طريق الناس أو المكان الذي يجلسون فيه، لما فيه من الأذى لهم. روى مسلم (269) وغيره، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اتقوا اللعانين". قالوا: وما اللعانان؟ قال: " الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 [اللعين: الأمرين الجالبين اللعن]. ـ ثقب في الأرض أو جدار أو نحوه، لما قد ينتج عنه من أذى، فقد يكون فيه حيوان ضار كعقرب أو حيه، فيخرج عليه ويؤذيه، وقد يكون فيه حيوان ضعيف فيتأذى. روى أبو داود (29) عن عبدالله بن سرجس قال: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبال في الجحر". وهو الثقب في الأرض. ـ تحت الشجرة المثمرة، صيانة للثمر عن التلويث عند وقوعه سواء كان مأكولاً أو منتفعاً به لئلا تعافه النفس. ـ الماء الراكد: لما ينتج من تقزز النفس منه إن كان كثيراً لا تغيره النجاسة، ومن إضاعته إن كانت النجاسة تغيره، أو كان دون القلتين. روى مسلم (281) وغيره، عن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى أن يبال في الماء الراكد. والتغوط أقبح وأولى بالنهي، والنهي للكراهة، ونقل الإمام النووي أنه للتحرم. [انظر شرح مسلم: 3/ 187]. 2ـ ما يتعلق بالدخول إلى قضاء الحاجة والخروج منه، فيستحب لقاضي الحاجة: أن يقدم رجله اليسرى عند الدخول ويمناه عند الخروج لأنه الأليق بأماكن القذر والنجس. ولا يحمل الله تعالى ومثله كل اسم معظم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 كما يستحب له أنن يقول الأذكار والأدعية التي ثبتت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قبل دخول الخلاء وبعد الخروج منه: فيقول قبل الدخول: "باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" [رواه البخاري 142، ومسلم: 375]. [الخبث: جمع خبيث. والخبائث: جمع خبيثة، والمراد ذكور الشياطين وإنائهم]. وبعد الخروج يقول: "غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافني، الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى من قوته، ودفع عنى أذاه" [رواه أبو داود: 30، والترمذي: 17 وابن ماجه: 301، والطبراني]. 3ـ ما يتعلق بالجهة: يحرم على قاضي الحاجة أن يستقبل القبلة أو يستدبرها، إن كان في الفضاء ولا ساتر مرتفع يستر عورته حال قضاء حاجته، وكذلك إن كان في بناء غير معد لقضاء الحاجة، ولم تتحقق شروط الساتر المذكورة، ويشترط ألا يبعد عنه الساتر أكثر من ثلاثة أذرع بذارع الآدمي، أي ما يساوى 150سم تقريباً. فإن كان البناء معداً لقضاء الحاجة جاز الاستقبال والاستدبار. روى البخاري (381) ومسلم (264)، عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول أو غائط، ولكن شرقوا أو غربوا". وخص ذلك بالصحراء وما في معناها من الأمكنة التي لا ساتر فيها، ودليل التخصيص: ما روى البخاري (148)، ومسلم (266) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وغيرهما، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ارتقيت فوق ظهر بيت حفصة لبعض حاجتي، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، مسدبر القبلة، مستقبل الشام. فحمل الأول على المكان غير المعد لقضاء الحاجة، وما في معناه من الاماكن التي لا ساتر فيها، وحمل الثاني على المكان المعد وما في معناه، جمعاً بين الأدلة، ولا يخلو الأمر معه عن كراهة في غير المعد مع وجود الساتر. 4ـ ما يتعلق بحال قاضي الحاجة: أن يعتمد على يساره وينصب يمناه. ولا ينظر إلى السماء ولا إلى فرجه ولا إلى ما يخرج منه لأنه لا يليق بحاله. ويكره القاضي الحاجة الكلام وغيره أثناء قضائها. روى مسلم (370) وغيره، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلا مرّ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبول، فسلم عليه فلم يرد عليه. وروى أبو داود (15) وغيره، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يخرج الرجلان يضربان الغائط، كشفين عن عورتهما يتحدثان، فإن الله عز وجل يمقت على ذلك". [يضربان: يأتيان. يمقت: يغضب] ويقاس على الكلام غيره كالأكل والشرب والعبث، ونحو ذلك 5ـ الاستنجاء باليسار: يستعمل قاضي الحاجة شماله لتنظيف المحل بالماء اليمنى لهذا، كما يكره له أن يمس بها ذكره. وإن احتاج أن يمسك الذكر لينظفه بالحجر ونحوه من الجامدات، أمسك الجامد بيده اليمنى دون أن يحركها، وأمسك الذكر باليسرى وحركها لينظف المحل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 روى البخاري (153)، ومسلم (267)، عن أبي قتادة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه ولا يستنج بيمينه". الطهارة من الحدث: معنى الحدث: الحدث لغة: الشيء الحادث. وشرعاً: هو أم اعتباري يقوم بالأعضاء يمنع من صحة الصلاة وما في حكمها، حيث لا مرخص. ويطلق الحدث أيضاً على نواقض الوضوء التي سنتحدث عنا فيما بعد، وعلى موجبات الغسل. أقسام الحدث: والحدث يقسم إلى قسمين: حدث أصغر، وحدث أكبر. الحدث الأصغر: هو أمر اعتباري يقوم بأعضاء الإنسان الأربعة، وهي: الوجه، واليدان، والرأس، والرجلان، فيمنع من صحة الصلاة ونحوها، ويرتفع هذا الحدث بالوضوء، فيصبح الإنسان مستعداً للصلاة ونحوها. والحدث الأكبر: وهو أمر اعتباري يقوم بالجسم كله فيمنع من صحة الصلاة وما في حكمها، ويرتفع هذا الحدث بالغسل فيصبح الإنسان أهلاً لما كان ممنوعاً عنه. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الوضُوء معناه: الوضوء لغة: مأخوذة من الوضاءة وهي الحسن والبهجة، وشرعاً: اسم للفعل الذي هو استعمال الماء أعضاء معينة ما النية. والوضوء اسم للماء الذي يتوضأ به، وسمي بذلك لما يضفي على الأعضاء من وضاءة يغسلها وتنظيفها. فروض الوضوء: وفروض الوضوء ستة وهي: النية، وغسل الوجه، وغسل اليدين، مع المرفقين، ومسح بعض الرأس، وغسل الرجلين مع الكعبين، والترتيب. والأصل في مشروعية الوضوء وأركانه قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأمسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) [المائدة: 6]. 1ـ النية: لأن الوضوء عبادة، وبالنية تتميز العبادة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" [رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907]. أي لا تصح العبادة ولا يعتد بها شرعاً إلا إذا نويت، ولا يحصل للمكلف أجرها إلا إذا أخلص فيها. تعريف النية: والنية معناها لغة: القصد، وشرعاً: قصد الشيء مقروناً بفعله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 محل النية: ومحل النية القلب، ويسن التلفظ بها باللسان. كيفية النية: وكيفيتها أن يقول بقلبه: نويت فرض الوضوء، أو رفع الحدث، أو استباحة الصلاة. وقت النية: ووقتها عند غسل أول جزء من الوجه، لأنه أول الوضوء. 2ـ غسل جميع الوجه: لقوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم). وحدود الوجه من منبت الشعر إلى أسفل الذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً. ويجب غسل كل ما على الوجه: من حاجب، وشارب، ولحية، ظاهرة وباطناً لأنها من أجزاء الوجه، إلا اللحية الكثيفة ـ وهي التي لا يرى ما تحتها ـ فإنه يكفى غسل ظاهرها دون باطنها. 3ـ غسل اليدين مع المرفقين: لقوله تعالى: (وأيديكم إلى المرافق). جمع مرفق وهو مجتمع الساعد مع العضد و"إلى" بمعنى مع، أي: مع المرافق، دل على ذلك ما رواه مسلم (246)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أنه توضأ فغسل وجهه فاسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ". [أشرع في العضد وأشرع في الساق، معناه: أدخل الغسل فيهما]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ويجب تعميم جميع الشعر والبشرة بالغسل، فلو كان تحت أظافره وسخ يمنع وصول الماء أو خاتم لم يصح الوضوء، لما رواه البخاري (161)، ومسلم (241) واللفظ له، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رجعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر، فتوضأوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها ماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء". أي أتموه وأكملوه باستيعاب العضو بالغسل. [عجال: مستعجلون]. وروى مسلم (243): أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أرجع فأحسن وضوءك". فرجع ثم صلى. [فرجع: أي فأتم وضوءه وأحسنه]. فدل الحديثان: على أنه لا يجزئ الوضوء إذا بقي أدنى جزء من العضو المغسول دون غسل. 4ـ مسح بعض الرأس، ولو شعرة ما دامت في حدود الرأس، لقوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم). وروى المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح بناصيته، وعلى عمامته. [رواه مسلم: 279]. ولو غسل رأسه أو بعضه يدل المسح جاز. والناصية: مقدم الرأس، وهي جزء منه، والاكتفاء، بالمسح عليها دليل على ان مسح الجزء هو المفروض ويحصل بأي جزء كان. 5ـ غسل الرجلين مع الكعبين: لقوله تعالى: (وأرجلكم إلى الكعبين). الكعبان مثنى الكعب: وهو العظم الناتئ من كل جانب عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 مفصل الساق مع القدم، و "إلى": بمعنى مع، أي مع الكعبين، دل على ذلك: ما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق وحتى أشرع في الساق". ويجب تعميم الرجلين بالغسل بحيث لا يبقى منهما ولو موضع ظفر، أو تحت شعر لما مر في غسل اليدين. 6ـ الترتيب على الشكل الذي ذكرناه: وهذا مستفاد من الآية التي ذكرت فروض الوضوء مرتبة، ومن فعله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يتوضأ إلا مرتباً ـ كما جاء في الآية ـ ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة منها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق، وفيه العطف بثم، وهي الترتيب باتفاق. قال النووي في المجموع (1/ 484): واحتج الأصحاب من السنة بالأحاديث الصحيحة المستفيضة عن جماعات من الصحابة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلهم وصفوه مرتباً، مع كثرتهم وكثرة المواطن التي رأوه فيها، وكثرة اختلافهم في صفاته في مرة ومرتين وثلاث وغير ذلك، ولم يثبت فيه ـ مع اختلاف أنواعه ـ صفة غير مرتبة، وفعله - صلى الله عليه وسلم - بيان للوضوء المأمور به، ولو جاز ترك الترتيب لتركه في بعض الأحوال لبيان الجواز، كما ترك التكرار في أوقات. سنن الوضوء: للوضوء سنن كثيرة نذكر أهمها وهي: 1ـ التسمية في ابتدائه: روى النسائي (1/ 61) بإسناد جيد، عن أنس - رضي الله عنه - قال: طلب بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وضوءاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 فلم يجدوا ماء، فقال عليه الصلاة والسلام: "هل مع أحد منكم ماء"، فأتي بماء فوضع يده في الإناء الذي فيه الماء، ثم قال: "توضأوا بسم الله" أي قائلين ذلك عند الابتداء به. قال أنس - رضي الله عنه -: فرأيت الماء يفور من بين أصابعه، حتى توضأوا من عن آخرهم ـ أي جميعهم ـ وكانوا نحواً من سبعين. 2ـ غسل الكفين ثلاثاً قبل إدخالهما الإناء: روى البخاري (2183)، ومسلم (235)، من حديث عبدالله بن زيد - رضي الله عنه - وقد سئل عن وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بنور من ماء، فتوضأ لهم وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - فأكفأ على يده من التور، فغسل يديه ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء ... ". [التور: إناء من نحاس. فأكفأ: صب]. 3ـ استعمال السواك: لما رواه البخاري (847)، ومسلم (252)، وغيرهما، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء". أي لأمرتهم أمر إيجاب، وهذا دليل الاستحباب المؤكد. 4 و 5 ـ المضمضة والاستنشاق باليد اليمنى والاستنثار باليد اليسرى، جاء في حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - السابق من غرفة واحدة، وكرر ذلك ثلاثاً. [استنثر: أخرج الماء الذي أدخله في أنفه]. 6ـ تخليل اللحية الكثة: روى أبو داود (145) عن أنس - رضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الله عنه - كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء، فأخله تحت حنكه، فخلل به لحيته، وقال: "هكذا أمرني ربي عز وجل" 7ـ مسح جميع الرأس: جاء في حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه -: فمسح رأسه بيديه، فاقبل بهما وأدبر: بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما على قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه. 8ـ تخليل ما بين أصابع اليدين والرجلين بالماء: أما اليدين فبالتشبيك بينهما، وأما الرجلان فبخنصر اليد اليسرى: عن لقيط بن صبرة - رضي الله عنه - قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء؟ قال: "أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً" [رواه أبو داود: 142، وصححه الترمذي: 788، وغيرهما] [أسبغ: أكمله وأتمه بأركانه وسننه]. وعن المستورد قال: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ فخلل أصابع رجليه بخنصره، [رواه أبن ماجه: 446]. 9ـ مسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما بماء جديد غير ماء الرأس عن ابن عباس - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما" [رواه الترمذي: 36، وصححه]. وعند النسائي (1/ 74): "مسح برأسه وأذنيه، باطنهما بالمسحتين، وظاهرهما بإبهاميه". وقال عبدالله بن زيد: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، فأخذ ماء لأذنيه خلاف الماء الذي أخذه لرأسه" [رواه الحاكم: 1/ 151]، وقال عنه الحافظ الذهبي: صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 10ـ التثليث في جميع فرائض الوضوء وسننه. روى مسلم (230) أن عثمان - رضي الله عنه - قال: ألا أريكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً. 11ـ تقديم اليمنى على اليسرى، في اليدين والرجلين: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله قال: "إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم" [رواه ابن ماجه: 402]. ودلّ على ذلك حديثه السابق في فرائض الوضوء. 12ـ الدلك ـ وهو إمرار اليد على العضو عند غسله ـ: روى أحمد في مسنده (4/ 39) عن عبدالله بن زيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فجعل يقول هكذا، يدلك. [في المصباح: دلكت الشيء ـ من باب قتل ـ مرسته بيدك، ودلكت النعل بالأرض مسحتها بها. يقول: عبر عبدالله بالقول عن الفعل]. 13ـ الموالاة: أي غسل الأعضاء بالتتابع من غير انقطاع، بحيث يغسل العضو الثاني قبل أن يجف الأول، أتباعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، لما مر معك من أحاديث على ذلك. 14ـ إطالة الغرة والتحجيل: والغرة غسل جزء من مقدم الرأس والتحجيل غسل ما فوق المرفقين في اليدين، وما فوق الكعبين في الرجلين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل" [رواه البخاري: 136، ومسلم: 246]. وفي رواية عند مسلم: " فليطل غرته وتحجيله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 [غرّاًً: جمع أغر، أي ذو غرة، وهي بياض في الجبهة. محجلين: من التحجيل وهو بياض في اليدين والرجلين، وهذا تشبيه لأن الأصل في الغرة والتحجيل أن يكون في جهة الفرس وقوائمها، والمراد به هنا: النور الذي يسطع من المؤمنين يوم القيامة]. 15ـ الاعتدال بالماء دون سرف أو تقتير: فقد روى البخاري (198) عن أنس - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد. [والمد: إناء يساوي مكعباً طول حرفه 10 سم تقريباً]. 16ـ استقبال القبلة عند الوضوء، لأنها أشرف الجهات. 17ـ أن لا يتكلم أثناء الوضوء، اتباعاً للرسول - صلى الله عليه وسلم -. 18ـ التشهد عند الانتهاء من الوضوء والدعاء، يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" [رواه مسلم: 234]. "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين" [رواه الترمذي: 55]. "سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك". [رواه النسائي في أعمال اليوم والليلة، كما قال الإمام النووي في الأذكار]. مكروهات الوضوء: ويكره في الوضوء الأمور التالية: 1ـ الإسراف في الماء، والتقتير فيه: لأن ذلك خلاف السنة، ولعموم قوله تعالى: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) [سورة الأعراف: 31]. والإسراف هو التجاوز عن الاعتدال المعروف والمألوف. روى أبو داود (96) أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنه سيكون في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء". أي يفرطون فيهما، والإفراط في الدعاء: أن يسأل أشياء مخصوصة وبصفة معينة. 2ـ تقديم اليد اليسرى على اليمنى، وتقديم الرجل اليسرى على اليمنى: لأن هذا على خلاف ما مر من فعله - صلى الله عليه وسلم -. 3ـ التنشيف بمنديل إلا لعذر، كبرد شديد أو حر يؤذي معه بقاء الماء على العضو، أو خوف نجاسة أو غبارها، روى البخاري (256)، ومسلم (317): أنه - صلى الله عليه وسلم - أتي بمنديل فلم يمسه. 4ـ ضرب الوجه بالماء، لأن ذلك ينافي تكريمه. 5ـ الزيادة على ثلاث يقيناً بالغسل أو في المسح، أو النقص عنها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما توضأ ثلاثاً ثلاثاً: "هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا، أو نقص فقد أساء وظلم" [رواه أبو داود: 135]، وقال النووي في المجموع: إنه صحيح. معناه أن من اعتقد أن السنة أكثر من ثلاث أو أقل منها، فقد أساء وظلم، لأنه قد خالف السنة التي سنها النبي - صلى الله عليه وسلم -. 6ـ الاستعانة بمن يغسل له أعضاء من غير عذر، لأن فيه نوعاً من التكبر المنافي للعبودية. 7ـ المبالغة في المضمضة والاستنشاق للصائم خشية أن يسبقه الماء إلى حلقه فيفسد صومه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً" [رواه أبو داود: 142]. وتقاس المضمضة على الاستنشاق من باب أولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 نواقص الوضوء: وينتقص الوضوء بخمسة أشياء: 1ـ كل ما خرج من أحد السبيلين من بول أو غائط أو دم أو ريح: قال تعالى: (لو جاء أحد منكم الغائط) [النساء: 42]. أي مكان قضاء الحاجة، وقد قضى حاجته من تبرز أو تبول. والغائط هو المكان المنخفض، وفي مثله تقضى الحاجة من تبرز أو تبول. والغائط هو المكان المنخفض، وفي مثله نقضى الحاجة غالباً وعادة. وروى البخاري (135) ومسلم (225) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ". فقال رجل من أهل حضر موت ك ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال فساء أو ضراط. وقيس على ما ذكر كل خارج من القبل أو الدبر، ولو كان طاهراً. 2ـ النوم غير المتمكن: والتمكن أن يكون جالساً ومقعدته ملتصقة بالأرض، وغير التمكن أن يكون هناك نجاف بين مقعدته والأرض، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من نام فليتوضأ" [رواه أبو داود: 203 وغيره]. وأما من نام على هيئة المتمكن فلا ينقض وضوؤه، لأنه يشعر بما يخرج منه، ودل على هذا ما رواه مسلم (376) عن أنس - رضي الله عنه - قال: أقيمت الصلاة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يناجى رجلاً، فلم يزل يناجيه حتى نام أصحابه، ثم جاء فصلى بهم. [يناجي: يتحدث معه على انفراد بحيث لا يسمعهما أحداً]. وعنه أيضاً قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون، ثم يصلون ولا يتوضأون [أنظر البخاري: 541، 544، 545]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وواضح أنهم ناموا جالسين على هيئة التمكن، لأنهم كانوا في المسجد ينتظرون الصلاة، وعلى أمل أن يقطع حديثه - صلى الله عليه وسلم - فجأة ويصلي بهم. 3ـ زوال العقل بسكر أو إعماء أو مرض، أو جنون: لأن الإنسان إذا انتابه شيء من ذلك كان هذا مظنة أن يخرج منه شيء من غير ان يشعر، وقياساً على النوم، لأنه أبلغ منه في معناه. 4ـ لمس الرجل زوجته أو المرأة الأجنبية من غير حائل، فإنه ينتقض وضوؤه ووضوؤها. والأجنبية هي كل امرأة يحل له الزواج بها. قال تعالى في بيان موجبات الوضوء: (أو لامستم النساء) [النساء: 42]. أي لمستم كما في قراءة متواترة. 5ـ مس الفرج نفسه أو من غيره، قبلاً أو دبراً، بباطن الكف والأصابع من غير حائل. الأمور التي يشترط لها الوضوء: الأمور التي يجب الوضوء من أجلها هي: 1ـ الصلاة: قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) [سورة المائدة: 6]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" [رواه البخاري: 135، ومسلم: 225]. وعند مسلم (224): "ولا تقبل صلاة بغير طهور". 2ـ الطواف حول الكعبة: لأن الطواف كالصلاة تجب فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الطهارة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الطواف حول البيت مثل الصلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه تلا يتكلمن إلا بخير". [رواه الترمذي: 960، والحاكم: 1/ 459، وصححه]. 3ـ من المصحف وحمله: قال تعالى: (لا يمسه إلا المطهرين) [سورة الواقعة: 79]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمس القرآن إلا طاهر" [رواه الدارقطني: 1/ 459]. صور كاملة لوضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - بفرائضه، وسننه المؤكدة، وبيان فضله، وفضل الصلاة بعده: روى البخاري في صحيحه (162) عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: أنه دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات، ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثاً ويديه إلى المرفقين ثلاثاً، [وفي رواية: ثم غسل يده اليمنى ثلاثاً، ثم غسل رجله اليسرى ثلاثاً]. ثم قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ نحو وضوئي هذا، وقال: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه". [بوضوء: هو الماء الذي يتوضأ به. لا يحدث: أي بشيء من أمور الدنيا]. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 المسَحُ عَلَى الخٌفَّين تعريفهما: الخُفّان: تثنية خف، وهما الحذاءان السائران للكعبين المصنوعان من جلد. والكعبان كما مر: هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق. حكم المسح عليهما: ودليل جوازه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال جرير بن عبدالله البجلي - رضي الله عنه -: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بال، ثم توضأ ومسح على خفيه". [رواه البخاري: 1478، ومسلم: 272]. شروط المسح عليهما: ويشترط لجواز المسح عليهما خمسة شروط: 1ـ أن يُلبسا بعد وضوء كامل: عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين"، فمسح عليهما. [رواه البخاري: 203، ومسلم: 274]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 2ـ أن يكونا سائرين لجمع محل غسل الفرض من القدمين، لأنهما لا يسميان خفين إلا إذا كانا كذلك. 3ـ أن يمنعا نفوذ الماء إلى القدمين من غير محل الخرز ـ أي الخياطة. 4ـ أن يكونا قويين يمكن تتابع المشي عليهما يوماً وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليهما للمسافر. 5ـ أن يكونا طاهرين، ولو كانا من جلد ميتة قد دبغ، لما مر من أن جلد الميتة يطهر بالدباغ. مدة المسح عليهما: مدة المسح علي الخفين: يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، روى مسلم (276) وغيره، عن شريح بن هانئ قال: أتيت عائشة رضى الله عنها أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: ائت علياً فإنه أعلم بهذا منّي، كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألته فقال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم. هذا ومن بدأ المسح في الحضر ثم سافر مسح يوماً وليلة، ومن بدأ المسح بالسفر ثم أقام أتم مسح مقيم، لأن الأصل الإقامة، والمسح رخصة، فيؤخذ فيه بالأحوط. متى تبدأ المدة: وتبدأ مدة المسح من الحدث بعد لبس الخفين، فإذا توضأ الصبح، ولبس خفيه، ثم أحدث عند طلوع الشمس، فإن المدة تحسب من طلوع الشمس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 كيفية المسح عليهما: الفرض: مسح شيء ولو قل من أعلى الخف (1)، فلا يكفي المسح على أسفلهما. ويسن مسح أعلاه وأسفله خطوطاً، بأن يضع أصابع يده اليمني مفرقة على مقدمة رجله لأعلى، وأصابع يده اليسرى على مؤخرة قدمه من الأسفل، ثم يذهب باليمنى إلى الخلف وباليسرى إلى الأمام. مبطلات المسح: ويبطل المسح ثلاثة أمور: 1ـ خلع الخفين أو خلع أحدهما، أو انخلاعهما أو أحدهما. 2ـ انقضاء مدة المسح: فإذا انقضت المدة وكان متوضئاً نزعهما وغسل رجليه هم أعادهما، وإن كان غير متوضئ توضأ، ثم لبسهما إن شاء. 3ـ حدوث ما يوجب الغسل: فإذا لزمه غسل خلعهما وغسل رجليه، لأن المسح عليهما بدل غسل الرجلين في الوضوء، لا في الغسل. روى الترمذي (96)، والنسائي (1/ 83) ـ واللفظ له ـ عن صفوان بن عسال - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا كنا مسافرين: أن نمسح على خفافنا، ولا ننزعها ثلاثة أيام، من غائط وبول ونوم، إلا من جنابة". وهي موجبات الغسل كما سيأتي. *****   (1) روى أبو داود (162) بإسناد صحصح عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وكرم الله وجهه أنه قال: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولي بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الجبائر والعصائب الجبائر: جمع جبيرة، وهي رباط يوضع على العضو المكسور ليجبر. والعصائب: جمع عصابة، وهي رباط يوضع على الجرح ليحفظه من الأوساخ حتى يبرا. ولما كان الإسلام دين اليسر، راعى هذه النواحي، وشرع لها الأحكام التي تضمن التوفيق بين أداء العبادة والمحافظة على سلامة الإنسان. أحكام الجبائر والعصائب: المريض المصاب بجرح أو كسر، قد يحتاج إلى وضع رباط ودواء على الجرح أو الكسر، وقد لا يحتاج. فان احتاج إلى وضع رباط لزمه في هذه الحالة ثلاثة أمور: 1ـ أن يغسل الجزء السليم من العضو المصاب. 2ـ أن يمسح على نفس الرباط أي الجبيرة، أو العصابة، كلها. 3ـ أن يتيمم بدل غسل الجزء المريض عند وصوله إليه بالوضوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وإن لم يحتج إلى وضع رباط على العضو المكسور أو المجروح، وجب عليه أن يغسل الصحيح ويتيمم عن الجريح إذا كان لا يستطيع غسل موضع العلة. ويجب إعادة التيمم لصلاة كل فرض وإن لم يحدث، لأن يجب عليه غسل باقي الأعضاء، إلا إذا أحدث. دليل مشروعية المسح على الجبائر: دلّ على مشروعية المسح على الجبائر، ما رواه أبو داود (336) عن جابر - رضي الله عنه - قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون في رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل عمات، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك، فقال: "قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر ـ أو يعصب ـ على جرحه خرقة، قم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده". [العي: التحير في الكلام، وقيل: هو ضد البيان]. مدة المسح على الجيرة والعصبة: ليس للمسح على الجبيرة أو العصابة مدة معينة، بل يظل يمسح عليها ما دام العذر موجوداً، فإذا زال العذرـ بأن اندمل الجرح، وانجبر الكسر ـ بطل المسح ووجب الغسل، فإذا كان متوضئاً، وبطل مسحه، وجب عليه إصابة العضو الممسوح وما بعده من أعضاء الوضوء، مسحاً أو علا حسب الواجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وحكم الجبائر واحد، سواء كانت الطهارة من حدث أصغر أو حدث أكبر، إلا أنه في الحدث الأكبر، إذا بطل المسح، وجب غسل موضع العصابة أو الجبيرة فقط، ولا يجب غسل سواها من البدن. ويجب على واضع الجبيرة القضاء في المواضع التالية: 1ـ إذا وضعها على غير طهر وتعذر نزعها. 2ـ أو كانت في أعضاء التيمم: الوجه أو اليدين. 3ـ إذا أخذت من الصحيح أكثر من قدر الاستمساك. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الغُسل وَأحْكامُه وَأنوَاعُه معناه: هو في اللغة: سيلان الماء على الشيء، أيا كان. وشرعاً: جريان الماء على البدن بنية مخصوصة. مشروعيته: الغسل مشروع، سواء كان للنظافة، أم لرفع الحدث، سواء كان شرطاً لعبادة أم لا. ودل على مشروعيته: الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فآيات، منها قوله تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) [سورة البقرة: الآية 222]. أي المتنزهين عن الحدث والأقدار المادية والمعنوية. وأمَّا السنة: فأحاديث، منها: ما رواه البخاري (85)، ومسلم (849) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً، يغسل فيه رأسه وجسده ". وعند مسلم: " حق الله ". والمراد بالحق هنا: أنه مما لا يليق بالمسلم تركه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وحمله العلماء على غسل يوم الجمعة. وسيأتي مزيد من الأدلة في مواضعها من البحث إن شاء الله. وأما الإجماع: فلقد أجمع الأئمة المجتهدون على أن الغسل للنظافة مستحب، والغسل لصحة العبادة واجب، ولا يغرف ف هذا مخالف. حكمة مشروعيته: للغسل حكم كثيرة وفوائد متعددة، ومنها: 1ـ حصول الثواب: لان الغسل بالمعنى الشرعي عبادة، إذ فيه امتثال لأمر الشرع وعمل بحكمه، وفي هذا أجر عظيم، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: " الطهور شطر الإيمان " [رواه مسلم: 222]. أي نصفه أو جزء منه، وهو يشمل الوضوء والغسل. 2ـ حصول النظافة: فإذا اغتسل المسلم تنظف جسمه مما أصابه من قذر، أو علق به من وسخ، أو أفرزه من عرق. وفي هذه النظافة وقاية من الجراثيم التي تسبب الأمراض، وتطييب الرائحة الجسم، مما يدعو لحصول الألفة والمحبة بين الناس. روى البخاري (861)، ومسلم (847)، واللفظ له، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الناس أهل عمل، ولم يكن لهم كفاة، فكان يكون لهم تفل، فقيل لهم: " لو اغتسلتم يوم الجمعة ". وفي رواية لهما: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 [كفاة: أي من يكفونهم العمل من خدم وأجراء. تقل: رائحة كريهة]. 3ـ حصول النشاط: فإذا الجسم يكتسب بالاغتسال حيوية نشاطاً، ويذهب عنه الفتور والخمول والكسل، ولا سيما إذا كان بعد أسبابه الموجبة، كالجماع، على ما سيأتي. أقسام الغسل: والغسل قسمان: غسل مفروض، وغسل مندوب. أولاً ـ الغسل المفروض: وهو الذي لا تصح العبادة المفتقرة إلى طهر بدونه، إذا وحدت أسبابه. أسبابه: ا لجنابة والحيض والولادة والموت. (1) الجنابة معناها: الجنابة: في الأصل معناها البعد، قال تعالى: (فبصرب به عن جنب) [سورة القصص: الآية 11]. أي: عن بعد. وتطلق الجنابة على المني المتدفق كما تطلق على الجماع. وعليه فالجنب هو: غير الطاهر، من إنزال أو جماع. وسمي بذلك لأنه بالجنابة بعد عن أداء الصلاة ما دام على هذه الحالة. والجنب لفظ يستوي فيه المذكر جنب، ويقال للمؤنث جنب، ويقال للجمع جنب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 أسبابها: وللجنابة سببان: الأول: نزول المني من الرجل أو المرأة بأي سبب من الأسباب: سواء كان نزوله بسبب احتلام، أو ملاعبة، أو فكر. عن أم سلمة رضي الله عنهما قالت: جاءت أم سليم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم إذا رأت الماء " [رواه البخاري: 278، ومسلم 313]. [احتلمت: رأت في نومها أنها تجامع]. وروى أبو داود (236) وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً؟ فقال " يغتسل ". وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولا يجد البلل؟ فقال: " لا غسل عليه ". فقالت أم سليم: المرأة ترى ذلك، أعليها غسل؟ قال " نعم " النساء شقائق الرجال ". أي نظائرهم في الخلق والطبع، فكأنهم شققن من الرجال. الثاني: الجماع ولو من غير نزول المني. روى البخاري (278)، ومسلم (348)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها، فقد وجب عليه الغسل ". وفي رواية مسلم: " وإن لم ينزل ". [شعبها: جمع شعبة، وهي القطعة من الشيء، والمراد هنا فخذا المرأة وساقاها. جهدها: كدها بحركته]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وفي رواية عند مسلم (349)، عن عائشة رضي الله عنها: " ومس الختان الختان فقد وجب الغسل " أي على الرجل والمرأة لا شتراكهما في السبب. والختان: موضع الختن، وهو عند الصبي: الجلدة التي تغطي رأس الذكر. والمراد بمماسة الختانين: تحاذيهما، وهو كناية عن الجماع. ما يحرم بها: ويحرم بالجنابة الأمور التالية: 1ـ الصلاة فرضاً، أو نفلاً، لقوله تعالى: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) [سورة النساء: الآية 43]. فالمراد بالصلاة هنا مواضعها، لأن العبور لا يكون في الصلاة، وهو نهي للجنب عن الصلاة من باب أولى. وروى مسلم (224) وغيره، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا تقبل صلاة بغير طهور ". وهو يشمل طهارة المحدث والجنب، ويدل على حرمة الصلاة منهما. 2ـ المكث في المسجد والجلوس فيه، أما المرور فقط من غير مكث ولا تردد فلا يحرم: قال تعالى: (ولا جنباً إلا عابري سبيل). أي لا تقربوا الصلاة موضع الصلاة ـ وهو المسجد ـ إذا كنتم جنباً إلا قرب مرور وعبور سبيل. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا أجل المسجد لحائض، ولا لجنب ". [رواه أبو داود: 232]، وهو محمول على المكث كما علمت من الآية، ولما سيأتي في الحيض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 3ـ الطواف حول الكعبة فرضاً، أو نفلاً، لأن الطواف بمنزلة الصلاة، فيشترط له الطهارة كالصلاة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ك " الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أحل لكم فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير " [رواه الحاكم: 1/ 459، وقال: صحيح الإسناد]. 4ـ قراءة القرآن: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقرا الحائض، ولا الجنب شيئا من القرآن ". [رواه الترمذي: 131، وغيره]. ملاحظة: يجوز للجنب إمرار القرآن على قلبه من غير بلفظ به، كما يجوز له النظر في المصحف. ويجوز له قراءة أذكار القرآن بقصد الذكر، لا يقصد القراءة، وذلك كأن يقول: (ربنا أتنا في الدنيا حسنه وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) [سورة البقرة: الآية 201]. بقصد الدعاء. وكأن يقول إذا ركب دابة: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) [الزخرف: 13]، بقصد الذكر لا بقصد القراءة. 5ـ مس المصحف وحمله أو مس ورقه، أو جلده، أو حمله في كيس أو صندوق: قال تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون) [الواقعة: 79]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يمس القرآن إلا طاهر " [رواه الدارقطني: 1/ 121، ومالك في الموطأ مرسلاً: 1/ 199]. ملاحظة: يجوز للجنب حمل المصحف إذا كان في أمتعة أو ثوب، ولم يقصد حمله بالذاب، بل كان حمله تبعاً لحمل الأمتعة من القرآن، لأن فاعل ذلك لا يسمى عرفاً حاملاً للقرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 (2) الحيض معناه: حيض في اللغة: السيلان. يقال حاض الوادي إذا سال. وفي الشرع: دم جبلة ـ أي خلقة وطبيعة ـ تقتضيه الطباع السليمة يخرج من أقصى رحم المرأة بعد بلوغها على سبيل الصحة، في أوقات معلومة. دليله: ودليل أن الحيض يوجب الغسل: القرآن والسنة. أما القرآن: فقوله تعالى: (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فأعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله) [سورة البقرة: الآية 222]. وأما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنهما: " فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي " [رواه البخاري: 226، ومسلم 333]. سن البلوغ: يقصد بالبلوغ السن التي إذا بلغها الإنسان ـ ذكراً أو أنثى ـ أصبح أهلاً لتوجه الخطاب إليه بالتكليف الشرعية: من صلاة، وصوم، وحج، وغيرها. ويعرف البلوغ بأمور: الأول: الاحتلام بخروج المني، بالنسبة للذكر والأنثى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الثاني: رؤية دم الحيض بالنسبة للأنثى. والوقت الذي يمكن أن يحصل فيه الاحتلام، أو الحيض، فيكون قد تحقق البلوغ، هو استكمال تسع سنين قمرية من العمر. ثم التأخر عن هذا الوقت أو عدم التأخر إنما يتبع طبيعة البلاد، وظروف الحياة. الثالث: باستكمال الخامسة عشرة من العمر، بالسنين القمرية، إذا لم يحصل الاحتلام أو الحيض. مدة الحيض: وللحيض مدة دنيا، ومدى قصوى، ومدة غالبة: فالمدة الدنيا ـ وهي أقل مدة الحيض ـ يوم وليلة. والمدة القصوى ـ وهي أكثر مدة الحيض ـ خمسة عشر يوماً بلياليها. والمدة الغالبة ـ ستة أيام أو سبعة. وأقل طهر بين الحيضتين خمسة عشر يوماً، ولا حد لأكثر الطهر، فقد لا تحيض المرأة سنة أو سنتين أو سنين. وهذه التقادير مبناها الاستقراء، أي تتبع الحوادث ـ والوجود، وقد وجدت وقائع أثبتتها. فإذا رأت المرأة دماً أقل من مدة الحيض ـ أي أقل من يوم وليلة ـ أو رأت الدم بعد مدة أكثر الحيض ـ أي أكثر من خمسة عشر يوماً بلياليها ـ، اعتبر هذا الدم دم استحاضة، لا دم حيض. وقد تميز دم الحيض عن دم الاستحاضة بلونه وشدته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 والاستحاضة: دم علة ومرض يخرج من عرق من أدنى الرحم يقال له العاذل، وهذا الدم ينقض الوضوء، ولا يوجب الغسل، ولا يوجب ترك الصلاة ولا الصوم، فالمستحاضة تغسل الدم، وتربط على موضعه، وتتوضأ لكل فرض، وتصلي. روى أبو داود (268) وغيره عن فاطمة بنت أبي حبيش: أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا كان دم الحيضة فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي، فإنما هو غرق". [يعرف: يغرفه النساء عادة. عرق: أي ينزف. الآخر: الذي ليست صفته كذلك]. روى البخاري (236) ومسلم (333) عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت: يا رسول الله، إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا، إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي". ما يحرم بالحيض: 1ـ الصلاة: لأحاديث فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها السابقة في الاستحاضة. 2ـ قراءة القرآن ومس المصحف وحمله لما مر ايضأ فيما يحرم بالجنابة رقم (4، 5). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 3 - المكث في المسجد لا العبور فيه: لما مرَّ معك فيما يحرم بالجنابة رقم (2). ومما يدل على أن مجرد العبور لا يحرم، بالإضافة لما سبق: ما رواه مسلم (298) وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نَاولِيني الْخُمْرَة مِنَ المَسْجدِ". فَقُلْتُ: إنَّي حَائِضٌ، فقال: " إنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ في يَدِكِ". وعن النسائي (1/ 147) عن ميمونة رضي الله عنها قالت: تَقُومُ إحْدانا بِالخُمْرَةِ إلى المَسْجدِ فَتَبْسُطُها وهِيَ حَائِضٌ. [الخمرة: هي السجدة أو الحصير الذي يضعه المصلي ليصلي عليه أو يسجد]. 4 - الطواف: ودل على ذلك ما مَّر في الجنابة، رقم (3). وما رواه البخاري (290)، ومسلم (1211)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا لا نُرى إلاَّ الحجَّ، فلمَّا كنَّا بسَرَفٍ حِضْتُ، فدخل علىَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، قال: " مَا لَكِ أَنَفِسْتِ؟ " قُلْتُ: نعم، قال: " إنَّ هَذا أَمْرُ كَتَبَهُ اللهُ عَلى بَناتِ آدمَ، فاقضِي مَا يَقْضِي الحاجُّ، غير أن لا تطوفي بالبَيْتِ". وفي رواية " حتى تَطْهُري". [لا نرى: لا نظن أنفسنا إلا محرمين بالحج. بسرف: مكان قرب مكة. أنفستِ: أحضتِ. فاقضي: افعلي ما يفعله الحاجُّ من المناسك]. ويحرم على الحائض زيادة على ذلك أمور أخرى وهي: 1 - عبور المسجد والمرور فيه إذا خافت تلويثه، لأن الدم نجس ويحرم تلويث المسجد بالنجاسة وغيرها من الأقذار، فإذا أمنت التلويث حلَّ لها المرور كما علمت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 2 - الصوم: فلا يجوز للحائض أن تصوم فرضاً ولا نفلاً، ودليل ذلك ما رواه البخاري (298)، ومسلم (80)، عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في المرأة وقد سئل عن معنى نقصان دينها: " أَلَيْسَ إذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟ ". وعلى ذلك الإجماع. وتقضي الحائض ما فاتها من صوم الفرض بعد طهرها، ولا تقضي الصلاة، وإذا طهرت- أي انتهى حيضها - وجب عليها الصوم، ولو لم تغتسل. روى البخاري (315)، ومسلم (335) واللفظ له، عن معاذة قالت: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: "كان يصيبنا ذلك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة". ولعل الحكمة في ذلك أن الصلاة تكثر فيشق قضاؤها بخلاف الصوم. 3 - الوطء- أي الجماع - والاستمتاع والمباشرة بما بين السرة إلى الركبة: لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]. والمراد باعتزالهنَّ ترك الوطء. وروى أبو داود (212) عن عبدالله بن سعد - رضي الله عنه -: أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما يحلُّ لي من امرأتي وهي حائضُ؟ قال: "لَكَ مَا فّوقَ الإِزَارِ". والإزار الثوب الذي يستر وسط الجسم وما دون، وهو ما بين السرة إلى الركبة غالباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 (3) الولادة الولادة، وهي وضع الحمل: قد تكون الولادة ولا يعقب خروج الولد دم، فحكمها حينئذ حكم الجنابة، لأن الولد منعقد من ماء المرأة وماء الرجل. ولا يختلف الحكم مهما اختلف الحمل الموضوع، أو طريقة وضعه. وإذا أعقب خروج الولد دم - وهو الغالب - سمى نفاساً، به أحكام إليك بيانها. النَّفاس معناه: النفاس لغة: الولادة. وشرعاً: الدم الخارج عقب الولادة. وسمي نفاساً، لأنه يخرج عقب خروج النفس، ويقال للمرأة نُفَساء. والدم الذي يخرج أثناء الطلق، أو مع خروج الولد، لا يعتبر دم نفاس، لتقدمه على خروج الولد، بل يعتبر دم فساد، وعلى ذلك تجب الصلاة أثناء الطلق ولو رأت الدم، وإذا لم تتمكن من الصلاة، وجب قضاؤها. مدته: وأقل مدة النفاس لحظة، وقد يمتد أياماً، وغالبه أربعون يوماً وأكثره ستون، فما زاد عليا فهو استحاضة والأصل في هذا الاستقراء، كما علمت في مدة الحيض. ما يحرم بالنفاس: أجمع العلماء على أن النفاس كالحيض في جميع أحكامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 رؤية الدم حال الحمل: إذا رأت الحامل دماً، وبلغت مدته أقل مدة الحيض - وهي يوم وليلة - ولم يتجاوز أكثر مدة الحيض - وهي خمسة عشر يوماً بلياليها- اعتبر هذا الدم حيضاً على الأظهر، فتدع الصلاة والصوم وكل ما يحرم على الحائض. أما إذا كان الدم الذي رأته أقل من مدة الحيض، أو أكثر من مدة أكثره، اعتبر الأقل والزائد دم استحاضة، وأخذ حكمه من حيث الصلاة وغيرها. وقيل: الدم الذي تراه المرأة الحامل يعتبر دم استحاضة مطلقاً كيف كان، وليس دم حيض، لأن الحمل يسد مخرج الحيض، وهذا الغالب الأكثر، وحيض المرأة أثناء الحمل إن لم يكن ممتنعاً فهو نادر جداً. مدة الحمل: أقلُّها: وأقل مدة الحمل ستة أشهر أخذاً من الآيتين الكريمتين: قوله تعالى: {وَفِصَالُهُ في عَامَيْنِ} [لقمان: 14]. أي فطامه عن الرضاع. فإذا كانت مدة مجموع الحمل والرضاع ثلاثين شهراً، وكانت مدة الرضاع وحده عامين، كانت مدة الحمل ستة أشهر، وهي أقل مدته، فإذا جاءت المرأة بولد بعد الزواج بأقل من ستة أشهر وهو حي، لا يثبت نسبه لأبيه. غالبها: وغالب مدة الحمل تسعة أشهر، أخذاً من واقع الحال فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 عامة النساء يلدن بعد بدء الحمل بتسعة أشهر، أو يزيد على ذلك أياماً قليلة، أو ينقص. أكثرها: وأكثر مدة الحمل عند الشافعي رحمه الله أربع سنين، وهي مدة أن لم تكن ممتنعة فيهي نادرة للغاية، ولكنها تقع، وقد وقعت بالفعل، وعلى وقوعها بني الشافعي رحمه الله تعالى قوله. (4) الموت إذا مات المسلم وجب على المسلمين تغسيله، وهو واجب كفائي، إذا قام به البعض من أقربائه أو غيرهم سقط الطلب عن الآخرين، وإذا لم يقم به أحد أثِمَ الجميع. وتجب نية الغسل على الغاسل. هذا في غير الشهيد، أما الشهيد فإنه لا يغسَّل، وسيأتي تفصيل أحكام الميت في بحر الجنائز. ودليل وجوب غسل الميت ما رواه ابن عابس رضي الله عنهما: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال في المُحْرِمِ الَّذي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ: " اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ " [رواه البخاري: 1208، ومسلم: 1206]. [وقصته: رمته وداست عنقه]. ثانياً - الغسل المندوب: وبعبارة أخرى: الأغسال المسنونة، وهي التي تصح الصلاة بدونها، ولكن الشرع ندب إليها لاعتبارات كثيرة، وإليك بيانها: 1 - غسل الجمعة: مشروعيته: يُسنّ الغسل يوم الجمعة لمن يريد حضور الصلاة، وإن لم تجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 عليه الجمعة: كمسافرٍ أو امرأةٍ، أو صغير، وقيل: يسن الغسل لكل أحد، حضر الجمعة أم لا - انظر مشروعية الغسل ص72 - ودليل ذلك، قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْتي الجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ" (رواه البخاري: 837، ومسلم: 844، واللفظ له). والأمر هنا للندب، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الجُمُعَةَ فَبِها ونِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ". (رواه الترمذي: 497). وقته: ووقت الغسل يوم الجمعة يدخل بأذان الفجر الصادق، وتقريبه من ذهابه إلى الجمعة أفضل، لأنه أبلغ في حصول المقصود من الغسل وهو تطيب رائحة جسمه، وإزالة العرق والرائحة الكريهة، لأن الإسلام إنما سنَّ غسل الجمعة من أجل اجتماع الناس، لئلا يتأذى بعضهم لرائحة كريهة، لذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الثوم والبصل، لمن يريد حضور الصلوات في المساجد. 2 - غسل العيدين: مشروعيته: ويسن الغسل يوم عيد الفطر، ويم عيد الأضحى، لمن أراد أن يحضر الصلاة ولمن لم يحضر، لأن يوم العيد يوم زينة، فسنَّ الغسل له. ودليله: ما رواه مالك في الموطأ (1/ 177) أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما كانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الفِطْرِ، قَبْلَ أَنْ يَغْدُو إلى المُصَلَّى. وقيس بيوم الفطر يوم الأضحى. ويَعْضُد عمل الصحابي هذا: قياس غسل العيدين على غسل الجمعة، لأن المعنى فيهما واحد، وهو التنظف لاجتماع الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وروى ابن ماجه (1315) بسند فيه ضعف، عن ابن عباس - رضي الله عنه - عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل يوم الفطر، ويوم الأضحى ويقوي الحديث ما سبق من عمل الصحابي والقياس. وقته: ووقت غسل العيدين يبدأ ينصف الليل من ليلة العيد. 3ـ غسل الكسوفين: كسوف الشمس، وخسوف القمر: مشروعيته: ويسن الغسل لصلاة كسوف الشمس، وخسوف القمر. ودليل ذلك القياس على الجمعة لأنها في معناها من حيث مشروعية الجماعة فيها، واجتمع الناس لها. وقته: ويدخل وقت الغسل للكسوفين ببدء الكسوفين، وينتهي بانجلائهما. 4ـ غسل الاستسقاء: أي لصلاة الاستسقاء يسن الغسل قبل الخروج لصلاة الاستسقاء، قياساً على غسل الكسوفين. 5ـ الغسل من غسل الميت: ويسن لمن غسل ميتاً أن يغتسل. ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من غسل ميتاً فليغتسل". [رواه أحمد وأصحاب السنن وحسنه الترمذي (993)]. وصرفه عن الوجوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه" [رواه الحاكم: 1/ 386]. 6ـ الأغسال المتعلقة بالحج: (أ) الغسل للإحرام بالحج أو العمرة: ودليله ما رواه الترمذي (830) عن زيد بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه -: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - "تجرد لإهلاله واغتسل". [تجرد لإهلاله: أي نزع ثياب للإحرام، والإهلال: رفع الصوت بالتلبية عند الإحرام، ويطلق على الإحرام نفسه]. (ب) الغسل لدخول مكة: ودليله: أن ابن عمر - رضي الله عنه - كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل، ثم يدخل مكة نهاراً، وكان يذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله. (رواه البخاري: 1478، ومسلم: 1259، واللفظ له). (ج) الغسل للوقوف بعرفة بعد الزوال: والأفضل أن يكون بنمرة قرب عرفات. ودليله: أن علياً - رضي الله عنه - كان يغتسل يوم العيدين ويوم الجمعة، ويوم عرفة، وإذا أراد أن يحرم (1) وروى مالك في الموطأ (1/ 322) عن نافع: أن عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم، ولدخوله مكة، ولوقوفه عشية عرفة.   (1) رواه الشافعي في مسنده (الأم: 6/ 107). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 (د) الغسل لرمي الجمار في كل يوم من أيام التشريق الثلاثة بعد الزوال: لآثار وردت في ذلك كله، ولأنها مواضع اجتماع الناس فأشبه الغسل لها غسل الجمعة. والجمار: هي الواضع الني يرمى فيها الحصى بمنى، وتطلق أيضاً على الحصيات التي يرمى بهن. (هـ) الغسل لدخول المدينة المنورة: إن تيسر له ذلك، قياساً على استحبابه لدخول مكة، لأن كلاً منهما ببلد محرم، فإن لم يستطع اغتسل قبل دخول مكة، لأن كلاً منهما بلد محرم، فإن لم يستطع اغتسل قبل دخوله مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -. كيفيته: للغسل كيفية واجبة، وكيفية مسنونة: الكيفية الواجبة: هي عبارة عن أمرين، يعبر عنهما في الفقه بفرائض الغسل: الأول: النية عند البدء يغسل الجسم، لحديث: "إنما الإعمال بالنيات". وكيفيتها: أن يقول بقلبه ـ وإذا تلفظ بلسانه كان أفضل ـ: نويت فرض الغسل أو نويت رفع الجنابة، أو استباحة الصلاة، أو استباحة مفتقر إلى غسل. الثاني: غسل جميع ظاهر الجسم بالماء، بشرة وشعراً، مع إيصال الماء إلى باطن الشعر وأصوله. روى البخاري (253)، عن جابر - رضي الله عنه -، وقد سئل عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الغسل، فقال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذ ثلاثة أكف ويفضها على رأسه، ثم يفيض على سائر جسده. [أكف: أي عرفات بكفيه، كما ورد في رواية عند مسلم (329): "ثلاث حفنات". [والحفنة: ملء الكفين. يفيضها: يصبها. سائر: باقي]. وعند مسلم (330) وغيره، عن على - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من ترك موضع شعره من جنابة لم يصيبها الماء فعل الله به كذا وكذا من النار". قال علي: فمن ثم عاديت شعري. وكان يجز شعره - رضي الله عنه - أي يحلقه. الكيفية المسنونة: ويعبر عنها في الفقه بسنن الغسل، وهي: 1ـ يغسل يده خارج إناء الماء ثم يغسل بيساره فرجه على بدنه من قذر، ثم يدلكها بمنظف. روى البخاري (254)، ومسلم (317)، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قالت ميمونة: وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ماء للغسل فغسل يديه مرتين أو ثلاثاً ثم أفرغ على شماله، فغسل مذاكيره، ثم مسح يديه بالأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 2ـ يتوضأ وضوءاً كاملاً، وأن أخر رجليه حتى نهاية الغسل فلا بأس. 3ـ يخلل شعر رأسه بماء، ثم يغسل رأسه ثلاثاً. 4ـ يغسل شقه الأيمن ثم الأيسر. دل على هذه السنن ما رواه البخاري (245)، ومسلم (316)، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه. وفي رواية عند مسلم: ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه. وعند البخاري (246) عن ميمونة رضي الله عنها: وغسل فرجه وما أصابه من الأذى، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيده ثم يفيض الماء على جلده كله. ودل على استحباب البدء بالشق الأيمن ما رواه البخاري (166)، ومسلم (268)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله. [ترجله: تسريح شعر رأسه. طهوره: وضوئه وغسله]. 5ـ يدلك جسمه ويولي ـ أي بتتابع ـ بين غسل الأعضاء، خروجاً من خلاف من أوجب ذلك وهم الملكية. 6ـ يتعهد معاطفه بالغسل، وذلك بان يأخذ الماء فيغسل كل موضع من جسمه فيه انعطاف أو التواء، كالأذنين وطيات البطن وداخل السرة والإبط، وإن غلب على ظنه أن الماء لا يصل غليهما إلا بذلك كان واجباً. 7ـ تثليث أعمال الغسل قياساً على الوضوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 مكروهات الغسل: 1ـ الإسراف في الماء لما مر معك في مكروها الوضوء، ولأنه خلاف فعله - صلى الله عليه وسلم -. روى البخاري (198)، ومسلم (325)، عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد. وروى البخاري (349)، ومسلم (327)، عن جابر - رضي الله عنه - وقد سئل عن الغسل فقال: يكفيك صاعاً، فقال رجل: ما يكفيني؟ فقال جابر كان نكفي من هو أوفي منك شعراً وخير منك. [أوفي: أكثر، ويعني النبي - صلى الله عليه وسلم -. والصاع: أربعة أمداد، والمد: يساوي مكعباً طول حرفه 2، 9سم]. 2ـ الاغتسال في الماء الراكد: لما رواه مسلم (283)، وغيره، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب". فقالوا: يا أبا هريرة. كيف يفعل؟ قال: يتناوله تناولاً. أي يأخذه بيده، أو بإناء صغير. وينوي الاغتراف إن كان الماء قليلاً، حتى لا يصير مستعملاً بمباشرته بجزء من بدنه. أو يأخذ قليلاً من الماء من الوعاء قبل أن ينوي رفع الجنابة، ثم ينوي ويغسل به يده، ثم يتناول بها الماء. والحكمة من هذا النهي: أن النفس تتقزز من الانتفاع بالماء المغتسل فيه بأي وجه، إلى جانب إضاعة الماء، بخروجه عن صلاحيته للتطهير، إن كان أقل من قلتين، لأنه يصبح مستعملاً بمجرد الاغتسال فيه، والناس في الغالب يحتاجون إلى الانتفاع بالماء الراكد، فلذلك نهي عن الاغتسال فيه. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 التيَمّم يسر الإسلام: علمنا أن الوضوء شرط لصحة الصلاة، والطواف، ومس المصحف وحمله، والوضوء إنما يكون بالماء، إلا أن الإنسان قد يتعذر عليه استعمال الماء: إما لفقده، أو بعده، أو لمرض يمنع من استعماله، فمن يسر الإسلام وسماحته أنه شرع التيمم بالتراب الطاهر عوضاً عن الوضوء أو الغسل، حتى لا يحرم المسلم من بركة العبادة. معنى التيمم: والتيمم في اللغة: القصد، يقال: تيممت فلاناً أي قصدته. والتيمم في الشرع: إيصال تراب طهور للوجه واليدين بنية، وعلى وجه مخصوص. دليل مشروعيته الكتاب والسنة: أما الكتاب فقوله تعالى: (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه). (سورة المائدة: 6). وأما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء " [رواه مسلم: 522]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 أسباب التيمم 1ـ فقد الماء حساً: كأن كان في سفر ولم يجد ماء، أو فقده شرعاً: وذلك كأن كان معه ماء ولكنه يحتاج إليه لشربه، قال تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا). والمحتاج إليه لشربه ونحوه في حكم المفقود بالنسبة للطهارة. 2 - بعد الماء عنه: فإذا كان بمكان لا ماء فيه، وبينه وبين الماء مسافة فوق نصف فرسخ - أي ما يساوي أكثر من كيلوين متر ونصف الكيلو متر (2. 5كم) - فإنه يتيمم ولا يجب عليه أن يسعى إلى الماء للمشقة. 3 - تعذر استعمال الماء: إما حساً، وذلك كأن الماء قريباً منه لكنه كان بقربه عدو يخاف منه. وإما شرعاً: وذلك كأن يُخاف من استعمال الماء حدوث مرض، أو زيادته، أو تأخر الشفاء. ففي هذه الحالات يتيمم ولا يجب عليه استعمال الماء لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الذي شجَّ رأسه ثم اغتسل فمات: "إنّما كانَ يَكْفِيهِ أّن يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ على جُرْحه خرقة ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْها وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ". [انظر دليل مشروعية المسح على الجبيرة]. 4 - البرد الشديد: الذي يخاف معه استعمال الماء، ولم يقدر على تسخينه، لأن عمرو بن العاص رضي الله عنه تيمم عن جنابة لخوف الهلاك من البرد، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم -. [رواه أبو داود، وصححه الحاكم وابن حبان]. لكنه يقضي الصلاة في هذه الحالة عند وجود الماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 شرائط التيمم: 1 - العلم بدخول الوقت. 2 - طلب الماء بعد دخول الوقت. 3 - التراب الطهور الذي لا غبار ولا دقيق ولا جِصّ فيه. 4 - أن يزيل النجاسة أولاً. 5 - وأن يجتهد في القبلة قبله. أركانه: و أركان التيمم أربعة وهي: 1 - النية: ومحلها القلب كما علمت، فيقصد في قلبه فعل التيمم، ويسن أن يتلفظ بلسانه فيقول: نويت استباحة الصلاة، أو فرض الصلاة، أو نفلها، ونحو ذلك مما يقصد فعله، فإذا نوى استباحة الفرض جاز له فعل النوافل معه. 2 - مسح وجهه ويديه إلى المرافقين بضربتين وذلك بأن يضرب بكفيه على التراب الطاهر الذي له غبار ويمسح بهما جميع وجهه. ويضرب بيديه ثانية على التراب، ويمسح بهما يديه إلى المرفقين ويمسح بيده اليسرى يده اليمنى، وبيده اليمنى يده اليسرى. روى الدارقطني (1/ 256) عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "التيمُّم ضَرْبَتانِ: ضربةٌ للوجه وضربةٌ لليدين إلى المرفقين". ويستوعب العضو بالمسح، فإذا كان في يده خاتم وجب نزعه في الضربة الثانية، حتى يصل التراب إلى موضعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 3 - الترتيب على هذا الشكل الذي ذكرنا: لأن التيمم بدل عن الوضوء، والترتيب ركن في الوضوء كما علمت، فهو ركن في بدله من بابٍ أولى. سنن التيمم: 1 - يسن فيه ما يسن في الوضوء، من التسمية أوله، وأن يبدأ بأعلى الوجه، ويقدم اليد اليمنى بالمسح على اليسرى، كما علمت، وأن يمسح جزءاً من الرأس وجزءاً من العضد، وأن يوالي بين مسح الوجه واليدين، وأن يتشهد بعده ويدعو بالدعاء المأثور بعد الوضوء. روى أبو داود (318) عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما: أنهم تمسحوا وهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصعيد لصلاة الفجر، فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى، فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط من بطون أكفهم. [المناكب: جمع منكب، وهو مجتمع العضد مع الكتف، والآباط: جمع إبط، وهو ما تحت المنكب]. 2 - تفريق الأصابع عند الضرب على التراب، إثارة للغبار، واستيعاب الوجه بضربة واحدة، وكذلك اليدين. 3 - تخفيف التراب، بنفض الكفين أو النفع فيهما، لما رواه البخاري من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: " إنَّما يَكْفيكَ أَنْ تصْنَعَ هَكَذَا" فضرب بكفيه ضربة على الأرض ثم نفضهما - وفي رواية أخرى: ونفخ فيهما - ثم مسح بهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 التيمم بعد دخول الوقت: من توفرت فيه أسباب التيمم ليس له أن يتيمم لصلاة الفريضة إلا بعد دخول وقتها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فَأَيُّما رَجُلٍ مِنْ أُمتي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ فَلْيُصلِّ" [رواه البخاري: 328] وعند أحمد (2/ 222): "أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت" أي تيممت وصليت. فقد دلت الروايتان على أن التيمم يكون عند إدراك الصلاة، ولا يكون إدراك الصلاة إلا بعد دخول وقتها. التيمم لكل فريضة: ولا يصلي بالتيمم إلا فرضاً واحداً، ويصلي ما شاء من السنن وكذلك صلاة الجنازة، فإذا أراد أن يصلي فرضاً آخر تيمم، وإن لم يحدث بعدد تيممه الأول، وسواء كانت الصلاة أداءً أم قضاءً. روى البيهقي (1/ 221) بإسناد صحيح، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " يتيمم لكل صلاة وإن لم يحدث ". التيمم بدل الغسل فريضة: يكون التيمم - عند توفر أسبابه - بدل الغسل لمن كان في حاجة إليه، كما يكون بدل الوضوء. قال تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا وأن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا} [المائدة: 6] [الغائط: مكان قضاء الحاجة. لامستم: لمستم]. وروى البخاري (341)، ومسلم (682)، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: كنَّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فصلى بالناس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 فإذا هو برجل معتزل، فقال: "ما منعك أن تصلي"؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: "عليك بالصعيد فإنه يكفيك" والصعيد: ما صعد على وجه الأرض من التراب. مبطلاته: يبطل التيمم وينقضه أمور: 1 - كل ما يبطل الوضوء من النواقض التي ذكرت في الوضوء. 2 - وجود الماء بعد فقده: لأن التيمم بدل الماء، فإذا وجد الأصل بطل البدل. روى أبو داود (332) وغيره، عن أبي ذر رضي الله عنه: أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير". [فليمسه بشرته: فليتطهر به، وهذا يدل على بطلان تيممه بوجود الماء]. ولوجود الماء بعد انقضاء الصلاة فقد صحُت صلاته، وليس عليه قضاؤها. وكذلك لو وجده بعد شروعه في الصلاة فإنه يتمها وهي صحيحة، ولو قطعها ليتوضأ ويصلي بالوضوء كان أفضل. 3 - القدرة على استعمال الماء: كمن كان مريضاً فبريء. 4 - الردة عن الإسلام والعياذ بالله تعالى: لأن التيمم للاستباحة وهي منتفية مع الردة، بخلاف الوضوء والغسل فإنهما رفع للحدث. **** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الصَّلاَة معنى الصلاة : تطلق كلمة الصلاة في اللغة العربية على الدعاء بخير. قال الله تعالى: {وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} [التوبة: 103] أي ادع الله لهم بالمغفرة. أما في اصطلاح الفقهاء: فتطلق كلمة الصلاة على أقوال وأفعال مخصوصة، تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم. سميت صلاة لأنها تشتمل على الدعاء ولأنه الجزء الغالب فيها، إطلاقاً لاسم الجزء على الكل. حكمتها: للصلاة حِكمٌ وأسرار كثيرة تلخصها فيما يلي: أولاً: أن ينتبه الإنسان إلى هويته الحقيقة، وعي أنه عبدٌ مملوك لله عز وجل، ثم أن يظل متذكراً لها، بحيث كلما أنسته مشاغل الدنيا وعلاقاته بالآخرين هذه الحقيقة جاءت الصلاة فذكرته من جديد بأنه عبد مملوك لله عز وجل. ثانياً: أن يستقر في نفس الإنسان أنه لا يوجد معين ومنعم حقيقي إلا الله عز وجل وإن كان يرى في الدنيا وسائط وأسباباً كثيرة يبدو - في الظاهر- أنها هي التي تعين وتنعم، ولكن الحقيقة أن الله سخرها جميعاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 للإنسان. فكلما غفل الإنسان واسترسل مع الوسائط الدنيوية الظاهرة، جاءت الصلاة تذكرة بأن المسبب هو الله وحده المعين والمنعم، والضار والنافع، والمحيي والمميت. ثالثاً: أن يتخذ الإنسان منها ساعة توبة يتوب فيها عما يكون قد اقترفه من الآثام، إذ الإنسان معرَّض، في ساعات يومه وليله، لكثير من المعاصي التي قد يشعر بها وقد لا يشعر، فتكون صلاته المتكررة بين الحين والآخر تطهيراً له من تلك المعاصي والأوزار. وقد أوضح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك في الحديث الذي رواه مسلم (668)، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غَمْر على باب أحدكم، يغتسل منه كل يوم خمس مرات" قال: قال الحسن: وما يبقى ذلك من الدرن؟. [غمر: كثير المياه. الدرن: الوسخ، والمراد هنا الدرن المعنوي وهو الذنوب، ويدل على ذلك رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم أيضاً (667): "فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا"] رابعاً: أن تكون غذاءً مستمراً لعقيدة الإيمان بالله تعالى في قلبه. فإن ملهيات الدنيا ووساوس الشيطان من شأنها أن تنسى الإنسان هذه العقيدة وإن كانت مغروسة في قلبه، فإذا استمر في نسيانه بسبب انصرافه إلى ضجيج الأهواء والشهوات والأصدقاء تحوَّل النسيان إلى جحود وإنكار، كالشجرة التي قطع عنها الماء تذبل حيناً من الزمن ثم يتحول الذبول إلى موت وتتحول الشجرة إلى حطب يابس. ولكن المسلم إذا ما ثابر على الصلاة، كانت غذاءً لإيمانه، ولم تعد الدنيا وملهياتها قادرة على إضعاف الإيمان في قلبه أو أمانته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 تاريخ مشروعيتها: الصلاة من العبادات القديمة في مشروعيتها، فقد قال تعالى عن سيدنا إسماعيل عليه السلام: {وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضياً} [مريم: 55]، فقد عرفتها الحنيفية التي بعث بها إبراهيم، وعرفها أتباع موسى عليه السلام، وقال تعالى على لسان عيسى عليه السلام: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً} [مريم: 31] وعندما بعث نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين كل صباح ويصلي ركعتين كل مساء، قيل: وهما المقصودتان بقول الله تعالى خطاباً لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار} [المؤمن: 55] الصلوات المكتوبة: وهي الصلوات المفروضة على كل مسلم مكلف وهي: الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء. شرعت هذه الصلوات ليلة أسريَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السماوات، فقد فرض الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - وسائر المسلمين خمسين صلاة في اليوم والليلة، ثم خففها الله عز وجل إلى خمس صلوات، فهي خمسٌ في الأداء والفعل وخمسون في الأجر. جاء في حديث الإسراء والمعراج الذي رواه البخاري (342)، ومسلم (163)، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل .. ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء ... ففرض الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 على أمتي خمسين صلاة ... فراجعته فقال: هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي". والصحيح أن حادثة الإسراء كانت قبل هجرة النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة بثمانية عشر شهراً، وإذا فإن الصلوات الخمس المكتوبة نسخت الركعتين اللتين كانتا في الصباح والمساء. دليل مشروعيتها: ثبتت مشروعية الصلاة بآيات كثيرة من كتاب الله، وبأحاديث كثيرة من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فمن القرآن: قوله تعالى: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون*وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون} [الروم: 17و18]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أراد بقوله: {حين تمسون}: صلاة المغرب والعشاء، {وحين تصبحون}: صلاة الصبح، {وعشياً}: صلاة العصر، {وحين تظهرون} صلاة الظهر. وقوله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} [النساء: 103]. أي محتمة وموقتة بأوقات مخصوصة. ومن السنة: حديث الإسراء السابق: وما رواه البخاري (1331)، ومسلم (19)، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً - رضي الله عنه - إلى اليمن فقال: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني محمداً رسول الله، فإن هم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 أطاعوا لذلك فأعلمهم أن لله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة .. " وقوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي سأله عما يجب عليه من الصلاة: "خمس صلوات في اليوم والليلة" قال الأعرابي: هل علي غيرها؟ قال "لا إلا أن تطوع"" (رواه البخاري: 46، ومسلم: 11). مكانتها في الدين: الصلاة أفضل العبادات البدنية على الإطلاق، فقد جاء رجل يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الأعمال فقال له: "الصلاة" قال: ثم مه؟ قال: "ثم الصلاة" قال: ثم مه؟ قال: "الصلاة" قال: ثلاث مرات. (رواه ابن حبان: 258). وقد ثبت في الصحيحين أن الصلاتين يؤديهما المسلم أداء سليماً تكونان كفارة لما بينهما من الذنوب، فعند البخاري (505)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا". وعند مسلم (231)، عن عثمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من أتم الوضوء كما أمره الله تعالى فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن". كما أن التهاون في الصلاة تأخيراً أو تركاً، من شأنه أن يؤدي بصاحبه ـ إن هو استمر على ذلك ـ إلى الكفر. إذا الصلاة هي الغذاء الأول للإيمان كما قد علمت. دوى الإمام أحمد (6/ 421)، عن أم أيمن رضي الله عنها أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتركي الصلاة متعمداً، فإنه من ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه ذمه الله ورسوله". وروي مثله عن معاذ - رضي الله عنه - (5/ 238) حكم تارك الصلاة: تارك الصلاة إما أن يكون قد تركها كسلاً وتهاوناً، أو تركها جحوداً لها، أو استخفاً بها: فأما من تركها جاحداً لوجوبها، أو مستهزئاً بها، فإنه يكفر بذلك ويرتد عن الإسلام، فيجب على الحاكم أن يأمره بالتوبة، فإن تاب وأقام الصلاة فذاك، وإلا قبل على أنه مرتد، ولا يجوز غسله ولا تكفينه ولا الصلاة عليه، كما لا يجوز دفنه في مقابر المسلمين، لأنه ليس منهم. وأما إن تركها كسلاً، وهو يعتقد وجوبها، فإنه يكلف من قبل الحاكم بقضائها والتوبة عن معصية الترك. فإن لم ينهض إلى قضائها وجب قتله حداً، أي يعتبر قتله حداً من الحدود المشروعة لعصاة المسلمين، وعقوبة على تركه فريضة يقاتل عليها. ولكنه يعتبر مسلماً بعد قبله ويعامل في تجهيزه ودفنه وميراثه معاملة المسلمين لأنه منهم. روى البخاري (25)، ومسلم (22)، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله". دليل الحديث على أن من أقر بالشهادتين بقاتل إن لم يقم الصلاة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ولكنه لا يكفر، بدليل ما رواه أبو داود (1420) وغيره، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: سمعت - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن، لم يضع منهن، شئ استخفافاً بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأتي بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة". فقد دل على أن تارك الصلاة لا يكفر، لأنه لو كفر لم يدخل في قوله: "وإن شاء أدخله الجنة"، إذ الكافر لا يدخل الجنة قطعاً، فحمل على من تركها كسلاً، جمعاً بين الأدلة. روى مسلم (82) وغيره، عن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة". وهو محمول على الترك جحوداً وإنكاراً لفريضتها، أو استهزاء بها واستخفافاً بشأنها. أوقات الصلوات المفروضة: الصلوات الخمس، كل منها لها وقت معين، ذو بداية لا تصح إذا قدمت عليها، وذو نهاية لا يجوز تخيرها عنها. قال لله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا ًموقوتاً} [النساء: 103]. أي كانت فريضة محددة بأوقات مخصوصة. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن فرضت الصلوات الخمس، يعرفه أوقاتها، ويضبط له وقت كل منها ابتداءً وانتهاءً. [أنظر سنن أبي داود كتاب الصلاة، باب ما جاء في المواقيت رقم (393)، والترمذي أول كتاب الصلاة رقم (149)]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 كما بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك للمسلمين بالقول والفعل. والحديث الذي يجمع مواقيت الصلوات الخمس ما رواه (مسلم: 614) وغيره، عن أبي موسى الأِشعري - رضي الله عنه -، عن الني - صلى الله عليه وسلم -: إنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئاً. وفي رواية أخرى قال: "اشهد معنى الصلاة. قال: فأقام الفجر حين أنشق الفجر، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضاً، ثم أمره فأقام بالظهر حين زالت الشمس، والقائل يقول: قد انتصف النهار وهو كان أعلم منه، ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة ثم أمره فأقام بالمغرب حين وقعت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق. ثم أخّر الفجر من الغد، حتى انصرف منها والقائل يقول: قد طلعت الشمس أو كادت، ثم أخر الظهر حتى كان قريباً من وقت العصر بالأمس، ثم أخر العصر حتى أنصرف منها والقائل يقول: قد أحمرت الشمس، ثم أخّر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق، ثم أخر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول ثم أصبح، فدعا السائل فقال: "الوقت بين هاذين". [انشق الفجر: طلع ضوءه. زالت: مالت عن وسط السماء. الشفق: الحمرة التي تظهر بعض غروب الشمس. سقوط الشفق: غيابه". وهناك أحاديث بينت بعض ما أجمل فيه، أو زادت عليه، كما سترى في تفصيل وقت كل صلاة، واليك بيانها: " الفجر": يدخل وقته ظهور الفجر الصادق ويمتد إلى طلوع الشمس، قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " وقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس" (رواه مسلم: 612). " الظهر": يبدأ وقته بانحراف الشمس عن منتصف السماء نحو الغروب ـ ويسمونه الزوال ـ حيث يظهر للشاخص عندئذ ظل يسير يبدأ بالامتداد نحو جهة الشرق- ويسمونه ظل الزوال-. ويمتد وقته إلى أن يصير طوال ظل الشئ مثله، علاوة على ظل الزوال الذي كان علامة على أول وقت الظهر. روى مسلم (612) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "وقت الظهر إذ زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله، ما لم يحضر العصر". " العصر": يبدئ وقته بنهاية وقت الظهر ويستمر حتى تغرب الشمس، دل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" (رواه البخاري: 554، ومسلم 618). ولكن الاختيار أن لا يؤخرها المصلي عن مصير ظل الشئ مثليه علاوة على ظل الزوال، لما مر معك في حديث المواقيت، ولقول - صلى الله عليه وسلم -: "ووقت العصر ما لم تصفر الشمس" (رواه مسلم: 612). وهو محمول على الوقت المختار. "المغرب": يبتدئ وقته بغروب الشمس، ويمتد حتى يغيب الشفق الأحمر ولا يبقى له أثر في جهة الغرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 والشفق الأحمر: وهو بقايا من آثار ضوء الشمس، يظهر في الأفق الشرقي عند وقت الغروب، ثم أن الظلام يطارده نحو الغروب شيئاَ فشيئاً. فإذا أطبق الظلام وامتد إلى الأفق الغربي، وزوال أثر الشفق الأحمر، فذلك يعني انتهاء وقت المغرب ودخول وقت العشاء. دل على ذلك حديث المواقيت، مع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وقت المغرب ما لم يغب الشفق" (رواه مسلم 612). "العشاء": يدخل وقته بانتهاء وقت المغرب ويستمر إلى ظهور الفجر الصادق. والاختيار ألا تؤخر عن الثلث الأول من الليل. والمقصود بالفجر الصادق ضياء ينتشر ممتداً مع الأفق الشرقي، وهو انعكاس لضوء الشمس تقبل من بعيد. ثم إن هذا الضياء يعلو نحو السماء شيئاً فشيئاً إلى أن يتكامل بطلوع الشمس. ودل على وقت العشاء ابتداءً وانتهاءً واختياراً: ما جاء في حديث المواقيت مع ما رواه مسلم (681) وغيره، عن أبي قتادة - رضي الله عنه - إنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أما أنه ليس في النوم تفريط، وإنما التفريط على من يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى". فدل على أن وقت الصلاة لا يخرج إلا بدخول غيرها وخروج الصبح من هذا العموم. هذه هي أوقات الصلاة الخمس، ولكن ينبغي أن لا يتعمد المسلم تأخيرها إلى أواخر أوقاتها، محتجاً باتساعها، إذ ربما تسبب عن ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 إخراجها عن وقتها، بل ربما تسبب عن هذا التهاون تركها، وإنما يسن تعجيل الصلوات لأول الوقت، وقد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الأعمال؟ فقال: "الصلاة على وقتها"، أي عند أول وقتها. " (رواه البخاري: 504، ومسلم: 85) وأعلم أن من وقع بعض صلاته في الوقت، وبعضها خارجه: فإنه إن وقع ركعة في الوقت كانت الصلاة أداء، وإلا كانت قضاءً، ودليل ذلك ما روه (البخاري: 554، ومسلم: 608)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك أن الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر". وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" (رواه البخاري: 555، ومسلم: 607). الأوقات التي تكره فيها الصلاة: تكره الصلاة كراهة التحريم: 1 - عند الاستواء إلاّ يوم الجمعة، وبعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس كرمح في النظر. 2 - وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس. ودليل ذلك ما رواه مسلم (831) عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب. [بازغة: المراد أول ظهور قرصها. وقائم الظهيرة: أصله أن البعير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 يكون باركاً فيقوم من شدة حر الأرض، فصار يكني به عند شدة الحر. تميل: عن وسط السماء. تضيف: تميل مصفرة وتقرب من الغروب]. وهذه الكراهة إلا لم يكن للصلاة سبب متقدم، أو تعمد الدفن فيها. وأما إذا لم يتعمد فيها الدفن وجاء اتفاقاً، أو كان للصلاة سبب متقدم كسنة الوضوء وتحية المسجد وقضاء الفائتة، فأنه لا كراهة في ذلك. ويدل على عدم الكراهة: ما رواه (البخاري: 572، ومسلم: 684)، عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من نسى صلاة فليصلِّ إذا ذكرها لا كفارة لها إلا إذا: {وأقم الصلاة لذكري} [طه: 14]. فقوله: "إذا ذكرها": يدل على أن وقتها المشروع، والمطالب بصلاتها فيه، هو وقت الذكر، وقت يذكرها في أحد الأوقات المنهي عنها، فدل على استثناء ذلك من النهي. وما رواه (البخاري: 1176، ومسلم: 834)، وعن أم سلمة رضي الله عنها: إنه - صلى الله عليه وسلم -: صلى ركعتين بعد العصر، فسألته عن ذلك فقال: "يا بنت أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر، وإنه آتاني ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان". وقيس على القضاء غيره مما له سبب متقدم من الصلوات. ويستثنى من هذا النهي مطلقاً حرم مكة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " يا بني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أيَّة ساعة شاء من ليل أو نهار" (رواه الترمذي: 868، وأبو داود: 1894). إعادة الصلاة المكتوبة وقضاءها: أما الإعادة: فهي أن يؤدي صلاة من الصلوات المكتوبة، ثم يرى فيها نقصاً أو خللً في الآداب أو المكملات، فيعيدها على وجه لا يكون فيها ذلك النقص أو الخلل. وحكمها: الاستحباب. ومثال ذلك أن يكون قد صلى الظهر منفرداً، ثم يدرك من يؤدي هذه الصلاة جماعة، فيسن أن يعيدها معه. والفرض بالنسبة له هو الصلاة الأولى، وتقع الثانية نافلة. روى الترمذي (219)، إنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الصبح فرأى رجلين لم يصليا معه فقال: " ما منعكم أن تصليا معنا؟ ) فقال: " يا رسول الله، إنا كنا قد صلينا في رحالنا. قال: " فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة". [رحالنا: منازلنا ومساكننا]. أما إذا لم يكن في الأولى خلل أو نقص، ولم تكن الصلاة أتم من الأولى، فلا تسن الإعادة. وأما القضاء: فهو تدارك الصلاة بعد خروج وقتها، أو بعد أن لا يبقى من وقتها ما يسع ركعة فأكثر وإلا فهي أداء كما قدمنا سابقاً. وقد اتفق جمهور العلماء من مختلف المذاهب على أن تارك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الصلاة يكلف بقضائها، سواء تركها نسياناً أم عمداً، مع الفارق التالي: وهو أن التارك لها بعذر كنسيان أو نوم لا يأثم، ولا يجب عليه المبادرة إلى قضائها فوراً، أما التارك لها بغير عذر- أي عمداً - فيجب عليه - مع حصول الإثم - المبادرة إلى قضائها في أول فرصة تسنح له. ودليل وجوب القضاء للصلاة المتروكة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك" (رواه البخاري: 572، ومسلم: 684، وغيرهما). فقوله: " لا كفارة لها إلا ذلك": يدل على أنه لا بد من قضاء الفرائض الفائتة، مهما كثر عددها أو بعد زمانها. من تجب عليه الصلاة؟ تجب الصلاة على كل مسلم ذكراً أو أنثى، بالغ عاقل طاهر. فلا تجب على كافر، وجوب مطالبة بها في الدنيا، لعدم صحتها منه، لكن تجب عليه وجوب عقاب عليها في الآخرة، لتمكنه من فعلها بالإسلام، ودليل ذلك قوله تعالى: {ما سلككم في سقر* قالوا لم نك من المصلين* ولم نك نطعم المسكين* وكنا نخوض مع الخائضين* وكنا نكذب بيوم الدين* حتى أتانا اليقين} (المدثر: 42 - 47). [سلككم: أدخلكم وحبسكم. سقر: جهنم، يقال: سقرته الشمس لوحت جلده وغيرت لونه. نخوض: نتكلم الباطل ونفعله. اليقين: الموت، أو الإطلاع على الحقيقة بيوم القيامة]. ولا تجب على صبي صغير لعدم تكليفه، ولا على مجنون لعدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 إدراكه، ولا على حائض أو نفساء لعدم صحتها منهما، لقيام المانع منها وهو الحدث فيهما. وإذا أسلم الكافر فإنه لا يكلف قضاء ما فاته ترغيباً له في الدين، ولقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (الأنفال: 38). إلا المرتد فيلزمه قضاء ما فاته أيام ردته بعد إسلامه تغليظاً عليه. ولا يجب قضاء ما فات الحائض والنفساء من الصلاة أيام الحيض والنفاس، أن في وجوب القضاء مشقة عليهما. وكذلك لا يجب القضاء على المجنون والمغمى عليه إذا أفاقا من الجنون والإغماء، ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يعقل" (رواه أبو داود: 4403، وغيره). [يحتلم: يبلغ]. فالحديث ورد في المجنون، وقيس عليه كل من زال عقله بسبب عذر فيه، وإنما وجب القضاء على النائم بالحديث الذي مر سابقاً: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها". هذا ويجب أن يؤمر الصبي بالصلاة بعد استكماله سن السابعة، ويضرب على تركها إذا بلغ عشر سنين تعويداً له على الصلاة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين وإذا بلغ عشراً فاضربوه عليها" (رواه أبو داود: 494، والترمذي: 407، ولفظه: "علموا الصبي". وقال: حديث حسن صحيح). ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الأذَانُ وَالإِقامَة الأذان: أما الأذان فذِكرٌ مخصوص، شرعه الإسلام للإعلام بدخول وقت الصلاة المفروضة، ولدعوة المسلمين إلى الاجتماع إليها. حكم الأذان: والأذان سنة للصلاة الحاضرة والفائتة، سنة مؤكدة على الكفاية في حق الجماعة، أما بالنسبة للمنفرد فهو سنة عينية. وللأذان أهمية كبرى في إظهار شعيرة من شعائر الإسلام. دليل تشريعه: ودليل تشريع الأذان القرآن والسنّة: فأما القرآن: فقوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} (الجمعة: 99). وأما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم". ... (رواه البخاري: 602، ومسلم: 674). بدء تشريعه: كان تشريع الأذان في السنة الأولى للهجرة، روى البخاري (579)، ومسلم (377)، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة، ليس ينادي لها، فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقا مثل قرن اليهود، فقال عمر - رضي الله عنه -: أولاً تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا بلال قم فناد بالصلاة". [فيتحينون: من الحين وهو الوقت والزمن، أي يقدرون حينها ليأتوا إليها. قرن: هو البوق الذي له عنق يشبه القرن]. وصيغة الأذان: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداَ رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. ونضيف في أذان الفجر: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، بعد قوله: على الفلاح الثانية. وقد ثبتت هذه الصيغة بالأحاديث الصحيحة، عند البخاري ومسلم وغيرهما. شروط صحة الأذان: ويشترط لصحة الأذان الأمور التالية: 1 - الإسلام: فلا يصح الأذان من كافر لعدم أهليته للعبادة. 2 - التمييز: فلا يصح من صبي غير مميز لعدم أهليته للعبادة أيضاً، وعدم ضبطه للوقت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 3 - الذكورة: فلا يصح أذان المرأة للرجال، كما لا تصح إمامتها لهم. 4 - وترتيب كلمات الأذان للإتباع في ذلك، ولأن ترك الترتيب يوهم اللعب ويخل بالإعلام. 5 - والولاء بين كلماته، بحيث لا يقوم فاصل كبير بين الكلمة والأخرى. 6 - ورفع الصوت إذا كان يؤذن لجماعة، أما إذا كان يؤذن لمنفرد فيسن رفع الصوت في غير مسجد وقعت فيه جماعة، أما إذا أذن لمنفرد في مسجد وقعت فيه جماعة فيسن خفض الصوت لئلا يتوهم السامعون دخول الصلاة الأخرى. روى البخاري (584) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: "إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شئ إلا شهد له يوم القيامة". أما جماعة النساء: فلا يندب لهن الأذان: لأن في رفع صوتهن يخشى الفتنة، ويندب لهن الإقامة، لأنها لاستنهاض الحاضرين وليس فيها رفع صوت كالأذان. 7 - دخول الوقت، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا حضرت الصلاة فيؤذن لكم أحدكم " (رواه البخاري: 603، ومسلم: 674). ولا تحضر الصلاة إلا بدخول وقتها. ولأن الأذان للإعلام بدخول الوقت، فلا يصح قبله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 بالإجماع، إلا في الصٌّبح، فإنه يجوز من نصف الليل لما سيأتي في سنن الأذان. سنن الأذان: ويسنّ للأذان الأمور التالية: 1 - أن يتوجه المؤذن إلى القبلة، لأنها أشرف الجهات وهو المنقول سلفاً وخلفاً. 2 - وأن يكون طاهراً من الحدث الأصغر والأكبر، فيكره الأذان للمحدث، وأذان الجنب أشد كراهة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر" أو قال: "على طهارة" (رواه أبو داود: 17، وغيره). 3 - وأن يؤذن قائماً، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " يا بلال قم فناد للصلاة". 4 - أن يلتفت بعنقه - لا بصدره - يميناً في "حيَّ على الصَّلاة"، ويساراً في "حيَّ على الفَلاح". روى البخاري (608) أن أبا جحيفة - رضي الله عنه - قال: رأيت بلالاً يؤذن، فجعلت أتتبع فاه هنا وهنا بالأذان يميناً وشمالاً: حتى على الصلاة حتى على الفلاح. 5 - أن يرتَّل كلمات الأذان، وهو التأني فيه، لأن الأذان إعلامٌ للغائبين، فكان الترتيل فيه أبلغ في الإعلام. 6 - الترجيع بالأذان، وهو أن يأتي المؤذن بالشهادتين سراً قبل أن يأتي بهما جهراً، لثبوت ذلك في حديث أبي محذورة - رضي الله عنه - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الذي رواه مسلم (379) وفيه: "ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله". 7 - التثويب في أذان الصبح، وهو أن يقول بعد حيَّ على الفلاح: الصلاة خيرٌ من النوم مرتين، لورود ذلك في حديث أبي داود (500). 8 - أن يكون المؤذن صيَتاً حين الصوت، ليرقّ قلب السامع، ويميل إلى الإجابة، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن زيد - رضي الله عنه -، الذي رأى الأذان في النوم: " فقم مع بلال، فألق عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى صوتاً منك" (رواه أبو داود: 499، وغيره). [قال في المصباح: أندى صوتاً منه كناية عن قوته وحسنه]. 9 - أن يكون المؤذن معروفاً بين الناس بالخلق والعدالة، لأن ذلك أدعى لقبول خبره عن الأوقات، ولأن خبر الفاسق لا يقبل. 10 - عدم التمطيط بالأذان، أي تمديده والتغني به، بل يكره ذلك. 11 - ويسن مؤذنان في المسجد لأذان الفجر، يؤذن واحد قبل الفجر، والآخر بعده ودليل ذلك حديث البخاري (592) ومسلم (1092): " إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم". 12 - ويسن لسامع الأذان الإنصات، وأن يقول كما يقول المؤذن، ودليل ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن" (رواه البخاري: 586، ومسلم: 383). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 لكن يقول في الحيعلتين: لا حول ولا قوة إلا بالله. ودليل ذلك حديث البخاري (588) ومسلم (385) واللفظ له: "وإذا قال حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا قال حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله" وجاء في آخر الحديث أن: "من قال ذلك من قلبه دخل الجنة". ويسن أن يقول في التثويب: صدقت وبررت أي صدقت بالدعوة إلى الطاعة، وأنها خير من النوم، وصرت باراً. 13 - الدعاء والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الأذان: ويسن للمؤذن وللسامع، إذا انتهى المؤذن من أذانه أن يصليا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويدعوا له لما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - وحضنا عليه: روى مسلم (384) وغيره، عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه -: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ، فإنه من صلى عليّ صلاة صلى الله بها عليه عشراً. ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة". أي استحقها ووجبت له. وروى البخاري (579) وغيره عن جابر رضي الله عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آتِ سيِّدنا محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة". [الدعوة التامة " دعوة التوحيد التي لا ينالها تغيير ولا تبديل]. الفضيلة: المرتبة الزائدة على سائر الخلائق. مقاماً محموداً: يحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 القائم فيه. الذي وعدته: يقول سبحانه: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} (الإسراء: 22) ويقول المؤذن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والدعاء بصوت أخفض من الأذان ومنفصل عنه، حتى لا يتوهم أنها من ألفاظ الأذان. الإقامة: وأما الإقامة: فهي نفس الأذان مع ملاحظة الفوارق التالية: 1 - الأذان مثنى، والإقامة فرادى. ودليل ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - عند البخاري (580)، ومسلم (378): أمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة، إلا الإقامة - أي لفظ قد قامت الصلاة - فإنها تكرر مرتين. وصيغة الإقامة كاملة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. وقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة عند البخاري ومسلم وغيرهما. 2 - الترسل والتمهُّل في الأذان، والإسراع في الإقامة، لأن الأذان للغائبين، فكان الترتيل فيه أبلغ، والإقامة للحاضرين، فكان الإسراع فيها أنسب. 3 - من كان عليه فوائت وأراد أن يقضيها أذَّن للأولى فقط، وأقام لكل صلاة، ودليل ذلك أن الني - صلى الله عليه وسلم -: "جمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان واحد وإقامتين" (رواه مسلم: 1218). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 شروطها: هي نفس شروط الأذان. سنن الإقامة: وسنن الإقامة هي أيضاً سنن الأذان، ويزاد استحباب أن يكون المؤذَّن هو المقيم. ويسنُّ للسامع أن يقول: أقامها الله وأدامها (رواه أبو داود: 528). النداء للصلوات غير المفروضة: الأذان والإقامة سنة مؤكدة للصلوات المفروضة، أما غيرها مما تسنُّ فيه الجماعة كالعيدين والكسوفين والجنازة، فلا يسن فيها الأذان والإقامة، وإنما يقول فيها: الصلاة جامعة. روى البخاري (1003)، ومسلم (910)، عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: لما انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نودي: "الصلاة جامعة". وقيس على صلاة الكسوف ما في معناها من الصلوات المسنونة التي تشرع فيها الجماعة. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 شرُوط صِحَّةِ الصَّلاَة معنى الشرط: شرط الشيء كل ما يتوقف عليه وجود ذلك الشيء، وهو ليس جزءاً منه. مثاله: النبات: لا بد لوجوده على وجه الأرض من المطر، مع العلم بأن المطر ليس جزءاً من النبات، فالمطر إذاً شرط لوجود النبات. والآن، ما هي شروط صحة الصلاة ؟ تتلخص شروطها عند الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في الأمور الأربعة التالية: 1 - الطهارة: وقد عرفت معنى الطهارة في باب الطهارة وهي تنقسم إلى أنواع، لابدَّ من توفر كل واحد منها لصحة الصلاة، وهي: (أ) طهارة الجسم من الحدث: فالمُحدث لا تصح صلاته، سواءً كان الحدث أصغر - وهو فقد الوضوء- أو أكبر كالجنابة، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "لا تقبل صلاة بغير طهور" (رواه مسلم: 224). (ب) طهارة البدن من النجاسة: وقد عرفت معنى النجاسة وأنواعها في باب الطهارة أيضاً. ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في اللذين يعذبان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 في قبرهما: "أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول" (رواه البخاري: 215، ومسلم: 292). وفي رواية لا يستتر، وأخرى: لا يستنزه، وكلها صحيحة ومعناها: لا يتجنبه ويتحرز منه. ومثل البول كل النجاسات المختلفة الأخرى، قال - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها: "فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي" (رواه البخاري: 266، ومسلم: 333). (ج) طهارة الثياب من النجاسة: فلا يكفي أن يكون الجسم نقياً عن النجاسة، بل لا بد أن تكون الثياب التي يرتديها المصلي نقية أيضاً عن جميع النجاسات، دليل ذلك قول الله جل جلاله: {وثيابك فطهر} [المدثر: 4] وروى أبو داود (365)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن خولة بنت يسار أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إنه ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه، فكيف أصنع؟ قال: "إذا طهرت فاغسليه ثم صلى عليه" فقالت فإن لم يخرج الدم؟ قال: " يكفيك غسل الدم، ولا يضرك أثره". (د) طهارة المكان عن النجاسة: ويقصد بالمكان الحيِّز الذي يشغله المصلي بصلاته فيدخل في المكان ما بين موطئ قدمه إلى مكان سجوده، مما يلامس شيئاً من بدنه أثناء الصلاة، فما لا يلامس البدن لا يضر أن يكون نجساً، مثل المكان الذي يحاذي صدره عند الركوع والسجود، ودليل هذا الشرط أمره - صلى الله عليه وسلم - بصب الماء على المكان الذي بال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فيه الأعرابي في المسجد (رواه البخاري: 217)، وقياساً للمكان على الثوب، لأن المكان كالثوب في ملامسة البدن. 2 - العلم بدخول الوقت: وقد عرفت أن لك من الصلوات المكتوبة وقتاً معيناً، يجب أن تقع فيه ... غير أنه لا يكفي أن تقع الصلاة في الوقت، بل لا بد أن يعلم المصلي ذلك قبل المباشرة بالصلاة، فلا تصح صلاة من لم يعلم دخول وقتها، وإن تبيَّن له بعد ذلك أنها صادفت وقتها المشروع. * كيفية معرفة دخول الوقت: ويعرف دخول وقت الصلاة بوسيلة من الوسائل الثلاثة الآتية: العلم اليقيني: بأن يعتمد على دليل محسوس، كرؤية الشمس وهي تغرب في البحر. الاجتهاد: بأن يعتمد على أدلة ظنية ذات دلالة غير مباشرة، كالظل، والقياس بالأعمال وطولها. التقليد: إذا لم يمكن العلم اليقيني أو الاجتهاد، كجاهل بأوقات الصلاة ودلائلها، فيقلد إما العالم المعتمد على دليل محسوس، أو المجتهد المعتمد على الأدلة الظنية. * حكم صلاة من صلى خارج الوقت: إذا تبين للمصلي أن صلاته قد وقعت قبل دخول الوقت تعتبر باطلة وتجب إعادتها، سواء كان معتمداً على علم أو اجتهاد أو تقليد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 3 - ستر العورة: هذا هو الشرط الثالث من شروط صحة الصلاة، ولا بد لمعرفة هذا الشرط من بيان الأمور التالية: (أ) معنى العورة: يقصد بكلمة العورة شرعاً: كل ما يجب ستره أو يحرم النظر إليه. (ب) حدود العورة في الصلاة: حدودها بالنسبة للرجل: ما بين السرة والركبة، فيجب أن لا يبدوا شئ منه في الصلاة. وحدودها بالنسبة للمرأة: كل البدن ما عدا الوجه والكفَّين، فيجب أن لا يبدو شئ مما عدا ذلك في الصلاة. قال الله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد به الثياب في الصلاة (مغني المحتاج: 1/ 184]. وروى الترمذي (277) وحسَّنه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقبل صلاة الحائض إلا بخمارٍ". (والحائض: البالغ، لأنها بلغت سن الحيض. والخمار: ما تغطي به المرأة رأسها، وإذا وجب ستر الرأس فستر سائر البدن أولى]. (ج) حدود العورة خارج الصلاة: *حدود عورة الرجل ما بين السرَّة والركبة بالنسبة للرجال أيَّاً كانوا، وبالنسبة لمحارمه من النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 أما عند النساء الأجنبيات فما عدا الوجه والكفين على المعتمد (1). أي لا يجوز للنساء الأجنبيات أن ينظرن إلى ماعدا وجه الرجل الأجنبي وكفيه، فإن كان النظر بشهوة حرم بالنسبة للوجه أيضاً. قال الله تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن} [النور: 31]. *وحدود عورة المرأة: عند النساء المسلمات ما بين سرتها وركبتها. أما عند النساء الكافرات، فما عدا الذي يظهر منها لضرورة القيام إلى عمل ما كخدمة البيت ونحوه. وأما عند الرجال المحارم لها: فما بين السرة والركبة، أي فيجوز لها أن تبدي سائر أطراف جسمها أمامهم بشرط أمن الفتنة وإلا فلا يجوز ذلك أيضاً. قال تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو بني أخواتهن أو نسائهن} [النور: 31]. وفسرت الزينة بمواضعها فوق السرة أو تحت الركبة. (بعولتهن: أزواجهن. نسائهن: النساء المسلمات).   (1) ودليله ما روته أم سلمة قالت: كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده ميمونة فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " احتجبا منه "، فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟ " (رواه أبو داود: 4112، والترمذي: 2778، وقال حسن صحيح). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وأما عند الرجال الأجانب فجميعها عورة، فلا يجوز لها أن تكشف شيئاً من بدنها أمامهم إلا لعذر، كما لا يجوز لهم أن ينظروا إليها أن كشفت شيئاً من ذلك. قال تعالى: {قل للمؤمنات يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم} [النور: 30] وروى البخاري (365)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الفجر، فيشهد معه نساء من المؤمنات، ملتفعات في مروطهن، ثم يرجعن إلى بيتهن، ما يعرفهن أحد". (ملتفعات في مروطهن: متلففات بأكسيتهن، واللفاع: ثوب يجلل به الجسد كله). أما حالات جواز كشف العورة والنظر إليها لعذر: 1 - عند الخطبة لأجل النكاح، فيجوز النظر إلى الوجه والكفين، وسيأتي في باب النكاح. 2 - النظر للشهادة أو المعاملة، فيجوز النظر إلى الوجه خاصة، إذا كانت هناك حاجة لمعرفة تلك المرأة، ولم تعرف دون النظر إليها. 3 - من أجل التطيب والمداواة، فيجوز كشف العورة والنظر إليها بقدر الحاجة. روى مسلم (2206)، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: "أن أم سلمة رضي الله عنها استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحجامة، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا طيبة أن يحجمها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ويشترط أن يكون ذلك بوجود محرم أو زوج، وأن لا توجد امرأة تعالجها، وإذا وجد المسلم أو المسلمة لا يعدل إلى غيرهما. 4 - استقبال القبلة: وهذا هو الشرط الرابع من شروط صحة الصلاة. دليل وجوب استقبالها: دليل هذا الشرط صريح قول الله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 150]. وروى البخاري (5897)، ومسلم (397) أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للذي علمه كيف يصلي: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر". والمراد بالمسجد الحرام بالآية، وبالقبلة في الحديث: الكعبة. تاريخ مشروعية استقبال القبلة: روى البخاري (390)، ومسلم (525) عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل الله: {قد نرى تقلب وجهك في السماء}. فتوجه نحو الكعبة. وإذا فإن تاريخ مشروعية استقبال الكعبة يبدأ في أوائل هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 كيفية الاستدلال على القبلة: إما أن يكون المصلي قريباً من الكعبة بحيث يمكنه رؤيتها إذا شاء، أو أن يكون بعيداً عنها بحيث لا يمكن رؤيتها: أما القريب منها: فيجب أن يستقبل عين الكعبة يقيناً. وأما البعيد عنها: فيجب عليه أن يستقبل عين الكعبة معتمداً على الأدلة الظنية، إن لم يمكنه الدليل القطعي. كيفية الصلاة عدد ركعاتها: عندما فرض الله على المسلمين الصلوات المكتوبة، جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ كما مر معك ـ يضبط للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقت كل منها ابتداء وانتهاء، ويوضح له عدد ركعات كل منها، وهي كما يلي: صلاة الفجر: ركعتان، بقيامين وتشهد أخير. صلاة الظهر: أربع ركعات بتشهدين، أولهما على رأس ركعتين والثاني في آخر الصلاة. صلاة العصر: أربع ركعات كصلاة الظهر. صلاة المغرب: ثلاث ركعات بتشهدين، أولهما على رأس ركعتين والثاني في آخر الصلاة. صلاة العشاء: أربع ركعات مثل الظهر والعصر. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 أركَان الصَّلاَة معني الركن: ركن الشيء ما كان جزءاً أساسياً منه، كالجدار من الغرفة، فأجزاء الصلاة إذا أركانها كالركوع والسجود ونحوهما. ولا يتكامل وجود الصلاة ولا تتوفر صحتها إلا بأن يتكامل فيها جميع أجزائها بالشكل والترتيب الواردين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن جبريل عليه السلام. ويتلخص عدد أركان الصلاة في ثلاثة عشر ركناً. نشرح كل واحد منها على حدة: 1ـ النية: وهي قصد الشيء مقترناً بأول أجزاء فعله، ومحلها القلب. ودليلها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907). ولا بد لصحتها أن تقترن ب تكبيرة الإحرام، بحيث يكون قلبه متنبهاً أثناء التلفظ بالتكبير إلى قصد الصلاة، متذكراً نوعها وفرضيتها، ولا يشترط تحريك اللسان بها. 2ـ القيام مع القدرة في الصلاة المفروضة: دليل هذا الركن ما رواه البخاري (1066) عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: كانت بي بواسير، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الصلاة؟ فقال: "صل قائماً، فإن لم تستطيع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب". [بواسير: مرض في مخرج الدبر]. وإنما يعتبر الرجل قائماً إذا كان منتصب القامة، فإذا انحنى دون عذر بحيث أمكن أن تلامس راحة يده ركبته، بطلت صلاته، لأن ركن القيام فقد في جزء من صلاته. وإذا قدر المصلي على الوقوف في بعض صلاته وعجز في بعضها الآخر، وقف حيث يمكنه ذلك، وجلس في سائرها. وخرج بقيد الصلاة المفروضة، الصلوات النافلة، فإن القيام بها مندوب مطلقاً، فله أن يجلس فيها سواء كان قادراً أم لا. روى البخاري (1065) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد "والمارد بالنائم: المضطجع. 3ـ تكبيرة الإحرام: دليل ذلك ما رواه الترمذي (3) وأبو داود (61) وغيرهم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم". كيفيتها: لا بد من لفظة "الله أكبر"، ولا تضر زيادة لا تمنع الاسم: كـ الله الأكبر، أو الله الجليل أكبر. فلو زاد كلمة ليست من صفات الله تعالى: كقوله: الله هو الأكبر أو غير الصيغة كأن قال: أكبر الله لم يصح التكبير. دليل ذلك ضرورة الاتباع لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - ملازماً في تكبيرة الإحرام لهذه الصيغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 شروطها: يشترط الصحة تكبيرة الإحرام مراعاة الأمور التالية: (أ) أن يتلفظ بها وهو قائم، فلو نطق بها أثناء القيام إلى الصلاة لم تصح. (ب) أن ينطق بها حال استقبال القبلة. (ج) أن تكون باللغة العربية، لكن من عجز عنها بالعربية، ولم يمكنه التعلم في الوقت ترجم وأتى بمدلول التكبير بأي لغة شاء، ووجب عليه التعلم إن قدر على ذلك. (د) أن يسمع نفسه جمع حروفها إن كان صحيح السمع. (هـ) مصاحبتها للنية كما مر ذكره. 4ـ قراءة الفاتحة: وهي ركن في كل ركعة من الصلاة، أيا كان نوعها. دليل ذلك: ما رواه البخاري (723)، ومسلم (394): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". والبسملة آية منها، فلا تصح الفاتحة التي لم يبدأها المصلي ببسم الله الرحمن الرحيم، لما روى ابن خزيمة بإسناد صحيح، عن أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عد بسم الله الرحمن الرحيم آية. شروط صحتها: ولا بد في قراءة الفاتحة من مراعاة الشروط التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 (أ) أن يسمع القارئ نفسه، إذا كان معتدل السمع. (ب) أن يرتب القراءة حسب ترتيبها الوارد، مراعياً مخارج الحروف، وإبراز الشدّات فيها. (ج) أن لا يلحن فيها لحناً يغير المعنى، فإن لحن لحنا لا يؤثر على سلامة المعنى لم تبطل. (د) أن يقرأها بالعربية، فلا تصح ترجمتها، لأن ترجمتها ليست قرآنا. (هـ) أن يقرأها المصلي وهو قائم، فلو ركع وهو لا يزال يتممها، بطلت القراءة ووجبت الإعادة. هذا وإن عجز المصلي لعجمة ونحوها عن قراءة الفاتحة، قرأ بدلها سبع آيات مما يحفظ من القرآن، فإن لم يحفظ منه شيئاً ذكر الله تعالى بمقدار طول الفاتحة ثم ركع. 5ـ الركوع: وهو شرعاً: أن ينحني المصلي قدر ما يمكنه من بلوغ راحتيه لركبتيه، هذا أقله، وأما أكمله: فهو أن ينحني بحيث يستوي ظهره أفقيا. دليله: قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} [الحج: 77]. وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن علمه الصلاة: "ثم اركع حتى تطمئن راكعاً" (رواه البخاري: 724، ومسلم: 397]. وفعله - صلى الله عليه وسلم - الثابت بأحاديث صحيحة أكثر من أن تحصى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 شروطه: لا بد لصحة الركوع من التزام المصلي لما يلي: (أ) الانحناء بالقدر المذكور، وهو بلوغ كفه إلى ركبته. روى البخاري (794) عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه -، في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا ركع يديه من ركبته". (ب) أن لا يقصد بانحنائه شيئاً آخر غير الركوع، فلو انحنى خوفاً من شيء، ثم استمر منحنياً قاصداً أن يجعله ركوعاً لم يصح ركوعه، بل يجب أن يعود قائما ثم ينحني بقصد الركوع. (ج) الطمأنينة، أي أن يستقر في انحنائه قدر تسبيحة، وهذا أقلها، ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما سبق: "حتى تطمئن راكعاً". روى أحمد والطبراني وغيرهما بسند صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته" قالوا يا رسول الله، وكيف يسرق من صلاته؟ قال: "لا يتم ركوعها ولا سجودها". وروى البخاري (758) عن حذيفة - رضي الله عنه -: رأى رجلاً لا يتم الركوع والسجود فقال: ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - عليها. أي ما صليت الصلاة المطلوبة، ولو أدركك الموت على هذه الحالة كنت على غير الطريقة التي جاء بها يسوي ظهره مع عنقه بشكل أفقي مستقيم غير مقوس، وأن ينصب ساقيه، وأن يمسك ركبته بيديه مفرقاً بين أصابعهما، ويستقر قائلاً: "سبحان ربي العظيم" ثلاث مرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وروى مسلم (772) وغيره، عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة ... وفيه: ثم ركع، فجعل يقول: "سبحان ربي العظيم"، ثم سجد فقال: "سبحان ربي الأعلى". وروى الترمذي (261)، وأبو داود (886) وغيرهما، عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثلاث مرات، تم ركوعه وذلك أدناه". أي أقل الكمال والتمام. جاء في حديث أبي حميد السابق: " ثم هصر ظهره ". أي أماله وثناه إلى الأرض. 6ـ الاعتدال بعد الركوع: وهو وقوف يفصل الركوع عن السجود: دليله: ما رواه مسلم (498) عن عائشة رضي الله عنها، أنها وصفت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: فكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً. وقال - صلى الله عليه وسلم - لرجل أساء صلاته، فكان يعلمه كيفيتها: "ثم ارفع حتى تعتدل قائماً (رواه البخاري: 724، ومسلم: 397). شروطه: (أ) أن يقصد بالاعتدال من الركوع شيئاً آخر عير العبادة. (ب) أن يطمئن في اعتداله قدر تسبيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 (ج) أن لا يطيل الوقوف فيه تطويلاً فاحشاً، بأن يزيد على مدة قراءة الفاتحة، لأنه ركن قصير، لا يجوز تطويله. 7ـ السجود مرتين كل ركعة: وتعريفه شرعاً: مباشرة جبهة المصلي موضع سجوده. دليله: قول الله عز وجل: {اركعوا واسجدوا} [الحج: 77]. وقوله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي أساء صلاته فأخذ بعلمه كيفيتها:: " .... ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ... ". (انظر دليل الركوع والاعتدال). شروطه: يشترط لصحة السجود مراعاة الأمور التالية: (أ) كشف الجبهة عند ملامستها الأرض. (ب) أن يكون السجود على سبعة أعضاء، وهي التي عدها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة ـ وأشار بيده على أنفه ـ واليدين والركبتين وأطراف القدمين" (رواه البخاري: 779، ومسلم: 490). ولكن لا يجب أن يكشف من هذه الأعضاء إلا الجبهة. (ج) أن ترتفع أسافله على أعاليه، ما أمكن ذلك، اتباعاً لفعله - صلى الله عليه وسلم -. (د) أن لا يسجد على ثوب متصل به بحيث يتحرك بحركته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 (هـ) أن لا يقصد بالسجود شيئاً آخر غيره كخوف ونحوه. (ز) أن يطمئن في السجود على هذه الحال بمقدار تسبيحة على الأقل. وأكمل السجود أن يكبر لهويِّه، ويضع ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته وأنفه، ويضع يديه حذو منكبيه وينشر أصابعه مضمومة للقبلة، ويفرق بطنه عن فخذيه، ومرفقيه عن الأرض وعن جنبيه، ويقول "سبحان ربي الأعلى"، ثلاثاً. روى البخاري (770)، ومسلم (292)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في صفحة صلاته - صلى الله عليه وسلم -: "ثم يقول: الله أكبر، حين يهوي ساجداً". وعند مسلم (494) عن البراء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك". روى البخاري (383)، ومسلم (495)، عن عبد الله بن مالك بن بُحَينة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى - صلى الله عليه وسلم - فرج بين يديه، حتى يبدو بياض إبطيه. وعند أبي داود (734)، والترمذي (270)، عن أبي حميد - رضي الله عنه -، ونحَّى يديه عن جنبيه، ووضع كفيه حذو منكبيه. روى أبو داود (735)، عن أبي حميد - رضي الله عنه -، في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا سجد فرج بين فخذيه، غير حامل بطنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 على شيء من فخذيه. وعند أبي داود (886)، والترمذي (261)، وغيرهما: "وإذا سجد فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاث مرات، فقد تم سجوده، وذلك أدناه" أي أقل الكمال في السجود. وتخالف المرأة الرجل في بعض ما سبق، فتضم بعضها إلى بعض أثناء السجود. وروى البيهقي (2/ 223): أنه - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على امرأتين تصليان فقال: "إذا سجدتما فضما بعض اللحم إلى الأرض، فإن المرأة ليست في ذلك كالرجل". 8 ـ الجلوس بين السجدتين: ويحب أن يكون ذلك في كل ركعة. دليل ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق ذكره: " ..... ثم ارفع حتى تطمئن جالساً" (انظر دليل السجود). شروطه: يشترط لصحته مراعاة الأمور التالية: (أ) أن يقصد بجلوسه العبادة، ولا يحمله عليه شيء آخر كخوف ونحوه. (ب) أن لا يطوله تطوله يطوله تطويلاً فاحشاً بحيث يزيد عن مدة أقل التشهد. (ج) الطمأنينة بمقدار تسبيحة على الأقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 9ـ الجلوس الأخير: ويقصد به الجلوس الذي يكون في آخر ركعة من ركعات الصلاة بحيث يعقبه السلام. 10ـ التشهد في الجلوس الأخير: لما رواه البخاري (5806)، ومسلم (402) وغيرهما، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا إذا صلينا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قلنا ـ وعند البيهقي (2/ 138)، والدارقطني (1/ 350) كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد ـ: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان، فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أقبل علينا بوجهه فقال: "إن الله هو السلام، فإذا جلس أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات .. " (هو السلام: أي هو اسم من أسماء الله تعالى، قيل: معناه سلامته مما يلحق الخلق من العيب والفناء. "النهاية"). وأقله: " التحيات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله". وورد في صيغته روايات عدة كلها صحيحة، وصيغته الكاملة المفضلة لدى الشافعي رحمه الله تعالى ما رواه مسلم (403) وغيره عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمه الله وبركاته، السلام علينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله". ينبغي في قراءة التشهد مراعاة ما يلي: (أ) أن يسمع نفسه إذا كان سمعه معتدلاً. (ب) موالاة القراءة، فلو فصلها بفاصل سكوت طويل أو ذكر آخر، بطلت ووجب أن يعيد. (ج) أن يقرأ التشهد وهو قاعد، إلا أن يكون معذوراً فيجوز قراءته على الكيفية الممكنة. (د) أن يكون باللغة العربية، فإن عجز بالعربية ترجم وأتى به بأي لغة شاء ووجب عليه التعلم. (هـ) مراعاة المخارج والشدَّات، فلو غيّر مخرج حرف، أو تساهل في تشديدة، أو لحن في كلمة واستلزم ذلك تغير المعنى، بطل التشهد ووجبت الإعادة. (و) ترتيب كلماته حسب النص الوارد. 11ـ الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد الأخير: أي بعد إتمام صيغة التشهد السابق ذكرها، وقبل السلام. دليلها: قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} [الأحزاب: 56]. وقد أجمع العلماء على أنها لا تجب في غير الصلاة، فتعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وجوبها فيها، وقد أخرج ابن حبان (515)، والحاكم (1/ 268) وصححه، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، في السؤال عن كيفية الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -: كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ فقال: قولوا ... وهذا يعين أن محل الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - الصلاة. والمناسب لها آخر الصلاة فوجبت في الجلوس الأخير بعد التشهد. وما رواه الترمذي (3475)، وأبو داود (1481)، وغيرهما بسند صحيح، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يدعو بعد بما شاء". وأقل صيغ الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم صل على محمد. والصيغة الكاملة فيها: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى أل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد. وقد ثبت هذا بأحاديث صحيحة رواها البخاري ومسلم وغيرهم، وفي بعض طرقها زيادة على ذلك أو نقص. [انظر البخاري (1390)، ومسلم (406)]. شروطها: يشترط فيها مراعاة الأمور التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 (أ) أن يسمع بها نفسه إذا كان معتدل السمع. (ب) أن تكون بلفظ "محمد" أو بلفظ: رسول أو النبي. فلو قال على أحمد مثلاً لم تجزيء. (ج) أن تكون بالعربية. فإن عجز عنها بالعربية ترجم وأتى بمعناها بأي لغة شاء، ووجب عليه أن يبادر إلى التعلم إن أمكنه ذلك. (د) الترتيب في صيغة الصلاة، والترتيب بينها وبين التشهد، فلا يصح تقديم الصلاة على التشهد. 12ـ التسليمة الأولى: وهي أن يقول المصلي ملتفتاً إلى يمينه: السلام عليكم ورحمة الله. دليلها: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق ذكره في تكبيرة الإحرام: "تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم". وأقل صيغه: السلام عليكم. مرة واحدة. وأكمله: السلام عليكم ورحمة الله مرتين، الأولى عن يمينه عن يمينه والأخرى عن شماله. روى مسلم (582)، عن سعد - رضي الله عنه - قال: كنت أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه والأخرى عن شماله. روى مسلم (582)، عن سعد - رضي الله عنه - قال: كنت أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه وعن يساره، حتى أرى بياض خده. وروى أبو داود (996) وغيره، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه وعن شماله، حتى يرى بياض خده: "السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله" قال الترمذي (295): حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 13ـ ترتيب هذه الأركان حسب ورودها: وذلك بأن يبدأ بالنية وتكبيرة الإحرام، ثم بالفاتحة، ثم الركوع، فالاعتدال، فالسجود .... وهكذا. فإن قدم بعض هذه الأركان على محله المشروع فيه، بطلت صلاته إن تعتمد ذلك. أما إن فعل ذلك غير متعمد: بطلت صلاته بدءاً من أول الركن الذي فعله في غير موضعه، فيجب عليه أن يعيد ذلك كله. وعلى هذا، فإن استمر في صلاته بعد أن غير الترتيب المطلوب، إلى أن وصل إلى مثل ذلك الموضع من الركعة السابقة، نزل الصحيح من الركعة التالية منزلة الفاسد من الركعة التي قبلها، فوجب عليه حينئذ أن يزيد على صلاته ركعة، بدلاً من الركعة التي فسدت بفساد الترتيب بين أركانها. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 سُنَن الصَّلاَة السَّنة: هي ما يطلب من الإنسان فعله على غير سبيل الحتم، بحيث يثاب المسلم على فعله ولا يعاقب على تركه. وللصلاة أركان وشروط لا بد من فعلها على سبيل الإلزام أو الحتم، كي تصح الصلاة، وقد ذكرناها فيما سبق. وللصلاة أيضاً سنن يطلب من المصلي فعلها، ولكن لا على سبيل الحتم، بحيث يزداد ثواب الصلاة بفعلها ولا عقاب على تركها. وهذه السنن تؤدى في أثنائها، وسنن تؤدى عقبها. (أ) السنن التي تؤدي قبل الصلاة: وهي لا تزيد على الأمور الثلاثة التالية: الأول ـ الأذان: قد مر تعريفه وبيان دليله وشروطه وما يتعلق بذلك. الثاني ـ الإقامة: وقد مر أيضاً تعريفها وبيان شروطها والفرق بينها وبين الآذان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الثالث ـ اتخاذ سترة أمامه: تحول بينه وبين المارين، كجدار، وعموم، وعصا، أو كان يبسط أمامه مصلى كسجادة ونحوها. فإذ لم يجد خط خطاً. روى البخاري (472)، ومسلم (501)، عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة، فتوضع بين يديه، فيصلي إليها والناس وراءه، كان يفعل ذلك في السفر. [الحربة: رمح قصير عريض النصل. بين يديه: قدامه]. والأفضل أن تكون السترة قريبة من موضع سجوده، فقد روى البخاري (474)، ومسلم (508)، عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - كان بين مصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين الجذار ممر الشاة. [مصلى: موضع السجود. ممر الشاة: سعة ما تمر منه الشاة]. (ب) السنن التي تؤدى أثناء الصلاة: وهي أيضاً تنقسم إلى قسمين: أبعاض، وهيئات. (فالأبعاض) كل ما يجبر تركه بسجود السهو في آخر الصلاة. (و الهيئات) كل ما يجبر تركه بسجود السهو. وسنشرح سجود السهو وما يتعلق به من أبحاث آخر الكلام عن أعمال الصلاة. ونبدأ بتعداد أبعاض الصلاة أولاً، ثم هيئاتها ثانياُ. * الأبعاض: 1ـ التشهد الأول: ويقصد به التشهد في الجلوس الذي لا يعقبه سلام، وهو الجلوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الذي يكون على رأس ركعتين في صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فيسن التشهد فيه. جاء في حديث المسيء صلاته عند أبي داود (1173) ومسلم (570) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام في صلاة الظهر وعليه جلوس فلما أتم صلاته سجد سجدتين. (أي تعويضاً عن التشهد الأول الذي تركه بترك الجلوس له، فلو كان ركناً لاضطر إلى الإتيان به، ولم ينجبر تركه بسجود السهو). 2ـ الصلاة على النبي عقب التشهد الأول. هي أيضا سنة يجبر تركها بالسجود. 3ـ الجلوس للتشهد الأول: أي فهي إذا ثلاث سنن مستقلة: سنة الجلوس، وسنة التشهد فيه، ثم سنة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. 4ـ الصلاة على آل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد الأخير الذي هو ركن: أي يسن عند أداء ركن التشهد في الجلسة الأخيرة، وركن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، الصلاة على آل النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما مر معك من الصيغة الكاملة للصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. 5ـ القنوت عند الاعتدال من الركعة الثانية في صلاة الفجر، وفي آخر ركعة من الوتر في النصف الثاني من رمضان، وفي اعتدال الركعة الأخيرة من أي صلاة بالنسبة لقنوت النازلة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 روى أحمد وغيره، عن أنس - رضي الله عنه - قال: "ما زال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا". وروى البخاري (956)، ومسلم (677)، عن أنس - رضي الله عنه -، قد سئل: أقنت النبي - صلى الله عليه وسلم - الصبح؟ قال: نعم، فقيل له: أوقنت قبل الركوع؟ قال: بعد الركوع يسيراً. [ينظر البيهقي في الصبح وفي قنوات الوتر]. وتؤدي سنة القنوت بأن يثني المصلي على الله تعالى ويدعوه بأي لفظ شاء كأن يقول: "اللهم أغفر لي يا غفور" ولكن الكمال في أدائها يكون بالتزام الدعاء الوارد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. روى أبو داود (1425) عن الحسن بن على - رضي الله عنه - قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك في فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضي عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت" ويسن للإمام أن يأتي به بصيغة الجمع. قال الترمذي (464): هذا حديث حسن وقال: ولا نعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قي القنوات في الوتر شيئاً أحسن منه. وعند أبي داود (1428) أن أبي بن كعب - رضي الله عنه - أمهم ـ يعني في رمضان ـ وكان يقنت في الصنف الأخر من رمضان. وروى الحاكم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع رأسه من الركوع من صلاة الصبح في الركعة الثانية، رفع يديه يدعو بهذا الدعاء: " اللهم أهدني فيمن هديت ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 واستحب العلماء أن يزاد فيه: فلك الحمد على ما قضيت، نستغفرك اللهم ربنا ونتوب إليك، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم. للأخبار الصحيحة في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الدعاء والذكر. [مغني المحتاج (1/ 166 - 167)]. ويسنّ أن يرفع يديه أثناء هذا القنوت، ويجعل بطنها لجهة السماء. * الهيئات: وقد ذكرنا أن الهيئات هي: سنن الصلاة التي إن تركها المصلي لم يُسنَّ جبرها بسجود السهو، بخلاف الأبعاض. والهيئات تتلخص فيما يلي: 1 - رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع والرفع منه: وكيفية أداء هذه السنَّة: أن يرفع كفيه مستقبلاً بهما القبلة، منشورتي الأصابع، محاذياً بإبهاميه لشحمتي الأذنين، على أن تكون كفَّاه مكشوفتين. روي البخاري (705)، ومسلم (390)، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - افتتح التكبير في الصلاة، فرفع يديه حين يكبر، حتى يجعلهما حذو منكبيه، وإذا كبر للركوع فعل مثله، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فعل مثله وقال: ربنا ولك الحمد، ولا يفعل ذلك حين يسجد، ولا حين يرفع رأسه من السجود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 2 - وضع يده اليمنى على ظهر يده اليسرى، وذلك في الوقوف: وكيفية ذلك: أن يضع يده اليمنى على ظهر كف ورسغ اليسرى، ويقبض على اليسرى بأصبع يده اليمنى، ويكون محل ذلك تحت صدره وفوق سرَّته. لخبر مسلم (401)، عن وائل بن حُجْر رضي الله عنه: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حين دخل في الصلاة ... ثم وضع يده اليمنى على اليسرى. وعند النسائي (2/ 126): ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد. 3 - النظر إلى موضع السجود: فيكره أن يتوزع نظره فيما حوله، أو أن ينظر إلى الأعلى أو إلى شئ أمامه حتى ولو كان الكعبة، بل يُسنُّ أن يجعل نظره الدائم إلى موضع سجوده، إلا عند التشهد، فليجعل نظره إلى سبابته التي يشير بها عند التشهد. دليل ذلك: اتباع فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. 4 - افتتاح الصلاة بعد التكبير بقراءة التوجه: ولفظه، ما رواه مسلم (771)، عن علي - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان أذا قام إلى الصلاة قال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 [وجهت وجهي: قصدت بعبادتي. فطر: ابتدأ خلقها. حنيفاً: مائلاً إلى الدين الحق. نسكي: عبادتي وما أتقرب به إلى الله تعالى]. مكان استحباب التوجه: تستحب قراءة التوجه في افتتاح المفروضة والنافلة، للمنفرد وللإمام والمأموم، بشرط أن لا يبدأ بقراءة الفاتحة بعد، فإن بدأ بها- وقد علمت أن البسملة جزء منها- أو بالتعوذ، فاتت سنية قراءة التوجه، فلا ينبغي أن يعود إليه ولو كان ناسياً. ولا تستحب قراءة التوجه في صلاة الجنازة، ولا في صلاة الفريضة إذا ضاق وقتها، بحيث خشي إن اشتغل بقراءة التوجه أن يخرج الوقت. 5 - الاستعاذة بعد التوجه: وهي أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يبدأ بها قراءة الفتاحة، فإذا شرع في قراءة الفاتحة قبل أن يستعيذ، فاتت الاستعاذة وكره أن يعود إليها. لقوله سبحانه: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98]. 6 - الجهر بالقراءة في موضعه والإسراء في موضعه: والمواضع التي يسنّ فيها الجهر بالقراءة هي: ركعتا صلاة الفجر، والركعتان الأوليتان من المغرب والعشاء، وصلاة الجمعة، والعيدين، وخسوف القمر، وصلاة الاستسقاء، والتراويح، ووتر رمضان، كل ذلك بالنسبة للإمام والمنفرد فقط. ويسنّ الإسرار فيما عدا ذلك. دلّ على ذلك أحاديث منها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 - ما روى البخاري (735)، ومسلم (463)، عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ المغرب بالطور. - ما رواه البخاري (733)، ومسلم (464)، عن البراء - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ: "والتين والزيتون" في العشاء، وما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه، أو قراءة. - ما رواه البخاري (739)، ومسلم (449)، من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - في حضور الجن واستماعهم القرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له. روى البخاري (745)؛ ومسلم (451)، عن أبي قتادة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بأمِّ الكتاب وسورة معها في الركعتين الأُّوْلَيَيْنِ من صلاة الظهر وصلاة العصر. وفي رواية: وهكذا يفعل في الصبح. مع ما سبق من أحاديث الجهر بالقراءة. وروى أبو داود (823و824)؛ والنسائي (2/ 141) وغيرهما، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: كنا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: "لعلكم تقرؤون خلف إمامكم" قال: قلنا يا رسول الله، أي والله، قال: "لا تفعلوا إلا بأمّ القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". وفي رواية: "فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا جهرت به إلا بأم القرآن". وفي حال عدم سماعه الإمام تعتبر الصلاة كأنها سرية في حقه. فهذه الأحاديث تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بقراءته بحيث يسمعها من حضر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ودل على السر في غير ما ذُكر، ما رواه البخاري (713)، عن خبّاب - رضي الله عنه -، وقد سأله سائلٌ: أكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم، قلنا: بمَ كنتم تعرفون ذلك؟ قال: باضْطِرابِ لِحْيَتهِ. روى البخاري (738)؛ ومسلم (396)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: في كل صلاة يقرأ، فما أسمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسمعناكم وما أخفى عنا أخفينا عنكم. ولم ينقل الصحابي رضي الله عنهم الجهر في غير تلك المواضع. وستأتي أدلة الصلوات الخاصة في مواضعها. ويتوسط في النفل المطلق في الليل بين السر والجهر، قال تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً} [الإسراء: 10]. والمراد صلاة الليل. 7 - التأمين عند انتهاء الفاتحة: وهو أن يتبع قوله تعالى: {ولا الضالين} بكلمة "أمين". والتأمين سنّة لكل مصلِّ في كل صلاة، يجهر بها في الجهرية، ويسرّ بها في السرية، ويجهر بها المأموم تبعاً للإمام. ومعنى آمين: استجب يارب. وروى البخاري (748)، ومسلم (410)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قال أحدكم - وفي رواية عند مسلم: في الصلاة - آمين، وقالت الملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وروى البخاري (747)، ومسلم (410)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "إذا أمن الإمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه". روى أبو داود (934)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تلا: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: آمين، حتى يسمع من يليه من الصف الأول. وزاد ابن ماجه (853): فيرتج بها المسجد. 8 - قراءة شئ من القرآن بعد الفاتحة: وتتحقق السنة بقراءة سورة من القرآن مهما قصرت، أو بقراءة ثلاثة آيات متواليات. ومكان استحبابها الركعتان الأوليتان فقط من كل صلاة، بالنسبة للإمام، والمنفرد مطلقاً. وبالنسبة للمقتدي أيضاً في الصلاة السرّية، أو حيث يكون بعيداً لا يسمع قراءة الأمام. ويسن أن يقرأ في الصبح والظهر من طوال المفصل، كالحجرات، والرحمن، وفي العصر والعشاء، من أواسطه، كالشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، وفي المغرب من قصاره، كقل هو الله أحد. لحديث النسائي (2/ 167)، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فلان، فصلينا وراء ذلك الإنسان، وكان يطيل الأولين من الظهر ويخفف في الأخريين، ويخفف في العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بالشمس وضحاها وأشباهها، ويقرأ في الصبح بسورتين طويلتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ويسنّ أيضاً أن يقرأ في صبح الجمعة: {الم تنزيل} السجدة في الركعة الأولى، و {هل أتى} في الركعة الثانية. لما روى البخاري (851)، ومسلم (880)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الجمعة، في صلاة الفجر: {الم تنزيل} - السجدة - و {هل أتى على الإنسان}. ويسن تطويل الركعة الأولى على الثانية في جميع الصلوات، لما رواه البخاري (725)، ومسلم (451): كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ... يطول في الأولى ويقصر في الثانية. 9 - التكبير عند الانتقالات: عرفنا أن تكبيرة الإحرام بالصلاة ركن لا تصح بدونه. فإذا دَخلتَ في الصلاة وكبرتَ تكبيرة الإحرام، يسنّ لك أن تكبّر مثلها عند كل انتقال من الانتقالات، ما عدا الرفع من الركوع فيسن بدلاً من التكبير قول: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، لما رواه البخاري (756)، ومسلم (392)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة، يكبر حين يقوم ويكبر حين يركع، ثم يقول: "سمع الله لمن حمده" حين يقيم صلبه من الركوع ثم يقول وهو قائم: "ربنا ولك الحمد" ثم يكبر حين يهوي للسجود، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس. 10 - التسبيح عند الركوع والسجود: وكيفية ذلك أن يقول إذا أستقر راكعاً: سبحان ربي العظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وبحمده (ثلاث مرات). وأن يقول إذا استقر ساجداً: سبحان ربي الأعلى وبحمده (ثلاث مرات). وهذا أدنى درجات الكمال، فإن زاد على الثلاث كان أفضل. [أنظر الركوع في الأركان]. 11 - وضع اليدين على أول الفخذين في جلستي التشهد: وكيفية أن يبسط اليسرى، مع ضم الأصابع إلى بعضها، بحيث تكون رؤوس الأصابع مسامتة لأول الركبة، ويقبض يده اليمنى إلا الأصبع المسبِّحة، وهي التي تسمى السبَّابة، فإنه يمدها منخفضة عند أول التشهُّد حتى إذا وصل إلى قوله: إلا الله، أشار بها، إلى التوحيد ورفعها. ويسن أن تبقى مرفوعة دون أن يحركها إلى آخر الصلاة. روى مسلم (580) عن ابن عمر رضي الله عنهما- في صفة جلوسه - صلى الله عليه وسلم - قال: كان إذا جلس في الصلاة، وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى. 12 - التورّك في الجلسة الأخيرة والافتراش في غيرها: التورُّك: هو أن يجلس المصلي على وركه الأيسر، وأن ينصب رجله اليمنى، ويخرج الرجل اليسرى من تحتها. والورك: هو الفخذ. والافتراش هو أن يجلس المصلي على كعب رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى على رؤوس أصابعها. روى البخاري (794) من حديث أبي حُمَيد الساعدي - رضي الله عنه - قال: أنا كنت أحفَظَكم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... وفيه: فإذا جَلَسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 في الرَّكْعَتَيْنِ جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرةِ قدَّم رجله اليسرى، ونصب الأخرى، وقعد على مقْعَدَتِهِ. [قدم رجله اليسرى: أي من تحت رجله اليمنى منصوبة]. وعند مسلم (579)، عن عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذيه وساقه، وفرض قدمه اليمنى. 13 - الصلوات الإبراهيمية ثم الدعاء بعد التشهد الأخير: عرفت فيما مضى أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ركن في جلسة التشهد الأخيرة، ويتأدى الركن بأي صيغة من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. أما اختيار الصلوات الإبراهيمية - وقد مضى ذكر نصَّها- فسنَّة. فإذا أتمها يسن أن يستعيذ من عذاب القبر، ومن عذاب النار، أو من عذاب النار، أو أن يدعو لنفسه بما شاء؛ على أن لا يطيل ذلك قدر قراءة التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى مسلم (558) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال". 14 - التسليمة الثانية: ذكرنا أن التسليمة الأولى ركن، وهي التي تكون مع الالتفات إلى جهة اليمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 فإذا فعلها فقد انتهت أركان الصلاة وواجباتها، إلا أنه يسنَّ أن يضيف إليها تسليمة أخرى، ملتفتاً إلى جهة اليسار. روى مسلم (582) عن سعد - رضي الله عنه - قال: كنت أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلِّم عن يمينه وعن يساره حتى أري بياض خده. وروى أبو داود (996) وغيره، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلّم عن يمينه وعن شماله حتى يُرى بياض خده: "السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله". قال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح. 15 - التزام الخشوع في سائر الصلاة: معنى الخشوع: الخشوع يقظة القلب إلى ما يردّده اللسان من القراءات والأذكار والأدعية، بأن يتدبر كل ذلك ويتفاعل مع معانيه، ويشعر أنه يناجي ربه سبحانه وتعالى. والصحيح أن الخشوع- بهذا المعنى- في جزء من أجزاء الصلاة أمرٌ لا بد منه؛ بحيث إذا كانت الغفلة مطبقة على صلاته كلها من أولها إلى آخرها، كانت صلاة باطلة. أما استمرار الخشوع في سائر أجزاء الصلاة فهو سنَّة مكمّلة. روى مسلم (228)، عن عثمان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله". [يؤت: يعمل. كبيرة: ذنباً كبيراً كالتعامل بالربا وشرب الخمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 ونحو ذلك. وذلك الدهر كله: أي تكفير الذنوب الصغيرة بسبب الصلاة مستمر طوال العمر لتكرر الصلاة كل يوم]. فهذه السنن كلها تسمى هيئات، فلو ترك المصلي شيئاً منها لم يسنّ جبره بالسجود للسهو، بخلاف القسم الأول وهو ما يسمى أبعاضاَ، فإن المصلي إذا ترك شيئاً منه يسن له أن يعوِّضه بالسجود للسهو. (ج) السنن التي تؤدي عقب كل صلاة: ويسنّ عقب الصلاة الأمور التالية: 1 - الاستغفار والذكر والدعاء: وروى مسلم (591)، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثاً، وقال: "اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت ياذا الجلال والإكرام". ولا مانع من رفع الصوت بذلك للإمام إذا أراد التعليم، فإذا تعلموا خفض، فقد روى البخاري (805)؛ ومسلم (583)، عن ابن عباس رضي الله عنهما أخبر: أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى مسلم (596)، عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "معقبات لا يخيب قائلهن دبر كل صلاة مكتوبة: ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وثلاث وثلاثون تكبيرة". ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (597) "وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير. غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر". [خطاياه: الذنوب الصغيرة. زبد البحر: ما يعلو على وجه مائه عند هيجانه وتموجه والمراد: مهما كانت كثيرة]. وروى الترمذي (3470) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قال دبر صلاة الفجر وهو ثان رجله قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير، عشر مرات، كتب له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان في يومه ذلك كله في حرز من كل مكروه وحرس من الشيطان". وروى أبو داود (1522)، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده وقال: "يا معاذ، والله إني أحبك، فقال: أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". وهناك أدعية وأذكار كثيرة وردت عقب الصلوات عامة، وعقب كل صلاة خاصة، تعرف من كتب السنة وكتب الأذكار. 2 - أن ينتقل للنفل من موضع فرضه، لكثر مواضع السجود، فإنها تشهد له: والأفضل إن صلى في المسجد أن ينتقل إلى بيته، ودليل ذلك ما رواه البخاري (698)؛ ومسلم (781)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وروى مسلم (778) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا قضى أحدكم صلاته في مسجده، فليجعل لبيته نصيباً من صلاته، فإن الله جاعل من صلاته خيراً". 3 - وإذا صلوا في المسجد، وكان وراءهم نساء، فإنه يسن لهم أن يمكثوا في أماكنهم حتى ينصرفن لأن الاختلاط بهن مظنة الفساد: روى البخاري (828)، عن أم سلمة رضي الله عنها: أن النساء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كن إذا سلمن من المكتوبة قمن وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام الرجال. وفي رواية عنها (832) قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه، ويمكث هو في مقامه يسيراً قبل أن يقوم قال ابن شهاب الزهري أحد الرواة: نرى - والله أعلم - أن ذلك كان لينصرف النساء قبل أن يدركهن أحد من الرجال. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 مَكروهَات الصَّلاَة قاعدة: كل مخالفة لسنة من السنن التي مضى بيانها، يدخل في نطاق المكروه. والمكروه هو: كل ما يثاب المصلّي على تركه امتثالاً، ولا يعاقب على فعله. فترك تكبيرات الانتقال مثلاً مكروه، لأن الإِتيان بها سنة، وترك الافتتاح بالتوجه أيضاً مكروه، لأن الافتتاح به سنة. إلا أن ثمة تصرفات خاصة أخرى يسن اجتنابها، ويكره للمصلي أن يتلبس بها، نذكر منها الأمور التالية: 1 - الالتفات في الصلاة بالعنق إلا لحاجة: روى أبو داود (909) وغيره، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزال الله عز وجل مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه". وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الالتفات إنما: " هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العيد". روى ذلك البخاري (718). ولأن هذا الالتفات ينافي الخشوع المطلوب في الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 أما إذا كان هناك داع إلى الالتفات، كمراقبة عدو مثلاً فإنه لا يكره ودليل ذلك ما رواه أبو داود (916) بإسناد صحيح: عن سهل بن الحنظلية قال: ثوب بالصلاة - يعني صلاة الصبح- فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو يلتفت إلى الشعب، قال أبو داود: وكان أرسل فارساً إلى الشعب من الليل يحرس. [ثوب: من التثويب والمراد به هنا إقامة الصلاة]. وهذا إذا كان الالتفات بالعنق، أما إذا التفت بصدره فحوَّله عن القبلة؛ فإنه يبطل صلاته لتركه ركن الاستقبال. وأما اللمح بالعين دون الالتفات، فإنه لا بأس به، فقد ذكر ابن حبان في صحيحه (500) من حديث علي بن شيبان - رضي الله عنه - قال: قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلينا معه، فلمح بمؤخر عينه رجلاً لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، فقال: "لا صلاة لمن لا يقيم صلبه". أي لا يطمئن في ركوعه. 2 - رفع بصره إلى السماء: وروى البخاري (717)، عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟ ثم قال: لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم" وروى مسلم مثله (428)، (429)، عن جابر بن سمرة وأبي هريرة رضي الله عنهما. 3 - كف الشعر وتشمير أطراف الثواب أثناء الصلاة: روى البخاري (777)؛ ومسلم - واللفظ له - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكف ثوباً ولا شعراً". والسنة إرسال ثيابه على سجيتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 4 - الصلاة عند حضرة طعام تتوق نفسه إليه؛ لانشغال نفسه به مما يفوت عليه الخضوع في الصلاة: روى البخاري (642)؛ ومسلم (559)، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعشاء ولا يعجل حتى يفرغ منه". 5 - الصلاة عند حصر البول أو الغائط: لأنه - والحالة هذه - لا يمكنه إعطاء الصلاة حقها من الخشوع والحضور. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان". أي البول والغائط. (رواه مسلم: 560)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا نعس أحدكم - وهو يصلي - فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس، لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه". 7 - الصلاة في الأماكن التالية: الحمَّام، الطريق، السوق، المقبرة، الكنيسة، المزبلة، وأعطان الإبل، وهي مباركها، لمظِنَّة وجود النجاسة في بعضها، وانشغال القلب في بعضها الآخر. وللنهي عن الصلاة في هذه المواضع روى الترمذي (346)، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة في المزبلة والمجزرة والمقبرة، وقارعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الطريق، وفي الحمَّام، وفي معاطن الإِبل، وفوق ظهر البيت. وقال الترمذي: إسناد هذا الحديث ليس بذاك القوي. [المجزرة: مكان الجزر أي الذبح. قارعة الطريق: أعلاه ووسطه حيث يمر الناس. البيت: الكعبة]. وقد صح عند ابن حبان (338) حديث: "الأرض مسجد إلا المقبرة والحمام". كما صح عنده أيضاً (336) حديث: "لا تصلوا في أعْطان الإبل". أي مباركها حول الماء. (رواه الترمذي: 348، وغيره). * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 أمورٌ تخالِفُ فيهَا المَرأة الرجَّل يُسنُّ للمرأة أن تخالف الرجل في خمسة أشياء، وهي: أولاً: تضم بعضها إلى بعض في السجود، بأن تضم مرفقيها إلى جنبيها أثناء السجود، وتلصق بطنها بفخذيها، بخلاف الرجل فإنه يُسنُّ أن يباعد مرفقيه عن جنبيه ويرفع بطنه عن فخذيه. روى البيهقي (2/ 232): أنه - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على امرأتين تصلِّيان، فقال: "إذا سجدتما فضما بعض اللحم إلى الأرض، فإن المرأة ليست في ذلك كالرجل". ثانياً: تخفض المرأة صوتها في حضرة الرجال الأجانب، فلا تجهر بالصلاة الجهرية خشية الفتنة، قال تعالى: {فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض} [الأحزاب: 32]. [تخضعن بالقول: تُلَيِّنَّ كلامكنَّ. مرض: فسوق وقلة ورع]. وهذا يدل على أن صوت المرأة قد يثير الفتنة، فيطلب منها خفض الصوت بحضرة الأجانب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 بخلاف الرجل فإنه يسن أن يجهر في مواضع الجهر. ثالثاً: إذا ناب المرأة شئ أثناء الصلاة، وأرادت أن تنبه أحداً من حولها لأمر ما، فإنها تصفق بأن تضرب يدها اليمنى على ظهر كف اليسرى. أما الرجل، فيسن إذا نابه شئ في الصلاة أن يسبَّح بصوت مرتفع سهل بن سعد - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من رابه شيء في صلاته فليسبح، فإنه إذ سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء". [التصفيق هنا: ضرب ظاهر الكف اليسرى بباطن الكف اليمنى. رابه: شك في أمر يحتاج إلى تنبيه. ولفظ مسلم (نابه): أي أصابه شئ يحتاج فيه إلى الإعلام]. رابعاً: جميع بدن المرأة عورة ما عدا وجهها وكفيها، كما مر بيانه. لقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [النور: 31] والمشهور عند الجمهور: أن المراد بالزينة مواضعها، وما ظهر منها هو الوجه والكفَّان (رواه ابن كثير: 3/ 283). روى أبو داود (640) وغيره، عن أم سلمة رضي الله عنها، إنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ قال: "إذا كان الدرع سابغاً، يغطي ظهور قدميها". [الدرع: قميص المرأة الذي يغطي بدنها ورجليها. خمار: ما تغطي المرأة به رأسها. سابغ: طويل]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وواضح: أنه إذا غطى ظهور قدميها حال القيام والركوع، انسدل أثناء السجود، غطى باطن القدمين، لانضمام بعضها إلى بعض. [وانظر بحث شروط الصلاة]. أما الرجل فعورته ما بين سرته وركبته، فلو صلى والمستور من جسمه ما بين السرة والركبة فقط صحت صلاته. روى الدارقطني (1/ 231)؛ والبيهقي (2/ 229)، مرفوعاً: "ما فوق الركبتين من العورة، وما أسفل من السرة من العورة". وروى البخاري (346)، عن جابر - رضي الله عنه -: أنه صلى في ثوب واحد، وقال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في ثوب واحد. وفي رواية (345): صلى جابر في إزارٍ قد عقده من قبل قفاه. [والإزار في الغالب ثوب يستر وسط الجسم، أي ما بين السرة والركبة وما قاربهما]. خامساً: لا يسنُّ الأذان للمرأة ويسن لها الإقامة، فلو أذنت بصوت منخفض لم يكره، واعتبر لها ذلك من الذكر الذي يثاب عليه، أما إن رفعت صوتها به كره، فإن خيفت الفتنة حرم. بخلاف الرجل فقد علمت أن الأذان سنَّة له عند القيام إلى كل مكتوبة. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 مُبطلاَت الصَّلاَة تبطل الصلاة إذا تلبَّس المصلي بواحد من الأمور التالية: 1 - الكلام العمد: ويقصد به ما عدا القرآن والذكر والدعاء. روى البخاري (4260)، ومسلم (539)، عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم أحدنا أخاه في حاجته، حتى نزلت هذه الآية: {حافظوا على الصلوات الوسطى وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238]، فأمرنا بالسكوت. [قانتين: خاشعين]. وروى مسلم (537)، عن معاوية بن حكم السُّلَمي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له - وقد سمت عاطساً في صلاته-: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن". وعُدَّ الكلام الذي تبطل فيه الصلاة، ما كان مؤلفاً من حرفين فصاعداً، وإن لم يفهم منه معنى، أو كان يعبّر عنه بحرف واحد إذا كان له معنى، مثل كلمة "قِ" أمراً من الوقاية، و"عِ" من الوعي، و"فِ" من الوفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 أما إن تكلم ناسياً أنه في الصلاة أو كان جاهلاً لتحريمه لقرب عهده بالإسلام، فيعفا عن سير الكلام، وهو ما لم يزد على ست كلمات. 2 - الفعل الكثير: والمقصود به الفعل المخالف لأفعال الصلاة، بشرط أن يكثر ويتوالى، لأنه يتنافى مع نظام الصلاة، وضابط الكثرة ثلاث حركات فصاعداً، وضابط الموالاة أن تعدَّ الأعمال متتابعة بالعرف، فإن الصلاة تبطل. 3 - ملاقاة نجاسة لثوب أو بدن: والمقصود بالملاقاة: أن تصيب النجاسة شيئاً منهما ثم لا يبادر المصلي إلى إلقائها فوراً، فعندئذ تبطل الصلاة، لأنه حدث ما يتنافى مع شرط من شروط الصلاة، وهو طهارة البدن والثوب من النجاسة. فإن أصابته النجاسة بإلقاء ريح أو نحوه وتمكن من إلقائها عنه فوراً، بأن كانت يابسة؛ لم تبطل صلاته. 4 - انكشاف شيء من العورة: وقد عرفت حد العورة بالنسبة لكل من المرأة والرجل في الصلاة أما إن انكشفت بدون قصده: فإن أسرع فسترها فوراً، لم تبطل، وإلا بطلت، لفقدان شرط من شروطها في جزء من أجزائها. 5 - الأكل أو الشرب: لأنهما يتنافيان مع هيئة الصلاة ونظامها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وحد المبطل من ذلك للمعتمد؛ أيُّ قَدْرٍ من الطعام أو الشرب مهما كان قليلاً. أما بالنسبة لغير المعتمد، فيشترط أن يكون كثيراً في العرف. وقد قدر الفقهاء الكثير بما يبلغ مجموعه قدر حُمصه، فلو كان بين أسنانه بقايا من طعان لا يبلغ هذا القرار فبلعها مع الريق دون قصد لم تبطل. ويدخل ف يحد الطعام المبطل للصلاة: ما لو كان في فمه سكرة فذاب شئ منها في فمه، فبلع ذلك الذوب. 6 - الحدث قبل التسليمة الأولى: لا فرق بين أن يكون ذلك عمداً أو سهواً، لفقدان شرط من شروط الصلاة - وهو الطهارة من الحدث - قبل تمام أركانها. أما إن أحدث بعد التسليمة الأولى وقبل الثانية، فقد تمت صلاته صحيحة. وهذا محل إجماع عند جميع المسلمين. 7 - التنحنح، والضحك، والبكاء، والأنين إن ظهر بكلٍّ من ذلك حرفان: فضابط إبطال هذه الأمور الأربعة للصلاة: أن يظهر فيه حرفان، وأن لم يكونا مفهومين. أما إن كان قليلاً، بحيث لم يسمع فيه إلا حرفٌ واحد، أو لم يظهر فيه أي حرف لم تبطل. هذا إذا لم يكن مغلوباً على أمره، بأن تعمَّد ذلك، أما إذا غلب عليه، بأن فاجأه السعال أو غلب عليه الضحك، لم تبطل صلاته. أما التبسم فلا تبطل به الصلاة. وكذلك الذكر والدعاء إذا قصد به مخاطبة الناس، فإنها تبطل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 كما إذا قال لإنسان: يرحمك الله. لأنه يعتبر عندئذ من كلام الناس، والصلاة لا تصلح له، كما علمت. 8 - تغير النيَّة: ضابط ذلك: أن يعزم على الخروج من الصلاة، أو يعلِّق خروجه منها على أمر، كمجيء شخص ونحوه. فإن صلاته تبطل بمجرد طروء هذا القصد عليه. وعلة بطلان الصلاة بذلك: أن الصلاة لا تصلح إلا بنية جازمة، وهذا القصد أو العزم يتنافى مع النية الجازمة. 9 - استدبار القبلة: لأن استقبالها شرط أساسي من شروط الصلاة، سواء تعمَّد ذلك أو أداره شخص غصباً، إلا أنه في حالة العمد تبطل الصلاة فوراً، وفي حالة الإِكراه لا تبطل إلا إذا استقر مدة وهو مستدبر لها. فإن استدار إلى القبلة بسرعة لم تبطل صلاته، والاستقرار وعدمه يحددهما العرف. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 سُجوُد السَّهُو السهو لغة: نسيان الشيء والغفلة عنه. والمقصود بالسهو هنا: خلل يوقعه المصلي في صلاته، سواء كان عمداً أو نسياناً، ويكون السجود- ومحله في آخر الصلاة- جبراً لذلك الخلل. حكم سجود السهو : هو سنَّة عند حدوث سبب من أسبابه التي سنتحدث عنها، فإن لم يسجد لم تبطل صلاته. ولم يكن واجباً، لأنه لم يشرع لترك واجب كما سنرى. ودليل مشروعيته ما روه البخاري (1169)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: صلَّى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر أو العصر، فسلَّم، فقال له ذو اليدين: الصلاة يا رسول الله، أنقصت؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أَحَقُّ ما يَقُولُ؟ ". قالوا: نعم، فَصلَّى ركعتين أُخْرَيَتَيْنِ، ثمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْن. وأدلة أخرى تأتي فيما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 أسباب سجود السهو: 1 - أن يترك المصلي بعضاً من أبعاض الصلاة التي مرّ ذكرها كالتشهد الأول والقنوت: روى البخاري (1166)؛ ومسلم (570)، عن عبدالله بن بُحَيْنَة - رضي الله عنه - أنه قال: صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْن من بعض الصلوات- وفي رواية: قام من اثنتين من الظهر - ثم قام فلم يجلس، فقان الناس معه، فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه، كبَّر قبل التسليم، فسجد سجدتين وهو جالس، ثم سلم. [نظرنا: انتظرنا]. وروى ابن ماجه (1208)؛ وأبو داود (1036) وغيرهما، عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قام أحدكم من الركعتين، فلم يَسْتَتِمَّ قائماً فليجلس، وإذا اسْتَتَمَّ قائماً فلا يجلس، ويسجد سَجْدَتَي السَهْو". 2 - الشك في عدد ما أتى به من الركعات: فيفرض العدد الأقل، ويتمم الباقي ثم يسجد للسهو، جبراً لاحتمال أنه قد زاد في صلاته. فلو شك هل هو صلى الظهر ثلاثاً أو أربعاً، فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربع كانتا تَرْغِيماً للشيطان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 [شفعن: جعلنها زوجاً كما ينبغي أن تكون. ترغيماً: إغاظة وإذلالاً]. أما لو شك بعد الخروج من الصلاة، فإن هذه الشك لا يؤثر على صحة صلاته وتمامها إلا في النية وتكبيرة الإحرام، فتلزمه الإعادة. وسهو المأموم حال قدوته بالإمام - وذلك كان سها عن التشهد الأول - يحمله الإمام، ولا يلزمه سجود السهو بعد سلام الإمام، ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإِمام ضامن" (رواه ابن حبان وصححه: 362). 3 - ارتكاب فعل منهي عنه سهواً، إذا كان يبطل عمده الصلاة: كما إذا تكلم بكلمات قليلة أو أتى بركعة زائدة سهواً، ثم تنبه إلى وذلك وهو في الصلاة، فيسجد للسهو. 4 - نقل شئ من أفعال الصلاة ركناً كان أو بعضاَ، أو سورة نقلها إلى غير محلها، وهو القيام: مثاله: قرأ الفاتحة في جلوس التشهد، أو قرأ القنوت في الركوع، أو قرأ السورة التي يسنُّ قراءتها بعد الفاتحة في الاعتدال، فيسن أن يسجد لذلك سجود سهو في آخر الصلاة. * كيفية السجود ومحله: سجود السهو سجدتان كسجدات الصلاة، ينوي بهما المصلي سجود السهو، ومحله آخر صلاته قبل السلام؛ فلو سلَّم المصلي قبل السجود عامداً أو ناسياً وطال الفصل؛ فات السجود، وإلا بأن قصر الفصل فله أن يتدارك السجود بأن يسجد مرتين بنية السهو ثم يسلِّم مرة أخرى. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 سَجدَاتُ التِّلاَوَة يسنّ سجدات التلاوة للقارئ داخل الصلاة وخارجها، وللمستمع خارج الصلاة. ودليل ذلك ما رواه البخاري (1025)، عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا السورة فيها السجدة، فيسجد ونسجد، حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته. وروى مسلم (81) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويْلَهُ، أُمِرَ ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار". وروى البخاري (1027) عن عمر - رضي الله عنه - قال: " يا أيها الناس إنا نَمُرُّ بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه ". وفي رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نَشَاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 عدد سجدات التلاوة: وسجدات التلاوة في القرآن أربع عشر سجدة، وهي في السور التالية: سجدة في الأعراف، والرعد، والنحل، والإسراء، ومريم، وسجدتان في الحج، وسجدة في الفرقان، والنمل، وألم تنزيل، وحم السجدة، والنجم، والانشقاق، والعلق. ومن أراد سجود التلاوة كبَّر للإحرام رافعاً يديه، ثم كبَّر للهوي بلا رفع، وسجد سجدة واحدة كسجدات الصلاة، ثم سلَّم. وتكبيرة الإحرام والسلام شرطان فيها، ويشترط فيها أيضاً ما يشترط في الصلاة من الطهارة، واستقبال القبلة، وغير ذلك. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 صَلاَة الجَمَاعَة تاريخ إقامتها: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - الجماعة بعد الهجرة الشريفة، فلقد مكث - صلى الله عليه وسلم - مدة مقامه في مكة ثلاث عشرة سنة يصلي بغير جماعة، لأن الصحابة كانوا مقهورين، يصلّون في بيوتهم، فلما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة أقام الجماعة وواظب عليها. حكمها: الصحيح أنها - فيما عدا صلاة الجمعة - فرض كفاية، لا تسقط فرضيتها عن أهل البلدة إلا حيث يظهر شعارها؛ فإن لم تُؤدَّ فيها مطلقاً أو أديت في خفاء أثم أهل البلدة كلهم، ووجب على الإِمام قتالهم. والأصل في مشروعيتها قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك} [النساء: 102]. وهذا في صلاة الخوف، وإذا ورد الأمر بإقامة الجماعة في الخوف كانت في الأمن أولى. وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفَذِّ بسبع وعشرين درجة" (رواه البخاري: 618؛ ومسلم: 650). وكذلك ما رواه أبو داود (547)، وصحَّحه ابن حبان (425) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وغيرهما: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من ثلاثة في قرية أو بدو لا تقام فيهم الجماعة إلا استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية". [استحوذ عليهم: غلبهم واستولى عليهم وحوَّلهم إليه. القاصية: الشاة البعيدة عن القطع]. حكمة مشروعيتها: إنما ينهض عمود الإسلام على تعارف المسلمين وتآخيهم وتعاونهم لإحقاق الحق وإزهاق الباطل؛ ولا يتم هذا التعارف والتآخي في مجال أفضل من مجال المسجد عندما يتلاقى فيه المسلمون لأداء صلاة الجماعة كل يوم خمس مرات. ومهما فرقت مصالح الدنيا بينهم وأورثت الأحقاد في نفوسهم، فإن في ثباتهم على التلاقي في صلوات الجماعة ما يمزق بينهم من حجب الفرقة ويذيب من قلوبهم الأحقاد والأضغان؛ إن كانوا حقاً مؤمنين بالله ولم يكونوا منافقين فيما يتظاهرون به من صلاة وعبادة وسعي إلى المساجد. الأعذار المقبولة في التخلف عن صلاة الجماعة: الأعذار قسمان: أعذار عامة، أعذار خاصة. أما الأعذار العامة: فكمطر، وريح عاصف بليل، ووحل شديد في الطريق. روي أن أبن عمر رضي الله عنهما: أذَّن للصلاة في ليلة ذات بردٍ وريح، (رواه البخاري: 635؛ ومسلم: 697)، ثم قال: أَلاَ صَلوا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الرِّحَالِ، ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَأمر المُؤَذَّنَ إذَا كانَتْ لَيْلَةٌ ذات برد ومطر أن يقول: " ألا صلوا في رحالكم". أي منازلكم ومساكنكم. وأنت تعلن أن هذه الأعذار قلما تتحقق اليوم إلا في القرى، بل في بعض القرى. * وأما الأعذار الخاصة: فكمرض وجوع وعطش شديدين، وكخوف من ظالم على نفس أو مال، ومدافعة حدث من بول أو غائط. لما رواه البخاري (643)؛ ومسلم (559): " إذا وُضِعَ عَشَاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعِشاء، ولا يعجلن حتى يفرغ منه"، ولخبر مسلم (560): "لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان". وكملازمة غريم له إذا خرج إلى الجماعة وهو معسر، وأكل ذي ريح كريه، أو يكون مرتدياً ثياباً قذرة تؤذي بقذارتها أو ريحها. فكل واحدة من هذه الحالات تعتبر عذراً شرعياَ يسوغ لصاحبه التخلف عن حضور الجماعة. روى البخاري (817)؛ ومسلم (564)، عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أكل ثوماً - وقيس غيره من الأعذار عليه- فليعتزلن، أو قال: فليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته". شروط من يقتدى به: لا بد فيمن يكون إماماً أن تتوفر فيه شروط معينة- أكثرها نسبية، حسب حال المأموم- ونلخصها في الأمور التالية: 1 - أن لا يعلم المقتدي بطلان صلاة إمامه أو يعتقد ذلك: مثاله: أن يجتهد اثنان في جهة القبلة فاعتقد كل منهما أن القبلة في جهة غير التي اعتقدها الآخر، فلا يجوز أن يقتدي أحدهما بالآخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 لأن كلاًّ منهما يعتقد أن الآخر مخطئ في اتجاهه وأن صلاته إلى تلك الجهة غير صحيحة. 2 - أن لا يكون أميّاً، والمقتدي قارئ: والمقصود بالأمي هنا من لا يتقن قراءة الفاتحة بحيث يخل بقراءتها إخلالاً يفوّت حرفاً أو شدة أو نحو ذلك. فإن كان المقتدي مثله جاز اقتداء كل منهما بالآخر. 3 - أن لا يكون امرأة، والمقتدي رجل: فإن كان المقتدي أيضاً امرأة جاز اقتداء كلٍّ منهما بالآخر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تَؤُمَّنَّ امرأة رجلاً" (رواه ابن ماجه). من الصفات التي يستحب أن يتحلى بها الإمام: يجدر أن يكون إمام القوم أَفقهم، وأَقرأهم، وأصلحهم، وأَسَنََّهُم. ومهما تحققت هذه الصفات في الإِمام كانت الصلاة خلفه أفضل وكان الثواب بذلك أرجى. روى مسلم (613) عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواءً فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقدمهم سناً". واعلم أنه لا يجوز اقتداء المتوضئ بالمتيمم وبماسح الخف، والقائم بالقاعد، والبالغ بالصبي، والحر بالعبد، والصحيح بالمسلس، والمؤدي بالقاضي، والمفترض بالمتنفل وبالعكس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 كيفية الاقتداء: لا يتحقق الاقتداء المشروع إلا بشروط وكيفيات ينبغي مراعاتها، وهي كثيرة نلخصها فيما يلي: 1 - أن لا يتقدم المأموم على الإمام في المكان: فإن تقدَّم عليه بطل اقتداؤه، لقوله عليه الصلاة والسلام: " إنما جعل الإمام ليؤتم به" (رواه البخاري: 657؛ ومسلم: 411). والائتمام الاتباع، وهو لا يكون إلا حيث يكون التابع متأخراً، لكن لا تضر مساواته له في الموقف وإن كان ذلك مع الكراهة، وإنما يندب تخلفه عنه قليلاً، فإذا تقدم عليه بطلت صلاته، والاعتبار في التقدم والتأخر بالعقب، وهو مؤخر القدم. فإن كان المقتدي اثنين فأكثر، اصطفوا خلف الإمام وإن كان واحداً وقف عن يمينه، فإذا جاء ثانٍ وقف عن يساره، ثم رجعا أو تقدم الإمام. روى مسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقمت عن يمينه، ثم جاء جابر بن صخر فقام عن يساره، فأخذ بأيدينا جميعاً حتى أقامنا خلفه. ويسن أن لا يزيد ما بين الإمام والمأموم على ثلاثة (1)، وهكذا بين كل صفِّين. وإذا صلى خلف الإِمام رجال ونساء صفَّ الرجال أولاً ثم النساء بعدهم، وإذا صلى رجل وامرأة صف الرجل عن يمين الإِمام، والمرأة خلف الرجل. أما جماعة النساء، فتقف إمامتهن وسطهم لثبوت ذلك عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما. (رواه البيهقي بإسناد صحيح).   (1) بذراع الرجل المعتاد، ويساوي 50 سم تقريباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ويكره وقوف المأموم منفرداً في صف وحده، بل يدخل الصف إن وجد سعة، وإن لم يجد سعة، فإنه يندب أن يجر شخصاً واحداً من الصف إليه بعد الإحرام (1)، ويندب للمجرور أن يساعده ويرجع إليه لينال فضيلة المعاونة على البر. 2ـ أن يتابعه في انتقالاته وسائر أركان الصلاة الفعلية: وذلك بأن يتأخر ابتداء فعل المأموم عن فعل الإمام، ويتقدم على فراعه. فإن تأخر المأموم عن الإمام قدر ركن كره ذلك، وإن تأخر عنه قدر ركنين طويلين: كأن ركع واعتدل ثم سجد ورفع ولا يزال المأموم واقفاً من دون عذر، بطلت صلاته. وأما إذا كان لتأخره عذر بأن كان بطيئاً في القراءة، فله أن يتخلف عن الإمام بثلاثة أركان، فإن لم تكلف لمتابعته فيما بعد وجب عليه أن يقطع ما هو فيه ويتابع الإمام، ثم يتدارك الباقي بعد سلام إمامه. 3ـ العلم بانتقالات الإمام: وذلك بأن يراه، أو يرى بعض صف، أو يسمع مبلغاً. 4ـ أن لا يكون بين الإمام والمأموم فاصل مكاني كبير: إذا لم يكونا في المسجد، أما إذا جمعهما مسجد، فإن الاقتداء صحيح مهما بعدت المسافة بينهما، أو حالت أبنية نافذة. أما إذا كانا في خارج المسجد أو كان الإمام في المسجد والمقتدي خارجه، فيشترط عندئذ أن لا تبتعد المسافة بين الإمام والمقتدي.   (1) هذا إن رأي أنه يوافقه، وإلا فلا يجره بل يمتنع لخوف الفتنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وضبط ذلك ما يلي: أولاً: إذا كان الإمام والمقتدي في فضاء، كبيداء ونحوها، اشترط أن لا تزيد المسافة بينهما على ثلاثمائة ذراع هاشمي أي (150) متر تقريباً. ثانياً: أن يكون كل منهما في بناء، مثل بيتين أو صحن وبيت، وجب ـ علاوة على الشرط المذكورـ اتصال صف من أحد البناءين بالآخر، إن كان بناء الإمام منحرفاً يميناً أو يساراً عن موقف المأموم أو المقتدي. ثالثاً: أن يكون الإمام في المسجد وبعض المقتدين في خارج المسجد، فالشرط هو أن لا تزيد مسافة البعد ما بين طرف المسجد وأول مقتد يقف خارجه على ثلاثمائة ذراع هاشمي. 5ـ أن ينوي المقتدي الجماعة أو الاقتداء: ويشترط أن تكون النية مع تكبيرة الإحرام. فلو ترك نية الاقتداء وتابعه مع ذلك في الانتقالات والأفعال، بطلت صلاته إن اقتضت متابعته أن ينتظره انتظاراً كثيراً عرفاً، أما إن وقعت المتابعة اتفاقاً بدون قصد أو كان انتظار للإمام انتظاراً يسيراً فلا تبطل صلاته بذلك. أما الإمام فلا يجب عليه أن ينوي الإمامة، بل يستحب له ذلك، لتحصل له فضيلة الجماعة، فإن لم ينو لم تحصل له، إذ ليس للمرء من عمله إلا ما نوى. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى". [رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907]. ويحصل المأموم على فضيلة الجماعة ما لم يسلم الإمام، إدراك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 تكبيرة الإحرام مع الإمام فضيلة وتحصل بالاشتغال بالتحريم عقب تحريم الإمام. ويدرك المأموم مع الإمام الركعة إذا أدركه في ركوعها، وإذا أدركه بعد الركوع فاتته الركعة، وكان عليه أن يتداركها أو يتدارك ما فاته، إن كان أكثر من ركعة بعد سلام الإمام. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 صلاة المسافر القصر والجمع: مقدمة: يقول الله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]. أي إنه سبحانه وتعالى لم يشرع من أحكام الذين ما يوقعكم في الجهد والعنت، ويجعلكم في حيرة من أمركم. فحيثما يقع المسلم في ضيق يوسع الله له في أمر دينه، كي تظل أحكامه مقبولة متحملة. والسفر قطعة من العذاب، يفقد فيه الإنسان استقراره وأسباب اجله، من أجل ذلك خفف الله تعالى عن المسافر كثيراً من أحكام دينه، وكيفية الاستفادة منه. كيفية تكون صلاة المسافر: رَخّص الله للمسافر في صلاته رخصتين: أولاهما: اختصار في كمية الركعات، ويسمى " قصراً ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الثانية: ضم صلاتين إلى بعضهما في الأداء، ليكتسب المسافر أوسع وقت ممكن من الفراغ، ويسمى "الجمع بين الصلاتين". أولاًـ القصر: هو أن تؤدى الصلاة الرباعية، كالظهر والعصر والعشاء، ركعتين بدلاً من أربع، كما سنرى فيما يأتي من أدلة. والأصل في مشروعية القصر قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء: 101]. [ضربتم: سافرتم]. روى مسلم (686) وغيره، عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: {ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يقتنكم الذين كفروا} فقد أَمِنَ الناس؟ فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته". وهذا يدل على أن قصر الصلاة ليس خاصاً بحالة الخوف. ولا بد لصحة القصر من مراعاة الشروط التالية: 1ـ أن تتعلق بذمته في السفر، ويؤديها أيضاً في السفر: فخرج بهذا الشرط الصلاة التي دخل وقتها قبل أن يسافر، ثم سافر قبل أن يصليها، فلا يجوز أن يصليها قصراً، لأنه لم يكن مسافراً حين وجبت عليه وتعلقت بذمته. وخرج أيضاً الصلاة التي دخل وقتها وهو مسافر، ولكنه لم يصلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 حتى رجع إلى بلده، فلا يجوز أن يصليها أيضاً قصراً، لأنه حين أدائها ليس بمسافر، والقصر للمسافر. 2ـ أن يتجاوز سور البلد التي يسافر منها، أو يتجاوز عمرانها إن لم يكن لها سور: لأن من كان داخل سور البلد أو عمرانها ليس بمسافر. أي فالسفر إنما يبدأ من لحظة هذا التجاوز، كما أنه ينتهي بالوصول رجوعاً إلى تلك المنطقة. وإذا فهو لا يقصر من الصلاة إلا ما تعلق بذمته وفعله وضمن هذه الفترة. روى البخاري (1039)، ومسلم (690)، عن أنس - رضي الله عنه - قال: صليت الظهر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أربعاً، والعصر بذي الحليف ركعتين. وذو الحليفة خارج عمران المدينة. 3ـ أن لا ينوي المسافر إقامة أربعة أيام غير يومي الدخول والرجوع، في المكان الذي يسافر إليه: فإذا نوى ذلك، أصبحت البلدة التي يسافر إليها في حكم موطنه ومحل إقامته، فلم يعد يجوز له القصر فيها، ويبقى له حق القصر في الطريق فقط. أما إذا كان ناوياً أن يقيم أقل من أربعة أيام، أو كان لا يعلم مدة بقائه فيها، لعمل يعالجه ولا يدري متى يتمه: وقصر في الحالة الثانية إلى ثمانية عشر يوماً غير يومي دخول وخروجه. روى أبو داود (1229)، عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 قال: "غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشر ليلة، لا يصلي إلاّ ركعتين". لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام هذه المدة بمكة عام الفتح لحرب هوازن يقتصر الصلاة، ولم يكن يعلم المدة التي سيضطر لبقائها. 4ـ أن لا يقتدي بمقيم: فإن اقتدى به وجب عليه أن يتابعه في الإتمام، ولم يجز له القصر. أما العكس فلا مانع من القصر فيه، وهو أن يؤم المسافر مقيمين، فله أن يقصر. ويسن له إذا سلم على رأس ركعتين أن يبادر المقتدين فيقول لهم: أتموا صلاتكم فإني مسافر. دليل ذلك ما رواه أحمد بسند صحيح عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه سئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد، وأربعاً إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك هي السنة. وجاء في حديث عمران - رضي الله عنه - السابق، ويقول: "يا أهل البلد صلوا أربعاً، فإنَّانَا قومٌ سَفَر". ثانياً ـ الجمع: وقد عرفت معناه قبل قليل. روى البخاري (1056)، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء. [على ظهر سير: أي مسافراً]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وروى مسلم (705) عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصلاة في سفرة سافرناها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: قلت لابن عباس - رضي الله عنه -: ما حمله على ذلك؟ قال أراد أن لا يُحْرِج أُمَّتَه. و ينقسم جمع الصلاة إلى قسمين: جمع تقديم، بأن يقدم المتأخر إلى وقت الأولى، وجمع تأخير، بأن يؤخر المتقدمة إلى وقت الثانية. روى أبو داود (1208)؛ والترمذي (553) وغيرهما، عن معاذ - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة تبوك، إذا ارتحل قبل أن ترتفع الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصليهما جميعاً. وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم سار. وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء، فصلاها مع المغرب. الصلوات التي يجمع بينها: علم مما سبق أن الصلوات التي يصلح أن يجمع بينها: هي الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء. فلا يصح أن يجمع الصبح مع ما قبله أو بعده، كما لا يجمع بين العصر والمغرب. هذا وإن لكل من جمع التقديم والتأخير شروطاً ينبغي مراعاتها. فلنذكر شروط كل منهما. شروط جمع التقديم: أولاً: الترتيب منهما: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 بأن يبدأ الصلاة الأولى صاحبة الوقت، ثم يتبعها بالأخرى. ثانياً: أن ينوي جمع الثانية مع الأولى قبل فراغه من الصلاة الأولى، ولكن يسن أن تكون النية مع تكبيرة الإحرام بها. ثالثاً: الموالاة بينهما، بأن يبادر إلى الثانية فور فراغه من الأولى وتسليمه منها، لا يفرق بينهما بشيء من ذكر أو سنة أو غير ذلك؛ فإن فرق بينهما بشيء طويل عرفاً، أو أخر الثانية بدون أن يشغل نفسه بشيء بطل الجمع، ووجب تأخيرها إلى وقتها. اتباعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - في كل ذلك. روى البخاري (1040)، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أعجله السير يؤخر المغرب فيصليهما ثلاثاً، ثم يسلم، ثم قلما يلبث حتى يقيم العشاء، فيصليهما ركعتين، ثم يسلم. رابعاً: أن يدوم سفره إلى تلبسه إلى تلبسه بالثانية، أي فلا يضر أن يصل إلى بلده أثناءها. شروط جمع التأخير: أولاً: أن ينوي جمع الأولى تأخيراً خلال وقتها الأصلي، فلو خرج وقت الظهر وهو لم ينو جمعها مع العصر تأخيراً، أصبحت متعلقة بذمته على وجه القضاء، وأثم في التأخير. ثانياً: أن يدوم سفره إلى أن يفرغ من الصلاتين معاً، فلو أقام قبل الفراغ النهائي منهما أصبحت المؤخرة قضاء. ولا يرد هنا شرط الترتيب بينهما، بل يبدأ بما شاء منهما، كما أن الموالاة بينهما ـ هنا ـ سنة وليست شرطاً لصحة الجمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 شروط السفر الذي يباح فيه القصر والجمع: الشرط الأول: أن يكون السفر طويلاً تبلغ مسافته 81 كم فصاعداً، فلا يعتد بالسفر الذي يكون دون ذلك. روى البخاري تعليقاً في (تقصير الصلاة، باب: في كم تقصر الصلاة): وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما يقصران ويفطران في أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخاً، وتساوي 81 كم تقريباً. ومثلهما يفعلان توفيقاً، أي بعلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الشرط الثاني: أن يكون السفر إلى جهة معينة مقصورة بذاتها، فلا يعتد بسفر رجل هائم على وجهه ليست له وجهة معينة، ولا بسفر من يتبع قائده مثلاً وهو لا يدري أين يذهب به. وهذا قبل بلوغه مسافة السفر الطويل، فإن قطعها قصر، لتيقن طول السفر. الشرط الثالث: أن لا يكون الغرض من السفر الوصول إلى أي معصية، فإن كان كذلك لم يعتد بذلك السفر أيضاً، كمن يسافر ليتاجر بخمر أو ليُرَابي أو ليقطع طريقاً، لأن القصر رخصة، والرخصة إنما شرعت للأمانة، ولذلك لا تناط بالمعاصي، أي لا تتعلق بما فيه معصية. * الجمع بين الصلاتين في المطر: يجوز الجمع بين صلاتين تقديماً في المطر. روى البخاري (518)، ومسلم (705)، عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالمدينة سبعاً وثمانياً: الظهر والعصر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 والمغرب والعشاء. زاد مسلم: من غير خوف ولا سفر. وعند البخاري: فقال أيوب ـ أحد رواة الحديث ـ: لعله في ليلة مطيرة؟ قال: عَسَى. وعند مسلم: قال ابن عباس رضي الله عنهما: أراد أن لا يُحْرِج أحداً من أمته. ولا يجوز جمعهما في وقت الثانية، لأنه ربما انقطع المطر، فيكون أخرج الصلاة عن وقتها بغير عذر. ويشترط لهذا الجمع الشروط التالية: 1ـ أن تكون الصلاة جماعة بمسجد بعيد عرفاً، يتأذى المسلم بالمطر في طريقه إليه 2ـ استدامة المطر أول الصلاتين، وعند السلام من الأولى. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 صَلاَة الخَوف معناها والأصل في مشروعيتها: الخوف ضد الأمن، والمقصود ب صلاة الخوف : الصلاة التي تؤدي في ظروف القتال مع العدو، إذ تختص برخص وتسهيلات ـ لا سيما بالنسبة للجماعة ـ لا توجد الصلوات الأخرى. والأصل في مشروعيتها: آيات وأحاديث تأتي في بيان حالاتها وكيفيتها. حالاتها: لصلاة الخوف حالتان حسب حالة القتال: الحالة الأولى: حالة المرابطة والحراسة وعدم التحام القتال: وفي هذه الحالة تأخذ الصلاة شكلاً معيناً، ويختلف بعض الشيء عن الصلاة في صورتها العامة، بسبب حرص المسلمين على أدائها جماعة، خلف إمامهم الأعظم أو قائدهم الأعلى، أو من ينوب منابه في إدارة القتال. وقد دلّ على مشروعيتها في هذه الحالة قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا معك فليصلوا معك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهيناً} [النساء: 102]. (فإذا سجدوا: أي أتم الذين معك صلاتهم، فليذهبوا وليحرسوكم. فيميلون: فيحملون. جناح حرج وإثم). ولهذه الصورة التي ذكرتها الآية لصلاة الخوف كيفيتان ـ بينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفعله ـ تختلفان بحسب اختلاف موقع العدو من المسلمين، وكونه في جهة القبلة أم في غير جهتها. الكيفية الأولى: وهي عندما يكون العدو رابضاً في جهة القبلة والقتال غير ملتحم: فإذا أراد الجنود أن يصلوا جماعة، ولم يرغبوا أن يجزئوا صلاتهم إلى عدة جماعات، تحقيقاً لفضيلة الجماعة الواحدة الكبرى، فليرتبهم إمامهم صفين أو أربعاً أو أكثر، ويصلي بهم، فإذا سجد فليسجد معه الصف الذي يليه فقط إن كان المصلون صفين، أو الصفان اللذان يليانه إن كانوا أربعة صفوف، وهكذا، وليقف الباقون يحرسون إخوانهم من إمامهم في قيام الركعة الثانية، فإذا سجد الإمام لركعة الثانية تبعه من تخلف في الأولى، وتخلف المتبعون له إذ ذاك، ثم يتلاحق الجميع في جلوس التشهد ويسلمون جميعاً. وهذه الكيفية هي التي صلى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة من غزواته، وهي عزوة عسفان، فكانت سنة في كل حالة تشبهها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 روى البخاري (902) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقام الناس معه، فكبر وكبّروا معه، وركع ناسٌ منهم، ثم سجد وسجدوا منه، ثم قام للثانية فقام الذين سجدوا وحرسوا لإخوانهم، وأتت الطائفة الأخرى، فركعوا وسجدوا معه والناس كلهم في صلاة، ولكن يحرس بعضهم بعضاً. الكيفية الثانية: وهي عندما يكون العدو منتشراً في غير جهة القبلة والقتال غير ملتحم، والكيفية المندوبة للصلاة في هذه الحالة هي: 1ـ ينقسم المصلون إلى فرقتين، تقف واحدة في وجه العدو ترقبه وتحرس المسلمين، وتذهب الأخرى لتؤدي الصلاة جماعة مع الإمام. 2ـ يصلي الإمام بهذه الفرقة الثانية ركعة، فإذا قام للثانية فارقته وأتمت الركعة الثانية بانفراد، وذهبوا إلى حيث ترابط الفرقة الأولى. 3ـ تأتي الفرقة الأولى فتقتدي بالإمام ـ وينبغي أن يطيل قيامه في الركعة الثانية ريثما تلحق به هذه الفرقة ـ فيصلي بها الإمام الركعة الثانية التي هي الأولى في حقهم، فإذا جلس للتشهد قاموا فأتموا الركعة الثانية، ثم لحقوا به وهو لا يزال في التشهد، فيسلم بهم. وهذه الكيفية في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ذات الرقاع. روى البخاري (3900)، مسلم (842)، وغيرهما، عن صالح بن خوَّات عمن شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صفت معه، وطائفة وُجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ثبت قائماً، وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا، فصفوا وجاء العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالساً، وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم. وأنت ترى أن في أداء الصلاة على هاتين الكيفيتين ـ والمسلمون في مواجهة العدو ـ صورة من صور المحافظة على الصلاة بجماعة، والمحافظة على حراسة المسلمين، والتنبه للعدو والصحو إلى مكايدهم. ومزيتها الكبرى التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واكتساب أجر أداء الجميع صلاتهم في جماعة واحدة، مع الخليفة أو الإمام الأكبر، أو القائد في ميادين القتال. الحالة الثانية: وهي عندما يلتحم القتال مع العدو وتتداخل الصفوف ويشتد الخوف. ولا توجد كيفية محددة للصلاة في هذه الحالة، بل يصلي كل منهم على النحو الذي يستطيع، راجلاً أو راكباً، ماشياً أو واقفاً، مستقبلاً القبلة أو منحرفاً عنها، ويركع ويسجد بإيماء، أي بتحريك رأسه مشيراً إلى الركوع والسجود، ويجعل إيماء السجود أبلغ من إيماءة الركوع. وإن أمكن اقتداء بعضهم ببعض وصلاتهم جماعة فهو أفضل، وإن اختلفت جهاتهم، أو تقدم المأموم على الإمام. قال تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون} [البقرة: 238]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 [الوسطى: صلاة العصر. قانتين: خاشعين. كما علمكم: أي أعمال الصلاة]. روى البخاري (4261)، عن ابن عمر رضي الله عنهما، في وصفه صلاة الخوف وبعد ذكره الكيفيتين السابقتين، قال: وبعد فإن كان وصفه خوف هو أشد من ذلك، صلوا رجالاً قياماً على أقدامهم، أو ركباناً، مستقبلي القبلة، أو غير مستقبليها. قال مالك: قال نافع: لا أرى عبدالله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعند مسلم (839): فصلً راكباً أو قائما، تومئ إيماء. وبعذر في هذه الحالة في كل ما يقع منه من حركات تستدعيها ظروف القتال، إلا أنه لا يعذر في الكلام والصياح، إذ لا ضرورة تستدعي ذلك، وإذا أصابته نجاسة لا يعفا عنها كدم ونحوه، صحت صلاته ووجب عليه القضاء فيما بعد: واعلم أن هذه الصلاة يرخص فيها بهذا الشكر عند كل قتال مشروع، وفي كل حالة يكون فيها المكلف في خوف شديد، كما إذا كان فاراً من عدو، أو حيوان مفترس، ونحو ذلك. والمنظور إليه في مشروعية هذه الكيفية هو الحفاظ على أداء الصلاة في وقتها المحدد لها، امتثالاً لأمر الشارع حيث يقول: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} [النساء 103]. حكمة مشروعية صلاة الخوف: والحكمة من مشروعية هذه الكيفيات في الصلاة التيسر على المكلف، كي يتمكن من أداء هذه الفريضة، وهو أحوج ما يكون إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الصلة بالله عز وجل، يستمد منه العون والنصرة، وهو يقارع الكفرة في ميادين القتال، فيطمئن قلبه بذكر ربه جل وعلا، وتزداد ثقته بنصره وتأييده، وثبت قدمه في أرض المعركة، حتى يندحر الباطل ويكتب لأهل الحق الفوز والفلاح، وصدق الله العظيم إذ يقول: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فأثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون} [الأنفال: 45]. ومن الجدير بالذكر أن صلاة الخوف، بكيفياتها السابقة تمكن الجندي المسلم من أقامة الصلاة دون حرج، مهما اختلفت أساليب القتال وتنوعت وسائل الحرب، على اختلاف الزمان والمكان، ولا سيما المتقاتلة، كما هو الحال في كثير من المواقف القتالية الحديثة. الصلاة لا تسقط بأي حال: يتبين مما سبق أن الصلاة لا تسقط بحال من الأحوال مهما اشتد العذر، ما دام التكليف قائماً، والحياة مستمرة. ولكن الله عز وجل رخص في تأخيرها كالجمع بين الصلاتين أو قصرها كصلاة المسافر، أو التسهيل في كيفية أدائها كصلاة الخوف وصلاة المريض، وذلك حسب الأسباب والظروف. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 صَلاَة الجمُعَة " مشروعيتها: صلاة الجمعة مشروعة، وهي من الفضائل التي اختص الله تعالى بها هذه الأمة التي هديت للفوز بمكرمات هذه اليوم. روى البخاري (836)، ومسلم (855)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلقوا فيه، فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع: اليهود غداً والنصارى بعد غد". [الآخرون: وجوداً في الدنيا. السابقون: في الفصل والأجر ودخول الجنة. بيد: غير. الكتاب: الشريعة السماوية. هذا يوم الجمعة. فرض عليهم: أن يتقربوا إلى الله تعالى فيه]. وقد فرضت بمكة قبيل الهجرة، إلا أنها لم تقم في مكة لضعف أسعد بن زرارة - رضي الله عنه -. روى ذلك أبو داود (1069) وغيره، من كعب بن مالك - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 " دليل مشروعيها دلّ على مشروعيتها الجمعة ووجوبها قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي إلى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ودروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} [الجمعة: 9]. وأحاديث كثيرة منها: ما رواه أبو داود (1067)، عن طارق بن شهاب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمعة حق واجب على كل مسلم ... " وما رواه مسلم (865) وغيره، عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما، أنهما سمعا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول على أعواد منبره: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين". [ودعهم: تركهم]. " الحكمة من مشروعيتها: لمشروعية صلاة الجمعة حكم وفوائد كثيرة، لا مجال لاستقصائها في هذا المكان، ومن أهمها تلاقي المسلمين على مستوى جميع أهل البلدة، في مكان واحد ـ هو المسجد الجامع ـ مرة كل أسبوع، يلتقون على نصيحة تجمع شمالهم وتزيدهم وحدة وتضامناً، كما تزيدهم ألفة وتعارفاً وتعاوناً، وتجعلهم واعين متنبهين للأحداث التي تجد من حولهم كل أسبوع، وتشدهم إلى إمامهم الأعظم الذي ينبغي أن يكون هو الخطيب فيهم، والواعظ لهم. فهي إذاً مؤتمر أسبوعي يتلاقى فيه المسلمون صفاً واحداً، وراء قائدهم الذي هو إمامهم وخطيبهم فيه. ولذلك أكثر الشارع من الحث على حضورها، والتحذير من تركها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 والتهاون في شانها، وقد مر بك شيء من هذا، وسيأتي بعض منها فيما يلي من كلام، وحسبنا في هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه". شرائط وجوبها: تجب صلاة الجمعة على من وجدت فيه الشروط السبعة التالية: الأول ـ الإسلام: فلا تجب وجوب مطالبة في الدنيا على الكافر، إذ هو مطالب فيها بأساس العبادات والطاعات كلها ألا وهو الإسلام، أما في الآخرة فهو مطالب بها بمعنى أنه يعاقب عليها. الثاني ـ البلوغ: فلا تجب على الصبي لأنه غير مكلف. الثالث ـ العقل: إذ المجنون غير مكلف أيضاً. الرابع ـ الحرية الكاملة: فلا تجب صلاة الجمعة على الرقيق، لأنه مشغول بحق سيده، فكان مانعاً عن وجوبها في حقه. الخامس ـ الذكورة: فلا تجب على النساء، لانشغالهن في الأولاد وشؤون البيت، وحصول المشقة لهن بوجوب الحضور في وقت مخصوص ومكان معين. السادس ـ الصحة الجسمية: فلا تجب على المريض الذي يتألم بحضور المسجد أو بانحباسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 فيه إلى انقضاء الصلاة، أو الذي يزداد مرضه شدة بحضوره، أو يزداد طولاً بأن يتأخر برؤه، ويلحق بالمريض الشخص الذي مرضه ويخدمه، ولا يوجد من يقوم مقامه خلال ذهابه إلى الصلاة، مع حاجة المرض إليه، سواء كان الممرض قريباً أم لا، فلا تجب عليه صلاة الجمعة. السابع ـ الإقامة بمحل الجمعة: فلا تجب على مسافر سفراً مباحاً ولو قصيراً، إذا كان قد بدأ سفره قبل فجر يوم الجمعة، وكان لا يسمع في المكان الذي هو فيه صوب الأذان من بلدته التي سافر منها. وكذلك المستوطن في محل لا تصح فيه الجمعة، كقرية ليس فيها أربعون مستوطنون خالون من الأعذار، إذا لم يسمع صوت الأذان من الطرف الذي يلي القرية من بلد الجمعة إلى الطرف الذي يقابله من القرية. ودلّ على هذه الشروط قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض" [رواه أبو داود: 1067]. وخبر الدارقطني (2/ 3) وغيره، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فعليه الجمعة إلا امرأة ومسافر وعبداً ومريضاً". ولحديث أبي داود (1056): " الجمعة على كل من سمع النداء". أي الأذان. شرائط صحتها: فإذا توفرت هذه الشروط السبعة، وجبت صلاة الجمعة، إلا أنها لا تصح إلا بشروط أربعة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الشرط الأول: أن تقام في خطة أبنية، سواء كانت هذه الخطة ضمن أبنية بلدة، أو قرية يستوطنها ما لا يقل عن أربعين رجلاً ممن نجب عليهم صلاة الجمعة. والمقصود بالبلدة: ما اجتمع فيه قاضٍ وحاكم، وكان فيه أسواق للبيع والشراء. والمقصود بالقرية: ما لم يوجد فيه ذلك. فلا تصح صلاة الجمعة في الصحراء وبين الخيام، ولا في قرية لا يوجد فيها أربعون رجلاً تجب في حقهم صلاة الجمعة. فإن سمعوا الأذان من البلدة المجاورة لهم، وجب عليهم الخروج إليها لصلاة الجمعة، وإلا سقطت عنهم، كما ذكرنا ذلك عند الحدوث في شروط وجوب صلاة الجمعة. ودليل هذا الشرط: أنها لم تقم في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -. الشرط الثاني: أن لا يقل العدد الذي تقام به صلاة الجمعة عن أربعين رجلاً من أهل الجمعة، أي ممن تنعقد بهم، وهم الذكور البالغون المستوطنون. لما رواه البيهقي (1/ 177)، عن جابر عم عبدالله - رضي الله عنه - قال: مضت السنة أن في كل أربعين فما فوق ذلك جمعة. وجاء في حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه -، وكانوا يومئذ أربعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الشرط الثالث: أن تقام في وقت الظهر، فلو ضاق وقت الظهر عنها، بأن لم يبق الجمعة، فخرج وقت الظهر وهم فيها، قلوبها ظهراً وأتموها أربع ركعات. دل على هذا فعله - صلى الله عليه وسلم - لها في هذا الوقت. روى البخاري (862)، عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس. أي إلى الغرب وهو الزوال. وروى البخاري (3935)؛ ومسلم (860)، علن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل فيه. وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: ما كنا نقبل ولا نتغذى إلا بعد الجمعة. (رواه البخاري: 897؛ ومسلم: 859). [نقبل: من القيلولة وهي النوم عند الظهيرة للاستراحة. نتغدى: نتناول طعام الغداء]. فالأحاديث تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان يصليها إلا في وقت الظهر، بل وفي أول الوقت. الشرط الرابع: أن لا تعدد الجمعة في بلد واحد طالما كان ذلك ممكناً، بل يجب أن يجتمع أهل البلدة الواحدة في مكان واحد، فإن كثر الناس، وضاق المكان الواحد عن استيعابهم جاز التعدد بقدر الحاجة فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 فلو تعددت الجمعات في البلدة الواحدة بدون حاجة، لم يصح منها إلا أسبقها، والعبرة بالسبق البداءة لا الانتهاء، فالجمعة التي بدأ إمامها بالصلاة قبلاً، هي الجمعة الصحيحة، ويعتبر أصحاب الجمعات الأخرى مقصرين إذا انفردوا بجمعات متعددة، ولم يلتقوا جميعاً في أول جمعة بدأت في البلدة، فتكون جمعاتهم لذلك باطلة ويصلون في مكانها ظهراً. فإن لم تعلم الجمعة السابقة فالكل باطل، ويستأنفون جمعة جديدة في مكان واحد إن أمكن ذلك واتسع الوقت، وإلا صلى الجميع ظهراً، جبراً للخلل، بل تداركاً للبطلان. ودليل هذا الشرط: إن الجمعة لم تقم في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين وعصر التابعين، إلا في موضع واحد من البلدة، فقد كان في البلدة مسجد كبير يسمى المسجد الجامع، أي الذي تصلى فيه الجمعة، أما المساجد الأخرى فقد كانت مصليات للأوقات الخمسة الأخرى. روى البخاري (860)؛ ومسلم (847)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي ... [ينتابون: يأتون مرة بعد مرة. العوالي: مواضع شرق المدينة. أقربها على بعد أربعة أميال أو ثلاثة من المدينة]. وروى البخاري (852)، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد عبدالقيس، بجواثي من البحرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 والحكمة من هذا الشرط: أن الانتصار على مكان واحد أفضى إلى المقصود، وهو إظهار شعار الاجتماع وتوحيد الكلمة، بل التناثر في أماكن متفرقة بدون حاجة ربما هيأ أسباب الفرقة والشقاق. فرائض الجمعة: تتكون شعيرة الجمعة من فرضين، هما أساس هذه الركن الإسلامي العظيم. الفريضة الأولى - خطبتان، أولهما شروط هي: 1 - أن يقوم الخطيب فيهما إن استطاع، ويفصل بينهما بجلوس: وذلك لما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب خطبتين يجلس بينهما، وكان يخطب قائماً. وروى البخاري (878) ومسلم (861) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائماً ثم يقعد، ثم يقوم كما تفعلون الآن. 2 - أن لا تؤخر عن الصلاة: وذلك للاتباع المعلوم من مجموع الأحاديث الواردة في الجمعة، ولإجماع المسلمين على ذلك. 3 - أن يكون الخطيب طاهراً من الحدثين الأصغر والأكبر، ومن نجاسة غير معفو عنها في ثوبه وبدنه ومكانه، وأن يكون ساتر العورة: إذ الخطبة كالصلاة، ولذلك كانت الخطبتان عوضاً عن ركعتين من فريضة الظهر، فاشترط لها ما يشترط للصلاة من الطهارة ونحوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 4 - أن تتلى أركان الخطبة باللغة العربية: على الخطيب أن يخطب باللغة العربية وإن لم يفهمها الحاضرون فإن لم يكن ثمة من يعلم العربية، ومضى زمن أمكن خلاله تعلمها أثموا جميعاً، ولا جمعة لهم، بل يصلونها ظهراً. أما إذا لم تمض مدة يمكن تعلم العربية خلالها، ترجم أركان الخطبة باللغة التي يشاء، وصحت بذلك الجمعة. 5 - الموالاة بين أركان الخطبة، وبين الخطبتين الأولى والثانية، وبين الثانية والصلاة: فلو وقع فاصل طويل في العرف بين الخطبة الأولى والثانية، أو بين مجموع الخطبتين والصلاة، لم تصح الخطبة، فإن أمكن تداركها وجب ذلك، وإلا انقلبت الجمعة ظهراً. 6 - أن يسمع أركان الخطبتين أربعون من تنعقد بهم الجمعة. * ثم إن للخطبتين أركاناً هي: 1 - حمد الله تعالى، بأي صيغة كان. 2 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بأي صيغة من الصلوات. بشرط أن يذكر اسمه الصريح: كالنبي أو الرسول أو محمد، فلا يكفي ذكر الضمير بدلاً من الاسم الصريح. 3 - الوصية بالتقوى، بأي الألفاظ والأساليب كانت: فهذه الأركان الثلاثة أركان لكلا الخطبتين، لا يصح كل منهما إلا بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 4 - قراءة آية من القرآن في إحدى الخطبتين: ويشترط أن تكون الآية مفهمة وواضحة المعنى، فلا يكفي قراءة آية من الحروف المنقطة أوائل السور. 5 - الدعاء للمؤمنين في الخطبة الثانية، بما يقع عليه اسم الدعاء عرفاً. الفريضة الثانية - صلاة ركعتين في جماعة: روى النسائي (3/ 111)، عن عمر - رضي الله عنه - قال: صلاة الجمعة ركعتان .. على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -. وجاء حديث أبي داود السابق: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة .. " وعلى ذلك انعقد الإجماع. وإنما يشترط إدراك الجماعة بركعة واحدة منها، فإن أدركها صحت وإلا وجب تحويلها ظهراً. ويجب أن لا يقل المقتدون عن أربعين ممن تنعقد بهم صلاة الجمعة. وعلى ذلك، لو جاء مسبوق فاقتدى بالإمام في الركعة الثانية، أدركه بعد القيام من ركوع الركعة الثانية، لم تقع صلاة جمعة، وإنما يتم بعد سلام إمامه ظهراً. وعلى ذلك أيضاً، لو اقتدى المصلون الإمام في الجمعة، وأتموا معه ركعة، ثم طرأ سبب اقتضى مفارقة المصلين أو بعضهم للإمام، وإتمام كل منهم صلاته لنفسه مفرداً، فإن جمعتهم صحيحة. أما لو طرأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 هذا السبب قبل انتهاء الركعة الأولى، فإن صلاتهم لا تصح جمعة، وتنقلب في حقهم ظهراً. ودليل ما سبق ما رواه النسائي وابن ماجه والدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك ركعة من صلاة الجمعة وغيرها، فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته". آداب الجمعة وهيئاتها: ليوم الجمعة وصلاتها آداب مسنونة، ينبغي الاهتمام بها والدأب عليها، وهي: 1 - الغسل: لخبر: "إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل". (رواه البخاري: 387؛ ومسلم: 844). وإنما صرف الأمر هنا عن الوجوب إلى الاستحباب للحديث الذي رواه الترمذي: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن أغتسل فالغسل أفضل". [فبها ونعمت: أي فبالسنة عمل، ونعمت السنة]. 2 - تنظيف الجسد من الأوساخ والروائح الكريهة والأدهان والتطيب: ولذلك لئلا يتأذى به أحد من الناس، بل ليألفوه ويسروا باللقاء به. وقد علمت أن من رخص ترك صلاة الجمعة أن يكون قد أكل ذا ريح كريه يتأذى به الناس. روى البخاري (843)، عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى". 3 - لبس أحسن الثياب: روى أحمد (3/ 81)، وغيره، عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اغتسل يوم الجمعة، ثم لبس أحسن ثيابه، ومس طيباً إن كان عنده، ثم مشى إلى الجمعة وعليه السكينة، ولم يتخط أحداً ولم يؤذه، ثم ركع ما قضي له، ثم انتظر حتى ينصرف الإمام، غفر له ما بين الجمعتين"؟ والأفضل أن تكون الثياب بيضاً، لما رواه الترمذي (994) وغيره، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم". 4 - أخذ الظفر وتهذيب الشعر: لخبر البزار في مسنده: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقلم أظافره ويقص شاربه يوم الجمعة. 5 - التبكير إلى المسجد: روى البخاري (841) ومسلم (850)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 [غسل الجنابة: أي كغسل الجنابة من حيث الهيئة. راح: ذهب]. قرب: تصدق بها تقرباً إلى الله تعالى. بدنة: هي واحدة الإبل تهدي إلى بيت الله الحرام. أقرن: له قرنان، وهو أكمل وأحسن صورة، وقد ينتفع بقرنه. خرج الإمام: صعد المنبر للخطبة. الذكر: الموعظة وفيها من ذكر الله عز وجل]. 6 - صلاة ركعتين عند دخول المسجد: روى مسلم (875)، عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما". أي يخففهما مع الإتيان بهما كاملة الأركان والسنن والآداب. هذا إذا لم يبلغ الخطيب أواخر الخطبة، وإلا فلينظر قيام الصلاة المكتوبة. وتفوت هاتان الركعتان بجلوسه، فإن جلس لم يصح منه بعد صلاة نافلة، بل يجب أن يظل جالساً ينصت إلى الخطبة حتى تقام الصلاة. 7 - الإنصات للخطبتين: روى البخاري في صحيحه (892) ومسلم (851) وغيرهما، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت". وعند أبي داود (1051) من رواية علي - رضي الله عنه -: "ومن لغا فليس له في جمعته تلك شئ". أي لم يحصل له الفضل المطلوب، والثواب المرجو. واللغو: هو ما لا يحسن من الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 آداب عامة ليوم الجمعة: يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ولن سنن وآداب، ينبغي أن يكون المسلم على بينة منها، ليبق منها ما يمكنه تطبيقه، وإليك بعضاً منها: أولاً: تسن قراءة سورة الكهف في يوم الجمعة وليلتها: روى النسائي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين". ثانياً: يسن الإكثار من الدعاء يومها وليلتها: لما روى البخاري (893) ومسلم (852) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر يوم الجمعة فقال: " فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي، يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه". وأشار بيده يقللها، أي يبين أنها فترة قصيرة من الزمن. ثالثاً: يسن الإكثار من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في يومها وليلتها: لحديث: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي". (رواه أبو داود: 1047؛ وغيره بأسانيد صحيحه). ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 صلاة النّفْل النّفْل لغة الزيادة، واصطلاحاً: ما عدا الفرائض. وسمِّي بذلك، لأنه زائد على ما فرضه الله تعالى. والنفل يُرادف السنة، والمندوب، والمستحب. صلاة النَّفْل قسمان: قسم لا يسن فيه لجماعة، وقسم يسن فيه الجماعة. القسم الأول ـ وهو الذي لا يسن فيه الجماعة ، قسمان أيضاً: قسم يعتبر تابعاً للصلوات المكتوبة، التي مضى بيانها. وقسم يعتبر نافلة غير تابعة للفرائض. وسنشرح كلا منهما على حدة. (أ) النفل التابع للفرائض: هذا النفل قسمان مؤكد، وغير مؤكد. أما المؤكد : فهو عبارة عن ركعتين قبل الصبح، وركعتين قبل الظهر، وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء. روى البخاري (1126) ومسلم (729)، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: حفظت من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وركعتين بعدهما، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصبح، كانت ساعة لا يدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها. وآكد هذه الركعات ركعتا الفجر، لما روى البخاري (1116) ومسلم (724)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر. [النوافل: جمع نافلة، وهي ما زاد على الفرض. أشد تعاهداً: أكثر محافظة]. وأما غير المؤكد : ـ فركعتان أخريان قبل الظهر، روى البخاري (1127)، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدع أربعاً قبل الظهر، وركعتين قبل الغداة، أي صلاة الفجر. ولمسلم (730): كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعاً، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين. ويزيد ركعتين أيضاً بعدها، لما رواه الخمسة وصححه الترمذي (427، 428) عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من صلى أربع ركعات قبل الظهر، وأربعاً بعدها، حرمه الله على النار ". والجمعة كالظهر فيما مر، لأنها بدل عنها، فيسن قبلها أربع ركعات، ركعتان مؤكدتان وركعتان غير مؤكدتان، كذلك بعدها. روى مسلم (881)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا صلى أحكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وروى الترمذي (523) أن ابن مسعود - رضي الله عنه - كان يصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً. والظاهر أنه توقيف، أي علمه من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. ـ أربع ركعات قبل فريضة العصر، لما رواه الترمذي (430) وغيره، عن على - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم. ـ وركعتان خفيفتان قبل صلة المغرب، لما رواه البخاري (599) ومسلم (837) واللفظ له، عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري فيركعون ركعتين ركعتين، حتى أن الغريب ليدخل فيحسب أن الصلاة قد صليت، من كثرة من يصليهما. [ابتدروا السواري: جمع سارة وهي الدعامة التي يرفع عليها وغيرها السقف، وتسمى أسطوانة. وابتدروها: أي تسارعوا إليها ووفق كل واحد خلف واحدا منها. ركعتين ركعتين: أي كل واحد يصلي ركعتين لا يزيد عليهما]. ومعنى كونها خفيفتين: أنه لا يأتي زيادة على أدنى ما تتحقق به أركان الصلاة وسننها وآدابها. ـ ويستحب ـ أيضاً ـ أن يصلي ركعتين خفيفتين قبل صلاة العشاء، لما رواه البخاري (601) ومسلم (838)، عن عبد الله بن مغفل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " بين كل أذانين صلاة، ثلاثاً لمن شاء " وفي رواية: " بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، ثم قال في الثالثة: لمن شاء ". [الأذانين: الأذان والإقامة]. (ب) النفل الذي لا يتبع الفرائض: وهذا النفل ينقسم أيضاً إلى قسمين: نوافل مسماة ذات أوقات معينة، ونوافل مطلقة عن التسمية والوقت. النوافل المسماة ذات الأوقات المعينة هي: 1ـ تحية المسجد: وهي ركعتان قبل الجلوس لكل دخول إلى المسجد، ودليلها حديث البخاري (433) ومسلم (714): " فإذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ". وتحصل التحية بالفرض، أو بأي نفل آخر، لأن المقصود أن لا يبادر الإنسان الجلوس في المسجد بغير صلاة. 2ـ الوتر: وهي سنة مؤكدة، وإنما سميت بذلك، لأنها تختم بركعة واحدة، على خلاف الصلوات الأخرى. روى الترمذي (453) وغيره، عن علي - رضي الله عنه - قال: إن الوتر ليس بحتم كصلاتكم المكتوبة، ولكن سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعنده وعند أبي داود (1416) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا أهل القرآن أوتروا، فإن الله وتر يحب الوتر ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وقت الوتر: ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر، والأفضل أن يؤخرها إلى آخر صلاة الليل. روى أبو داود (1418) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله عز وجل أمدكم بصلاة وهي خير لكم من حمر النعم، وهي الوتر، فجعلها لكم فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر". وروى البخاري (953) ومسلم (749)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً ". هذا إن رجا الإنسان أن يقوم من آخر الليل، أما من خاف أن لا يقوم، فليوتر بعد فريضة العشاء وسنتها. روى مسلم (755) عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من خاف أن لا يقوم آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل ". مشهودة: أي تحضرها الملائكة. وروى البخاري (1880) ومسلم (721) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقد. أي أصلي الوتر قبل أن أنام. وأقل الوتر ركعة، لكن يكره الاقتصار عليها، وأقل الكمال ثلاث ركعات: ركعتان متصلتان، ثم ركعة منفردة. ومنتهى الكمال فيها إحدى عشر ركعة، يسلم على رأس كل ركعتين، ثم يختم بواحدة: روى مسلم (752)، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الوتر ركعة من آخر الليل ". وروى البخاري (1071) ومسلم (736) وغيرهما ـ واللفظ له ـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة. فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر، وجاءه المؤذن، قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الإيمان حتى يأتيه المؤذن للإقامة. [ركعتين خفيفتين: هما سنة الفجر]. وروى أبو داود (1422)، عن أبي أيوب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الوتر حق على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل ". [حق: مشروع ومطلوب]. 3ـ قيام الليل: وهو ما يسمى بالتهجد إن فعل بعد النوم، والتهجد: ترك الهجود، والهجود: النوم، أي ترك النوم. وقيام الليل سنة غير محددة بعدد من الركعات، تؤدى بعد الاستيقاظ من النوم، وقبل أذان الفجر. ودليل مشروعية قيام الليل قوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا} (سورة الإسراء: 79) أي اترك الهجود ـ وهو النوم ـ وقم فَصلَّ واقرأ القرآن. [نافلة لك: زيادة على الفرائض المفروضة عليك خاصة]. وروى مسلم (1163) وغيره، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: " الصلاة في جوف الليل". [المكتوبة: المفروضة. جوف الليل: باطنه وساعات التفرغ فيه للعبادة]. 4 - صلاة الضحى: وأقلها ركعتان، وأكملها ثماني ركعات. روى البخاري (1880)؛ ومسلم (721)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أوصاني خليلي بثلاثٍ: صيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر، وركعتي الضحى، وأن توتر قبل أن أرقد. وروى البخاري (350)؛ ومسلم (336) واللفظ له، في حديث أم هاني رضي الله عنها: أنه لما كان عام الفتح، أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بأعلى مكة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غسله، فسترت عليه فاطمة، ثم أخذ ثوبه والتحق به، ثم صلى ثماني ركعات سُبْحَة الضحى. أي صلاة الضحى. والأفضل أن يفصل بين ركعتين، لما جاء في رواية أبي داود (1290) عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم الفتح سبحة الضحى ثماني ركعات، ويسلم من كل ركعتين. ووقتها من ارتفاع الشمس حتى الزوال، والأفضل فعلها عند مُضي ربع النهار. روى مسلم (784) وغيره، عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهل قباء وهم يصلون الضحى، فقال: " صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 [الأوابين: جمع أواب، وهو الراجع إلى الله تعالى. رمضت الفصال: احترقت من حر الرمضاء، أي وجدت حر الشمس، والرمضاء في الأصل الحجارة الحامية من حر الشمس، والمراد ارتفاع النهار. والفصال: جمع فصيل، وهو ولد الناقة]. 5 - صلاة الاستخارة: وهي صلاة ركعتين في غير الأوقات المكروهة. وتسنّ لمن أراد أمراً من الأمور المباحة، ولم يعلم وجه الخير في ذلك، ويسنّ بعد الفراغ من الصلاة أن يدعو بالدعاء المأثور، فإن شرح الله صدره بعد ذلك للأمر فعل وإلا فلا. روى البخاري (1109) وغيره، عن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: " إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة"، ثم ليقل: " اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علاّم الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فأقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به، قال: ويسمي حاجته ". النوافل المطلقة عن التسمية والوقت: وهي أن يصلي من النوافل ما شاء في أي وقت شاء، إلا في أوقات معينة يكره فيها الصلاة، وقد بيّناها فيما مضى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وروى ابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذر - رضي الله عنه -: " الصلاة خير موضوع، استكثر أو أقل ". هذا واعلم أنه يستحب في النفل المطلق أن يسِّم من كل ركعتين ليلاً كان أو نهاراً. ودليل ذلك حديث البخاري (946)؛ ومسلم (749): " صَلاة الليل مثنى مثنى" (أخرجه أبو داود: 1295، وغيره). والمراد بالمثنى أن يسلم من كل ركعتين. القسم الثاني - وهو الذي يسن فيه الجماعة: كان ما ذكرنا كله فيما يتعلق بالنوافل التي لا تستحب فيها الجماعة، أما النوافل التي تستحب فيها الجماعة، فهي: صلاة العيدين ، صلاة التراويح، صلاة الكسوف والخسوف، صلاة الاستسقاء. وسنذكر كل واحدةٍ على حدة. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 صَلاَة العيدَيْن معنى العيد: العيد مشتقِّ من العَوْد، وذلك إما لتكرره كل لعام، أو لعود السرور بعوده، أو لكثرة عوائد الله فيه على العباد. زمن مشروعيتها والدليل عليها: شرعت صلاة عيد الفطر وعيد الأضحى في السنة الثانية للهجرة، وأول عيدٍ صلاَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - عيد الفطر من السنة الثانية للهجرة. أما الأصل في مشروعيتها: فقوله عز وجل خطاباً لنبيه عليه الصلاة والسلام: {فصل لربك وانحر} [الكوثر: 2]. قالوا: المقصود بالصلاة صلاة عيد الأضحى. وروى البخاري (913)؛ ومسلم (889)، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شئ يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف، فيكون مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيعظم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه، أو يأمر بشيءٍ أمر به، ثم ينصرف. [يقطع بعثاً: يفرد جماعة من الناس ليبعثهم إلى الجهاد]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 حكم صلاة العيد: هي سنَّة مؤكدة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتركها منذ شرعت حتى توفَّاه الله عز وجل، وواظب عليها أصحابه رضوان الله تعالى عليهم من بعده. وتشرع جماعة، يدل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - السابق، وتصح فرادى. ويخاطب بها كل مكلف رجلاً كان أو امرأة، مقيماً كان أو مسافراً، حراً كان أو رقيقاً، إلا للمرأة المتزينة، أو التي قد تثير الفتنة، فتصلي في بيتها. ودلّ على عدم الوجوب قوله - صلى الله عليه وسلم - للسائل عن الصلاة المفروضة " خمس صلوات في اليوم والليلة"، قال: هل على غيرها؟ قال: " إلا أن تطوع " (رواه البخاري: 46؛ ومسلم: 11). وعند أبي داود (1420): " خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن، لم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد؛ إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة". وروى البخاري (928)؛ ومسلم (890)، عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها: كنّا نؤْمرُ أن نخرُج يوم العِيد، حتى نُخرج البِكْرَ من خُدرها، حتى نخرج الحيض فَيكنَّ خَلفَ النّاس فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطُهْرَتَه. وفي رواية قالت امرأة: يا رسول الله، إحدانا ليس لها جلباب؟ قال: " لتلبسها صاحبتها من جلبابها ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 [البكر: التي لم يسبق لها الزواج. خدرها: ناحية في البيت يترك عليها ستر، كانت تجلس في البكر استحياءً. الحُيَّض: جمع حائض. خلف الناس: أي غير مكان الصلاة، وفي رواية: ويعتزل الحُيّض عن مصلاَّهُنَّ. طهرته: ما فيه من تكفير الذنوب. جلباب: ملحفة تستر البدن أعلاه أو أسفله. لتلبسها: بأن تعيرها جلباباً من جلابيبها]. ولا يسنُّ لها أذانٌ ولا إقامة بل ينادي لها: " الصلاة جامعة ". روى البخاري (916)؛ ومسلم (886)، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه أرسل إلى ابن الزبير في أول ما بويع له: إنه لم يكن يؤذن بالصلاة يوم الفطر، وإنما الخطبة بعد الصلاة. وعند البخاري (917)؛ ومسلم (886)، عن ابن عباس وجابر بن عبدالله رضي الله عنهم قالا: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى. وقت صلاة العيد: يبدأ وقتها بطلوع الشمس، ويستمر إلى زوالها، يدل على هذا ما رواه البخاري (908)، عن البراء - رضي الله عنه - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال: " إن أول ما نبدأ من يومنا هذا أن نصلي .. ". واليوم يبدأ بطلوع الفجر، والوقت مشغولاً بصلاة الفجر، قبل طلوع الشمس، وبصلاة الظهر بعد زوالها. ووقتها المفضل عند ارتفاع الشمس قدر رمح، لمواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على صلاتها في ذلك الوقت. كيفيتها: صلاة العيد ركعتان، يبدأهم بتكبيرة الإحرام، ثم يقرأ دعاء الافتتاح، ثم يكبر سبع تكبيرات يرفع عند كل منها يده إلى محاذاة كتفيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 كتكبيرة الإحرام، يفصل بين كل اثنتين بقدر آية معتدلة، ويسن أن يقول بينهما: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. ثم يتعوذ ويقرأ الفاتحة ثم يضم إليها سورة أو بعض آيات. فإذا قام إلى الركعة الثانية كبر خمس تكبيرات، عدا تكبيرة الانتقال قبل أن يبدأ القراءة، وفصل بين كل تكبيرة وأخرى بما ذكرنا. وهذه التكبيرات الزائدة على المعتاد سنة، فلو نسيها وشرع في القراءة فاتت وصحت صلاته. والأصل فيما سبق: ما رواه النسائي (3/ 111) وغيره، من حديث عمر - رضي الله عنه - قال: صلاة الفطر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان .. ثم قال: على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى هذا الإجماع. وروى عمرو بن عوف المزني - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبّر في العيدين، في الأولى سبعاً قبل القراءة، وفي الآخرة خمساً قبل القراءة. (رواه الترمذي: 536). وقال: هو أحسن شيء في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ... الخطبة في العيد: ويسن بعد الفراغ من صلاة العيد خطبتان، نوجز لك كيفيتهما فيما يلي: 1ـ ينبغي أن تليا صلاة العيد، أي بعكس خطبة الجمعة، وذلك تأسياً بالنبي عليه الصلاة والسلام. روى البخاري (920)؛ ومسلم (888)، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما يصلون العيدين قبل الخطبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وروى البخاري (932)، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فطر وأضحى، فصلى ثم خطب. فلو قدم الخطبة على الصلاة لم تعتد بها. 2 - كل ما ذكرناه من أركان خطبتي الجمعة وسنتهما، ينطبق على خطبة العيد أيضاً. روى الشافعي رحمه الله تعالى، عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود - رضي الله عنه - قال: السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين،، يفصل بينهما بجلوس. 3 - يسن أن يبدأ الخطبة الأولى بتسع تكبيرات، والخطبة الثانية سبع تكبيرات. روى البيهقي عن عبدالله المذكور سابقاً قال: السنة أن تفتتح الخطبة بتسع تكبيرات تترى، والثانية بسبع تكبيرات تترى. أي متتالية. أين تقام صلاة العيد؟ تقام صلاة العيد بالمسجد أو الصحراء، وأفضلها أكثرهما استيعاباً للمصلين، فإن تساويا كان المسجد أفضل لشرفه على غيره، إذ ينال المسلم بالصلاة فيه أجر العبادة وأجر المكث في المسجد. وإنما صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصحراء لضيق مسجده إذ ذاك عن الاستيعاب، وقد علمت أنها تشرع جماعة للرجال والنساء وعام المكلفين. فإذا كان المسجد متسعاً بحيث يستوعب جميع المصلين، برفق وراحة، لم يبق لأفضلية الصحراء معنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 التكبير في العيد: يسن التكبير- لغير الحاج- بغروب الشمس ليلتي عيد الفطر والأضحى، في المنازل والطرق والمساجد والأسواق. بصوت مرتفع، إلى أن يحرم الإمام لصلاة العيد. وذلك لقوله تعالى: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} [البقرة: 185]. قالوا: هذا في تكبير عيد الفطر، وقيس به الأضحى. ثم يسن في عيد الأَضحى لكل من الحاج وغيره أن يكبر عقب الصلوات بأنواعها المختلفة بدءاً من صبح يوم عرفة إلى ما بعد عصر آخر يوم من أيام التشريق، وهي الأيام الثلاثة التي تلي يوم عيد الأضحى. أما في عيد الأضحى فلا يسن التكبير عقب الصلوات، بل ينقطع استحبابه عندما يحرم الإمام لصلاة العيد كما قلنا. ودليل ذلك كله لاتباع لفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما واظب عليه أصحابه رضي الله عنهم. فعن علي وعمار رضي الله عنهما: أم النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر يوم عرفة، صلاة الغداة، ويقطعها صلاة العصر آخر أيام التشريق (رواه الحاكم: 1/ 229)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولا أعلم في رواته منسوباً إلى الجرح. [صلاة الغداة: صلاة الفجر]. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يكبر في قبته بمنى، فسمعه أهل المسجد يكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج مني تكبيراً. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يكبر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات، وعلى فراشه في فسطاطه ومجلسه وممشاه، تلك الأيام جميعاً. (البخاري: كتاب العيدين، باب التكبير أيام منى). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 [فسطاطه: الفسطاط البيت المتخذ من شعر ونحوه]. صيغة التكبير المفضلة: " الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد ". من آداب العيد: 1 - أن يغتسل ويتطيب ويلبس الجديد من ثيابه، لما مرَّ في الجُمعة. 2 - يسنّ أن يُبَكِّر الناس بالحضور إلى المسجد صباح العيد. 3 - يسن في عيد الفطر أن يأكل شيئاً قبل خروجه إلى الصلاة. أمَّا في عيد الأضحى فيُسنُّ له أن يمسك عن الطعام حتى يعود من الصلاة. 4 - يسن للمصلِّي أن يذهب ماشياً إلى المصلَّى أو المسجد في طريق، وأن يعود في طريق أخرى. روى البخاري (943)، عن جابر - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم عيد خالف الطريق. 5 - يكره للإمام أن ينتقل قبل صلاة العيد، ولا يكره لغيره ذلك بعد طلوع الشمس. روى البخاري (945)، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 زَكاةُ الفِّطْر تعريفها: هي قدر معين من المال، يجب إخراجه عند غروب الشمس آخر يوم من أيام رمضان، بشروط معينة، عن كل مكلف ومن تلزمه نفقته. مشروعيتها: المشهور في السنة أنها فرضت في السنة الثانية من الهجرة، في العام الذي فرض فيه صوم رمضان. والأصل في وجوبها: ما رواه البخاري (1433)؛ ومسلم (984) واللفظ له، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين. شروط وجوبها: تجب زكاة الفطر بثلاثة شروط: الأول - الإسلام: فلا تجب على الكافر الأصلي وجوب مطالبة في الدنيا، للحديث السابق ذكره عن ابن عمر رضي الله عنهما. الثاني- غروب شمس آخر يوم من رمضان: فمن مات بعد غروب ذلك اليوم، وجبت زكاة الفطر عنه، سواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 مات بعد أن تمكن من إخراجها، أم مات قبله، بخلاف من ولد بعده. ومن مات قبل غروب شمسه لم تجب في حقه، بخلاف من ولد قبله. الثالث- أن يوجد لديه فضل من المال، يزيد عن قوته وقوت عياله ف يوم العيد وليلته، وعن مسكن، وخادم إن كان بحاجة إليه: فلو كان ماله لا يكفي لنفقات يوم العيد وليلته، بالنسبة له ولمن تجب عليه نفقتهم، لم تلزمه زكاة الفكر، ولو كان لديه مال يكفي يوم العيد وليلته، ولكنه لا يكفي لما بعد ذلك، تجب عليه الزكاة ولا عبرة بما بعد يوم العيد وليلته. الذين يجب على المكلف إخراج زكاة الفطر عنهم: يجب على من توفرت لديه هذه الشرائط الثلاثة، أن يخرج زكاة الفطر عن نفسه، وعمن تلزمه نفقتهم، كأصوله وفروعه، وزوجته. فلا يجب أن يخرجها عن ولده البالغ القادر على الاكتساب، ولا عن قريبه الذي لا يكلف بالإنفاق عليه، بل لا يصح أن يخرجها عنه إلا بأذنه وتوكيله. فإذا أيسر بشئ لا يكفي عن جميع أقاربه الذي يكلف بنفقتهم، قدم نفسه، ثم زوجته، فولده الصغير، فأباه، فأمه، فولده الكبير العاجز عن الكسب. زكاة الفطر جنساً وقدراً: زكاة الفطر هي صاعً من غالب قوت البلد الذي يقيم فيه المكلف، بدليل حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق. وعند البخاري (1439) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كنَّا نخرج في عهد رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر صاعاً من طعام، وكان طعامنا الشعير والزبيب والأَقِطُ والتمر. والصاع الذي كان يستعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو عبارة عن أربعة أمداد، أي حفنات، وهذه الحفنات الأربع مقدرة بثلاثة ألتار كيلاً، وتساوي بالوزن (2400) غراماً تقريباً. فإذا كان غالب قوت بلدنا اليوم هو البُرُّ. فإن زكاة الفطر عن الشخص الواحد تساوي ثلاثة ألتار من الحنطة. ومذهب الإمام الشافعي أنه لا تجزئ القيمة، بل لا بدّ من إخراجها قوتاً من غالب أقوات ذلك البلد. إلا أنه لا بأس باتباع مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى في هذه المسألة في هذا العصر، وهو جواز دفع القيمة، ذلك لأن القيمة أنفع للفقير اليوم من الفقير نفسه، واقرب إلى تحقيق الغاية المرجوة. وقت إخراج زكاة الفطر: أما وقت الوجوب، فقد قلنا إنه يبدأ بغروب شمس آخر أيام رمضان. وأما الوقت الذي يجوز فيه إخراجها، فهو جميع شهر رمضان واليوم الأول من العيد. يسنّ أداؤها صباح يوم العيد قبل الخروج إلى الصلاة. فقد جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفي رواية عند البخاري (1432): " وَأَمر بها أن تؤدَّي قبل خروج الناس إلى الصلاة ". ويكره تأخيرها عن صلاة العيد إلى نهاية يوم العيد، فإن أخراها عنه أثِم ولزمه القضاء. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 الأضحية معناها والأصل في مشروعيتها: الأضحية: هي ما يذبح من الإبل أو البقر أو الغنم أو المعز، تقرباً إلى الله تعالى يوم العيد. والأصل في مشروعيتها قوله عز وجل: {فصل لربك وانحر} [الكوثر: 2]، فإن المقصود بالنحر على أصح الأقوال نحر الضحايا. وما رواه البخاري (5245) ومسلم (1966): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما. [الأملح: من الضأن ما كان أبيض اللون أو كان البياض فيه هو الغالب، والأقرن: ذو القرنين العظيمين. صفاحهما: جمع صفحة، وهي جانب العنق]. الحكمة من مشروعيتها: ينبغي أن تعلم أن الأضحية عبادة، وأن كل ما قد يكون لها من حكمة وفائدة يأتي بعد فائدة الخضوع للمعنى التعبدي الذي فيها، شأن كل عبادة من العبادات. ثم إن من أبرز المعاني المتعلقة بالأَضحية إحياء معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 الضحية العظمى التي قام بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، إذ ابتلاء الله تعالى بالأمر بذبح ابنه، ثم فداه الله بذبح عظيم كان كبشاَ أنزله الله إليه وأمره بذبحه، بعد أن مضى كل من إبراهيم وابنه عليهما السلام، ساعياً بصدق لتحقيق أمره عز وجل. أضف إلى ذلك: ما فيها من المواساة للفقراء والمعوزين وإدخال الشرور عليهم وعلى الأهل والعيال يوم العيد، وما ينتج عن ذلك من تمتين روابط الأخوة بين أفراد المجتمع المسلم، وغرس روح الجماعة والود في قلوبهم. حكم الأضحية: هي سنة مؤكدة، ولكنها قد تجب لسببين اثنين: الأول: أن يشير إلى ما هو داخل في ملكه من الدواب الصالحة للأضحية، فيقول: هذه أضحيتي، أو سأضحي بهذه الشاة، مثلاً، فيجب حينئذ أن يضحي بها. الثاني: أن يلتزم التقرب إلى الله بأضحيته، كأن يقول: لله تعالى علي أن أضحي، فيصبح ذلك واجباً عليه، كما لو التزم بأي عبادة من العبادات، إذ تصبح بذلك نذراً. من هو المخاطب بالأضحية: إنما تسن الأضحية في حق من وجدت فيه الشروط التالية: 1 - الإسلام، فلا يخاطب بها غير المسلم. 2 - البلوغ والعقل، إذ من لم يكن بالغاَ عاقلاً سقط عنه التكليف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 3 - الاستطاعة، وتتحقق: بأن يملك قيمتها زائدة عن نفقته ونفقة من هو مسؤول عنهم، طعاماً وكسوة ومسكناً، خلال يوم العيد وأيام التشريق. ما يشرع التضحية به: لا تصح الأَضحية إلا أن تكون من إبل، أو بقر، أو غنم ومنه الماعز. لقوله تعالى: {ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج: 34]، والأنعام لا ترج عن هذه الأصناف الثلاثة، ولأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولاعن أحد من الصحابة التضحية بغيرها. وأفضلها الإبل، ثم البقر، ثم الغنم. ويجوز أن يضحي بالبعير والبقرة الواحدة عن سبعة. روى مسلم (1318) عن جابر - رضي الله عنه - قال: نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة. [البدنة: واحدة الإبل ذكراً أم أنثى]. شروطها: السن: وشرط الإبل أن يكون قد طعن في السادسة من العمر. وشرط البقر والمعز أن يكون قد طعن في الثالثة. أما شرط الضأن فهو أن يكون قد طعن في الثانية، أو أجدع - أي سقطت أسنانه الأمامية- ولو لم يبلغ سنة، لما رواه أحمد (2/ 245)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " نعمت الأضحية الجذع من الضأن ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 السلامة: ثم يشترط بالنسبة لهذه الأصناف الثلاثة كلها: أن تكون سالمة من العيوب التي من شأنها أن تسبب نقصاناً في اللحم: فلا تجزئ شاة عجفاء - وهي التي ذهب مخها من شدة هزالها- ولا ذات عرج بيِّن، أو ذات عورٍ أو مرض، ولا مقطوعة بعد الأذن. ... لما رواه الترمذي وصححه (1497) وأبو داود (2802) عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أربع لا تجزئ في الأَضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين عرجها، والعجفاء التي لا تنقي ". [لا تنقي: أي لا مخ لها، مأخوذة من النقي، بكسر النون وإسكان القاف، وهو المخ]. ويقاس على هذه العيوب الأربعة، كل ما يشبهها في التسبب في الهزال وإنقاص اللحم. وقت الأَضحية: يبتدئ وقتها بعد طلوع شمس يوم عيد الأضحى بمقدار ما يتسع لركعتين وخطبتين، ثم يستمر وقتها إلى غروب آخر أيام التشريق، وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة. والوقت المفضَّل لذبحها، بعد الفراغ من صلاة العيد، لخبر البخاري (5225) ومسلم (1961): " أول ما نبدأ به يومنا هذا تصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء ". ومعنى قوله: ومن ذبح قبل ذلك، أي قبل دخول صلاة العيد، ومضي الزمن الذي يمكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 صلاتها فيه. وروى ابن حبان (1008)، عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " وكل أيام التشريق ذبح " أي وقت للذبح. ماذا يصنع بالأضحية بعد ذبحها: إن كانت الأَضحية واجبة: بأن كانت منذورة أو معينة على ما أوضحنا لم يجز للمضحي ولا لأحد من أهله الذين تجب عليه نفقتهم، الأكل منها، فإن أكل أحدهم منها شيئاً غرم بدله أو قيمته. وإن كانت الأَضحية مسنونة: جاز له أن يأكل قليلاً منها للبركة، ويتصدق بالباقي، وله أن يأكل ثلثها، ويتصدق بثلثها، ويتصدق بثلثها على الفقراء، ويهدي ثلثها لأصحابه وجيرانه وإن كانوا أغنياء. إلا أنّ ما يعطي للغني منها ما يكون على سبيل الهدية للأكل، فليس لهم أن يبيعوها، وما يعطي للفقير يكون على وجه التمليك، يأكلها أو يتصرف بها كما يشاء. والأصل فيما سبق قوله تعالى: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها واطعموا البائس الفقير} [الحج: 36] [البدن: جمع بدنة، وهي ما يهدي المحرم من الإبل، وقيس عليها الأضاحي. شعائر الله: علائم دينه. صواف: قائمة على ثلاث قوائم. وجبت جنبوها: سقطت على الأرض. البائس: شديد الحاجة]. هذا، وللمضحي أن يتصدق بجلد أضحيته، أو ينتفع هو به. ولكن ليس له أن يبيعه أو أن يعطيه للجزار أجرة ذبحه، لأن ذلك نقصٌ من الأضحية يفسدها. ولما رواه البيهقي (9/ 294) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من باع جلد أضحيته فلا أضحية له ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 سنن وآداب تتعلق بالأضحية: أولاً: إذا دخل عشر ذي الحجة، وعزم خلاله على أن يضحي، ندب له أن لا يزيل شيئاً من شعره وأظافره إلى أن يضحين فليمسك عن شعره وأظافره. لما رواه مسلم (1977)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظافره ". ثانياً: يسن له أن يتولى ذبحها بنفسه، فإن لم يفعل لعذر أو غيره، فليشهد ذبحها، لما رواه الحكام (4/ 222) بإسناد صحيح: إنه - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة رضي الله عنها: " قومي إلى أضحيتك فاشهديها فإنه بأول قطرة من دمها يغفر لك ما سلف من ذنوبك" قالت: يا رسول الله، هذا لنا أهل البيت خاصة، أو لنا المسلمين عامة؟ قال: بل لنا وللمسلمين عامة ". ثالثاً: يسنّ لحاكم المسلمين أو إمامهم أن يضحي من بيت المال عن المسلمين، فقد روى مسلم (1967) أنه - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبش، وقال عند ذبحه: " باسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد وأمة محمد ". ويذبحه بالمصلى، حيث يجتمع الناس لصلاة العيد، وأن ينحر أو يذبح بنفسه، روى البخاري في صحيحه (5232) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذبح وينحر بالمصلي. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 صََلاََة التّراويُح و صلاة التراويح إنما تشرع في رمضان خاصة، وتسن فيها الجماعة وتصح فرادى. وسميت بهذا الإسم لأنهم كانوا يتروحون عقب كل أربع ركعات، أي يستريحون. وتسمى قيام رمضان. وهي عشرون ركعة في كل ليلة من ليالي رمضان، يصلي كل ركعتين بتسليمة، ووقتها بين صلاة العشاء وصلاة الفجر، وتصلى قبل الوتر. ولو صلى أربعاً بتسليمة واحدة لم تصح، لأنه خلاف المشروع. هذا ولا بد من النية من تعيين: ركعتين من التراويح، أو من قيام رمضان، ولا تصح بنية النفل المطلق. والأصل في مشروعيتها على ما سبق: ما رواه البخاري (37) ومسلم (759) وغيرهما، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ". [إيماناً: تصديقاً بأنه حق. احتساباً: إخلاصاً لله تعالى]. وروى البخاري (882) ومسلم (761) واللفظ له عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ذات ليلة، فصلى بصلاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ناسٌ ثم صلّى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة- أو الرابعة - فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أصبح قال: " رأيت الذي صنعتم، فلم يمنعني من الخروج إليكم، إلا أني خشيت أن تفرض عليكم". وذلك في رمضان. [الذي صنعتم: أي اجتماعكم للصلاة وانتظاري]. وروى البخاري (906)، عن عبدالرحمن بن عبد القاري قال: خرجت مع عمر ابن الخطاب في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاعٌ متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط. فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبيّ كعب - رضي الله عنه -، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون. يعني آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله. [أوزاع: جماعات. الرهط: ما دون العشرة من الرجال. نعمت البدعة هذه: حسن هذا الفعل. والبدعة: ما استحدث على غير مثالٍ مستحسن فيه، وذميمة مرفوضة إن خالفته، أو اندرجت تحت مستقبح فيه، وإن لم تخالف الشرع ولم تندرج تحت أصل فيه كانت مباحة]. وروى البيهقي وغيره بإسناد صحيح (2/ 496): أنهم كانوا يقومون على عهد عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - شهر رمضان بعشرين ركعة. وروى مالك في الموطأ (1/ 115): كان الناس في زمن عمر - رضي الله عنه - يقومون في رمضان بثلاثٍ وعشرين ركعة. وجمع البيهقي بين الروايتين بأن الثلاث كانت وتراً. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 صَلاَة الكسُوف وَالخسُوف التعريف بهما وزمن مشروعيتهما: تطلق كلمة الكسوف لغة على احتجاب ضوء الشمس احتجاباً جزئياً أو كلياً، وتطلق كلمة الخسوف على احتجاب نور القمر جزئياً أو كلياً، ويجوز إطلاق كل من الكلمتين على كل من المعنيين. و صلاة الكسوف والخسوف من الصلوات المشروعة لسبب، يلتجئ فيها المسلم إلى الله عز وجل أن يكشف البلاء ويعيد الضياء. وقد شرعت صلاة الكسوف في السنة الثانية للهجرة، أما صلاة خسوف القمر فقد شرعت في السنة الخامسة منها. حكمها: هي سنة مؤكدة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -، فيما رواه مسلم (904): " إن الشمس والقمر من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم " ولفعله - صلى الله عليه وسلم - لها، كما سيأتي. وإنما لم يفسر الأمر في هذا الحديث على وجه الوجوب، لخبر: إن أعرابياً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلوات الخمس فقال: هل عليّ غيرها؟ فقال عليه الصلاة والسلام: " لا، إلاّ أن تطوع". (البخاري: 46؛ ومسلم 11 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وتسن فيها الجماعة، وينادى لها: " الصلاة جامعة ". كيفيتها: صلاة الكسوف والخسوف ركعتان، ينوي بهما المصلي صلاة الكسوف أو الخسوف، ولها كيفيتان: أدنى ما تصح به، وأكمل الوجوه في أدائها. " فأما الكيفية التي تتحقق بها أدنى درجات الصحة: فهي أن يكون في كل ركعة قيامان، وقراءتان، وركوعان، كالعادة بدون تطويل. ويصح أن يصلها ركعتين بقيامين وركوعين، كصلاة الجمعة، ويكون تاركاً للفضيلة، لمخالفته لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. " وأما الكيفية الكاملة: فهي أن يكون في كل ركعة منهما قيامان يطيل القراءة في كل منهما، بأن يقرأ في القيام الأول من الركعة الأولى بعد الفاتحة سورة البقرة أو مقدارها من السور الأخرى، وفي القيام الثاني ما يساوي مائتي آية، وفي القيام الأول من الركعة الثانية مقدار مائة وخمسين منها، وفي القيام الثاني منها ما يساوي مائة آية من سورة البقرة. ثم إذا ركع أطال الركوع بما يساوي مائة آية تقريباً، فإذا ركع الركوع الثاني أطاله بمقدار ثمانين آية، والثالث بمقدار سبعين آية، والرابع بمقدار خمسين. فإذا أتموا الصلاة خطب الإمام بعد خطبتين - كخطبتي الجمعة في الأركان والشروط - يحث الناس فيهما على التوبة وفعل الخير، ويحذرهم من الغفلة والاغترار. روى الترمذي (562) وقال حسن صحيح، عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في كسوف لا نسمع له صوتاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وروى البخاري (1016)؛ (901)، عن عائشة رضي الله عنها: جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخسوف بقراءاته. فحمل الأول على صلاة كسوف الشمس لأنها نهارية، والثاني على خسوف القمر لأنها ليلية. دليل ذلك ما رواه البخاري (947)؛ ومسلم (901)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خسفت الشمس في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد، فقام فكبر وصف الناس وراءه، فاقترأ قراءة طويلة، ثم كبر فركع ركوعاً طويلاً، ثمر رفع رأسه فقال: ... " سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد"، ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر فركع ركوعاً هو أدنى من الركوع الأول، ثم قال: " سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد". ثم سجد - وفي رواية أخرى فأطال السجود - ثم فعل بالركعة الأخرى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات ... أي أربع ركوعات وأربع سجدات، وانجلت الشمس قبل أن ينصرف. ثم قام فخطب الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: " إنما الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة ". وفي رواية: " فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا ". [في حياة ... وافق هذا يوم موت ولده إبراهيم عليه السلام، وقد كانوا في الجاهلية إذا خسف القمر أو كسفت الشمس، ظنوا أن عظيماً من العظماء قد مات، فزعموا ذلك لما وافق كسوف الشمس موت إبراهيم عليه السلام، فأبطل لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الزعم بقوله: " لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته ". انجلت: صفت وعاد نورها. ينصرف: يفزع من الصلاة. أربع ركعات: أي أربع ركوعات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 ثم إن كانت الصلاة لكسوف الشمس أسر القراءة، ويحذرهم من الغفلة والاغترار. صلاة الكسوف والخسوف لا تقضيان: إذا فات وقت صلاة الكسوف والخسوف، بأن انجلت الشمس أو انجلى القمر، قبل أن يصلي، لم يشرع قضاؤها، لأنها من الصلوات المقرونة بأسبابه، فإذا ذهب السبب فقد فات موجبها. الغسل لصلاة الكسوف: ويسن الاغتسال لصلاة الكسوف والخسوف، فيغتسل قبلهما كما يغتسل لصلاة الجمعة، لأنها في معناها من حيث الاجتماع وندب الجماعة. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 صَلاَة الاسْتِسقَاء التعريف بها: هي صلاة تشرع عند احتباس مطر أو جفاف نبع، وهي مسنونة عند ظهور سببها، وتفوت بزوال السبب، كأن تنزل الأمطار، أو يجري النبع. كيفيتها: للاستسقاء المندوب ثلاث كيفيات: أدناها: مطلق الدعاء في أي الأوقات أحب. أوسطها: الدعاء بعد ركوع الركعة الأخيرة من الصلوات المكتوبة، وخلف الصلوات. وأكملها: - وهو ما عقد باب صلاة الاستسقاء لبيانه- أن تتم على الكيفية التالية: أولاً: يبدأ الإمام أو نائبه فيأمر الناس بما يلي: (أ) التوبة الصادقة. (ب) الصدقة على الفقراء، والخروج عن المظالم، وإصلاح ذات البين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 (ج) صيام أربعة أيام متتابعة. واستحبت هذه الأمور لما لها من أثر في استجابة الدعاء، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة. ثانياً: يخرج الإمام بهم في اليوم الرابع من أيام صيامهم، وهم صائمون في ثياب بذلة وخشوع واستكانة، على الفلاة، فيصلي بهم الإمام أو نائبه ركعتين كركعتي صلاة العيد تماماً. روى ابن ماجه (1266) وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متواضعاً متبذلاً متخشعاً مترسلاً متضرعاً فصلى ركعتين كما يصلي في العيد. [متضرعاً: مظهراً للضراعة، وهي التذلل عند طلب الحاجة]. ثالثاً: إذا أتموا الصلاة خطب الإمام فيهم خطبتين، كخطبتي العيد، غير أن ينبغي أن يفتحهما بالاستغفار تسعاً في الأولى، وسبعاً في الثانية، بدلاً عن التكبير. لقوله تعالى: {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً} ... [نوح: 10,11] أي كثيرة الدر، والمراد المطر الكثير. فإذا بدأ الخطبة الثانية، ومضى نحو ثلثها، استقبل الخطيب القبلة واستدبر المصلين، وحول رداءه بأن يجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 والأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن، إظهاراً للمزيد من التذلل لله عز وجل. روى ابن ماجه (1268)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً يستسقي، فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا ودعا الله، وحول وجهه نحو القبلة رافعاً يديه، ثم قلب رداءه: فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن. ويسن أن يفعل الناس مثله. ويسن للخطيب أن يكثر من الاستغفار والدعاء والتوبة والتضرع، وأن يتوسلوا بأهل الصلاح والتقوى. وروى البخاري (964) عن أنس - رضي الله عنه -. أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون. رابعاً: يسن أن يخرجوا معهم إلى المصلى الأولاد الصغار والشيوخ والبهائم لأن المصيبة التي يخرجون من أجلها تعمهم جميعاً، ولا ينبغي أن يمنع أهل الذمة من حضورها. بعض الأدعية الواردة في الاستسقاء: اللهم اجعلها سقياً رحمة، ولا تجعلها سقياً عذاب، ولا محق ولا بلاء، ولا هدم ولا غرق. اللهم على الظراب والآكام، ومنابت الشجر وبطون الأودية، اللهم حوالينا ولا علينا. اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً مريعاً، سحاً عاماً غدقاً طبقاً مجللاً، دائماً إلى يوم الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد من الجهد والجوع والضنك، ما لا نشكو إلا إليك. اللهم أنبت لنا الزرع وأدرّ لنا الضرع، وأنزل علينا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً. [الظراب: جمع ظرب وهو الجبل الصغير أو الرابية الصغيرة. الآكام: جمع أكمة وهي التراب المجتمع، أو الهضبة الضخمة. غيثاً: مطراً. مغيثاً: منقذاً من الشدة. هنيئاً: طيباً لا ينغصه شئ. مريئاً: محمود العاقبة منمياً. مريعاً: مخصباً فيه الريع وهو الزيادة. سحاً شديد الوقع على الأرض. غدقاً: كثيراً. طبقاً: مستوعباً لنواحي الأرض. مجللاً: يجلل الأرض ويعمها. دائماً: مستمراً نفعه إلى انتهاء الحاجة إليه. القانطين: الآيسين بتأخير المطر. الجهد: المشقة. الضنك: الضيق والشدة، أدر: من الإدرار وهو الإكثار. الضرع: أضرعت الشاه أي نزل لبنها قبل النتاج، أي قبل وضعها حملها]. (رواه البخاري: 967؛ ومسلم: 897؛ وأبو داود 1169؛ والشافعي: " الأم 1/ 222"، وغيرهم). ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 أحْكَام الجَنَازَة تذكر الموت: اعلم أنه يسن لكل إنسان أن يكثر من ذكر الموت، لحديث " أكثروا من ذكر هاذم اللذات " أي الذي يقطعها بسرعة وهو الموت. (رواه ابن حبان: 2559، وغيره)، وأن يستعد له بالتوبة والاستقامة مع الله تعالى، سواء كان شاباً أو كهلاً أو شيخاً مسناً، وسواء كان صحيحاً أو مريضاً، فإن الأجل محجوز في غيب الله تعالى، وليس الموت أقرب إلى الشيخ الكبير من الشاب الصغير، كما أنه ليس أقرب إلى المريض من الصحيح، فرب شاب اختطفه الموت بين يوم وآخر. فإذا نزل المرض بالإنسان، كان تذكر الموت له آكد، وأخذ الاستعداد له ألزم وأهم. ما يطلب فعله بالمسلم حين احتضاره: الاحتضار: هو ظهور دلائل الموت على المريض، وبدء السكرات أي نزع الروح من جسده. 1 - فإذا وصل المريض إلى درجة الاحتضار، ندب لأله أن يضجعونه على جنبه الأيمن متجهاً بوجهه إلى القبلة، فإن صعب ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 أضجعوه على قفاه وجعلوا وجهه مرفوعاً قليلاً بحيث يوجه إلى القبلة، وكذا أخمصاه، وهما أسفل الرجل، يسن توجيهها إلى القبلة. 2 - يسن أن يلقن الشهادة وهي كلمة " لا إله إلا الله " بشكل رفيق وبدون إلحاح، وذلك بأن يردد على سمعه كلمة لا إله إلا الله، دون أن يأمره بقولها، لخير مسلم (916، 917) " لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله ". 3 - يسن أن يقرأ عنده سورة يس لحديث: " اقرءوا على موتاكم يس" (رواه أبو داود: 3121؛ وابن حبان: 720، وصححه)، والمقصود بموتاكم من قد حصره الموت. 4 - يسن للمريض الذي شعر بنذير الموت وسكراته ن يحسن ظنه بالله تعالى، وأن يلقي صور آثامه ومعاصيه وراء ظهره، متصوراً أنه يقبل على رب كريم يغفر له الذنوب كلها، ما دام محافظاً على إيمانه وتوحيده، له، للحديث الصحيح: " أنا عند ظن عبدي بي" (رواه البخاري: 6870؛ ومسلم: 2675). ما يطلبه فعله بالمسلم عقب موته: إذا مات وفاضت روحه، ندب تنفيذ الأمور التالية: 1 - تغميض عينيه، وشد لحييه بعصابة، ولئلا يبقى فمه مفتوحاً. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على أبي سلمة - رضي الله عنه - عنه وقد شق بصره - أي شخص فأغمضه. (رواه مسلم: 920). 2 - تليين مفاصله، ورد كل منها إلى مكانه، بأن يلين ساعده ثم يمده إلى عضده وكذلك رجليه وبقية أعضائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 3 - وضع شئ ثقيل على بطنه، كي لا ينتفخ، فيقبح منظره، كما يندب ستر جميع بدنه بثوب خفيف. 4 - يسن نزع جميع ثيابه منه، ووضعه على سريره ونحوه مما هو مرتفع عن الأرض، وتوجيهه للقبلة كساعة الاحتضار، وليتول فعل ذلك أرفق محارمه به. ما يجب فعله إذا فارق الإنسان الحياة وتحقق موته: يندب المبادرة فوراً إلى تجهيزه، أي إلى غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه. وهذه الأربعة أجمع المسلمون على أنها فروض كفاية، تتعلق بجميع المسلمين من أهل البلدة، إذا لم يقم أحد منهم بها أثم الجميع. 1 - غسل الميت: وأول أعمال التجهيز هو الغسل وله كيفيتان: الكيفية الأولى: وهي أقل ما يتحقق به معنى الغسل ويرتفع به الإثم، هي: أن يزال ما قد يكون على جسمه من النجاسة، ثم يعمم سائر بدنه بالماء. الكيفية الثانية: وهي أكمل ما تتحقق به السنة، أن يتبع غاسله ما يلي: أولاً: يوضع الميت في مكان خال على مرتفع كلوح ونحوه، وتستر عورته بقميص أو نحوه. ثانياً: يجلسه الغاسل على المغتسل مائلاً إلى الوراء، ويسند رأسه بيده اليمنى، ويمر بيده اليسرى على بطنه بتحامل وشده ليخرج ما قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 يكون فيه، ثم يلف يده اليسرى بخرقة أو قفاز ويغسل سوأتيه، ثم يتعهد فمه ومنخريه فينظفها، ثم يوضئه كما يتوضأ الحي. ثالثاً: يغسل رأسه ووجهه بصابون ونحوه من المنظفات، ويسرح شعره إن كان له شعر، فإن نتف منه شئ أعاده إليه ليدفنه معه. رابعاً: يغسل كامل شقه الأيمن مما يلي وجهه، ثم شقه الأيسر مما يلي وجهه أيضاً، ثم يغسل شقه الأيمن مما يلي القفا ثم شقه الأيسر مما يلي القفا أيضاً، وبذلك يعمم جسمه كله بالماء. فهذه غسلة أولى، ويسن أن يكرر مثل هذه الغسلة مرتين أخريين، وبذلك يتم غسله ثلاث مرات، وليمزج بالماء شيئاً من الكافور في الغسلة الأخيرة، إذا كان الميت غير محرم. والدليل على ما سبق: ما رواه البخاري (156)؛ ومسلم (939)، عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نغسل ابنته فقال: " اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن، بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً، وشيئاً من كافور، وابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها". [صدر: ورق مدقوق لنوع من الشجر يستعمل في التنظيف. كافور: كمام النخل وهو زهره]. فإن كان محرماً، غسل كغيره، دون أن يمس كافوراً أو غيره مما له رائحة طيبة. روى البخاري (1208)، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً وقصه بعيره، ونحن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 واغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين، ولاتمسوه طيباً ولا تخمروا رأسه فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبداً وفي رواية ملبياً ". [وقصه: رواه على الأرض وداس عنقه. تخمروا: تغطوا. ملبداً: من التلبيد، والتلبيد: هو أن يجعل في شعره شيئاً من صمغ ونحوه عند الإحرام، ليلتصق بعض ببعض، فلا يتساقط منه شئ، ولا ينشأ فيه شئ من الحشرات كالقمل ونحوه. ملبياً: أي وهو يلبي كما كان عند موته]. ويجب أن يغسل الرجل والمرأة، كما يؤخذ من الأحاديث السابقة، إلا أن الرجل أن يغسل زوجته، وللزوجة أن تغسل الرجل إلا امرأة أجنبيه سقط الغسل، واستعيض عنه بالتيمم. واعلم أن غسل الميت إنما شرع تكريماً له وتنظيفاً، فهو واجب بالنسبة لكل ميت مسلم، إلا شهيد المعركة كما ستعلم. 2 - التكفين: أقل التكفين المطلوب أن يلفّ الميت بثوب يستر جميع بدنه، ورأسه إن كان غير محرم، والواجب ثوب يستر العورة على الأصح. وأكمله أن يُنْظر: فإن كان ذكراً، كفن في ثلاثة أثواب بيض، وتكون كلها لفائف طويلة على قدر طوله: عراضاً بحيث تلتف كل واحدة منها على جميع بدنه. فيكره أن يكفَّن بغير الأبيض كما يكره أن يكفن بما يشبه القميص، أو أن يستر رأْسه بما يشبه العمامة. لما رواه البخاري (1214)؛ ومسلم (941)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كُفِّنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 رسول الله في ثلاثة أثوابٍ بيضٍ سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة. [سحولية: ثياب بيض نقية لا تكون إلا من القطن، وقيل: منسوبة إلى بلد في اليمن]. ولما رواه الترمذي (994) وغيره: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " البسوا من ثيابكم البياض، فإنها خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم ". وإن كانت أنثى: ندب أن تكفن في خمسة أثواب بيض هي: إزار يستر من سرتها إلى أدنى جسمها، وخمار يستر رأسها، وقميص يستر أعلى جسمها إلى ما دون الإزار، ولفافتان تحتوي كل منهما على جميع جسدها. لما رواه أبو داود (3157) وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن تكفن ابنته أم كلثوم رضي الله عنها في ذلك. وهذا في غير المحرم كما علمت، فإن كان الميت محرماً وجب كشف رأْسه، لما مرّ من حديث الذي وقصته ناقته وهو محرم، ووجه المرأة المحرمة في هذا كرأْس الرجل. ويجب أن يكون قماش الكفن من جنس ما يجوز للميت لبسه لو كان حياً، فلا يجوز أن يكفن الذكر بالحرير البلدي. وينبغي أن يجعل على منافذ جسمه وأعضاء سجوده قطن عليه حنوط أو كافور، وتشد خرق على اللفائف، ثم تحلّ في القبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 3 - الصلاة على الميت: ودل على مشروعيتها: ما رواه البخاري (1188)؛ ومسلم (951)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، فخرج إلى المصلى، فصف بهم، وكبر أربعاً. ولا تصح إلا بعد غسله، وكيفيتها كما يلي: 1 - يكبر تكبيرة الإحرام ناويا ً الصلاة على الميت، وكيفية النية أن يخطر في باله: أن يصلي أربع تكبيرات على هذا الميت فرض كفاية. 2 - فإذا كبر، وضع يديه على صدره مثل الصلاة العادية، وقرأ الفاتحة. 3 - وإذا أتمّ الفاتحة كبر تكبيرة ثانية، رافعاً يديه إلى شحمة أذنيه، ثم وضع يديه مرة أخرى على صدره، وقرأ أي صيغة من صيغ الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأفضلها الصلاة الإبراهيمية التي مرت معك في أحكام الصلاة. 4 - ثم يكبر التكبيرة الثالثة، ويدعو للميت بعدها، وهو المقصود الأعظم من الصلاة على الميت. روى البخاري (1270)، عن طلحة بن عبدالله بن عوف قال: صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما على جنازةٍ، فقرأ بفاتحة الكتاب، فقال: ليعلموا أنها سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وروى النسائي (4/ 57)) بإسناد صحيح عن أبي أمامة بن سهل - رضي الله عنه - أنه أخبره رجل من اًصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سراً في نفسه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات، ولا يقرأ في شئ منهن، ثم يسلم سراً في نفسه. وأقل الدعاء أن يقول: اللهم ارحمه أو اغفر له. وأكمله أن يدعو له بالدعاء المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: فيدعو أولاً بهذا الدعاء: " اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان" (رواه الترمذي: 1024؛ وأبو داود: 3201). ثم يقول: " اللهم هذا عبدك وابن عبديك .. وإن كانت أنثى قال: اللهم هذه أمتك وابنة أمتك، خرج من روح الدنيا وسعتها، ومحبوبه وأحبائه فيها، إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه، كان يشهد أن لا إله إلا الله أنت وحدك وأن محمداً عبدك ورسولك، وأنت أعلم به منَّا. اللهم إنه نزل بك وأنت خير منزول به، وأصبح فقيراً إلى رحمتك، وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك، شفعاء له. اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه، ولقه برحمتك رضاك، وقه فتنة القبر وعذابه وأفسح له في قبره، وجاف الأرض عن جنبيه، ولقه برحمتك الأمن من عذابك، حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين". فإن كان الميت طفلاً قال بدلاً من هذا الدعاء الثاني: " اللهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 اجعله فرطاً لأبويه وسلفاً وذخراً وعظة واعتباراً وشفيعاً. وثقل به موازينهما وأفرغ الصبر على قلوبهما ولا تفتنهما بعده ولا تحرمهما أجره". وهذه الأدعية التقطها الشافعي رحمه الله تعالى من مجموع الأخبار، وربما ذكرها بالمعنى، واستحسنها أصحابه, وأصح حديث في الباب ما رواه مسلم (963) عن عوف بن مالك - رضي الله عنه - قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة، فسمعته يقول: " اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، وأبدل له داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وقه فتنة القبر وعذاب النار". قال عوف: فتمنين أن لو كنت أنا الميت، لدعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - على هذا الميت. [عافه: خلصه مما يكره]. 5 - ثم يكبر التكبيرة الرابعة ويقول بعدها: " اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله". (رواه أبو داود: 3201؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -). 6 - ثم يسلم تسليمتين عن يمينه ويساره كل تسليمة كتسليمة الصلوات الأخرى. روى البيهقي (4/ 43) بإسناد جيد، عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة. وأنت تلاحظ مما ذكرنا أن الصلاة على الميت كلها من قيام، فلا ركوع فيها ولا سجود ولا جلوس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 4 - دفن الميت: أقل ما يجب في دفن الميت أن يدفن في حفرة تمنع انتشار رائحته وتمنع تسلط السباع عليه، مستقبلاً فيها القبلة. وأكمل ذلك أن يتبع فيه ما يلي: 1 - أن يدفعن في قبر بعمق قدر قامة الرجل المعتدل وبسطة يديه إلى الأعلى، وأن يوسع قدر زراع وشبر. روى أبو داود (3215) والترمذي (1713) وقال: حسن صحيح، عن هشام بن عامر - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في قتلى أحد: " احفروا وأوسعوا وأحسنوا ". 2 - يجب أن يضجع على يمينه وأن يوجه إلى القبلة، بحيث لو لم يوجه إلى القبلة وردم عليه التراب، وجب نبش القبر وتوجيهه إلى القبلة، إن لم يقدر أنه قد تغير. ويندب أن يلصق خده بالأرض. 3 - يسن أن يكون القبر لحدا إن كانت الأرض صلبة لخبر مسلم (966) عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أنه قال: في مرض موته: ألحدوا لي لحداً وانصبوا علي اللبن نصباً، كما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واللحد تجويف يفتح في الجدار القبلي للقبر، بمقدار ما يسع الميت، فيوضع الميت فيه، ثم يسدّ فم هذا التجويف بحجارة رقاق كي لا ينهال عليه التراب. فإن كانت الأرض رخوة ندب أن يكون القبر شقًاَ. والمقصود به شقِّ في أسفل أرض القبر بمقدار ما يسع الميت، ويبني طرفاه بلبنٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 أو نحوه، فيوضع الميت فيه، ثم يسقف الشق من فوقه بحجارة رقاق، ثم يهال فوقه التراب. 4 - يسنّ أن يسلّ الميت من قبل رأسه، بعد أ، يوضع عند أسفل القبر، ويمدد برفق في القبر. 5 - روى أبو داود (3211) بإسناد صحيح أن عبدالله بن يزيد الخطميّ الصحابيّ - رضي الله عنه -، ادخل الحارث القبر من قبل رجلي القبر وقال: هذا من السنة. ويسن أن يدخل القبر لتسويته أقرب الناس إليه من الذكور، وأن يقول الذي يلحده: " بسم الله وعلى سنَّة رسول الله " للإتباع. روى أبو داود (3213) والترمذي (1046) وحسَّنه: عن ابن عمر رضي عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا وضع الميت في القبر قال: " بسم الله، وعلى سنة رسول الله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 تشييع الجنازة (آدابها وبدعها) حكم تشييع الجنازة للرجال والنساء: اتباع الجنازة وتشييعها إلى القبر مستحب للرجال، لما رواه البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتباع الجنازة، وعيادة المريض، وتشميت العاطس، وإجابة الداعي، ونصرة المظلوم. (رواه البخاري: 1182). ويستحب أن لا ينصرف عائداً إلا بعد أن يدفن الميت، روى البخاري (1261) ومسلم (945) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهد حتى تدفن كان له قيراطان". قبل: وما القيراطان؟ قال: " مثل الجبلين العظيمين". أي من الأجر. أما النساء فلا يستحب لهن ذلك، بل هو خلاف السنة، وخلاف وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لما رواه البخاري (1219) ومسلم (938) عن أم عطية رضي الله عنها قالت: نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا. أي لم يشدد علينا في النهي ولم يحرم علينا الاتباع. ولما رواه ابن ماجه عن علي رضي الله عنه قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا نسوة جلوس، فقال: " ما يجلسكن"؟ قلن: ننتظر الجنازة. قال: " هل تغسلن "؟ قلن: لا. قال: " هل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 تحملن"؟ قلن: لا. قال: ... " هل تدلين فيمن يدلي؟ " - أي هل تنزلن الميت في القبر؟ - فلن: لا. قال: " فارجعن مأزورات غير مأجورات" أي عليكن إثم، وليس لكن أجر، في اتباعكنّ الجنازة وحضور الدفن. ومن آداب تشييع الجنازة الأمور التالية: 1 - أن يشيعها ماشياً، فإن أحبَ أن يركب في العودة فلا بأس. روى البخاري (3177) عن ثوبان - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بدابة، وهو مع الجنازة، فأبى أن يركبها. فلما انصرف أتى بدابة فركب، فقيل له، فقال: " إن الملائكة كانت تمشي، فلما أكن لأركب وهم يمشون، فلما ذهبوا ركبت". وحمل هذا على الندب، لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه ركب في بعض أحيانه. روى مسلم (965) عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: " صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابن الدحداح، ثم أتى بفرس عري، فعقله رجل فركبه، فجعل يتوقص به ونحن نتبعه، نسعى خلفه. [عري: لا سرج له. فعقله: أمسكه له. يتوقص: يتوثب. نسعى: نمشي بسرعة]. 2 - يحرم حمل الجنازة على هيئة مزرية أو يخاف منها السقوط، ويسن ان تحمل في تابوت، لا سيما إذا كانت امرأة، رعاية لتكريم الله تعالى للإنسان. 3 - يكره اللغط اثناء تشييع الجنازة، بل يسنّ أن لا يرفع صوته بقراءة ولا بذكر ولا غيرهما، وليستعض عن ذلك بالتفكر في الموت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 والتأمل في عاقبة أمره. لحديث أبي داود (3171) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار". 4 - الأفضل أن يمشي المشيعون أمام الجنازة على مقربة منها، لأنهم شفعاء لها عند الله عز وجل، فناسب أن يكونوا في مقدمتها. روى أبو داود (3179) وغيره، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة. وروى أيضاً (3180) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي خلفها وأمامها، وعن يمينها وعن يسارها، قريباً منها. 5 - لا مانع من أن يشيع المسلم جنازة قريبه الكافر، ولا كراهة في ذلك. 6 - تسن تعزية أهل الميت خلال ثلاث أيام من الموت، لما رواه ابن ماجه (1601) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من مسلم يعزي أخاه بمصيبة إلا مساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة". [يعزي أخاه: يحثه على الصبر ويواسيه بمثل قوله: أعظم الله أجرك]. وتكره بعد ثلاثة أيام إلا لمسافر، لأن الحزن ينتهي بها غالباً فلا يستحسن تجديده. كما يكره تكرارها، والأولى أن تكون بعد الدفن لاشتغال أهل الميت بتجهيزه، إلا إن اشتد حزنهم فتقديمها أولى، مواساة لهم. وصيغتها المندوبة: " أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك، وعوضك الله عن مصيبتك خيراً ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 بدع الجنائز: 1 - كل ما يخالف آداب التشييع التي ذكرناها فهي بدعّ ينبغي التحرز منها، كتشييع الجنازة راكباً، وكرفع الأصوات معها. 2 - حمل الأكاليل ونحوها مع الجنازة، فهي بدعةٌ محرمةٌ، تسللت إلى المسلمين تقليداً لعادات الكافرين في مراسيم جنائزهم، وفيها ما فيها من إضاعة المال دون فائدة، والمفاخرة والمباهاة. 3 - القبور التي تحفر وتبني بطريقة مخالفة لما ذكرناه من ضابط عمق القبر واتساعه، وأفضلية اللحد ثم الشقّ. 4 - يكره تشييد القبور، داخلها أو ظاهرها، بكل ما دخل فيه النار كالإسمنت والجص ونحوهما. روى مسلم (970)، عن جابر - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر. وهو أن يوضع عليه الجص، وهو ما يسمى بالجبصين، فإن بني الرخام ونحوه كان حراماً، لمخالفته الشديدة لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولما في ذلك من إضاعة المال المنهي عنه شرعاً، وما فيه من المباهاة والمفاخرة المقيتة في دين الله عز وجل. 5 - يكره كراهية تحريم تسنيم القبور والبناء عليها، على النحو الذي يفعله كثير من الناس اليوم، والسنَّة أن لا يرفع القبر عن الأرض أكثر من شبر واحد، للنهي عن كل ذلك. روى مسلم (969) وغيره، أن على بن أبي طالي - رضي الله عنه - قال لأبي الهياج الأسدي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 [تمثالاً: صورة، والمراد هنا ما كان لذي روح. طمسته: محوته أو درسته. مشرفاً: مرتفعاً. سويته: مع الأرض بارتفاع قليل]. 6 - الندب على الميت بتعديل شمائله- كأن يقول: واكهفاه واعظيماه - والنياحة، وهي كل فعل أو قول يتضمن إظهار الجزع، كضرب الصدر وشق الجيب ونحو ذلك. فذلك كله حرام، نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه بأحاديث صحيحة وعبارات حاسمة، لما فيه من منافاة للانقياد والاستسلام لقضاء الله تعالى وقدره. روى مسلم (935) عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة، وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب ". أي يسلط على أعضائها الجرب والحكة بحيث يغطي بدنها تغطية الدرع وهو القميص. وفي معناه السربال. والقطران نوع من صمغ الأشجار، تطلي به الإبل إذا جربت. وروى البخاري (1232) عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية ". [لطم: ضرب. الجيوب: جمع جيب، وهو فتحة الثوب من جهة العنق، أي شق ثيابه من ناحية الجيب. بدعوى الجاهلية: قال ما كان يقوله أهل الجاهلية، مثل: واعضداه، يا سند البيت، ونحوها]. ولا بأس في البكاء الطبيعي الناشئ عن العاطفة ورقة القلب. روى البخاري (1241) ومسلم (2315، 2316): أنه - صلى الله عليه وسلم - بكى على ولده إبراهيم قبل موته، لما رآه يجود بنفسه، وقال: " إن العين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون". وروى مسلم (976) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله. 7 - انشغال أهل الميت بصنع الطعام وجمع الناس عليه، كما هو المعتاد في هذا العصر، بدعة تناقض السنة وتخالفها مخالفة شديدة. وإنما السنة عكس ذلك، أي أن يقوم بعض المشيعين بتحضير الطعام وإرساله إلى أهل الميت، أو جمعهم عليه في بيت الداعي، ويستحب أن يكون كثيراً بحيث يكفي أهل الميت يومهم وليلتهم. وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - لما جاء خبر قتل جعفر بن أبي طالب: " اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد جاءهم ما يشغلهم ". (رواه الترمذي: 998؛ وأبو داود: 3132 وغيرهما). ويحرم تهيئة الطعام للنائحات وأمثالهن، سواء كان ذلك من أهل الميت أم غيرهم، ذلك لأنه إعانة على معصية، وتحميس على الاستمرار فيها. ومن البدع ما يفعله أهل الميت من جمع الناس على الطعام بمناسبة ما يسمونه بمرور الأربعين ونحوه. وإذا كانت نفقة هذه الأطعمة من مال الورثة وفيهم قاصرون - أي غير بالغين - كان هذا الفعل من أشد المحرمات؛ لأنه أكل لمال اليتيم وإضاعة له في غير مصلحته. ويشترك في ارتكاب الحرمة كل من الداعي والآكل. 8 - قراءة القرآن في محافل رسمية للتعزية، على النحو الذي يتم اليوم، فهي أيضاً بدعة. وإنما تسن تعزية أهل الميت خلال ثلاثة أيام من موته اتفاقاً، أي دون أن يعد أقارب الميت العدة لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 حكم السقط والشهيد: والسقط: هو الولد النازل قبل تمامه. والشهيد: هو الذي يقتل في معركة تدار دفاعاً عن الإسلام، ولرفع لوائه. * فأما السقط فله حالتان: الحالة الأولى: أن لا يصيح عند الولادة، فإن لم يكن قد بلغ حمله أربعة أشهر بعد، لم يجب غسله ولا تكفيه ولا الصلاة عليه، ولكن يستحب تكفينه بخرقة والدفن دون الصلاة. الحالة الثانية: أن يصيح عند الولادة، أو يتيقن حياته باختلاج ونحوه، فيجب في حقه الصلاة مع جميع ما ذكر، لا فرق بينه وبين الكبير. روى الترمذي (1032) وغيره، عن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا استهل السقط صلى عليه وورث ". [استهل: من الاستهلال وهو الصياح أو العطاس أو حركة يعلم بها حياته]. * وأما الشهيد: فلا يغسل، ولا يصلى عليه، ويسن تكفينه في ثيابه التي قتل بها. لما روه البخاري (1278)، عن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر في قتلى أحد بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فإن جرح في المعركة، وبقيت فيه حياة مستقرة بعد انتهاء القتال، ثم ما لم يعتبر شهيداً من حيث المعاملة الدنيوية، وغسل وصلى عليه كالعادة، ولو كان موته بالسراية من الجرح. والحكمة من أن التشهد لا يغسل ولا يصلى عليه: إبقاء أثر الشهادة عليهم، والتعظيم لهم باستغنائهم عن دعاء الناس لهم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفس محمد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء كهيئته حين كلم: اللون لون الدم والريح ريح مسك" (رواه البخاري: 235؛ ومسلم:: 1876) واللفظ له. [كلم: جرح. كهيئته: كحالته]. زيارة القبور: زيارة القبور التي دفن فيها مسلمون، مندوبة للرجال بالإجماع، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها". (رواه مسلم: 977)، وعند الترمذي (1054): " فإنها تذكر الآخرة". وقد مر معك حديث زيارته - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه. ولا يندب لها وقت محدد. أما النساء فيكره لهنّ زيارتها، لأنها مظنَّةٌ للتبرج والنواح ورفع الأصوات، روى أبو داود (3236) وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لعن الله زائرات القبور). ولكن يسن لهم زيارة قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وينبغي أن يلحق بذلك قبور بقية الأنبياء والصالحين، شريطة أن لا يكون تبرج واختلاط وازدحام والتصاق بالرجال، ورفع أصوات، مما هو مظنة الفتنة، وما أكثره في زيارتهن!!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 من آداب زيارة القبور: إذا دخل الزائر المقبرة، ندب له أن يسلم على الموتى قائلاً: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون". (رواه مسلم: 249). وليقرأ عندهم ما تيسر من القرآن، فإن الرحمة تنزل حيث يُقرأ القرآن، ثم ليدع لهم عقب القراءة، وليهدِ مثل ثواب تلاوته لأرواحهم، فإن الدعاء مرجو الإِجابة، وإذا استجيب الدعاء استفاد الميت من ثواب القراءة. والله أعلم. تم بحمد الله ********** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى الجزء الثاني في الزكاة والصيام والحج تأليف الدكتور مصطفي الخِنْ ... الدكتور مصطفي البُغا على الشربجي دار القلم دمشق بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فقد وعدنا فيما مضى أن نخرج الفقه الإسلامي في مختلف موضوعاته وأبوابه على شكل سلسلة، يضم كل جزء منها موضوعات متقاربة، وبعد أن أصدرنا الجزء الأول في أحكام (الطهارة والصلاة) رأينا من الإقبال عليه ـ ولله الحمد والمنة ـ ما شجعنا على متابعة عملنا، وزادنا حرصاً على بذل الجهد للوفاء بوعدنا. وها نحن أولاء نقدم للقراء الكرام من أبناء أمتنا الجزء الثاني ويحتوي على أحكام العبادات التالية (الزكاة ـ الصيام ـ الحج والعمرة)، ونرجوا الله سبحانه أن يوفقنا لإنجاز باقي أجزاء هذه السلسلة، التي سوف تنتظم الفقه الإسلامي في شتى موضوعاته إن شاء الله تعالى. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق، وهو نعم المولى ونعم النصير. دمشق في غزة محرم 1402 هـ المؤلفون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 {من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين} " حديث شريف " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 الزكاة أحكامها الفقهية وأدلتها وأسرارها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 الزكاة تمهيد 1ـ الإسلام دين التعاون والتكافل: إن الإسلام تنظيم كامل وشامل، أكرم الله الإنسان وشرفه به، لكي يعيش أياماً سعيدة في حياته على هذه الأرض، وسعادته إنما تتم بأن يهتدي إلى هويته أولاً، فيعرف أنه عبد مملوك لإله واحد متصف بكل صفات الكمال هو عز وجل، ثم بأن تتحقق من حوله أسباب عيش كريم يمكنه من ممارسة عبوديته له عز وجل، ولا تتوفر للإنسان أسباب عيش كريم إلا عن طريق التعاون والتكافل، على أساس من الاحترام المتبادل، ودون أن يكون ذلك ذريعة بيد أحد لظلم أو استغلال. والإسلام ـ من دون الشرائع الوضعية كلها ـ هو التنظيم الذي يحقق هذه الحاجة الأساسية والخطيرة للإنسان، في التئام مع فطرته وتصعيد لمزاياه ونفسيته. وهو يحقق هذه الحاجة من خلال نظام متكامل يبدأ بتقويم العقيدة، ثم تقويم النظرة إلى الكون والحياة، ثم تقويم الخلق، ثم وضع الضوابط المنظمة والمقومة للسلوك، ثم تغذية ذلك كله والدخول تحت سلطانه باقتناع وطواعية. وليست شريعة الزكاة إلا ضابطاً من جملة الضوابط الكثيرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 التي شرعا الله تعالى لتقويم السلوك الإنساني بما يتلاءم مع شروط السعادة للمجموعة الإنسانية بوصفها التركيبي المتآلف، وبوصفها أفراداً ينشد كل منهم كرامته وسعادته الشخصية في هذه الحياة. إن وظيفة الزكاة ـ في نظرة كلية شاملة ـ هي مراقبة الدخل الفردي أن لا يطغى في نموه على ميزان العدالة بين الأفراد، وأن يظل نموه خاضعاً لأساس الاكتفاء الذاتي للجميع، نلاحظ هذا في قوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه الذين كان يرسلهم إلى المدن والقبائل: " ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله " ... فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم " أخرجه البخاري (1331) ومسلم (19) وغيرهم. وهكذا الشريعة الإسلامية، لا تكل الفرد إلى جهده وطاقته الشخصية وحدها في تدبير أمر نفسه وتوفير أسباب اكتفائه، كما لا تكله إلى ضميره الإنساني وحده في مد يد التعاون العادل والتناصر الإنساني إلى أيدي إخوانه، بل إنها ترسي القواعد والنظم التي تمد جهد الفرد ونشاطه الذاتي بعون يضمن له كرامة العيش ومستوى الاكتفاء، وترسي التشريعات الكافية لمراقبة الضمير الفردي أن لا يتمرد وتطغيه نوازع البغي والأنانية، ولضبطه ضمن خط العدل والاستقامة مع الآخرين، ولسوف تبدوا لك هذه الحقيقة إن شاء الله تعالى من خلال سيرك في معرفة أحكام الزكاة، وكيفية جمعها وسبل توزيعها، وما إلى ذلك من الأحكام المتعلقة بهذا الركن الإسلامي العظيم وذي الأهمية البالغة. 2ـ معنى الزكاة: الزكاة: مأخوذة من زكا الشيء يزكو، أي زاد ونما، يقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 زكا الزرع وزكت التجارة، إذا زاد ونما كل منهما. كما أنها تستعمل بمعنى الطهارة، ومنه قوله تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا " (الشمس: 9) أي من طهرها ـ يعني النفس ـ من الأخلاق الرديئة. ثم استعملت الكلمة ـ في اصطلاح الشريعة الإسلامية ـ لقدر مخصوص من بعض أنواع المال، يجب صرفه لأصناف معينة من الناس، عند توفر شروط معينة سنتحدث عنها. وسمي هذا المال زكاة، لأن المال الأصلي ينمو ببركة إخراجها ودعاء الآخذ لها، ولأنها تكون بمثابة تطهير لسائر المال الباقي من الشبهة، وتخليص له من الحقوق المتعلقة به، وبشكل خاص حقوق ذوي الحاجة والفاقة. 3ـ تاريخ مشروعيتها: الصحيح أن مشروعية الزكاة كانت في السنة الثانية من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، قُبَيْل فرض صوم رمضان. 4ـ حكمها ودليلها: الزكاة ركن من أهم الأركان الإسلامية، ولها من الأدلة القطعية في دلالتها وثبوتها ما جعلها من الأحكام الواضحة، المعروفة من الدين بالضرورة، بحيث يكفر جاحدها: فدليلها من الكتاب: قوله تعالى: {أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} (البقرة: 43) والأمر بها مكرر في القرآن في آيات كثيرة، كما ورد ذكرها في اثنين وثلاثين موضعاً. ودليلها من السنة: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " بني الإسلام على خمس: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان " رواه البخاري (8) ومسلم (16) وغيرهما. وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه ـ الذي مر ذكره ـ لمعاذ - رضي الله عنه - عندما أرسله إلى اليمن: " ... فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ". والأحاديث في هذا كثيرة أيضاً. 5ـ حكمتها وفوائدها: للزكاة حكم وفوائد كثيرة يصعب حصرها جميعاً في هذا الكتاب الموجز، وهي في جملتها تعود لصالح المعطي والآخذ، لصالح الفرد والمجتمع، وإليك بعض هذه الحكم والفوائد: أولاً: من شأن الزكاة أن تعود المعطي على الكرم والبذل، وأن تقتلع من نفسه جذور الشح وعوامل البخل، وخصوصاً عندما يلمس بنفسه ثمرات ذلك، ويتنبه إلى أن الزكاة تزيد في المال أكثر مما تنقص منه، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: " ما نقصت صدقة من مال " مسلم: (2588) وكيف تنقصه؟! والله سبحانه يبارك له بسبب الصدقة بدفع المضرة عنه وكف تطلع الناس إليه، وتهيئة سبل الانتفاع به وتكثيره، إلى جانب الثواب العظيم الذي يترتب على الإنفاق ابتغاء مرضاة الله عز وجل. ثانيا: تقوي آصرة الأخوة والمحبة بينه وبين الآخرين، فإذا تصورت شيوع هذا الركن الإسلامي في المجتمع، وقيام كل مسلم وجبت الزكاة في ماله بأداء هذا الحق لمستحقيه، تصورت مدى الألفة التي يتكامل نسيجها بين فئات المسلمين وجماعاتهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 وأفرادهم، وبدون هذه الألفة لا يتم أي تماسك بين لبنات المجتمع، الذي من شأنه أن يكون متماسكاً قوياً كالبنيان، بل أن يكون متعاطفاً متوادداً كالجسد الواحد. ثالثا: من شأن الزكاة أن تحافظ على مستوى الكفاية لأفراد المجتمع، مهما وجدت ظروف وأسباب من شأنها تغذية الفوارق الاجتماعية، أو فتح منافذ الحاجة والفقر في المجتمع، إن الزكاة تعتبر بحق الضمانة الوحيدة لحماية المجتمع من أخطار الفوارق الاجتماعية الكبيرة بين أفراد الأمة، وأسباب الفقر والحاجة. رابعا: من شأن الزكاة أن تقضي على كثير من عوامل البطالة وأسبابها، فإن من أهم أسبابها الفقر الذي لا يجد معه الفقير قدراً أدنى من المال، ليفتح به مشروع صناعة أو عمل، ولكن شريعة الزكاة عندما تكون مطبقة على وجهها، فإن من حق الفقير أن يأخذ من مال الزكاة ما يكفيه للقيام بمشروع عمل، يتلاءم مع خبراته وكفاءته. خامساً: الزكاة هي السبيل الوحيد لتطهير القلوب من الأحقاد والحسد والضغائن، وهي أدران خطيرة لا تنتشر في المجتمع إلا عندما تختفي منه مظاهر التراحم والتعاون والتعاطف، وليست هذه المظاهر شعارات من الكلام، وإنما هي حقائق ينبغي أن يلمسها الشعور، وأن تتجلى ثمارها ملموسة بشكل مادي في المجتمع، فإذا طبقت الزكاة على وجهها برزت هذه الثمار جلية واضحة، وفعلت فعلها العجيب في تطهير النفوس من جميع الأحقاد والضغائن، وتآخي الناس على اختلاف درجاتهم في الثروة والغني، وصدق الله العظيم إذ يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: 103) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 حكم مانع الزكاة: أ - حكم من منعها منكراً لها: علمت أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، فهي ثالث الأركان بعد الشهادتين والصلاة، ولذلك اجمع العلماء على أن من جحدها وأنكر فرضيتها فقد كفر وارتد عن الإسلام، وكان حلال الدم إن لم يتب، وذلك لأنها من الأمور التي علمت فرضيتها بالضرورة، أي يعلم ذلك الخاص والعام من المسلمين، ولا يحتاج في ذلك إلى حجة أو برهان. قال النووي: رحمه الله تعالى: نقلاً عن الخطابي: (فإن من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافراً بإجماع المسلمين) ... وقال (استفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة، حتى عرفها الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل، فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئا مما أجمعت الأمة عليه من أمور الدين، إذا كان عمله منتشراً: كالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة، وتحريم الزنا، ونكاح ذوات المحارم، ونحوها من الأحكام). (شرح مسلم: 1/ 205) وقال ابن جحر العسقلاني ـ رحمه الله تعالى: (وأما أصل فرضية الزكاة فمن جحدها كفر) (فتح الباري: 3/ 262). ب - حكم من منعها بخلاً وشحاً: وأما من منع الزكاة، وهو معتقد بوجوبها ومقر بفرضيتها، فهو فاسق آثم يناله شديد العقاب في الآخرة، وحسبنا في هذا: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة: 34، 35) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما، موقوفاً ومرفوعاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كل ما أديت زكاته فليس بكنز ... وكل ما لا تؤدي زكاته فهو كنز " وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري (1338) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه ـ يعني شدقيه ـ ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك. ثم تلا: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الآية وتتمتها: {ِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} / آل عمران: 180 /. وفي هذا المعنى الكثير من الآيات والأحاديث. [مثل له: صير له. شجاعاً: ثعباناً. أقرع: لا شعر على رأسه لكثرة سمه وطول عمره. زبيبتان: نابان يخرجان من فمه، أو نقطتان سوداوان فوق عينيه، وهو أوحش ما يكون من الحيات وأخبثه. يطوقه: يُجعل في عنقه كالطوق. شدقيه: جانبي فمه. هو: أي بخلهم وعدم إنفاقهم. ولله ميراث: ملك ما يتوارث أهل السماوات والأرض من مال وغيره والمعنى: لم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونها في سبيله؟ ]. وأما في الدنيا فإنه تؤخذ منه قهراً عنه، وإن تعنت في ذلك وتصدى لمن يأخذها نوصب القتال من قبل الحاكم المسلم الذي يقيم شرع الله عز وجل، وهو مؤتمن عليه. والدليل على ما سبق من أحكام الزكاة: ما رواه البخاري (1335) ومسلم (20) عن أبي هريرة - رضي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 الله عنه - قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بكر - رضي الله عنه - وكفر من كفر من العرب، فقال عمر - رضي الله عنه -: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله". فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال. والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها. فقال عمر - رضي الله عنه -: فوالله ما هو إلا أن شرح الله صدر أبي بكر - رضي الله عنه - فعرفت أنه الحق. [عناقاً: الأنثى من ولد المعز التي لم تبلغ سنة. شرح الله صدر أبي بكر: أي لقتالهم. فعرفت أنه الحق: بما ظهر لي من الدليل الذي أقامه أبو بكر - رضي الله عنه -]. من تجب عليه الزكاة شروط وجوبها: إنما تجب الزكاة على من توفرت فيه الشروط التالية: 1ـ الإسلام: فلا تجب وجوب مطالبة في الدنيا على الكافر. دليل ذلك حديث معاذ - رضي الله عنه - وفيه: " ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ... فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة ... ". فقد رتب المطالبة بالزكاة على إجابتهم الدعوة ودخولهم في الإسلام أولاً، وكذلك: قول أبي بكر - رضي الله عنه - هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين. رواه البخاري (1386). فقوله: (على المسلمين) صريح في أن غير المسلم لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 يطالب بها في الدنيا. وهذا في زكاة المال، وأما زكاة الفطر: فإنها تلزم الكافر لحق غيره من أقاربه المسلمين، الذين تجب عليه نفقتهم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. 2ـ ملكية النصاب: وهو حد أدني من المال سيأتي بيانه، وتفصيل القول فيه والدليل عليه، عند الكلام عن كل نوع من الأموال التي تجب فيها الزكاة . 3ـ مرور حول قمري كامل على ملكية النصاب: فلا زكاة في المال مهما بلغ إلى بعد مرور عام كامل عليه، دلّ على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول " رواه أبو داود (1573). ويستثني من هذا الشرط الزروع والثمار والدفائن، فلا يشترط الحول من وجوب زكاة هذه الأموال، بل تجب فيها فور تحصيلها أو الحصول عليها، وسيأتي تفصيل القول في ذلك في مكانه إن شاء الله تعالى. الزكاة في مال الصبي والمجنون: من خلال بيان الشروط السابق ذكرها تعلم: أنه لا يشترط لوجوب الزكاة في المال بلوغ صاحبه ولا عقله ولا رشده. معنى وجوب الزكاة في ماليهما: وليس المعنى أن الصبي والمجنون مكلفان شرعاً بإخراج الزكاة من ماليهما بحيث لو لم يؤدها كل منهما عوقب يوم القيام، وإنما المعنى أن حق الزكاة متعلق بأموالهما إذا تكاملت فيها شرائطه، فيجب على ولي كل منهما أن يؤدي هذا الحق لأصحابه، بحيث لو قصر في ذلك الولي كان آثماً مستحقاً للعقوبة من الله عز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 وجل، فإن لم يكن له ولي، وجب ـ على الصبي بعد البلوغ، والمجنون بعد الإفاقة من الجنون ـ أن يخرج زكاة السنوات الماضية على أنها ذمة باقية لديه، إذا كانت شروط وجوبها متوفرة إذ ذاك. دليل وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون: أولاً: قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: 103). قوله تعالى: [وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ] (المعارج: 24، 25) فقد دلت الآيات على أن الله تعالى ملك عباده المال، وجعل فيه حقا لمن حرم منه، وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ هذا الحق من المال في وقته، ليكون طُهْرة له وحفظاً وتحصيناً، ولم يفرق الله عز وجل بين مالك وآخر، كما أنه سبحانه لم يخص مالاً دون مال. ثانيا: الحديث السابق ذكره، وهو ما رواه البخاري (1386) بسنده عن أبي بكر - رضي الله عنه - (هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين). فالمسلمون كلمة عامة، وهي تشمل البالغين وغير البالغين، والعقلاء وغيرهم، والأصل بقاء العام على عمومه، ما لم يرد دليل عن الشارع بتخصيصه. وأخرج الدارقطني في سننه (2/ 110) عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من وَلِيَ يتيماً له مال فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة ". [يتيما: هو من مات أبوه وهو دون البلوغ]. كما روى الشافعي رحمه الله تعالى في الأم [2/ 32 ـ 24] أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: {ابتغوا في أموال اليتامى حتى لا تذهبها أو تستهلكها الصدقة}. (ابتغوا: تاجروا). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 ووجه الاستدلال بالحديثين: أنهما يدلان على أن المال إذا ترك دون متاجرة أذهبته الصدقة واستهلكته، وإنما يكون ذلك بإخراج الصدقة منه، ولا يجوز إخراج الصدقة من مال الصبي إلا إذا كانت واجبة، إذ ليس لوليه أن يتبرع بماله، فدل ذلك على وجوب الصدقة ـ وهي الزكاة ـ في ماله. ويقاس المجنون على الصبي في هذا لأنه في حكمه. ثالثاً: روى مالك رحمه الله تعالى في الموطأ [1/ 251] عن عمر - رضي الله عنه - قال: (اتجروا في أموال اليتامى، لا تأكلها الصدقة). وروى الشافعي رحمه الله تعالى في الأم [2/ 23/ـ 24] عن عمر أيضاً: أنه قال لرجل: (إن عندنا مال يتيم قد أسرعت به الزكاة). ووجه الاستدلال بالأثرين هو وجه الاستدلال بالحديثين السابقين، ويؤيده ما رواه مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه قال: (كانت عائشة تليني وأخاً لي يتيمين في حجرها، فكانت تخرج من أموالنا الزكاة) [الزرقاني على الموطأ: 2/ 325]. رابعاً: القياس على زكاة الفطر، فإن الإجماع ثابت على وجوب زكاة الفطر عن الصغار والمجانين، فكما أن الصغر أو الجنون لم يمنع من وجوب زكاة الفطر عن بدن الصبي والمجنون، فينبغي أن لا يكون مانعاً في مال كل منهما، إذا تكاملت فيه شروط وجوب الزكاة. خامساً: المقصود من الزكاة سدُّ حاجة الفقراء وتطهير المال، بفرز حقوق المستحقين لجزئه منه، بقطع النظر عن صفة صاحب المال، ما دام أنه مسلم خاضع للنظام الإسلامي عموماً، فاقتضى ذلك تعلق الزكاة بمال كل من الصبي والمجنون، لاسيما وأن مال كل منهما قابل، لتعلق غرامة ذلك الشيء بماله، فالزكاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 مثلها، بجامع أن كلا منهما حق مالي يتعلق به. سادساً: ليست الزكاة عبادة بدنية محضة حتى تنطبق عليها شرائط التكليف، أو يتأثر وجوبها بنقص أهليه المكلف، وإنما هي عبادة تغلب فيها الناحية المالية، وأنها ضبط لجانب من جوانب العدالة الاقتصادية، وتحقق شامل للكفاية، فينبغي أن يستوي في الخضوع لذلك كل متملك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 الأموال التي تجب فيها الزكاة الأساس الذي يراعى في ذلك: إن الأساس الذي تتعلق بموجبه الزكاة بالأموال هو صفة النماء، فكل مال قابل للنمو والزيادة يتعلق به حق الزكاة، وكل ما لا يقبل النمو من الأموال الجامدة لا يتعلق به حق الزكاة. والحكمة من مراعاة هذا الأساس واضحة، فإن المال الجامد إذا وجبت فيه الزكاة لابد أن تستفيده الزكاة تقريباً خلال أربعين عاماً، فيكون في ذلك ضرر للمالك. أما المال القابل للنمو والزيادة: فإن الزكاة إنما تتعلق به تبعاً للنمو المتعلق به، فلا خوف على أصل المال من أن تقتضي عليه الزكاة، وإليك تعداد الأموال التي تجب فيها الزكاة بناءً على هذا الأصل. 1ـ النقدان: 1 - النقدان: والمقصود بهما: الذهب، والفضة، سواء كانا مضروبين أو كانا سبائك، كما أن المقصود بهما ما دخل تحت الملك حقيقة أو اعتباراً، أي سواء كان التعامل الفعلي بهما أو بأوراقٍ تقم مقامها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 وتعتبر سندات ذات ضمانة ثابتة بدفع ما ارتبطت به من القيمة الحقيقية، ذهباً أو فضة. والدليل على وجوب الزكاة في النقدين: قوله سبحانه وتعالى: {َالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التوبة: 34). والمقصود بالكنز حبس ما يتعلق به من الزكاة، والمال المكنوز هو المال الذي لم تؤد زكاته، فقد روى البخاري في صحيحه (1339) عن ابن عمر رضي الله عنهما، في تفسير هذه الآية، قال: من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له. وما رواه مسلم (987) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيري سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار ". [حقها: زكاتها]. أنواع الذهب والفضة التي تتعلق بها الزكاة: بناء على ما قد عرفت من المقصود بالنقدين فإن الزكاة تتعلق بأنواع من الذهب والفضة، نبينها لك فيما يلي: 1ـ الدراهم الفضية والدنانير الذهبية، وما هو في حكم محل منهما من الذهب أو الفضة. 2ـ السبائك من كل من الذهب والفضة. 3ـ الأواني والقطع الفضية والذهبية المعدة للاستعمال أو الزينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 لا زكاة في الحُلِيِّ ويستثني من النوع الثالث الحليي المباح، فلا زكاة فيه، كما إذا كان للمرأة حلى من ذهب أو فضة، ولم يكن بالغاً من الكثرة إلى حد السرف في عرف الناس، وكذلك خاتم الفضة للرجل، فلا تجب عليها الزكاة فيه , وذلك أن اعتبارهما حلياً يقضي على صفة النماء فيهما، ويحيلهما بإذن الشارع إلى مال جامد لا نمو فيه، وقد روى جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا زكاة في الحلي ". [البيهقي: 4/ 138، الدارقطني: 2/ 107]. ويقوي هذا ما روي من آثار عن الصحابة رضي الله عنهم، فقد روى مالك رحمه الله تعالى في الموطأ [1/ 250] أن عائشة رضي الله عنها كانت تلي بنات أخيها ـ يتامى في حجرها لهن الحلي، فلا تخرج من حليهن الزكاة. وأن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما كان يحلي بناته وجواريه الذهب، ثم لا يخرج من حليهن الزكاة. كما روى الشافعي رحمه الله تعالى في الأم [2/ 34 ـ 35]: أن رجلاً سأل جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن الحلي، أفيه زكاة؟ فقال: لا. وهذا بخلاف ما يدخل منهما في الاستعمال المحرم، كحلي الرجل ـ ما عدا الخاتم من الفضة ـ وكأدوات استعمال أو زينة في المنزل، فإن صفة النماء ـ وإن تكن قد سقطت عنه بسبب ذلك ـ إلا أن هذا السبب لما كان محرماً لم يكن لسقوط النماء عنه أي اعتبار. دليل التحريم: ما رواه البخاري (5110) ومسلم (2067) عن حذيفة بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 اليمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة ". [صحافها: جمع صحفة، وهي القصعة. لهم: الكفار]. وقيس على الأكل والشرب غيرهما من وجوه الاستعمال، كما يقاس على الاستعمال، كما يقاس على الاستعمال الاقتناء للزينة، لأنه يجر إلى الاستعمال، ولأنه أيضا لم يؤذن به، والأصل التحريم كما يشمل المنع الرجال والنساء على حد سواء. 2ـ الأنعام: وهي: الإبل، والبقر، والغنم، ويلحق بها المعز: ودل على وجوب الزكاة في هذه الأجناس: ما رواه البخاري (1386) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن أبا بكر - رضي الله عنه - كتب له كتاباً وبعثه به إلى البحرين، وفي أوله: (بسم اله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين، فمن سألها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سأل فوقها فلا يعط ... ) وهو حديث طويل فيه ذكر هذه الأجناس، وبيان أنصبتها، وما يجب فيها، وسيأتي بيان ذلك مفرقاً في مواضعه عند الكلام عن الأنصبة والنسبة التي تجب فيها. 3ـ الزروع والثمار: وإنما تجب الزكاة فيها إذا كانت مما يقتاته الناس في أحوالهم العادية، ويمكن ادخاره دون أن يفسد , وذلك من الثمار: الرطب والعنب، ومن الزروع: الحنطة، والشعير، والأرز، والعدس، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 والحمص، والذرة ... . إلخ، ولا عبرة بما يقتات به في أيام الشدة والحذب. دليل وجوب الزكاة فيها: قول الله تعالى: "كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ " الأنعام: 141. ونقل عن ابن عباس - رضي الله عنه - حقه: إخراج زكاته. وقوله تعالى: {أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} / البقرة: 267 /، وهناك أدلة أخرى تأتي في مواضعها إن شاء الله تعالى. ودليل اختصاصها بما ذكر: ما رواه أبو داود (1603) وحسنه الترمذي (644) عن عتاب بن أسيد - رضي الله عنه - قال: " أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرص العنب كما يخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيباً، كما تؤخذ صدقة النخل تمراً " والخرص: تقدير ما يكون من الرطب تمراً، ومن العنب زبيباً. وروى الحاكم بإسناد صحيح: عن أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بعثها إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم وقال لهما: " لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر ". وروى أيضا عن معاذ - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وأما القثاء، والبطيخ، والرمان، والقضب، فقد عفا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وهذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد حكم الحافظ الذهبي أيضاً بصحته. [المستدرك: 1/ 401]. القضب: النبات الذي يقطع ويؤكل طربا ً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 وقيس على الحنطة والشعير كل ما يقتات به غالباً، لأن الاقتيات ضروري للحياة، فجب فيها حق لأصحاب الضرورات والحاجات. 4ـ عروض التجارة: والمقصود بالتجارة تقليب المال بالمعاوضة لغرض الربح، وهي لا تختص بنوع معين من المال، والعروض هي السلع التي تقلب الأيدي بغرض الربح. دليل وجوب الزكاة في أموال عروض التجارة: قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} / البقرة: 267 /، قال مجاهد: نزلت الآية في التجارة، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقتها " رواه الحاكم [المستدرك: 1/ 388] بإسناد صحيح على شرط الشيخين. (1) والبز: هو الثياب المعدة للبيع عند البزازين، فتقاس عليه كل الأموال المعدة للتجارة. وروى أبو داود (1562)، عن سمرة بن جندب قال: (أما بعد، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع). والمراد بالصدقة الزكاة.   (1) قال النووي في المجموع: (وفي البز) هو بفتح الباء وبالزاي، هكذا رواه جميع الرواة، وصرح بالزاي الدارقطني والبيهقي. نقول، والذي رأيناه في المستدرك بالراء لا بالزاي، على أن النووي ذكره بالزاي وقال عنه: أخرجه الحاكم أبو عبدالله في المستدرك. فلعل هناك نسخاً أخرى برواية الزاي نقل عنها النووي رحمه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 شروط وجوب الزكاة في العروض: لا تصبح السلع المملوكة عروض تجارة تجب فيها الزكاة إلا بشرطين: 1ـ أن يملكه بعقد فيه عوض، كالبيع والإجازة والمهر ونحو ذلك، فلو ملكه بإرث أو وصية أو هبة، فلا يصير عرضا تجارياً. 2ـ أن ينوي عند تملكه المتاجرة به، وأن تستمر هذه النية، فإذا لم ينو عند تملكه المتاجرة لا يصبح عرضاً تجارياً حتى ولو نوى المتاجرة بعد ذلك، وكذلك إذا اشتراه بنية التجارة، ثم نوى أن يبقيه تحت ملكه ولا يتاجر به، أي أن يتخذه قنية، فإنه يسقط تعلق الزكاة به. المعدن والركاز: المقصود بهما الذهب والفضة المستخرجان من باطن الأرض. فإن استخرج من معدنه تصفية واستخلاصاً مما قد علق به فهو المقصود بالمعدن، وإن كان دفيناً يرجع إلى ما قبل الإسلام فهو الركاز. أما ما ثبت أنه مدفون في عهد الإسلام فهو من الأموال الضائعة، ولها أحكام خاصة بها تفصل في باب اللقطة. دليل وجوب الزكاة في المعدن: ما رواه البيهقي: أنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ من المعادن القبلية الصدقة. والقبلية: نسبة إلى قبل ـ بفتح القاف ـ ناحية من قرية بين مكة والمدينة اسمها الفرع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 قال النووي رحمه الله تعالى: قال أصبحنا: أجمعت الأمة على وجوب الزكاة في المعدن. [المجموع: 6/ 73، 74]. أما دليل وجوب الزكاة في الركاز: فهو ما رواه البخاري (1428) ومسلم (1710) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "وفي الركاز الخمس ". لفت نظر: إن الركاز والمعدن ليسا ـ كما قد علمت ـ شيئاً آخر غير الذهب والفضة، ومع ذلك فقد اعتبرناهما نوعاً مستقلاً برأسه من أموال الزكاة بسبب ما يتعلق بهما من أحكام خاصة بهما، سواء بما يتعلق باشتراط الحول، أو بالنسبة المئوية التي يجب دفعها ـ وستعلم هذه الأحكام فيما بعد ـ فمن أجل ذلك اعتبرا نوعاً مستقلاً من أنواع الأموال الزكوية، وإن كانا داخلين في الحقيقة تحت الذهب والفضة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 الأنصبة وشروطها وما يجب فيها قد عرفت الأموال الزكوية وعرفت أنواعها. فأما الأنصبة: فهي جمع نصاب، والنصاب: هو الحد الأدني الذي يعتبر وجوده شرطاً لتعلق الزكاة بالمال. فإن لم تبلغ كميته في ملك المكلف هذا الحد لم تجب الزكاة عليه. ولكل نوع من أنواع الزكاة نصاب خاص به، فلنستعرض هذه الأنصبة كلا على حدة: أولاً: نصاب النقدين (الذهب والفضة): لا زكاة في الذهب حتى يبلغ قدره عشرين مثقالاً، فهذا هو نصاب الذهب، ولا زكاة في الفضة حتى تبلغ مائتي درهم، فهذا هو نصاب الفضة. ودليل ذلك: ما رواه أبو داود (1573) عن على بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " إذا كانت لك مائتا درهم، وحال عليها الحول، ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء ـ يعني في الذهب ـ حتى يكون لك عشرون ديناراً، فإذا كان لك عشرون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 ديناراً، وحال عليها الحول ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك ". وقوله - صلى الله عليه وسلم - " ليس فيما دون خمس أوراق من الوَرِق صدقة " رواه البخاري (1413) ومسلم (980) واللفظ له. [الوَرِق: الفضة، وأواق: جمع أوقية، وهي أربعون درهماً] ما هو المثقال: إن المعروف لدينا الآن نوعان من المثاقيل: أحدهما المثقال العجمي، وهو يساوي أربع غرامات وثمانية أعشار الغرام، والعشرون مثقالاً تساوي إذاً ستاً وتسعين غراماً. وثانيهما المثقال العراقي: وهو يساوي خمسة غرامات، فالعشرون مثقالاً تساوي إذاً مائة غرام. والاحتياط في الأمر أن نعتمد الأقل، وهو المقدار الأول، حرصاً على مصلحة الفقير، وبذلك يكون نصاب الذهب ستة وتسعين غراماً. فإذا كانت قيمة الغرام الواحد من الذهب اليوم خمس عشرة ليرة سورية مثلاً، فإن نصاب الزكاة من الذهب هو حاصل ضرب النصاب بسعر الغرام ن ويساوي: ألفاً وأربعمائة وأربعين ليرة سورية. وهكذا إذا اختلف سعر الذهب اختلافا عادياً ننظر إلى سعره، ولا ينظر إلى سعره في الأحوال غير العادية. ما هو الدرهم: من المتفق عليه أن كل عشرة دراهم تساوي في الوزن سبعة مثاقيل، أي فهي تساوي ثلاثة وثلاثين غراماً وستة أعشار الغرام، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 على التقدير الأول الذي اعتمدناه، فمائتا درهم تساوي إذاً ستمائة واثنين وسبعين غراماً من الفضة. ويبدو من التحقيق التاريخي أن قيمة مائتي درهم من الفضة كانت تساوي في صدر الإسلام عشرين مثقالاً من الذهب، وعلى هذا الأساس كان كل منهما نصاباً لوجوب الزكاة. ثم إن التفاوت طرأ على قيمتها فيما بعد، بسبب اختلاف قيمة الذهب، فأصبحت قيمة عشرين مثقالاً من الذهب تزيد كثيراً على قيمة مائتي درهم من الفضة، كما هو الواقع الآن. وعلى كل: فإن الذي يملك أوراقاً نقدية، له أن يعتبرها عوضا عن ذهب، فلا يتعلق حق الزكاة بها حتى تبلغ قيمة ستة وتسعين غراماً من الذهب. وله إذا شاء أن يعتبرها عوضاً عن فضة، فتتعلق بها الزكاة، بمجرد أن يبلغ ما في ملكة منها قيمة ستمائة واثنين وسبعين غراماً. والاحتياط في الدين أن يأخذ بما هو أصلح للفقير، ويقدرها بالأقل قيمة، حتى يكون على يقين من براءة ذمته عند الله عز وجل، فإذا كان تقديرها بالفضة يجعل النصاب أقل من تقديرها بالذهب قدرها بها، حتى تجب عليه الزكاة ويؤديها. شرط وجوب الزكاة في نصاب النقدين حَوَلان الحَوْل: إذا تكامل نصاب الذهب أو الفضة، على نحو ما أوضحنا، اشترط في وجوب الزكاة فيه أن يمر على تملك المكلف له، حول قمري كامل دون أن ينزل المال عن الحد الأدني منه. ودليل ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود (1573) -" ليس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 في مال زكاة حتى يحول عليه الحول" أي حتى يمضي على تملكه عام قمري. وحديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي ذكرنا نصه عند الكلام عن نصاب النقدين. فإن هبطت كمية المال عن الحد الأدنى من النصاب المعتبر، ولو خلال يوم أو ساعة واحدة من السنة، ثم ازداد المال وارتفع مرة أخرى إلى حد النصاب، ألغي التاريخ السابق لملكية النصاب، وسجل تاريخ جديد لحصوله وتجمعه، واستؤنفت الحول من حين يكمل النصاب. (1) النسبة الواجبة في زكاة النقدين: إذا ملك المكلف نصاب أحد النقدين أو ما يزيد عليه، ومر عليه عام قمري بشرطه السابق، وجب عليه أن يخرج من مجموع المال الذي حال عليه الحول في ملكه رُبْع عُشْره، أي نسبة اثنين ونصف في المائة منه. دليل ذلك: حديث علي - رضي الله عنه - الذي مر ذكره. ما جاء في كتاب أبي بكر - رضي الله عنه - في الرقة ربع العشر. والرقة: الفضة.   (1) مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى: أن العبرة بوجود النصاب أول الحول وأخره، ولا يؤثر نقصه بينهما، ولعل الأنفع للمستحقين، والأورع للمالكين أن يأخذوا بهذا، ولا مخالفة فيه لمذهب الشافعي رحمه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 استبدال أموال الزكاة أو التصرف فيها: لا خلاف أن زكاة النقد إنما تخرج نقداً، ولا يصح للمالك أن يخرج بدلها سلعاً تساوي قيمتها المقدار الواجب فيها. وإذا دفعها المالك لغيره، من حاكم أو وكيل أو غيره، فليس لهؤلاء أن يتصرفوا فيها تصرفاً يخرجها عن طبيعتها قبل إيصالها إلى مستحقيها. قال النووي رحمه الله تعالى: (قال أصحابنا: لا يجوز للإمام ولا للساعي بيع شيء من مال الزكاة من غير ضرورة، بل يوصلها إلى المستحقين بأعيانها، لأن أهل الزكاة أهل رشد لا ولاية عليهم، فلم يجز بيع ما لهم بغير إذنهم) المجموع [6: 176] وهذه الضرورة التي ذكرها النووي رحمه الله تعالى: كما إذا خاف على الزكاة الواجبة تلفاً أو فساداً إذا أبقاها حتى تصل إلى مستحقيها، أو احتاج إلى مؤونة في نقلها، فباع جزءاً منها لذلك. وعليه: تلفت نظر المشرفين المخلصين على الجمعيات الخيرية إلى أنه: لا يجوز لهم أن يتصرفوا بما يدفع إليهم من أموال على أنها زكاة فيشتروا بها سلعاً غذائية وغيرها، يعطونها للمستحقين، بحجة الإشفاق عليهم ورعاية مصلحتهم، حتى لا يأخذوا الأموال ويتصرفوا بها تصرفاً ليس في صالحهم وصالح أولادهم وعيالهم. ونحن ننصح لهؤلاء المخلصين، إذا كانوا حريصين على الأجر والثواب، أن لا ينصبوا أنفسهم مشرعين، وأن لا يصوروا المصلحة في شرع الله تعالى كما يبدو لهم، وأن لا يجعلوا من أنفسهم أولياء على من لم يجعل الله عز وجل لهم ولاية عليهم، وأن يلتزموا ما نقله النووي رحمه الله تعالى عن العلماء الأجلة: من أن أهل الزكاة أهل رشد لا ولاية عليهم، فلا يجوز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 التصرف فيما وكلنا بأدائه إليهم بغير إذنهم، وإنما يعتبر إذنهم بعد أن يدفع إليهم حقهم، ويحوزوه بأنفسهم، ويدخل في قبضة يدهم. قال النووي رحمه الله تعالى: قال أصحابنا: ولو وجبت ناقة أو بقرة أو شاة واحدة، فليس للمالك بيعها وتفرقة ثمنها على الأصناف بلا خلاف، بل يجمعهم ويدفعها إليهم، وكذا حكم الأمام عند الجمهور. [المجموع: 6/ 178] وينبغي أن لا يغيب عن ذهننا أن الزكاة عبادة، والعبادة لا محل فيها للرأي والاجتهاد إلا بحدود ضيقة، ولذا يقف فيها الفقهاء عند النصوص، ولا ينظرون إلى ما قد يتوهم من مصلحة في مخالفتها. قال النووي رحمه الله تعالى: (وقال إمام الحرمين: المعتمد في الدليل لأصحابنا أن الزكاة قربة لله تعالى، وكل ما كان ذلك فسبيله أن يتبع فيه أمر الله تعالى، ولو قال إنسان لوكيله: اشتر ثوباً، وعلم الوكيل أن غرضه التجارة، ولو وجد سلعة هي أنفع لموكله، لم يكن له مخالفته وإن رآه أنفع، فما يجب لله تعالى بأمره أولى بالاتباع) [المجموع: 5/ 403]: أي ليس لنا مخالفته بحجة الفائدة والنفع. ثانياً: نصاب الأنعام ومقدار ما يجب فيها: علمت فيما مضى أن الأنعام هي: الإبل، والبقر، والغنم. فأما الإبل: فإن أول نصابها أن يمتلك الرجل خمسة منها، فلا زكاة فيما دون ذلك، ثم إن الزكاة تزداد كلما ازداد عددها كثرة، طبق ضابط محدد إليك بيانه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 النصاب ... القدر الواجب من 5 ـ 9 ... شاة واحدة من 10 إلى 14 ... شاتان ... والشاة: واحد الغنم، على أن تكون جذعة ضأن، أي لها سنة. أو ثنية معز، أي لها سنتان. من 15 إلى 19 ... ثلاث شياه من 20 إلى 24 ... أربع شياه من 25 إلى 35 ... بنت مَخاض (وهي من الإبل ما دخلت فيها سنتها الثانية من 36 إلى 45 ... بنت لَبُون (وهي من الإبل ما دخلت في الثالثة من عمرها) من 46 إلى 60 ... حقة (وهي من الإبل الناقة التي دخلت عامها الرابع) من 61 إلى 75 ... جذعة (وهي الناقة التي دخلت في الخامسة من العمر من 76 إلى 90 ... بنتا لبون من 91 إلى 120 ... حقتان ثم إن زادت الإبل على ذلك: وجب في مقابل كل أربعين ابنه لبون، ومقابل كل خمسين حقة. فلو بلغت إبله مائه وسبعين وجب فيها بعد حَوَلان الحول ثلاث بنات لبون وحقه واحدة، لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 مائة وسبعين بعيراً تتضمن ثلاث أربعينات وخمسين واحدة. دليل ما سبق: ما رواه البخاري (1386) عن أنس - رضي الله عنه -: أن أبا بكر - رضي الله عنه - كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين لجمع الزكاة: بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين والتي أمر الله بها رسوله، فمن سألها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سأل فوقها فلا يعط،: (في أربع وعشرين من الإبل فما دونها ـ من الغنم ـ في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإن لم يكن فيها بنت مخاض فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت أحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت أحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة: ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة). [من الغنم: أي تعطي زكاتها من الغنم، طروقة الجمل: أي أصبحت يمكن للفحل أن يعلوها لضرابها، والضراب للبهائم مثل الجماع للإنسان]. وأما البقر: فإن أدنى درجات نصابه ثلاثون، فلا زكاة فيما دون ذلك، ثم إن ما يجب إخراجه يزداد حسب ضابط معين، كلما تكاثرت كمية البقر، وإليك بيان هذا الضابط: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 النصاب ... القدر الواجب من 30 ـ 39 ... تبيع أو تبيعة (وهو من البقر ماله من العمر سنة) من 40 ـ 59 ... مسنة (وهي من البقر ما لها سنتان). من 60ـ 69 ... تبيعان من 70 ـ 79 ... مسنة وتبيع من 80 ـ 89 ... مسنتان من 90 ـ 99 ... ثلاثة أتبعة من 100 ـ 109 ... مسنة وتبيعان من 110 ـ 119 ... مسنتان وتبيع ثم إذا ازداد العدد على ذلك ففي كل ثلاثين منه تبيع، وفي كل أربعين منه مسنة. دليل ذلك: ما رواه الترمذي (623) وأبوداود (1576) وغيرهما عن معاذ - رضي الله عنه - قال: (بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين بقرة مسنة). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 وأما الغنم: فلا زكاة فيها حتى تبلغ أربعين رأساً، فإذا بلغت أربعين رأسا وجب فيها واحدة منها، ثم إن القدر الواجب فيها يزداد كلما ازدادت الأغنام طبق ضابط معين نوضحه فيما يلي: النصاب ... القدر الواجب من 40 إلى 120 ... شاة واحدة، ذات عام واحد إن كانت من الضأن، وعامين إن كانت من المعز من 121 إلى 200 ... شاتان من 201 إلى 300 ... ثلاث شياه ثم يتصاعد القدر الواجب على أساس مطرد، وهو: في كل مائة شاة، أي كلما ازدادت شياهه مائة زاد القدر الواجب فيها شاة. دليل ذلك: حديث البخاري (1386) عن أنس - رضي الله عنه -، وكتاب أبي بكر - رضي الله عنه - له وقد سبق ذكر أجزاء منه وفيه: (وفي صدقة الغنم ـ في سائمتها ـ إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، فإذا ازدادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاه، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة شاة واحدة، فليس فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها ... .. ) [سائمتها: هي التي ترعى الكلاء المباح. ربهما: صاحبها]. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 شروط خاصة لوجوب الزكاة في الأنعام. مر بك بيان الشروط العامة لوجوب الزكاة، تحت عنوان (من تجب عليه الزكاة)، إلا أن لوجوب الزكاة في الأنعام شروطاً إضافية أخرى، علاوة على تلك الشروط العامة التي مر بيانها وهي: 1ـ أن تكون سائمة: أي ترعى الكلاء المباح أكثر من السنة، بحيث لا تتوقف حياتها وصحتها على أكثر من ذلك، لحديث البخاري السابق: (في سائمتها). 2ـ أن تتخذ الماشية للدر ـ أي الحليب ـ أو النسل أو التسمين لا للعمل، فلو اتخذها للعمل ـ كالحراثة والتحميل، ونضح الماء ـ لم تجب فيها الزكاة، ودليل ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الخبر الصحيح: "ليس في البقر العوامل شيء" أخرجه الطبراني. ويقاس على البقر غيرها. 3ـ يستثني فيها من اشتراط الحول ـ وهو شرط فيها على العموم ـ ما توالد من الأصل أثناء الحول، فإنه لا يشترط لوجوب الزكاة فيه مرور عام جديد على ولادته، وإنما يزكي عنه مع الكبار عند تمام حولها، لأنها تبع للأصول، والتابع يأخذ حكم المتبوع. ثالثا: نصاب الزروع والثمار ومقدار ما يجب فيها: نصابها: سبق بيان الأصناف التي تتعلق فيها الزكاة من الزروع والثمار، كما سبق بيان الدليل من القرآن والسنة على ذلك. ونوضح لك الآن النصاب الذي يشترط أن يتوفر في الزروع والثمار حتى تجب الزكاة فيها، فنقول: نصاب الثمار أو الزروع: ما لا يقل عن خمسة أوسق كيلاُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 وذلك بعد تصفيتها من نحو قشر وطين وتراب، وبعد أن يجف الثمر الجفاف المعتاد، فإذا بلغ الناتج خمسة أو ستة فما فوق تعلقت به الزكاة. الدليل: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " رواه البخاري (1340) ومسلم (979) ولمسلم (979): " ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق " وفي رواية عنده (ثمر) ـ بالثاء المثلثة ـ بدل (تمر) بالتاء المثناه، وهي أشمل، إذ تشمل التمر والزبيب. ما هو الوَسْق: الوَسْق من المكاييل، وقد قدره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بستين صاعاً من صيعان المدينة في عهده عليه الصلاة والسلام. جاء في الحديث السابق عند ابن حبان: والوسق ستون صاعاً. والصاع يساوي أربعة أمداد، أي أربع حفنات كبار. وقد قدرت دائرة المعارف الإسلامية في (المجلد 14/ ص 105) الصاع بثلاثة ألتار، فيكون الوسق على هذا مائة وثمانين لتراً، ويكون نصاب الزروع والثمار، تسعمائة لتر كيلاً. القدر الواجب فيها: كل زرع أو ثمر يُسقى بماء المطر أو بماء الأنهار، دون الحاجة إلى بذل كلفة أو نفقة من صاحب الزرع والثمر، أو يشرب بعروقه ـ كالأشجار البعلية ـ يجب فيه العشر إذا بلغ نصاباً، فيجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 في ثلاثمائة صاع ـ وهو أدنى النصاب ـ ثلاثون صاعاً، وفي تسعمائة لتراً تسعون لتراً. أما إذا كان يسقى بالنواضح أو المحركات أو نحوها، مما يسبب للزراع كلفة ونفقة، فإن زكاته عندئذ نصف العشر، أي فيجب في ثلاثمائة صاع خمسة عشر صاعاً، وفي تسعمائة لتر خمسة وأربعون لتراً. دليل ذلك: ما رواه البخاري (1412) عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " فيما سقت السماء والعيون ـ أو كان عثرياً ـ العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر " والعثري من الشجر: ما سقته السماء أو امتص بعروقه، وهو ما يسمى بالبعل. وروى مسلم (981) عن جابر - رضي الله عنه -: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " فيما سقت الأنهار والغيم العشور، وفيما سقي بالسانية نصف العشر " وعند أبي داود (1599) " أو كان بعلاً العشر ". [الغيم: المطر. السانية: ما يستخرج بواسطته الماء من البئر ونحوه]. متى تجب زكاة الثمار والزروع: لا يثبت وجوب الزكاة في الزروع ـ التي تجب فيها الزكاة ـ إلا بعد أن ينعقد الحب ويشتد. ولا يشترط اشتداد الجميع، بل اشتداد بعضه كاشتداد كله. ولا تثبت في الثمار ـ التي تجب فيها ـ إلا بعد أن يبدو صلاحها، أي يظهر نضجها باحمرار أو اصفرار أو تلون، حسب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 المعهود في كل ثمر. ويعتبر ظهور الصلاح في البعض كظهوره في الكل. وإنما اشترط بدو الصلاح في الثمار، والاشتداد في الحب، لأنها قبل هذه الحالة لا تعتبر أقواتاً، ولا يصلح للادخار. وإذا ثبت الوجوب بالاشتداد وظهور الصلاح فلا يجب الأداء وإخراج المقدار المناسب في ذلك الوقت وإنما تخرج الثمار عندما يصبح العنب زبيباً والرطب تمراً، دل على ذلك حديث عتاب بن أسيد - رضي الله عنه -: " أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُخْرَصَ العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيباً كما تؤخذ صدقة النخل تمراً " الترمذي (644). وزكاة الزروع عند الحصول عليها بعد تصفيتا من القشر وغيره، لقوله تعالى: " وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) [الأنعام: 141] بيع الثمار والزروع بعد وجوب الزكاة فيها: إذا باع الزروع أو الثمار ـ بعدما وجبت الزكاة فيها ـ لم يصح البيع في المقدار الذي يجب إخراجه منها، إلا إذا خرص الجميع، أي قدر ما يكون من الثمار زبيباً أو تمراً، وقدر ما يكون من الزروع حبا صافيا، لأن الخرص تضمين للمالك قدر ما يستحق عليه من الزكاة. ومثل البيع كل تصرف بأكل أو هبة أو إتلاف، فإذا تصرف بشيء من ذلك غرم مقدار الزكاة فيما تصرف فيه. وإن كان عالماً بالتحريم أثم وإلا فلا. وعليه: فالمستحب للحاكم أن يبعث من يخرص الثمار والزروع حين تجب فيها الزكاة، لحديث عتاب - رضي الله عنه - الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 مر ذكره، وإذا لم يفعل الحاكم ذلك تحاكم المالك إلى عدلين خبيرين يخرصان له ما يتحصل له ما يتحمل عنده، ومقدار ما يجب عليه، وبعد ذلك يجوز له التصرف فيما عنده. إخراج القيمة بدل العين: علمنا أن الواجب في زكاة المواشي أعيان نص عليها الشارع في كل عدد مملوك منها، والزكاة حق لله تعالى يصرف لمستحقيه، وطالما أن الشارع علق هذا الحق بما نص عليه فلا يجوز نقله إلى غيره، وعليه: فالواجب إخراج زكاة المواشي من أعيانها كما بين فيما سبق مع أدلته، ولا يجوز إخراج القيمة بدل الأعيان. وكذلك الأمر بالنسبة لزكاة الزروع والثمار، لأن الشارع علق الحق فيما يخرج منها، حين قال: " فيما سقت السماء ... " ويستثنى من هذا بعض الحالات للضرورة، كما إذا وجبت عليه شاه في خمس من الإبل، وبحث عنها فلم يجدها، وكان الفقراء يتضررون بالتأخير حتى الوجود، ومثله لو امتنع المالك من أداء الواجب، وأخفى الأموال الواجب فيها، فوجد له الحاكم أموالاً أخرى فإنه يأخذ مما وجد. رابعاً: الحول والنصاب في أموال التجارة ومقدار ما يجب فيها: عرفت فيما مضى أن أموال التجارة ـ أو عروض التجارة ـ هي: تلك السلع التي تقلب بالمعاوضة لغرض الربح، أيا كانت هذه السلع، وتسمى عروض التجارة. فكل سلعة يتاجر فيها الإنسان، سواء كانت أصلاً من الأصناف التي تزكى: كالذهب والفضة والحبوب والثمار والماشية، أم كانت من غيرها: كالأقمشة والمصنوعات والأرض والعقارات والأسهم، نجب الزكاة فيها بشروطها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 إذا عرفت هذا، فاعلم أن عروض التجارة معتبرة بالذهب والفضة من حيث النصاب، وحولان الحول، ومقدار ما يجب فيها. أي تقوم الأموال التجارية بالنقد المتعارف عليه والمتعامل به، فإن بلغت قمتها ستة وتسعين غراماً من الذهب، أو قيمة مائتي درهم من الفضة، وجبت فيها الزكاة، وله الخيار أن يقدرها بقيمة الذهب أو قيمة الفضة، إلا إذا اشتريت في الأصل بأحدهما عيناً وجب تقديرها به. والعبرة ببلوغ الأموال التجارية نصاباً آخر العام من البدء بالمتاجرة، فلا يشترط بلوغها نصاباً عند بدء التجارة، ولا بقاؤها كذلك خلال الحول، وبهذا يعلم أن المراد بالحول في زكاة التجارة مرور عام قمري على تملك السلع بنية التجارة، إلا إذا كان تملكها بنقد يبلغ نصاباً أو يزيد عليه فبدء الحول في هذه الحالة من تاريخ تملك النصاب من النقد الذي اشتريت به عروض التجارة. وبناء على ما سبق فإن التاجر يُجري جرداً عاماً لكل ما هو تحت يده من هذه الأموال التي يتاجر بها، ويقدر قيمتها وقت الجرد بقيمة الذهب أو الفضة على ما مر، فإن بلغت نصاباً، وجب أن يخرج ربع عشر قيمة هذه الأموال زكاة، وإن لم تبلغ نصاباً لم يجب فيها شيء. ويلاحظ عند الجرد والتقويم ما يلي: أولاً: لا يدخل في الأمور التجارية التي يجب تقويمها الأثاث وما في معناه، والأجهزة الموجودة في المحل لقصد الاستعانة بها لا لقصد بيعها، فلا زكاة عليها مهما بلغت قيمتها. ثانيا: يدخل في الأموال التي يجب تقويمها كل من رأس المال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 والربح معاً، فيضمان إلى بعضهما، وتؤدي الزكاة عن الجميع، فلو بدأ تجارته بما قيمته ألفا ليرة سورية، وفي آخر العام بلغت خمسة آلاف ليرة سورية، وجبت الزكاة عن الكل. الواجب إخراجه في زكاة التجارة: علمنا أنه إذا حال الحول على التجارة قومت العروض بالنقد الغالب المتعامل به، فإذا بلغت نصاب الذهب أو الفضة وجبت فيها الزكاة بنسبة اثنين ونصف في المائة. وهل تخرج هذه النسبة من عين عروض التجارة المقومة، أم من القيمة التي قومت به في المذهب ثلاثة أقوال: أـ يجب إخراج مما قومت به العروض، ولا يجزئ الإخراج من نفس العروض، لأن عروض التجارة ليست بأموال زكوية في الأصل، وإنما صارت كذلك بنية التجارة، وتعلقت بها الزكاة بالنظر إلى قيمتها بما قومت به، فوجب الإخراج منها. وهذا هو القول الأصح الذي عليه العمل وبه الفتوى. ب ـ يجب الإخراج من نفس السلع التجارية ولا تجزئ القيمة، لأن العروض هي سبب وجوب الزكاة. ج ـ يخير بين الإخراج من القيمة أو من نفس العروض، لأن الزكاة تعلقت بهما، إذ أن كلا منهما سبب وجوبها. تنبيه ولفت نظر: هذا وينبغي التنبيه هنا إلى أنه إذا قلنا بجواز إخراج القدر الواجب في الزكاة من نفس عروض التجارة فيجب إخراج اثنين ونصف في المائة من كل نوع نملكه من العروض، ولا يجزئ أن نخرج بدل القدر الواجب من نوع بقيمته من نوع آخر، وكذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 يجب أن يخرج القدر الواجب من كل نوع من الصنف الوسط منه، ولا يجزئ أن نخرج الأقل قيمة، والمعيب، وما كسد سوقه، ونحو ذلك. خامساً: نصاب المعدن والركاز وما يجب فيهما: قد علمت معنى كل من المعدن والركاز، فلا نعيده الآن، وإنما المهم هنا أن تعلم النصاب الذي تتعلق به الزكاة من كل منهما، والنسبة التي يجب إخراجها. فأما المعدن: فنصابه نصب الذهب والفضة نفسه، إلا أنه لا يشترط لوجوب الزكاة فيه حولان الحول، بل تجب الزكاة فور استخراجه. فإذا استخرج الرجل ذهباً أو فضة من معدنه، وبلغ ما أخرجه من ذلك نصاباً، وجب عليه أن يخرج زكاته فوراً، بنسبة ربع العشر، أي اثنين ونصف في المائة من المجموع. وأما الركاز: فنصابه أيضاً نصاب النقدين، ولا يشترط لتعلق الزكاة به مرور حول بل يجب إخراج زكاته فوراً، إلا أن المقدار الذي يجب إخراجه هنا إنما هو الخمس، أي عشرون في المائة من مجموع ما قد استخرجه. دليل ذلك: ما رواه البخاري (1428) ومسلم (1710) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " وفي الركاز الخمس " وافترق عن الأنواع الزكوية الأخرى، لأن سبيل امتلاكه يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 بغير مؤونة أو كلفة ذات أهمية، فكان حق الفقراء فيه أكثر. ولم يشترط الحول في المعدن والركاز: لأن كلا منهما مستخرج من الأرض، فهو بمنزلة الزرع، فتؤخذ منه الزكاة كما تؤخذ من الزروع فور الحصول عليها، وبعد تنقيتها وتصفيتها من الشوائب الدخيلة عليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 زكاة الخليطين المقصود بالخليطين: يقصد بالخليطين في باب الزكاة: مالان زكويان لشخصين، خلطا ببعضهما، يقصد الشركة أو نحوها. أقسام الخليطين: يقسم هذا المال إلى قسمين الأول: يسمى خلطة عيان، أو خلطة شيوع: ويقصد به أن يكون بين شخصين من أهل الزكاة نصاب زكوي أو فوقه، ملكاه حولاً كاملاً بشراء أو إرث أو غيرهما، وكان من جنس واحد. ويلاحظ أن المالين في هذا القسم ممتزجان امتزاج شيوع. أي أن ما يملكه كل واحد غير متميز عما يملكه الآخر، وإنما لكل مهما جزء غير متعين من المملوك بنسبة ما يملك. وذلك: كما لو ورث أخوان من أبيها أربعين رأسا من الغنم، أو اشترى اثنان معاً ذلك الغنم، فإن كلا منهما يملك من كل رأس نصفه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 وكذلك لو كان الموروث أو المشترى سلعاً أو أرضاً، فكل واحد يملك النصف من كل جزء منها دون تعيين. الثاني: يسمى خلطة مجاورة أو خلطة أوصاف: ويقصد به أن يكون بين شخصين مثلاً من أهل الزكاة نصاب غير مشترك من المال، بل بينهما مجاورة مجردة. فيلاحظ أن المالين في هذا القسم غير ممتزجين، بل هما منفصلان متميزان. كيف تؤدى زكاة الخليطين: يعتبر الخليطان ـ من أي القسمين كانا ـ مالاً واحداً لرجل واحد، في تعلق الزكاة بهما. أي: فإذا بلغ مجموع الخليطين نصاباً، وحال عليه الحول، وهو كذلك، وجبت الزكاة فيهما، وإن كانت حصة كل من المالكين منفردة لا تبلغ نصاباً. دليله: حديث البخاري عن أنس رضي الله عنه، وقد مرت بك فقرات منه، وفيه: " لا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة ". ومعناه: إذا كان نصيب كل مالك مفترقاً أو متميزاً عن غيره، فلا يجمع معه ليصبح المجموع نصاباً، فتجنب فيه الزكاة، وإذا كان مختلطاً به، فلا يميز عنه حتى لا تجب فيه الزكاة، لأنه يصبح أقل من النصاب. وهذا الحكم كما ترى من شأنه في بعض الأحيان: أن يوجب في المالين زكاة لم تكن واجبة فيهما لولا الاختلاط، كما أن من شأنه أيضا في أحيان أخرى أن يقلل نسبة الزكاة فيهما، وقد كانت أكثر فيهما لولا الاختلاط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 مثال الأول: أن يملك شخصان مدة حول كامل أربعين رأساً من الغنم فإن الزكاة تتعلق بها، مع العلم بأن كلاً منهما لو انفرد بنصيبه منها لما وجب على أحدهما فيها زكاة، لنقصان نصيب كل منهما عن النصاب. ومثال الثاني: أن يملكا ثمانين رأساً من الغنم، لكل منهما أربعون فلا يجب فيها بعد مرور الحول إلا شاة واحدة حال الاختلاط، مع العلم بأن كلا منهما لو انفرد بنصيبه استقلالاً لوجب فيهما شاتان، في كل أربعين شاة. شروط اعتبار الخليطين مالاً واحداً: لاعتبار الزكاة في الخليطين، كما لو كانا مالاً واحداً لرجل واحد، طائفتان من الشروط. أما الطائفة الأولى: فهي شروط للخليطين من أي القسمين كانا، أي سواء كانت الخلطة على سبيل الشيوع، أو كانت خلطة مجاورة، وهي: 1ـ أن يكون المالان من جنس واحد، فلو كان أحد المالين غنماً والآخر بقراً بقي كل منهما مستقلاً، مهما كانت الخلطة والشركة. 2ـ كون مجموع المالين نصاباً فأكثر، فلو كان المجموع خمسة وثلاثين رأساً من الغنم لم تجب فيها الزكاة، وإن كان كل منهما ـ أو أحدهما ـ يملك عدد آخر من الأغنام لو ضُمَّت إلى الخليط لبلغ نصاباً. 3ـ دوام الخلطة سنة إن كان المال مما يجب فيه الحول، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 فلو ملك كل منهما أربعين شاة في أول شهر محرم، وخلطاهما في أول صفر فإن الواجب إذا استدار العام وعاد شهر محرم أن يخرج كل منهما شاة، أي فلا عبرة بالخلطة. أما إذا لم يكن المال حوليا، كالزروع والثمار، فإنما يشترط بقاء الخلطة فيها إلى ظهور الثمر واشتداد الحب. وأما الطائفة الثانية فهي شروط خاصة بخلطة الجوار وهي: 1) أن لا يتميز ـ بالنسبة للأنعام ـ مراحها ومسرحها ومرعاها وموضع حلبها. فلو كان كل من المالكين يذهب بشياهه إلى مرعى مختلف عن الآخر، أو يعود بها إلى مراح، وهو محل المبيت ـ مختلف، وكذلك المسرح ـ وهو المكان الذي تسرح إليه لتجتمع وتساق إلى المرعى ـ أو كان منهما يمضي بشياهه إلى مكان مستقل للحلب، لم يكن لهذا الاختلاط أي أثر فيما ذكرنا. 2) أن يكون الراعي لها واحداً، والفحل الذي يطرقها واحداً، فلو كان لكل منهما راعٍ، أو فحل خاص، لم يعتبر المال مختلطاً. 3) يشترط إذا كان المال الزكوي زرعاً: أن لا يتميز الحارس، والجرين: أي المكان الذي يجفف فيه الثمر. ويشترط إذا كان عروض تجارة: أن لا يتميز الدكان ومحل التخزين، وأداة البيع من ميزان ونحوه. فإذا توافرت هذه الشروط الثلاثة اعتبر الخليطان مالاً واحداً كأنهما لمالك واحد، ولا يضر أنهما ليسا ممتزجين امتزاج شيوع، بل تكفي ـ إذا وجدت هذه الشروط ـ المجاورة. أما إذا لم تتوفر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 أو لم يوجد واحد منها، فإن كل مالك ينظر في ماله ويحسبه مستقلاً عن الآخر، ويخرج زكاته على هذا الأساس. ما يلزم كل مالك من زكاة الخليطين: إذا أخذت الزكاة من الخليط ـ على أنه مال واحد ـ كان على كل واحد من الشركاء بنسبة ما يملك من الخليط، فإن أخذ من عين ماله أكثر مما يلزمه استرد الزيادة من شركائه، وإن أخذ منه أقل مما يلزمه رد الفرق على شركائه. فلو كان الخليط مائه شاة لزمت فيه شاه، فإن كان الخليط لثلاثة: وأحد الشركاء يملك خمسين شاة لزمه نصف شاة، والثاني يملك خمساً وعشرين لزمه ربع شاة، وكذلك الثالث. دليل ما سبق: ما جاء في حديث أنس - رضي الله عنه -: " ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 كيفية أداء الزكاة عدم التأخير عن وقت الاستحقاق: إذا كان المال نصاباً فما فوقه، وحال الحول عليه، فقد وجبت فيه الزكاة وثبتت لمستحقيها، ووجب على المالك إخراج القدر الواجب على الفور، إذا توفر شرطان اثنان: الشرط الأول: أن يتمكن من إخراجها: وذلك بأن يكون المال حاضراً عنده. فإن كان غائباً عن المكان الذي هو فيه، بأن كان في بلدة أخرى، أو كان ديناً في ذمة بعض الناس، لم يكلف بإخراج الزكاة عنه فوراً. نعم إن توفر تحت يده المبلغ الذي يجب إخراجه عن المال المشغول بالدين، وجب إخراجه فوراً. الشرط الثاني: حضور الأصناف المستحقين لها، أو حضور، الإمام أو وكيله الساعي على جمعها، فإن لم يحضر من يستحقها من الأصناف الثمانية المذكورة في القرآن، أو من ينوب عنهم، فله تأخيرها، بل لا بد من تأخيرها حتى يحضر المستحقون. ما الذي يترتب على التأخير: إذا توفر هذان الشرطان، وأخَّر المالك مع ذلك إخراج الزكاة، يترتب على ذلك أمران اثنان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 الأول: الإثم، إذ هو في حكم من يحبس مال الفقراء عنده دون موجب، وهو حرام. ويستثنى من ذلك ما إذا اخر لانتظار قريب أو جار أو من هو أحوج من الحاضرين، شريطة أن لا يتضرر الحاضرون بهذا التأخير ضرراَ بليغاً، ويزداد جوعهم وعوزهم، فيأثم عند ذلك مطلقاً. الثاني: الضمان، أي ينتقل حق الفقراء والمستحقين من التعلق بعين المال إلى التعلق بذمة المالك، فتصبح ذمته مشغولة بحقهم حتى وإن تلف جميع ماله، ذلك لأنه قصر بسبب التأخير الذي لم يكن له فيه عذر، فيتحمل مسؤولية تقصيره، حفظاً لمصلحة المستحقين، حتى ولو كان تأخيره لانتظار من ذكر آنفاً. تأخير الوكيل صرف الزكاة للمستحقين: مما مر يتبين لنا: أنه إذا وكل المالك غيره بصرف زكاة ماله، ودفع له المقدار الواجب، ووجد المستحقون لهذه الزكاة، فليس له تأخير دفعها إليهم، وإن أخر أثم وكان ضامناً. وهنا نلفت أنظار المشرفين على الجمعيات الخيرية إلى هذا الأمر ونبين لهم أن إبقاء مبلغ الزكاة - التي تدفع إليهم من المالكين - كرصيد مدور لحساب الجمعية أو في صندوقها، وكذلك إبقاء مبالغ لتدفع للمستحقين خلال العام كأقساط شهرية، أمر غير مشروع، ومخالف لما ثبت في شرع الله تعالى، من وجوب أداء الحق لصاحبه فور استحقاقه، ومباين لحكمة تشريع الزكاة التي تهدف إلى إغناء الفقير ومن على شاكلته، بإعطائه مبلغاً من المال قد يساعده على تهيئة عمل شريف يكون مورد رزق دائم له، وبذلك يمحى اسمه من لائحة الفقراء والمعوزين، ليوضع في قائمة المنفقين والمحسنين المتصدقين. ونحن غير مسؤولين عن تصرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 المكلف صاحب الاستحقاق، طالما أنه بالغ عاقل راشد من حيث الظاهر. وعليه فإننا نهيب بالمشرفين المخلصين على الجمعيات أن لا يقعوا في هذه المخالفة، كي يسلم لهم الأجر عند الله عز وجل، ولا تحبط أعمالهم، أو تذهب جهودهم المبذولة في خدمة ذوي الحاجة سدى. تعجيل الزكاة قبل وقت وجوبها: أما إذا أراد المالك أن يستعجل بإخراج زكاته، قبل حلول وقتها، فينظر. إن أخرجها قبل أن يمتلك نصاباً لم تجزئ، ولم يقع المال المدفوع زكاة، أي فإذا تكامل ماله بعد ذلك نصاباً، وحال عليه الحول، وجب أن يخرج الزكاة عنه، ولم يسد المال الذي كان قد عجل بإخراجه أي مسد عنه. ذلك لأن سبب وجوب الزكاة- وهو النصاب- مفقود من أصله، فقسناه على التعجيل بأداء الثمن قبل شراء السلعة، فإنها لا تعتبر ثمناً، ولا تغني عن وجوب دفع الثمن بعد عقد الشراء. أما إن أخرجها بعد أن امتلك النصاب وقبل أن يحول الحول، فهو مجزئ ويقع المال المدفوع زكاة عن ماله الزكوي، أي فلا يجب عليه أن يخرج زكاة ماله هذا بعد تكامل الحول عليه. ودليل ذلك: ما رواه أبو داود (1624) والترمذي (678) وابن ماجه (1795): أن العباس - رضي الله عنه - سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 شروط صحة التعجيل: إذا عجل زكاة ماله سقط عنه الواجب عند حولان الحول إذا وجدت الشروط التالية: الشرط الأول: بقاء المالك أهلا لوجوب الزكاة عليه إلى آخر الحول، فلو سقطت عنه هذه الأهلية ـ بأن مات مثلاُ قبل مرور الحول ـ لم يعتبر المال المعجل زكاة. وفي هذه الحالة لورثته أن يستردوا ما دفع إن كان بين للقابض أنها زكاة معجلة. الشرط الثاني: أن يبقى ماله كما هو إلى مرور الحول، فلو تلف ماله أو باعه في غير تجارة، لم يعتبر المعجل زكاة وكان له أن يسترد ما عجله إن بين للقابض أنه زكاة معجلة. الشرط الثالث: أن يكون القابض للمال المعجل مستحقاً في آخر الحول ـ وإن مرت عليه ظروف خلال الحول جعلته غير مستحق، بسبب طروء غنى بغير ما دفع إليه من زكاة، أو ارتداد أو نحو ذلك ـ إذ العبرة إنما هي بآخر الحول، حيث تجب المبادرة بالإخراج. وعلى هذا: لو أن القابض للزكاة المعجلة خرج عن الاستحقاق في آخر العام، لم يعتبر المدفوع له زكاة، وعلى المالك أن يدفع الزكاة ثانية. وينظر: فإن كان قال له عند الدفع: هذه زكاتي، كان له أن يسترد منه ما أعطاه. وإن لم يقل له ذلك فليس له الرجوع عليه بشيء. دفع الزكاة عن طريق الإمام: تنقسم الأموال الزكوية ـ بالنظر إلى المسألة ـ إلى قسمين أموال باطنة، وأموال ظاهرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 أما الأموال الباطنة: فهي النقدان، وعُروض التجارة، والركاز: وللمالك أن يخرج زكاة هذه الأموال ويعطيها للمستحقين إذا شاء بنفسه، دون وساطة الإمام، وله أن لا يعطيها له وإن طلبها، بل لا يجوز للإمام أن يطلبها منه، لأنها أموال باطنة هو أدرى بها وبكميتها. وأما الأموال الظاهرة: فهي الأنعام والزروع والثمار والمعادن، فإن طلب الإمام زكاة هذه الأمور وجب على المالك تسليمها إليه، لظاهر قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) التوبة: 103 وإن لم يطلبها الإمام كان المالك بالخيار: بين أن يتولى دفعها للمستحقين بنفسه، وأن يسلمها للإمام. ولكن الأفضل إعطاؤها له، لأنه ـ أي الإمام ـ اعرف بالمستحقين وأقدر على استيعابهم، ولأن توزيعها عن طريق الإمام أضمن لعدم إيذاء المستحقين بالتمنن أو الاستعلاء، إذ علاقة الحاكم بها كعلاقة الأب بأولاده، فلا مجال لشيوع معنى التمنن أو الاستعلاء بينهما، ولأن ذلك خير سبيل لإٍغناء المستحقين بالزكاة، مما يجعلهم يعتمدون على أنفسهم بشق سبل الكدح والارتزاق لأنفسهم. هذا إذا كان الإمام عادلاً في قسمة الأموال وصرفها إلى المستحقين، فإن كان جائزا، بل غلب على الظن أنه لا يسلمها إلى المستحقين، فإن الأفضل أن يتولى المالك توزيع زكاته بنفسه، إلا أن يطلبها الإمام على وجه الحتم، وكانت أموالاً ظاهرة، فلا سبيل عندئذ للمالك إلى منعها عنه، إن كان جائزاً. التوكيل بالزكاة: الأفضل أن يخرج المالك زكاة ماله ويعطيها للمستحقين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 بنفسه، إلا ما قد علمت من حكم إعطائها للإمام بالتفصيل الذي ذكرناه. ولكن هل له أن يوكل بها غيره؟ نعم، له أن يفعل ذلك، لأن الزكاة إنما تتعلق بحق مالي، والحقوق المالية يجوز التوكيل في أدائها، كالتوكيل في دفع الديون والأثمان، وإعادة الودائع والعواري إلى أصحابها. فيجوز للمالك بها أن يوكل كل من يملك أن يفعل ذلك عن نفسه، فيدخل فيه الكافر والصبي المميز، ولكن يشترط إذا وكل بها كافراً وصبياً أن يعين له الشخص المدفوع إليه. النية عند دفعها: تجب النية عند إخراج الزكاة تميزاً لها عن الكفارات وبقية الصدقات، وللحديث المشهور: " إنما الأعمال بالنيات " البخاري (1) ومسلم (1907) فإن تولى إخراج الزكاة بنفسه، استحضر نية ذلك عند الدفع للمستحق، أو عندما يعزل المبلغ الذي يريد إخراجه عن بقية ماله، أي فإن نوى عند العزل أن هذا المبلغ هو زكاة ماله، كان ذلك كافيا، ولم يجب استحضار النية مرة أخرى عند الدفع. وإن وكل بها، نوى الزكاة عند تسليم المبلغ إلى الوكيل، ولا يجب على الوكيل بعد ذلك أن يستحضر أي نية عند إعطائه للمستحقين، ولكن الأفضل أن ينوي الوكيل أيضاً عند توزيع المبلغ عليهم، فإن لم ينو المالك عند تسليمها للوكيل لا تكفي نية الوكيل عند دفعها للمستحقين. وإن سلمها للإمام أو نائبه، نوى عند دفعها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 له، وكان ذلك كافياً، لأن الإمام نائب عن المستحقين، فكانت النية عند إعطائها له بمثابة النية عند إعطائها للمستحقين أنفسهم. فإن لم يستحضر المالك النية عند إعطائها للإمام لم تفد نية الإمام عنه بعد ذلك، ولا يعتبر المال المدفوع له مجزئاً عن الزكاة، وذلك لأن الإمام ـ كما قلنا ـ نائب عن المستحقين، وليس نائباً عن المالك كما هو الشأن في الوكيل، لذلك فلا عبرة بنيته عن المالك. على أن نية الوكيل لا تكفي، إذا لم ينو المالك الموكل كما علمت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 مصارف الزكاة المستحقون للزكاة: لقد ذكر الله تعالى المستحقين الذين تصرف إليهم الزكاة بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التوبة/60 وإليك بيان هذه الأصناف: 1ـ الفقراء: جمع فقير، وهو: من لا مال له يقع موقعاً من كفاية مطعماً وملبساً ومسكناً، كمن يحتاج إلى عشرة فلا يقدر إلى على ثلاثة. 2ـ المساكين: جمع مسكين، وهو: من له شيء يسد مسداً من حاجته، ويقع موقعاً من كفايته، ولكنه لا يكفيه. كمن يحتاج إلى عشرة مثلاً فلا يجد إلى ثمانية. ويعطى هؤلاء ومن قبلهم كفاية العمر الغالب على الأصح. هذا ومما ينبغي الانتباه إليه: أن الحاجة إلى النكاح من تمام الكفاية التي تؤخذ بعين الاعتبار، عند تقدير ما لديه وما يحتاج إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 3ـ العاملون عليها: هم العمال الموظفون والجباة الذين يستعين بهم الإمام لجمع الزكاة وتوزيعها. وهؤلاء يعطون أجرة مثل عملهم الذي قاموا به، ولا يزاد لهم على ذلك، ولا يجوز إعطاؤهم نسبة معينة مما يجبون، إذ لا دليل على هذا في شرع الله تعالى، وإنما هم أجراء، فيعطون أجرة مثل عملهم لا غير. 4ـ المؤلفة قلوبهم: وهم مسلمون حديثو عهد الإسلام، يتوقع بإعطائهم أن يقوى إسلامهم. أو هم مسلمون ذوو وجاهة ومكانة في قومهم، يتوقع بإعطائهم إسلام أمثالهم. أو هم مسلمون يقومون على الثغور، يحمون المسلمين من هجمات الكفار وشر البغاة، أو يقومون بجبي الزكاة من قوم يتعذر إرسال عمال إليهم. وإنما يعطى هؤلاء سهماً من الزكاة إذا كان المسلمون في حاجة إليهم، وإلا فلا يعطون شيئاً. 5ـ وفي الرقاب: أي في تحرير رقاب العبيد من الرق، والمراد المكاتبون، أي الذين تعاقدوا مع أسيادهم المالكين لهم على: أن يجلبوا إليهم أقساطاً من المال، فإذا أدوها صاروا أحراراً، فيعطون من الزكاة ما عجزوا عن سداده من هذه الأقساط. 6ـ الغارمون: وهم الذين أثقلتهم الديون وعجزوا عن وفائها. فيعطي هؤلاء ما يقدرون به على وفاء ديونهم التي حلت آجالها مع ما يكفيهم مطعماً وملبساً ومسكناً، شريطة أن يكونوا قد استدانو لأمر مشروع، فإذا كانت استدانتهم لأمر غير مشروع فلا يعطون من الزكاة، إلا إذا كانوا قد تابوا من المعصية، وغلب على الظن صدقهم في توبتهم. هذا، ويدخل في هذا الصنف: من استدان لدفع فتنة بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 متنازعين، فيعطى ما استدانه لهذا الغرض، وإن كان غنياً يملك ما يفي به ذاك الدين من ماله الخاص. 7ـ في سبيل الله تعالى: والمراد هنا الرجال الغراة المتطوعون بالجهاد دفاعاً عن الإسلام، ولا تعويض لهم ولا راتب في مال المسلمين. فيعطى كل من هؤلاء ما يكفيه ويكفي من تجب عليه نفقته إلى أن يرجع، مهما طالت غيبته، وإن كان غنياً. كما يعطى ما يساعده على الجهاد من وسائل نقل وحمل أمتعة وأدوات حرب، وما إلى ذلك. 8ـ ابن السبيل: هو المسافر سفراً مباحاً، أو المريد لسفر مباح، أي لا معصية فيه، ولو لنزهة، فيعطى ما يكفيه لسفره ـ أو في سفره ـ ذهاباً وإياباً إن كان يقصد الرجوع، نفقة ومركباً وحمولة إن عجز عن حمل أمتعته. فإن كان عاصياً بسفره، أو في سفره، لا يعطى من الزكاة إلا إذا تاب وغلب على الظن صدقه في توبته. فهؤلاء الأصناف الثمانية هم المستحقون للزكاة، وهي محصورة فيهم فلا تصرف إلى غيرهم. ودل على هذا الحصر قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء ... } والمراد بالصدقات الزكاة المفروضة، بدليل قوله تعالى في آخر الآية {فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ} وأما غير الزكاة من الصدقات المتطوع بها فيجوز صرفها إلى غيرهم. كيف توزع الزكاة على مستحقيها؟ تصرف الزكاة إلى من يوجد من هؤلاء الأصناف في محل الزكاة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 ـ فإن وجدوا جميعاً وجب الصرف إليهم، ولا يجوز أن يحرم صنف منهم (1). ـ فإن فقد أحد الأصناف رد نصيبه على باقي الأصناف ـ وإن فضل نصيب أحد الأصناف عن حاجة أفراده ردت الزيادة على الأصناف الآخرين. ـ تقسم الزكاة على الأصناف الموجودين بالتساوي وإن تفاوتت حاجاتهم، ماعدا العاملين عليها، فإنهم يعطون أجرهم على ما مر، قبل قسمة الزكاة. ولا تشترط التسوية بين أفراد الصنف الواحد، بل تجوز المفاضلة بينهم. وإذا وزع المالك بنفسه أو بوكيله وجب أن يعطي ثلاثة من كل صنف على الأقل إن كان عددهم غير محصور، لأن كل صنف ذكر بصيغة الجمع في الآية، وأقل الجمع ثلاثة، فإن كان عددهم محصوراً، وتسهل معرفته وضبطه عادة، وجب أن يستوفي الجميع إذا وفت الزكاة بحاجتهم، فإن ترك واحداً منهم في الحالين ـ مع علمه به ـ ضمن له أقل متمول من مال. نقل الزكاة من محل وجوبها: لا يجوز نقل الزكاة إلى غير البلد التي وجبت فيه ـ وهو محل المال ـ طالماً أنه يوجد مستحقوها في ذلك البلد، وإن قربت المسافة، لأن في ذلك إيحاشاً وإيلاماً لمستحقيها في بلد وجوبها، إذ إن أطماعهم تمتد إليها، وآمالهم تتعلق بها. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - رضي الله عنه - حين بعثه إلى اليمن: " فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ".   (1) ويجوز عند غير الشافعية صرفها إلى صنف واحد، وإلى شخص واحد من احد الأصناف. وقال مالك: تصرف إلى أمسهم حاجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 فإذا فقد أحد الأصناف في بلد الوجوب، أو زاد نصيب أفرادهم عن حاجتهم، نقل نصيب ذاك الصنف، أو ما فضل عن حاجة أفراده، إلى نفس الصنف من أفراد بلد من بلد الزكاة. شروط استحقاق الزكاة، ومن لا تدفع إليهم: يشترط ـ فيمن كان أحد الأصناف الثمانية المذكورة ـ شروط، حتى يستحق الزكاة ويصح دفعها إليه، وإليك هذه الشروط: 1ـ الإسلام: فلا تدفع الزكاة الواجبة لغير مسلم، دل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ... . فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ". البخاري: 1331، مسلم: 19]. فواضح أن الزكاة تؤخذ من أغنياء المسلمين وتعطي لفقرائهم، فكما أنها لا تؤخذ من أغنياء غير المسلمين فلا تعطى لفقراء غيرهم، ويجوز أن يعطى غير المسلمين من الصدقات غير الواجبة. 2ـ عدم القدرة على الكسب: فإذا كان الفقير أو المسكين يقدر على الكسب من عمل يليق به، ويحصل به ما يكفيه، لا يصح دفع الزكاة إليه ولا يجوز له قبولها. لما رواه الترمذي (652) وأبو دواد (1634) من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مِرَّة سَوِىٍّ " والمرة: القوة والقدرة على الكسب. وفي رواية عند أبي داود (1633): " ولا لذي قوة مكتسب ". 3ـ أن لا تكون نفقته واجبة على المزكي، لأن من كانت نفقته واجبة على المزكي كان مستغنياً بتلك النفقة، وكان دفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 المزكي إليه دفعاً إلى نفسه، لأن فائدته تعود إليه، إذ إنه يوفر بذلك النفقة على نفسه أو يخففها. فلا يجوز دفع الزكاة إلى الأب والأم أو الجد والجدة مهما علوا، لأن نفقتهم واجبة على الفروع، وكذلك لا يجوز دفع الزكاة إلى الأبناء والبنات وفروعهم إن كانوا صغاراً، أو كباراً مجانين أو مرضى مزمنين، لأن نفقة هؤلاء واجبة على آبائهم. وأيضا: لا تعطى الزكاة للزوجة، لأن نفقتها واجبة على زوجها. هذا ومما ينبغي أن ينتبه إليه: أن هؤلاء لا يعطون من الزكاة بوصف المسكنة أو الفقراء، أما لو كان أحدهم من صنف غير صنف الفقراء والمساكين، كما إذا كان غارماً أو في سبيل الله، فإنه يجوز لمن تجب نفقته عليه أن يعطيه زكاة ماله لذاك الوصف. إعطاء الزكاة لمن يكتفي بنفقة غيره عليه: علمنا أن من وجبت عليه زكاة لا يصح أن يعطيها إلى من في نفقته ـ من زوجة، وأصل، وفرع ـ إن كان فقيراً أو مسكيناً. وهل يجوز لغير من يعوله أن يعطيه زكاة ماله؟ ـ فإن كان مكتفياً بنفقة من تجب نفقته عليه فلا يجزئ دفعها إليه، لأنه مستغنٍ بنفقة غيره عليه. ـ وإن كان لا يكتفي بنفقةٍ جاز إعطاؤها إليه، لأنه في هذه الحالة مسكين أو فقير. إعطاء الزوجة زكاة مالها لزوجها: يسن للزوجة إذا كانت غنية، ووجبت في مالها الزكاة، أن تعطي زكاة مالها لزوجها إن كان فقيراً، وكذلك يستحب لها أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 تنفقها على أولادها إن كانوا كذلك، لأن نفقة الزوج والأولاد غير واجبة على الأم والزوجة. فقد روى البخاري (1397) ومسلم (1000) أن زينب امرأة عبدالله بن مسعود رضي الله عنهما سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيجزئ عني أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حجري؟ فقال: لمن بلغه سؤالها: " نعم، لها أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة ". وروى البخاري (1398) ومسلم (1001) عن أم سلمة رضي الله عنهما قالت: قلت يا رسول الله، إلي أجر أن أنفق على بني أبي سلمة، إنما هم بني؟ فقال: " أنفقي عليهم، فلك أجر ما أنفقت عليهم " وقد ذكر البخاري رحمه الله تعالى هاذين الحديثين تحت عنوان: الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر. الزكاة للأقارب الذي لا تجب نفقتهم: وإذا كان للمالك الذي وجبت في ماله الزكاة أقارب لا تجب عليه نفقتهم، كالأخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات وأبنائهم وغيرهم، وكانوا فقراء أو مساكين، أو غيرهم من أصناف المستحقين للزكاة، جاز صرف الزكاة إليهم، وكانوا هم أولى من غيرهم. ومثل من ذكر في جواز الزكاة إليهم: أبناؤه الكبار القادرون على الكسب ولا كسب يكفيهم. روي الترمذي (658) والنسائي (5/ 92) وابن ماجه (1844) واللفظ له عن سلمان بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذى القرابة اثنتان: صدقة وصلة". 4ـ أن يكون غير هاشمي ولا مطلبي: من ثبت نسبه إلى بني هاشم أو بني المطلب فلا يعطى من الزكاة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) [مسلم: 1072]. وروي البخاري (1420) ومسلم (1069) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أخذ الحسن بن على تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " كخ كخ ـ ليطرحها ـ ثم قال: أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة ". والمراد بآل محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بنو هاشم، وبنو المطلب. رأي واجتهاد: والذي نراه في هذه الأيام أن يعطى هؤلاء من الزكاة إن كانوا من أصناف المستحقين، وذلك أن في عدم إعطائهم تضييعاً لهم، طالماً أنهم لا يعطون ما جعله شرع الله تعالى: لهم من خمس الغنيمة مقابل منعهم من الزكاة. قال تعالى {َاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} الأنفال: 41 وذوو القربى هم بنو هاشم وبنو المطلب، فقد روى البخاري (2971) عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا رسول الله، أعطيت بني المطلب وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد ". [بمنزلة واحدة: من حيث القرابة، فعثمان من بني عبد شمس، وجبير من بني نوفل، وهما والمطلب وهاشم أبناء عبد مناف شيء واحد: من حيث المنزلة في الإسلام، لأنهم ناصروه - صلى الله عليه وسلم - جيمعاً قبل الإسلام وبعده]. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 زكاة الدَّيْن وجوب الزكاة فيه: من كان له ديون تبلغ نصاباً، وحدها أو مع ما عنده، وجبت فيها الزكاة إذا حال عليها الحول، كما تجب على ما في يده من المال, وذلك لأنه مال بلغ نصاباً وحال عليه الحول، فوجبت فيه الزكاة. وكونه ليس في يده لا يمنع من وجوبها فيه، كالتجارة الغذائية والوديعة، فإن في كل منهما زكاة وإن كانت ليست في يده. متى تخرج زكاة الدين : أ-إذا كان الدين حالاً، وكان الدائن قادراً على أخذه من المدين، بأن كان المدين مليئاً يجد ما يفي به دينه، وجب على الدائن إخراج زكاته فور وجوبها وإن لم يقبضه، لأنه في حكم المال الذي تحت يده، فهو كالوديعة في يد المدين، يقدر على أخذه والتصرف فيه. ب- إن كان الدين حالاً، وكان الدائن غير قادر على أخذه لعسر المدين أو إنكاره له ولا بنية للدائن عليه، فلا يجب على الدائن إخراج زكاته في الحال، لأنه غير قادر على أخذه والتصرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 فيه. وإنما يحسب ويحفظ فترة بقائه في ذمة المدين، فإذا قبضه زكاه عما مضى عليه من السنين. لأن زكاته كل سنة لزمته وثبتت في ذمته، كمال الغائب عنه، فوجب عليه وفاؤها حين قبضه له. ج-كذلك إذا كان الدين مؤجلاً، فإنه لا يجب عليه إخراج الزكاة حتى يحل الأجل، فإذا حل الأجل وقبضه ـ أو لم يقبضه وكان قادراً على قبضه ـ زكاه عما مضى من السنين. وإن حل الأجل ولم يقبضه وكان غير قادر على قبضه انتظر، فإذا قبضه زكاه عما مضى من السنين. وجوب الزكاة في مال من عليه دين: من ملك نصاباً من الأموال الزكوية التي مر ذكرها، وحال عليه الحول في ملكه، وجبت فيه الزكاة، ولزمه إخراجها على ما مر، وإن كانت عليه ديون تستغرق ما لديه من مال أو تنقصه عن النصاب. وكذلك الحال بالنسبة لمن ملك عروضاَ للتجارة، وبلغت نصاباً بعد حول من ملكيتها، فإن الدين الذي عليه لا يمنع وجوب الزكاة في المال الذي تحت يديه، من عروض تجارة وغيرها. وذلك لأن الدين يتعلق بالذمة، والزكاة تتعلق بالمال الذي تحت يده وتجب فيه، وإذا وجبت الزكاة في المال أصبحت ملكاً لمن وجبت له، وهم المستحقون لها، وإن بقيت في يد صاحب المال، فوجب أداؤها إليهم. ويؤيد هذا: ما رواه مالك في الموطأ (1/ 253) أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كان يقول: " هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤد دينه، حتى تحصل أموالكم، فتؤدون منه الزكاة ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 فقد نبه - رضي الله عنه - الناس حتى يؤدوا ما عليهم من ديون قبل أن يمضي الشهر الذي يحول فيه حول الزكاة، وتثبت الزكاة في أموالهم بمضيه، ولا يلتفت إلى ما عليهم من ديون. [انظر الأم للشافعي: 42 ـ 43] (1).   (1) لا مانع من أن نشير هنا إلى أن مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى: أن من عليه دين لا تجب عليه الزكاة إلا إذا كان يملك ما يزيد عن دينه نصاباً أو أكثر، فإنه يزكي الزائد عن دينه لا غير. وأنت ترى أن الأورع في الدين والأحوط لمصلحة الفقير هو الأخذ بمذهب الشافعي رحمة الله تعالى على الجميع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 الصيام أحكامه الفقهية وأدلته وأسراره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 الصيام تعريفه، وتشريعه، وأسراره تعريفه: الصيام لغة: الإمساك عن الشيء، كلاماً كان أو طعاماً. ودليل ذلك قوله تعالى، حكاية عن مريم عليها السلام: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} مريم: 26: أي إمساكاً وسكوتاً عن الكلام. والصيام شرعاً: إمساك عن المفطرات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية. تاريخ تشريع الصيام: فرض صيام شهر رمضان في شعبان من السنة الثانية للهجرة. وقد كان الصيام قبل ذلك معروفاً عند الأمم السابقة، وعند أهل الكتاب الذي عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة: 183. إلا أن وجوب صوم رمضان لم يشرع من قبل، فهذه الأمة تلتقي مع الأمم السابقة في أصل مشروعية الصوم، وتختص أمة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بفرضية شهر رمضان بالذات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 دليل مشروعية صوم شهر رمضان: الأصل في فرضية صوم شهر رمضان قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} البقرة: 185 وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان " رواه البخاري (8) ومسلم (16) وغيرهما. وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي سأله: أخبرني ماذا فرض علي الله من الصوم؟ فقال: " صيام رمضان " رواه البخاري (1792) ومسلم (11). حكم تارك صيام شهر رمضان من غير عذر: لما كان صيام شهر رمضان ركناً من أركان الإسلام، ومن الفرائض المعلومة من الدين بالضرورة، كما جاحد وجوبه كافرا، أي يعامل معاملة المرتد، فيستتاب، فإن تاب قبل منه، وإلا قتل حداً. وذلك إن لم يكن قريب العهد بالإسلام، أو نشأ بعيدا عن العمران ـ كما يقول العلماء ـ أي بعيداً عن العلماء. أما من ترك صومه بغير عذر، وكان غير جاحد لوجوبه، وذلك كأن قال: الصوم واجب علي، ولكني لا أصوم فإنه يكون فاسقاً، وليس بكافر، ووجب على حاكم المسلمين حبسه ومنعه من الطعام والشراب نهاراً ليحصل له الصوم بذلك، ولو صورة. من حكم الصيام وأسراره وفوائده: ينبغي للمسلم أن يعلم قبل كل شيء: أن صيام شهر رمضان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 عبادة فرضها الله تعالى. ومعنى كونها عبادة: أن يقوم المسلم بأدائها استجابة لأمر الله تعالى، وقياماً بحق العبودية له، بقطع النظر عن أي نتيجة يمكن أن تنتج عن عبادة الصوم. فإذا فعل المسلم ذلك، فلا مانع أن يتطلع بعدئذ إلى الحكم والأسرار الإلهية الكامنة في تلك العبارة، من صيام وغيره، ومما لا شك فيه أن أحكام الله تعالى كلها قائمة على حكم وأسرار وفوائد للعباد، ولكن لا يشترط أن يكون العباد على علم بها. ومما لا شك فيه أيضاً أن للصوم حكماً وفوائد كثيرة قد يطلع العباد على بعضها. ويبقى الكثير منها خافياً عليهم. ومن هذه الحكم والفوائد التي يمكن أن يستشفها المسلم ويلمها في الصوم ما يلي: 1ـ إن الصيام من شأنه أن يوقظ قلب المؤمن لمراقبة الله عز وجل، ذلك لأن الصائم ما إن يستدبر جزءاً من نهاره حتى يحس بالجوع والعطش، وتهفو نفسه إلى الطعام والشراب، لكن شعوره بأنه صائم يحول دون تحقيقه لرغبات نفسه، تحقيقاً لأمر الله عز وجل، ومن خلال هذا التدافع يستيقظ القلب، وينمو فيه شعور المراقبة لله تعالى، ويظل على ذكر لربوبيته وعظيم سلطانه، كما يظل متنبهاً إلى أنه عبد خاضع لحكم الله تعالة، ومنقاد لإرادته. 2ـ إن شهر رمضان شهر قدسي بين أشهر السنة كلها، يريد الله عز وجل من عباده أن يملؤوه بالطاعات والقربات، ويحققوا فيه أسمى معاني عبوديتهم لله سبحانه وتعالى، وهيهات أن يتحقق ذلك أمام موائد الطعام، وفي مجالس الشراب، وبعد امتلاء المعدة، وتصاعد أبخرة الطعام إلى الفكر والدماغ، فكان في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 شريعة صيام هذا الشهر أيسر سبيل للقيام بحقه، وأداء واجب العبودية فيه. 3ـ إن استمرار حالة الشبع في حياة المسلم من شأنه أن يغمر مشاعره بأسباب القسوة، وينمي في نفسه عوامل الطغيان، وكلاهما مما يتنافي مع شأن المسلم، فكان في شريعة الصيام ما يهذب نفس المسلم، ويرهف مشاعره. 4ـ إن من أهم المبادئ التي ينهض عليها المجتمع الإسلامي تراحم المسلمين وتعاطفهم، وهيهات أن يرحم الغني الفقير رحمة صادقة من غير أن يتخلله شعور بآلام الفقر وشدته، ومرارة الجوع وضراوته. وشهر الصيام خير ما يكسب الغني شعور الفقير، ويجعله يعيش معه في آلامه وحرمانه، ومن ثم كان الصوم خير ما يثير في نفس الأغنياء دوافع العطف والرحمة والمواساة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 ثبوت شهر رمضان يثبت دخول شهر رمضان بأحد أمرين: الأول: رؤية الهلال، ليلة الثلاثين من شعبان، وذلك بأن يشهد أمام القاضي شاهد عدل أنه قد رأى الهلال. الثاني: إكمال شعبان ثلاثين يوماً: وذلك فيما إذا تعسرت رؤية الهلال بسبب غيوم، أو إذا لم يتقدم شاهد عدل يشهد بأنه قد رأى الهلال، فيتمم شهر شعبان ثلاثين يوماً، إذ هو الأصل ما لم يعارضه شيء. ودليل هذين الأمرين: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً " رواه البخاري (1810) ومسلم (1080) وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني رأيت هلال رمضان. فقال "أتشهد أن لا إله إلا الله " قال: نعم. قال: " أتشهد أن محمداً رسول الله " قال: نعم. قال: " يا بلال، أذن في الناس، فليصوموا غداً " صححه ابن حبان (موارد الظمآن 870) والحاكم (1/ 424) هذا، وإذا رؤي الهلال ببلد لزم الصوم أهل البلاد القريبة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 بلد الرؤية، دون أهل البلاد البعيدة، لأن البلاد القريبة ـ كدمشق وحمص وحلب ـ في حكم البلد الواحد، بخلاف البلاد البعيدة كدمشق، والقاهرة، ومكة ويعتبر البعد باختلاف المطالع. ودليل ما سبق: ما رواه مسلم (1087) عن كريب قال: استهل عليَّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني ابن عباس - رضي الله عنه -: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. قال: أنت رأيته؟ قلت: نعم. ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية، فقال: كلنا رأيناه ليلة السبت. فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، أو نراه. فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ قال: لا، هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعليه قال العلماء: إذا لم يجب الصوم على أهل بلد بعيد فسافر إليه شخص من بلد الرؤية فإنه يوافقهم في الصوم آخراً، وإن كان قد أتم ثلاثين يوماً، لأنه بالانتقال إلى بلدهم صار واحداً منهم، فيلزمه حكمهم، ومن سافر من البلد الذي لم ير فيه الهلال إلى بلد الرؤية أفطر معهم، سواء أصام ثمانية وعشرين يوماً، وذلك بأن كان رمضان عندهم ناقصاً فأفطر معهم في التاسع والعشرين، أم صام تسعة وعشرين، وذلك بأن كان رمضان عندهم تاماً لكنه يقضي يوماً إن صام ثمانية وعشرين، لأن الشهر لا يكون كذلك. ومن أصبح في بلد معيداً، فسافر إلى بلد بعيد أهله صيام وجب عليه أن يمسك بقية اليوم موافقة لهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 شروط وجوب الصوم وشروط صحته يشترط لوجوب صيام رمضان أن تتوفر الأمور التالية: 1ـ الإسلام: فلا يجب الصوم على الكافر، بمعنى أنه لا يطالب في دار الدنيا بالصيام، لأنه فرع عن دخوله في الإسلام، وما دام غير داخل في الإسلام لا معنى لصيامه، ولا معنى لمطالبته بالصوم. أما في الآخرة فالكافر يعاقب على كفره، وعلى تركه لفروع الإسلام أيضاً 2ـ التكليف: ويقصد بالتكليف أن يكون المسلم بالغاً عاقلاً، فإن فقد أحد هذين الوصفين سقطت صفة التكليف عنه، وإذا سقطت صفة التكليف عنه لم يطالب بشيء من الوظائف الدينية. ودليل ذلك: حديث علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل " رواه أبوداود (4403) وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 3ـ الخلو عن الأعذار المانعة من الصوم، أو المبيحة للفطر: أما الأعذار المانعة فهي: أـ التلبس بالحيض، أو النفاس جزءاً من أجزاء النهار. ب ـ الإغماء أو الجنون المطبق بياض اليوم كله، فإن أفاق ولو لحظة من النهار سقط العذر، ووجب إمساك بقية اليوم. وأما الأعذار المبيحة للإفطار فهي: 1ـ المرض الذي يسبب لصاحبه ضرراَ شديداً، أو ألماً أو انزعاجاً شديدين. أما إن اشتد المرض أو الألم بحيث خشي معه على نفسه الهلاك وجب الفطر عندئذ. 2ـ السفر الطويل الذي لا يقل عن 83 كم بشرط أن يكون سفراً مباحاً، وبشرط أن يستغرق السفر سائر اليوم. أما إن أصبح صائماً وهو مقيم، ثم أحدث سفراً أثناء النهار لم يجز الإفطار. ودليل هذين العذرين قوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} البقرة: 185. 3ـ العجز عن الصيام: فلا يجب الصوم على من لا يطيقه لكبر، أو مرض لا يرجى برؤه، لأن الصوم إنما يجب على من يقدر عليه. ودليل ذلك قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} البقرة: 184. وقرئ: " يطيقونه " أي يكلفونه فلا يطيقونه. قال ابن عباس - رضي الله عنه -: هو الشيخ الكبير والمرأة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً رواه البخاري (4235) شروط صحة الصوم يشترط لصحة الصوم الشروط التالية: 1ـ الإسلام، فلا يصح صوم الكافر بحال. 2ـ العقل: أي التمييز، فلا يصح صوم المجنون والطفل غير المميز، لفقدان النية، ويصح صوم الصبي المميز، ويؤمر به إذا أطاق الصوم متى بلغ السابعة من العمر ويضرب على تركه إذا بلغ العشر، كالصلاة. 3ـ الخلو من الأعذار المانعة من الصوم، وهي التلبس بحيض أو نفاس، والإغماء أو الجنون المطبقين بياض اليوم كله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 أركان الصوم يتكون الصيام من تحقيق ركنين أساسين، هما: 1ـ نية الصوم. 2ـ الإمساك عن المفطرات من الفجر إلى الغروب. أولاً ـ النية: وهي قصد الصيام، ومحلها القلب، ولا تكفي باللسان، ولا يشترط التلفظ بها، ودليل وجوب النية قوله - صلى الله عليه وسلم - " إنما الأعمال بالنيات " رواه البخاري (1) ومسلم (1907) فإن كانت النية لصوم رمضان اشترط فيها تحقق الأمور التالية: 1ـ التبييت: وهو أن يتوافر لديه القصد في الليل: أي قبل طلوع الفجر، فإن لم يقصد إلى الصيام إلا بعد طلوع الفجر بطلت النية. وبطل الصوم. ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: {من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له} رواه الدارقطني (2/ 172) وقال: رواته ثقات. ورواه البيهقي (4/ 202) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 2ـ التعيين: وذلك بأن يعين نوع الصوم، فيعزم في قلبه على صيام غد عن رمضان، فلو قصد في نفسه مطلق الصوم لم تصح نيته أيضا. لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث: إنما الأعمال بالنيات السابق: {وإنما لكل امرئ ما نوى} أي ينصرف فعله إلى النوع الذي قصده بالفعل. 3ـ التكرار: أي أن ينوي كل ليلة قبل الفجر عن صيام اليوم التالي، فلا تغني نية واحدة عن الشهر كله، لأن صيام شهر رمضان ليس عبادة واحدة، بل هي عبادات متكررة، وكل عبادة لابد أن تنفرد بنية مستقلة. أما صوم النافلة فلا يشترط في نيتها تبييت ولا تعيين، فيصبح بنية قبل الزوال، ويصح بنية مطلقة. ودليل ذلك حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها يوماً: " هل عندكم من غداء؟ قالت لا. قال: فإني إذاً أصوم ". رواه الدارقطني. ثانياً ـ الإمساك عن المفطرات: والمفطرات كل من الأمور التالية: 1ـ الأكل والشرب: إذا كان ذلك عمداً، مهما كان المأكول أو المشروب قليلاً، فإن نسي أنه صائم، وأكل أو شرب لم يفطر مهما كثر الطعام، أو الشراب. ودليل ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 الله - صلى الله عليه وسلم -: " من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه " رواه مسلم (1155) والبخاري (1813) 2ـ وصول عين إلى الجوف من منفذ مفتوح: والمقصود بالعين: أي شيء تراه العين. والجوف: هو الدماغ أو ما وراء الحلق إلى المعدة والأمعاء. والمنفذ المفتوح: هو الفم والأذن والقبل والدبر من الذكر والأنثى. فالقطرة من الأذن مفطرة، لأنها منفذ مفتوح. والقطرة في العين مفطرة، لأنه منفذ غير مفتوح. والحقنة الشرجية مفطرة، لأن الشرج منفذ مفتوح. والحقنة الوردية لا تفطر، لأن الوريد غير مفتوح. وهكذا. وهذا كله أيضا بشرط التعمد، فإن فعل شيئاً من ذلك ناسياً لم يضر قياساً على الطعام والشراب. ولو وصل جوفه ذباب أو بعوضة، أو غبار الطريق لم يفطر أيضاً، لما في الاحتراز عن ذلك من المشقة الشديدة. ولو ابتلع ريقه لم يفطر لعسر التحرز عنه. ولو ابتلع ريقه متنجساً ـ كمن دميت لثته، ولم يغسل فمه، وإن ابيض ريقه ـ افطر. ولو تمضمض أو استنشق فسبق ماء المضمضة أو الاستنشاق إلى جوفه، فإنه لا يفطر إن لم يكن قد بالغ في ذلك أثناء الوضوء، فإن كان قد بالغ في ذلك أفطر، لأنه فعل ما هو منهي عنه أثناء الصوم. ولو بقي طعام بين أسنانه فجرى به ريقه من غير قصد لم يفطر إن عجز عن تمييزه ومجه، لأنه معذور فيه وغير مقصر، فإن لم يعجز أفطر لتقصيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 ولو أكره حتى أكل أو شرب لم يفطر أيضاَ، لأن حكم اختياره ساقط. 3ـ القيء المتعمد فيه: فهو مفطر، وإن تأكد الصائم أن شيئا لم يعد ثانية إلى جوفه، ولكن إذا غلبه القئ لم يضر، ولو علم أن بعضاً مما خرج قد عاد إلى جوفه بدون قصد منه. ودليل ذلك ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من ذرعه قئ ـ وهو صائم فليس عليه قضاء، وإن استقاء فليقض" أخرجه أبو داود (2380) والترمذي (720) وغيرهما. ومعنى ذرعه: غلبه. 4ـ الوطء عمداً: ولو من بغير إنزال. ودليل ذلك قوله تعالى: (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) البقرة: 187. والمراد بالخيط الأبيض: ضوء النهار. والخيط الأسود: ظلمة الليل. والفجر: ضوء يطلع معترضاَ في الأفق ينتهي بطلوعه الليل ويبدء النهار. ومعنى تباشروهن: تجامعوهن. وأنتم عاكفون: أي في حال اعتكاف. أما لو وطئ ناسياً فإنه لا يفطر على الأكل والشرب ناسياً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 5ـ الاستمناء: وهو استخراج المني بمباشرة تقبيل ونحوه، أو بواسطة اليد، فإن تعمد ذلك الصائم أفطر. أما إن غلب على أمره فلا يفطر. هذا وتكره القبلة في رمضان كراهة تحريم لمن حركت شهوته، رجلا كان أو امرأة، لأن في ذلك تعريضاَ لإفساد الصوم. أما من لم تحرك شهوته، فالأولى له تركها حسماً للباب. روى مسلم (1106) عن عائشة رضي الله عنهما قالت: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلني وهو صائم. وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يملك إربه ". قال العلماء: ومعنى كلام عائشة رضي الله عنهما: أنه ينبغي لكم الاحتراز عن القبلة، ولا تتوهموا من أنفسكم أنكم مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - في استباحتها، لأنه يملك نفسه، ويأمن الوقوع في قبلة يتولد منها إنزال أو شهوة، أو هيجان نفس ونحو ذلك، وأنتم لا تأمنون ذلك. 6ـ الحيض والنفاس: فإن كلا منهما عذر يمنع من صحة الصوم، فإذا طرأ على المرأة الصائمة حيض أو نفاس في جزء من النهار بطل صيامها، ووجب عليها قضاء ذلك اليوم. روى البخاري (298) ومسلم (80) عن أبي سعيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في المرأة، وقد سئل عن نقصان دينها: " أليس إذا حاضت لم تصل، ولم تصم؟ ". 7ـ الجنون والردة: وكلاهما مانع من صحة الصوم، لخروج من قام به ذلك عن أهليه العبادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 وهكذا يجب على الصائم الإمساك عن هذه المفطرات ليصح صومه، بدءاً من أول طلوع الفجر إلى تحقق غروب الشمس، فإن باشر الصائم شيئاً من هذه المفطرات ظانا أن الفجر لم يطلع بعد، فتبين خطؤه بطل صومه، وامسك النهار حرمة للشهر، وقضى بدلاً عنه. وكذلك إذا أفطر في آخر النهار ظاناً غروب الشمس، ثم تبين أنها لم تكن قد غابت بعد بطل صيامه، ووجب عليه القضاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 آداب الصيام ومكروهاته آداب الصيام للصيام آداب كثيرة نوجزها فيما يلي 1ـ تعجيل الفطر: ويكون ذلك إثر تحقق غروب الشمس. ودليل ذلك ما رواه البخاري (1856) ومسلم (1098) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر ". والأفضل أن يفطر على رطب أو تمر، فإن لم يجد فعلى ماء. روي الترمذي (696) وأبو داود (2356) أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كان يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم يكن حسا حسوات من ماء، فإنه طهور ". 2ـ السَحور: والسَحور يفتح السين ما يؤكل في السحر، وبضم السين: الأكل ودليل استحبابه ما رواه البخاري (823) ومسلم (1095) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " تسحروا فإن في السحور بركة " والحكمة من استحباب السحور التقوي على الصوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 روي الحاكم في مستدركه (1/ 425) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " واستعينوا بطعام السحر على صيام النهار " ويدخل وقت السحور بنصف الليل. ويحصل فضل السحور بكثير المأكول، وقليله، وبالماء. روى ابن حبان في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " تسحروا ولو بجرعة ماء " (موارد الظمآن: 884). 3ـ تأخير السحور: وذلك بحيث ينتهي من الطعام والشراب قبيل طلوع الفجر بقليل. ودليل ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده (5/ 147) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور ". وروى البخاري (556) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزيد بن ثابت تسحراً، فلما فرغا من سحورهما قام نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى قلنا لأنس: كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية. 4ـ ترك الهجر من الكلام: كالشتم والكذب، والغيبة والنميمة، وصون النفس عن الشهوات: كالنظر إلى النساء، وسماع الغناء روى البخاري (1804) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " واعلم أن الشتم والكذب والغيبة والنميمة ونحو ذلك أمور محرمة بحد ذاتها، وإنما الجديد في الأمر بالنسبة للصائم أنها ـ علاوة على كونها إثماً ـ تحبط أجر صيام، وإن صح معها الصوم، وتم الواجب. ولذلك تعد هذه الأمور من آداب الصيام وسنته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 5ـ الاغتسال عن الجنابة قبل الفجر: ليكون على طهر من أول الصوم ـ ومعنى ذلك أن الجنابة لا تنافي الصيام، ولكن الأفضل إزالتها قبل الفجر. ودليل ذلك ما رواه البخاري (1825، 1830): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام، ثم يغتسل ويصوم. وكذلك يستحب الغسل عن الحيض والنفاس قبل الفجر إذا تم الطهر ونقطع الدم قبل ذلك. 6ـ ترك الحجامة والفصد، ونحوهما: لأن ذلك يضعف الصائم، وترك ذوق الطعام وعلكه، خوفاً من وصول شيء منه إلى جوفه، لأن وصوله إلى الجوف يفطر. 7ـ أن يقول عند فطره: (اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله). 8ـ أن يفطر الصائمين: وذلك بأن يطعمهم، فإن عجز عن إطعامهم فطرهم على تمرة أو شربة ماء. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من فطر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً " رواه الترمذي (807) وصححه. 9ـ كثرة الصدقة: وتلاوة القرآن ومدارسته. والاعتكاف في المسجد، لاسيما في العشر الأخير من رمضان. عن أنس رضي الله عنه قيل: يا رسول الله فأي الصدقة أفضل؟ قال: صدقة في رمضان " رواه الترمذي (663) وروي البخاري (1803) ومسلم (2308) أن جبريل كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 يلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - كل سنة في رمضان حتى ينسلخ فيعرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن. وسنتحدث عن الاعتكاف في آخر باب الصوم. مكروهات الصيام: مكروهات الصيام تتمثل في مخالفة الآداب المذكورة، فبعضها يدخل في المكروه التنزيهي: كتأخير الإفطار، وتعجيل السحور، وبعضها يدخل في المحرمات، كالغيبة والنميمة، وقول الزور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 قضاء رمضان والفدية والكفارة 1ـ المسافر والمريض: من فاته شيء من رمضان ـ لسفر أو مرض ـ وجب عليه قضاؤه قبل حلول شهر رمضان من العام الذي يليه، فإن لم يقض تساهلاً حتى دخل رمضان آخر أثم، ولزمه مع القضاء فدية، وهي أن يطعم عن كل يوم مد، ومن غالب قوت البلد، يتصدق به على الفقراء، ويتكرر بتكرر السنين. والمد يساوي ملء حفنة، وبالوزن: رطل وثلث بالرطل البغدادي، وهو ما يساوي 600 غراماً تقريباً. أما إن استمر عذره: كأن استمر مرضه حتى دخل عليه رمضان آخر فلا يجب عليه إلا القضاء، ولا فدية بهذا التأخير. فإن مات ولم يقض فلا يخلو: إما أن يكون قد مات قبل أن يتمكن من القضاء، أو مات بعد التمكن، ولكنه لم يقض تقصيراً. فإن مات قبل التمكن من القضاء فلا إثم عليه، ولا تدارك له، لعدم تقصيره. ومن مات بعد التمكن من القضاء صام عنه وليه ـ ندباً ـ الأيام الباقات في ذمته. والمقصود بالولي هنا أي قريب من أقاربه. ودليل ذلك ما رواه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 البخاري (1851) ومسلم (1147) عن عائشة رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من مات وعليه صيام صام عنه وليه ". وروى البخاري (1852) أيضاً، ومسلم (1148) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه؟ قال: " نعم فدين الله أحق أن يقضى ". هذا ويصح صوم الأجنبي عنه إذا استأذن بذلك أحد أقاربه، فإن صام بغير إذن، ولا وصية من الميت لم يصح بدلاً عنه. فإن لم يصم عنه أحد أطعم عنه لكل يوم مد، ويخرج هذا من التركة وجوباً كالديون، فإن لم يكن له مال جاز الإخراج عنه، وتبرأ ذمته. روى الترمذي (817) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكيناً) وروى أبو داود (2401) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إذا مرض الرجل في رمضان، ثم مات ولم يصم أطعم عنه). 2ـ الكبير العاجز، والمريض الذي لا يرجى برؤه: إذا اضطر الشيخ المسن إلى الفطر، وجب عليه أن يتصدق عن كل يوم بمد من غالب قوت البلد، ولا يجب عليه، ولا على أحد من أوليائه غير ذلك. روى البخاري (4235) عن عطاء: سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} البقرة 184. قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 هذا، ومما يجب أن يعلم أن المريض الذي لا يرجى برؤه حكمه حكم المسن الذي لا يقدر على الصوم، فيفطر، ويتصدق عن كل يوم بمد من غالب قوت البلد. 3ـ الحامل والمرضع: إذا أفطرت الحامل والمرضع، فهي إما أن تفطر خوفاً على نفسها، أو خوفاً على طفلها. فإن أفطرت خوفاً من حصول ضرر بالصوم على نفسها وجب عليها القضاء فقط قبل حلول شهر رمضان آخر. روى الترمذي (715) وأبو داود (2408) وغيرهما عن أنس الكعبي - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله تعالى وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحامل أو المرضع الصوم ". أي خفف بتقصير الصلاة، ورخص في الفطر مع القضاء. وإن أفطرت خوفاً على طفلها، وذلك بأن تخاف الحامل من إسقاطه إن صامت، أو تخاف المرضع أن يقل لبنها فيهلك الولد إن صامت، وجب عليها والحالة هذه القضاء والتصدق بمد من غالب قوت البلد عن كل يوم أفطرته. ومثل هذه الصورة أن يفطر الصائم لإنقاذ مشرف على الهلاك، فيجب عليه مع القضاء التصدق بمد طعام. روى أبو داود (2318) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) البقرة 184. قال كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعماً كل يوم مسكيناً، والحبلى والمرضع إذا خافتا ـ يعني على أولادهما ـ أفطرتا وأطعمتا). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 كفارة الإفطار في رمضان موجب الكفارة: هو إفساد صوم يوم من أيام رمضان بجماع بشرط أن يكون المجامع ذاكراً لصومه، عالماً بالحرمة، غير مترخص بالسفر. فمن فعل ذلك ناسياً للصوم، أو جاهلاً بالحرمة، أو أفسد به صوماً غير صوم رمضان، أو أفطر معتمداً ولكن بغير الجماع، أو كان مسافراً سفراً يخوله الإفطار فجامع، فلا كفارة عليه، وإنما عليه القضاء فقط. من تجب عليه الكفارة: إنما تجب الكفارة على الزوج المجامع، ولا تجب على الزوجة، أو المرأة الموطوءة وإن كانت صائمة، لأن جناية الواطئ أغلظ فناسب أن يكون هو المكلف بالكفارة. ما هي الكفارة؟ الكفارة التي تجب بإفساد الصوم هي عتق رقبة مؤمنة، أي نفس رقيقة ذكراً كانت أم أنثى، فإن لم يجد، أو لم يستطيع، فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أيضا فإطعام ستين مسكيناً لكل مسكين مد من غالب قوت البلد. فإن عجز عن الكل ثبتت الكفارة في ذمته حتى يقدر على خصلة منها. ودليل ذلك ما رواه البخاري (1834) ومسلم (1111) وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله، هلكت. قال: " مالك؟ " قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم ـ في رواية: في رمضان ـ فقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " هل تجد رقبة تعتقها؟ " قال: لا. قال: " فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ " قال: لا. فقال: " فهل تجد إطعام ستين مسكيناً قال: لا. قال: فمكث النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينا نحن على ذلك أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرق فيه تمر ـ وعاء ينسج من ورق النخل والعرق: المكتل ـ قال: " أين السائل؟ " فقال: أنا. قال: " خذ هذا فتصدق به". قال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها ـ يريد الحرتين ـ أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه، ثم قال: " أطعمه أهلك ". قال العلماء: ولا يجوز للفقير الذي قدر على الإطعام صرف ذلك الطعام إلى عياله، وكذلك غيرها من الكفارات، وما ذكر في الحديث فإنما هو خصوصية لذلك الرجل. هذا ومما ينبغي أن يعلم أنه يجب على المجامع مع الكفارة قضاء اليوم الذي أفطره من رمضان بالجماع. وأن الكفارة تتكرر بتكرر الأيام التي أفطرها بالجماع. فإذا جامع في يومين من رمضان لزمه ـ مع القضاء ـ كفارتان، وإذا جامع في ثلاثة لزمه ثلاث كفارات، وهكذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 صوم التطوع وهو الصوم المسنون. والتطوع: التقرب إلى الله تعالى بما ليس بفرض من العبادات. ولا شك أن الصوم من أفضل العبادات. ففي البخاري (2685) ومسلم (153) عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من صام يوماً في سبيل الله باعد الله تعالى وجهه عن النار سبعين خريفاً ". وحكمة تشريع الصوم المسنون زيادة التعبد والتقرب إلى الله، فما من عبادة إلا وتزيد المرء قرباً من ربه عز وجل، ولذلك جاء في الحديث " ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه " ولا شك أن محبة الله تعالى لعبده، وقرب العبد من ربه تقصيه عن معصيته، وتدنيه من طاعته، والمسارعة إلى فعل البر والمعروف، وبهذا يستقيم شأن الإنسان وتصلح حياته. وسنذكر خلاصة عن صوم التطوع وأنواع الصوم المسنون: 1ـ صوم يوم عرفة: وهو تاسع ذي الحجة، وذلك لغير الحاج. عن أبي قتادة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم عرفة، فقال: " يكفر السنة الماضية والباقية " رواه مسلم (1162). ويوم عرفة أفضل الأيام. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة " رواه مسلم (1338). أما الحاج فلا يسن له صوم يوم عرفة، بل يسن له فطره اتباعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - وليقوى على الدعاء في ذلك اليوم. 2ـ صوم يوم عاشوراء وتاسوعاء: وعاشوراء: هو عاشر المحرم، وتاسوعاء: هو التاسع منه ودليل استحباب صومهما ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام يوم عاشوراء، وأمر بصيامه " رواه البخاري (1900) ومسلم (1130). وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: " يكفر السنة الماضية " رواه مسلم (1162). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع " رواه مسلم (1134) لكنه - صلى الله عليه وسلم - مات قبله. وحكمة صوم يوم تاسوعاء مع عاشوراء إنما هي الاحتياط لاحتمال الغلط في أول الشهر، ولمخالفة اليهود، فإنهم يصومون العاشر. لذلك استحب ان لم يصم مع عاشوراء تاسوعاء أن يصوم اليوم الحادي عشر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 3ـ صوم يوم الاثنين والخميس: ودليل ذلك: ما رواه الترمذي (745) عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحرى صوم الاثنين والخميس " وروى أيضاً (747) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم ". 4ـ صوم ثلاثة أيام من كل شهر: والأفضل أن تكون أيام الليالي البيض. وهي اليوم الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر من كل شهر قمري. وسميت الأيام البيض، لأن ليالي تلك الأيام من كل شهر تكون مستنيرة بضياء القمر. ودليل استحباب صيام ما ذكر ما رواه البخاري (1124) ومسلم (721) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام ". وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " صوم ثلاثة من كل شهر صوم الدهر " رواه مسلم (1162). وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا صمت من الشهر ثلاثاً، فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة " رواه الترمذي (761) وقال: حديث حسن. وروى أبو داود (2449) عن قتادة بن ملحان رضي الله عنه قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نصوم البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة) وقال: "هن كهيئة الدهر ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 لكن يستثني صيام اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، فإن صومه حرام كما سيأتي إن شاء الله تعالى. 5ـ صوم ستة أيام من شوال: والأفضل تتابعها عقب عيد الفطر مباشرة، ولكن لا يشترط، بل تحصل السنة بصيامها متفرقات. روى مسلم (1164) عن أبي أيوب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من صام رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال، كان كصيام الدهر". قطع الصيام المسنون: إذا تلبس المسلم بصيام مسنون جاز له أن يقطعه بالإفطار متى شاء، ولا قضاء عليه، وإن كان يكره له ذلك. قال - صلى الله عليه وسلم - " الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر" رواه الحاكم (1/ 439). أما إذا تلبس بصيام قضاء فرض فإنه يحرم عليه قطعه، لأن التلبس بالفرض يوجب إتمامه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 الصوم المكروه والصوم المحرم أولاً: الصوم المكروه إن الإنسان عبد لله تعالى، ولله عز وجل أن يتعبده بما شاء فيتعبده بالصوم، كما يتعبده بالفطر، وليس لابن آدم أن يعترض، ولا أن يعارض، وكل ما يجب عليه أن يقول: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) والصيام المكروه هو الذي يترتب على تركه الثواب، ولا يترتب على فعله ثواب ولا عقاب. ومن الصوم المكروه: 1ـ إفراد يوم الجمعة بالصوم: ودليل ذلك ما رواه البخاري (1884) ومسلم (1144) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده ". 2ـ إفراد يوم السبت بالصوم: ودليل ذلك ما رواه الترمذي (744) ـ وحسنه ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض الله عليكم " وكذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 قال العلماء يكره إفراد الأحد بالصوم. لأن اليهود تعظم يوم السبت والنصارى يوم الأحد. لكن لا يكره جمع السبت مع الأحد في الصيام، لأنه لا يعظمهما أحد مجتمعين. روى أحمد (6/ 324) أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر مما يصوم من الأيام يقول: "إنهما يوما عيد المشركين " فأنا أحب أن أخالفهم ". 3ـ صيام الدهر: وهذا خاص بمن خاف بهذا الصيام أن يلحقه ضرر أو يفوت حقا لغيره. روى البخاري (1867) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بين سلمان وبين أبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها ما شأنك؟ فقالت: أخوك أبوالدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فقال سلمان: يا أبا الدرداء: إن لربك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فذكر أبوالدرداء للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما قاله سلمان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " صدق سلمان " أما من لم يضر به صيام الدهر، ولم يفوت عليه حقاً لأحد، فإنه لا يكره له، بل يستحب، لأن الصوم من أفضل العبادات. ثانياً: الصوم المحرم يحرم صيام الأيام التالية: 1ـ صيام يومي عيد الفطر والأضحى: ودليل ذلك ما رواه مسلم (1138) عن أبي هريرة - رضي الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 عنه -: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صيام يومين: يوم الأضحى، ويوم الفطر ". 2ـ صوم أيام التشريق الثلاثة: وهي الأيام التي تلي يوم عيد الأضحى، ودليل تحريم صومها ما رواه مسلم (1142) عن كعب بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه، وأوس بن الحدثان أيام التشريق، فنادى: " أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأيام منى أيام أكل وشرب ". وروى أبو داود (2418) عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: " فهذه الأيام التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بإفطارها وينهانا عن صيامها " قال مالك: وهي أيام التشريق. 3ـ صوم يوم الشك: وهو يوم الثلاثين من شعبان، حيث يشك فيه الناس: هل هو من شعبان، أو من رمضان؟ وحيث لم تثبت رؤية الهلال فيه. فلا يجوز صومه، بل ينبغي اعتباره يوماً متبقيا من شعبان. ودليل تحريم صيامه ما رواه أبو داود (2334) والترمذي (686) وصححه ـ عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من صام اليوم الذي يشك فيه الناس فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -. 4ـ صوم النصف الثاني من شعبان. ودليل ذلك ما رواه أبوداود (2337) والترمذي (738) ـ وصححه ـ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا انتصف شعبان فلا تصوموا ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 وعند ابن ماجه (1651) " إذا كان النصف من شعبان فلا صوم حتى يجيء رمضان ". لكن تنتفي حرمة صوم يوم الشك، والنصف الثاني من شعبان إذا وافق عادة للصائم، أو وصل صيامه بما قبل النصف الثاني من شعبان. روى البخاري (1815) ومسلم (1082) واللفظ له عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 الاعتكاف تعريفه: الاعتكاف في اللغة: الإقامة على الشيء والملازمة له. وشرعاً: اللبث في المسجد بنية مخصوصة. دليل تشريعه: والأصل في مشروعية الاعتكاف قول الله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} البقرة: 187. وما رواه البخاري (1922) ومسلم (1172) عن عائشة رضي الله عنها " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف الأواخر من رمضان. ثم اعتكف أزواجه من بعده ". والاعتكاف من الشرائع القديمة التي كانت معروفة قبل الإسلام، بدليل قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} البقرة: 125 حكمة تشريعه: لا بد للمسلم ـ بين الفينة والفينة ـ من محاولة لكفكفة النفس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 عن شهواتها المباحة، وحبسها على طاعة مولاها، والتفرغ لعبادته، كي ترتاض بحب الله تعالى، وإيثار رضاه على ترك ما هو محرم من شهواتها، وضار من أهوائها. والنفس أمارة بالسوء، تواقة إلى المعاصي. قال الله تعالى: (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي) يوسف: 53. ومخامرة الدنيا يزيد من إقبالها عليها، وطلبها تلك الخلوات على حب الله تعالى والكف عن محارمه. فمن ثم شرع الاعتكاف ليكون سبباً لجمع الخاطر، وتصفية القلب، وتربية النفس على الزهد بالشهوات المباحة، والتعاطي بها عن المخالفات والآثام. حكم الاعتكاف: الاعتكاف سنة في كل وقت، وهو في شهر رمضان أشد استحباباً، وفي العشر الأخيرة منه آكد، إلا أن ينذره على نفسه فيصبح واجباً. وبناء على ذلك، فإن الاعتكاف قد تكون له ثلاثة أحكام: الأول: الاستحباب، وذلك في مطلق الازمنة. الثاني: السنة المؤكدة، وذلك في العشر الأخير من رمضان. وحكمة تأكده في العشر الأخير من رمضان إنما هي طلب ليلة القدر. فإنها أفضل ليالي السنة، قال تعالى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) أي خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وجمهور العلماء على أنها في العشر الأخير من رمضان. الثالث: الوجوب في حالة النذر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 شرط صحة الاعتكاف: وإنما يصح الاعتكاف بشرطين أساسيين: الشرط الأول: النية: وذلك عند ابتدائه، بان ينوي المكث في المسجد مدة معينة للتعبد، تحقيقاً للسنة، فلو دخل المسجد لغرض دنيوي، أو لم يخطر في باله أي قصد لم يعتبر لبثه في المسجد اعتكافاً شرعياً. الشرط الثاني: اللبث في المسجد: وينبغي أن يستمر اللبث إلى مدة تسمى في العرف اعتكافاً. ويدخل في هذا الشرط شروط جواز اللبث في المسجد، وهي الطهارة من الجنابة، والطهارة من الحيض والنفاس، وخلو الثوب والبدن من نجاسة يحتمل أن يتلوث بها المسجد. فإن خرج من المسجد لغير عذر انقطع اعتكافه، أي بطل، أما إذا خرج لعذر وعاد لم ينقطع، وكان في حكم المتتابع. هذا، ولا يشترط لتحصيل سنة الاعتكاف الصوم، ولكن يسن، ودليل ذلك ما رواه الحاكم (1/ 439) عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه ". الاعتكاف المنذور: وهو النوع الثالث من أنواع الاعتكاف المذكورة. فإن نذر اعتكاف مدة معينة على سبيل التتابع لم يجز له الخروج من المسجد إلا لحاجة: كقضاء حاجة، ووضوء ونحوه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 فإن خرج لذلك لم يحرم ولم ينقطع تتابع اعتكافه. أما إن خرج لغير عذر كنزهة، وكأمر غير ضروري حرم عليه ذلك، وانقطع تتابع اعتكافه، ووجب عليه استئناف الاعتكاف. ولو نذر أن يعتكف، وهو صائم لزمه ذلك، لأنه أفضل، فإذا التزمه بالنذر لزمه. ولو عين الناذر لاعتكافه مسجداً من المساجد لم يتعين، وصح له أن يعتكف فيه غيره، وإن كان ما عينه أولى من غيره. إلا المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، والمسجد الأقصى فإنه إذا عين واحداً منها تعين لزيادة فضلها، وتضاعف أجر العبادة فيها، لكن يقوم المسجد الحرام مقامها، ولا عكس، ويقو مسجد المدينة مكان المسجد الأقصى، ولا عكس أيضاً. آداب الاعتكاف: 1ـ يستحب للمعتكف الاشتغال بطاعة الله تعالى، كذكر الله تعالى، وقراءة القرآن، ومذاكرة العلم، لأنه أدعى لحصول المقصود من الاعتكاف. 2ـ الصيام، فإن الاعتكاف مع الصيام أفضل. وأقوى على كسر شهوة النفس وجمع الخاطر وصفاء النفس. 3ـ أن يكون الاعتكاف في المسجد الجامع، وهو الذي تقام فيه الجمعة. 4ـ أن لا يتكلم إلا لخير، فلا يشتم، ولا ينطق بغيبة، ونميمة، أو لغو من الكلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 مكروهات الاعتكاف: 1ـ الحجامة والفصد: إذا أمن من تلويث المسجد، أما إذا خشي تلويثه حرم عليه. 2ـ الإكثار من تعاطي صنعة من الصنائع كنسج الصوف، والخياطة وغيرهما، والبيع والشراء، وإن قل. مفسدات الاعتكاف: 1ـ الجماع عمداً، ولو بدون إنزال. قال تعالى: (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) البقرة: 187. أما المباشرة بغير الجماع: كاللمس والقبلة، فإنها لا تبطل الاعتكاف إلا إذا أنزل. 2 - الخروج عمداً من المسجد لغير حاجة. 3 - الردة والسكر، والجنون. 4 - الحيض والنفاس. لأن ذلك ينافي اللبث في المسجد. هذا ويجوز للمعتكف أن يقطع اعتكافه المستحب، ويخرج من المسجد، إذا شاء، فإذا خرج وعاد جدد النية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 الحج والعمرة أحكامها الفقهية وأدلتها وأسرارهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 الحج والعمرة التعريف بهما ومشروعيتهما 1ـ التعريف بهما: معنى الحج: الحج لغة القصد: وقال الخليل: كثرة القصد إلى من يُعظم. وشرعاً: القصد إلى بيت الله الحرام لأداء عبادة مخصوصة بشروط مخصوصة. معنى العمرة: العمرة لغة: الزيارة، يقال اعتمر فلاناً: أي زاره، وقيل: القصد إلى مكان عامر. وشرعاً: القصد إلى بيت الله الحرام، في غير وقت الحج، لأداء عبادة مخصوصة بشروط مخصوصة. الفرق بين الحج والعمرة: الحج يختلف عن العمرة من حيث الزمان، وفي بعض الأحكام. أما من حيث الزمان، فالحج له أشهر معلومات لا يجوز بغيرها ولا تصح نية الحج إلا فيها، وهذه الأشهر: شوال، وذو القعدة، والعشر الأول من ذي الحجة. وأما العمرة فالسنة كلها زمان لأدائها، ما عدا أيام الحج لمن نوى به فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 وأما من حيث الأحكام، فالحج فيه وقوف بعرفات ومبيت بالمزدلفة ومنى، وفيه رمي الجمار وأما العمرة فلا شيء فيها من هذا بل هي كما سيأتي: نية، وطواف، وحلق أو تقصير فقط، ومن جهة أخرى، فإن الحج مجمع على وجوبه بين العلماء، أما العمرة فمختلف في وجوبها. 2ـ زمن مشروعيتهما: لعل أرجح ما قيل في تحديد الزمن الذي شرع فيه الحج والعمرة، أنه العام التاسع من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: فيما رواه الشيخان، لوفد عبد القيس الذين قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول العام التاسع للهجرة، وقد سألوه عن الأوامر التي يجب أن يأتمروا بها: " آمركم بالإيمان بالله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم ". فلو كان الحج مفروضاً قبل ذلك، لعده في جملة الأوامر التي وجهها إليهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 حكمهما ودليلهما 1ـ حكم الحج ودليله: الحج فرض باتفاق المسلمين، وركن من أركان الإسلام، لم يخالف في ذلك، أحد من المسلمين، ودليله: الكتاب، السنة، الإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى في سورة آل عمران (96 ـ 97) (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ). وأما السنة: فقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: " بني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً ". وأما الإجماع: فقد اتفقت علماء المسلمين على فرضيته من غير أن يشذ منهم أحد، ولذلك حكموا بكفر جاحده لأنه إنكار لما ثبت بالقرآن، والسنة، والإجماع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 2ـ حكم العمرة ودليلها: العمرة فرض كالحج على الأظهر من قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. واستدل على ذلك بالكتاب والسنة: أما الكتاب: فقوله تعالى في / سورة البقرة: 196: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} أي ائتوا بهما تامين. وأما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما بأسانيد صحيحة عن عائشة رضي الله عنهما قالت: قلت يا رسول الله: هل على النساء جهاد؟ قال: " نعم جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة ". ملاحظات الأولى: كم مرة يجب الحج والعمرة على المستطيع؟ أجمع العلماء على أنه لا يجب الحج والعمرة على المستطيع إلا مرة واحدة في عمره كله إلا أن ينذر فيجب الوفاء بالنذر. ودليلهم على ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا أيها الناس، قد فرض عليكم الحج فحجوا " فقال رجل، أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، ثم قال: " ذروني ما تركتكم، ولو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، وإنما أهلك من كمان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ". رواه مسلم والنسائي. وحديث جابر بن سراقة: أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن العمرة فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 واحدة في الأخرى وقال: " دخلت العمرة في الحج ـ مرتين ـ لا بل لأبدٍ أبدٍ " رواه مسلم (1218) الثانية: هل يصح تأخير الحج والعمرة لمن وجبا عليه أم يجب أداؤهما فوراً: مذهب الشافعي رحمه الله تعالى أن الحج والعمرة لا يجبان على الفور، بل، بل يصح تأخيرهما لأن العمر كله زمان لأدائهما، لكن بشرط العزم على الفعل في المستقبل، وهذا لا ينافي أنه يُسن أداؤهما عقب الوجوب فوراً مبادرة إلى براءة ذمته، ومسارعة في طاعة ربه، قال تعالى في / سورة المائدة: 48: (فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ). الثالثة: كم عمرة اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكم حجة حج؟ عن قتادة قال: قلت لأنس: كم حج النبي - صلى الله عليه وسلم - " قال حجة واحدة، واعتمر أربع عمرت في ذي القعدة، وعمرة الحديبية، وعمرة مع حجته، وعمرة الجعرانة إذ قسم غنيمة حنين. رواه الترمذي وقال حسن صحيح ورواه البخاري ومسلم. قال النووي رحمه الله في شرحه لمسلم: كانت إحداهن في ذي القعدة عام الحديبية سنة ست من الهجرة وصدوا فيها فتحللوا وحسبت لهم عمرة، والثانية في ذي القعدة وهي سنة سبع وهي عمرة القضاء، والثالثة في ذي القعدة سنة ثمان وهي عام الفتح، والرابعة مع حجته - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 حكمة الحج والعمرة وفوائدها لقد شرع الله لعبادة الشرائع وفصل لهم الأحكام تحقيقاً لمصالحهم العاجلة والآجلة في الدين والدنيا. ولقد أشار القرآن الكريم عند ذكر الحج إلى وجود منافع للناس ومصالح لهم، فقال تعالى: {ِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (الحج: 28). قال بن عباس رضي الله عنهما: في تفسير هذه الآية: إنها منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة: فرضوان الله تعالى، وأما منافع الدنيا، فما يصيبون من منافع البدن، والذبائح والتجارات. في الحقيقة لو أردنا تفصيل كلام ابن عباس وتعداد المنافع الدينية والدنيوية التي أشار إليها لتحصل لنا كثير من هذه المنافع، فمن هذه المنافع: أولاً: اجتماع المسلمين: اعلم أن مبنى هذا الدين على الاجتماع والتآلف بين المسلمين. فلذلك جعل الله تعالى معظم عباداته المشروعة سبيلاً لألوان من التلاقي فيما بينهم. جعل لهم لقاء يتكرر كل يوم خمس مرات على مستوى الحي الواحد من البلدة، وشرع لتنظيم ذلك صلاة الجماعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 وجعل لهم لقاء آخر يتكرر في كل أسبوع مرة على مستوى البلدة الواحدة، وشرع لتنظيم ذلك صلاة الجمعة. وجعل لهم لقاء آخر يتكرر فيم كل عام مرة، على مستوى البقاع الإسلامية كلها. وشرع لتنظيم ذلك الحج إلى بيته الحرام. ثانيا: إحياء حقيقة الأخوة الإسلامية وإبرازها بشكل محسوس، بحيث لا تؤثر عليها حواجز اللغات وتباعد البلدان. وخير وسيلة لإحيائها تلاقيهم حول بيت الله العتيق، يلهجون بدعاء واحد لرب واحد باتجاه واحد. ثالثاً: شد المسلمين جميعاً مهما تباعدت ديارهم إلى محور مكة المكرمة التي هي مشرق الإسلام في الأرض، والتي منها انبثق نور التوحيد إلى أقطار العالم، لتكون رمز وحدتهم وتجسيد مبدئهم. رابعاً: هو مظهر من مظاهر المساواة بين المسلمين، تسقط فيه سائر الاعتبارات التي تميز الناس وتحملهم على التفاخر في الملبس والمسكن. ففي عرفات ومثلها في منى وعند رمي الجمار وفي الطواف يكاد يضيع الغني ولا يعرف الفقير، ويستوي السيد والمسود والخادم والمخدوم، وتغمر الجميع روحانية واحدة، وهي نشوة القرب من الله والتطلع لرضاه. إنه مظهر رائع يذكر بالمبدأ حين يخرج الناس من بطون أمهاتهم سواء لا مزية لأحد على غيره، كما يذكر بالمعاد حين يقوم الناس لرب العباد حفاة عراة لا أحساب ولا أنساب. خامساً: والحج كذلك أكبر مذكر يذكر المسلمين حال آبائهم وأسلافهم من الأنبياء والمرسلين، فكل موقف من مواقف الحج مرتبط بحدث يثير في مشاعر الحجاج كثيراً من الذكريات، فعند البيت يتجلى في خاطر المؤمن إبراهيم وإسماعيل وهما يبنيان البيت العتيق، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 وتتجلى صور المصطفي هو يقبل الحجر الأسود، ويطعن الأصنام لتهوي على رؤوسها مستخذية مهينة. وعند الصفا والمروة يتذكر المسلم هاجر عليها السلام وهي تسعى بينهما تطلب الماء لولدها إسماعيل. وفي منى عند الجمرات يستشعر مواقف إبراهيم وهو يعارض الشيطان ويخالف أوامره، ويرجمه بالحصباء ويقبل على امتثال أمر ربه، وينفذ ما أوحاه إليه في رؤياه من ذبح ابنه. وفي عرفات تثور في ضمير المؤمن بواعث التطلع إلى رحمة الله والأمل في مغفرته، ولا يغيب عن بصيرته ذلك الموقف الرائع الذي وقفه رسول الله في حجة الوداع وهو على ناقته يعظ المسلمين ويخطبم ويقرر لهم مبادئ الحياة الرائعة والمساواة العادلة والأخوة الصادقة، ويحذرهم من العودة إلى مساوئ الجاهلية: " أيها الناس إن ربكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ألا لا تعودوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ". سادساً: أضف إلى كل ذلك ما يناله فقراء تلك البلاد في ذلك الموسم المبارك من الرزق الذي يغني فقيرهم السنة كلها، تحقيقاً لدعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) سابعاً: والحج تربية للجسم على الخشونة وتحمل المشاق والصبر على المكاره. وتربية للخلق على التواضع والتسامح وحسن المعاشرة وطيب الملاطفة. وتربية للنفس على البذل والتضحية والصدقة والإحسان. وتربية للضمير على الطهارة والرقابة لله سبحانه، قال تعالى في سورة البقرة: 197: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 من يجب عليه الحج والعمرة يجب الحج والعمرة على من توفرت فيه الشروط الستة الآتية: 1ـ الإسلام: فلا يجب على غير المسلم وجوب مطالبة في الدنيا، لأن الحج والعمرة من العبادات التي لا يطالب بها غير المسلمين، ولا تصح من غيرهم، لأن شرط صحة العبادة الإسلام. 2ـ العقل: فالمجنون لا يجب عليه الحج ولا العمرة لعدم التمييز عنده بين المأمور والمحظور، ولأن الله تعالى إذا أخذ ما وهب فقد أسقط ما أوجب، ولا يتم التكليف شرعاً إلا بالعقل. 3ـ البلوغ: فلا يجب الحج والعمرة على غير البالغ لأنه غير مكلف، إذ التكليف شرعاً إنما يكون بالبلوغ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: " رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يبرأ ". رواه ابن حبان والحاكم وصححاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 4ـ الحرية: فلا يجب الحج والعمرة على العبد لأنه لا يملك مالاً، بل هو وماله ملك سيده. 5ـ أمن الطريق: فلو خاف على نفسه أو ماله عدواً، أو كان الطريق خطراً لوجود حرب مثلاً، لا يجب عليه الحج ولا العمرة لحصول الضرر، والله تعالى يقول ف سورة البقرة: / 195: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. 6ـ الاستطاعة: لقوله تعالى في سورة آل عمران / 98: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً). ولحديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما يوجب الحج، قال: "الزاد والراحلة " رواه الترمذي، وقال حديث حسن. والزاد والراحلة في الحديث يفسران الاستطاعة الواردة في القرآن. بم تتحقق الاستطاعة؟ والاستطاعة تتحقق بأن يملك الإنسان المال الذي يلزمه لأداء الحج والعمرة، من أجرة مركوب ونفقة ذهاباً وإياباً، بالإضافة لما تفرضه عليه اليوم الحكومات من نفقة جواز سفر، وأجرة مطوف، ويجب أن يكون هذا المال زائداً عن دينه وعن نفقة عياله مدة غيابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 أنواع الاستطاعة: والاستطاعة نوعان: استطاعة مباشرة، واستطاعة غير مباشرة. 1ـ فالاستطاعة المباشرة: هي أن يتمكن الإنسان من الحج والاعتمار بنفسه، بأن يكون قادراً صحيح الجسم، يمكنه السفر، وأداء المناسك، من غير أن يناله ضرر كبير أو مشقة لا تحتمل. 2ـ الاستطاعة غير المباشرة: هي أن يملك المكلف من المال ما يمكنه إنابة غيره بالحج عنه في حياته أو بعد مماته، فيما إذا كان لا يستطيع الحج بنفسه لكبر أو مرض أو نحو ذلك. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من جُهينة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها؟ قال: " نعم حُجي عنها. أرأيت إن كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: " اقضوا دين الله، فالله أحق بالوفاء ". ولفظ النسائي أن رجلاً قال يا رسول الله: إن أبي مات ولم يحج أفأحج عنه، قال: " أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ " قال: نعم. قال: " فدين الله أحق بالوفاء ". وروي في الصحيحين أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله تعالى على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: " نعم ". ملاحظات الأولى: من كان له رأس مال تجارة وجب صرفه لأداء الحج والعمرة، ومن كان له أرض يحصل منها على نفقته وجب بيعها لأداء الحج والعمرة، وذلك أنه لو كان مديناً لآدمي وجب صرف مال تجارته، فكذلك الحج والعمرة وهذا هو القول الأصح، وقيل لا يلزمه بيع ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 الثانية: لا يجب بيع بيته الذي يسكنه ولا أثاثه الذي يستخدمه في حاجته لأداء الحج والعمرة، لأن هذه حوائج ضرورية لا يستغنى عنها فلا يكلف بيعها. الثالثة: من كان بينه وبين مكة دون مرحلتين، وهو قوى على المشي وجب عليه الحج ماشياً إن كان لا يملك ثمن مركوب، والمرحلتان مسيرة يوم وليلة على الأقدام. الرابعة: من كان مالكاً نفقة الحج فقط وأراد أن يتزوج بهذا المال، فهو لا يخلو من أحدى حالتين. الأولى: أن يكون بحاجة إلى نكاح ولكنه قادر على ضبط نفسه، فهذا يجب عليه الحج، والأفضل تقديمه على الزواج. الثانية: أن يخاف على نفسه العنت والوقوع في المعاصي، فهذا أيضاَ يجب عليه الحج، ولكن تقديم الزواج أفضل من الحج، والقاعدة في ذلك أن الحاجة إلى النكاح لا تمنع الوجوب. الخامسة: يشترط في وجوب حج المرأة وعمرتها زائداً على الشروط التي تقدم ذكرها في الرجل شرطان: أحدهما: أـ أن يكون مع المرأة زوج لها. ب ـ أو أن يكون معها محرم بنسب أو غيره، وذلك لما ورد في الصحيحين: " لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم " وفي رواية فيهما: " لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ". ج ـ أو أن يوجد معها نسوة ثقات مشهورات بالعفة والتدين، وأقل ذلك أن يكون معها امرأتان وهي الثالثة، ولا يشترط وجود محرم أو زوج لإحداهن معهن لأنه باجتماعهن وهن ثقات يحصل الأمن عليهن، والاطمئنان إلى عدم افتتان إحداهن، وإذا لم تجد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 المرأة محرماً يحج ويعتمر معها من ماله وجب عليها أجرة المحرم إذا كان معها تلك الأجرة. وهذا الشرط إنما هو لوجوب الخروج إلى الحج، أما لجواز الخروج فإنه يكتفى بامرأة واحدة، وكذا يجوز الخروج وحدها إذا أمن الطريق، وهذا خاص في أداء فريضة الحج، وأما في الحج غير المفروض وفي سائر الأسفار فلا بد من وجود محرم زوج أو غيره. والدليل على جواز سفر المرأة وحدها لحج الفريضة ما رواه البخاري عن عدي بن حاتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله ". ثانيهما: أن لا تكون معتدة من طلاق أو وفاة مدة إمكان السير للحج، وذلك لقوله تعالى في / سورة الطلاق: 1/: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} السادسة: ليس للمرأة السفر إلى الحج إلا بإذن زوجها، فإن منعها منه لم يجز لها الخروج، فإن ماتت في حال قدرتها ومنع الزوج لها، قضي الحج من تركتها ولا تعمد آثمة في ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 من يصح منه الحج كانت الشروط السابقة، شروطاً لوجوب وثبوت فرضيته، فمن لم يتوفر عنده واحد منها لم يكن مكلفاً بهذه الفريضة. غير أن هذه الشروط لا علاقة لها بصحة الحج وعدمها، بل ربما صح الحج مع عدم توفر شروط وجوبه، وربما لم يصح الحج رغم توفر هذه الشروط: فشروط من يصح منه الحج هي: الشرط الأول: الإسلام: فمن لم يكن مسلماً لم يصح حجه، بحيث إذا أسلم بعد ذلك وتوفرت لديه شروط الحج، لم يغن حجه السابق ووجب عليه الحج من جديد. الشرط الثاني: التمييز: فإذا لم يبلغ الطفل سن التمييز لم يصح حجه مباشرة. والتمييز أن يبلغ الطفل سناً يتوفر لديه فيه من النباهة والوعي ما يجعله قادراً على أن يستقل بطهارته وإصلاح شأنه، وهي قد تختلف ما بين طفلٍ وآخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 الشرط الثالث: أن يحرم به في ميقاته الزمني: والميقات الزمني للحج شهر شوال، وذي القعدة، والعشر الأول من ذي الحجة، فلا يصح الحج إلا إذا وقع ـ بدءاً من الإحرام به ـ في هذه الفترة، فإن أحرم بالحج خارج هذه الفترة لم يصح حجه، وتحول نسكه إلى عمرة على الصحيح. الشرط الرابع: أن يكون وافي الأركان: وسنحدثك عنها فيما بعد إن شاء الله. فهذه هي شروط صحة الحج، فإذا توفرت صح الحج، بقطع النظر عن ثبوت وجوبه، ويتبين إذاً أن الطفل المميز إذا باشر الحج صح حجه، ولو لم يكن مكلفاً به بعد، بل يصح حجه إذا لم يكن مميزاً أيضاً فيما إذا أحرم عنه وليه، ثم طاف وسعى به، ورمى الجمار عنه، ووقف به في عرفة. روى مسلم (1336) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي ركباً بالروحاء، فقال: " من القوم؟ " قالوا: المسلمون. فقالوا: من أنت؟ قال: " رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فرفعت إليه امرأة صبياً. فقالت ألهذا حج؟ قال: " نعم ولك أجر ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 الإحرام الإحرام: فاتحة أعمال الحج، والمدخل إلى نسكه ومختلف واجباته وأركانه. ولابد لفهم ما يتعلق به من أحكام من أن نحدثك عن ثلاثة أشياء: (المواقيت، كيفية الإحرام، محرمات الإحرام). 1ـ المواقيت: هو جمع ميقات وينقسم إلى: ميقات زماني وميقات مكاني. أما الميقات الزماني: فيقصد به الفترة الزمنية التي يصح أن يقع فيها الإحرام في الحج. وأما الميقات المكاني: فيقصد به الحدود المكانية التي يجب أن لا يتجاوزها قاصد الحج إلا وهو محرم، فلنبين لك ضابط كل منهما: أـ الميقات الزماني: هو عبارة عن شهر شوال وذي القعدة والعشر الأول من ذي الحجة، فهذه المدة الزمنية هي الفترة المفتوحة للإحرام بالحج، أي فلا نوى الحاج الحج قبل ذلك لم تصح نيته ولم يصح إحرامه. وهو معنى قوله عز وجل في سورة البقرة (197): {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ .... }. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 ب ـ الميقات المكاني: وهو عبارة عن حدود تحيط بالحرم المكي من شتى جهاته. حددها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة للقادمين إليه من الآفاق البعيدة، بحيث يجب عليهم إذا وصلوا ولم يكونوا محرمين أن يبدؤوا الإحرام ويلتزموا شروطه وواجباته التي سنتحدث عنها، منذ ذلك المكان. وتفصيل ذلك الحدود كما يلي: 1ـ (ذو الحُليفة) ميقات للمتوجه من المدينة المنورة. وهو ما يسمى الآن " بأبيار علي " - رضي الله عنه - ويندب أن يحرم من المسجد الذي أحرم منه النبي - صلى الله عليه وسلم -. 2ـ (الجُحفة) ميقات للمتوجه من الشام ومصر والمغرب، بحيث يجب عليه أن يحرم إذا وصل هذا المكان بعينه، أو إذا وصل إلى ما يسامته عن يساره أو يمينه. 3ـ (يلملم) ميقات للمتوجه من تهامة اليمن. 4ـ (قرن) ميقات للمتوجه من نجد الحجاز ونجد اليمن. 5ـ (ذات عرق) للمتوجه من جهة المشرق كالعراق والخليج ونحوه، بحيث يجب عليه كما قلنا أن يحرم من المكان ذاته، أو المكان الذي يسامته إذا لم يصل طريقه إليه مباشرة. 6ـ أما من كان منزله دون هذه المواقيت قرباً إلى مكة، فإن ميقاته منزله الذي هو فيه، فهو يحرم من حيث ينشئ سفره. ويدخل في هذا الضابط أهل مكة أيضاَ، فيحرمون من بيوتهم داخل مكة. ودليل ذلك ما رواه الشيخان، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم. وقال: " هن لهن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة). وهذه المواقيت تعتبر مواقيت للحاج والمعتمر، ما داما قادمين من خارج الحرم، أما إذا كان المعتمر في داخل الحرم، سواء كان مكياً أو وافداً، فيجب عليه الخروج للإحرام بالعمرة إلى أدني الحل، وهو ما وراء حدود الحرم ولو بخطوة واحدة. فلو أحرم من مكة صحت عمرته ولزمه دم كما ستعلم فيما بعد. ودليل الوجوب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل عائشة، كما في الحديث الصحيح، بعد قضاء الحج إلى " التنعيم " وهو مكان وراء حدود الحرم ـ فاعتمرت من هناك. 2ـ كيفية الإحرام بالحج والعمرة: الإحرام هو نية الدخول في نسك الحج أو العمرة أو نسكهما معاً، مع ما يتبعه من الأعمال والآداب المتممة، فلنستعرض كيفية ذلك بإيجاز: أولاً: إذا أراد الحاج أو المعتمر الدخول في النسك، قدم بين يدي ذلك هذه التمهيدات التالية: أـ الاغتسال: وهو سنة، وينوي به غسل الإحرام، فإن عجز عن الاغتسال يتيمم. ب ـ تطييب بدنه وهو سنة أيضاَ، ولا بأس بأن تبقى رائحته إلى ما بعد الدخول في الإحرام وأعمال النسك. لما ورد في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها (كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم) والوبيص: البريق، والمفرق: وسط الرأس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 ج ـ تجرد الرجل عن كل مخيط من الثياب، وهو واجب، ويستعيض عنه بإزار ورداء يسن أن يكونا أبيضين، أما المرأة فلا يجب عليها سوى كشف وجهها وكفيها لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري وغيره: " لا تلثم المرأة ولا تلبس القفازين " جوابا على سؤال بعض الصحابة عما يجب أن تلبسه المرأة أثناء إحرامها بالحج، ويسن في حق المرأة أن تخضب كفيها بحناء قبل الإحرام لأنها تحتاج إلى كشفهما. د ـ صلاة ركعتين: وهي سنة، ينوى بهما سنة الإحرام. ثانيا: إذا أنجز هذه التمهيدات: وقد علمت أن الواجب منها هو الفقرة " ج " فقط، الباقي سنن وآداب، انتظر اللحظة التي يبدأ فيها المسير أيا كانت وسيلته، وعندئذ ينوي بقلبه الإحرام بالحج أو العمرة، حسب ما هو قاصد إليه، ويسن أن يلتفظ بلسانه، ثم يقول: (لبيك الهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك). والواجب من ذلك كله إنما هو النية القلبية، أما التلفظ بها والتلبية فسنة. فإذا فعل ذلك فقد دخل في مناسك الحج أو العمرة، وسرت عليه الأحكام والواجبات المتعلقة بهما مما سنذكره لك فيما بعد. ثالثاً: للحاج أن يختار في عقد النية بالإحرام كيفية من الكيفيات التالية: (أولها) ـ أن ينوي الإحرام بالحج فقط، فإذا فرغ من أعمال الحج، عاد إلى خارج حدود الحرم فاعتمر وأتى بأعمال العمرة. وهذه الكيفية هي أفضل كيفيات الإحرام، لما صح من رواية جابر أنه عليه الصلاة والسلام أحرم كذلك. وتسمى هذه الكيفية " الإفراد ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 (ثانيهما) ـ أن ينوي بإحرامه العمرة، حتى إذا فرغ منها حل ثم أحرم بالحج من مكة أو من الميقات الذي أحرم بالعمرة منه، وتسمى هذه الكيفية " تمتعاً " وهي تلي في الأفضلية الإفراد. (ثالثهما) ـ أن ينوي حجاً وعمرة معاً، ثم يمضي في أعمال الحج، فتندرج تحتها العمرة أيضاً، ويستحق أجرهما معاً. فهذه هي خلاصة كيفية الإحرام، وهو كما قد علمت المدخل إلى مناسك كل من الحج والعمرة. 3ـ محرمات الإحرام: تحرم على المتلبس بالإحرام عشرة أشياء يجب أن يتجنبها سواء كان محرماً بحج أو بعمرة وهي: 1ـ لبس المخيط أو المحيط في جميع بدنه. وكالمخيط في الحرمة الحذاء المحيط بالرجل. بل يلبس في مكانة نعلاً لا يستر أطراف رجليه مما يلي الكعبين. 2ـ تغطية الرأس إلا من عذر، أو تغطية بعضه، سواء كانت وسيلة التغطية مخيطاً أو غيره كالعمامة والقلنسوة أو أي شيء ساتر. أما الاستظلال بجدر أو مظلة بحيث لا تلامس رأسه فلا مانع من ذلك. وهذان الأمران يحرمان على الرجال خاصة دون النساء. ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال: " لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 والخفاف إلا أحد لا يجد نعلين، فليس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب ما مسه زعفران أو ورس ". 3ـ ترجيل الشعر، أي تسريحه، أيا كانت وسيلة ذلك مشطاً أو ظفراً أو نحوهما. هذا إن خيف سقوط شعر بسبب ذلك. فإن لم يخف فهو مكروه فقط. 4ـ حلق الشعر أو نتفه، إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك ونحوه. ويدخل في الحرمة قص بعض شعرة وذلك لصريح قول الله تعالى: {َلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (البقرة: 196) وقاس الفقهاء على شعر الرأس شعر جميع البدن لسقوط موجب التفريق في الحكم بينهما. 5ـ تقليم الأظافر، والمراد الجنس الذي يصدق بظفرٍ واحد أو بعض ظفر. وذلك قياساً على الشعر إلا أن يكون من عذر كأن انكسر ظفره وتأذي به فاضطر إلى قطعه. 6ـ التطيب: وذلك باستعماله عمداً في أي جزء من أجزاء بدنه، ومثله أن يمزج الطيب بطعام أو شراب فيطعمه، وأن يجلس أو ينام على فراش أو أرض مطيبين من غير حائل، ومثله أيضاً الغسل بصابون مطيب. وليس في حكم التطيب شم الورد، أو مائه في إنائه أو مغرسه. فلا يحرم ذلك. ودليل الحرمة الإجماع، لأنه من أبرز مظاهر الترفُّه الذي تأباه حكمة الحج، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: " الحاج أشعت أغبر ". 7ـ قتل الصيد المأكول إذا كان برياً أو وحشيًا. ومثل القتل مجرد صيده بوضع اليد عليه والتعرض لشيء منه من جزء أو شعر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 أو ريش ونحو ذلك. وخرج بالبري صيد البحر، فلا يحرم على المحرم، لو فرض وجوده على شاطئ بحر، وخرج بالوحشي من المأكول، الإنسي منه كالنعم والدجاج وإن استوحش. ودليل تحريم الصيد على المحرم قوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} (المائدة: 95). 8ـ عقد النكاح سواء فعل المحرم ذلك لنفسه أو غيره بتوكيل منه لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم وغيره: " لا ينكح المحرم ولا ينكح " أي لا يتولى ذلك لنفسه، ولا لغيره. فإن فعل ذلك فالعقد باطل. 9ـ الجماع بأشكاله وأنواعه المختلفة، لصريح قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (البقرة: 197) والرفث مفسر بعدة أشياء من أبرزها وأهمها الجماع. 10ـ المباشرة بشهوة فيما دون الجماع، كلمس وقبلة ونحوهما، ومثلها الاستمناء باليد ونحوها، إذ كل ذلك داخل في الرفث الذي نهى الله تعالى عنه في الآية الكريمة المذكورة. فهذه الأشياء يحرم مباشرتها في حال الإحرام بحج أو عمرة، إذا باشرها أو واحداً منها عالماً مختاراً بغير ضرورة. فإن لم يكن عالماً أو لم يكن مختاراً أو ألجأته إلى ذلك الضرورة، كمرض ألجأه إلى ستر رأسه أو حلق شعره، لم يحرم ووجبت الفدية التي سنحدثك عنها فيما بعد إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 أعمال الحج والعمرة أولاً: أعمال الحج بعد أن عرفت شروط وجوب الحج وصحته، والمواقيت التي تبدأ منه أعمال الحج وكيفية الإحرام، نبدأ ببيان الأعمال التي يتحقق بها الحج. وهذه الأعمال، منها ما هو واجب، ومنها ما هو ركن، ومنها ما هو سنة، ومنها توابع كالأدعية التي يستحب الدعاء بها، وكزيارة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبره. فلنفصل القول في كل منهما على حدة. الواجبات: الفرق بين الواجبات والأركان: الواجبات والأركان، كلاهما واجب لا بد منه إلا أن الفرق بينهما أن الواجبات يجبر تركها بإراقة دم، كما سنعلم. أما الأركان فهي ما لا يتم ماهية الحج إلا به، ولا يجبر تركه بإراقة دم. وتتلخص واجبات الحج في الأمور التالية: (الأول): الإحرام من الميقات: فيجب على الحاج إذا أراد أن يدخل في الحج أن يحرم به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 في ميقاته سواء الزمان، والمكاني. وقد عرفت ضابط كل منها للحاج والمعتمر. فإذا مر بالميقات المكاني ولم يحرم حتى تجاوزه متغلغلاً داخل الحرم، فقد ترك واجباً من واجبات الحج. أما إذا أحرم قبل أن يصل إليه فلا ضير في ذلك. وقد عرفت كلا من دليل الميقات الزماني والمكاني عند الحديث عن المواقيت. (الثاني): المبيت بمزدلفة: إذا نزل الحاج من عرفة بعد غروب الشمس، ووصل إلى مزدلفة ـ وهو مكان بين عرفة ومنى ـ وجب عليه المبيت فيه، بحيث يبقى هناك إلى ما بعد منتصف الليل. أي فلا يجب عليه أن يبقى فيه إلى الفجر. وذلك اتباعاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الطويل الذي رواه جابر - رضي الله عنه - عن كيفية حجة عليه الصلاة والسلام. (الثالث): رمي الجمار: يجب على الحاج إذا نزل من عرفة ثم بات بالمزدلفة أن يتجه إلى جمرة العقبة وهي في آخر منى مما يلي مكة، وأن يرمي تلك الجمرة بسبع حصيات، بحيث تقع كل حصاة في المكان المحدد لها. ويدخل وقت هذا الرمي بعد منتصف ليلة العيد. ويمتد إلى مغيب شمس يوم العيد، وهو يوم النحر، للحديث الطويل الذي رواه مسلم عن جابر في كيفية حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه: " ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى حصاة منها، كل حصاة مثل حصى الخذف " ثم يجب عليه في كل يوم من أيام التشريق ـ وهي التي تلي يوم العيد ـ أن يرمى سبع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 حصيات إلى كل من الجمرة الأولى، وهي التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، على هذا الترتيب، وأمكانها معروفة في منى ويبدأ وقت رمي الجمار بعد زوال الشمس عن وسط السماء ويمتد إلى الغروب. لكن إذا لم يدرك الرمي في هذا الوقت فله الرمي عقب الغروب، وله أن يؤخر الرمي إلى اليوم الثاني من غير فدية. ملاحظة: يسقط وجوب رمي الجمار يوم التشريق الثالث، إذا نفر الحاج من منى إلى مكة قبل غروب شمس اليوم الثاني من أيام التشريق، وهو رخصة للمتعجل نص عليه كتاب الله عز وجل في قوله: (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ) فإذا غربت الشمس قبل أن ينفر من منى وجب عليه المبيت فيها ورمي الجمار في اليوم الثالث أيضاً. (الرابع): المبيت بمنى ليلتي التشريق: لا يكفي أن يرمى الحاج الجمرات الثلاث أيام التشريق ثم ينزل إلى مكة فيبيت فيها، بل يجب عليه أن يبيت بمنى ليلتي اليوم الأول واليوم الثاني، من أيام التشريق بحيث يمضي معظم الليل فيها. أما ليلة اليوم الثالث فقد رخص الله له عدم المبيت فيها بشرط أن لا تغرب عليه الشمس وهو لا يزال في منى. فإن غربت قبل أن ينفر منها وجب عليه مبيت تلك الليلة أيضاً، ورمي جمار اليوم الثالث كما قلنا، ودليل ذلك كله فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم وغيره من حديث جابر الطويل عن كيفية حجه عليه الصلاة والسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 (الخامس): طواف الواداع: إذا أتم مناسكه كلها، وأنهى أعماله، وأراد الخروج من مكة، وجب عليه أن يطوف بالكعبة طواف الوداع على الصحيح. لما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من أعمال الحج طاف للوداع. وهذا الطواف يسقط عن المرأة الحائض. فإذا طاف طواف الوداع فلا يمكثن بعده، بل يبادر بالخروج من مكة، فإن مكث لغير الحاجة أو لحاجة لا تتعلق بالسفر كعيادة مريض وشراء متاع، وجب عليه إعادة الطواف. فهذه الأمور الخمسة واجبات يأثم الحاج بتركها من غير عذر. ولكنها لا تدخل في الأجزاء الأساسية لحقيقة الحج. ولذلك فإن ترك شيء من هذه الواجبات لا يبطل الحج، بل يمكن أن يجبر تركه بدم كما سنوضحه لك فيما بعد إن شاء الله تعالى: الأركان: قد علمت الآن أن أركان الشيء، هي الأجزاء الأساسية التي يتكون منها ذلك الشيء. فأركان الحج إذاً هي تلك الأعمال التي إذا أهمل واحد منها بطل الحج، ولم يعد ينجبر بأي كفارة أو فدية وهي خمسة أشياء. (الأول): الإحرام: وقد علمت أن المقصود به نية الدخول في الحج، وقد ذكرنا كيفيته وآدابه وشروطه. فكما أن النية ركن أساسي من أركان الصلاة، فهي هنا ركن جوهري من أركان الحج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 (الثاني): الوقوف بعرفة: للحديث الصحيح: " الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج " رواه أبو داود وغيره. أي الوقوف بعرفة هو لب أعمال الحج وأهمها، حتى لكأن الحج ليس إلا الوقوف بعرفة. وعرفة اسم لجبل يطل على منى، يقع على بعد 25 كم إلى الجنوب الشرقي من مكة. وتتلخص شروط الوقوف بعرفة فيما يلي: 1ـ أن يكون الوقوف بها في جزء من أجزاء الفترة التي تبدأ بظهر اليوم التاسع من ذي الحجة إلى فجر يوم النحر. أي فلو وقف بعرفة قبل ذلك أو بعده لم يعتبر حجة. ويكفي أن يحضر من الوقت المحدد للوقوف لحظة واحدة من نهار أو ليل، ولكن الأفضل أن يجمع بين جزء من النهار وجزء من الليل، فإن خرج من عرفات قبل غروب الشمس أراق دماً استحباباً لا وجوباً لمخالفته عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 2ـ أن يقف ضمن حدود عرفة، في أي مكان شاء للحديث الصحيح: " ها هنا وقفت وعرفة كلها موقف " رواه مسلم. فلا يكفي وقوفه بعُرنْة، وهو اسم مكان يسامت حدود عرفة، بينهما صخرات نصبت علامة على حدود عرفة. ويؤخر صلاة المغرب إلى العشاء جمعاً، يصليهما في المزدلفة في طريق العودة إلى منى، لفعله - صلى الله عليه وسلم - وأمره بذلك في الحديث المتفق عليه. (الثالث): طواف الإفاضة: لصريح قوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، ولفعله - صلى الله عليه وسلم - ذلك في حديث جابر الذي رواه مسلم، ولصحة الطواف شروط نلخصها فيما يلي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 1ـ أن يتوفر له ما يشترط لصحة الصلاة من النية، والطهارة من الحدث الأكبر والأصغر، ومن النجاسة على بدنه، أو ثوبه أو المكان الذي يطوف فيه، ويستر العورة. لما رواه الترمذي والدارقطني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الطواف صلاة إلا أن الله تعالى أحل فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير ". 2ـ يشترط أن لا يدخل بشيء من جسمه أثناء الطواف إلى حدود الكعبة، فعليه إذاً أن يطوف بالبيت من خارج حدود الحِجْر (وهو عبارة عن مساحة إلى جانب الجدار الشمالي للكعبة محدود بجدار قصير على شكل نصف دائرة) لأن الحِجْر داخل ضمن حدود الكعبة. فلا يجوز الطواف من داخله. 3ـ يشترط أن يجعل البيت عن يساره أثناء طوافه بادئاً بالحجر الأسود فلو بدأ بما وراء حدود الحجر الأسود، لم تحسب طوفته حتى يصل إليه. وذلك للاتباع ولفعله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح. 4ـ يشترط أن يكمل طوافه سبعة أشواط، أي سبع طوفات. فعندئذ يتم ركن الطواف، ويعتبر ذلك كله طوافاً واحداً. هذه شروط الطواف، وله من وراء ذلك سنن وآداب سنتحدث عنها فيما بعد إن شاء الله. (الرابع): السعي بين الصفا والمروة: والصفا والمروة رابيتان قرب البيت، والمراد من السعي بينهما أن يسير من الصفا إلى المروة ثم العكس سبع مرات: من الصفا إلى المروة مرة، والعكس مرة. وهكذا ... ودليل هذا الركن أنه - صلى الله عليه وسلم - استقبل القبلة في السعي وقال: " يا أيها الناس اسعوا " وحديث جابر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 الذي رواه مسلم عن كيفية حج النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: " ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ) " أبدأ بما بدأ الله به " فرقى الصفا حتى رأى البيت ... . " الحديث. وشروط السعي تتلخص فيما يلي: 1ـ أن يكون عقب طواف، سواء كان طواف القدوم، وهو الذي يستحب أن يفعله الحاج أول مقدمه مكة، أو كان طواف إفاضة، وهو طواف الركن. لفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدال على ذلك. 2ـ أن يكون مؤلفاً من سبعة أشواط مبدوءة بالصفا مختومة بالمروة، كل سعي بينهما محسوب شوطاً. 3ـ أن يقطع جميع المسافة التي بين الصفا والمروة، فلو ترك شبراً أو أقل منها لم يصح شوطه ذاك، ولذلك يجب أن يلصق عقبه بحائط الصفا، ومن ثم ينطق ساعياً إلى المروة، حتى إذا انتهى إليها ألصق رؤوس أصابع قدميه بحائط المروة ... . وهكذا. 4ـ أن يتابع ويوالي بين الأشواط السبعة، فلو فصل بينها بفاصل كبير عُرْفاً، وجب أن يستأنف السعي من جديد. (الخامس): الحلق: ويشمل مطلق ما يسمى قصا للشعر، فيدخل قص ثلاث شعرات فأكثر، ويدخل الحلق بمعنى استئصال شعر الرأس، كما يدخل التقصير مهما كان قدره وأيا كانت وسيلته. وهو ركن على الصحيح في مذهب الإمام الشافعي. دليل ذلك فعله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان وغيرهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 وشرط الحلق ما يلي: 1ـ ألا يسبق وقته، ووقته بعد منتصف ليلة النحر، فلو حلق قبل ذلك كان آثما ويستوجب الفدية. 2ـ ألا يقل عدد الشعرات حلقاً أو تقصيراً عن ثلاث شعرات على الصحيح لقوله تعالى عن المؤمنين: (مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) والرؤوس كناية عن الشعر لأن الرأس لا يحلق، قالوا: والشعر جمع وأقله ثلاث شعرات. 3ـ يشترط أن يكون الشعر المحلوق من حدود الرأس فلا يغني عنه حلق شعرات من اللحية والشاربين مثلاً. هذا، وأما المرأة فتقصر ولا تؤمر بالحلق إجماعاً. ملاحظة: من ليس في رأسه شعر سن إمرار الموسى على رأسه ولا يجب. الترتيب بين معظم هذه الأركان: لابد من الترتيب بين معظم هذه الأركان، على الوجه التالي: الإحرام أولاً، الوقوف بعرفة ثانياً، الطواف ثالثاُ السعي رابعا، أما الحلق فله أن يؤخره إلى ما بعد الطواف، وله أن يؤخر الطواف عنه. ولكن هل الترتيب ركن سادس، أم هو شرط لكيفية تنفيذ الأركان؟ جرى خلاف في مذهب الإمام الشافعي في ذلك. والمهم أن تعلم بأن الترتيب لابد منه على النحو الذي ذكرنا. ثانياً: أعمال العمرة: أما أعمال العمرة فتتلخص كالتالي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 1ـ الإحرام بها على طريقة الإحرام بالحج. وقد ذكرنا ميقات الإحرام للعمرة. 2ـ يدخل مكة فيطوف طواف العمرة مباشرة، أي بدون طواف قدوم. 3ـ يسعى بين الصفا والمروة. 4ـ يحلق أو يقصر من شعر رأسه. وبذلك يتحلل المعتمر من أعمال العمرة والتزاماتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 سنن الحج وهي عبارة عن الآداب والمكملات التي حرص عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نسكه تطبيقاً وتعلماً، دون أن تكون داخلة في جوهر أعمال الحج، أو أن تكون واجبة يستلزم تركها الإثم والفدية. وهي كثيرة موزعة على أعمال الحج المختلفة. فلنعد أهمها تبعاً لأعمالها المقرونة بها. أولاً: سنن الإحرام: يسن عند الإحرام بالحج القيام بالآداب التالية: 1ـ الاغتسال قبل الإحرام، فإن لم يمكن الاغتسال قام التيمم مقامه، ويتبع ذلك كل وجوه التنظيف وخصال الفترة. كإزالة شعر الإبط والعانة، وقص الأظافر، وإزالة الأوساخ، وهذا الغسل مسنون لكل حاج ذكراً أو أنثى طاهراً أو حائضاً أو نفساء. 2ـ التلفظ بالنية، وإجراء ألفاظها على اللسان، ثم إتباع ذلك بالتلبية وهي (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) ويرفع الرجل صوته بذلك، قائما وقاعداً وماشياً، وفي مختلف الحالات لما رواه مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 يرفعوا أصواتهم بالتلبية " ويستمر استحباب ذلك إلى رمي جمرة العقبة صباح يوم النحر. ويستقبل القبلة عند الإحرام ويقول: لها خفض صوتها في التلبية بحيث تسمع نفسها. 3 - الابتعاد عن أحاديث الدنيا وملهياتها المباحة فضلاً عن المكروهة والمحرمة، ما أمكن ذلك. ثانياً: سنن دخول مكة: فإذا شارف الحاج دخول مكة يسن له أن يلتزم الآداب التالية: 1ـ أن يدخل مكة قبل وقوفه بعرفة، ثم يذهب إلى عرفة منها. 2ـ أن يغتسل لدخول مكة عند بئر ذي طوى وهي بئر معروفة، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغتسل بمائها دائماً إذا دخل مكة. 3ـ أن يدخل مكة من ثنية (كداء) وهي طريق بأعلى مكة. 4ـ أن يتجه فور وصوله مكة إلى البيت قاصداً طواف القدوم، وهي تحية البيت الحرام التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرص عليها. 5ـ أن يدخل المسجد من باب بني شيبة، فإذا أبصر الكعبة المشرفة رفع يديه ودعا بهذا الدعاء: "اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة، وزد من شرفه وعظمه ممن حجه أو اعتمره تشريفاً وتعظيماً وتكريماً وبراً، اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام ". ثالثا: سنن الطواف: علمت فيما مضى واجبات الطواف وشروط صحته، أما سننه فتتلخص فيما يلي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 1ـ أن يطوف ماشياً رجلاً كان أو امرأة، إلا إن عاقه عن ذلك مرض ونحوه، فلا كراهة في أن يطوف راكباً. روى الشيخان أن أم سلمى قدمت مريضة، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " طوفي وراء الناس وأنت راكبة ". 2ـ أن يستلم الحجر الأسود أول طوافه ويقبله ويضع جبينه عليه. إذ كان ذلك دأب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان. فإن لم يتمكن أن يتلمسه بيده لازدحام ونحوه أشار إليه بيده عن بعد مكبراً ومهللاً. وهذه السنة خاصة بالرجال. أما المرأة فلا يسن لها استلام لا تقبيل، إلا إذا خلا المطاف أمامها. وإذا كان في الطواف ازدحام، بحيث كان استلام الحجر وتقبيله، يسبب إيذاء للناس سقط استحباب ذلك للرجل أيضا، بل ربما عاد ذلك مكروهاً أو محرماً، حسب درجة الإيذاء التي تأتي نتيجة ذلك. لما رواه الشافعي وأحمد عن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " يا عمر " إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر، فتؤذي الضعيف. إن وجدت خلوة، وإلا فهلل وكبر ". 3ـ أن يكرر الاستلام والتقبيل للحجر الأسود عند كل شوط من طوافه، بالشروط التي ذكرناها، ويسن أيضا استلام الحجر بعد الطواف وصلاته. 4ـ أن يقول في أول طوافه: " بسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك، وإتباعا لسنة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام " لاتفاق السلف من الأئمة على ذلك. وأن يقول قبالة باب الكعبة: اللهم إن البيت بيتك، والحرم حرمك، والأمن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار. وأن يقول عند الانتهاء إلى الركن العراقي: اللهم إني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 أعوذ بك من الشك والشرك، والنفاق والشقاق، وسوء الأخلاق، وسوء المنظر في الأهل والمال والولد. وأن يقول عند الانتهاء إلى تحت الميزاب: اللهم أظلني في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك، واسقني بكأس نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - شراباً هنيئا لا أظمأ بعده يا ذا الجلال والإكرام. وأن يقول بين الركن الشامي واليماني: اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً، وعملاً مقبولاً، وتجارة لن تبور، يا عزيز يا غفور. وأن يقول بين الركنين اليمانيين: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ويدعو بما شاء من الأدعية، والدعاء المأثور الوارد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطواف أفضل من القراءة، والقراءة أفضل من غير المأثور. 5ـ أن يرمل في الأشواط الثلاثة الأولى، بأن يسرع مشيه مقارباً خطاه، ويمشي على هيئته في الأشواط الأربعة الأخرى، إذا كان سيعقب طوافه سعي، وإلا بأن كان قد سعى بعد طواف سابق، فلا يسن الرمل فيه، ويسن الرمل أن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن، ويلقي طرفيه فوق منكبه الأيسر. ويسمى ذلك اضطباعاً. وذلك لما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لما دخل مكة لعمرة القضاء فعل ذلك وأمر أصحابه بذلك، وقال: " رحم الله امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوة ". 6ـ أن يصلى بعد أن يتم طوافه، ركعتين خلف مقام إبراهيم يقرأ في الأولى بقل يا أيها الكافرون وفي الثانية بقل هو الله أحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 لما صح من رواية مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك وندب الناس إليه وهو يقرأ قول الله تعالى: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ". رابعاً: سنن السعي: 1ـ يسن إذا سعى بعد طواف ألا يعيد السعي بعد طواف آخر. فإذا سعى بعد طواف القدوم (وهو سنة كما علمت) يكره أن يعيده بعد طواف الإفاضة الذي هو ركن في الحج. 2ـ يستحب أن يرقى في أول سعيه على الصفا، بحيث يشاهد البيت لو لم يكن دونه حجاب، ثم يستقبل القبلة قائلاً: " الله اكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد. الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا. لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد يحي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير " فإذا وصل بعد ذلك إلى المروة رقى عليها وقال مثل ذلك. 3ـ أن يسعى ماشياً ما أمكنه ذلك، فإذا وصل إلى ما بين الميلين المعروفين سن له أن يعدو ويهرول. ويدعوا أثناء ذلك وعند صعوده على الصفا والمروة كل مرة بما يجب لنفسه ولإخوانه وللمؤمنين. خامساً: سنن الخروج إلى عرفة: الوقوف بعرفة ـ كما قد عرفت ـ ركن من أهم أركان الحج. ويمكن تحقيقه بأن يذهب إليه الحاج رأساً، دون مرور بمكة. ولكن إذا أراد اتباع السنة، وتطبيق المراحل التي اجتازها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذهاب إلى عرفة، كان عليه أن يراعي الخطوات التالية: 1ـ أن يجعل صعوده إلى عرفة بعد دخوله مكة وأدائه طواف القدوم كما ذكرنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 2ـ أن يخطب إمام المسلمين أو كبير قدوة فيهم، في مكة، في سابع ذي الحجة، بعد صلاة الظهر يوجههم إلى الصعود إلى منى صباح اليوم التالي، وما يلي ذلك من خطوات المناسك. ليكونوا على بينة من الأعمال التي هم مقبلون عليها. 3ـ أن يخرجوا صباح اليوم الثامن إلى منى فيقيموا هناك إلى صباح اليوم التاسع. يصلون فرائضهم الخمسة في مسجد الخيف، حيث كان يصلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 4ـ أن يتجهوا صباح اليوم التاسع بعد شروق الشمس إلى عرفات. ويسن أن لا يدخلوها إذا وصلوا إلى قريب من حدودها، بل يقيمون بنمرة (مكان قريب عرفات) إلى أن تزول الشمس، حيث يصلون الظهر والعصر جمع تقديم، ثم يدخلون عرفات ويقفون بها إلى الغروب، يذكرون الله تعالى ويدعون ويكثرون التهليل والإنابة والتضرع إلى الله عز وجل. هكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه أصحابه، فيما صح عنه، في حجة الإسلام التي أداها قبيل وفاته. سادساً: سن المبيت بالمزدلفة: فإذا وصلوا إلى مزدلفة (وقد عرفت أن المبيت بها واجب، بحيث يوجد فيها ولو دقيقة بعد منتصف الليل) استحب مراعاة الأمور التالية: أـ البقاء في المزدلفة إلى أذان الفجر، حيث يصلون الصبح فيها مغلسين أي في أول وقتها ب ـ الاتجاه إلى منى بعد أن يأخذوا من المزدلفة حصى الجمار: سبع حصيات كل منها أكبر من الحمصة، ودون حبة الفول. لما رواه النسائي والبيهقي عن الفضل بن العباس رضي الله عنهما: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له غداة النحر: " التقط لي حصى ". قال فلقطت له حصيات مثل حصى الخزف. ج ـ الوقوف عند المشعر الحرام (وهو جبل صغير في آخر المزدلفة) إذا وصلوا إليه، والدعاء هناك إلى الإسفار، مع الإكثار من قول: " ربنا أتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار ". وذلك لصريح قوله تعالى: {فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ} ثم يواصلون سيرهم إلى منى، شعارهم التلبية والذكر، بحيث يصلونها بعد طلوع الشمس. سابعاً: سنن الرجم يسن في رجم جمرة العقبة اتباع الآداب التالية: 1ـ أن لا يبتدئ إذا وصل إلى منى بشيء غير رمي الجمار، إذ هو تحية منى ذلك اليوم. 2ـ أن يقطع التلبية عند ابتداء الرمي لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يزل ملبياً حتى إذا رمى قطع التلبية، واستبدل بها التكبير. 3ـ أن يكبر مع قذف كل حصاه، وأن يرمي بيده اليمنى، رافعاً لها حتى يري بياض إبطه. أما المرأة فلا ترفع، وأن تكون الحصاة في قدر الباقلاء. ويسن في رمي الجمار أيام التشريق اتباع ما يلي: 1ـ أن يرمي الجمار إذا زالت الشمس وقبل أن يصلي الظهر، إلا إذا حال ازدحام شديد دون ذلك فلا مانع من التأخير. 2ـ أن يقف من الجمرة الأولى والثانية موقفاً بحيث يتجه إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 القبلة، ثم يرمي إليها الجمار واحدة إثر أخرى على النحو الذي ذكرناه في جمرة العقبة. 3ـ أن ينحرف بعد الرمي قليلاً بحيث لا يناله حصى الناس أثناء الرمي، ويجعل الجمرة خلفه، ويستقبل القبلة، ويدعوا الله بخشوع وتضرع بما شاء لنفسه ولإخوانه، ويسن أن يطيل ذلك قدر قراءة سورة البقرة. فإذا أتى الجمرة الثانية فعل مثل ذلك ودعا بعد الرمي بدون أي فرق بينهما، حتى إذا وصل إلى جمره العقبة، وهي التي كان قد رماها يوم النحر، رمى الجمار كما فعل في السابق. ولا يدعو بعد ذلك، ولا يقف عندها. دليل ذلك كله فعله - صلى الله عليه وسلم - فيما صح في الحديث الصحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 كيفية التحلل من الحج عرفت فيما مضى أن الدخول في مناسك الحج يستلزم تلبس الداخل في التزامات معينة، وحرمة تلبسه بطائفة من التصرفات والأعمال لتي سبق بيانها. فمتى يتحلل الإنسان من الحج والتزاماته، ومن الحظر المفروض عليه. وكيف يكون ذلك؟ يبدأ وقت التحلل من بعد منتصف ليلة عيد النحر، عندما يكون قد دفع من عرفات وبات البيتوتة الواجبة في المزدلفة واتجه عائداً إلى منى. هنالك تكون أمامه ثلاثة أعمال هامة من مناسك الحج في انتظاره وهي: رمي جمرة العقبة، الحلق، الطواف، فإذا أنجز الحاج اثنين من هذه الأعمال الثلاثة، أيا كانت، فقد تحلل من الحج التحلل الأول، ويسمونه: التحلل الأصغر، فيجوز له مباشرة جميع المحرمات العشرة السابق ذكرها ما عدا النساء: وطأ، ومباشرة، عقد نكاح. أي فيلبس ثيابه ويتطيب. الخ فإذا أنجز الحاج العمل الثالث الباقي من تلك الأعمال الثلاثة، فقد تحلل من الحج تحللا كاملاً، ويسمونه: التحلل الأكبر، أي فيجوز له مباشرة النساء وتوابعها أيضا. دليل ذلك ما رواه أحمد وأبوداود من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب وكل شيء إلا النساء ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 أدعية الحج تمهيد: 1ـ الدعاء عبادة بل هو مخ العبادة، وهو في الحقيقة تعبير عملي عن يقظة الضمير، والشعور بالحاجة إلى تأييد الله وعونه. 2ـ ذلك ورد الأمر به في القرآن والسنة، قال تعالى: {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية} وقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا يرد القضاء إلا الدعاء " وقال: " الدعاء هو العبادة ". 3ـ ولا شك أنه من أعظم دواعي إجابة الدعاء: إخلاص القلب، وطهارة النفس، وطيب الكسب، والإعراض عن الدنيا والإقبال على الله. والإنسان في أيام الحج وقت أداء المناسك يكون أكثر استعداداً للاتصاف بالأوصاف التي ذكرناها، مما يجعل الإنسان أكثر تعرضاً لرحمة الله وإجابة دعائه. 4ـ لذلك كله شرع الدعاء في أيام الحج واستحب الإكثار منه رغبة ورهبة خوفاً وطمعاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 5ـ ولا شك أن أفضل الدعاء ما كان مأثوراً، في كتاب الله مثل قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} أو في السنة، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استوي على بعيره خارجاً إلى سفر، كبر ثلاثاً ثم قال: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل). 6ـ واعلم أنه قد أثرت أدعية كثيرة، في مناسك الحج ولكنها ليست كلها مما يصح نسبتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل أكثرها لم يصح عنه، وإنما استحبها السلف الصالح ورويت عن كثير من العلماء، والصالحين، فيستحب للإنسان أن يدعو بها على أنها دعاء، أو أن يدعوا بغيرها مما ينشرح له صدره وتطيب له نفسه غير ملتزم بدعاءٍ معين، وقد مر بك بعض الأدعية أثناء دراستك لفقرات أبحاث الحج مخرجة، أما ما سنذكره الآن فسنذكره من غير نسبة لأحد. الأدعية في الحج 1ـ عند الإحرام: قال الإمام الرازي: لو قال الحاج بعد التلبية: (اللهم لك أحرم نفسي وشعري وبشري، ولحمي ودمي) كان حسناً. 2ـ إذا رأى شيئاً أعجبه: وإذا رأى شيئاً أعجبه بعد إحرامه قال: (لبيك إن العيش عيش الآخرة) اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 3ـ إذا وصل إلى حرم مكة: وإذا وصل الحاج إلى مكة استحب له أن يقول: (اللهم هذا حرمك وأمنك، فحرمني على النار، وآمني من عذابك يوم تبعث عبادك، واجعلني من أوليائك وأهل طاعتك). 4ـ إذا دخل مكة ووقع بصره على الكعبة: وإذا دخل مكة ووقع بصره على الكعبة استحب أن يقول: (اللهم زد البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابةً وزد من شرفه وكرمه ممن حجه، أو اعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبراً، اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام). 5ـ عند الطواف: ويقول عند البدء بالطواف: (باسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك عليه الصلاة والسلام). ويقول في رمله في الأشواط الثلاثة: (اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً) ويقول في الأشواط الأربعة الباقية: (اللهم اغفر وارحم، واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم، اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار). 6ـ عند السعي: يستحب على الصفا أن يستقبل القبلة ويقول: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لا إله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، اللهم إنك قلت ادعوني أستجب لكم، وإنك لا تخلف الميعاد، وإني أسألك كما هديتني إلى الإسلام أن لا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا مسلم). ويقول ذلك على المروة أيضاً. ومن الأدعية المستحبة في السعي أيضاً: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، اللهم إني أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والفوز بالجنة والسلامة من كل إثم، والنجاة من النار، اللهم إني أسألك التقى والعفاف والغنى). 7ـ في عرفات: يستحب الإكثار من الدعاء يوم عرفة لحديث: " خير الدعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ". روى الترمذي عن علي - رضي الله عنه - قال: أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة في الموقف: " اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، وإليك مآبي، ولك رب تراثي، اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح ". 8ـ في المزدلفة والمشعر الحرام: قال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ}. ويستحب أن يقول: (اللهم إني أسألك أن ترزقني في هذا المكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 جوامع الخير كله، وأن تصلح شأني كله، وأن تصرف عني الشر كله، فإنه لا يفعل ذلك غيرك ولا يجود به إلا أنت). 9 - بمنى يوم النحر: يستحب أن يقول إذا انصرف من المشعر الحرام ووصل منى (الحمد لله الذي بلغنيها سالماً معافى، اللهم هذي مني قد أتيتها وأنا عبدك، وفي قبضتك، أسألك أن تمن عليَّ بما مننت به على أوليائك، اللهم إني أعوذ بك من الحرمان والمصيبة في ديني يا أرحم الراحمين. 10ـ بمنى أيام التشريق: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أيام التشريق أيام كلها أكل وشرب وذكر لله تعالى " فيستحب الإكثار من الأذكار، وأفضلها قراءة القرآن، ويستحب أن يقف عند الجمرة الأولى مستقبلاً الكعبة، ويحمد الله ويكبره ويهلل ويسبح، ويدعو مع حضور القلب وخشوع الجوارح. 11ـ عند شرب ماء زمزم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ماء زمزم لما شرب له " ويستحب أن يقول: (اللهم إنه قد بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ماء زمزم لما شرب له " اللهم إني أشربه لتغفر لي ولتفعل كذا وكذا ـ مما يحب أن يدعوا به ـ). الخلاصة: هذه بعض أدعية اخترناها من كتاب الأذكار للإمام النووي رحمه الله تعالى، وأكثرها كما يظهر لك من أقوال السلف الصالح، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 وأدعية العلماء المؤمنين دعوا بها وأرادوا أن يعلموها الناس على الأخص العوام منها، ليدعوا بها في تلك الأماكن الطاهرة وفي تلك الحالات الخاشعة، علماً بأن المأثور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك قليل، ولا يصح أن يعتقد الإنسان أن هذه الأدعية هي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقواله، بل هي أدعية مرسلة يصح أن يدعو بها الإنسان ويدعو بغيرها مما يشاء والله نسأل أن يلهمنا الدعاء الذي يرضاه وأن يرزقنا الإجابة كما يحب ويرضى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 الإخلال بالحج اعلم أن الإخلال بالحج يكون بسبب من الأسباب التالية: السبب الأول: ترك مأمور به أذن الشارع للحاج بتركه بشرط الفدية. السبب الثاني: ترك واجب من الواجبات الخمسة التي سبق ذكرها. السبب الثالث: ترك ركن من أركان الحج وهو إما أن يكون الوقوف بعرفة أو غيره من بقية الأركان ولكل منا حكم. السبب الرابع: ارتكاب شيء من محرمات الإحرام التي مضى ذكرها .. فالإخلال بالحج إنما يكون بسبب من الأسباب الأربعة، وهي أسباب متفاوتة فيما تترك من أثر، فالبعض منها يجبر بفدية، والبعض لا يجبر بشيء. ولنبدأ بتفصيل القول في كل منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 السبب الأول: أن يترك مأموراً به ولكن أذن الشارع للحاج بتركه بشرط الفدية وهذا السبب محصور في أن يحج متمتعاً أو قارناً فإن المأمورية في الأصل إنما هو الإفراد في مذهب الشافعي. ولكن لا مانع من أن يحرم متمتعاً أو قارناً، بشرط أن يذبح لقاء ذلك هدياً وهو شاة مما تجزىء به الأضحية. فإن لم يجد الشاة أو ثمنها صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع لقوله تعالى: {َمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} فإن لم يصم في الحج ثلاثة أيام صامها إذا رجع إلى أهله وفرق بينهما وبين السبعة بقدر أربعة أيام ومدة إمكان السير إلى أهله. السبب الثاني: أن يترك شيئاً من الواجبات التي سبق ذكرها، بأن لا يحرم من الميقات، أو يترك الرمي، أو المبيت، بمزدلفة، أو بمنى، أو يترك طواف الوداع. فمن ترك واحداً من هذه الواجبات التي سبق ذكرها، فقد أخل بالحج، وعليه ليجبر هذا الإخلال أن يذبح شاة إن تيسر له ذلك، فإن لم يتيسر وجب عليه في الأصح أن يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. السبب الثالث: ترك ركن من أركان الحج، وهو إما يكون تركاً للوقوف بعرفة أو تركاً لواحد من بقية الأركان الأخرى. فالأول: وهو ترك الوقوف بعرفة يترتب عليه وجوب ما يلي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 أـ ذبح دم. كدم المتمتع أو الصيام إن لم يتيسر الدم. ب ـ التحلل بعمرة، بأن يعمل أعمال العمرة ثم يتحلل، ومع ذلك فهي لا تحسب له عمرة مسقطة للواجب. ج ـ قضاء هذا الحج، سواء قد أحرم به عن حجة الفرض أو أحرم به متطوعاً، وذلك على الفور أي السنة المقبلة، ولا يجوز التأخير عنها إلا لعذر. ولا فرق في هذا بين أن يترك الوقوف بعرفة بعذر كنوم ونسيان ونحو ذلك. أو بغير عذر. والثاني: وهو ترك واحد من الأركان، كأن يترك طواف الإفاضة والسعي، أو الحلق فهذه لا مدخل للجبران فيها، ولا يرتفع الإخلال، إلا يفعل المتروك نفسه، أي فيبقي الحج معلقاً حتى يتدارك، مهما تطاول الزمن ومضى الوقت. السبب الرابع: أن يرتكب شيئاً من محرمات الإحرام التي مضى بيانها: كأن يحلق شعراً، أو يقلم ظفراً، أو يلبس مخيطاً ... إلى آخرة، فمن ارتكب شيئاً من المحرمات، وجب عليه جبر الإخلال الذي نتج عن ذلك على الوجه التالي: أولاً: إن كان المحرم الذي ارتكبه: حلقاً لشعر، أو قلماً لأظافر، أو لبساً لمخيط، أو تطيباً، أو ستراً للرأس، أو مباشرة فيما دون الجماع، وجب عليه واحد من الأمور التالية: أـ ذبح شاة مما تجزئ به الأضحية. ب ـ إطعام ستة مساكين كل مسكين ما يساوي نصف صاع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 ج ـ صيام ثلاثة أيام. فهو مخير فعل واحد من هذه الأمور الثلاثة، بشرط ألا يقل المحلوق عن ثلاث شعرات، أو ثلاثة أظافر. فإن كان دون ذلك، ففي الشعرة الواحدة أو الظفر الواحد مد طعام وفي الشعرتين أو الظفرين مدين. ثانياً: إن كان المحرم الذي ارتكبه الحاج جماعاً وجب أن يذبح بدنة، فإن لم يجد قومت البدنة دراهم (وتعتبر القيمة بسعر مكة) وقومت الدراهم طعاماً يتصدق به، فإن لم يجد قيمة البدنة أيضاً، قدر الطعام أمداداً (والمد ملء حفنة) عن كل مد يوماً. ثالثاُ: أما إن كان المحرم اصطياداً، فينظر: 1ـ إن كان الحيوان الذي اصطيد، له مثل في الأنعام، وجب ذبح مثله من الأنعام. ففي صيد النعامة بدنة، وفي بقر الوحش وحماره بقرة، وفي الغزل عنز ... . إلخ. 2ـ إن كان الحيوان لا نقل فيه عن الصحابة وجُهل المماثل له من الأنعام، وجب الرجوع في ذلك إلى قرار عدلين، من ذوي الخبرة لقوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ}. 3ـ أما إذا كان الحيوان مما لا مثيل له، فيجب إخراج القيمة. عندئذ والتصدق بها على الفقراء ويرجع في تحديد القيمة إلى قرار عدلين من ذوي الخبرة. 4ـ يستثنى من ذلك كله الحمام ونحوه مما يهدر، ففي الواحد شاة من ضأن أو معز نقل ذلك عن الصحابة رضوان الله عليهم، والصحيح أن مستندهم في ذلك هو التوقيف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك هو أصل الفدية في الصيد. ثم إن كان الحيوان مثلياً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 تخير الصائد في جزاء الإتلاف بين أن يذبح مثله من النعم، كما ذكرنا ويتصدق به على فقراء الحرم خاصة، وبين أن يقوم ذلك المثل بالدراهم ويتصدق بما يسويها طعاماً عليهم وبين أن يصوم عن كل مد يوماً. دليل ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} المائدة 95. أما غير المثلي، فيتصدق بالقيمة التي يقررها العدلان الخبيران، أو يصوم عن كل مد من ذلك يوماً. يتبين لك مما ذكرنا: أن فدية ترك الواجب فدية مرتبة: الذبح أولاً، فإن عجز فالتصدق، فإن عجز فالصيام، وأن فدية ارتكاب محرم فدية محيرة. إن شاء ذبح، أو أطعم، أو صام. وذلك طبقاً للتفصيل الذي ذكرناه والله أعلم. هذا ولابد من بيان أن الأضحية سنة للحاج كغيره. وأن وقتها من بعد الرمي إلى آخر أيام التشريق. الدماء الواجبة في الحج وما يقوم مقامها: الدماء الواجبة في الحج على هذا خمسة أقسام: القسم الأول: الدم المرتب المقدر: وهذا يجب عند ترك واجب من واجبات الحج التي مر ذكرها. فإذا ترك واجباً مما ذكر وجب عليه أولاً ذبح شاة مجزئة في الأضحية، أو سُبُع بقرة أو سُبُع بدنة. فإن لم يجد شيئاً من ذلك وجب عليه أن يصوم بدلها عشرة أيام، ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. ويدخل في هذا القسم دم التمتع ودم الفوات للوقوف، بعد التحلل لعمرة. القسم الثاني: مخير مقدر: وهذا يجب عند فعل محظور كحلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 شعر وقلم ظفر وما شابه ذلك، فيجب على من فعل ذلك ذبح شاة أو صيام ثلاثة أيام أو ثلاثة آصع من طعام بر أو شعير يدفعها إلى ستة من مساكين الحرم، لكل مسكين نصف صاع. ويكفي في وجوب هذه الفدية إزالة ثلاث شعرات، أو قلم ثلاثة أظافر. القسم الثالث: مخير معدل: وهذا ما يجب عند قطع نبت أو بقتل صيد، فمن فعل ذلك وجب في حقه إن كان للصيد مثل أو شبه صوري أن يذبح المثل في الحرم، أو يشتري لأهل الحرم حباً بقدر قيمته يوزعه عليهم، أو يصوم عن كل مد يوماً. وإن لم يكن لذلك مثل فهو مخير بين الإطعام والصيام. إلا الحمام فيجب في الحمامة شاة. القسم الرابع: مرتب معدل: وهو الدم الواجب بالإحصار، فمن منع من الحج بعد إحرامه وجب عليه أولاً أن يذبح شاة حيث أحصر، فإن لم يستطع فليطعم بقدر ثمن الدم يوزعه على الفقراء، فإن عجز عن الإطعام صام عن كل مد يوماً. القسم الخامس: مرتب معدل أيضاً: وهذا يجب على المجامع خاصة، فمن جامع قبل الإحلال وجب أن يذبح بعيراً، فإن عجز وجب عليه أن يذبح بقرة، فإن عجز وجب عيه أن يذبح سبع شياه، فإن عجز عن ذلك أطعم بقيمة البعير أهل الحرم، فإن عجز عن الإطعام، صام عن كل مد يوماً. هذا ولا يجزئ الذبح والإطعام إلا في الحرم، وأما الصيام فيصوم حيث شاء، هذا والمراد بالترتيب في هذه الدماء أنه لا يجوز أن ينتقل إلى الثاني إلا عند عجزه عن الأول، وهو ضد التخيير فهو مفوض إليه أن يفعل ما يختاره. ومعني التقدير أن الشرع قد قدر البدل المعدول إليه سواء أكان ترتيباً أم تخبيراً، ويقابله التعديل ومعناه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 أنه أمر فيه بالتقويم والعدول إلى الغير بحسب القيمة، ولقد جمع الشيخ العمريطي شرف الدين يحي في منظومته "نظم الغاية والتقريب" الكلام عن تلك الدماء فقال: وسائر الدماء في الإحرام ... محصورة في خمسة أقسام فالأول المرتب المقدر ... بترك أمر واجب ويجبر بذبح شاةٍ أولاً وصاما ... للعجز عنه عشرة أيام ثلاثة في الحج في محله ... وسبعة إذا أتى لأهله ثاني الدما مخيري مقدر ... بنحو حلق من أمور تخطرُ فالشاة أو ثلاثة أيام ... يصومها أو آصع طعام لستةٍ هم من مساكين الحرم ... لكل شخص نصف صاع منه تم ثالثها مخير معدل ... يقطع نبت أو بصيد يقتل فإن يكن للصيد مثل في النعم ... فليذبح المثل ابتداء في الحرم أو يشتري لأهل ذلك الحرم ... حبا بقدر ما له من القيم أو يعدل الأمداد منه صوما ... يصومه عن كل مد يوما وخيروا في الصوم والإطعام في ... إتلاف صيد حيث مثله تفي رابعها مرتب معدل ... فواجب بالحصر حيث يحصل دم فإن لم يستطع فليطعم ... قوتا يرى بقدر قيمة الدم وصام عند العجز عن إطعام ... ما يعدل الأمداد من أيام خامسها يختص بالمجامع ... مرتب معدل كالرابع لكن هنا البعير قبل معتبر ... وبعده للعجز رأس من بقر وعند عجز عن سبع من غنم ... ثم الطعام يشترى عند العدم بقيمة البعير حيثما وجد ... وعدله من الصيام إن فقد ولم يجب كون الصيام في الحرم ... والهدي والإطعام فيه ملتزم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا وقد أحببنا أن نضع لك في ختام بحث الحج حديث جابر - رضي الله عنه - في حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنقف بذاكرتك بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام وهم يؤدون هذه الفريضة عبر الزمان الطويل. روى مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين لم يحج، ثم أُذِّن في الناس في العاشرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويعمل مثل عمله. فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحُليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف أصنع؟ قال: اغتسلي، استثفري (1) بثوبٍ وأحرمي، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ثم ركب القصواء (2)، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماشٍ وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به، فأهل (3)   (1) استثفري من الاستفثار وهو أن تشد المرأة في وسطها شيئا، وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها من قدامها ومن وراءها لمنع سيلان الدم (2) القصواء: اسم ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (3) أهل: من الإهلال وهو رفع الصوت بالتلبية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك. وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم شيئاً منه، ولزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلبيته. قال جابر لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم، فقرأ: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فجعل المقام بينه وبين البيت، فكان يقرأ في الركعتين: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ} أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، وقال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده " ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي، سعى حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: " لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلها عمرة. فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة " فقام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد، فشبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابعة واحدة في الأخرى وقال: " دخلت العمرة في الحج، مرتين، لا بل لابد أبد " وقدم علي من اليمن ببدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد فاطمة ممن حل، ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا. قال: فكان علي يقول بالعراق: ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متحرشا (1) على فاطمة للذي صنعت مستفتياً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -   (1) التحريش: الإغراء، والمراد هنا أن يذكر له ما يقتضي عتابها ولومها .. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال: " صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟ " قال: قلت: " اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ": قال " فإن معي الهدي فلا تحل ". قال فكان جماعة الهدي الذي قام به علي من اليمن، والذي أتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة. قال فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كان معه هَدْي، فلما كان يوم التروية (1) توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلع الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة. فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام (2) كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس، أمر بالقصواء فرحلت له (3)، فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: " إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دماءنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته   (1) يوم التروية: هو اليوم الثامن من ذي الحجة. (2) كانت قريش في الجاهلية تقف في المشعر الحرام، وهو جبل بالمزدلفة يقال له قزح، وقيل: أن المشعر الحرام كل المزدلفة، وكان سائر العرب يتجاوزون المزدلفة ويقفون بعرفات، فظنت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقف في المشعر الحرام على عاداتهم ولا يتجاوزه، ولكن رسول الله تجاوزه إلى عرفات تنفيذا لأمر الله تعالى، في قوله: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) أي سائر العرب غير قريش، وإنما كانت قريش تقف بالمزدلفة لأنها من الحرم ويقولون نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه. (3) رحلت: وضع عليها الرحل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 هذيل، وربا الجاهلية موضوع (1)، وأول ربا أضع ربا عمي العباس بن عبدالمطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت ونصحت، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى الناس ينكتها (2) إلى الناس، اللهم أشهد، اللهم أشهد ثلاث مرات، ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة (3) بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص، ولم وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شنق (4) للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله (5) ويقول بيده اليمنى (6) أيها الناس السكينة السكينة، كلما أتى حبلاً من الجبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذن واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره.   (1) أي باطل ومردود. (2) ينكتها: يقلب أصبعه ويرددها إلى الناس مشيراً إليهم. (3) حبل المشاة: أي مجتمعهم. (4) شنق: ضم وضيق. (5) المورك: الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه أمام واسطة الرجل إذا مل من الركوب. (6) يقول بيده: أي يشير بها قائلا أيها الناس ألزموا السكينة، وهي الرفق والطمأنينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وهلله ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً (1)، فلما دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرت به ظعن يجرين (2)، فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده من الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر، حتى أتى بطن محسر. فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاه منها، مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بيده (3)، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر (4)، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها. ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفاض إلى البيت (5)، فصلى بمكة الظهر. فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال: انزعوا (6) بني عبدالمطلب فلولا أن يغلبكم الناس (7) على سقايتكم لنزعت، فناولوه دلواً فشرب منه.   (1) وسيما: جميلاً. (2) الظعن: جمع ظعينة، وهي البعير الذي عليه امرأة، ثم سميت به المرأة مجازاً لملابستها البعير. (3) فنحر ثلاثاً ستين بيده: فيه دليل على استحباب تكثير الهدي، وكان هدي النبي مائة بدنة. (4) ما غبر: ما بقي. (5) أفاض إلى البيت أي طاف بالبيت طواف الإفاضة ثم صلى الظهر. (6) انزعوا: استقيموا بالدلاء وانزعها بالرشاء (الحبال). (7) فلولا أن يغلبكم الناس: لولا خوفي أن يعتقد الناس أن ذلك من مناسك الحج فيزدحموا عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا الاستقاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 زيارة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبره الشريف أهمية ذلك ودليله: أما مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد دل على استحباب زيارته قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى ". وأما قبره - صلى الله عليه وسلم - فقد دل على استحباب زيارته وعظم الأجر المنوط بها، إجماع الصحابة كلهم والتابعين من بعدهم على زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - كما يدل على ذلك ما ثبت من استحباب زيارة القبور عامة بقوله - صلى الله عليه وسلم - " كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها " وبفعله إذ كان يزور البقيع بين حين وأخر. ولا ريب أن الاستحباب يتضاعف إذا كان القبر قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. كما يدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ، عندما أرسله إلى اليمن: " يا معاذ، عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري " رواه أحمد بسند صحيح. ومعلوم أن (لعلك) هنا بمعنى الطلب والرجاء. آداب زيارة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فإذا أدركت مدى أهمية زيارة مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقبره الشريف، فلتعلم أن على الحاج إذا فرغ من نسك حجه وعمرته، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 كان عليه حين يتجه إلى مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لينال شرف زيارته وزيارة مسجده التزام الآداب التالية: أولاً: يستحب أن يعقد العزم ـ لدى اتجاهه إلى المدينة المنورة ـ على زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - وزيارة مسجده، حتى يكتب له أجرهما معاً. وأن يكثر في طريقه من الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثانياً: يستحب أن يغتسل قبيل دخوله المدينة إن تيسر له ذلك، وإلا فليغتسل قبل دخوله المسجد، ويلبس أنظف ثيابه. ثالثاً: إذا وصل إلى باب مسجده - صلى الله عليه وسلم - فليقدم رجله اليمنى في الدخول قائلاً: " أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، بسم الله، والحمد لله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم. اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك " قال الإمام النووي: هذا الذكر والدعاء مستحب في كل مسجد، وقد وردت فيه أحاديث في الصحيح وغيره، ثم يدخل فيتجه إلى الروضة الكريمة، وهي ما بين المنبر والبيت، فيصلى تحية المسجد يجنب المنبر. إذ يظن أن يكون موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رابعاً: إذا صلى التحية في الروضة، فليأت إلى القبر الكريم، فيستدبر القبلة ويستقبل جدار القبر، ويبعد عن رأس القبر نحو أربعة أذرع. ويقف ناظراً إلى أسفل ما يستقبله من جدار القبر، وقد أفرغ قلبه من علائق الدنيا واستحضر جلالة موقفه ومنزلة من هو في حضرته. ثم يسلم بصوت خفيض قائلاً: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا خيرة الله، السلام عليك يا خيرة رب العالمين، جزاك الله يا رسول الله عنا أفضل ما جزى نبياً وسولاً عن أمته. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنك عبده ورسوله من خلقه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 وأشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده. ثم ينحرف قليلاً نحو اليمين حيث قبر أبي بكر - رضي الله عنه - فيقول: السلام عليك يا أبا بكر الصديق، ثم ينحرف إلى اليمين أيضا حيث قبر عمر بن الخطاب فيقول: السلام عليك يا عمر بن الخطاب. ثم يعود إلى مكانه الأول، ويتجه إلى القبلة فيدعوا لنفسه وللمؤمنين بما يشاء، فإنها ساعة تُرجى فيها الاستجابة إن شاء الله. خامساً: لا يجوز الطواف بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال الإمام النووي، ويكره أن يلصق نفسه بجدار القبر، كما يكره التمسح به وتقبيله، كما هو شأن من الجهال، بل الأدب أن يبتعد عن القبر كما يبتعد عنه - صلى الله عليه وسلم - في حضرته أثناء حياته. سادساً: ينبغي له مدة إقامته في المدينة المنورة أن يصلي الصلوات كلها في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يخرج كل يوم إلى زيارة البقيع، وأن يزور قبور شهداء أحد، كما يستحب استحباباً مؤكداً أن يأتي مسجد قباء، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يأتي مسجد قباء في كل يوم سبت ورد ذلك في الصحيحين وغيرهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 حكم من أحصر أو فاته الوقوف بعرفة المحصر من منعه مانع دون الوصول إلى مكة والقيام بأعمال الحج فإذا أحرم شخص بالحج أو العمرة، ثم منعه عدو من الوصول إلى مكة أو حبس وسد عليه منافذ الطريق تحلل في مكانه. والتحلل أن يذبح شاة في مكانه الذي أحصر فيه مع نية التحلل، ثم يحلق رأسه أو يقصر من شعره. قال الله سبحانه وتعالى: {َإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}. وهذه الآية نزلت بالحديبية حين صد المشركون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن البيت، وكان معتمراً، فنحر ثم حلق، وقال لأصحابه: (قوموا فانحروا ثم احلقوا). فإذا فقد الدم فلم يقدر على الذبح قومت الشاة وأخرج طعاماً بقيمتها، فإن عجز عن الطعام صام عن كل مد يوماً. ويتحلل هذا في الحال ولا ينتظر إلى انتهاء الصيام. ومن الموانع التي تحول دون إتمام الحج أو العمرة عدم إذن الزوج، فإذا أحرمت المرأة بالحج أو العمرة من غير إذن الزوج، سواء أكان نسكها فرضاً أو نفلاَ، فللزوج تحليلها، فإذا طلب منها ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 وجب عليها الإحلال إذا كان زوجها حلالاً، لأن في استمرارها تفويتاً لحق الزوج، ويكون إحلالها كإحلال المحصر الآنف الذكر. وعلى هؤلاء الحج فيما بعد: ومن فاته الوقوف بعرفة بعذر أو بغير عذر تحلل بطواف وسعي وحلق ويجب عليه دم، ويجب عليه أيضا القضاء فوراً في العام المقابل. فلقد روى مالك في الموطأ بإسناد صحيح: أن هبَّار بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب ينحر هديه، فقال: يا أمير المؤمنين أخطأنا العدد وكنا نظن أن هذا اليوم يوم عرفة. فقال له عمر - رضي الله عنه -: أذهب إلى مكة فطف بالبيت أنت ومن معك، واسعوا بين الصفا والمروة، وانحروا هديكم إن كان معكم، ثم احلقوا أو قصروا، ثم ارجعوا فإذا كان عام قابل فحجوا واهدوا، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع. ملاحظة: للحاج أو المعتمر أن يشترط أنه إذا مرض أو وقع به نحو ذلك فقد حل، فإذا وقع به ما اشترط جاز له أن يتحلل. روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: " دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ضباعة بنت الزبير، فقال لها: أردت الحج؟ فقالت: والله ما أجدني إلا وجعة، فقال: حجي واشترطي، وقولي اللهم محلي حيث حبستني". والإحلال في هذه الحال يكون بالنية والحلق، ولا دم عليه إلا إذا كان قد شرط التحلل بالهدي. من مات ولم يحج إذا وجب على الإنسان الحج أو العمرة، ولكنه تراخى عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 أدائها فلم يؤدهما حتى مات، مات عاصياً، ووجب تكليف من يحج عنه أو يعتمر، وتدفع النفقة من رأس مال المتوفى، وتعد هذه من الديون، فلا تقسم التركة إلا بعد أداء الديون. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما " أن امرأة من جهينة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضية؟ قالت نعم، قال: اقضوا دين الله، فالله أحق بالوفاء" فشبه الحج بالدين الذي لا يسقط بالموت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 أحكام منثورة يلزم المرأة أجرة المحرم إن كان لا يخرج معها إلا بأجرة، وكانت قادرة على دفعها، فإن لم تكن قادرة على ذلك خرجت عن حدود الاستطاعة فلا يجب عليها الحج. القائد للأعمى كالمحرم للمرأة، فإن لم يجد قائداً إلا بأجرة وجب عليه دفعها. العاجز عن الحج بنفسه ـ وهو المعضوب ـ يجب عليه استئجار من يحج عنه بأجرة المثل، فإن لم يجد من يحج عنه إلا بأكثر من أجرة المثل لم يلزمه. إذا بذل ولده مالاً أو أجنبي ليدفعه أجرة لمن يحج عنه لم يلزمه قبوله. لو تبرع هؤلاء أن يحجوا عنه بأنفسهم وجب عليه قبول ذلك والإذن لهم. إذا وقف الحجاج يوم العاشر غلطاً بدل اليوم التاسع أجزأهم الوقوف ولم يجب عليهم القضاء لقوله عليه الصلاة والسلام: " يوم عرفة اليوم الذي يعرف فيه الناس ". المرأة الحائض يجوز لها أن تسافر من غير طواف وداع، لما ورد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 في الصحيحين عن ابن عباس: " أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه قد خفف عن المرأة الحائض ". كما يحرم على الحاج الصيد يحرم عليه قطع نبات الحرم الذي لا يستنبت، وتجب فيه الفدية، ففي الشجرة الكبيرة بدنة، وفي الشجرة الصغيرة شاة، وفي النبات القيمة. صيد المدينة حرام كصيد الحرم إلا أنه لا ضمان فيه. إذا حج الصبي صح حجه ولكنه لا يقع عن حجة الإسلام، فإذا بلغ وجب عليه أن يحج حجة الإسلام إن كانت توجد فيه شروط الاستطاعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 كيف تحج؟ لقد تحدثنا فيما مضى عن الحج والعمرة وشروط وجوبهما، وعن أركانهما، وعن الواجبات فيهما، وعن مفسداتهما وعن حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن أمور كثيرة تتعلق بالحج والعمرة. والآن نريد أن تستعرض أفعال الحج بشكل متسلسل، كي يسهل على المرء المسلم أداء هذه الفريضة العظيمة. يبدأ المسلم رحلة الحج بأن يؤدي ما عليه من واجبات، فإن كان عليه دين أداه إلى صاحبه، أو استأذن منه في السفر إلى الحج، وإن كان قد آذى مسلماً تحلل منه، وطلب منه المسامحة. يختار في الحج الرفقة الصالحة، ولاسيما الفقهاء في الدين، فإن ذلك ضروري لأداء فريضة الحج على أكمل وجه. يتعلم قبل سفره ما لا بد منه من أحكام الحج، وقد عد الإمام الغزالي هذا التعلم فرض عين على كل من أراد أداء هذه الفريضة ,. إذا بدأ بالسفر إلى الحج جاز له أن يحرم من بيته، وجاز له أن يؤجل الإحرام إلى الميقات. إذا أراد أن يحرم سواء أكان من بيته أم من الميقات يغتسل أولا، ً ثم يلبس ثياب الإحرام وهي إزار ورداء غير مخيطين ثم يصلي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 ركعتين سنة الإحرام، ثم يتوجه إلى القبلة ويقول: لبيك اللهم بحج ناوياً ذلك بقلبه أيضاً، هذا إذا أراد الدخول في الحج، وإذا أراد الدخول في العمرة قال: لبيك الهم بعمرة، فإذا فعل ذلك صار محرماً بالنسك وحرم عليه الأشياء التي ذكرناها فيما مضى تحت عنوان محرمات الإحرام. فإن فعل شيئاً من هذه المحرمات ترتب عليه الفدية التي ذكرناها فيما مضى، وأما الجماع منها فإنه مفسد للحج وموجب للفدية كما ذكرنا. إذا كان سفره بالطائرة استحسن أن يبدأ بالإحرام عند قيام الطائرة، خشية أن تكون لسرعتها تتجاوز الميقات من غير إحرام، فيلزم الإنسان دم ذلك. إذا أحرم بالنسك سن له أن يقول: اللهم أحرم لك شعري وبشري ولحمي ودمي، وسن له التلبية، وخاصة إذا صعد مرتفعاً أو هبط وادياً أو التقى برفقة، والتلبية أن يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. والمرأة في ذلك كالرجل، إلا أنها لا يجب عليها خلع المخيط، ولا ترفع صوتها بالتلبية. ونذكر هنا أن المرأة يجب عليها كشف وجهها وكفيها، ويسن خضبهما بحناء كما مر. إذا شارف المحرم دخول مكة سن له أن يغتسل لدخول مكة، والأفضل الاغتسال عند بئر ذي طوى كما مر. أن يتجه فور وصوله مكة إلى البيت الحرام قاصداً طواف القدوم، إن كان قد نوى الحج، وإن كان معتمراً نوى بالطواف طواف العمرة، وعند مشاهدته الكعبة المشرفة يرفع يديه مكبراً وداعياً بهذا الدعاء: " اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 وزد من شرفه وعظمه ممن حجه أو اعتمره تشريفاً وتعظيماً وتكريماً وبراً، اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام ". ثم يدعوا بما شاء ويستحب أن يدخل المسجد من باب بني شيبة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل منه. ثم يتقدم إلى الكعبة المشرفة ويبتدئ بالطواف من عند الحجر الأسود ويستلمه بيده أو يقبله إن استطاع وهذا سنة، فإذا قبله وجب عليه أن يرفع رأسه ويرجع قليلاً حتى يخرج عن سمت بناء البيت، وإن لم يستطع أشار إليه من بعيد. ثم يستمر بالطواف من عند الحجر الأسود جاعلاً الكعبة عن يساره، وكلما وصل إلى الحجر الأسود فقد أتم طوفة. وهكذا يفعل ذلك سبع مراتٍ، لأن الطواف سبعة أشواط. ويجب في الطواف ستر العورة، والطهارة من الحدث والنجس، فلو أحدث في أثناء الطواف تطهر وبنى، ويجب أن يكون الطواف خارج البيت الحرام، فلو دخل من إحدى فتحتي حجر إسماعيل ـ وهو المحوط بجدار قصير ـ وخرج من الفتحة الأخرى لم تحسب له الطوفة، لأن الحجر من البيت الحرام. ويسن في الطواف أن يقول في أول طوافه " بسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، وإتباعا لسنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - وليقل قبالة باب الكعبة. " اللهم إن البيت بيتك، والحرم حرمك، والأمن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار " وليقل بين الركنين اليمانيين: " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " ثم يدعوا أثناء طوافه بما شاء. ويسن أن يرمل في الأشواط الثلاثة الأول إن كان يعقب هذا الطواف سعي ـ والرمل الإسراع في المشي مع تقارب الخطو ـ ويمشي في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 الأشواط الأربعة الباقية، وليقل في رمله: " اللهم اجعله حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً وسعياً مشكوراً ". ويسن أيضاً أن يضطبع في جميع طواف يعقبه سعي، والاضطباع هو أن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن مع كشفه، ويجعل طرفيه على منكبه الأيسر. والرمل والاضطباع خاص بالذكر، أما المرأة فلا ترمل ولا تضطبع. ويسن في الطواف أن يكون قريباً من البيت الحرام بأن يجعل بينه وبين البيت ثلاث خطوات، إلا أن يتأذى بالقرب فالبعد أفضل. أما المرأة فيسن لها أن تكون في حاشية المطاف إن كان ازدحام. ويسن استلام الركن اليماني إن أمكن وإلا اكتفي بالإشارة من بعيد، ولم يرد في الركن اليماني سنة في تقبيله، لكن إذا قبله لم يكره. هذا وأركان الكعبة أربعة: الركن الذي فيه الحجر الأسود ـ يليه حال الطواف الركن العراقي ـ ثم الشامي ـ ثم اليماني. ويطلق على هذا والركن الذي فيه الحجر اسم الركنين اليمانيين. إذ انتهى من طوافه صلى خلف مقام إبراهيم ركعتين سنة الطواف، يقرأ في أولاهما: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ويقرأ في الثانية {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ... } وبعد الانتهاء من الركعتين يأتي فيقبل الحجر الأسود أو يستلمه إن أمكن ذلك. ثم يخرج من باب الصفا للسعي ويصعد على الصفا مبتدئاً بالسعي، فإذا ارتقى على الصفا قال: "الله أكبر الله أكبر الله اكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولاناً، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت بيده الخير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " ثم يدعوا بما شاء من أمور الدين والدنيا. ويسن أن يعيد الذكر والدعاء ثانياً وثالثاً. ثم ينحدر من الصفا ويمشي حتى يأتي العلم الأخضر فيرمل حتى يصل إلى العلم الثاني فيمشي حتى يصل إلى المروة فهذا شوط. ثم يعود من المروة إلى الصفا وهذا شوط ثانٍ، والفرض أن يسعى سبعة أشواط. والرمل في السعي سنة للرجل أما المرأة فلا يسن في حقها الرمل كالطواف. ويسن أن يقول الساعي أثناء سعيه: " رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم ". ومما مر علم أن الواجب الافتتاح بالصفا والاختتام بالمروة. ومما يجدر ملاحظته أن السعي لا يكون إلا بعد طواف قدوم أو طواف ركن. إذ انتهى من السعي فإن كان قد أحرم بالعمرة حلق شعره أو قصره، وقد انتهى من عمرته. وإن كان قد أحرم بالحج لم يتحلل بل يبقى محرماً، ويمكث في مكة هكذا إلى يوم الثامن من ذي الحجة وهو يوم التروية. إذا كان هذا اليوم ـ يوم التروية ـ أحرم بالحج إن لم يكن محرماً ـ ثم مضى الحجاج جميعهم إلى منى ليبيتوا في منى تلك الليلة. والخروج إلى منى يوم الثامن سنة لا يضر تركها بالحج. إذا كان صباح يوم التاسع بعد طلوع الشمس توجه الحاج من منى إلى عرفات، والسنة أن لا يدخل الحاج عرفات إلا بعد زوال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 الشمس، بل السنة أن يقيم بنمرة إلى ما بعد دخول وقت الظهر، ويصلي الظهر مع العصر مجموعة جمع تقديم. ثم يدخل عرفه ويمكث فيها إلى غروب الشمس، وفي عرفات يذكر الحاج ربه ويدعوه بما يشاء، ويكثر من التهليل، والوقوف بعرفة ركن لابد منه كما مر. وقد ورد أدعية كثيرة يدعى بها في ذلك اليوم العظيم الذي هو أعظم الأيام. منها: " اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري " ومنها: " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت. فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة. واكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك، ونور قلبي وقبري، واهدني وأعذني من الشر كله، واجمع لي الخير، اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى" ومنها: " اللهم إنك ترى مكاني، وتسمع كلامي، وتعلم سري وعلانيتي ولا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وابتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خشعت لك رقبته وذل لك جسده، وفاضت لك عينه، ورغم لك أنفه ". إذا غربت الشمس قصدوا مزدلفة، ويكفي في الوقوف بعرفة حضور لحظة من زوال الشمس إلى فجر يوم العيد ففي أي وقت من ذلك وقف كفاه، ولكن الأفضل الجمع بين جزء من النهار وجزء من الليل. إذا وصل الحاج إلى مزدلفة صلى فيها المغرب والعشاء مقصورة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 مجموعة جمع تأخير، ويجب أن يبقى فيها إلى ما بعد منتصف الليل، فإن خرج منها قبل منتصف الليل وجب عليه دم. ويسن أن يلتقط من منى حصى الرمي، وهي حصى صغير، ثم يصلي الفجر، ثم يأتي حتى يقف عند المشعر الحرام ـ وهو جبل صغير آخر المزدلفة، ثم يدعو الله عنده، ويكون من جمله دعائه " اللهم كما أوقفتنا فيه وأريتنا إياه، فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق: {َإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والوقوف عند المشعر الحرام سنة. ويسن أن يبقى واقفاً عند المشعر الحرام مستقبل القبلة إلى الإسفار ـ وهو طلوع الضوء من المشرق بمقدار ما تتعارف الوجوه ـ ثم يسيرون ليصلوا إلى منى بعد طلوع الشمس. إذا وصل الحاج إلى منى وجب عليه أن يرمى جمرة العقبة، وهي الجمرة الكبرى التي في غرب منى عند فم الطريق إلى مكة. ويسن أن يقف عند الرمي مستقبل الجمرة ومنى عن يمينه ومكة عن يساره، ويقطع التلبية عند الرمي. ويسن أن يكبر مع كل حصاة، فيقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر والله اكبر ولله الحمد. ويسن أن يرمي بيده اليمنى رافعاً حتى يبدو بياض إبطيه، أما المرأة فلا ترفع يدها. ويجب أن يصيب الحصى المرمى، فإن لم تصب حصاة المرمى لم تحسب. إذا انتهى الحاج من الرمي ذبح هديه إن كان معه هدي, الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 والهدي ما يسوقه الحاج من النعم ليهديه لمكة وحرمها تقريباً إلى الله تعالى. ثم يحلق شعره أو يقصر، والأفضل للرجل الحلق، وللمرأة التقصير، والحلق أو التقصير ركن من أركان الحج. فإذا رمى وحلق فقد تحلل الأول، وحل له ما كان محرماً عليه من لبس ثياب وتطيب وما أشبه ذلك، ولم يبق محرماً عليه إلا النساء. ثم بعد الحلق يأتي مكة ويطوف حول البيت سبع مرات طواف الإفاضة، وهذا الطواف ركن لا يتم الحج إلا به. ثم يسعى إن لم يكن قد سعى الحج بعد طواف القدوم. فإذا رمى الحاج وحلق وطاف طواف الإفاضة فقد حل له جميع ما كان محرماً عليه للإحرام، حتى النساء وعقد الزواج. ثم يرجع إلى منى ليبيت فيها، والمبيت بمنى واجب عليه دم إن تركه. وبعد زوال الشمس عن وسط السماء أي عند دخول وقت الظهر، يدخل وقت الرمي، فيرمي الجمرة الأولى بسبع حصيات، ثم الجمرة الوسطى، ثم جمرة العقبة ويجب ترتيب الجمرات في الرمي. ثم يبيت في منى الليلة الثانية، فإذا دخل وقت الظهر، دخل وقت الرمي، فيرمي الجمرة الأولى ثم الجمرة الثانية ثم جمرة العقبة. فإذا انتهي من هذا الرمي رمي اليوم الثاني من أيام التشريق جاز له أن يتعجل وينزل إلى مكة وقد انتهت أعمال الحاج. لكن يجب عليه في هذا الحال أن يغادر منى قبل غروب الشمس، فإن غربت وهو في منى وجب عليه أن يبيت الليلة الثالثة، فإذا كان وقت الظهر رمى ثم نزل إلى مكة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 إذا أراد الحاج الرجوع إلى أهله طاف بالبيت الحرام طواف الوداع، وهذا الطواف واجب، إن تركه كان عليه دم. إلا الحائض فإنها تنفر بلا طواف وداع فهو ساقط عنها، ويجب أن لا يتأخر عن السفر بعد طواف الوداع، فإن مكث في مكة بعده كان عليه أن يعيده. ويسن شرب ماء زمزم وينوي عند شربه ما يريد من خير، ويسن استقبال القبلة عند شربه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى الجزء الثالث الأيمان والنذور، الصيد والذبائح، العقيقة، الأطعمة والأشربة اللباس والزينة، الكفارات تأليف الدكتور مصطفى الخن ... الدكتور مصطفى البغا علي الشربجي دار القلم دمشق بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله رب العالمين، حمداً يوافي نعمه، ويدفع نقمه، ويكافئ مزيده، سبحانك يا ربنا، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد، فهذا هو الجزء الثالث في سلسلة الفقه المنهجي، الذي وعدنا، بعون الله تعالى ـ أن نخرج أجزاءه تباعاً. ولقد وضعنا في هذا الجزء أحكام الأيْمان والنذور، وأحكام الصيد والذبائح، وأحكام العقيقة، وما يحل وما يحرم من الأطعمة والأشربة، وأحكام اللباس والزينة، وختمناه بأحكام الكفارات. شاكرين الله عزّ وجلّ على ما وفق به وأنعم. هذا ولقد فاتنا أن ننبه في الأجزاء السابقة على أننا قد عزونا غالباً الأحاديث الواردة في هذا الفقه إلى مواضعها في مراجعها، وأشرنا إلى أرقامها في تلك المراجع إن كانت ذات أرقام، وإلا فإننا نشير إلى الجزء، والصفحة من تلك المراجع. ولقد اعتمدنا في أحاديث البخاري على طبعة (الدكتور مصطفى البغا)، وفي أحاديث مسلم على طبعة (محمد فؤاد عبد الباقي)، وفي أحاديث الترمذي وأبي داود على طبعة (عزت عبيد الدعاس)، وفي أحاديث ابن ماجه على طبعة (محمد فواد عبد الباقي). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 والله عزّ وجلّ نسأل أن يجعل عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يتقبله، ويجعله في عداد الأعمال النافعة المبرورة، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .. السابع من محرم 1404 هـ المؤلفون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 الأيمان والنذور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 الأيمان تعريف الأيْمان: الأيْمان: جمع يمين، واليمين في اللغة: القوة. ومنه قول الله عزّ وجلّ: [لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ] (الحاقة: 45) [أي: بالقوة]. وقول الشاعر: إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين [أي: بالقوة] وتطلق اليمين على اليد اليمنى، وذلك لتوفر القوة فيها. وتطلق اليمين أيضاً على الحَلِف بمعظم. وسمى الحلف يميناً، لأن العرب كانوا إذا تحالفوا أخذ كل واحد منهم بيمين صاحبه. وأما اليمين اصطلاحاً: فهي توثيق كلام غير ثابت المضمون بذكر أحد أسماء الله عزّ وجلّ، أو ذكر صفة من صفاته، بصياغة مخصوصة. فخرج بقيد ـ التوثيق ـ اليمين اللغو؛ وهي اليمين الدارجة على اللسان بدون قصد تحقيق أمر، ولا توثيقه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 وذلك كقول الرجل: لا والله، وبلى والله. فلا يُعد هذا يميناً منعقدة شرعاً. قال الله تعالى: [لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ] (المائدة: 89). [ومعنى عقدتم: قصدتم]. قالت عائشة رضي الله عنها: نزلت في قوله: (لا والله، وبلى والله). رواه البخاري في [الأيمان والنذور ـ باب ـ لا يؤاخذكم الله .. ، رقم: 6286]. وروى أبو داود في [الأيمان والنذور ـ باب ـ لغو اليمين، رقم: 3254]، قال: قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " هو كلامُ الرجل في بيته: كلا والله، وبلى والله" [الحديث صححه ابن حبان. انظر: موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان رقم 1187]. وخرج بقيد ـ غير ثابت المضمون ـ توثيق كلامٍ ثابت المضمون، لا محالة، كقول القائل: والله لأموتنَّ، أو والله إن الشمس طالعة، وهي طالعة فعلاً. فهذه ليست يميناً شرعية، لتحققها في نفسها، ولأنه لا يتصور فيها الحِنْث: أي عدم الوفاء باليمين. وتكون اليمين على الماضي، كقول القائل: والله ما فعلت كذا، أو والله لقد فعلته. ويستدل لذلك بقول الله عزّ وجلّ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 [يحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ] (التوبة: 74). كما تكون اليمين على المستقبل، كقوله: والله لأفعلن. ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " والله لأغزون قريشاً". أخرجه أبو داود في [الأيمان والنذور ـ باب ـ الاستثناء في اليمين بعد السكوت، رقم: 3285]. حكم اليمين شرعاً: يكره التلفظ باليمين في أعمّ الأحوال، ودليل هذا قول الله عزّ وجلّ: [وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ] (البقرة: 224) [أي لا تكثروا الحلف بالله تعالى]. وسبب ذلك أنه ربما يعجز الحالف عن الوفاء به. قال حرملة رحمه الله تعالى: سمعت الشافعي رحمه الله تعالى يقول: (ما حلفت بالله صادقاً، ولا كاذباً). إلا أن أحكاماً أخرى قد تعرض لليمين، حسب الدوافع والنتائج، فتكون بناءً على ذلك: 1 - حراماً: وذلك إذا كانت على فعل حرام، أو ترك واجب، أو على شيء كاذب، لا أصل له. 2 - واجبة: وذلك إذا كانت اليمين هي السبيل التي لا يوجد غيرها لإنصاف مظلوم، أو بيان حق: كما لو كان شخص مُدَّعى عليه، فطلب منه اليمين، وعلم أنه لو نكل [أي امتنع عن الحلف] حلف المدّعي كذباً، وظُلِم بذلك إنسان بريء. 3 - مباحةً: وذلك إذا كانت على فعل طاعة، أو تجنّب معصية، أو إرشاد إلى حق، أو تحذير من باطل. ومن هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فواللهِ لا يَملُّ اللهُ حتى تَملوا". أخرجه البخاري في [الأيمان ـ باب ـ أحبّ الدين إلى الله أدومه، رقم: 43] [ومعناه: لا يترك الله إثابتكم على العمل، إلا إذا انقطعتم عنه، بسبب إفراطكم فيه، ومللكم منه]. 4 - مندوبة: وذلك إذا كانت اليمين وسيلة للتأثير على السامعين، وسبباً في تصديقهم لموعظة، أو نصيحة. التحذير من اتخاذ اليمين معتمداً في المكالمات والمعاملات: إن أهم مظاهر سوء الأدب مع الله عزّ وجلّ، أن يجعل الإنسان من اسمه سبحانه وتعالى، تكأة في مكالماته، ووسائل إقناعه، وتأثيراته على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 الآخرين، غير مبال بقوله سبحانه وتعالى، وهو يحذر من هذه العادة السيئة: [وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] (البقرة: 224). ذلك لأن من شأن المؤمن أن يكون معظماً لله عزّ وجلّ، يفيض قلبه خشية منه، ومهابة له. والتعظيم والخشية يتنافيان مع هذه الاستهانة باسم الله عزّ وجلّ. ومن أخطر نتائج هذه العادة، أن صاحبها قد يستسيغ تعمّد الكذب في الحلف باسم الله عزّ وجلّ، وهي اليمين الغموس التي من شأنها أن تغمس صاحبها في النار، إن لم يتب منها، وتكون سبباً في محق البركة والخير، في كسبه وماله. روى البخاري في [البيوع ـ باب ـ الربا، رقم 1981] ومسلم في [المساقاة ـ باب ـ النهي عن الحلف في البيع، رقم 1606] عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " الحلفُ منفقة للسلعةِ مَمْحقةٌ للبركة". وروى البخاري في [الأيمان والنذور ـ باب ـ اليمين الغموس، رقم: 6298] عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الكبائرُ: الإشراكُ باللهِ، وعقوقُ الوالدينِ، وقتلُ النفسِ، واليمينُ الغموسُ" [ا] التي تغمس صاحبها في النار، لتعمّد الكذب فيها]. شروط انعقاد اليمين: يشترط لانعقاد اليمين تحقّق الأمور التالية: 1 - أن يكون الحالف بالغاً عاقلاً: وذلك لرفع القلم والمؤاخذة عن غير البالغ العاقل، والدليل في ذلك ما رواه أبو داود [في الحدود ـ باب ـ في المجنون يسرق، أو يصيب حدّاً، رقم: 4403] وغيره، عن علي - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: رُفعَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 القلمُ عن ثلاثة: عن النائمِ حتى يستيقظ، وعن الصبيِّ حتى يحتلمَ، وعن المجنون حتى يعقل ". [يحتلم: يبلغ]. 2 - أن لا يكون اليمين لغواً: وذلك كقولهم: بلى والله، ولا والله، ونحو ذلك مما يدرج على ألسنة الناس، بغير قصد، ويشيع في العُرْف ذلك. وقد سبق دليل من الكتاب والسنّة عند الكلام عن تعريف اليمين اصطلاحاً. 3 - أن يكون القَسَم بواحد مما يلي: أ) ذات الله عزّ وجلّ: كقول الشخص: أقسم بذات الله تعالى، أو أقسم بالله عزّ وجلّ. ب) أحد أسمائه تعالى الخاصة به: كقول القائل: أقسم بربّ العالمين، أو بمالك يوم الدين، أو أقسم بالرحمن. ج) صفة من صفاته تعالى: وذلك مثل قول الإنسان: أقسم بعزة الله، أو بعلمه، أو بإرادته، أو بقدرته. والأصل في كل ما ذكر ما جاء في السنة الصحيحة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. روى البخاري [في الأيمان والنذور ـ باب ـ لا تحلفوا بآبائكم، رقم: 6270] ومسلم [في الأيمان ـ باب ـ النهي عن الحلف بغير الله تعالى، رقم: 1646] عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطاب، وهو يسير في ركب، يحلف بأبيه، فقال " ألا إنَّ اللهَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 ينهاكم أن تَحلفوا بآبائِكم، من كان حالفاً فليحلفْ باللهِ، أو ليَصْمُتٍُ". وروى البخاري [في الأيمان النذور ـ باب ـ كيف كان يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم 6253] عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا ومقلِّبِ القلوبِ ". وثبت في أكثر من حديث عند البخاري وغيره، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في حَلِفه: " والذي نفسي بيدِهِ"، " والذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ". [البخاري، في كتاب الأيمان والنذور ـ باب ـ كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -، رقم 6254، 6255]. فلو أن أحداً أقسم بغير ما ذكر لم ينعقد يمينه، لسببين: أولهما: حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السابق: " مَن كان حالفاً، فليحلفْ بالله، أو ليَصمتْ". ثانيهما: فَقْدُ كمال العظمة في غير ما ذُكر، والمؤمن منهيّ عن تعظيم غير الله عزّ وجلّ تعظيماً ذاتياً. اليمين صريح وكناية: ثم إن اليمين ينقسم إلى قسمين: صريح، وكناية. 1 - الصريح: واليمين الصريح: هو كل ما أقسم فيه الشخص باسم من أسماء الله تعالى الخاصة به، كقول القائل: أُقسم بالله، أو أُقسم بربّ العالمين. 2 - الكناية: وهو أن يقسم بما ينصرف إليه ـ سبحانه وتعالى ـ عند الإطلاق، كقوله: أُقسم بالخالق، أو أُقسم بالرازق، أو الرب. أو أن يُقسِم بما من شأنه أن يُستعمل في التعبير عن ذات الله تعالى وعن غيره، على حدٍّ سواء، كقول القائل: أقسم بالموجود، أو العالِم، أو الحي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 أو يقسم بصفة من صفات الله عزّ وجلّ: كقدرة الله تعالى، وعلمه، وكلامه. حكم كل من الصريح والكناية: 1 - حكم اليمين الصريح: اليمين الصريح يتم انعقاده بمجرّد التلفّظ به، ولا يُقبل قول الحالف: لم أُرِد به اليمين، لأن هذه الألفاظ لا تحتمل غير اليمين. فلو قال: قصدت بلفظ (الله) غير ذات الله عزّ وجلّ، لم يُقبل منه قوله، ولكن لابدّ فيه من إرادة اليمين المنعقدة. فلو سبق هذا اللفظ إلى لسانه من غير أن يقصد اليمين، كان لغواً، كما سبق بيانه. 2 - حكم اليمين الكناية: أما اليمين الكناية، فحكمه أنه لا ينعقد إلا بالنيّة والقصد، فيقبل قول الحالف: لم أقصد اليمين. فإن قال: أقسم بالخالق، أو الرازق، أو الرب، انعقد يمينه إلا إن أراد بهذه الألفاظ غير ذات الله عزّ وجلّ، فينصرف إلى المعنى الذي أراده، ولا ينعقد كلامه عندئذ يميناً، لأنه قد يستعمل هذا الكلام في غير الله تعالى مقَّيداّ. قال الله عزّ وجلّ: [وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً] (العنكبوت: 17). [أي تقولون كذباً، وتصنعون أصناماً بأيديكم، وتسمونها آلهة]. وقال عز من قائل: [فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ] (النساء: 8). وقال جل جلاله: [ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ] (يوسف: 50). وإن قال: أقسم بالموجود، أو العالم، أو الحي، لم ينعقد كلامه يميناً بمثل هذه الألفاظ، إلا بشرط أن ينوي بها ذات الله عزّ وجلّ، لأنها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 لما كانت تستعمل للدلالة على ذات الله تعالى، وعلى غيره على حدٍّ سواء لم يتعين يميناً إلا بالنية. وإن قال: أقسم بقدرة الله تعالى، أو علمه، أو كلامه انعقد كلامه يميناً بشرط أن لا يقصد بالعلم: المعلوم، وبالقدرة، المقدور، وبالكلام: الحروف والأصوات. فإن قصد ذلك لم ينعقد كلامه يميناً، لأن معلوم الله ومقدوره والحروف والأصوات، ليس شيء منها داخلاً في ذات الله عزّ وجلّ، أو إحدى صفاته. البِرّ باليمين والحنث بها: معناهما وحكمهما: 1 - معنى البِرّ باليمين والحنث بها: إذا أقسم الإنسان بالله عزّ وجلّ، أو بإحدى صفاته، وكان قَسَمه معقوداً: أي مستوفياً الشروط التي مرّ ذكرها، فلابدّ أن يَؤُول أمره بالنسبة لهذا القسم إلى البِرّ بيمينه، أو الحِنْث به. فالبِرّ باليمين: هو أن يحقّق ما التزمه بيمينه، إن كان وعداً. وأن يكون صادقاً فيها إن كان إخباراً عن شيء ثابت. والحنث فيه: أن لا يحقّق ما قد التزمه، إن كان وعداً والتزاماً. أو يكون كاذباً فيه إن كان إخباراً. والحنث في الأصل: الذنب، وأطلق على ما ذكر، لأنه سبب له. 2 - حكم البِرِّ باليمين والحنث فيها: حكم البر باليمين: أنه يرفع عُهدة المسئولية عن صاحبها. وأما حكم الحنث فيها: فهو ذو حالتين، لكل حالة منهما حكم خاص بها: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 الحالة الأولى: أن يكون الحنث باليمين عبارة عن عدم تحقيق المقسِم لما التزمه بيمينه؛ كأن أقسم بالله تعالى ليتصدقنّ على فقير في يوم كذا، فلم يتصدّق في اليوم المحدود. وحكم هذا الحنث: هو وجوب تكفير الحانث عن يمينه. وسيأتي بيان كفّارة اليمين بعد قليل، إن شاء الله تعالى. الحالة الثانية: أن يكون الحنث باليمين عبارة عن الكذب في إخباره، الذي أبى إلا أن يوثّقه باليمين، كأن يقول: والله إن هذا المتاع ملكي، وهو يعلم أنه ليس ملكه، ويسمى مثل هذا اليمين يميناً غموساً، كما سبق بيانه. وحكم هذا الحنث استحقاق صاحبه العقاب الكبير من الله عزّ وجلّ مع وجوب الكفارة، لأنه من اليمين المنعقدة. والفرق بين الحالتين: أن صاحب الحالة الثانية أكثر استهتاراً باسم الله عزّ وجلّ، إذ هو يُقسِم بالله في الوقت الذي يعلم أنه يقسم بالله كذباً. أما صاحب الحالة الأولى، فربما كان عازماً عند النطق باليمين على البِرّ باليمين، والعمل بموجبها، لكنه حالَ بينه وبين الوفاء بها حائل، أو أنه تنبّه بعد ذلك إلى شيء هو خير مما التزمه باليمين، فعمل بوصية النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ حلفَ على يمينٍ، فرأى غيرَها خيراً منها، فليأتِ الذي هو خيرٌ، وليكفِّرْ عن يمينه". أخرجه مسلم [في الأيمان ـ باب ـ ندب مَن حلف يميناً فرأى غيرها .. ، رقم: 1650]. كفّارة اليمين: ومَنْ حنث في يمين غموس، أو غير غموس، وجبت عليه كفارة. وهو مخيَّر فيها أولاً بين ثلاثة أشياء: 1 - عِتق رقبة مؤمنة، والمراد بالرقبة: عبد أو أَمَة. وإنما يكون هذا حيث يوجد الرقيق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 2 - إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين مُدُّ حَبٍّ من غالب قوت بلده. والمدّ: مكيال معروف يتسع: 600 غراماً تقريباً. ويجب تمليك كل مسكين ما ذكر، فلا يكفي دعوتهم لتناول طعام غداء، أو عشاء، ونحو ذلك. 3 - كِسْوَة عشرة مساكين مما يُعتاد لُبْسه، ويسمى في العُرْف كسوة: فالقميص، والسراويل، والجَوْرب، وغطاء الرأس على أي شكل كان، كله يسمى كسوة. فإن عجز عن تحقيق شيء من هذه الأمور الثلاثة: بأن كان مُعْسِراً، وجب عليه صيام ثلاثة أيام، ولا يشترط فيها التتابع، بل يجوز له تفريقها. دليل كفارة اليمين: ودليل هذه الكفّارة قول الله عزّ وجلّ: [لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] (المائدة: 89). خاتمة في بعض أحكام اليمين: 1 - لو قال شخص: أقسمتُ بالله، أو أُقسِم بالله، لأفعلنّ كذا، فهو يمين، إن نوى اليمين، أو أطلق، لكثرة استعمال هذا اللفظ في الأيمان. قال الله تبارك تعالى: [وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ] (النحل:: 38). وإن لم يقصد اليمين، بل قصد خبراً ماضياً، أو مستقبلاً، فليس بيمين، لاحتمال اللفظ ما نواه. 2 - لو قال شخص لغيره: أُقسِم عليك بالله، أو أسألك بالله، لتفعلنّ كذا، فهو يمين إن أراد به يمين نفسه، لاشتهار ذلك شرعاً، ويسنّ عندئذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 للمخاطب إبرار الحالف، إن لم يكن في إبراره ارتكاب محرَّم، أو مكروه. ودليل ذلك ما رواه البخاري في [الجنائز ـ باب ـ الأمر بإتباع الجنائز، رقم: 1182] عن البراء - رضي الله عنه - قال: (أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبع ... وعدّ منها: إبرار القسم). أما إن أراد بقوله: أُقسم عليك بالله، أو أسألك بالله، أو أسألك بالله يمين المخاطب، أو لم يردّ يميناً، وإنما أراد التشفُّع إليه، فإنه لا يكون يميناً عندئذٍ، لأنه لم يقصد اليمين هو، ولم يحلف المخاطب أيضاً، ولذلك قالوا: يُكره السؤال بوجه الله عزّ وجلّ. ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة). أخرجه أبو داود في [الزكاة ـ باب ـ كراهية المسألة بوجه الله تعالى، رقم: 1671]. 3 - مَن حلف على ترك واجب من الواجبات: كترك الصلاة والصيام مثلاً، أو حلف على فعل محرَّم: كالسرقة، أو القتل، فإنه قد عصى الله عزّ وجلّ، في الحالتين، ولزمه الحنث فيهما، لأن الإقامة على هذه الحالة معصية، كما تلزمه الكفارة أيضاً. 4 - إذا حلف أن لا يفعل شيئاً: كبيع، وشراء، ونحو ذلك، فوكَّل غيره بفعله، فإنه لا يحنث بفعل وكيله، لأن العبرة بما يدل عليه اللفظ، فإنه حلف على فعل نفسه، فلا يحنث بفعل غيره، والفعل إنما ينسب إلى من باشره. نعم إن أراد عند التلفّظ باليمين ما يشمل فعله المباشر، وفعل الوكيل عنه حنث. 5 - إذا حلف أن لا يتزوج فلانة، فوكّل من يقبل له العقد عليها عوضاً عنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 حنث، لأن الزواج لا يطلق على العقد وحده، بل يطلق عليه وعلى نتائجه، وهو الوطء، والحالف وإن لم يكن مباشراً للعقد، فهو مباشر لنتائجه. 6 - مَن حلف على ترك أمرين، ففعل أحدهما لم يحنث، كأن قال: والله لا ألبس هذين الثوبين، أو لا أُكلّم هذين الرجلين، فلبس أحد الثوبين، أو كلّم أحد الرجلين، فإنه لم يحنث بذلك، لأن يمينه واحدة على مجموع الأمرين. أما لو قال: والله لا ألبس هذا الثوب، ولا هذا، أو لا أُكلّم هذا الرجل، ولا هذا، فإنه يحنث بلبس أحد الثوبين، أو تكليم أحد الرجلين، لأن إعادة حرف النفي جعلت كلاً منهما مقصوداً باليمين على انفراد. 7 - مَن حلف على فعل أمرين اثنين، كأن قال: والله لآكلنّ هذين الرغيفين، أو لأُكلمنّ هذين الشخصين لم يبِرّ بقسَمَه بفعل أحدهما، بل لابدّ لكي يبرّ بقسمه، وينجو من الحنث من أكل الرغيفين، ومكالمة كِلا الشخصين، والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 النُّذُور تعريف النذور : النذور: جمع نذر، والنذر في اللغة: الوعد بخير أو شر. وشرعاً: الوعد بخير خاصة. والنذر في اصطلاح الفقهاء: التزام قُرْبة غير واجبة في الشرع، مطلقاً، أو معلقاً على شيء. أدلة تشريع النذر: يدلّ على مشروعية النذر، ولزوم الوفاء به: القرآن والسُنّة. أما القرآن، فقول الله عزّ وجلّ في صفات الأبرار: [يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً] (الدهر: 7). وقوله تبارك وتعالى: [وليوفوا نذورهم] (الحج: 29). وأما السُنّة فقوله - صلى الله عليه وسلم -، فيما رواه البخاري في [الأيمان والنذور ـ باب ـ النذر في الطاعة، رقم: 6318] عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يَعْصِيه". وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الذين لا يوفّون بنذورهم: " إن بعدَكم قوماً يخونون ولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 يُؤتمنون، ويَشهدون ولا يُستشهدون، ويَنذُرون ولا يَفُون، ويظهر فيهم السِّمنُ". رواه البخاري في [الشهادات ـ باب ـ لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، رقم: 2508] ومسلم في [فضائل الصحابة ـ باب ـ فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، رقم: 2535] عن عمران بن حصين رضي الله عنهما. [يظهر فيهم السمن: أي بسبب كثرة المآكل مع الخلود إلى الراحة، وترك الجهاد، وقيل: هو كناية عن التفاخر بمتاع الدنيا]. حكم النذر: إن النذر مشروع، وهو من نوع القربات، ولذلك قال الفقهاء: إنه لا يصحّ من الكافر. إلا أن الأفضل أن يباشر الإنسان القربة التي يريدها بدون أن يلزم نفسه بها، ويجعلها عليه نذراً. فالصدقة التي يتقرّب بها الإنسان إلى الله تعالى اختياراً، أفضل من الصدقة التي يلتزمها نذراً. ودليل ذلك ما رواه البخاري في [القدر ـ باب ـ إلقاء العبد النذر إلى القدر، رقم: 6234] ومسلم في [النذر ـ باب ـ النهي عن النذر، وأنه لا يردّ شيئاً، رقم 1639] أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النذر، وقال: " إنه لا يردُّ شيئاً، وإنما يُستخرج به من النخيل ". أي إن النذور المعلّقة لا تغيِّر من قضاء الله شيئاً، وهو ليس إلا وسيلة يلزم بها البخيل نفسه بالإنفاق والصدقة، لعلمه أنها لو لم تصبح واجبة عليه بالنذر والالتزام، فإنه لن يستطيع أن يتغلب على نفسه في إخراجها. أنواع النذر: ينقسم النذر إلى ثلاثة أنواع: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 النوع الأول: نذر اللَّجاج: وهو ما يقع حال الخصومة، بسائق من الغضب، كأن يقول أثناء خصومته: إن كلمتُ فلاناً، فلله عَلَيَّ صيام شهر. النوع الثاني: نذر المجازاة: أي المكافأة: وهو أن يعلّق التزامه بقربةٍ ما على حصول غرض للناذر، دون أن يكون مدفوعاً إلى ذلك بخصومة، أو لجاج، وذلك كأن يقول: إن شفي الله مريضي، فلله عليّ أن أتصدق بشاة. النوع الثالث: النذر المطلق: وهو أن يلتزم قربةً ما لله تعالى دون تعليق على حصول غرض له، ودون دافع خصومة، أو غضب، كأن يقول: لله عليّ صيام يوم الخميس. ويسمى كلٍّ من النوعين: الثاني والثالث، نذر التبرّر، وسمي بذلك، لأن الناذر طلب به البِرّ، والتقرّب إلى الله تعالى. أحكام كل نوع من أنواع النذر: أما النوع الأول: وهو نذر اللجاج، فحكمه أن المعلّق عليه إذا وقع وجب على الناذر إنجاز ما التزمه، أو إخراج كفّارة يمين، يختار واحداً منهما، لأن هذا النوع يشبه النذر من جانب كونه التزاماً، ويشبه اليمين من جانب كونه وسيلة امتناع عن أمر. ودليل ذلك ما رواه مسلم في [النذر ـ باب ـ كفارة النذر، رقم 1645] عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " كفارةُ النذرِ كفارةُ اليمينِ ". قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: حمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج. أما النوع الثاني: وهو نذر المجازاة، فحكمه أن المعلق عليه إذا وقع؛ كأن شفى الله مريضه، أو قَدِم غائبه، وجَبَ على الناذر إنجاز ما قد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 التزمه، لا يغنيه عن ذلك شيء. ودليل ذلك قول الله عزّ وجلّ: [وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ] (النحل: 91). وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من نذر أن يطيع الله فليُطِعه". رواه البخاري في [الأيمان والنذور ـ باب ـ النذر في الطاعة، رقم 6318] عن عائشة رضي الله عنها. وأما النوع الثالث: وهو النذر المطلق، وهو القسم الثاني من نذر التبرّر، فحكمه أنه يجب على الناذر تحقيق ما التزمه مطلقاً، أي دون أيّ تعليق على شيء. ودليل ذلك عموم الأدلة المتقدمة، إلا أن له أن يتأخَّر في الوفاء به ما لم يصل إلى زمن يغلب فيه على ظنه أنه لن يتمكن من الوفاء. وليس له أن يستبدل به كفّارة يمين، لأن معنى اليمين مفقودة في هذا النوع من النذور. شروط النذر: للنذر شروط من حيث هو نذر: أي بقطع النظر عن أنواعه الثلاثة. وتتلخص هذه الشروط فيما يلي: أولاً: من حيث الناذر: ويشترط فيه ثلاثة شروط: 1 - الإسلام: فلا يصحّ النذر من كافر، لأن الكافر ليس أهلاً لاكتساب القربات، إذ لا تصح منه ما دام كافراً. 2 - التكليف: فلا يصح النذر من الصبي والمجنون، لأن كلاً منهما ليس أهلاً للالتزام، فمهما ألزم كل واحد منهما نفسه بقربة، أو أوجبها على نفسه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 فإنها لا تصبح بذلك واجبة عليه، لأنه ليس أهلاً لذلك، لكونه غير مكلف شرعاً. 3 - الاختيار: فلا يصحّ النذر من المُكرَه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه " رواه ابن ماجه في [الطلاق ـ باب ـ طلاق المكره والناسي، رقم 2045] وصحّحه ابن حبّان والحاكم، عن ابن عباس - رضي الله عنه -. أي وضع عنهم حكم ذلك، وما ينتج عنه. ثانياً: من حيث المنذور: ويشترط فيه الشرطان التاليان: 1 - أن يكون المنذور قربه: فلا نذر في المباحات، وهي الأمور التي لا يترتب على فعلها أو تركها ثواب أو عقاب، فلو نذر فعل مُباح، أو تركه: كأكل، ونوم لم يلزمه الفعل، ولا الترك، وليس عليه شيء. ودليل ذلك ما رواه البخاري في [الأيمان والنذور ـ باب ـ النذر فيما لا يملك وفي معصية، رقم: 6326] عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، إذ هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مره فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتمّ صومه". وإنما أمره بإتمام الصوم، لأن الصوم طاعة، ويلزمه الوفاء بها إذا نذرها. وكذلك لا نذر في المحرمات: كالقتل، والزنى ... ولا في المكروهات: كأن نذر أن يترك السُنن الرواتب مثلاً، لأن فعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 المحرم، أو المكروه ليس مما يبتغي به وجه الله عزّ وجلّ. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا نذر في معصية الله ". رواه مسلم في [النذر ـ باب ـ لا وفاء لنذر في معصية الله، رقم: 1641] وقد سبق ما رواه البخاري في [الأيمان والنذور ـ باب ـ النذر في الطاعة، رقم: 6318] عن عائشة رضي الله عنها: " ... ومن نذر أن يَعصِيَه، فلا يعصِهْ". وقال عليه الصلاة والسلام: " لا نذر إلا فيما ابُتغِيَ به وجه الله ". رواه أبو داود في [الأيمان والنذور ـ باب ـ اليمين في قطيعة الرحم، رقم: 3273]. 2 - أن لا يكون المنذور من الواجبات العينية ابتداءاً: فلو نذر أن يصلي صلاة الظهر، أو أن يُخرج زكاة ماله، كان ذلك النذر باطلاً، إذ ليس له من أثر جديد على المنذور، لكونه واجباً في حق الناذر ابتداءاً دون حاجة إلى النذر، فلا معنى لإيجابه. وخرج بالواجبات العينية الواجبات الكفائية، فيجوز النذر بها، كما لو نذر الصلاة على جنازة، أو تعَلُّمَ علمٍ مما يجب على المسلمين تعلّمه على سبيل الكفاية كالطب، والصناعات. ذلك لأن النذر يُخرِج هذا المنذور من مستوى الفرض الكفائي، إلى الفرض العيني، في حق الناذر. الآثار المترتبة على النذر الصحيح: إذا صحّ النذر: بأن توفرت فيه الشرائط التي ذكرناها، وجب على الناذر تحقيق ما التزم به، عند حصول الشيء المعلّق به في النذر المعلّق، ومطلقاً، في النذر الناجز، أي المطلق. ويجب عليه من ذلك ما يقع عليه الاسم شرعاً، سواء كان المنذور صلاة، أو صياماً، أو صدقة، أو غير ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 فلو نذر صلاة، ولم يقيدها بكيفية، أو عدد وجب عليه ركعتان من قيام إذا كان قادراً على القيام، وذلك حملاً على أقل واجب الشرع. أما لو نذر عدداً من الركعات، أو نذر الصلاة من قعود وجب عليه التزام القدر الذي حدّده، والكيفية التي حدّدها، لكن لو صلاها من قيام كان أفضل. ولو نذر صوماً مطلقاً، فأقل ما يقع عليه الاسم من ذلك صوم يوم واحد. أما إن نذر صوم أيام دون تحديد لعدد هذه الأيام، فأقل ما يجب عليه الصوم ثلاثة أيام، لأنها أقل الجمع. ولو نذر صدقة، وجب عليه أن يتصدق بأقل مُتَمَوِّل من ممتلكاته، على مَن هو أهل للزكاة، كالفقراء، والمساكين. أما إن قيّد القربة التي التزمها بحال معينة، أو زمن معين، أو عدد معين، فالأصل عندئذٍ وجوب ما قد التزمه، على الكيفية والحال التي نصّ عليها. فإن نذر التصدّق على أهل بلد معينة، وجب عليه التصدّق عليهم بأعيانهم، ولم يَجُزْ له صرف صدقته إلى أهل بلدة أخرى. أو نذر الاعتكاف في مسجد معين، فإن كان أحد المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، وجب عليه الاعتكاف في المسجد الذي عيّنه منها، وذلك لفضيلة هذه المساجد على غيرها. ودليل فضيلتها على غيرها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومسجد الأقصى ". أخرجه البخاري في [أبواب التطوّع ـ باب ـ فضل الصلاة في مسجد مكة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 والمدينة، رقم 1132] ومسلم في [الحج ـ باب ـ فضل الصلاة بمسجد مكة والمدينة، رقم: 1394]. وإن عيّن في نذره مسجداً غير هذه المساجد الثلاثة، وجب عليه أن يعتكف في أيّ المساجد شاء، لأن أجر الاعتكاف لا يختلف بين بلدة وأخرى، أو مسجد وآخر. وإن نذر حجاً، أو عمرة، لزمه أن يفعل ذلك بنفسه، إن كان قادراً على ذلك بنفسه، فإن كان عاجزاً عن الحج أو العمرة بنفسه استناب من يحج عنه، أو يعتمر، ولو بأجرة، كما يجب عليه ذلك في حجة الفريضة إذا عجز عن أدائها بنفسه، استناب من يحج عنه. ويندب تعجيله بالوفاء بما نذره، في أول فرصة تسنح له، مبادرة إلى براءة ذمته. فإن تمكن من الحج أو العمرة فأخّر أداءها فمات حُجَّ عنه أو اعتمر من ماله، لتقصيره بعد حصول التمكّن. أما إذا مات قبل التمكّن من الحج أو العمرة فلا شيء عليه، لعدم تقصيره حينئذٍ. وإن نذر أن يحج، أو يعتمر ماشياً لزمه المشي إن كان قادراً على المشي، لأنه التزم جعل المشي وصفاً للعبادة، فهو كما لو نذر أن يصوم متتابعاً. أما إذا لم يكن قادراً على المشي، فإنه لا يلزمه المشي، بل يجوز له الركوب، لعجزه عن المشي. عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله، وأمرتني أن أستفتي لها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاستفتيته، فقال عليه الصلاة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 والسلام: " لتمشِ، ولتركبْ". أخرجه البخاري في [الإحصار، وجزاء الصيد ـ باب ـ من نذر المشي إلى الكعبة، رقم: 1767] ومسلم في [النذر ـباب ـ من نذر أن يمشي إلى الكعبة، رقم: 1644]. ولو نذر أن يهدي شيئاً من نَعَم: وهي الإبل والبقر والغنم والمَعِز، أو مالٍ إلى مكة لزمه حمله إليه، ولزمه التصدّق به على مَن بها من الفقراء والمساكين، سواء أكانوا من أهلها، أم من الوافدين إليها. ولو نذر أن يذبح شاة في بلد غير مكة ويفرقها فيها، لزمه الذبح في تلك البلد، وتفريق لحمها على مساكينها، ما دام قد نوى الذبح والتفرقة فيها، لأن الذبح وسيلة إلى التفرقة المقصودة، فلما جعل مكان الذبح مكان التفرقة، اقتضى تعيين الذبح فيها تبعاً لتفريق لحمها فيها. ولو نذر شمعاً، لتوقد في المشاهد التي بُنيت على قبور الصالحين والأولياء، فإن قصد الناذر بذلك التنوير على من يسكن هناك من الناس، أو يتردد إليها صحّ نَذْره، ولزمه ذلك، وإن قصد به الإيقاد على القبر، ولو مع قصد التنوير على الناس، فلا يصح نذره. وإن قصد به تعظيم البقعة، أو القبر، أو التقرّب إلى مَن دُفن فيها، أو نسبت إليه، فهذا نذر باطل غير منعقد. النذر المطلق لا يتحدد بوقت: إذا كان النذر مطلقاً عن تحديد الزمان، فإن وجوبه يكون من نوع الواجب الموسّع، أي فللناذر أن يتأخر في الوفاء بنذره ما دامت الفرصة سانحة له، ولم يغلب على ظنه أن التراخي سيحول دون قدرته على الوفاء بالنذر. إلا أن يسنّ تعجيل الوفاء بالنذر، وإن كانت الفرصة لا تزال سانحة ومتّسعة، وذلك مسارعة إلى براءة ذمته من النذر. أما إذا كان النذر مقيداً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 بزمن مخصوص، وجب التقيد بذلك الزمن، فإن أخّر الوفاء به عن ذلك الزمن بدون عذر أثم، ووجب عليه القضاء، وإن أخّر لعذر، لم يأثم، ووجب عليه القضاء أيضاً في أيّ فرصة ممكنة. والله تعالى اعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 الصَّيْد وَالذّبَائِح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 الصَّيْد تعريف الصيد : الصيد في الأصل: مصدر صاد يصيد صيداً: أي قنصه، وأخذه خِلْسة، وبحيلة، سواء أكان مأكولاً، أم غير مأكول. ثم أريد به اسم المفعول، أي المصيد. قال الله تبارك وتعالى: [لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ] (المائدة: 95). [أي: المصيد]. والصيد في اصطلاح الفقهاء خاص بما كان مأكولاً. مشروعية الصيد: الصيد مشروع، والأصل الدّال على مشروعيته، قول الله عزّ وجلّ: [ُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ] (المائدة: 1). وقوله سبحانه وتعالى: [وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ] (المائدة: 2). فإن الآية الأولى حصرت المنع من الصيد في حالة الإحرام، والآية الثانية صرّحت بإباحة الصيد بعد التحلّل من الإحرام. وقوله تبارك وتعالى: [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ]. (المائدة: 4). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 [مكلبين: معلمين لها الصيد، وسمي التعليم هنا تكليباً، لأنه أكثر ما يكون في الكلاب]. الحكمة من مشروعية الصيد: اعلم أن الوسائل التي حدّدها الشارع لحل أكل الحيوانات، من تذكية: أي ذبح، وصيد ونحوهما داخلة في قسم التعبدات المحضة، وليست قائمة على شيء من العلل والمصالح التي تقوم على أمثالها أحكام المعاملات. غير أن للباحث أن يستجلي بعض الحِكَم من حلِّ أكل بعض الحيوانات دون بعضها الآخر، ومن مشروعية الصيد إلى جانب مشروعية التذكية بالذبح، فإن كثيراً من العبادات يمكن للباحث الوقوف على بعض أسرارها وحكمها. وحكمة مشروعية الصيد تشبه الحكمة من مشروعية ذكاة الضرورة، أي التذكية الاضطرارية، التي سنتحدث عنها فيما بعد. إذ لمّا كان في الحيوانات التي استطابتها العرب، وأقرّت الشريعة الإسلامية أكلها، ما هو وحشي، وغير أليف، يصعب إخضاعه للتذكية العادية يسّر الله سبحانه وتعالى على الناس سبيل الحصول على هذه الحيوانات عن طريق القنص والصيد، وأقام ذلك مقام التذكية الأصلية، إن لم يتمكن الصائد منها. وفي ذلك من التيسير على الناس ما لا يخفى ألطافه وفوائده على أي متأمِّل وباحث. ما يحلّ من الصيد وما لا يحلّ: الأصل حلّ الصيد بأنواعه، مهما كان نوع الحيوانات المُصادة، ودليل ذلك عموم ما يدل عليه قول الله تعالى: [وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ] (المائدة: 2). إلا أنه يستثنى من عموم ذلك ما يلي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 1 - صيد الحيوانات التي لا يحلّ أكلها، ولا يجوز قتلها، مما لا يعدّ ضارّاً، ولا مؤذياً، إذا كانت وسيلة الصيد من شأنها أن تؤذي الحيوان، أو تعطبه، أو تقتله. فإن كانت وسيلة الصيد غير مؤذية: كشباك ونحوه، لم يحرم. 2 - كل صيد يُبتغي منه مجرد العبث إذا كان بقتل، أو إعطاب، سواء كان الحيوان مما يحلّ أكله، أو مما يحرّم: كمن خرج لصيد الطيور لا يريد من ذلك إلا التسلية والعبث، وليس له في الأكل منها أيّ غرض، أو قصد. 3 - صيد الحيوانات البرية المأكولة بالنسبة للمُحِرم، سواء كان ذلك بالقتل، أو الإعطاب، أو بمجرد وضع اليد عليه. ودليل ذلك قول الله عزّ وجلّ: [لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ] (المائدة: 95). كما يحرّم أيضاً الصيد في الحرم، ولو كان الصائد غير مُحِرم. ودليل ذلك ما رواه البخاري في [كتاب الحج ـ باب ـ فضل الحرم، رقم: 1510] وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: " إن هذا البلد حرمه الله، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها". [هذا البلد: مكة المكرمة. حرمه الله: جعله الله حراماً، يحرم فيه ما ذكر في الحديث، وجعل له أيضاً حرمة وتعظيماً. لا يعضد: لا يقطع ويكسر. لا ينفر صيده: لا يزعج من مكانه، ولا يحل صيده. لا يلتقط: لا يأخذ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 لقطته: ما سقط فيه. عرفها: نادى عليها، حتى يجيء صاحبها، ولا يأخذها ليتملكها]. أما صيد ما لا يؤكل لحمه، فلا إثم فيه على المُحرِم إذا كان مؤذياً، أو لم يكن مؤذياً، وكان صيده مجرد وضع اليد عليه. والمقصود بحُرمة صيد الحيوان في هذه الحالات الثلاث المذكورة استلزامه الإثم، بقطع النظر عن أثر ذلك في تحريم أكله، إذ ليس بينهما أي تلازم. الوسيلة المشروعة في الاصطياد: ويقصد بالوسيلة المشروعة في الاصطياد، ما يترتب على اصطياد الحيوان بها جواز أكله، وبالوسيلة غير المشروعة ما لا يترتب على الاصطياد بها جواز ذلك. ووسيلة الاصطياد المشروعة تكون بواحدة من السببين التاليين: الأول: كل ما يجرح من محدَّد: سواء كان حديداً، أو رصاصاً، أو قصباً، أو زجاجاً، أو غير ذلك مما يجرح الحيوان. ودليل ذلك ما رواه رافع بن خديج - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أنهر الدَّمَ، وذكر اسم الله عليه فكُلُوه". أخرجه البخاري في [الشركة ـ باب ـ قسمة الغنم، رقم: 2356] ومسلم في [الأضاحي ـ باب ـ جواز الذبح بكل ما انهر الدم، رقم: 1968]. [ومعنى أنهر الدم: أي أساله]. فلو كان ما يُصاد به شيئاً لا حدّ له، وإنما يقتل بضغطه، وأو بثقلة: كحجر لا حدّ فيه، أو كان شيئاً يقتل بالحرق، ومات الحيوان بسببه لم يجز أكله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 أما إذا لم يمت الحيوان به: كأن أصاب منه جناحاً، أو قدماً، ثم أدركه الصائد حياً، فذكاه الذكاة المشروعة، التي سنتحدث عنها، أو رماه بشيء يقتل بحدِّه: كسكّين وسهم، ونحوهما، فإنه يجوز أكله. الثاني: إرسال جارحة من سباع البهائم أو جوارح الطير: فلو أرسل جارحة من سباع البهائم، أو أرسل جارحة من جوارح الطير على الحيوان الذي يُراد اصطياده ـ بالشروط التي سنذكرها ـ فجرحته، ومات بجرحه جاز وحلّ أكله. ومثال سباع البهائم: الكلب، والفهد، والنمر، ونحوها. ومثال جوارح الطير: الصقر، والباز، والشاهين، ونحوها. شروط الاصطياد بسباع البهائم وجوارح الطير: وإنما تعتبر الاستعانة بسباع البهائم، وجوارح الطير وسيلة مشروعة للاصطياد، إذا تحققت فيها الشروط الأربعة التالية: الشرط الأول: أن تندفع إلى الحيوان الذي يُراد صيده إذا أرسلت إليه، بحيث تتجه إليه، ولا تقصد شيئاً غيره. فلو هاجت واندفعت، ثم تحوّلت عن الحيوان الذي أرسلت نحوه إلى شيء آخر، اتجهت إليه بدافع من الغزيرة، لم يحلّ صيدها لذلك الحيوان الذي لم ترسل إليه إلا بالتذكية. الشرط الثاني: أن تنزجر إذا زجرت: أي تتوقف إذا استوقفها صاحبها في أيّ مرحلة من مراحل عَدْوِها، واتجاها نحو الصيد. الشرط الثالث: أن لا تأكل شيئاً من الصيد إذا قتلته قبل أن تصل به إلى صاحبها الذي أرسلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 فأما إذا أكلت منه بعد أن وضعته بين يديه، وانصرفت عنه، فلا بأس بذلك. الشرط الرابع: أن يتكرّر ذلك منها: (أي هذه الشروط الثلاثة) مرّتين فأكثر، بحيث يغلب على الظن تعوّدها، وتعلمها ذلك. والعبرة في كونها قد اعتادت ذلك، وتعلمته بظن أهل الخبرة في الصيد والجوارح. والأصل في اعتبار هذه الشروط لحلّ الصيد بهذه الجوارح هو قول الله عزّ وجلّ: [قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ... ] (المائدة: 4). [مكلبين: من التكليب، وهو تأديب الحيوان وترويضه، وذلك بأن يسترسل إذا أغري بالصيد وسلّط عليه]. وقال الشافعي رحمه الله تعالى في بيان معنى " مكلبين": (إذا أمرت الكلب فأتمر، وإذا نهيته فانتهى، فهو كلب مكلّب). ومعنى: " أمسكن عليكم" أي أمسكنه من أجلكم، وإنما يتحقق ذلك بالمحافظة على الصيد وعدم الأكل منه. ومفهوم المخالفة يقتضي أنه إذا لم يمسك على صاحبه، بأن أكل منه، فإنه لا يحلّ، ولا يعتبر الاصطياد به عندئذٍ شرعياً. ويدل على هذا من السنّة ما رواه عديّ بن حاتم - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا أرسلت كلبك المعلّم، وسمَّيت، فأمسكَ وقتلَ فكُلْ، وإن أكلَ فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه". أخرجه البخاري في [الذبائح والصيد ـ باب ـ الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة، رقم: 5167] ومسلم في [الصيد والذبائح ـ باب ـ الصيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 بالكلاب المعلمة، رقم: 1929]. متى ينزل الصيد وحده منزلة التذكية ومتى لا ينزل؟ إذا كانت وسيلة الصيد مشروعة، ووافية بالشروط التي ذكرناها، وصاد بها الصائد: فإما أن يستطيع الصائد إدراك ما اصطاده، وفيه حياة مستقرة، أو لا. فأما في الحالة الأولى: وهي ما إذا كان في الحيوان المصيد حياة مستقرة، فإن الصيد لا ينزل منزلة التذكية، بل لابدّ من تذكيته بذبح شرعي، على النحو الذي سنذكره فيما بعد. فإن أهمل الصائد ذلك، وترك الصيد فلم يذبحه حتى مات، كان نجساً ولم يَجُزْ أكله. وأما في الحالة الثانية: وهي ما إذا لم يتمكن الصائد من إدراك الصيد حيّاً، وذلك بأن أسرع محاوِلاً اللِّحاق به، فمات قبل أن يصل إليه، فإن موته بمجرد الصيد في هذه الحالة ينزل منزلة تذكيته، ويجوز أكله، وتسمى تذكية ضرورة. ودليل هذه الحالة الثانية ما رواه البخاري في [ الذبائح والصيد ـ باب ـ ما ندّ من البهائم فهو بمنزلة الوحش، رقم: 5190] ومسلم في [الأضاحي ـ باب ـ جواز الذبح بكل ما أنهر الدم، رقم: 1968] عن رافع بن خديج - رضي الله عنه -، قال: أصبنا نهب إبل وغنم ـ وفي رواية، وفي القوم خيل يسير ـ فندّ منها بعير، فرماه رجل بسهم فحبسه ـ أي مات ـ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما فعل منها هكذا، فافعلوا به مثل ذلك ". [النهب: الغنيمة، وكانت هذه الغنيمة إبلاً وغنماً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 ندّ: نفر، وذهب شارداً. أوابد: جمع آبدة، وهي الحيوانات التي تأبّدت، أي نفرت وتوحشت]. وروى البخاري في [الذبائح والصيد ـ باب ـ ما جاء في التصيد، رقم 5170] ومسلم في [الصيد والذبائح ـ باب ـ الصيد بالكلاب المعلّمة، رقم: 1930] عن أبي ثعلبة الخُشَني - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له، لمّا قال: إني أصيد بكلبي المعلّم، وغيره: " ما صدت بكلبك المعلّم، فاذكر اسم الله عليه، ثم كُلْ، وما صدت بكلبك الذي ليس معلماً، فأدركت ذكاته فكُل". ويلاحظ أن هذا الحديث الثاني قد دلّ على حكم كلاً الحالتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 الذّبَائِح تعريف الذبائح : الذبائح: جمع ذبيحة، بمعنى: مذبوحة. والمقصود به: الحيوان الذي تمت تذكيته على وجه شرعي، بالشروط التي سنذكرها، وكان مما يجوز أكله. الفرق بين الذبح والتذكية: التذكية: هي ذبح الحيوان في حلقه، أو في لَبَّته، إن كان مقدوراً عليه، أو بأيّ عقر مُذهِق للروح، إن لم يكن مقدوراً عليه، كصيد. أما الذبح: فهو قطع ما يسبب الموت من العنق، سواء توفرت فيه الشروط الشرعية التي سنتحدث عنها، أم لا. إذاً فالذبح نوع من أنواع التذكية، غير مقيَّد بكونه شرعياً صحيحاً. والتذكية: تشمل الذبح وغيره، مما تتوفر فيه الشروط الشرعية التي لابدّ منها لحلِّ أكل الحيوان المذكّي. الحكمة من اشتراط التذكية: عرفت أن تذكية الحيوان لحلِّ أكله تقوم على معنى تعبّدي، كما أوضحنا ذلك في حكمة مشروعية الصيد. إلا أن هناك حِكَماً زيادة على المعنى التعبدي، تتعلق باشتراط التذكية نذكر منها ما يلي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 1 - جاءت الشرائع والمِلل كلها بتحريم الميتة من الحيوانات، والحكم بنجاستها، ولابدّ من تفريق بين الحيوان الميت الذي تنجس بالموت، وغيره، فكانت التذكية في حكم الشرع هي الفارق الأساسي بينهما. 2 - قضت الشريعة الإسلامية بنجاسة الدم، ووجوب اجتنابه، لما فيه من أضرار، والذبح تطهير للحيوان من الدم ـ كما ستعلم ـ والموت للحيوان بالخنق ونحوه تضميخ للحيوان بالدم. أنواع التذكية: والتذكية تنقسم إلى ثلاثة أنواع: الذبح، والنحر، والعقر. 1 - أما الذبح: فهو قطع الحلق من الحيوان، بالشروط التي سنذكرها فيما بعد. [والحلق: أعلى العنق]. والذبح: هو تذكية سائر الحيوانات التي يتمكن الإنسان من تذكيتها؛ بأن كان قادراً عليها. 2 - وأما النحر: فهو قطع لبَّة الحيوان، وهي أسفل العنق. والنحر: هو التذكية المسنونة بالنسبة للإبل. قال الله عزّ وجلّ: [فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ] (الكوثر: 2). قال الفقهاء: والمعنى الملاحظ في ذلك أن النحر بالنسبة للإبل أسرع لخروج الروح، لطول أعناقها. وهذان النوعان (الذبح، والنحر) يقوم أحدهما مقام الآخر بالنسبة لأصل التذكية. ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألا إن الذكاة في الحلق واللبّة". رواه الدارقطني [4/ 283] والبخاري تعليقاً في [الذبائح والصيد ـ باب ـ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 النحر والذبائح] عن ابن عباس رضي الله عنهما. إلا أن المسنون نحر الإبل، وذبح سائر الحيوانات الأخرى: كالبقر والغنم، وغيرهما. 2 - وأما العقر: ـ وهو ما يسمى بذكاة الضرورة ـ فهو جرح الحيوان، أي جرح مُزهِق للروح، في أيّ جهة من جسمه. والعقر: تذكية الحيوان المأكول إذا ندّ، ولم يتمكن صاحبه من القدرة عليه، كما أنه تذكية الحيوان الذي يُراد اصطياده، كما أوضحنا ذلك فيما مضى. ودليل ذلك: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعير ندّ، فضربه رجل بسهم فحبسه: " إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء فاصنعوا به هكذا". رواه البخاري في [الذبائح والصيد ـ باب ـ ما ندّ من البهائم فهو بمنزلة الوحش، رقم: 5190] ومسلم في [الأضاحي ـ باب ـ جواز الذبح بكل ما أنهر الدم، رقم: 1968] عن رافع بن خديج - رضي الله عنه -. شروط صحة الذبح: ونقصد بهذه الشروط: الأمور التي لابدّ من توفرها، ليسمى الذبح تذكية، وليكون الحيوان المذبوح مذكَّى. وهذه الأمور بجملتها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أ- شروط تتعلق بالذابح. ب- شروط تتعلق بالمذبوح. ج- شروط تتعلق بآلة الذبح. أ) الشروط المتعلقة بالذابح: والشروط التي تتعلق بالذابح نلخصها فيما يلي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 الشرط الأول: أن يكون الذابح مسلماً أو كتابياً: والكتابي يُقصد به اليهودي والنصراني. فإن كان الذابح غير مسلم، وغير كتابي، وذلك بأن كان مرتداً، أو وثنياً أو ملحداً، أو مجوسياً، لم تحلّ ذبيحته. أما دليل حلّ ذبيحة المسلم، فقول الله عزّ وجلّ: [إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ] (المائدة: 3). وهو خطاب للمسلمين. وأما دليل حلّ ذبيحة الكتابي، فقول الله تبارك وتعالى: [وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ] (المائدة: 5). والمراد بالطعام هنا الذبائح. أما دليل عدم حلّ ذبيحة الكفار من غير الكتابيين، فما رُوي أنه - صلى الله عليه وسلم -: كتب إلى مجوس هَجَر يعرض عليهم الإسلام، فمن أسلم قُبل منه، ومن أبي ضُربت عليه الجزية، على أن لا تؤكل لهم ذبيحة، ولا تنكح لهم امرأة". رواه البيهقي [9/ 285] وقال: هذا مُرسل، وإجماع أكثر الأمة عليه يؤكده. [مرسل: الحديث المرسل: هو الذي يرفعه التابعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أن يذكر اسم الصحابي الذي روى عنه الحديث]. فإذا كان هذا هو الحكم بالنسبة للمجوس، فإن المرتدين والوثنيين والملحدين أَوْلى بذلك منهم، لأنهم أوغل في الكفر. الشرط الثاني: أن لا يكون الكتابي ممّن أصبح هو، أو واحد من آبائه، كتابياً بعد التحريف أو النسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 فالملحد إذا تنصّر اليوم لا تحل ذبيحته. وكذلك النصراني، أو اليهودي الذي عرف أن أجداده الأقدمين كانوا وثنيين مثلاً، ثم تنصروا بعد التحريف، أو بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا تحلّ ذبيحته. ودليل ذلك ما رواه شهر بن حوشب، أنه - صلى الله عليه وسلم -: " نهى عن ذبح نصارى العرب" وهم: بهراء، وتنوخ، وتغلب. وعلّة النهي أنهم إنما دخلوا النصرانية بعد التحريف الذي طرأ عليها. الشرط الثالث: أن لا يذبح لغير الله عزّ وجلّ، أو على غير اسمه. فلو ذبح لصنم، أو مسلم، أو نبي، لم تحلّ الذبيحة. ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى في معرض ذكر ما حرم أكله: [وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ] (المائدة: 3). أي ما ذبح لغير الله تعالى، أو ذُكِر عند ذبحه غير اسم الله تعالى. فإذا توفّرت هذه الشروط الثلاثة في الذابح حلّت ذبيحته، من غير فرق بين أن يكون رجلاً أو امرأة، كبيراً أو صغيراً، بل لا فرق بين المميِّز وغيره، والسكران والمجنون، وغيرهما، ما دامت طاقة الذبح موجودة وما دام القصد متوفراً في الذابح، ولو في الجملة. ب) الشروط المتعلقة بالمذبوح: وهنا أيضاً شروط نُ جملها فيما يلي: الشرط الأول: أن يدرك الذابح الحيوان قبل الذبح، وفيه حياة مستقرة, والمقصود بالحياة المستقرة: أن لا ينتهي الحيوان بسبب مرض، أو جرح، أو نحوهما إلى سياق الموت، بحيث تصبح حركته اضطرابا كاضطراب المذبوح. فإن كان الحيوان قبل الذبح قد فقد الحياة المستقرة، فإن ذبحه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 عندئذٍ لا يعتبر تذكية، ولا يحلّ الذبيحة، إلا إذا ذُكِي قبل ذلك ذكاة الضرورة التي تحدّثنا عنها. ولا يعتبر سيلان الدم من عروقه بعد ذبحه دليل وجود الحياة المستقرة. الشرط الثاني: قطع كلِّ من الحلقوم، والمريء. والحلقوم: هو مجرى النَّفَس. والمريء: هو مجرى الطعام. فلو بقى شيء من أحدهما، ولو يسيراً لم تحلّ الذبيحة. ودليل ذلك ما رواه البخاري في [الشركة ـ باب ـ قسمة الغنم، رقم: 2356] ومسلم في [الأضاحي ـ باب ـ جواز الذبح بكل ما أنهر الدم، رقم: 1968] عن رافع بن خديج - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكُلُوه، ليس السنّ والظفر". فقد شرط في الذبح ما ينهر الدم، وإنما يكون ذلك بقطع كلٍّ من الحلقوم والمريء، فإن الحياة تفقد بقطعهما، وتوجد بسلامتهما غالباً. الشرط الثالث: الإسراع بالقطع، وبدفعة واحدة، بحيث لو تأنّى، فبلغ الحيوان حركة المذبوح قبل قطع جميع الحلقوم والمريء، بطلت التذكية، ولم تحمل الذبيحة. وتعرف الحياة المستقرة في الذبيحة بشدة الحركة بعد الذبح. فلو تأنى بالذبح، وأبطأ في محاولة القطع، فلما انتهى من الذبح، لم يجد حركة في الحيوان، كان ذلك دليلاً على أنه قد فقد الحياة المستقرة قبل تمام الذبح، وبذلك يتبين أن الذبيحة لم تُذَكّ، ولا يحل أكلها. ج) الشروط المتعلقة بآلة الذبح: وهذه الآلة لها شروط نجملها في الشرطين التاليين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 الشرط الأول: أن تكون الآلة مما يجرح بحدِّه، من حديد ونحاس ورصاص، وقصب وزجاج، وحجر، وغير ذلك. فلا تتم التذكية بما يقتل رضخاً بثقله، كحجر غير محدَّد. ودليل ذلك حديث البخاري ومسلم السابق: " ما أنهر الدم وذكر عليه اسم الله عليه فكُلُوه". وإنما ينهر الدم ـ أي يسيله بشدة ـ ما يجرح بحدِّه، أما ما يقتل رضخاً بثقله، فليس من شأنه أن ينهر الدم. الشرط الثاني: أن تكون آلة الذبح سنّاً، ولا ظفراً. فلا تحلّ الذبيحة التي ذبحت بأحدهما، ولو كان جارحاً، بما له من حدّ، واستنزف الدم كله. وذلك لأن الذبح بأحدهما مستثنى بنص الحديث من عموم ما يجوز الذبح به، وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه -، عند الشيخين، السابق ذكره: " ... ليس السن والظفر". ويدخل في حكم السن والظفر سائر أنواع العظام، سواء كانت من آدمي، أو غيره. أما الحكمة من هذا الاستثناء، فهي كما قال بعض العلماء: التعبّد المحض. وقد عرفت أن أحكام الذبائح قائمة في جملتها على التعبّد، وليست قائمة على شيء من العلل والمصالح، التي تُدار عليها الأحكام المصلحية. فالأفضل في معرفة سبب الاستثناء الوقوف عند هذا القول. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 ملاحظات الأولى: ذكاة الجنين بذكاة أمِّه، إلا أن يوجد حيّاً فيذكّى: أي يعتبر ذبح أمه ذبحاً له، إذا خرج من بطنها ميتاً بعد ذبحها. أما إن خرج حيّاً، فلابدّ حينئذٍ من ذكاته. ودليل ذلك ما رواه أبو داود في [الأضاحي ـ باب ـ ما جاء في ذكاة الجنين، رقم: 2827] عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجنين، فقال: " كُلُوه إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه". الثانية: ما قطع من الحيوان حال حياته، فإن له حكم ميتة ذلك الحيوان، إلا الشعور المُنتفع بها في مفارش والملابس، وغيرهما، وسيأتي بيانها. أي إن للجزء المنقطع من الحيوان حكم ميتة ذلك الحيوان، من حيث حلِّ الأكل وعدمه، ومن حيث الطهارة والنجاسة. فما قطع من السمك حال حياته، فإنه يؤكل، وذلك لحلّ ميتة السمك. وما قطع من شاة حال حياتها، فإنه لا يؤكل لنجاسة ميتتها. وما قطع من إنسان حال حياته، فهو طاهر، لطهارة الإنسان حال موته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 وما قطع من دابّة حال حياتها، فهو نجس، لنجاسة ميتتها. ودليل ذلك ما رواه الحاكم وصحّحه، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن جِباب أسنمة الإبل، وأَلْيَات الغنم، فقال: " ما قطع من حيّ فهو ميت" [المستدرك: كتاب الذبائح ـ باب ـ ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت: 4/ 239]. جباب: مصدر جَبَّ يُجبّ، إذا قطع. وروى أبو داود في [الصيد ـ باب ـ في صيد قطع منه قطعة، رقم: 2858] والترمذي في [الصيد ـ باب ـ ما قطع من الحي فهو ميت، رقم: 1480] واللفظ له وحسّنه، عن أبي واقد الليثي - رضي الله عنه - قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهم يجبّون أسنمة الإِبل، ويقطعون أليات الغنم، فقال: " ما قُطع من البهيمة وهي حيَّةٌ، فهي ميتة" ورواه الحاكم وصحّحه [4/ 239]. ما يستثنى من ذلك: إلا أنه استثنى من حكم ما ذُكر سابقاً الأصواف، والأشعار والأوبار ضمن الشروط التالية: الشرط الأول: أن تكون من حيوان مأكول اللحم شرعاً. الشرط الثاني: أن تقص منه حال حياته، أو بعد ذبحه ذبحاً شرعياً. الشرط الثالث: أن لا تنفصل من الحيوان الحيّ على العضو انفصل منه. أما شعر الحيوان الميت غير الآدمي فهو نجس، ولا يطهر، لأنه لا يُدبغ. والأصل في طهارة ما ذكر قول الله عزّ وجلّ: [وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ] (النحل: 80). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 [يوم ظعنكم: يوم سيركم في أسفاركم. أثاثاً: الأثاث متاع البيت من الفرش والأكسية]. فلقد دلّت الآية على جواز استعمال الأصواف والأوبار والأشعار، وذلك دليل طهارتها. والحق فيما ذكر ما يقوم مقام الشعر من كل حيوان مأكول اللحم: كالريش ونحوه، بالشروط السابق ذكرها. الثالثة: يحرم أكل الميتة كيفما كان موتها، والميتة: هي ما أزهقت روحه بغير ذكاة شرعية، سواء ماتت حتف أنفها، أو ماتت بفعل غيرها: كضرب، وخنق، وغرق، وغير ذلك. كما يحرم أكل الدم المسفوح من أيّ حيوان كان. ودليل ذلك، قول الله تبارك تعالى: [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ] (المائدة: 3). [المنخنقة: التي ماتت خنقاً بحبل ونحوه. الموقوذة: التي ماتت بضرب بعصاً أو حجر، أو نحوهما. المتردية: التي ماتت بالسقوط من مكان عالٍ. النطيحة: التي ماتت بالنطح من غيرها من الدواب. ما أكل السبع: التي ماتت بافتراس حيوان لها. إلا ما ذكيتم: إلا ما أدركتموه حياً مما ذُكر فذكيتموه، فإنه يحلّ ويؤكل]. دلت الآية على حرمة أكل كلٍّ من الدم، والميتة، وما ذكر معهما من أكل لحم الخنزير، وما أُهِلّ لغير الله به، وما ذبح على النصب: أي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 الأحجار التي كانوا يذبحون عليها لآلهتهم. ما يستثنى من الميتة والدم: لقد استثنى من ميتة الحيوان: السمك والجراد. واستثنى من الدم: الكبد والطحال. ودليل ذلك ما رواه أحمد [2/ 27] وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أحلت لنا ميتتان، ودمان، فأما الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال". خاتمة في بعض سُنن الذبح: تسنّ عند الذبح مراعاة الأمور التالية: 1 - ذكر اسم الله عزّ وجلّ عند الذبح؛ بأن يقول الذابح: باسم الله. ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: [فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ] (الأنعام: 118). وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق: " ما أنهر الدم، وذُكر اسم الله عليه فكلوا". كما تسنّ التسمية عند إرسال السهم، أو بعث الجارحة إلى الصيد. فلو لم يذكر الذابح اسم الله عزّ وجلّ عند الذبح، وكانت سائر شروط التذكية متوفرة، لم يضرّ ذلك شيئاً، لأن التسمية في الآية والحديث محمولة على الندب عند الشافعية. 2 - قطع الوَدجَيْن عند الذبح: والودجان عرقان في صفحتَيْ العنق، محيطان بالحلقوم، يسمى كل منهما بالوريد، لأن ذلك أدعى لزهوق الروح. 3 - أن يحد الذابح شفرته: لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله كتب الإحسانَ على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلةَ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبِحَ، وليحدَّ أحدُكم شفرتَه، فليُرحْ ذبيحته" رواه مسلم في [الصيد والذبائح ـ باب ـ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، رقم: 1955]. 4 - أن يُضجِع الدابّة لجنبها الأيسر، ويترك رجلها اليمنى تتحرك بعد الذبح لتستريح يتحريكها، إلا الإِبل، فإن الأفضل أن تُنحر قائمة معقولة ركبتها اليسرى، ودليل ذلك قول الله عزّ وجلّ [فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ] (الحج: 36). قال ابن عباس رضي الله عنهما: (قياماً على ثلاث) رواه الحاكم في [المستدرك، أول كتاب الذبائح: 4/ 233]. 5 - استقبال القبلة عند الذبح: لأن القبلة أشرف الجهات. وإذا استُقبِلت القبلة بالذبيحة، استقبلها الذابح أيضاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 العَقيقَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 العَقيقَة تعريف العقيقة: العقيقة في اللغة: مشتقة من العَقِّ، وهو القطع، وتطلق في الأصل على الشعر الذي يكون على رأس المولود حين ولادته، سمي بذلك، لأنه يُحلق ويقطع. والعقيقة شرعاً: ما يذبح للمولود عند حلق شعره، وسميت هذه الذبيحة بهذا الاسم، لأنها تقطع مذابحها وتشق، حين الحلق. ويستحبّ تسمية العقيقة نسيكة، أو ذبيحة. ودليل ذلك ما رواه أبو داود في [الأضاحي، ـ باب ـ في العقيقة، رقم: 2842] أنه سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة، فقال: " لا يحب الله العقوق" فكأنه كره الاسم، وقال: " من وُلد له ولد، فأحبَّ أن يَنسُك عنه فليَنْسُك". حكم العقيقة: العقيقة سُنّة مؤكدة، يطالب وليّ المولود الذي ينفق عليه. ودليل استحبابها فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها، وفعل الصحابة رضي الله عنهم. عن سليمان بن عامر الضَّبِّي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: " مع الغلام عقيقته، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى". [أي أزيلوا عنه القذارة والنجاسة]. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 أخرجه البخاري في [العقيقة ـ باب ـ إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة، رقم: 5154]. وإنما لم يقل العلماء بوجوب العقيقة، لأنها إراقة دم بغير جناية، ولا نذر، فلم تجب كالأضحية. ودلّ على عدم وجوبها أيضاً حديث أبي داود السابق" من وُلد له مولود فأحب أن ينسك عنه فلينسك". وقت العقيقة: يدخل وقت جواز ذبح العقيقة بانفصال جميع المولود من بطن أمه، فلو ذبحت قبل تمام خروجه، لا تحسب عقيقة، بل تكون لحماً، ليس له حكم سنّة العقيقة. ويستمر وقت استحبابها إلى البلوغ، ثم بعد البلوغ يسقط الطلب عن نحو الأب، والأحسن عندئذٍ أن يعقَّ عن نفسه تداركاً لما فات. لكن يسنّ أن يعقّ عن المولود في اليوم السابع من ولادته. ودليل ذلك ما رواه أبو داود في [الأضاحي ـ باب ـ ما جاء في العقيقة، رقم: 1522] وغيره عن سمرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الغلام مرتهن بعقيقته، يذبح عنه يوم السابع، ويسمى ويحلق رأسه". ومعنى مرتهن بعقيقته: أي أن تنشئته تنشئة صالحة، وحفظه حفظاً كاملاً مرهون بالذبح عنه. وقيل المعنى: لا يشفع بوالديه يوم القيامة إن لم يُعق عنه. حكمة تشريع العقيقة: في تشريع العقيقة أسرار بديعة، ومصالح جمّة، وفوائد كثيرة نذكر منها ما يلي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 1 - الاستبشار بنعمة الله عزّ وجلّ، حيث يَسّر الوضع، ورزق الوالدين الولد، والولد محبَّب للوالدين، فينبغي شكر واهبه، والمنعِم به. قال الله عزّ وجلّ: [وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ] (الزمر: 7). وقال سبحانه وتعالى [لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] (إبراهيم: 7). وقال تبارك وتعالى: [لْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] (الكهف: 46). وقال عز من قائل: [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ] (آل عمران: 14). 2 - التلطف بإشاعة نسب الولد ونشره، إذ لابدّ من نشر ذلك وإشاعته، لئلا يقال فيه ما لا يحب، فكانت العقيقة أحسن وسيلة لذلك. 3 - إنماء مُلْكة السخاء والكرم عند الإنسان، وعصيان داعية الشح الذي أحضرته النفوس. قال الله تعالى: [وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ] (النساء: 128). وقال جل جلاله: [وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] (الحشر: 9). 4 - تطيب قلوب الأهل والأقارب والأصدقاء والفقراء، وذلك بجمعهم على الطعام، وبالتقائهم حوله تكون المودّة والمحبة والألفة، والإسلام دين ألفة ومحبّة واجتماع. ما يذبح عن الغلام والجارية: تتحقق السنة في العقيقة بأن يذبح الوليّ شاة عن الغلام، وشاة عن الجارية. ودليل ذلك ما رواه الترمذي في [الأضاحي ـ باب ـ ما جاء في العقيقة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 بشاة، رقم: 1519] عن علي - رضي الله عنه -، قال: (عق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن بشاة). ولكن الأفضل أن يذبح الوليّ عن الصبي شاتين، وعن البنت شاة. ودليل ذلك ما رواه الترمذي في [الأضاحي ـ باب ـ ما جاء في العقيقة، رقم: 1513] وغيره عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أمرهم: عن الغلام شاتان متكافئتان، وعن الجارية شاة). [الغلام: الذكر. الجارية: الأنثى. متكافئتان: متساويتان]. تعدد العقيقة بتعدّد الأولاد: هذا ولا يكفي في تحصيل سنة العقيقة أن يذبح شاة واحدة عن أكثر من مولود واحد. بل السنة تعدادها بتعدد الأولاد، فللولد شاة وللولدين شاتان، وللثلاثة ثلاث شياه، وهكذا. فلو ولد له توأمان كان عليه عقيقتان، ولا يكفي واحدة عنهما. روي أبو داود في [الأضاحي ـ باب ـ في العقيقة، رقم: 2841] عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً). وعند الحاكم في المستدرك [كتاب الذبائح ـ باب ـ عقّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن والحسين، 4/ 237] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عَقَّ عن الحسن والحسين عن كل واحد منهما، كبشين اثنين مثلين متكافئين. شروط العقيقة: ويشترط في العقيقة حتى تكون مجزئة، ما يشترط في الأضحية: من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 حيث الجنس، والسن، والسلامة من العيوب التي تسبب نقصاً في اللحم، وذلك: لأن العقيقة ذبيحة مندوب إليها، فأشبهت الأضحية. روى الترمذي وصحّحه في [الأضاحي ـ باب ـ ما لا يجوز في الأضاحي، رقم: 1497] وأبو داود، واللفظ له، في [الضحايا ـ باب ـ ما يكره من الضحايا، رقم: 2802] عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين عرجها، والكسير التي لا تُنْقَى". [لا تنقى: لا مخ لها، مأخوذة من النِّقْي، وهو المخي]. ويقاس على هذه العيوب الأربعة كل ما يشبهها في التسبّب في الهزال، وإنقاص اللحم. انظر الأضحية في الجزء الأول [ص127]. ما تخالف به العقيقة الأُضحية: إذا قلنا: إنه يشترط في العقيقة ما يشترط في الأُضحية، فليس يعني هذا أنها تشبهها من كل الوجوه، بل هناك أوجه اختلاف بينهما نجملها فيما يلي: 1 - يسن أن تطبخ العقيقة، كسائر الولائم، ويتصدق بها مطبوخة، ولا يتصدق بلحمها نيئاً، وهذا بخلاف الأضحية. ويستحبّ أن تطبخ العقيقة بحلوى، تفاؤلاً بحلاوة أخلاق المولود. والأفضل أن يتصدق بلحمها ومرقها على المساكين، بالعبث بهما إليهم، كما يستحب أن يأكل منها ويهدي. 2 - يستحبّ أن لا يكسر منها عظماً، ما أمكن ذلك، بل يقطع كل عظم من مفصله تفاؤلاً بسلامة أعضاء المولود. 3 - يستحب أن يهدي القابِلة رِجْل العقيقة نِيْئة غير مطبوخة، لأن فاطمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 رضي الله عنها فعلت ذلك بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. رواه الحاكم. تسمية المولود يوم سابعه وحلق شعره والتصدّق بوزنه ذهباً أو فضة: يُسنّ تسمية المولود في اليوم السابع من ولادته، كما يسنّ أن يُختار له من الأسماء ما كان حسناً. ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنكم تُدْعَوْن يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم". أخرجه أبو داود في [كتاب الأدب ـ باب ـ في تغيير الأسماء، رقم: 4948]. وروى مسلم في [الأدب ـ باب ـ النهي عن التكنّى بأبي القاسم وبيان ما يستحبّ من الأسماء، رقم: 2132] عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أحبَّ أسمائكم إلى الله عبدالله وعبد الرحمن". كما يسنّ حلق رأس المولود، ذَكَراً كان أو أنثى، يوم سابعه بعد ذبح العقيقة، ويتصدق بزِنة شعره ذهباً أو فضة. ودليل ذلك ما رواه الترمذي في [الأضاحي ـ باب ـ ما جاء في العقيقة بشاة، رقم: 1519] وغيره عن عليّ - رضي الله عنه -، قال: عقّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن بشاة، وقال: " يا فاطمة، احلقي رأسه، وتصدقي بزنة شعره فضة". قال: فوزنته، فكان وزنه درهماً، أو بعض درهم. التأذين في أذن المولود: ويُسنّ أن يُؤذَّن أذان الصلاة في أذن المولود اليمنى، حين يولد، وتُقام الصلاة في أذنه اليسرى، ليكون إعلامه بالتوحيد أول ما يقرع سمعه عند قدومه إلى الدنيا. روى الترمذي في [الأضاحي ـ باب ـ الأذان في أذن المولود، رقم: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 1514] وغيره عن عبيدالله بن أبي رافع عن أبيه قال: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَذَّن في أُذُن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة). تحنيك المولود: ويستحبّ أن يُحَنَّك المولود بتمر، سواء كان ذكراً، أم أنثى. والتحنيك: أن يُمضغ التمر، ويُدلك به حَنَك المولود، حتى ينزل إلى جوفه شيء منه، فإن لم يكن هناك تمر، حُنِّك بشيء حلو. ويستدلّ لاستحباب هذا التحنيك بما رواه مسلم في [الأدب ـ باب ـ استحباب تحنيك المولود عند ولادته، رقم: 2144] وغيره عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ذهبت بعبدالله بن أبي طلحة الأنصاري - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حين ولد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عباءة يهنأ بعيراً له، فقال: " هل معك تمر"؟ قلت: نعم. فناولته تمرات، فألقاهنّ في فيه، فلاكهنّ، ثم فَغَرَ فَاْ الصبي فمجَّه في فيه، فجعل الصبي يتلمَّظُه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " حِبُّ الأنصار التمر". وسماه عبدالله. [يهنأ: يطليه بالقطران. فلاكهن: مضغهن. فغر فا الصبي: فتح فمه. مجه: طرحه وألقاه في فمه. يتلمظه: يحرك لسانه به ليبتلع ما فيه من الحلاوة. حب الأنصار التمر: محبوب الأنصار التمر]. وروى مسلم أيضاً [في نفس الباب، رقم: 2145] عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: (ولد لي غلام، فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسماه إبراهيم، وحنكه بتمر). وروى مسلم في [نفس الباب أيضاً، رقم: 2147] عن عائشة رضي الله عنها؛ (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالصبيان، فيبرك عليهم ويحنكهم). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 وبناء على ما ذكرنا، قال العلماء: يستحبّ حمل المولود بعد ولادته إلى أهل الصلاح والتقوى، لتحنيكهم، والدعاء لهم بالخير والبركة. ختان الطفل: الختان: مصدر ختن: أي قطع. والختان: اسم لفعل الخاتن، ولموضع الختان. وختان الذكر: قطع الجلدة التي تغطي الحشفة. حكم الختان: الختان واجب عند الشافعية على الذكور والإناث. ثم إن الواجب في حقّ الذكر قطع الجلدة التي تغطي الحشفة. وفي حقّ الإناث قطع أدنى جزء من الجلدة التي في أعلى الفرج. وقيل: الختان واجب على الذكور، دون النساء. دليل مشروعية الختان: ويستدل على وجوب الختان بما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقصّ الشارب"أخرجه البخاري في [اللباس ـ باب ـ تقليم الأظفار، رقم: 5552] ومسلم في [الطهارة ـ باب ـ خصال الفطرة، رقم: 257]. [الفطرة: الخلقة المبتدأة، والمراد بها هنا: السنّة القديمة التي اختارها الأنبياء، واتفقت عليها الشرائع. الاستحداد: حلق العانة، وهي الشعر الذي حول فرج الرجل والمرأة. تقليم الأظفار: قطع رؤوسها المستطيلة عن أصلها]. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 وقت الختان: الختان كما قلنا واجب، ولكن لا يشترط أن يكون في حال الصِّغَر، بل يجوز في الصغر، والكبر. ولكن يسنّ لوليّ الطفل أن يختنه في اليوم السابع من ولادته، إن رأى الخاتن أن الطفل يطيق ذلك، ولم يكن مريضاً. ولقد كان العرب قبل الإسلام يختتنون إتباعا لسنة أبيهم إبراهيم عليه السلام. حكمة مشروعية الختان: والحكمة من مشروعية الختان إنما هي المبالغة في الطهارة، والنظافة، ولا شك أن إزالة القُلْفة أضمن لذلك، وأعون عليه. وفي نظافة الظاهر إشعار بالحقّ على نظافة الباطن. قال الله عزّ وجلّ: [إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ] (البقرة: 222). ولا شك أن التوبة إنما هي شعار لنظافة الباطن من الذنوب والعيوب. التهنئة بالمولود: ويستحبّ أن يهنئ الرجال الوالد، والنساء الوالدة بالمولود، يقولون له: بارك الله لك في الموهوب لك، وشكرت الواهب، وبلغ أشُدَّه، ورُزقت بِرَّه. ويستحب للوالد أن يجيبهم بقوله: بارك الله لكم، وبارك عليكم، وأجزل ثوابكم. وكذلك يقال للمرأة الوالدة، وتقول هي لهنّ، ما يقول الرجل للرجال. والله تعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 الأطعِمَة والأشربَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 الأطعِمَة والأشربَة - ما يحلّ من الأطعمة وما يحرم - تنطلق القاعدة الشرعية في معرفة ما يحلّ من الأطعمة، وما يحرم منها من قول الله عزّ وجلّ: [قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (الأنعام: 145). ومن قوله سبحانه وتعالى: [وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ] (الأعراف: 157). ومن قوله جل جلاله: [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ] (المائدة: 4). والمراد بالطيبات: ما تستطيبه النفس السليمة وتشتهيه. وانطلاقاً من هذه الآيات قام حكم الأطعمة حلاًّ وحرمة على المبادئ الثلاثة التالية: المبدأ الأول: كل حيوان استطابته العرب في حال الخصب والرفاهية، وفي عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو حلال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 ويدخل في هذا الباب: ا- كل حيوان لا يعيش إلا في البحر، وهو السمك بكل أنواعه، وأسمائه، فهو حلال، لأنه العرب استطابت كل ذلك، وجاء الشرع، مؤكِّداّ حلَّه وجواز أكله. روى الترمذي في [أبواب الطهارة ـ باب ـ ما جاء في ماء البحر أنه طهور، رقم: 69] وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - يقول: سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إنّا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته". وقال الله عزّ وجلّ في محكم كتابه العزيز: [أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ] (المائدة: 96). [فصيد البحر: هو مَصِيده. وطعامه: أي مطعومه]. وفسّر جمهور العلماء طعام البحر بما طفا على وجه الماء من السمك بعد موته، ما لم يفسد. ب - الأنعام: وهي الإبل، والبقر، والغنم، والمعز، والخيل، وبقر وحُمُر الوحش، والظباء والأرانب، وغيرها مما استطابه العرب، وقد جاء الشرع بحلِّها. لكن يستثنى من عموم ما استطابته العرب ما ورد الشرع بتحريمه، فلا يباح أكله: كالبغال والحُمُر الأهلية. روى البخاري في [كتاب الذبائح والصيد ـ باب ـ لحوم الحمر الإنسية، رقم: 5204] عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن لحوم الحُمُر، ورخص في لحوم الخيل). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 وروى الترمذي في [كتاب الأطعمة ـ باب ـ ما جاء في أكل لحوم الخيل، رقم: 1794] عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: (أطعَمَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحُمُر). والبغال ملحقة بالحمر في الحرمة للنهي عن أكلها في خبر أبي داود بإسناد على شرط مسلم، ولأنها متولِّدة بين حلال، وحرام، فهي متولِّدة بين الخيل، والحمير، فغُلِّب جانب الحرمة على جانب الحلّ. وكل حيوان استخبثه العرب في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - كالحشرات ونحوها، فهو حرام إلا ما ورد الشرع بإباحته خصوصاً: كاليربوع، والضَّبّ، والسمُّور، والقنفذ، والوبر، وابن عرس، وغيرها. اليربوع: دابّة نحو الفأرة، لكن ذنبه أطول، وكذلك أُذُناه، ورجلاه أطول من يديه. الضَّبّ: دابّة تشبه الجرذون، ولكنه أكبر منه قليلاً. السمُّور: وهو حيوان يشبه السنور، وهو من ثعالب الترك. الوَبْر: دابة أصغر من الهر كحلاء العين لا ذنب لها. ابن عرس: دابّة رقيقة تعادي الفأر، وتدخل حجره وتخرجه. وقد روى البخاري ما جاء في حلِّ الضب في [الصيد والذبائح ـ باب ـ الضبّ، رقم: 5216] عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الضبّ لست آكله ولا أُحرمه". وإنما اعتبر عُرْف العرب في هذا التحليل والتحريم، لأنهم الذين خوطبوا بالشرع أولاً، وفيهم بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزل القرآن الكريم. المبدأ الثاني: يحرّم من السباع كل ما له ناب قويّ يفترس به: كالكلب، والخنزير، والذئب، والدب، والهرّة، وابن آوى ـ وهو حيوان فوق الثعلب ودون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 الكلب، طويل المخالب ـ والفيل، والسبع، والنمر، والفهد، والقرد، وأمثالها مما ناب قوي يفترس به. فإن كان نابه ضعيفاً، لا يبلغ أن يفترس به، لم يحرّم أكله؛ كالضبع والثعلب. روى الترمذي في [الأطعمة ـ باب ـ ما جاء في أكل الضبع، رقم: 1792] وغيره عن ابن أبي عمّار، قال: قلت لجابر - رضي الله عنه -: (الضَّبُع صيد هي؟ قال: نعم. قال: قلت: آكله؟ قال: نعم. قال: قلت له: أقاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم). ويحرّم من الطيور كل ما له مخلب؛ أي ظفر قوي يجرح به: كالنسر، والصقر، والباز، والشاهين، والعقاب. ودليل ذلك ما رواه البخاري في [الذبائح والصيد ـ باب ـ أكل كل ذي ناب من السباع، رقم: 5210] ومسلم في [الصيد والذبائح ـ باب ـ تحريم أكل كل ذي ناب، رقم: 1932] عن أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن كل ذي ناب من السباع). وروى مسلم في [الصيد والذبائح ـ باب ـ تحريم أكل كل ذي ناب، رقم: 1934] وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطيور). ولأن هذه الحيوانات من السباع، والطيور من شأنها أن تأكل الجيف، بسبب طبيعة الافتراس التي فيها، فتكون بسبب ذلك من الحيوانات المتخبثة. المبدأ الثالث: يحرّم كل حيوان ندب قتله: كحية، وعقرب، وغراب، وحدأة، وفأر، وكل ما ثبت ضرره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 فهذه الحيوانات ونحوها يحرم أكلها سواء استطابتها العرب، أم لا، لأنه ثبت ندب قتلها بالسنّة، على أن معظمها مما تعافه العرب. عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " خمس من الدواب كلهنّ فاسق، يقتلن في الحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور". أخرجه البخاري في [الإحصار وجزاء الصيد ـ باب ـ ما يقتل المحرم من الدواب، رقم: 1732] ومسلم في [الحج ـ باب ـ ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب، رقم: 1198]. [فاسق: من الفسق، وهو الخروج، ووصفت هذه الدواب بذلك، لخروجها عن حكم غيرها بالإيذاء والإفساد، وعدم الانتفاع. العقور: الجارح الذي يتعرض للناس، ويعضّهم]. حالة الضرورة: يستثنى من عموم الحكم الذي اقتضته هذه المبادئ الثلاثة حال ضرورة تلبّست بإنسان، فيحلّ له إذا اضطر أن يأكل من الميتة المحرمة، ومن الحيوانات التي ثبتت حُرمة أكلها، يأكل ما يسدُّ رمقه، ويبقى عليه حياته، وذلك عملاً بقول الله عزّ وجلّ: [وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً] (النساء: 29). وقوله سبحانه وتعالى: [فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (المائدة: 3). [المخمصة: الجوع الشديد. متجانف لإثم: مائل إليه]. وبقوله جلّ وشأنه: [فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (البقرة: 173). [غير باغ: غير طالب الأكل تشهياً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 ولا عاد: ولا معتد؛ أي متجاوز القدر المسموح به، وهو ما يسدّ الرمق، ويحفظ الحياة]. خاتمة في بعض ما يحلّ وما يحرم: نذكر، ـ إتماماً للفائدة، وإضافة لما ذكرنا سابقاً ـ بعض ما يحرم أكله، وما يحلّ على سبيل التعداد فقط. 1 - ما يحرم: ا- تحرّم الحشرات كلها؛ وهي صغار دواب الأرض، وصغار هوامّها: كالنمل والذباب، والخنافس، والحيات، والدود، والبقّ، والقمل، والصُّرصُر، والوزغ: وهو سامُّ أبرصَ، وغيرها. وذوات الإبر والسموم: كالنحل، والزنبور، والعقرب، وغيرها. إلا ما استثنى من ذلك: كالجراد، والقنفذ، والضَّبّ، واليربوع. ويعفى عن دود الخلّ، والفاكهة إذا أكل معهما. ب- يحرم من الطيور: الببَّغا: وهو طائر أخضر، له قوة حكاية الأصوات، وقبول التلقين. والطاووس: وهو طائر: يحبّ الزهو بنفسه، والخيلاء، والإعجاب بريشه. والرَّخَمَة: وهي طائر يشبه النسر في الخلقة. والبُغَاثة: طائر أبيض بطئ الطيران أصغر من الحدأة، له مخلب ضعيف. والخُطَّاف: وهو طائر أسود الظهر، أبيض البطن يأوي إلى البيوت في الربيع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 والخُفَّاش، ويقال له الوطواط: وهو طائر صغير، لا ريش له، يشبه الفأرة، يطير بين المغرب والعشاء. ج- كل متنجس لا يمكن تطهيره: وهو كل مائع وقعت فيه نجاسة: كخل، وزيت، ودبس، وغيرها. د- ما يضرّ البدن: كالأحجار، والتراب، والزجاج، والسم، والأفيون وغيرها. 2 - ما يحلّ: ا- ويحلّ: النعامة، والبط، والإوَز، والدجاج، وغراب الزرع، والقطا، والحجل، والحمام ـ وهو كل ما عَبَّ وهَدَر ـ وما على شكل عصفور، وإن اختلف لونه ونوعه: كعندليب، وزرزور، وبلبل، وغيرها. [معنى عَبَّ: شرب الماء من غير تنفس، بأن شرب جرعة بعد جرعة من غير مص. وهدر: رجع الصوت]. ب- كل طاهر لا ضرر فيه، ولا هو مما تعافه الأنفس، وتستقذره: كالزهور، والثمار، والحبوب، والبيض، والجبن، وغيرها. أما ما تعافه الأنفس، وتستقذره فحرام، كالمخاط، والمِني وغيرهما. ج- ألبان الحيوانات المأكولة اللحم، أما ألبان غير مأكول اللحم فحرام، إلا لبن الإنسان فطاهر، ويحلّ أكله، وشربه, والله تعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 الأشربة المحرّمة والمخدرات الأصل في الأشربة الحلّ: الأشربة - مثلها مثلُ المأكولات والأطعمة - الأصل فيها الإِباحة والحلّ: لعموم قول الله عزّ وجلّ: [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً] (البقرة: 29). فكل ما نزل من السماء، أو نبع من الأرض، وكلما عُصر من ثمر، أو زهر، أو غير ذلك فهو حلال. قال الله تبارك وتعالى: [وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً] (الفرقان: 48 - 49). لكن يستثنى من عموم ما ذكر، ما دلَّ الدليل على حرمته. ما يحرم من الأشربة: وإنما يحرم من الأشربة: 1 - ما كان منها ضاراً، كالسم، وغيره، لأن ذلك يفسد الجسم، ويُتلفه. والله عزّ وجلّ يقول: [وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ] (البقرة: 195). ويقول سبحانه وتعالى: [وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً] (النساء: 29). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 2 - ما كان نجساً كالدم المسفوح، والبول، أو لبن ما لا يؤكل لحمه من الحيوانات، غير الإنسان، أو كان متنجساً كالمائع إذا وقعت فيه نجاسة، لما في ذلك من الضرر على الجسم، ولأنه مما تعافه الأنفس وتستقذره. قال الله عزّ وجلّ في ذكر المحرمات: [أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً] (الأنعام: 145). وروى البخاري في [الوضوء ـ باب ـ ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد، رقم: 216] ومسلم في [الطهارة ـ باب ـ وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد وأن الأرض تطهر بالماء من غير حاجة إلى حفرها، رقم: 484] عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أعرابياً يبول في المسجد، فقال: " دعوه حتى إذا فرغ دعا بماء فصبّه عليه". وفي رواية مسلم: (أمر رسول الله بذَنوب فصب على بوله). والأمر بصبّ الماء على بوله دليل نجاسته. والذنوب: الدلو المملوءة ماء. 3 - ما كان مُسكِراً، سواء كان خمراً، وهو المتخذ من العنب، أو كان غير خمر، وهو المتخذ مما سوى ذلك. وذلك لما ورد من نصوص ثابتة في تحريم كل مُسكِر. دليل تحريم المُسكِر: والأصل في تحريم المُسكِرات قول الله عزّ وجلّ: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (المائدة: 90). فالتعبير بالاجتناب أبلغ في النهي والتحريم من التعبير بتحريم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 الشرب، لأن تحريم الشرب، لا يتناول النهي عن التعامل به تحضيراً وشراءً وبيعاً. أما الأمر بالاجتناب، فهو تحذير من جميع وجوه التعامل به، بما في ذلك الشرب وغيره. كل مُسكِر حرام: والآية وإن كانت نصاً على الخمرة وحدها، وهي ما كانت متخذة من العنب، إلا أن سائر المُسكِرات الأخرى، داخلة في مضمون النص، وذلك لما يلي: 1 - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كلّ شراب أسكر فهو حرام". رواه البخاري في [الأشربة ـ باب ـ الخمر من العسل، وهو البتع، رقم: 5263] ومسلم في [الأشربة ـ باب ـ بيان أن كل مُسكِر خمر، رقم: 2001]. 2 - ولقوله عليه الصلاة والسلام، شارحاً المعنى المراد بكلمة (الخمر) في الآية: "كل مُسكِر خمر، وكل خمر حرام". رواه مسلم في [الأشربة ـ باب ـ بيان أن كل مُسكِر خمر]. فاختلاف الأسماء لا يُخرِج المُسكِرات عن حكم الخمر، وهو التحريم. 3 - لأن المعنى المسبِّب لتحريم الخمر، إنما هو وصف بالإسكار فيها، بإجماع المسلمين. فوجب أن يشترك معها في التحريم كل الأشربة المُسكِرة، أيّاً كان أصلها دون أيّ تفريق. روى أبو داود في [الأشربة ـ باب ـ في الداذي، رقم: 3688] وابن ماجه في [الفتن ـ باب ـ العقوبات رقم: 4020] عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ليشربَنَّ ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها". [الداذي: حبّ يلقى في العصير فيشتدّ ويُسرع إسكاره]. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 تحديد معنى السكر: المراد بالسُكْر: شدّة مُطْربة، تستر فاعليّة العقل، بنشوة تبعث على عدم الانضباط بمقتضيات الرشد واللياقة. والمراد المُسكِر: ما ثبت أن جنسه يسبّب الإسكار، بقطع النظر عن الكمية المشروطة لذلك. فكل ما ثبت أن شرب كمية منه يورث السُكْر، فلا يجوز تناول شيء منه مطلقاً، أي سواء كان القدر المتناوَل منه داخلاً في حدود الكمية المُسكِرة فعلاً، أو أقل منها. ولا عبرة أيضاً بالشارب، سواء سكر بذلك، أم لا. ويعبّر الفقهاء عن هذا المعنى، بالقاعدة المشهورة: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)؛ وهي نص حديث، رواه أبو داود في [الأشربة ـ باب ـ النهي عن المُسكِر، رقم: 3681] والترمذي في [الأشربة ـ باب ـ ما أسكر كثيره فقليله حرام، رقم: 1866] وابن ماجه في [الأشربة ـ باب ـ ما أسكر كثيره فقليله حرام، رقم: 3393] عن جابر - رضي الله عنه -. وروى الترمذي في [الأشربة ـ باب ـ ما أسكر كثيره، فقليله حرام، رقم: 1867] وأبو داود في [الأشربة ـ باب ـ النهي عن المُسكِر، رقم: 3687] عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كلّ مُسكِر حرام، ما أسكَر الفَرَق منه، فَمَلْءُ الكفّ منه حرام". [والفرق: مكيال كان معروفاً لديهم يسع ستة عشر رِطْلاً]. نجاسة المُسكِر: الخمر، وكل مائع مُسكِر، نجس في مذهب الشافعية. ودليل ذلك قول الله عزّ وجلّ: [إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ] (المائدة: 90). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 [والرجس في اللغة: القذر والنجس]. الحكمة من تحريم المسكرات: أنعم الله عزّ وجلّ على الإنسان بنعم كثيرة، في مقدمتها: نعمة العقل التي ميّزه، بل شرّفه بها على سائر الحيوانات الأخرى، وإنما تستقيم حياة الإنسان في معناها الشخصي، وصورتها الاجتماعية بواسطة العقل، وتكامله وسلطانه. والمُسكِرات ـ كما قد علمت ـ من شأنها أن تُؤدي بهذه النعمة، وتُفقِد الإنسان الكثير من فوائدها وثمراتها. فإذا غابت ضوابط العقل، ظهرت من ورائه رعونة النفس، وساد طيش الشهوات والأهواء، فثارت الشحناء والبغضاء، وانتشرت أسباب العداوة بين المسلمين، وتقطعت روابط الأخوة والمحبة بينهم. أضف إلى ذلك ما في الخمر من صدٍّ عن ذكر الله تعالى، وابتعاد عن أبواب رحمته، ومواطن فضله وإحسانه. وإلى هذا وذاك يشير قول الله عزّ وجلّ في كتابه العزيز: [إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ] (المائدة: 91). وهذا ما أكده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال: " اجتنبوا الخمر، فإنها مفتاح كل شر". أخرجه الحاكم في المستدرك [كتاب الأشربة ـ باب ـ اجتنبوا الخمر، 4/ 145]. وروى النسائي في [الأشربة ـ باب ـ ذكر الآثام المتولدة عن شرب الخمر، 8/ 315] عن عثمان - رضي الله عنه - موقوفاً: " اجتنبوا الخمر، فإنها أمّ الخبائث". أي أصل كل شر، ومنبع كل فساد. فتلك هي بعض الحكم من تحريم وسائر أنواع المُسكِرات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 ما يترتب على شرب المُسكِر: بعدما تبيّن لك المعنى المقصود بالمُسكِر، وعرفت حكم المُسكِرات على اختلافها، ودليل ذلك، والحكمة منه، فما هي الأحكام التي تترتب على شرب المسكر؟ يترتب على شرب المُسكِر حكمان اثنان: أحدهما: قضائي، يتحقق أثره في دار الدنيا. والثاني: دياني، لا يظهر أثره إلا يوم القيامة. فأما الأول: وهو حكم شرب المُسكِر قضاء: فهو استحقاق الشارب للحدّ. وأما الثاني: وهو حكمه ديانة: فهو الإثم الذي يستوجبه على ذلك. ولا نطيل في الحديث عن هذا الحكم الثاني، وهو الإثم، فإنه عائد إلى ما بين العبد وربّه جلّ جلاله، ولا يعود الأمر في ذلك إلى شيء من أقضية الدنيا وأحكامها، وإنما هو مرهون بقضاء أمر الله وحكمه. غير أنه من المتّفق عليه أن شرب المُسكِر عمداً من كبائر الإِثم، وعقوبته يوم القيامة عقوبة شديدة، ما لم يتدارك الله عبده بالمغفرة والصفح. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن على الله عزّ وجلّ عهداً لمن شرب المُسكِر أن يسقيه من طينة الخبال" قالوا يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: " عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار" رواه مسلم عن جابر - رضي الله عنه - في [كتاب الأشربة ـ باب ـ بيان أن كل مُسكِر خمر وأن كل خمر حرام، رقم: 2002]. حدّ شرب المُسكِر: حدّ شرب المُسكِر، خمراً كان أو غيره، أربعون جلدة، بالشروط التي سنذكرها. ويجوز أن يزيد الإمام إذا رأى ذلك، إلى أن يبلغ به ثمانين جلدة، ويكون ما زاد على الأربعين تعزيراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 ودليل ذلك ما رواه مسلم في [الحدود ـ باب ـ حدّ الخمر، رقم: 1706] عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -) كان يضرب في الخمر بالجريدة والنعال أربعين). [والجريد: أغضان النخيل إذا جُرِّدت من الورق]. وروى مسلم أيضاً في [نفس الموضع الذي سبق] عن أنس - رضي الله عنه -: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - جلد في الخمر بالجريد والنعال أربعين، ثم جلد أبو بكر - رضي الله عنه - أربعين، فلما كان عمر - رضي الله عنه -، ودنا الناس من الريف والقرى، قال: ما تَرَوْن في جلد الخمر؟ فقال عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: أرى أن تجعلها كأخفّ الحدود، قال: فجلد عمر ثمانين. ودل على أن الزيادة على الأربعين تعزيز، وليس بحدّ: ما رواه مسلم في [الأشربة ـ باب ـ حدّ الخمر، رقم: 1707] أن عثمان - رضي الله عنه -: (أمر بجلد الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط، فجلده عبدالله بن جعفر رضي الله عنهما، وعلي - رضي الله عنه - يعدُّ، حتى إذا بلغ أربعين، فقال أمسك، ثم قال: جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سُنّة، وهذا أحبُّ إلي) أي الاكتفاء بالأربعين، لأنه الذي فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أحوط في باب العقوبة، من أن يزيد فيها عن القدر المستحق، فيكون ظلماً. قال الفقهاء: فأما الأربعون الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهي الحدُّ الأساسي، وأما خبر أن عمر - رضي الله عنه - جلد ثمانين، فوجهه كما قال علي لعمر رضي الله عنهما: (نرى أن تجلد ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي وإذا هذي افترى). رواه مالك في [الموطأ، كتاب الأشربة ـ باب ـ الحدّ في الخمر]. [وحدّ افتراء ثمانون، ومثل هذا الحكم إنما يتم تعزيراً. هذي: تكلم بما لا ينبغي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 افترى: كذب واتهم غيره بالزنى]. لذلك كان المذهب على أن الأفضل الاقتصار على الأربعين، إذ هو الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا يقام الحدّ على مَن شرب الخمر حال سكره، لأنه لا يحصل به عندئذ المزجر، وإنما ينتظر ليستفيق من سكره، فيحدُّ، ليحصل به الانزجار عن تعاطي المُسكِر مرة أخرى. شروط ثبوت حدّ شرب المُسكِر: لا يثبت الحدّ على المتهم بشرب المُسكِر إلا بأحد أمرين اثنين: الأول: البينة الكاملة: وهي شهادة رجلين عدلين، فلا يثبت الحد بشهادة رجل وامرأتين، ولا بعلم الحاكم. بل لابد من شهادة رجلين اثنين عدلين. ودليل ذلك ما جاء في حديث مسلم في جلد عثمان - رضي الله عنه - للوليد بن عقبة: (فشهد عليه رجلان) [الأشربة ـ باب ـ حد الخمر، رقم: 1707]. الثاني: الإقرار: وذلك بأن يعترف أنه شرب مُسكِراً أو خمراً. والإقرار حجة تقوم مقام البينة. هذا، ويكفي الإطلاق في كل من الإقرار والشهادة، أي فيكفي في إقراره أن يقول: شربت مسكراً. ويكفي في الشهادة، أن يقول الشاهدان: إنه شرب مسكراً. فلا يشترط أن يقول هو: شربته عالماً مختاراً، أو يقول الشاهدان شربه عالماً مختاراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 إذ الأصل أنه لم يشربه إلا وهو عالم بكونه مسكراً، ومختاراً، فإن تبين أنه أُكره على شربه بتهديد أو جرت الخمر في حلقه، وتبين أنه لم يعلم أنها خمر، لم يجز حده. ودليل ذلك عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه" رواه ابن ماجه في [الطلاق ـ باب ـ طلاق المُكره، والناسي، رقم: 2045] عن ابن عباس رضي الله عنهما. ولا يدخل في حكم شيء من البيّنات، أو الإقرار: القيء، ولا الإستكناه؛ وهو شم رائحة المسكر من الفم، لاحتمال عذر، من نحو غلط، أو إكراه. وإذا وقع الاحتمال، لم يجز الحد. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلّوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة". أخرجه أبو داود في [الحدود ـ باب ـ ما جاء في درء الحدود، رقم: 1424]. من يتولى تنفيذ الحدّ: حد الشرب ـ كغيره من الحدود ـ إنما يتولى تنفيذه الحاكم. فلو لم يعلم الحاكم بالأمر، أو لم يثبت عنده موجب الحد، لم يجُزْ لغيره من عامّة الناس أن يتولى عنه إقامة الحدّ، درءاً للفتنة. ولا يكلف شارب الخمر، أو مستحق الحدّ، أياً كان أن يعرض نفسه للحدّ أمام القضاء. بل يكفيه أن يتوب توبة صادقة بينه وبين ربه سبحانه وتعالى. روى البخاري في [المحاربين ـ باب ـ إذا أقرّ بالحدّ ولم يبين، رقم: 6437] ومسلم في [التوبة ـ باب ـ قوله إن الحسنات يذهبن السيئات، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 رقم: 2764] عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاءه رجل، فقال: يا رسول الله، إني أصبت حداً، فأقمه عليّ، قال: ولم يسأل عنه، قال: وحضرت الصلاة، فصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة، قام إليه الرجل، فقال: يا رسول الله، إني أصبت حداً فأقم فيَّ كتاب الله، قال: قال: " أليس قد صلّيت معنا"؟ قال: نعم، قال: " فإن الله قد غفر لك ذنبك، أو قال: حدَّك". وفي حديث مشابه عند مسلم، [رقم: 2763] قال عمر - رضي الله عنه - للرجل: (لقد سترك الله لو سترت نفسك)، قال ذلك على مسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينكره عليه. فدل على أن هذا هو المطلوب في شرع الله عزّ وجلّ، أن يستر الإنسان على نفسه، ويتوب بينه وبين ربه تبارك وتعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 المخدرات المختلفة معنى التخدير: الخَدَرُ: مأخوذ من الخِدْر، وهو السِّتر من بيت ونحوه. والمراد بالتخدير هنا: الحالة التي تغشي العقل والفكر من الكسل والثقل والفتور، فكأنه يستتر بشيء. والمخدرات: كل ما يسبب هذه الحالة للعقل: من بنج، وأفيون وحشيشة، ونحوها. حكم المخدرات: يحرّم تعاطي المخدرات على اختلافها، كيفما كان تعاطيها، لما فيها من الإضرار بالعقل والجسم، ولما تستلزم من الأمراض والنتائج الضارّة المختلفة، التي لم تعد خافية على أحد، فهي داخلة ـ من حيث التحريم ـ في حكم المُسكِرات التي مرّ ذكرها. روى أبو داود في [الأشربة ـ باب ـ النهي عن المُسكِر، رقم: 3686 عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل مُسكِر، ومفتر) وأخرجه أحمد في المسند [6/ 309]. عقوبة تناول المخدرات: إن عقوبة المخدرات الدنيوية لا تتجاوز التعزير. وعقوبة التعزير مفوَّضة من حيث نوعها وشدتها، إلى ما يراه القضاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 الإسلامي العادل؛ من سجن أو ضرب، أو تقريع أو نحو ذلك، بشرط أن لا يبلغ به الضرب أدنى حدّ من الحدود الشرعية. حالات استثنائية: هناك حالات استثنائية تخرج من عموم حكم الخمر والمخدر، نذكرها فيما يلي: الحالة الأولى: حالة الضرورة: غصّ بلقمة طعام، وليس حوله ما يسيغها به إلا جرعة خمر، أو نحوها من المسكرات، جاز له أن يسيغ لقمته تلك، بجرعة الخمر، اتقاء الهلاك. قال الله عزّ وجلّ: [فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (الأنعام: 145). الحالة الثانية: التداوي: وصف الطبيب دواء للمريض، وكان ممزوجاً بمُسكِر مزجاً استهلك صفات المسكر، وخصائصه، وليس في الظاهر دواء آخر يقوم مقامه، جاز للمريض تناوله للضرورة، والحاجة لذلك. أما المُسكِر الذي لم يستهلك في غيره من الأدوية، فلا يجوز تناوله للاستشفاء، وإن أشار به الطبيب، أو أمر بذلك. وقد ثبت أن المُسكِر الصافي لا يمكن أن يكون الدواءَ الذي لا يقوم مقامه غيره لمرض ما. بل إن الأضرار الكامنة فيه تزيد على ما قد يُظن فيه من فائدة وخير. روى ابن ماجه في [الطب ـ باب ـ النهي أن يتداوى بالخمر، رقم: 3500] عن طارق بن سويد الحضرمي - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله، إن بأرضنا أعناباً نعتصرها، فنشرب منها؟ قال: " لا " فراجعته، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 قلت إنا نستشفي به للمريض؟ قال: " إن ذلك ليس بشفاء، ولكنه داء". وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده: [4/ 311، 5/ 293]. وروى البخاري تعليقاً عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم). [الأشربة ـ باب ـ شراب الحلوى والعسل]. الحالة الثالثة: العمليات الجراحية: اضطر الطبيب إلى الاستعانة بمخدر من أجل إجراء عملية جراحية، ونحوها للمريض، بمعنى أن المريض لا يكاد يتحمّل ألم الجراحة بدون مخدر: (والآلام الشديدة تنزل منزلة الضرورة) فلا مانع في مثل هذه الحالة من الاستعانة بالمخدر سواء كان على كيفية حقنة، أو شرب، أو ابتلاع. والله تعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 اللِّبَاسُ والزّينَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 اللِّبَاسُ والزّينَة الأصل في أحكام اللباس والزينة الحلّ: إن الأصل في أحكام اللباس والزينة، سواء كان في البدن، أو في الثياب، أو المكان، إنما هو الحلّ والإباحة. وذلك عملاً بعموم الأدلة التي تحمل منَّة الله تعالى على عباده، فيما خلق لهم، وأنعم به عليهم، لينتفعوا به في حياتهم الدنيا، لباساً، وتزيناً واستعمالاً، وتنعماً. قال الله تبارك وتعالى: [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً] (البقرة: 29). وقال عزّ وجلّ: [وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا] (إبراهيم: 34). وقال الله سبحانه وتعالى: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] (الأعراف: 32). وقال عزّ من قائل: [يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ] (الأعراف: 26). [يواري سوآتكم: يستر عوراتكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 وريشاً: قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما ظهر من الثياب والمتاع مما يلبس ويفرش]. وقال جل جلاله، ممتناً على عباده بما خلق لهم: [وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ * وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ] (النحل: 80 - 81). [سكناً: بيوتاً تسكنون إليها. يوم ظعنكم: يوم سيركم في أسفاركم. أثاثاً: الأثاث متاع البيت من الفرش والأكسية. أكناناً: جمع كِنّ: وهو ما يستكنّ فيه من شدة الحر والبرد: كالكهوف والأسراب. سرابيل: جمع سربال، وهي القُمُص والثياب. وسرابيل تقيكم بأسكم: هي الدروع تردّ عنكم سلاح عدوكم وتقيكم الجراح]. من هذه الأدلة وغيرها نعلم أن الأصل في كل ما كان من قبيل اللباس والزينة إنما هو الحلّ والإباحة، إلا ما استثنى من ذلك بنصوص خاصة. ما استثنى من عموم الحل: لقد استثنى من هذا العموم ما قامت الأدلة على تحريمه، ومنعت من استعماله. وسنقتصر على بعض ما استثنى من عموم الحل، وأَخَذ حكماً آخر وهو الحرمة، والمنع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 1 - تحريم الذهب والفضة في غير البيع والشراء ونحوهما لا يجوز استعمال الذهب والفضة في أي نوع من أنواع الاستعمال، ما عدا البيع والشراء، ونحوهما، فلا يجوز أن يتخذ منهما أواني للأكل والشرب، ولا أن يجعل منهما أدوات الكتابة، أو الاكتحال، أو تزيين البيوت، والمجالس، والمساجد، والحوانيت وغيرها، سواء كانت هذه الأشياء المستعملة من الذهب والفضة صغيرة أو كبيرة. وكما يحرّم استعمال الذهب والفضة فيما ذكر، يحرم اتخاذهما أيضاً في ذلك، ولو من غير استعمال، لأن ما حرم استعماله حرم اتخاذه. أدلة تحريم استعمال الذهب والفضة: وأدلة هذا التحريم كثيرة في صحاح السنّة، منها: ما رواه مسلم في [اللباس والزينة ـ باب ـ تحريم استعمال أواني الذهب، رقم: 2065] عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من شرب في إناء من ذهب أو فضة، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم". وروى مسلم في [اللباس والزينة ـ باب ـ تحريم استعمال إناء الذهب، رقم: 2067] عن حذيفة - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صِحافها، فإنها لهم في الدنيا" أي للكفار. حكم استعمال الأواني المضببة بالذهب والفضة: يحرم استعمال ما ضبب من الأواني بالذهب مطلقاً، سواء كانت الضبة كبيرة، أم صغيرة. وسواء ضبب في موضع الاستعمال، أو غيره. وأما التضبيب بالفضة، فإن كانت الضبة كبيرة لغير حاجة حرمت، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 وإن كانت صغيرة، أو كبيرة لحاجة جازت، سواء كانت الضبة في موضع الاستعمال، أو في غيره. ودليل هذا الجواز ما رواه البخاري في [الأشربة ـ باب ـ الشرب من قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - وآنيته] عن عاصم الأحول قال: رأيت قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وكان قد انصدع، فسلسله بفضة، قال: وهو قدح جيد عريض من نُضَار، قال: قال أنس - رضي الله عنه -: (لقد سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا القدح أكثر من كذا وكذا). [نضار: خشب جيد للآنية]. حكم استعمال الأواني المموَّهة بالذهب والفضة: التمويه ـ وهو الطلي ـ بالذهب والفضة، إن كان قليلاً بحيث إذا عُرِض على النار لم يتحصّل منه شيء، حلّ وإن كان كثيراً، بحيث يتحصّل منه شيء إذا عرض على النار حرم، ولم يجُز عندئذٍ استعمال الإناء المموّه، ولا اتخاذه. ويحرم تمويه وطلي سُقف البيوت، وجدرانها بالذهب والفضة، ولو كان ذلك قليلاً، لا يتحصّل منه شيء إذا عرض على النار. حكم استعمال الأواني المتخذة من المعادن النفيسة: يجوز استعمال الأواني المتخذة من المعادن النفيسة، غير النقدين - كالماس واللؤلؤ، والمرجان، والياقوت، والزمرد، والزجاج وغيرها - لعدم ورود نص بالنهي عنها، والأصل في هذه الأشياء الإباحة، ما لم يرد دليل التحريم، وليس ثمة من دليل. وقياسها على الذهب والفضة غير صحيح. الحكمة من تحريم أواني الذهب والفضة: قلنا سابقاً: إن من أعظم الحكم في هذا الموضوع، وأمثاله محض التعبّد والاختبار للناس. ومع هذا فقد يجد الباحث وراء ذلك حِكَماً أخرى نذكر منها: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 أ- إن الله عزّ وجلّ جعل النقدين أثماناً للناس، وربط بهما سهولة التعامل بينهم، فلم يُبِحْ لذلك تعطيلهما عن هذه الوظيفة، واتخاذهما أواني وتحفاً تجمد في المنازل والبيوت، وتضيّق أوجه التعامل بهما. ب- ما في ذلك من جرح لشعور الفقراء، وكسر لقلوبهم، حين يرون الأغنياء -من دونهم- يتخذون الذهب والفضة حلياً وزينة، يفخرون بهما ويتكبرون، ويختالون بهما، ويزهون. ج- منع الناس من الانكباب على هذه المعادن النفيسة، واتخاذها غاية يتنافسون في تكديسها، والتزين بها، ورصفها في بيوتهم، ومجالسهم وينسون أنها وسيلة وضعت في أيديهم، لقضاء حوائجهم، ومصالحهم الدنيوية. د- معارضة الكفار، ومخالفتهم، فيما هو من شأنهم، فإن من شأن الكفار الإعراض عن الآخرة، والانكباب على الدنيا ونعيمها. وقد جاء في الحديث: " وإياكم والتنعم، وزِيَّ أهل الشرك" رواه مسلم في [اللباس والزينة - باب - تحريم استعمال إناء الذهب، رقم: 2069] عن عمر - رضي الله عنه -. وقد ذكرنا حديث مسلم السابق: " ... فإنها لهم في الدنيا" أي للكفار. ما يستثنى من هذا التحريم: يستثنى من هذا التحريم أمور ثلاثة: الأول: اتخاذ النساء من الذهب والفضة حلياً للزينة، بالقدر المعتاد، من غير سرف ولا شطط. سواء كانت المرأة متزوجة، أم غير متزوجة، وسواء كانت صغيرة أم كبيرة، غنية أم فقيرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 ودليل ذلك ما رواه الترمذي في أول [كتاب اللباس -باب - ما جاء في الحرير والذهب، رقم: 1720] بسند حسن صحيح، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: " حُرِّم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأُحِلَّ لإناثهم". وقد أجاز العلماء أيضاً إلباس الصبيان الصغار الحلي والحرير في الأعياد وغيرها، لأنه لا تكليف عليهم. الثاني: اتخاذ خاتم من فضة، فقد صحّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتماً من فضة. روى مسلم في [اللباس والزينة -باب- في خاتم الورق فصه حبشي، رقم: 2094] والترمذي في [اللباس -باب- ما جاء في خاتم الفضة، رقم: 1739] عن أنس - رضي الله عنه -، قال: (كان خاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ورِق، وكان فصُّه حبشياً). [ورق: فضة. فصه حبشياً: حجراً من خرز في بياض وسواد، أو من عقيق معدنه من الحبشة، وقيل لونه حبشيّ]. وروى البخاري ومسلم عن أنس - رضي الله عنه -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان خاتمه من فضة، وكان فصه منه). ورويا عنه أيضاً: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتماً من فضة، ونقش فيه: محمد رسول الله، وقال: " إني اتخذت خاتماً من وَرِق، ونقشت فيه: محمد رسول الله، فلا ينقُشنَّ أحد على نقشه". وعند البخاري: (وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر). البخاري في [اللباس- باب- قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينقش على نقش خاتمه، وباب- هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 رقم: 5539، 5540] ومسلم في [اللباس والزينة -باب- تحريم خاتم الذهب على الرجال، رقم: 2092] والترمذي في [اللباس -باب- ما جاء في نقش الخاتم، رقم: 1748]. أما خاتم الذهب للرجال فحرام مطلقاً. ودليل ذلك ما رواه مسلم في [نفس الموضع السابق: 2090] عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى خاتماً من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه، وقال: " يعمد أحدكم إلى جمرة من نار، فيجعلها في يده" فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا آخذه أبداً وقد حرّمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: حالة الضرورة، وذلك إذا لم يجد غير آنية من ذهب أو فضة فإنه يباح له عندئذٍ استعمالها للضرورة. ومثل هذا ما لو جدع أنفه، فاستعاض عنه أنفاً من ذهب، أو احتاج أن يشد أسنانه بالذهب، فإنه يباح في هذا وأمثاله من حالات الضرورة استعمال الذهب. ودليل ذلك ما رواه الترمذي، بسند حسن غريب في [أبواب اللباس -باب- ما جاء في شدّ الأسنان بالذهب، رقم: 1770] عن عَرْفَجَة بن أسعد - رضي الله عنه -، قال: (أصيب أنفي يوم الكُلاب في الجاهلية، فاتخذت أنفاً من وَرِق فأنتن عليَّ، فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن اتخذ أنفاً من ذهب). وأخرجه أبو داود أيضاً في [كتاب الخاتم -باب- ربط الأسنان بالذهب، رقم: 4232]. تهاون في حكم الله عزّ وجلّ: لقد تهاون كثير من المسلمين في حكم الله عزّ وجلّ في تحريم الذهب والفضة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 فاستباحوا لأنفسهم هذه المخالفة لحكم الدين، ولم يروا حرجاً في اقتحامهم جدران هذه المحرمات فلبس كثير منهم الذهب في أيديهم، ووضعوا سلاسل الذهب في أعناقهم، ولم يستشعروا أنهم إنما يضعون جمراً من النار في أيديهم وأعناقهم. ويستمطرون غضب الله تبارك وتعالى بأعمالهم هذه، ولم يدركوا أنهم ضحية التقليد الأعمى للكافرين والمشركين. إن لبس خاتم الذهب بدعوى إظهار الخطبة، أو إعلان الزواج أمر باطل لا يقرّه الدين، ولا دليل، وليس لهؤلاء من سند إلا التقليد السخيف، والتبعية العمياء، كما أن كثيراً من الأغنياء والمترفين أبوا إلا أن يكونوا أرقاء للمظاهر الفارغة، والسرف الممقوت، فاستعملوا أواني الذهب والفضة في مطاعمهم ومشاربهم وموائدهم، وحفلاتهم، ونسوا أن الله عزّ وجلّ قد حرّم هذا، وتوعدهم عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. 2 - تحريم لبس الحرير للرجال والحرير أيضاً حرام على الرجال لبساً، واستعمالاً في أي وجه من وجوه الاستعمال: كالجلوس عليه، والتستر، والتدثر به، لكنه حلّ للنساء والصغار، ودليل ذلك ما رواه أبو داود في [اللباس -باب- في الحرير للنساء، رقم: 4057] وابن ماجه في [اللباس -باب - لبس الحرير والذهب للنساء، رقم: 3595] وغيرهما عن علي - رضي الله عنه -، قال: أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - حريراً فجعله في يمينه، وأخذ ذهباً فجعله في شماله، ثم قال "إن هذين حرام على ذكور أمتي". وروى الترمذي بسند حسن صحيح في أول [كتاب اللباس -باب- ما جاء في الحرير والذهب، رقم: 1720] عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " حُرِّم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأُحلّ لإناثهم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 الحكمة من تحريم الحرير على الرجال: ولعلّ الحكمة من هذا التحريم- عدا التعبّد - ما في لبس الحرير من الخيلاء والكِبَر، وما فيه من التأنّث والتخنّث، والبعد عن صفات الرجولة، فإن الرجل لم يخلق لينشأ في الحلية، ويختال بأثواب الزينة، ويظهر بمظهر النعومة والليونة، المُفْضية إلى التشبّه بالنساء، والقعود عن عظائم الأمور، وإنما خُلِق للحياة، يعارك الصعاب، ويقوم بالمهمات، ويصبر في الملمّات، وهذا يتطلب نوعاً من الخشونة، والبعد عن الليونة، والترف والتخنث والميوعة. ما استثنى من هذا التحريم: يستثنى من هذا التحريم للحرير على الرجال حالتان: الحالة الأولى: حالة الضرورة، وهي ما إذا كان لم يجد غيره، لستر عورته، أو وقاية جسمه من الحر، أو البرد، فإنه عندئذٍ يُباح لبس الحرير، ريثما يجد غيره، لأن الضرورات تُبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها. الحالة الثانية: الحاجة إلى لبسه، لدفع ضرر، كما إذا كان في الإنسان مرض، وكان لبس الحرير يُسارع في شفائه، أو يخفف من آلامه. ودليل ذلك ما رواه البخاري في [اللباس- باب - ما يرخص للرجال من الحرير للحكّة، رقم: 5501] ومسلم في [اللباس والزينة -باب - إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكّة أو نحوها، رقم: 2076] واللفظ له، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رخّص لعبدالرحمن بن عوف، والزبير بن العوّام رضي الله عنهما في القُمُص الحرير في السفر من حكّة كانت بهما، أو وجع كان بهما). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 حكم لبس الحرير إذا كان مخلوطاً بغيره: إذا رُكِّب ثوب أو لباس من حرير وغيره، فإنه ينظر عندئذٍ للوزن بين الحرير وغيره. فإن كان الحرير في الثوب أكثر وزناً من غيره حرم لبس هذا الثوب واستعماله على الرجال، وإن كان وزن غير الحرير أكثر حلّ لبسه واستعماله. لأن الحكم إنما يدار على الأكثر منهما، فيُسمى باسمه، ويعطى حكمه. فإن استوى وزن الحرير وغيره، حَلّ لبسه واستعماله، ترجيحاً لجانب الحل، لأنه الأصل. وبناءً على هذا، فإنه يحلّ تطريف الثوب بالحرير، أي جعل طرفه مسجفاً بالحرير، بالقدر المعتاد، كما يجوز ترقيع الثوب، وتطريزه بحرير شريطة أن لا يجاوز ذلك قدر أربع أصابع مضمومة، أما إذا جاوزها فإنه لا يحل. ودليل ذلك ما جاء في مسلم في [اللباس والزينة - باب - تحريم إناء الذهب والفضة ... ، رقم: 2069] أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أخرجت جُبَّة طَيَالِسَة كِسْرَوانيّة، لها لبنة ديباج، وفرجيها مكفوفين بالديباج، فقالت: هذه كانت عند عائشة رضي الله عنها، حتى قبضت، فلما قبضت، قبضْتُها، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها). [كسروانية: نسبة إلى كسرى ملك الفرس. لبنة ديباج: رقعة حرير في جيبها. وفرجيها مكفوفين: أي جعل لهما كفة، وهي ما يكفّ به جوانبها، ويعطف عليها، ويكون ذلك في الذل، وفي الفرجين، وفي الكمين]. وروى مسلم عن سويد بن غفلة، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، خطب بالجابية، فقال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير، إلا موضع إصبعين أو ثلاث، أو أربع). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 تعليق ستائر الحرير على الأبواب والجدران: يحرم تعليق ستائر الحرير على الأبواب، والجدران، وغيرهما ويستوي في هذا التحريم الرجال والنساء، لما في ذلك من الكبر والخيلاء. ولكن العلماء استثنوا من ذلك الكعبة المشرفة، فأجازوا كسوتها بالحرير، لفعل السلف والخلف لذلك من غير نكير. ولا يلحق بها غيرها من سائر المساجد والبيوت. 3 - تحريم الخضاب بالسواد يرحم صبغ شعر الرأس واللحية بالسواد للرجال والنساء. ويستحب خضاب الشيب، وصبغ الشعر بغير السواد للرجال والنساء، بصفرة، أو حمرة. ودليل ذلك ما رواه مسلم في [اللباس والزينة - باب - استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة، وتحريمه بالسواد، رقم 2102] وغيره عن جابر - رضي الله عنه -، قال: أتي بأبي قحافة يوم الفتح، ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد". [الثغامة: نبت له زهر أبيض، شبه بياض الشيب به. أبو قحافة: والد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، واسمه عثمان أسلم عام الفتح]. وروى الترمذي في [اللباس -باب - ما جاء في الخضاب، رقم: 1752] عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود". وروى البخاري في [اللباس - باب - الخضاب، رقم: 5559] ومسلم في [اللباس والزينة -باب - في مخالفة اليهود في الصبغ، رقم: 2103] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم". [الخضاب: الصبغ]. حكمة تحريم الخضاب بالسواد: ولعل الحكمة من تحريم الصبغ بالسواد إنما تعود لِما في الخضاب به من التزوير، وتغيير الواقع، فإن السواد يجعل من الكبير صغيراً، ومن المسنّة شابة، في أعين الناس، فيظنون أمرهما على خلاف ما هو عليه في الواقع. أما ما عدا السواد، فقد لا يصل إلى هذا الحد من التغير، والتغرير، والتزوير. ونقول بعد هذا: إن عامة هذه الموضوعات، إنما تقوم أحكامها على محض التعبد، وعلى الامتثال، والاختبار الخالصين. 4 - تحريم مواصلة الشعر وصل الشعر بشعر آخر حرام على الرجال والنساء، أيامى أو متزوجين، للتجمّل أو غيره، وهو كبيرة من الكبائر، لورود اللعن لفاعِله، والمعاون فيه. لذلك قال الفقهاء: إن وصلت المرأة شعرها بشعر آدمي، امرأة كان أو رجلاً، محرماً أو زوجاً، فهو حرام، لعموم الأدلة، ولأنه يحرم الانتفاع بشعر الآدمي وسائر أجزائه لكرامته، بل يدفن شعره وظفره، وسائر أجزائه إن فصلت منه حال الحياة. وإن وصلته بشعر غير الآدمي، فإن كان شعراً نجساً، وهو شعر الميتة، أو شعر ما لا يؤكل لحمه إذا انفصل في حال حياته، فهو حرام أيضاً لعموم النهي عن ذلك، ولأنه حمل نجاسة في الصلاة، وغيرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 وأما الشعر الطاهر من غير الآدمي، فإن لم يكن لها زوج فهو حرام، وإن كان لها زوج، فإن فعلته بإذنه جاز، وإن فعلته بغير إذنه لم يجز. أما تحمير الوجه، وتطريف الأصابع، فإن أذن به الزوج جاز، وإن لم يأذن لم يجز. أما وصل الشعر بخيوط من الحرير، ونحوه، مما لا يشبه الشعر فجائز، وليس منهياً عنه، لأنه ليس له حكم الوصل، إنما هو مجرد الزينة. دليل تحريم الوصل: ويدل على حرمة الوصل ما رواه البخاري في [اللباس -باب - الوصل في الشعر، رقم: 5591] ومسلم في [اللباس والزينة - باب - تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، رقم: 2122] عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إن لي ابنة عُرَيِّساً، أصابتها حَصْبة فتمرَّق شعرها، أفأصِله؟ فقال: " لعن الله الواصلة والمستوصلة". [عريساً: تصغير عروس. حصبة: مرض. تمرق شعرها: تساقط من مرض الحصبة. الواصلة: التي تصل الشعر بشعر آخر. المستوصلة: التي تطلب أن يفعل بها ذلك]. حكمة تحريم الوصل: ولعل الحكمة في تحريم الوصل في الشعر إنما هي التزوير في الحقيقة، والتغير للخلقة، والتظاهر بغير ما عليه الحل في الواقع. روى البخاري في [اللباس - باب- الوصل في الشعر، رقم: 5594] ومسلم في [اللباس والزينة - باب - تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، رقم: 2127] عن سعيد بن المسيب - رضي الله عنه -، قال: قدم معاوية - رضي الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 عنه - آخر قدمة قدمها، فخطبنا، فأخرج كبة من شعر، قال: ما كنت أرى أحداً يفعل هذا غير اليهود، (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماه الزور). يعني الواصلة في الشعر. فالحديث واضح في علة التحريم، وهي التزوير والتغرير، وتغير الحقيقة. 5 - تحريم الوشم، والنمص، والتفليج الوشم: هو أن تغرز إبرة، أو نحوها في ظهر الكف، أو المعصم، أو الوجه، أو الشفة، أو غير ذلك من البدن، حتى يسيل الدم، ثم يحشى محل الغرز بكحل، ونحوه، فيخضرّ. النمص: نتف الشعر من الوجه. التفليج: تفريق ما بين الثنايا والرباعيات من الأسنان بالمبرد، ونحوه. وهذه الثلاثة - الوشم، والنمص، والتفليج - حرام على الرجال والنساء، لا فرق بين الفاعل والمفعول به، ذلك لورود اللعن عليه، ولا يلعن إلا على فعل محرّم، بل على كبيرة من الكبائر. قال الفقهاء: والموضع الذي وشم يصير متنجساً، لانحباس الدم فيه. فإن أمكن إزالته بالعلاج، وجب، وإن لم يمكن إلا بالجرح، فإن خيف منه حدوث ضرر، أو عيب فاحش في عضو ظاهر، كالوجه، والكفين، وغيرهما، لم تجِب إزالته وتكفي التوبة في سقوط الإثم، وإن لم يخف شيء من ذلك، لزم إزالته، ويعصي بتأخيره. دليل تحريم الوشم، والنمص، والتفليج: ويستدل على تحريم كلٍّ من الوشم، والنمص، والتفليج بما رواه البخاري في [اللباس - باب - المتفلجات للحسن، رقم: 5587] ومسلم في [اللباس والزينة - باب -تحريم فعل الواصلة والمتوصلة، رقم: 2122] عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: (لعن الله الواشمات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 والمُستوشمات، والمتنمِّصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله، ما لي لا ألعن من لعنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله " [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا]. وروى البخاري في [اللباس - باب - الوصل في الشعر، رقم: 5593] ومسلم في [اللباس والزينة - باب - تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، رقم: 2124] عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة". ما يستثنى من تحريم ما سبق: يستثنى من تحريم النمص، إزالة ما نبت في وجه المرأة، من لحية، وشارب، فلا يحرم إزالتهما، بل يستحب، لأن النهي إنما هو لما في الحواجب، وما في أطراف الوجه. وكذلك إذا احتيج إليه لعلاج، أو عيب في السن، فلا بأس به، لأن المحرّم إنما هو المفعول لطلب الحسن، والتجميل، والتغيير لخلق الله عزّ وجلّ. حكمة تحريم الوشم والنمص والتفليج: والحكمة من هذا التحريم لكلٍّ من الوشم، والنمص والتفليج، إنما هي ما جاء مصرَّحاً به في الحديث السابق، وهو تغيير خلق الله سبحانه وتعالى، ولأنه تزوير، وتدليس، وإبهام بغير ما عليه الأمر في واقع الحال. 6 - تشبه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال: تشبّه الرجال بالنساء إنما يكون في اللباس والزينة، مثل لبس الأساور والأقراط، والأطواق. وكذلك في الكلام والمشي: كتكلّف التثني والتكسر، وترقيق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 الصوت، وتليين الكلام، وغير ذلك مما تكون عليه النساء في العادة. وتشبّه النساء في الرجال إنما يكون بالزي، وبعض الصفات: كتكلف الخشونة والرجولة، وحلق الشعر، ونحو ذلك مما عليه الرجال في العادة. حكم هذا التشبّه: وهذا التشبّه من كلٍّ من الجنسين بالآخر حرام، بل هو كبيرة من الكبائر، لورود اللعن لفاعله. وهو أيضاً من المنكرات التي انتشرت وشاعت بين المسلمين - ولا حول ولا قوة إلا بالله -. وهو في الحقيقة مسخ لحقيقة الأمة، وانحطاط عمّا تقتضيه حياته، من العزّة والكرامة، ولاسيما أيام محنة الأمة، وتكالب الأعداء عليها، وتربصهم بها. دليل تحريم هذا التشبّه: ويدلّ على حرمة تشبّه كلٍّ من الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، ما رواه البخاري في [اللباس - باب - المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال، رقم: 5546] عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال). وروى البخاري أيضاًُ في [اللباس - باب - إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت، رقم: 5547] عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (لعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: المخنثين من الرجال، والمترجِّلات من النساء، وقال أخرجوهم من بيوتكم). [المخنثين: جمع مخنث، وهو الذي في مِشْيته تثنٍّ وتكسُّر، وفي كلامه رقة ولين. وإن كان ذلك خلقة، من غير تصنّع ولا تكلّف، فلا يلام عليه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 ولكن عليه أن يتكلف إزالة ذلك عن نفسه. وإن كان بقصد، وتكلّف، فهو المحرّم المذموم. المترجلات: النساء المتكلفات التشبّه بالرجال]. 7 - تحريم التصوير تصوير الإنسان والحيوان، وكلّ ما فيه روح حرام، وهو من كبائر الإثم، لأنه متوعَّد عليه بوعيد شديد في صريح السنّة الشريفة. لا فرق في هذا التحريم بين ما إذا كان هذا التصوير على ما يمتهن ويُهان أو على ما يعظم ويكرم. ولا فرق بين ما كان منه على بساط، أو ثوب، أو درهم، أو دينار، أو ورق، أو إناء، أو حائط، أو على غير ذلك. ولا فرق بين ما له ظل وما لا ظل له. فتصوير كل ما فيه روح حرام، كيفما كان، وعلى أي شيء كان. ويستوي في الحرمة المصوِّر، ومن تقدم إلى المصوِّر ليصوره، لأنه معاون له على المعصية، وإن كان عذاب المصور أكبر، وإثمه أعظم. أما تصوير ما لا روح فيه، كالشجر، والنبات، والجماد، فليس بحرام، ولا إثم في فعله. هذا حكم نفس التصوير. وأما اتخاذ ما فيه صورة حيوان، أو إنسان واقتناؤه، فنقول: إن كانت هذه الصور معلَّقة على حائط، أو منقوشة في ثوب مما لا يعدّ ممتهناً، فاتخاذها حرام، ولا يجوز إبقاؤها، بل يجب نزعها، وإزالتها من مكانها. وإن كانت في بساط يداس، أو وسادة ومخدّة يُتّكأ ويُجلس عليهما، ونحوهما مما يُمتهن، فليس بحرام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 ما يستثنى من تحريم اتخاذ الصور: يستثنى من عموم تحريم اتخاذ الصور أمران: الأول: الترخيص لصغار البنات والصبيان في لِعَب الأولاد. ودليل ذلك ما رواه مسلم في [كتاب فضائل الصحابة - باب - في فضل عائشة رضي الله عنها، رقم: 2440] عن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت تلعب بالبنات عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: وكانت تأتيني صواحبي، فكن يَنْقَمِعْنَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسرِّبُهنَّ إليَّ. [ينقمعن: يتغيبن حياء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهيبة. يسربهن: يرسلهن]. أي إن عائشة رضي الله عنها كانت تلعب بصور البنات، ومعها صواحبها، فإذا دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استترن واختفين حياءً منه وهيبة، فكان - صلى الله عليه وسلم - يأمرهنّ بالذهاب لعائشة رضي الله عنها يعلبن معها. الثاني: حالة الضرورة، فإذا دعت ضرورة، أو حاجة أمنية إلى اتخاذ صورة، جاز اتخاذها، ولكن بقدر الضرورة، والحاجة، لأن الضرورة، أو الحاجة تقدّر بقدرها. أدلة تحريم التصوير: ويستدل لحرمة تصوير الحيوان مطلقاً، بأدلة كثيرة من السنة الشريفة نذكر منها: ما رواه الترمذي في [اللباس -باب - ما جاء في الصورة، رقم: 1749] عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه -، قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصورة في البيت، ونهى أن يصنع ذلك). وروى البخاري في [اللباس -باب - عذاب المصورين يوم القيامة، رقم 5606] ومسلم في [اللباس والزينة - باب- لا تدخل الملائكة بيتاً فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 كلب ولا صورة، رقم 2109] عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أشدَّ الناس عذاباً يوم القيامة المصورون". وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم: أحيوا ما خلقتم". رواه البخاري في [اللباس - باب - عذاب المصورين يوم القيامة، رقم: 5607] ومسلم في [اللباس والزينة - باب - لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة، رقم: 2108] عن ابن عمر رضي الله عنهما. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: سمعت محمداً - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من صَوّر صورة في الدنيا، كُلِّف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ". رواه البخاري في [اللباس - باب - من صوّر صورة كُلِّف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، رقم: 5618] ومسلم في [اللباس والزينة - باب لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة، رقم: 2110]. وروى البخاري ومسلم في [نفس الموضع السابق] عن سعيد بن أبي الحسن، قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: إني رجل أصور هذه الصور، فأفتني فيها، فقال: ادْنُ مني، فدنا منه، ثم قال له ادْنُ مني، فدنا منه حتى وضع يده على رأسه، قال: أنبئك بما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " كل مصوِّر في النار يجعل له بكل صورة صوّرها نفساً، فتعذبه في جهنم". وقال إن كنت لابد فاعلاً، فاصنع الشجر، وما لا نفس له. وعن أبي طلحة - رضي الله عنه -، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: " إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة تماثيل". أخرجه البخاري في [بدء الخلق - باب - إذا قال أحدكم آمين، رقم: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 3053] ومسلم في [اللباس والزينة - باب - لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة، رقم: 2106]. حكمة تحريم الصور: إن تحريم التصوير، والنهي عنه أمر تعبدي في جملته، تعبد الله عزّ وجلّ به عباده، فليس لهم - إن أرادوا الخير لأنفسهم - إلا أن يقولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. ومع ذلك فقد نجد بعض الحِكَم لهذا التحريم: أذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الحكمة من النهي أن المصوّر يضاهي بعمله هذا خلق الله عزّ وجلّ من حيث الشكل والصورة، لذلك يقال له: أحْيِ ما خلقت، وليس بقادر على ذلك. ب إن هذه الصور والأصنام والتماثيل كانت تعبد من دون الله عزّ وجلّ، فلما جاء الإسلام بعقيدة التوحيد، وحرّم الشرك وحاربه، أغلق كل الأبواب التي قد يتسرب منها شيء من الشرك، وتعظيم غير الله سبحانه وتعالى إلى نفوس المؤمنين، ومن ذلك التصوير، سداً للذرائع، وعملاً بالأحوط. ج- إن ملائكة الله عزّ وجلّ لا يدخلون بيتاً فيه تلك الصور والتماثيل، فيحرم بهذا من يتخذ هذه الصور من بركة دخول الملائكة إلى بيته، ومن دعائهم واستغفارهم له، وصلاتهم عليه. وكفى بهذا الخسران حكمة موجبة، لتحريم هذه الصور، واتخاذها. حسرة وأسف: بعد هذا الذي ذكرناه، ونقلناه عن النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، من تحريم التصوير، والنهي عن اتخاذ الصور، نجد المسلمين - بكل حسرة وأسف - منغمسين في هذا الحرام، ومسترسلين في هذا المنكر، غير مبالين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 بصرخات الدين، ولا مهتمين بذلك الوعيد الشديد. فقلما تدخل بيتاً، أو حانوتاً إلا وتجد فيه صنماً مزخرفاً، أو صورة منمقة، معلقة، إما لأب أو لجد، أو لصاحب وصديق قد علقت في صدور المجالس، وأعالي الجدران. تجد هذا عند الرجال، وعند النساء، وعند الأغنياء، وعند الفقراء، عند من يسمون: بالمحافظين، وعند من لا يسمون بذلك، إلا من رحم ربك وقليل ما هم. يحتالون لذلك بفتاوى من هنا وهناك. وبأعذار، ما أنزل الله بها من سلطان، باسم الفن تارة، وباسم الذكرى تارة أخرى، وباسم الحب والتعظيم حيناً آخر، كأن الدين حينما حرم ذلك كان غافلاً عن هذه الأعذار والأوهام نسأل الله اللطف والسلامة ولا حول ولا قوة إلا بالله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 الكَفّارَات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 الكَفّارَات تعريف الكفارات: الكفارات لغة: جمع كفارة، والكفارة مأخوذة من الكَفْر، وهو الستر، وسميت الكفارة، بهذا الاسم لسترها الذنب، تخفيفاً من الله تعالى. والكفارة اصطلاحاً: فعل ما من شأنه أن يمحو الذنب: من عتق، وصدقة، وصيام، بشرائط مخصوصة. أدلة تشريع الكفارات: الكفارات مشروعة، وأدلة تشريعها من القرآن والسنة كثيرة: ففي القرآن الكريم، قال الله عزّ وجلّ في كفارة اليمين: [فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ .. ] (المائدة: 89). وقال تبارك وتعالى في شأن الإحصار في الحج: [أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ .. ] (البقرة: 196). وفي القتل الخطأ، قال الله عزّ وجلّ [وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ .. ] (النساء: 92). وقال سبحانه وتعالى في الظهار: [وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ .. ] (النساء: 92). وأما في السنة، فقد روى مسلم في [النذر - باب - في كفارة النذر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 رقم: 1645] عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " كفارة النذر، كفارة اليمين". وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه". رواه مسلم في [الأيمان - باب - ندب من حلف يميناً .. ، رقم: 165] عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وسيأتي مزيد من الأدلة عند البحث عن الكفارات إن شاء الله تعالى. حكمة تشريع الكفارات: الكفارات شرعاً هي جوابر للخلل الذي أوقعه الإنسان في تصرفاته. فهي ترميم لما قد أفسده وإصلاح لما قد أخطأ به، وإزالة لآثار ما قد ترتب على فعله. فكفارة القتل الخطأ مثلاً، فيها تعويض على المجتمع عما أزهق الإنسان من النفس، بإحياء نفس غيرها، وتخليصها من الرقّ، إذ الرقّ أشبه ما يكون حكماً بالموت. وفي الإطعام تخليص نفوس من الجوع والعوز والحرمات. والصيام تخليص للنفس من أدران السيئات، وسموٌّ بها إلى درجة التقوى، والبعد عن المنكرات. وكفارة الظهار مثلاً إحباط للزور الذي ارتكبه المُظاهر حين شبّه زوجته بأمه، واعتدى على حرمة خليلته. وكفارة اليمين محو لآثارها المترتبة على الحنث من لحوق الذنب به، وحصول الإثم منه. وهكذا نجد أن الكفارات فيها بعض التعويض عمّا فات، وإحداث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 ترميم لما وقع من المفاسد والخطيئات، وفتح باب القُرْب إلى الله عزّ وجلّ، والله أعلم. أنواع الكفارات: والكفارات شرعاً متعددة، ومتنوعة، وسنتناولها هنا بالتفصيل، وإن كان قد ذكر بعضها في بابه، وسيأتي ذكر بعضها الآخر في بابه أيضاً. ولقد رأينا أن نجمعها جميعاً هنا في بحث مستقل، تحت عنوان (الكفارات) تيسيراً على القارئ إذا أراد معرفتها، والوقوف على أحاكمها في مكان واحد، والله الموفق. 1 - كفارة إفساد الصوم بالجماع في رمضان الكفارة التي تَجِب بإفساد الصوم هي: 1 - عتق رقبة مؤمنة، أي نفس رقيقة، ذكراً كانت، أم أنثى، وهذا إنما يكون حيث يوجد الرقيق. وشرط هذه الرقبة - لتصح كفارة -: أ- أن تكون مؤمنة. ب- أن تكون خالية من العيوب التي تخل بالعمل والكسب: كالعمى والشلل، ونحوهما. 2 - الصوم إن لم يجد الرقبة، أو لم يقدر عليها، لنحو فقر، وغيره. ويجب صوم شهرين متتابعين. 3 - الإطعام إن لم يستطع الصوم، فيجب أن يُطعِم ستين مسكيناً، لكل مسكين مدّ من غالب قوت البلد. وهذه الكفارة مرتبة على الشكل الذي ذكرناه، فلا ينتقل إلى خصلة منها حتى يعجز عن التي قبلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 فإن عجز عن الكل، ثبتت الكفارة في ذمته حتى يقدر على خصلة منها. على من تجب كفارة إفساد الصوم: إنما تجب كفارة إفساد الصوم بالجماع في رمضان على الزوج المجامع، ولا تجب على الزوجة الموطوءة، وإن كانت صائمة، لأن جناية الواطئ أغلظ وأفحش، فناسب أن يكون الزوج هو المكلف بالكفارة. موجب هذه الكفارة: وموجب هذه الكفارة: هو إفساد صوم يوم من أيام رمضان بجماع بشرط أن يكون المجامع: أ- ذاكراً لصومه. ب- عالماً بالحرمة. ج- غير مترخص بسفر أو مرض. فمن فعل ذلك ناسياً، أو جاهلاً بالحرمة، أو أفسد صوماً غير صوم رمضان، أو أفطر متعمداً، ولكن بغير الجماع، أو كان مسافراً سفراً يخوله الإفطار فجامع فلا كفارة عليه في كل ذلك، وإنما يجب عليه القضاء فقط. النية عند أداء الكفارة: ويشترط عند أداء الكفارة النية، وذلك بأن ينوي العتق، أو الصوم، أو الإطعام عن الكفارة، لأنها حقٌّ مالي، أو بدني، يجب تطهيراً، كالزكاة والصيام، فلابدّ لصحتها من النية، لأن الأعمال بالنيات. فلا يكفي عند الأداء أن ينوي مُطلَق العتق، أو الصوم، أو الإطعام الواجب، لأن هذه الأشياء قد تجب عليه بالنذر، فلابد من تعينها. وجوب القضاء مع الكفارة: ومما ينبغي أن يعلم أنه يجب على المجامع في رمضان مع الكفارة القضاء لليوم الذي أفطره بالجماع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 وكذلك يجب القضاء على الزوجة الموطوءة، وإن كانت لا تجب عليها الكفارة. تعدد الكفارة: وكذلك يجب أن يعلم أن الكفارة، تتعدد، وتتكرر بتكرر الأيام التي أفطرها في رمضان بالجماع. فإذا جامع في يومين من رمضان لزمه - مع القضاء - كفارتان، وإذا جامع في ثلاثة أيام، لزمه، مع القضاء، ثلاث كفارات، وهكذا. دليل وجوب كفارة إفساد الصوم بالجماع في رمضان: ودليل وجوب هذه الكفارة ما رواه مسلم في [الصيام - باب - تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان، رقم: 1111] والبخاري في [الصوم، باب - إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء، رقم 1834] وغيرهما، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله هلكت. قال: " ما لك؟ " قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، في رواية في رمضان. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال لا. قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا فمكث النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبينما نحن على ذلك، أُتيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بفَرْق من تمر. قال أين السائل؟ فقال أنا، قال: فخذ هذا فتصدق به. فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله، فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك". [الفرق: وعاء ينسج من ورق النخل، وهو المكتل. لابتيها: حرتيها، وفي المدينة حرتان: شرقية، وغربية، والحرة الأرض ذات الحجارة]. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 قال العلماء: ولا يجوز للفقير الذي قدر على الإطعام، صرف ذلك الطعام إلى عياله، وكذلك غيرها من الكفارات. وما ذكر في هذا الحديث، فإنما هو خصوصية لذلك الرجل. 2 - كفارة المسافر والمريض إذا لم يقضيا الصوم من عامهما من فاته شيء من رمضان بسبب سفر، أو مرض، وجب عليه قضاؤه، في نفس العام الذي أفطر فيه، قبل حلول شهر رمضان من العام الذي يليه. قال الله عزّ وجلّ: [فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] (البقرة: 184). [أي فعليه صيام أيام أخر بعدد ما أفطر]. فإن لم يقض ما أفطر تساهلاً، حتى دخل عليه رمضان آخر، أثم ولزمه مع ذلك كفارة. وهذه الكفارة: هي: أن يُطعِم عن كل يوم مداً من غالب قوت البلد، يتصدق به على الفقراء. وتتكرر الكفارة بتكرّر السنين، فإذا أخّر القضاء حتى دخل رمضان ثانٍ لزمه مُدّان عن كل يوم مع القضاء، وهكذا. أما إن استمر عذره حتى دخل رمضان آخر، فلا شيء عليه إلا القضاء. فإن مات قبل أن يتمكن من القضاء، فلا شيء عليه. وإن مات بعد التمكّن من القضاء، ولم يقضِ صام عنه وليّه ندباً الأيام الباقية في ذمته، فإن لم يصم عنه وليه، أطعم من تركته وجوباً كل يوم مداً من غالب قوت البلد، وتبرأ ذمته عند الله عزّ وجلّ. ودليل ذلك ما رواه الترمذي في [أبواب الزكاة - باب - ما جاء في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 الكفارة، رقم: 718] عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (من مات وعليه صيام شهر، فليطعم عنه مكان كل يوم مسكيناً). وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من مات وعليه صيام صام عنه وليه". رواه البخاري في [الصوم - باب -من مات وعليه صوم، رقم: 1851] ومسلم في [الصيام - باب - قضاء الصوم عن الميت، رقم: 1147]. 3 - كفارة الكبير العاجز عن الصوم إذا اضطر الكبير العاجز عن الصوم إلى الفطر، كان له ذلك، ووجب عليه أن يتصدق عن كل يوم بمد من غالب قوت البلد، ولا يجب عليه ولا على أحد من أوليائه غير ذلك. ودليل ذلك ما رواه البخاري في [تفسير سورة البقرة - باب - قوله أياماً معدودات .. ، رقم: 4235] عن عطاء، أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ: [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ] (البقرة: 184). قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ليست بمنسوخه، هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان الصوم، فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً). 4 - كفّارة الحامل والمُرضِع إذا أفطرتا خوفاً على طفلهما إذا أفطرتا الحامل والمُرضِع خوفاً على طفلهما، وذلك بأن تخاف الحامل من إسقاط الحمل إن هي صامت، أو تخاف المرضع أن يقل لبنها، فيهلك الولد إن هي صامت، وجب عليها القضاء والكفارة: وهي أن تتصدق بمد من غالب قوت البلد عن كل يوم أفطرته، تعطيه للفقراء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 أما إذا أفطرتا خوفاً على نفسيهما، سواء خافتا مع ذلك على الولد أم لا، فلا يلزمهما إلا القضاء فقط، ولا كفارة حينئذٍ عليهما. 5 - كفارات الحج الكفارات في الحج على خمسة أقسام. وهي عبارة عن دماء واجبة، أو ما يقوم مقامها. وإليك هذه الكفارات بأقسامها الخمسة: القسم الأول: الدم المترتب المقدر: وهذا الدم إنما يجب بترك واجب من واجبات الحج: كالإحرام من الميقات، أو رمي الجمار، وغيرهما من واجبات الحج المعروفة. فإذا ترك واجباً مما ذكر، وجب عليه أولاً: ذبح شاة مجزئة في الأضحية. أو سُبع بقرة، أو سُبع بدنة. فإن لم يجد شيئاً من ذلك، وجب عليه أن يصوم عشرة أيام: ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. ويدخل في هذا القسم - وهو الدم المرتب المقدّر - دم التمتّع، ودم الفوات للوقوف بعرفة، بعد التحلل بعمرة. قال الله تبارك وتعالى: [فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ] (البقرة: 196). والتمتع: أن يُحرِم أولاً بالعمرة، ثم إذا أداها تحلل منها، ومكث حلالاً، فإذا أحرم بالحج أحرم به من مكة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 القسم الثاني: الدم المخير المقدّر: وهذا يجب عند فعل محظور من محظورات الحج: كحلق شعر، وتقليم ظفر، ولبس مخيط، وغير ذلك من محظورات الإحرام. ويجب على من فعل شيئاً من ذلك: ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو التصدق بثلاثة آصع على ستة من مساكين الحرم، لكل مسكين نصف صاع من بُر، أو شعير. ويكفي لوجوب هذه الكفارة، إزالة ثلاث شعرات، أو تقليم ثلاثة أظفار. ودليل هذا الدم قول الله عزّ وجلّ: [وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ] (البقرة: 196). [أي: فليحلق، وليَفْدِ. محله: مكان ذبحه، وهو منى، ووقته العاشر من ذي الحجة]. والآية السابقة نزلت في كعب بن عُجرة - رضي الله عنه -، قال: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية، وقد تناثر القمل على وجهي، فقال: " أيؤذيك هوام رأسك"؟ قال نعم. قال.: " احلق رأسك، وانسك شاة، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم فَرَقاً من الطعام على ستة مساكين". رواه البخاري في [الإحصار وجزاء الصيد - باب - قول الله تعالى فمن كان منكم مريضاً، رقم: 1719] ومسلم في [الحج، - باب- جواز حلق الرأس للمُحرِم إن كان به أذى، رقم: 1201]. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 [والفَرَق: ثلاثة آصع. والصاع: (2400) غراماً تقريباً. انسك شاة: اذبح شاة]. القسم الثالث: الدم المخير المعدل: وهو الدم الواجب بقتل صيد حالة الإحرام بحج أو عمرة، أو في الحرم، ولو من حلال. فمن فعل شيئاً من ذلك، وجب في حقه - إن كان للصيد مِثْل، أو شبه صوري-: أن يذبح المثل في الحرم من النعم. أو يشتري لأهل الحرم حباً بقدر قيمته، يوزعه على فقرائهم. أو يصوم عن كل مد يوماً. وإن لم يكن للصيد مثل، فهو مخير بين أمرين: الإطعام، أو الصيام. إلا الحمام، فيجب في الحمامة شاة. ودليل هذا القسم قول الله عزّ وجلّ: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ] (المائدة: 95). القسم الرابع: الدم المرتب المعدل: وهو الدم الواجب بالإحصار، فمن مُنع من الحج بعد إحرامه، تحلل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 بذبح شاة في مكانه الذي أحصر فيه مع نية التحلل، ثم يحلق رأسه، أو يقصر شعره. فإن لم يستطع، فليطعم بقدر ثمن الدم يوزعه على الفقراء. فإن عجز عن الإطعام صام عن كل مد يوماً. قال الله تبارك وتعالى: [وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ] (البقرة: 196). وفي الصحيحين: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحلل في الحديبية لمّا صده المشركون، وكان محرماً بالعمرة). رواه البخاري في [كتاب الحج - باب - طواف القارن، رقم 1558] ومسلم في [الحج - باب - بيان جواز التحلل بالإحصار، رقم: 1230]. ولابد من تقديم الذبح على الحلق، لقوله عزّ وجلّ في نفس الآية السابقة: [وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ]. لكنه لا ينتظر إلى انتهاء الصيام إن عجز عن ذبح الشاة، وعن الإطعام. القسم الخامس: الدم المرتب المعدل أيضاً: وهذا الدم هو الواجب بالوطء قبل الإحلال الأول، ويجب عليه أن: يذبح بعيراً، فإن عجز ذبح بقرة، فإن عجز ذبح سبع شياه، فإن عجز عن ذلك كله، قُوِّم البعير، واشترى بقيمته طعاماً، وتصدق به على فقراء الحرم. فإن عجز عن الإطعام صام عن كل مد يوماً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 هذا ولا يجزئ الذبح والإطعام إلا في الحرم، وأما الصيام فيصوم حيث شاء. والمراد بالترتيب في هذه الدماء: أنه لا يجوز أن ينتقل إلى الثاني إلا عند عجزه عن الأول، وهو ضد التخيير، فهو مفوّض إليه، أن يفعل ما يختاره والمراد بالتقدير فيها: أن الشرع قد قدر البدل المعدول إليه سواء كان ترتيباً أو تخييراً. ويقابله التعديل، ومعناه، أنه أمر فيه بالتقويم، والعدول إلى الغير بحسب القيمة. وإن أردت المزيد في هذا الموضوع، فارجع إلى الجزء الثاني، موضوع: (الإخلال بالحج) صفحة: 160. 6 - كفارة اليمين ومن حنث في يمين غموس، أو غير غموس، وجب عليه كفارة، وهو مخير فيها أولاً بين ثلاثة أشياء: 1 - عتق رقبة مؤمنة، ويكون هذا حيث يوجد الرقيق. 2 - إطعام عشرة مساكين طعاماً مشبعاً، من أوسط ما يطعم الإنسان أهله. 3 - كسوة عشرة مساكين، بما يسمى في العُرْف كسوة، فالمئزر، والجورب، وغطاء الرأس على أي شكل كان، كله يسمى كسوة. فإن عجز عن واحدة من هذه الأشياء الثلاثة التي هو مخير فيها، وجب عليه صيام ثلاثة أيام، ولا يشترط تتابعها. ودليل هذه الكفارة قول الله عزّ وجلّ: [لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] (المائدة: 89). 7 - كفارة النذر والنذر الذي تجب فيه الكفارة، إنما هو نذر اللجاج، وهو النذر الذي يقع حال الخصومة، وذلك أن يقول شخص، يريد الامتناع من كلام أحد من الناس، أثناء خصومة بينهما. يقول: إن كلمته فلله علي حجة. وحكم هذا النذر أن المعلق عليه إذا وقع، وجب على الناذر إنجاز ما نذره والتزمه، وهو الحج مثلاً، أو إخراج كفارة يمين، يختار واحداً منهما. وكفارة اليمين: عتق رقبة مؤمنة، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم بما يسمى في العرف كسوة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، ولا يشترط فيها التتابع، وقد مر دليل ذلك في كفارة اليمين. أما ما عدا ذلك من أنواع النذر، فالواجب على الناذر تحقيق ما التزمه، لا يغنيه عن ذلك شيء. دليل كفارة نذر اللجاج: ودليل كفارة هذا النذر، وهو نذر اللجاج، ما رواه مسلم في [النذر - باب - كفارة النذر، رقم: 1645] عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " كفارة النذر كفارة اليمين". 8 - كفارة الظهار والظهار: لغة، مأخوذة من الظهر. واصطلاحاً: أن يشبه الزوج زوجته في الحرمة بإحدى محارمه: كأمه وأخته، فيقول لزوجته: أنت علي كظهر أمي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 وقد كان العرب في الجاهلية يعتبرون الظهار أسلوباً من أساليب الطلاق. لكن الشريعة الإسلامية أعطت الظهار حكماً آخر، وبنت عليه أحكاماً أخرى غير الطلاق. والذي يعنينا في هذا المكان، إنما هو كفارة الظهار، أما أحكامه الأخرى، فستجدها في مكانها من بحث الظهار، في باب الطلاق. موجب كفارة الظهار: إذا نطق الزوج بلفظ الظهار، وهو تشبيهه زوجته بأحد محارمه، فإنه يُنظر: فإن اتبع كلامه هذا بالطلاق، فإن حكم الظهار يندرج في الطلاق، ولا يبقى للظهار أثر. أما إن لم يتبع الظهار بالطلاق، ولم يحصل منه ما يقطع النكاح، فإنه يعتبر عائداً في كلامه، مخالفاً لمقتضاه، وعندئذٍ تلزمه كفارة، يكلف بإخراجها على الفور. كفارة الظهار: وهي حسب الإمكان وفق ما يلي: 1 - عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب التي تمنع من الكسب والعمل. 2 - صيام شهرين متتابعين، وذلك إن لم يكن هناك رقيق كعصرنا اليوم، أو كان ولم يستطع ذلك. 3 - إطعام ستين مسكيناً، وذلك إذا لم يستطع الصوم، أو لم يستطع الصبر على تتابع الصوم؛ لهرم أو مرض. وهذه الخصال الثلاثة مرتبة على نحو ما ذكرنا، فلا ينتقل إلى واحدة منها، حتى يعجز عن التي قبلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 ومعنى كون المظاهر مطالباً بالكفارة على الفور، أنه لا يحلّ له وطء زوجته قبل التكفير بأي الأنواع الثلاثة المذكورة. دليل وجوب كفارة الظهار: ودليل وجوب هذه الكفارة، ما رواه أبو داود في [كتاب الطلاق - باب -في الظهار] وابن ماجه في [كتاب الطلاق - باب - الظهار] وغيرهما أن امرأة أوس بن الصامت - رضي الله عنه -، جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، تشكو إليه أن زوجها ظاهر منها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أراك إلا طلقت منه"، فقالت له: يا رسول الله، إن لي منه صبية، إن ضممتهم إلي جاعوا، وإن تركتهم إليه ضاعوا، وأخذت تجادله في الأمر، ولا يزيد على قوله: " ما أراك إلا قد طلقت"، فأنزل الله عزّ وجلّ أوائل سورة المجادلة: [قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (المجادلة: 1 - 4). 9 - كفارة القتل يجب على قاتل النفس المحرمة كفارة لحق الله عزّ وجلّ، سواء كان القتل عمداً، أو شبه عمد، أو خطأ، وسواء عفي أولياء المقتول عن الدية المستحقة، أو لم يعفوا، وسواء كان القاتل رشيداً، أو صبياً أو مجنوناً. وهذه الكفارة هي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 1 - عتق رقبة مؤمنة، سليمة من العيوب التي تضرّ بالعمل، أو الكسب. 2 - فإن لم يتمكن من عتق الرقبة، لعدم وجود الرقيق، أو لعدم قدرته على الإعتاق، فصيام شهرين متتابعين. فإن عجز عن الصيام، فإنه لا يجب عليه الإطعام لعدم وروده، بل تبقى الكفارة في ذمته حتى يقدر عليها. دليل وجوب كفّارة القتل: ودليل وجوب هذه الكفارة قول الله تبارك وتعالى: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً] (النساء: 92). فإذا وجبت الكفارة في القتل الخطأ، فوجوبها بالقتل العمد وشبه العمد أولى. وروى أبو داود في [كتاب العتق - باب - في ثواب العتق، رقم: 3964] وغيره، عن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - قال: أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في صاحب لنا أوجب - يعني النار - بالقتل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أعتقوا عنه رقبة يعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار". 10 - الكفارة بإقامة الحد من ارتكب ذنباً من الذنوب التي قدرت في الدين عقوباتها وحدودها: كالقتل والسرقة، والقذف، والزنى، وشرب الخمر، ثم أقيم عليه حد ذلك الذنب في الدنيا، فإن إقامة هذا الحد عليه يكون كفارة لذلك الذنب، ولو لم يتب منه، ولا يعاتب الله عزّ وجلّ عليه في الآخرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 دليل هذه الكفارة: ويستدل للتكفير بإقامة الحد على مرتكب الذنب بما رواه البخاري في [الأيمان - باب - علامة الإيمان حب الأنصار، رقم: 18] ومسلم في [الحدود - باب - الحدود كفارات لأهلها، رقم: 1709] عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال - وحوله عصابة من أصحابه-: " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم، فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا، فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً، ثم ستره الله، فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك". وروى الترمذي في [الإيمان - باب - ما جاء لا يزني الزاني وهو مؤمن، رقم: 2628] عن علي - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " من أصاب حداً فعجل عقوبته في الدنيا، فالله أعدل من أن يثني على عبده العقوبة في الآخرة، ومن أصاب حداً فستره الله عليه، وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود إلى شيء قد عفا عنه". والله سبحانه وتعالى أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى الجزء الرابع الأحوال الشخصية (أحكام الأسرة) الدكتور مصطفى الخن الدكتور مصطفى البغا علي الشربجي دار القلم دمشق بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله ربّ العالمين، حمداً يوافي نعمه، ويكافئ مزيده، سبحانك يا ربّنا لا نُحصي ثناء عليك أنَت كما أثنيت على نفسك. صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك سيدنا محمد صلاة تُرضيك وترضيه وترضى لها عنا برحمتك يا أرحم الراحمين. وارضَ اللَّهَم عن أصحاب نبيّك الذين اخترتهم لحمل هذه الشريعة، واصطفيتهم لتبليغ هذه الرسالة، فكانوا لذلك أهلاً، وغدوا لمن بعدهم قدوة صالحة، ونبراساً يُهتدى بنوره، ويُستضاء به. وارحم يا إلَهنا كل من سار على هداهم، واستنّ بسنتهم. اللَّهَم وفِّقنا للإقتداء، بنبيك - صلى الله عليه وسلم - والتمسك بسنّته، واحفظنا يا ربنا من الزلل، والعلل، والرياء، واجعل عملنا هذا خالصاً لوجهك الكريم، وأجُرنا عليه بما أنت له أهل، برحمتك وفضلك يا أرحم الراحمين. وبعد، فهذا هو الجزء الرابع في سلسة (الفقه المنهجي) على مذهب الإمام الشافعي، أودعنا فيه ما يتعلق بأحكام الأُسرة. وجعلناه سبعة أقسام: 1 - النكاح، وما يتعلق به. 2 - الطلاق وما يتعلق به، وما يشبهه من ظهار وإيلاء ولعان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 3 - النفقات وما يتعلق بها. 4 - الحضانة وأحكامها. 5 - الرضاع وأحكامه. 6 - النسب وأحكامه. ... 7 - اللقيط وأحكامه. والله نسأل أن نكون قد وُفِّقنا للصواب، وتقريب هذا التراث العظيم من الفقه الإسلامي للقرّاء الأكارم وعلى الله توكلنا، وهو حسبنا ونِعَم الوكيل. المؤلفون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 أولاً: النكاح وما يتعلق به وما يشبهه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 تمهيد: معنى الأحوال الشخصية: يقصد بالأحوال الشخصية: الأوضاع التي تكون بين الإنسان وأُسرته، وما يترتب عليه هذه الأوضاع من آثار حقوقية، والتزامات مادية أو أدبية. وإطلاق هذا الاصطلاح على هذا المعنى إطلاق حديث، أُطلق في مقابلة الأحوال المدنية، التي تنظّم علاقات الإنسان بأفراد المجتمع خارج حدود الأُسرة. أما الفقهاء قديماً، فلم يكونوا يطلقون هذا الاسم (الأحوال الشخصية) على المبادئ والأحكام الشاملة للأسرة ومتعلقاتها، وإنما كانوا يطلقون على كل باب اسماً خاصاً: مثل: كتاب النكاح. كتاب الصداق. كتاب النفقات. كتاب الطلاق. كتاب الفرائض. وهكذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 النكاح تعريف النكاح: النكاح لغة: الضم والجمع. يقال: تناكحت الأشجار، إذا تمايلت وانضم بعضها إلى بعض. والنكاح شرعاً: عقد يتضمن إباحة استمتاع كل من الزوجين بالآخر على الوجه المشروع. وسُمي بذلك لأنه يجمع بين شخصين، ويضمّ أحدهما إلى الآخر. والعرب تستعمل لفظ النكاح بمعنى العقد، وبمعنى الوطء والاستمتاع. لكن النكاح حقيقة يطلق علي العقد، ويستعمل مجازاً في الوطء. وعامة استعمال القرآن للفظ النكاح إنما هو في العقد، لا في الوطء. ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا .. } (الأحزاب: 49). ومعنى {نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} عقدتم عليهن. بدليل قوله: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} فمعناه: طلقتموهن قبل المسيس وهو الوطء والدخول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 مشروعية النكاح: لقد شرع الإسلام الزواج، وضع له نظاماً محكماً يقوم على أقوى المبادئ وأضمنها لصيانة المجتمع، وسعادة الأسرة، وانتشار الفضيلة، وحفظ الأخلاق، وبقاء النوع الإنساني. دليل مشروعية النكاح: ويستدل لمشروعية النكاح بالقرآن الكريم، والسنّة النبوية، وإجماع الأمة. أما القرآن: فآيات كثيرة منها: قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 4) وقوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ... } النور: 32 الأيامى: جمع أيِّم، وهو من لا زوج له من الرجال، ومَن لا زوج لها من النساء. عبادكم: الرجال المملوكين. إمائكم: النساء المملوكات. وأما السنة: فأحاديث كثيرة أيضا، منها. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن ثم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاءٌ ". رواه البخاري (في كتاب النكاح، باب: الترغيب في النكاح، رقم: 4779) ومسلم (في النكاح، باب: استحباب الترغيب في النكاح لمن تاقت نفسه إليه ... ، رقم: 1400) عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 الباءة: القدرة على الجماع بتوفر القدرة على مؤن الزواج. وجاء: قاطع لشهوة الجماع. وأما الإجماع: فقد اتفقت كلمة العلماء في كل العصور على مشروعيه. الترغيب بالزواج: لقد رغب الإسلام في الزواج، وحضّ عليه، لما فيه من المصالح والفوائد، التي تعود على الفرد والمجتمع. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة " رواه مسلم في كتاب الرضاع، باب: خير متاع الدنيا المرأة الصالحة، 1467) عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما. (متاع: شيء ينتفع به ويتمتع به إلى أمدٍ قليل). وروى الترمذي (كتاب النكاح، باب: ما جاء في فضل التزويج والحثّ عليه، رقم: 1080) عن أبي أيوب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أربع من سنن المرسلين: الحياءُ، والتَّعَطُر، والسِّواكُ، والنكاح ". الحكمة من مشروعية النكاح: إن لتسريع الزواج حكماً جمّة، وفوائد كثيرة، نذكر بعضاً منها: 1 - الاستجابة لنداء الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها: فلقد خلق الله هذا الإنسان، وغرز في كيانه الغريزة الجنسية، وركّز فيه ذلك التطلّع إلى المرأة، والرغبة فيها، كما جعل مثل ذلك في كيان المرأة وفطرتها. ولمّا كان الإسلام دين الفطرة يستجيب لها، وينظِّم مجراها، شَرع الزواج تلبية لهذا النداء العميق المستقر في أعماق هذا الإنسان وكيانه، وجعل الزواج هو الطريق الوحيد الذي يعبّر عن إشباع هذه الرغبة وإروائها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 فلم يكبت الإسلام هذه الغريزة، ويحطم كيان هذا الإنسان بتشريع الحرمان من الزواج، والدعوة إلى الرهبنة والتبتل. روى الترمذي (النكاح، باب: ما جاء في النهي عن التبتّل، رقم: 1082) عن سمرة - رضي الله عنه -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التبتّل). والتبتّل: الانقطاع عن النساء، وترك الزواج انصرافاً إلى العبادة. وروى مسلم (النكاح باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه .. ، رقم: 1402) والترمذي (النكاح، باب: ما جاء في النهي عن التبتل، رقم: 1083) عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: (ردّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعون التبتّل، ولو أذن له لاختصينا). لكن الإسلام لم يُلْق حبل هذه الغريزة على غاربها، ولم يترك الإنسان حراً طليقاً في إشباع نهمه الجنسي، بحيث يفسد نفسه وغيره، ويضرّ بالأخلاق، ويهدم البيوت والأُسر، ويفتح الباب واسعاً لغواية الشيطان ووساوسه. وإنما وقف الموقف المتوسط المعتدل، فاستجاب لنداء الفطرة ونظمها، بحيث تؤدي دورها النافع البنّاء في إيجاد هذا النوع، واستمرار بقائه. 2ـ إمداد المجتمع الإسلامي بنسل صالح، ونشء مهذب: لقد دعا الإسلام إلى كثره النَسْل، وجعله من بين أهدافه، في إنشاء المجتمع الإسلامي المُهيب المرهوب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تزوَّجوا الوَلُوَد الودود فإني مُكاثر بكم الأمم يوم القيامة ". (أخرجه أبو داود في سننه: كتاب النكاح، باب: النهي عن تزويج من لم يلد من النساء، رقم: 2050. والنسائي في النكاح أيضاً، باب: كراهية تزويج العقيم: 6/ 65]. ولذلك دعا القرآن إلى الزواج، ووجّه نظر الأولياء إلى تزويج أبنائهم وبناتهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 قال تعالى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (النور: 23). وإمداد المجتمع بنشئ يولدون في ظلال أبوين حانيين عطوفين، يعرفان كيف تُصاغ عقول هذا النشئ، وكيف تُربى مواهبه، أفضل النزوات المحّرمة الطائشة من السفاح والزنى، فهؤلاء لا يعرفون أبا يرعاهم، ولا أُمَاً تحنو عليهم، فينشؤون وفي أنفسهم عقد الكراهية والحقد على أمتهم ومجتمعهم، وعلى الناس جميعاً. 3ـ إيجاد السكن النفسي والاستقرار الروحي: وفي هذا الزواج الشرعي الشريف تحصل هذه الطمأنينة، والسكينة والهدوء النفسي. قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21). وانظر إلى التعبير القرآني ما أروعه في إبراز معنى الحاجة للزواج، وحصول الستر والسعادة والاستقرار فيه. قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} (البقرة: 117). فالآية شبهت كلا من الزوجين باللباس للآخر، لأن كلاً منهما يستر الآخر. فحاجة كلِّ من الزوجين للآخر كحاجته إلى اللباس، فإذا كان اللباس يستر معايب الجسد، وبقية عاديات الأذى، فإن كلاً من الزوجين يحفظ على صاحبه شرفه، ويصون عرضه، ويوفّر له راحته وأُنسه. 4ـ الحفاظ على الأخلاق من الهبوط والانهيار: فالإنسان إذا منع من الزواج المشروع تاقت نفسه إلى تحصيل حاجته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 من الطريق الممنوع، ولا يخفى على عاقل ما في السفاح والزنى من فساد الأخلاق، وخراب الأُسر، وهتك الأعراض، وانتشار الأمراض، وقلق النفوس والأرواح. وللمحافظة على الأخلاق، وللوقاية من الفساد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا جاءكم من تَرْضَوْنَ دينَه وخُلُقَه فأنْكحُوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفَسَادُ " رواه الترمذي (في النكاح، باب: ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه، رقم: 1085) عن أبي حاتم المزني - رضي الله عنه -. 5ـ المحافظة على النوع البشري سوياً سليماً: لقد جرت عادة الله سبحانه وتعالى أن لا يكون إنسان إلا من أبوين: رجل وامرأة، فإذا علمنا أن الإسلام قد حرّم اقتران رجل بامرأة إلا على أساس زواج شرعي، فإن ذلك يعنى أن الإسلام قد حصر حفظ النوع البشري بالزواج، فلو حرم الزواج لانقرض البشر، ولو أباح السفاح لكان هذا البشر شقيّاً مريضاً، والله سبحانه وتعالى يريد بعباده الخير، ولا يحب لهم الشر. قال تعالى: {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: 114). 6ـ توسيع دائرة القرابة وبناء دعائم التعاون: ففي الزواج تمتد رقعة القرابة، فتلقي عائلتان، ويجمع شمل أسرتين، وتنشأ بينهما بسبب المصاهرة روابط جديدة، ومحبة متبادلة. وبالزواج يتم التعاون بين الزوجين، فالزوجة تُعين زوجها في شؤونه: في مأكله وملبسه ومسكنه، وتربية أولادة، ورعاية بيته. والزوج يعاونها في تأمين حاجاتها، وتحصيل نفقتها، والدفاع عنها، وحمايتها، والمحافظة على عرضها. والإسلام دين التعاون والتكافل، ولقد شرع الزواج لتحقيق هذه المصالح كلها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 حُكم النِكَاحِ شَرْعُا للنكاح أحكام متعددة، وليس حكماً واحداً، وذلك تبعاً للحالة التي يكون عليها الشخص، وإليك بيان ذلك: 1ـ مستحب: وذلك إذا كان الشخص محتاجاً إلى الزواج: بمعنى أن نفسه تتوق إليه، وترغب فيه، وكان يملك مؤنته ونفقته، من مهر، ونفقة معيشة له ولزوجته، وهو في نفس الوقت لا يخشى على نفسه الوقوع في الفاحشة إن لم يتزوج. ففي هذه الحالة يكون النكاح مستحبّاً، لما فيه من بقاء النَسْل وحفظ النسب، والاستعانة على قضاء المصالح. ويستدل لذلك بحديث البخاري ومسلم: عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - شباباً لا نجد شيئاً، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا معشر الشباب مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضّ للبصر وأحصن لفرج، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وِجاء " (1). والزواج في هذه الحالة أفضل من التفرغ للعبادة، والانقطاع لها. وعلى هذا يحمل توجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأولئك النفر من أصحابه الذين تعاهدوا على الانقطاع للعبادة، وترك الزواج. روى مسلم (في النكاح، باب: استحباب لمن تاقت نفسه إليه ... ، رقم 1401) وغيره عن أنس - رضي الله عنه -: أن نفراً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سألوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السرّ، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمد الله وأثنى عليه، فقال: " ما بالُ أقوامٍ قالوا: كذا وكذا،   (1) انظر تخريجه وشرح ألفاظه (ص: 12 عند الكلام عن مشروعية النكاح) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساءَ فم رغب عن سُنّتي فليسَ منّي ". ومعنى " فمن رغب عن سُنتي فليس مني " أي من تركها إعراضاً عنها، غير معتقد لها على ما هي عليه. والمرأة في هذا الحكم مثل الرجل، فإذا كانت محتاجة للزواج لصيانة نفسها، وحفظ دينها، وتحصيل نفقتها، استحبّ لها الزواج أيضاً. 2ـ مستحب تركه (أي مكروه وفعله خلاف الأولى): وذلك إذا كان محتاجاً للزواج، لكنه لا يملك أُهبة النكاح ونفقاته. وعليه في هذه الحالة أن يعفّ ويستعين على ذلك بالعبادة والصوم، لأن الانشغال بالعبادة والصوم، يشغله عن التفكير في الزواج، واستشارة الرغبة فيه، ريثما يغنيه الله من فضله. ودليل ذلك قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِه ِ} (النور: 33). ويُفهم هذا الحكم أيضاً من مفهوم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج " فإنه إذا لم يملك الباءة كان ترك الزواج مستحّباً له. 3ـ مكروه: وذلك إذا كان غير محتاج إلى الزواج: كأن لا يجد الرغبة فيه، أما فطرة، أو لمرض، أو علّة، ولا يجد أُهبه له، وذلك لما فيه من التزام مالا يقدر على القيام به، لأن النكاح يترتب عليه المهر، والنفقة، وهو لا يقدر على ذلك، فيُكره النكاح له. 4ـ الأفضل تركه: وذلك إذا كان يجد الأُهبة، ولكنه ليس محتاجاً إلى النكاح، لأن نفسه لا تتوق إليه، وكان منشغلاً بالعبادة، أو منقطعاً لطلب العلم، فإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 التفرغ للعبادة وطلب العلم أفضل من النكاح في هذه الحالة، لأن النكاح ربما يشغله عن ذلك. 5ـ الأفضل فعله: فإذا كان ليس منشغلاً بالعبادة، ولا متفرغاً لطلب العلم، وهو يجد الأُهبة للنكاح، لكنه غير محتاج إليه، فالنكاح في هذه الحالة أفضل، حتى لا تقضي به البطالة والفراغ إلى الفواحش، وبالزواج يحصل له الاستعانة على قضاء المصالح، وإنجاب الذرية، وزيادة النسل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 مَكانَة الأُسْرَة في الإسلاَم وَرعَايتَهِ لَهَا تعريف الأسرة: الأسرة لغة: الرَّهْط ـ أي الأشخاص ـ الأدَنْون من الرجل. ويقصد بالأُسلام اصطلاحاً في نظام الإسلام: تلك الخليّة التي تضم الآباء والأُمهات، والأجداد والجدّات، والبنات والأبناء، وأبناء الأبناء. الأسرة دعامة أساسية في المجتمع: إذا كان الفرد هو اللبنة الأساسية في بناء المجتمع، فإن الأُسرة هي الخليّة الحيّة في كيانه. والفرد جزء من الأُسرة يأخذ خصائصه الأُولى منها. قال تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} (آل عمران: 34) وينطبع بطابعها، ويتأثر بتربيتها. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ " رواه مسلم (في كتاب القدر، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة .. ، رقم: 2658) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - الفطرة: الحالة المتهيئة للخير، وهي حالة أصل الخلقة البشرية. كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء: أي كما تلد البهيمة بهيمة كاملة الأعضاء لا نقص فيها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 جدعاء: مقطوعة الأُذن. أي إنما يحدث فيها الجدع والنقص بعد ولادتها، بتأثير من البيئة المحيطة بها من إنسان وغيره. وكذلك حال الإنسان، تكون استقامته أو انحرافه رهن البيئة التي ينشأ ويترعرع فيها. وبناءً على ما سبق نقول: إن الفرد جزء من الأُسرة، والأسرة جزء من المجتمع، ودعامة أساسية فيه، فإذا صلُحَتَ الأُسرة صَلُح الفرد، وإذا صلُح الفرد صلحت الأُسرة، وصلح المجتمع. ولذلك أولى الإسلام الأسرة رعاية بالغة، وعناية فائقة، وشغلت الأُسرة حّيزاً كبيراً من أحكام القرآن والسنّة. مظاهر عناية الإسلام بالأسرة: وتتبدى مظاهر عناية الإسلام بالأُسرة من تلك التشريعات والأحكام التي صاغها لتنظيم الأُسرة، وترتيب شؤونها. ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر: أـ الأمر بالزواج: لتشييد دعائم الأُسرة، لأنه لا أُسرة بغير زواج، وكل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تقوم على أساس الزواج، فهي زنى وسفاح. والله تعالى يقول: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} (الإسراء: 32) ويقول عز وجل: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} (المائدة: 5) ب ـ تشريع حقوق الزوجين وواجباتهما: فقد أوجب الإسلام على الزوج لزوجته: 1ـ المهر: قال تعالى: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (النساء: 4) 2ـ النفقة: قال تعالى: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 233). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ولهنَّ عليكم رزقُهنَّ وكسوتُهُنَّ بالمعروفِ ". رواه مسلم (كتاب الحج، باب حجّه النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم: 1218) في حديث طويل. 3ـ المعاشرة بالمعروف: قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف ِ} (النساء: 19) كما أوجب الإسلام على الزوجة لزوجها: 1ـ الطاعة في غير معصية: قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} (النساء: 34). والقوامة إنما هي: القيادة، وحقّ الطاعة. 2ـ أن لا تُدخل بيته أحداً بغير إذنه ورضاه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ولكم عليهنّ أن لا يوطئن فُرُشكم أحداً تكرهونه " رواه مسلم (1218) من حديث طويل. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: لا يأذنَّ لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم، والجلوس في منازلكم. 3ـ أن تحفظ شرفه، وتصون عرضه، وتحافظ على ماله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أدُلكم على خير ما يّكْنِزُ الرَّجُُلُ؟ المرأةُ الصالحةُ، التي إذا نظر إليها سرَّتْه، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظْته في نفسها ومَالِهِ ". رواه أبو داود (الزكاة، باب: في حقوق المال، رقم: 1664) وصححه الحاكم في مستدركه. ج ـ تشريع حقوق الأولاد والوالدين: فقد أوجب الإسلام على الآباء لأولادهم: 1 - النفقة: قال الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (الطلاق: 6) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 فقد أوجب الله عزّ وجلّ أُجره المُرضع لنفقة الولد. 2ـ حُسن التربية والتأديب على العبادات والأخلاق: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أدّبوا أولادَكم على ثلاث خصالٍ: حُب نبيَّكم، وآل بيته، وقراءة القرآن " رواه الديلمي [انظر الجامع الصغير للسيوطي]. وقال عليه الصلاة والسلام: " ألا كُلُّكم راع ومسؤول عن رعيته، فالأميرُ الذي على الناس راع ومسؤول عن رعّيته، والرجلُ راع على أهل بيته، وهو مسئولّ عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده هي مسؤولة عنهم، والعبد راعٍ على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكُلكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيَّته ". [أخرجه البخاري في الجمعة، باب: الجمة في القرى والمدن، رقم: 853. ومسلم في الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل ... ، رقم: 1829] وغيرهما. كما أوجب الإسلام على الأولاد: 1ـ طاعة الوالدين في غير معصية الله تعالى، والإحسان إليهما: قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23]. وقال تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15]. 2ـ النفقة للوالدين إن كانا فقيرين، والولد موسراً، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن من أطيب ما أكل الرجلُ من كسْبه، وولَدُهُ مْن كَسْبَه ". وقال - صلى الله عليه وسلم -: " أنت ومَالُك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم " [أبو داود: البيوت والإجازات، باب: في الرجل يأكل من مال والده، رقم: 3528، 3530. الترمذي: أبواب الأحكام، باب: ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 جاء أن الوالد يأخذ من مال ولده رقم: 1358]. وهناك أحكام أخرى كثيرة تتعلق بتنظيم حياة الأُسرة، وترتيب أمورها، ومن هذه الأحكام والتشريعات يتبين مدى اهتمام الإسلام بالأُسرة ورعايته لها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 النساء اللاتي يحرم نكاحهن تمهيد: لما شرع الإسلام الزواج، وحثّ عليه، حرّم على الإنسان نكاح بعض النساء: أما لفرض الاحترام والتقدير: كتحريم نكاح الأُم. وإما لأن الطبع السليم لا يستسيغ ذلك: كنكاح البنت والأُخت. أو لأن غرض الزواج ـ وهو الإحصان ـ قد لا يتحقق على أتمّ وجه في نكاح القريبات جداً: كنكاح بنات الإخوة والأخوات، وبنات الأبناء والبنات، وذلك لكثرة الخلطة بينهم، وظهور بعضهم على بعض. وأما لغرض تنظيمي ترتيبي في بناء الأُسرة: كنكاح الأخت وبنات الأخ من الرضاع. فلهذه الأغراض وغيرها من الحكم حرم الإسلام نكاح بعض النساء على بعض الرجال، كما حرم بعض الرجال على بعض النساء، وإليك بيان ذلك. أقسام الحرمة في النكاح: والحرمة في نكاح بعض النساء على قسمين: حُرمة مؤبدة. وحُرمة مؤقتة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 الحُرمة المؤبدة: ويقصد بها النساء اللاتي لا يجوز للرجل أن يتزوج بواحدة منهنّ أبداً، مهما كانت الظروف والأحوال. أسباب الحُرمة المؤبدة: والحرمة المؤبدة لها ثلاثة أسباب، وهي: القرابة. المصاهرة. الرضاع. المُحرّمات بالقرابة: والمُحرّمات بسبب القرابة سبع، وهنّ: 1ـ الأُم، وأُم الأُم، وأُم الأب، ويعبّر عنهنّ بأُصول الإنسان، فلا يجوز نكاح واحدة منهُن. 2ـ البنت، وبنت الابن، وبنت البنت، ويعبّر عنهنّ بفروع الإِنسان، فلا يجوز نكاح واحدة منهن. 3ـ الأخت، شقيقة كانت، أو لأب، أو لأم، ويعبّر عنهنّ بفروع الأبوين، فلا يجوز نكاح واحدة منهنّ أبداً. 4ـ بنت الأخ الشقيق، وبنت الأخ لأب، أو لأم، فلا يجوز نكاحهنّ. 5ـ بنت الأخت، شقيقة كانت، أو لأب، أو لأم، فهنّ حرام لا يجوز نكاحهنّ أبداً. 6ـ العمّة، وهي أُخت الأب، ومثلها عمّة الأب، وعمّة الأم، ويعبّر عنهنّ بفروع الجدين من جهة الأب، فلا يجوز نكاحهنّ بحال. 7ـ الخالة، وهي أخت الأم، ومثلها خالة الأم وخالة الأب ويعبّر عنهنّ بفروع الجدّين من جهة الأم، فلا يجوز نكاحهنّ أبداً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 وفي حُرمة هؤلاء كلهنّ نزل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ ... .. } [النساء: 23] فإذا عقد على واحدة منهنّ كان العقد باطلاً، فإن استحلّ ذلك كان كافراً. هذا، ويحرم على المرأة أبوها، وأبو أبيها، وأبو أُمها، وجميع أُصولها. ويحرم عليها ابنها وابن ابنها وابن بنتها، وجميع فروعها. ويحرُم عليها أخوها شقيقاً كان أو لأب أو لأم، وكذلك يحرُم عليها أبناء إخوتها، وأبناء أخواتها، كما يحرم عليها أعمامها، وأخوالها، وأعمال أبيها، وأعمام أمها، وأخوال أبيها وأخوال أمها. المحرمات بالمصاهرة: والمُحرمات بالمصاهرة أربع، وهنّ: 1ـ زوجة الأب، ومثلها زوجة الجد أب الأب، وزوجة الجد أب الأم، ويعبّر عن ذلك بزوجات الأصول، فلا يجوز نكاح واحدة منهن أبداً. قال تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً} [النساء: 22] 2ـ زوجة الابن، وزوجة ابن الابن، وابن البنت، وهكذا زوجات الفروع، فلا يجوز نكاحهنّ بحال. قال تعالى: {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} [النساء: 23]. وخرج بقوله تعالى: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} زوجة الابن المتبنّى، فإنهم كانوا في الجاهلية يتبنّون، ويحرمون زوجة المتبنى، فأبطل الإسلام التبني، وأحلّ الزواج من زوجة المتبنّى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]. وقال تعالى: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [الأحزاب: 37] [قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً: أي انتهت حاجتهم منهنّ ولم يبق لهم رغبة فيهنّ]. 3ـ أم الزوجة، فلا يجوز نكاحها، قال الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ} [النساء: 23] ومثل أمها جميع أصولها من النساء. وهؤلاء الثلاثة يحرمن بمجرد العقد، سواء تبع ذلك دخول، أو لم يتبعه، وإذا عقد على واحدة منهن كان العقد باطلاً. 4ـ بنت الزوجة، وهي الربيبة، فهي حرام على زوج أُمها، ولكن ليس بمجرد العقد، بل لا تنشأ الحُرمة إلا بالدخول على أُمها. قال تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23]. هذا ولا يشترط لحرمة الربيبة أن تكون في حجر زوج أُمها، بل هي حرام عليه، سواء كانت في حجره أو كانت تعيش بعيدة عنه. وإنما ذكر القيد في الآية لبيان الحالة الغالبة، فإن الغالب على الربيبة أن تكون في رعاية زوج أمها وحجره وكنفه. وكذلك يحرم على المرأة زوج أمها، وزوج بنتها، وابن زوجها، وأبو زوجها. المحرمات بالرضاع: ويحرم بسبب الرضاع أيضاَ سبع من النسوة، ذكر القرآن الكريم منهّن اثنين وألحقت السنة بقية السبع بهما، وهؤلاء السبع هّن: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 1ـ الأُم بالرضاع، وهي المرأة التي أرضعتك، ويلحق بها أُمها، وأُم أُمها وأُم أُبيها، فلا يجوز نكاح واحدة منهنّ. 2ـ الأخت بالرضاع، وهي التي رضعت من أُمك، أو رضعت من أُمها، أو رضعت أنت وهي من امرأة واحدة. فإذا رضعت من أُمك صارت حراماً عليك، وعلى جميع إخوتك. ويحلّ لك أخواتها، لأنهنّ لم يرضعن من أُمك. وإذا رضعت أنت من أُمها صرت حراماً عليها، وعلى جميع أخواتها، وحلّت هي وأخواتها لإخوتك، لأنها لم ترضع من أمك، ولا رضع أخواتك من أمها. وفي تحرم الأم والأخت من الرضاع نزل قوله تعالى: {َأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] 3ـ بنت الأخ من الرضاع. 4ـ بنت الأخت من الرضاع. 5ـ العمّة من الرضاع: وهي التي رضعت مع أبيك. 6ـ الخالة من الرضاع: وهي التي رضعت مع أمك. 7ـ البنت من الرضاع: وهي التي رضعت من زوجتك، فتكون أنت أباها من الرضاع. وفي هؤلاء يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " إن الرَّضاعة تُحرّمُ ما يَحرُم من الولادة " رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها. وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في بنت حمزة رضي الله عنها: " لا تَحِلُّ لي، يحْرُم من الرضاع ما يحرُم من النسب، هي بنت أخي من الرضاعة ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 (البخاري: الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب والرضاع.، رقم: 2502، 2503 مسلم: الرضاع، باب: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، وباب: تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، رقم: 1444، 1447). وكذلك يحرم على المرأة أبوها بالرضاع، وابنها من الرضاع، وأخوها وابن أخيها من الرضاع، وعمّها وخالها من الرضاع. وكذلك يحرم بالمصاهرة من الرضاع: 1ـ أم الزوجة من الرضاع، وهي التي أرضعت زوجتك. 2ـ بنبت الزوجة من الرضاع، وهي التي رضعت من زوجتك، لكن من لبن زوج غيرك. 3ـ زوجة الأب من الرضاع، وهي زوجة الأب التي رضعت من زوجته الثانية. 4ـ زوجة الابن من الرضاع، وهي زوجة من رضع من زوجتك. الحرمة المؤقتة: والنساء المحرمات حرمة مؤقتة: هن اللاتي حُرِّمن على الإنسان لسبب من الأسباب، فإذا زال هذا السبب زالت الحُرمة، وعاد الحل، فإذا عقد على واحدة منهنّ قبل زوال سبب الحرمة كان العقد باطلاً. وهؤلاء النساء هنّ: 1ـ الجمع بين الأختين: سواء كانتا من النسب، أو من الرضاع. وسواء عقد عليهما معاً أو في وقتين. فإذا عقد عليهما معاً بطل العقد فيهما، وإذا عقد عليهما واحده بعد الأخرى بطل عقد الثانية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 فإذا ماتت الأولى، أو طُلِّقت، وانقضت عدّتها حلّ له أن يعقد على أختها. قال الله عزّ وجلّ: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 23] 2ـ الجمع بين المرأة وعمّتها، وبين المرأة وخالتها، وبين المرأة وبنت أختها، أو بنت أخيها، أو بنت ابنها، أو بنت بنتها: وقد وضع الفقهاء قاعدة بضبط من يحرم الجمع بينهنّ، فقالوا (يحرم الجمع بين كل امرأتين لو فرضت إحداهما ذكراً لما جاز له أن يتزوج الأخرى). وهي تشمل جميع من ذكرنا. ودليل ذلك: ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يُجمعُ بين المرأة وعَمَّتها، ولا بين المرأة وخالتها ". (البخاري: النكاح، باب: لا تنكح المرأة على عمّتها، رقم: 4820. مسلم: النكاح، باب: تحريم الجمع بين المرأة وعمّتها ... ، رقم: 1408. الحكمة من هذا التحريم: والحكمة من تحريم الجمع بين مَن ذكرنَ ما في هذا الجمع من إيقاع الضغائن بين الأرحام، بسبب ما يحدث بين الضرائر من الغيرة. روى ابن حبان: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تُزوّج المرأة على العمّة والخالة، وقال: إنّكنّ إذا فعلتنّ ذلك قطعتنّ أرحامكم). وأخرج أبو داود في المراسيل عن عيسى بن طلحة قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة). [نيل الأوطار: 6/ 157]. فإذا ماتت واحدة منهنّ أو طٌلِّقت، وانقضت عدّتها حلّت الأخرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 3ـ الزائدة على أربع نسوة: فلا يجوز أن يضم زوجة خامسة إلى نسائه الأربع الموجودات عنده حتى يطلق واحدة منهنّ، وتنقضي عدّتها، أو تموت، فإذا ماتت، أو طُلِّقت، حلت له الخامسة. قال الله عز وجلّ: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]. وروى أبو داود وغيره عن قيس بن الحارث - رضي الله عنه - قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اخْتَر منهنّ أربعاً ". (سُنن أبي داود: الطلاق، باب: في مَن أسلم وعنده نساء أكثر من أربع أو أُختان). 4ـ المشركة الوثنية: وهي التي ليس لها كتاب سماوي، فإذا أسلمت حلّت، وجاز الزواج بها، قال الله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة " 221] تنبيهان: الأول: لا يجوز للمرأة المسلمة أن تتزوج برجل غير مسلم، مهما كانت ديانته، لأن للزوج ولاية على الزوجة، ولا ولاية لكافر على مسلم، ولأنها لا تأمن عنده على دينها، لأنه لا يؤمن به؟ قال الله عز وجل: {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] وقال سبحانه وتعالى: {وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: 221]. فإذا أسلم حلت له، وإذا عقد عليها قبل إسلامه كان العقد باطلاً، ووجب التفريق بينهما فوراً فإذا حصل وطء كان ذلك زناً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 الثاني: يجوز للمسلم أن يتزوج يهودية أو نصرانية، لأنه ربما يكون ذلك سبباً لإسلامها، وإسلام أهلها، وإطّلاعهم على الإسلام، وترغيبهم فيه. ولا يجوز لزوجها المسلم أن يٌُكرهها على تغيير دينها، أو يضايقها في أداء عبادتها. قال الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5]. [المحصنات: العفيفات، أو الحرائر. أجورهنّ: مُهورهنّ. محصنين: متعففين بالزواج بهنّ عن الزنى. غير مُسافحين: غير مجاهرين بالزنى. متخذي آخذان: مُصاحبي خليلات للزنى سراً]. 5ـ المرأة المتزوجة: فلا يجوز لرجل أن يعقد على امرأة لها زوج، وهي لا تزال على عصمته، حتى يموت أو يطلقها وتنقضي عدّتها، فإذا مات أو طّلقها وانقضت عدّتها حل الزواج بها. قال الله تعالى في تعداد المحرمات في الزواج: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء} [النساء: 24]. أي المتزوجات من النساء حرام عليكم. 6ـ المرأة المعتدّة: فلا يجوز لرجل أن ينكح امرأة ما تزال في عدّتها، سواء كانت هذه العدة من طلاق أو وفاة، فإذا انتهت عدّتها، جاز الزواج بها. قال الله تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]. أي لا تقصدوا إلى عقد النكاح لتعقدوه حتى تبلغ المرأة تمام عدّتها المكتوبة لها في كتاب الله عزّ وجل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 7ـ المرأة المطلقة ثلاثاً: فلا يجوز لزوجها أن يعود إليها حتى تنكح زوجاً غيره، نكاحاً شرعياً صحيحاً، ثم يطلّقها الزوج الثاني، وتنقضي عدّتها منه، فإذا حصل ذلك جاز لزوجها الأول أن يعود إليها، ويعقد عليها عقد زواج جديد. قال الله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230]. وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: جاءت امرأة رفاعة القرظي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: كنت عند رفاعة فطلّقني، فأبت طلاقي، فتزوجت عبدالله بن الزَّبير، إنما معه مثل هُدبَة الثوب، فقال: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عُسيلته، ويذوق عُسيلتك). (البخاري: الشهادات، باب: شهادة المختبي، رقم: 2469. مسلم: النكاح، باب: لا تحلّ المطلقة ثلاثاُ لمطلّقها حتى تنكح ... .. ، رقم: 1432). أبَتَّ طلاقي: من البتّ وهو القطع، أي قطع طلاقي قطعاً كلياً، والمراد أنه طلّقها الطلقة الثالثة التي تحصل بها البينونة الكبرى. هدبة الثوب: حاشيته، وهو كناية عن عدم قدرته على الجماع. تذوقي عسيلته: كناية عن الجماع. وعُسيلة: قطعة صغيرة من العسل، شبّه لذّة الجماع بلذة ذوق العسل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 حكم تعدد الزوجات والحكمة من مشروعيته 1ـ حكم تعد الزوجات: تعدّد الزوجات مُباح في أصله، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]. ومعنى الآية: إن خفتم إذا نكحتم اليتيمات أن لا تعدلوا في معاملتهنّ، فقد أُبيح لكم أن تنكحوا غيرهن، مثنى وثلاث ورُباع. ولكن قد يطرأ على التعدّد ما يجعله مندوباً، أو مكروهاً، أو محرماً، وذلك تبعاً لاعتبارات وأحوال تتعلق بالشخص الذي يريد تعدد الزوجات: أـ فإذا كان الرجل بحاجة لزوجة أخرى: كأن كان لا تعفّه زوجة واحدة، أو كانت زوجته الأولى مريضة، أو عقيماً، وهو يرغب بالولد، وغلب على ظنه أن يقدر على العدل بينهما، كان هذا التعدد مندوباً، لأن فيه مصلحة مشروعة، وقد تزوج كثير من الصحابة رضي الله عنهم بأكثر من زوجة واحدة. ب ـ إذا كان التعدّد لغير حاجة، وإنما لزيادة التنعّم والترفيه، وشك في قدرته على إقامة العدل بين زوجاته، فإن هذا التعدد يكون مكروهاً، لأنه لغير حاجة، ولأنه ربما لحق بسببه ضرر في الزوجات من عدم قدرته على العدل بينهنّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " دْع ما يريبُك إلى ما لا يَريبُك "، أي دع ما تشك فيه إلى ما لا تشك فيه. رواه الترمذي (أبواب صفة القيامة، باب: أعقلها وتوكل، رقم: 2520) عن حسن بن علي رضي الله عنهما. ج ـ وإذا غلب على ظنه، أو تأكد أنه لا يستطيع إن تزوج أكثر من واحدة أن يعدل بينهنّ: إما لفقره، أو لضعفه، أو لعدم الوثوق من نفسه في الميل والحيف، فإن التعدد عندئذ يكون حراماً، لأن فيه إضراراً بغيره، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا ضرر ولا ضرَارَ ". (ابن ماجه: كتاب الأحكام، باب: من بني في حقه ما يضرّ جاره. موطأ مالك: الأقضية، باب: القضاء في المرفق). وقال الله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} [النساء: 3]. [فواحدة: أي فانكحوا واحدة فقط. ذلك أدنى أن لا تعولوا: أي أقرب إلى عدم الميل والجور، لأن أصل العول: الميل]. ويجب أن يعلم أنه لو عدّد الزوج في الحالتين الأخيرتين، وعقد على ثانية، أو ثالثة، كان العقد صحيحاً، وترتبت على آثاره: من حلّ المعاشرة، ووجوب المهر، والنفقة وغيرها، وإن كان مكروهاً في الثانية، وحراماً في الثالثة، فالحُرمة توجب الإثم، ولا تبطل العقد. ما هو العدل المطلوب حصوله بين الزوجات؟ والعدل الذي أوجبه الإسلام على الرجل الذي يجمع بين أكثر من زوجة، إنما هو العدل والمساواة في الإنفاق، والإسكان، والمبيت، وحُسن المعاشرة، والقيام بواجبات الزوجة. أما المحبة القلبية التي لا تولّد ظلماً عملياً لإحداهنّ فليست من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 مقوِّمات العدالة المفروض تحصيلها بين الزوجات، لأنه لا سلطان للإنسان على قلبه في موضوع المحبة، ولعلّ هذا هو الذي عناه القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ}. [النساء: 129]. أي لا تستطيعون أن تمسكوا بزمام قلوبكم في تحقيق المساواة في المحبة، فلا يحملنكم الميل القلبي إلى إحداهما أكثر من الأخرى على الظلم والإضرار. أما العدل فيما ذكرنا من النفقة والإسكان، والمبيت وحُسن المعاشرة، فهذا أمر ممكن لكثير من الناس. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ـ بعد عدله في القسمة والمعاملة بين نسائه ـ: " اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ". رواه أبو داود (في النكاح، باب: في القسم بين النساء، رقم: 2134) والترمذي (في النكاح، باب: التسوية بين الضرائر، رقم: 1140) وغيرهما عن عائشة رضي الله عنهما. وذلك فيما يتعلق بأمر الحب وميل القلب، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحب عائشة أكثر من بقية نسائه. 2 ـ الحكمة من مشروعية التعدّد. إن الإسلام أباح تعدد الزوجات من حيث الأصل، ولم يجعله فرضاً لازماً، ولقد أباح الإسلام هذا التعدّد، لأنه يرمي إلى أهداف بعيدة الغور في الإصلاح الاجتماعي، لا يدركها إلا نافذ البصيرة. وإليك بعض هذه الحكم: أـ ليحمي من لا يمكن أن تعفّهم زوجة واحدة، وهذا أمر فطري، فيمكن أن يجرهم ذلك إلى ما ليس بمشروع. فخير لهم وللمجتمع أن يتزوجوا امرأة أخرى في ظل سياج من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 الرعاية، وتشريع من الحقوق الملزمة، والكرامة اللائقة، من أن يقعوا في الزنى. ب ـ وشرعه أيضاً ليحمي المرأة من أن يلهث وراءها أصحاب الشهوات، لا بعقد يضمن ويحمي أبناءها، وإنما عن طريق المسافحة والمخادنة، مما يجعل تلك المرأة عُرضة للطرد والحرمان من كل حق، ويجعل أولادها محرومين من حقوق النسب، وعطف الأبوة. فلأن تكون زوجة ثانية محفوظة الحقوق والكرامة خير لها ألف مرة من أن تظل أيِّما، أو تعيش خدينة أو عشيقة، مما يعرضها في النتيجة للبؤس والشقاء، وحماية المجتمع من الانحلال والفساد، والفوضى الخلقية. مبررات تعدد الزواج: وهناك مبررات تجعل تشريع تعدّد الزواج أمراً بادي الحكمة، واضح الفائدة، وسنضرب لذلك بعض الأمثلة: 1ـ رجل عنده نهم في النساء، وعنده امرأة عزوف عن الرجال، إما فطرة، أو لمرض. فهل الأفضل أن يزني هذا الرجل، فيضيع الدين والمال والصحة؟ أو يبقى منطوياً على حاجته، معذباً نفسه، أو أن يتزوج امرأة أخرى، بشرط القدرة على الإعالة والعدالة، وعدم الظلم في المعاملة؟ ولا شك أن الحل الثالث هو الأفضل لهذا الرجل، وأنفع للمجتمع وأطهر. 2ـ اندلعت نار الحروب ـ والحروب أصبحت اليوم سنّة الحياة ـ فأبادت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 الكثير من الرجال، أو شوّهتهم، وأصبح عدد النساء وافراً يزيد على عدد الرجال كثيراً. فهل من الخير للنساء أن يقتصر كل رجل على زوجة واحدة، وتبقى كثرة كاثرة من النساء محرومة من عطف الرجل المُعيل، ومحرومة من إنجاب الولد الذي لا تجد غيره معيناً ومعيلاً عند كبرها، مما قد يضطرها ـ إرواء لحاجتها ـ إلى ارتكاب الإثم والفواحش؟. أم الأفضل أن نبيح للرجل أن يضمّ إليه أكثر من زوجة في ظل رعاية شرعية كاملة؟. إننا لا نظلم المنطق والحق في شيء إذا قلنا: إن التعدد في مثل هذه الظروف يعتبر عملاً إنسانياً تفرضه المروءة والغيرة. ولا نخالف الواقع إذا قلنا: إن زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأكثر من واحدة من نسائه كان معظمه من هذا النوع الإنساني الشريف. لقد هاجر بعضهنّ وحيدة، وتركت أهلها، أو مات عنها زوجها شهيداً، وتركها أرملة من غير مُعيل، فخفّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى نجدتها، وضمّها إلى بيته، فكان لها خير مُعيل، وكان لها شرف أمومة المؤمنين، وفضيلة الاقتران بسيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم. ولما حرمت أوربه المسيحية التعدّد، فماذا جنت غير الخيانات الزوجية، أو العذاب النفسي، أو الحرمان لكثير من الزواج؟ 3ـ إنسان متزوج من امرأة تحبه ويحبها، لكنها عقيم لا تنجب، وهو يتوق إلى الولد، ويحنّ إليه. فهل من الأفضل أن نحرم هذا الإنسان الزواج من ثانية، وندعه مظلوم الفؤاد محروم الولد؟ أم نأمره بأن يطلق زوجته التي يحبها، أم نبيح له الزواج بامرأة أخرى، مع حماية الأولى من الظلم؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 إن هذا الحل هو الأفضل من كل ما سبق، فقد راعى مصالح الرجل والمرأة على السواء. 4ـ إن الشعوب التي حرمّت تعدد الزوجات وقعت بما هو أشدّ خطراً، وأكثر ضرراً من ضرر التعدّد المزعوم. لقد كثر فيهم الفساد، وانتشرت فيهم الخيانات الزوجية، والمخادنات السريّة، مما يجعل عُقلاءهم يصرخون مُطالبين بتشريع يحل التعدّد، ويقضي على تلك المفاسد المدمرة لحياتهم الاجتماعية. تنبيه: إن إساءة استعمال بعض الجَهَلة لحق التعدّد لا يغضّ من حكمة الإسلام، ولا يحمِّله تبعة رعونة وسفاهة أولئك الجاهلين، وسوء تصرفهم. فالإسلام، ما أباح التعدّد ليكون سلاحاً للجرح، أو الذبح، أو سوء المعاملة، وإنما شرعة تلبية للحاجة، ووقاية للمجتمع، ورعاية للأفراد، وقضاء على الرزيلة. لكن تلك المبررات، وبتلك الشروط الشرعية أباح الإسلام التعدّد، ولم يوجبه، وأحاطه بسياج من الضمانات الأخلاقية الحقوقية. فالإسلام أشبه (بصيدلية) وَعَت جميع الأدوية التي تفي بحاجة الناس جميعهم، يأخذ كل فرد الدواء الذي يتفق وحاجته ومرضه، ليس معقولاً أن نقلِّل من أهمية هذه (الصيدلية) أو نقلِّص من موادها بحيث لا تفي بالحاجة العامة لجميع الأفراد، أو نُبيح جميع ما فيها لكل فرد، ولو بغير حاجة. هذا وإذا كان أعداد الإسلام لا يعجبهم هذا التشريع، لأنه لا يتفق وأمزجتهم المنحرفة، وأذواقهم الفاسدة، وشهواتهم الرخيصة، فليموتوا بغيظهم، والله من ورائهم محيط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 مقدمات الزواج تمهيد: إن سعادة الأسرة، ونجابة الأولاد، واستمرار الحياة الزوجية تتوقف على حسن اختيار كل من الزوجين للآخر، اختياراً واعياً، غير متأثر بعاطفة هوجاء، أو مصلحة مؤقتة، وإنما يكون قائما على أساس يبقى، ويقوى مع مرور الزمن؛ ولما كان عقد الزواج عقداً خطير الأثر، طويل الأمد، كثير التكاليف، كان لابدّ قبل إجراء هذا العقد من خطوات تتخذ من قِبَل كل من الخاطب والمخطوبة، حتى إذا أقدما على عقد الزواج كانا قد أقدما عليه، وقد اطمأن كل منهما إلى الصفات والمؤهلات التي تحقق أغراضه، وتطمئن نفسه إلى مستقبل ارتباطه مع زوجه. وهذه الخطوات هي: أولاً: البحث عن الصفات التي تطلب في كل من الزوجين. ثانيا: رؤية المخطوبة والنظر إليها. ثالثاً: الخطبة. أولاً: البحث عن الصفات التي ينبغي أن تطلب في كل من الزوجين: لقد أرشد الإسلام إلى عدة من الصفات تكون في المخطوبة، كما تكون في الخاطب، وحث على تلمسها، والبحث عنه، وهذه الصفات هي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 1ـ الدين الصحيح والخلق القويم: يُطلب في الزوج يُختار أن يكون ديناً، ذا خلق حسن، كما يطلب في الزوجة أن تكون دينة، وذات خلق حسن، وإلى ذلك أرشد النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام حين قال: " إذا خطب إليكم من ترْضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض " (رواه الترمذي في النكاح، باب: ما جاء إذا جاءكم مَن ترضون دينه فزوِّجوه، رقم: 1084) وقال - صلى الله عليه وسلم -: " تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يداك ". رواه البخاري (النكاح، باب: الأكفاء في الدين، رقم: 4802) ومسلم (الرضاع، باب: استحباب نكاح ذات الدين رقم: 1466) [تربت يداك: افتقرت، وهذه كلمة جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، ولكن يريدون بها الحثّ والتحريض، والمراد بالدين والأخلاق: فعل الطاعات، والأعمال الصالحات، والعفّة عن المحرمات، والقيام بحقوق الزوجية]. 2ـ الحكمة من تفصيل ذات الدين والخلق: إن الحكمة من ذلك هي أن الدين يقوى على مرور الزمن، والخلق يستقيم مع توالي الأيام وتجارب الحياة. فإذا اختار كلِّ من الزوجين الآخر لدينه وخلقه، كان ذلك أضمن لاستمرار الحب، ودوام المودّة. ولا يُفهم مما ذكرنا أن على الإنسان أن يعزف عن الحَسَب والجمال، وإنما يجب أن يفهم أنّ هذه الصفات إذا انفردت في المخطوبة، كان الدين أفضلها، وإذا اجتمعت كانت نوراً على نور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 3ـ النسب في كل من الزوجين: ومعنى النسب: طيب الأصل، وكرم المنبت، ودليل ذلك ما جاء في حديث الصحيحين السابق تنكح المرأة لأربع، وذكر منها: (ولحسبها). كذلك يسنّ في الزوج أن يكون ذا حسب، وأصل طيب، لأن ذلك أعون على استدامة الحياة الزوجية، وأقرب إلى طيب العشرة، لأن صاحب الأصل الطيب لا يصدر عنه إلا العِشْرة الكريمة، إذا أحبّ أكرم، وإذا أبغض لا يظلم. 4ـ أن لا يكون بين الزوجين قرابة قريبة: وقد نصّ الشافعي رحمة الله تعالى على أنه لا يتزوج الرجل من عشيرتيه: أي الأقربين. وقد علل الزنجاني ذلك بقوله: إن من مقاصد النكاح اتصال القبائل، لأجل التعاضد والمعاونة، وهذا حاصل في القرابة القريبة من غير زواج. وقد روى: (لا تنكحوا القرابة القريبة، فإن الولد يُخلق ضاوياً) أي نحيفاً، وذلك لضعف الشهوة بين القرابة. ذكر هذا الشربيني في شرحه لمنهاج النووي. لكن ذكر ابن الصلاح أنه لم يجد لهذا الحديث أصلاً معتمداّ، وقد ذكره ابن الأثير في كتابه [النهاية في غريب الحديث والأثر]. ولا يطعن في هذا الحكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد زوّج فاطمة من على رضي الله عنهما، لأنه فعل ذلك لبيان الجواز، أو لأنه ليس بينهما قرابة قريبة جداً، ففاطمة هي بنت ابن عم علي، فهي بعيده عنه بالجملة. 5ـ الكفاءة: ويقصد بالكفاءة: مساواة حال الرجل لحال المرأة اليوم في عدة وجوه: أـ الدين والصلاح، فليس الفاسق كفؤاً لعفيفة صالحة، قال تعالى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18]. ب ـ الحرفة، فصاحب حرفه دنيئة، ككنّاس وحجّام وراع وقيِّم حمام، ليس كفؤا لبت عالم وقاض وتاجر. ج ـ السلامة من العيوب المثبتة للخيار في فسخ النكاح، فمَن به جنون أو برص ليس كفؤاً للسليمة منها. والكفاءة في الزواج من حق الزوجة وأوليائها، وهي وإن لم تكن شرطاً في صحة النكاح، لكن مطلوبة ومقررة دفعاً للعار عن الزوجة وأوليائهما، وضماناً لاستقامة الحياة بين الزوجين، وذلك لأن أسلوب حياتهما، ونوع معيشتهما يكونان متقاربين، ومألوفين لهما، فلا يضطر أحدهما لتغيير مألوفة. فللزوجة وأوليائها إسقاط حق الكفاءة، فلو زوَّجها وليها غير كفء برضاها صحّ الزواج، لأن الكفاءة حقها وحق الأولياء، فإن رضوا بإسقاطها، فلا اعتراض عليهم. ويشير إلى مراعاة الكفاءة، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاءَ وانكحوا إليهم ". رواه الحاكم (النكاح، باب: تخيروا لنطفكم .. ، رقم: 2/ 163) وصححه. 6 - البكارة: والبكر: هي التي لم يسبق لها أن تزوجت، وقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - سبب اختيار الزوجة البكر، حين قال: " عليكم بالأبكارَ، فإنهنّ أعْذَُبُ أفواهاً، وأنتقُ أرحاماً، وأرضى باليسير ". رواه ابن ماجه في (النكاح، باب: تزوج الأبكار، رقم: 1860). [أعذب أفواهاً: ألين كلاماً، فهو كناية عن حُسن كلامها وقلّه بذائها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 وفحشها مع زوجها، لبقاء حيائها، لأنها لم تُخالط زوجاً قبله. أنتق أرحاماً: أكثر أولاداً]. وروى البخاري ومسلم واللفظ له: عن جابر - رضي الله عنه - قال: تزوجت امرأة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا جابر، تزوجت؟ قلت: نعم. قال: بكر أم ثِّيب؟ قلت: ثِّيب. قال: فهلاِّ بكراً تلاعبها؟ قلتْ: يا رسول الله: إن لي أخوات، فخشيت أن تدخل بيني وبينهنّ. قال فذاك إذاً، إن المرأة تنكح على دينها ومالها وجمالها، فعليك بذات الدين تربت يداك ". (البخاري: النكاح، باب: تزويج الثيِّبات. ومسلم: الرضاع، باب: استحباب نكاح ذات نكاح ذات اليدين). وكذلك يستحبّ أن يكون الزوج بكراً، لم يسبق له أن تزوج، لأن النفوس جُبِلت على الاستئناس بأول مألوف. الولود: وتُعرف البكر الولود بأقاربها، كأختها، وعمتها، وخالتها , ويُعرف الرجل الولود أيضاً بأقربائه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " تزوجوا الولود الودود فإني مُكاثر بكم الأمم يوم القيامة ". رواه أحمد، وابن حبّان، والحاكم، وصحّح إسناده. (المستدرك: النكاح، باب، تزوّجوا الودود الولود: 2/ 162) ثانياً: رؤية المخطوبة والنظر إليها: ومن الأمور المستحبّة التي رغّب فيها الإسلام أن ينظر الخاطب إلى المخطوبة قبل الخطبة، إذا قصد نكاحها، ورجا رجاء طاهراً أن يجاب إلى طلبه، وإن لم تأذن له، أو لم تعلم بنظره، اكتفاء بإذن الشرع له، ولئلا تتزين له، فيفوت غرضه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 وله تكرير النظر ثانياً وثالثاً إن احتاج إليه، ليتبين هيئتها، فلا يندم بعد النكاح، إذ لا يحصل الغرض غالباً بأول نظرة. روى الأمام الترمذي وحسّنه (النكاح، باب: ما جاء في النظر إلى المخطوبة، رقم: 1087)، وابن ماجه (النكاح، باب: النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها، رق: 1865) وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - وقد خطب امرأة ـ أي عزم على خطبتها ـ: " انظر إليها فإنه أحرى أنْ يؤدَمَ بينكما ". ومعنى يؤدم بينكما: أن تدوم المودّة والألفة بينكما. وروى البخاري (النكاح، باب: النظر إلى المرأة قبل التزويج، رقم: 4833)، ومسلم (النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تعليم قرآن .. ، رقم: 1524) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أن امرأة جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، جئت لأهبَ لك نفسي، فصعَّد النظر إليها وصَّوبه، ثم طأطأ رأسه. [لأهب لك: أجعل أمري لك: تتزوجني بدون مهر، أو تزوِّجني لمن ترى. فصعد النظر إليها وصوبه: نظر إلى أعلاها وأسفلها وتأملها. طأطأ رأسه: خفض رأسه، ولم يُعد النظر إليها]. وروى مسلم (النكاح، باب: ندب النظر إلى وجه المرأة وكفّيها لمن يريد تزوجها، رقم: 1434) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتاه رجل، فأخبره أن تزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنظرتَ إليها؟ " قال: لا. قال: " فاذهب فانظر إليها، فإنَّ في أعين الأنصار شيئاً " أي يختلفن عن أعين غيرهنّ ربما لا يعجبك. وعن أبي حُميد الساعدي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا خطب أحدكم امرأة فلا جُناح عليه أن ينظر منها، إذا كان إنما ينظر إليها لخطبته، وإن كانت لا تعلم ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 رواه أحمد (5/ 424) هذا ويحق لها أيضاً أن تراه، إذا أرادت الزواج منه، لتتبين هيئته، ولا تندم بعد النكاح، فإنها يعجبها منه ما يعجبه منها. حدود النظر: ولا يجوز للخاطب أن ينظر من المخطوبة إلاّ وجهها وكفّيها ظهراً وبطناً، لأنها مواضع ما يظهر من الزينة المُشار إليها، في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] والحكمة من الاقتصار على الوجه والكفّين، أن الوجه يستدل به على الجمال، واليدين يستدل بهما على خصب البدن ولينه. وإن لم يتيسر له أن ينظر إليها، أرسل امرأة تتأملها، وتصفها له. لأنه - صلى الله عليه وسلم - بعث أم سليم إلى امرأة، وقال: " انظري عرقوبيها، وشمي عوارضها ". رواه الحاكم (في النكاح: 2/ 166) وصححه. [العرقرب: عصب غليظ فوق عقب الإنسان. وشمّي عوارضها: أي رائحة جسمها " ويؤخذ من الحديث أن للمبعوث أن يصف للباعث زائداً على ما ينظره بنفسه، فيستفيد بالبعث ما لا يستفيده بنظره. حكم نظر الأجنبي إلى المرأة: ويحرم نظر رجل بالغ عاقل مختار ـ ولو شيخاً، أو عاجزاً، وكذلك المراهق وهو مَن قارب البلوغ ـ إلى أيّ جزء من جسم المرأة أجنبية كبيرة. والكبيرة هي من بلغت حدّاً تشتهى فيه، ولو كانت غير بالغة، ولو كان ذلك الجزء الوجه والكفّين، ولو لم تكن هناك فتنة على الصحيح في المذهب. وكذلك يحرم على المرأة أن تنظر إلى الرجل لغير حاجة. قال الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ {30} وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 3 - 31]. وروي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنت عند ميمونة رضي الله عنها ـ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ إذ أقبل ابن أمّ مكتوم - رضي الله عنه - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " احتجبا منه، فقلت: يا رسول الله: أليس هو أعمى لا يبصر ولا يعرفنا؟ فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه " رواه الترمذي (الأب، باب: ما جاء في احتجاب النساء من الرجال، رقم: 2779) وقال: حديث حسن صحيح. هذا، وحيث حرّم النظر فيما ذكر حرّم المسّ، لأنه أبلغ منه في التلذذ وإثارة الشهوة. أما النظر إلى الصغيرة التي لا تُشتهى، والصغير الذي هو دون المراهقة، فإنه لا يحرم النظر إلا إلى الفرج منهما. لأن النظر إليهما ليس في مظنة شهوة، فلا يحرم ذلك. النظر إلى المحارم: ويجوز نظر الرجل إلى محارمه من النساء إلا ما بين السرّة والركبة. وكذلك المرأة تنظر إلى محارمها من الرجال ما عدا ما بين السرّة إلى الركبة. متى يباح النظر إلى الأجنبية؟ واعلم أن ما تقدم من حُرمة النظر إلى المرأة الأجنبية، والمسّ لهما، إنما هو حيث لا تدعوا الحاجة إليهما، وأما إذا دعت الحاجة إلى النظر، أو المسّ، فإن ذلك يُباح، وليس فيه حرج. والحاجة تظهر في الأمور الآتية: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 1ـ عند المداواة، لأن في التحريم حرجاً، والإسلام دين اليُسْر ورفع الحرج. قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحرج: 78]. فيُنظر إلى المواضع التي يحتاج إليها. روى مسلم (السلام، باب: لكل داء ودواء واستحباب التداوي، رقم: 2206) عن جابر - رضي الله عنه -: (أن أم سلمة رضي الله عنهما استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحجامة، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا طيبة أن يحجمها). فللرجل مداواة المرأة إذا كانت الضرورة تتطلب ذلك، ولم توجد امرأة تعالجها، وكذلك للمرأة مداواة الرجل إذا لم يوجد رجل يعالجه، ودعت الضرورة إلى ذلك، لكن لا يعالج الرجل المرأة إلا بحضرة مَحرَم، أو زوج، أ, امرأة ثقة. وإذا وجد الطبيب المسلم، لا يعدل إلى غيره. 2ـ عند المعاملة من بيع وشراء، إذا كانت هناك حاجة لمعرفة تلك المرأة، ولم تعرف دون النظر إليها. 3ـ عند الشهادة تحملاً وأداء، لأن الحاجة تدعوا إلى النظر إلى المشهود عليه، أو المشهود له 4ـ عند التعليم: وذلك فيما ذكر، فإنما يُباح بقدر الحاجة فقط، لأن النظر إنما أبيح للضرورة أو الحاجة، والضرورة والحاجة تقدر بقدّر ما يرفع الحرج ويحقق الغرض. ثالثاً: الخطبة: فإذا تمّ الوثوق من الصفات الحسنة، وتحقق بالرؤية والنظر الرضا والرغبة، جاء دور الخطبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 والخطبة ـ بكسر الخاء ـ هي التماس الخاطب النكاح من جهة المخطوبة. متى تحل الخطبة، ومتى تحرم: 1ـ تحل الخطبة تصريحاً وتعرضاً، إذا كانت المخطوبة خليَّة من نكاح، وعدة، ومن كل موانع النكاح التي مر ذكرها في المحرمات. 2ـ تحل الخطبة تعريضاً فقط لا تصريحاً، إذ كانت المرأة معتدّة من وفاة، أو طلاق بائن. قال الله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة " 235] [لا جُناح: لا إثم ولا حرج. أكننتم: أخفيتم. لا تواعدوهنّ سرّاً: لا تعدوهن بالنكاح خفية. قولاً معروفاً: موافقاً للشرع، وهو التعريض. ولا تعزموا عقدة النكاح: لا تحققوا العزم على عقد الزواج. حتى يبلغ الكتاب أجَلَه: حتى تنقضي العدّة، وهي المدة التي فرضها الله على المعتدّة في كتابه أن لا تتزوج خلالها]. 3ـ وتحرم الخطبة تعريضاً وتصريحاً فيما عدا ما ذكر، في الفقرة الأولى والثانية. فتحرم خطبة امرأة ما تزال على عصمة زوجها. كما تحرم خطبة كل امرأة ذكرت في محرمات النكاح، سواء كانت محرمة مؤبدة أم محرمة مؤقتة. وتحرم خطبة المرأة المعتدّة من طلاق رجعي، سواء كان ذلك بالتعريض أم بالتصريح، لأنها زوجة، أو في معنى الزوجة، لأن لزوجها الحق في مراجعتها، قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً ً} [البقرة: 228]. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 معنى التصريح بالخطبة: والتصريح في الخطبة معناه: كل لفظ يقطع بالرغبة في النكاح: كأُريد أن أنكحك، أو: إذا انقضت عدتك تزوجتك. معنى التعريض بالخطبة: والتعريض بالخطبة معناه: أن يستعمل لفظاً يحتمل الرغبة في النكاح، وعدمها، كأن يقول للمعتدّة: أنت جميلة، أو: ربّ راغب فيك، مَن يجد مثلك، أو نحو ذلك. الخطبة على الخطبة: وتحرم خطبة إنسان على خطبة أخيه، إذا كان قد صرح له بالإجابة، إلا بإذنه. فإن لم يجب ولم يرد لم تحرم الخطبة. وهذه الحرمة حرمة توجب الإثم، ولا توجب بطلان العقد، فيما إذا خطب على خطبة أخيه، وعقد عقد الزواج. ودليل هذا التحريم: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له الخاطب ". رواه البخاري (النكاح، باب: لا يخطب على خطبة أخيه .. ... ، رقم: 4848)، ومسلم (النكاح، باب: تحريم الخطبة على خطبة أخيه .. ، رقم: 1412) عن ابن عمر - رضي الله عنه - حكم الاستشارة في خاطب أو مخطوبة: مَن استُشير في خاطب أو مخطوبة وجب عليه أن يذكر من العيوب والمساوئ ما يعرف بصدق، ليحذر، وذلك بذلاً للنصيحة، ولا يعدّ ذلك من الغيبة المحرّمة. هذا إذا احتيج إلى ذكر العيوب، أما إذا اندفع بدون ذكر ذلك، كقوله مثلاُ: هذا لا يصلح لك، أو هذه لا تصلح لك، وجب الاقتصار على ذلك. دليل هذا الحكم حديث فاطمة بنت قيس رضي الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 عنهما عند مسلم (الطلاق، باب: المطلّقة ثلاثاً لا نفقة لها، رقم: 1480)، والترمذي (النكاح، بباب: ما جاء في أن الرجل لا يخطب على خطبة أخيه، رقم: 1135) أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أما أبو جهم فلا يَضَعُ عصاه عن عاتقه، وأما معاويةُ فصعلوكّ لا مال له، انكحي أسامة بن زيد، فكرهته، ثم قال: انكحي أسامة، فنكحته، فجل الله فيه خيراً، واغتبطتْ ". عرض الوليّ موليته على ذوي الصلاح والتقوى: ويسن لولي المرأة التي يرغب في تزويجها أن يعرض زواجها على أهل الصلاح والتقوى، تأسياً بما فعل شعيب عليه الصلاة والسلام مع موسى - صلى الله عليه وسلم - حين عرض بنته عليه، لما عُرِف من أمانته وعفافه. قال تعالى حاكياً قصتهما: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ {26} قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ {27} قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 26 ـ 28] .. وتأسياً أيضاً بما فعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عندما عرض ابنته حفصة رضي الله عنها على عثمان، ثم على أبي بكر، وتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم -. (البخاري: النكاح، باب: عرض الإنسان ابنته أو أُخته على أهل الخير). سنن الخطبة: ويستحبّ للخاطب، أو وكيله، تقديم خُطبة ـ بضم الخاء ـ قبل الخطبة ـ بكسر الخاء ـ وقبل العقد، يبدؤها بحمد الله والصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - لحديث: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 (ابن ماجه: النكاح، باب: خطبة النكاح، رقم: 1849). ثم يوصي بتقوى الله عز وجل، ثم يظهر رغبته، فيقول: جئتكم خاطباً كريمتكم. ويستحب أيضا لوليّ المخطوبة أن يخطب، ويقول: بعد حمد الله والصلاة والسلام على النبي وآله والوصية بقوى الله عز وجل: ليس بمرغوب عنك. والخُطبة قبل العقد آكد من الخُطبة قبل الخِطبة، لورود ذلك عن السلف الصالح - رضي الله عنه -. وقد تبرك الأئمة رضي الله عنهم بما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - موقوفاً ومرفوعاً قال: إذا أراد أحدكم أن يخطب لحاجة من نكاح وغيره، فليقل: (إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً {70} يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70ـ 71] (انظر شرح الشربيني على المنهاج: كتاب النكاح: 3/ 138). حكم الخلوة بالمخطوبة والاختلاط بها قبل العقد: لقد شاع وانتشر في بعض الأوساط المسلمة، البعيدة عن روح الإسلام في الزواج، أن الخاطب بمجرد أن يعلن خطبته يبدأ بالاختلاط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 بخطيبته، والخلوة بها، مدعياً أنه يفعل ذلك ليتعرف أخلاقها وطباعها، وهو مقتنع في قرارة نفسه أنه لن يستطيع أن يكشف من حقيقة أخلاقها شيئاً، لأنه كان يفكر هو بأن أمامها ـ تصنعاً ـ بأنه فارس أحلامها المنشود في كرمه، وتسامحه، وكياسته، فإنها هي أيضاً تتصنع له أكثر مما يتصنع لها، وتحاول أن تفهمه أنها هي الفتاة التي رسمها في خيالها رقة وأنوثة، وذوقاً، وأدباً وأخلاقاً وسلوكاً. إن اختلاط الخاطب بالمخطوبة وخلوته بها قبل عقد الزواج أمر حرام لا يقره شرع الله عز وجل، ولا يرضى به. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يخلون رجل بامرأة إلا ومعهما ذو محرم ". رواه البخاري (النكاح، باب: لا يخلون رجل بامرأة ... ، رقم: 4935) ومسلم (الحج، باب: فرض الحج والعمرة مرة في العمر، رقم: 1314). عن ابن عباس رضي الله عنهما. والخطيبة قبل العقد تعتبر امرأة أجنبية. إن الفتاة العاقلة هي التي تمتنع عن الظهور أما خطيبها بعد أن رآها رؤية الخطبة حتى يتم العقد، لأن من الواجب عليها أن تفكر في مستقبلها، وتحسب الحساب للعواقب التي يمكن أن تواجهها، وتفكر بأن هذا الخاطب إذا فسخ خطبته لها فلن يتقدم شاب آخر لخطبتها، وهو يعلم علاقتها بخطيبها السابق. أما إذا تم العقد، فقد حلّت الخلوة والخلطة لأنها أصبحت زوجة له، يرى منها وترى منه ما بدا لهما، من غير إثم ولا حرج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 أركان عقد النكاح والتعريف بكل ركن، وبيان شروطه للنكاح أركان خمسة: وهي: صيغة، وزوجة، وزوج، ووليّ، وشاهدان. الركن الأول: الصيغة: والصيغة: هي الإيجاب من وليّ الزوجة، كقوله: زوجتك، أو: أنكحتك ابنتي. والقبول من الزوج كقوله: تزوجت، أو نكحت ابنتك، ويصحّ تقدّم لفظ الزوج على لفظ الوليّ، لأن التقدم والتأخر سواء في إفادة المقصود. الحكمة من تشريع الصيغة: والحكمة: هي أنه لما كان عقد الزواج من العقود التي لا بدّ فيها من رضا العاقدين، والرضا أمر خفي لا يُطلع عليه، اعتبر الشرع الصيغة ـ وهي الإيجاب والقبول ـ دليلاً ظاهراً على الرضا في نفس كل من العاقدين. شروط الصيغة: ويشترط في الصيغة الشروط التالية: 1ـ أن تكون بلفظ التزويج، أو الإنكاح: وما يشتق منهما؛ كزوّجتك وأنكحتك، وقبلت تزويجا، أو قبلت نكاحها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 وإنما اشترط لفظ التزويج الإيجابي، وما اشتق منهما، لأنهما اللفظان الموضوعان في اللغة والشرع، للدلالة على عقد الزواج، وهما المستعملان في نصوص القرآن والسنة. ففي القرآن قال تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] وقال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ... .. ... } [الأحزاب: 37] [وطراً: حاجة، ولم تبق له رغبة فيها. أدعيائهم: الذين ادّعوا أنهم أبناؤهم وهم ليسوا كذلك]. وفي السنّة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ... . ". (انظر دليل مشروعية النكاح). 2ـ التصريح بلفظ الزواج، أو النكاح في الإيجاب وفي القبول: فلو قال الوليّ: زوجتك ابني، فقال الزوج: قبلت، لم ينعقد النكاح. ولو قال الزوج: زوِّجني ابنتك، فقال الوليّ: قبلت، لم ينعقد النكاح أيضاَ، لأنهما لم يصرحاً بلفظ الزواج، أو النكاح. عقد النكاح بغير العربية: ويصحّ عقد النكاح باللغات العجمية، وهي مساعد اللغة العربية. فلو وجد الإيجاب والقبول بلغة عجمية صح عقد النكاح، ولو كان الزواج ووليّ الزوجة يعرفان اللغة العربية، اعتباراً بالمعنى، لأن لفظ الزواج أو النكاح لا يتعلق بهما إعجاز، فاكتفي بترجمتهما. عقد النكاح بألفاظ الكناية: لا يصحّ عقد الزواج بألفاظ الكناية بأيّ لغة كانت. وألفاظ الكناية: هي التي تحتمل الزواج وغيره: كأحللتك ابنتي، أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 وهبتها لك، لأن ألفاظ الكناية تحتاج إلى النّية، والنّية محلّها القلب. وعقد النكاح يشترط فيه الشهود، والشهود لا يطّلعون على ما في القلوب، حتى يشهدوا: إن كان العاقدان قد نويا النكاح، أو غيره. عقد النكاح بالكتابة: وكذلك لا ينعقد النكاح بالكتابة، سواء كان المتعاقدان حاضرين أو غائبين. فلو كتب وليّ الزوجة إلى غائب، أو حاضر: زوجّتك ابنتي، فوصل الكتاب إلى الزوج، فقرأه، وقال: قبلت زواج ابنتك، لم يصحّ العقد، لأن الكتابة من الكناية، والنكاح لا ينعقد بالكناية. إشارة الأخرس المفهمة: أما إشارة الأخرس المفهمة، وهي التي لا يختص بفهم المراد منها الفطنون الأذكياء، فإنها ينعقد بها عقد النكاح لأنها تنزل منزلة اللفظ الصريح. أما إذا كانت إشارته خفية، لا يفهمها إلا الأذكياء الفطنون، فلا ينعقد بها الزواج، لأنها عندئذ تنزل منزلة الكناية، والكناية لا ينعقد بها الزواج. 3ـ اتصال الإيجاب بالقبول: ومن شروط الصيغة أيضا أن يتصل الإيجاب من الولي بالقبول من الزوج، فلو قال ولي الزوجة: زوّجتك ابنتي، فسكت الزوج مدة طويلة، ثم قال: قبلت زواجها، لم يصح العقد، لوجود الفاصل الطويل بين الإيجاب والقبول، مما يجعل أمر رجوع الوليّ في هذه المدة عن الزواج أمراً محتملاً، أما السكوت اليسير: كتنفس، وعطاس، فإنه لا يضرّ في صحة العقد. 4ـ بقاء أهلية العاقدين إلى أن يتم القبول: فلو قال وليّ الزوجة: زوّجتك ابنتي ولكن قبل أن يصدر القبول من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 الزوج جنّ الولي، أو أغمي عليه، فقبل الزوج، لم يصح النكاح. وكذلك لو قال الزوج: زوِّجني ابنتك، ثم أغمي عليه قبل أن يقول وليّ الزوجة: زوّجتك، بطل الإيجاب، ولم يصحّ العقد ولو وجد القبول، لفقدان أهليّة أحد العاقدين قبل تمام العقد. 5ـ أن تكون الصيغة منجزة: فلا تصح إضافة عقد الزواج إلى المستقبل، ولا تعليقه على شروط. فلو قال ولي الزوجة: إذا جاء رمضان فقد زوّجتك ابنتي، فقال الزوج: تزوجتها، لم يصح العقد. ولو قال وليّ الزوجة: إن كانت ابنتي قد نجحت في الامتحان فقد زوّجتك إياها، فقال الزوج: قبلت زواجها، لم يصح الزواج أيضاً، لأن عقد الزواج يجب أن يكون منجزاً، تترتب عليه آثاره من حين إنشائه، فإضافته إلى المستقبل، أو تعليقه على شروط يقتضي تأخير أحكام العقد إلى المستقبل، أو إلى وجود الشرط، وهذا يُنافي مقتضى العقد. 6ـ أن تكون الصيغة مطلقة: فلا يصحّ توقيت النكاح بمدة معلومة: كشهر، أو سنة، أو مجهولة: كقدوم غائب، فلو قال وليّ الزوجة: زوّجتك ابنتي شهراً، أو سنة، أو إلى قدوم فلان، فقال الزوج: قبلت زواجها، لم ينعقد الزواج في هذه الصور، لأن هذا من نكاح المتعة المحرّمة. روى مسلم (النكاح، باب: نكاح المتعة وبيان أنه أُبيح ثم نسخ ... .، رقم: 1406) وغيره عن سَبْرَة الجهني - رضي الله عنه - أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا أيّها الناس، إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهنّ شيء فليخلِّ سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 نكاح الشغار: لا يصحّ نكاح الشغار، وهو: أن يقول وليّ الزوجة لرجل: زوّجتك ابنتي على أن تُزوِّجني ابنتك، ويضع كل واحدة منهما صداق للأُخرى. فيقول الآخر: تزوجت ابنتك، وزوجتك ابنتي على ما ذكرت. وسبب بطلان هذا الزواج هو تعليق زواج كلِّ من الزوجين على الأخرى، والتعليق مفسد للعقد كما سبق. وأيضاً، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نكاح الشغار. روى البخاري (النكاح، باب: الشغار، رقم: 4822) ومسلم (النكاح، باب: تحريم نكاح الشغار وبطلانه، رقم: 1415) وغيرهما عن ابن عمر - رضي الله عنه -: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهي عن الشِّغار، والشغار: أن يزوّج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته، وليس بينهما صداق. وسمي هذا الزواج شغاراً أخذاً من قولهم: شغر البلد من السلطان: إذا خلا عنه. وهذا الزواج قد خلا هو أيضاً من المهر، فأشبه البلد الشاغر من السلطان. الركن الثاني: الزوجة: ويشترط في الزوجة ليصحّ نكاحها الشروط التالية: 1ـ خلوّها من موانع النكاح التي مر ذكرها في محرمات النكاح والخطبة. 2ـ أن تكون الزوجة معينة، فلو قال وليّ الزوجة لرجل: زوّجتك إحدى بناتي، لم يصحّ العقد، لعدم تعيين البنت التي يزوجها. 3ـ أن لا تكون الزوجة مُحْرِمَةً بحج أو عمرة. روى مسلم (النكاح، باب: تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته، رقم: 1409) وغيره عن عثمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 " لا يُنكَح المحرم، ولا يُنكَح، ولا يَخْطب " أي لا يتزوج المحرم، ومثله المحرَمَة، ولا يزوّجه غيره امرأة محرمة، أو غير محرمة، سواء كان بولاية، أو وكالة، ولا يطلب امرأة للتزويج. الركن الرابع: الزوج: ويشترط فيه الشروط التالية: 1ـ أن يكون ممّن يحل للزوجة التزوّج به، وذلك بأن لا يكون من المحرمين عليها. 2ـ أن يكون الزوج معيناً، فلو قال الوليّ: زوّجت ابنتي إلى أحدكما، لم يصحّ الزواج، لعدم تعيين الزوج. 3ـ أن يكون الزوج حلالاً، أي ليس محرماً بحج أو عمرة، للحديث السابق " لا يَنْكِح المحرم، ولا يُنكَح، ولا يخطب ". الركن الرابع: الوالي: معنى الولاية: الولاية في اللغة: تأتي بمعنى المحبة والنصرة. وعليه قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]. والولاية في الشرع: هي تنفيذ القول على الغير، والإشراف على شؤونه. والمراد بالغير: القاصر والمجنون، والبالغة في ولاية الاختبار. ويعرّفها بعضهم: بأنها تنفيذ القول على الغير، شاء أو أبى، فتشمل على هذا ولاية الإجبار. ويسمى مَن أعطته الشريعة حق الولاية: ولياً. قال الله تعالى: {فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282]. حكمة مشروعية الولاية: والحكمة من مشروعية الولاية على الصغار والقاصرين إنما هي رعاية مصالحهم، حتى لا تضيع هدراً، وحفظ حقوقهم، وتدبير شؤونهم. وجود الولي واجب في عقد الزواج: لابد في تزويج المرأة بالغة كانت أو صغيرة، ثيّباً كانت أو بكراً، من وليّ يلي عقد زواجها. فلا يجوز لامرأة تُزوَّج نفسها، ولا أن تزوَّج غيرها، بإذن أو بغير إذن سواء صدر منها الإيجاب، أو القبول. ودليل ذلك ما رواه الدارقطني (في النكاح 3/ 227) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تزوَّج المرأةُ المرأة، ولا تزوَّج نفسها " وكنا نقول: التي تزوِّج نفسها هي الفاجرة. وفي رواية: هي الزانية. الحكمة من اشتراط الولي في زواج المرأة: والحكمة من اشتراط الوليّ أنه لا يليق بمحاسن العادات دخول المرأة في مباشرة عقد الزواج، وذلك لما يجب أن تكون عليه من الحياء. 5ـ دليل وجوب الوليّ في عقد زواج المرأة: واستُدل على وجوب الوليّ في عقد زواج المرأة بالقرآن الكريم، والسنّة النبوية: أما القرآن الكريم: فقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ... . } [البقرة: 232. قال الشافعي رحمة الله تعالى: هذه الآية أصرح دليل على اعتبار الوليّ، إذ لو لم يكن معتبراً لما كان لعضله معنى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 والعضل: منع المرأة من الزواج. وأما السنّة: فما رواه ابن حبّان: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا نكاحَ إلا بَوِلّي وشاهدَيْ عدْل، وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل ". (موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان: النكاح، باب: ما جاء في الوليّ والشهود). وروى أبو داود (النكاح، باب: في الوليّ، رقم: 2085)، والترمذي (النكاح، باب: لا نكاح إلا بوليّ، رقم: 1101) عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا نِكَاح إلا بوَليّ ". 6ـ حكم الزواج بغير وليّ وما يترتب عليه: فإذا زوجت المرأة نفسها من غير وليّ اعتبر زواجها باطلاً، ثم إن أعقب هذا الزواج دخول وجب التفريق بينهما، لبطلان العقد، ووجب للمرأة مهر المثل، سواء سمي لها في العقد مهر، أم لم يُسَمّ. ودليل ذلك: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أيُّما امرأُة نكحت بغير إذْن وليِّها فنكاحُها باطلّ ـ ثلاثاً ـ فإن دخل بها فلها المهر بما استحلّ من فرجها، فإن تشاجروا، فالسلطانُ وليّ من لا وليَّ له). رواه أبو داود (النكاح، باب: في والولي، رقم: 2083) وابن ماجه (النكاح، باب: لا نكاح إلا بوليّ، رقم (1881)، والترمذي (النكاح، باب: إلا بوليّ، رقم: 1102) عن عائشة رضي الله عنها. ولا يجب على الواطئ في هذا النكاح الباطل ـ الذي تمّ بغير وليّ. حدّ الزنى، لشبهة اختلاف العلماء في صحة النكاح بغير وليّ. والحدود تدرأ بالشبهات، لكن فيه التعزيز. والتعزيز عقوبة دون الحدّ يقدّرها القاضي بما يراه رادعاً ومؤدباً. 7ـ الأولياء في الزواج حسب ترتيبهم: والأولياء في الزواج هي على الترتيب الآتي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 الأب. ثم الجد أبو الأب. ثم الأخ الشقيق. ثم الأخ من الأب. ثم ابن الأخ الشقيق. ثم ابن الأخ من الأب. ثم العم الشقيق. ثم العم من الأب. ثم ابن العم الشقيق. ثم ابن العم من الأب. وهكذا سائر العصبات، فإن عُدمت العصبات فالقاضي، لما سبق من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فالسلطان وليّ من لا وليّ له ". 8ـ ولاية الابن في الزواج: هذا ولا ولاية للابن، ولا لابن الابن في الزواج، فلا يزوج ابن أمه بولاية البنوة، لأنها لا مشاركة بينه وبينها في النسب، إذ انتسابها إلى أبيها، وانتساب الابن إلى أبيه. إلا أن يكون من أبناء العمومة لأُمه، فإن كان ابن ابن عمّها، ولم يوجد وليّ أقرب منها جاز له أن يزوِّجها. 9ـ شروط الولي: ويشترط في الوليّ، أبا كان أو غيره، الشروط التالية: أـ الإسلام: فلا يزوّج الكافر المسلمة، لأنه لا ولاية لكافر على مسلم. قال الله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 1401]. ولأن ولاية الزوج مبنية على التعصب في الإرث، ولا توارث بين مسلم وكافر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 ويزوج كافر كافرة، ولو اختلف اعتقادها، فيزوج اليهودي نصرانية، والنصراني يهودية، لأن الكفر كله ملة واحدة. قال الله تعالى: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [الأنفال: 73]. ب ـ العدالة: والمقصود بالعدالة: عدم ارتكاب الكبائر من الذنوب، وعدم الإصرار على الصغائر، وعدم فعل ما يخلّ بالمروءة: كالبول في الطرقات، والمشي حافيا، وغير ذلك. فلا يُزوّج الفاسق مؤمنة، بل ينتقل حق تزويجها إلى الوليّ الذي يليه، إن كان عدلاً. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا نكاحَ إلا بوَليّ مُرْشِد " رواه الشافعي في مسنده بسند صحيح. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: المراد بالمرشد في الحديث: العدل. ولأن الفسق نقص يقدح في الشهادة، فيمنع الولاية في الزواج. وفي قول: لا تشترط العدالة في الزواج، لأن الولاية في الزواج مبنية على التعصب، والعصبة تحمله وفرة الشفقة على تحرّي مصلحة موليته، وهذه الشفقة لا تختلف بين العدل وغيره. ولأن اشتراط العدالة قد يؤدي إلى حرج كبير لقلّة العدول، ولاسيما في هذه الأيام، ولم يعرف أن الفسقة كانوا يُمنعون من تزويج بناتهم في أيّ عصر من العصور. ج ـ البلوغ: فلا ولاية لصبي على غيره من الزواج، لأنه لا ولاية له على نفسه، فلا ولاية له على غيره من باب أولى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 د ـ العقل: فلا ولاية لمجنون، لأنه لا ولاية له على نفسه، فأولى أن لا يكون له ولاية على غيره هـ ـ السلامة من الآفاق المُخلّة بالنظر: فلا ولاية لمختلِّ النظر بسبب هرم، أو خبل، لعجز هؤلاء عن اختيار الأكفّاء، فإن كان مريضاً يغمى عليه انتظرت إفاقته، لأن الإغماء قريب الزوال كالنوم. وـ أن لا يكون محجوراً عليه بسفه: والمحجور عليه بسفه: هو الذي يبذر ماله، لأن السفيه لا ولاية له على نفسه، فأولى أن لا يكون له ولاية على غيره. زـ أن يكون حلالاً: فلا يزوّج المُحْرمُ بحج أو عمرة غيره، وهو محرم، لما سبق من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ينكح المحرم ولا ينكح ". رواه مسلم (النكاح، باب: تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته، رقم: 1409). تنبيه: إذا فقدت هذه الشروط التي ذكرت في وليّ قريب من الأولياء، انتقل حق الولاية إلى الوليّ الذي يليه، ممّن توفرت فيه شروط الولاية كاملة، إلا المُحرم، فإنه لا تنتقل الولاية عنه إلى الأبعد منه، لأن الإحرام لا يسلب الولاية، لبقاء الرشد والنظر، وإنما يمنع النكاح، ولكن ينتقل حق التزويج إلى السلطان عند إحرام الوليّ القريب. 10ـ أقسام الولاية: تنقسم الولاية في الزواج إلى قسمين: الأول: ولاية إجبار. والثاني: ولاية اختيار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 ولاية الأَجبار: وولاية الإجبار ثابتة للأب، والجد أبي فقط، ولا ولاية إجبار لغيرهما. وولاية الإجبار إنما تكون في تزويج البنت البكر، صغيرة كانت أو كبيرة، عاقلة أو مجنونة. فلأبيها ـ وكذلك لجدها أبي أبيها ـ أن يزوِّجها بغير إذنها ورضاها، لأنه أدرى بمصلحتها، ولوفرة شفقته عليها لا يختار لها إلا ما فيه مصلحة لها. واحتجّوا لهذا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الأيّم أحقّ بنفسها من وليِّها ... " وسيأتي بعد قليل ـ فإنه يدل بمفهومه أن البكر وليّها أحق بها من نفسها، لأن الأيم هي الثيب، وهي غير البكر. لكن شرطوا لصحة هذا الإجبار ثلاثة شروط: أـ أن لا يكون بينه وبينها عداوة ظاهرة. ب ـ أن يكون الزوج كفؤاً. ج ـ أن يكون الزوج موسراً بمعجل المهر. الترغيب في استئذان البكر في الزواج: إذا قلنا إن ولاية الأب ـ ومثله أبو الأب ـ هي ولاية إجبار، فليس معنى ذلك أن الأفضل أن يجبرها على الزواج، ويمهل رأيها، بل الأفضل والمستحب أن يستأذنها في تزويجها، تقديراً لها، وتطبيقاً لقلبها. ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تٌُنْكحٌ الأيم حتى تستأمر، ولا تنكحُ البكرُ حتى تستأذنُ، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنُها؟ قال: أن تسكُت ". رواه مسلم (النكاح، باب: استئذان الثّيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت، رقم: 1419) والترمذي (النكاح، باب: ما جاء في استئذان البكر والثيب، رقم: 2107) وروى مسلم (النكاح، باب استئذان الثّيب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت، رقم: 1421) عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكرُ تستأذنُ في نفسها، وإذنُها صُماتُها ". ورواه الترمذي أيضاً (النكاح، باب: ما جاء في استئذان البكر والثيّب، رقم: 1108). [والأيّم في الحديثين: هي الثيّب]. والحديثان محمولان على الندب في حق البكر. ولاية الاختيار: ولاية الاختيار: فهي ثابتة لكل الأولياء الذين ذكرناهم، وعلى الترتيب الذي قدّمناه. وولاية الاختيار إنما تكون في تزويج المرأة الثيب، فلا يصح تزويجها من قبل أي من أوليائها ـ ولو كان أباً ـ إلا بإذنها ورضاها. ودليل ذلك حديث مسلم والترمذي السابق: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر). وحديث مسلم والترمذي أيضاً: (الأيم أحق بنفسها من وليها). والثيِّب: هي التي زالت بكارتها بوطء حلال أو حرام، ولا بمرض أو سقطة، أو غير ذلك. الحكمة من استئمار الثِّيب: والحكمة من استئمار الثيب، وعدم تزويجها إلا برضاها هي أنها عرفت مقصود النكاح، فلا يجبر عليه، ولأنها لممارستها الزواج لا تستحي من التصريح به، بخلاف البكر فإنها تستحي من التصريح به. تزويج الثيب الصغيرة: الثَّيب الصغيرة التي هي دون البلوغ، لا يجوز لأبيها، ولا لأي ولي من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 أوليائها تزويجها حتى تبلغ، لأن إذن الصغيرة غير معتبر، فامتنع تزويجها حتى تبلغ، فيكون إذنها معتبراً. عضل الولّي: العضل: منع المرأة من الزواج. فإذا طلبت امرأة بالغة عاقلة الزواج من كفء، وجب علي وليِّها أن يزوجها، فإذا امتنع الولي ـ ولو أبا ـ من تزويجها، زوّجها السلطان، لأن تزويجها حق على أوليائها إذا طلبها الكفؤ، فإذا امتنعوا من وفاته لها، وفّاه الحاكم. ودليل ... ذلك: ما رواه أبو داود (النكاح، باب: في الولي، رقم 2038)، والترمذي (النكاح، باب: ما جاء لا نكاح إلا بولي، رقم 1102) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " السلطان ولي من لا ولي له ". لكن إذا عيّنت هو كفؤاً، وعّين الولي كفؤاً غيره، كان له أن يمنعها من الكفء الذي عيّنته، ويزوجها من الكفء الذي عيّنه، إذا كانت بكراً، لأنه أكمل نظراً منها. غيبة الولّي: إذا تعدد الأولياء، وغاب الوليّ الأقرب، فإن كان مكان غيبته بعيداً ـ مرحلتين فأكثر، والمرحلتان مسيرة يوم وليلة ـ فإنه لا ينتقل حق الولاية إلى الولي الأبعد منه، وإنما يزوجها سلطان بلده، لأن الغائب وليّ، والتزويج حق له، فإن تعذر استيفاء حق الزوجة منه لغيبته، ناب عنه الحاكم. أما إذا كان مكان غيبته قريباً ـ أي أقل من مرحلتين ـ فلا يزوج السلطان إلا بإذنه، لقصر المسافة، وإمكان مراجعته، فإما أن يحضر، أو يوكِّل، كما لو كان مقيماً. اجتماع أولياء في درجة واحدة. إذا اجتمع أولياء المرأة وكانوا في درجة واحدة من النسب، كإخوة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 أشقاء أو لأب، استحب أن يزوِّجها أفقههم بباب النكاح، لأنه أعلم بشرائطه. وبعده يزوجها أورعهم، لأنه أشق وأحرص على طلب الأغبط لها. ثم أسنّهم لزيادة تجربته. ويزوَّجها كل واحد من هؤلاء برضا الآخرين، لتجتمع الآراء، ولا بتشوش بعضهم باستئثار بعض بالعقد. فإن اختلف الأولياء، وقال كل واحد منهم أنا أزوِّج، أقرع بينهم وجوباً قطعاً للنزاع، فمن خرجت قرعته زوَّجها. فلو زوجها المفضول، أو غير مَن خرجت قرعته، وكانت قد أذنت لكل منهم أن يزوجها، صح تزويجه لها للإذن فيه، أما لو كانت أذنت لواحد منهم، فزوّجها غيره، فإنه لا يصحّ لعدم إذنها ورضاها. فقدان الأولياء: إذا انعدم الأولياء انتقلت الولاية إلى القاضي، لأنه منصوب لتحقيق مصالح المسلمين. وفي تزويج مَن لا ولي لها مصلحة يجب تحقيقها، وقد تقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " السلطان ولي من لا ولي له ". رواه الترمذي (النكاح، باب: ما جاء لا نكاح إلا بولي، رقم: 1102). الوكالة في الزواج: يصحّ للوليّ المجبرـ وهو الأب والجد أبو الأب ـ في تزويج البكر، التوكيل في تزويجها بغير إذنها. ولا يشترط في صحة هذه الوكالة أن يعين الولي للوكيل الزوج، لأن الولي يملك التعيين في التوكيل، فيملك الإطلاق به، وإذا أطلق الولي الوكالة، وجب على الوكيل أن يحتاط لمصلحة الزوجة، فلا يزوِّجها من غير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 كفء، لأن التوكل عند الإطلاق يحمل على الكفء. أما غير المجبر من الأولياء ـ وهو غير الأب والجد أبي الأب ـ فلا يجوز له التوكيل في التزويج إلا بإذن المرأة، لأنه لا يملك تزويجها بغير إذنها، فأولى أن لا يملك أن يوكل من يزوّجها بغير إذنها. الركن الخامس: الشاهدان: تمهيد: إن عقد الزواج، وإن كان كغيره من العقود التي يشترط فيها الرضا والإيجاب والقبول، لكن الإسلام أحاط هذا العقد بهالة من التعظيم والتفخيم، وطبعه بطابع ديني، وصبغه صبغة تعبدية، فجعل الإقدام عليه طاعة لله عز وجل، وقربة من القربات التي يثاب عليها. ولما كان لعقد النكاح نتائج خطيرة تترتب عليه ـ من حل المعاشرة بين الزوجين، ووجوب المهر والنفقة، وثبوت نسب الأولاد، واستحقاق الإرث، ووجوب المتابعة، ولزوم الطاعة، وكانت هذه النتائج عرضة للجحود والكنود من كل من الزوجين ـ احتاط الدين لها، وأوجب حضور شاهدين ـ على الأقل ـ يشهدان عقد الزواج، وشرط فيهما شروطاً تجعلهما مكان الثقة والاطمئنان لإثبات تلك النتائج، إذا ما دعت الحاجة إلى شهادتهما، فيما إذا دبّ شقاق بين الزوجين، أو تنكر منهما أحد لحقوق هذا العقد ونتائجه. دليل وجوب الشاهدين في عقد النكاح: والدليل على وجوب شاهدين في عقد النكاح قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، وما كان غير ذلك فهو باطل ". رواه ابن حبان في صحيحه. انظر موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان (النكاح، باب: ما جاء في الولي والشهود، رقم: 1247). شروط الشاهدين: يشترط في الشاهدين الشروط التالية: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 أـ الإسلام: فلا يصح عقد النساء بشهادة غير المسلمين، لأن لعقد الزواج اعتباراً دينياً، فلابدّ أن يشهده من يدين بدين الإسلام، ولأن غير المسلم لا يوفّق بشهادته على المسلمين. أضف إلى ذلك أن الشهادة ولاية، فلا تقبل شهادة غير المسلم على المسلم، لأنه لا ولاية له عليه. قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [التوبة: 71] وقال تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]. ب ـ الذكورة: فلا ينعقد عقد الزواج بشهادة النساء، ولا برجل وامرأتين. قال الزهري رحمه الله: (مضت السنّة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أنه لا تجوز شهادة النساء في الحدود، والنكاح والطلاق) والزهري تابعي، ومثل هذا القول من التابعي في حكم الحديث المرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما قرره العلماء. ج ـ العقل والبلوغ: فلا ينعقد عقد الزواج بحضور المجانين والصبيان فحسب، لأن عقد الزواج له مكانته الخطيرة، فالاقتصار على حضور المجانين والصبيان استخفاف به. د ـ العدالة ولو ظاهراً: يجب أن يكون الشاهدان عدلين، ولو من حيث الظاهر، أي بأن يكونا مستوري الحال، غير ظاهري الفسق. فلا ينعقد الزواج بشهادة الفاسقين المُجاهرين بفسقهم لعدم الوثوق بشهادتهم. هـ ـ السمع: فلا ينعقد الزواج بشهادة أصمّين، أو نائمين، لأن الغرض من الشهادة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 لا يتحقق بأمثالها، ولأن المشهود عليه قول، فلابدّ من سماعه. وـ البصر: فلا ينعقد بشهادة العميان، لأن الأقوال لا تثبت إلا بالمعاينة والسماع. الإشهاد على رضا الزوجة: يستحبّ الإشهاد على رضا الزوجة بعقد النكاح، وذلك بأن يسمع شاهدان ـ الشروط المذكورة في شروط الشاهدين ـ إذنَ المرأة ورضاها: بأن تقول: رضيت بهذا العقد، أو أذنت فيه، وذلك احتياطاً، ليؤمن إنكارها بعد ذلك. إعفاف الأب أو الجد: يجب على الولد، سواء كان ذكراً أم أنثى، مسلماً أم كافراً، إعفاف الأب، ومثله الجد، سواء كان من جهة الأب، أو من جهة الأم، وسواء كان مسلماً أم كافراً: وذلك بأن يعطيه مهر امرأة حرّة، أو يقول له: تزوج وأنا أُعطيك المهر. لكن يشترط لوجوب ذلك على الولد ثلاثة شروط: أـ أن يكون الولد موسراً بالمهر. ب ـ أن يكون الأب ـ ومثله الجد ـ معسراً بالمهر. ج ـ أن يكون الأب، أو الجد محتاجاً إلى الزواج، وذلك بأن كانت نفسه تتوق إليه. ووجهه: أن هذا الإعفاف للأب ـ أو الجد ـ من وجوه حاجاته المهمة: كالنفقة والكسوة. ولئلا يعرّضه للزنى المفضي إلى الهلاك، وذلك لا يليق بحرمة الأبوة، وليس هو من وجوه المصاحبة بالمعروف، المأمور بها بقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15]. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 أنكحة الكفار: نكاح الكفار فيما بينهم صحيح، ودليل ذلك حديث غيلان وغيره، ممّن أسلم وعنده أكثر من أربعة نسوة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يمسك أربعاً ويفارق سائرهنّ. فلم يسأله - صلى الله عليه وسلم - عن شرائط نكاحهنّ، فلا يجب البحث عن ذلك. ولو ترافعوا إلينا لم نبطل أنكحتهم، ولو أسلموا أقررنا نكاحهم. إسلام الكفّار بعد زواجهم: إذا كان الرجل كافراً، وكان عنده امرأة كافرة، فأسلما معاً، دام نكاحهما. وذلك لأن الفرقة إنما تقع باختلاف الدين، ولم يختلف دينهما في الكفر ولا في الإسلام. روى الترمذي (النكاح، باب: ما جاء في الزوجين المشركين يسلم أحدهما، رقم: 1144)، وأبو داود (الطلاق، باب: إذا أسلم أحد الزوجين، رقم: 2283) عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً جاء مسلماً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم جاءت امرأته مسلمة، فقال: يا رسول الله، إنها كانت أسلمت معي فرُدَّها عليّ، فردها عليه. أما إذا أسلم هو، وأصرّت هي على الكفر: فإن كانت الزوجة كتابية دام نكاحه لها، لجواز نكاح المسلم الكتابية. وإن كانت وثنية، أو ملحدة، ولم تسلم أثناء عدّتها، تنجزت الفرقة بينهما من حين إسلام زوجها. أما إذا أسلمت في العدّة، فإنه يبقى النكاح بينهما. ولو أسلمت المرأة، وأصرّ الزوج على الكفر، فإنه يفرّق بينهما من حين إسلامها، إلا أن يسلم، وهي ما تزال في العدّة، فإنها ترُدّ إليه بنفس النكاح السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 أما إن عاد وأسلم بعد انقضاء عدّتها، فإنها لا ترجع إليه إلا بعقد جديد. روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ردّ بنته زينب على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد. أخرجه الترمذي (النكاح، باب: ما جاء في الزوجين المشركين يسلم أحدهما، رقم: 1142). قال الترمذي: هذا حديث في إسناده مقال، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم: أن المرأة إذا أسلمت قبل زوجها ثم أسلم ز وجها وهي في العدّة، أن زوجها أحقّ بها ما كانت في العدّة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 الصَّدَاق أحكامه ـ المغالاة في المهور تعريف الصداق: الصداق هو المال الذي وجب على الزوج دفعه لزوجته بسبب عقد النكاح. وسمي صداقاً، لإشعاره بصدق رغبة باذله في النكاح. أحكام الصداق: للصداق عدة أحكام نذكرها فيما يلي: أـ حكمه: الصداق واجب على الزوج بمجرد تمام عقد الزواج، سواء سمي في العقد بمقدار معين من المال: كألف ليرة سورية مثلاُ، أو لم يسمِّ، حتى لو اتفق على نفيه، أو عدم تسميته، فالاتفاق باطل، والمهر لازم. ب ـ دليل وجوبه: ودليل وجوب الصداق القرآن، والسنّة، والإجماع. أما القرآن: فقوله تعالى: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] أي عطية، والمخاطب بذلك هم الأزواج. وقوله عزّ وجلّ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24] أي مهورهن. وقال تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] أي تعينوا لهن مهراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 وأما السنّة: فما رواه البخاري (فضائل القرآن، باب: خيركم مَن تعلم القرآن وعلمه، رقم: 4741)، ومسلم (النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد وغير ذلك من قليل وكثير واستحباب كونه خمسمائة درهم لمن لا يجحف به، رقم: 1425) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قالت: " ما لي في النساء من حاجة " فقال رجل: زوِّجنيها، قال: " أعطها ثوباً " قال: لا أجدْ. قال: " أعطها ولو خاتماً من حديد "، فاعْتَلَّ له. فقال: " ما معك من القرآن؟ " قال: كذا وكذا. قال: " فقد زوَّجتُكَها بما معك من القرآن. " [وهبت نفسها: جعلت له أمرها. فاعتلّ له: تعلل أنه لا يجده]. وأما الإجماع: فقد اتفقت كلمة العلماء على وجوبه من غير نكير من أحد. ج ـ حكمة تشريع الصداق: والحكمة من تشريع المهر إنما هي إظهار صدق رغبة الزوج في معاشرة زوجته معاشرة شريفة، وبناءً على حياة زوجية كريمة. كما أنه فيه تمكين للمرأة من أن تتهيأ للزواج بما تحتاجه من لباس، ونفقات. وإنما جعل الإسلام الصداق على الزوج، رغبة منه في صيانة المرأة، من أن تمتهن كرامتها في سبيل جمع المال، الذي تقدمه مهراً للرجل. د ـ تسمية الصداق في العقد: يسنّ تسمية المهر ـ أي تحديد مقداره ـ في عقد الزواج، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُخلِ نكاحاً من تسمية المهر فيه، ولأن في تسميه دفعاً للخصومة بين الزوجين. وإنما لم يحملوا فعله - صلى الله عليه وسلم - على الوجوب، للاجتماع على جواز إخلاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 عقد الزواج من تسمية المهر، وإن كان مع الكراهة، لمخالفة فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. هـ ـ ملكية المهر: والمهر ملك الزوجة وحدها، لا حق لأحد فيه من أوليائها، وإن كان لهم حق قبضه، لكنهم يقبضونه لحسابهم وملكها. قال الله تعالى: {فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} [النساء: 20] وقال عز وجل: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [النساء: 4]. وـ حدّ المهر: لا حدّ لأقل المهر، ولا لأكثره، فكلّ ما صحّ عليه اسم المال، أو كان مقابلاً بمال، جاز أن يكون مهراً، قليلاً كان أو كثيراً، عيناً أو ديناً، أو منفعة: كسجادة، أو ألف ليرة، أو سكنى دار، أو تعليم حرفة. ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم ... } [النساء: 24]. فإنه أطلق المال، ولم يقدره بحدّ معين. وقال - صلى الله عليه وسلم -: " أعطها ولو خاتماً من حَديد ". رواه البخاري (فضائل القرآن، باب: خيركم مَن تعلم القرآن وعلمه، رقم: 4741)، ومسلم (النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد وغير ذلك من قليل وكثير واستحباب كونه خمسمائة درهم لمن لا يجحف به، رقم: 1425)، وروى الترمذي (النكاح، باب: ما جاء في مهور النساء، رقم: 113) عن عامر بن ربيعة - رضي الله عنه -: " أرضيت من نفسك ومالك بنعلين "؟ قالت: نعم، فأجازه. وقال تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاًً} [النساء: 20]. فقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 أباح أن يقدم الزوج لزوجته قنطاراً. والقنطار: المال الكثير فدلّ على أنه لا حدّ للمهر في الكثرة. لكن يستحب أن لا يقل المهر عن عشرة دراهم، خروجاً من خلاف من أوجب ذلك، وهم الحنفية. وكذلك يستحب أن لا يزيد عن خمسمائة درهم، لأنه الوارد في مهور بناته وزوجاته، عليه الصلاة والسلام. روى أحمد وأصحاب السنن ـ وصححه الترمذي (النكاح، باب: ما جاء في مهور النساء، رقم: 1114) ـ عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: (لا تغلوا صدق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى في الآخرة، لكان أولاكم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما أصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثني عشرة أوقية). والأوقية: أربعون درهماً، فيكون مجموع المهر: أربعمائة وثمانين درهماً. وهذا المقدار يساوي نصابين ونصف للزكاة تقريباً كما هو معلوم في نصاب الزكاة الذي تجب فيه الزكاة من الفضة، وذلك يختلف حسب نقد البلد وتقويم هذا المقدار من الفضة. ز ـ تعجيل المهر وتأجيله: لا يشترط تعجيل المهر، بل يصحّ تعجيله كله قبل الدخول، ويصحّ تأجيله كله، أو تأجيل بعضه إلى ما بعد الدخول، ولكن يشترط أن يكون الأجل محدداً، وذلك لأن المهر ملْك الزوجة، فلها الحق في تعجيل وتأجيل ما شاءت منه. وإذا كان المهر معجّلاً، كان للزوجة الحق في حبس نفسها عن زوجها حتى تقبض معجّل مهرها. أما إذا كان المهر مؤجلاً، فلا حق لها في حبس نفسها عن زوجها، لأنها رضيت بالتأجيل، فسقط حقها في حبس نفسها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 ح ـ استقرار المهر، أو نصفه، وسقوطه: تبين مما ذكرنا سابقاً أن المهر يجب للزوجة على لزوج بالعقد الصحيح. وسنذكر الآن الحالات التي يستقر بها المهر على الزوج كله، أو نصفه، والحالات التي يسقط فيها المهر: 1ـ استقرار كل المهر: ويستقر المهر كله في حالتين: الأولى: فيما دخل الزوج بزوجته، سواء كان ذلك الدخول في حال حل: كما إذا كانت المرأة طاهرة من حيض، أو كان في حال حُرمه: كما إذا كانت حائضاً. فإذا دخل بها لزمه المهر كله، لأنه استوفى المعقود عليه وهو الاستمتاع، فلزمه العَوَض. دلّ على ذلك قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24] والمراد بالاستمتاع هنا الدخول والتلذّذ بالجماع، والمراد بالأجور المهور، وسمي المهر أجراً لأنه استحقّ بمقابل المنفعة، وهي ما ذكر من التلذّذ والاستمتاع. وروى مالك في الموطأ (النكاح، باب: ما جاء في الصداق والحياء: 2/ 526) عن عمر - رضي الله عنه -: (أيُّما رجل تزوج امرأة ... . فمسَّها فلها صداقها كاملاً). فمسّها أي دخل بها ووطئها. الثانية: موت أحد الزوجين، سواء حصل الموت قبل الدخول، أو بعده. ودليل ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم. 2ـاستقرار نصف المهر: ويستقر على الزوج نصف مهر زوجته في حالة واحدة، وهي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 ما إذا طلقها بعد عقد صحيح، سمي المهر فيه تسمية صحيحة، وكان هذا الطلاق قبل أن يدخل بها. ودليل هذا الحكم قول الله عزّ وجلّ: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]. ومعنى من قبل أن تمسُّوهن: أي من قبل أن تدخلوا بهنّ. ومعنى فرضتم: أي سمّيتم لهن مهراً. 3ـ سقوط المهر كله: ويسقط المهر كله عن الزوج إذا فارقت الزوجة زوجها قبل الدخول بها، وكان هذا الفراق ناشئاً بسبب منها، كما إذا أسلمت، فانفسخ النكاح، أو ارتدّت، أو فسخت النكاح لعيب في الزوج، أو فسخ الزوج النكاح لعيب فيه، فإنه يسقط المهر في هذه الحالات كلها، لأنها هي السبب في هذه الفرقة، وهي المختارة لها، فكأنها أتلفت المعوّض قبل التسليم، فسقط العوَض. والمعرض: هنا: هو تمكينها زوجها من نفسها. والعوض: هو المهر. ط ـ مهر المثل: تعريف مهر المثل: ومهر المثل: هو المال الذي يطلب في الزواج لمثل الزوجة عادة. تقديره: ويقدّر مهر المثل بالنظر لأقرباء المرأة بالنسب من جهة أبيها. فيراعي في المرأة المطلوب مهر مثلها أقرب مَن تنتسب إليه من نساء العصبة. وأقربهنّ: أخت لأبوين، ثم لأب، ثم بنات أخ، ثم عمّات. كما يراعى كونهنّ مساويات لها في الصفات التي سيأتي ذكرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 فإن فقدَ نساء العصبة، أو لم ينكحن، اعتبر مهر الأقرب فالأقرب من أرحامها، وهنّ أقرباؤها من جهة أمها، كأم، وجدّة، وخالة، وبنات أخوات، لأنهنّ أولى من الأجنبيات. فإن فقدت القريبات من جهة الأم أعتبر مثلها من الأجنبيات في بلدها، ممّن يساويها في الصفات الآتية. الصفات المعتبرة في تقدير مهر المثل: ثم يعتبر في تقدير مهر المثل مع النسب المساواة في الصفات التالية: السن، والعقل، والجمال، واليسار، والعفّة، والدين، والتقوى، والعلم، والبكارة، والثيوبة، وكل ما اختلف به غرض صحيح، لأن المهور تختلف باختلاف هذه الصفات. دليل مشروعية مهر المثل: ويستدل لثبوت مهر المثل وتقريره: بما رواه أبو داود (النكاح، باب: فيمن تزوج ولم يسمِّ صداقاً حتى مات، رقم: 2114)، والترمذي (النكاح، باب: ما جاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت عنه قبل أن يفرض لها، رقم: 1145) بسند حسن صحيح، وغيرهما: عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه سئل عن رجل تزوج امرأة، ولم يفرض لها مثل صداقاً ولم نسائها، ولا وَكْسَ، ولا شَطَطَ، وعليها العدَّةُ، ولها الميراثُ، فقام معقل بن منّا، مثل الذي قضيتَ، ففرح بها ابن مسعود - رضي الله عنه -. موجبات مهر المثل: ويجب مهر المثل للأسباب التالية: أـ إذا كان عقد النكاح فاسداً، وذلك كأن فَقَدَ العقد شرطاً من شروط صحته، كأن تزوجت من غير شهود، أو من غير وليّ. ثم تبع ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 العقد الفاسد دخول بالزوجة. فإنه يجب لها مهر المثل، لفساد العقد والمسمى، مع وجوب التفريق بينهما. ويقدّر مهر المثل وقت الدخول بها، لا وقت العقد عليها، لأن العقد الفاسد لا اعتبار له ب ـ إذا فسخ المهر بسبب الخلاف بين الزوجين في تسميته، أو مقداره. فإذا اختلف الزوج والزوجة في تسمية المهر، فقالت الزوجة: سمّيت لي مهراً في العقد، وقال الزوج: لم أسَم مهراً، حلفت الزوجة على ما تدّعي، وحلف الزوج على ما يدّعي، ثم يفسخ المهر، ويجب مهر المثل. كذلك إذا اختلفا في مقدار المهر، فقالت الزوجة: إن ألفان، وقال الزوج: إنه ألف، فإنهما يتحالفان، ويفسخ المهر، ويجب مهر المثل. ج ـ إذا سمي المهر تسمية فاسدة: ويكون فساد في مسائل نذكر منها ما يلي: المسألة الأولى: أن يكون المهر المسمى غير مال شرعاً: كخمر، وخنزير، وآلة لهو، ونحو ذلك مما لا يُعدّ مالاً في عُرف الشرع، لأن الشرع أوجب أن يكون المهر مالاً، أو مقابلاً بمال، وهذه ليست مالاً شرعاً. المسألة الثانية: أن يكون المال الذي سمّاه مهراً غير مملوك له: كأن أصدقها سجادة مغصوبة المسألة الثالثة: أن ينكح امرأتين أو أكثر بمهر واحد، فإن النكاح صحيح، والمهر فاسد، ويجب مهر المثل لكل واحدة، للجهل بما يخصّ كل واحدة من المهر عند العقد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 المسألة الرابعة: أن يزوّج الوليّ صغيراً بأكثر من مهر المثل من مال الصبي، أو أن يزوّج صغيرة، أو بكراً كبيرة بغير إذنها بأقل من مهل المثل، فإن المهر يفسد في ذلك، ويجب مهر المثل، لأن الوليّ مأمور بفعل ما فيه المصلحة لهما، والمصلحة منتقية هنا. المسألة الخامسة: المفّوضة: وهي أن تقول امرأة رشيدة ـ بكراً كانت أو ثيباً ـ لوليّها: زوِّجني بلا مهر، فزوجها وليها ونفي المهر، أو زوجها وسكت عن المهر، فإنه يجب لها مهر المثل، ولكن لا بنفس العقد، وإنما بالدخول بها، لأن الدخول بها لا يُباح بالإباحة، لما فيه من حق الله عز وجل، ويعتبر مهر المثل عند العقد، لا عند الدخول. ولها أن تطالب الزوج أن يفرض لها مهراً قبل الدخول، وأن تحبس نفسها عنه حتى يفرض لها مهر مثلها. المسألة السادسة: أن يشترط في عقد الزواج أن يكون جزء من المهر لغير الزوجة: كأبيها، أو أخيها، فإن النكاح صحيح، والمهر فاسد، ويجب لها مهر المثل. تنبيه: الشروط في عقد النكاح على ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يكون الشرط موافقاً لمقتضى النكاح: كأن شرطت عليه أن ينفق عليها، وأن يقسم لها. فهذا الشرط لغو، وعقد النكاح والمهر المسمى صحيحان. القسم الثاني: أن يكون الشرط مخالفاً لمقتضى النكاح، لكنه غير مُخلّ بمقصود النكاح الأصلي وهو الوطء، كأن تشترط عليه في عقد الزواج أن لا يتزوج عليها، أو يشترط عليها أن لا ينفق عليها. فإن عقد النكاح صحيح لعدم الإخلال بمقصوده الأصلي، والشرط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 فاسد، سواء كان له، أو لها. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل. رواه البخاري (المساجد، باب: ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، رقم: 444). ويفسد المهر أيضاً تبعاً لفساد الشرط، لأن الرضا بالمهر قد علِّق على شرط، فلما فسد الشرط فسد المهر، لانتقاء الرضا بالمهر بغير ما شُرط فيه. القسم الثالث: أن يكون الشرط مخلاً بمقصود النكاح الأصلي، وهو الوطء: كأن شرطت عليه في العقد أن لا يطأها، أو أن يطلقها بعد النكاح. فالنكاح باطل، لأن هذا الشرط ينافي مقصود النكاح، فيبطله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 المتعة تعريف المتعة: المتعة ـ بضم الميم ـ مشتقة من المتاع، وهو ما يستمتع به وينتفع به. والمراد بها هنا: مال يجب على الزوج دفعه لامرأته المُفارِقة له بطلاق، أو فراق. لمن تجب المتعة: المتعة واجبة للمرأة في الحالات التالية: أـ إذا طُلٌَّقت بعد الدخول بها. ب ـ إذا طُلَّقت قبل الدخول بها، ولم يكن سمّي لها مهر في عقد الزواج. ج ـ إذا حكم بفراقها لزوجها، وكان الفراق بسبب منه، كردّته، ولعانه، وكان هذا الفراق قد وقع بعد الدخول ولكن بشرط أن لا يكون قد سمي لها مهر في عقد الزواج. أما المرأة المطلّقة قبل الدخول، وقد سمي لها مهر في عقد الزواج، فلا متعة لها، لأنها قد نالت نصف المهر، وهي لم تبذل لزوجها شيئاً بعد. دليل وجوب المتعة: أما دليل المتعة ذكرنا فهو قوله عزّ وجلّ: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] وقال تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241]. مقدار المتعة: عند تقدر المتعة إما أن يتفق الزوجان على مقدارها، وإما أن يختلفاً: فإن اتفقنا على مقدار معين من المال ـ قل ذلك المال أو كثر ـ كان ذلك لها، وصحّت المتعة على ما اتفقنا عليه. وإن اختلفا في تقديرها، فإن القاضي هو الذي يتولى تقديرها، معتبراً حالهما: من يسار الزوج وإعساره، ونسب الزوجة وصفاتها. قال الله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ} [البقرة: 236] وقال عزّ وجل: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] لكن يستحبّ في المتعة أن لا تنقص علن ثلاثين درهماً، أو ما قيمته ذلك، وأن لا تلغ نصف مهر المثل. الحكمة من تشريع المتعة: والحكمة من تشريع المتعة تطييب قلب المرأة المطلقة، عند مفارقتها بيت الزوجية، والتخفيف من استيحاشها بسبب ما يلحقها من مفارقة زوجها، وكسر حدّة الألم والكراهية التي قد يسببهما هذا الفراق. ثانياً ـ المغالاة في المهور يجعل كثير من الناس المهر كثمن للمرأة، ويظن أن المغالاة فيه إشعار برفعة أُسرتها، وعظيم منزلتها، فذلك يشتطّون في مقدار المهر، ويغالون في تكبيره وتكثيره إظهاراً منهم لقيمة المخطوبة، وتعزيزاً لمكانة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 أسرتها، ومفاخرة على أمثالها في تجهيزها، وأثاث بيتها. لقد غاب عن خاطر هؤلاء أن المهر لا يعني شيئاً من هذا أبداً. وإنما هو رمز لصدق الرغبة في الزواج، وعطِيّة لتكريم المرأة والتودّد إليها في بناء الحياة الزوجية الكريمة. كما غاب عن خاطرهم المفاسد الاجتماعية التي تنجم عن هذا الشَطط الممقوت، والضرر الذي يصيب المجتمع، والرجل والمرأة نفسها، كنتيجة لهذا الغلو البشع. وغاب عن خاطرهم أيضاً: أنهم يخالفون سنّة النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلكون غير طريق البَركَة التي يسببّها يُسْر المهر وبساطته. ـ أما المفاسد الاجتماعية التي تنجم عن المغالاة في المهور فكثيرة نذكر بعضاً منها: إن المغالاة في المهور تصرف الشباب عن الزواج، ولاسيما الفقراء منهم، وتحول بينهم وبين الزواج، مما يجعلهم يسيرون في طريق الشيطان، ويلجؤون إلى الفاحشة، ويبحثون عن الرذيلة، فيتبدل الصلاح فساداً، والطمأنينة ثورة، فتتلوّث الأغراض، وتختلط الأنساب، وتكثر الأمراض. ولو كان للشباب أزواج يعففنهم لحفظوا أخلاقهم، وحصّنوا دينهم، وضمنوا لمجتمعهم السلامة من الإثم والفجور. ـ وأما المفاسد التي تصيب المرأة نفسها كنتيجة للمغالاة فيكفي أن نذكر منها: إن كثيراً من النساء سوف يبقين عوانس محرومات من أخص ما تتطلبه فطرتهنّ، وتهفوا نحوه نفوسهنّ، وسيظللن يشعر بفراغ مؤرق يقض مضاجعهنّ، ويشتقن إلى البيت الذي يقضي على وساوسهنّ، ويُشعرهنّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 بنعمة الهدوء والاستقرار، فلا يجدنه، ولا يظفرن به، لان آباءهن طلبوا مهوراً أعجز الكثير من خّطابهنّ. هذا إذا لم يخرجن إلى الطرقات يعرضن فتنتهنّ، ويفسدن مجتمعهنّ. أما إذا خرجن ـ كما هو الغالب على هؤلاء العوانس ـ فالضرر عليهنّ أبلغ، والكارثة أعمّ وأفدح. ـ أما مخالفة السنّة النبوية، فلنستمع إلى ما يقوله النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهر: روى أحمد (6/ 82) عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أعظم النكاح بركة أيسره مَؤونةً ". وروى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " خيرُ النكاح أيسَرُه " رواه أبو داود (النكاح، باب: في التزويج على العمل يعمل، رقم: 2117) والحاكم وصححه. فلا بركة إذاً ولا خير إذا أصبح المهر تجارة يطلب من ورائها الثراء، ووسيلة للمكاثرة والمفاخرة بين الأقران. وروى البخاري (النكاح، باب: كيف يدعى للمتزوج، رقم: 4860) ومسلم (النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد وغير ذلك من قليل وكثير واستحباب كونه خمسمائة درهم لمن لا يجحف به، رقم: 1427) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أثر صُفوة، فقال: " ما هذا "؟ قال: تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب، قال: " بارك الله لك، أولِمْ ولو بشاة ". [أثر صفوة: أي صبغ على ثوبه. نواة: بزرة التمر]. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 لقد دعا له بالبركة كثرة الخير ـ والبركة كثرة الخير - في هذا الزواج وما كان المهر فيه إلا وزن نواة من التمر. فما هو نصيب هؤلاء المُغالين من هذه البركة؟ وعن أبي العوجاء قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: لا تغلو صُدُقَ النساء، فإنها لو كانت مكرُمة في الدنيا، أو تقوى في الآخرة، لكان أولاكم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه، ولا أصْدِقت امرأة من بناته، أكثر من ثنتي عشرة أُوقية. رواه الخمسة، وصححه الترمذي (النكاح، باب: ما جاء في مهور النساء، رقم: 1114). والخلاصة: أن المغالاة في المهور مكروهة شرعاً، وأن اليُسْر في المهور مندوب، ومن أسباب البركة والخير للرجال والنساء، والمجتمع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 عقد الزواج وما يترتب عليه معنى الزواج: الزواج في اللغة: هو الاقتران، والاختلاط. يقال: زوج فلان إبله: أي قرن بعضها ببعض. ويقال: زوجه النوم: أي خالطه. ومنه قول الله عز وجل: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصدقات: 22] أي قرناءهم. والزواج في الشرع: عقد يتضمن إباحة استمتاع كلِّ من الزوجين بالآخر على وجه مشروع. أنواع الزواج: الزواج نوعان: زواج باطل، وزواج صحيح. أما الزواج الباطل: فهو الذي فقدَ ركناً من أركانه، أو شرطاً من شروط صحته. وهذا الزواج لا حكم له إلا الحرمة، ولا يترتب عليه أيّ أثر من آثار الزواج، اللَّهمّ إلا مهر المثل في بعض صور البُطلان. كما إذا تزوج من غير وليِّ للزوجة، ودخل بها. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليِّها فنكاحُها باطل ـ ثلاثاً ـ فإن دخل بها فهلا مهر المثل بما اسحل من فرجها ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 رواه الترمذي (النكاح، باب: ما جاء لا نكاح إلى بولي، رقم 1102) وأما الزواج الصحيح: فهو الذي استوفى أركانه، وشروط صحته، وهذا الزواج هو الذي تترتب عليه آثاره الآتي ذكرها. أحكام عقد الزواج: لعقد الزواج أحكام كثيرة، وقد مرّت عند بحثنا عن النكاح وأركانه، فلتُراجع هناك. ما يترتب على عقد الزواج الصحيح من حقوق وواجبات: إذا وقع عقد الزواج صحيحاً تترتب عليه كثر من الحقوق والواجبات المتقابلة بين الزوجين. وهذه الحقوق والواجبات لكل واحد منها بحث خاص به يُذكر في مكانه. ولكنّا نكتفي هنا أن نعدُّها مع ذكر الدليل لكل واحد منها، ونُحيل تفاصيلها إلى مواضعها الخاصة بها. وهذه الحقوق والواجبات هي: أـ حلّ استمتاع كلِّ من الزوجين بالآخر على الوجه المشروع، قال الله تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]. ب ـ وجوب متابعة المرأة لزوجها، وطاعتها له، وتمكينها له من نفسها، ومحافظتها على بيته. روى مسلم (النكاح، باب: تحريم امتناعها من فراش زوجها، رقم 1436)، والبخاري (النكاح باب: إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها، رقم: 4879) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 قال: " إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح). وفي رواية أخرى: (إذا دعا الرجل امرأتَه إلى فراشه، فلم تأته، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكةُ حتى تُصبِح). وقال - صلى الله عليه وسلم - في خطبة حجة الوداع: " ولكم عليهنّ ألا يوطئن فُرُشكم أحداً تكرهونه ". رواه مسلم من حديث طويل (الحج، باب: حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم: 1218) وغيره. ج ـ المهر، وهو حق للزوجة على زوجها. قال الله تعالى: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]. د ـ النفقة، وقد أجمع المسلمون على أن نفقة الزوجة واجبة على زوجها. قال الله عز جل: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 223]. وقال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنّ َ} [الطلاق: 6] وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة حجة الوداع: " ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف ". رواه مسلم 1218) وغيره والنفقة تشمل الطعام والشراب، والكسوة والمسكن، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى: هـ ـ القسم بين الزوجات، إن كان للزوج أكثر من زوجة واحدة، كما سيأتي. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا كان الرجل امرأتان، فلم يعدل بينهما، جاء يوم القيامة وشقه ساقط ". رواه الترمذي (النكاح، باب: ما جاء في التسوية بين الضرائر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 رقم: 1141)، وابن ماجه (النكاح، باب: القسمة بين النساء، رقم: 1969)، وأبو داود (النكاح، باب: في القسم بين النساء، رقم: 2123)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وروى الترمذي (النكاح، باب: ما جاء في التسوية بين الضرائر، رقم: 1140) وأبو داود (النكاح، باب: في القسم بين النساء، رقم: 2134) وغيرهما: عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم بين نسائه، فيعدل، ويقول: " اللهمّ هذه قسمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ". [هذه قسمتي: أي في المبيت والنفقة. فلا تلمني فيما تملك ولا أملك: أي في الحب والمودّة]. وـ النسب، ويثبت بالزواج بعد الدخول تسب الأولاد إلى أبيهم، إذا جاءت بهم الزوجة ضمن مدة الحمل المعروفة: وأقلها ستة أشهر، وأكثرها أربع سنين. كما مرّ. فولد كل زوجة في زواج صحيح ينسب إلى زوجها. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الولد للفراش، وللعاهر الحجر" رواه مسلم (الرضاع، باب: الولد للفراش وتوقي الشبهات، رقم: 1457). [والمراد بالفراش: حالة قيام الزوجية. وللعاهر الحجر: أي الزاني له الخيبة، ولا حقّ له في الولد]. ز ـ التوارث بين الزوجين بشروطه المعروفة في باب الإرث، قال الله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12]. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 سنن عقد النكاح : ولعقد الزواج سنن يستحبّ الإتيان بها تعظيماً لهذا العقد، وإظهاراً له. ومن هذه السنن ما يلي: أـ الخطبة قُبيل عقد الزواج، وهذه الخطبة مستحبة من قبل الزوج أو نائبه، وذلك لما روي عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - موقوفاً ومرفوعاً قال: (إذا أراد أحدُكم أن يخطُب لحاجة من نكاح وغيره فليقل ... ) إلى آخر الحديث، وقد مرّ في بحث الخطبة، فارجع إليه هناك ب ـ الدعاء للزوجين، ويسنّ الدعاء للزوجين عند الزواج، وذلك لما روى أبو هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفَّأ إنساناً إذا تزوج قال: " بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في الخير ". رواه الترمذي (النكاح، باب: ما جاء فيما يُقال للمتزوج، رقم: 1091) وأبو داود (النكاح، باب: ما يُقال للمتزوج، رقم: 2130) وابن ماجه (النكاح، باب: تهنئة النكاح، رقم: 1905). [ومعنى رفَّأ: دعا له بالرَّفاء، أي الالتئام وجمع الشمل]. ج ـ إعلان عقد الزواج، وإظهار الفرح فيه بضرب الدف، ويستحب إعلان عقد الزواج، واجتماع الناس عليه، ويكره إسراره. كما يستحب إظهار الفرح، وضرب الدف، والغناء الطيب الذي يتضمن المعنى الحسن الكريم. روى ابن ماجه (النكاح، باب: إعلان النكاح، رقم: 1895) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أعلنوا هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 النكاح، واضربوا عليه بالغُربال " أي الدف. وروى الترمذي (النكاح، باب: ما جاء في إعلان النكاح، رقم: 1088) وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " فصل ما بين الحرام والحلال الدفّ والصوت ". وقال - صلى الله عليه وسلم -: " أعلنوا هذا النكاح، واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف ". رواه الترمذي (الموضع السابق، رقم: 1089). وكذلك يسنّ الفرح، وإظهار البهجة، واللهو الشريف البريء. روى البخاري (النكاح، باب: النسوة اللاتي يهدين المرأة إلى زوجها، رقم: 4867) عن عائشة رضي الله عنهما: أنها زَفَّت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يا عائشة، ما كان معكم من لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو ". أما الغناء الذي فيه مجون، وفجور وشرور، ووصف للمحاسن والفاتن، وإثارة للشهوات والغرائز، فإنه حرام بلا شك، في الأعراس وغيرها. د ـ الدعاء عند الدخول على الزوجة، ويستحب عند الدخول على الزوجة، والعزم على جماعها، بأن يقول: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا. روى البخاري (الوضوء، باب: التسمية على كل حال وعند الوقاع، رقم: 141) مسلم (النكاح، باب: ما يستحب أن يقول عند الجماع، رقم: 1434) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لو أن أحدهم إذا أراد أنْ يأتيَ أهلَه قال: بسم الله، اللَّهم جنِّبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يُقَدَّر بينهما ولد في ذلك لم يضرهّ شيطان أبداً ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 هـ ـ الوليمة ، وهي مسنونة، وسنتحدّث عنها بشيء من التفصيل. معنى الوليمة: الوليمة مشتقة من الوَلْم، وهو الاجتماع، وسمِّيت بذلك لأن الزوجين يجتمعان فيها. قال في القاموس: الوليمة طعام العرس، أو كل طعام صنع لدعوة وغيرها، وأولم: صنع الوليمة. حكم الوليمة: الوليمة للعرس سنّة مؤكدة، لثبوتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً. فقد روى البخاري (النكاح، باب: من أولم بأقل من شاة، رقم: 4877) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولم على بعض نسائه بمدين من شعير. وروى الترمذي (النكاح، باب: ما جاء في الوليمة، رقم: 1095) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولَمَ على صفية بنت حُيي رضي الله عنها بسويق وتمر. رواه داود (الأطعمة، باب: في استحباب الوليمة عند النكاح، رقم: 3744)، وابن ماجه (النكاح، باب: الوليمة، رقم: 1909). وروى مسلم (النكاح، باب: زواج زينب .. وإثبات وليمة العرس، رقم: 1428) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولم على زينب رضي الله عنها بخبز ولحم. وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: " أولم ولو بشاة "، رواه البخاري (النكاح، باب: الوليمة ولو بشاة، رقم: 4872)، ومسلم (النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تصليح قرآن ... ، رقم 1472). وقد حمل العلماء فعله - صلى الله عليه وسلم - وقوله على الندب. مقدار الوليمة: وأقل الوليمة للموسر شاة، ولا حدّ لأكثرها، ولغيره ما قدر عليه من الطعام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 وقت الوليمة: ووقت وليمة العرس موسّع من حين العقد إلى ما بعد الدخول، وإن كان الأفضل فعلها بعد الدخول، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوِلْم على نسائه إلا بعد الدخول، فقد جاء في أحاديث زواجه - صلى الله عليه وسلم -: أصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - بها عروساً، فدعا القوم .. وهكذا. انظر البخاري (النكاح، باب: الوليمة حق)، ومسلم (النكاح، باب: فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها). حكمة تشريع الوليمة: وحكمة تشريع وليمة العرس شكر الله عزّ وجل على ما وُفِّق به من الزواج. واجتماع الناس عليه، حيث إن هذا الاجتماع يدعو إلى التحابب والتآلف. وإظهار الزواج من السرّية إلى العلنية، ليظهر الفرق بين النكاح المشروع، والسفاح الممنوع. حكم إجابة الدعوة إلى وليمة العرس: وإجابة دعوة وليمة العرس فرض عين على مَن دعي إليها. ودليل ذلك ما رواه البخاري (النكاح، باب: حق إجابة الوليمة والدعوة ... .. ، رقم: 4878) ومسلم (النكاح، باب: الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة، رقم: 1429) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا دُعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها ". وفي رواية عند مسلم (النكاح، باب: الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة، رقم: 1432) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (ومَن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله). شروط وجوب إجابة دعوة وليمة العرس: لقد شرط العلماء لوجوب إجابة دعوة وليمة العرس شروطاً منها: أـ أن لا يخصّ صاحب الدعوة بها الأغنياء وحدهم، فإذا خصّهم لا تجِب إجابتها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 روى مسلم (النكاح، باب: الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة، رقم: 1432) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه كان يقول: (بئس الطعام طعام الوليمة، يُدعى إليه الأغنياء، ويُترك المساكين، فمَن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله). ومعنى الحديث الإخبار بما يقع من الناس بعده - صلى الله عليه وسلم - من مراعاة الأغنياء في الولائم، وتخصيصهم بالدعوة، وإيثارهم بطيب الطعام مما هو غالب في الولائم اليوم. ب ـ أن يكون الداعي مسلماً، والمدعو مسلماً، فإن كان غير ذلك فلا تجب إجابة الدعوة إليها ج ـ أن يدعوه في اليوم الأول، إذا أولم في أكثر من يوم، فإذا دعاه في اليوم الثاني استحبت الإجابة، وفي اليوم الثالث تُكره إجابتها. روى الترمذي (النكاح، باب: ما جاء في الوليمة، رقم: 1079) عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " طعام أول يوم حق، وطعام يوم الثاني سنة، وطعام يوم الثالث سُمعة، ومن سمَّع سمَّع الله به " أي تفاخر وليسمع الناس به. وروى أحمد (5/ 28) وغيره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الوليمة في اليوم الأول حق، وفي الثاني معروف، وفي الثالث رياء وسُمعة ". د ـ أن يدعوا للتودّد والتقرّب، فإن دعاه لخوف منه، أو طمع في جاهه لا تجب إجابتها. هـ ـ أن لا يكون الداعي ظالماً أو شريراً، أو صاحب مال حرام، فإن كان كذلك لا تَجِب إجابتها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 وـ أن لا يكون هناك منكر: كخمر، واختلاط بين الرجال والنساء، أو صور إنسان، أو حيوان معلقة على الجدران. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يُدار عليها الخمر " أخرجه الحاكم وصححه. (المستدرك: الأدب، باب: لا تجلسوا على مائدة يُدار عليها الخمر: 4/ 288). فإن كان يزول المنكر بحضوره، وجب حضوره، وإجابة الدعوة، وإزالة المنكر. الأكل من طعام الوليمة: لا يجب على مُجيب دعوة الوليمة أن يأكل منها، بل الواجب عليه أن يحضر، ثم إن شاء أكل، وإن شاء ترك. روى مسلم (النكاح، باب: الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة، رقم: 1430) عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا دُعي أحدكم إلى طعام فلُيجب، فإن شاء طَعِم، وإن شاء ترك وقيل: يجب أن يأكل إلا إذا كان صائماً. ودليل ذلك، ما رواه مسلم (الموضع السابق، رقم: 1431) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا دُعي أحدكم فليُجب، فإن كان صائماَ فليُصل، وإن كان مفطراً فليطعم ". ومعنى (فلْيُصل) فلْيَدْع لأهل الطعام بالمغفرة والبركة. والصلاة في اللغة: الدعاء. قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 103] أي ادع لهم. ويستحّب لمُجيب الدعوة أن يأكل مما قُدِّم له، ولا يتصرف فيه إلا بالأكل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 وله أن يأخذ منه إن علم رضا صاحب الدعوة. ويحل نَثْر سكر وغيره: كجوز ولوز ودنانير ودراهم على المرأة في النكاح، ويحلّ التقاطه، وتركه أولى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 القسم بين الزوجات وما يتعلق بذلك تعريف القسم: القسم ـ في اللغة ـ مصدر قسم يقسم، والقسْم بكسر القاف: النصيب. والقَسْم اصطلاحاً: أن مَن كان له أكثر من زوجه، وبات عند واحدة منهنّ لزمه المبيت عند باقيهنّ. حكم القسم بين الزوجات: القسم ابتداء بين الزوجات مندوب، وليس بواجب، فمن كان له نسوة استحبّ أن يقسم لهنّ، ويبيت عندهنّ، ولا يطلهنّ، وإنما لم يجب ذلك عليه، لأن المبيت حقه، فجاز له تركه. أما إذا بات عند واحدة منهنّ بقرعة، أو غيرها، لزمه المبيت عند الباقيات، وأصبح القسم لهّن واجباً تحقيقاً للعدل بينهنّ. دليل وجوب العدل في القسم وغيره: ودليل وجوب العدل في القَسْم وغيره بين النساء: القرآن والسنّة. أما القرآن: فقول الله عزّ وجل: {َإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] أي إن خفتم أن لا تعدلوا في القَسْم والإنفاق فاقتصروا على تزوّجكم واحدة. فلقد أشعرت الآية بوجوب العدل في القَسْم بينهنّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 وأما السنة: فما رواه أبو داود (2133) والترمذي (1141) وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مَن كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما ـ وعند الترمذي: فلم يعدل بينهما ـ جاء يوم القيامة وشقّه مائل ـ وعند الترمذي: وشقّه ساقط). وهذه عقوبة لا تكون إلا على ترك واجب. وروى أبو داود (2134)، والترمذي (1140) عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم فيعدل، ويقول: (اللِّهمّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك). أبو داود (النكاح، باب: في القَسْم بين النساء)، والترمذي (النكاح، باب: ما جاء في التسوية بين الضرائر). من يستحق القَسْم: ويختص بالقَسْم الزوجات، ولو كانت إحداهنَ مريضة، أو حائضاً أو نفساء، ما دمن من طائعات لزوجهنّ. أما إذا كانت المرأة ناشزاً فلا تستحق القَسْم، لإسقاطها حقها بنشوزها، وسيأتي بيان النشوز وحكمه. كيفية القَسْم بين الزوجات: ويجوز للزوج أن يجعل لكل زوجة ليلة ويوماً قبلها، أو بعدها. والأصل الليل، والنهار تبع له، إلا إذا كان الزوج يعمل ليلاً: كحارس، فإن الأصل النهار، والليل تبع له. ثم إذا كان الزوج يبيت في بيت وحده جاز له أن يدعوهنّ إليه، كل واحدة في ليلتها ويومها. والأفضل أن يدور عليهنّ في بيوتهنّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 وإن كان يبيت عند واحدة منهنّ، وجب عليه أن يدور عليهنّ في بيوتهنّ، كل واحدة في ليلتها ويومها. ويحرم عليه أن يبيت عند واحدة منهنّ، ثم يدعوا الباقيات إليه، لأن إتيان بيت الضرائر شاق على النفس. كما يحرم عليه أن يجمعهنّ في مسكن واحد بغير رضاهنّ، لما يسبّبه ذلك من التباغض بينهنّ. ويجوز أن يجعل مدة القَسْم يومين، أو ثلاثة أيام. ويحرم أكثر من ذلك، لما في طول المدة من الوحشة عليهنّ، وتجب القرعة للبدء بالمبيت عند واحدة منهن، تجنباً لترجيح إحداهنّ على الأخرى، ثم يقرع بين الباقيات. ويجوز أن يدخل نهاراً على غير مَن لها النوبة إذا كان دخوله لحاجة، وينبغي ألاّ يطول مكثه. روى أبو داود (النكاح، باب: في القَسْم بين النساء، رقم: ك 2135)، والحاكم (النكاح، باب: التشديد في العدل بين النساء رقم: 2/ 186) وقال صحيح الإسناد: عن عائشة رضي الله عنها قالت: وكان ـ أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم إلا وهو يطوف علينا جميعاً، فيدنوا من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى التي هو يومها، فيبيت عندها. ولا يجوز أن يدخل ليلاً إلى غير مَن لها النوبة إلا لضرورة: كمرض مخوف، أو حريق، أو نحو ذلك. وتختصّ بكر جديدة بسبع ليال متواليات وجوباً. كما تختص ثيِّب جديدة بثلاث ليال متواليات وجوباً أيضاً. روى البخاري (النكاح، باب: إذا تزوج الثِّيب على البكر، رقم: 4916) ومسلم (الرضاع، باب: قدر ما تستحقه البكر والثِّيب من إقامة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 الزوج ... ، رقم: 1461) عن أنس - رضي الله عنه - قال: من السنّة إذا تزوج البكر على الثِّيب أقام عندها سبعاً ثم قسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً ثم قسم. قال: أبو قلابة ـ أحد رواة الحديث ـ لو شئت لقلت: إن أنساً رضي الله رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى مسلم (الموضع السابق، رقم: 1460) عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " للبكر سبع، وللثيِّب ثلاث ". ولو وهبت إحداهنّ ليلتها لضرّتها بات عند الموهوب لها ليلتيهما، كل ليلة في وقتها الذي كان لها، فإن كانت متتابعين تابع بينهما، وإن كانتا متفرقين، فرق بينهما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما وهبت سَوْدة بنت زمعة نوبتها لعائشة رضي الله عنهما. روى البخاري (النكاح، باب: المرأة الثيِّب تَهب يومها من زوجها لضرّتها، رقم: 4941) ومسلم (الرضاع، باب: جواز هبتها نوبتها لضرتها، رقم: 1463) - واللفظ لمسلم - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت امرأة أحبَّ إلىَّ أن أكون في مسْلاخِها من سودة بنت زمعة من امرأة فيها حدة، قالت: فلما كبرت جعلت يومها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة، قالت: يا رسول الله: قد جعلت يومي منك لعائشة، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقسم لعائشة يومين: يومها، ويوم سودة. [مسلاخها: المسلاخ: هو الجلد، ومعناه أن أكون أن هي. فيها حدّة: أي شدة ولم ترد عائشة بذلك عيب سودة، بل وضفتها بقوة النفس، وجودة القريحة، وهي الحدّة]. وإذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، واستصحب معه من خرجت قرعتها، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك. روى البخاري (المغازي، باب: حديث الإفك، رقم: 3910)، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 ومسلم (التوبة، باب: في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، رقم: 2770) عن عائشة رضي الله عنهما أنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد السفر أقرع بين نسائه، فأتيتهنّ خرج سهمها خرج بها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 النشوز تعريف النشوز: النشوز: العصيان، وهو مأخوذ من النِّشْز، بسكون الشين، وفتحها. ونشوز المرأة: عصيانها زوجها، وتعاليها عمّا أوجب الله عليها من طاعته. قال ابن فارس: نشزت المرأة: استعصت على بعلها. قال تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ .. } [النساء: 33]. أي تخافون عصيانهنّ. حكم النشوز: ونشوز المرأة حرام، وهو كبيرة من الكبائر. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا دعا الرجل امرأتَه إلى فراشه، فلم تأتِه، فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبحَ " رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وفي رواية لمسلم: " والذي نفسي بيده ما من رجلٍ يدعو امرأته إلى فراشها، فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها ". رواه البخاري (النكاح، باب: إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها)، ومسلم (النكاح، باب: تحريم امتناعها عن فراش زوجها). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفسي بيده لا تؤدي المرأة حق ربّها حتى تؤديَ حقّ زوجِها ". رواه أحمد (4/ 381)، وابن ماجه (النكاح، باب: حق الزواج على المرأة، رقم: 1853). بم يكون النشوز: ويكون نشوز المرأة بخروجها عن طاعة زوجها، وعصيانها له، وذلك كأن خرجت من بيته بغير عذر من غير إذنه، أو سافرت بغير إذنه ورضاه، أو لم تفتح له الباب ليدخل، أو لم تمكِّنه من نفسها بلا عذر: كمرض، أو دعاها فاشتغلت بحاجاتها، وغير ذلك. معالجة النشوز: إذا ظهرت من المرأة علامات النشوز: كأن وجد منها زوجها إعراضاً وعبوساً، بعد لُطف وطلاقة وجه، أو سمع منها كلاماً خشناً على خلاف عادتها استحب له أن يعظها بكتاب الله عز وجل، ويذكِّرها بما أوجب الله عليها. ويحذرها غضب الله سبحانه وتعالى وعقوبته. ويستحبّ أن يقول لها: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة رواه الترمذي (الرضاع، باب: ما جاء في حق الزواج على المرأة، رقم: 1161)، وابن ماجه (النكاح، باب: حق الزوج على المرأة، رقم: 1854). ويقول لها: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تُصبِح ". رواه البخاري (النكاح، باب: إذا باتت المرأة مُهاجرة فراش زوجها)، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 ومسلم (النكاح، باب: تحريم امتناعها من فراش زوجها). فإن استقامت فبها ونعمت. وإن تحقّق نشوزها، وأصرّت على إعراضها، هجرها في المضجع، لأن في الهجر أثراً ظاهراً في تأديبها. والمراد بالهجر: أن يهجر فراشها، فلا يضاجعها فيه. فإن صَلُحت فذاك، وإن تكرر نشوزها، وأصرّت على عصيانها، كان له أن يضربها ضرب تأديب غير مبرح، لا يجرح لحماً، ويكسر عظماً، ولا يضرب وجهاً ولا موضع مهلكة. وهذا الضرب إنما يُصار إليه إذا رجا صلاحها به، وغلب على ظنه أن تعود إلى رشدها. فإن علم أن الضرب لا يصلحها، بل يزيد في نفرتها، فإنه ينبغي ألا يضربها. ودليل هذه الأحكام التي ذكرناها قول الله عز وجل: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [النساء: 34]. فإن استحكم الخلاف بينهما، وتعذرت إزالته بواسطة الزوجين، ورُفعَ الأمر إلى الحاكم، وجب عليه أن يوسّط للإصلاح بينهما حكمين مسلمين عدلين عارفين بطرق الإصلاح. ويندب أن يكون أحدهما من أهل الزوج، والآخر من أهل الزوجة. وهذان الحَكَمان وكيلان للزوجين، فيشترط رضا كل من الزوجين بوكيله. فيشرع الحَكََمان في الصلح بين الزوجين، ويبذلان وسعهما للوصول إليه، فإن أفلحا فبها ونعمت، وإن أخفقا، وكّل الزوج حكمه بطلاقها، وقبول عوَضَ الخلع منها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 ووكّلت هي أيضاً حَكَمها ببذل العوَض، إن كانت رشيدة، وقبول الطلاق به. ويفرّق الحكمان بينهما إن رأياه صواباً. وإذا اختلف الحَكَمان، ولم يتوصلا إلى رأي واحد، بعث القاضي حَكَمين غيرهما حتى تجتمعا على شيء واحد. فإن لم يرضَ الزوجان ببعث الحكمين، ولم يتفقا على شيء أدّب القاضي الظالم منهما، واستوفى للمظلوم حقه، وعمل بشهادة الحكمين , قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} [النساء: 34]. نشوز المرأة: وإذا كان الإجحاف والإعراض من قَبل الزوج: وذلك كأن منعها حقها في القسم، أو النفقة، أو أغلظ عليها بالقول، أو الفعل، وعظته وذكّرته بحقها عليه، بمثل قول الله عز وجل {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء: 19]. وذكّرته بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " خيرُكم خيركم لأهله وأنا خيرُكم لأهلي ". رواه الترمذي (المناقب، باب: في فضل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، رقم: 3829) عن عائشة رضي الله عنهما. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " استوصوا بالنساء خيراً ". رواه البخاري (النكاح، باب: الوصاة بالنساء، رقم: 4890، ومسلم (الرضاع، باب: الوصية بالنساء، رقم 1468) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وحذّرته من عواقب ظلمها، فإن صلح فذاك، وإن لم يصلح رفعت أمرها إلى القاضي ليستخلص لها حقها لأنه منصوب لردّ الحقوق إلى أصحابها، ولأنها لا يمكنها أن تأخذ حقها بنفسها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 ويجب على القاضي أن يلزمه بالقسم لها، وأداء حقوقها، وكفّ الظلم عنها. فإن ساء خلقه، وآذاها بضربها، أو بسبها بغير سبب نهاه القاضي عن ذلك، فإن عاد إليه، وطلبت الزوجة من القاضي تعزيره، عزره بما يراه سبيلاً إلى إصلاحه. فإن اشتد الخلاف أرسل حكمين كما سبق ليصلحا بينهما، أو يفرقا بينهما بطلقة إن عسر الإصلاح. قال الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 127]. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 العيوب التي يترتب عليها فسخ النكاح والآثار المترتبة على ذلك أولاً: العيوب: العيوب التي يثبت فيها فسخ الزواج قسمان: القسم الأول: عيوب تمنع من الدخول: كالجب، والعنّة في الزواج. والقرن، والرتق في الزوجة. والجب: قطع عضو التناسل عند الرجل. والعنّة: العجز عن الوطء في القُبُل خاصة، لعدم انتشار الذكر. والقرن: انسداد محل الجماع لدى المرأة بعظم. والرتق: انسداد محل الجماع لدى المرأة بلحم. القسم الثاني: عيوب لا تمنع الدخول، ولكنها أمراض مُنفرة، أو ضارّه، بحيث لا يمكن لا مقام معها إلا بضرر: كالجذام، والبرص، والجنون. والجذام: علّة يحمرّ منها العضو، ثم يسودّ، ثم ينقطع ويتناثر. والبرص: بياض شديد يبقع الجلد، ويذهب بدمويته. أقسام هذه العيوب بالنسبة للزوجين: هذه العيوب بالنسبة للزوجين على ثلاثة أقسام: 1ـ قسم مشترك بين الزوجين: وهو الجذام، والبرص، والجنون. 2ـ قسم خاص في الزوجة: كالرتق والقرن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 3ـ قسم خاص في الزواج: كالجبّ والعنّة. العيوب المشتركة: إذا وجد أحد الزوجين في الآخر جنوناً، أو جذاماً، أو برصاً، ثبت له الخيار في فسخ الزواج. سواء كان هو الآخر مصاباً به، أو لم يكن، لأن الإنسان يعاف من غيره ما لا يعاف من نفسه. دليل ثبوت الخيار بهذه العيوب: ودليل ثبوت الخيار بهذه العيوب ما رواه والبيهقي (7/ 214) من رواية ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج امرأة من غفار، فلما أُدخلت عليه رأى بكشحها بياضاً، فقال: (البسي ثيابك، والحقي بأهلك). وقال لأهلها: (دلستم علي). [الكشح: الجنب. والمراد بالبياض: البرص. دلستم: أخفيتم العيب]. وروى الشافعي رحمه الله عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنه فرّق بين الزوجين للجذام، والبرص، والجنون. ومثل هذا لا يكون إلا عن توقيف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت في الحديث الصحيح: " فِرّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد ". البخاري (الطب، باب: الجذام، رقم: 5380). قال الشافعي رحمة الله تعالى في كتابه الأم: وأما الجذام والبرص، فإن كلا منهما يُعدي الزوج، ولا تكاد النفس أحد تطيب أن تجامع من هو فيه. العيوب في الزوجة: إذا وجد الزوج زوجته رتقاء، أو قرناء، ثبت له فسخ الزواج، لأن هذه العلة مانعة من مقصود الزواج، وهو الدخول بالزوجة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 العيوب في الزوج: إذا وجدت الزوجة زوجها مجبوباً، أو عنيناً ثبت لها حق فسخ الزواج. وقد حكى المارودي الإجماع على ثبوت الخيار بالجب والعنّة، لأنه يفوت بهما مقصود النكاح، كما قلنا بالرتق والقرن. حدوث العيب بعد عقد النكاح: إذا حدث شيء من العيوب السابقة بعد عقد النكاح في أيَّ من الزوجين، سواء كان ذلك بعد الدخول، أو قبله، وسواء أكان العيب مانعاً من الدخول كالجبّ والعنّة في الزوج، والرتق والقرن في الزوجة، أو غير مانع، كالجذام والبرص والجنون، فإنه يثبت حق الخيار في فسخ الزواج، كما لو كان العيب قديماً. لكن يستثنى من ذلك العنّة فقط، فإنها إذا حدثت بعد الدخول، فإنه يسقط حق الزوجة في فسخ الزواج، لحصول مقصود الزواج بالنسبة لها، وهو المهر، والوطء، وقد يتم ذلك قبل حدوث العنّة. إزالة العيب: إذا أمكن إزالة الرتق والقرن بنحو عملية جراحية، ورضيت بها الزوجة، فلا خيار للزوج حينئذ، لعدم وجود المقتضي للفسخ. وكذلك إذا زال الجنون والبرص والجذام بالتداوي، فإن حقّ الفسخ يسقط، لزوال ما يدعوا إليه. حق ولي الزوجة في فسخ النكاح: ولوليِّ المرأة حق فسخ نكاحها بكل عيب وجد في الزوج قبل عقد النكاح، سواء رضيت الزوجة بهذا الفسخ أو لم ترضَ، وذلك لما يلحق الوليَّ من العار من ذلك العيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 وليس لوليِّ الزوجة حق الفسخ بعيب حادث بعد الدخول إذ لا عار عليه في العُرْف، بخلاف ذلك في الابتداء. وكذلك لا خيار للولي بعيب جب وعنّة حدثا مقارنين للعقد، لاختصاص الزوجة بالضرر، ورضاها به، ولا عار عليه في العُرْف. الفسخ على الفور: والخيار في فسخ النكاح بهذه العيوب إذا ثبتت إنما يكون على الفور، لأنه خيار عيب، يجب المسارعة إلى الإعراب عن عدم الرضا به. فتسرع الزوجة فوراً، ويسرع الزوج أيضاً , إلي الرفع إلى الحاكم، والمطالبة بفسخ النكاح. فلو علم أحدهما العيب بصاحبه، ثم سكت عنه سقط حقه في الفسخ، إلا إذا كان جاهلاً أن له حق الفسخ، فإنه لا يسقط حقه في الفسخ. الفسخ يحتاج إلى الرفع إلى القاضي: لا يستقل الزوج، أو الزوجة في فسخ النكاح بسبب عيب من العيوب المذكورة، بل لا بدّ من الرفع إلى القاضي، وطلب الفسخ عنده، فإذا تحقق العيب عنده حكم القاضي بفسخ الزواج. ضرب الأجل في العنّة: وإذا ثبت عند القاضي العنة في الزوج، ضرب له القاضي سنة قمرية، لاحتمال زوال العنة باختلاف الفصول، فإذا زال عيبه فذاك، وإلا فسخ النكاح. ودليل ذلك ما رواه والبيهقي (النكاح، باب: أجل العنين، رقم: 7/ 226) عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنه قال في العنين: يؤجّل سنة، فإن قدر عليها، وإلا فرّق بينهما، ولها المهر، وعليها العدّة. كيف تثبت العنّة؟ سائر العيوب تثبت بالإقرار، أو إخبار الطبيب، أما العنّة، فلا تثبت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 إلا بإقرار الزوج عند الحاكم. أو يمين الزوجة عند نكول الزوج عن اليمين، إذا طلب منه القاضي أن يحلف على عدم العنّة. ثانيا: ما يترتب على فسخ النكاح بهذه العيوب من الآثار: إذا تم فسخ الزواج من قبل الزوج، أو من قِبَل الزوجة، بسبب عيب من العيوب السابقة فلا يخلو أن يكون الفسخ قبل الدخول، أو بعده. ولا يخلو أن يكون العيب قد حدث قبل الدخول، أو بعده. أـ فإن كان الفسخ قبل الدخول سقط المهر، ولا متعة للزوجة، لأنه إن كان العيب بالزوج فهي الفاسخة، وعليه فلا شيء لها. وإن كان العيب بها فلا شيء أيضاً، لأن الفسخ إنما كان لسبب فيها، فكانت كأنها هي الفاسخة. ب ـ وإن كان الفسخ قد حصل بعد الدخول، لكن بعيب قارن للعقد، أو بعيب حادث بين العقد والدخول جهله الواطئ، فإنه يجب لها مهر المثل. ج ـ وإن كان الفسخ قد حصل بعد الدخول، والعيب إنما حدث أيضاً بعده، فإنه يجب للزوجة كامل المهر المسمى، لأن المهر قد استقر بالدخول قبل وجود سبب الخيار في الفسخ، فلا يغير. عدم رجوع الزوج بالمهر على من غره: ولا يرجع الزوج بالمهر على من غرّه من وليّ أو زوجة، لاستيفاء منفعة البضع المتقوم عليه بالعقد. وصورة التغرير: أن تسكت هي أو وليها عن بيان عيبها للزواج، ما دام العيب قد حدث قبل الدخول. والله عز وجل أعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 ثانياً: الطلاق وما يتعلق به وما يشبهه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 الطلاق تعريف الطلاق: الطلاق في اللغة: الحلّ والانحلال. يقال: أطلقت الأسير: إذا حلَلْتَ إساره، وخلّيت عنه، وأطلقت الناقة من عقالها: أرسلتها ترعى حيث تشاء. ودابة طالق: مُرسلَة بلا قيد. والطلاق شرعاً: حلّ عقدة النكاح بلفظ الطلاق ونحوه. دليل مشروعية الطلاق: والأصل في مشروعية الطلاق: الكتاب، والسنة، والإجماع. أما الكتاب: فقول الله عز وجل: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. وأما السنّة: فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق ". [أبو داود: الطلاق، باب: في كراهية الطلاق، رقم: 2178)، وابن ماجه: أول كتاب الطلاق، رقم: 2018]. روى الترمذي (في أبواب الطلاق، باب: ما جاء في الرجل يسأله أبوه أن يطلّق زوجته، رقم: 1189)، وابن ماجه (في الطلاق، باب: الرجل يأمره أبوه بطلاق امرأته، رقم: (2088)، وأبو داود (في الأدب، باب: في برّ الوالدين، رقم: 5138)، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 كانت تحتي امرأة أحبّها، وكان أبي يكرهها، فأمرني أبي أن أُطلقها، فأبيت، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا عبد الله بن عمر، طلِّق امرأتك أما الإجماع: فقد اتفقت كلمة العلماء على مشروعيته، ولم يخالف منهم أحد. حكمة مشروعية الطلاق: الأصل في الزواج هو استمرار الحياة الزوجية بين الزوجين. وقد شرع الله سبحانه وتعالى أحكاماً كثيرة، وآداباً جمة للزواج، لاستمرار وضمان بقائه، ونمو العلاقة الزوجية بين الزوجين. غير أن هذه الآداب والأحكام قد لا تكون مرعيّة من قبل الزوجين أو احدهما: كأن لا يهتم الزوج بحُسْن الاختيار، أو بأن لا يلتزم الزوجان أو أحدهما آداب العشْرة حتى لا يبقى مجال لإصلاح، ولا وسيلة لتفاهم وتعايش بين الزوجين. فكن لا بدّ ـ والحالة هذه - من تشريع قانون احتياطي، يهرع إليه في مثل هذه الحالة، لحلّ عقدة الزواج على نحو لا تُهدر فيه حقوق أحد الطرفين، ما دامت أسباب التعايش قد باتت معدومة فيما بينهما. وقد قال الله عزّ وجلّ: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعاً حَكِيماً ً} [النساء: 130]. فإن استعلمه الزوج وسيلة أخيرة عند مثل هذه الضرورة فذلك علاج ضروري، لا غِنى عنه، وإن جاء مُرّاً في كثير من الأحيان. وأما إن استعمله لتحقيق رعوناته، وتنفيذ أهوائه، فهو بالنسبة له أبغض الحلال إلى الله عزّ وجلّ. والله تعالى يعلم المُصلح من المفسد، وإليه مرجع هذا وذاك. شرعة الطلاق من مفاخر الشريعة الإسلامية: ومن خلال ما ذكرنا يتأكد لنا أن مشروعية الطلاق على النحو الذي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 نظمت الشريعة الإسلامية أحكامه ونتائجه، تُعدّ من مفاخر الشريعة الإسلامية، ويُعدّ من أكبر الأدلة على أن أحكام هذه الشريعة متسقة تمام الاتّساق مع الفطرة الإنسانية، والحاجات الطبيعية عند الإنسان. وقد تجلّت هذه الحقيقة عندما رأينا الأمم المختلفة، وهي تتراجع عمّا كانت تلزم نفسها به من حّرمة الطلاق، واعتبار عقد الزواج سجناً أبدياً، يقرن فيه الزوجان إلى بعضهما، كرها ذلك أو رضيا، وذلك بعد أن رأت هذه الأُمم أن هذا الحظر لا يقدّم للمجتمع إلا أسوأ النتائج، وأخطر مظاهر الإجرام، وبعد أن تنبهت إلى أن اقتران اثنين ببعضهما لا يمكن أن يتم بالإكراه، إلا إذا أُريد أن يكون الإكراه ينبوع تعاسة وشقاء للأُسرة كلها، أو بركان دمار وقتل وفتك. ولقد اهتمت الشريعة الإسلامية بإيجاد أسباب التفاهم، والوداد والتعايش المستمر بين الزوجين. ولكنها لم تعالج ذلك بربط جسد كل ِّمنهما بالآخر، وإنما عالجته بالتنبيه والإرشاد إلى الضمانات الإيجابية المختلفة التي تغذي الوداد بينهما، وتشبع أسباب التفاهم، وتطرد من بينهما موجبات المشاكسة والتنافر، ولقد كان من أهم هذه الضمانات التي أرشد إليها توفر الدين الصحيح في الزوجين، وقيام كلّ منهما بالواجبات المنوطة به، والتزام كلّ من الزوجين بالسلوك الأخلاقي السليم، على النحو الذي نظمته شرعة الله عزّ وجلّ. هذه الضمانات هي التي تحمي بيت الزوجية عن أن يتهدم، وهي التي تجعل من شرعة الطلاق قانوناً موضوعاً على الرف، يستنجد به عند الضرورة، أي عندما يقصر أحد الزوجين عن تحقيق الضمانات والآداب التي شرعها الله تعالى حفاظاً على الحياة الزوجية، ورعاية للمودّة والألفة بين الزوجين. والدليل على هذا الذي نقول: أن حوادث الطلاق لا تكاد ترى لها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 وجوداً في البيوت والأُسر الصالحة يتقيد أهلها بأحكام الإسلام وآدابه. وإنما تبصر، أو تسمع بأكثر هذه الحوادث في الأُسر المتحلِّلة من قيود الإسلام، الخارجة على نُظُمه وآدابه. أنواع الطلاق: الطلاق له ثلاث تقسيمات، باعتبارات مختلفة: فباعتبار وضوح اللفظ في الدلالة عليه، وعدم وضوحه ينقسم إلى: صريح وكناية. وباعتبار حال الزوجة، من طُهر وحيض، وكبر وصغر، ينقسم إلى: بدْعي، وسُنّي، وإلى ما لا يوصف بسنّي، ولا بِدعي. وباعتبار كونه على بدل من المال، وبدون بدل: ينقسم إلى خلع، وطلاق عادي. فلنشرح كلاًُ من هذه التقسيمات الثلاثة على حدة: التقسيم الأول: (الصريح، والكناية): إذا لاحظت الألفاظ التي تستعمل للدلالة على الطلاق وجدت أن هذه الألفاظ: إما أن تكون ذات دلالة قاطعة على الطلاق، بحيث لا تحتمل غيره، فهذه الألفاظ تسمى: صريحة. وإما أن تكون قاطعة في دلالتها، بحيث تحتمل غير الطلاق، فهذه الألفاظ تسمى: كناية. إذاً فالطلاق ينقسم إلى القسمين التاليين: 1 - صريح. 2 - كناية. 1ـ فالطلاق الصريح: هو ما لا يحتمل ظاهر اللفظ إلا الطلاق، وألفاظه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 ثلاثة: هي: الطلاق، والسراح، والفراق، وما اشتق من هذه الألفاظ. كقوله: أنتِ طالق، أو مسرّحة، أو طلّقتك، أو فارقتك، أو سرّحتك. وإنما كانت هذه الألفاظ صريحة في دلالتها على الطلاق لورودها في الشرع كثيراً، وتكرارها في القرآن الكريم بمعنى الطلاق. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. وقال عز وجل: {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 28]. وقال سبحانه وتعالى: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]. ومن الصريح: ترجمة لفظ الطلاق بالعجمية ـ أي غير اللغة العربية ـ لشُهرة استعمال هذه اللغات عند أهلها، كشهوة استعمال العربية عند أهلها. 2ـ والكناية: وهي كل لفظ يحتمل الطلاق وغيره. وألفاظها كثيرة: كقوله: ـ أنت خلية: أي خالية مني. ـ أنت بريّة: أي منفصلة عني. ـ أنت بتّة: أي مقطوعة الوصلة عني. ـ الحقي بأهلك. ـ اذهبي حيث شئت. ـ اعزُبي: أي تباعدي عني. ـ اغرُبي: أي صيري غريبة عني. ـ حبلك على غاربك: أي خلّيت سبيلك، كما يخلّى البعير. والغارب: ما تقدم من الظهر، وارتفع من العنق. ـ أنت عليَّ حرام. فكلّ هذه الألفاظ ـ وغيرها كثير ـ تعتبر كناية في دلالتها على الطلاق، لاحتمالها الطلاق وغيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 دليل استعمال ألفاظ الكناية في الطلاق: ودليل استعمال ألفاظ الكناية في الطلاق: ما رواه البخاري (في الطلاق، باب: من طلّق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق، رقم: 4955) عن عائشة، رضي الله عنهما أن ابنه الجون، لما أُدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودنا منها، قالت: أعوذ بالله منك، فقال: " لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك ". حكمُ كلّ من ألفاظ الصريح والكناية: إذا عرفت ما ذكر، فاعلم أن الطلاق بالألفاظ الصريحة يقع، سواء توفرت فيه نيّه الطلاق أم لا. لأن صراحة اللفظ، وقطعية دلالته على المعنى، يغنيان عن اشتراط النيّة، عند التلفظ به. أما ألفاظ الكناية ـ ولو اشتهرت على ألسنة الناس في الطلاق: كعليّ الحرام، وأنت عليّ حرام، فلا يقع الطلاق بها إلا إذا قصد بها الزوج الطلاق. فإذا قصد بها شيئاً آخر غير الطلاق، أو لم يقصد بها شيئاً، لم يقع بها شيء. ودليل ذلك ما رواه البخاري (في المغازي، باب: حديث كعب بن مالك رضي الله عنه ... رقم: 4156) ومسلم (في التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، رقم: 2769) في توبة كعب بن مالك - رضي الله عنه - حينما تخلّف عن غزوة تبوك، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يعتزل امرأته، فقال أُطلقها، أم ماذا؟ قال: بل اعتزلها، فلا تقربنّها، قال: فقلت لامرأتي: الحق بأهلك. فلما نزلت توبته رجعت زوجته إليه، ولم يؤمر بأن يعقد عليها من جديد. فدلّ ذلك على أن (الحقي بأهلك) لا يقع به الطلاق إلا بالنيّة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 وحيث إن كعباً - رضي الله عنه - لم ينو به الطلاق، فإنه لم يقع به شيء، ورجعت زوجته إليه. التقسيم الثاني (السنّي البدعي ,غيرهما): المرأة التي يقع عليها الطلاق لا تخلو من واحد من أحوال ثلاثة: الحالة الأولى: أن تكون المرأة طاهرة عن الحيض والنفاس، ولم يقربها زوجها في ذلك الطهر بعد. الحالة الثانية: أن تكون متلبسة ـ بعد دخول الزوج بها ـ بحيض أو نفاس، أو تكون في طُهر جامعها فيه زوجها. الحالة الثالثة: أن تكون صغيرة لم تَحِضْ بعد، أو آيسة تجاوزت سن المحيض، أو حاملاً ظهر حملها، أو غير مدخول بها بعد، أو طالبة للخلع. فإن وقع الطلاق في الحالة الأولى، سمي: (طلاقاً سنّياً). وإن وقع في الحالة الثانية سمي: (طلاقاً بدعياً). وإن وقع في الحالة الثالثة لم يكن: (سنياً، ولا بدعياً). فأقسام الطلاق بهذا الاعتبار إذاً ثلاثة: 1ـ طلاق سني. 2ـ طلاق بدعي. 3ـ طلاق لا يوصف بسنّي، ولا بدعي. حكم كل نوع من هذه الأنواع الثلاثة: 1ـ الطلاق السني: إن الطلاق السني جائز وواقع، وهو الشكل المطابق للتعاليم الشرعية في كيفية الطلاق، إذا كان الزواج، ولابدّ مطلقاً، سواء أوْقَع الزوج طلقة واحدة، أم أوقع ثلاث طلقات مجتمعات. ولكن يسنّ أن يقتصر على طلقة، أو طلقتين في الطهر الواحد كي يتمكن من إرجاعها إذا ندم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 ودليل الطلاق السني: قوله عز وجل {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. أي في الوقت الذي يشرعن فيه في العدّة، وهو الطهر، إذ زمن الحيض لا يحسب من العدة. 2ـ الطلاق البدعي: إن الطلاق البدعي محرم، ولكنه واقع، ويلزم وقوعه الإثم، لمخالفته للصورة المشروعة للطلاق التي وردت في قوله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ويسنّ له الرجعة، فقد روي البخاري (في أول كتاب الطلاق، رقم 4953)، ومسلم (في الطلاق، باب: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، رقم: 1471) عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلّق امرأته، هي حائض، على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مُرْهُ فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلّق قبل يمسّ، فتلك العدّة التي أمر اله أن تطلقّ لها النساء ". أي بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي لاستقبال عدّتهن. والمعنى: ليتركها بعد الرجعة حتى تطهر، وعندئذ يوقع طلقة واحدة إذا شاء، فإذا حاضت ثم طهرت أوقع طلقه أُخرى إذا شاء، فإذا طهرت للمرة الثالثة فلينظر: إن شاء أمسكها بعد الرجعة، وإن شاء أوقع طلقة ثالثة، وتكون قد بانت بذلك منه. سبب تحريم الطلاق البدعي: وسبب تحريم الطلاق البدعي ما يستلزمه من الإضرار بالمرأة، إذ يطول بذلك أجل عدّتها، لأن حيضتها لا تحسب من العدّة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ضرر ولا ضرار ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 أخرجه مالك في الموطأ (الأقضية، باب: القضاء في المرفق، رقم: 2/ 745)، وابن ماجه في سننه (الأحكام، باب: مَن بني في حقه ما يضرّ بجاره، رقم: 188، 2340، 2341). أما حرمة الطلاق في طهر جامع زوجته فيه: فلاحتمال الحمل فيه، وهو لا يرغب في تطليق الحامل، فيكون في ذلك الندم. 3ـ الطلاق الذي لا يوصف بسنّة ولا بدعة: إن الطلاق الذي لا يوصف بسنّة ولا بدعة جائز، وواقع، وليس حراماً، إذ لا ضرر يلحق الزوجة بسببه، إذ الصغيرة والآيسة تعتدّان بالأشهر، فلا يلحقهما ضرر إطالة العدّة، وكذلك الحامل، فإن عدّتها على كل حال بوضع الحمل، وكذلك طالبة الخلع، لأن افتدائها نفسها من الزوج بالمال دليل على حاجتها إلى الخلاص منه، ورضاها بطول التربص. التقسيم الثالث: (الطلاق العادي والخلع). 1ـ الطلاق العادي: وهو الطلاق الذي يقع برغبة من الزوج، وهذا الطلاق ينطبق عليه الأحكام التي ذكرناها قبل. 2ـ الخلع: وهو الطلاق الذي يقع برغبة من الزوجة وإصرار منها على ذلك، وقد شرع لذلك سبيل الخلع، وهو أن تفتدي نفسها من زوجها بشئ يتفقان عليه من مهرها تعطيه إياه. فالخلع إذا قسم من الطلاق: وهو كل فُرْقةٍ جرت على عوض تدفعه الزوجة للزوج. دليل مشروعية الخلع: ويستدل لمشروعية الخلع: بالكتاب، والسنّة. أما الكتاب: فقول الله عزّ وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} البقرة: 229]. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 وأما السنّة: فما رواه البخاري (في الطلاق، باب: الخلع وكيف الطلاق، رقم: 4971) عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة ثابت بن قس أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس، ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أتردّين عليه حديقته " قالت: نعم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اقبل الحديقة، وطلِّقها تطليقة ". [لا أعتب عليه: لا أعيب عليه. أكره الكفر في الإسلام: أكره جحود حقوق الزوج وأنا مسلمة] أحكام الخلع: للخلع أحكام نلخصها فيما يلي: 1ـ الخلع جائز، ولا يقع إلا بعوَض مالي تفرضه الزوجة للزوج. ثم إن كان العَوَض في الخلع معلوماً مذكوراً في الخلع وجب ذلك العَوَض المعلَوم، وإن لم يكن مذكوراً على وجه التحديد صحّ الخلع، ووجب مهر المثل للزوج. أما إن استعمل الزوج لفظ الخلع، ولم ينص علي عوَض، ولم يخطر بباله العوض أيضاَ، فهو طلاق عاديّ جرى بلفظ الخلع كناية. أي فهو كنايات الطلاق، ويقع به الطلاق رجعياً. 2ـ لا يقع الخلع من غير الزوجة الرشيدة، لأن غير الرشيدة لا تتمتع بأهلية الالتزام، فلا تملك التصرّف، فإن خالعها الزوج وقع طلاقاً رجعياً عادياً، ولا يثبت له به شيء من مهرها. 3ـ إذا خالع الرجل امرأته، ملكت المرأة بذلك أمر نفسها، ولم يبق للزوج عليها من سلطان، فلا رجعة له عليها أثناء العدّة، كما هو الشأن ف الطلاق العادي، لأن الخلع طلاق بائن، إنما السبيل إلى ذلك عقد جديد تملك فيه المرأة كامل اختيارها، وبمهر جديد أيضاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 4ـ لا يلحق المرأة المُخالعة أي طلاق، أو ظهار، أو إيلاء ـ أثناء العدّة ـ من زوجها الذي خالعها، أي لا أثر لشيء من ذلك عليها، لأنها أصبحت بالخلع أجنبية عن الزوج، فلا يسرى إليها تطليق، ولا ظهار، ولا إيلاء. بخلاف المطلّقة طلاقاً عادياً رجعياً، فإن الزوج يملك أن يطلّقها طاقة ثانية، أو يظاهر منها أثناء العدة، ويسري أثر ذلك عليها. 5ـ يجوز أن يُخالع الرجل زوجته في الحيض والطهر الذي جامعها فيه، ما دامت رشيدة. ذلك لأنها لا تتضرر بذلك، إذ الخلع إنما هو تحقيق لرغبتها في التخلّص من الزوج، فلا يرِد فيه ما يمكن إيراده على الطلاق العادي الذي يكون برغبة من الزوج، من الإضرار بالزوجة. ما يملكه الزوج من الطلقات: من المعلوم أن الطلاق حقُ للزوج في الأصل. ودليل ذلك قول الله عز وجل: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]. والذي بيده عقدة النكاح إنما هو الزوج. غير أن الزوجة أيضاً تصبح صاحبة حق في ذلك، في حالات خاصة، من أهمها: ـ أن ينالها ضرر من الزوج. ـ أن يقصر في أداء شيء من حقوقها، ثم تعذّر إصلاح الأمر بينهما. فعندئذ يُوقع عنها القاضي طلقة بناءً على رغبتها. بعد هذا نقول: كَم هي الطلقات التي يملكها الزوج، ما دام هو صاحب هذا الحق في الأصل؟ لقد أجاب القرآن على ذلك، وقرر عدد الطلقات التي يملكها الزوج: قال الله عز وجل: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 بِإِحْسَانٍ}. [البقرة: 229]. ثم قال سبحانه وتعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230]. أي إن الزوج يملك أن يطلّق زوجته ثلاث تطليقات، اثنتان منهما رجعيتان، والثالثة تسريح لا رجعة بعده، إلا بشرط سنذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى. روى أبو داود (في الطلاق، باب: نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، رقم: 2159)، والنسائي (في الطلاق، باب: نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث: رقم: 6/ 212) عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: إن الرجل كان إذا طلق امرأته، فهو أحقّ برجعتها، وإن طلّقها ثلاثاً، فَنَسخ ذلك، وقال: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] أي الطلاق الذي يملك الزوج فيه الرجعة مرتان فقط. ومن ثم فقد انعقد الإجماع على أن الزوج يملك ثلاث تطليقات، ثالثتها بائنة لا رجعة بعدها، إلا بما سنذكره من الشروط إن شاء الله تعالى. شروط صحة الطلاق ووقوعه: لابدّ لكي يملك الزوج ما ذكرنا من الطلقات، ولابد لكي يقع ذلك منه، من أن تتوفر في الزوج المطلِّق الشروط التالية: الشرط الأول: ثبوت عقد النكاح: فلا يقع طلاق الرجل من المرأة التي لم يعقد نكاحه عليها، ولا من التي سيعقد نكاحه عليها، سواء كان ذلك بأسلوب التنجيز، أو التعليق: كأن يقول لامرأة لم يعقد عليها: أنت طالق، أو يقول: إن تزوجتك فأنت طالق. ودليل ذلك من القرآن الكريم قول الله عزّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 فقد علّق سبحانه وتعالى نتائج الطلاق وأحكامه على ثبوت النكاح أولاً. والدليل من السنة أيضاً: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا طلاق قبلَ نكاح ". رواه الحاكم (في الطلاق، باب: لا طلاق لمن لم يملك، رقم: 2/ 205) وصححه. وروى أبو داود (الطلاق، باب: في الطلاق قبل النكاح، رقم: 2190)، والترمذي (الطلاق، باب: ما جاء لا طلاق قبل نكاح، رقم: 1181) عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا نذر لابن آدم فيما يملكُ، ولا عِتْقَ له فيما لا يملكُ، ولا طلاقَ له فيما لا يملكُ ". الشرط الثاني: تكامل الرشد: فالصبي والمجنون والنائم لا يقع طلاقهم. ودليل ذلك: ما رواه أبو داود (في الحدود، باب: في المجنون يسرق أو يصيب حدّا، رقم: 4403) وغيره عن على - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - رضي الله عنه -: " رُفِع القلمُ عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبيّ حتى يحتِلم َ، وعن المجنون حتى يْعقِلَ " والاحتلام هو البلوغ والكبر. ويدخل في حكم هؤلاء الثلاثة: الساهي، والجاهل بمعنى الكلام الذي يقوله: ولكن لا تقبل دعواه أنه ساهٍ، أو جاهل بمعنى ما يقول إلا بقرينة أو بيِّنة. طلاق السكران: أما السكران، فإن سكر بدواء لا مندوحة له عن استعماله، وغاب من جرّائه عقله، أو أُكره على شرب مُسكِر، بالتهديد، أو صُبَّ المُسِكر في جوفه، فإن حكمه كالصبي والنائم والساهي، بجامع العذر في كلَّ. أما إن سكر متعدياً ـ أي عن قصد واختيار وبدون عذر ـ فإن طلاقه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 يقع، ويعتبر كالرشيد حكماً، وعقوبة له على تعدّيه بشرب المُسكر، لأن السكران مكلّف، ولأنه بإجماع الصحابة مؤاخذ بما يتلفظ به حال سكره، من عبارات القذف، ونحوه. الشرط الثالث تكامل الاختيار: فلا يقع طلاق المكره. لكن مع مراعاة الشروط التالية في الإكراه: 1ـ أن يكون الإكراه بغير حق، فإن أُكره على الطلاق بحق ـ كأن كان مُضاراً لزوجته، فأكرهه الحاكم على تطليقها ـ فإن الطلاق يقع. 2ـ أن يكون الإكراه معتمداً على التهديد له مباشرة، بما يحصل منه ضرر شديد: كالقتل، والقطع، والضرب المبرح، ومثله الضرب القليل والإيذاء البسيط بالنسبة لمن هو من ذوي الأقدار. 3ـ وأن يكون المكره قادراً على تنفيذ ما هدد به. ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا طلاق ولا عتاق في إغْلاَقٍ ". رواه ابن ماجه (في الطلاق، باب: طلاق المكره والناسي، رقم: 2046) أي في إكراه، لأن المكره يغلق عليه أمره، وتصرّفه. وروى ابن ماجه (في الطلاق، باب: طلاق المكره والناسي، رقم: 2045) وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله وضع عن أُمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ". أي وضع عنهم حكم ذلك، لا نفس هذه الأمور، لأنها واقعة. 4ـ أن لا يصدر من الزوج المُكْرَه إلا القدر الذي أُكره عليه، فلو أُكره على الطلاق مرة، أو مطلقاً، فطلق طلقتين، أو ثلاثاً، وقع الطلاق. طلاق الهازل واللاعب: إذا تأملت في الشروط التي ذكرناها لوقوع المكره علمت أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 طلاق الهازل واللاعب واقع، إذا كان رشيداً بالغاً عاقلاً مختاراً، ولا يُعدّ لعبه وهزله عذراً في عدم وقوع الطلاق. ودليل ذلك: ما رواه الترمذي (في الطلاق، باب: ما جاء في الجدّ والهزل في الطلاق، رقم: 1184)، وأبو داود (في الطلاق، باب: في الطلاق على الهزل، رقم: 2149)، وابن ماجه (في الطلاق، باب: من طلّق أو نكح أو راجع لاعباً، رقم: 2039) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاث جدّهنّ جد، وهزلهنّ جد: النكاح، والطلاق، والرجعة ". الكيفيات المشروعة للطلاق: يمكن إيقاع الطلاق على كيفيات مختلفة: ـ كالجمع بين الطلقات بلفظ واحد، أو التفريق بينها. ـ أو إيقاع الطلاق منجزاً، أو معلقاً على شرط، أو مع استثناء. الكيفية الأولي للطلاق: واعلم أن الكيفية التي هي أفضل في الطلاق شرعاً، والمتفقة مع الحكمة من جعل الشّارع طلاق الرجل زوجته موزعاً على ثلاث مراحل، هي: أن يطلّق طلقة واحدة في طهر لم يجامع الرجل زوجته فيه، فإذا بدا له وندم أرجعها إليه أثناء العدّة. فإن عاودته الرغبة في الطلاق طلاقها طلّقة ثانية، وكان في يده بعد ذلك طلقة واحدة، تبين بها زوجته عنه بينونة كبرى، ولا ترجع إليه إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره نكاحاً شرعياً كاملاً، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى. وهذه الكيفية هي المفهومة من صريح قول الله عزّ وجلّ: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد: إذا لم يلتزم بالكيفية المفضلة للطلاق، فلا يعني أن الطلاق لا يقع، بل يقع كيفما كان، ما دامت الشروط التي تحدّثنا عنها مجتمعة في الشخص المطلق. وعلى ذلك، فلو جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد في وقت واحد، فقال: أنتِ طالق ثلاثاً، بانت منه بثلاث طلقات، كما لو نطق بهنّ متفرقات. ولا يعتبر ذلك محرماً، بل هو خلاف السنة، وجنوح عن الطريقة المفضلة. ودليل ذلك ما رواه الترمذي (الطلاق، باب: ما جاء في الرجل يطلق امرأته البتّة، رقم: 1177)، وأبو داود (في الطلاق، باب: في البتّة، رقم: 2208)، وابن ماجه (في الطلاق، باب: طلاق البتة رقم: 20511) أن ركانة طلّق زوجته البتَّة ـ أي قال لها أنت طالق البتّة ـ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ـ وقد سأله ركانة عن سبيل لرجعتها ـ (آلله ما أردت إلا واحدة). قال: الله ما أردت إلا واحدة فردّها إليه. فالحديث دليل على أن ركانة لو أراد بقوله (البتَّة) ثلاثاً لوقعن، ولما أذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - بردها، وإلا لم يكن لسؤاله وتحليفه له أيّ معنى. تعليق الطلاق بصفة أو شرط: كما يصح الطلاق ويقع منجزاً، فإنه يصحّ معلقاً. ومعنى تعليق الطلاق: أن يعلّق الزوج وقوع الطلاق على حدوث صفة، أو شرط، سواء مما قد تتلبس به الزوجة أو غيرها، كتعليقه طلاقها على قدوم غائب، أو على تصرّف معين قد تقوم به الزوجة أو غيرها. مثال تعليق طلاقها على صفة: أن يقول: أنت طالق عند قدوم أبيك، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 أو أنت طالق في شهر رمضان فتطلق إذا قَدِم أبوها أو إذا دخل شهر رمضان. ومثال تعليقه بالشرط أن يقول لها: أنت طالق إن خرجت من الدار، أو أنت طالق إن دخل أخوك الدار، فتطلق إن هي خرجت من الدار، أو إن دخل أخوها الدار. ودليل صحة تعليق الطلاق على صفة أو شرط، ووقوعه إذا تحقق ذلك الشرط، أو تلك الصفة، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " المسلمون عند شروطهم ". رواه الحاكم (البيوع، باب: المسلمون على شروطهم والصلح جائز: 2/ 49. إذ يُفهم من الحديث أن الشروط التي يعلّق الإنسان عليها إبرام شيء تكون محل اعتبار وتقدير من الشارع، ما لم تكن تحرم حلالاً، أو تحلّ حراماً. الآثار التي يترتب على الطلاق المعلق: ويترتب على الطلاق المعلّق ما يلي: 1ـ عدم وقوع الطلاق ما دام الشيء الذي عُلق الطلاق به لم يحصل بعد. 2ـ تظل الحياة الزوجية مستمرة بكامل أحكامها ومستلزماتها، ما دام الشرط المعلّق عليه لم يتحقق بعد، وإن كان حصوله على حكم المحقّق. كقوله: إذا جاء شهر رمضان فأنت طالق. 3ـ يقع الطلاق بمجرد حصول الشرط الذي علّق الزوج الطلاق به، دون حاجة إلى أن ينطق نطقاً جديداً بالطلاق. الاستثناء في الطلاق: وكما يصحّ الطلاق المعلّق بصفة، أو شرط، كما ذكرنا يصحّ الطلاق الذي دخله الاستثناء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 والمقصود بالاستثناء في الطلاق: أن يجمع بلفظ واحد أكثر من طلقة واحدة، ثم يطرح بعضاً منها بأداة الاستثناء، وهي (إلاّ) بأن يقول: أنت طالق ثلاثاً، إلا طلقة واحدة، أو إلا طلقتين. وذلك لأن الاستثناء من المعدود أسلوب عربي متّبع، ومستعمل في كلّ من الكتاب والسنة، للتعبير عن المعاني، وضبط الكميات والأعداد. قال الله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت: 14] لذلك جاز استعمال الاستثناء في التعبير عن الطلاق، وضبط عدد الطلقات المراد إيقاعها شروط صحة الاستثناء في الطلاق: يشترط لصحة الاستثناء في الطلاق مراعاة الشروط التالية: 1ـأن ينوي المطلّق إلحاق الاستثناء بكلامه قبل فراغه من النطق بالكلام الأصلي المستثنى منه. فلو أتمّ كلامه الأصلي، ثم طرأ على باله أن يستثني منه شيئاً، لم يصح الاستثناء، ووقع الطلاق كما يقتضيه كلامه الأصلي قبل تعليق الاستثناء به. 2ـ أن يتصل لفظ الاستثناء بلفظ المستثنى منه عُرفاً. فلو فصل بينهما بفاصل زمني يعتبره العُرْف فاصلاً: كدقيقة مثلاً، بطل استثناؤه، ووقع الطلاق كما يقتضيه لفظ المستثنى منه. 3ـ أن لا يكون الاستثناء مستغرقاً لكمية المستثنى منه: كأن يقول: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاث طلقات، فمثل هذا الاستثناء يعتبر لاغياً، ويستقر الحكم على ما يقتضيه لفظ المستثنى منه. وينبغي أن تعلم بعد هذا أن الاستثناء من الكلام المثبت يعتبر نفياً، وأن الاستثناء من الكلام المنفي يعتبر إثباتاً، لأن الاستثناء يعطي نقيض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 الحكم الأصلي للمستثنى، فلو قال: ما طلّقتك إلا طلقتين، وقعت طلقتان. دليل صحة الاستثناء في الطلاق: ويستدل لصحة الاستثناء في الطلاق بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَن أعتق، أو طلّق واستثنى فله ثنياه: ". أي استثناؤه. ذكر ابن الأثير في النهاية مادة: (ثنا). تفويض الطلاق إلى الزوجة: يصحّ للزوج أن يفوِّض إيقاع الطلاق إلى زوجته، وهذا التفويض إنما هو بمثابة تمليك الطلاق لها. شروط وقوع طلاق التفويض: يشترط لوقوع هذا الطلاق الشروط التالية: 1ـ أن يكون الطلاق منجزاً، فلا يصحّ تعليقه على شيء: كإذا جاء الغد فطلَّقي نفسك. 2ـ أن يكون الزوج المفوَّض مكلفاً، فلا يصحّ تفويض الصغير والمجنون. 3ـ أن تكون الزوجة أيضاً مكلفة، فلا يصحّ تفويض صغيرة أو مجنونة. 4ـ أن تُطلَّق نفسها على الفور، بعد تفويضها مباشرة، فلو أخّرت بقدر ما ينقطع به القبول من الإيجاب، لم يصحّ طلاقها. دليل جواز تفويض الطلاق إلى الزوجة: ويستدلّ على جواز ذلك، بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خيّر نساءه من بين المقام معه، وبين مفارقته، وذلك لمّا نزل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 28]. فلو لم يكن لاختيارهنَّ الفرقة لم يكن لتخييرهنّ معنى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 خاتمة في بعض مسائل الطلاق: 1ـ إذا تلفظ بالطلاق باللغة العربية رجل غير عربي، وهو لا يدري معناه، فإنه لا يقع طلاقه، لانتفاء قصده، ولو تلفظ به بلغته وقع، ولو لم ينوه إذا كان اللفظ الذي استعمله في الطلاق صريحاً في لغته، أي لا يحتمل إلا الطلاق، وإذا كان غير صريح اشترط لوقوع الطلاق النية، كما هو الشأن في اللغة العربية. 2ـ قال رجل لزوجته: أنا منكِ طالق , فإن نوى تطليقها طلقت , وإن لم ينو لم تطلق , لأن اللفظ خرج عن الصراحة إلى الكناية , بإضافته إلى غير محله , فشرط فيه ما شرط في الكناية من قصد إيقاع الطلاق. 3ـ قال رجل لزوجته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فإن تخلل سكوت بين هذه الجمل بما يعد فاصلا عرفا، وقعت ثلاث طلقات، ولا يقبل قضاء قوله أردت التأكيد، لأنه خلاف الظاهر، وإن لم يتخلل هذه الجمل فاصل، فإن نوى التأكيد وقعت طلقة واحدة، فإن نوى الثلاث وقعت ثلاثاُ، وإن أطلق، ولم ينو شيئاً، وقعت أيضاً ثلاثاً. عملاً بظاهر اللفظ. 4ـ إذا قال لزوجته: إن شاء الله فأنت طالق: لم تطلق إن قصد التعليق بمشيئة الله عز وجل، لأن المعلق عليه من مشيئة الله تعالى غير معلوم. فإن لم يقصد بالمشيئة التعليق، وإنما قصد بها التبرك، أو لم يقصد شيئاً، فإن الطلاق يقع. 5ـ لو خاطبت الزوجة زوجها بمكروه، فقالت له يا سفيه، أو يا خسيس، فقال لها: إن كنتُ كما تقولين فأنت طالق. فإن قصد بذلك مكافأتها بإسماعها ما تكره، وإغاظتها بالطلاق كما أغاظته بالشتم، فإن الطلاق يقع، وإن لم يكن سفيهاً، ولا خسيساً. وكأنه قال: إن كنت بزعمك كذلك فأنت طالق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 أما إذا أراد تعليق الطلاق على وجود السفه والخسّة، أو أطلق، ولم يرد شيئاً اعتبرت الصفة المعلّق عليها كما هو سبيل التعليقات، فإن لم يكن سفيهاً أو خسيساً، لم يقع الطلاق، وإن كانت كذلك، وقع. والسفيه: هو من يستحق الحَجْر عليه لسوء تصرفه بأمواله. والخسيس: قيل هو: مَن باع دينه بدنياه. وقيل: هو مَن يتعاطى غير لائق به بخلاً. أحكام الرجعة اعلم أن الرجل إذا طلق زوجته، فلابدّ أن يقع الطلاق على واحد من الأحوال التالية: أولاً: أن يطلّقها قبل الدخول. ثانياً: أن يطلّقها على وجه المخالفة، سواء كان ذلك قبل الدخول أم بعده. ثالثاً: أن يطلّقها طلاقاً عادياً بعد الدخول طلقه، أو طلقتين. رابعاً: أن يطلّقها طلاقاً عادياً ثلاث تطليقات. هذه هي الكيفيات التي يمكن أن يقع عليها الطلاق، فلنشرح ما يترتب على كل حالة من أحكام الرجعة إذا أراد الزوج أن يراجع زوجته بعدها أولاً: إذا طلقها قبل أن يدخل بها: إذا طلّق الرجل زوجته قبل أن يدخل بها، بانت منه، ولم يجز له أن يراجعا، إذا لا يجب عليها أن تعتدّ منه، لصريح قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] لذلك ينتهي بها الطلاق إلى البينونة رأساً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 ثم إذا كان طلّقها في هذه الحالة طلقة واحدة، أو طلقتين، لم تحلّ له إلا بعقد ومهر جديدين، بناء على اختيارها ورضاها. وإن كان قد طلّقها ثلاث تطليقات، لم تحلّ له إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره، ويدخل بها الزوج الثاني، ثم يطلّقها، ثم تعتدّ منه، ثم يتزوجها هو بعقد ومهر جديدين. ثانياً: إذا خالعها على مال: إذا خالع الزوج زوجته (وقد مرّ بك بيان الخلع) بانت منه، ولم يجز له أن يراجعها بموجب العقد والمهر جديدين، كزوج جديد، سواء كان ذلك الخلع قبل الدخول بها، أو بعده. ثالثاً: إذا طلّقها بعد الدخول طلقة أو طلقتين: إذا طلّق الزوج زوجته بعد الدخول بها طلقة واحدة، أو طلقتين، جاز له أن يراجعها بموجب العقد والمهر الثابتين، بناءً على رغبته المنفردة، إذا كانت عدّتها لم تنقض بعد. ودليل ذلك صريح قول الله عزّ وجلّ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً} [البقرة: 228]. والمراد بالردّ: الرجعة. وقال الله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. فإن الإمساك بمعروف بعد الطلاق لا يكون إلا بناءً على الرجعة. ودليل ذلك من السنّة: ما رواه أبو داود (الطلاق، باب: في المراجعة، رقم: 2283) عن عمر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلق حفصة رضي الله عنها، ثم راجعها. كيفية الرجعة: ويكفي لإرجاعها إلى عصمة نكاحه أن يقول: أرجعتك إلى عصمتي، وعقد نكاحي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 ويسنّ أن يشهد على كلامه هذا شاهدين. واستدلّ لهذا بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2]. فإن أرجعها عادت إليه بما بقي له من الطلاق، فإن كان قد طلّقها طلقة، بقيت له اثنان، وإن كان قد طلقها طلقتين، بقيت له طلقة واحدة فقط. فأما إذا لم يراجعها حتى انقضت عدّتها، فإنها تصبح بذلك بائنة منه، وعندئذ سبيل إليها إلا بعقد ومهر جديدين، باختيار منها، كزوج جديد. ودليل ذلك: قول الله عزّ وجلّ {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232]. فلو كان حق الرجعة ثابتاً لزوجها الأول، لما أباح لها النكاح ممن تشاء من الأزواج. رابعاً: إذا طلقها ثلاث تطليقات: إذا طلق الزوج زوجته ثلاث تطليقات، سواء كنّ متفرقات، أم مجتمعات بلفظ واحد، وسواء كان الطلاق قبل الدخول، أو بعد الدخول، بانت منه الزوجة، ولم يعد له من سبيل إليها، سواء أثناء العدّة أو بعدها، إلا بعد اجتيازها خمس مراحل من الشروط: 1ـ أن تنقضي عدّتها من زوجها. 2ـ أن يعقد نكاحها بعد انقضاء عدّتها على زوج غير الأول عقداً طبيعياً صحيحاً. 3ـ أن يدخل بها هذا الزواج الثاني دخولاً حقيقياً. 4ـ أن يطلّقها بعد ذلك. 5ـ أن تنقضي عدّتها منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 ثم إذا أراد بعد ذلك زوجها الأول أن يعود إليها كان له ذلك، لكن بناءً على رضاها، وبعقد ومهر جديدين. قال الله تعالى: {َإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} [البقرة: 230] وروى البخاري (الشهادات، باب: شهادة المختبي، رقم: 2496)، ومسلم (في النكاح، باب: لا تحل المطلقة ثلاثاً لمطلّقها حتى تنكح ... .، رقم: 1433) عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كنت عند رفاعة، فطلقني فأبتّ طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزَّبير، إنما معه مثل هُدْبة الثوب، فقال: (أتريدين أن ترجعي إلاّ رفاعة؟، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك). [أبتّ طلاقها: طلّقها ثلاثاً. هدبة الثوب: حاشيته، شبّهت به استرخاء ذكره، وأنه لا يقدر على الوطء. تذوقي عسيلته: هذا كناية عن الجماع. وعسيلة: قطعة صغيرة من العسل، شبّه لذة الجماع بلذة ذوق العسل]. الحكمة من توقف حل المطلقة ثلاثاً على هذه الشروط: ولعلّ الحكمة في إلزام المطلّقة بكل هذه الشروط التي ذكرنا لتحلّ لزوجها الأول هي: التنفير من الطلاق الثلاث، وحمل الأزواج بذلك على أن لا يتورطوا في الطلاق الثلاث. الخلاصة في الرجعة: اعلم أن المطلّقة بالنسبة لإمكان رجوعها إلى زوجها تسمى: (رجعية) إن طلِّقت طلقة واحدة أو طلقتين، بعد الدخول بها، وعدّتها لم تنقضِ بعد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 وحكمها: جواز مراجعة زوجها لها، بعقدها ومهرها السابقين وبموجب إرادته المنفردة (بائنة بينونة صغرى): وهي: 1ـ المطلّقة طلقة واحدة أو طلقتين قبل الدخول بها. 2ـ المطلّقة طلقة واحدة أو طلقتين بعد الدخول بها، وقد انقضت عدّتها. 3ـ المخالعة على بَدَلَ مالي، كما سبق بيانه. وحكمها: لا سبيل للزوج إليها إلا بعقد ومهر جديدين، وباختيارها ورضاها. (بائنة بينونة كبرى): وهي التي طلّقها زوجها ثلاث تطليقات، سواء قبل الدخول بها، أو بعده. وحكمها: لا تحلّ له إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره، على نحو ما قد سبق إيضاحه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 مشبهات الطلاق هنا ثلاث مسائل، تشبه في نتائجها الطلاق، أو هي قد تؤول إلى الطلاق. وهذه المسائل هي: الإيلاء، الظهار، اللعان. لذلك جمعناها إلى بعضها تحت هذا العنوان: (مشبّهات الطلاق) ثم لنشرح كلاً منها على حدة: أولاً ـ الإيلاء تعريف الإيلاء: الإيلاء في اللغة من الأليَّة، بمعنى اليمين. يقال: آلى فلان: أي أقسم، وعليه قول الله عزّ وجلّ: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ ... } [النور: 22] أي لا يحلف. والإيلاء اصطلاحاً: فهو أن يقسم الزوج المالك لحق الطلاق ألاّ يجامع زوجته مطلقاً، أو مدة تزيد على أربعة أشهر. حكم الإيلاء: إذا أقسم الزوج على أن يجامع زوجته مطلقاً، أو مدة تزيد على أربعة أشهر، فهو مولٍ بذلك من زوجته. ويترتب على الزوج من الأحكام الشرعية ما يلي: يمهله الحاكم أربعة بدءاً من اليوم الذي أقسم فيه أن لا يطأ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 زوجته، كفرصة يمكنه من الرجوع والتكفير عنها، أو من تطليقها إن لم يرد الرجوع والتفكير. فإذا انتهت الأشهر الأربعة، وهو ملتزم يمينه، فهو عندئذ مضار لزوجته، ويلزمه الحاكم بسبب ذلك ـ بناءً على طلب الزوجة ـ بأحد أمرين: 1ـ الرجوع عن يمينه، والاتصال بزوجته، ويكفّر عن يمينه، إن كان قد أقسم بالله، أو بعض صفاته، أو يأتي بما أقسم به إن كان قد حلف على أن يفعل عملاً، أو يتصدق بصدقة. 2ـ أو الطلاق إن أبى إلا التمسك بيمينه. فإن أبى الزوج، ورفض سلوك أحد هذين السبيلين، أوقع القاضي عنه طلقة واحدة، لأنه حق توجه عليه لرفع الضرر عن الغير، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتطليق عليه. وتقع النيابة فيه، كقضاء الدين، وأداء الحقوق العينية. هذا إذا لم يكن بالزوج عذر يمنعه من الوطء، فأما إن كان عذر من مرض ونحوه، طولب بالرجوع عن إيلائه بلسانه، بأن يقول: إذا قدرت رجعت عن التزامي ويميني دليل أحكام الإيلاء: ودليل أحكام الإيلاء التي ذكرناها قول الله عز وجل: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {226} وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226 ـ 227]. [يؤلون: يحلفون. تربص: انتظار. فاؤوا: رجعوا عن الحلف إلى الوطء. عزموا الطلاق: أوقعوه]. وروى مالك رحمه الله تعالى في كتابه المؤطأ (الطلاق، باب: الإيلاء 2/ 556) عن علي - رضي الله عنه - أنه كان يقول: إذا آلى الرجل من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 امرأته، لم يقع عليه طلاق، وإن مضت الأربعة أشهر، حتى يوقف: فإما أن يطلّق، وإما أن يفيء. وروى ... مثل ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما. ومثل هذا الحكم لا يقال من قبل الرأي، لذلك كان لهذا الحديث حكم المرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثانياً ـ الظهار: تعريف الظهار: الظهار ـ لغة ـ مأخوذ من الظهر، لأن صورته الأصلية أن يقول الرجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي. وتعريف الظهار في الاصطلاح: أن تشبّه الزوج زوجته في الحرمة بإحدى محارمه: كأمه، وأخته. وكان العرب في الجاهلية يعتبرون الظهار أسلوباً من أساليب الطلاق. ولكن الشريعة الإسلامية أعطته اعتباراً آخر، وبَنَت عليه أحكاماً أخرى غير الطلاق. حكم الظهار من حيث الحلّ والحرمة: الظهار حرام بإجماع المسلمين، وهو كبيرة من الكبائر، بدليل أن الله عز وجل سماه منكراً من القول وزوراً، قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة: 2] ألفاظ الظهار: تنقسم الألفاظ التي تعتبر دالّة على الظهار إلى قسمين: صريح، وكناية. أما اللفظ الصريح: وهو الذي لا يحتمل غير الظهار ـ فهو أن يقول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي. أو أنت عندي - كظهر أُمي. فإذا تلفظ بهذا الكلام، فهو مظاهر من زوجته، سواء وجت نيّة ذلك لديه أم لم توجد، مادام ممّن يصحّ منهم الطلاق، أما دام رشيداً واعياً لمعنى ما يقول. أما اللفظ الكنائي ـ وهو ما يحتمل الظهار وغيره ـ فهو مثل أن يقول لزوجته: أنت عليّ كأمي وأختي، أو: أنت عندي مثل أمي وأختي. فإذا نطق بمثل هذه الألفاظ، فإنها تنصرف إلى المعنى الذي أراده عند التلفّظ بها. فإن كان قصد بها الظهار كان مظاهراً، وإن كان قصد بها تشبيه زوجته بأمه أو أخته في الكرامة والتقدير لم يكن مظاهراً، وليس عليه شئ أبداً. أحكام الظهار: إذا نطق الزوج بلفظ الظهار الصريح، أو بشيء من ألفاظه الكنائية، وأراد بذلك معنى الظهار، وهو تشبه الزوجة بمحارمه في الحرمة عليه، فإنه ينظر: ـ فإن أتبع كلامه هذا بالطلاق، فإن حكم الظهار يندرج في الطلاق، ولا يبقى له من أثر، إذ يأتي الطلاق بمثابة تفسير للفظ الظهار، فيلغو حكم الظهار، ويستقر الطلاق. ـ أما إن لم يتبع ذلك بالطلاق، ولم يحصل ما يقطع النكاح، فإنه يعتبر عائداً في كلامه، مخالفاً لما قاله، فإن عدم انفصاله عن زوجته، وقد شبّهها في الحرمة بمحاربة ـ يعتبر نقضاً منه لهذا التشبيه، ومخالفة لمقتضاه. وعندئذ تلزمه كفّارة، يُكلف بإخراجها على الفور. كفارة الظهار: وكفّارة الظهار مرتبة ـ حسب الإمكان ـ وفق ما يلي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 1ـ عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب المُخلّة بالكسب والعمل، كالزمانة، أو فَقْد عضو، كرجْل مثلاً. 2ـ فإن لم يكن رقيق كعصرنا اليوم، أو كان، ولكنه عجز عنه، فصيام شهرين قمريين متتابعين. 3ـ فإن لم يستطيع الصوم، أو لم يستطيع الصبر على تتابع الصوم، لمرض، أو هرم، فإطعام ستين مسكيناً، لكل مسكين مدّ من غالب قوت البلد. دليل ترتيب الكفّارة: والدليل على هذا الترتيب في كفّارة الظهار ـ ما سيأتي في أحكام الظهار عامة ـ وما رواه الترمذي (الطلاق، باب: ما جاء في كفارة الظهار، رقم: 1200) وغيره: أن سلمان بن صخر الأنصاري، أحد بني بياضة، جعل امرأته عليه كظهر أُمه، حتى يمضي رمضان، فلما مضى نصف من رمضان، وقع عليها ليلاً، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أعتق رقبة ". قال: لا أجدها، قال: " فصم شهرين متتابعين ". قال: لا أجد. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفروة بن عمرو: " أعطه ذلك العرق " وهو مكتل يأخذ خمسة عشر صاعاً، أو ستة عشر، إطعام ستين مسكيناً. كفارة الظهار تخرج فوراً: إن كفّارة الظهار يُطالب بها الزوج على الفور، أي إنه لا يحلّ له وطء زوجته قبل التفكير بأيّ الأنواع الثلاثة التي سبق ذكرها، فإذا وطىء زوجته قبل التفكير، فقد عصى، ولزمته الكفّارة، لأن الوطء قبل التفكير حرام. لقول الله عزّ وجل: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]. روى الترمذي (الطلاق، باب: ما جاء في المظاهر يواقع قبل أن يكفر، رقم: 1199)، وابن ماجه (الطلاق، باب: المظاهر يجامع قبل أن يكفر، رقم: 2065) وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ظاهر من امرأته، فوقع عليها، فقال: يا رسول الله، إني قد ظاهرت من زوجتي، فوقعت عليها قبل أن أُكفّر، فقال: " وما حملك على ذلك، يرحمك الله "؟ يرحمك الله "؟ قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال: " فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به ". دليل أحكام الظهار عامة: ويستدل لأحكام الظهار جملة: بما جاء عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة أوس بن الصامت ـ رضي الله عنها ـ جاءت تشتكي زوجها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تقول: يا رسول الله، أكل شبابي ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سنّي وانقطع ولدي ظاهر مني، اللَّهمّ إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبرائيل بهؤلاء الآيات: {قَدْ سَمِعَ} رواه ابن ماجه (الطلاق، باب: الظهار، رقم: 2063)، وأبو داود (الطلاق، باب: في الظهار، رقم: 2214)، والحاكم (في المستدرك: التفسير، تفسير سورة المجادلة: 2/ 481) .. والآيات هي: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ {1} الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ {2} وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {3} فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 1 - 4]. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 ثالثاً ـ اللعان تعريف اللعان: اللعان ـ لغة ـ مصدر لاعن، وهو الطرد، والإبعاد. منه: لعنه الله، أي طرده وأبعده. وسمي بذلك لبعد الزوجين كلّ منهما عن الآخر. وأما اللعان شرعاً: فهو كلمات معينة، جعلت حجة للمضطر إلى قذف من لطّخ فراشة، وألحق العار به. وسمي لعاناً، لاشتمال هذه الكلمات على لفظ اللعن، ولأن كلا من المتلاعنين يبتعد عن الآخر باللعان. الحكمة من مشروعية اللعان: أعلم أن حكم اللعان جاء مخالفاً لما يقتضيه عموم حكم القذف، من استحقاق القاذف الحدّ، وبراءة المقذوف حكماً مما قد رماه به القاذف. فما هي حكمة هذه المخالفة؟ ولماذا لم تنطبق أحكام القذف على مَن جاء بقذف زوجته بالفاحشة؟ والجواب: أن غير الزوج بالنسبة لزوجته غير مضطر إلى أن يرمي أحداً من الناس بالفاحشة، صادقاً كان في ذلك أم كاذباً. بل الأدب الإسلامي يقضي بأن يستر المسلم ما قد ينكشف له من عيوب الآخرين، ويكتفي بالنصح لهم، في ستر ونَجْوة من الناس. أما الزوج بالنسبة لزوجته، فإنه يشبه أن يكون مضطراً إلى الكشف عن حقيقتها، وواقع أمرها في ارتكاب الفاحشة، لأن ارتكابها ذلك تلطيخ لفراشه، وإلحاق للعار به. وهو عذر شرعي يعطيه حق الانفصال عنها. ولو انفصل عنها بطلاق لاستلزم ذلك أن يقع في ظلم آخر يلحقه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 بنفسه، وهو الحكم لها بكامل المهر، دون أن تستحق شيئاً منه بسبب سوء سلوكها. لذلك كان لابدّ ـ لإنصافه ـ من أن يشرع حكم خاص بهذه الحالة، يضمن بقاء كل من الزوجين في كنف العدالة، دون أن يذهب واحد منهما ضحّية لظلم الآخر. وكان هذا الحكم هو: حكم اللعان، الذي سنقف على موجز لتفاصيله. وبهذا تدرك الحكمة من أن قذف الزوج لزوجته، إذا جاء على النحو الذي رسمته الشريعة الإسلامية، لا يستوجب حدّاً أبد له، فإن القاذف إنما يُحدّ لاتهامه بالكذب من جانب، ولعدم اهتمامه بستر حال المسلمين من جانب آخر. أما الزوج فإنه يبعد جداً أ، يقذف زوجته كاذباً، لم يلحقه بسبب هذا الكذب من العار، وسوء السمعة، وهو معذور في أن لا يستر حال زوجته، لأن ستره لها إلحاق للعار به، وهو إسقاط لمروءته وحُسن سيرته بين الناس. حكم قذف الزوجة: القذف: هو أن يرمي زوجته بالزنى، وللزوج الحق في أن يرميها بذلك إذا علم زناها، أو ظنه ظناً مؤكداً: كظهور زناها بفلان من الناس، مع رؤيتهما في خلوة منفردين. هذا الحكم ـ وهو إباحة رمي الزوجة بالزنى ـ إذا لم يكن هناك ولد، أما إذا كان هناك ولد، والزوج يعلم أنه ليس منه، فإنه والحالة هذه يجب عليه أن يرمي زوجته، وينفي الولد عن نفسه، لأن ترك نفسي الولد عن نفسه يتضمن استلحاقه، واستلحاق من ليس منه حرام، كحرمة نفي مَن هو منه، لكن كيف يعلم أن هذا الولد ليس منه. طريق العلم بذلك أن يكون لم يطأ زوجته، أو أن زوجته قد أتت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 بالولد لدون ستة أشهر من الوطء، التي هي أقل مدة الحمل، أو ولدته لأكثر من أربع سنين من الوطء، التي هي أكثر مدة الحمل، ففي هذه الحالات يثبت أن الولد ليس من هذا الزوج، وعندئذ يجب نفيه عن نفسه، لئلا يلحق به. كيفية لعان الزوج: إذا رمى الرجل زوجته بالزنى فعليه حدّ القذف، إلا أن يقيم البيّنة، والبيّنة أربعة شهداء، بما فيهم الزوج. وهذا هو الحكم العام لمقتضى القذف، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهلال بن أُمية - رضي الله عنه - لما قذف امرأته عند النبي - صلى الله عليه وسلم -: " البينّة أو حدّ في ظهرك " فقال هلال: والذي نعثك بالحق إني صادق، فَلْينزلنّ الله ما يبرئ ظهري من الحدّ. وقد نزل حكم اللعان، فكان السبيل الذي يدرأ به الزوج عن نفسه حدّ القذف، إذا قذف زوجته بالزنى، فكيف تكون الملاعنة إذاً؟ الملاعنة: أن يقول الزوج عند الحاكم أمام جَمْع من الناس، يسنّ أن يكونوا من وُجهائهم، وصالحيهم، وأن يكون ذلك في المسجد، فوق مكان مرتفع، كمنبر وغيره، يقول أشهد بالله إنني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة من الزنى، وأن هذا الولد (إن كان لها ولد، أو حمل) من الزنى وليس منّي. يقول ذلك أربع مرات، يشير في كل مرة بيده إلى زوجته، إن كانت حاضرة. ثم يقول في المرة الخامسة: بعد أن يعظه الحاكم، ويحذّره من الكذب، يقول: وعلىّ لعنة الله إن كنت من الكاذبين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 دليل هذا اللعان: ويستدلّ على تشريع اللعان بالنسبة للزوج يقول الله عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ {6} وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 6 - 7] ويستدل من السنة بما رواه البخاري (الطلاق، باب: التلاعن في المسجد، رقم: 5003) ومسلم (أول كتاب اللعان، رقم: 1429) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أن رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله. أرأيتَ رجلاً وجد من امرأته رجلاً، أيقتله، أم كيف يفعل؟ فأنزل الله في شأنه ما ذُكرَ في القرآن من أمر المتلاعنين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قد قضى الله فيك وفي امرأتك ". قال فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد. وفي رواية: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الأحكام التي تترتب على لعان الزوج: إذا لاعَنَ الزوج زوجته، على الكيفية التي ذكرناها، ترتب على ذلك خمسة أحكام: 1ـ سقوط حدّ القذف عن الزوج. 2ـ وجوب حدّ الزنى على الزوجة، إلا أن تلاعن هي أيضاً. 3ـ زوال الفراش، أي انقطاع النكاح بينهما. 4ـ نفي الولد، وانقطاع نسبه عن الزوج إن نفاه في لعانه، وإلحاقه بالزوجة. 5ـ حُرمة كلّ من الزوجين على الآخر إلى الأبد. روى البخاري (الطلاق، باب: يلحق الولد بالملاعنة، رقم: 5559)، ومسلم (في اللعان، رقم: 1494) عن ابن عمر رضي الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لاعَنَ بين رجل وامرأته، فانتفى مَن ولدها، ففرق بينهما، وألحق الولد بالمرأة. وروى أبو داود (الطلاق، باب: في اللعان، رقم: 2250) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: مضت السنّة بعدُ في المتلاعنين أن يفرّق بينهما، ثم لا يجتمعان أبداً. كيفية لعان الزوجة: كما أن لعان الزوج هو السبيل الذي يدرأ عنه حدّ القذف، فإن لعان الزوجة هو السبيل الذي يدرأ عنها حدّ الزنى، الذي يتعلق بها بسبب لعان الزوج. إما كيفية لعان الزوجة، فهو أن تقول: أشهد بالله أن فلاناً من الكاذبين فيما رماني به من الزنى. تقول ذلك أربع مرات، ثم تقول في المرة الخامسة: وعلىّ غضب الله إن كان من الصادقين. فإذا قالت ذلك سقط عنها حدّ الزنى دليل لعان الزوجة: والدليل على ذلك قول الله عز وجلّ: {وَيَدْرَأُ {7} عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ {8} وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 8ـ9]. من أهم شرائط اللعان: 1ـ أن يتقدم القذف على اللعان. 2ـ أن يتقدم لعان الزوج على لعان الزوجة. 3ـ أن يلتزم كل من الزوج والزوجة نصّ الكلمات التي ذكرناها، فلو أبدل أحد الزوجين لفظ الشهادة بغيرها: كالحلف، أو القسم، أو أبدل لفظ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 الغضب باللعن، أو العكس، لم يصحّ اللعان. لأن ألفاظ اللعان وردت بنصّها في صريح كتاب الله عزّ وجلّ، فيجب المحافظة عليها في صيغة الملاعنة. 4ـ أن يكون بين الشهادات الخمس التي يشهدها كل من الزوجين موالاة وتتابع، فلا يجوز أن يقع ما يعدّ في العُرف فاصلاً بينهما. 5ـ يجب على الحاكم أن ينصح كلاً من الزوجين، ويحذره الكذب ومغبّته، وأن يقول لهما: حسابكما على الله، أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب. روى الترمذي (الطلاق، باب: ما جاء في اللعان، رقم: 1202) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا الرجل، فتلا عليه الآيات، ووعظه وذكره، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقال: لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها. ثم ثنى بالمرأة فوعظها وذكرها، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقالت: لا والذي بعثك بالحق ما صدق. قال فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات إنه لمن الصادقين، والخامسة إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثم ثنى بالمرأة، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ثم فرّق بينهما. وفي رواية عند البخاري (الطلاق، باب: قول الإمام للمتلاعنين: أحدكما كاذب ... .، رقم: 5006) قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما " حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها ". وروى البخاري (الطلاق، باب: يبدأ الرجل بالتلاعن، رقم: 5001) عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن هلال بن أمّية قذف امرأته، فجاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 فشهد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن الله أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب ". وروى أبو داود (الطلاق، باب: التغليظ في الانتفاء، رقم 2263) وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول حين نزلت آية المتلاعبين: " أيّما امرأة أدخلت على قوم مَن ليس منهم، فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته. وأيما رجل جحد ولده، وهو ينظر إليه احتجب الله منه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين ". نسأل الله تعالى اللطف في الدنيا والآخرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 العدَّة تعريف العدة : العدّة ـ لغة ـ اسم مصدر عدّ يعدّ، أما المصدر: فهو (عدّ) والعدّة: مأخوذة من العدد، لاشتمالها عليه، من الأقراء، والأشهر. والعدة اصطلاحاً: اسم لمدة معينة تتربصها المرأة، تعبداً لله عزّ وجلّ، أو تفجعاً على زوج، أو تأكداّ من براءة الرحم. دليل مشروعية العدة: لقد ثبتت مشروعية العدّة بعدد من آيات القرآن الكريم، وبكثير من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وانعقد إجماع الأمة على مشروعيتها. وسيأتي ـ أثناء البحث ـ الكثير من أدلة الكتاب والسنّة التي تفصل أحكام العدّة وتبيِّنها، وتدل على مشروعيتها. الحكمة من مشروعية العدة: ـ أما المتوفى عنها زوجها، فقد شرعت العدة في حقها، للمعاني التالية: أولاً: للوفاء بحق زوجها الراحل، فإن ما قد فرضه الله عليها من التقدير والوفاء وحُسن المعاملة له، لا يتناسب مع إعراضها عنه بمجرد وفاته، ورحيله عنها. ثانياً: للتعويض عن العُرْف الجاهلي، الذي كان يفرض على الزوجة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 إذا مات زوجها أن تحبس نفسها في وكر مظلم عاماً كاملاً، وأن تضمخ نفسها خلال ذلك بالسواد، وتلبس البشع المستقذر من ثيابها. ذلك لأن القضاء على عادة متطرفة في المجتمع، لا يتم إلا إذا ملىء مكان تلك العادة بمبدأ معتدل سليم، يحقّق محاسن العادة الأولى دون أن يجرّ على الناس شيئاً من مساوئها. ـ وأما المفارقة بفسخ أو طلاق: فإن كانت الزوجة من ذوات الحيض، أو كانت حاملاً: فإن الحكمة من وجوب العدّة في حقها: ضبط الأنساب، وحفظ المسؤوليات، والتأكد من براءة الرحم، والأمر في ذلك واضح. أما إن كانت الزوجة صغيرة، أو آيسة لا تحيض، فالحكمة من وجوب العدّة عليها تظهر فيما يلي. 1ـ المعنى التعبدي، الذي يتضمن الانصياع لأمر الله عزّ وجلّ، وهذا في الحقيقة معنى جدير بالوقوف عنده، وهو يتناول العدّة بكل أنواعها. 2ـ تفخيم أمر النكاح، وإعطاؤه الأهمية الشرعية التي تناسبه. وواضح أنه لا يتناسب مع شيء من هذا التفخيم والأهمية أن تتحول الزوجة في اليوم التالي من فراقها إلى زوج آخر، وإن كانت صغيرة، أو آيسة مقطوعاً ببراءة رحمها من الحمل من زوجها. إن هذه السرعة في التنقل تُذيب أهمية النكاح، وهيبته أمام الأنظار، وتثير في النفس والخيال شأن السفاح وصورته، وكيف تنتقل البغي من شخص إلى آخر دون أي انتظار 3ـ مزيد من الحيطة للتأكد من براءة الرحم، إذ لا يؤمن عدم وقوع أحوال ووقائع شاذة عن القانون والعُرْف الطبيعي، بين كل حين وآخر من الزمن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 أنواع العدّة: تنقسم العدّة التي تلزم بها المرأة إلى قسمين: 1ـ عدة وفاة. 2ـ وعدة فراق. أولاً: عدّة الوفاة: أما عدّة الوفاة، فهي التي تجب على من مات عنها زوجها: أـ فإن كانت حاملاً منه أثناء الوفاة فعدّتها تنتهي بوضع الحمل، طالت المدة أو قصرت. ب ـ وإن كانت المرأة غير حامل، أو كانت حاملاً بحمل لا يمكن أن يكون من زوجها المتوفى عنها، كأن يكون زوجها غير بالغ، أو ثبت غيابه عنها منذ أكثر من أربع سنوات، فعدّتها تنتهي بنهاية أربعة أشهر وعشرة أيام، سواء دخل بها الزوج، أو لم يدخل. دليل ذلك: والدليل على ما ذكر قول الله عز وجل: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. وقوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 234]. [يتربصن: ينتظرن. بلغن أجلهنّ: انقضت عدّتهنّ ومدّتهنّ المذكورة. فلا جناح: لا خرج ولا إثم. فيما فعلن في أنفسهنّ: أي من التزين، والتعرّض للخطاب، وللزواج. بالمعروف: بالوجه الذي يقرّه الشرع، ولا ينكره]. فالآية الثانية من الآيتين عامّة تشمل المرأة الحامل وغيرها، أما الأولى منهما فقد أخرجت من ذلك العموم النساء الحوامل، وجعلت لهنّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 حكماً خاصاً بهنّ، فكان هذا هو دليل التفريق بين عدّة المرأة التي توفي عنها زوجها وهي حامل منه، وبين عدّة المرأة التي توفي عنها زوجها وهي غير حامل. والدليل من السنة أن الحامل تنتهي عدّتها بوضع الحمل: ما رواه البخاري (الطلاق، باب: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ ... . }، رقم: 5014) عن المسور بن مخرمة - رضي الله عنه -: أن سُبيْعة الأسلمية رضي الله عنها نُفسَتْ بعد وفاة زوجها بليال، فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه أن تنكح، فأذن لها، فنكحت. [نفست: ولدت]. ثانياً: عدة الفراق: وأما عدّة الفراق فهي التي تجب على المرأة التي فارقت زوجها، بفسخ أو طلاق، بعد وطئها: أـ فإن كانت حاملاً فعدّتها تنتهي بوضع الحمل. ودليل ذلك عموم قول الله عزّ وجل: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. ب ـ وإن كانت حامل، وهي من ذوات الحيض، فعدّتها بمرور ثلاثة أطهار من بعد الفراق. ودليل ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 228] ج ـ وإن كانت لا ترى حيضاً: بأن كانت صغيرة، أو آيسة، أي متجاوزة سن الحيض ذلك قول الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]. [واللائي لم يحضن: الصغيرات، فعدّتُهنّ أيضاً ثلاثة أشهر. إن ارتبتم: شككتم في حكمهنّ، ولم تعرفوا كيف يعتدن]. المطلّقة قبل الدخول بها: أما المرأة التي فارقها زوجها بفسخ، أو طلاق، قبل الدخول بها، فلا يجب عليها أن تلتزم بأيّ عدّة. ودليل ذلك قول الله عزّ وجل ّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 49]. أحكام العدة وما تفرضه من التزامات: هناك أحكام والتزامات تفرضها العدّة، وسنبيّنها فيما يلي: أولاً عدّة الطلاق: إذا كانت المرأة معتدّة من زوجها عدّة طلاق، فإما أن يكون طلاقها: رجعياً، أو بائناً الأول: فإن كانت معتدّة من طلاق رجعي ترتب على عدّتها الأحكام التالية: أـ وجوب المسكن لها مع الزوج، والأفضل أن يكون مسكن طلاقها، إن كان لائقاً بها، ولم يمنع منه مانع شرعي، ونحوه. ب ـ وجوب النفقة لها بسائر أصنافها: من مؤنة، وكسوة، وغير ذلك، سواء كانت حاملاً، أو حائلاً، وذلك لبقاء سلطان الزوج عليها، وانحباسها تحت حكمه، حيث يمكنه أن يرجعها ما دامت في العدّة. ج ـ يجب عليها ملازمة مسكنها، فلا تفارقه إلا لضرورة. ودليل هذه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 الأحكام الثلاثة قول الله عزّ وجلّ: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقال الله تعالى: {َا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]. د ـ يحرّم عليها التعرّض لخطبة الرجال، إذ هي لا تزال حبيسة على زوجها، وهو الأحقّ والأولى من سائر الرجال. قال الله عز وجل: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً} [البقرة: 228]. الثاني: إن كانت معتدّة بفراق بائن، وهي عندئذ: إما أن تكون حاملاً، وإما أن تكون حائلاً، أي غير حامل: فإن كانت حاملاً: ترتب على ذلك الأحكام التالية: أـ وجوب المسكن لها على الزوج، ودليل ذلك قوله تعالى في الآية السابقة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]. والآية هذه عامّة في المطلّقة الرجعية والبائنة. ب - النفقة بأنواعها المختلفة، ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6) ج - ملازمة البيت الذي تعتدّ فيه، فلا تخرج منه إلا لحاجة، كأن تحتاج إلى طعام ونحوه، أو تحتاج إلى بيع متاع لها تتكسب منه، وليس ثمة مَن يقوم مقامها في ذلك، أو كانت موظفة في عمل، ولا يسمح لها بالبقاء في بيتها مدة عدّتها، أو كانت تضطر - إزالة لوحشتها - أن تسمر عند جارة لها، فلا يحرم خروجها من بيتها لمثل ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 أما دليل المنع من الخروج لغير حاجة، فقول الله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1) أما دليل جواز الخروج للحاجة: فما رواه مسلم (الطلاق، باب: جواز خروج المعتدّة البائن .. لحاجتها، رقم: 1483) عن جابر - رضي الله عنه - قال: طلّقت خالتي، فأرادت أن تجُدَّ نخلها، فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي - رضي الله عنه - فقال: " بلى اخرجي، فجُدّي نخلك، فإنك عسى أن تَصَدَّقَي، أو تفعلي معروفاً ". وإن كانت حائلاً: ترتب كل ما ذكر في الفقرة السابقة، إلا النفقة بأنواعها المختلفة من مؤنة، وملبس، وغير ذلك. فلا تثبت لها، وإنما يجب لها المسكن، وتجب عليها ملازمته. ودليل ذلك: ما رواه أبو داود (الطلاق، باب: في نفقة المبتوتة، رقم: (229) في قصة فاطمة بنت قيس، حين طلّقها زوجها تطليقة كانت بقيت لها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: " لا نفقة لك إلا أن تكوي حاملاً ثانياً: عدّة الوفاة: وإن كانت المرأة معتدّة من وفاة، وجبت في حقّها الأحكام التالية: أـ الإحداد على الزوج: بأن تمتنع عن مظاهر الزينة والطيب، فلا تلبس ثياباً ذات ألوان زاهية، ولا تكتحل، ولا تستعمل شيئاً من الأصباغ، ولا تتزين بشيء من الحلي: ذهباً أو فضة، أو غيرهما، فإن فعلت شيئاً من ذلك فهي آثمة. ودليل ذلك: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحدّ على ميت فوق ثلاث ليال، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ". رواه البخاري (الطلاق، باب: تحدُ المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً، رقم: 5024)، ومسلم (الطلاق، باب: وجوب الإحداد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 في عدّة الوفاة رقم: 1486ـ 1489) عن أُم حبيبة رضي الله عنها. دلّ هذا الحديث على حرمة إحداد المرأة على غير الزوج، ووجوبها على الزوج أربعة أشهر وعشرة أيام. ورخّص - صلى الله عليه وسلم - في إظهار الحزن، وأمر بالتعزية خلال ثلاثة أيام فقط، لأن النفوس لا تستطيع فيها الصبر، وإخفاء الحزن. وروى البخاري (الحيض، باب: الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض، رقم 307) ومسلم (الجنائز، باب: نهي النساء عن اتباع الجنائز، رقم: 938) عن أُم عطية الأنصارية، رضي الله عنها قالت: كنا نُنهى أن نحدّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، ولا نكتحل، ولا نتطيب، ولا نلبس ثوباً مصبوغاً، إلا ثوب عَصْب، وقد رخص لنا عند الطهر، إذا اغتسلت إحدانا من محيضها، في نُبْذة من كست أظفار، وكنا ننهى عن اتّباع الجنائز. [ثوباً مصبوغاً: مما يعدّ لبسه زينة في العادة. ثوب عَصْب: نوع من الثياب، تشدّ خيوطها، وتصبغ قبل نسجها. نبذة: قطعة صغيرة كُسْت أظفار: نوع من الطيب]. ب ـ يجب عليها ملازمة بيتها الذي تعتدّ فيه، فلا تخرج إلا لحاجة، كالتي ذكرناها بالنسبة للمعتدّة من الطلاق. روى الترمذي (الطلاق، باب: أين تعتدّ المتوفى عنها زوجها، رقم: 1204) وأبو داود (الطلاق، باب: في المتوفى عنها تنتقل، رقم: 2300) وغيرهما، عن زينب بنت كعب بن عجرة: أن الفُريْعة بنت مالك بن سنان ـ وهي أُخت أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أخبرتها أنها جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدْرة، وأن زوجها خرج في طلب أعبد له أبَقُوا، حتى إذا كان بطوف القدوم لحقهم، فقتلوه. قالت: فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أرجع إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 أهلي، فإن زوجي لم يترك لي مسكناً يملكه، ولا نفقة. قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم ". قالت: فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة (أو في المسجد) ناداني رسول الله ـ أو أمر بي فنوديت له ـ فقال: زوجني. قال: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً. قالت: فلما كان عثمان - رضي الله عنه -، أرسل إلي فسألنيّ عن ذلك، فأخبرته، فاتبعه وقضى به. أما ما يتصوره كثير من العوّام من أنه لا يجوز للمعتدّة أن تكلم أحداً، وأن أحداً من الناس لا يجوز أن يسمع صوتها، فلا أصل له، وإنما حكمه أثناء العدة وخارج العدة سواء. خلاصة في أحكام العدة: والحاصل أن جميع أنواع العدّة تخضع لقدر مشترك من الحكم، وهو: ـ حُرمة الخروج من المسكن الذي تعتدّ فيه المرأة إلا لحاجة. ثم تختصّ المعتدّة بالوفاة بحكم مستقل، وهو: وجوب الإحداد على الزوج، وذلك بأن تمتنع عن الطيب والزينة، على نحو ما قدّمنا. كما تختصّ المعتدّة بالطلاق الرجعي مطلقاً، والطلاق البائن إن كانت حاملاً بوجوب المسكن، وجميع أنواع النفقة لها. وتختصّ المعتدّة بالطلاق البائن - إن لم تكن حاملاً - بوجوب المسكن فقط، دون سائر أنواع النفقات .. خاتمة: ونختم هذا البحث ببيان أمر هام، ألا وهو حُرمة إحداد النساء على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 مَن عدا الزوج من أقاربهنّ، نساءً وذكوراً، وهو إحداد بشع يتخذ شكلاً من أشكال الجاهلية العتيقة، حيث تلزم المرأة التي توفي لها قريب أو قريبة لبس السواد، أو ما يشبهه، إعلاناً عن حزنها، وتتجنب حضور الأماكن العامة، والظهور في مواسم الأفراح ومناسباتها، وتظل على ذلك عاماً، أو يزيد، وربما كانت نفسها خلال أكثر العام لا تنطوي على أيّ حزن أو كرب، ولكنها تتصنع ذلك أمام أبصار الناس، وتتكلفه، وتتباهى به أمامهم. إن هذا الالتزام ليس إلا معارضة صريحة وحادة لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديثة الواضح الصحيح: " لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله وباليوم الآخر أن تُحدّ على ميت فوق ثلاث ليال، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ". رواه البخاري (الطلاق، باب: تحدُّ المتوف عنها زوجها.، رقم: 5024) ومسلم (الطلاق، باب: وجوب الإحداد في عدّة الوفاة، رقم: (1486ـ 1498) عن أم حبيبة رضي الله عنها. وقد روى البخاري ومسلم، عن زينب بنت أبي سلمة قالت: دخلت على زينب بنت جحش رضي الله عنهما حين توفي أخوها، فدعت بطيب فمست منه ثم قالت: والله ما لي في الطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا يحل لمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً " (البخاري ومسلم المواضع السابقة). ولا فرق في هذا الحكم بين هذا التصنّع المتكلَّف الممجوج الذي تلتزمه النساء فيما بينهنّ، وما يفعله الرجال من التزام شعارات الحزن، في ربطة العنق، ونحوها، وهو تقليد أجنبي بشع مغموس في الحُرمة والإثم. نسأل الله تعالى أن يحقّقنا بمعنى العبودية الخالصة له، وأن يلبسنا كسوة الرضى بحكمه، والتجمّل بشرعه، وهدي نبيّه، عليه الصلاة والسلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 ثالثاً: النفقات وما يتعلق بها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 النفقات تعرف النفقات: النفقات: جمع نفقه، والنفقة لغة: مأخوذة من الإنفاق. وهو في الأصل بمعنى الإخراج، والنفاد، ولا يستعمل الإنفاق إلا في الخير. والنفقة اصطلاحاً: كلُّ ما يحتاجه الإنسان، من طعام وشراب، وكسوة ومسكن. وسمي نفقة، لأنه ينفد ويزول، في سبيل هذه الحاجات. أنواع النفقات: للنفقات أنواع خمسة نذكرها فيما يلي: 1ـ نفقة الإنسان على نفسه. 2ـ نفقة الفروع على الأصول. 3ـ نفقة الأصول على الفروع. 4ـ نفقة الزوجة على الزوج. 5ـ نفقات أخرى. ولنبدأ بشرح أحكام كل نوع من هذه الأنواع على هذا الترتيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 1ـ نفقة الإنسان على نفسه: إن أدنى ما يجب على الإنسان من الإنفاق أن يبدأ بنفسه، إذا قدر على ذلك، وهي مقدمة على نفقة غيرة. وتشمل هذه النفقة كل ما يحتاجه المرء من مسكن، ولباس، وطعام، وشراب، وغير ذلك. ودليل ذلك ما رواه البخاري (الأحكام، باب: بيع الإمام على الناس أموالهم وضياعهم، رقم: 6763)، ومسلم (الزكاة، باب: الابتداء في النفقة بالنفس ... .، رقم: 997) وغيره عن جابر - رضي الله عنه - قال: أعتق رجل من بني عُذْرَة عبدّ له عن دُبُر، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: " ألك ما غيره". فقال: لا. فقال: - صلى الله عليه وسلم -: " مَن يشتريه مني "؟ فاشتراه نُعيم بن عبدالله العدوي رضي الله عنه بثمانمائة درهم، فجاء بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدفعها إليه، ثم قال: " ابدأ بنفسك فتصدّق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فَلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء، فهكذا وهكذا ". يقول: فبين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك. معنى قوله: " عن دُبُر " أي علق عتقه بموته، فقال: أنت حر يوم أموت. 2ـ نفقة الفروع على الأصول: يجب على الوالد ـ وإن علا ـ نفقة ولده، وإن سفل. فالأب مكلف بالإنفاق ـ على اختلاف أنواع النفقة ـ على أولاده ذكوراً وإناثاً، فإن لم يكن لهم أب، كلَّف بالإنفاق عليهم الجد أبو الأب القريب، ثم الذي يليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 ودليل ذلك من الكتاب قول الله عز وجل: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فإيجاب الأُجرة على الزوج لرضاعة أولاده، يقتضي إيجاب مؤونتهم المباشرة من باب أولى. وقال الله سبحانه وتعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]. فإن نسبة الولد إلى أبيه بلام الاختصاص، وهي (له) تقتضي مسؤولية صاحب الاختصاص، وهو الأب، عن نفقة ولده ومؤونته. وكذلك وجوب نفقة المُرضِعة للوليد وكسوتها تدلّ على وجوب نفقة الولد وكسوته من باب أولى كما علمت. وأما دليل ذلك من السنّة: فما رواه البخاري (النفقات، باب: إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ.، رقم: 5049)، ومسلم (الأقضية، باب: قضية هند، رقم: 1714) عن عائشة رضي الله عنها، أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم، فقال، " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ". يقصد: خذي من مال أبي سفيان. هذا، ويلحق الأحفاد بالأولاد بجامع النسبة والحاجة في كل. شروط وجوب نفقة الفروع على الأصول: ويشترط لوجوب نفقة الفروع على الأصول تحقّق الشروط التالية: أولاً: أن يكون الأصل موسراً بما يزيد عن قوت نفسه، وقوت زوجته مدّة يوم وليلة. فلو كان الذي يملكه لا يكفي - خلال هذه المدة - غير نفسه هو، أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 غير نفسه وزوجته، لم يكن مكلفاً بالإنفاق على فروعة. ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ابدأ بنفسك ". رواه مسلم (الزكاة، باب: الابتداء في النفقة بالنفس ... ، رقم 997). ثانياً: أن يكون الفرع فقيراً، ويشترط مع فقره، واحد من الأوصاف الثلاثة: 1ـ فقر، وصغر. 2ـ فقر، وزمانة. 3ـ فقر، وجنون. فالصغير الفقير يكلّف أبوه، بالإنفاق عليه، فإن لم يكن أبوه فجده. وكذلك الفقير الزمن، وهو العاجز عن العمل. وكذلك الفقير المجنون. والمقصود بالفقر: العجز عن الاكتساب. فلو كان الولد صحيحاً بالغاً، قادراً على الاكتساب، لم تجب نفقته على أبيه، وإن لم يكن مكتسباً بالفعل. فإن عاقه عن الاكتساب اشتغال بالعلم مثلاُ، فإنه ينظر: فإن كان العلم متعلقاً بواجباته الشخصية: كأمور العقيدة، والعبادة، فذلك يُعدّ عجزاً عن الكسب، وتجب نفقته على أبيه. أما إن كان العلم الذي يشتغل به من العلوم الكفائية التي يحتاج إليها المجتمع، كالطب، والصناعة، وغيرهما، فلا يخرج الولد بالاشتغال بها عن كونه قادراً على الكسب، والأب عندئذ مخيّر: بين أن يمكِّنه من العكوف على ذلك العلم الذي يشتغل به وينفق عليه، وبين أن يقطع عنه النفقة، ويلجئه بذلك إلى الكسب والعمل: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 مقدار النفقة: ليس لهذه النفقة حدّ تقدّر به إلا الكفاية، والكفاية تكون حسب العُرْف، ضمن طاقة المنفق، قال الله عزّ وجل: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق: 7] هل تصير هذه النفقة ديناً على الأصل إذا فات وقتها: لا تصير نفقة الفروع بمضي الزمان ديناً على المنفق، لأنها مواساة من الأصل لفرعه، فهي ليست تمليكاً لحق معين، ولكنها تمكين له بدافع صلة القربى. أي يتناول حاجته من النفقة، فإذا مرّت الحاجة، ولم يشأ أن يسّدها بما قد مكّنة الأصل منه، تعففاً، أو نسياناً، أو غير ذلك، فإن ذمّة أبيه لا يعقل أن تنشغل بدين لولده مقابل الحاجة التي تعفّف ولده عنها، أو شغل عنها، أو نسيها حتى فات وقتها. هذا هو الأصل، وهو الحكم، عندما تكون الأمور بين الأولاد وأبيهم جارية على سَننها الطبيعي. فأما إذا وقع خلاف، تدخل القاضي بسببه فيما بينهم، وفرض القاضي على الأب نفقة معينة، أو أذِنَ للأولاد أن يستقرضوا على ذمّة أبيهم ديناً معيناً من المال، أو القدر الذي يحتاجون إليه، فإن هذه النفقة تصبح ديناً بذمة الوالد، إذا فات وقتها، ولا تسقط بمضي الزمن، لأنها قد آلت، بحكم القاضي، إلى تمليك، بعد أن كانت مجرد مواساة وتمكين. 3ـ نفقة الأصول على الفروع: كما تجب نفقة الفروع على أصولهم بالأدلة والشروط التي أوضحناها. كذلك تجب نفقة الأصول ـ أي الأب والأم، والجدّ والجدّة، وإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 علاَ كل منهما ـ على فروعهم، بناءً على الأدلة التالية، وطبقاً للشروط التي سنذكرها. الأدلة على وجوب هذه النفقة: ويستدل لوجوب النفقة على الأصول، بأدلة من الكتاب والسنّة، والقياس: ـ أما من الكتاب: فقول الله عزّ وجلّ: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] وقوله سبحانه وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23]. والمعروف الذي يقدّمه الولد لوالديه، والإحسان الذي يحسنه إليهما، لا يكون إلاّ بنهوض الولد بمسؤولية نفقتهما عند الاحتياج. ـ وأما من السنّة: فما رواه أبو داود (البيوع والإجارات، باب: في الرجل يأكل من مال ولده، رقم: (3528) والترمذي (الأحكام، باب: الوالد يأخذ من مال ولده، رقم: (1358) وغيرهما، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وولده من كسبه ". وقال - صلى الله عليه وسلم -: " أنت ومالك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم ". رواه أبو داود (البيوع والإجازات، باب: في الرجل يأكل من مال ولده، رقم: 3530). وروى النسائي (الزكاة، باب: أيّتهما اليد العليا: 5/ 61) عن طارق المحاربي - رضي الله عنه - قال: قَدِمت المدينة، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر يخطب الناس، وهو يقول: " يد المُعطي العليا، وابدأ بمن تعول، أُمك وأباك، وأُختك وأخاك، ثم أدناك أدناك ". وروى أبو داود (الأدب، باب: في برِّ الوالدين، رقم: 5140) عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 كليب بن منفعة عن جده - رضي الله عنه -: أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، مَن أبر؟ قال: " أُمك وأباك، وأختك وأخاك، ومولاك الذي يلي ذاك، حق واجب، ورحم موصولة ". ـ أما دليل القياس والاجتهاد: فقياس الأصول على الفروع، إذ كما وجبت نفقة الفروع ـ عند العجز ـ على الأصول كذلك تجب نفقة الأصول عند العجز على الفروع، بجامع شيوع البعضية بينهما، وهي أساس القرابة التي هي ثابتة الأصول والفروع. شروط وجوب نفقة الأصول على الفروع: أولاً: أن يكون الفرع موسراً بما يزيد عن الضروري من نفقته، ونفقة زوجته، يومه وليلته، فلو كان الذي عنده من النفقة لا يكفي لأكثر من حاجته، وحاجة زوجته، مدة يوم وليلة، لم يكلّف الإنفاق على أبيه وأُمه، لأن نفقة الفقير لا تجب على فقير مثله، فإن أيسر بجزء من نفقتهما الضرورية تقدم بها إليهما، فإن ضاقت عنهما قدّم أمه على أبيه، ذلك لأن ما لا يدرك كله لا ينبغي أن يترك كله. ثانياً: أن يكون الأصل فقيراً، والمراد بالفقر هنا: أن لا يكتسب ما يسدّ حاجته الضرورية، سواء كان قادراً على الكسب، أم لا. بخلاف ما مرّ الزمانة، أو الجنون، أي مع صفة العجز. والفرق بينهما: أن الأصل لا يقبح منه تكليف الفرع القادر على الاكتساب. ولكن الفرع يقبح منه أن يكلف أصله ـ الذي طالما اكتسب وجدّ من أجله ـ بالاكتساب، ولا سيما مع كبر السن. ثالثاً: أن لا تكون الأم مكفيّة بنفقة زوجها فعلاً، أو حكماً. ومعنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 هذا الشرط: أن نفقة الأُم تجب على ولدها في حالتين: الحالة الأولى: أن يكون والده عاجزاً عن الإنفاق عليها. الحالة الثانية: أن يكون والده متوفى، وهي خليّة على الزوج. وقدرتها على النكاح لا يلغي هذا الواجب أي يجب على ولدها أن ينفق عليها حتى ولو كان ثمّة كفء يتقدم بطلب الزواج منها. كما أن معنى هذا الشرط أن نفقتها تسقط في حالتين: الحالة الأولى: أن يكون والده قادراً على الإنفاق عليها. الحالة الثانية: أن تكون متزوجة من غير أبيه، سواء كان زوجها موسراً بنفقتها، أو مسعراً بها. فإذا طالبت الأم في حالة إعسار زوجها بالفسخ، وفسخ النكاح، وجب حينئذ أن ينفق عليها ابنها. لا تتأثر نفقة الفروع والأصول باختلاف الدين: إذا لاحظت هذه الشروط، سواء ما شرط منها لنفقة الأصول على الفروع، وما شرط منها لنفقة الفروع على الأصول، أدركت أن وحدة الدين بين الأصول والفروع لا تعتبر شرطاً لوجوب هذه النفقة. إذاً فإن وجوب هذه النفقة من الأصل والفرع، ومن الفرع للأصل لا يتأثر باختلاف الدين]. فيكلف الولد المسلم بالإنفاق على والديه غير المسلمين، ويكلُف الوالد المسلم بالإنفاق على أولاده غير المسلمين، إذا تحققت باقي الشروط التي ذكرناها. ولكن يستثنى من ذلك المرتد، فلا تجري النفقة عليه، سواء كان أصلاً للمنفق، أو فرعاً له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 ودليل جواز النفقة على الأصل، ولو كان مشركاً: ما رواه البخاري (الأب، باب: صلة الوالد المشرك، رقم: 5633)، ومسلم (الزكاة، باب: فضل النفقة والصدقة على الأقربين ... ، رقم: 1003) وغيره عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: قدمت عليّ أُمي، وهي مشركة، في عهد قريش إذ عاهَدَهُم، فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، قدمت عليّ أمي، وهي راغبة، أفأصلُ أمي؟ قال: " نعم، صِلِي أُمك ". [وهي راغبة: أي راغبة بالصلة، أو راغبة عن الإسلام. في عهد قريش: أي ما بين صلح الحديبية وفتح مكة]. مقدار نفقة الأصول على الفروع: هذه النفقة أيضا ليست مقّدرة بحد معين، وإنما هي مقدرة بالعرف المتبع. وهي أيضاً لا تصبح ديناً في ذمة الفرع إذا مرّ وقتها، ولم يتمتع الأصل بها. إلا إذا وقع خلاف بين الأصل والفرع، ففرض القاضي بموجبه جراية معينة على الفرع، فإنها تصبح حينئذ ـ كما قلنا سالفاً ـ ديناً في ذمته بمرور الوقت. ترتيب الأصول والفروع في الإنفاق: إذا كان الوالدين فقيرين، وكان لهما فروع، واستووا في القُرب، أنفقوا عليهما، لأن عّلة إيجاب النفقة تشملهم جميعاً. وتكون حصة الأُنثى من النفقة كنصف حصة الذكر، كالإرث. وإن اختلفوا في درجة القُرب، كابن، وابن ابن، فإن النفقة إنما تجب على الأقرب، وارثاً كان أو غير وارث، ذَكَراً كان أو أُنثى، لأن القُرْب أولى بالاعتبار. ومَن كان فقيراً، وله أبوان موسران فنفقته على الأب، لأنه هو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 المكلف بالإنفاق على ولده الصغير، بدليل قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. وأما نفقة على الكبير الفقير، فاستصحاباً لما كان في الصغر. ومن كان فقيراً، وله أًصل وفرع غنيّان، قدم الفرع في وجوب النفقة، وإن بعد، لأن عصوبة الفرع أقوى من عصوبة الأصل، وهو أولى بالقيام بشأن أبيه، لعظم حرمته. وإذا تعدّد المحتاجون من أُصول وفروع وغيرهم، وكان ما يفضل عن حاجته لا يتسع لنفقة جميعهم، فإنه يقدّم بعضهم على بعض وفق الترتيب التالي: يقدم بعد نفسه: أـ زوجته، لأن نفقتها آكد، فإنها لا تسقط بمضي الزمان، بخلاف نفقة الأصول والفروع، فإنها تسقط بمضي الوقت، كما ذكرنا سابقاً. ب ـ ولده الصغير، ومثله البالغ المجنون، وذلك لشدّة عجزهما عن الكسب. ج ـ الأُم، لعجزها أيضاً، ولتأكيد حقها بالحمل والوضع، والإرضاع والتربية. د ـ الأب، لعظيم فضله أيضاً. هـ ـ الابن الكبير الفقير، لقربه من أبيه، وللقرب مزية فضيلة. وـ الجد وإن علا، لأن حرمته من حرمة الأب، وهو أصل تجب رعاية حقوقه. 4ـ نفقة الزوجة على الزوج: تجب نفقة الزوجة على الزوج بالإجماع، بشرط معينة سنذكرها، فيما بعد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 دليل وجوب هذه النفقة على الزوج: ويستدل لوجوب نفقة الزوجة على الزوج: بالكتاب، والسنّة. أما دليل الكتاب: فقول الله عز وجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]. فقد دلّت هذه الآية على أن الزوج هو المسئول عن النفقة. وقوله الله سبحانه وتعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]. والمولود له في الآية هو الزوج، والضميري في {رِزْقُهُنَّ} عائد إلى الوالدات، وهن الزوجات. والمعنى إذاً: وعلى الأزواج تَجِب نفقة الزوجات. وأما دليل السنة: فما رواه مسلم (الحج، باب: حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، رقم: 1218) عن جابر - رضي الله عنه - في حديث حجة الوداع الطويل: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، ولكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله ". الحكمة من إيجاب نفقة الزوجة على الزوج: إن الحياة الزوجية لابُدّ أن تنهض على أحد أُسس ثلاثة: الأساس الأول: أن يتولى الزوج الإشراف على بيت الزوجية، وأن يكون هو المسئول عن النفقة على الزوجة والأولاد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 الأساس الثاني: أن تتولى الزوجة ذلك كله بدلاً من الزوج. الأساس الثالث: أن يتعاون الزوجان في النهوض بالمسئوليات المادية، وتقديم النفقة. فما الذي يحدث لو استبعدنا الأساس الأول: الذي هو حكم الشريعة الإسلامية، واستعضنا عنه بأحد الأساسين الثاني، أو الثالث؟. تحدث عندئذ مجموعة النتائج التالية: الأول: لابد أن ينعكس ذلك على المهر أيضاً. فأما أن تتقدم المرأة بالمهر كله إلى الرجل، أو أن يلزما بالاشتراك في تقديمه. ومن النتائج الحتمية لهذا الواقع أن تتحول المرأة، فتصبح طالبة للزوج بعد أن شرّفها الله عز وجل، فجعلها مطلوبة. ذلك لأن الذي يتقدم بالمال يكون هو الطالب لمن يأخذ المال. وإذا أصبحت الزوجة هي الساعية بحثاً عن زوجها، فإنها لن تعثر على الزوج الذي تستطيع أن تركن إليه، حتى تسقط السقطات المتتالية، بخِداع الرجال، وأكاذيبهم عليها. ثانياً: لابدّ أن تتجه المرأة هي الأخرى إلى سبل الكدح، والعمل من أجل الرزق، وأن تناكب الرجال سعياً وراء الأعمال المختلفة. وإذا فعلت المرأة ذلك، أصبحت ـ لا محالة ـ عرضة للسوء والانحراف. والواقع المشاهد أكبر دليل على ذلك. كما أن البيت يعوزه عندئذ مَن يدبر شأنه، ويرعى حاله، ويربي صغاره، إذ يصبح عندئذ فارغاً موحشاً، ومصدراً للفوضى، والقلق والاضطراب بدلاً من أن يكون موئلا للسعادة، ومنبعاً للأنس وملجأ للراحة والاستجمام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 والواقع المشاهد أيضاً أكبر دليل على ذلك. ثالثاً: إذا قامت الحياة الزوجية على أحد من الأساسين المذكورين، فلا بد أن يكون حق الطلاق بيدها، على سبيل المشاركة، أو الاستقلال. ذلك لأن القانون الاقتصادي والاجتماعي يقول: (مَن ينفق يشرف). وقد علمت في باب الطلاق الحكمة الباهرة من كون الطلاق ـ في أعم الأحوال ـ حقا للزوج. فمن أجل أن يكون كل من الزوجين عنصر إسعاد للآخر، ومن أجل أن يكون بيت الزوجية عامراً بالرعاية والتهذيب والأنس، ومن أجل أن تظل المرأة عزيزة يطلبها الرجال، ولا تصبح مهينة تلحق الرجال، وهو عنها مُعرض، أو لها مُخادع. من أجل ذلك كله كان الإنفاق على بيت الزوجية واجباً على الزوج دون الزوجة. شروط وجوب نفقة الزوجة على الزوج: إنما تجب نفقة الزوجة على الزوج بالشروط التالية: أولاً: تمكين الزوجة نفسها من الزوج، بأن لا تمنعه من وجوه الاستمتاع المشروع بها. فلو منعته، ولو عن بعض ذلك فقط، لم تجب نفقتها على الزوج. أما إن أرادها على وجه مُحرّم من الاستمتاع، كأن أراد أن يأتيها وهي في المحيض، فإن امتناعها لا يسقط حقّها في النفقة عليها. ثانياً: أن تتبعه في المكان والبيت الذي يختاره، ويستقر فيه، ما لم يكن المكان أو البيت غير صالح للسكن، أو البقاء فيه شرعاً. فلو كان يقيم في بلدة لا يلحقها ضرر شرعي صحيح بالإقامة معه فيها، أو في بيت مستوف للشروط الشرعية المعتبرة، ولم تقبل بالإقامة معه فيها، أو في بيت مستوف للشروط الشرعية المعتبرة، ولم تقبل بالإقامة معه في تلك البلدة، أو ذلك المنزل، لم يكلّف بالإنفاق عليها، لأنها تُعدّ ناشزة حينئذ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 إذا توفرت هذه الشروط وجب على الزوج أن يقدّم للزوجة جميع النفقات التي تحتاجها، مما سيأتي تفصيله. وبذلك تعلم أن النفقة لا تجب على الزوج لمجرد العقد وحده. النفقة على الزوجة تقدّر حسب حال الزوج: اعلم أن النفقة على الزوجة مقدّرة، ولكنها تتفاوت كّماِّ ونوعاً، حسب تفاوت حال الزوج، في العسر والُيسر. أما اختلاف حال الزوجة في ذلك فلا أثر له في هذا التفاوت. ذلك لأن التفاوت إنما يخضع لنسبة الاستطاعة، وهي عائدة إلى حال المنفق، لا إلى حال المنفق عليه. والدليل على هذا: قول الله عزّ وجلّ: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق: 7] فقد جعل ميزان الإنفاق تابعاً إلى حالة الزوج سعة وضيقاً، لا إلى مستوى الزوجة ومكانتها. إذا عرفت هذا، فاعلم أن حالة الزوج تصنّف شرعاً ضمن ثلاث درجات: 1ـ درجة اليُسْر: (الغنى). 2ـ درجة التوسط. 3ـ درجة الفقر. والعُرف العام هو المحكم في تحديد ما يكون الإنسان به موسراً، أو متوسط الحال، أو فقيراً. أـ فأما الزوج الموسر، فيكلف من النفقة ما يلي: أولاً: ما يساوي مد (حفنتين كبيرتين) كل يوم غالب قوت البلد التي هي فيها، مع تكلفة طحنه وخبزه، وما يتبع ذلك، أو يقدم ذلك خبزاً جاهزاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 ثانياً: يقدم من الأدم ما اعتاده أهل تلك البلدة، وما يقدّمه عادة أمثاله من أهل اليُسْر والغنى. وقد أطال الفقهاء في تفصيل ذلك، ولكن المدار فيه على كل حال إنما هو عرف أهل البلدة. ثالثاً: الكسوة اللائقة بزوجات الموسرين في تلك البلدة، ويظهر أثر العُرف في الكسوة، في نوعها جودة ورداءة، أما العدد والكمية، فإنما يتبع ذلك الحاجة لا العُرْف. ويدخل في حكم الكسوة ما يتبعها من أثاث وفراش، وأدوات مطبخ ونحو ذلك. واعلم أن دليل العُرْف في ذلك كله، هو قول الله عزّ وجلّ: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]. ب ـ أما الزوج المتوسط فيكلف من النفقة بما يلي: أولاً: ما يساوي مدّاً ونصف مدّ من غالب قوت البلد التي هي فيه كل يوم. مع مراعاة ما ذكرنا بالنسبة لحال الموسر. ثانياً: الأدم الذي جرت به عادة أهل تلك البلدة بالنسبة لأوساط الناس، نوعاً وكماً. ثالثاً: الكسوة اللائقة لزوجات أمثاله في ذلك المكان، وما يتبعها من بقية حاجات المنزل المختلفة. ج ـ أما الزوج الفقير فيكلّف من النفقة بما يلي: أولاً: ما يساوي مدّاً واحداً من غالب قوت البلد كل يوم. ثانياً: الأدم الذي جرت به عادة الفقراء على اختلافه في تلك البلدة. ثالثاً: الكسوة اللائقة لزوجات أمثاله في ذلك المكان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 ويستدل لمراعاة حال الزوج في كل ما سبق بما رواه أبو داود (النكاح، باب: في حق المرأة على زوجها، رقم 2144) عن معاوية القشيري - رضي الله عنه - قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ما تقول في نسائنا. قال:: " أطعموهنّ مما تأكلون، واكسوهنّ مما تكتسون، ولا تضربوهنّ، ولا تقبِّحوهنّ. مما يدخل في نفقة الزوجة إضافة لما سبق: ويدخل في نفقة الزوجة على اختلاف حال الزوج إضافة لما سبق ما يلي: أولاً: منزل مناسب لحال الزوج يسكن في زوجته، على أن تتوفر فيه الضرورات التي لابدّ منها. ثانياً: كلّ ما لابدّ منه للنظافة والتنزه من الأدران والأوساخ، وأدوات الزينة، إذا كان الزوج طالباً منها أو تتزين له. ثالثاً: الخادم إذا كانت الزوجة ممّن يخدم مثلها في بيت أبيها، سواء كان الزوج موسراً، أو متوسط الحال، أ, كان فقيراً، فيجب عليه أن يقدم لها مَن يخدمها بالقدر الذي تندفع به الحاجة. وينبغي أن يكون هذا الخادم أُنثى، أو طفلاً مميزاً غير بالغ، أو محرماً لها. وأُجره هذا الخادم إنما هي على الزوج. هل نفقة الزوجة تمليك أم تمكين؟ لقد عرفت الفرق بين التمليك والتمكين، عند حديثنا عن نفقة الأصول على الفروع، ونفقة الفروع على الأصول. ونقول الآن: إذا كانت الزوجة تأكل مع زوجها ـ كما هي الغالبة في أيامنا ـ وتسكن معه دون أن يتفقا على قدر معين من القوت والأدم، يلتزم به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 الزوج، فهذه النفقة، تُعد من قبيل التمكين، لا التمليك، وتسقط بمضي الزمن. ـ أما إذا كانت الزوجة قد اتفقت مع زوجها على قدر معين من النفقة يُجريه عليها، أو كان القاضي قد ألزمه بقدر معين من النفقة لها، فهي عندئذ مقدّرة، تطالب بها، حتى بعد مرور وقتها، لأنها تُعدّ ـ والحالة هذه ـ من قبيل التمليك، لا التمكين، ولها أن تعتاض عنها بما تحب. أثر العُرْف في تقدير النفقة: مما سبق تعلم أن القوت الأساسي الذي لابدّ منه في الطعام، لا أثر للعْرف في تقدير كميته. وإنما هو محدّد ـ كما علمت ـ في سائر الظروف والأحوال: بمدّين، للموسر. ومدّ ونصف المدّ، للمتوسط. ومدّ واحد، للفقير. يقدّمه كل منهم لزوجته خبزاً، أو حبّاً مع تقديم كلفة طحنه وخبزه. وذلك لأن قوت ضروري لا يتأثر باختلاف العُرْف. أما ما زاد عليه من الأدم والكساء ونحوهما، فإنما يحدده العرف، أي العُرف السائد في تلك البلدة، في ذلك العصر، بشرط أن لا يكون العُرف مخالفاً لشيء من الأحكام الشرعية. فلا أثر لعُرف يقضي بالبذخ والتبذير بالنسبة لبعض النفقات، أو بالنظر لبعض المناسبات، كما هو واقع، وكثير، ومرهق في هذه الأزمان. ما يترتب على إعسار الزوج بالنفقة: إذا أعسر الزوج، فإن كان إعبساره نزولاً عن درجة اليُسْر إلى الدرجة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 الوسطى، أو إلى الدرجة الدنيا، وهي درجة الفقر، فلا يترتب على هذا الإعسار شيء، وتلزم بمتابعته، والرضا بحالته التي آل إليها أمره. أما إذا أعسر الزوج حتى عن نفقة الدرجة الثالثة بكاملها، فللزوجة عندئذ أن تُطالب بفسخ النكاح. وإذا طلبت ذلك وجب على القاضي أن يلبّي طلبها ويفرّق بينهما، ولكن يجب أن يكون ذلك، بعد عجز الزوج عن النفقة بثلاثة أيام على أقل تقدير، لكي يتحقق عجزه، إذ قد يكون العجز لعارض، ثم يزول. روى الدارقطني (في النكاح، باب: المهر: 3/ 297) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته: " يفرّق بينهما ". وإذا رضيت بالبقاء مع زوجها على عجزه، فلها أن تطلب فسخ النكاح بعد ذلك، لأن الضرر بعجز الزوج عن النفقة بتجدّد كل يوم، ولكل يوم حكم مستقل. ولكن لا يجوز لها الفسخ إذا أعسر ببعض نفقة الدرجة الثالثة، كأن أعسر عن تقديم الأدم، لأنه تابع، وبالإمكان أن تقوم النفس بدونه، أو كأن عجز عن نفقة الخادم، لأن الخدمة من المكمِّلات التي يمكن للبدن أن يقوم بدونها. أما إذا أعسر بمجموع نفقة هذه الدرجة، فعندئذ يحقّ لها أن تطلب الفسخ. 5ـ نفقات أخرى: هذا ويكلّف الإنسان بنفقات أخرى ـ غير ما ذكر ـ وذلك نحو ممتلكاته، التي يملكها: أولاً نفقة البهائم: تنقسم البهائم إلى الأصناف الثلاثة التالية: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 1ـ بهائم مأكولة. 2ـ بهائم محترمة غير مأكولة. 3ـ بهائم غير محترمة. الصنف الأول (البهائم المأكولة): وهذا الصنف، كالأنعام ونحوها من كل ما هو مأكول، يخيّر مالكها بين أن يعلفها، ويسقيها، بما يحفظ عليها حياتها بشكل سوي، وبين أن يذبحها للأكل، أو أن يبيعها، أو يهبها للآخرين، فإن لم يذبح، أو لم يفعل شيئاً غير الذبح مما ذكر، فإنه يجبر على نفقتها من علف وسقي، بالقدر الكافي لحفظ حياتها، فإن لم يفعل أُجبر على بيعها، فإن لم يفعل بِيعت عليه غضباً. الصنف الثاني (البهائم المحترمة غير المأكولة): وهذه البهائم المحترمة، ككلب صيد غير عقور، وهرّة، وصقر، ونحل، ودود قز، ونحو ذلك، فإن مالكها يلزم ببيعها، فإن لم يفعل، أو لم يوجد مَن يشتريها، وجب عليه أن يدفعها لمن قد ينتفع بها، صوناً لها عن الهلاك. الصنف الثالث (البهائم غير المحترمة): وهذه البهائم غير المحترمة، كالكلب العقور، ومختلف الحيوانات المؤذية، فلا يلزم الإنسان بشيء مما ذكرنا نحوها، إذ لا حَرَج في قتلها ما دامت كذلك. الدليل على نفقة الحيوانات المحترمة، والمأكولة: ويستدل لذلك كله بحديث مسلم (البرَ والصلة والآدب، باب: تحريم تعذيب الهرة ونحوها ... ، رقم: 2619) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " دخلت امرأة النار في هرّة، ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خَشَاش الأرض، حتى ماتت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 هزلاً " وأخرجه البخاري (المساقاة، باب سقي الماء، رقم: 2236)، ومسلم (السلام، باب: تحريم قتل الهرة، رقم: 2242) والهرّة مثال لكل حيوان محترم، مأكولاً كان أو غير مأكول، ويخرج بذلك ما هو غير محترم، كالفواسق الخمس التي ذكرت في الحديث. روى البخاري (الإحصار وجزاء الصيد، باب: ما يقتل المحرم من الدواب، رقم: 1732)، ومسلم (الحج، باب: ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب ... ، رقم: 1198) وغيرها عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " خمس فواسق، يقتلن في الحلّ والحرم: الحيّة، والغراب الأبقع، والفأرة، والكلب العقور، والحُديَّا ". [فواسق: الفاسق: الخارج عن الطاعة، وسميت هذه الدواب الخمس فواسق، لخروجها بالإيذاء والإفساد عن طريق معظم الدواب. الغراب الأبقع: هو الذي في ظهره وبطنه بياض. الحُديّا: تصغير: الحدأة، وهو طائر خبيث، بله هو أخس الطير، يخطف الأفراخ، وصغار أولاد الكلاب]. ثانياً: نفقة الزروع والأشجار: والمقصود بنفقة الزروع والأشجار، سقيها ورعايتها، فإن لم يكن بصاحبها رغبة في اقتلاعها، لعمارة، ونحوها، فإنه ينبغي عليه سقيها ورعايتها، لأن إهمالها يدخل في دائرة إضاعة المال، بدون مسوَّغ شرعي، وهو لا يجوز. أما إذا كان يريد اقتلاع الشجر أو الزرع ليستفيد منهما، أو ليستفيد من الأرض في عمارة، أو نحوها، فإن له قطع الأشجار والزرع، أو إهمالها إلى أن ييبسا، لأن له في ذلك غرضاً شرعياً سليماً. والله سبحانه وتعالى أعلم .. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 رَابعاً: الحَصَاَنة وَأَحْكَامُهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 الحَضَاَنة: تعريف الحصانة: الحصانة لغة: مأخوذة من الحِضْن، وهو الجنب، لأن الحاضنة من شأنها أن تردّ المحضون إلى جنبها. و الحضانة في اصطلاح الشريعة الإسلامية: هي حفظ مَن لا يستقل بأمر نفسه، ... وتربيته بمختلف وجوه التنمية والإصلاح، وتنتهي بالنسبة للصغير إلى سن التمييز. أما رعايته بعد ذلك إلى سن البلوغ، فتسمى: كفالة، لا حضانة. حكمة مشروعية الحضانة: إن الحكمة من مشروعية الحضانة، إنما هي تنظيم المسؤوليات المتعلقة برعاية الصغار، وتربيتهم. إذ ربما تفارق الزوجان، أو اختلفاً، أو تعاسرا فيما يتعلق بالنظر لتربية صغارهما. فلو ترك الأمر لما ينتهي إليه شقاقهما، أو لما يقرره المتغلب من الطرفين في الخصومة، كان في ذلك ظلم كبير للصغار، وإهدار لمصلحتهم. وربما كان في ذلك رج بهم في أسباب الشقاء والهلاك. لذلك كان لابدّ من وضع ضوابط تحدد أصناف المسؤولين عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 حضانة الصغار، ورعايتهم، وتصنفهم حسب الأولوية، بحيث لا تتأثر مصلحة الصغار، بأيّ شقاق، أو خلاف يقع بين أولياء أُمورهم. من هو الأحق بالحضانة؟ إذا فارق الرجل زوجته، وكان له منها ولد، ذكر أو أنثى، وكان دون سن التمييز، فإن الأم أحق من الأدب بحضانته. أسباب تقديم الأم في الحضانة على الأب: إن الأم أحق بالحضانة من الأب، للأسباب التالية: 1ـ لوفور شفقتها، وصبرها على أعباء الرعاية والتربية. 2ـ لأنها ألين بحضانة الأطفال، ورعايتهم، وأقدر على بذل ما يحتاجون إليه من العاطفة والحنو. الدليل على حق الأُم في الحضانة: والدليل على أن الحضانة من حق الأُم، وأن حقها مقدّم على حق الأب في ذلك: ما رواه أبو داود (الطلاق، باب: مَن أحقّ بالولد، رقم: 2276) عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جاءته امرأة، فقالت: يا رسول الله، إن ابني هذا، كان بطني له وعاءً، وثديي له سقاءً، وحجري له حواءً، وإن أباه طلّقني، وأراد أن ينزعه منّي، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنت أحق به ما لم تنكحي ". [حواء: الحواء اسم للمكان الذي يحوي الشيء ويضمه]. مَن أحقّ بالحضانة بعد الأم؟ إذا لم توجد أم الطفل، أو وجدت، ولكنها رفضت أن تحضنه، كان الحق في الحضانة لمن بعد الأُم، وكانت الأفضلية لأم الأم. والمقصود بها: جدّة تدلي إلى الطفل بأنثى، تقدّم القربى، فالقربى. ثم لأم الأب. ثم أُمهاتها، تقدم القربى فالقربى. ثم للأخت الشقيقة. ثم للأخت من الأب. ثم للأخت من الأم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 ثم الخالة. ثم العمّة. ثم بنات الأخ، ثم بنات الأُخت. الحكمة في تقديم الإناث في الحضانة: والحكمة في هذا التقديم للإناث في حق الحضانة هي ما قلناه في الأُم، فإن الإناث غالباً ما يكن ألين بحضانة الأطفال، ورعايتهم، وأصبر على مشاكلهم، وأقدر على بذل ما يحتاجون إليه من الحنو والعاطفة. حضانة الرجال: قلنا إن حق النساء في الحضانة مقدّم، لأنهن أليق بها، ولكن إذا لم يكن هناك امرأة قريبة للطفل، أو كانت، وأبت أن تحضنه، فهل ينتقل هذا الحق إلى الرجال؟ نعم ينتقل حق الحضانة إلى الرجال، فيقدّم منهم المحرم الوارث، على ترتيب الإرث، إلا الجد فإنه يقدّم على الإخوة، ثم الوارث غير المحرم، على ترتيب الإرث أيضاً. فيقدم: الأب، ثم الجد، وإن علا. ثم الأخ الشقيق، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق، فابن الأخ لأب، ثم العمّ الشقيق، ثم العم لأب. ثم ابن العم الشقيق، ثم ابن العم لأب. وإنما قدّم الأقرب فالأقرب في حق الحضانة، لأن الأقرب أوفر شفقة على الغالب من الأبعد، وأكثر حرصاً على حق الرعاية، وحُسن التربية؛ ومصلحة الصغار. اجتماع الرجال والنساء من أقرباء الأطفال: إذا اجتمع ذكور وإناث من أقارب الطفل، وتنازعوا في الحضانة، قدّمت: الأم، لحديث أبي داود السابق، ولأنها ـ كما قلنا ـ أوفرهم شفقة على الطفل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 ثم أُمهات الأم، المدليات بإناث، كما ذكرنا، لأنهنّ في معنى الأم في الشفقة، تقدم القربى، فالقربى. ثم يقدّم الأب، لأنه الأصل. ثم الجدّة أُم الأب، ثم الجد أبو الأب. ثم الأخت الشقيقة، ثم الأخ الشقيق، وهكذا. فإذا استووا في القرب، وكانوا ذكوراً وإناثاً: كإخوة أشقاء وأخوات شقيقات، قدّم الإناث على الذكور، لما قلنا، من أن الحضانة بهنّ أليق، وهنّ لها أفضل. وإن كانوا ذكوراً فقط، أو كنّ إناثاً فقط، وتنازعوا في الحضانة، أقرع بينهم، فأيّهم خرجت قرعته، سُلَّم إليه الطفل. إلى متى تستمر الحضانة للطفل: تستمر فترة الحضانة شرعاً إلى أن تتكامل في الطفل التمييز، والمقصود بالتمييز أن يستقل الطفل بشؤونه الخاصة، دون الحاجة إلى معونة أحد. والمراد بشؤونه الخاصة: تناول الطعام والشراب، وقضاء الحاجة، والتنزّه من الأدران، والقيام بأعمال الطهارة، من وضوء ونحوه. وقد حدّد سن التمييز بسبع سنين، إذ يتكامل التمييز عنده غالباً. فإذا أتمّ الطفل السابعة من عمره، وكان مميزاً، فإن مدّة الحضانة تنتهي عند ذلك. وتبدأ مرحلة أخرى من الرعاية تسمي: كفالة. فإذا أتمّ الطفل، سن السابعة، وكان مميزاً، فإنه يخيّر إذ ذاك بين أبويه، فأيّهما اختار سلّم إليه. ودليل ذلك: ما رواه الترمذي (الأحكام، باب: ما جاء في تخيير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 الغلام بين أبويه إذا اقترفا، رقم 1357) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خير غلاماً بين أبيه وأمه. وفي رواية عند أبي داود (الطلاق، باب: مَن أحق بالولد، رقم: 2277) وغيره: أن امرأة جاءت، فقالت: يا رسول الله، إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عنبة، وقد نفعني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " استهما عليه " فقال زوجها: من يحاقني في ولدي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " هذا أبوك، وهذه أُمك، فخذ بيد أيّهما شئت " فأخذ بيد أُمه، فانطلقت به. [بئر أبي عنبة: بئر معين، والظاهر أنه كان في مكان بعيد. وهي تغني: أن ولدها قد كبر، وأصبح يستطيع القيام بما ينفعها، بعد أن قامت بتربيته، حيث كان صغيراً، لا ينفعها بشيء. استهما: أي اقترعا. يحاقني: يخاصمني]. ثم إن اختار المميز أباه، ففقد الأب، أو سقطت أهليته، نزل الجد منزلته، وإن علا، ومثله الأخ والعم، ومثلهما ابن العم عند فَقْد الأخ والعم، على الترتيب الذي ذكرناه سابقاً. إلا أن تكون فتاة مُشتهاة، أو في سن المراهقة، فلا يجوز بقاؤها في كفالة ابن عمّها، فإن لم يكن غيره، وجي أن تكون عند امرأة موثوقة يعينها ابن العم. حكمة تخيير الطفل بين أبويه عند بلوغه التمييز: علمنا سبب تقديم حق الأم في الحضانة على الأب، كما علمنا السبب في انتهاء مدة الحضانة بتكامل التمييز عند الطفل، أو الطفلة، وذلك، لأن فترة ما قبل التمييز عند الطفل، أو الطفلة، وذلك، لأن فترة ما قبل التمييز، لا يستغني فيها الصغير عن رعاية الأم، ولا يكاد يقوم مقامها الأب، أو غيره من الرجال. غير أن الكفالة، إنما هي رعاية عامة، قد يستوي في القدرة عليها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 كلّ من الأب والأم، وذلك بسبب قدرة الطفل على أن يستقل بالكثير من شؤونه، وبسبب توفر الطاقة العقلية عنده في الجملة. فناسب بعد هذا كله، أن يعطى الطفل الخيار بين أبويه، أو مَن يقوم مقامهما، يختار أيّهما شاء. شروط الحضانة: يشترط للحضانة أن يتوفر فيها الشروط التالية: أولاً: العقل: فلا حضانة لمجنون، أو مجنونة، ولو كان جنوناً متقطعاً، لأن الحضانة ولاية، وليس المجنون من أهل الولاية، إذ يتأتى منه الحفظ والرعاية، بل هو نفسه محتاج إلى الرعاية والحفظ. ثانياً: الإسلام: وذلك إذا كان المحضون مسلماً، ولو حكماً، بأن كان أحد أبويه مسلماً، فإنه يتبع أشرف الأبوين في الدين. فلا تجوز حضانة الكافر للمسلم، ذلك لأن الحضانة، ولاية ـ كما قلنا ـ ولا ولاية للكافر على المسلم. ولأن الكافر، ربما يفتن الصغير عن دينه، بشتى الوسائل والأساليب. لكن إذا كان المحضون كافراً، كان لكلّ من المسلم والكافر حضانته. ثالثاً: العفة والأمانة: والمراد بالعفة والأمانة: أن لا يكون الحاضن فاسقاً، إذ الفاسق لا يلي، ولا يؤتمن على شيء، وإنما ينبغي أن يكون عدلاً ذا عفّة ودين. ثم إن العدالة تثبت بالظاهر المشاهد، ولا يشترط لثبوتها شهادة وبيِّنات، إلا إذا وقع نزاع في أهلية الحاضن، وعدالته، فلا بدّ عندئذ من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 ثبوت عدالته عند القاضي بناءً على الأدلة والبيِّنات. رابعاً: الإقامة: وذلك بأن يكون صاحب الحق في الحضانة مقيماً في بلد الطفل. فلو سافرت الأم ـ وهي صاحبة الحق في حضانة طفلها ـ سفر حاجة: كحج، وتجارة ونزهة ونحوها، لم تمكن من أخذ الطفل معها، وكان المقيم عنده أولى منها إلى أن تعود من السفر، فيسلّم الولد إلى جدته إلى أن تعود الأم. أما السفر الذي يكون انتقالاً إلى بلدة أخرى، بدون قصد العودة، فإنه لا يستوجب سقوط حق الحضانة، إذا كان الطريق آمناً، وكانت البلدة التي تقصد الحاضن الاستيطان فيها آمنة أيضاً: فإذا اضطر كل من الأبوين إلى السفر لحاجة، بقي حق الأُم، ولم يعد السفر عندئذ مانعاً من الحضانة: خامساً: الخلو من زوج أجنبي: فإذا تزوجت الأم سقط حقها في الحضانة، وإن لم يدخل بها الزوج بعد، أو رضي زوجها أن يدخل الولد داره. والدليل على ذلك من السنة: فما رواه أبو داود (2276) وذكرناه سابقاً " أنت أحقّ به ما لم تنكحي " (1). والدليل من المعقول على سقوط حق الأم في الحضانة إذا تزوجت، هو أن الأم إذا تزوجت شغلت عن ولدها بحق الزوج، فلا توجد ضمانة لرعاية شأن الطفل، والنظر في أمره لكن يستثنى من ذلك حالتان:   (1) انظر الدليل على حق الأم في الحضانة (صفحة 192). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 الحالة الأولى: أن يتراضى والد الطفل مع زوج الأم أن يبقى الولد عند أمه، فإن ذلك يبقي حقّها في الحضانة، ويسقط حق الجدّة. الحالة الثانية: أن يكون زوج الأُم الجديد قريباً للطفل، ممّن له حق حضانته، وإن كانت درجته بعيدة، فإن الأم في حضانة ولدها لا يسقط حينئذ إذا رضي زوجها بحضانته. ذلك لأن له حقاً في رعايته، ولأن له من الشفقة عليه ما يحمله على التعاون مع أُمه على كفالته، والاهتمام بشأنه. سادساً: الخلو من الأمراض الدائمة والعادات المؤثرة: فلو كانت الأُم تعاني من مرض عضال: كالسل، والفالج، أو كانت عمياء، أو صّماء، لم يكن لها حق في حضانته، لأن من شأنها ما يشغلها عن القيام بحق الطفل. ما يترتب على فَقْد شيء من شروط الحضانة: إذا فُقِدَ شرط من هذه الشروط الستة التي ذكرناها لاستحقاق الحضانة، سقط حق الحاضنة، وانتقل هذا الحق من يليها، مَن جدة، ثم أخت، ثم خالة، وهكذا. كيف يتم التأكد من فوات شرط من شروط الحضانة: يعتمد في التأكد من فوات شرط من شروط الحضانة على واحد من الأمور الثلاثة التالية الأمر الأول: إقرار الحاضنة: فإذا أقرّت الأم بأنها متزوجة، أو أنها تعاني من مرض عضال دائم العلّة، سقط حقها في الحضانة. الأمر الثاني: دعوى المعارض: إذا ادّعى المعارض في الحضانة: أن الحاضنة فقدت شرطاً من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 شروط الحضانة، وكانت دعواه تلك مصحوبة بالبيِّنات المعتمدة، فإن حقها في الحضانة يسقط عندئذ. ثالثاً: تحقيق القاضي: تحقيق القاضي، أو الحاكم، وذلك عندما يرتاب ويشكّ في توفر الشروط عند الحاضنة، فإذا ثبت لديه بموجب تحرياته فقدان شرط من شروط الحضانة، فإنه يسقط الحضانة عندئذ في الحضانة. والله سبحانه وتعالى أعلم ... . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 خامساً: الرضاع وأحكامه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 الرضاع تعريف الرضاع: الرِّضاع، والرِّضاعة ـ بفتح الراء ويجوز كسرها فيهما ـ معناه في اللغة: اسم لمصّ الثدي وشرب لبنه. والرضاع شرعاً: اسم لحصول لبن امرأة، أو ما حصل منه في معدة طفل، أو دماغه دليل تشريع الرضاع: إرضاع الولد من غير أُمه التي ولدته جائز شرعاً، ولقد كان أمراً معروفاً قبل الإسلام. ولما جاء في الإسلام أقرّه ولم يحرمه، لما فيه أحياناً من المصلحة، والحاجة الملجئة؛ كأن تموت أُم الطفل، مثلاً، أو يكون بها علّة تمنعها الإرضاع، فلا بدّ والحالة هذه من امرأة أخرى ترضعه حفاظاً على حياته. دليل هذا الجواز: ويستدل على جواز الإرضاع بقول الله عز وجل: {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6]. تعاسرتم: اختلفتم في إرضاع الولد، فسترضع الولد امرأة أخرى غير أمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 233]. هل الرضاع واجب على الأم أم هو حق لها؟ إن قلت: الرضاع واجب على الأم، كان معنى ذلك، أنها ملزمة بإرضاع طفلها، سواء رضيت بذلك، أو لم ترضَ، مادامت قادرة على الإرضاع، غير معذورة بأيّ سبب شرعي. وإن قلت: الرضاع حق للأم، كان معنى ذلك الأمر عائد إلى اختيارها. فإن رغبت في الإرضاع لم يكن للزوج، ولا لغيره أن يصدّها عن حقها. أما إن لم ترغب في إرضاعه، فإن الزوج يصبح عندئذ ملزماً بتدبر مُرضعة أخرى لطفله. إذا عرفت الفرق بين الواجب عليها، والحق لها، فما هي علاقة الأُم بإرضاع ولدها؟. هل هي علاقة حق لها؟ أم هي علاقة واجب عليها؟ المفتي به في مذهب الإمام الشافعي رحمة الله تعالى: أن الرضاع حق للأم، تطالب به عندما تشاء، وليس واجباً عليها. فلا تلزم به إلا إذا لم يوجد مَن يقوم مقامها، فيصبح الإرضاع واجباً عليها للضرورة. دليل أن الرضاع حق للأم وليس واجباً عليها: ودليل كون الإرضاع حقا للأم، وليس واجباً عليها: قول الله عز وجل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:: 233] مع قوله سبحانه تعالى: {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}. وقوله جلّ جلاله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 وبيان وجه الدليل في هذه الآيات على أن الإرضاع حق للأم وليس واجباً عليها: أن الله عزّ وجلّ، عندما قال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} احتمل أن يكون المعنى: الوالدات يلزمن بإرضاع أولادهن. ولو قال سبحانه وتعالى: وعلى الوالدات إرضاع أولادهنّ: لسقط الاحتمال الثاني، وتعين الاحتمال الأول. فلما قرأنا قول الله عز وجل {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} ترجح المعنى الثاني في الآية الأولى، وهو كان الرضاع حقاً لها. إذ لو كان واجباً عليها، لما قال سبحانه وتعالى: {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}. ولما كان من سبيل إلى التعاسر والاختلاف مع الزوج، ولما كان لها الامتناع عن الإرضاع. ولما قرأنا قول الله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ازداد المعنى الثاني للآية رجحاناً، بل تعين ذلك المعنى، لأن الرضاع لو كان واجباً على الأم، لما استحقّت عليه أجراً، إذ لا أجر على واجب، فلما أمر سبحانه وتعالى بإعطائهنّ الأجر على الرضاع إن طلبنه، دلّ ذلك على أنهنّ مخيّرات في الإرضاع، لا مجبرات عليه. والخلاصة: أن الرضاع حق للأم تجاب إليها، إن طالبت به. وليس واجباً عليها، فلا تلزم به إن رفضته، إلا إن تعينت له، فعندئذ يجب عليها للضرورة. ما يترتب على كون الرضاع حقاً لا واجباً: لعلك أدركت مما أوضحنا، الأمور التي تترتب على كون الرضاع مجرد حق للأم، وأنه ليس واجباً عليها. وهذه الأمور، تتلخص فيما يلي: أولاً: لا يجوز للزوج إجبار زوجته على إرضاع طفلها، فإن أجبرها، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 فلم تستجب لإجباره وأمره، فهي ليست بعاصية، ولا تُعدّ ناشزة. يستثنى من ذلك، ما لو لم يكن ثَمة من يصلح لإرضاع الطفل غيرها. فإن الضرورة عندئذ تقضي بقسرها على الإرضاع، وهي المحافظة على حياة الطفل. ثانياً: يجب على الزوج أن يعطي زوجته الأجر حسب العُرف، على ما تقوم من إرضاع الطفل، إذا طلبت على ذلك أجراً. فإن لم تطالب بالأجر ـ كما هو السائد في أعراف الناس اليوم ـ لم يلزم الزوج بدفع الأجر، وسقط حقها في المطالبة، إن كانت تبرعت به وأظهرت له عدم الرغبة فيه. ما يترتب على الرضاع من القرابة: إذا أرضعت المرأة طفلاً أجنبياً عنها، صار الطفل ابنها بالرضاع، وصار زوجها صاحب اللبن أباً لذلك الطفل، وترتب على هذا الرضاع الأمور التالية: أولاً: يحرم على الرضيع التزوج ممّن أرضعته، ومن كل أنسبائها اللائي يحرم عليه التزوج منهنّ لو كانت أُمه من النسب. فيدخل في هذا التحريم: -أُخت مرضعته، لأنها خالته من الرضاعة. -وبنت مرضعته، لأنها أُخته من الرضاعة. -وبنات أولاد مرضعته، ذُكوراً كانوا أو إناثاً، لأنهنّ بنات إخوته، أو بنات أخواته من الرضاعة. -أم مرضعته، لأنها جدّته من الرضاعة. وكذلك يحرم على هذا الرضيع التزويج من هؤلاء أنفسهم، إذا كانوا أنسباء والده من الرضاعة، وهو زوج المرضعة، صاحب اللبن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 فتحرم عليه: -أُخت والده من الرضاعة، لأنها عمّة الرضيع. -وبنت والده من الرضاعة، ولو من زوجة أخرى، لأنها أُخت هذا الرضيع. -وبنات أولاد أبيه من الرضاعة، ذكوراً كانوا أم إناثاً، لأنهنّ بنات أخوة الرضيع أو بنات أخواته. -وأم أبيه من الرضاعة، لأنها جدّة الرضيع. ثانياً: يحرم على المرضع، وعلى هؤلاء الأنسباء للمرضع جميعاً التزويج من الرضيع، كما أوضحنا، والتزويج من فروعه، لأنك لو قدّرت أمومة المرضعة للطفل أُمومة نسب، كان هؤلاء الأنسباء محرّمات عليه فكذلك أُمومة الرضاع. فكما لا يتزوج الرضيع من بنت مرضعته، لأنها أخته من الرضاع، فكذلك لا يتزوج ابن الرضيع منها لأنها عمّته من الرضاعة. وهكذا إلى آخرة. ثالثاً: يجوز للمرضع، وأنسبائها اللائي عدّدنا أسماءهنّ التزوج من حواشي الرضيع: كأخيه، ومن أصوله، كأبيه، وكعمّه، لأنهم أجانب عن المرضع وأنسبائها. الدليل على حرمة الرضاع: الأصل في كل ما ذكرنا: القرآن، والسنّة: أما القرآن الكريم: فقول الله عز وجل: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وأما السنّة: فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: فيما رواه البخاري (2553) ومسلم (4144) عن عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الرضاعة تُحرِّم ما يَحرُم من الولادة ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 وفي رواية عند البخاري (الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب ... ، رقم: 2502) ومسلم (الرضاع، باب: تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، رقم: 1447) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في بنت حمزة رضي الله عنه: " لا تحلّ لي، يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، هي بنت أخي من الرضاعة ". فقد دلّت الآية على أن المرضع تصبح بسبب الرضاعة أُمّاً للرضيع، وأن ابنتها، تصبح أُختاً له. وأما الحديثان فقد أوضحنا النتائج المترتبة على ذلك، وهي: أن أُمومة الرضاع بمنزلة أُمومة النسب. فكلّ مَن تحرم على الولد من أقارب أمه وأخته نسبياً، تحرم عليه من أقارب أمه أو أخته رضاعاً. شروط الرضاع المحّرم: لا يعتبر الرضاع موجباً للقرابة، ومحرماً للزواج، إلا إذا يؤثر فيه الشرطان التاليان: الشرط الأول: أن يكون الرضيع لم يتم سنتين من عمره عند الرضاع. فإن أرضعته بعد أن تجاوز الستين من العمر، لم يُؤثر هذا الرضاع في التحريم، ولم يُفد في القرابة شيئاً. ودليل ذلك قول الله عزّ وجلّ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]. وقول الله عزّ وجلّ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]. [والفصال: هو الفطام، لأنه يفصل فيه الرضيع عن أُمه]. ويستدل لذلك من السنّة أيضاً: بما رواه الدارقطني (الرضاع 4/ 174) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا رضاعَ إلا ما كان في الحَوْليْن ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 وروى الترمذي (الرضاع، باب: ما جاء [ما ذكر] أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر ... .، رقم: 1152) عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يُحرِّم من الرضاعة إلا فتقَ الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام ". فتق الأمعاء: شقها وسلك فيها. في الثدي: في الثدي، في زمن الرضاع، قبل الفطام. والفطام يكون في تمام الحولين، كما في قوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] وروى البخاري (النكاح، باب: مَن قال لا رضاع بعد حولين ... .، رقم: 4814)، ومسلم (الرضاع، باب: إن الرضاعة من المجاعة، رقم: 1455) عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها رجل، فكأنه تغير وجهه، كأنه كره ذلك، فقالت: أنه أخي، فقال: (انظرن من إ خوانكن، إنما الراضعة من المجاعة). أي تحرم الرضاعة إذا كانت في الزمن الذي يجوع فيه الطفل لفقدها، ويشبع بها، وهذا لا يكون إلا للصغير. الشرط الثاني: أن ترضعه خمس رضعات متفرقات. وتعتبر الرضاعة منفصلة، أو غير منفصلة عن الأخرى بالعُرف. فلو قطع الطفل الرضاع إعراضاً وشبعاً، كان ذلك رضعة مستقلة، ولو قطعه للهو، مثلاً، وعاد في الحال، أو تحول من ثدي إلى ثدي، عُدّ ذلك رضعة واحدة. دليل هذا الحكم: والدليل على ذلك: ما رواه مسلم (الرضاع، باب: التحريم بخمس رضعات، رقم: 1452) عن عائشة رضي الله عنها: كان فيما نزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن. ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهنّ فيما يقرأ من القرآن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 أي إن نسخها كان متأخراً، حتى إنه توفي - صلى الله عليه وسلم -، وبعض الناس مازال يتلوها قرآناً، لأنه لم يبلغه النسخ بعد. وروى مسلم (الرضاع، باب: في المصّة والمصّتان، رقم: 1451) عن أم الفضل رضي الله عنها: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تحرم الرضعة أو الرضعتان، أو المصّة أو المصّتان ". ما يترتب على قرابة الرضاع من أحكام: يترتب على القرابة الناشئة من الرضاع حكمان اثنان: 1ـ حكم يتعلق بالحُرمة. 2ـ حكم يتعلق بالحل. أما الحرمة: فتتعلق بالنكاح. وأما الحل: فيتعلق بالخلوة والنظر. فإذا نشأت قرابة الرضاع بين طرفين، كان لهذه القرابة من التأثير على حرمة النكاح مثل ما لقرابة النسب، ويتفرع عنها كل ما يتفرع عن قرابة النسب من الآثار. فأُمك وإن عَلَت، وبنتك وإن سَفلت، وأُختك لأبويك، أو لأحدهما، وعمتك وإن بعدت، وبنت الأخ لأبوين، أو لأحدهما، وبنت الأخت لأبوين، أو لأحدهما، محرّمات عليك بسبب هذه القرابة التي جاءت عن طريق النسب. فإن تولدت هذه القرابات عن طريق الرضاع، ترتب عليها أيضاً التحريم دون أيّ فرق بينهما. وقد مضى بيان ذلك فلا نعيده. وتتفرع عن قرابة النسب حُرمة المصاهرة، كما هو معلوم. فأم الزوجة نسباً تحرم على صهرها، الذي هو زوج ابنتها. وكذلك بنت الزوجة نسباً، وزوجة الأب نسباً، وزوجة الابن نسباً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 كلهنّ يحرمن على الزوج في المثال الأول، وعلى الابن في المثال الثاني، وعلى الأب في المثال الثالث. والسبب هو المصاهرة. فإذا نشأت هذه القرابات نفسها من رضاع، أورثت الحكم ذاته، بالنسبة للمصاهرة. أي فأم الزوجة من رضاع تحرم على الزوج. وبنتها من رضاع تحرم عليه أيضاً. وزوجة أبيك من رضاع، وزوجة ابنك من رضاع محرّمتان عليك. والسبب المصاهرة التي ترتبت على قرابة الرضاع. واعلم أن دليل ذلك كله: هو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - السابق (1): " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ". رواه البخاري (2502)، ومسلم (1447) عن ابن عباس رضي الله عنهما. هذا ما يتعلق بأثر التحريم المترتب على قرابة الرضاع. أما ما يتعلق بأثر الحل: فبيان ذلك: أن كل ما يحّل بينك وبين قريبة لك نسباً ممّن مضى ذكرهم، يحلّ بينك وبين مَن بينك وبينها رضاعة: فيحلّ بينهما النظر، كما يحلّ ذلك بين الأخ والأخت من النسب، وتحلّ بينهما الخلوة المحّرمة بين الأجنبيين، ويحلّ لها أن تسافر معه فوق ثلاث ليالٍ. غير أن هذا الحكم لا يسوغ نظر القريب رضاعة إليها بشهوة، أو نظرها إليه كذلك. لأن هذا النظر محّرم حتى بين أقارب النسب.   (1) انظر الدليل على حرمة الرضاع (صفحة: 207). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 ولذلك فقد كره متأخرو الفقهاء إرضاع المرأة لغير طفلها بدون ضرورة وحاجة. كما أنهم كرهوا اختلاط الذكور والإناث الذي جمعتهم قرابة الرضاع، وذلك بسبب ما قد يتوصل به إلى شرور ومحّرمات مختلفة، لضعف الوازع الديني، ولعدم وجود الوازع الفطري الذي يكون بين القريب والقريبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 سادساً: ثبوت النسب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 النَّسَبُ تمهيد: النسب : القرابة. والنسب أساس هام لأحكام كثيرة متنوعة: كالإرث، والنكاح حلاَّ وحرمة، والولاية، والوصية، وغير ذلك. من أجل ذلك كان لابدّ من بيان الدلائل التي يثبت بها النسب، وضبطها بما لا يدع مجالاً لريبة، أو اضطراب في طريق إثباتها. فكيف يثبت النسب بين شخصين ثبوتاً ِشرعياً، تترتب بموجبه الأحكام الشرعية المتعلقة به؟. مثبتات النسب: يثبت النسب شرعاً بواحد من الموجبات التالية: الأول: الشهادة: ويشترط في الشهادة رجلان ممّن توافرت فيهم شروط صحة الشهادة تحملاً وأداء، وقد مّرت هذه الشروط في النكاح، فلا يثبت النسب بشهادة النساء، ولا بشهادة رجل وامرأتين، لأن النسب فرع من النكاح، والنكاح مما لا يطّلع عليه في الغالب إلا الرجال. فلا تقبل شهادة النساء فيه. الثاني: الإقرار: وذلك بأن يقرّ الرجل أنه والد زيد مثلاً، أو أن يقرّ زيد بأنه ابن ذلك الرجل شروط صحة الإقرار: وإنما يعتبر هذا الكلام من كلَّ منهما، ويعُدّ إقراراً، إذا توفرت في الشروط التالية: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 1ـ أن لا يكذب هذا الإقرار الحسنَُ، وذلك بأن يكونا في سن يمكن أن يكون هذا الابن من ذلك الأب. فلو كان في سن لا يتصور أن يكون منه، كأن كان مساوياً له في السن لم يصحّ هذا الإقرار، ولم يثبت به نسب، لتكذيب الحسّن له. 2ـ أن لا يكذب هذا الإقرار الشرعُ. وتكذيب الشرع له: أن الولد المستلحق بالإقرار معروف النسب من غير المقَّر، لأن النسب الثابت من شخص لا ينقل إلى غيره بالإقرار، سواء صدّقة المستلحق أم غيره. 3ـ أن يصدّق المستحلقُ المقرٌَ، إن كان هذا المستلحق أهلاً للتصديق، بأن يكون مكلفاً، لأن له حقاً في نسبه، وهو أعرف به من غيره. 4ـ أن لا يجّر المقر بهذا الإقرار نفعاً إلى نفسه، أو يدفع عنها به ضرراً، فإن استلزم واحداً منهما، لم يُعد يسمى كلامه إقراراً، بل هو ادّعاء، ولا يقبل الادعاء إلا إذا ثبت ببينه من شهادة ونحوها. مثال ذلك: أن يقول عن شاب مات عن ثروة من المال: إنه ابني، فلا يقبل كلامه، ولا يعتبر إقراراً، ولا شهادة، لأن الإقرار من شأنه أن يجرّ مَغْرماً، أو مسؤولية على المقرّ. ولأن الشهادة إنما تعتبر حيث لا تستلزم نفعاً للشاهد، ولا تدفع عنه ضرراً. ودليل ذلك ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لا تجوز شهادة الظِّنين. الترمذي (الشهادات، باب: ما جاء فيمن لا تجوز شهادته، رقم: 2299). والظنِّين: المتهم. والجارّ إلى نفسه نفعاً، والدافع عنها ضرراً متهمان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 وإنما يدخل هذا الكلام عندئذ في الاّدعاء، والاّدعاء لا يقبل إلا إذا عزّرته البيَّنة المعتبرة شرعاً. ومنها: أن يشهد شاهدان عدلان بصدق كلامه. الثالث: الاستفاضة: وصورة الاستفاضة: أن ينتسب الشخص إلى رجل، أو قبيلة، والناس في تلك البلدة ينسبونه إلى ذلك الشخص، أو تلك القبيلة، دون وجود مخالف، ودون أن يُحدّ ذلك في فترة قصيرة من الزمن. فهذه الاستفاضة تنزل منزلة الشهادة الصحيحة، وتعتبر دليلاً شرعياً على صحة الأمر. بشرط أن يكون الناس ـ الذين استفاض عنهم وبينهم ذلك ـ قد بلغوا من الكثرة مبلغاً، يحيل العقل اتفاقهم على الكذب. والسبب في تنزيل الاستفاضة في ثبوت النسب منزلة الشهادة الصحيحة: أن النسب من الأمور الثابتة المستمرة مع توالي الأجيال، فإذا طالت مدتها عَسُرَ إقامة البيَّنة على ابتدائها، فمسّت الحاجة إلى إثباتها بالاستفاضة. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم ينتسبون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قبائلهم، وأجدادهم، فما كان ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ يطالبهم بالشهود الذي يثبتون النكاح رؤية بالعين. بل كان يكتفي باستفاضة الخير بين الناس، دون وجود مخالف. وكانت الأحكام تبنى على ذلك. ثبوت الرضاعة: لقد علمت سابقاً أن الرضاعة لها حكم النسب في التحريم. فكذلك لها حكم النسب في طرق الثبوت. فتثبت الرضاعة من المثبتات الثلاثة السابقة: الشهادة، الإقرار، الاستفاضة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 غير أن شهود الرضاعة، لا يشترط فيهم أن يكونوا ذكوراً، كشهود النسب. بل تجوز في الرضاع شهادة النساء فقط، لأن الرضاعة مما يغلب أن تطلع عليها النساء وبناءً على ذلك، فالشهادة المقبولة في ثبوت الرضاع هي: أـ شهادة رجلين عدلين. ب ـ شهادة رجل عدل، وامرأتين عادلتين. ج ـ شهادة أربع نسوة عادلات. الأحكام المتعلقة بالنسب: إذا عرفت ما تقدم، فاعلم أن هناك أحكاماً كثيرة تترتب على ثبوت النسب بين شخصين نذكر منها ما يلي: أولاً: أحكام النكاح حلاًّ وحرمة ثانياً: أحكام الفقه، وتنسيق المسؤوليات المتعلقة بها. ثالثاً: الولاية ودرجاتها. رابعاً: الميراث، وتوزيع الأنصباء، وتنسيق درجات الوارثين. خامساً: الوصية وأحكامها من صحة وبطلان، فإن كثيراً من أسباب ذلك إنما يعود إلى النسب، وإلى معرفة: هل الموصى له وارث، أو غير موروث. هذا عرض مختصر لأهم الأحكام المترتبة على ثبوت النسب. ومثل النسب في بعض هذه الأحكام الرضاع. أما مجال تفصيل هذه الأحكام، فإن لكلِّ منا باباً خاصاً به، بعض هذه الأبواب قد مرّ ذكرها، وبعضها يأتي بحثه إن شاء الله تعالى، وإننا نحيل إليه تفصيل القول في ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 سَابعًا: أَحْكَام ُ اللّقِيط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 اللّقِيطُ تعريف اللقيط : اللقيط: على وزن فعيل، بمعنى مفعول: كقتيل بمعنى مقتول. واللقيط، والملقوط، والمنبوذ: أسماء تطلق على الطفل الموجود مطروحاً في شارع ونحوه، وليس ثَمّة من يَدّعيه. الأدلة على تشريع أخذ اللقيط: الأصل في التقاطه وأخذه، وتشريع أحكامه دلائل عامة كثيرة في القرآن والسنة: أما القرآن: فقول اله عزّ وجلّ: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]. وقوله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وقوله جلّ جلاله في النفس البشرية: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32]. وأما السنّة: فما رواه مسلم (الذِكْر والدعاء والتوبة، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن .. ، رقم: 2699) وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومَن يسّر على معُسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومَن ستر مسلماً، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 وروى البخاري (الأدب، باب: فضل مَن يعول يتيماً، رقم: 5679) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا " وأشار بإصبعيه: السبّابة والوسطى إشارة إلى شدّة القرب بينهما. وروى الترمذي (البّر والصلة، باب: ما جاء في رحمة الناس، رقم: 1923) وغيره عن جرير بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَن لا يرحمِ الناس لا يرحمْه الله ". حكم أخذ اللقيط: إذا وجد لقيط بقارعة الطريق، ولا كافل معلوم له، فأخذه وتربيته وكفالته، فرض على الكفاية، على كلّ مَن وجده. فإذا أهمل، وبقي في مكانه الذي وجد فيه، أثم جميع أهل تلك البلدة، أو المنطقة، أو القرية الذي عملوا بوجوده. وإذا التقطه أحدهم، واهتم بتربيته، والنظر في شأنه، ارتفع الإثم عن الجميع. ودليل ذلك قول الله عزّ وجلّ: {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32] وقتل النفس كما يكون بالاعتداء الإيجابي على حياتها، فإنه يكون بمنع المسعفات عنها، مع قدرته على ذلك. الإشهاد على أخذ اللقيط: ومَن وجد طفلاً مطروحاً في مكان، وأخذه ليكفله ويربيّه، وجب عليه أن يشهد على التقاطه، وأخذه، حفاظاً على حريته، ونسبه، ويجب الإشهاد أيضاً على ما معه من مال، إن وجد الملتقط معه مالاً. دفعاً للتهمة، وضماناً لحقّ اللقيط في ماله، ولو كان الملتقط عدلاً أميناً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 شروط بقاء اللقيط مع ملتقطه: كان ما ذكرنا سابقاً هو حكم أخذ اللقيط، وقد علمت أنه فرض كفاية على جميع المسلمين حيث وجد اللقيط، دون قيد أو شرط. فإذا أخذ اللقيط واحد من الناس أياً كان، فقد ارتفع بذلك الفرض الكفائي عن سائرهم. إلا أنه لا يجوز إبقاء اللقيط عند هذا الذي التقطه إلا بشروط أربعة: الشرط الأول: الإسلام: فلا يقّر اللقيط عند الكافر، إلا إذا كان اللقيط محكوماً بكفره، كأن عرف بطريقة ما أن أبويه كافران، فلا مانع عندئذ من إبقائه عنده. الشرط الثاني: العدالة: فلا يجوز إبقاء اللقيط عند مَن عُرف بالفسق، ويعطى لمن ثبتت عدالته وأمانته. الشرط الثالث: الرشد: فلو التقطه غير رشيد، بأن كان دون سن الرشد، انتزع منه. ومنه السفيه الذي طرأ عليه السفه بعد الرشد، إذا كان محجوراً عليه، فلا يجوز إقرار اللقيط عنده. الشرط الرابع: الإقامة: فلو عزم الملتقط على السفر به إلى مكان ما، وجب انتزاعه منه، إذ لا يؤمن أن يسترقّه، أو يغدر به. وإنما يراعي هذه الشروط، ويُبقى أو ينتزع اللقيط على أساسها القاضي أو الحاكم وليّ له. فلابدّ أن يكون هو المُحكَّم في ولاية الملتقط، والنظر في صلاحيته لذلك. نفقات اللقيط: إذا أخذ أحد اللقيط، وأُقر في يده، لتوفر الشروط التي ذكرناها فيه، فإنه ينظر: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 1ـ فإما أن يكون في حوزة اللقيط مال. 2ـ أو ليس في حوزته مال. فإن وجد في حوزته مال، اعتبر هذا المال ملكاً له، لأنه صاحب اليد عليه، ولا يوجد منازع فيه، وأنفق عليه من ماله. وعندئذ ينفق الحاكم عليه من ذلك المال، وذلك بأن يأذن للملتقط الذي يرعى شأنه، بأن يصرف منه على مصالحه، واحتياجاته. فلو استقل الملتقط بالإنفاق على اللقيط من ذلك المال، دون إذن للحاكم، أو القاضي، ضمن ذلك المال، وكلِّف برد قدره إلى حوزة الطفل. كما لو كان لليتيم وديعة عند الولي، فصرف الوليّ الوديعة عليه بدون إذن الحاكم، فإنه يضمنها، ويكلّف بإعادة مثلها، أو قيمتها إلى حوزة اليتيم. وإنما توقف صرف هذا المال على إذن الحاكم، لأن ولاية المال لا تثبت لقريب، غير الأب والجد، فضلاً عن الأجنبي الذي لا تربطه بالطفل أي قرابة. ولما كان الحاكم هو الوليّ المطلق لكل مَن لا وليّ له، كان هو المرجع في التصرفات المختلفة بماله. فإما أن ينفق هو عليه مباشرة، أو يأذن بالإنفاق منه للملتقط الذي استحق الولاية عليه. نفقة اللقيط في بيت المال إن لم يكن لديه مال: وإن لم يوجد في حوزة اللقيط مال، فنفقة، وجوباً في بيت مال المسلمين، من سهم المصالح العامة، لأن بيت المال مرصود لذلك. وقد روي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استشار الصحابة في نفقة اللقيط، فأجمعوا على أنها في بيت المال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 ويدخل اللقيط ـ إذا لم يكن له مال ـ في عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك كلا فإلي ". وفي رواية: " ومن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني، فأنا مولاه ". رواه البخاري (الاستقراض، باب: الصلاة على مَن ترك ديناً، رقم: 2268ـ2269)، ومسلم (الفرائض، باب: من ترك مالاً فلورثته، رقم: 1619) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. [والمراد بالكل: العيال الفقراء. ضياعاً: ضائعاً ليس له شيء. فإلّي: أنا أعوله وأُنفق عليه]. هل يرجع الحاكم بالنفقة على اللقيط إذا كبر؟ هذا، ولا يرجع الحاكم بهذه النفقة التي أنفقها على اللقيط من بيت مال المسلمين، عند كبر اللقيط وغناه، لأنه هذه النفق لا تُصرف عليه ديناً، بل استحقاقاً، كما ينفق الزوج على زوجته، والوالد على أولاده ". حكم النفقة على اللقيط إذا لم يكن في بيت المال مال: وإذا لم يكن في بيت مال المسلمين ما يكفي لنفقات اللقيط، لكثرة اللقطاء مثلاً، أو لوجود مصارف أهم من الإنفاق على اللقطاء، وجب على الحاكم أن يستقرض من الأغنياء، على ذمة الدولة، ما يكفي لسدّ حاجات اللقيط، ويسدّد القرض لأصحابه عند اليسر. الاهتمام باللقيط: لاحظت من خلال الأحكام التي ذكرناها، أن الشّارع جلّ جلاله، يضع مسؤولية رعاية اللقطاء، وتربيتهم والعناية بهم في أعلى درجات الخطورة والأهمية. فالمسلمون كلهم آثمون إن ضُيع بينهم لقيط واحد. والدولة آثمة أيضاً، إن هي أهملت النظر في أمره، ولم تعوضَّه عن رعاية الوالد، وحنان الأم، بالقدر الممكن، ويفرض الدَّين على الدولة أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 تستقرض من أغنياء المسلمين، إن هي أعسرت، ولم تجد سبيلاً للإنفاق عليه. تربية اللقيط لا تسوّغ تبنَيه: هذا الترغيب في تربية اللقيط، والاهتمام به لا يسوّغ تبنّيه، واختلاقَ نسب بين اللقيط، وأي رجل أو امرأة من الناس، مربياً كان أو غيره. لقد فصل الشّارع بين الأمرين فصلاً حاسماً: أما الرعاية، والعناية، والتربية، فكل ذلك واجب، ومصدر ذلك الأخوة الإسلامية، والرحم الإنساني. وأما التبني، وهو ما نعبر عنه: باختلاق النسب، فمحرم باطل. لأن مصدر النسب ولادة أو نكاح، وليس بين اللقيط ومن يريد أن يتبناه شيء من ذلك. ولأن البنّوة لها حق في الميراث، وعليها واجب في ذلك، ولها حق في الإنفاق، وعليها واجب في ذلك. ولأنها أساس في تحريم النكاح، وحلّ النظر والخلوة والاختلاط. فإذا قيس التبني عليها، وجاز اعتبار اللقيط ابناً لمن تبناه، كان في ذلك ظلم لمن سيشركهم في ميراثهم، وظلم له ولورثته الحقيقيين عندما يتقاسم أقاربه المزيفون ميراثه من دونهم، أو يشاركونهم فيه. وكان في ذلك ظلم للخُلق والفضيلة عندما يفرض قانون الأخوة بينه وبين من ليست أختاً له بحال، أن يخالطها مخالطة الشقيق، وهو أجنبي عنها، ويمنع حقّه في الزواج منها، وهي غير محّرمة عليه. من أجل ذلك كله حرّم الله تعالى التبنّي، الذي هو اختلاق نسب غير موجود، ثم إعطاؤه جميع الحقوق والأحكام الثابتة لرابطة النسب. وشرّع الدين ما يُعني عن التبنّي , ويحقّق مصلحة اللقيط، وهو مبدأ الرعاية والعناية، والتربية له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 وحمل المسلمين في ذلك أخطر المسؤوليات، وأهمها. دليل حُرمة التبنّي: ويدّل على حُرمة التبنّي، قول الله عزّ وجلّ: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ {4} ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 4ـ5]. انحراف وعود إلى الجاهلية: هذا ولقد عاد الناس أدراجهم إلى الجاهلية، فنجد بعض أولئك الذين لم يولد لهم يذهبون إلى دور اللقطاء، فيختارون لقيطاً يدعونه ولداً، ويثبتون نسبه لهم في السجلات المدنية، فيقعون في معصية الله عزّ وجلّ ويرتكبون أسوء ما نهى الله عنه من تحليل الحرام وتحريم الحلال، إذ يخالفون صريح القرآن وصحيح السنّة في تحريم التبني ومنعه، بل إن ما يفعله هؤلاء أشد مما كان يفعله أهل الجاهلية لأن أولئك كانا يعلنون أن هذا متبنى وليس بولد حقيقي، بينما هؤلاء الناس يطمسون الحقيقة ويدّعون أنه ولد حقيقي لهم، وبهذا يُدخلون على الأسرة من ليس منها، فيخالط هذا الدعي النساء الأجنبيات في الأسرة المدعية على أنهنّ محارم له، ويمنع من الزواج منهنّ على أساس ذلك، ينما هنّ حلال له، وإنما يحرم عليه مخالطتهنّ العيش معهنّ كمحارم. وأيضاً بسببه يُحرم من الميراث مستحقّه، ويأخذ هو مال غيره بالباطل، وما إلى ذلك من مفاسد يقع فيا هؤلاء الجهّال العصاة، عن سوء قصد أو بدون قصد، فيقعون في غضب الله تعالى، ويستحقون شديد عقابه يوم القيامة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. والله تعالى المسؤول أن يسدّد خطانا لما فيه مرضاته، والحمد لله ربّ العالمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي رحمهُ الله تعالى الجُزء الخامس في الوقف والوصية والفرائض الدكتوُر مُصطفى الخِنْ ... الدّكتور مُصطفى البُغا علي الشْربجَي دار القلم دمشق بسْم الله الرحمن الرحيم المقدمة : الحمد لله رب العالمين، حمداً يوافي نِعمة، ويكافئ مزيده، لك الحمد، سبحانك، لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك. صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ونبيك سيدنا محمد نبيّ الهدى والرحمة، وعلى آله، وأصحابه، ومَن تبعهم، وسلِّم تسليماً كثيراً دائماً إلى يوم الدين. وبعد،،، فهذا هو الجزء الخامس في سلسلة: الفقه المنهجي، على مذهب الإمام الشافعي، رحمه الله تعالى، رسمنا فيه، أحكام الوقف ، والوصية، والمواريث وقد رغبنا أن يكون ذلك بأسلوب سهل مبسط، وقفنا فيه عند أٌمهات الأحكام والمسائل من غير افتراض ولا تطويل. وقرنَّا الأحكام بأدلتها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وأرشدنا إلى مواضع تلك الأدلة في مصادرها، تيسيراً لمن أراد الرجوع إليها، والوقف عليها. فقد جاء بحمد الله هذا الكتاب - كسابقيه - وافياً بما توخَّينا، وملمَّاً بما أردنا. ولا ندَّعي أننا بلغنا الكمال، فدون ذلك خَرْط القَتاد، ولكن حسبنا أنّا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 بذلنا في سبيل ذلك جهداً، ونسأل الله أن يتقبله منّا، ويثبتنا عليه، وينفع به طلاب علوم الدين، وسائر المسلمين. غير أننا في أبحاث الفرائض، زدنا في التبسيط، وأسهبنا في التعبير، وعُدْنا للأحكام بأكثر من أسلوب، لأن هذا الفن، لصعوبته، قد أعرض عنه كثير من المتعلمين، وأهمله في زماننا عامّة المتفقِّهين، فأردنا بكثرة الردّ تسهيلَه، وبتلوين العبارات تقريبه. وعليه فنحن نستمح القارئين عذراً إن وجدوا فيه بعض الإسهاب والتطويل، وضايقهم كثرة الإعادة والتكرار، فعذرنا ما ذكرنا. والله حسبنا ونِعمَ الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم. المؤلفون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 الوَقْفُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 الوَقْفُ تعريف الوقف: الوقف - ويُجمع على وقوف، وأوقاف -: هو في اللغة: الحبس، تقول: وقفت كذا إذا حبسته. ولا تقول: أوقفته إلا في لغة رديئة. وهذا على عكس حبس، فإن الفصيح فيه أن تقول: أحبست كذا، ولا تقول: حبسته إلا في لغة رديئة. والوقف شرعاً: حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح موجود. وهذه القيود في هذا التعريف سوف تستبين لك وأنت تقرأ فقرات هذا البحث إن شاء الله تعالى. دليل مشروعيه الوقف: الوقف مشروع، بل هو قُربة، وأمر مرغَّب فيه شرعاً، ولقد قامت أدلة الكتاب والسنّة على تقريره، وبيان مشروعيته: - أما الكتاب، فقول الله تبارك وتعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ}. [آل عمران: 92]. فإن أبا طلحة رضي الله عنه لما سمع هذه الآية الكريمة رغب في الوقف، وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستشيره. روى البخاري (607) في (كتاب الوصايا)، باب (مَن تصدَّق إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 وكيله ثم ردّ الوكيل إليه)، عن أنس رضي الله عنه قال: لمّا نزلت: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ .. } جاء أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، يقول الله تبارك وتعالى في كتابه: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}، وإن أحبَّ أموالي إلى بَيْرَحاءُ - قال: وكانت حديقة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويستظل بها، ويشرب من مائها - فهي إلى الله عز وجل وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أرجو بِرَّهُ وذُخْرَهُ، فَضَعْها أيْ رَسولَ الله حَيث أراكَ اللهُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بخ أبا طلحة، وذلك مال رابح، قبلناه منك، ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين ". فتصدَّقَ به أبو طلحةَ على ذوي رحِمِهِ، قال: وكان منهم: أبي وحسانُ. [بخْ: بوزن بل، كلمة تقال عند المدح والرضا بالشئ، وتُكرِّر للمبالغة، فيقال: بخْ بخْ، فإن وصلت خفضت ونوِّنت، فقلت: بخ بخ]. وكذلك قوله تعالى: {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 115]. فلفظ {مِنْ خَيْرٍ} عام يشمل وجوه الخير كلها، ومنها الوقف. - وأما السنّة، فأحاديث كثيرة، منها: ما رواه مسلم (1631) في (كتاب الوصية)، باب (ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا مات الإنسانُ انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ". والصدقة الجارية محمولة عند العلماء على الوقف. والولد الصالح، هو القائم بحقوق الله تعالى، وحقوق العباد. ومنها ما رواه البخاري (2586) في (كتاب الشروط)، باب (الشروط في الوقف)، ومسلم (1632) في (كتاب الوصية)، باب (الوقف)، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أصاب أرضاً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 بخيبر، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إنَّي أصبتُ أرْضَاً بخيبر، لم أُصب مالا قط أنفسَ عندي منه، فما تأمرني به؟ قال: " إن شئْت حبست أصْلَها وتصدَّقت بها ". قال: فتصدق بها عمر: أنه لا يُباُع ولا يوهب ولا يُورَثُ، وتصدقَ بها في الفقراء، وفي القُرْبى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، ولا جُناحَ على من وَلِيَها أن يأكلَ منها بالمعروف، ويُطعَمَ غيرَ متموِّل. قال ابن سيرين رحمه الله: غير متأثل مالاً. [أصاب أرضا: أخذها وصارت إليه بالقَسْم حين فُتحت خيبر، وقسمت أرضها. يستأمره: يستشيره. أنفس: أجود، والنفيس: الجيد. حبَّست: وقفت. في الرقاب: تحرير العبيد. لا جناح: لا إثم. ولِيَهَا: قام بأمرها. غير متمول: غير مدخر للمال. غير متأثل: غير جامع للمال. وكل شئ له أصل قديم، أو جمع حتى يصير له أصل، فهو مؤثل]. والمشهور أن وقف عمر رضي الله عنه هذا كان هو أول وقف في الإسلام. وقد اشتهر الوقف بين الصحابة وانتشر، حتى قال جابر رضي الله عنه: ما بقى أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له مقدرة إلا وقف. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: بلغني أن ثمانين صحابياً من الأنصار تصدّقوا بصدقات محرمات. والشافعي رحمه الله يطلق هذا التعبير (صدقات محرمات) على الوقف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 حكمة مشروعية الوقف: قلنا فيما سبق: إن الوقف مشروع، بل هو قُربة يُثاب عليها المؤمن، لذلك كان هناك من غير شك فوائد وحِكَم كثيرة لتشريع الوقف، نلمح منها: 1 - فتح باب التقرّب إلى الله تعالى في تسبيل المال في سبيل الله وتحصيل المزيد من الأجر والثواب، فليس شئ أحبَّ إلى قلب المؤمن، من عمل خير يزلفه إلى الله تعالى، ويزيده حّباً منه. 2 - تحقيق رغبة الإنسان المؤمن، وهو يبرهن على إظهار عبوديته لله تعالى، وحبّه له، فمحبة الله تعالى لا تظهر واضحة إلا في مجال العمل والتطبيق. قال تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. 3 - تحقيق رغبة المؤمن أيضاً في بقاء الخير جارياً بعد وفاته، ووصول الثواب منهمراً إليه، وهو في قبره، حين ينقطع عمله من الدنيا، ولا يبقى له إلا ما حسبه ووقفه في سبيل الله حال حياته، أو كان سبباً في وجوده من ولد صالح، أو علم يُنتفع به. 4 - تحقيق كثير من المصالح الإسلامية، فإن أموال الأوقاف إذا أُحسن التصرّف فيها كان لها أثر كبير وفوائد جمّة في تحقيق كثير من مصالح المسلمين: كبناء المساجد، والمدارس، وإحياء العلم، وإقامة الشعائر مثل الأذان والإمامة، وغيرها من المصالح والشعائر. 5 - سدّ حاجة كثير من الفقراء والمساكين والأيتام وأبناء السبيل، والذين أقعدتهم بعض الظروف عن كسب حاجاتهم. فإن في أموال الأوقاف ما يقوم بسدّ حاجاتهم، وتطييب قلوبهم. والله أعلم .. أركان الوقف: للوقف أربعة أركان، وهي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 الواقف، والموقوف، والموقوف عليه، والصيغة. ولكل ركن من هذه الأركان الأربعة شروط، فإذا تحققت هذه الشروط، فإذا تحققت هذه الشروط كان الوقف على أكمل وجه، وهذه هي الشروط كل ركن: 1 - شروط الواقف : يشترط في الواقف حتى يصحّ وقفه شرعاً الشروط التالية: أصحة عبارته، وذلك بأن يكون حّراً بالغاً عاقلاً، فلا يصحّ وقف الرقيق، لأنه لا ملك له بل هو وماله لسيده، وكذلك لا يصح وقف الصبي والمجنون، ولو كان الوقف بمباشرة أوليائهم، فلو وقف الصبي - ولو ميِّزاً - شيئاً، وكذلك المجنون، كان الوقف باطلاً، ولو أجاز ذلك وليّهما، لأن الصبي والمجنون لا عبارة لهما شرعاً، فلا يصحّ الوقف منهما، ولا يجوز للوليّ التبرّع بشئ من أموالهما. ب أهليّة التبّرع، فلا يصح الوقف من المحجور عليه بسفه، أو فلس، لأن هؤلاء ممنوعون من التصرّف بأموالهم، فلا يصح منهم التبرّع، ولا يجوز أن تسلّم إليهم أموالهم. أما السفيه فلمصلحته، أما المفلس فلمصلحة غُرمائه. قال الله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5]. [السفهاء: جمع سفيه، وهو هنا من لا يحسن التصرّف في ماله. وأصل السفه الخفّة]. وقد فسر الشافعي رحمه الله تعالى السفيه بالمبذر الذي ينفق ماله في المحرَّمات. ومعنى قوله تعالى: {الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً} أي جعل الله في تلك الأموال صَلاَحَ معاشكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 وأضاف المال إلى الأولياء - وإن كانت في الحقيقة أموال السفهاء - لأنها بأيديهم، وهم الناظرون فيها. والقيام، والقوام: ما يقيمك. يقال: فلان قيام أهله، وقِوَام بيته، أي هو الذي يقيم شأنه، ويصلحه. روى الحاكم (2/ 58) في (البيوع)، باب (الرهن محلوب ومركوب)، ورواه الدارقطني وغيره أيضاً، عن كعب بن مالك: أن كانَ عَليه، فقسمه بين غرمائه، فأصابهم خَمسة أسْبَاع حقوقهم، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس لكم إلا ذلك ". ج- الاختيار، فلا يصحّ وقف المكره، لأن الاختبار شرط من شروط التكليف وقف المريض مرض الموت: المريض إذا كان في حالة من المرض يغلب فيها الهلاك، وتُفضي على الموت غالباً، فإنه لا يجوز وقفه فيما زاد على ثلث ماله، رعاية لحق الورثة في التركة، أما في الثلث فما دونه، فإنه يجوز وقفه رعاية لمصلحته، في الحصول الأجر والثواب له بعد موته. دلّ على ذلك ما رواه البخاري (1233) في (كتاب الجنائز)، باب (رثي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سعد بن خَوْلة)، ومسلم (1628) في (كتاب الوصية)، باب (الوصية بالثلث)، عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَعودُني عام حَجَّةَ الوَداع، منْ وَجَع اشتد بي، فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدَّق بثلثي مالي، قال: " لا "، فقلت: بالشطر، فقال: " لا " ثم قال: " الثلث، والثلثُ كبير، أو كثير، إنَّك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ". [الشطر: النصف. عالة: فقراء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 يتكففون: يسألون بأكُفِّهم، أو يطلبون ما في أكفّ الناس]. وقف الكافر: قال علماء الشافعية: يصحّ وقف الكافر ولو لمسجد، وإن لم يعتقده قُربة، اعتباراً باعتقادنا، ولأنه من أهل التبّرع، ومثل هذه التبرعات لا تحتاج في صحتها إلى نيّة، والنيّة معلوم أن شرطها الإسلام. والكافر يُثاب على نفقاته وصدقاته في الدنيا، أما في الآخرة فلا حظّ له بشئ من الثواب. روى مسلم (2808) في (كتاب صفات المنافقين وأحكامهم)، باب (جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله لا يَظلمُ مؤمنا حَسنةً، يعطي بها في الدنيا، ويُجزَى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها الله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يُجزى بها ". [أفضى إلى الآخرة: صار إليها]. 2 - شروط الموقوف: وللموقوف شروط نذكرها فيما يلي: أ - أن يكون الموقوف عيناً معيَّنة، فلا يصح وقف المنافع وحدها دون أعيانها، سواء كانت هذه المنافع مؤقتة، كأن سكنى داره سنة، أم كانت مؤبدة، كأن وقفها أبداً، وذلك أن الرقبة هي الأصل، والمنفعة فرع، والفرع يتبع الأصل، فما دام الأصل باقياً على ملك الواقف كانت المنفعة كذلك باقية على ملكه، فلا تنفصل وحدها بالوقف. وكذلك لا يصح الوقف إذا لم يكن العين الموقوفة معيَّنة، فلو أنه وقف إحدى دارَية، أو إحدى سيّارتَيه من غير تعيين للموقوف، فإن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 هذا الوقف غير صحيح لعدم بيان العين الموقوفة، وكان قوله هذا أشبه بالعبث، لا بالجدّ. ب-أن يكون الموقوف مملوكاً للواقف ملكاً يقبل النقل، ويحصل منه فائدة، أو منفعة. وعلى هذا لا يصحّ أن يقف الإنسان شيئاً لا يملكه، لأن في الوقف نقلاً لملكية الموقوف من حَوْزة المالك. وما لا يملكه كيف تُنقل ملكيته منه. لذلك كان وقْفُ ما لا يملك لا غياً. ومن هذا القبيل عدم صحة أن يقف الإنسان الحرّ نفسه، لأن رقبته ليست مملوكة له، حتى يخرجها بالوقف عن ملكه، بل ملكيتها لله تعالى. وكذلك لا يصحّ وقف حمل الدواب وحدها دون أُمهاتها، لأن الحمل وحده لا يصحّ نقل ملكيته ما دام في بطن أُمه، نعم إذا وُقفت الأُم صحّ وقف الحمل تبعاً لها. وكذلك يجب أن يكون الموقوف ذا منفعة تُرجى وفائدة تُقصد، فلو أنه وقف أرضاً لا تصلح لزرع أو بناء، أو ثياباً ممزقة لا تنفع في شئ، فإن هذا الوقف غير صحيح، لأن مقصود الوقف حصول المنفعة، وهذا لا فائدة منه لا منفعة فيه. ج- دوام الانتفاع بالموقوف، فلا يجوز وقف الطعام ونحوه ممّا لا تكون فائدته إلا باستهلاك عينه. والمقصود بدوام الانتفاع بالموقوف الدوام النسبي لا الأبدي، أي إنه يبقى مدة يصحّ الاستئجار فيها، أي تقابل تلك المنفعة بأُجرة، فلو وقف سيارة، أو دابّة صحّ هذا الوقف وإن كانت السيارة لا تبقى منفعتها أبداً، بل قد يصيبها التلف والعطب، وكذلك الدابة. هذا، ولا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 يشترط الانتفاع بالموقوف حالاً، بل يُكتفى بالانتفاع به ولو مالاً، فلو وقف دابة صغيرة صحّ الوقف، لأنه يمكن الانتفاع بها في المال. د- أن تكون منفعة الموقوف مباحة، لا حُرمة فيها، وعليه فلا يصحّ وقف ما كانت منافعه محرّمة كآلات اللهو، وما أشبهها، لأن الوقف قُربة والمعصية تنافيه. وقف إمام المسلمين وخليفتهم من بيت مال المسلمين ولقد أجاز علماء الشافعية لإمام المسلمين وخليفتهم أن يقف شيئاً من أرض بيت مال المسلمين، إذا رأى في ذلك مصلحة لهم، واستثنوا هذا من شرط ملكية الواقف للوقف، فإن الخلفية لا يملك أموال بيت مال المسلمين، ومع ذلك صحَّحوا وقفه هذا، واستدلوا لذلك بوقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه سواد العراق. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في " الروضة ": (لو رأى الإمام وقف أرض الغنيمة، كما فعل عمر رضي الله عنه، جاز إذا استطاب قلوب الغانمين في النزول عنها بِعوضَ أو بغيره). وقف العقارات يجوز وقف العقارات من أرض، أو دور، أو متاجر أو آبار، أو عيون ماء: أيّاً كانت تلك الأرض، أو تلك الدور، والمتاجر والآبار والعيون، ما دامت صالحة للانتفاع بها حالاً، أو مآلاً. دلّ على ذلك الكتاب والسنّة، وعمل الصحابة رضي الله عنهم، فقد سبق أن نقلنا ما قاله جابر رضي الله عنه: (ما بقى أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له مقدرة إلا وقف)، وقول الشافعي رحمه الله تعالى: (بلغني أن ثمانين صحابياً من الأنصار تصدَّقوا بصدقات محرمات)، أي وقفوا أوقافاً. ومعلوم أن أكثر ما كانوا يقفونه إنما هو الأراضي، والدور، والآبار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 وقف الأموال المنقولة وكذلك يصحّ وقف الأموال لمنقولة: كالدواب، والسيارات، والآت الحرب، والثياب، والفرش، والأواني، والكتب النافعة. ودليل ذلك ما رواه البخاري (2698) في (الجهاد)، باب (مَن احتبس فرساً)، والنسائي (6/ 225) في (الخيل)، باب (علف الخيل)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَن احْتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده، فإن شِعَبَةُ ورية وروْثه وبوله في ميزانه يوم القيامة ". [احتبس: وقف]. وروى البخاري (1399) في (كتاب الزكاة)، باب (قول الله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ ........... وَفِي سَبِيلِ اللهِ}، ومسلم (987) في (كتاب الزكاة)، باب (تقديم الزكاة ومنعها)، عن أبي هريرة رضي الله عنه: (وأما خالد، فإنكم تظلمون خالداً، فقد احتبس أدراعه وأعتدة في سبيل الله). [احتبس: وقف. أدراعه: جمع درع، وهو الزرد. أعتده: جمع عتاد، وهو ما أعدّه الرجل من السلاح والدواب، والآت الحرب]. وقف المشاع المشاع هو الشئ المملوك المختلط بغيره بحيث لا يتميَّز بعضه عن بعض والمشاع أيضاً يصحّ وقفه، سواء كان من المنقولات، أم من العقارات، سواء وقف الشخص الواحد جزءاً شائعاً، أم وقف الجماعة أجزاء شائعة، لا فرق بين هذا وذاك، فكل جائز شرعاً. ودليل ذلك ما رواه النسائي (6/ 230، 231) في (الاحتباس)، باب (كيف يكتب المحتبس)، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال عمر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 رضي الله عنه للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن المائة السهم التي لي بخيبر لم أصب مالاً قط أعجب إلى منها قد أردت أن أتصدق بها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " احبس أصلها وسبل ثمرتها ". وروى البخاري (2619) في (كتاب الوصايا)، باب (إذا أوقف جماعة أرضاً مشاعاً فهو جائز)، عن أنس رضي الله عنه قال: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ببناء المسجد، فقال: " يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا "، قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. [ثامنوني بحائطكم: ساوموني ببستانكم وخذوا ثمنه]. قال الخطيب الشَّربيني في كتابه " مغنى المحتاج، إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج " للإمام النووي رحمه الله تعالى: (واتفقت الأمة في الأعصار على وقف الحُصر والقناديل في المساجد من غير نكير). 3 - شروط الموقوف عليه: الموقوف عليه قسمان: معَّين، واحداً فأكثر. غير معَّين، كالوقف على الجهات، كالفقراء مثلاً. ولكل قسم منهما شروط. شروط الموقوف عليه المعَّين إذا كان الموقوف عليه معيناً، واحداً فأكثر، اشترط فيه الشرط التالي: إمكان تمليكه عند الوقف عليه، وذلك بأن يكون موجوداً في واقع الحال. فلا يصحّ الوقف على ولد له، والواقع أنه ليس له ولد. وكذلك لو وقف على الفقراء من أولاد فلان، ولا فقير فيهم عند الوقف، فإن هذا الوقف غير صحيح. ولا يصحّ الوقف أيضاً على جنين، ولا على ميت، ولا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 على دابة، ولا على دار. وغير ذلك مما لا يتصور صحة تملكهم في حال الوقف عليهم. وعليه فلا يصحّ وقف المصحف وكتب العلم الشرعية على غير مسلم لعدم جواز تمليكه إيّاها. ولا يصحُ وقف من الواقف على نفسه أصالة، لعدم الفائدة في ذلك، لأنه من باب تحصيل الحاصل، فهو ملكه قبل الوقف، ولم يحدث بعد الوقف شئ جديد. الوقف على الكافر أجاز علماء الشافعية والوقف على كافر إذا كان ذمياً معيّناً ما دام الواقف لا يقصد بوقفه عليه معصية، وذلك لأن الصدقة تجوز على الذمِّي، فكذلك الوقف جائز عليه. فإذا لوحظ عند الوقف عليه مراعاة معصية، كما لو وقف على خادم كنيسة لخدمته الكنيسة، فإن هذا الوقف غير صحيح، وذلك لمنافاة المعصية المشروعية الوقف. والمُعاهَد والمستأمن في صحة الوقف عليهما كالذميّ، وما داما حالِّيْن في ديار المسلمين، سارية عليهما عهودهم. أما الكافر الحربي والمرتد، فلا يصحّ الوقف عليهما، لأنهما ما داما كذلك، فلا دوام لهما، ولا يُقرِّان على كفرهما، والوقف صَدَقَة جارية فكما لا يصحّ وقف ما لا دوام له، لا يصح أيضاً الوقف على من لا دوام له. فقد ورد الشرع بقتالهما وقتلهما. روى البخاري (25) في (كتاب الإيمان)، باب (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم)، ومسلم (22) في (كتاب الإيمان)، باب (الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله)، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أمرت أن أُقاتلَ الناس حَتَّى يشهدُوا أن لا إله إلا الله، وأنَّ مُحمداً رسولُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 الله، ويُقيموا الصلاة، ويُؤتُوا الزكاة، فإذا فَعلُوا ذلك عَصَمُوا مّني دماءهم إلا بحقِّ الإسلام، وحسابهم على الله ". [عصموا مني دماءهم: حفظوها وحقنوها. إلا بحق الإسلام: أي إلا إذا فعلوا ما يستوجب عقوبة مالية أو بدنّية في الإسلام، فإنهم يؤاخذون بذلك قصاصاً. وحسابهم على الله: أي فيما يتعلق بسرائرهم، وما يضمرون]. وروى البخاري (2795) في (كتاب الجهاد)، باب (لا يعذَّب بعذاب الله)، والترمذي (1458) في (كتاب الحدود)، باب (ما جاء في المرتد)، وغيرهما، عن عكرمة رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " مَن بدّل دينه فاقتلوه" شروط الموقوف عليه غير المعين: يشترط في الموقوف عليه غير المعين: كالفقراء، والمساجد والمدارس وغيرها، حتى يكون الوقف عليه صحيحاً شرعاً شرط واحد، وهو: أن لا يكون في ذلك الوقف وقف على معصية من المعاصي، لأن الوقف عندئذ إنما يكون إعانة على فعل المعاصي، وتثبيتاً لوجودها، والوقف إنما شُرِّع للتقرب إلى الله تعالى، فهو والمعصية إذاً ضدّان لا يجتمعان. وبناءً على ما سبق، فإنه لا يصحّ وقف يكون ريعه لمعابد الكفّار، كالكنائس والبيعّ، ولا على خدمتها، وفرشها وقناديلها، ولا على تأسيسها أو ترميمها، وغير ذلك مما يتعلق بها. ومثل هذا وقف السلاح على أصحاب الفتن وقّطاع الطرق، فإن ذلك لا يجوز أيضاً، لأن فيه الإعانة على المعاصي، كما سبق أن ذكرنا. يتضح مما سبق أن الوقف على الفقراء، والعلماء والقرّاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 والمجاهدين، والكعبة والمساجد والمدارس والثغور، والمستشفيات، وتكفين الموتى، كل ذلك جائز شرعاً، بل هو قربة مستحبة، دعا الدين إليها، ووعد بالثواب عليها، ودليل ذلك عموم تلك الأدلة التي دلّت على مشروعية الوقف، والترغيب فيه، وقد مرّ ذكرها. الوقف على الأغنياء هذا ويجوز شرعاً الوقف على الأغنياء لأن الصدقة تجوز عليهم، وليس في الوقف عليهم معصية لله تعالى، وكذلك فالوقف، تمليك، وهم أهل لهذا التمليك. حدّ الفقر والغني: لو وقف إنسان داراً، وقال فيه: وقفتها ليكون ريعها للفقراء، أو الأغنياء، فمَن هو الفقير الذي يتناوله اللفظ، ومن هو الغني أيضاً؟ الفقير: قالوا في تحديد الفقير في الوقف: إنه الفقير في الزكاة، فما صحّت له الزكاة لفقره، صحّ له الوقف لفقره أيضاً، وما لا فلا. وعليه يجوز صرف الوقف على المساكين، وهم أحسن حالاً من الفقراء لجواز صرف الزكاة إليهم، ولا يجوز صرف الوقف إلى زوجة فقيرة لها زوج يَمُوْنها وينفق عليها، ولا على أولاد مكفيِّين بنفقة أبيهم، لأن الزكاة لا يجوز صرفها إليهم. الغنيّ: قالوا في تحديده: إنه مَن تحرم عليه الزكاة، إما لملكه، أو لقوّته وكسبه، أو كفايته بنفقة غيره. الوقف على سبيل الخير، أو سبيل الله لو قال الواقف في وقفة: وقفت أرضي ليكون ريعها في سبيل البِّر أو الخير، أو الثواب، فمن يستحق ريع هذا الوقف؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 وجوابه: أن الذي يستحق ريع هذا الوقف إنما هم أقرباء الواقف، فإن لم يوجدوا، فأهل الزكاة ما عدا العاملين والمؤلّفة قلوبهم. أما لو قال: في سبيل الله، فإنما يستحق ذلك الريع الغزاة الذين هم " أهل الزكاة فإن جمع في وقفه بين سبيل الله وسبيل البر وسبيل الثواب، كان ثلث هذا الوقف للغزاة، وثلثه لأقرباء الواقف، والثلث الأخير لأصناف الزكاة ماعدا العاملين عليها والمؤلّفة قلوبهم. الوقف على زخرفة المساجد وعمارة القبور قال الفقهاء: لا يصحّ الوقف على تزويق المسجد أو نقشه، ولا على عمارة القبور، لأن الموتى صائرون إلى البلى فلا يليق بهم العمارة، ولا يجوز إضاعة المال وإتلافه في غير منفعة. أين هذا الذي قاله العلماء، مما يفعله عّوام المسلمين اليوم، وربما أقرّهم على ذلك علماؤهم، أو سكتوا عليهم؟!. فكم جمعوا أموالاً، من الفقراء والأغنياء، ومن غلاّت الأوقاف، أو هبات الناس ليزوّقوا مسجداً، أو ينقشوا فيه جداراً أو قُبَّة، أو يضخِّموا فيه محراباً أو منبراً، جاهلين أو متجاهلين أن ذلك سرف ممقوت، وإضاعة مال في افتتان قلوب الناس في صلاتهم، وشغل أفكارهم بهذه الزخارف عن عباداتهم!! كأنهم لم يقرؤوا قول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ {1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2]. ومن أين يأتي الخشوع، وبين يدي المصلى وفي قبلته وعن يمينه وشماله من الزخارف والنقوش ما يأخذ بقلبه ولُبّه؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله. ومثل هذا السَرَف في المساجد السرف أيضاً في عمارة القبور، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 وتسنيمها وتجصيصها، وبناء القباب والقناطر عليها، حتى ليخيَّل إليك أنها قصور وليست بقبور، وكأن أصحابها أحياء ينعمون بتلك المباني!!. إن بعض الناس لينفقون من أموالهم على بناء قبورهم، ويوصون أن تُجعل لهم قبور ضخمة فخمة يُوضعون فيها بعد موتهم، فهذه وصايا باطلة شرعاً، وأوقاف لاغية. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في متن " المنهاج ": (ويكره تجصيص القبور والبناء والكتابة عليه، ولو بني في مقبرة مُسَبَّلة هُدم). قال الخطيب الشربيني في " مغني المحتاج ": (يهدم البناء لأنه يضيق على الناس، ولا فرق بين أن يبني قبة أو بيتاً أو مسجداً أو غير ذلك). وقف الكفّار على معابدهم قلنا فيما سبق: لا يجوز وقف المسلم مالاً على الكنيسة ونحوها، لوجود المعصية في ذلك. وهنا نقول: لا نجوِّز للذمِّي أيضاً أن يقف لكنيسة أو معبد من معابدهم، عملاً بشرعنا واعتقادنا، هذا حين يترافعون إلينا، ويطلبون منّا بيان الحكم في ذلك، فإننا نقضي ببطلان أوقافهم على تلك الكنائس والبِيَع. أما إذا لم يترافعوا إلينا، ولم يستفتونا في ذلك فإننا لا نتعرّض لهم، ونتركهم وما يدينون به. أما ما وقفوه قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - على كنائسهم القديمة، فلا نُبطله، بل نقرّه حيث نقرّها. 4 - صيغة الوقف: (1) تعريف الصيغة: الصيغة: هي اللفظ المشعر بالمقصود، أما ما يقوم مقام اللفظ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 كإشارة الأخرس المفهمة، أو كتابته. ولا بدّ من الصيغة لصحة الوقف وإنشائه (2) أقسام الصيغة: الصيغة قسمان: أ - صريحة: وهي التي لا تحتمل إلا المعنى المراد، مثل أن يقول وقفت داري على الفقراء، أو هي موقوفة عليهم، أو يقول: حبستها لهم، أو سبّلتها لهم. ومثل هذه الألفاظ الصريحة الواضحة في الدلالة على المقصود لا تحتاج إلى نيّة لصحة الوقف، شأنها شأن كل لفظ صريح في العقود، بل يكفي فيها النطق بها. ب كناية: وهي اللفظ الذي يحتمل مع المعنى المراد غيره، كأن يقول: مالي صدقة على الفقراء، أو حرمته لهم، أو أبّدته عليهم، وهكذا. ومن كناية أيضاً كتابة الناطق. والكناية لا بدّ فيها من النّية مع اللفظ، شأنها شأن كل ألفاظ الكناية في العقود، حتى تنشأ العقود صحيحة. (3) شروط صيغة الوقف: لصيغة الوقف - صريحة كانت، أم كناية - شروط نذكرها فيما يلي: أ - أن تكون لفظاً من ناطق يشعر بالمراد، أو كتابة من أخرس مُفصحة عن المقصود. ب-أن تكون الصيغة خالية من التوقيف، فإن قال: وقفت أرضي على طلاب العلم سنة، بَطُلَ الوقف، لعدم صحة هذه الصيغة، لوجود التوقيف فيها، وذلك لأن مقتضى الوقف التأبيد، والتوقيت يُنافيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 ما يُستثنى من شرط التوقيت: لقد استثنى العلماء من هذا الشرط - شرط التوقيت - المساجد، والرُبُط والمقابر، وما يجري مجراها مما يشبه تحرير الرقاب، ويضاهيه، فحكموا بصحة الوقف، على التأبيد، وألغْوا الشرط. رغبة في تصحيح الصيغة ما أمكن. فلو قال: وقفت أرضي هذه مسجداً، أو مقبرة أو رباطاً سنة، صحّ الوقف مؤبداً وأُلغي الوقت. ج- بيان مصرف الوقف، فلو قال وقفت، أو سبّلت كذا ولم يبيّن المصرف لم ينعقد الوقف، لعدم معرفة الجهة التي وقف عليها. د- عدم التعليق، فإن الوقف عقد يقتضي الملك في الحال، فلا يصحّ تعليقه على شرط. فإذا قال. وقفت داري على الفقراء إذا جاء زيد، وسبّلت سيارتي لهم إن رضيت زوجتي، فالوقف باطل، لمنافاة مقتضى العقد لمثل هذه الشروط كما سبق أن قلنا. ويستثنى من هذا الشرط أيضاً ما يشبه تحرير الرقاب كما سبق وذكرنا. فلو قال إذا جاء رمضان فقد وقفت داري مسجداً، وصحّ الوقف. هـ - الإلزام، فلا يصح فيه خيار شرط له، أو لغيره، وكذلك خيار المجلس. فلو قال: وقفت دابتي على الفقراء، ولي الخيار ثلاثة أيام، أو لي خَيار بيعها متى شئت، بطل هذا الوقف لعدم تنجيز الوقف في الحال حسب مقتضى الوقف. اشتراط قبول الموقوف عليه المعَّين الوقف: إذا كان الوقف على معين، مثل أن يقف داراً على خالد مثلاً، اشترط لصحة هذا الوقف قبول الموقوف عليه المعيّن الوقف، ويجب أن يكون هذا القبول متصلاً بالإيجاب، وهو قول الواقف: وقفت داري هذه على خالد. فإذا قبل خالد بهذا الوقف صحّ، وإذا ردّه بَطل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 أما إذا كان الوقف على غير معين: كالوقف على الفقراء، أو على المسجد، فلا يشترط لصحة هذا الوقف القبول، لتعذّر ذلك. انتفاع الواقف من وقفه: ليس للواقف أن ينتفع بشئ من وقفه - كما سبق وقلنا: ليس له أن يقف على نفسه - لأن الوقف إخراج ل ملكية الموقوف من ملك الواقف، وكذلك منافعه، ولكن العلماء استْثَنْوا من هذا، ما لو وقف مُلكه مسجداً أو مقبرة، أو بئراً، فله أن يكون كباقي المسلمين في الانتفاع من هذا الموقوف. وعليه يصحّ له أن يصلّي في ذلك المسجد الذي وقفه، وأن يشب من ماء تلك البئر، وأن يُدفن في المقبرة أيضاً. ودليل هذا حديث عثمان - رضي الله عنه -، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة، وليس بها ماء يستعذب، غير بئر رُومة، فقال: " من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة " فاشتريتها من صلب مالي. رواه الترمذي (3704) بسند حسن، في (المناقف)، باب (مناقب عثمان)، ورواه النسائي (6/ 235) في (الأحباس)، باب (وقف المساجد)، ورواه البخاري (2626) تعليقاً في (كتاب الوصايا)، باب (إذا وقف أرضاً أو بئراً، أو اشترط لنفسه مثل دِلاء المسلمين). وبئر رومة: كانت ليهودي في المدينة يبيع ماءها للمسلمين، كل قربة بدرهم، فاشتراها عثمان - رضي الله عنه -، ووقفها على المسلمين، على أن له أن يشرب منها، كما يشربون. لزوم الوقف، وما يترتب عليه من أحكام: الوقف من العقود اللازمة، التي يترتب عليها آثارها بمجرد إنشاء العقد الصحيح، وليس هو كالوصية، فإنها عقد جائز. ويترتب على لزوم عقد الوقف الأحكام التالية: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 أعدم ثبوت الخيار في عقد الوقف، فإذا وقف صحيحاً، فليس له خيار مجلس، كما أنه ليس له خيار شرط أيضاً. ب انتقال ملكية الموقوف إلى الله سبحانه وتعالى، فلا يحق للمالك الأصلي التصرّف في الوقف على سبيل الملكية لا بيع ولا هبة، ولا غير ذلك. ج- انتقال حق الانتفاع بالوقف إلى الجهة التي كان لها الوقف، خاصّة كانت، ... أو عامّة. ملكية الموقوف: إذا وقف الواقف عيناً، عقاراً، أو سيارة، أو سلاحاً، أو غير ذلك انتقل مُلك رقبة الموقوف إلى الله تعالى، فلا يكون الموقوف للواقف، ولا للموقوف عليه. منافع الموقوف: منافع العين الموقوفة مُلك للموقوف عليه إذا كان الموقوف عليه معيَّناً، وله أن يستوفي هذه المنافع بنفسه، أو بغيره، بإعارة وإجارة. ويملك أيضاً فوائد الوقف الحاصلة بعده، كثمر الأشجار الموقوفة عليه وصوف ولبن وأولاد الدواب الموقوفة عليه أيضاً. أما إذا كان الموقوف عليه غير معين، وإنما هو جهة من الجهات كالفقراء مثلاً، فإنهم لا يملكون منفعة الموقوف، بل يملكون حق الانتفاع بها. التصرّف بالموقوف: لا يجوز التصرّف برقية العين الموقوفة بيعاً أو شراءً أو إرثاً، لا من قبل الواقف، ولا من قبل الموقوف عليه، معيناً كان الموقوف عليه، أو غير معين، بل تبقى على ملكية الله تبارك وتعالى، تصرف منافعها إلى مَن وُقفت عليه، ويعمل بها ما أمكن بما نصّ عليه الواقف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 دلّ على ذلك وقْف عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه نصّ في وقفه: (أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث) رواه البخاري (2586)، ومسلم (1632). نفقة الموقوف: إذا كان للموقوف نفقة يحتاجها: كطعام الدواب، أو ترميم المباني، أو إصلاح الآلات، فإن هذه النفقة على الوقف تكون من حيث شرطها الواقف من ماله، أو من مال الوقف، فإن لم يشترط الواقف شيئاً كانت النفقة من غلاّت الوقف إن كان له غلّة، فإن لم يكن للموقوف غلّة، أو تعطّلت منافعه، فالنفقة تَجِبْ في بيت مال المسلمين، لأنه مرصود لمصالحهم، وفي النفقة على الموقوف مصلحة لهم. هلاك الموقوف والأحكام المتعلقة به: قد يهلك الموقوف، فتتعلق به عند هلاكه أحكام، تختلف باختلاف العين الموقوفة الهالكة، وباختلاف نوعية الهلاك، وهذه الأحكام هي: أإذا كان الموقوف بهيمة غير مأكولة فماتت اختصّ بجلدها الموقوف عليه، لأنه أولى به من غيره، فإن دُبغ الجلد عاد وقفاً عليه ينتفع به، ولا يجوز له بيعه حفظاً على مقصد الواقف ما أمكن. ب إذا كان الموقوف بهيمة مأكولة، وقطع الموقوف عليه بأنها ستموت من شئ نزل بها جاز ذبحها للضرورة، ويُباع لحمها ويُشترى به دابة من جنسها وتوقف مكانها، وقيل يُترك أمر لحمها للحاكم يفعل فيه ما يراه مصلحة. ج- إذا أُتلفت العين الموقوفة، فإن على مُتلفها ضمان قيمتها، وذلك كأن أتلفها أحد تعدِّياً، لم يملك الموقوف عليه قيمة العين الموقوفة التالفة، بل يُشتري بالقيمة عين مماثلة لها، وتصبح وقفاً مكانها، وذلك مراعاة لغرض الواقف من استمرار الثواب، وتعلّق حق البطن الثاني وما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 بعده بها، فإن تعذّر شراء عين كاملة، فبعض عين، لأنه أقرب إلى مقصود الواقف، فإن تعذّر شراء البعض، فإن الموقوف يعود إلى أقرب الناس إلى الواقف، وأما إذا تلفت العين الموقوفة من غير ضمان، أو تلفت بنفسها، فقد انتهى الوقف بزوال العين الموقوفة. د- إذا تعطّلت منفعة العين الموقوفة بسبب غير مضمون، كأن وقف أشجاراً فجفّت، أو قلعها الريح أو السَّيْل، ولم يمكن إعادتها إلى مغرسها قبل جفافها، لم ينقطع الوقف، بل تبقى موقوفة ينتفع بها جذوعاً بإجارة ونحوها، إدامة للوقف في عينها، ولا تُباع ولا تُوهب، فإن لم يمكن الانتفاع بها إلا باستهلاكها بإحراق ونحوه جاز للوقوف عليه ذلك، إلا أنه لا يجوز بيعها ولا هبتها. هـ - إذا كان الموقوف حُصُر مسجد ونحوها فبليت، أو جذوعاً فانكسرت، ولم تصلح إلا للإحراق جاز بيعها، لئلا تضيع، أو يضيق المكان بها من غير فائدة، وتحصيل مال يسير من ثمنها يعود إلى الوقف أولى من ضياعها، وعلى هذا، فإن ثمنها يُصرف في مصالح المسجد، ويقدم شراء مثيل للتالف إن أمكن أما إذا صلحت لغير الإحراق، لم يجز بيعها، محافظة على استيفاء عينها، تمشياً مع غرض الواقف. وإذا انهدم مسجد وتعذّرت إعادته لم يجز بيعه بحال، لإمكان إعادته في وقت ما، فإن كان لهذا المسجد غلّة تُصرف على مصالحه، فإن توقعنا عوده حفظت غلّته، وإن لم نتوقع عوده جار صرف غلّته إلى أقرب المساجد إليه. ز- إذا خيف على مسجد جاز للحاكم نقضه، وبنى بحجارته مسجداً آخر، ولا يبني بحجارته وأنقاضه شيئاً آخر مراعاة لغرض الواقف. وبناؤه قريباً من المسجد المنقوض أولى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 ح- ولو وقف أحد مالاً على قنطرة منصوبة على واد، فانخرق الوادي وتعطلت القنطرة، واحتاج الناس إلى قنطرة أخرى، جاز نقل تلك القنطرة إلى محل الحاجة، استبقاءً لمقصود الواقف ما أمكن. موت الموقوف عليه: أإذا مات الموقوف عليه، فإن عيِّن الواقف مصرفاً آخر غير ذلك الشخص الذي مات ينتقل إليه الوقف عند موته، انتقل إلى الذي عيِّنه، وذلك كأن يقول الواقف: وقفت هذه الدار، أو السيارة على ولدي، ثم على الفقراء. وإن لم يعيِّن مصرفاً آخر ينتقل إليه الوقف بقي الموقوف وقفاً، وصرف إلى أقرب الناس للواقف يوم موت الموقوف عليه الأول. ب إذا وقف على شخصين، ثم الفقراء: كأن قال وقفت أرضي على زيد وعمر، ثم الفقراء، فمات أحدهما ذهب نصيبه من الوقف إلى الشخص الآخر، لأن الواقف شرط انتقال الوقف إلى الفقراء بموت الشخصين، ولم يوجد ذلك. ج- إذا وقف شخصين، وفصَّل بأن قال: وقفت على كل واحد منهما نصف هذه الدار، ثم على الفقراء، فهو وقفان، فلا ينتقل نصيب أحدهما إلى الآخر، بل ينتقل إلى الفقراء. حكم الوقف ابتداءً ودواماً: للوقف من حيث الابتداء والدوام أحكام متنوعة أهمها: أإذا كان الوقف على موجود إلا إنه منقطع الآخر، وذلك مثل قوله: وقفت هذه المكتبة على أولادي، أو على زيد، ثم نسله، ولم يزد على ذلك، صحّ الوقف، لأن مقصود الوقف القربة والدوام، فإذا بَّين مصرفه ابتداء سهَل إدامته على سبيل الخير، فإذا انقرض المذكور بقي وقفاً، ويصرف الوقف إلى أقرب الناس للواقف يوم انقراض المذكور، لأن الصدقة على الأقارب من أفضل القربات، فإن الصدقة على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 الأقارب، صدقة وصلة، كما جاء في حديث: رواه الترمذي (658) بسند حسن في (كتاب الزكاة)، باب (ما جاء في الصدقة على ذي القرابة) والنسائي 8 (5/ 92) في (الزكاة)، (باب الصدقة على الأقارب)، وابن ماجه (1844) في (الزكاة)، باب (فضل الصدقة)، كلهم عن سلمان بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة ". ويختصّ الوقف عندئذ بفقراء قرابة الرحم، لا الإرث، فيقدم ابن بنت على ابن عم. ب إذا كان الوقف منقطع الأول، كأن قال الواقف: هذه الدار على مَن سيولد لي، ثم على الفقراء، بطل هذا الوقف في الأول، لعدم إمكان تمليكه في الحال، كما مرّ بيانه، وبطل في الثاني، لأنه مرتب على الأول. ج- إذا كان الوقف منقطع الوسط، كأن قال الواقف: وقفت هذا المتجر على أولاد خالد، ثم على رجل، ثم على الفقراء، صحّ هذا الوقف، لوجود المصرف في الحال، والمآل، ويصرف بعد أولاد خالد إلى الفقراء، لا لأقرب الناس إلى الواقف، لعدم معرفة أمد الانقطاع. الولاية على الموقوف: لا بدّ في الوقف من ناظر ينظر في أمره، ويقوم على مصالحه، والمحافظة عليه، وإنفاق موارده في الجهات التي نصّ عليها الواقف. أحقّ الناس بالولاية على الوقف: أحقّ الناس بالولاية على الموقوف هو من يعيّنه الواقف نفسه. فإن شرط النظر على الوقف لنفسه، كان له النظر عليه، وكان أولى الناس به، وإن شرطه لغيره واحداً كان أو أكثر اتُبع شرطه، سواء فوّض الناظر بهذا النظر على الوقف حال حياته، أم أوصى له به، لأنه المتقرِّب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 إلى الله تعالى بالصدقة، فيتبع شرطه في النظر كما يتبع في المصارف وغيرها. فإن جعل الولاية لفلان، فإن مات فلفلان، جاز تحقيقاً لرغبته في النظر على وقفه. وقد كان عمر - رضي الله عنه - يلي أمر صدقته، ثم جعله لحفصة بنته رضي الله عنها تليه ما عاشت، ثم يليه أولو الرأي من أهلها. رواه أبو داود (2879) في (الوصايا)، باب (ما جاء في الرجل يوقف الوقف) وإن لم يشترط الواقف النظر على الوقف لأحد، فالنظر عندئذ للقاضي، لأن له النظر العام، فكان أولى بالنظر في الوقف. شروط الوالي على الوقف: للناظر في الوقف شروط، حتى يصح أن يكون ناظراً، وهذه الشروط هي: 1 - العدالة، وهي الاستقامة في أمور الدين، وشرطت العدالة في الناظر، لأن النظر ولاية، والولاية لا تصح من غير عدل. 2 - الكفاية، والمراد بها قوة الشخص وقدرته على التصرف فيما هو ناظر عليه، واهتداؤه إلى محاسن أوجه التصرف. فإذا اختلّ في الناظر أحد هذين الشرطين نزع الحاكم الوقف منه، ووليه هو بنفسه، أو يوليه مَن أراد. فإن زال اختلاله، وتحققت فيه شروط الولاية من جديد عاد إليه النظر على الوقف إن كان مشروطاً نظره في الوقت، منصوصاً عليه بعينه من قبل الواقف نفسه. ولا يتصرف الناظر إلا في وجوه المصلحة، والاحتياط، لأنه ينظر في مصالح الغير، فأشبه وليّ اليتيم. وظيفة الناظر على الوقف: للناظر على الوقف وظيفة نُجمِلها فيما يلي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 أالقيام بشؤون الوقف من عمارة، وإجارة وتحصيل غلّة، وقسمتها على مستحقيها، وحفظ الأصول والغلاّت على الاحتياط، لأنه المعهود في مثله. وهذا التصرف إنما يتولاّه الناظر إذا أطلق الواقف له النظر، أو فوّضه في جميع الأمور، فإذا فوّض إليه النظر في بعض هذه الأمر لم يتعدّه اتباعاً لشرط الواقف، شأنه في ذلك شأن الوكيل يتصرف في حدود ما وُكِّل به. ب إذا شرط الواقف النظر لاثنين لم يستقل أحدهما بالتصرّف، ما لم ينصّ عليه، فإن نصّ عليه جاز له التصرّف. أُجرة الناظر على الوقف: إذا شرط الواقف للناظر شيئاً من الريع جاز، وكان له أخذه، فإن لم يذكر الواقف للناظر أجرة، فلا أجرة له. فلو رفع الناظر الأمور إلى الحاكم، وطالب أن يقرِّر له أُجرة، جاز للحاكم أن يقرِّر له الأجرة التي يراها مناسبة لعمله، وهذا إذا لم يجد متبرعاً يقوم بالنظر على الوقف من غير أجر، وللناظر أن يأكل من ثمرة الموقوف بالمعروف، كما قال عمر - رضي الله عنه -: (لا جُناح على مَن وليها أن يأكل منها بالمعروف). اختلاف الناظر والموقوف عليهم في النفقة: إذا ادّعى الناظر على الوقف صرف الريع إلى مستحقِّيه، فأنكروا ذلك، فإن كانوا معيِّنين، فالقول قولهم، ولهم مطالبته بالحساب، وإن كان الموقوف عليهم غير معينين، فللحاكم مطالبته بالحساب، ويصَّدق في قدر ما أنفق عند الاحتمال، فإن اتهمه الحاكم حلّفه. عزل الناظر: يُعزل الناظر بزوال أهليته كما مرّ، وينعزل أيضاً بالإضافة إلى ذلك بعزل الواقف له، ويصحّ الواقف له، ويصحّ له عندئذ تولية غيره مكانه، وذلك أن الناظر وكيل، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 وللموكِّل عزل الوكيل متى شاء، إلا أن يشرط الواقف نظره حال الوقف، فلا يجوز له عزله، ولو لمصلحة، لأنه لا تغيير لما شرطه حال العقد، كما لو وقف على أولاده الفقراء، فلا يجوز تبديلهم بالأغنياء. لأنه كما قلنا لا تغيير لما شرطه في العقد. بعض مسائل الوقف: 1 - لو قال الواقف في وقفه: وقفت هذه الدار على أولادي، وأولاد أولادي، استحقّ الوقف جميعهم، وقسم منافعه بينهم بالسوية، لا فرق بين ذكر وأنثى، وبين ولد وولد ولد، لأن الواو لمطلق الجمع، لا للترتيب، كما هو الصحيح عند علماء الأصول. 2 - لو قال: وقفت هذه الدار على أولادي، فإنه لا يدخل أولاد الأولاد في الوقف، لأنه لا يقع عليهم اسم الولد حقيقة، هذا إذا كان له أولاد، وأولاد أولاد، أما إذا لم يكن له إلا أولاد أولاد، فإنهم يدخلون في اللفظ، ويستحقّون الوقف، لوجود القرينة، وصيانة لكلام المكلّف عن الإلغاء. 3 - لو قال هذه الحديقة وَقْف على ذريتي، أو نسلي، أو عقبي: دخل فيه أولاد البنات، وأولاد الأولاد، قريبهم وبعيدهم، وذكرهم وأنثاهم، لأن اللفظ يشملهم. 4 - لو قال: وقَفْتُ أموالي على فقراء قرابتي، دخل كل من اجتمع في النسب مع الواقف، من فقراء قرابته، سواء كان قريباً أم بعيداً، ذَكَرَاً أم أنثى، وارثاً أو غير وارث، محرماً أو غير محرم. 5 - الصفة المتقدمة على جمل معطوفة تعتبر في الكل، كما لو قال: وقفت هذه الأرض على محتاجي أولادي، وأحفادي، وإخوتي، فصفة الحاجة مشروطة فيهم جميعاً، وكذلك الصفة المتأخرة عليها، كما لو قال، وقفْتُ هذه الدار على أولادي، وأحفادي، وإخوتي الفقراء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 6 - لقد عُرف الوقف على القرابة والأولاد والأحفاد والذرية بالوقف الذري أو الأهلي. كما عرف الوقف على المصالح والجهات، كالمساجد والمدارس، والعلماء والفقراء بالوقف الخيري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 الوقف من مفاخر المسلمين ومآثرهم الحميدة الوقف قربة من القربات، وعبادة من العبادات، والوقف يدل على صدق إيمان الواقف، ورغبته في الخير، وحرصه على مصالح المسلمين، وحبّة لهم ولأجيالهم المتعاقبة. ومنافعهم المتلاحقة. ولقد ضرب المسلمون منذ عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم الأمثلة في ميادين الوقف، فوقفوا أوقافاً لا تُحصى، وسبّلوا أموالاً لا تُعدّ، شملت أوقافهم جوانب كثيرة من جوانب الخير، ونواحي المعروف، ومرافق الحياة: مدارس، مساجد، مشافي، أراضي، مباني، آبار، مكاتب، سلاح على الذراري، على الفقراء، على المجاهدين، على العلماء، وغير هذا كثير. فما تركوا ناحية من نواحي الحياة إلا وقفوا لها وقفاً، وما من حاجة من حاجات المجتمع إلا حبسوا لها أموالاً، ونظرة سريعة في ربوع العالم الإسلامي تنبئك عن أوقافهم التي وقفوها، وأموالهم التي حبسوها في سبيل الله تبارك وتعالى، اشترك في ذلك حاكمهم ومحكومهم، قوّادهم وجنودهم، تجّارهم وصنّاعهم، ورجالهم ونساؤهم، حتى غدا في كل بلد من بلدان المسلمين أوقاف يقدَّر ريعها بمئات الملايين، وأصبح لهذه الأوقاف في كل قطر أقطارهم وزارة، تدير تلك الأموال، وتقوم عليها، وهناك آلاف من الأُسر تعيش من ثمرات هذه الأوقاف وغلاّتها وهناك أيضاً مرافق كثيرة، ومصالح عديدة، استمرت ونَمَت في أحضان هذه الأوقاف، وفي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 ربوع خيراتها. فجزي الله أولئك الصالحين خيراً، وأجزل لهم الأجر والمثوبة. والأمر المؤسف والمُحزن، أن الرغبة في أيامنا، منذ أزمان قريبة قد قلت عند كثير من المسلمين في الوقف، وشحّت نفوس كثيرين منهم في مثل هذه الصدقات الجارية، والمَبَرَّات النافعة. وهذا مظهر مُحزن، إن دلّ على شئ فإنما يدل على قلّة الرغبة في الأجر والثواب، وضعف الإيمان بالآخرة ونعيمها، وشدة الحب للدنيا وشهواتها، وانشغال الناس بهذه الفانية، وتفضيلها على الآخرة ونعيمها، حتى صدق فينا قول الله تعالى {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى: 16]. وكأننا لم نسمع قوله تعالى: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17]. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 الوصية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 تعريف الوصية: الوصية في اللغة: الإيصال، مأخوذة من: وصيت الشئ أصيه إذا وصلته والوصية، والإيصاء في اللغة بمعنى واحد، تقول: أوصيت لفلان بكذا، أو أوصيت إلى فلان بكذا، بمعنى عهدت إليه. وتكون الوصية اسم مفعول بمعنى المُوصى به، ومنه قول الله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا} [النساء: 12]. وتكون مصدراً بمعنى: الإيصاء، ومنه قول الله عز وجل: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} [المائدة: 106]. لكن الفقهاء فرقوا بين اللفظين، فقالوا: إن معنى أوصيت إليه: عهدت إليه بالإشراف على شؤون القاصرين مثلاً. وخصّوا هذا بالوصاية والإيصاء. ومعنى أوصيت له: تبرّعت له وملِّكته مالاً وغيره. وخصّوه بالوصية. والوصية شرعاً: تبرّع بحق مضاف لما بعد الموت. وسمي هذا التبرع بالوصية، لأن المُوصي قد وصل به خير عُقْباه بخير دنياه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 الفرق بين الوصية وبين أنواع التمليك الأخرى: يتبيَّن من تعريف الوصية، وبين غيرها من أنواع التمليك الأخرى، إذ إن التمليك في الوصية مضاف إلى ما بعد الموت، بينما هو في العقود الأخرى كالهبة مثلاً تمليك في حال الحياة. دليل مشروعية الوصية: الوصية مشروعة ويدل على مشروعيتها الكتاب الكريم، والسنّة النبوية الشريفة، وعمل الصحابة رضي الله عنهم، وإجماع علماء المسلمين. - أما الكتاب فقول الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]. [كتب: فرض. خيراً: مالاً. بالمعروف: بالعدل، الذي ليس فيه ظلم للورثة]. وقوله تبارك وتعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]. وقوله عز من قائل: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} [المائدة: 106]. - أما السنّة فأحاديث عدّة: منها ما رواه البخاري (2587) في كتاب (الوصايا)، باب (الوصايا، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " وصية الرجل مكتوبة عنده ")، ومسلم (1627) في أول كتاب الوصية، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما حق امرئ مسلم، له شئ يوصى فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ". [ما حق: لا ينبغي له، وليس من حقه. إذ الحزم والاحتياط أن تكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 وصيته مكتوبة عنده، لأنه لا يدري متى يأتيه الموت، فيحول بينه وبين ما يريد]. ومن السنّة أيضاً ما رواه ابن ماجه (2700) في (الوصايا)، باب (الحث على الوصية)، عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " المحروم من حُرم الوصية "، وقال عليه الصلاة والسلام: " من ماتَ على وصية مات على سبيل وسُنَّة ومات على تُقَىً وشهادة، ومات مغفوراً له " رواه ابن ماجه (2701) في (الوصايا)، باب (الحث على الوصية). - أما الصحابة رضي الله عنهم، فقد كانوا يوصون ببعض أموالهم تقرباً الله تعالى. أخرج عبد الرزاق بسند صحيح: أن أنساً رضي الله عنه قال: (كانوا - أي الصحابة - يكتبون في صدور وصاياهم: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أوصى به فلان بن فلان، أن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ويشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132]. - أما الإجماع، فقد انعقد إجماع فقهاء المسلمين منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم على جواز الوصية، ولم يؤثر عن أحد منهم منعها. الصدقة في حال الحياة أفضل من الوصية: الصدقة المُنجزة في حال الحياة، أفضل، وأكثر ثواباً، وأعظم أجراً من تلك الصدقة التي يتصدّق بها الإنسان بعد موته، وهي الوصية، لأن الصدقة في الحياة، أسبق في تحصيل الأجر والثواب، وأكثر دلالة على صدق المؤمن في إيمانه، ورغبته في الخير والإحسان، وحبه لهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} [المائدة: 48]، وقال تبارك وتعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10] روى البخاري (1353) في (الزكاة)، باب (أيّ الصدقة أفضل .. )، ومسلم (1032) في (الزكاة)، باب (أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: " أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وتأمل الغني، ولا تمهل حتى، إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان ". [شحيح: أي من شأنك الشح، وهو البخل مع الحرص. بلغت الحلقوم: قاربت الروح الحلق، والمراد شعرت بقرب الموت. لفلان كذا: أي أخذت توصي وتتصدق. وقد كان لفلان: أي أصبح مالك ملكاً لغيرك، وهم الورثة]. وروى الترمذي (2124) في (الوصايا)، باب (ما جاء في الرجل يتصدق أو يعتق عند الموت)، عن أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " مثل الذي يعتق عند الموت كمثل الذي يُهدي إذا شبع ". حكمة مشروعية الوصية: مقتضى القواعد الشرعية أن تكون الوصية غير جائزة، لأنها مضافة إلى زمن قد انقطع فيه حق الموصي في ماله، إذ الموت مُزيل للمُلك، ولكن الشرع الحكيم أجاز الوصية، لما فيها من مصلحة للموصي، ولأقربائه وللمجتمع، أما مصلحة الموصي، فهي ما يناله من الأجر والثواب على وصيته، والذكر الحسن الجميل بعد مماته. وأما مصلحة أقربائه فإن الغالب في الوصايا أن تكون للأقرباء الذين لا يرثون بموجب نظام الإرث في الشريعة الإسلامية، فيستحقون بالوصية قدراً من المال، وهم - غالباً - ممُن يحتاجون إليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 وأما مصلحة المجتمع، فإن الوصية باب من أبواب الإنفاق في وجوه الخير العامة، كالمساجد والمدارس والمكتبات، والمستشفيات وغيرها، وفي الجهات العامة كذلك كالفقراء، والأيتام والعلماء. وبهذا كانت الوصية من قوانين التكافل الاجتماعي في نظام الإسلام، ولا يخفى ما في ذلك من خير وفائدة. حكم الوصية: كانت الوصية في أول الإسلام واجبة بكل المال للوالدين والأقربين. وذلك بدليل قوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]. [كتب: فرض. خيراً: مالاً]. لكن هذا الوجوب نسخ، بآيات المواريث، وبالنسّبة أيضاً، وبقي استحبابها في وجوه الخير، في الثلث فما دونه لغير الوارث. روى أبو داود (2869) في (الوصايا)، باب (ما جاء في نسخ الوصية للوالدين والأقربين)، والترمذي (2118) في (الوصايا)، باب: رقم 2، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: {إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ} فكانت الوصية كذلك، حتى نسختها آية المواريث. وروى عمرو بن خارجة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، خطب على ناقته، وأنا تحت جرَانها، وهي تقصع بجرتها، وإن لعابها يسيل بين كتفي، فسمعته يقول: " إن الله عز وجل أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)، والولد للفراش، وللعاهر الحجر ". رواه الترمذي (2122) في (الوصايا)، باب (ما جاء لا وصية لوارث)، ورواه النسائي (6/ 247) في (الوصايا)، باب (إبطال الوصية للوارث). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 [جرانها: باطن عنقها مما يلي الأرض. بجرتها: ما تخرجه من بطنها لتجتره. تقصع: تمضغه بشدة. العاهر: الزاني. وإنما قال: له الحجر، لأنه لا شئ له في الولد. أو أنه يرجم بالحجر]. وروى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث ". أخرجه أبو داود (2870) في (الوصايا)، باب (ما جاء في الوصية للوارث) أحكام أخرى للوصية: قلنا: إن الوصية مندوبة في وجوه الخير، ولغير وارث، لكنها قد يعتريها أحوال أخرى تُخرِجها عن الندب إلى: أ- الوجوب: فتجنب الوصية فيما إذا كان الإنسان حق شرعي لله تعالى، كزكاة وحج، وخشي أن يضيع إن لم يوص به. وكذلك حق لآدمي، كوديعة ودين، إذا لم يعلم بذلك من يثبت هذا الحق بقوله. ب- الحرمة: وتحرم الوصية إذا كانت بما حرّم الشرع فعله، كالوصية بخمر، أو إنفاق في مشاريع مؤذية للأخلاق العامة، وهذه الوصية مع حرمتها باطلة، لا تنفذ. ومن الوصية المحرمة، الوصية بقصد الإضرار بالورثة، ومنعهم من أخذ نصيبهم المقدر لهم شرعاً. وقد نهى الله تبارك وتعالى عن الإضرار بالوصية، فقال عز من قائل: {غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12]. روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الرجل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فيضاران في الوصية، فتجب لهما النار، ثم قرأ أبو هريرة: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ} إلى قوله تعالى {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ". وتمام الآيتين: {وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ {12} تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 12: 13]. أخرجه أبو داود (2867) في (الوصايا)، باب (الإضرار في الوصية). ج- الإباحة: وهي الوصية لصديق، أو لغني لم يوصفا بالعلم أو الصلاح، فإن نوى في الوصية إليهما البر والصلة كانت الوصية مندوبة، لما فيها من معنى الطاعة د- الكراهة: وتكره الوصية، إذا كان الموصي قليل المال، وكان له ورثة فقراء يحتاجون إلى المال، كما تكره لأهل الفسق والمعاصي، إذا غلب على ظن الموصي أنهم يستعينون بها على معاصيهم. أركان الوصية ، وشروط كل ركن: للوصية أربعة أركان، وهي: الموصى، والموصى له، والموصي به، الصيغة. ولكل ركن من هذه الأركان شروط، لا بدّ من تحققها، وإليك بيان ذلك: شروط الموصي: تصحّ الوصية ممّن اجتمعت فيه الشروط التالية: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 أالعقل، وهو شرط لا بد منه، وخاصة في الهبات والتبرعات، فلا تصح الوصية من مجنون ومعتوه، ولا من مغمى عليه، ولا من سكران غير متعد بسكره، لفقد هؤلاء العقل الذي هو مناط التكليف، ففقدوا بذلك أهلية التبرع. ب- البلوغ، وهو مناط التكليف كما قلنا، وعليه فلا تصح الوصية من صبي، ولو كان مميزاً، لأنه ليس أهلاً للتبرع. ج- الاختبار، فلا تصح من مكره، لأن الوصية تبرّع بحق، فلا بدّ فيه من رضا المتبرع واختباره. د - الحرية، فلا تصح وصية من رقيق، قنا كان، أم مدبراً، أم مكاتباً، لأن الرقيق ليس بمالك، بل هو وما معه مُلك لسيده. والشرع جعل الوصية حيث التوارث، والرقيق لا يورث، فلا يدخل في الأمر بالوصية. وبناءً على ما ذكر من شروط في الموصي، فإنه تصح وصية: 1 - الكافر، لأنه أهل للتبرع. 2 - المحجور عليه بسفه، لصحة عبارته، واحتياجه للثواب بعد موته. شروط الموصي له: الموصي له قسمان: معين، وغير معين. ولكل منهما شروط تخصه: شروط الموصي له المعيَّن: يشترط في الموصى له المعين الشروط التالية: أأن يكون ممن يتصور له الملك عند موت الموصي، فلا تصح الوصية ليمت، ولا الدابة، لأن الميت ليس أهلاً للملك، وكذلك الدابة، هذا إذا لم يفصل الوصية للدابة، فلو فصَّلها، بأن أوصى بالصرف على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 علفها صحت الوصية، وتكون عندئذ لمالكها، لأن علفها عليه، ويُلزم بصرف الوصية على علف الدابة، رعاية لغرض الموصي. بناءً على ما ذكر، فإنه تصح الوصية لحمل موجود عند الوصية، وتنفذ إن انفصل عن أمه حياً حياة مستقرة لأقل من ستة أشهر، لأنها أقل مدة الحمل. ب- عدم المعصية، فلا تصح لكافر بعبد مسلم، ولا بمصحف أيضاً، كما لا تجوز الوصية لأهل الحرب بسلاح أو مال لوجود المعصية في كل ذلك. ج- أن يكون معيناً، فلا تصح الوصية لأحد هذين الرجلين، لأن الموصي له مجهول، والجهالة تمنع من تسليم الموصي به إلى الموصي له، فلا تفيد الوصية. د- أن يكون موجوداً عند الوصية فلا تصح لحمل سيوجد، ولا لمسجد سيبني. ومما يلحق بالوصية لمعين الوصية لعمارة مسجد، إنشاءً وترميماً، أو لمصالحه. وفي معنى المسجد المدرسة، والرباط، والمستشفى، لأن في ذلك قربة، ولهذه الأشياء شخصية اعتبارية، فالوصية لها مثل الوقف عليها. ولو أطلق لفظ الوصية، بأن قال: أوصيت لهذا المسجد، ولم يذكر عمارة ولا غيرها من مصالحه، صحت الوصية، وصرفت لمصالح المسجد، لأن العرف يقضي بذلك. ومن خلال ما ذكر من الشروط يتبين أنه تصح الوصية للقاتل، لأنها تمليك بعقد فأشبه الهبة. وكذلك تصح لوارث إن أجاز باقي الورثة، كما سيأتي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 شروط الموصي له غير المعين: يشترط في الوصية لغير المعين، كجهة من الجهات العامة مثل الفقراء والعلماء، والمساجد والمدارس، أن لا تكون الوصية لجهة معصية، أو مكروه، فلا تصحّ الوصية لإقامة معبد لغير المسلمين، أو بناء ملهى تضيع فيه أوقاتهم، ويتلهون فيه عن مصالحهم، وأداء واجباتهم. ومن الجهات العامة التي تجوز الوصية لها الجهات التالية: أفي سبيل الله، فلو قال: أوصيت بثلث مالي في سبيل الله، صحّت وصيته، لأن النفقة في سبيل الله قربة، وتُصرف هذه الوصية إلى الغزاة من أهل الزكاة، الوارد ذكرهم في قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60]. لأن هذا الاسم قد ثبت لهم في عرف الشرع فيحمل عليهم. ب العلماء، فلو أوصى بمائة ألف من ماله إلى العلماء، صحت وصيته أيضاً، لأن العلماء أهل للملك، والنفقة عليهم قربة في ميزان الشرع، لكن هذه الوصية تصرف إلى علماء الشرع الإسلامي، من تفسير، وحديث، وفقه، وأصول فقه، وعقيدة، وغير ذلك من علوم الدين، لاشتهار لفظ العلماء عرفاً بهؤلاء، فلا يعطي من هذه الوصية الأدباء والمهندسون والأطباء، وأمثالهم من علماء المواد الدنيوية، عملاً بالعرف كما قلنا، فإذا تغير العرف، وأصبحت كلمة: (العلماء) يراد بها عند عموم الناس، كل متعلم يحمل إجازة في فن من فنون العلم، فإن الوصية للعلماء تصرف عندئذ لجميع العلماء على اختلاف علومهم. ج- الفقراء، ويدخل معهم المساكين، وكذلك لو أوصى للمساكين، فإنه يدخل معهم الفقراء، ويجوز الاكتفاء بإعطاء ثلاثة منهم، لأنه أقل الجمع. د- آل البيت، فلو قال أوصيت بثلث مالي لآل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 يعطي من الوصية من كان من بني هاشم، وبني المطلب، ويجوز الاكتفاء بإعطاء ثلاثة منهم أيضاً. هـ - الأقارب ويدخل فيه كل قرابة للموصي من جهة الأب، وجهة الأم، ولا يدخل معهم من يرث من القرابة. والحج والعمرة: فلو قال: أوصيت بمائة ألف من مالي للحج والعمرة، فإن الوصية تصح، لأن الحج والعمرة قربة، ويعطي من هذا المال من يحج ويعتمر. وكذلك لو أوصى أن يحج عنه، فإن وصيته تصح ويحج عنه من بلده، أو من الميقات، كما قيده بوصيته، فإن أطلق ولم يعين مكاناً، فإنه يحج عنه من الميقات، حملاً على أقل الدرجات، ولأن الغالب من عمل الناس الحج من الميقات، فإذا تغير هذا الغالب، وتبدل هذا العرف، فإن الحج يكون من بلد الموصي عملاً بهذا العرف الطارئ، كما هو الحال في أيامنا. شروط الموصي به: وللموصي به شروط إذا تحققت صحت الوصية، وإذا لم تتحقق، لغت، وهذه الشروط هي: أأن يكون الموصي به مما يحل الانتفاع به، فلا تصح الوصية بما يحرم الانتفاع به، كآلة لهو، وقمار. ب- أن يكون قابلاً للنقل، فلا يصح الوصية بالقصاص، ولا بحق الشفعة، لأنها لا تقبل النقل، لأن مستحقها لا يمكن من نقلها. وبناءً على الشرطين السابقين، فإن الوصية تصح في الأمور التالية: أتصح الوصية بالمال المجهول، كالحمل في البطن، واللبن في الضرع، والصوف على ظهر الغنم، لأن الوارث يخلف المورث في هذه الأشياء، فكذلك الموصي له، ولأن الوصية تحتمل الجهالة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 ب- تصح الوصية بالشئ المعدوم عند الوصية، كأن يوصي بثمرة ستحدث، أو حمل سيكون، لأن الوصية احتمل فيها وجوه من الغرر، رفقاً بالناس، وتوسعة عليهم، فتصح بالمعدوم، كما تصح بالمجهول، ولأن المعدود يصح تملكه بعقد السلم، والمساقاة والإجارة، فكذلك الوصية. ج- تصح الوصية بالمبهم، كأن يقول: أوصيت بأحد ثوبي، لن الوصية تحتمل الجهالة، فلا يؤثر فيها الإبهام، ويعينه الوارث. د- تصح الوصية بالمنافع وحدها مؤقتة ومؤبدة، لأنها أموال مقابلة بالأعواض، كالأعيان، كما أنه تصح الوصية بالأعيان وحدها دون المنافع لإمكان صيرورة المنافع إلى بإجارة، أو إعارة، أو إباحة، أو نحو ذلك، وعلى هذا تصح الوصية بالعين لواحد، وبالمنفعة لآخر. كأن يوصي برقبة داره لزيد، وبسكناها لخالد. هـ- تصح الوصية بنجاسة يحل الانتفاع بها ككلب معلم، وزبل، وخمر محترمة، وهي ما عُصرت بقصد الخلية، لثبوت الاختصاص فيها وانتقالها بالإرث. شروط الصيغة: وللصيغة في الوصية شروط أيضاً نذكرها فيما يلي: أأن يكون الوصية بلفظ صريح، أو كناية. فالصريح: كأوصيت له ألف، أو ادفعوا له بعد موتي ألفاً، أو أعطوه بعد موتي، أو هو له بعد موتي، واللفظ الصريح تنعقد به الوصية وتصح بمجرد اللفظ، ولا يقبل قول القائل إنه لم ينو به الوصية. ومثل هذا الإشارة المفهومة من الأخرس. والكناية لا بد من النية، ومع اللفظ، لا حتمال اللفظ غير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 الوصية، فيحدد المراد من اللفظ بالنية. ومن الكناية: كتابي هذا لزيد. والكتابة من الناطق كناية تنعقد بها الوصية مع النية، كما في البيع. ب-قبول الموصي له، إن كانت الوصية لمعين، فإن كانت الوصية لجهة عامة، كالفقراء، أو العلماء، لم يشترط القبول، لتعذره، وتلزم عندئذ بموت الموصي. ج- أن يكون قبول الموصي له بعد موت الموصي، فلا عبرة بقوله أو ردِّه في حياة الموصي، إذ لا حق له قبل الموت، فأشبه إسقاط حق الشفعة قبل البيع. وبناءً على هذا، فإنه يصح للموصي له - إن قبل الوصية في الحياة الموصي - الردّ بعد موته، وكذلك له القبول بعد موته، إن كان ردّ الوصية في حياته، لأن العبرة في القبول والرد أن يكون بعد الموت الموصي، كما قدمنا. وعلى هذا إذا مات الموصي له قبل موت الموصي بطلت الوصية، لأنها قبل موت الموصي غير لازمة، فإن مات الموصي له بعد موت الموصي، ولكن قبول الوصية، صحّت الوصية، وقام ورثته مقامه في القبول، أو الرد، لأنهم فرعه، فيقومون مقامه في ذلك. حدود الوصية: أينبغي للموصي، ويطلب منه ندباً ألا يزيد وصيته عن ثلث ماله، عملاً بحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، من وجع أشفيت منه على الموت، فقلت: يا رسول الله، بلغني ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: " لا " قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: " لا "، الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 هذا لفظ مسلم (1628) في (كتاب الوصايا)، باب (الوصية بالثلث)، ورواه البخاري (2591) بمثله في (كتاب الوصايا)، باب (أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس). [أشفيت منه: أشرفت عليه. أن تذر: أن تترك. يتكففون الناس: يسألون ما بأكف الناس، أو يسألون الناس بأكفّهم]. لكن الموصي لو خالف وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوصى بأكثر من ثلث ماله، فما حكم هذه الوصية؟ قال الشافعية: الوصية بأكثر من الثلث مكروهة شرعاً، ولكنها صحيحة، بيد أن الزيادة على الثلث لا تنفذ إلا بإجازة الورثة، فإن ردوا هذه الزيادة، بطلت، بالإجماع، لأن هذا القدر الزائد على الثلث حقهم، وإن أجازوه نفذت الوصية، إمضاء لتصرف الموصي بالزيادة. أما إذا لم يكن للموصي ورثة، وأوصى بأكثر من الثلث، فالوصية بالزائد على الثلث لغو، لأنه حق المسلمين، فلا مُجيز له. ولذلك قالوا: يستحب أن تنقص الوصية عن الثلث المال أخذاً من قوله عليه الصلاة والسلام، في الحديث السابق: " الثلث والثلث كثير "، وأخذاً أيضاً من التعليل الوارد فيه: " إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ". ب- يعتبر المال عند الموت الموصي، لا عند وصيته، لأن الوصية تمليك بعد الموت. فلو أوصى بألف ليرة، وكان ماله عند الوصية ثلاثة آلاف، إلا أنه لم يبق معه عند الموت إلا ألفان، ثبتت الوصية في ثلث الألفين، وتوقف الباقي على إجازة الورثة، فإن أجازوه نفذ، وإن ردّوه بطل. ج- يعتبر ثلث المال وفاء الديون المتعلقة بمال الميت، أو بذمته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 فلو أوصى بثلث ماله، فإنما تنفذ الوصية من ثلث ما بقي له بعد وفاء ديونه. قال الله تعالى في شأن الميراث {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]. والدين مقدّم على الوصية بالإجماع. فلو كان عليه دين مستغرق كل ماله، لم تنفذ وصيته في شئ من ماله. إذا كان للموصي وصايا وتبرعات في مرض موته تزيد على ثلث ماله، ولم يجز الورثة الزائد، روعي في إخراجها الترتيب التالي: 1 - إذا كان بعض هذه التبرعات منجزاً، وبعضها معلقاً، قدم المنجز على المعلق، لأن المنجز لازم لا يمكن الرجوع عنه، بخلاف المعلّق، فلو وقف داراً بألف ليرة، وأوصى بعد موته بألف ليرة، وكانت تركته عند الموت ثلاثة آلاف، قدم الوقف، ولغت الوصية، إلا أن يجيزها الورثة، لأن التبرع في مرض الموت يعتبر من ثلث التركة. 2 - إذا كانت تبرعاته كلها متعلقة بما بعد الموت، وكانت تزيد عن الثلث، ولم يجز الورثة تلك الزيادة، قسط الثلث بين الجميع على حسب مقاديرهم. فلو أوصى لزيد بمائة، ولخالد بخمسين، ولعمرو بخمسين وكان ثلث ماله مائة، أعطى زيد خمسين، وأعطى خالد خمساً وعشرين، وكذلك عمرو خمساً وعشرين. 3 - إذا اجتمعت في مرض الموت تبرعات منجزة، كوقف، وصدقة، وكان مجموعها يزيد على ثلث المال، قدم الأول فالأول منها، حتى يتم ثلث المال، وتقديم الأول على الثاني، لقوته، لأنه لا يفتقر إلى إجارة الورثة. 4 - إذا اجتمعت تبرعات منجزة في مرض الموت، وكانت دفعة واحدة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 قسط بينها ثلث التركة بالقيمة، لعدم استحقاق تقديم بعضها على بعض الوصية للوارث: أ- الأصل في الوصية أن تكون لغير وارث، لأن المقصود بها القربة، وتحصيل الثواب، واستدراك ما فات حال الحياة، والوارث قد أخذ نصيبه من التركة. إلا أن الموصي، قد يخالف ذلك، ويوصي لوارث من ورثته، فما هو حكم هذه الوصية؟ الأظهر في مذهب الشافعي أن الوصية جائزة، ولكنها لا تنفذ في حق هذا الوارث، إلا إذا أجازها الورثة الآخرون، فتكون إجازتهم تنفيذاً لوصية الموصي وهذا الحكم مستفاد من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث ". رواه الترمذي (2141) في (كتاب الوصايا)، باب (ما جاء لا وصية لوارث)، ورواه أبو داود (2870) أيضاً، كلاهما عن أبي أمامة رضي الله عنه. وروى الدارقطني (4/ 152) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تجوزُ وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة ". وكذلك قاسوا الوصية للوارث، على الوصية للأجنبي بالزائد على الثلث. وقد قلنا هناك: إن الزيادة على الثلث موقوفة على إجارة الورثة، هنا كذلك. ب- لا عبرة لقبول الورثة وردهم - إذا ما أوصى إلى أحد ورثته - في حياة الموصي، إذ لا استحقاق لهم في حياة الموصي بشئ من التركة. كما أنه لا استحقاق للموصي له أيضاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 فلمن قبل من الورثة بالوصية للوارث في حال حياته، أن يرجع عن ذلك بعد موت الموصي، ولمن رد في حياته، أن يقبل بعد موته. ج- العبرة بكون الموصي له وارثاً وقت الموت، لا وقت الوصية، فلو أوصى لأخيه، ولم يكن له ولد عند الوصية، ثم ولد له ولد قبل أن يموت، صحت الوصية ونفذت، لأنها تبينت أنها لغير وارث، لوجود الولد للموصي عند الموت، والولد كما هو معلوم يحجب الإخوة إذا كان ذكراً. د- إذا أجاز الوصية للوارث بعض الورثة وردّها بعضهم بعد الموت، كان لكل منهم حكمه، فتردّ الوصية في حصة من رد، وتنفّذ في حصة من أجاز، وذلك على مقدار حصصهم من التركة. هـ - في معنى الوصية للوارث، والوقف عليه، والهبة له، وإبراؤه من دين عليه لمورثة، فإن ذلك كله يحتاج إلى إجازة الورثة، بعد موت المورث، إذا كان ذلك التصرف من الموصي للوارث إنما تم في مرض الموت. الرجوع عن الوصية: الوصية من العقود الجائزة، وليست من العقود اللازمة، كعقد البيع، وعقد النكاح، وبناءً على هذا، فإنَّه يصح للموصي أن يرجع عن وصيته، جميعها، كما يصحّ له أن يرجع عن بعضها، ويحق لع أيضاً أن يعدّل فيها، ويدخل عليها شروطاً، وقيوداً، لأن المال الذي أوصى به، لم يخرج من ملكه، ما دام على قيد الحياة، فله حرية التصرف فيه كما يشاء. كيف يكون الرجوع عن الوصية؟ يصح الرجوع عن الوصية باللفظ الذي يدل على ذلك، مثل أن يقول: نقضت الوصية، أو أبطلتها، أو رجعت عنها، أو فسختها، أو هي لورثتي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 كما يكون الرجوع بالوصية بتصرف في الموصي به يشعر بإبطال الوصية، والإعراض عنها، وذلك: كأن يبيع الموصي به، أو يجعله صداقاً، أو يهبه لأحد ويدفعه إليه، أو يرهنه بدين ويسلمه للمرتَهن، كل هذه التصرفات في الوصية تعني، إلغائها، والرجوع عنها، وذلك لزوال ملكه في بعض هذه التصرفات عن عيون الوصية، وتعريض الموصي به للبيع في البعض الآخر، كما في حالة الرهن، وبناءً على ما سبق نقول: 1 - لو أوصى بحنطة معينة، ثم خلطها بحنطة أخرى، اعتبر هذا رجوعاً عن الوصية، لتعذر تسليم الموصي به بعدما أحدثَه من الخلط. 2 - إذا أوصى بصاع حنطة من صبرة، ثم خلطها بأجود منها، عد هذا منه رجوعاً عن الوصية، لأنه أحداث بالخلط زيادة، لم يرض بتسليمها، ولا يمكن تسليمها بغير هذه الزيادة. 3 - إذا أوصى بصاع حنطة من صُبرة ثم خلطها بمثلها فلا يُعدّ هذا رجوعاً عن الوصية، لأنه لم يحدث تغييراً، وكذلك إذا خلطها بأردأ منها، لأنه مثل إحداث عيب في الموصي به، فلا يضرّ. 4 - إذا أوصى بحنطة فطحنها أو بذرها، أو أوصى بدقيق فعجنه، أو بقطن فغزله، أو بغزل فنسجه، أو بثياب فخاطها، أو بعرصة فبناها، أو غرسها، عُدّ جميع ذلك رجوعاً عن الوصية، وذلك لأمرين: أحدهما: زوال الاسم قبل استحقاق الموصي له الوصية، فكان كتلف الموصي به. ثانيهما: الإشعار بالإعراض عن الوصية، في هذه التصرفات وأمثالها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 الإيصَاء تعريف الإيصاء: قلنا فيما سبق عند بحثنا عن تعريف الوصية، قلنا: إن الوصية، والإيصاء بمعنى واحد، لكن الفقهاء خصّوا الإيصاء، بموضوع الإشراف على شؤون القاصرين مثلاً. وعليه فالإيصاء: أن يعهد الرجل قبل موته إلى مَن يثق به بالإشراف على أولاده، وتنفيذ وصيته، وقضاء ديونه، وردّ ودائعه، ونحو ذلك. تعريف الوصي: ومما سبق يتبّين معنى الوصيّ، فإنه هو الشخص الذي يقوم بالإشراف على شؤون الأولاد، وردّ الودائع وقضاء الديون، نيابة عن الميت، وذلك بتكليف منه. حكم الإيصاء: الأصل في الإيصاء أنه مندوب إليه، لكنه قد يعتريه ما يجعله واجباً. قال الأذرعي: (يظهر أنه يجب على الآباء الوصية في أمر الأطفال - إذا لم يكن لهم جد أهل للولاية - إلى ثقة كاف وجيه، إذا وجده، وغلب على ظنه أنه إن ترك الوصية استولى على ماله خائن، من قاض، أو غيره من الظلمة، إذ قد يجب عليه حفظ مال ولده من الضياع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 وقال الباجوري في حاشيته: (الإيصاء المذكور سنة، إلا في قضاء حق عجز عنه حالاً، وليس به شهود، فإنه يجب حينئذ، لأن ترك الإيصاء به يؤدي إلى ضياعه). مما ذكر يتبين أن الإيصاء واجب فيما إذا كان على الموصي، أو له، حقوق يغلب على الظن أنها تضيع إذا لم يعهد بأمر كشفهما، وإظهار أمرها إلى من يقوم مقامه. وكذلك إذا خيف على الأولاد الصغار الضياع، أو التعرّض للضرر، فإنه يجب على أبيهم الإيصاء إلى مَن يثق به ليُشرف على شؤونهم، ويرعى مصالحهم. أما إذا لم يكن شئ مما سبق، فإن الإيصاء يبقى أمراً مندوباً، وعملاً مستحباً. حكمة مشروعية الإيصاء: الحكمة من تشريع الإيصاء، الحاجة إليه، وتحقيق مصالح للناس فيه. فقد يشرف الإنسان على الموت، وبينه وبين الناس علاقات مادية، كودائع، وعواري، وقد يكون عليه ديون يحتاج لمن يشرف على وفائها بعد موته، وقد يكون له أولاد قاصرون ليس لهم القدرة على التصرّف بشؤون المال فاقتضت المصلحة أن يُنصب إنسان له كفاية في هذه الأمور ليشرف على ذلك كله، فكان من ذلك أن شرّع الإسلام الإيصاء، وحثّ عليه، ورغب فيه. شروط الوصي: قلنا: إن الموصي هو ذلك الإنسان الذي يُعهد إليه بثبوت التصرّف بعد وفاة الموصي، ولكي يستطيع هذا الوصي أن يقوم بما كُلِّف به على أحسن وجه، كان لا بدّ فيه من الشروط التالية: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 أ- أن يكون مكلفاً: أي بالغاً عاقلاً، لأن غير البالغ العاقل يستحق مَن يلي بأمره، ويقوم على شؤونه، فكيف يصحّ توليه، ليلى أمر غيره؟! ب أن يكون حراً، لأن الرقيق لا يتصرف في مال أبيه، فلا يصلح وصياً يتصرف في مال غيره، ولو أذنَ له سيده. ج- مسلماً، وذلك في الولاية على مسلم، فلا يَصحّ الإيصاء إلى كافر، ليلى أمور المسلمين، لأنه متّهم، ولم يجعل الله له ولاية عليهم. وقال سبحانه وتعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]. وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118]. [بطانة: أولياء يتدخلون في شؤونكم. وبطانة الرجل: خاصته وأهله. لا يألونكم خبالاً: لا يقصِِّرون في إفسادكم، والخبال: الفساد]. لكن يصح الإيصاء من ذميّ إلى ذميّ، وكذلك من ذميّ إلى مسلم. د- أن يكون عدلاً، لا ينغمس في كبائر الذنوب، ولا يصرّ على صغائرها، وتكفي فيه العدالة الظاهرة، أي أن يكون ظاهر حاله هكذا. فلا يصحّ الإيصاء إلى فاسق، لأن الوصاية ولاية وائتمان، والفاسق غير مؤتمن. . هـ- أهلاً للتصرف بالموصي به، وقادراً عليه فلا يصح الإيصاء إلى سفيه، أو مريض، أو هرم، أو مختل، أو ذي غفلة، إذا لا مصلحة في تولية من هذه حاله. هذا ويؤخذ من الشروط السابقة في الوصي، أنه يجوز الإيصاء إلى: أالأعمى، لأنه يمكنه التوكيل، فيما يتمكّن من معرفته بنفسه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 ب- المرأة، لأنها صالحة للتصرّف. وقد أوصى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند وفاته إلى ابنته حفصة رضي الله عنها. رواه أبو داود (2789) في (الوصايا)، باب (ما جاء في الرجل يوقف الوقف) بل هي أولى من غيرها في الوصاية إذا اجتمعت فيها شروط الوصي، لوفور شفقتها على أولادها. أحكام تتعلق بالوصي والإيصاء: هناك مجموعة من الأحكام تتعلق بالوصي والإيصاء. ونذكرها في العجالة التالية: أليس للوصي إيصاء إلى غيره، لأن الموصي اختاره هو، ولم يرض بتصرف غيره، وهذا إذا أطلق الموصي الإيصاء، أو نصّ على عدم التوكيل، أما إذا أذنَ له بذلك، فإنه لا يُمنع منه. ب يجوز في الإيصاء التوقيت والتعليق، فو قال: أوصيت إلى فلان إلى بلوغ ابني، أو إلى قدوم أخي، جاز ذلك، وكذلك لو قال: إذا متّ فقد أوصيت إليك، فإنه يجوز، لأن الإيصاء يحتمل الجهالة والأخطار، كالوصية، ولأن الإيصاء مثل الإمارة، وقد أمّر النبي - صلى الله عليه وسلم -: زيد بن حارثة رضي الله عنه في غزوة مؤتة وقال: إن أصيب زيد، فجعفر، وإن أصيب جعفر، فعبد الله بن رواحة. رواه البخاري (4013) في (المغازي)، باب (غزوة مؤتة). ج- لو أوصى إلى اثنين، ولم يجعل لكل واحد منهما الانفراد بالتصرّف، بل شرط اجتماعهما فيه، أو أطلق، فقال: أوصيت إلى زيد وعمرو، لم يكن لأحدهما أن ينفرد بالتصرّف وحده، عملاً بالشرط في الأول، واحتياطاً في الثاني، ولكن لو صرّح الموصي عند الإيصاء بانفراد كل منهما بالتصرّف، كأن قال: أوصيت على كل منكما، أو كل واحد منكما وصي، جاز لكل واحد منهما أن يتصرف وحده منفرداً عن صاحبه، لوجود الإذن في ذلك من الموصي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 د- عقد الإيصاء عقد جائز من كلا الطرفين، فللوصي أن يعزل نفسه عن الإيصاء متى شاء، كالوكالة، إذ هو وكيل عن الموصي، لكن هذا العزل يصحّ إذ لم يتعين عليه القيام بالوصية، ولم يغلب على ظنه، تلف مال الموصي عليهم، باستيلاء ظالم من قاض وغيره على مالهم. فإذا خاف شيئاً من ذلك لم يجز له أن يعزل نفسه، ولا ينفذ عزله، رعاية لمصالح الأيتام، ودفعاً للخطر عنهم، أو عن أموالهم. هـ - يشترط في الوصاية بأمر الأطفال أن تكون ممن له ولاية عليهم، كالأب والجد. ولا يجوز للأب نصب وصي على الأطفال والجدّ حيّ بصفة الولاية، لأن ولايته ثابتة شرعاً، فليس له نقل الولاية عنه، كولاية التزويج. وإذا بلغ الطفل، ونازع الوصي في الإنفاق، وادعى أنه أسرف فيه، صدق الوصي بيمينه، لأنه مؤتمن. ولو نازعه دفع المال إليه بعد البلوغ، صُدِّق الولد بيمينه، وذلك لمفهوم قوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً} [النساء: 6]، ولأنه لا يشق على الوصي أن يقيم البينة على أداء المال إلى الولد. والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 الفرائض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 علم الفرائض تعريف علم الفرائض: العلم: هو إدراك الشئ على ما هو عليه في الواقع. ويطلق العلم كذلك على حكم الذهن الجازم المطابق للواقع. كما يطلق أيضاً على القواعد المدوَّنة، والفنون المبيّنة. الفرائض: جمع فريضة، بمعنى مفروضة: أي مقدَّرة وذلك لما فيها من السهام المقدّرة شرعاً الفرض: لغة التقدير. ومنه قول الله تبارك وتعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]. أي نصف ما قدرتم. والفرض شرعاً: نصيب مقدر في الشرع للوارث. وعلم الفرائض: شرعاً: هو فقه المواريث، وعلم الحساب الموصل لمعرفة ما يخص كل ذي حق من التركة. وقيل هو: علم بقواعد فقهية وحسابية يعرف بها نصيب كل وارث من التركة. ويقال لعلم الفرائض: علم المواريث. جمع ميراث، ويقال: تراث، وإرث، وهو اسم لما يورث عن الميت، مأخوذ من قولهم: ورث فلان غيره، إذا ناله شئ من تركته، أو خلفه في أمر من الأمور بعد وفاته، ومنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 قول الله تبارك وتعالى: {وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 180]. ولا شك أن الوارث يخلف المتوفى في ملك أمواله. مشروعية الإرث: لا شك أن الإرث مشروع في الإسلام، ومقرر بنص القرآن والسنة، وإجماع الأمة، ولا شك أيضاً أن من أنكر مشروعيته فهو كافر مرتد عن الإسلام. قال الله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} [النساء: 7] وآيات المواريث معروفة، وواضحة في تقرير مشروعية الإرث. وأحاديث المصطفى أيضاً كثيرة في نفس الموضوع، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقى فلأولى رجل ذكر ". رواه البخاري (6351) في (الفرائض)، باب (ميراث الولد من أبيه وأمه)، ورواه مسلم (1615) في (الفرائض)، باب (ألحقوا الفرائض بأهلها). ومنها أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: " تعلموا الفرائض وعلموها الناس " رواه الحاكم (4/ 333) في (كتاب الفرائض)، باب (تعلموا الفرائض وعلموه الناس). والإجماع منعقد على تشريع الإرث، لم يخالف في ذلك أحد من المسلمين مكانة علم الفرائض في الدين: تحتل أحكام المواريث في الشريعة الإسلامية مكاناً بارزاً، لأنها جزء كبير من نظام الإسلام في المال، وتكاد تكون الكثيرة الغالبة من أحكامه واردة في القرآن الكريم. حتى قال بعضهم: علم الفرائض أفضل العلوم، أي بعد علم أصول الدين، وهو علم التوحيد، وما يتعلق به من معرفة العقيدة الإسلامية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 الترغيب في تعلم علم الفرائض وتعليمه: لقد حث النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - المسلمين على تعلم علم المواريث، ورغبهم فيه، وحذر من إهماله والإعراض عنه. روى الحاكم (4/ 333) وصححه في (كتاب الفرائض)، باب (تعلموا الفرائض وعلموه الناس) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " تعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإني امرؤ مقبوض، وإن هذا العلم سيقبض، وتظهر الفتنُ، حتى يختلف الرجلان في الفريضة، فلا يجدون من يفصل بينهما ". وروى ابن ماجه (2719) بسند حسن في (كتاب الفرائض)، باب (الحث على تعلم الفرائض) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " تعلموا الفرائض فإنها من دينكم، وإنها نصف العلم، وإنه أول علم ينزع من أمتي ". قيل: إنه نصف العلم، باعتبار أن للإنسان حالتين: حالة حياة، وحالة موت، فحالة الحياة تتعلق بالصلاة، والزكاة وغيرهما، وحالة الموت تتعلق بقسمة التركة، والوصايا وغيرهما. عناية الصحابة والفقهاء بعلم المواريث: لقد تتابعت عناية الصحابة رضوان الله عليهم بعلم الفرائض تعلّماً وتعليماً، حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (تعلموا الفرائض فإنها من دينكم) وقد اشتهر بين الصحابة رجال أتقنوا هذا العلم، وفاقوا فيه غيرهم، كعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، عبدالله بن مسعود، وزيد بن ثابت، رضي الله عنهم جميعاً، وقد شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لزيد بن ثابت بالتقدم بهذا العلم، والتفوق فيه. فقال: (أفرضكم زيد بن ثابت) رواه الترمذي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 (3794) في (المناقب)، ورواه ابن ماجه (154) أيضاً في المقدمة، باب (فضائل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، ورواه أحمد في مسنده (3/ 281). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (من يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت). وروي عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال يوم موت زيد: (اليوم مات عالم المدينة). وحَذَا التابعون رضي الله عنهم حذو الصحابة في إكبار هذا العلم، والإقبال عليه، وتعلمه وتعليمه، واشتهر من بينهم الفقهاء السبعة المعروفون رحمهم الله تعالى، وهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وخارجة بن زيد، وأبو بكر بن حارث بن هشام، وسليمان بن يسار، وعبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود. ومن بعد هؤلاء كثير من علماء أتباع التابعين ومن بعدهم. فرحم الله الجميع وأسكنهم فسيح جنّاته، ووفقنا للسير على نهجهم، والأخذ بهديهم. حكمة تشريع الميراث: إن لتشريع الميراث، وتوزيع تركة الميت بين ورثته حكماً واضحة جلية، نذكر منها: أإرضاء فطرة الإنسان، فلقد فطر الإنسان، وخلق فيه حب الولد الذي يرى فيه زينة حياته، وامتداد عمره، ومظهر بقائه، فلذلك تراه يكدّ ويتعب من أجل ولده، وبهذا الجدّ والعمل تنتعش الحياة، ويكثر فيها الخير، ولو حرم الدين الميراث لزوت رغبة العمل في كيان الإنسان، وضاقت نفسه، وأظلمت حياته، ورأى أن جهده ضائع، وثمرة عمله سوف تذهب - ربما - إلى مَن لا يحب. وفي هذا ما يناقض فطرته التي فطرة الله عليه، ويذهب بسعادته. قال تعالى {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 [الكهف: 46]، وقال {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14]. ب تحقيق التكافل الاجتماعي في دائرة الأسرة، وذلك بما يأتيهم من المال عن طريق الميراث، وفي هذا ما فيه من المصلحة. ج - صلة الرحم بعد انقطاع أجل المورث، وذلك بما يكون لأقرباء الميت كأخيه، وغيرهما من نصيب في المال الموروث. استمداد علم الفرائض: يستمد علم الفرائض أصوله، وأدلته وأحكامه من أربعة مصادر، وهي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، واجتهاد الصحابة رضي الله عنهم. غاية علم الفرائض: إن الغاية من علم الفرائض: معرفة ما يخصّ كل وارث من التَرِكَة. موضوع علم الفرائض : إن موضوع علم الفرائض هي التركة. تعريف التركة: التركة: هي جميع ما يخلفه الميت بعد موته، من أموال منقولة، كالذهب والفضة وسائر النقود والأثاث، أو غير منقولة كالأراضي والدور وغيرها. فجميع ذلك داخل في مفهوم التركة، ويجب إعطاؤه لمن يستحقه. وجوب العمل بأحكام المواريث: نظام الميراث نظام شرعي ثابت بنصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، شأنه في ذلك شأن أحكام الصلاة والزكاة، والمعاملات، والحدود. يجب تطبيقه، والعمل به، ولا يجوز تغييره، والخروج عليه، مهما تطاول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 الزمن، وامتدت الأيام، فهو تشريع من حكيم حميد، روعي فيه المصلحة الخاصة والعامة. ومهما ظن الناس بأفكارهم خيراً، فتشريع الله خير لهم، وأنفع. قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {13} وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء 13 - 14]، وقال جل شأنه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} [الأحزاب: 36]. الحقوق المتعلقة بتركة الميت: يتعلق بتركة الميت خمسة حقوق، مرتب بعضها على بعض، وهذه الحقوق هي: 1 - الديون المتعلقة بأعيان من التركة، قبل الوفاة: مثل الرهن، فمن رهن شيئاً وسلمه، ولم يترك غيره، ثم مات، فدين المرتهن مقدم على كل شئ، حتى تجهيز الميت وتكفينه. وكذلك، من اشترى شيئاً، ولم يقبضه ولم يدفع ثمنه، ثم مات، فالبائع أحق به من تجهيز الميت وتكفينه. ومثل البيع والرهن، حق الزكاة، أي المال الذي وجبت فيه الزكاة، لأنه كالمرهون بالزكاة. فيقدم على مؤن التجهيز. 2 - تجهيز الميت: فإن تجهيزه مقدم على بقية الديون، وعلى إنفاذ الوصية، وعلى حق الورثة، لأنه من الأشياء الضرورية، التي تتعلق بحق الميت كإنسان له كرامته لتحتم مواراته في لحده. والتجهيز المطلوب هو كل ما ينفق على الميت منذ وفاته إلى أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 يوارى في لحده، من غير سرف ولا تقتير، ضمن دائرة الأمور المشروعة. ويُلحق بتجهيز الميت، تجهيز من تلزمه نفقته من زوجة وولد، فلو ماتت زوجته قبل موته بدقائق، أو مات ولده الصغير كذلك، وجب أن يكفنا ويجهزا من ماله، كما كان يجب أن ينفق عليهما في حال حياتهما. فإن كان الميت فقيراً، لا يملك ما يجهز به، فنفقة تجهيزه على من عليه نفقته في حال الحياة، كما قلنا في الصغير، والزوجة، فإن تعذر ذلك، ففي بيت مال المسلمين، فإن تعذر، فعلى أغنياء المسلمين. 3 - الديون المتعلقة في ذمة الميت: فإنها مؤخرة عن مؤن التجهيز، ومقدمة على الوصية، وحق الورثة، سواء كانت هذه الديون من حق الله تعالى، كالزكاة، والنذور والكفارات، أو كانت من حقوق العباد، مثل القرض، وغيره. غير أن حق الله تعالى مقدم في الوفاء على حق العباد. 4 - الوصية من ثلث ما يقي من ماله: وهي مؤخرة عن الدين بالإجماع، ومقدمه على حق الورثة. وتقديمها في القرآن، كما في قوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، لا يدل على وجوب تقديمها على الدين، بل قدمت للعناية بها، وحث الورثة على إنفاذها، لأنها مظنة التساهل من قبل الورثة، باعتبارها تبرعاً من مورثهم، قد يرون فيها مزاحمة لحقهم في الميراث. روى الترمذي (2123) في (الوصايا)، باب (ما جاء يبدأ بالدين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 قبل الوصية)، عن علي رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدين قبل الوصية، وأنتم تقرؤون الوصية قبل الدين. 5 - الإرث: وهو آخر الحقوق المتعلقة بالتركة، ويقسم بين أفراد الورثة حسب أنصبائهم. شروط الإرث: للإرث أربعة شروط: 1 - تحقق موت المورث، أو إلحاقه بالموتى تقديراً، وذلك كجنين انفصل ميتاً في حياة أمه، أو بعد موتها، بجناية على أمه، موجبة للغرة، فيقدر أن الجنين كان حياً قبل الجناية، ويقدر أيضاً أن الموت قد عرض له بالجنابة على أمه، لتورث عنه الغرة. أو إلحاق المورث بالموتى، حكماً، كما في حكم القاضي بموت المفقود اجتهاداً. [والغرة: عبد، أو أمه. والغرة في الأصل: بياض في الوجه]. 2 - تحقق حياة الوارث بعد موت مورثه، ولو لحظة. 3 - معرفة إدلاء الوارث للميت، بقرابة، أو النكاح، أو ولاء. 4 - الجهة المقتضية للإرث تفصيلاً، وهذا يختص بالقاضي، فلا تقبل شهادة الإرث مطلقاً، كقول الشاهد للقاضي: هذا وارث. بل لا بد في شهادته من بيان الجهة التي اقتضت إرثه منه. ولا يكفي أيضاً قول الشاهد: هذا ابن عمه، بل لا بد من العلم بالقرب والدرجة التي اجتمعا فيها. أركان الإرث: أركان الإرث ثلاثة: 1 - المورِّث، وهو الميت الذي يستحق غيره أن يرثه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 2 - الوارث: وهو مَن ينتمي إلى الميت بسبب من أسباب الإرث الآتي بيانها 3 - الموروث: وهي الترِكَة التي يخلِّفها الميت بعد موته. أسباب الميراث: تعريف السبب: السبب في اللغة: ما يتوصل به إلى غيره، واصطلاحاً: ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدم العدم لذاته. تعريف الميراث: الميراث، والإرث بمعنى واحد، وهو لغة: البقاء، وانتقال الشئ من قوم إلى قوم آخرين، وهو مصدر ورث الشئ وراثة، وميراثاً، وإرثاً. ويستعمل الإرث بمعنى الموروث، والتراث، وهو لغة: الأصل والبقية، ومنه قول الله عز وجل: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً} [الفجر: 19]. وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ابقوا على مشاعركم، فإنكم على إرث أبيكم إبراهيم ". أي على أصله، وبقية من دينه. رواه أبو داود (1919) في (المناسك)، باب (موضع الوقوف بعرفة)، والترمذي (883) في (الحج)، باب (الوقوف بعرفات والدعاء بها)، والنسائي (5/ 255) في الحج، باب (رفع اليدين في الدعاء بعرفة)، وابن ماجه (3011) في (المناسك)، باب (الموقف بعرفات). والإرث شرعاً: حقا قابل للتجزي يثبت لمستحقه بعد موت من كان له ذلك، لقرابة بينهما، أو نحوها: كالزوجية والولاء. وأسباب الميراث أربعة: 1 - النسب: وهو القرابة، ويرث به الأبوان ومن أدلى بهما، كالأخوة والأخوات، وبنو الإخوة الأشقاء، أو لأب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 والأولاد ومن أدلى بهم: كالبنين والبنات، وأولاد الأبناء الذكور والإناث. 2 - النكاح: وهو عقد الزوجية الصحيح، وإن لم يحصل به دخول، أو خلوة، ويتوارث به الزوجان. ويتوارثان أيضاً في عدة الطلاق الرجعي. هذا ولا توارث في نكاح فاسد، ولو أعقبة دخول أو خلوة: كالنكاح بغير ولي أو بغير شهود، وكذلك نكاح المتعة. 3 - الولاء: وهو في اللغة القرابة، والمراد هنا: ولاء العتاقة. وهو: عصوبة سببها نعمة المعتق على عتقيه، ويرث به المعتق ذكراً كان أو أنثى، وعصبة المعتق المتعصبون بأنفسهم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الولاء لحمه كلحمة النسب " رواه أحمد في المسند (1/ 191، 194). هذا ولا يرث العتيق من معتقه شيئاً. 4 - الإسلام: فتصرف تركة المسلم، إذا مات وليس له وارث بالأسباب السابقة، لبيت مال المسلمين إرثاً، ودليل ذلك ما رواه أبو داود (2956) بسند صحيح في (الخراج والإمارة)، باب (في أرزاق الذرية)، وعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من ترك كلا فإلي، ومن ترك مالاً فلورثته، وأنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه ". [كلا: عيالاً. أعقل عنه: أعطى عنه الدية، والعقل: الدية]. ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يرث لنفسه شيئاً، وإنما ينفق ذلك في مصالح المسلمين، لأنهم يعقلون عن الميت، كالعصبة من القرابة، فيضع الإمام تركة الميت الذي لا وارث له، في بيت مال المسلمين، أو يخص بها من يشاء. وعلى هذا فبيت مال المسلمين، مقدم على الرد وعلى ذوي الأرحام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 موقف المتأخرين من علماء الشافعية من بيت المال أفتى متأخرو الشافعية بعدم توريث بيت المال، لأن الشرط في توريثه أن يكون منتظماً، والمراد بانتظامه: أن يصرف التركة في مصارفها الشرعية. وهو الآن غير منتظم، بل إنه ميؤوس من انتظامه حتى ينزل عيسى عليه السلام. ولذلك حكموا بالرد على ذوي الفروض غير الزوجين، فإن لم يكن هناك من يرد عليه من أصحاب الفروض ورثوا ذوي الأرحام. وبناءً على ذلك لم يذكر كثير من علماء الفرائض بيت المال بين أسباب الميراث. يقول الإمام أبو عبدالله محمد بن على بن محمد بن حسين الرحبي، المعروف (بابن موفق الدين)، في منظومته المسمّاة بالرَّحَيبة: أسباب ميراث الورى ثلاثة ... كل يفيد ربه الوارثه (1) ... وهي نكاح وولاء ونسب ... ما بعدهن للمواريث سبب موانع الإرث تعريف المانع: المانع في اللغة: الحائل. واصطلاحاً: ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته، ومثاله: الرق، فأنه يلزم من وجوده في الشخص عدم الإرث، ولا يلزم من عدمه وجود الإرث ولا عدمه. وموانع الإرث ثلاثة:   (1) الورى: الخلق، والمراد هنا: الآدميون. ربه: صاحبه. الوارثة: الإرث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 1 - الرق بكل أنواعه، وهو عجز حكمي يقوم بالإنسان بسبب الكفر. وهو مانع من الجانبين، فالرقيق لا يرث، لأنه لو ورث لكان ما يرثه لسيده، وهو أجنبي من المورث. وهو لا يورث أيضاً، لأنه لا ملك له، بل هو وما معه ملك لسيده. غير أن المبعَّض، وهو ما بعضه حر، وبعضه رقيق، فإنه يورث عنه ما ملكه ببعضه الحر، ويكون لورثته. 2 - القتل: فلا يرث القاتل من المقتول شيئاً، سواء قتله عمداً، أو خطأ، بحق أو بغير حق، أو حكم بقتله، أو شهد عليه بما يوجب القتل، أو زكي من شهد عليه. لأن القتل: قطع الموالاة، والمولاة هي سبب الإرث. روى أبو داود (4564) في (الديات)، باب (ديات الأعضاء)، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ليس للقاتل شئ ". أي من الميراث. وقال أيضاً: " ولا يرث القاتل ". لكن المقتول يرث من قاتله، كما إذا جرح الولد أباه جرحاً أفضى به إلى الموت، ثم مات الولد الجارح قبل أبيه المجروح، فأن الأب يرث من الولد القاتل، لأنه لا مانع يمنعه من الميراث. 3 - اختلاف الدين بالإسلام والكفر: فلا يرث كافر مسلماً، ولا يرث مسلم كافراً، لا نقطاع الموالاة بينهما. روى البخاري (6383) في (الفرائض)، باب (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم)، ومسلم (1614) في أول كتاب الفرائض، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم ". هذا، والمرتد عن الإسلام كافر، لا يرث من أحد شيئاً، ولا يرثه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 أحد، بال ماله يكون فيئاً لبيت مال المسلمين، سواء اكتسب ذلك المال في الإسلام، أم في الردّة. أما الكفار فيتوارثون على اختلاف مللهم، فيرث نصراني من يهودي، ويهودي من مجوسي ومجوسي من وثني، وكذلك العكس في جميعهم. لأن الكفر كله ملة واحدة، في الإرث. قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 22]. لكن الفقهاء استثنوا من التوارث بين الكفار، والتوارث بين الذمي والحربي، فقالوا لا توارث بينهما، وإن كانا من ملة واحدة كيهوديين مثلاً، لا نقطاع المولاة بينهما. قال الرحبي رحمه الله، في رحبيته: ويمنع الشخص من الميراث ... واحدة من علل ثلاث (1) رق وقتل واختلاف دين ... فافهم فليس الشك كاليقين (2) الوارثون من الرجال: الوارثون من الذكور، بالأسباب الثلاثة السابقة: النسب، والنكاح والولاء، عشرة، وهم: 1 - الابن. 2 - ابن الابن وإن سفل.   (1) علل: جمع علة: وهي لغة: المرض، واصطلاحاً: ما يورث في الشخص الحرمان من الإرث بعد تحقق سببه. (2) الشك: هو التردد بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر. واليقين: هو علم الشئ بحقيقته. والظن: هو إدراك الطرف الراجح. والوهم: هو إدراك الطرف المرجوح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 3 - الأب. 4 - الجد أبو الأب، وإن علا. 5 - الأخ، سواء كان شقيقاً للميت، أو كان أخاً له من أبيه فقط، أو من أمه فقط. فإن القرآن العظيم قد نزل بتوريث الإخوة مطلقاً، وإن اختلف نصيب بعضهم عن بعض باختلاف جهاتهم. 6 - ابن الأخ الشقيق، وابن الأخ من الأب، أما ابن الأخ من الأم، فهو من ذوي الأرحام، فلا يرث بالفرض. 7 - العم الشقيق، والعم من الأب، أما العم من جهة الأم فهو أيضاُ من ذوي الأرحام. 8 - ابن العم الشقيق، وابن العم من الأب. أما ابن العم من جهة الأم فلا يرث بالفرض، بل هو من ذوي الأرحام. 9 - الزوج. 10 - المعتق، وعصبته المتعصبون بأنفسهم. ومعلوم أنك لو أردت عد هؤلاء على طريقة البسط لوجدتهم خمسة عشر لأن النوع الخامس يشتمل على ثلاثة أصناف، والنوع السادس يشتمل على صنفين، والنوع السابع يشتمل على صنفين، والنوع الثامن يشتمل على صنفين أيضاً. قال الإمام الرحبي، في الرحيبة: والوارثون من الرجال عشره ... أسماؤهم معروفة مشتهره الابن وابن الابن مهما نزلا ... والأب والجد له وإن علا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 والأخ من أي الجهات كانا ... قد أنزل الله به القرآنا وابن الأخ المدلى إليه بالأب ... فاسمع مقالاً ليس بالمكذب (1) والعم وابن العم من أبيه ... فاشكر لذي الإيجاز والتنبيه (2) والزوج والمعتق ذو الولاء ... فجملة الذكور هؤلاء الوارثات من النساء: الوارثات من الإناث، بالأسباب السابقة: النسب والنكاح، والولاء، سبع بالاختصار، وعشر بالبسط، وهن: 1 - البنت. 2 - بنت الابن، وإن نزل أبوها. 3 - الأم. 4 - الجدة من قبل الأم، أو الأب، وإن علت. 5 - الأخت، من أي الجهات كانت، شقيقة، أو لأب، أو لأم. 6 - الزوجة، أو الزوجات. 7 - المعتقة. قال في الرحبية: والوارثات من النساء سبع ... لم يعط أنثى غيرهن الشرع بنت وبنت ابن وأم مشفقه ... وزوجة وجدة ومعتقه والأخت من أي الجهات كانت ... فهذه عدتهن بانت (3) الوارثون من الرجال إذا اجتمعوا جميعاً: إذا اجتمع كل الرجال الذين مر ذكرهم عند فقد مورثهم ورث منهم   (1) المدلى: المنتسب. مقالاً: قولاً (2) الشكر: عرفان الجميل، ونشره، والثناء عل المحسن الإيجاز: الاختصار في كل أمر. التنبيه: الإيقاظ. (3) بانت: ظهرت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 ثلاثة فقط، لأنهم لا يحجبون حجب حرمان بحال، وسقط الباقون، بالإجماع، لأنهم محجوبون. وهؤلاء الثلاثة هم: الأب، والابن، والزوج. الوارثات من النساء إذا اجتمعن جميعاً: وإذا اجتمع كل النساء، فالوارثات منهن خمس فقط، وهن: البنت وبنت الابن، والأم، والأخت الشقيقة، والزوجة. اجتماع الرجال والنساء: وإذا اجتمع الصنفان: الذكور والإناث عند فقد مورثهم ورث خمسة منهم، وسقط الباقون، والوارثون هم: الابن، والبنت، والأب، والأم، وأحد الزوجين. ملاحظة: قال الفقهاء: كل من انفراد من الذكور حاز جميع التركة إلا الزوج، والأخ لأم. وكل من انفراد من الإناث لا يحوز جميع المال إلا المعتقة. أنواع الإرث: الإرث نوعان: إرث بالفرض، وإرث بالتعصيب. معنى الفرض لغة واصطلاحاً: الفرض في اللغة يقال لمعان: منها: الحز، والقطع، والتقدير. والفرض اصطلاحاً: هو النصيب المقدر شرعاً للوارث، ولا يزيد إلا بالردّ، ولا ينقص إلا بالعَوْل. الفروض المقدرة في كتاب الله عز وجل: الفروض المقدرة في كتاب الله عز وجل ستة: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 ويقال فيها: النصف والثلثان، ونصفهما، ونصف نصفهما. ويقال أيضاً: الربع والثلث، وضعف كل، ونصف كل، ويقال غير هذا أيضاً. الفرض المقدر في الاجتهاد: لقد أثبت العلماء - اجتهاداً - زيادة على الفروض الستة المذكورة في القرآن الكريم، فرضاً سابعاً، وهو ثلث الباقي، وذلك في ميراث الجد مع الإخوة وميراث الأم مع الأب وأحد الزوجين، وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. معنى التعصيب: التعصيب: مصدر عصب، يعصب، فهو عاصب، ويجمع العاصب على عصبة. والعصبة لغة: قرابة الرجل لأبيه، سموا بهذا الاسم، لأنهم عصبوا به، أي أحاطوا به، وكل مل استدار حول شئ فقد عصب به، ومنه العصائب، أي العمائم. وقيل سموا عصبة، لتقوي بعضهم ببعض، من العصب، وهو الشد والمنع. والعصبة اصطلاحاً: هو من يأخذ كل المال إذا انفرد، أو يأخذ ما أبقاه أصحاب الفروض إذا لم ينفرد، ويسقط إذا لم يبق له شئ بعد أصحاب الفروض. قال الإمام الرحبي في الرحبية: واعلم بأن الإرث نوعان هما ... فرض وتعصيب على ما قسما فالفرض في نص الكتاب سته ... لا فرض في الإرث سواها البته (1)   (1) البتة: أي قطعاً. والبت: القطع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 نصف وربع ثم نصف الربع ... والثلث والسدس بنص الشرع والثلثان وهما التمام ... فا حفظ فكل حافظ إمام (1) تقديم أصحاب الفروض في الإرث: إذا اجتمع في الورثة عصبات، وأصحاب فروض، قدم في الإرث أصحاب الفروض على العصبات، عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام: " الحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر " رواه البخاري (6351) في (الفرائض)، باب (ميراث الولد مع أبيه وأمه)، ومسلم (1651) في (الفرائض)، باب (ألحقوا الفرائض بأهلها)، كلاهما عن ابن عباس رضي الله عنه. [الفرائض: السهام المقدرة. بأهلها: بأصحابها]. أصحاب النصف وشروط إرثهم له: يرث النصف خمسة من أفراد الورثة، ولكل واحد منهم شروط لإرثه النصف، وهؤلاء هم: 1 - الزوج: ويشترط لإرثه النصف من تركة زوجته شرط واحد، وهو أن لا يكون لها ولد، ولا ولد ابن، سواء كان هذا الولد منه، أو من غيره، حتى ولو كان الولد من زنى. ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12]. وولد الابن كالابن إجماعاً. ولفظ الولد يشمل الابن وولده، إعمالاً للفظ في حقيقته ومجازه. 2 - البنت: ويشترط حتى ترث البنت النصف شرطان:   (1) لإمام: مقدم على غيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 أ- أن تكون واحدة. ب أن لا يكون معها أخ لها يعصبها. ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11]. 3 - بنت الابن: وترث النصف بثلاثة شروط: أأن تكون واحدة. ب أن لا يكون معها أخ لها يعصبها. ج- أن لا يكون معها أحد من ولد الميت، كابن، أو بنت. ودليل إرث بنت الابن النصف، عند تحقق الشروط السابقة، الإجماع، قالوا: إن ولد الابن ذكراً كان أو أنثى قائم مقام الولد في الإرث. 4 - الأخت الشقيقة وهي ترث النصف بأربعة شروط: أعام الفرع الوارث للميت، كابن أو بنت، أو ابن ابن، أو بنت ابن. ب عدم وجود الأصل الوارث، كالأب، والجدّ. ج أن تكون واحدة. د- أن لا يكون معها أخ لها يعصبها. ودليل إرث الأخت النصف قول الله تعالى {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176]. 5 - الأخت من الأب: وتستحق النصف بخمسة شروط: الأربعة السابقة في الأخت الشقيقة، والخامس عدم وجود أخ، شقيق للميت، أو أخت شقيقة. ودليل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 إرث الأخت من الأب النصف، نفس الآية التي دلت على توريث الشقيقة النصف، لأن المقصود بالأخت في الآية، الشقيقة، أو لأب بإجماع العلماء. قال الإمام الرحبي في أصحاب النصف: والنصف فرض خمسة أفراد ... الزوج والأنثى من الأولاد وبنت الابن عند فقد البنت ... والأخت في مذهب كل مفتي وبعدها الأخت التي من الأب ... عند انفرادهن عن معصب أصحاب الربع وشروط إرثهم له: يستحق ربع التركة اثنان من أصناف الورثة. إذا تحققت فيهما الشروط المقررة، وهذان هما: 1 - الزوج: ويشترط لإرثه الربع من تركة زوجته، أن يكون لها ولد، أو ولد ابن، سواء كان الولد منه، أم من غيره، وسواء كان ذكراً، أو أنثى. ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ}. [النساء: 12]. ولقد سبق وقلنا: إن ولد الابن، كالولد، في الإرث والحجب والتعصيب. 2 - الزوجة أو الزوجات: وهي، أو هن، تستحق الربع، إذا لم يكن للزوج ولد، أو ولد ابن، منها، أو منهن، أم من غيرها، أو غيرهن. ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ} [النساء: 12]. قال في الرحبية: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 والربع فرض الزوج إن كان معه ... من ولد الزوجة من قد منعة وهو لكل زوجة أو أكثرا ... من عدم الأولاد فيما قدرا وذكر أولاد البنين يعتمد ... حيث اعتمدنا القول في ذكر الولد أصحاب الثمن وشروط إرثهم له: ويرث الثمن من تركة الميت الزوجة فقط، أو الزوجات، ويشترط لذلك أن يكون للزوج ولد، أو ولد ابن، ذكراً كان، أو أنثى، وذلك بإجماع العلماء. وبدليل قول الله تعالى: {فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم} [النساء: 12]. قال في الرحبية: والثمن للزوجة والزوجات ... مع البنين أو مع البنات أو مع أولاد البنين فاعلم ... ولا تظن الجمع شرطاً فاعلم أصحاب الثلثين وشروط إرثهم له: يرث الثلثين من الورثة أربعة أصناف، ولكل صنف منهم شروط نذكرها فيما يلي: 1 - البنتان فأكثر من أولاد الميت: ويشترط لإرثهما الثلثين شرط واحد، وهو عدم وجود معصب لهن، وهو ابن الميت، ودليل إرثهن الثلثين قول الله تعالى: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] أي اثنتين فما فوق. وقد قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - لبنتي سعد بالثلثين من تركة أبيهما، أخرجه الترمذي (2093) في (الفرائض)، باب (ما جاء في ميراث البنات)، والحاكم (4/ 334) في أول الفرائض. 2 - بنتا الابن، فأكثر: وترثان الثلثين بشرطين: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 أعدم المعصب لهن. ب عدم وجود ولد للميت ذكراً كان أو أنثى. ودليل إرث بنات الابن الثلثين إنما هو القياس على بنات، أو دخولهما في لفظ البنات، بناءً على أن اللفظ يستعمل في حقيقته ومجازه. 3 - الأختان الشقيقتان فأكثر: وهما ترثان الثلثين بثلاثة شروط: أعدم المعصب لهن كأخ. ب عدم وجود فرع وارث للميت ذكراً كان أو أنثى. ج- عدم وجود الأصل الوارث للميت من أب أو جدّ. ودليل إرثهن الثلثين: قول الله تعالى: {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176]. 4 - الأختان لأب فأكثر: ويرثان الثلثين بأربعة شروط، الثلاثة السابقة في الشقيقتين، والشرط الرابع عدم وجود أخ شقيق للميت أو أخت شقيقة. ودليل إرث الأختين لأب الثلثين الإجماع، فإنه منعقد على أن الآية السابقة، إنما نزلت في الأختين الشقيقتين، والأختين لأب، دون الأخوات لأم. روى الترمذي (2098) في الفرائض، باب (ميراث الأخوات)، عن جابر بن عبدالله قال: مرضت، فأتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني، فوجدني قد أغمى على، فأتى ومعه أبو بكر وعمر، وهما ماشيان، فتوضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصب علي من وضوئه فأفقت، فقلت: يا رسول الله، كيف أقضي في مالي؟ أو كيف أصنع في مالي؟ فلم يجبني شيئاً، وكان له تسع أخوات، حتى نزلت آية الميراث، {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} الآية، وتمامها {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176]. قال جابر رضي الله عنه: في نزلت. قال في الرحبية: والثلثان للبنات جمعا ... ما زاد عن واحدة فسمعا وهو كذاك لبنات الابن ... فافهم مقالي فهم صافي الذهن (1) وهو للأختين فما يزيد ... قضى به الأحرار والعبيد (2) هذا إذا كن لأم وأب ... أو لأب فاعمل بهذا تصب أصحاب الثلث وشروط إرثهم له: وأصحاب الثلث صنفان من الورثة، هما: 1 - الأم: وترث الأم الثلث بشرطين: أعدم وجود الفرع الوارث للميت، وذكراً كان أو أنثى، مثل الابن، أو البنت، وابن الابن، وبنت الابن. ب عدم وجود الإخوة، أو الأخوات للميت، اثنين فأكثر، أشقاء، أو لأب، أو لأم. ودليل إرث الأم الثلث بالشروط السابقة قول الله عز وجل: {فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11]. 3 - العدد من الإخوة لأم: إخوة الميت من أمه يرثون الثلث، ماداموا أكثر من واحد، سواء كانوا   (1) صافي الذهن: خالصة من كدورات الشكوك، والذهن: الفطنة، والعقل. (2) قضى به: أفتى به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 ذكوراً، أو إناثاً، أو مختلفين، يقسم الثلث على عدد رؤوسهم بالسوية، لا فرق بين ذكرهم وأنثاهم. والإخوة للأم يستحقون الثلث بشرطين: أعدم وجود الفرع الوارث للميت: كالابن والبنت، وابن الابن، وبنت الابن. ب عدم وجود الأصل الوارث، كالأب، والجد. ودليل إرثهم الثلث قول الله تبارك وتعالى: {فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]. وظاهر التشريك يقتضي التسوية بينهم، كما قلنا. هذا، ويرث الجد الثلث في بعض حالاته مع الإخوة، وسيأتي تفصيل ذلك في باب الجد والإخوة، إن شاء الله تعالى. قال في الرحبية: والثلث فرض الأم حيث لا ولد ... ولا من الإخوة جمع ذو عدد كاثنين أو ثنتين أو ثلاث ... حكم الذكور فيه كالإناث ولا ابن إبن معها أو بنته ... ففرضها الثلث كما بينته وهو للاثنين أو ثنتين ... من ولد الأم بغير مين (1) وهكذا إن كثروا أو زادوا ... فما لهم فيما سواه زاد (2) وتستوي الإٌناث والذكور ... فيه كما قد أوضح المسطور (3) أصحاب السدس وشروط إرثهم له: يرث سدس التركة سبعة أصناف من الورثة، بشروط في كل صنف   (1) بغير مين: بغير كذب. (2) زاد: الزاد: الطعام في السفر، والمراد هنا: الشئ الزائد. (3) المسطور: المكتوب. وهو القرآن الكريم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 منهم: 1 - الأب: ويرث الأب السدس بشرط واحد، وهو وجود الفرع الوارث للميت: كابنه وابنته، وابن ابنه وبنت ابنه. لكنه مع البنت، وبنت الابن يرث السدس بالفرض، وإذا بقي شئ بعد أصحاب الفروض أخذه بالتعصيب، كما سنبينه إن شاء الله تعالى، في موضعه. 2 - الأم: وتأخذ السدس بشرطين: أوجود الفرع الوارث للميت، كما قلنا في الأب. ب وجود عدد من الإخوة، كيف ما كانوا. ودليل إرث الأب والأم للسدس بالشروط المذكورة قول الله عز وجل: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] 3 - الجد أبو الأب: ويرث السدس بالشروط التالية: أوجود الفرع الوارث، كما قلنا في الأب. ب عدم وجود الأب، إذ الأب يحجبه لكونه أقرب إلى الميت منه. ويستدل لتوريث الجد السدس بالإجماع، وبالآية التي دلت على توريث الأب السدس. إذ الجد يسمى أباً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 4 - الجدة، أو الجدات الوارثات: وتستحق الجدة سواء كانت من جهة الأب، أو من جهة الأم السدس، بشرط واحد، وهو أن لا يكون دونها أم. وكذلك تستحق السدس الجدات إذا كن وارثات: فلو مات شخص وخلف جدته أم أبيه، وجدته أم أمه، استحقت الجدتان السدس، ويقتسمانه بينهما بالسويّة. وتزيد الجدة أم الأب أنها يحجبها ابنها، وهو أبو الميت إذا كان حياً، عملاً بالقاعدة (من أدلى إلى الميت بواسطة حجبته تلك الواسطة). ودليل توريث الجدة أو الجدات السدس ما رواه الحاكم (4/ 340) على شرط الشيخين في المستدرك، في (الفرائض)، باب (للجدتين السدس بينهما بالسوية)، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى للجدتين في الميراث بالسدس. وروى الترمذي (2102) في (الفرائض)، باب (ما جاء في ميراث الجدة)، وغيره، عن قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر تسأله ميراثها، قال: فقال لها: ما لك في كتاب الله شئ، وما لك في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شئ، فارجعي حتى أسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنقذه لها أبو بكر، قال: ثم جاءت الجدة جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب تسأله ميراثها، فقال: ما لك في كتاب الله شئ، ولكن هو ذاك السدس، فإن اجتمعتما فيه، فهو بينكما، وأيّتكما خلت به فهو لها. هذا وقد أجمع العلماء أن للجدة السدس إذا انفردت، وإذا اجتمعن، فليس لهن إلا السدس أيضاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 5 - بنت الابن، فأكثر: وترث بنت الابن، أو بنات الابن السدس إذا توفرت ثلاثة شروط: أأن تكون، أو يكن مع البنت الواحدة، من أولاد الميت. ب أن لا يكون للميت ولد ذكر. ج- أن لا يكون معها أو معهن ابن ابن يعصبها، أو يعصبهن، فإذا تحققت هذه الشروط ورثت بنت الابن، أو بنات الابن السدس تكملة الثلثين. ودليل ذلك ما رواه البخاري (6355) في (كتاب الفرائض)، باب (ميراث ابنة ابن مع ابنة)، قال: سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت، فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف، وات ابن مسعود فسيتابعني، فسئل ابن مسعود، وأخبر بقول أبي موسى، فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم -: للابنة النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت. فأتينا أبا موسى، فأخبرنا بقول ابن مسعود، فقال: (لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم). 6 - الأخت من الأب فأكثر: ترث الأخت من الأب أو الأخوات من الأب السدس بالشروط التالية: أأن لا يكون للميت فرع وارث، كالابن وابن الابن، وبنت الابن. ب أن لا يكون له أصل وارث، كالأب والجد أبي الأب. ج- أن لا يكون للميت أخ شقيق. د- أن تكون معها شقيقة واحدة. هـ- أن لا يكون معها أخ لأب يعصبها. فإذا توفرت هذه الشروط ورثت الأخت من الأب، أو الأخوات من الأب السدس، ودليل هذا الحكم الإجماع، والقياس على بنات الابن مع البنت الواحدة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 7 - الأخ من الأم، أو الأخت من الأم: كذلك يرث الأخ لأم أو الأخت لأم السدس بشرطين: أ- أن لا يوجد معه أو معها من يحجبه أو يحجبها من أصل، أو فرع للميت. ب- أن ينفرد وحده، أو تنفرد وحدها، فإذا تعدد ورث الثلث كما سبق بيانه قال تعالى في توريث الأخ لأم أو الأخت لأم السدس: {دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] قال الإمام الرحبي في أصحاب السدس: والسدس فرض سبعة من العدد ... أب وأم ثم بنت ابن وجد والأخت بنت الأب ثم الجده ... وولد الأم تمام العدة (1) فالأب يستحقه مع الولد ... وهكذا الأم بتنزيل الصمد (2) وهكذا مع ولد الابن الذي ... ما زال يقفو إثره ويحتذى (3) وهو لها أيضاً مع الإثنين ... من إخوة الميت فقس هذين (4) والجد مثل الأب عند فقده ... في حوز ما يصيبه ومده (5) وبنت الابن تأخذ السدس إذا ... كانت مع البنت مثالاً يحتذى (6)   (1) العدة: مقدار ما يعد، ومبلغه. (2) الصمد: اسم من أسماء الله تعالى، وهو لغة: السيد الذي يصمد إليه في الحوائج، أي يقصد. (3) يقفو إثره: يتبع حكمه. وجاء في إثره: تبعه عن قرب. ويحتذي: يقتدي به. (4) فقس هذين: أي فقس على الاثنين من الإخوة ما زاد على اثنين. (5) في حوز ما يصيبه: في آخذ ما يخصه. ومدة: ورزقه الموسع. فهو مصدر بمعنى اسم المفعول: أي ممدوده. (6) يحتذى: يقتدي به، ويقاس عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 وهكذا الأخت مع الأخت التي ... بالأبوين يا أخي أدلت والسدس فرض جدة في النسب ... واحدة كانت لأم أو أب وولد تساوي نسب الجدات ... وكن كلهن وارثات فالسدس بينهن بالسوية ... في القسمة العادلة الشرعية أصحاب ثلث الباقي: ويأخذ ثلث الباقي من التركة صنفان من الورثة وهما: 1 - الجد أبو الأب: وذلك في بعض حالاته إذا مع الإخوة الأشقاء، أو الأب، ذكوراً كانوا أو إناثاً. ويأتي هذا الموضوع مفصلاً في مكانه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. 2 - الأم وذلك في المسألتين لعمريتين، أو الغراويتين وسميتا عمرتين، لقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيهما بثلث الباقي للأم. وسميتا غراويتين، لشهرتهما كالكوكب الأغر. والمسألتان العمريتان هما: زوج ... و ... زوجة وأم ... وأم وأب ... وأب فإن الزوج في المسألة الأولى يأخذ النصف، وتأخذ الأم ثلث النصف الباقي، ويأخذ الأب ما بقي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 فإذا كانت التركة ست ليرات مثلاً أخذ الزوج ثلاثاً، والأم ليرة، والأب ليرتين. أما في المسألة الثانية، فإن الزوجة تأخذ الربع، والأم ثلث ما بقي، والأب يأخذ الباقي. فلو كانت التركة اثنتي عشرة ليرة مثلاً، أخذت الزوجة ثلاث ليرات، والأم ثلاث ليرات أيضاً وهي ثلث الباقي، والأب ست ليرات، وهي الباقية. ويلاحظ أن الأم أخذت في المسألة الأولى: السدس، وفي المسألة الثانية الربع، ولكن الفقهاء عبروا عن ذلك بثلث الباقي تأدباً مع القرآن الكريم، فإن الله عز وجل قال: {فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11]. والحكمة من إعطاء الأم ثلث الباقي في هاتين المسألتين: أنها لو أعطيت الثلث كاملاً لزم تفضيلها على الأب في المسألة الأولى، إذ تأخذ سهمين، وهو الثلث، ويأخذ الأب سهماً واحداً، وهو الباقي. أما في المسألة الثانية فإن الأب يفضلها قليلاً، إذ تأخذ الأم أربعة، وهو ثلث التركة، ويأخذ الأب خمسة أسهم، وهي الباقي. والمعهود في الشريعة أن الرجل والمرأة إذا تساويا في الدرجة كان للمرأة في الميراث نصف نصيب الرجل غالباُ، كالبنت مع الابن، والأخت مع الأخ، وهكذا. وبناءً عليه، وتمشياً مع هذه القاعدة أعطيت الأم ثلث الباقي كما قضى عمر رضي الله عنه بذلك، ووافقه جمهور الصحابة. قال الإمام الرحبي في المسألتين العمريتين: وإن يكن زوج وأم وأب ... فثلث الباقي لها مرتب وهكذا مع زوجة فصاعداً ... فلا تكن عن العلوم قاعداً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 الإرث بالتعصيب: قلنا فيما سبق عند تعريف العصبة: إن العصبة، هم قرابة الرجل الذكور، سموا بذلك لإحاطتهم به، وقوته بهم. وقلنا أيضاً: إن العصبة شرعاً: هو من يستحق كل المال إذا انفراد، ويأخذ ما أبقاه أصحاب الفروض بعد أخذهم فروضهم، وإذا لم يبق شئ بعد أصحاب الفروض سقط ولم يستحق شيئاً. والعصبة في اللغة: جمع عاصب، لكن الفقهاء أطلقوا هذا اللفظ على الواحد، لأنه يقوم مقام الجماعة في إحراز جميع المال. قال في الرحبية في تعريف العصبة: فكل من أحرز كل مال ... من القرابات أو الموالي أو كان ما يفضل بعد الفرض له ... فهو أخو العصوبة المفضلة مشروعية الإرث بالتعصيب: لقد دل القرآن الكريم، والسنة الشريفة على مشروعية الإرث بالتعصيب. أما القرآن الكريم فقول الله عز وجل {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [لنساء: 11]. وقوله عز من قائل: {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11]. دلت الآيتان على أن الابن، والأخ يرثان بالتعصيب، وأن كل واحد منهما يعصب أخته. وأما السنة الشريفة، فما رواه ابن عباس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر ". رواه البخاري (6351) في (الفرائض)، باب (ميراث الولد مع أبيه وأمه)، ومسلم (1615) في (الفرائض)، باب (ألحقوا الفرائض بأهلها) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 فالحديث يثبت التعصيب لكل قريب من الرجال، ويدل أيضاً على أنه إذا تعددت العصبات قدم الأقرب منهم إلى الميت. أقسام العصبة: العصبة قسمان عصبة نسبية، وعصبة سببية. أما العصبة السببية : فهم المعتق ذكراً كان أو أنثى، وعصبته المتعصبون بأنفسهم، وهم أقرباء المعتق الذكور، الذين لا يدخل في نسبهم إليه أنثى. ولن نخوض في هذا الموضوع، لأنه لم يعد له وجود في مثل أيامنا، بل أصبح موضوعاً تاريخياً، لا يحتاج إليه كثير من الناس. العصبة النسبية : العصبة بالنسب هم كل الذكور، الذين مر ذكرهم في بحث (الوارثون من الرجال)، ولا يستثنى منهم إلا الزوج، والأخ من الأم، فإنهما من أصحاب الفروض فقط، ولا يكونان عصبة. فالأب، والجد، والابن، وابن الابن، والأخ الشقيق، ومن الأب، وابن الأخ الشقيق، ومن الأب، والعم الشقيق، ومن الأب، وابن العم الشقيق، ومن الأب، فهؤلاء كلهم عصبات، يرث كل واحد منهم بالتعصيب، وإن كان بعضهم يأخذ بالفرض أحياناً، كالأب والجدّ. قال في الرحيبة عند تعداد العصبات من النسب والسبب: كالأب والجد وجد الجد ... والإبن عند فربه والعبد والأخ وابن الأخ والأعمام ... والسيد المعتق ذي الإنعام وهكذا بنوهم جميعاً ... فكن لما أذكره سميعاً أقسام العصبة النسبية : العصبات من جهة النسب ثلاثة أقسام: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 العصبة بالنفس. العصبة بالغير. العصبة مع الغير. وسنذكر كل قسم من هذه الأقسام ببحث مستقل. 1 - العصبة بالنفس: والعصبة بالنفس، هم كل ذي نسب ليس بينه وبين الميت أنثى، ومر ذكرهم، وعددهم نثراً، وشعراً بقول صاحب الرحبية. - جهات العصبة بالنفس : وللعصبة بالنفس أربع جهات: أجهة البنوّة: وهم فروع المورِّث، كالابن وابن الابن، وإن نزل. ب جهة الأبوة: وهم أصول المورث، كالأب والجد أبي الأب. ج- جهة الأخوة: وهم فروع أبي الميت الذين لا يدخل في نسبهم إلى الميت ... أنثى: كالأخ الشقيق والأخ لأب، وابن الأخ الشقيق وابن الأخ لأب. د- جهة العمومة: وهم فروع جد الميت الذكور الذين لا تتوسط بينهم وبين الميت أنثى: كالعم الشقيق، والعم لأب، ابن العم الشقيق، وابن العم لأب. قاعدة توريث العصبة بالنفس: توريث العصبات بالنفس يرتكز على القواعد التالية: ألا يرث فرد من أفراد الجهة المتأخرة، ما دام هناك فرد من أفراد الجهة التي قبله، فلا يرث الآباء بالتعصيب مع وجود الأبناء أو أبناء الابن، ولا يرث الإخوة مع وجود الآباء، ولا الأعمام مع وجود الإخوة. ب إذا اتّحدت جهة القرابة، وكانوا كلهم من جهة واحدة، كالأب والجد، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 أو الابن وابن الابن، أو الأخ وابن الأخ، أو العم وابن العم، فلا يرث الأبعد مع وجود الأقرب، فلا يرث الجدّ مع وجود الأب، ولا ابن الابن مع وجود الابن وهكذا. وبعبارة أخرى لا يرث من أدلى إلى الميت بواسطة مع وجود تلك الواسطة. ج- إذا اتحدت جهة القرابة، واستوي العصبة في الدرجة، ولكن اختلفوا في قوة القرابة من الميت، قدِّم في الإرث الأقوى على الأضعف، فالأخ الشقيق مقدم على الأخ لأب، والعم الشقيق مقدَّم على العم لأب، وهكذا. وقد ذكر الجعبري رحمه الله هذه القواعد بقوله: فبالجهة التقديم ثم بقربه ... وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا د- إذا اتحد الورثة في الجهة، والدرجة، والقوة، استحقوا جميعاً الميراث، واقتسموه بينهم بالسوية: كثلاثة أبناء، أو أربعة إخوة، وهكذا. قال الإمام الرحبي: وما لذي البعدى مع القريب ... في الإرث من حظ ولا نصيب والأخ والعم لأم وأب ... أولى من المدلي بشطر النسب 2 - العصبة بالغير: العصبة بالغير، هي كل أثنى ذات فرض إذا وجد معها أخوها، فإنها تصير عصبة به، كالبنت مع الابن، والأخت الشقيقة مع الأخ الشقيق، وهكذا ويستثنى من هذه القاعدة أولاد الأم، فإن الأخ منهم ليس عصبة بالنفس، ولا يعصب أخته. ويشترط في العصبة بالغير، اتحاد الدرجة وقوة القرابة، فلا تكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 الأخت الشقيقة عصبة مع الأخ لأب، لأنها أقوى منه، ولا تكون البنت عصبة مع من ابن الابن، لأنها أقرب منه. واستثني من قاعدة اتحاد الدرجة بنات الابن، مع ابن ابن ابن أنزل منهن، فإنه يعصبهن، في حالة واحدة، وهي ما إذا احتجن إليه، ويكون ذلك فيما إذا كان للميت بنتان، وبنات ابن، فإن البنتين تأخذان الثلثين، ولا شئ لبنات الابن، فإذا وجد في هذه الحالة بنات ابن، وابن ابن ابن فإنه يعصب بنات الابن، ويأخذ معهن ما بقي من التركة. والعصبة بالغير محصورة في أصحاب الثلثين والنصف مع إخوتهن. وهن: البنات مع الابن. ب بنات الابن مع ابن الابن. ج- الأخوات الشقيقات مع الأخ الشقيق. د- الأخوات لأب مع الأخ لأب. دليل العصبة بالغير: ودليل هذا التعصيب قول الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11]. وقوله تعالى: {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 176]. وقاسوا بنات الابن على البنات، والأخوة رجالاً ونساءً، تشمل الأشقاء، ومن الأب. قال في الرحبية: والابن والأخ مع الإناث ... يعصبانهن في الميراث 3 - العصبة مع الغير: العصبة مع الغير هي الأخت الشقيقة، أو الأخت من الأب، مع البنت، أو بنت الابن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 فإذا ترك الميت بنتين، أختا شقيقة أو لأب، ورثت البنتان الثلثين بالفرض كما سبق، وأخذت الأخت الشقيقة، أو لأب، الثلث الباقي بالتعصيب. ومثل هذا الأخوات الشقيقات أو لأب مع بنت الابن أو بنات الابن. ودليل هذا التعصيب حديث ابن مسعود رضي الله عنه ' فإنه سئل عن بنت، وبنت ابن، وأخت فقال، لأقضين فيها بقضاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، وللأخت ما بقي، رواه البخاري (6355) في (الفرائض)، باب (ميراث ابنة ابن مع ابنة). قال الرحبي: والأخوات إن تكن بنات ... فهن معهن معصبات حالات الأب في الميراث: ذكرنا الأب في الميراث بين أصحاب الفروض، كما ذكرناه أيضاً بين العصبات، لذلك كان له حالات في الميراث نذكرها فيما يلي: الحالة الأولى: الإرث بالفرض وحده: وهذا إذا كان للميت فرع وارث من الذكور، كالابن، أو ابن الابن. الحالة الثانية: الإرث بالتعصيب وحده: وذلك إذا لم يكن للميت فرع وارث أبداً، ذكراً كان، أو أنثى، كابن أو بنت، أو ابن ابن، أو بنت ابن. ودليل الحالة الأولى قول الله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11]. ودليل الحالة الثانية قول الله عز وجل: {فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11]. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 أي ولأبيه الباقي، لأن القرآن لما سكت عن نصيب الأب، تبين أنه يأخذ ما بقي بعد نصيب الأم، وذلك بالتعصيب. الحالة الثالثة: الجمع بين الفرض والتعصيب: وذلك إذا كان معه من ولد الميت أنثى وارثة، كبنت الميت، أو بنت ابنه، واحدة كانت، أو أكثر. فإنه يأخذ السدس بالفرض أولا، ثم يأخذ الباقي بالتعصيب، إن بقي بعد الفروض شئ. ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي، فهو لأولى رجل ذكر ". رواه البخاري (6351) في (الفرائض)، باب (ميراث الولد مع أبيه وأمه)، ومسلم (1615) في (الفرائض)، باب (ألحقوا الفرائض بأهلها). الأب في مسألتنا أقرب رجل ذكر، حيث يأخذ السدس أولاً بالفرض، تأخذ الأنثى من ولد الميت نصيبها، ويأخذ الأب ثانية الباقي بالتعصيب. حالات الجد في الميراث: ذكرنا أيضاً الجد بين أصحاب الفروض، كما ذكرناه مع العصبات لذلك كان له نفس حالات الأب، فهو يرث بالفرض وحده، كما يرث بالتعصيب وحده، ويجمع بين الفرض والتعصيب كالأب تماماً، لكنه يخالف الأب في بعض الحالات. الحالات التي يخالف فيها الجد الأب: يختلف الجد عن الأب في الميراث في الحالات الثلاث التالية: الأولى: وهي ما إذا كان مع الجد أخوة للميت، أشقاء، أو الأب، ذكوراً، أم إناثاً، فإن الأب يحجبهم جميعاً، أما الجدّ، فإنه يشاركهم في الميراث، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 الثانية: في المسألتين العمريتين، فإنه لو كان مكان الأب جد، فإن الأم تأخذ ثلث المال كاملاً، لا ثلث الباقي، كما تأخذ مع الأب. الثالثة: وهي أن الأب يحجب أم نفسه، والجد لا يحجبها. فلو كان للميت أب، وجدّة هي أم الأب، فإن هذه الجدّة محجوبة من الميراث بالأب، ولا يحجبها الجد، لأنها لم تدل به إلى الميت. نعم هو كالأب، في انه يحجب أم نفسه، لأنها تدلى به، كما أدلت أم الأب بالأب. والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 الحَجبُ تعريف الحجب: الحجب لغة: المنع، تقول حجبه إذا منعه من الدخول، ومنه: حاجب الملك، لمنعه الناس من الدخول عليه. والمحجوب، والممنوع، ومنه قول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]. والحجب شرعاً: منع من قام به سبب الإرث من الإرث بالكلية، أو من أوفر حظية. وبناء على هذا التعريف، فإن منع من لم يقم به سبب الإرث من الإرث لا يسمى حجباً اصطلاحاً. أقسام الحجب: ينقسم الحجب إلى قسمين: حجب بالأوصاف، وحجب بالأشخاص. 1 - الحجب بالأوصاف: الحجب بالأوصاف، ويعني منع من قام به سبب الإرث، من الإرث بالكلية، بسبب وصف قام به فمنعه من الإرث. والأوصاف التي تمنع من الإرث، وهي تلك الأوصاف التي مرّ ذكرها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 في بحث موانع الميراث، وهي: الرِّقّ، والقتل، والكفر، وقد سبقت مستوفاة بأدلتها، ويسمى المحجوب بالوصف، محروماً. 2 - الحجب بالأشخاص: الحجب بالأشخاص يعني شخص من الميراث أو من بعضه لقيام شخص أقرب منه إلى الميت. أقسام الحجب بالأشخاص: الحجب بالأشخاص قسمان: حجب حرمان، وحجب نقصان. 1 - حجب الحرمان: حجب الحرمان: هو منع الشخص من الميراث بالكلية، مثل حجب ابن الابن بالابن. 2 - حجب النقصان: وحجب النقصان: هو منع الشخص من أوفر حظيه. مثل حجب الزوج من النصف على الربع، لوجود ولد للزوجة. الأشخاص الذين لا يحجبون حجب حرمان: لا يحجب حجب حرمان ستة من الورثة، وهم: الأب، والأم، والابن، والبنت، والزوج، والزوجة. ومن عدا هؤلاء فإنهم يحجبون حجب حرمان. من يحجب حجب حرمان من الورثة؟ قلنا: إن من عدا الستة الذين ذكرناهم من الورثة يحجبون حجب حرمان، وإليك بيان حجبهم: 1 - الجد، وهو محجوب عن الميراث بالأب مطلقاً، أي سواء كان هذا الجد وإرثاً بالفرض، أو بالتعصيب، أو بهما. وذلك أن الأب أقرب إلى الميت، من الجد، والجد إنما أدلى إلى الميت بالأب، ومن أدلى إلى الميت بواسطة حجبته تلك الواسطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 2 - الجدة، فإنها تحجب بالأم، سواء كانت جدة من جهة الأب، أو جدة من قبل الأم. أضف إلى ذلك أن الجدة أم الأب تحجب أيضاً بالأب، لأنها أدلت إلى الميت به. 3 - الجدة البعيدة من جهة الأب، إذا كان للميت جدتان، وقد اختلف نسبهما من حيث الجهة، والدرجة، وذلك بأن كانت إحداهما من جهة الأب، والأخرى من جهة الأم، وكانت إحداهما أقرب إلى الميت من الأخرى، كأم أم، وأم أم أب، فإن القريبة من جهة الأم تحجب البعيدة من جهة الأب قطعاً، وتأخذ السدس وحدها، لأن لها قوتين، قرب الدرجة، وكونها من جهة الأم، لأن الأم هي الأصل، والجدّات فرع لها. وإن كانت الجدة من جهة الأب، هي القريبة، والتي من جهة الأم هي بعيدة: كأم أب، وأم أم أم، فإن الأظهر في مذهب الشافعي أنها لا تحجبها، بل ترثان معاً السدس، لأن الأب لا يحجبها في هذه الحالة، فالجدّة التي تدلي به أولى أن لا تحجبها. قال في الرحيبة: وإن تكن قربي لأم حجبت ... أم أب بعدى وسدساً سلبت وإن تكن بالعكس فالقولان ... في كتب أهل العلم منصوبان لا تسقط البعدى على الصحيح ... واتفق الجل على التصحيح (1) 4 - ولد الابن، ويحجب أولاد الابن ذكوراً كانوا أم أناثاً، بالابن، سواء كان أباهم، أو عماً لهم، لإدلائهم به، أو لأنه عصبة أقرب منهم. وهذا حكم مجمع عليه بين العلماء.   (1) الجل: المعظم من أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 وهكذا كل ولد ابن، يحجب من هو أبعد منه. وتزيد بنات الابن أنهن يحجبن بالبنتين إلا إذا كان معهن من يعصبهن من أبناء الابن سواء كان في درجتهن، أو هو أسفل منهنّ. 5 - الإخوة والأخوات من كل الجهات، ويحجب الإخوة والأخوات سواء كانوا من الأبوين، أو من الأب، أم من الأم: أبالأب. ب والابن. ج- وابن الابن. وهذا حكم ثابت بإجماع العلماء، لأن جهة البنوة والأبوة مقدمة على جهة الأخوة. ويستثنى من هذا الجدّ، فإنه لا يحجب الأخوة الأشقاء والأخوات الشقيقات، وكذلك الأخوة لأب، والأخوات لأب، بل يرث وإياهم، لكونهم سواء في القرب إلى الميت، وهم أيضاً لم يدلوا به إلى الميت. وهذا ويزيد الأخوة لأب، والأخوات لأب أنهم يحجبون أيضاً بالأخ الشقيق، وبالأخت الشقيقة إذا كانت مع البنت أو بنت الابن، لأنها تصير عصبة مع الغير، وتصبح كالأخ الشقيق. والأخوات لأب يحجبن أيضاً، بالأختين الشقيقتين، إلا إذا كان معهن أخ لأب، فإنه يعصبهن ويرثن معه. أما الأخ لأم، فإنه يحجب، إضافة إلى الأب، والابن، وابن الابن أبالبنت. ب وبنت الابن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 ج- والجد. وكل هذا بالإجماع. أما الأم فلا تحجب الأخ لأم، وإن أدلى بها، لأن شرط حجب المدلي بالمدلي به: إما اتحاد جهتهما، كجدّ مع الأب، والجدّة مع الأم، أو استحقاق المدلي به كل التركة لو انفرد، كالأخ من الأم يرث بالأخوة، والأم لا تستحق جميع التركة إذا انفردت، بل تأخذ الثلث فقط. 6 - أبناء الإخوة الأشقاء أو الأب، وأبناء الأخوة سواء كانوا أشقاء، أو لأب فإنهم يحجبون: أ- بالأب، لأنه يحجب آباءهم، فحجبه لهم أولى. ب- الجد، لأنه في درجة آبائهم. ج- الابن، لأنه يحجب آباءهم فحجبه لهم أولى. د- ابن الابن، كذلك. هـ- الأخ الشقيق، لكونه أقرب منهم. والأخ لأب، أيضاً لكونه أقرب منهم. وابن الأخ لأب يزيد على هذا أنه يحجبه ابن الأخ الشقيق، لكونه أقوى منه. أما أولاد الإخوة من الأم، فإنهم من ذوي الأرحام، لا يرثون بالفرض. 7 - العم الشقيق، أو الأب، والأعمام الأشقاء أو الأب يحجبهم: أ - الأب. ب- الجد. ج- الابن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 د- ابن الابن وإن سفل. هـ- الأخ الشقيق. والأخ لأب. ز- ابن الأخ الشقيق. ح- ابن الأخ لأب. ط- الأخت الشقيقة، إذا كانت مع البنت أو بنت الابن، لأنها عصبة مع ... الغير، بمنزلة الأخ الشقيق. ي- الأخت لأب، إذا كانت أيضاً مع البنت أو بنت الابن، لكونها عصبة ... مع الغير، كما قلنا في الأخت الشقيقة. 8 - أولاد العم أشقاء كانوا أو لأب، فإنهم يحجبون بكل من ذكرنا، وزيارة على ذلك: أ- العم، سواء كان شقيقاً، أو لأب، وابن العم لأب يحجبه أيضاً ابن ... العم الشقيق. قال الإمام الرحبي في الرحبية: والجد محجوب عن الميراث ... بالأب في أحواله الثلاث وتسقط الجدات من كل جهة ... بالأم فافهمه وقس ما أشبهه وهكذا ابن الإبن بالإبن فلا ... تبغ عن الحكم الصحيح معدلا (1) وتسقط الإخوة بالبنينا ... وبالأب الأدنى كما روينا وببني البنين كيف كانوا ... سيان فيه الجمع والوحدان (2) ويفضل ابن الأم بالإسقاط ... بالجد فافهمه على احتياط (3) وبالبنات وبنات الإبن ... جمعاً ووحداناً فقل لي زدني   (1) معدلاً: ميلاً (2) سيان: سواء (3) احتياط: تثبيت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 ثم بنات الإبن يسقطن متى ... حاز البنات الثلثين يا فتى إلا إذا عصبن الذكر ... من ولد الابن على ما ذكروا ومثلهن الأخوات اللاتي ... يدلين بالقرب من الجهات إذا أخذن فرضهن وافياً ... أسقطن أولاد الأب البواكيا (1) وإن يكن أخ لهن حاضراً ... عصبهن باطناً وظاهراً ابن الأخ لا يعصب أحدا ً ومما ينبغي أن يعلم أن ابن الأخ لا يعصب أخته، سواء كان ابن أخ شقيق، أو ابن أخ لأب، لأن بنت الأخ ليست من الوارثات بالفرض، فلا ترث أيضاً بالتعصيب، بل هي من ذوات الأرحام. قال في الرحبية: وليس ابن الأخ بالمعصب ... من مثله أو فوقه بالنسب الأشخاص الذين يحجبون حجب نقصان: حجب النقصان يصيب كل الورثة: فالزوج يحجب من النصف إلى الربع لوجود الولد. والزوجة تحجب من الربع إلى الثمن لوجود الولد أيضاً، والأم تحجب من الثلث إلى السدس لوجود الولد، أو العدد من الإخوة. وبنت الابن تحجب مع البنت من النصف إلى السدس، والأخت لأب تحجب من النصف إلى السدس مع الأخت الشقيقة، والابن يحجب نقصاناً بمزاحمة ابن آخر له، وهكذا باقي الورثة. المحجوب حجب حرمان يحجب غيره نقصاناً: ومما ينبغي أن يُعلم أن المحجوب حجب حرمان يعد بالنسبة لغيره كأنه موجود، ويحجب غيره حجب نقصان. فلو ترك الميت جداً، وأماً،   (1) وافياً: كاملاً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 وأخوين لأم فإن الأخوين لأم محجوبان بالجد، ومع ذلك، فإنهما يحجبان الأم من الثلث إلى السدس. ومثل ذلك لو مات عن أخ شقيق، وأخ لأب وأم، فإن الأم تأخذ السدس، لوجود عدد من الإخوة، ولو كان الأخ لأب محجوباً بالأخ الشقيق. المحجوب بالوصف وجوده كعدمه: أما المحجوب بالوصف، كالقاتل، أو الكافر، أو الرقيق، فإنه لا يحجب أحداً حجب حرمان، ولا حجب نقصان، بل وجوده وعدم وجوده سواء. فلو كان للميت ابن قاتل وأم، فإن الأم تأخذ الثلث، مع وجود هذا الابن القاتل، لأنه محروم من الميراث، ولذلك لا يحجب أحداً. المسألة المشرَّكة المشركة بفتح الراء، وقيل بكسرها، وقيل فيها المشتركة. سميت بهذا الاسم، لما فيها من التشريك بين الإخوة الأشقاء والإخوة للأم في فرض واحد، وهو الثلث، كما سيأتي بيانه. وأركان هذه المسألة: أربعة: زوج، أم - أو جدة -، أخوة لأم - اثنان فأكثر، ذكور، أو إناث، أو مختلفون - أخ شقيق، فأكثر، ولو كان معه أخت شقيقة، أو أكثر. ومقتضى القواعد التي مر ذكرها، في بحث أصحاب الفروض، وفي بحث العصبات: أن يأخذ الزوج نصف التركة. وتأخذ الأم سدس التركة. ويأخذ أولاد الأم ثلث التركة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 والأخ الشقيق عصبة حسب القواعد المعروفة. وواضح أن أصحاب الفروض قد استغرقوا التركة بفروضهم، ولم يبق للشقيق شئ من التركة، يستحقه بالتعصيب. فالقاعدة أنه يسقط، لأنه لم يبق شئ من التركة، ولقد مر وذكرنا في تعريف العصبة: أنه يأخذ كل المال إذا انفراد، ويأخذ ما أبقت الفروض إذا لم ينفرد، وإذا لم يبق شئ بعد أصحاب الفروض سقط، وبهذا قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما عرضت عليه هذه المسألة. لكن الورثة راجعوا معترضين، وقالوا له: يا أمير المؤمنين هبْ أن أبانا كان حجراً ملقى في اليم، أليست أمنا نحن الإخوة واحدة. وقيل إن الذي قال ذلك لعمر رضي الله عنه هو زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقنع عمر بهذا القول، وقضى بالتشريك بين الإخوة الأشقاء، والإخوة للأم في ثلث التركة، وقسمة عليهم بالسوية كأنهم جميعاً إخوة لأم فقط. ووافق عمر رضي الله عنه جماعة من الصحابة، منهم زيد بن ثابت رضي الله عنه وبهذا المذهب أخذ الإمام الشافعي رضي الله عنه، وهو كما ترى مذهب مقبول يقول به العقل، وتقتضيه العدالة. ولقد أطلق على هذه المسألة اسم اليمية والحجرية أيضاً، لقول الورثة: هب أن أبانا كان حجراً ملقى في اليم. قال في الرحبية: وإن تجد زوجاً وأما ورثا ... وإخوة للأم حازوا الثلثا (1) وإخوة أيضاً لأم وأب ... واستغرقوا المال بفرض النصب (2) فاجعلهم كلهم لأم ... واجعل أباهم حجراً في اليم (3)   (1) حازوا: ضموا وأخذوا. (2) النصب: جمع نصيب. أي بالنصيب المفروض لهم. (3) اليم: البحر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 واقسم على الإخوة ثلث التركة ... فهذه المسألة المشتركة ميراث الجد والإخوة: لقد مر معنا سابقاً حكم الجد، إذا كان منفرداً عن الإخوة الأشقاء، والأخوات الشقيقات، وعن الإخوة من الأب، والأخوات من الأب. كما مر معنا أيضاً حكم الإخوة، إذا لم يكن معهم الجد. وهنا نذكر حكم الجد والإخوة في الميراث، في حالة الاجتماع. إن الجد والإخوة، مجتمعين لم يرد في حكمهم نص من الكتاب، ولا من السنة. وإنما ثبت حكمهم باجتهاد الصحابة رضي الله عنهم. لذلك اختلفت أقوال الصحابة فيهم، وتبعهم في هذا الخلاف أصحاب المذاهب رحمهم الله. ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتهيبون الفتيا في ميراث الجد والإخوة، ويتوقون القول فيه. روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال: (من سره أن يقتحم جراثيم جهنم، فليقض بين الجد والإخوة). [يقتحم: يدخل. جراثيم جهنم: أصول جهنم، وجرثومة الشئ: أصله]. وروي عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (سلونا عن عضلكم، واتركونا من الجد، لا حياة الله ولا بياه). [عضلكم: مشكلات أموركم، جمع عضلة. لا حياة الله: لا ملكه لا بياه: لا أبقاء، ولا اعتمده]. والغرض من ذلك: التضجر من صعوبة حكمه، لا حقيقة الدعاء عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: بعد أن طعنه أبو لؤلؤة، وحضرته الوفاة: (أحفظوا عني ثلاثة أشياء: لا أقول في الجد شيئاً، ولا أقول في الكلالة شيئاً، ولا أولي عليكم أحداً). وأما نحن فلن نخوض في حكم الجد والإخوة مجتهدين، ولا مقتحمين، وإنما نقول ذلك، متبعين مذهب الإمام الشافعي رحمة الله تعالى عليه، وما تقرر عند علماء مذهبه رحمهم الله تعالى أجمعين. فنقول وبالله التوفيق: حالات الجد مع الإخوة في الميراث: للجد مع الإخوة الأشقاء، أو لأب، ذكوراً كانوا أو إناثاً حالتان: الحالة الأولى: أن لا يكون معه ومعهم صاحب فرض، كزوجة، وبنت، أو زوج، وجدة، مثلاً. الحالة الثانية: أن يكون معهم صاحب فرض، كزوجة، وبنت، ونحوهما. أحكام الحالة الأولى: للجد في هذه الحالة، مع الإخوة حكمان، يأخذ بالأفضل له منهما. الأول: ثلث جميع التركة، إذا كان خيراً له. الثاني: المقاسمة، إذا كان ذلك خيراً له من ثلث المال والجد يقاسم الإخوة، كأخ ذكر، ويأخذ معهم مثل حظ الأنثيين. وهذا إذا كانوا أشقاء، أو لأب، ذكروا، أو إناثاً. أما الإخوة من الأم فلا حظ لهم مع الجد في الميراث، بل يحجبهم، وقد مر بيان ذلك في موضوع الحجب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 أفضلية المقاسمة للجد: وتكون المقاسمة أفضل للجد، وأنفع له من الثلث، وذلك فيما إذا كان الإخوة أقل من مثليه، ويصدق هذا في صور، هي: 1 - جد، وأخ، فنصب المال له: ونصفه للأخ. 2 - جد وأخت: له الثلثان، ولها الثلث. 3 - جد وأختان: له النصف، وللأختين النصف. 4 - جد وثلاث أخوات: له خمسان، ولكل واحدة من الأخوات خمس 5 - جد وأخ وأخت: للجد سهمان، وللأخ سهمان، وللأخت سهم واحد. أفضلية الثلث للجدّ: ويكون ثلث التركة أفضل للجد، وأنفع له من المقاسمة، إذا كان الإخوة أكثر من مثليه. ولهذا الحالة صور كثيرة منها: 1 - جد، وثلاثة إخوة، فلو أخذ بالمقاسمة، لكن حظه ربع التركة، وهو أقل من الثلث، فيأخذ الثلث، لأنه أنفع له. 2 - جد وأخ وثلاث أخوات، وكذلك في هذه الصورة يكون الثلث أنفع له، لأنه لو أخذ بالمقاسمة لكان له سبعان من التركة، والثلث أكثر منهما. 3 - جد وخمس أخوات، فالثلث هنا أيضاً أنفع من المقاسمة. والصور في هذا الحكم كثيرة غير منحصرة. استواء المقاسمة وثلث التركة: وهذا إنما يكون حيثما يكون الأخوة مثلي الجد، ويصح هذا في ثلاث صور فقط: 1 - جد وأخوان، فلو أخذ بالقاسمة لكان له ثلث التركة، ولو أخذ بالفرض لأخذ الثلث أيضاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 2 - جد وأربع أخوات، أيضاً في هذه الصورة يستوي ثلث المال مع المقاسمة. 3 - جد وأخ وأختان، للجد في المقاسمة سهمان، وثلث المال سهمان أيضاً، فالمقاسمة إذا وثلث المال سيان. وحين يستوي ثلث المال مع المقاسمة، فالأولى أن يأخذ الثلث بالفرض، لقوة الفرض وتقديمه على العصبة في الميراث. وقيل يرث بالمقاسمة، وقيل يتخير المفتي فيورثه بأيهما شاء. أحكام الحالة الثانية: وهي كما قلنا إذا كان مع الجد والأخوة صاحب فرض، وللجد في هذه الحالة: ثلاثة أحكام، يأخذ منها بالأفضل له: الأول: المقاسمة، إذا كانت أنفع له. الثاني: ثلث الباقي بعد فرض صاحب الفرض وذلك إذا كان أنفع له. الثلث: سدس التركة، إذا كان أفضل له من المقاسمة وثلث الباقي. ولا ينزل نصيب الجد عن السدس ولو اسماً، لا حقيقة. صورة المقاسمة: زوج، وجد، وأخ. فللزوج النصف، ويبقى بعده نصف التركة، فيأخذه الأخ والجد بالتساوي، ويكون نصيب كل واحد منهما ربع التركة، ومعلوم في هذه الصورة أن المقاسمة أنفع للجد من ثلث الباقي بعد فرض الزوج، وأنفع أيضاً من سدس جميع التركة. ولو كان مكان الزوج، زوجة، ومكان الأخ أختين، لكانت المقاسمة أنفع للجد أيضاًُ من ثلث الباقي، ومن سدس المال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 صورة ثلث الباقي: أم، جد، خمسة إخوة. وفي هذه المسألة يتضح أن ثلث الباقي بعد فرض الأم أنفع للجد، لأن الأم إذا أخذت سدساً، وهو فرضها، أي سهم واحد، لبقي خمسة أسهم، فلو أخذ الجد بالمقاسمة لكان له أقل من سهم، ولو أخذ السدس، كان له سهم واحد، لكنه إذا أخذ ثلث الباقي كان له سهم وثلثاً سهم، وواضح أنه أنفع للجدّ وأحسن. صورة السدس: زوج، أم، جد، أخوان. ومعلوم هنا في هذه الصورة أن سدس التركة أنفع للجد وأكثر من المقاسمة، ومن ثلث الباقي. فالزوج له في هذه الصورة نصف التركة، والأم لها السدس، والباقي بعد فرض الزوج والأم هو الثلث، فلو ورث الجد بالمقاسمة لكان له ثلث الثلث، ولو ورث ثلث الباقي لكان له أيضاً ثلث الثلث، ونصيبه في الحالتين يكون أقل من السدس، ولذلك يفرض له السدس، ويبقى السدس الباقي بين الأخوين لكل واحد منهما نصف السدس. صورة استواء المقاسمة وثلث الباقي: بالإضافة إلى الصورة السابقة، يمكن أن تستوي بالنسبة للجد المقاسمة وثلث الباقي في الصورة التالية أيضاً، وهي: أم، جد، أخوان. فللأم السدس، وللجد ثلث الباقي، وللأخوين الباقي. فلو فرضنا التركة ثمانية عشر، لكان نصيب الأم ثلاثة أسهم، والباقي خمسة عشر سهماً، فلو أعطينا الجد ثلثها لكان نصيبه خمسة أسهم، ولو أعطيناه بالمقاسمة لكان أيضاً خمسة أسهم، فهنا إذاً يستوي في هذه الصورة بالنسبة للجد المقاسمة وثلث الباقي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 صورة استواء المقاسمة والسدس: زوج، جدة، جد، أخ. فللزوج النصف، وللجدة السدس، والباقي بعد فرضهما ثلث التركة، وهو سهمان من ستة أسهم، فلو أعطيناه بالمقاسمة، لكان نصيبه سهماً وللأخ سهم، ولو أعطيناه سدس التركة، لكان نصيبه سهماً أيضاً، فاستوي إذا السدس والمقاسمة. صورة استواء السدس وثلث الباقي: زوج، جد، ثلاثة أخوة. فللزوج النصف، والباقي بعد فرضه النصف، فلو فرضنا المسألة من ستة، كان نصيب الزوج ثلاثة، والباقي ثلاثة، فلو أعطينا الجد السدس، لكان نصيبه واحداً، ولو أعطيناه ثلث الباقي، لكان نصيبه واحداً أيضاً، فاستوي بالنسبة له في هذه الصورة السدس وثلث الباقي كما هو واضح. صورة استواء السدس وثلث الباقي والمقاسمة: زوج، جد، أخوان. فللزوج النصف، وللجد من الأخوين النصف الآخر، فلو أعطينا الجد بالمقاسمة لكان نصيبه واحداُ، لو فرضنا المسألة من ستة أسهم، ولو أعطيناه السدس لكان نصيبه أيضاً واحداً، ولو أعطيناه ثلث الباقي لأخذ واحداً أيضاً. الجد لا ينزل عن السدس: لقد قلنا سابقاً إن الجد مع الإخوة لا ينزل نصيبه عن السدس، فلو أنه لم يبق بعد أصحاب الفروض إلا السدس لأخذه الجد، وسقط الإخوة. وصورة ذلك: بنتان، أم، جد، أخ. ففي هذه الصورة تأخذ البنتان الثلثين، وتأخذ الأم السدس، ويأخذ الجد السدس الباقي، ويسقط الأخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 ولو بقي بعد أصحاب الفروض أقل من السدس، أخذ الجد أيضاً السدس اسماً، وتعول المسألة، وصورة ذلك: زوج، بنتان، جد، أخ. فللزوج الربع، وللبنتين الثلثان، ويبقى بعدهما أقل من السدس، فيأخذ الجد سدسه عائلاً، كما يأخذ كل واحد من أصحاب الفروض فرضه عائلاً. والعول سيأتي معنا إن شاء الله تعالى. وهو زيادة في سهام أصل المسألة، ولكن يلزم منه نقص في نصيب كل وارث. فإذا لم يبق شئ من التركة بعد أصحاب الفروض، فرض أيضاً للجد سدس التركة، وتعول المسألة، ويسقط الأخ. وصورة ذلك: بنتان، زوج، أم، جد، أخ. وللبنتين الثلثان، وللزوج الربع، وللأم السدس، وللجد السدس، وليس للأخ شئ، والمٍسألة أيضاً عائلة، فيأخذ كل وارث نصيبه من المسألة عائلاً أيضاً. اختلاف الجد عن الإخوة: قلنا فيما سبق: إن الجد مع الإخوة أشقاء أو الأب ذكوراً وإناثاً يعتبر كأخ في الحكم، ويعصب الإناث، ويأخذ مثل حظ الأثنيين إذا كان ذلك خيراً له. لكنه يخالف الأخوة في حالة واحدة، وهي ما إذا كان معه أم وأخ، فإن الأم هذه الصورة تأخذ ثلث التركة، لا سدسها، كما لو كان بدل الجد أخ. فالأخوان يحجبان الأم من الثلث إلى السدس، ولا يحجبها من الثلث إلى السدس جد وأخ، فالجد إذا في هذه الصورة، لا يشبه الأخ، بل يختلف عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 وكذلك: زوجة، وأم، وجد، وأخت. تأخذ الزوجة الربع، والأم الثلث كاملاً، والباقي يأخذه الجد والأخت مقاسمة للذكر مثل حظ الأثنيين. اجتماع الإخوة الأشقاء والإخوة لأب مع الجد: قد يجتمع في المسألة مع الجد، أخوة أشقاء، وأخوة لأب، سواء كان معهم صاحب فرض، أو لم يكن. فالحكم في هذه الحالة: أن يعد الإخوة الأشقاء إلى جانبهم الإخوة لأب، لينقصوا بذلك نصيب الجد، ثم يعود الأشقاء إلى الإخوة لأب، فيحجبونهم، كما لو لما يكن معهم جد، وتسمى هذه المسائل، بمسائل المعادة. ومثال ذلك: جد، أخ شقيق، أخ لأب. فالأخ الشقيق، يعد إلى جانبه الأخ الأب، فينقص بذلك نصيب الجد من النصف بالمقاسمة إلى الثلث. ثم يحجب الأخ الشقيق الأخ لأب، لقوته ويأخذ نصيبه. ومثل تلك الصورة، صورة ما إذا كان في المسألة مع الجد والأخوة صاحب فرض، وصورة ذلك: جد، وزوجة، وأخ شقيق، وأخ لأب. فللزوجة الربع، ويعد الأخ الشقيق الأخ لأب على الجد، فيأخذ الجد ثلث الباقي، لا ستوائه مع المقاسمة، ويأخذ الباقي الأخ الشقيق، ولا شئ للأخ لأب وإذا كان مع الجد أخت شقيقة، أو أخوات شقيقات، أخوة أو أخوات لأب، فالحكم كذلك، أن الشقيقة، أو الشقيقات، وتعد الأخوة والأخوات لأب على الجد. لكن الأمر يختلف هنا عما سبق أن الأخت الشقيقة تأخذ إلى النصف، والأخوات الشقيقات يأخذن إلى الثلثين، فإن بقي بعد ذلك شيء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 أخذه الإخوة لأب، وإذا لم يبق سقط الأخوة لأب، سواء كانوا ذكوراً، أو إناثاً. مثال ما إذا لم يبق بعد الشقيقات شئ للأخوة لأب: جد، أختان شقيقتان، أخ لأب. للجد في هذه المسألة ثلث المال، وهو يستوي مع المقاسمة، ويبقى الثلثان، تأخذهما الشقيقتان، ويسقط الأخ للأب، لأنه لم يبق له شئ. مثال آخر: زوجة، جد، أخت شقيقة، أخوان لأب. وللزوجة في هذه المسألة الربع، والأحظ للجد فيها ثلث الباقي، فيبقى بعد الربع وثلث الباقي نصف المال، فتأخذه الشقيقة، ولا شئ للأخوين للأب. وإذا بقي للشقيقة بعد نصيب الجد، أقل من نصف التركة، أخذته، ولا شئ لها. مثال ذلك: زوج، جد، أخت شقيقة، أخوان لأب. للزوج هنا النصف، وإذا عدت الأخت الشقيقة الأخوين لأب على الجد، كان الأحظ للجد السدس، أو ثلث الباقي، ويبقى بعد النصف، والسدس ثلث المال، فتأخذه الشقيقة، وهو اقل من النصف، أما الأخوان لأب، فيسقطان، لأنه لم يبق لهما شئ من التركة. هذا، وقد يبقى للأخوة للأب شئ، بعد نصيب الشقيقة، أو الشقيقات، فيأخذونه. مثال ذلك: الزيديات الأربع نسبة لزيد بن ثابت رضي الله عنه: وهي: الأولى: وتسمي المسألة العشرية، لصحتها من عشرة: جد، أخت شقيقة، أخ لأب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 والأحظ للجد في هذه المسألة المقاسمة، فيأخذ سهمين، والأخ للأب يأخذ أيضاً سهمين، وتأخذ الشقيقة سهماً، لكن الشقيقة ترجع إلى الأخ لأب، وتسلبه نصيبه بعد أن عدته على الجد، ولا تبقي له منه إلا ما فضل عن نصف التركة. فإذا فرضنا التركة عشرة، أخذ الجد أربعة أسهم، والشقيقة خمسة أسهم، وهي النصف، وبقي للأخ لأب سهم واحد، بعد نصف الشقيقة، فيأخذه. الثانية: المسألة العشرينية ، لصحتها من عشرين. وهي: جد، وأخت شقيقة، وأختان لأب. وفي هذه المسألة، المقاسمة خير للجد، فيأخذ به. والأخت الشقيقة بعد عد الأختين لأب على الجد تأخذ النصف والباقي للأختين للأب، فلو فرضنا المسألة من عشرين، لكان نصيب الجد ثمانية أسهم، ونصيب الشقيقة عشرة أسهم، ويبقى سهمان، لكل أخت من الأب سهم واحد. الثالثة: وتسمى مختصرة زيد، وهي: أم، جد، أخت شقيقة، أخ لأب، أخت لأب. فالأم تأخذ سدس المال، لوجود عدد من الأخوة، والجد يستوي في حقه المقاسمة، وثلث الباقي بعد نصيب الأم، فيأخذ ثلث الباقي، وتعد الشقيقة الأخ والأخت للأب على الجد، ثم تأخذ النصف، والباقي للأخ والأخت للأب: للذكر مثل حظ الأنثيين. فلو فرضا المسألة (54) سهماً، لكان نصيب الأم (9) أسهم، وهي السدس، ونصيب الجد (15) سهماً، وهي ثلث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 الباقي، ونصيب الشقيقة بعد عد الأخ لأب والأخت لأب (27) سهماً هي نصف التركة، ويبقى بعد نصيب الأم، والجد، والشقيقة، (3) أسهم، للأخ لأب سهمان، وللأخت لأب سهم واحد. الرابعة: وتسمى تسعينية زيد، لصحتها من تسعين، وهي: أم، جد، أخت شقيقة، أخوان لأب، أخت لأب. وللأم السدس، وللجد ثلث الباقي بعد فرض الأم، فهو أحظ له من المقاسمة ومن السدس. وتعد الأخت الشقيقة الإخوة لأب إلى جانبها، كما قلنا، ثم تأخذ النصف، وتترك الباقي للإخوة للأب، فلو فرضنا المسألة (90) سهماً، لكان نصيب الأم (15) سهماً، وهي السدس، ونصيب الجد (25) سهماً هي الثلث الباقي بعد نصيب الأم، ونصيب الأخت الشقيقة (45) سهماً، هي نصف التركة، والباقي خمسة أسهم، يأخذ كل أخ لأب سهمين، وتأخذ الأخت لأب سهماً واحداً. قال الإمام الرحبي رحمه الله تعالى في الجد والإخوة: واعلم بأن الجد ذو أحوال ... أنبيك عنهن على التوالي (1) يقاسم الإخوة فيهن إذا ... لم يعد القسم عليه بالأذى (2) فتارة يأخذ ثلثاً كاملاً ... إن كان بالقسمة عنه نازلا إن لم يكن هناك ذو سهام ... فاقنع بإيضاحي عن استفهام هذا إذا ما كانت المقاسمة ... تنقصه عن ذاك بالمزاحمه   (1) أنبيك: أخبرك. (2) بالأذى: بالنقص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 وتارة يأخذ ثلث الباقي ... بعد ذوي الفروض والأرزاق (1) وتارة يأخذ سدس المال ... وليس عنه نازلاً بحال وهو مع الإناث عند القسم ... مثل أخ في سهمه والحكم إلا مع الأم فلا يحجبها ... بل ثلث المال لها يصحبها واحسب بني الأب مع الأعداد ... وارفض بني الأم مع الأجداد (2) واحكم على الإخوة بعد العد ... حكمك فيهم عند فقد الجد المسألة الأكدرية قال العلماء: إن الأخت، شقيقة كانت أم لأب، لا يفرض لها مع الجد في غير مسائل المعادة التي سبق ذكرها، إلا في المسألة الأكدرية. وصورة هذه المٍسألة: هي: زوج، أم، أخت، - شقيقة، أم لأب -، جد. وسميت هذه المسألة بهذا الاسم، قيل: لأنها كدرت على زيد بن ثابت رضي الله عنه مذهبه، وقيل: لأن الميتة كانت من أكدر. والله اعلم. ففي هذه المٍسألة، يأخذ الزوج النصف، وهو فرضه، وتأخذ الأم الثلث، وهو فرضها أيضاً، ويبقى بعد فرض الزوج، والأم، السدس، فينبغي أن يأخذه الجد، لأنه - كما قلنا سابقاً - لا ينزل عن السدس. وكان القياس بعد هذا أن تسقط الأخت، لأنها لم يبق لها شئ، شأنها في ذلك شأن الشقيق، لو كان مكان الأخت الشقيقة. لكن علماء الشافعية، فرضوا للأخت في المسألة النصف، لأنها بطلت عصوبتها بالجد، ولا حاجب يحجبها، غير أنهم رأوا بعد هذا أن يضموا نصيبها إلى نصيب الجد، ثم يقسموا النصيبين بينهما، لها، الثلث، وله الثلثان. عملاً بمبدأ التعصيب بينهما. وإنما حكموا بهذا كي لا تأخذ   (1) الأرزاق: جمع رزق، وهو ما ينتفع به. (2) وارفض: واترك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 الأخت ثلاثة أمثال الجد. وهذا أمر ممتنع، لأنهما في درجة واحدة بالنسبة للميت، فعلوا ذلك رعاية للجانبين. وعلى هذا، يأخذ الزوج النصف، والأم الثلث، والجد السدس، والأخت النصف، وبهذه الفروض تعول المسألة، ويزاد في سهامها. فالنصف للزوج ثلاثة أسهم، والثلث للأم سهمان، والسدس للجد سهم واحد، والنصف للأخت ثلاثة أسهم، وبهذا تبلغ الأسهم تسعة. ثم يعود الجد والأخت إلى المقاسمة، فيقتسمان الأربعة أسهم بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين. فإذا صححنا المسالة من سبعة وعشرين، كان نصيب الزوج نصفاً عائلاً، وهو تسعة أسهم، وللأم ثلث عائل، وهو ستة أسهم، والباقي اثنا عشر سهماً، أربعة للأخت، وثمانية للجد، عملاً بمبدأ التعصيب، وهو أصل ميراث الأخت مع الجد. والله أعلم. قال في الرحبية: والأخت لا فرض مع الجد لها ... فيما عدا مسالة كملها زوج وأم وهما تمامها ... فاعلم فخير أمة علامها (1) تعرف يا صاح بالأكدريه ... وهي بأن تعرفها حرية (2) فيفرض النصف لها والسدس له ... حتى تعول بالفروض المجمله (3) ثم يعودان إلى المقاسمة ... كما مضى فاحفظة واشكر ناظمه   (1) خير أمة: أكمل جماعة. علامها: أعلمها. (2) يا صاح: يا صحبي. حرية: حقيقة وجديرة. (3) المجملة: المجتمعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 ميراث الخنثى المشكل تعريف الخنثى المشكل: الخنثى لغة مأخوذ من الانخناث، وهو: التثني والتكسر، أو من: خنث الطعام إذا اشتبه أمره، فلم يخلص طعمه. والمشكل: مأخوذ من شكل الأمر شكولاً، وأشكل: إذا التبس. والخنثى المشكل اصطلاحاً: هو آدمي له ألة ذكورة، وألة أنوثة، أو له ثقبة لا تشبه واحدة منهما، يخرج منها البول. أقسام الخنثى: الخنثى: قسمان: خنثى مشكل، خنثى غير مشكل. الخنثى غير المشكل هو من ترجحت فيه صفة الذكورة، أو صفة الأنوثة، وذلك كأن تزوج فولد له ولد، فهذا رجل قطعاً، أو تزوج فحملت، فهي أنثى قطعاً. أما الخنثى المشكل فهو الذي لم تتضح ذكورته، من أنوثته. والفقهاء يذكرون في الخنثى علامات يترجح بها ذكورته، أو أنوثته، ولو كان ذلك بعد البلوغ. فإذا أمنى مثلاً تبين أنه ذكر، وإذا حاض علم أنه أنثى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 وإن ظهر ميله للنساء، ترجح أنه ذكر، وإن غلب ميله إلى الرجال، كان أنثى غالباً. واليوم وبعد أن تقدم الطب، قل احتمالات أن يبقى أحد خنثى مشكلاً، وأصبح باستطاعة الطب غالباً أن يكشف أمره. لكن لنفرض أن الخنثى كان من الإشكال بحيث أعجز الأطباء، فهذا إذا هو الخنثى المشكل. حكم الخنثى المشكل في الميراث: والخنثى ما دام مشكلاً لا يكون أباً ولا أماً، ولا جداً ولا جدة، لأنه لو كان واحداً من هؤلاء، لكان واضحاً، ونحن نفرض أنه مشكل. وكذلك لا يكون زوجاً ولا زوجة، لأنه لا تصح مناكحته ما دام مشكلاً. فالخنثى المشكل إذاً منحصر في أربع جهات: هي: البنوة، والأخوة، والعمومة، والولاء. وإليك بيان ذلك: 1 - الخنثى المشكل إن كان لا يختلف نصيبه من الميراث على اعتبار ذكورته، وأنوثته، ولا يختلف أيضاً نصيب الورثة معه على كلا الاعتبارين، فإن التركة تجري قسمتها على طبيعتها، كما مر معنا. وصورة ذلك: أن يكون الورثة: أما، أخاً شقيقاً ن أخا لأم خنثى. ففي هذه الصورة يجري تقسيم التركة، كأن لم يكن فيها خنثى، لأن الخنثى، لا يختلف نصيبه، سواء كان ذكراً، أو أنثى. فيأخذ السدس على كل حال، لأن ولد الأم له السدس، سواء كان ذكراً أو أنثى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 وتأخذ الأم السدس، لوجود عدد من الإخوة، ويأخذ الأخ الشقيق الباقي بالتعصيب. 2 - وإذا كان الخنثى يرث على فرض ذكورته، أو أنوثته، ولا يرث على الفرض الآخر، فإنه والحالة هذه لا يعطى من التركة شيئاً حتى يستبين حاله، أو يتصالح مع الورثة. وكذلك إذا كان بعض الورثة يرث على فرض دون فرض، فإنه أيضاً لا يعطي شيئاً من التركة. فلو ترك الميت: زوجة، وعماً، وولد أخ خنثى. ففي هذه المسألة تأخذ الزوجة الربع، وهي في نصيبها هذا لا تتأثر فالخنثى كيفما كان حاله. أما العم، فلا يعطي شيئاً الآن، لاحتمال أن يكون ولد الأخ ذكراً، فيحجب العم. ولا يعطى ولد الأخ الخنثى شيئاً أيضاً لاحتمال أن يكون أنثى، فلا ترث، لأن بنت الأخ ساقطة. وهكذا يتضح أنه يوقف في هذه المسألة ثلاثة أرباع التركة، فإن ظهر الخنثى ذكراً أخذه، وإن ظهر أنثى أخذه العم. 3 - وإذا اختلف نصيب الخنثى بين الذكورة والأنوثة، وكذلك أيضاً اختلف نصيب الورثة معه، وعلى كلا التقديرين، فالحكم أن يعامل الخنثى، ومن معه من الورثة بالأضر، والأقل من ذكورة الخنثى وأنوثته، فيعطى كل واحد الأقل المتيقن، عملاً باليقين، ويوقف الباقي، إلى أن يتضح حال الخنثى المشكل، فيعمل بحسبه، أو إلى أن يصطلح هو والورثة. فلو مات شخص عن، ابن، وولد خنثى مشكل. فإنه بتقدير ذكورة الخنثى، يكون المال بينه وبين الابن بالسوية، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 لكل واحد منهما نصف المال لأنهما أخوان ذكران، وبتقدير أنوثته، يكون للخنثى الثلث، وللابن الثلثان، فيقدر الخنثى أنثى في حق نفسه، فيأخذ الثلث فقط، ويقدر ذكراً في حق الابن، فيأخذ الابن النصف، لأنه متيقن به، ويوقف السدس الباقي بينهما حتى يتضح حال الخنثى المشكل، فإن ظهر ذكراً أخذه، وإن ظهر أنه أنثى أخذه الابن، وإن لم يظهر أمره اصطلح هو والابن عليه. قال صاحب الرحبية رحمه الله تعالى: وإن يكن في مستحق المال ... خنثى صحيح بين الإشكال (1) فاقسم على الأقل واليقين ... تحظ بالقسمة والتبيين (2)   (1) بين: ظاهر. الإشكال: الالتباس، وأشكل الأمر: التبس. (2) اليقين: المتيقن، وهو الأقل. تحظ: تنل. والتبيين: التوضيح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 المفقود تعريف المفقود: المفقود في اللغة: مأخوذ من: فقدت الشئ، إذا عدمته. وهو في الاصطلاح: من غاب عن وطنه، وطالت غيبته، وانقطع خبره، وجهل حاله، فلا يعرف أحي هو، أو ميت؟ أحكام المفقود: للمفقود أحكام مختلفة بحسب النواحي المتعلقة به: الناحية الأولى: بالنسبة لزوجته. الناحية الثانية: بالنسبة لأمواله الثابتة له. الناحية الثالثة: بالنسبة لإرثه من غيره. أما الناحية الأولى: فإنه ليس لزوجة المفقود أن تنكح غيره، حتى يتيقن موته، لأن الأصل بقاء حياته، ولا يصار إلى غيره إلا بيقين. روى الشافعي رحمه الله عن على رضي الله عنه قال: (امرأة المفقود ابتليت فلتصبر، ولا تنكح حتى يأتيها) يعني موته. ومثل هذا لا يقال إلا عن توقيف. أما الناحية الثانية: وهي بالنسبة لأمواله الثابتة له قبل غيابه أو ما جد أثناء ذلك. فالحكم أنه لا يقسم شئ من ماله حتى تقوم بينة بموته، أو تمضي مدة، يعلم أو يغلب على الظن أن المفقود لا يعيش فوقها، وهي مدة ليست الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 مقدرة بأمد معين، وعندها يجتهد القاضي، ويحكم بموته اجتهاداً. أما قبل ذلك، فلا يصح التصرف بشئ من ماله، لأن الأصل بقاء الحياة، فلا يورث إلا بيقين. فإذا حكم القاضي بموته، فإنه يعطي ماله إلى من يرثه عند إقامة البينة بموته، أو عند الحكم بموته، فمن مات من أقربائه قبل ذلك، ولو بلحظة لم يرث منه شيئاً، لجواز موته في تلك اللحظة. أما الناحية الثالثة: فهي المقصودة في أبحاث الفرائض، وهي ما يتعلق بإرثه من غيره، ممن يموت أثناء غيابه. أحكام المفقود في الميراث: إن المفقود يعتبر حياً، ما لم تقم بينة على موته، أو يقض قاض بموته، بعد مرور وقت يغلب على الظن موته فيه، وبناءً على ذلك، يفرز له نصيبه من تركة مورثه، حتى يتبين خلاف ذلك. وأحكام المفقود في الميراث، ومن حيث إرثه، وإرث من معه من ورثة الميت تشبه إلى حد كبير أحكام الخنثى المشكل. 1 - فمن كان من الورثة، يرث بكل من تقديري حياة المفقود، وموته، ولا يتأثر نصيبه أيضاً بحياته، أو موته، أعطى نصيبه كاملاً، بقطع النظر عن حكم المفقود. فلو ترك الميت: زوجة، وأباً، وابناً، وأخاً مفقوداً. فإن الورثة يأخذون أنصباءهم، لأن المفقود هنا محجوب بالأب والابن، ولا يتأثر أحد من الورثة به حياً، أو ميتاً. فتأخذ الزوجة الثمن، والأب السدس، ويأخذ الابن ما بقي تعصيباً. ولو مات عن: زوجة، ابن، وابن مفقود. فإن الزوجة تأخذ نصيبها، وهو الثمن، لأنها لا تتجاوزه سواء كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 المفقود حياً، أو ميتاً، لوجود ابن آخر للميت، أما الابن فيأخذ نصف الباقي بعد الزوجة، ويوقف للمفقود النصف الآخر منه. 2 - وإن كان في الورثة من لا يرث في أحد التقديرين، فإنه لا يعطى شيئاً، لاحتمال كون المفقود حياً. ومثال ذلك، ما لو مات أحد عن: عم، ابن مفقود. فإن العم في هذه الصور، لا يرث، بتقدير حياة المفقود، لأنه محجوب به، ويوقف المال حتى يظهر الحال. وكذلك لو ترك الميت: بنتين، وبنت ابن، وابن ابن مفقود. فإن بنت الابن لا تعطى شيئاً، لا حتمال أن يكون المفقود ميتاً، فتحجب بنت الابن بالبنتين، فتأخذ البنتان الثلثين، ويبقى الثلث موقوفاً، حتى يتبين الحال. 3 - ومن كان يختلف نصيبه من الورثة باعتبار حياة المفقود وموته، فإنه يعطي الأقل عملاً بالأحوط. وصورة ذلك، ما لو مات شخص عن: أم، أخ حاضر، أخ مفقود. فإن الأم في هذه الصورة تعطى السدس، لاحتمال أن يكون الأخ المفقود حياً. فلو فرضنا التركة ستة أسهم، فإن الأم تأخذ سهماً واحداً، عملاً بالأحوط، وهو الأقل في حقها، ويأخذ الأخ الحاضر سهمين، وهو الأقل في حقه أيضاً، ويوقف ثلاثة أسهم، فإن ظهر أنه ميت، أخذت الأم سهماً آخر، وأخذ الأخ الحاضر سهمين آخرين، وإن ظهر أنه حي، لم يأخذ الأم شيئاً زائداً على السهم الذي أخذته، وإنما يأخذ الأخ الحاضر، نصف سهم، ويأخذ المفقود سهمين، ونصف السهم. قال في الرحبية: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 واحكم على المفقود حكم الخنثى ... إن ذكراً كان أو هو أنثى ميراث الحمل إن الميت إذا كان من ورثته حمل، فلا شك أنه يحسب حسابه في الميراث، فيوقف له نصيبه من التركة حتى يظهر حاله، لانفصاله حياً، أو ميتاً ويعامل الورثة بالأضر، من تقادير وجود الحمل، وعدم وجوده، وموته وحياته، وذكورته وأنوثته، وإفراده وتعدده، فيعطى كل واحد من الورثة المتقين من نصيبه، ويوقف الباقي إلى ظهور حال الحمل. مثال ذلك، ما لو خلف الميت: زوجة حاملاً. فلها بتقدير عدم الحمل، وانفصاله ميتاً الربع، ولها بتقدير انفصاله حياً، سواء كان ذكراً أو أنثى، واحداً أو متعدداً، الثمن، فتعطى الزوجة الثمن، لأنه المتقين أنه لها، ويوقف الباقي إلى ظهور حال الحمل. فإن ظهر الحمل ذكراً، أخذ الباقي، بالتعصيب. وإن ظهر أنه أنثى أخذت النصف، ورد عليها الباقي إن لم يكن بيت المال منتظماً، وإن كان منتظماً ورث بيت المال الباقي بعد فرضها وفرض الزوجة، وإن ظهر الحمل ذكراً أو أنثى، استحقا الباقي مثل حظ الأنثيين. وفي كل هذه الاحتمالات، لا يتغير نصيب الزوجة، حيث تظل على ثمن التركة، ما دام الحمل قد انفصل عن أمه، وبه حياة مستقرة فإن ظهر أن الحمل ميت، أو مات قبل تمام انفصاله، أو انفصل وفيه حياة غير مستقرة، لم يرث الحمل شيئاً، لأن من شرط إرثه، أن ينفصل حياً، حياة مستقرة، وعندئذ يكمل للزوجة نصيبها، وهو الربع، لعدم وجود الفرع الوارث للميت، ويكون الباقي لذوي الأرحام إن كان بيت المال غير منتظم أو يكون الباقي بعد فرض الزوجة لبيت المال إن كان منتظماً. ولو خلف: زوجة حاملاً، وأباً، وأماً. فالأضر في حق لزوجة والأبوين أن يكون الحمل عدداً من الإناث، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 حتى يدخل عليهم العول، فتنقص فروضهم بسبب هذا العول، فتنقص فروضهم بسبب هذا العول، فتعطى الزوجة ثمناً عائلاً، وهو ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين سهماً، ويعطي الأب سدساً عائلاً، وهو أربعة أسهم، ومن سبعة وعشرين سهماً، وتعطي الأم مثل الأب. ويبقى ستة عشر سهماً إلى ظهور الحمل. قال في الرحبية: وهكذا حكم ذوات الحمل ... فابن على اليقين والأقل ميراث الغرقى ونحوهم إذا مات متوارثان، فأكثر، بحادث مفاجئ، كهدم أو غرق، أو حرق، أو حرب، أو غير ذلك، ولم يعلم عين السابق منهما موتاً، فلا توارث بينهما، بل يعاملون في الميراث كأنهم أجانب، لا قرابة بينهم، ولا توارث، وإنما يرث كل واحد منهم باقي ورثته، لأن شرط الإرث تحقق حياة الوارث بعد موت المورث، ولم يوجد هذا الشرط، في هؤلاء الذين ماتوا في مثل تلك الحوادث. فلو مات أخوان شقيقان غرقاً، أو تحت هدم، ولم يعلم أيهما مات أولاً، وترك أحدهما: زوجة، وبنتاً، وعمّاً. وترك الآخر: بنتين، وعما، هو نفسه في المسألة السابقة. فلا يرث أحد الأخوين من الآخر شيئاً، بل تقسم تركة الأول على ورثته، فتعطى زوجته الثمن، وبنته النصف، ويعطى عمه الباقي. وتقسم تركة الأخ الثاني بين ورثته أيضاً، فتعطى لبنتيه الثلثين، ولعمه الباقي. هذا الحكم إنما هو فيمن ماتوا، ولم يعلم السابق منهم، أو علم - أنهم ماتوا معاً. أو علم سبق أحدهما لا بعينه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 أما إذا علم عين السابق موتاً منهما، ثم نسي، فإن المال يوقف، ولا تقسم التركة حتى تذكر عين السابق، لأن ذلك ممكن، وليس ميؤوساً من تذكره، أو يوقف المال إلى أن يتم التصالح بين الورثة. قال في الرحبية: وإن يمت قوم بهدم أو غرق ... أو حادث عم الجميع كالحرق (1) ولم يكن يعلم عين السابق ... فلا تورث زاهقاً من زاهق (2) وعدهم كأنهم أجانب ... فهكذا القول السديد الصائب (3) ميراث ولد الزنى العلماء متفقون على أن ولد الزنى يثبت نسبه من أمه قطعاً، ولا يثبت نسبه من أبيه الزاني، لأن نسبه منه غير مقطوع به، ولأن الشرع الحنيف، لم يعتبر الزنى طريقاً مشروعاً لاتصال الرجل بالمرأة، وثبوت النسب إليه. وعلى هذا فلا توارث بين ولد الزنى وبين أبيه، وقرابة أبيه. أما بالنسبة لأمه، فقد ذهب جمهور العلماء إلى ثبوت التوارث بينه وبينها، وكذلك بينه، وبين قرابة أمه. فإذا مات ولد الزنى، ورثته أمه، وأقرباؤها، وهو أيضاًً يرث من أمه ومن أقربائها، لأن صلته بأمه مؤكدة، لاشك فيها، والأمومة - ولو كانت غير مشروعة - تثبت الجزئية بين الأم وولدها، وثبوت الجزئية يؤدى إلى ثبوت التوارث. إرث ولد اللعان اللعان: بالنسبة للولد أن ينفي الزوج نسب ولد زوجته منه، بالأيمان المعروفة.   (1) الهدم: بفتح فسكون، السقوط. تقول: هدمت البنتان هدماً: أسقطته. وبفتح الدال: اسم للبناء المهدوم. الغرق: الهلاك بالماء. يقال غرق في الماء غرقاً. الحرق: النار. (2) زاهقاً: ذاهباً وهالكاً. (3) السديد: الصواب. الصائب: المصيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 وهي أن يقول أربع مرات: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنى، وإن هذا الولد الذي ولدته هو من الزنى، وليس مني. ويقول في الخامسة: إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنى، وفي نفيه الولد عن نفسه. ودليل هذا اللعان، قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ {6} وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 6 - 7]. وإذا تم اللعان، ونفي الولد، فقد انقطع نسب هذا الولد من هذا الزوج. فلا توارث بينهما، وحكمه في ذلك حكم ولد الزنى. أما نسبه من أمه، فثابت قطعاً. وحكم إرثه منها، ومن أقربائها حكم ولد الزنى، فلو ماتت ورثها، وإذا مات، ورثت منه هي وأقاربها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 علم الحساب في الفرائض قلنا في أول بحث الفرائض: إن تعريف الفرائض اصطلاحاً: هو فقه المواريث، وعلم الحساب الموصل لمعرفة ما يخص كل ذي حق من التركة. وكان كل ما سبق من أبحاثنا في هذا العلم إنما هو في فقه المواريث؛ من أصحاب الفروض، والعصبات، والحجب وغير ذلك من المباحث التي مرت في هذا العلم. أما الآن، فإننا سننتقل إلى الجزء الثاني من التعريف، وعلم الحساب الذي نتوصل به لمعرفة ما يخص كل ذي حق من التركة. تعريف الحساب: الحساب في اللغة: مصدر حسب يحسب، بفتح السين بالماضي، وضمها بالمضارع، تقول: حسب الشيء يحسبه إذا عده، ويأتي مصدره على وزن فعلان: كحسبان. ومنه قوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] أي: بحساب دقيق. والعاد هو الحاسب، والمعدود: هو المحسوب. وأما حسب يحسب، بكسر السين في الماضي، وكسرها وفتحها في المضارع، فهو بمعنى ظن. والحساب اصطلاحاً: علم بأصول يتوصل بها إلى استخراج المجهولات العددية. والمراد بالحساب في علم الفرائض: معرفة تأصيل المسائل وتصحيحها، ومعرفة قسمة التركة بين الورثة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 وأصل كل مسألة؛ هو أقل عدد يصح منه فرضها، أو فروضها. وتصحيح كل مسألة؛ هو أقل عدد يتأتى منه نصيب كل واحد من الورثة صحيحاً من غير كسر. أصول المسائل: علمت فيما مضى أن الفروض المقدرة في كتاب الله تعالى، ستة، وهي قسمان: 1 - النصف ... 4 - الثلثان 2 - الربع ... 5 - الثلث 3 - الثمن ... 6 - السدس. ومخرج كل فرض من هذه الفروض سميه: فمخرج الثلث ... : 3 ومخرج الربع ... : 6 ومخرج الربع ... : 4 ومخرج الثمن ... : 8 إلا النصف فمخرجه ... : 2 ونبحث الآن؛ بعد هذا التقديم، في أصول المسائل، لمعرفة سهام كل وارث، من التركة من غير كسر. قلنا فيما سبق: إن أصل كل مسألة، هو أقل عدد يصح منه فرضها، أو فروضها. هذا إذا كان في المسألة صاحب فرض، أو أصحاب فروض. أما إذا تمحضوا ذكوراً، وكانوا كلهم عصبات، قسم المال بينهم بالسوية، وكانت المسألة من عدد رؤوسهم، وإذا اجتمعوا ذكوراً وإناثاً: كابنين وبنتين، قدر كل ذكر أنثيين، وعدد رؤوسهم بعد هذا التقدير هو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 أصل مسألتهم، وعلى هذا المبدأ يقسم المال بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، عملاً بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11]. نقول بعد هذا: إن أصول المسائل المتفق عليها في الفرائض سبعة: هي: اثنان، ثلاثة، أربعة، ستة، ثمانية، اثنا عشر، أربعة وعشرون. - فكل مسألة فيها سدس (6/ 1) وما بقي: أصلها ستة، مثال هذا: 6 6/ 1 ... أم ... 1 ع ... ابن ... 5 فالأم فرضها السدس، لوجود الفرع الوارث، فتأخذ سهماً واحداً من ستة. والابن عصبة يأخذ الباقي وهو خمسة أسهم من ستة. ومعلوم أن علماء الفرائض يرمزون للعصبة بحرف العين (ع). ومثال آخر: 6 6/ 1 ... أم ... 1 6/ 1 ... أب ... 1 ع ... ابن ... 4 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 وشرح هذه المسألة كسابقتها. وإذا كان مع السدس (6/ 1): نصف (2/ 1)، أو ثلث (3/ 1)، أو ثلثان (3/ 2) كان أصلها كذلك ستة، وصورتها: 6 6/ 1 ... أم ... 1 2/ 1 ... بنت ... 3 ع ... عم ... 2 فالأم لها السدس، وهو واحد من ستة، والبنت لها النصف، وهو ثلاثة من ستة، والعم يأخذ الباقي تعصيباً، وهو اثنان. 6 6/ 1 ... أم ... 1 3/ 2 ... بنتان ... 4 ع ... عم ... 1 6 6/ 1 ... أم ... 1 3/ 1 ... أخوان لأم ... 2 ع ... عم ... 3 مثال آخر: - وكذلك إذا كان في المسألة نصف، وثلث، فهي أيضاً أصلها من ستة، مثالها: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 6 2/ 1 ... زوج ... 3 3/ 1 ... أم ... 2 ع ... عم ... 1 هذه المسائل الستة أصلها كلها ستة، كما رأيت. فكل مسألة إذا فيها سدس، أو سدس ونصف، أو سدس وثلث، أو سدس وثلثان، أو سدس ونصف وثلث أصلها ستة. - وكل مسألة فيها ربع (4/ 1)، وسدس (6/ 1)، فأصلها من اثني عشر (12). وصورة ذلك: 12 4/ 1 ... زوج ... 3 6/ 1 ... أم ... 2 ع ... ابن ... 7 الزوج أخذ الربع لوجود الفرع الوارث للميت، والربع: (3) أسهم من (12) سهماً أصل المسألة، وأخذت الأم السدس، سهمين، وأخذ الابن الباقي بالتعصيب، وهو (7) أسهم. - وكذلك إذا كان مع الربع ثلث، أو ثلثان، فأصلها من اثني عشر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 مثال الثلث مع الربع: 12 4/ 1 ... زوجة ... 3 3/ 1 ... أم ... 4 ع ... عم ... 5 ومثال الثلثين مع الربع: 12 4/ 1 ... زوج ... 3 3/ 2 ... بنتان ... 8 ع ... عم ... 1 نصيب الزوج في هذه المسألة الربع لوجود البنتين، ونصيب البنتين الثلثان، والعم يأخذ الباقي بالتعصيب. - وكل مسألة فيها ثمن (8/ 1)، وسدس (6/ 1)، فأصلها من أربعة وعشرين (24). وصورة ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 24 8/ 1 ... زوجة ... 3 6/ 1 ... أم ... 4 ع ... ابن ... 17 - وكل مسألة فيها نصف، وما بقي، فأصلها اثنان، مثالها: 2 2/ 1 ... زوج ... 1 ع ... عم ... 1 وكذلك إذا كان فيها، نصف، ونصف، فأصلها اثنان، مثالها: 2 2/ 1 ... زوج ... 1 2/ 1 ... أخت شقيقة ... 1 - وكل مسألة فيها ثلث، وما بقي، فأصلها ثلاثة، مثالها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 3 3/ 1 ... أم ... 1 ع ... عم ... 2 أو فيها ثلثان، وما بقي، فأصلها أيضاً ثلاثة، وصورة ذلك: 3 3/ 2 ... بنتان ... 2 ع ... عم ... 1 أو فيها ثلث، وثلثان، فأصلها ثلاثة، مثال ذلك: 3 3/ 1 ... أختان لأم ... 1 3/ 2 ... أختان لأب ... 2 - وكل مسألة فيها ربع (4/ 1)، وما بقي فأصلها من أربعة، ومثالها: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 4 4/ 1 ... زوج ... 1 ع ... ابن ... 3 أو فيها ربع ونصف، فهي أيضاً من أربعة، مثال ذلك: 4 4/ 1 ... زوج ... 1 2/ 1 ... بنت ... 2 ع ... عم ... 1 - وكل مسألة فيها ثمن (8/ 1)، وما بقي، فأصلها من ثمانية، مثال ذلك: 8 8/ 1 ... زوجة ... 1 ع ... ابن ... 7 أو فيها ثمن (8/ 1)، ونصف (2/ 1)، وما بقي، فأصلها أيضاً ثمانية، مثال ذلك: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 8 8/ 1 ... زوجة ... 1 2/ 1 ... بنت ... 4 ع ... عم ... 3 أقسام أصول المسائل: ينقسم أصول المسائل السبعة التي عرفتها إلى قسمين: الأول: يطرأ عليه العول. والأصول التي تعول هي: (6)، (12) (24). والثاني: لا يدخله عول أبداً. والأصول التي لا تعول هي: (2)، (3)، (4)، (8). ودليل عول تلك، وعدم عول هذه إنما هو استقراء المسائل، فبعد استقراء العلماء لمسائل الفرائض تبين لهم ذلك، فحكموا به. تعريف العول : العول في اللغة، يأتي بمعنى الارتفاع، والزيادة، كما يأتي بمعنى الميل والجور، وتجاوز الحد، ومنه قول الله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} [النساء: 3]. أي أقرب إلى عدم الجور والظلم. والعول اصطلاحاً: زيادة مجموع السهام عن أصل المسألة، ويلزم منه نقصان من مقادير أنصباء الورثة من التركة. دليل مشروعية العول: لم يقع العول في مسائل الفرائض في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا في زمان أبي بكر - رضي الله عنه -. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 وأول من قال بالعول، ووقع في زمانه، عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. فقد وقعت في عهده مسألة ضاق أصلها عن فروضها، فشاور - رضي الله عنه - الصحابة فيها، فأشار عليه زيد بن ثابت - رضي الله عنه - بالعول فوافق ذلك رأي عمر - رضي الله عنه -، وقال: (والله ما أدري أيكم قدم الله، وأيكم أخر، وما أجد شيئاً هو أوسع لي أن أقسم المال عليكم بالحصص). فأدخل على كل ذي حق ما دخل عليه من عول الفريضة، وقد وافقه الصحابة رضي الله عنهم، وبه أخذ جمهور العلماء، ومنهم الشافعي رحمه الله تعالى، وسيأتي كثير من صور المسائل التي فيها عول إن شاء الله تعالى. الأصول التي تعول، ومدى عولها: قلنا: إن أصول المسائل التي تعول هي: 6، 12، 24. عول الستة: تعول الستة، إلى (7، 8، 9، 10). مثال عولها إلى سبعة: 7 عول 6 2/ 1 ... زوج ... 3 3/ 2 ... أختان شقيقتان ... 4 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 فالزوج له النصف، والشقيقتان لهما الثلثان، فأصل المسألة ستة، وتعول إلى سبعة. ومثال عولها إلى ثمانية: 8 عول 6 2/ 1 ... زوج ... 3 3/ 2 ... شقيقتان ... 4 6/ 1 ... أم ... 1 للزوج النصف ثلاثة، وللشقيقتين الثلثان أربعة، وللأم السدس واحد. فأصل المسألة ستة، وقد عالت فروضها إلى ثمانية. ومثال عولها إلى تسعة: 9 عول 6 2/ 1 ... زوج ... 3 3/ 2 ... أختان لأب ... 4 3/ 1 ... أختان لأم ... 2 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 للزوج النصف ثلاثة، وللأختين لأب الثلثان أربعة، وللأختين لأم الثلث اثنان، فأصل المسألة من ستة، وتعول إلى تسعة. مثال عولها إلى عشرة: 10 عول 6 2/ 1 ... زوج ... 3 3/ 2 ... شقيقتان ... 4 3/ 1 ... أختان لأم ... 2 6/ 1 ... أم ... 1 للزوج النصف، وللشقيقتين الثلثان، وللأختين لأم الثلث، وللأم السدس، فأصل المسألة ستة، وتعول إلى عشرة. عول الاثنى عشر: ويعول الأصل الإثنا عشر إلى (13 - 15 - 17). ومثال عولها إلى (13): 13 عول 12 4/ 1 ... زوجة ... 3 3/ 2 ... شقيقتان ... 8 6/ 1 ... أخت لأم ... 2 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 للزوجة الربع، وللشقيقتين الثلثان، وللأخت لأم السدس، أصل المسألة (12)، وتعول إلى (13). مثال عولها إلى (15): 15 عول 12 4/ 1 ... زوجة ... 3 3/ 2 ... شقيقتان ... 8 3/ 1 ... أختان لأم ... 4 مثال عولها إلى (17): 17 عول 12 4/ 1 ... زوجة ... 3 3/ 2 ... شقيقتان ... 8 3/ 1 ... أخوان لأم ... 4 6/ 1 ... أم ... 2 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 للزوجة الربع (3)، وللشقيقتين الثلثان (8)، وللأخوين لأم الثلث (4)، وللأم السدس (2). وأصل المسألة (12)، وتعول إلى (17). عول الأربعة والعشرين: ويعول هذا الأصل إلى (27) فقط. مثال ذلك: 27 عول 24 8/ 1 ... زوجة ... 3 3/ 2 ... بنتان ... 16 6/ 1 ... أب ... 4 6/ 1 ... أم ... 4 للزوجة الثمن (3)، وللبنتين الثلثان (16)، وللأب السدس (4)، وللأم السدس (4)، فأصل المسألة (24)، وقد عالت إلى (27). القاعدة في استخراج أصول المسائل: الطريقة العملية لاستخراج أصول المسائل إنما تتم، وفق الترتيب التالي: 1 - أن تكون المخارج في المسألة متماثلة، مثل (6/ 1، 6/ 1) كأب، وأم، وابن. فيؤخذ أحد المتماثلات، ويجعل أصلاً للمسألة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 6 6/ 1 ... أب ... 1 6/ 1 ... أم ... 1 ع ... ابن ... 4 2 - أن تكون المخارج في المسألة متداخلة، وذلك، بأن يكون بعضها أكبر من بعض، ويكون الأكبر منها ينقسم على الأصغر، مثل (3/ 1 - 2/ 1 - 6/ 1)، فإن الثلاثة، والاثنين، تدخلان في الستة. وكذلك مثل (2/ 1 - 8/ 1)، فإن الاثنين تدخل في الثمانية. 8 8/ 1 ... زوجة ... 1 2/ 1 ... بنت ... 4 ع ... عم ... 3 ففي حالة التداخل، يؤخذ المخرج الأكبر، ويجعل أصلاً للمسألة: 6 3/ 1 ... أخوان لأم ... 2 2/ 1 ... أخت لأب ... 3 6/ 1 ... أم ... 1 8 1/ 8 ... زوجة ... 1 1/ 2 ... بنت ... 4 ع ... عم ... 3 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 3 - أن تكون المخارج في المسألة متوافقة، وذلك بأن تكون تقبل القسمة على عدد معين مثل: 8/ 1، 6/ 1، بينهما توافق بالنصف، لأن كلاً منهما يقبل القسمة على اثنين. ففي حالة التوافق يؤخذ وفق أحد المخرجين، وهو نصفه مثلاً في المثال السابق، ويضرب بكامل المخرج الآخر، ويكون الحاصل هو أصل المسألة، ففي مثالنا السابق يضرب نصف الثمانية بكامل الستة، أو نصف الستة بكامل الثمانية، والحاصل وهو: (24) يكون أثل المسألة، وصورة ذلك: 24 6/ 1 ... أم ... 4 8/ 1 ... زوجة ... 3 2/ 1 ... بنت ... 12 ع ... عم ... 5 فالمخرج اثنان يدخل في كل من الستة، والثمانية، فنتركه، ونأخذ الأكبر منه. والمخرج ستة وثمانية ليسا متداخلين، بل هما متوافقان، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 بالنصف، فيؤخذ نصف أحدهما ويضرب به كامل الآخر، فيكون الناتج هو أصل المسألة، كما هو موضح في صورة المسألة السابقة. 4 - أن تكون المخارج متباينة، وذلك بأن تكون غير متماثلة، ولا متداخلة، ولا متوافقة، مثل (4/ 1 - 3/ 1)، فبين المخرجين 3 - 4 تباين، لأنهما غير متماثلين، ولا يقبل أحدهما القسمة على الآخر، ولا يقبلان القسمة على عدد واحد. ففي هذه الحالة يضرب كامل أحدهما بكامل الآخر، ويكون الحاصل هو أصل المسألة. وصورة هذا: 12 4/ 1 ... زوجة ... 3 3/ 1 ... أم ... 4 ع ... عم ... 5 فبين الربع نصيب الزوجة، وبين الثل نصيب الأم تباين، فيضرب أحدهما بالآخر، ويكون الحاصل أصل المسألة، كما هو مبين في صورة المسألة السابقة. تصحيح المسائل، وطريقة ذلك: قلنا فيما سبق: إن تصحيح المسألة: هو أقل عدد يتأتى منه نصيب كل واحد من الورثة صحيحاً دون كسر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 وهنا نقول: إذا كانت المسألة تصح من أصلها، وذلك بأن كان نصيب كل فريق من الورثة منقسماً على عدد رؤوسهم، فإنه والحالة هذه، يقتصر في القسمة على أصل المسألة، ولا تحتاج إلى تصحيح، بل يعطى كل وارث سهمه كاملاً من أصل المسألة، إن لم تكن المسألة عائلة، أ, يعطي نصيبه من عولها، إذا كانت عائلة. فلو كان لدينا مثلاً مسألة فيها: 12 4/ 1 ... ثلاث زوجات ... 3 3/ 1 ... أم ... 4 ع ... خمسة أعمام ... 5 فأصل هذه المسألة (12)، وذلك بضرب مخرج الربع بمخرج الثلث، لأنهما متباينان، فيضرب ثلاثة في أربعة، فيتحصل اثنا عشر، هو أصل المسألة، وهذه المسألة، تصح من أصلها، إذ ينقسم نصيب كل فريق من الورثة على عدد رؤوسهم من غير كسر. فتأخذ الزوجات الربع ثلاثة أسهم، وهي منقسمة عليهم، إذ لكل زوجة سهم. وتأخذ الأم الثلث، أربعة أسهم. ويأخذ الأعمام الباقي تعصيباً، وهو خمسة أسهم، وهي منقسمة عليهم، إذ يأخذ كل عم سهماً واحداً. وهكذا كل مسألة تصح من أصلها، لا تحتاج إلى تصحيح، لأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 التصحيح عندئذ تطويل من غير فائدة. وكذلك إذا عالت المسألة، وانقسم عولها على الورثة، فإنها لا تحتاج إلى تصحيح أيضاً. وصورة ذلك: 17 عول 12 6/ 1 ... جدتان ... 2 4/ 1 ... ثلاث زوجات ... 3 3/ 1 ... أربع أخوات لأم ... 4 3/ 2 ... ثمان أخوات لأب ... 8 فهذه المسألة أصلها من (12) أخذاً من ضرب نصف مخرج الربع، وهو اثنان، بكامل مخرج السدس، وهو ستة، لأن بين المخرجين توافقاً في النصف، وتعول المسألة إلى سبعة عشر. فتأخذ الجدتان السدس عائلاً، وهو سهمان من سبعة عشر سهماً، لكل جدة سهم. وتأخذ الزوجات الربع عائلاً، وهو ثلاثة أسهم من سبعة عشر سهماً، لكل زوجة سهم. وتأخذ الأخوات لأم الثلث عائلاً، وهو أربعة أسهم من سبعة عشر سهماً، لكل أخت سهم. وتأخذ الأخوات لأب الثلثين عائلاً، وهو ثمانية أسهم من سبعة عشر سهماً، لكل واحدة منهن سهم. وتعرف هذه المسألة في الفرائض: (بأم الأرامل). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 أما إذا كانت سهام كل فريق من أصل المسألة، أو من عولها، لا تنقسم على عدد رؤوسهم قسمة صحيحة من غير كسر، فإن المسألة - والحالة هذه - يجب تصحيحها، وذلك برفع أصلها إلى أقل عدد يتأتى منه نصيب كل فريق من الورثة صحيحاً من غير كسر. وتصحيح المسألة إنما يتم وفق الترتيب التالي: 1 - أن يكون الانكسار في المسألة على فريق واحد من الورثة، مثال ذلك: (جزء السهم) ... (أصل) ... (تصحيح) 3× ... 6 ... 18 6/ 1 ... أم ... 1 ... 3 6/ 1 ... أب ... 1 ... 3 ع ... ثلاثة أبناء ... 4 ... 12 فإن المسألة من ستة، لتماثل مخرجيها، للأب السدس واحد، وللأم السدس واحد، والباقي للأبناء، وهو أربعة أسهم وهي غير منقسمة على ثلاثة أبناء قسمة صحيحة من غير كسر، وعندئذ نحتاج إلى تصحيح المسألة، وذلك بأن ننظر بين سهام هذا الفريق، وعدد رؤوسهم. فإما أن يكون بين عدد الرؤوس والسهام تباين، أو توافق. ولا اعتبار هنا للتداخل، والتماثل، لأن السهام عندئذ تكن منقسمة. فإذا كان بين عدد الرؤوس والسهام تباين، فإننا نضرب أصل المسألة بعدد الرؤوس، وحاصل الضرب يكون هو تصحيح المسألة، كما في المسألة السابقة، ضربنا أصل المسألة (6) بعدد رؤوس الأبناء الثلاثة (6×3=18) = هو تصحيح المسألة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 ويسمى عدد الرؤوس جزء السهم. ثم نضرب بجزء السهم هذا نصيب كل فريق من الورثة، ومنه ينقسم نصيب ذلك الفريق على عدد رؤوسه. فلما كان نصيب الأبناء الثلاثة في المسألة (4) وهي غير منقسمة عليهم، فإننا نضربها بجزء السهم، وهو ثلاثة عدد الرؤوس، وحاصل الضرب، يساوي (12) وهي منقسمة عليهم، إذ يكون نصيب كل ابن (4) أسهم. أما إذا كان بين عدد الرؤوس، وبين السهام توافق فإننا نأخذ وفق الرؤوس، ونضرب به أصل المسألة، فمنه تصح المسألة. ثم نضرب بذلك الوفق نصيب كل فريق من الورثة، فينقسم على عدد رؤوسهم. ومثال ذلك: (جزء السهم) ... (أصل) ... (تصحيح) 2× ... 6 ... 12 2/ 1 ... زوج ... 3 ... 6 6/ 1 ... جدة ... 1 ... 2 ع ... أربعة أعمام ... 2 ... 4 ففي هذا المثال كان أصل المسألة (6) لأن بين مخرجي النصف والسدس تداخلاً، فنأخذ المخرج الأكبر وهو (6) ونجعله أصل المسألة. ونصيب الزوج (3) أسهم من ستة، وهي النصف، ونصيب الجدة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 السدس، وهو سهم واحد، ونصيب الأعمام السهمان الباقيان، تعصيباً، وهما غير منقسمين على رؤوس الأعمام الأربعة، لذلك صححنا المسألة، بضربها بوفق رؤوس الأعمام (2)؛ إذ بين الرؤوس وبين السهام توافق ضربنا بجزء السهم، وهو وفق الرؤوس، نصيب كل فريق من الورثة، فانقسمت بذلك السهام على عدد الرؤوس. 2 - أن يكون الانكسار في المسألة على أكثر من فريق أي على فريقين من الورثة، أو ثلاثة، أو أربعة، ولا يكون الانكسار في مسائل الفرائض على أكثر من ذلك. وهنا من أجل تصحيح المسألة، لابد من النظر بين رؤوس كل فريق، وسهامه. ثم نحفظ رؤوس كل فريق عند المباينة، أو وفقها عند الموافقة. ثم بعد هذا ننظر بين هذه المحفوظات بالنسب الأربع: التماثل، والتداخل، والتوافق، والتباين، فإن تماثلت أخذنا مثلاً واحداً، وضربنا به أصل المسألة وإن تداخلت أخذنا الأكبر منها، وضربنا به أصل المسألة. وإن توافقت، أخذنا الوفق وضربنا به كامل العدد الآخر، وضربنا بالحاصل أصل المسألة. وإذا تباينت ضربنا الرؤوس بعضها ببعض، ثم ضربنا بالحاصل أصل المسألة، ومنه تصح تلك المسألة. ونذكر لهذه الصور أمثلة توضحها: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 المثال الأول: تماثل عدد الرؤوس: (جزء السهم) ... (أصل) ... (تصحيح) 5× ... 6 ... 30 6/ 1 ... أم ... 1 ... 5 3/ 1 ... خمسة أخوة لأم ... 2 ... 10 ع ... خمسة أعمام ... 3 ... 15 ففي هذه المسألة، كان الانكسار على فريقين: الإخوة لأم، والأعمام. أصل المسألة من ستة، وذلك لتداخل مخرجيها (3/ 1 - 6/ 1). نصيب الأم السدس (1)، ونصيب الإخوة لأم الثلث (2) وهو غير منقسم عليهم، ونصيب الأعمام الباقي تعصيباً (3) وهو أيضاً غير منقسم عليهم. وبعد هذا ننظر بين سهام الإخوة لأم، وبين عدد رؤوسهم، وظاهر أن بينهما تبايناً. فنأخذ عدد الرؤوس، وهي خمسة، ونحفظها. ثم ننظر أيضاً بين عدد رؤوس الأعمام وبين سهامهم، وبينهما أيضاً تباين، فنحفظ عدد الرؤوس. ثم ننظر بين عدد الرؤوس المحفوظة، وبينها كما هو واضح تماثل، إذ الأخوة لأم خمسة، والأعمام خمسة أيضاً. فنأخذ مثلاً واحداً، ونضرب به أصل المسألة (12)، فيكون الحاصل (30) وهو تصحيح المسألة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 ثم نضرب بذلك المثل، وهو عدد الرؤوس، وهو ما نسميه جزء السهم - كما قلنا من قبل - نصيب كل فريق من الورثة، وبذلك تنقسم سهام كل فريق على عدد رؤوسهم، كما هو موضح في صورة المسألة السابقة. المثال الثاني: تداخل عدد الرؤوس: (جزء السهم) ... (أصل) ... (تصحيح) 4× ... 6 ... 24 6/ 1 ... أم ... 1 ... 4 3/ 1 ... أربعة أخوة لأم ... 2 ... 8 ع ... أربعة أعمام ... 3 ... 12 أصل هذه المسألة (6) لتداخل مخرجيها: (6/ 1 - 3/ 1). ونصيب الأم منها السدس (1)، ونصيب الإخوة لأم الثلث، وهو سهمان، وهما غير منقسمين عليهم، لكن بين السهام وعدد الرؤوس توافق بالنصف، فنأخذ وفق الرؤوس (2) ونحفظها. ونصيب الأعمام الباقي، تعصيباً، وهو (3) أسهم وهي غير منقسمة على الأعمام الأربعة، وبينهما تباين فنحفظ عدد الرؤوس، وهي أربعة. ثم ننظر بين رؤوس الأعمام (4)، وبين وفق رؤوس الإخوة لأم (2)، فنجد بينهما تداخلاً، إذ العدد (2) يدخل في العدد (4). فنأخذ العدد الأكبر، وهو (4) ونضرب به أصل المسألة السابقة (6)، فيكون الناتج (24) وهو تصحيح المسألة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 ثم نضرب بجزء السهم، وهو الأربعة، عدد رؤوس الأعمام، سهام كل فرق، فيكون الناتج منقسماً على عدد رؤوس كل فريق. كما هو موضح في صورة المسألة السابقة. المثال الثالث: توافق الرؤوس: (جزء السهم) ... (أصل) ... (تصحيح) 30× ... 6 ... 180 6/ 1 ... أم ... 1 ... 30 3/ 1 ... 15 أخ لأم ... 2 ... 60 ع ... 10 أعمام ... 3 ... 90 أصل هذه المسألة (6). نصيب الأم سهم واحد، ونصيب الإخوة لأم سهمان، وهي غير منقسمة على عدد رؤوس الإخوة الخمسة عشر، وبين السهام وعد الرؤوس تباين، فنحفظ عدد الرؤوس (15)، ونصيب الأعمام الباقي، تعصيباً وهي ثلاثة أسهم، وهي غير منقسمة على الأعمام العشرة، وبين السهام وبين عدد الرؤوس تباين أيضاً، فنحفظ عدد الرؤوس (10). ثم ننظر بين رؤوس الإخوة لأم الخمسة وبين رؤوس الأعمام العشرة، فنجد بينها توافقاً في الخمس، فنأخذ وفق رؤوس أحدهما، ونضرب به كامل عدد الرؤوس الآخر، والحاصل نضرب به أصل المسألة فما بلغ فهو تصحيح المسألة: أي نضرب أصل المسألة (6) بحاصل ضرب (2×15=30)، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 والبالغ (180) هو تصحيح المسألة. ثم نضرب بجزء السهم (30) نصيب كل وارث، فيكون الحاصل لكل فريق، منقسماً على عدد رؤوسهم، وهذا موضح في صورة المسألة السابقة. المثال الرابع: تباين الرؤوس: (جزء السهم) ... (أصل) ... (تصحيح) 6× ... 6 ... 36 6/ 1 ... أم ... 1 ... 6 3/ 1 ... 3 أخوة لأم ... 2 ... 12 ع ... 2 عمان ... 3 ... 18 أصل المسألة ستة. نصيب الأم سهم واحد، ونصيب الإخوة لأم سهمان، وهما غير منقسمين على الإخوة لأم الثلاثة، وبين الرؤوس والسهام تباين، فنحفظ عدد الرؤوس (3)، ونصيب العمين، ثلاثة أسهم، وهي غير منقسمة على العمين، وبين الرؤوس والسهام تباين، فنحفظ عدد الرؤوس (2)، ثم ننظر بين الرؤوس (2، 3) فنجد بينها تبايناً فنضرب كامل بعضها بكامل البعض الآخر (2×3=6)، وحاصل الضرب، وهو (6)، يكون جزء السهم، نضرب به أصل المسألة (6×6=36)، وهذا هو تصحيح المسألة. ثم نضرب بجزء السهم (6) نصيب كل فريق من الورثة ويكون حاصل ضرب سهام كل فريق منقسماً على عدد رؤوسهم، كما هو مبين في المسألة السابقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 قال الإمام الرحبي في (باب الحساب): وإن ترد معرفة الحساب ... لتهتدي فيه إلى الصواب وتعرف القسمة والتفصيلا ... وتعلم التصحيح والتأصيلا فاستخرج الأصول في المسائل ... ولا تكن عن حفظها بذاهل (1) فإنهن سبعة أصول ... ثلاثة منهن قد تعول وبعدها أربعة تمام ... لا عول يعروها ولا انثلام (2) فالسدس من ستة أسهم يرى ... والسدس والربع من اثنى عشرا والثمن إن ضم إليه السدس ... فأصله الصادق فيه الحدس (3) أربعة يتبعها عشرونا ... يعرفها الحساب أجمعونا فهذه الثلاثة الأصول ... إن كثرت فروضها تعول فتبلغ الستة عقد العشرة ... في صورة معروفة مشتهره وتلحق التي تليها في الأثر ... بالعول إفراداً إلى سبع عشر والعدد الثالث قد يعول ... بثمنه فاعمل بما أقول والنصف والباقي أو النصفان ... أصلهما في حكمهم إثنان والثلث من ثلاثة يكون ... والربع من أربعة مسنون والثمن إن كان فمن ثمانية ... فهذه هي الأصول الثانيه لا يدخل العول عليها فاعلم ... ثم اسلك التصحيح فيها تسلم وإن تكن من أصلها تصح ... فترك تطويل الحساب ربح فأعط كلاً سهمه من أصلها ... مكملاً أو عائلاً من عولها وإن تر السهام ليست تنقسم ... على ذوي الميراث فاتبع ما رسم واطلب طريق الاختصار في العمل ... بالوفق والضرب يجانبك الزلل (4)   (1) بذاهل: متشاغل: تقول: ذهلت عن الشيء: تناسيته، وشغلت عنه. (2) يعروها: يغشاها وينزل بها. ولا انثلام: كسر وخلل. (3) الحدس: الظن والتخمين. (4) الزلل: الخطأ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 واردد إلى الوفق الذي يوافق ... واضربه في الأصل فأنت الحاذق (1) إن كان جنساً واحداً فأكثرا ... فاحفظ ودع عنك الجدال والمرا (2) وإن تر الكسر على أجناس ... فإنها في الحكم عند الناس تحصر في أربعة أقسام ... يعرفها الماهر في الأحكام (3) مماثل من بعده مناسب ... وبعده موافق مصاحب والرابع المباين المخالف ... ينبيك عن تفصيلهن العارف فخذ من المماثلين واحداً ... وخذ من المناسبين الزائدا واضرب جميع الوفق بالموافق ... واسلك بذاك أنهج الطرائق (4) وخذ جميع العدد المباين ... واضربه في الثاني ولا تداهن (5) فذاك جزء السهم فاعلمنه ... واحذر هديت أن تضل عنه واضربه في الأصل الذي تأصلا ... وأحص ما انضم وما تحصلاً (6) واقسمه فالقسم إذاً صحيح ... يعرفه الأعجم والفصيح (7) فهذه من الحساب جمل ... يأتي على مثالهن العمل (8) من غير تطويل ولا اعتساف (9) ... فاقنع بما بين فهو كاف   (1) الحاذق: العارف. (2) المرا: الجدال والمخاصمة. (3) الماهر: الحاذق (4) أنهج الطرائق: أوضح الطرق. (5) لا تداهن: لا تصانع. والمداهنة: المصانعة، وهي نوع من النفاق. (6) تأصلا: تأكد. وأحص: واضبط. (7) الأعجم: الذي لا يقدر على الكلام أصلاً، والذي لا يفصح ولا يبين كلامه، والذي في لسانه عجمة. والفصيح: البليغ. (8) جمل: جمع جملة، وهي الكلام. (9) اعتساف: الأخذ على غير الطريق المستقيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 الرَّدّ تعريف الرد: الرد في اللغة: يطلق على معان؛ منها: الرجوع، والصرف، وعدم القبول. تقول: رد إليه جواباً: أي رجع. ورده عن وجهه: أي صرفه. ورد عليه الشيء، إذا لم يقبله. والرد اصطلاحاً: نقصان في سهام المسألة، وزيادة في أنصباء الورثة: فهو إذا ضد العول. فإذا أخذ ذوو الفروض حقوقهم، وبقي شيء من السهام، لا مستحق له، فإنه يرد على جميع ذوي الفروض بقدر حقوقهم، إلا الزوجين، فإنه لا يرد عليهما. حكم الرد شرعاً: قلنا سابقاً: إذا كان بيت المال منتظماً بحيث يؤدي الحقوق إلى أصحابها، ويصرف التركة في وجوهها، فإنه لا يرد على أحد من أصحاب الفروض، بل يورث بيت المال، ويقدم على الرد، وعلى ذوي الأرحام، عملاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من ترك كلاً فإلي، ومن ترك مالاً فلورثته، وأنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه" رواه أبو داود (2956) بسند الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 صحيح في (الخراج والإمارة)، باب (في أرزاق الذرية) عن المقدام بن معدي كرب - رضي الله عنه -. ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يرث لنفسه شيئاً، وإنما ينفق ذلك في مصالح المسلمين. ومن هنا أفتوا بتوريث بيت المال، وجعلوا مرتبته بعد أصحاب الفروض والعصبات. فإذا لم يكن عصبة، ولم يكن صاحب فرض، أو لم يستغرق أصحاب الفروض بسهامهم جميع التركة، كانت التركة، أو ما فضل منها، من نصيب بيت المال، عملاً بالقاعدة المعروفة: (الغُرْم بالغُنْم). أما إذا كان بيت المال غير منتظم، فإنه لا حق له في الميراث. وعندئذ يعمل بالرد على أصحاب الفروض، فإن لم يكونوا، ورث ذوو الأرحام تركة الميت. هذا وقد أفتى المتأخرون من العلماء، بعدم انتظام بيت المال، بل قالوا: إنه ميئوس من انتظامه حتى ينزل عيسى عليه السلام. دليل مشروعية الرد: يستدل على مشروعية الرد - بالجملة - بعموم الأولوية، في الأدلة التي قضت بولاية الأرحام بعضهم لبعض. قال تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ} [الأنفال: 75]. ولذلك لم يردوا على الزوجين، لأنهما ليسا من ذوي الأرحام ن حيث الزوجية، لأن وصلتهما سببية، وقد انقطعت بالموت. ومن الأدلة أيضاً في توريث ذوي الأرحام، حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، لما أراد أن يوصي بثلثي ماله، فرده النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الثلث وقال له: " إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" أخرجه البخاري (1233) في (الجنائز)، باب (رثى النبي سعد بن خولة)؛ ومسلم (1628) في (الوصية)، باب (الوصية بالثلث). وقد أخبر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 سعد - رضي الله عنه - النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يرثه إلا ابنة له، والبنت فرضها النصف، كما هو معلوم. فدل ذلك على أن لها حقاً في المال، فيما فوق الفرض، حين لا يوجد معها من يزاحمها، ولا يكون ذلك إلا بالرد. شروط الرد: يشترط في الرد، ثلاثة شروط: 1 - وجود صاحب فرض من ورثة الميت، غير الزوجين. 2 - بقاء شيء من التركة، بعد أصحاب الفروض. 3 - عدم وجود عصبة بين الورثة، لأن العصبة يستحق، كل المال بالتعصيب إذا انفرد، أو يأخذ كل ما أبقاه أصحاب الفروض، فلا يتصور الرد مع وجوده. قاعدة الرد: لا يخلو حال أصحاب الفروض من أن لا يكون معهم أحد الزوجين، أو أن يكون معهم أحد الزوجين، وإذا فإن موضوع الرد ينقسم إلى حالتين: الحالة الأولى: أن لا يكون مع من يرد عليه أحد الزوجين: وفي هذه الحالة نقول: أ) إذا كان من يرد عليه شخصاً واحداً، كأن مات وخلف بنتاً فقط، فلها كل المال فرضاً، ورداً. ب) إذا كان من يرد عليه أكثر من واحد، وكانوا صنفاً واحداً، كأن مات، وخلف خمس بنات، فإن المسألة تكون من عدد رؤوسهن، ويقتسمن المال بالسوية. ج) إذا كان الورثة الذين يرد عليهم صنفين، فأكثر، كان أصل المسألة من مجموع سهامهم. وذلك كأن مات شخص، وخلف: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 (أصل) ... (رد) 6 ... 5 6/ 1 ... أماً ... 1 ... 1 2/ 1 ... شقيقة ... 3 ... 3 6/ 1 ... أختاً لأب ... 1 ... 1 فإن أصل هذه المسألة من ستة، لتداخل مخارجها، لكن مجموع سهام الورثة خمسة، فترد المسألة إلى خمسة، ويأخذ كل وارث سهامه من خمسة، فرضاً ورداً، كما هو مرسوم في المسألة السابقة. الحالة الثانية: أن يكون مع من يرد عليه أحد الزوجين: وفي هذه الحالة نقول: نبدأ أولاً بإعطاء الزوج، أو الزوجة فرضه، ونجعل المسألة من مخرج فرض الزوج، أو الزوجة، وهو: اثنان، أو أربعة، أو ثمانية. ثم يقسم الباقي على من يرد عليه، وفق الترتيب التالي: 1 - إذا كان من يرد عليه شخصاً واحداً، كان الباقي بعد فرض الزوجية له. مثاله، ما له خلف شخص: 8 8/ 1 ... زوجة ... 1 2/ 1 ... بنتاً ... 7 فالمسألة من ثمانية. للزوجة الثمن، سهم واحد، وللبنت سبعة أسهم، أربعة فرضًا، وثلاثة ردًّا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 2 - إذا كان من يرد عليه شخصين، فأكثر، وكانوا من صنف واحد. فالمسألة كذلك، تكون من مخرج فرض الزوجية، ثم إن انقسم الباقي بعد فرض الزوجية، ثم إن انقسم الباقي بعد فرض الزوجية عليهم فذاك كمن خلفت. 4 4/ 1 ... زوجاً ... 1 3/ 2 ... ثلاث بنات ... 3 فأصل المسألة من أربعة، مخرج فرض الزوج، فيأخذ الزوج سهماً واحداً، ويبقى ثلاثة أسهم للبنات، لكل واحدة سهم فرضاً ورداً. أما إذا لم ينقسم الباقي بعد فرض الزوجية على من يرد عليهم، فلابد والحالة هذه من تصحيح المسألة، وفق القواعد السابقة في التصحيح. فيضرب أصل المسألة بعدد الرؤوس، إذا كان بين الرؤوس والسهام تباين. أو يضرب أصل المسألة بوفق الرؤوس إذا كان بين الرؤوس والسهام توافق. مثال الأول: (جزء السهم) ... (أصل) ... (تصحيح) 3× ... 8 ... 24 8/ 1 ... زوجة ... 1 ... 3 3/ 2 ... ثلاث بنات ... 7 ... 21 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 فأصل هذه المسألة ثمانية، مخرج فرض الزوجة، للزوجة الثمن، وهو سهم واحد، وللبنات الباقي فرضاً ورداً، وهو سبعة أسهم، وهي غير منقسمة على البنات الثلاث. فيضرب أصل المسألة بعدد رؤوس البنات، ثلاثة لتباينها مع سهامهن، فتصبح المسألة من (24) ثم يضرب نصيب كل وارث، بجزء السهم، وهو ثلاثة، عدد رؤوس البنات، والحاصل يكون منقسماً على عدد الرؤوس، كما هو مبين في المسألة السابقة. مثال التوافق: (جزء السهم) ... (أصل) ... (تصحيح) 2× ... 4 ... 8 4/ 1 ... زوج ... 1 ... 2 3/ 2 ... ست بنات ... 3 ... 6 أصل هذه المسألة (4)، مخرج فرض الزوج، للزوج الربع، سهم واحد، وللبنات الباقي، ثلاثة أسهم، فرضاً ورداً، وهو غير منقسم عليهن، ولكن بينه وبين عدد رؤوسهن توافق في الثلث، فيؤخذ وفق الرؤوس، وهو اثنان، ويضرب به أصل المسألة، فتصح من ثمانية، ثم يضرب بجزء السهم نصيب كل وارث، فيكون الحاصل منقسماً على عدد الرؤوس. كما بيناه في المسألة السابقة. 3 - إذا كان من يرد عليه أكثر من صنف واحد، فإن كان الباقي بعد فرض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 الزوجية منقسماً على من يرد عليهن، فذاك، وتصح المسألة من مخرج فرض الزوجية. مثال ذلك، ما لو مات شخص عن: 4 4/ 1 ... زوجة ... 1 6/ 1 ... وأم ... 1 3/ 1 ... وأخوين لأم ... 2 فالمسألة من أربعة، مخرج فرض من لا يرد عليه، وهي الزوجة، ونصيبها سهم واحد. ويبقى بعد هذا ثلاثة أسهم، للأم سهم، وللأخوين لأم سهمان، لكل واحد منهما سهم واحد. أما إذا كان الباقي بعد فرض الزوجية لا ينقسم على من يرد عليهم، فإننا والحالة هذه، نجعل لمن يرد عليهم مسألة مستقلة، ثم ننظر بين مسألتهم، وبين سهامهم من المسألة الأولى، فإن تباينت، ضربنا مسألة الرد، بمسألة الزوجية، فما بلغ فهو الجامعة للمسألتين، ثم نضرب سهام الزوجية بجزء السهم، وهو مسألة الرد، ونضرب سهام من يرد عليهم بجزء السهم، الذي هو نصيب من يرد عليهم من مسألة الزوجية. ولنضرب لذلك كله مثلاً: مات شخص عن: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 جزء السهم ... جزء السهم (4) ... (3) مسألة الزوجية ... مسألة الرد ... الجامعة 4 ... 4 ... 16 4/ 1 ... زوجة ... 1 ... 0 ... 4 2/ 1 ... شقيقة ... 3 ... 3 ... 9 6/ 1 ... أخت لأب ... 1 ... 3 واضح في هذه المسألة أننا ضربنا مسألة الزوجية بمسألة الرد، فكانت الجامعة (16). ثم ضربنا نصيب الزوجة، بجزء السهم، وهو مسألة الرد. ثم ضربنا نصيب من يرد عليهم بجزء السهم (3) وهو نصيبهم من مسألة الزوجية. هذا كله إذا بين مسألة من يرد عليهم وبين نصيبهم من مسألة الزوجية تباين. أما إذا كان بين مسألتهم، ونصيبهم تماثل، فإن مسألة الزوجية هي الجامعة للمسألتين، لأن نصيب من يرد عليهم من مسألة الزوجية ينقسم عليهم. مثال ذلك: مات رجل عن: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 مسألة الزوجية ... مسألة الرد ... الجامعة 4 ... 3 ... 4 4/ 1 ... زوجة ... 1 ... 0 ... 1 6/ 1 ... أم ... 3 ... 1 ... 1 3/ 1 ... أختين لأم ... 2 ... 2 وقد تحتاج مسألة الرد إلى تصحيح، فيجري تصحيحها، ثم يجري بعد التصحيح ما سبق وذكرناه. مثال ذلك: مات شخص عن: (جزء السهم) (3) مسألة الزوجية ... مسألة الرد ... الجامعة ... التصحيح 4 ... 3 ... 4 ... 12 4/ 1 ... زوجة ... 1 ... 0 ... 1 ... 3 6/ 1 ... أم ... 3 ... 1 ... 1 ... 3 3/ 1 ... ثلاث أخوات لأم ... 2 ... 2 ... 6 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 واضح في المسألة أن نصيب من يرد عليهم من مسألة الزوجية منقسم عليهم، لذلك جعلنا الجامعة هي مسألة الزوجية. لكن نصيب الأخوات لأم، وهو (2) من الجامعة غير منقسم على عدد رؤوسهن، وهو (3)، فصححنا الجامعة، وذلك بضرب الجامعة بعدد رؤوس الأخوات لأم، لأن نصيبهن، وهو (2) يباين عدد رؤوسهن، فكان نصيبهن بعد التصحيح منقسماً عليهن، وهو لكل أخت سهمان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 المناسخات تعريف المناسخات: المناسخات في اللغة: جمع مناسخة، ومناسخة مصدر، وإنما جمع لاختلاف أنواع المناسخة، والأصل في المصدر، انه لا يثني، ولا يجمع. والمناسخة مأخوذة من النسخ. والنسخ لغة يطبق على معان، منها: الإزالة، تقول: نسخت الشمس الظل، وانتسخته: أي إزالته. والتغيير، يقال: نسخت الريح آثار الديار، إذا غيرتها. والنقل، تقول: نسخت الكتاب، وانتسخته، واستنسخته إذا نقلت ما فيه باللفظ والمعنى نقلاً صحيحاً. والنسخ شرعاً: رفع حكم شرعي، فإثبات حكم آخر مكانه، كنسخ استقبال بيت المقدس في الصلاة، باستقبال الكعبة. والمناسخة في اصطلاح علم الفرائض: أن يموت من ورثة الميت الأول واحد، أو أكثر، قبل قسمة التركة، سميت مناسخة، لأن المسألة الأولى، انتسخت بالثانية، أو لأن المال ينتقل فيها من وارث إلى وارث. ومن هنا يظهر لك مناسبة المعنى الاصطلاحي، للمعنى اللغوي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 تقسيم التركة في مسائل المناسخات: إذا مات شخص، ثم مات من ورثته شخص آخر قبل قسمة تركته، لزم اتباع الخطوات التالية: أ) يجعل للميت الأول مسألة مستقلة، يحصى فيها ورثته، ونصيب كل وارث منهم، حسب ما تقدم في عمل المسائل. ب) تصحيح مسألة الميت الأول، إن احتاجت إلى تصحيح، وفق القواعد السابقة في تصحيح المسائل. ج) يجعل للميت الثاني مسألة مستقلة، يحصى فيها ورثته، سواء كانوا من ورثة الميت الأول، أو من غيرهم، ويحصى نصيب كل واحد منهم من تركة الميت الثاني. د) تصحيح مسألة الميت الثاني إن احتاجت إلى تصحيح. هـ) النظر بين سهام الميت الثاني التي ورثها من الميت الأول، وبين أصل مسألته، أو تصحيحها. - فإن ما ثلث سهامه أصل مسألته، أو تصحيحها، صحت الجامعة للمسألتين مما صحت منه المسألة الأولى. - وإن وافقت سهامه التي ورثها من المسألة الأولى أصل مسألته، أو تصحيحها، أخذنا وفق مسألته وضربنا به أصل المسألة الأولى، أو تصحيحها، فما بلغ فهو الجامعة للمسألتين. - وإذا باينت سهام الميت الثاني أصل مسألته، أو تصحيحها، ضربنا أصل المسألة الأولى، أو تصحيحها، بأصل المسألة الثانية أو تصحيحها، وكان هذا الضرب هو الجامعة للمسألتين. و) النظر إلى الورثة في المسألتين: - فمن ورث منهم من المسألة الأولى فقط، أخذ نصيبه مضروباً بوفق المسألة الثانية، عند التوافق، أو بكاملها عند التباين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 - ومن ورث منهم من المسألة الثانية فقط، أخذ نصيبه مضروباً، بوفق سهام الميت الثاني عند التوافق، أو بكاملها عند التباين. - ومن ورث منهم من المسألتين، أخذه مضروباً في الأولى بوفق الثانية عند التوافق، أو بكاملها عند التباين، وأخذ نصيبه من الثانية، مضروباً بوفق سهام الميت الثاني عند الموافقة، أو بكاملها عند التباين، ثم يجمع له النصيبان، ويأخذهما من الجامعة. وإليك الأمثلة الموضحة لهذه القواعد المثال الأول: إذا كانت سهام الميت الثاني مماثلة لمسألته: ماتت امرأة عن زوج، وأم، وعم، ثم مات الزوج قبل قسمة التركة عن ثلاثة أبناء. الحل: أصل ... أصل ... الجامعة المسألة الأولى ... المسألة الثانية 6 ... 3 ... 6 2/ 1 ... زوج ... 3 ... ت 3/ 1 ... أم ... 2 ... غريبة ... 2 ع ... عم ... 1 ... غريب ... 1 ع ثلاثة أبناء ... 3 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 واضح في هذه المسألة أن الزوج ورث من زوجته النصف لعدم وجود الفرع الوارث لها، وأن الأم ورثت الثلث لعدم الفرع الوارث، وعدم العدد من الإخوة، وأن العم ورث الباقي بالتعصيب. وواضح أيضاً أن أصل المسألة (6) لأن مخرجيها: (2و3) متباينان، فضرب أحدهما بالآخر، فكان أصل المسألة، وهو (6). وعليه فإن نصيب الزوج (3) أسهم، ونصيب الأم (2) ونصيب العم (1). أما المسألة الثانية، فإن الميت إنما هو الزوج، وقد خلف ثلاثة بنين. هم ورثته بالتعصيب، وأصل مسألتهم (3) من عدد رؤوسهم. ولما نظرنا بين مسألة الميت الثاني وهو الزوج وبين سهامه التي ورثها من الميت الأول رأينا بينهما تماثلاً. وعليه فقد صححنا الجامعة من أصل المسألة الأولى وأعطينا كل وارث نصيبه منها، كما هو موضح في المسألة السابقة. مثال آخر: ماتت امرأة عن زوج وأختين لأب، ثم ماتت إحدى الأختين، عمن ذكر، وعن بنت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 الحل: أصل ... أصل ... الجامعة المسألة الأولى ... المسألة الثانية 7 (عول) ... 2 ... 7 6 2/ 1 ... زوج ... 3 ... 3 3/ 2 ... أخت لأب ... 2 ... ع ... أخت لأب ... 1 ... 3 أخت لأب ... 2 ... ت 2/ 1 ... بنت ... 1 ... 1 هذه المسألة مثل سابقتها، كانت سهام الميت الثاني، وهي الأخت، مماثلة لمسألتها، فصحت الجامعة مما صحت منه المسألة الأولى. غير أن هذه المسألة فيها عول، وأن إحدى الأختين ورثت من أختها الأولى، ومن أختها الثانية. ومعلوم أن الأخت مع البنت تعتبر عصبة مع الغير، كما هو مبين في المسألة الثانية. المثال الثاني: إذا كانت سهام الميت الثاني موافقة لمسألته: ماتت امرأة عن زوج، وأم، وعم، ثم مات الزوج عن أم، وأخوين لأم، وأخ لأب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 الحل: المسألة الأولى ... المسألة الثانية ... الجامعة 6 ... 6 ... 12 2/ 1 ... زوج ... 3 ... ت 3/ 1 ... أم ... 2 ... غريبة ... 4 ع ... عم ... 1 ... غريب ... 2 6/ 1 ... أم ... 1 ... 1 3/ 1 ... أخوان لأم ... 2 ... 2 ع ... أخ لأب ... 3 ... 3 لقد قسمنا سهام المسألة الأولى على ورثتها، وقسمنا سهم المسألة الثانية أيضاً على ورثتها، ثم نظرنا بين سهام الميت الثاني، وهو الزوج، وبين مسألته، فإذا هما متوافقان في الثلث، فأخذنا ثلث المسألة الثانية (2)، وهو وفقها، وضربنا به كامل المسألة الأولى (6) فكانت الجامعة (12)، ثم من ورث من المسألة الأولى، ضربنا نصيبه بوفق الثانية، فكان نصيب الأم (2×2=4)، ونصيب العم (1×2=2)، ووضعنا ذلك تحت الجامعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 ومن ورث من المسألة الثانية ضربنا نصيبه بوفق سهام الميت، وهو (1)، فكان نصيب الأم في المسألة الثانية (1×1=1)، ونصيب الأخوين لأم (2×1=2)، ونصيب الأخ لأب (3×1=3)، ووضعنا ذلك تحت الجامعة أيضاً، ولو جمعنا سهام الورثة في الجامعة، لوجدناها مساوية للجامعة، وهذا دليل صحة عملنا. مثال آخر: مات رجل عن أب، وأم، وبنت، وابن، ثم مات الابن قبل قسمة التركة عن المذكورين وعن زوجة، وابن. الحل: أصل ... تصحيح ... المسألة الثانية ... الجامعة 6 ... 18 ... 24 ... 54 6/ 1 ... أب ... 1 ... 3 ... 6/ 1 ... جد ... 4 ... 13 6/ 1 ... أم ... 1 ... 3 ... 6/ 1 ... جدة ... 4 ... 13 ع ... بنت ... 4 ... 4 ... م ... شقيقة ... 0 ... 12 ابن ... 8 ... ت 8/ 1 ... زوجة ... 3 ... 3 ع ... ابن ... 13 ... 13 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 في هذه المسألة، نجد أن الأب ورث من المسألة الأولى السدس، والأم ورثت أيضاً السدس، وورث الابن والبنت الباقي تعصيباً، فكان أصل المسألة (6) لتماثل مخرج فرض الأب والأم، للأب سهم واحد، وللأم سهم، وللبنت والابن الباقي وهو أربعة أسهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، صرنا إلى تصحيح المسألة. ولما كان بين عدد الرؤوس والسهام تباين المسألة (6) بعدد الرؤوس (3) فكان تصحيح المسألة (18). أما المسألة الثانية، فقد أصبح الأب فيها جداً، وأصبحت الأم جدة، والبنت أختاً شقيقة، ثم ورث الجد السدس، والجدة السدس، والأخت الشقيقة محجوبة بالابن، والزوجة ورثت الثمن، والابن أخذ الباقي بالتعصيب. وأصل المسألة الثانية (24) لأن بين مخرج فرض الزوجة، ومخرج فرض الأب، أو الأم توافقاً بالنصف، فضربنا وفق أحدهما بكامل الآجر: (4×6=24) فكان أصل المسألة. للجد (4) أسهم، وللجدة (4) أسهم، وللزوجة (3) أسهم، وللابن (13) سهماً. ثم بعد كل هذا يأتي دور الجامعة للمسألتين وهنا يجب أن ننظر بين سهام الميت الثاني التي ورثها من الميت الأول، وبين مسألته، وعندئذ سنجدهما متوافقين في الثمن. فإذا أخذنا ثمن المسألة الثانية، وضربنا به تصحيح المسألة الأولى، كان الحاصل (54) هو الجامعة: (15×3=54). ثم نأخذ وفق المسألة الثانية، ونجعله جزء سهم عند الأولى لنضرب به نصيب كل وارث من المسألة الأولى ونأخذ وفق سهام الميت الثاني ونجعله جزء سهم عند المسألة الثانية، لنضرب به نصيب كل وارث من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 المسألة الثانية، ومن ورث من المسألتين جمعنا له نصيبه منهما، ووضعناه تحت الجامعة. وبهذا نكون قد وصلنا إلى حل لهذه المسألة، وأخذ كل وارث نصيبه، كما هو مبين في المسألة. المثال الثالث: إذا كانت سهام الميت الثاني مباينة لمسألته: ماتت امرأة عن زوج، وأم، وعم، ثم مات الزوج عن بنت، وخمسة أشقاء. المسألة الأولى ... المسألة الثانية ... تصحيح الثانية ... الجامعة 6 ... 2 ... 10 ... 60 2/ 1 ... زوج ... 3 ... ت 3/ 1 ... أم ... 2 ... - ... 20 ع ... عم ... 1 ... - ... 10 2/ 1 ... بنت ... 1 ... 5 ... 15 ع ... 5 أشقاء ... 1 ... 5 ... 15 يتضح لنا في هذه المسألة، أن بين سهام الميت الثاني من المسألة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 الأولى، وهي (3) وبين مسألته، وهي (10)، تبايناً، لذلك ضربنا أصل المسألة الأولى بتصحيح المسألة الثانية، فكانت الجامعة: (6×10=60). ويلاحظ في المسألة الثانية أننا قد أجرينا فيها تصحيحاً، وذلك لأن سهام الإخوة لا تنقسم عليهم، وبين سهامهم ورؤوسهم تباين، فضربنا أصل المسألة (2) بعدد الرؤوس (5) فكان التصحيح (10)، ثم إنه من كان له نصيب في المسألة الأولى أخذه مضروباً بتصحيح المسألة الثانية، فنصيب الأم (2×10=20)، ونصيب العم (1×10=10)، فوضعناه تحت الجامعة. ومن كان له نصيب في المسألة الثانية أخذه مضروباً بسهام الميت الثاني التي ورثها من الميت الأول، فكان نصيب البنت (5×3=15)، ونصيب الأشقاء (5×3=15)، فوضعنا ذلك تحت الجامعة أيضاً. وعند مراجعة السهام كلها في الجامعة، وجمعها مع بعضها وجدناها مساوية للجامعة، وهذا دليل صحة التقسيم في هذه المسألة. مثال آخر: مات رجل عن زوجة، وثلاثة أبناء، وبنت، ثم ماتت البنت، عن الورثة في المسألة السابقة. المسألة الأولى ... المسألة الثانية ... تصحيح الثانية ... الجامعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 8 ... 6 ... 18 ... 144 8/ 1 ... زوجة ... 1 ... 6/ 1 ... أم ... 1 ... 3 ... 21 ع ... ابن ... 2 ... ع ... شقيق ... 5 ... 5 ... 41 ابن ... 2 ... شقيق ... 5 ... 41 ابن ... 2 ... شقيق ... 5 ... 41 بنت ... 1 ... ت واضح من حل هذه المسألة أن الأولى صحت من (8) والثانية من (18)، ونصيب الميت الثاني من المسألة الأولى سهم واحد، وهو يباين مسألته، فنضرب المسألة الثانية في الأولى، فتبلغ (144) هي الجامعة للمسألتين. للزوجة من المسألة الأولى (1) يضرب في (18) يساوي (18)، ولها من الثانية، باعتبارها أماً، (3) تضرب بواحد، وهو نصيب الميت الثاني من الأولى، يساوي ثلاثة. ولكل ابن من المسألة الأولى سهمان، يضربان بـ (18) فيحصل لكل واحد (36) سهماً من الأولى، ولكل واحد منهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 باعتبارهم أخوة أشقاء من المسألة الثانية (5) أسهم تضرب بواحد، تساوي خمسة، ثم يجمع نصيب كل واحد من المسألتين، فيكون الناتج هكذا: الأم: (18 + 3 = 21) الابن: (36 + 5 = 41) الابن: (36 + 5 = 41) الابن: (36 + 5 = 41) كما هو مبين في المسألة السابقة. كان ما مر في المناسخات كله إنما هو فيما إذا مات من ورثة الميت الأول شخص واحد. فإذا مات شخص ثان قبل قسمة التركة، فإن العمل أن نجعل الجامعة الأولى كمسألة أولى، ونجعل للميت الثالث مسألة جديدة وتطبق بين مسألة الميت الثالث والجامعة نفس القواعد التي مر ذكرها في الميت الأول والثاني، فلا حاجة لإعادتها. هذا ومما ينبغي أن يعلم أنه إذا كان لا يرث الميت الثاني إلا الباقون من ورثة الميت الأول، وكان إرثهم من الميت الثاني كإرثهم من الميت الأول، جعل كأن الميت الثاني لم يكن من ورثة الميت الأول، وقسم المال المتروك بين الباقين من الورثة، لأنه صار إليهم بطريق واحد. مثال هذا: ما لو مات شخص عن أربعة إخوة أشقاء، ثم مات واحد منهم عن الباقين من الإخوة، ثم مات ثالث عن الباقين أنفسهم، فإننا نعتبر الذين ماتوا بعد الأول كأنهم لم يكونوا، وتقسم التركة على الباقين منهم. قال الإمام الرحبي رحمه الله تعالى، في (المناسخات): وإن يمت آخر قبل القسمة ... فصحح الحساب واعرف سهمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 واجعل له مسالة أخرى كما ... قد بين التفصيل فيما قدما وإن تكن ليست عليها تنقسم ... فارجع إلى الوفق بهذا قد حكم وانظر فإن وافقت السهاما ... فخذ هديت وفقها تماما (1) واضربه أو جميعها في السابقة ... إن لم تكن بينهما موافقة وكل سهم في جميع الثانية ... يضرب أو في وفقها علانية (2) وأسهم الأخرى ففي السهام ... تضرب أو في وفقها تمام فهذه طريقة المناسخة ... فارق بها رتبة فضل شامخة (3)   (1) هديت جملة دعائية. والهداية: الدلالة على الخير. (2) علانية: جهراً. (3) شامخة: مرتفعة عالية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 توريث ذوي الأرحام تعريف ذوي الأرحام: الأرحام: جمع رحم، والرحم لغة: القرابة، وذو الأرحام: أصحاب القرابات. وذوو الأرحام في اصطلاح علم الفرائض هم: كل قريب لا يرث بفرض، ولا تعصيب، أي هم من عدا الأقارب المجمع على توريثهم، ممن سبق ذكرهم في هذا الكتاب. شروط توريث ذوي الأرحام: يشترط في إرث ذوي الأرحام الشروط التالية: أ- أن لا يوجد للميت وارث بفرض أو تعصيب، ما عدا الزوجين. فإذا كان له وارث من أصحاب الفروض، أو العصبات، فهو مقدم على ذوي الأرحام، بالفرض، والتعصيب والرد. أما وجود أحد الزوجين، فلا يمنع من توريث ذوي الأرحام، إذا لم يكن وارث غيره، لأنه لا يرد على الزوجين، كما سبق بيانه. ب- أن لا يكون بيت المال منتظماً، فإذا كان بيت المال منتظماً، فإنه مقدم على ذوي الأرحام في الميراث، كما هو مقدم على الرد على ذوي الفروض، وقد سبق بيان ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 دليل عدم توريثهم إذا كان بيت المال منتظماً: استدل الشافعي رحمه الله تعالى على عدم توريثهم أنه لم يرد لهم نصيب معين من الميراث، في القرآن ولا في السنة، ولو كان لهم حق في التركة لبينه الله عز وجل، ورسوله عليه الصلاة والسلام، كما هو الشأن في أصحاب الفروض، والعصبات. وأيضاً فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله عز وجل أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" رواه الترمذي (2122) في (الوصايا)، باب (ما جاء لا وصية لوارث)؛ ورواه النسائي (6/ 247) في (الوصايا)، باب (إبطال الوصية للوارث)، كلاهما عن عمرو بن خارجة - رضي الله عنه -، فلو كان لهم شيء من التركة لأعطاهم الله إياه. لكن المتأخرين من الشافعية رحمهم الله، قد أفتوا بتوريث ذويي الأرحام، وذلك منذ القرن الرابع الهجري، انطلاقاً من أن بيت المال لم يعد منتظماً، ولم يعد يصل لذوي الحقوق منه حقوقهم، فلأن يرجع مال الميت لأرحامه، وغير الوارثين من أقاربه، أولى من أن يذهب إلى غير ذي حق من الأباعد. أصناف ذوي الأرحام: يمكن حصر ذوي الأرحام في أربعة أصناف هي: الأول: من ينتمي إلى الميت، لكون الميت أصلاً له، وهم: - أولاد البنات، مهما نزلوا. - أولاد بنات الابن، وإن نزلوا أيضاً. الثاني: من ينتمي إليهم الميت لكونهم أصولاً له، وهم: - الأجداد والجدات الرحميون، الذين هم غير من سبق ذكرهم. فالجد الرحمي: هو كل من توسطت بينه وبين الميت أنثى، كالجد أبي الأم، وأبوه، وإن علا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 - والجدة الرحمية: هي أيضاً من توسط بينها وبين الميت جد رحمي، كأم أبي الأم، وأمها، وإن علت. الثالث: من ينتمي إلى أبوي الميت، لكونهما أصلاً جامعاً له وللميت، وهم: - أولاد الأخوات مطلقاً، أي ذكوراً كانوا أم إناثاُ، سواء كانت الأخوات شقيقات أم لأب، أم لأم. - بنات الإخوة الأشقاء، أو لأب، أو لأم. - أولاد الإخوة لأم، ذكوراً كانوا أم إناثاً. - وكل من يدلي إلى الميت بواحد من هؤلاء. الرابع: من ينتمي إلى أجداد الميت وجداته، لكون هؤلاء الأجداد والجدات أصلاً جامعاً له وللميت، وهم: - الأعمام للأم، والعمات مطلقاً، وبنات الأعمام مطلقاً. - الأخوال والخالات مطلقاً، وإن تباعدوا، وأولادهم وإن تنازلوا. كيفية توريث ذوي الأرحام: قلنا: عن ذوي الأرحام يرثون حين لا يوجد من يرث بفرض- غير الزوجين - أو بتعصيب، فإذا لم يوجد أحد من الورثة، كان الميراث جميعه لذوي الأرحام. وإن وجد أحد الزوجين، كان ما بقي، بعد فرضه، لهم. فإن انفرد واحد من ذوي الأرحام، كان المال جميعه له: كمن خلف بنت، استحق كل التركة. وإن اجتمع أكثر من واحد من ذوي الأرحام، كان توريثهم على النحو التالي: 1 - ينزل كل واحد من ذوي الأرحام- ما عدا الأخوال والخالات، والأعمام لأم والعمات- منزلة من يدلي به إلى الميت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 فينزل كل فرع منزلة أصله، وأصله منزلة أصله، وهكذا درجة درجة إلى أن تصل إلى أصل وارث. وكل من نزل منزلة شخص يأخذ ما كان يأخذه ذلك الشخص، فيفرض موت ذلك الشخص، وأن هذا المنزل منزلته وارثه، كابن البنت فإنه ينزل منزلة أمه، وهي البنت، وبنت الأخ تنزل منزلة أبيها، وهو الأخ، وهكذا. وهذا - كما قلنا- في غير الأخوال والخالات، والأعمام لأم، والعمات. فالأخوال والخالات ينزلون منزلة الأم، فما يثبت لها، من كل المال عند الانفراد، أو ثلثه، أو سدسه عند عدم الانفراد، يثبت لهم. أما الأعمام لأم، والعمات، فإنهم ينزلون منزلة الأب، ويرثون ما كان يرثه هو. 2 - بعد أن ينزل كل واحد من ذوي الأرحام منزلته - على النحو السابق - يقدم من سبق إلى وارث، سواء قربت رجته إلى الميت، أم بعدت. فلو اجتمع: بنت بنت البنت، وبنت بنت ابن الابن: كان المال كله، للثانية، وهي بنت بنت ابن الابن، وإن كانت الأولى، وهي بنت بنت البنت أقرب إلى الميت منها، لأن الثانية سبقت الأولى إلى وارث، إذ الثانية ليس بينها وبين من أدلت به أحد غير وارث. بينما الأولى بينها وبين من أدلت به من الوارثين شخص غير وارث، وهو بين البنت. 3 - إذا استوى الموجودون من ذوي الأرحام في الإدلاء، فرض أن الميت خلف الوارثين الذين ينتسب إليهم ذوو الأرحام، وقسم المال - أو الباقي بعد فرض أحد الزوجين - بين هؤلاء المفروضين، كأنهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 موجودون، فمن يحجب منهم لا شيء لمن يدلي به، وما أصاب كل واحد منهم قسم على من نزل منزلته، كأنه مات وخلفهم وصورة ذلك: أن يموت شخص ويخلف: 7 (عول) 6 6/ 1 ... أبا أم ... 1 3/ 1 ... بنتي أختين لأم ... 2 2/ 1 ... بنت أخت شقيقة ... 3 6/ 1 ... بنت أخت لأب ... 1 لأبي الأم السدس، لأنه ينزل منزلة الأم التي أدلى بها. لبنتي الأختين لأم الثلث، لأنهما بمنزلة الأختين لأم اللتين أدلتا بهما. لبنت الأخت الشقيقة النصف، لأنها بمنزلة الأخت الشقيقة التي أدلت بها. ولبنت الأخت لأب السدس، لأنها بمنزلة الأخت لأب مع الشقيقة. ويجب أن يلاحظ هنا أن العول لا يصيب نصيب الزوج، أو الزوجة، فيما لو وجد أحدهما مع ذوي الأرحام، بل يعطي أحد الزوجين نصيبه أولاً، ثم يوزع ما بقي على ذوي الأرحام. فلو ماتت امرأة وخلفت: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 2 ... 4 2/ 1 ... زوجاً ... 1 ... 2 ع ... وبنتي أختين ... 1 ... 2 لكان للزوج النصف، واحد من اثنين، ويبقى واحد لبنتي الأختين، لكل واحدة نصفه، ولما كان الواحد لا ينقسم عليهما، فسوف نصير إلى تصحيح المسألة، وعندها نأخذ عدد الرؤوس لتباينها مع السهام، ويضرب به أصل المسألة، فما بلغ فمنه تصح: (2×2=4). فيأخذ الزوج نصيبه مضروباً باثنين (1×2=2)، وتأخذ بنتي الأختين نصيبهما مضروباً (1×2=2) لكل واحد منهما سهم من أربعة أسهم. ولو كان بدل بنتي الأختين أختان، لكان لهما الثلثان، لعالت المسألة بسهامها على الأختين، وعلى الزوج، ولم يبق للزوج نصف سالم، بل يكون له ثلاثة أسهم من سبعة، بخلاف ما لو كان مع ذوي الأرحام. فإنه يأخذه نصفاً سالماً. ويستثنى من الضابط السابق - وهو أن ما يصيب كل واحد من المفروضين يقسم على من نزل منزلته كأنه مات وخلفهم، - ما يلي: أ- أولاد الإخوة لأم، فيقسم بينهم ما يصيب من يدلون به- وهو الأخ لأم- بالسوية، دون تفريق بين ذكورهم وإناثهم، كما يرث مورثهم كذلك. مع أن الأخ لأم، أو الأخت لأم، لو مات أحدها وخلف أولاداً، ذكوراً وإناثاً، قسم ميراثه بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 ب- الأخوال والخالات الذين من جهة الأم، يقسم بينهم ما يصيب من ينزلون منزلته - وهو الأم- للذكر مثل حظ الأنثيين. مع أنه لو مات من ينزلون منزلته- وهو الأم - وخلفتهم كانوا إخوة لأم، وكان الميراث بينهم بالسوية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 قسمة التركة إن قسمة التركة بين الورثة، هي الثمرة المقصودة بالذات من علم الفرائض، وما تقدم كله وسيلة لها. ولتقسيم التركة عدة طرق، وأبسط هذه الطرق أن تقسم التركة على أصل المسألة، ثم يضرب الناتج بسهام كل وارث. مثال ذلك: مات رجل عن: 24 8/ 1 ... زوجة ... 3 3/ 2 ... بنتين ... 16 6/ 1 ... أم ... 4 ع ... أخ شقيق ... 1 واضح أن المسألة من أربعة وعشرين لتوافق مخرجي الثمن والسدس. فللزوجة الثمن (3)، وللبنتين الثلثان (16) لكل بنت (8)، وللأم السدس (4)، وللأخ الشقيق الباقي تعصيباً، وهو سهم واحد. فإذا كانت التركة: (4800) ليرة مثلاً، فالعمل أن تقسم التركة على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 أصل المسألة، ثم نضرب الناتج بنصيب كل وارث: 4800÷24=200 ليرة قيمة السهم الواحد. فللزوجة إذاً = 200×3=600 ليرة. للبنين ... = 200×16=3200 ليرة. للأم ... = 200×4= 800 ليرة. للأخ ... = 200×1= 200 ليرة. ويكون المجموع 4800 ليرة، وهو قيمة التركة. وهناك طريقة أخرى، وهي: أن نضرب نصيب كل وارث بالتركة، ثم نقسم الحاصل على أصل المسألةز مثال ذلك: مات رجل عن: 12 3/ 1 ... أم ... 4 4/ 1 ... زوجة ... 3 ع ... عم ... 5 المسألة من (12) لتباين مخرجي فرض الأم والزوجة، للأم أربعة، وهي الثلث، وللزوجة الربع ثلاثة، والباقي تعصيباً، وهو خمسة. فلو فرضنا أن التركة كانت (100) دينار، فيكون نصيب الأم: ... = 3/ 1 = 33. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 فيكون نصيب الزوجة: ... =25. ويكون نصيب العم: ... = 3/ 2 41. مثال آخر: ماتت امرأة عن: 4 4/ 1 ... زوج ... 1 ع ... أخت شقيقة ... 1 2/ 1 ... بنت ابن ... 2 للزوج الربع (1)، وللبنت النصف (2)، وللأخت الشقيقة الباقي تعصيباً، وهو (1)، لأنها عصبة مع الغير. وأصل المسألة من أربعة، لتداخل مخرج فرض البنت بمخرج فرض الزوج. فلو فرضنا أن التركة كانت (44) ألف ليرة: لكان نصيب الزوج: ... = 11 ألف ليرة. نصيب الشقيقة: ... = 11 ألف ليرة. نصيب البنت: ... = 22 ألف ليرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 المسائل المشهورة في المواريث لقد اشتهر في المواريث مسائل أخذت ألقاباً معينة، عرفت بها بين علماء الفرائض: إما لحدوث خلاف فيها، وإما نسبة إلى من سئل عنها، أو قضى فيها. ولقد مر بعضها أثناء أبحاثنا، في قواعد هذا العلم، وفي ثنايا أحكامه. وها نحن نذكر تحت هذا العنوان أشهر هذه المسائل، ليعرفها من يدرس هذا الكتاب، ويطلع عليها من لم يتح له أن يرجع إلى المطولات من أمهات كتب هذا الفن العظيم. 1 - المشركة. وتسمى أيضاً المشتركة، والحمارية. وقد مرت معنا في بحث الإخوة، وهي كما تعلم: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 6 ... 18 2/ 1 ... زوج ... 3 ... 9 6/ 1 ... أم ... 1 ... 3 3/ 1 ... أخوان لأم فأكثر ... 2 ... 4 أخ شقيق، فأكثر ... 2 وعرفت أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قضى فيها أولاً، فأسقط الإخوة الأشقاء، لكونهم عصبة، ولم يبق لهم شيء بعد الفروض. ثم عاد ثانياُ وقضى بالتشريك بين الأشقاء والأخوة لأم، فألغى الأب، وجعلهم جميعاً إخوة لأم. 2 - العمريتان. سمينا بذلك لقضاء عمر - رضي الله عنه - فيهما، كما مر معنا، وعرفت أنه أعطى الأم فيهما ثلث الباقي بعد فرض أحد الزوجين. وهما 6 2/ 1 ... زوج ... 3 3/ 1 با ... أم ... 1 ع ... أب ... 2 12 4/ 1 ... زوجة ... 3 3/ 1 با ... أم ... 3 ع ... أب ... 6 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 3 - المباهلة. وهي: 8 (عول) 6 2/ 1 ... زوج ... 3 3/ 1 ... أم ... 2 2/ 1 ... أخت شقيقة ... 3 للزوج النصف (3) وللأم الثلث (2)، وللأخت الشقيقة النصف (3). وأصل المسألة من (6) وقد عالت إلى (8). وهي أول مسألة عالت في الإسلام. وقد مرت معنا أيضاً، من غير أن نطلق عليها هذا اللقب في حينها. وقد وقعت هذه المسألة في صدر خلافة عمر - رضي الله عنه -، فاستشار الصحابة فيها فأشار العباس - رضي الله عنه -، أن يقسم عليهم بقدر سهامهم، فصاروا إلى ذلك. وفي رواية أن عمر قال لهؤلاء الورثة: (لا أجد فرضاً في كتاب الله، ولا أدري من قدمه الله تعالى، فأقدمه، ولا من أخره فأؤخره، ولكن رأيت رأياً، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني، أرى أن أدخل النقص على الكل)، فقسم بالعول، ولم يخالفه أحد، على أن ولي الخلافة عثمان - رضي الله عنه -. فأظهر عبدالله بن عباس رضي الله عنهما مخالفته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 لما فعل عمر، وقال: لو قدموا من قدمه الله، وأخروا من أخره الله، ما عالت فريضة قط، فقيل له: من قدمه الله، ومن أخره؟ قال: الزوج والزوجة والأم والجدة ممن قدمه الله، أما من أخره الله، فالبنات، وبنات الابن، والأخوات لأب وأم، والأخوات لأب، فتارة يفرض لهن، وتارة يكن عصبة، ويدخل النقص على هؤلاء الأربع. فلما ناقشوه في هذا الرأي، قال من شاء باهلته، إن الذي أحصى رمل عالج لم يجعل في المال نصفاً، ونصفاً، وثلثا، فقيل له: هلا ذكرت ذلك في زمن عمر؟ فقال: كان مهيباً فهبته. [عالج: موضع في البادية كثير الرمل. وقوله باهلته: هو من قول الله تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]. ومن هنا سميت هذه المسألة بالمباهلة. 4 - المنبرية. وهي: 27 (عول) 24 8/ 1 ... زوجة ... 3 6/ 1 ... أب ... 4 6/ 1 ... أم ... 4 3/ 2 ... بنتان ... 16 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 المسألة من (24) لوجود التوافق بين مخرجي الثمن والسدس، وقد عالت إلى (27). للزوجة الثمن (3)، وللأب السدس (4)، وللأم السدس (4)، وللبنتين الثلثان (16). وسميت هذه المسألة بالمنبرية، لأن علياً - رضي الله عنه - كان يخطب على المنبر، وكان قد بدأ خطابه بقوله: الحمد لله الذي يجزي كل نفس بما تسعى، ثم سئل عن هذه المسألة، فأجاب على الفور؛ والمرأة قد صار ثمنها تسعاً، ثم استمر في خطبته، فكان ذلك من نباهته، وحضور بديهته. 3 ... 9 3/ 1 ... أم ... 1 ... 3 ع ... جد ... 2 ... 4 أخت شقيقة ... 2 5 - الخرقاء. وهي: للأم الثلث، والباقي للجد والأخت مقاسمة للذكر مثل حظ الأنثيين. المسألة من ثلاثة، وتصح من تسعة، للأم (3)، وللجد (4)، وللأخت (2). وسميت هذه المسألة الخرقاء، كأن أقوال الصحابة خرقتها، أو أنها خرقت اتفاقهم، فقد اختلفوا فيها على سبعة أقوال، وما ذكرناه هو مذهبنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 6 - الأكدرية. 9 (عول) ... 27 6 2/ 1 ... زوج ... 3 ... 9 3/ 1 ... أم ... 2 ... 6 6/ 1 ... جد ... 1 ... 8 2/ 1 ... أخت شقيقة، أو لأب ... 3 ... 4 وقد مرت معنا وهي: للزوج النصف عائلاً، وللأم الثلث عائلاً، وللجد السدس عائلاً، وللأخت النصف عائلاً. فالمسألة من ستة، وتعول إلى تسعة. ثم بعد هذا يعود الجد إلى الأخت فيقاسمها الفريضة، ويأخذ معها للذكر مثل حظ الأنثيين، ولما كان نصيبه، وهو (1) من تسعة، ونصيبها (3) من تسعة لا ينقسمان عليهما للذكر مثل حظ الأنثيين أخذنا عدد الرؤوس، لتباينها مع السهام، وضربنا بها أصل المسألة، فكان تصحيح المسألة من (27)، للزوج (9)، وللأم (6)، وللجد (8)، وللأخت (4). وسميت هذه المسألة بالأكدرية، لأنها كدرت على زيد بن ثابت مذهبه من ثلاثة أوجه، أعال بالجد، وفرض للأخت، وجمع سهام الفرض وقسمها على التعصيب. وإنما فرض للأخت، ولما يجعلها عصبة، لأنه لم يبق لها شيء، ولا وجه إلى القسمة، لأنه ينقص نصيب الجد عن السدس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 7 - اليتيمتان. وهما مسألتان: ... الأولى: ... الثانية 2 2/ 1 ... زوج ... 1 2/ 1 ... أخت لأب ... 1 2 2/ 1 ... زوج ... 1 2/ 1 ... أخت شقيقة ... 1 ففي هاتين المسألتين يأخذ الزوج النصف، والأخت النصف، وليس في الفرائض كلها مسألة يورث فيها المال بفريضتين، متساويتين، إلا في هاتين المسألتين، ولذلك سميتا اليتيمتين. 8 - أم الفروخ. وهي: 10 (عول) 6 2/ 1 ... زوج ... 3 6/ 1 ... أم ... 1 3/ 1 ... أختان لأم ... 2 3/ 2 ... أختان لأبوين ... 4 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 للزوج النصف، وللأم السدس، وللأختين للأم الثلث، وللأختين للأبوين الثلثان. أصل المسألة (6)، وتعول إلى (10). وسميت هذه المسألة بأم الفروخ، لأنها أكثر المسائل عولاً، فشبهت الأربعة الزوائد بالفروخ، وتسمى أيضاً الشريحية، لأن القاضي شريحاً أول من قضى فيها. 9 - أم الأرامل. وهي: 17 (عول) 12 4/ 1 ... ثلاث زوجات ... 3 6/ 1 ... جدتان ... 2 3/ 1 ... أربع أخوات لأم ... 4 3/ 2 ... ثمان أخوات شقيقات ... 8 للزوجات الربع (3)، لكل زوجة سهم، وللجدتين السدس (2)، لكل جدة (1)، وللأخوات لأم الثلث (4)، لكل أخت (1)، وللأخوات الشقيقات الثلثان (8)، لكل أخت (1). أصل المسألة (12) وتعول إلى (17) سميت أم الأرامل، لأن الورثة فيها كلهن إناث. وفي هذه المسألة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 يلغز، أيضاً، فيقال: رجل مات وترك سبعة عشر ديناراً، وسبع عشرة امرأة، أصاب كل امرأة دينار واحد. 10 - المروانية. وهي: 9 (عول) 6 2/ 1 ... زوج ... 3 3/ 2 ... أختان شقيقتان ... 4 م ... أختان لأب 3/ 1 ... أختان لأم ... 2 للزوج النصف عائلاً (3)، وللأختين لأبوين الثلثان عائلاً (4)، والأختان لأب محجوبتان بالأختين الشقيقتين، لاستغراقهما الثلثين. وللأختين لأم الثلث عائلاً (2). أصل المسألة من (6) وتعول إلى (9). سميت مروانية، لوقوعها في زمن مروان بن الحكم. وتسمى الغراء، لاشتهارها بين العلماء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 11 - الحمزية. وهي: 6 ... 72 6/ 1 ... ثلاث جدات متحاذيات ... 1 ... 12 ع ... جد ... 5 ... 30 أخت شقيقة ... 30 أخت لأب ... 0 م ... أخت لأم ... 0 هذه المسألة على مذهب الشافعي من مسائل المعادة، فإن الشقيقة، تعد الأخت لأب على الجد، ثم تأخذ نصيبها. هذه المسألة من (6)، للجدات السدس (1)، وللجد والأختين الباقي (5)، والأخت لأم محجوبة بالجد. ونصيب الجدات، لا ينقسم عليهن، وبين عدد رؤوسهن وسهامهن تباين، فنحفظ عدد الرؤوس. ونصيب الجد والأختين (5) وعدد رؤوسهن أربعة، باعتبار الجد يعد كأختين، فبين الرؤوس وبين السهام أيضاً تباين، فنحفظ عدد الرؤوس، ثم ننظر بين عدد رؤوس الجدات (3) وبين عدد رؤوس الجد والأختين (4) فنجد أنهما متباينان، فنضرب عدد الرؤوس ببعضهما (3×4=12)، ونضرب بالحاصل أصل المسألة (6×12=72). للجدات (1×12=12)، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 لكل جدة (4) أسهم، للجد والأختين (5×12=60)، للجد نصفها (30)، وللأخت الشقيقة نصفها (30) أيضاً، وهو نصيبها ونصيب الأخت لأب. وسميت هذه المسألة بهذا الاسم، لأن حمزة الزيات سئل عنها فأجاب بهذا الجواب. 12 - الدينارية. وهي: 24 ... 600 8/ 1 ... زوجة ... 3 ... 75 6/ 1 ... جدة ... 4 ... 100 3/ 2 ... بنتان ... 16 ... 400 ع ... اثنا عشر أخأ لأب ... 1 ... 24 أخت لأب ... 1 والتركة في هذه المسألة كانت (600) دينار. المسألة من أربعة وعشرين، وتصح، من ستمائة، لأن بين نصيب الأخوة والأخت، وعدد رؤوسهن تبايناً: فنضرب أصل المسألة، بعدد الرؤوس (24×25=600) فيخرج تصحيح المسألة. للزوجة الثمن (75) ديناراً، وللجدة السدس (100) دينار، وللبنتين الثلثان (400) دينار، وللأخوة لأب والأخت لأب الباقي (25) ديناراً، لكل اخ ديناران، وللأخت دينار واحد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 ولهذا سميت هذه المسألة بالدينارية، وفيها يلغز، فيقال: رجل خلف ستمائة دينار، وسبعة عشر وارثاً ذكوراً وإناثاً، فأصاب أحدهم دينار واحد. 13 - الامتحان. أصل ... تصحيح 24 ... 30240 8/ 1 ... 4 زوجات ... 3 ... 3780 6/ 1 ... 5 جدات ... 4 ... 5040 3/ 2 ... 7بنات ... 16 ... 20160 ع ... 9 أخوات لأب ... 1 ... 1260 وهي: هذه المسألة تصح من (24)، للزوجات الثمن (3)، وللجدات السدس (4)، وللبنات الثلثان (16)، وللأخوات الباقي بالتعصيب (1)، فإن الأخوات مع البنات عصبات مع الغير. وسهام كل فريق من الورثة لا ينقسم على عدد رؤوسهم، وبين كل فريق وسهامهم تباين، لذلك نضرب الرؤوس بعضها ببعض، وحاصل الضرب، وهو (1260)، هو جزء السهم، يضرب به أصل المسألة، فيكون الناتج تصحيح المسألة: (24×1260=30240). ثم نضرب نصيب كل وارث بجزء السهم، هكذا: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 الزوجات: (3 × 1260) = (03780) الجدات: (4 × 1260) = (05040) البنات: ... (16 × 1260) = (20160) الأخوات: (1 × 1260) = ... (01260) (30240) وفي هذه المسألة يلغز ويمتحن، فيقال: رجل خلف أصنافاً عدد كل صنف أقل من عشرة، ولا تصح المسألة إلا مما يزيد على ثلاثين ألفاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 مسائل محلولة في شتى أبواب الفرائض لقد سردنا معظم أحكام الفرائض قبل أبحاث الحساب، عارية عن رسم مسائل حسابية، اصطلح علماء الفرائض أن يرسموها في كل باب من أبواب المواريث، تقريراً لأحكامه، وتبياناً لطرقه في توزيع الشركة على أصحابها. والذي حملنا على تأخير ذكر تلك المسائل، إلى ما بعد أبحاث الحساب، إنما هو خوفنا أن يكون عملنا مبيناً على قواعد مجهولة غالباً للدارسين لهذا الفن، قبل أن يصلوا إلى قواعد الحساب، وحل المسائل. أما الآن، وبعد دراستنا لمسائل الحساب، يبدو ذكرنا لتلك المسائل أمراً معقولاً ومقبولاً، بل هو لازم وضروري. وها نحن نذكر- إضافة لما مر معنا - نماذج من المسائل المحلولة، والمشروحة في شتى أبواب المواريث، زيادة في الإيضاح، وتقريباً لقواعد هذا العلم، وأحكامه ومسائله، إلى أذهان الراغبين في معرفته، والمحبين لدراسته، سائلين المولى عز وجل النفع لنا ولهم، والهداية إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. الطريقة العامة التي اصطلح عليها العلماء في حل مسائل هذا الفن: هناك خطوات ينبغي معرفتها، والسير عليها في حل المسائل: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 1 - كتابة الورثة بشكل عامودي. 2 - وضع استحقاق كل وارث من فرض أو تعصيب أو حجب إلى جانب الورثة على يمين العامود الخاص بهم. 3 - وضع أصل المسألة على يسار عامود الورثة في الأعلى. وقد مر بك - في بحث الحساب- طريقة استخراج أصول المسائل. 4 - وضع العول إذا ما عالت المسألة فوق أصلها. 5 - وضع تصحيح المسألة إذا احتاجت إلى تصحيح على يسار عامود أصل المسألة في الأعلى، وقد مر بك طريقة تصحيح المسائل. 6 - وضع سهام كل وارث في مساواته تحت أصل المسألة، ووضع سهامه من تصحيحها تحت تصحيحيها أيضاً. 7 - وضع جزء السهم في الأعلى على يمين أصل المسألة. 8 - يشير علماء الفرائض كثيراً إلى العصبة بحرف (ع)، وإلى الشخص المحجوب بحرف (م). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 مسائل في أصحاب الفروض والعصبات 6 2/ 1 ... زوج ... 3 3/ 1 ... أم ... 2 ع ... أخ شقيق ... 1 الشرح: يستحق الزوج في هذه المسألة نصف التركة (2/ 1)، لعدم وجود فرع وارث للميت، كما تستحق الأم ثلثها (3/ 1)، لعدم وجود الفرع الوارث أيضاً، ولعدم وجود عدد من الأخوة، أما الشقيق، فيأخذ ما بقي تعصيباً، لأنه أولى رجل ذكر في هذه المسألة، ولأنه لا يوجد من يحجبه. وأصل هذه المسألة من (6) حاصل ضرب مخرج النصف بمخرج الثلث، لأن المخرجين متباينان. فمجموع سهام التركة إذاً (6) موزعة كما هو مبين في المسألة. - - - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 24 2/ 1 ... بنت ... 12 6/ 1 ... أم ... 4 8/ 1 ... زوجة ... 3 ع ... أخ شقيق ... 5 الشرح: نصيب البنت في هذه المسألة النصف (2/ 1)، لكونها وحدها، ولا يوجد من يعصبها، ونصيب الأم السدس (6/ 1)، لوجود الفرع الوارث للميت، وهي البنت، ونصيب الزوجة الثمن (8/ 1)، لوجود الفرع الوارث أيضاً، أما الأخ الشقيق، فيستحق الباقي بالتعصيب. أصل المسألة (24)، لتوافق مخرجي الثمن والسدس، بالنصف، فيضرب نصف أحدها بكامل الآخر، والحاصل هو أصل المسألة. أما مخرج النصف، فإنه يدخل في مخرجي الثمن والسدس، فيترك. فمجموع سهام التركة كما هو واضح (24) وتوزيعها مبين في المسألة. - - - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 12 2/ 1 ... بنت ابن ... 6 4/ 1 ... زوج ... 3 6/ 1 ... أم ... 2 ع ... أخ لأب ... 1 الشرح: لبنت الابن النصف (2/ 1)، لعدم وجود ولد للميت، ولانفرادها عن معصب، وللزوج الربع (4/ 1)، لوجود الفرع الوارث، وللأم السدس (6/ 1)، لوجود الفرع الوارث أيضاً، وللأخ لأب الباقي تعصيباً. أصل المسألة (12) لتوافق مخرجي الربع والسدس، بالنصف، فيضرب نصف أحدهما بكامل الآخر، فما حصل فهو أصل المسألة. وسهام المسألة إذاً (12)، وتوزيعها واضح في المسألة. - - - 12 2/ 1 ... أخت شقيقة ... 6 4/ 1 ... زوجة ... 3 6/ 1 ... أخ لأم ... 2 ع ... ابن أخ شقيق ... 1 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 الشرح: تستحق الشقيقة في هذه المسألة نصف التركة (2/ 1) لكونها وحدها، فلا حاجب، ولا معصب لها. وتستحق الزوجة الربع (4/ 1) لعدم وجود فرع وارث للميت، وتستحق الأم السدس (6/ 1) لوجود عدد من الأخوة. أما ابن الأخ الشقيق فهو عصبة، يستحق الباقي من التركة. أصل المسألة (12) لوجود التوافق بين مخرجي الربع والسدس، فيضرب نصف أحدها بكامل الآخر، والحاصل هو أصل المسألة. مجموع سهام التركة (12) موزعة كما هو مبين في المسألة. - - - 6 2/ 1 ... أخت لأب ... 3 6/ 1 ... أم ... 1 6/ 1 ... أخت لأم ... 1 ع ... عم شقيق ... 1 الشرح: للأخت لأب النصف (2/ 1)، لانفرادها، وعدم وجود من يحجبها أو يعصبها، وللأم السدس (6/ 1)، لوجود عدد من الإخوة، وللأخت لأم السدس (6/ 1) لكونها وحدها، ولعدم وجود من يحجبها، أما العم الشقيق، فله الباقي تعصيباً. أصل المسألة (6) أحد مخرجي فرض الأم والأخت لأم، لأن المخرجين متماثلان، ودخول مخرج النصف، وهو نصيب الأخت فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 فمجموع سهام التركة إذاً ستة، موزعة كما هو مبين في المسألة. - - - 12 4/ 1 ... زوج ... 3 ع ... ابن ... 7 6/ 1 ... أب ... 2 الشرح: للزوج في هذه المسألة ربع التركة (4/ 1)، لوجود الفرع الوارث للميت، وللأب السدس (6/ 1)، لوجود الفرع الوارث المذكر، والباقي للابن يستحقه بالتعصيب، أصل المسألة (12) لتوافق مخرجي الربع والسدس، بالنصف، فيضرب نصف أحدهما بكامل الآخر، وسهام هذه المسألة إذاً (12)، وتوزيعها على الورثة لا يخفى عليك، وهو واضح في المسألة. - - - 12 4/ 1 ... زوجة ... 3 6/ 1 ... أم ... 2 6/ 1 ... أخت لأم ... 2 ع ... أخ شقيق ... 5 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 الشرح: الزوجة لها من هذه المسألة ربع التركة (4/ 1)، لعدم وجود الفرع الوارث، أما الأم فتستحق السدس (6/ 1)، لوجود عدد من الأخوة، وللأخت لأم السدس (6/ 1)، لأنها واحدة، ولعدم وجود من يحجبها. أما الأخ الشقيق فيستحق الباقي بالتعصيب. وأصل المسألة (12) لتوافق مخرجي السدس والربع. ومجموع سهام التركة إذاً (12)، وتوزيعها على الورثة واضح، كما هم مبين في المسألة. - - - 12 4/ 1 ... زوج ... 3 2/ 1 ... بنت ... 6 6/ 1 ... أم ... 2 ع ... أخ لأب ... 1 الشرح: للزوج الربع (4/ 1)، لوجود الفرع الوارث وهو البنت، وللبنت النصف (2/ 1)، لكونها وحدها وليس معها معصب، وللأم السدس، لوجود الفرع الوارث، والأخ لأب عصبة يستحق الباقي من التركة بعد أصحاب الفروض. أصل المسألة (12) لتوافق مخرجي الربع والسدس، فيضرب نصف أحدهما بكامل الآخر، والحاصل هو أصل المسألة، ومجموع سهام التركة (12) كما هو واضح، وتوزيعها على الورثة بين، لا يحتاج إلى توضيح. - - - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 4 4/ 1 ... زوج ... 1 2/ 1 ... بنت ابن ... 2 ع ... ابن أخ شقيق ... 1 الشرح: للزوج الربع (4/ 1)، لوجود الفرع الوارث للميت، وهو بنت الابن، ولبنت الابن النصف (2/ 1)، لعدم وجود من يعصبها، أو يحجبها، ولبن الأخ الشقيق الباقي، لأنه عصبة. أصل المسألة من (4)، لتداخل مخرجي الربع والنصف، فتأخذ المخرج الأكبر، وندع الأصغر. فسهام المسألة إذاً (4)، وتوزيعها واضح. - - - 12 4/ 1 ... زوج ... 3 ع ... ابن ابن ... 5 6/ 1 ... أم ... 2 6/ 1 ... أب ... 2 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 الشرح: للزوج الربع (4/ 1)، لوجود الفرع الوارث للميت، وللأم السدس (6/ 1)، لوجود الفرع الوارث أيضاً، وللأب السدس (6/ 1)، لنفس السبب، أما ابن الابن فهو عصبة يستحق الباقي. وأصل المسألة (12) لتوافق مخرجي السدس والربع. فيضرب نصف أحدهما بكامل الآخر، والحاصل أصل المسألة. ومجموع سهامها (12) وتوزيعها معروف كما في المسألة. - - - 24 8/ 1 ... زوجة ... 3 ع ... ابن ... 13 6/ 1 ... أب ... 4 6/ 1 ... أم ... 4 الشرح: للزوجة الثمن (8/ 1)، لوجود الفرع الوارث، وللأب السدس (6/ 1) لوجود الفرع الوارث المذكر، وللأم السدس أيضاً لنفس السبب، والابن له الباقي تعصيباً. أصل المسألة من (24) لوجود التوافق بين مخرجي الثمن والسدس، وحاصل ضرب وفق أحدهما الآخر، يساوي (24) هو سهام المسألة. وتوزيعها على الورثة واضح. - - - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 24 8/ 1 ... زوجة ... 3 2/ 1 ... بنت ... 12 6/ 1 ... أم ... 4 6/ 1+ ع ... أب ... 4+1=5 الشرح: ترث الزوجة في هذه المسألة الثمن (8/ 1) ثلاثة أسهم، لوجود الفرع الوارث، وترث البنت النصف (2/ 1) اثني عشر سهماً، لكونها وحدها، ولم يوجد لها معصب، وتأخذ الأم السدس (6/ 1) أربعة أسهم، أم الأب، فيرث السدس (6/ 1) فرضاً، ويأخذ الباقي بالتعصيب، لوجوده مع البنت، فيكون نصيبه (4+1=5). أصل المسألة من أربعة وعشرين (24) لتوافق مخرجي الثمن والسدس - - - 24 8/ 1 ... ثلاث زوجات ... 3 ع ... ابن ابن ... 13 6/ 1 ... أب ... 4 6/ 1 ... أم ... 4 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 الشرح: للزوجات الثلاث الثمن (8/ 1)، لوجود الفرع الوارث، وللأب السدس (6/ 1)، لوجود الفرع الوارث المذكر، وللأم السدس (6/ 1)، لوجود الفرع الوارث، ولابن الابن الباقي تعصيباً. أصل المسألة (24) حاصل ضرب نصف مخرج الثمن بكامل مخرج السدس، وهي سهام الترك، وتوزيعها على الورثة واضح في المسألة. - - - 6 3/ 2 ... بنتان ... 4 6/ 1 ... أب ... 1 6/ 1 ... أم ... 1 الشرح: للبنتين الثلثان (3/ 2)، لتعددهن وعدم وجود من يعصبهن، ولكل واحد من الأبوين السدس 06/ 1)، لوجود الفرع الوارث. وسهام المسألة (6) لتداخل مخرجي الثلثين، والسدس، فنأخذ الأكبر، وندع الأصغر. وتوزيعها على الورثة واضح. - - - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 24 3/ 2 ... بنتا ابن ... 16 6/ 1 ... أم ... 4 8/ 1 ... زوجة ... 3 ع ... أخ لأب ... 1 الشرح: لبنتي الابن الثلثان (3/ 2) لتعددهن وعدم وجود من يحجبهن أو يعصبهن، وللأم السدس (6/ 1)، لوجود الفرع الوارث، وللزوجة الثمن (8/ 1)، لوجود الفرع الوارث، وللأخ للأب الباقي تعصيباً، لعدم وجود من يحجبه. أصل المسألة (24)، لدخول الثلاثة مخرج الثلثين في الستة، مخرج السدس، وبين الستة والثمانية توافق بالنصف، فيضرب نصف أحدهما وتوزيعها على الورثة واضح، كما هو مبين في المسألة. - - - 6 3/ 2 ... أختان شقيقتان ... 4 6/ 1 ... أم ... 1 6/ 1 ... أخت لأم ... 1 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 الشرح: للشقيقتين الثلثان (3/ 2)، لتعددهن وعدم وجود ن يحجبهن أو يعصبهن، وللأم السدس (6/ 1)، لوجود العدد من الأخوات، وللأخت لأم السدس (6/ 1) لانفرادها عن مثيلتها وعدم وجود من يحجبها. أصل المسألة (6)، لدخول مخرج الثلثين، في الستة مخرج السدس، ولتماثل مخرجي فرضي الأم والأخت لأم، فيكون أحدهما وهو الستة مجموع سهام المسألة. للشقيقتين الثلثان (4)، وللأم السدس (1)، وللأخت لأم السدس (1). - - - 6 3/ 2 ... أختان لأب ... 4 6/ 1 ... جدة ... 1 6/ 1 ... أخ لأم ... 1 المسألة من (6) لتماثل فرضي الجدة والأخ لأم، ودخول مخرج الثلين فيهما. للأختين لأب الثلثان (3/ 2) أربعة أسهم، وللجدة السدس (6/ 1) سهم واحد، وللأخ لأم السدس (6/ 1) سهم واحد أيضاً. - - - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 12 3/ 1 ... أم ... 4 4/ 1 ... زوجة ... 3 ع ... أخ شقيق ... 5 الشرح: أصل المسألة (12) حاصل ضرب مخرج الثلث بمخرج الربع، لأنهما متباينان. للأم الثلث (3/ 1) أربعة أسهم، لعدم وجود الفرع الوارث والعدد من الإخوة، وللزوجة الربع (4/ 1) ثلاثة أسهم، لعدم وجود الفرع الوارث، وللأخ الشقيق الباقي تعصيباً، وخمسة أسهم. - - - 12 3/ 1 ... أختان لأم ... 2 أخوان لأم ... 2 6/ 1 ... أم ... 2 4/ 1 ... زوجة ... 3 ع ... أخ شقيق ... 3 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 الشرح: أصل المسألة (12) حاصل ضرب نصف الأربعة بكامل الستة، لتوافق مخرجي السدس والربع بالنصف، أما مخرج الثلث، فهو داخل في مخرج السدس. يأخذ الأخوان لأم، والأختان لأم ثلث التركة (3/ 1) أربعة أسهم، لكل واحد منهم سهم واحد، لأنهم يرثون بالتساوي. وللأم السدس (6/ 1) وهو سهمان، لوجود العدد من الأخوة والأخوات، وللزوجة الربع (4/ 1) ثلاثة أسهم، لعدم وجود الفرع الوارث، وللأخ الشقيق الباقي تعصيباً، وهو ثلاثة أسهم. - - - 6 6/ 1 ... جد ... 1 6/ 1 ... جدة ... 1 2/ 1 ... بنت ... 3 6/ 1 ... بنت ابن ... 1 الشرح: أصل المسألة (6) لتماثل مخارج السدس، ودخول مخرج النصف فيها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 للجد السدس (6/ 1) سهم واحد، لوجود الفرع الوارث، وللجدة السدس (6/ 1) أيضاً سهم واحد، وللبنت النصف (2/ 1) ثلاثة أسهم، لانفرادها وعدم وجود من يعصبها، ولبنت الابن السدس (6/ 1) سهم واحد لوجودها مع البنت وعدم وجود من يعصبها. - - - 6 6/ 1 ... أم ... 1 2/ 1 ... شقيقة ... 3 6/ 1 ... أخت لأب ... 1 6/ 1 ... أخت لأم ... 1 الشرح: أصل المسألة (6) لتساوي مخارج فروض الأم والأخت لأب والأخت لأم، ودخول مخرج فرض النصف بمخرج فرض السدس. للأم السدس (6/ 1) سهم واحد، لوجود العدد من الأخوات، وللأخت الشقيقة النصف (2/ 1) وهو ثلاثة أسهم لانفرادها وعدم وجود من يحجبها أو يعصبها، وللأخت لأب السدس (6/ 1) سهم واحد، تكملة الثلثين، لعدم وجود من يحجبها أو يعصبها، وللأخت لأم السدس (6/ 1) لانفرادها وعدم وجود من يحجبها. - - - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 24 6/ 1 ... أب ... 4 م ... جد ... 0 ع ... ابن ... 17 م ... ابن ابن ... 0 م ... جدة: أم أب ... 0 8/ 1 ... زوجة ... 3 الشرح: أصل المسألة (24) حاصل ضرب نصف مخرج السدس بكامل مخرج الثمن، لتوافقهما في النصف. يستحق الأب سدس التركة (6/ 1) أربعة أسهم، لوجود الفرع الوارث، وتستحق الزوجة الثمن (8/ 1) ثلاثة أسهم، ويأخذ الابن الباقي بالتعصيب، وهو (17) سهماً، أما الجد فهو محجوب عن الميراث بالأب، لأنه أقرب منه إلى الميت، ولأنه أدلى به إليه ومن أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة. وابن الابن محجوب بالابن، لكونه أقرب منه إلى الميت. والجدة أم الأب محجوبة بالأب، لأنها أدلت به إلى الميت، ومن أدلى إلى الميت بواسطة حجبته تلك الواسطة. - - - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 6 6/ 1 ... أب ... 1 6/ 1 ... أم ... 1 3/ 2 ... بنتان ... 4 م ... بنتاً ابن ... 0 الشرح: أصل المسألة (6) لتماثل مخرجي فرضي الأب والأم، ودخول مخرج فرض البنتين فيهما. للأب سدس التركة (6/ 1) سهم واحد، لوجود الفرع الوارث، وللأم السدس (6/ 1) أيضاً سهم واحد، لنفس السبب السابق، وللبنتين الثلثان (3/ 2) أربعة أسهم، لكل بنت سهمان من التركة، لعدم وجود من يعصبهما. أما بنتا الابن فمحجوبتان، لأنه لم يبق لهما من الثلثين شيء. إذ الثلثان نصيب البنات، فإن فضل منه شيء أخذه أولاد الابن. - - - 2 ع ... أخ شقيق ... 1 م ... أخ لأب ... 0 م ... أخ لأم ... 0 2/ 1 ... بنت ... 1 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 الشرح: أصل المسألة (2) مخرج فرض البنت. تأخذ البنت النصف (2/ 1) سهم واحد، لانفرادها عن معصب، ويأخذ الأخ الشقيق الباقي بالتعصيب، وهو سهم واحد، أما الأخ لأب، فهو محجوب بالأخ الشقيق، لأن الأخ الشقيق أقوى منه، لإدلائه إلى الميت بالأب والأم، بينما يدلي الأخ لأب إليه بالأب فقط. أما الأخ لأم فهو محجوب بالبنت. - - - 2 2/ 1 ... بنت ... 1 ع ... أخت شقيقة ... 1 م ... أخ لأب ... 0 الشرح: المسألة من (2) مخرج فرض البنت. للبنت النصف (2/ 1) سهم واحد، لانفرادها عن ابن يعصبها، والأخت الشقيقة عصبة مع الغير، تأخذ الباقي وهو سهم واحد، عملاً بالقاعدة المعروفة: (الأخوات مع البنات عصبات). أم الأخ لأب، فهو محجوب بالأخت الشقيقة، لأنها لما صارت عصبة مع الغير، صارت في قوة الأخ الشقيق، فحجبت الأخ لأب. - - - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 6 ع ... ابن أخ شقيق ... 2 6/ 1 ... أخ لأم ... 1 م ... عم ... 0 2/ 1 ... أخت شقيقة ... 3 الشرح: أصل المسألة (6)، لتداخل مخرجي النصف والسدس. للأخ لأم السدس (6/ 1) سهم واحد، وللأخت الشقيقة النصف (2/ 1) ثلاثة أسهم، والباقي لابن الأخ الشقيق، لأنه أقرب ذكر للميت. أما العم، فهو محجوب من الميراث بابن الأخ الشقيق، لأن جهة الأخوة مقدمة - كما عملت - على جهة العمومة في الميراث. - - - 6 6/ 1 ... جدة ... 1 3/ 2 ... أختان شقيقتان ... 4 م ... أختان لأب ... 0 6/ 1 ... أخت لأم ... 1 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 الشرح: أصل المسألة (6) مخرج السدس. للجدة السدس (6/ 1) سهم واحد، للأختين الشقيقتين الثلثان (3/ 2) أربعة أسهم، للأخت لأم السدس (6/ 1) سهم واحد. أما الأخت لأب فهي محجوبة بالأختين الشقيقتين، لاستغراقهما الثلثين نصيب الأخوات. - - - 6 2/ 1 ... بنت ... 3 6/ 1 ... بنت ابن ... 1 ع ... أخت شقيقة ... 2 م ... أخ لأب ... 0 م ... عم ... 0 الشرح: أصل المسألة (6) لتداخل مخرجي فرضي البنت وبنت الابن. للبنت النصف (2/ 1) ثلاثة أسهم، ولبنت الابن السدس (6/ 1) سهم واحد تكملة الثلثين، وللشقيقة الباقي، لأنها عصبة مع الغير، عملاً بالقاعدة المشهورة: (الأخوات مع البنات عصبات). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 أما الأخ لأب والعم، فهما محجوبان بالأخت الشقيقة، لأنها لما صارت عصبة مع الغير صارت بقوة الأخ الشقيق. - - - 6 6/ 1 ... أم ... 1 6/ 1 ... أب ... 1 م ... أخ شقيق ... 0 3/ 2 ... بنتان ... 4 ع ... بنت ابن ... 0 ابن ابن ... 0 الشرح: أصل المسألة (6) لتماثل مخرجي فرضي الأب والأم، ودخول مخرج الثلثين فيهما. للأب السدس (6/ 1) سهم واحد لوجود الفرع الوارث، وللأم السدس (6/ 1) سهم واحد لنفس السبب السابق. والأخ الشقيق محجوب بالأب، وابن الابن. وللبنتين الثلثان (3/ 2) أربعة أسهم، لتعددهما وانفرادهما عن معصب، أما بنت الابن، وابن ابن، فهما عصبة، وقد سقطا لعدم بقاء شيء لهما بعد أصحاب الفروض، وهذا هو حكم العصبة. - - - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 24 3/ 2 ... بنتان ... 16 ع ... ثلاث بنات ابن ... 3 ابن ابن ابن ... 2 8/ 1 ... زوجة ... 3 م ... أخ شقيق ... 0 الشرح: أصل المسألة (24) حاصل ضرب مخرج الثلثين بمخرج الثمن لتباينهما. للبنتين الثلثان (3/ 2) ستة عشر سهماً، لتعددهما وانفرادهما عن معصب، وللزوجة الثمن (8/ 1) ثلاثة أسهم، لوجود الفرع الوارث، وبنات الابن مع ابن ابن الابن عصبة، وإنما عصبهما - مع انه أنزل منهما درجة- لاحتياجهن إليه، إذا لولا تعصيبه لهن، لكن سقطن، لاستغراق البنات فرض الثلثين. أما الأخ الشقيق، فهو محجوب عن الميراث بابن ابن الابن، لكون جهته مقدمة في الميراث على جهة الأخوة. - - - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 6 2/ 1 ... زوج ... 3 3/ 1 با ... أم ... 1 ع ... أب ... 2 الشرح: هذه المسألة إحدى العمريتين. أصلها من ستة (6) للزوج النصف ثلاثة أسهم، وللأم ثلث الباقي سهم واحدة، وللأب الباقي بالتعصيب، سهمان. - - - 12 4/ 1 ... زوجة ... 3 3/ 1 با ... أم ... 3 ع ... أب ... 9 الشرح: المسألة من (12) حاصل ضرب مخرج فرض الزوجة بمخرج فرض الأم لتباينهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 للزوجة الربع (4/ 1) ثلاثة أسهم، وللأم ثلث الباقي (3) أسهم، وللأب الباقي تعصيباً، وهو ستة أسهم. وهذه المسألة هي العمرية الثانية. - - - 6 ... 18 2/ 1 ... زوج ... 3 ... 9 6/ 1 ... أم ... 1 ... 3 3/ 1 ... أخوان لأم ... 4 أخ شقيق ... 2 الشرح: هذه المسألة هي التي تسمى بالمشركة. وأصلها من (6) لتداخل مخارجها في مخرج فرض الأم. للزوج النصف (2/ 1) ثلاثة، وللأم السدس (6/ 1) سهم واحد. وكان مقتضى قواعد التعصيب أن يأخذ الأخوان لأم الثلث، ويسقط الأخ الشقيق لكونه عصبة. لكن سيدنا عمر - رضي الله عنه - قضى أن يشترك الأخ الشقيق مع الإخوة لأم في الثلث يقتسمونه بينهم بالسوية. ولما كان ثلث التركة يساوي سهمين، والرؤوس ثلاثة احتجنا إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 تصحيح المسألة. فأخذنا عدد الرؤوس لتباينهم مع سهامهم، وضربنا به أصل المسألة فصحت من (18) حاصل ضرب (3×6=18). ثم ضربنا بالثلاثة، التي نسميها جزء السهم، نصيب كل وارث. فأصاب الزوج (9) أسهم، والأم (3) أسهم، والأخوين لأم (4) أسهم، والأخ الشقيق (2) سهمين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 مسائل الجد مع الإخوة المراد بالإخوة هنا الأشقاء، ولأب ذكوراً وإناثاً. أما الإخوة لأم ذكوراً وإناثاُ، فإن الجد يحجبهم ولا يرثون معه. لقد ذكرنا أحكام الجد مع الإخوة بالتفصيل في مكانها من هذا الكتاب، ومثلنا بأمثلة مشروحة، لكنها غير محلولة بشكلها الحسابي المعروف. وها نحن نعود إليها تارة أخرى لنذكرها محلولة بشكلها الاصطلاحي، مع شيء من الشرح والتعليق، رغبة في زيادة الإيضاح والتبيين. أولاً: إذا لم يكن مع الجد والإخوة صاحب فرض: 2 ع ... جد ... 1 أخ شقيق ... 1 3 ع ... جد ... 2 أخت شقيقة ... 1 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 5 ع ... جد ... 2 ثلاث أخوات ... 9 4 ع ... جد ... 2 أختان شقيقتان ... 2 5 ع ... جد ... 2 أخ شقيق ... 2 أخت شقيقة ... 1 هذه المسائل الخمس يقاسم الجد فيها الأخوة والأخوات، لأن المقاسمة أفضل له، ويرث كما يرث أخ ذكر، أي مثل نصيب أختين. ويكون أصل المسألة فيها كلها من عدد الرؤوس، مع عد كل ذكر بأنثيين. 3 ... 9 3/ 1 ... جد ... 1 ... 3 ع ... ثلاثة أخوة ... 2 ... 6 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 3 ... 15 3/ 1 ... جد ... 1 ... 5 ع ... أخ ... 2 ... 4 ثلاث أخوات ... 6 3 ... 15 3/ 1 ... جد ... 1 ... 5 3/ 2 ... خمس أخوات ... 2 ... 10 في هذه المسائل الثلاث يأخذ الجد ثلث التركة، لأنها أنفع له من المقاسمة. ويأخذ الأخوة الباقي. وأصل هذه المسائل (3) مخرج فرض الجد. غير أن نصيب الأخوة لا ينقسم على عدد رؤوسهم، فنأخذ عدد الرؤوس، لتباينها مع سهامها، ونضرب بها أصل المسائل، فما بلغ فمنه تصح هذه المسائل، ثم نضرب بجزء السهم ذاك نصيب كل وارث، ليكون الناتج منقسماً على ورثته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 3 3/ 1 ... جد ... 1 ع ... أخوان ... 2 3 ... 3 3/ 1 ... جد ... 1 ... 2 3/ 2 ... أربع أخوات ... 2 ... 4 3 ... 6 3/ 1 ... جد ... 1 ... 2 ع ... أخ ... 2 ... 2 أختان ... 2 في هذه المسائل الثلاث، يستوي بالنسبة للجد المقاسمة مع الثلث فيأخذ الثلث، ويترك الباقي للأخوة والأخوات، للذكر مثل حظ الأنثيين. وأصل هذه المسائل (3) مخرج فرض الجد، فيأخذ هو الثلث والباقي للأخوة. وواضح أن المسألة الثانية والثالثة، لا ينقسم فيهما نصب الأخوة على عدد رؤوسهم، فنحتاج عندئذ إلى التصحيح. وواضح أن بين الرؤوس والسهام في المسألتين توافق بالنصف، فضربنا أصل المسألة بوفق الرؤوس لتصح المسألة فيهما من (6)، ثم ضربنا نصيب كل وارث بجزء السهم (2)، فما بلغ فهو منقسم على الورثة، كما هو بين في المسائل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 ثانياً: إذا كان مع الجد والأخوة صاحب فرض: 2 ... 4 2/ 1 ... زوج ... 1 ... 2 ع ... جد ... 1 ... 1 أخ ... 1 4 ... 16 4/ 1 ... زوجة ... 1 ... 4 ع ... جد ... 3 ... 6 أختان ... 6 في هاتين المسألتين يأخذ الجد بالمقاسمة لأنه أنفع له. أصل المسألة الأولى (2) مخرج فرض الزوج. يأخذ الزوج سهماً واحداً، ويبقى سهم بين الجد والأخ، وهو غير منقسم عليهما، فنضرب أصل المسألة بعدد الرؤوس (2)، فتبلغ (4) تصحيح المسألة، ثم نضرب كل وارث بجزء السهم (2)، فيكون الناتج منقسماً على الورثة. أما المسألة الثانية، فأصلها (4) مخرج فرض الزوجة. تأخذ الزوجة سهماً واحداً، والباقي (3) للجد والأختين، وهو غير منقسم عليهما، فتصح المسألة من (16)، وذلك بضرب أصلها بعدد رؤوس الجد والأختين، لتباين الرؤوس مع السهام. ثم نضرب نصيب كل وارث بجزء السهم (4)، والناتج منقسم على الورثة، كما هو مبين في المسألتين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 18 6/ 1 ... أم ... 3 3/ 1 با ... جد ... 5 ع ... خمسة أخوة ... 10 أصل هذه المسألة (18) حاصل ضرب مخرج السدس، بمخرج ثلث الباقي. للأم السدس (6/ 1) ثلاثة أسهم، وللجد ثلث الباقي (3/ 1 با) خمسة أسهم، لأنه انفع له من المقاسمة، ومن السدسن والباقي للأخوة بالتعصيب، وهو (10) أسهم، لكل أخ سهمان. - - - 18 6/ 1 ... أم ... 3 3/ 1 با ... جد ... 5 ع ... أخوان ... 10 في هذه المسألة تستوي المقاسمة مع ثلث الباقي بالنسبة للجد، فيأخذ ثلث الباقي. أصل المسألة من (18) حاصل ضرب مخرج السدس بمخرج ثلث الباقي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 للأم السدس 06/ 1) ثلاثة أسهم، وللجد ثلث الباقي (3/ 1با) خمسة أسهم، والباقي للأخوين. - - - 6 2/ 1 ... زوج ... 3 6/ 1 ... جدة ... 1 6/ 1 ... جد ... 1 ع ... أخ ... 1 في هذه المسألة يستوي بالنسبة للجد السدس مع المقاسمة، فأعطيناه السدس. أصل المسألة (6) مخرج السدس. للزوج النصف (2/ 1) ثلاثة، وللجدة السدس (6/ 1) سهم واحد، وللجد السدس (6/ 1) سهم واحد، والباقي بالتعصيب، وهو سهم واحد. - - - 6 ... 18 2/ 1 ... زوج ... 3 ... 9 6/ 1 ... جد ... 1 ... 3 ع ... ثلاثة أخوة ... 2 ... 6 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 في هذه المسألة يستوي بالنسبة للجد السدس وثلث الباقي، فأعطيناه السدس. أصل المسألة (6) مخرج فرض الجد، وتصح من (18) حاصل ضرب أصل المسألة بعدد رؤوس الأخوة لوجود التباين بين الرؤوس والسهام. وتوزيع التركة بعد هذا واضح، كما هو مبين في المسألة. - - - 6 2/ 1 ... زوج ... 3 6/ 1 ... جد ... 1 ع ... أخوان ... 2 في هذه المسألة نجد أن ثلث الباقي، والسدس، والمقاسمة سواء بالنسبة للجد، فأعطيناه السدس. أصل المسألة (6) مخرج فرض الجد، ومخرج فرض الزوج يدخل فيه. للزوج النصف (2/ 1) ثلاثة أسهم، وللجد السدس (6/ 1) سهم واحد، وللأخوين الباقي بالتعصيب، وهو سهمان، لكل واحد سهم واحد. - - - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 6 3/ 2 ... بنتان ... 4 6/ 1 ... أم ... 1 6/ 1 ... جد ... 1 ع ... أخ ... 0 هذه المسألة أصلها (6) مخرج فرض الأم، أو الجد، لتماثلهما، ومخرج فرض البنتين داخل فيهما. للبنتين الثلثان (3/ 2) أربعة أسهم، وللأم السدس (6/ 1) سهم واحد، وللجد السدس (6/ 1) سهم واحد. ولم يبق للأخ شيء من التركة، فسقط، ولم يقاسم الجد، لأن الجد لا ينزل مع الأخوة عن السدس، ولو اسماً. - - - 13 (عول) 12 4/ 1 ... زوج ... 3 3/ 2 ... بنتان ... 8 6/ 1 ... جد ... 2 ع ... أخ ... 0 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 أصل المسألة (12) وقد عالت بفروضها إلى (13). وقد سقط الأخ فيها، لأنه لم يبق له شيء بعد أصحاب الفروض، وأخذ الجد سدسه عائلاً. - - - 15 (عول) 12 3/ 2 ... بنتان ... 8 4/ 1 ... زوج ... 3 6/ 1 ... أم ... 2 6/ 1 ... جد ... 2 ع ... أخ ... 0 هذه المسألة كسابقتها، أصلها (12) وعالت بفروضها إلى (15)، ولم يبق للأخ بعد أصحاب الفروض شيء، وأخذ الجد سدسه عائلاً، كما أخذ كل وارث نصيبه عائلاَ. - - - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 6 2/ 1 ... زوج ... 3 3/ 1 ... أم ... 2 6/ 1 ... جد ... 1 ع ... أخ ... 0 في هذه المسألة سقط الأخ أيضاً، لأنه لم يبق له شيء بعد أصحاب الفروض. وتختلف هذه المسألة عن سابقتها أن الجد مع الأخ لم يحجب الأم من الثلث إلى السدس بل أخذت الأم معهما ثلثاً كاملاً. كما هو مبين في حل المسألة. - - - 3 3/ 1 ... جد ... 1 ع ... أخ شقيق ... 2 م ... أخ لأب ... 0 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 في هذه المسألة عدّ الأخ الشقيق معه الأخ لأب على الجد، ثم حجبه وأخذ نصيبه، وبذلك أنقص نصيب الجد من النصف إلى الثلث. المسألة من ثلاثة مخرج فرض الجد. واحد للجد، وسهمان للأخ الشقيق، ولا شيء للأخ لأب، لأنه محجوب. - - - 12 3/ 1 با ... جد ... 3 4/ 1 ... زوجة ... 3 ع ... أخ شقيق ... 6 م ... أخ لأب ... 0 المسألة من (12) حاصل ضرب مخرج فرض الجد بمخرج فرض الزوجة. للجد ثلث الباقي (3/ 1 با) ثلاثة أسهم، لاستوائه مع المقاسمة، وللزوجة الربع (4/ 1) ثلاثة أسهم، والباقي للأخ الشقيق، وأخذ نصيبه ونصيب الأخ لأب بعد أن عدّه على الجد. والأخ لأب محجوب بالأخ الشقيق لأنه أقوى منه. - - - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 3 3/ 1 ... جد ... 1 3/ 2 ... أختان شقيقتان ... 2 م ... أخ لأب ... 0 المسألة من (3) مخرج فرض الجد. للجد الثلث (3/ 1) سهم واحد، وهو يستوي مع المقاسمة، للأختين الشقيقتين الباقي، وهو الثلثان (3/ 2). وسقط الأخ لأب، لأنه لم يبق له شيء. وقد عدت الأختان الشقيقتان الأخ لأب على الجد، فأنقصتا نصيبه من النصف إلى الثلث. - - - 6 2/ 1 ... زوج ... 3 6/ 1 ... جد ... 1 2/ 1 ... أخت شقيقة ... 2 ع ... أخوان لأب ... 0 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 أصل المسألة (6) مخرج فرض الجدّ، ومخرج فرض النصف داخل فيه. للزوج النصف (2/ 1) ثلاثة أسهم. وإذا عدت الأخت الشقيقة الأخوين لأب على الجد كان الأحظ له السدس، وهو يستوي مع ثلث الباقي. ويبقى بعد النصف والسدس ثلث سهام المسألة فتأخذه الأخت الشقيقة، وهو أقل من النصف. أما الأخوان لأب فيسقطان، لأنه لم يبق لهما شيء من التركة. - - - 2 ... 10 ع ... جد ... 2 ... 4 أخت شقيقة ... 5 أخ لأب ... 1 هذه المسألة تسمى عشرية زيد لصحتها من عشرة؛ وتفصيلها: أن الأحظ للجد هنا المقاسمة، فيأخذ نصيبه به. والشقيقة تعد الأخ لأب معها على الجد، ثم تعود وتأخذ من نصيب الأخ لأب ما يكمل لها نصف التركة، والباقي يبقى للأخ لأب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 أصل المسألة (2) مخرج فرض الأخت الشقيقة المقدر لها ذهناً، وهو غير منقسم على الورثة، فتصحح المسألة إلى (10) حاصل ضرب عدد الرؤوس، وهم بعد عدّ كل ذكر أنثيين. فيكون للجد أربعة أسهم من عشرة، وللأخت الشقيقة خمسة أسهم، ويبقى للأخ لأب سهم واحد. - - - 10 ... 20 ع ... جد ... 4 ... 8 أخت شقيقة ... 5 ... 10 أختان لأب ... 1 ... 2 هذه المسألة أيضاً تسمى العشرينية، لصحتها من عشرين. لقد قدرنا أنها من عشرة: حاصل ضرب الرؤوس بمخرج النصف المقدر ذهناً للأخت الشقيقة. ثم صحت من عشرين حاصل ضرب رؤوس الأختين لأب بأصل المسألة. للجد ثمانية لأسهم من عشرين، وللشقيقة النصف وهو عشرة أسهم من عشرين سهماً. ويبقى سهمان لكل أخت لأب سهم واحد. - - - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 18 ... 54 6/ 1 ... أم ... 3 ... 9 3/ 1با ... جد ... 5 ... 15 2/ 1 ... أخت شقيقة ... 9 ... 27 الباقي ... أخ لأب ... 1 ... 2 أخت لأب ... 1 هذه المسألة تسمى مختصرة زيد. المسألة من (18) حاصل ضرب مخرج فرض السدس بمخرج فرض ثلث الباقي. تأخذ الأم السدس (6/ 1) ثلاثة أسهم، لوجود عدد من الأخوة، ويأخذ الجد ثلث الباقي (3/ 1با) خمسة أسهم، وهو يستوي مع المقاسمة، ثم تأخذ الشقيقة، بعد أن تعد الأخ لأب والأخت لأب على الجد، النصف (2/ 1) تسعة أسهم، والباقي سهم واحد، للأخ لأب والأخت لأب، لا ينقسم عليهما، وبينه وبين الرؤوس تباين، فنأخذ عدد الرؤوس ثلاثة - وذلك بجعل الذكر مثل أنثيين - فيكون تصحيح المسألة (54). ثم نضرب بجزء السهم (3) نصيب كل وارث، كما هو مبين في المسألة. - - - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 18 ... 90 6/ 1 ... أم ... 3 ... 15 3/ 1با ... جد ... 5 ... 25 2/ 1 ... أخت شقيقة ... 9 ... 45 الباقي ... أخوان لأب ... 1 ... 4 أخ لأب ... 1 أصل المسألة من (18)، وتصح من (90). وذلك واضح من صورة حلها، وبالله التوفيق. - - - 9 ... 27 6 2/ 1 ... زوج ... 3 ... 9 3/ 1 ... أم ... 2 ... 6 6/ 1 ... جد ... 4 ... 8 2/ 1 ... أخت ... 4 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 هذه المسألة هي التي تسمى الأكدرية، وقد مرت معنا في بحث الجد والأخوة. أصلها من (6) مخرج فرض السدس، وما عداه داخل به، وتعول بفروضها إلى (9). للزوج النصف (2/ 1) ثلاثة أسهم، لعدم وجود فرع وارث، وللأم الثلث (3/ 1) سهمان، لعدم وجود فرع وارث وعدد من الإخوة، والجد يفرض له السدس (6/ 1) سهم واحد، ويفرض للأخت النصف (2/ 1) ثلاثة أسهم. لكن العلماء قضَوْا بعد هذا أن يعود الجد إلى الأخت، فيضم نصيبه إلى نصيبها، ويقاسمها النصيبين، للذكر مثل حظ الأنثيين. ولما كان نصيبه ونصيبها (4) أسهم، لا تنقسم عليهما للذكر مثل حظ الأنثيين، أخذنا عدد الرؤوس (3) لتباينها مع السهام (4)، وضربنا بها أصل المسألة، فكان حاصل الضرب (27) هو تصحيح المسألة، ثم ضربنا بجزء السهم (3) نصيب كل وارث، فكان الحاصل منقسماً على عدد الرؤوس، كمما هو مبين في أصل المسألة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 مسألة في المناسخات أصل ... أصل الثانية ... الجامعة ... أصل الثالثة ... الجامعة الثانية ... أصل ... الجامعة الأولى ... الأولى ... الثالثة 6 ... 5 ... 30 ... 4 ... 60 ... 10 ... 60 2/ 1 ... زوج ... 3 ... ت ... - ... - ... - 3/ 1 ... أم ... 2 ... غريبة ... - ... 10 ... ت ... - ع ... عم ... 1 ... غريب ... - ... 5 ... غريب ... 10 ... ت ع5 أبناء ... 5 ... 15 ... غرباء ... - ... 30 ... غرباء ... 30 ع 4إخوة لأب ... 4 ... 20 ... غرباء ... 20 ع 10 أبناء ... 10 ... 10 الشرح: هذه مناسخة مات فيها عدد من الأشخاص، كما هو مبين في الصورة. للزوج في الأولى النصف لعدم وجود الفرع الوارث، وللأم الثلث، لعدم وجود الفرع الوارث والعدد من الأخوة، والعم عصبة بنفسه، ولا يوجد من يحجبه، فله الباقي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 أصل المسألة (6)، للزوج النصف (3) أسهم، وللأم الثلث (2) سهمان، وللعم الباقي وهو سهم واحد. مات الزوج عن خمسة أبناء، فنعمل له مسألة مستقلة أصلها (5) عدد رؤوس الأبناء، لكل منهم سهم واحد. ثم ننظر بين سهام الزوج من المسألة الأولى وهي (3)، وبين أصل مسألته (5) فنجدهما متباينين. فنضرب أصل المسألة الأولى (6) بأصل المسألة الثانية (5) فتكون الجامعة (30)، وهي مسألة المناسخة الأولى. للأم منها (10) حاصل ضرب سهمها من المسألة الأولى (2) بأصل المسالة الثانية (5)، وللعم منها (5) حاصل ضرب سهمه في الأولى (1) بأصل الثانية (5)، وللأبناء (15) حاصل ضرب سهمهم في الثانية (5) بسهام ميتهم من الأولى (3). ثم ماتت الأم من ورثة الميت الأول عن أربعة إخوة لأب، فنعمل مسألتها. وأصلها (4) عدد رؤوس الإخوة لأب، لكل واحد منهم سهم واحد. ننظر الآن بين سهام الميت الثالث - وهو الأم - من مسألة المناسخة الجامعة الأولى، وهي (10)، وبين أصل مسألته (4) فنجدهما متوافقين بالنصف، لأن كلاً منهما يقبل القسمة على اثنين، فنضرب المسألة الجامعة الأولى بـ (2) نصف سهام مسألة الميت الثالث وهو وفقها، فتكون سهام مسألة المناسخة الجامعة الثانية (60). للعم في مسألة الميت الأول منها (10) حاصل ضرب سهمه في الجامعة الأولى (5) باثنين. وللأبناء في مسألة الميت الثاني منها (30) حاصل ضرب سهمهم في الجامعة الأولى (15) بـ (2). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 وللأخوة لأب في مسألة الميت الثالث (20) حاصل ضرب سهمهم في مسألتهم (4) بوفق سهام ميتهم في المسألة الجامعة الثانية، وهو نصف العشرة (5). ثم مات العم من ورثة الميت الأول عن (10) أبناء، فتعمل مسألته، وأصلها (10) مجموع رؤوسهم، لكل واحد منهم سهم واحد. ننظر الآن بين سهام الميت الرابع في مسألة المناسخة الثانية، وهي (10)، وبين أصل مسألته، فنجدها متماثلة معها، ومنقسمة عليها، فيكون أصل المسألة المناسخة الجامعة الثالثة هو أصل الجامعة الثانية (60). للأبناء في مسألة الميت الثاني منها (30) مجموع سهامهم السابقة، لكل منهم ستة أسهم، وللأخوة لأب في مسألة الميت الثالث منها (20) مجموع سهامهم في المناسخة السابقة، لكل منهم خمسة أسهم، وللأبناء في مسألة الميت الرابع (10) مجموع سهام ميتهم من المناسخة الثانية السابقة، لكل منهم سهمان. - - - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 مسائل في الخنثى 2 ... /أنثى ... 3 ... 6 ع ... ابن ... 1 ... 2 ... 3 ولد خنثى / ذكر ... 1 ... 1 ... 2 الشرح: قدرنا في المسألة الأولى أن الخنثى ذكر، فيكون مساوياً للابن، وهما وحدهما الورثة، فالتركة بينهما، وأصل المسألة (2) عدد رؤوسهما، لكل واحد منهما سهم واحد. وفي المسالة الثانية قدرنا أن الحنثى أنثى، فتكون المسالة من (3) عدد رؤوسهما، للذكر مثل حظ الأنثيين، للابن سهمان، وللخنثى سهم واحد. بين أصل المسألتين تباين، فنضرب كلاً منهما بأصل الأخرى، ويكون الحاصل هو الجامعة للمسألتين (6)، يعطى منها لكل من الخنثى وأخيه الأقل على الفرضين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 فعلى تقدير أن الخنثى ذكر، يكون للابن ثلاثة أسهم، وهي سهمه من المسألة الأولى مضروباً بأصل الثانية. ويكون للخنثى ثلاثة، لما سبق. وعلى تقدير أنوثة الخنثى يكون للابن (4) أسهم، هي سهمه من الثانية مضروباً بأصل المسألة الأولى. ويكون للخنثى (2)، هي سهمه من الثانية مضروباً بأصل الأولى. فيعطى الابن (3)، وهو الأقل، ويعطى الخنثى (2)، وهو الأقل أيضاً، ويوقف سهم واحد، إلى أن يتبين حال الخنثى، أو يصطلح مع أخيه عليه، فإن ظهر الخنثى ذكراً أخذ ذلك السهم، وإن ظهر أنثى، أخذه أخوه. - - - 2 2/ 1 ... بنت ... 1 ع ... أخ شقيق/ خنثى ... 1 الشرح: تأخذ البنت النصف، لأنه نصيبها، والخنثى يأخذ الباقي تعصيباً، على كل حال، لأنه إن كان ذكراً، فهو عصبة بنفسه، وإن كان أنثى، فهو عصبة مع غيره. ولا يوقف في هذه المسألة شيء، لأن البنت والخنثى لا يختلف نصيبهما على تقدير أنوثة الخنثى وذكورته. فأصل المسألة (2) مخرج فرض النصف، لكل سهم واحد منها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 2× ... 24 ... 48 ... 72 ... 144 8/ 1 ... زوجة ... 3 ... 6 ... 9 ... 18 6/ 1 ... أم ... 4 ... 8 ... 12 ... 24 ع ... ابن ... 17 ... 17 ... 34 ... 51 ولد خنثى / ذكر ... 17 ... / أنثى ... 17 ... 34 الشرح: للزوجة في هذه المسألة الثمن (8/ 1)، لوجود الفرع الوارث للميت، وللأم السدس (6/ 1) لنفس ذلك السبب. والخنثى إن كان ذكراً فهو عصبة بنفسه، وإن كان أنثى فهو عصبة بالابن، الذي هو عصبة بنفسه، وعلى كل فإنهما يرثان الباقي بالتعصيب. أصل المسألة (24)، حاصل ضرب وفق مخرج السدس بكامل مخرج الثمن، لنهما متوافقان بالنصف. للزوجة (3) أسهم هي الثمن، وللأم (4) أسهم هي السدس. ويبقى (17) سهماً للعصبة: الابن والخنثى، لا تنقسم عليهما. فإن كان الخنثى ذكراً صحت المسألة بضربها باثنين فتصبح (48) - (24×2=48) -: للزوجة منها (6)، وللأم (8)، وللخنثى (17)، وللابن (17). وإن فرض الخنثى أنثى، صحت المسألة بضربها بثلاثة، فتصبح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 (72) - (24×3=72) -: للزوجة منها (9)، وللأم (12)، وللخنثى (17)، (34). ثم ننظر بين أصل المسألتين، فنجد أن بينهما توافقاً بثلث الثمن، لأن ثمن (48): ستة، وثلث الستة: (2)، وثمن (72): تسعة، وثلث التسعة: (3)، فتصبح المسألة الجامعة (144)، حاصل ضرب (48) بـ (3) جزء سهم مسألة الذكورة، أو (72) بـ (2) جزء سهم الأنوثة. للزوجة منها (18) تعطاها، لأنها لا يختلف نصيبها في الحالين، وللأم (24)، تعطاها أيضاً، لأن نصيبها لا يختلف على كلا التقديرين، وللخنثى (34) على فرض أنه انثى، لأنها الأقل، وللابن (51) على فرض أن الخنثى ذكر، لأنها الأقل أيضاً. ويوقف (17) سهماً حتى يتبين الحال. فإن تبينت أنوثته، أعطيت للابن، وإن تبينت ذكورته أعطيت له. - - - 1 ... 2 ... 2 ع ... ولد خنثى/ ذكر ... 1 ... 2/ 1 أنثى ... 1 ... 1 م ... عم ... 0 ... ع ... 1 ... 0 الشرح: على تقدير أن الخنثى ذكر، فهو ابن، وهو عصبة بنفسه، وهو أقرب من العم، فيحجبه، ويكون المال كله له. وعلى تقدير أنه أنثى، فهو بنت، فلها نصف التركة، لانفرادها عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 مثيلاتها، وعدم وجود من يعصبها. والعم على هذا التقدير عصبة بنفسه ولا يوجد من يحجبه. فأصل المسألة الأولى (1)، وأصل الثانية (2)، والجامعة (2) حاصل ضرب المسألتين بعضهما، لأنهما متباينان. فيعطى الخنثى من الجامعة (1) على فرض أنه أنثى، لأنه الأقل المتيقن في حق نفسه. ولا ييعطى العم شيئاً، لاحتمال أن يكون الخنثى ذكراً، ويوقف (1) إلى أن يظهر حال الخنثى. فإن ظهر ذكراً، أخذه، وإن ظهر أنثى، أخذه العم، وإن لم يظهر حاله تصالح عليه هو والعم. - - - 2 ... 2 ... 2 2/ 1 ... زوج ... 1 ... 1 ... 1 ع ... ولد أخ خنثى / ذكر ... 1 ... رحم انثى ... 0 ... 0 م ... عم ... 0 ... ع ... 1 ... 0 الشرح: المسألة الأولى من (2) مخرج فرض الزوج، والمسألة الثانية كذلك، والجامعة أيضاً من (2) لتوافق المسألتين بالنصف، (2×1=2). للزوج النصف على كل حال، لأنه لا يوجد للميت فرع وارث، ثم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 إن فُرض الخنثى ذكراً كان ولد أخ يرث الباقي بالتعصيب وحجب العم، لأنه أقرب منه. وإن فرض انه أنثى كان من ذوي الأرحام، وأخذ العم الباقي بالتعصيب. وعملاً بالأحوط، والأقل في حق الخنثى والعم، فإن كلاً منهما لا يعطى شيئاً ويوقف نصف التركة حتى يتبين حال الخنثى، فإن ظهر ذكراً أخذه، وإن ظهر أنثى أخذه العم، أو يتصالحا عليه إن لم يظهر حاله. والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 مسائل فيها مفقود 6 ... 6 ... 6 2/ 1 ... زوج ... 3 ... 3 ... 3 6/ 1 ... أم ... 1 ... 3/ 1 للأم ... 2 ... 1 6/ 1 ... أخ لأم ... 1 ... 1 ... 1 ع ... أخ شقيق مفقود / حي ... 1 ... / ميت ... 0 ... 0 الشرح: للزوج النصف، لعدم وجود الفرع الوارث للميت، وللأم السدس لوجود عدد من الأخوة، على تقدير أن المفقود حيّ، وللأخ لأم السدس، والشقيق عصبة يأخذ الباقي، وهو سهم واحد. المسألة الأولى من (6) مخرج فرض السدس، ومخرج النصف يدخل فيه. ثلاثة للزوج، وواحد للأم، وواحد للأخ لأم، وواحد للشقيق باعتباره حياً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 أما المسألة الثانية، فنقدر أن المفقود ميت، فيأخذ الزوج النصف، والأم الثلث، والأخ لأم السدس. أصل المسألة (6) مخرج فرض السدس. للزوج ثلاثة، وللأم اثنان، وللأخ لأم سهم واحد، ولا شيء للشقيق، على اعتباره ميتاً. وإذا نظرنا إلى أصل المسألتين وجدناهما متماثلتين، فتكون الجامعة أيضلً (6). للزوج (3) أسهم، وللأخ لأم سهم واحد، وهما لا يختلف نصيبهما، سواء كان المفقود حياً، أم ميتاً. أم الأم، فيفرض لها السدس، سهم واحد، لأنه الأقل، ويبقى سهم واحد، موقوفاً، ليتبين حال الشقيق المفقود، فإن ظهر أنه حي أخذه، وإن ظهر أنه ميت، أخذته الأم. 24 ... 72 ... 24 ... 72 8/ 1 ... زوجة ... 3 ... 9 ... 3 ... 9 6/ 1 ... أب ... 4 ... 12 ... ع + 6/ 1 ... 4+1 ... 12 6/ 1 ... أم ... 4 ... 12 ... 4 ... 12 ع ... بنت ... 13 ... 13 ... 2/ 1 ... 12 ... 13 ابن مفقود / حي ... 26 ... ميت ... 0 ... 0 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 الشرح: أصل المسألة الأولى، التي قدرنا فيها المفقود، (24) حاصل ضرب وفق مخرج الثمن بكامل مخرج السدس، لتوافقهما بالنصف. للزوجة منها الثمن (8/ 1) ثلاثة أسهم، وللأب السدس (6/ 1) أربعة أسهم، وللأم السدس (6/ 1) أربعة أسهم. والباقي (13) سهماً: للبنت والابن المفقود للذكر مثل حظ الأنثيين. ولما كان نصيبهما لا ينقسم عليهما من غير كسر، فإننا نصحح المسألة، فتصح من (72) حاصل ضرب أصل المسألة بعدد الرؤوس، لوجود التباين بينهما. فيكون للزوج (9) أسهم، وللأب (12)، وللأم (12)، وللبنت (13)، وللابن المفقود (26). أما المسألة الثانية، وهي تقدير المفقود ميتاً، فهي أيضاً من (24) كالتي قبلها. للزوجة (3) أسهم، وللأم (4) أسهم، ونصيب الزوجة والأم لا يختلف على كلا التقديرين، وللبنت (12)، وللأب (5)، أربعة بالفرض وسهم بالتعصيب. ولا شيء للابن المفقود على اعتباره ميتاً. بقي أن ننظر في أصل المسألتين، كي نصل إلى الجامعة لهما، وواضح أن الجامعة تصح من (72)، لأن تصحيح المسألة الأولى من (72) وأصل الثانية (24) وكلاً منهما ينقسم على أربعة وعشرين، فتكون الجامعة (72) حاصل ضرب المسألة الأولى بواحد، ثم نقسم، فنعطى كل وارث الأقل، لأنه الأحوط، ونحفظ الباقي. فالزوج والأم لا يختلف نصيبهما، فيأخذانه كاملاً. أما الأب فيأخذ الأقل، (12) سهماً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 والبنت تأخذ الأقل (13) سهماً. والباقي (26) سهماً تبقى موقوفة حتى يظهر حال المفقود، فإن ظهر انه حي أخذها، وإن ظهر انه ميت رد منها إلى الأب (3)، وإلى البنت (23). والله أعلم. لقد تم ما وفقنا الله لوضعه في هذا الكتاب، والحمد لله أولاً وآخراً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي رحمهُ الله تعالى الجُزء السادس في المعاوضات البيع والهبة والإجارة والصلح والحوالة وما يلحق بها الدكتوُر مُصطفى الخِنْ ... الدّكتور مُصطفى البُغا علي الشْربجَي دار القلم دمشق " بسم الله الرحمن الرحيم " المقدمة الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فهذه حلقة جديدة من سلسلة كتابنا (الفقه المنهجي) تضم أبحاثاً فيها نفائس من التشريع الإسلامي، تنير للناس طريقهم في تعاملهم: بيعاً وشراءاً وإجارة ونحو ذلك. سرنا فيها على طريقتنا في هذه السلسلة: من سهولة اللفظ ووضوح المعنى وواقعية الموضوع، دون عرض للمسائل المفترضة، أو تعقيد في تصور الأمور، وإنما عرضنا فيها الأمور الأساسية في كل باب، من تعريف وبيان للمشروعية وحكمة التشريع، وعرض للأركان والشروط والأحكام، مع ذكر الدليل أو التعليل للحكم حيث أمكن ذلك أو وجد. ولم يفتنا أن نتعرض لتعامل الناس في هذه الأيام، ووزنه بقواعد الشرع وأُسسه وضوابطه، ثم الحكم عليه بالصحة أو الفساد بناء على ذلك، وبيان ما هو الصواب الموافق لشرع الله تعالى والموصل إلى رضوانه. هذا ومن المعلوم أن عمدتنا في هذه السلسلة هو الفقه الشافعي، ولكننا لم نستنكف في حلقتنا هذه عن الاستفادة من الآراء الفقهية الأخرى، إذا وجدنا أنها أقرب إلى واقع تعامل المسلمين، تيسيراً على الناس، واعتقاداً منّا أن الأئمة الفقهاء المعتمدين كلهم يسعى أن يصل إلى ما هو الصواب والموافق للحق عند الله عز وجل. ولقد تكلمنا في هذا الجزء عن الأبواب التالية: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 1 - البيع. ... 6 - الهبة. 2 - السلم. ... 7 - الإجارة. 3 - الربا. ... 8 - الجعالة. 4 - الصرف. ... 9 - الصلح. 5 - القرض. ... 10 - الحوالة. وسميّنا هذا القسم من الفقه (فقه المعاوضات) لأن المعاوضة هي الأصل في هذه الأبواب، وهي مادية واضحة في أكثرها كالبيع والسلم والربا والصرف، وكذلك الإجارة والجعالة، معنوية في بعضها كالقرض والهبة، إذ المقصود منها التعاون وتمتين الصلة وتعميق الحب والمودّة بين المكلفين، وهذا عوض يفوق العوض المادي منفعة وربحاً. وهي - أي المعاوضة - حقيقية خفية في بعض هذه الأبواب، كالصلح والحوالة، كما سنرى إن شاء الله تعالى. والله تعالى وحده نسأل أن يقبل منّا عملنا هذا، وأن يجعله حسنة في سجل أعمالنا الصالحة، وأن يجزل الأجر لوالدينا الذين جهدوا في حُسْن تربيتنا، وشيوخنا الذين بذلوا أغلى ما عندهم في سبيل تعليمنا شرعة الله تعالى، وتسليكنا طرق الهداية، وهو سبحانه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله تعالى وسلم على نبي الهدى والرحمة ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. المؤلفون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 البَاب الأوَّل البَيع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 البيع تعريفه: هو في اللغة: مقابلة شيء بشيء، سواء أكانا مالين أم لا، قال تعالى {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ}. ثم قال: {فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ} التوبة111. والشراء والبيع من الأضداد، أي يستعمل كل منهما بمعنى الآخر، قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} (يوسف20)، أي: باعوه. وفي الحديث " لا يبع الرجل على بيع أخيه " (1) أي لا يشتر، قال في مختار الصحاح: (فإنما وقع النهي على المشترى لا على البائع). ويطلق على البائع والمشتري البيعان، كما جاء في الحديث، وسيأتي عند الكلام عن خيار المجلس إن شاء الله تعالى. وفي اصطلاح الفقهاء: عقد يرد على مبادلة مال بمال تمليكاً على التأبيد. وذلك يعني: أنه لا بدّ في تبادل الأموال على سبيل التملّك من العقد، وكذلك لا يكون البيع والشراء إلا بما يُعتبر مالاً في عُرْف الشرع، وأيضاً لا بد في البيع من الملك والمليك، وأن لا يكون ذلك محدداً بوقت، وكل هذا سنعرفه مفصلاً فيما يأتي من فقرات البحث. مشروعيته: عقد البيع عقد مشروع، دلّ على مشروعيته الكتاب والسنّة، وحصل على ذلك الإجماع.   (1) - انظر تخريجه صفحة [43] فقرة [6] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 أما القرآن: فقد صرّح بحِلّ البيع في معرض الرد على أولئك المتعنتين، الذين أرادوا أن يحتّجوا لتعاملهم بالربا بأنه شبيه بالبيع، فقال سبحانه: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة275) كما قال تعالى في معرض الكلام عن تبادل الأموال: {لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} (النساء29) فالأكل المراد به الأخذ، وعبّر بالأكل عنه لأنه هو المقصود غالباً من أخذ المال، والباطل أي بغير حق، والتجارة هي البيع والشراء. وهناك آيات أخرى تأتي خلال البحث عند الاستدلال بها في مواضعها. وأما السنة: ففي ذلك أحاديث كثيرة من قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله وإقراره لعمل أصحابه، كلها تدل على مشروعية البيع، منها: - ما رواه الزبير بن العوام رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة الحطب على ظهره، فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه " (أخرجه البخاري في الزكاة، باب: الاستعفاف عن المسألة، رقم: 1402). [فيكف الله بها وجهه: أي يحميه بسببها من ذلّ السؤال وإراقة ماء الوجه]. - وأما فعله - صلى الله عليه وسلم -: فمن ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل، ورهنَه درعاً من حديد. (أخرجه البخاري في البيوع، باب: شراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسيئة، رقم: 1962. ومسلم في المساقاة، باب: الرهن وجوازه في الحضر والسفر، رقم: (1603). [والنسيئة: هي التأخير، أي تأخير الثمن إلى أجل]. - وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبايعون على مشهد منه ومسمع، أو يعلم بذلك، فيقرّهم ولا ينكر عليهم، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى. (انظر البخاري: كتاب البيوع، باب: ما قيل في الصواغ، وباب: بيع السلاح في الفتنة وغيرها). وسيأتي معنا خلال البحث أحاديث كثيرة، نستدل بها في مواضعها، كلها تدل على جواز البيع ومشروعيته في الإسلام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 وهذا الذي ثبت في الكتاب والسنّة أجمعت عليه الأمة في مختلف العصور والأزمان. حكمة التشريع: إن الناس في حاجة إلى كثير من السلع، ولا يستطيع كلّ منهم أن ينتج جميع ما يحتاج إليه منها، فكان لا بدّ من أن يبادل بعضهم بعضاً بهذه السلع، وهذا التبادل لا يحصل إذا لم يكن هناك تراضٍ عليه، وهذا التراضي هو عقد البيع. وكذلك ربما ملك بعضهم النقد ولم يملك سلعاً، وعكس ذلك يقع، فيحتاج ذو النقد إلى السلع، وذو السلع إلى النقد، وكل ذلك لا يحصل غالباً إلا بالبيع. وأيضاً من شأن الإنسان أن يسعى إلى الربح، والبيع والشراء هو الطريق السليم لتحصيل ذلك، والله تعالى أعلم. أركان عقد البيع: علمنا أن البيع عقد، وكل عقد لا بدّ فيه من أركان حتى يوجد، ولا بدّ لهذه الأركان من شروط حتى يصحّ العقد، وبالتالي تترتب عليه آثاره، وهي ما قرره شرع الله تعالى له من أحكام، ولنتكلم عن ذلك كله بعون الله تعالى فنقول: أركان عقد البيع ثلاثة: الركن الأول: العاقدان هما البائع والمشتري اللذان يقوم العقد بتوافق إرادتيهما، ويشترط في كل منهما: 1 - أن يكون رشيداً، أي بالغاً عاقلاً يحسن التصرف في المال. فلا يصح بيع ولا شراء الصبي والمجنون، وكذلك المحجور عليه لسفه، أي لسوء تصرفه بالمال: إما بإنفاقه في المحرمات، أو تبديده في المباحات، أو لغفلة وعدم خبرة. ودليل هذا: قوله تعالى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (النساء6) فقد أمر الله تعالى الأولياء باختبار مَن كانوا تحت ولايتهم من اليتامى بالمعاملة حين يبلغون، فإن ظهر منهم حسن تصرف بالمال دفعت إليهم وسلطوا عليها، فدلّ ذلك على أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 الرشد شرط للتسليط على المال وصحة التصرّف فيه، والبيع والشراء تصرف بالمال، فاشترط فيه الرشد. وكذلك كل من الصبي والمجنون ليس أهلاً للتصرف، لأنه غير مكلف، قال - صلى الله عليه وسلم -: " رفع القلم عن ثلاثةٍ: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم - أي يبلغ " (أبو داود: الحدود، باب: في المجنون يسرق أو يصيب حداً، رقم: 4401). ورفع القلم يعني عدم المؤاخذة، والعقود تترتب عليها أحكام، ومن كان غير مؤاخذ عن تصرفاته فليس أهلاً لإنشائها. 2 - أن يكون مختاراً مريداً للتعاقد: أي أن يبيع أو يشتري وهو قاصد لما يقوم به من تصرف بملء حريته ورغبته، راضياً بالتعامل الذي ينشئه. ودليل ذلك قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} (النساء29). وقوله - صلى الله عليه وسلم - "إنما البيع عن تراض" (أخرجه ابن ماجه في التجارات، باب: بيع الخيار، رقم: 2185). أي إنما يعتبر ويصح إذا كان عن تراضٍ من المتعاقدين. فعلى هذا لا يصح بيع المكروه ولا شراؤه، لعدم تحقق الرضا منه، وذلك أن الرضا أمر خفيّ، يدل عليه التصرف القولي أو الفعلي حال عدم الإكراه، وأما حال الإكراه فلم يبق القول الظاهر مظنة للرضا الخفي، وإنما أصبح مشكوكاً فيه أو مقطوعاً بعدم وجوده، فلم تعتبر الأقوال، ولم يصح البيع. ومثل المكره من تلفّظ بالبيع أو الشراء هازلاً، لأنه في معنى المكره، من حيث عدم الرضا بهذا التعامل وعدم القصد إليه. ويستثنى من عدم صحة بيع المكره ما لو كان الإكراه بحق، كأن يكون على إنسان ديون يماطل في وفائها، ولديه سلع يمتنع عن بيعها، فللقاضي أن يجبره على بيعها لأداء الحقوق لأصحابها، ويكون البيع هنا صحيحاً إقامة لرضا الشارع مقام رضا العاقد. 3 - تعدّد طرفي العقد: أي أن يوجد عاقدان بأن يكون البائع غير المشتري الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 وذلك لأن مصالح كل منهما تتعارض مع مصالح الآخر، فالبائع يرغب بثمن أكبر وشروط أقل، والمشتري يرغب بشروط في المبيع أفضل وبثمن أقل، وهكذا. كما أن للبيع أحكاماً تتعلق بقبض المبيع وأحكاماً تتعلق بقبض الثمن، وكل منها تترتب عليه مسؤوليات قد تعارض الأخرى، فلا يمكن أن يكون الجميع من مسؤولية شخص واحد. وعلى هذا فلو وكَل أحداً ببيع بعض أمواله فليس لهذا الوكيل أن يشتريها لنفسه، ولو وكَّلَ أحداً بشراء سلع ما، وكان الوكيل يملك هذه السلع فليس له أن يشتريها من نفسه لموكِّله. وكذِّلك لو كان رجل وكيلاً عن شخصين: فليس له أن يشتري من مال أحدهما للآخر، للمعنى الذي سبق، ولأن حقوق البيع من قبض وتسليم وغيرها تتعلق بالوكيل، وقد تحتاج إلى الخصومة والتقاضي، فلا يمكن أن يكون الشخص الواحد خصماً ومخاصماً في آن واحد ويستثنى من ذلك: بيع الولي - وهو الأب - مال ابنه القاصر من نفسه: لأنه لا يُتَّهم بغَبْنه لمزيد شفقته عليه. وكذلك بيع القاضي أموال القاصرين الذين تحت ولايته بعضهم من بعض، لأن ولايته عامة، وقد يضطر إلى مثل هذا البيع. 4 - البصر: فلا يصح بيع الأعمى ولا شراؤه، لأن في ذلك جهالة فاحشة، فيوكل مَن يشتري له أو يبيع. الركن الثاني: الصيغة: وهي اللفظ الذي يصدر من المتعاقدين، معَّبراً عن رغبتهما في التعاقد ورضاهما به وقصدهما إليه. فقد علمنا أن الرضا شرط لصحة عقد البيع، وأن الرضا أمر خفيّ أُقيم مقامه ما هو مظِنّة له، وهو التصرف الذي يعتّبر به العاقدان عن رضاهما بالبيع، وهذا التصرف هو الصيغة، وتشمل الإيجاب من البائع، كقوله: بعتك هذا الثوب بكذا، والقبول من المشتري، كقوله: قبلته، أو اشتريته، وما إلى ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 والصيغة قد تكون صريحة وقد تكون كناية: فالصريحة: كل لفظ تكون دلالته ظاهرة على البيع والشراء، كقوله: بعتك وملّكتك، وقول المشتري: اشتريت وتملّكت، ويكفي في القبول أن يقول: قبلت. والكناية: هي اللفظ الذي يحتمل البيع كما يحتمل غيره، كقول البائع: جعلتُه لك بكذا، أو: خذه بكذا، أو تسلَّمه بكذا، وقول المشتري: أخذته أو تسلّمته. فالصيغة الصريحة ينعقد بها البيع - إذا توفّرت شروطها - بمجرد التلفظ بها، ولا تحتاج إلى نيّة. بينما ألفاظ الكناية لا ينعقد فيها البيع إلا إذا اقترنت بنيته، أو دلّت القرائن على إرادته. وهل ينعقد البيع بالمعاطاة؟ كأن يُقبض البائع المبيع ويُقبضه المشتري الثمن، من غير أن يتلفظ واحد منهما بشيء، أو يتلفظ أحدهما ويسكت الآخر. المشهور في المذهب: أنه لا بدَّ من التلفظ من العاقدين، وأن البيع لا يصح بالمعاطاة. وبعض فقهاء المذهب صحَّح البيع بالمعاطاة في غير النفيس من الأشياء كرطل خبز وحزمة بصل ونحو ذلك، ولم يصححه في النفائس من السَّلَع والمبيعات ذات القيمة العالية. وأجاز ذلك مطلقاً المتأخرون من فقهاء المذهب - كالنووي رحمه الله تعالى - إذا جرى به العرف. وهذا أيسر للناس وأرحم، وأبعد عن إيقاعهم في الإثم وإبطال بياعاتهم، ولا سيما في هذه الأيام التي أصبح البيع بالمعاطاة فيها هو الشائع والغالب، وقلما تجد متبايعين يتلفظان بإيجاب أو قبول. وما سبق بالنسبة لمن يستطيع النطق، وأما الأخرس: فيُكتفى منه بإشارته المفهمة، المعهودة عنه في مثل هذا التصرف، فإنها تنوب منه مناب النطق للضرورة، لأنها تدل على ما في نفسه كما يدل اللفظ عما في نفس الناطق. وتقوم الكتابة منه مقام الإشارة، بل هي أولى، لأنها أقوى في الدلالة على الإرادة والرضا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 ويشترط في صيغة العقد ما يلي: 1 - أن لا يطول الفصل بين الإيجاب والقبول بما يُشعر عرفاً بالإعراض عن القبول، وهو ما يسمى باتحاد مجلس العقد، فلو أوجب البائع البيع، ثم حصل سكوت طويل، أو كلام أجنبي عن العقد ولا صلة له به، ولو قصر الزمن، ثم قبل المشتري، لم يصح العقد. فلو استمر الحديث عن البيع دار حوله، ثم قبل بعد، صحّ العقد وإن طال الفصل. 2 - أن يكون القبول موافقاً للإيجاب ومطابقاً له في كل جوانبه، فلو قال: بعتك بمائة، فقال: اشتريت بخمسين. أو قال: بعتك هذه الدار بألف، فقال: اشتريت نصفها بخمسين. أو قال: بعتك بألف معجَّلة، فقال: اشتريت بألف مؤجلة. لم ينعقد البيع في جميع هذه الصور، لعدم توافق القبول مع الإيجاب، إلا إذا قبل الموجب ثانيةً بما قبله القابل أولاً، فيصير الإيجاب الأول لاغياً، والقبول الأول إيجاباً، والقبول الثاني هو القبول الذي وافق الإيجاب. 3 - عدم التعليق على شرط أو التقييد بوقت، بأن تكون الصيغة تدل على التنجيز في العقد والتأبيد في التمليك، فلو قال: بعتك هذه الدار إن جاء فلان أو شهر كذا، فقال: قبلت، لم يصح العقد، لوجود الشرط. وذلك لأن التعليق يدل على عدم الجزم بإرادة البيع والرضا به، وقد علمنا أن الرضا شرط في صحته. وكذلك لو قال: بعتك هذه السيارة سنة مثلاً، فقال: اشتريت، لم ينعقد البيع، لوجود التقييد بالوقت. وذلك لأن ملكية الأعيان لا تقبل التوقيت. وهذا إذا كان التوقيت أو التعليق في المبيع، أما لو كان في الثمن، كما لو باعه على أن يوفيه الثمن أول شهر كذا أو بعد شهرين مثلاً، فإن البيع صحيح، لأن الثمن دين يثبت في الذمة، فيقبل التوقيت والتعليق، بخلاف الأعيان. فإذا كان البيع مقايضة، أي بيع سلعة بسلعة كبيع سيارة بسيارة مثلاً أو دار، فلا تقبل التعليق أيضاً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 الركن الثالث: المعقود عليه: وهو ما يسمى محل العقد، وهو في عقد البيع: المبيع والثمن، ويشترط في كلِّ منهما شروط، وإليك بيانها: 1 - أن يكون المبيع موجوداً عند العقد: فلا يجوز بيع ما هو معدوم، كبيع ما ستثمره أشجاره، وما ستحمل به أغنامه. وكذلك ما كان في حكم المعدوم، كبيع ما تحمله الأغنام ونحوها، أو ما في الضرع من اللبن ونحوه. ودليل ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان، فقد روى نهى أصحاب السنن عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، يأتيني الرجل فيسألني عن بيع ما ليس عندي ما أبيعه منه، ثم أبتاعه من السوق؟ فقال: " لا تبع ما ليس عندك " (انظر: سنن أبي داود: البيوع والإجارات، باب: في الرجل بيع ما ليس عنده، رقم: 3503). وكذلك: فإن في هذا النوع من البيع غرراً، لأنه على خطر الوجود وعدمه، ولما فيه من الجهالة، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغَرَر. (مسلم: البيوع، باب: بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر، رقم 1513). 2 - أن يكون مالاً متقوماً شرعاً: وذلك شرط في المبيع والثمن، ويخرج بذلك جميع الأعيان النجسة والمحرمة شرعاً، فلا يصح كون المبيع أو الثمن خمراً أو ميتةً أو دماً أو زبْلاً أو كلباً. ودليل ذلك: ما رواه جابر بن عبدالله رضي الله عنها: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام " فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: " لا، هو حرامُ " ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك " قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه ". (أخرجه البخاري في البيوع، باب: بيع الميتة والأصنام، رقم: 2121. ومسلم في المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر والميتة ... ، رقم: 1581). [يستصبح: أي يوقدونها في المصباح ليستضيئوا بها. جملوه: أذابوه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 شحومها: شحوم البقر والغنم، كما ذكر القرآن في (الأنعام: 146)]. وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب. (أخرجه البخاري في البيوع، باب: ثمن الكلب، رقم 2122. ومسلم: المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب. رقم: 1567). ويقاس على ما ذكر كل ما في معناه من الأعيان النجسة والمحرمة. ويلحق بها الأعيان المتنجسة التي لا يمكن تطهيرها، كالخل واللبن والزيت والسمن المائع ونحوه. أما الأعيان التي يمكن تطهيرها إذا تنجست فلا مانع من بيعها أو جعلها ثمناً لأنها في حكم الأعيان الطاهرة. 3 - أن يكون منتفعاً به شرعاً وعرفاً: أي أن تكون له منفعة مقصودة عرفاً ومباحة شرعاً، فلا يصح بيع الحشرات أو الحيوانات المؤذية التي لا يمكن الانتفاع بها أو لا تقصد منفعتها عادة، وكذلك آلات اللهو التي يمتنع الانتفاع بها شرعاً، لأن بذل البدل مقابل مالا نفع به إضاعة للمال، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال. (البخاري: الاستقراض، باب: ما ينهى عن إضاعة المال، رقم: 2277). ويجوز بيع الفهد للصيد، والفيل للقتال، والقرد للحراسة، والنحل للعسل، ونحو ذلك، لأن فيها منفعة مقصودة عرفاً ومباحة شرعاً، ولم يرد نهي عن شيء منها بخصوصه كالكلب مثلاً. وكما لا يصح بيع ما ذكر من الأشياء لا يصح جعلها ثمناً. ولو كان المبيع أو الثمن لا نفع فيه عند العقد، ولكن ينتفع به مستقبلاً - كالمُهْر الصغير - جاز بيعه أو جعله ثمناً. 4 - أن يكون مقدوراً على تسليمه حساً وشرعاً: فإن كان العاقد عاجزاً عن تسليم المبيع أو الثمن - عن كان معيناً - وقت لعقد فلا ينعقد البيع، لأن العاقد الآخر ليس على يقين في هذه الحالة أنه سيحصل على عوض عما يبذله، وبالتالي يكون في بذله له إضاعة للمال، وهو منهي عنه كما علمت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 وعليه: فلا يصح بيع سيارة ضائعة، أو طائر في الهواء أو سمك في الماء، ونحو ذلك لعدم القدرة على تسليمها حسّاً. كما لا يصحّ بيع جزء معَّين من مبيع لا يقبل القسمة، أي إن قسمته تنقص قيمته وتجعله غير صالح للانتفاع به ككتاب أو سيف أو بيت صغير ونحو ذلك، لأنه غير مقدور على تسليمه شرعاً، إذ إن تسليمه لا يكون إلا بقسمته وتمييزه، وفي ذلك نقصه وذهاب منفعته، وهو تضييع للمال، وهو منهي عنه كما علمت. أما لو بيع جزء منه غير معين - أي على سبيل الشيوع - فإن ذلك جائز، لأن المشتري لا يحق له أن يطالب بقسمته، ويكون الانتفاع به على التناوب. 5 - أن يكون للعاقد سلطان عليه بولاية أو ملك: فيصح بيع المالك لمال نفسه وشراؤه به، لأن الشرع جعل له سلطاناً على ماله. وكذلك يصح بيع الولي أو الوصيّ لما مَنْ تحت ولايته من القاصرين وشراؤه به، كما يصح بيع الوكيل لمال موكَّله وشراؤه به، لأن لهؤلاء جميعاً سلطاناً على المال، إما بتسليط الشرع كالأولياء والأوصياء، وإما بتسليط المالك نفسه كالوكلاء. فإذا تصرف بالمال بيعاً أو شراءً من لا سلطان له عليه - وهو الذي يسمى في رف الفقهاء الفضولي - كان تصرفه باطلاً، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا بيع إلا فيما تملك " (أخرجه أبو داود في البيوع، باب: في الرجل يبيع ما ليس عنده، رقم 3503. وكذا الترمذي والنسائي وابن ماجه). ويستثنى من ذلك ما لو باع مال مَن يرث منه ظاناً حياته، فتبين أن المورِّث كان ميتاً عند العقد، فيُصحَّح البيع وتترتب علي آثاره، لأنه تبيّن خطأ ظنه، وأنه في الحقيقة مالك لما تصرف فيه وليس فضولياً، والعبرة في العقود بما في حقيقة الأمر، لا بما في ظن العاقد. 6 - أن يكون معلوماً للعاقدَيْن: فلا يصح البيع إذا كان في المبيع أو الثمن جهالة لدى العاقدين أو أحدهما، تقضي في الغالي إلى النزاع والخصومة، لأن في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 ذلك غرراً، وقد علمت أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الغَرَرِ. فلا يصح بيع ما يجهله العاقدان أو أحدهما، ولا جعله ثمناً. كما لا يصح بيع واحد من أشياء دون تعيينه، ولا البيع به. ولا يصح بيع شيء معين بألف مثلاً، دون بيان المراد من الألف، ولا عرف في مكان البيع يحدد المراد منها، فإن كان عرف فسِّرت به، كما لو باع في سورية مثلاً مبيعاً وقال ثمنه ألف، فالعرف يحدد أنه ألف ليرة سورية. ولا يصح أن يبيع سلعةً ما أو داراً مثلاً بما باع به فلان داره، دون أن يكون العاقدان على علم بما باع به، وهكذا. ويمكن أن يحصل العلم بالأمور التالية: 1 - إن كان العوض حاضراً ومشاهداً صح بيعه ولو لم يبيّن مقداره ولا صفته الظاهرة، كما لو باع سيارة مشاهدة ومشاراً إليها بثمن معين، ولم يبّين نوع السيارة وطرازها. وكذلك لو باع صُبْرة من قمح مثلاً بألف ليرة سورية، دون أن يبيِّن مقدارها. وكذلك لو باعه سلعة حاضرة بهذه الدراهم مثلاً، فكل ذلك صحيح، لقيام المشاهدة والتعيين مقام العلم. 2 - إذا رأى المتعاقدان البدل قبل العقد، وكانا ذاكرَيْن لأوصافه، وكان مما لا يتغيّر غالباً خلال المدة التي كانت بين الرؤية والعقد، كالثوب والدار ونحو ذلك. فإن كان مما يتغيّر غالباً في تلك المدة فلا يكفي ذلك. 3 - رؤية بعض العوض إذا كانت تغني عن رؤية باقية، كرؤية جزء من القماش الذي يدل على باقي الثوب، أو رؤية أنموذج من الأشياء المتماثلة. 4 - رؤية ظاهر العوض الذي يُعتبر حافظاً لباقية، كالبطيخ والرمان والبيض، فيُكتفى برؤية قشره، كما يُكتفى برؤية القشرة السفلى من الجوز واللوز إذا تم نضجه، لأن بقاء هذه القشور من مصلحة هذه الأشياء. فإذا كان مما يؤكل مع قشره الخارجي كفت رؤية قشرته الخارجية وصحّ بيعه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 ومما يتعلق هنا بمعلومية العوضين: العلم بالأجل إذا كان الثمن مؤجلاً، فلو كان غير معلوم، كما إذا باع إلى الحصاد أو قدوم فلان من سفره، فإنه لا يصح. وكذلك العلم بوسائل التوثيق، كالرهن والكفيل، إذا شرط ذلك في العقد، فلو باعه بشرط أن يأتيه بكفيل أو رهن بالثمن، دون أن يعيّن الكفيل أو الرهن، فلا يصح العقد. قبض المبيع وضمانه إذا تم عقد البيع بتوفر أركانه وتحقق شروطه، والمبيع لا يزال في يد البائع، فهو من ضمانه، بمعنى أنه إن تلف أو أتلفه البائع انفسخ البيع، ولا يلزم المشتري شيء، ويسترد الثمن إن كان قد دفعه. فإذا قبضه المشتري دخل في ضمانه، فإن هلك يهلك عليه. ويختلف القبض باختلاف المبيع، إذ إن قبض كل شيء بحسبه: فقبض المنقول: يكون إما بالتناول إذا كان يُتناول باليد، كالثوب والكتاب ونحوهما، وإما بالنقل إذا كان لا يُتناول باليد كالسيارة والدابة وما إلى ذلك. وأما غير المنقول: كالدار والأرض فقبضه بالتخلية بينه وبين المشتري وتمكينه منه، وإزالة الموانع من تسلّمه، وتسليم مفتاحه إن كان داراً ونحو ذلك. ولا بد في القبض من إذن البائع، لأن الأصل أنه ملكه، ولا يخرج من يده إلا بإذن منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 الخيارات في البيع الأصل في عقد البيع أنه إذا وُجدت أركانه وتحققت شروط أن ينعقد مبرماً، بحيث تنتقل ملكية المبيع إلى المشترى وملكية الثمن إلى البائع، وليس لأحدهما الخيار في نقض ما أبرم. إلا أن الشارع راعى مصالح المكلَّفين، وأن المتعاقد قد يكون استعجل بعض الشيء ولم يتروَّ في الأمر، ولذلك اعتبر انعقاد البيع لوجود أركانه وتحقق شروطه غير لازم، وأثبت لكل عاقد حق الخيار في إمضاء العقد أو فسخه، وذلك رفقاً به وحفاظاً على تمام رضاه بالعقد ورغبته به. وقد أثبت الشّارع هذا الخيار للعاقد في أحوال ثلاثة اعتبرت أنواعاً للخيارات المشروعة، وهي: خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار العيب. وإليك بيانها مفصلة: 1 - خيار المجلس: والمراد به أن المتعاقدين كلاِّ منهما له حق الرجوع عن البيع - بعدما تم وانعقد صحيحاً - ما داما في المجلس الذي حصل فيه عقد البيع، ولم يتفرّقا عنه بأبدانهما. فإذا تفرّقا عن مجلس العقد سقط الخيار وأصبح العقد لازماً، ويكفي في ذلك ما يسمى تفرقاً في العرف: فلو كانا في دار كبيرة وخرج أحدهما من الغرفة إلى الصحن، أو بالعكس حصل التفرّق. ولو كانا فيدار صغيرة كفى خروج أحدهما منها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 وإن كانا في سوق، أو صحراء، أو على ظهر سفينة ونحو ذلك، كفى أن يولِّي أحدهما ظهره للآخر ويمشي خطوات. أما لو خرجا جميعاً أو تماشيا معاً فيبقى المجلس مستمراً، ولا يسقط الخيار. وكذلك يسقط الخيار إذا اختار أحدهما أو كلاهما إبرام العقد ولزومه، بأن يقولا: أمضينا العقد أو اخترنا لزومه، وكذلك إذا خيَّر أحدهما الآخر كأن يقول له: اختر إمضاء البيع أو فسخه، فيكون ذلك إسقاطاً لخياره، فإذا اختار الآخر سقط خيار المجلس، لأنهما أسقطا حقاً أعطاهما الشارع إياه. فإن اختار أحدهما ولم يختر الآخر سقط الخيار في حق من اختار، وبقي في حق من لم يختر. والأصل في كل ما سبق: قوله - صلى الله عليه وسلم - " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً، أو يخير أحدهما الآخر " (أخرجه البخاري في البيوع، باب: إذا لم يوقت في الخيار .. ، رقم 2003. ومسلم في البيوع، باب: ثبوت خيار المجلس للمتبايعين، رقم: 1531). ودلّ على أن المقصود بالتفرّق التفرق بالأبدان - على ما ذكرنا - تفسير ابن عمر - رضي الله عنهما - له بفعله، وهو راوي الحديث، فقد روى مالك عن نافع رحمه الله تعالى قال: وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا اشترى شيئاً يُعجبه فارق صاحبه. (انظر البخاري: البيوع، باب: كم يجوز الخيار، رقم: 2001) وعنه رضي الله عنه قال: بِعْتُ من أمير المؤمنين عثمان مالاً بالوادي بمالٍ له بخيبر، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته، خشية أن يرادني البيع، وكانت السُّنَّةُ أنّ المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا (انظر: البخاري: البيوع، باب: إذا اشترى شيئاً فوهب من ساعته ... ، رقم: 2010). 2 - خيار الشرط: وهو أن يشترط بأحد المتعاقدين أو كُلُّ منهما: أن له الخيار - أي حق فسخ العقد - خلال مدة معلومة. ويمكن أن يشترط ذلك مع العقد، ويمكن أن يشترط بعده، ولكن قبل مفارقة مجلس التعاقد. وسمي خيار الشرط لأن سببه اشتراط العاقد. ويشترط فيه: 1 - أن يكون لمدة معلومة، فإن قال: لي الخيار، ولم يحدد مدة لم يصح، وكذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 لو حدّد مدة مجهولة، كقوله: بعض يوم، أو: إلى مجيء فلان، ونحو ذلك. والصحيح أنه يبطل البيع في هذه الحالة، لما في ذلك من الغرر والجهالة. 2 - أن لا تزيد المدة على ثلاثة أيام، إذا كان المبيع لا يفسد خلالها، لأن الحاجة لا تدعو إلى التروِّي أكثر من هذه المدة غالباً. فإن زاد على ذلك ولو لحظة بطل البيع، وكذلك يبطل البيع إذا كانت المدة يفسد المبيع خلالها، ولو كانت أقل من ثلاثة أيام. 3 - أن تكون المدة متوالية ومتصلة بالعقد، فلو شرط الخيار ابتداءً من التفرق، أو في أيام معينة غير متوالية أو غير مبتدأة من العقد لم يصح الشرط، وبطل العقد، لأنه شرط فيه ما ليس من مقتضاه، وما لم يرد به الشرع. والدليل على ما سبق: حديث حِبّان بن منقذ رضي الله عنه، وقد شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يُخدع في البيوع، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا بايعت فقلْ: لا خلابة " وفي رواية: " ولي الخيار ثلاثة أيام ". (انظر: البخاري: البيوع، باب: ما يكره من الخداع في البيع، رقم: 2011. والبيهقي: 5/ 273). [والخلابة: معناها الغبن والخداع]. قال العلماء: الحديث صريح في إثبات الخيار لحبّان رضي الله عنه، بائعاً كان أو مشترياً، ولا دليل فيه على أنه خاص به وإن كان ورد بسببه، والعلماء يقولون: العبرة بعموم الفظ لا بخصوص السبب، فيكون الحديث عاماً يتناول كلَّ بيع، وكلَّ بائع ومشترٍ، إلا ما دلّ دليل آخر على عدم جواز الخيار فيه من البيوع، كبيوع الربا والسلم، كما ستعرف إن شاء الله تعالى في أبوابها. اشتراط الخيار لأجنبي: هذا وكما يصح للعاقد أن يشترط الخيار لنفسه يصحّ له أن يشترطه لأجنبي، أي لغيره ممّن لا صلة له بالعقد. وذلك لأن الخيار شُرع للحاجة والمصلحة، لدفع الغبن والضرر عن العاقد، وربما لا يتحقق ذلك لو كان الخيار له، لعدم خبرته، بينما يكون غيره أعرف بالمبيع، فتدعو الحاجة أن يشترط الخيار له. والصحيح في هذه الحالة أن الخيار يثبت لمن شُرِط له وهو الأجنبي، ولا يثبت للعاقد الذي شرطه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 متى يسقط الخيار؟ إذا اختار مَن له الخيار فسخ العقد، كأن يقول: فسخت البيع، أو قال البائع إذا كان الخيار له: استرجعت المبيع، أو قال المشتري: استرجعت الثمن، ونحو ذلك، انفسخ العقد عقد البيع. بينما يلزم البيع إذا سقط الخيار، ويسقط خيار الشرط بالأمور التالية: 1 - بانتهاء المدة المشروطة، فإذا انتهت المدة المشروطة ولم يفسخ العقد مَن له الخيار، سواء أكان البائع أو المشتري أو كليهما، فقد لزم العقد وسقط الخيار، ولا يحق لأحد فسخه بعد ذلك. 2 - بإمضاء البيع وإجازته في مدة الخيار، كأن يقول مَن له الخيار: أجزت العقد، أو أمضيته، أو اخترت البيع. 3 - بتصرّف من له الخيار بالمبيع تصرفاً لا ينفذ عادة من غير المالك، فيكون ذلك إجازة للبيع وإمضاءً له، وبالتالي إسقاطاً لخياره. وهذا إذا كان مَن له الخيار المشتري، فإذا كان المتصرف هو البائع كان تصرفه فسخاً للعقد. حكم المبيع زمن الخيار: 1 - ملكية المبيع زمن الخيار: إذا كان الخيار للمتبايعين كانت ملكية المبيع موقوفة حتى يتبين الحال من فسخ العقد أو إمضائه، فإذا فسخ العقد تبيّن أن الملكية لم تنتقل من البائع. وإذا أمضي البيع وأُجيز تبين أن المبيع ملك للمشتري من تاريخ العقد، وأن الثمن ملك للبائع كذلك. وبالتالي يملك كل واحد منهما زوائد ومنافع ما تبين أنه ملكه من تاريخ العقد. والزوائد كثمر الشجر ولبن المواشي، والمنافع كأُجرة الدار والسيارة ونحو ذلك. وبالمقابل يكون على كل واحد منهما نفقة ومؤونة ما تبيّن أنه ملكه من تاريخ العقد، كعلف الدابة وإصلاح السيارة ونحو ذلك. وإذا كان الخيار لواحد منهما كان المُلْك له، لأنه هو الذي يملك التصرّف دون غيره. وبالتالي كانت له المنافع والثمرات، وكانت عليه المؤونة والنفقات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 2 - هلاك المبيع زمن الخيار: إذا تلف المبيع في زمن الخيار يُنظر: فإن كان قبل القبض، أي أن المبيع لا يزال في يد البائع، فإن البيع ينفسخ ويسقط الخيار، سواء أكان الخيار للمشتري أم للبائع، لعدم القدرة على تسليم المبيع، ويكون من ضمان البائع. وإن كان الهلاك بعد القبض، أي في يد المشتري، فإن البيع لا ينفسخ، لدخوله في ضمان المشتري بقبضه له. كما أن الخيار لا يزال باقياً، سواء أكان للبائع أم للمشتري، لأن الحاجة التي دعت إليه - وهي الحفظ من الغبن - لا تزال باقية، فلمَن له الخيار حق إمضاء البيع وفسخه. فإذا أُمضى العقد وأُجيز وجب على المشتري ثمنه للبائع، لأنه تبين أنه ملكه. وإذا فسخ العقد وجب عليه رد مثله أو قيمته يوم التلف، ويسترد المشتري الثمن، لأنه تبيّن أنه لم يدخل في ملكه. 3 - خيار العيب: الأصل في تعامل المسلم مع غيره النصح وعدم الغش، لأن في ذلك أكلاً لأموال الناس بالباطل، وقد حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغش أشد تحذير حين قال: " من غش فليس منّا " ومن الغش أن يكون في المبيع عيب يعلمه البائع، فيكتمه عن المشتري ولا يبيِّنه له. يدل على ذلك سبب ورود الحديث المذكور، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ في السوق على صُبَرةِ طعام، فأدخل يدَه فيها، فنالت أصابعه بلَلاً، فقال: " ما هذا يا صاحب الطعام؟ " قال: يا رسول الله أصابْتُه السماءُ، فقال: " ألا جعلته فوق الطعام كيْ يراه الناسُ؟ من غش فليس مني " (أخرجه مسلم في الإيمان ن باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: من غشّنا فليس منا، رقم: 102. ولفظ " فليس منا " أخرجه في نفس الباب، رقم: 101). [صبرة طعام: كومة من قمح ونحوه. أصابته السماء: أي المطر النازل من السماء] فقد دلّ الحديث أن عدم بيان العيب غش، وأنّ من واجب البائع أن يظهر العيب الذي في المبيع ويبيّنه للناس، يؤكد هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: " المسلمُ أخو المسلم، ولا يحلُّ لمسلم باَع من أخيه بيعاً فيه عيب إلا بينه لهُ " (أخرجه ابن ماجه عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 عقبة بن عامر رضي الله عنه في التجارات، باب: مَن باع عيباً فليبَّينه، رقم: 2246). ويلحق غير المسلم به استدلالاً بعموم الحديث الذي قبله، ولأن الأخلاق في الإسلام أخلاق ذاتية إنسانية، يجب التخلق بها مع المسلم وغيره. وكما يجب على البائع بيان العيب يجب بيانه أيضاً على كل من علم به ولو كان غير المتعاقدين، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحلُّ لأحدٍ يبيع شيئاً إلا بَيَّنَ ما فيه، ولا يَحلُّ لمنْ يَعْلَمُ ذلك إلا بَيَّنَهُ ". (أخرجه الإمام أحمد في مسنده [3/ 491] عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه). فإذا حصل عقد البيع ولزم، وقبض المشتري المبيع ولم يُذكر له فيه عيب، ثم اطّلع بعد ذلك على عيب فيه كان البيع صحيحاً، وإنما يثبت للمشتري حق الخيار: بين أن يرضى بالمبيع على ما فيه، وبين أن يردّه على البائع فيفسخ البيع ويستردّ الثمن، طالما أنه لم يكن على علم بهذا العيب، لا عند العقد ولا عند القبض. ودليل ذلك: 1 - حديث عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً ابتاع غلاماً، فاسْتغَلََّهُ، ثم وجد به عيباً فردّه بالعيب، فقال البائع: غَلّةُ عبدي؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الغلة بالضَّمانِ " (أخرجه أحمد في مسنده [6/ 80]). [ابتاع: اشترى. غلاماً: أي عبداً مملوكاً. غلّة عبدي: أي كسبه وأُجرة ما قام به من عمل. بالضمان: أي يستحقها ويملكها مَن كان ضامناً للسلعة حين حصلت]. ويُستدل لهذا أيضاً بحديث المصراة، وسيأتي عند الكلام عن بيع المصراة. 2 - وكذلك يُستدل لهذا بالمعقول: فإن الأصل في البيع أنه على شرط السلامة، وأن المشتري ما بذل كامل الثمن إلا ليسلم له كامل المبيع، لتحصل المقابلة بين الثمن والمثمن، وتلك رغبة المشتري الذي رضي بالبيع. فإذا اختلّ شيء من ذلك بسبب العيب فقد فات مقصوده ولم يتحقق رضاه، فتثبت له حق الفسخ وردُّ المبيع واسترداد الثمن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 ويشترط لثبوت خيار العيب: 1 - أن يثبت أن العيب قديم، أي قد حدث في المبيع قبل أن يقبضه المشتري، سواء أكان ذلك قبل العقد أم بعده، لأن المبيع قبل قبضه من ضمان البائع. فلو حدث العيب بعد القبض فليس له حق الخيار، إلا إذا كان مستنداً إلى سبب سابق على القبض، كما إذا اشترى سلعة فظهر عليها الصدأ ثم تبين أنها قد تبللت بالماء قبل القبض، فللمشتري حق الرد، لأن العيب ترتب على سبب حدث عند البائع، فكأن العيب حدث عنده. 2 - أن يكون العيب منقصاً لقيمة المبيع في عُرف التجّار، سواء أنقصت العين أم لم تنقص، لأن البيع معاوضة، والعبرة فيها للقيمة، والمرجع في اعتبارها التجار أصحاب الخبرة. فإذا كان العيب ينقص العين ولا ينقص القيمة فلا يثبت حق الرد، إلا إذا كان النقص يفوت به غرض مقصود للمشتري، كمن اشترى شاة للأضحية، ثم تبيّن له أن بعض أُذنها مقطوع، فإنه يثبت له حق الرد، لأنها لا تجزئ في الأضحية. أما لو اشتراها لغير ذبح واجب عليه، أي للحمها، فلا يُعتبر العيب ولا يثبت له حق الرد، لأن قيمتها لا تنقص بذلك، ونقص عينها لا يفوِّت عليه غرضاً مقصوداً. 3 - أن يغلب في جنس المبيع عدمه، كَمن اشترى سيارة من وكالتها، ثم تبين له اهتراء عجلاتها، فيثبت له حق الرد والفسخ بالعيب. أما لو اشتراها مستعملة ثم اطّلع على ذلك فلا يثبت له خيار العيب، لأن الغالب في المستعمل منها ذلك. متى يكون الرد بخيار العيب؟ يثبت حق الرد بخيار العيب فور الاطّلاع على العيب، حسب العُرْف والعادة. فإذا علم به وهو يأكل أو يصلي فله تأخير الرد حتى الفراغ، أو في الليل فله التأخير حتى الصباح، فإذا أخَّر عن الوقت الذي كان يستطيع فيه ردُّه سقط خياره. كذلك يسقط خياره لو استعمله بعد الاطلاع على العيب وقبل التمكّن من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 ردّه. وذلك لأن تأخيره عن الوقت الذي تم فيه من ردّه، وكذلك استعماله له قبل التمكّن من الرد، دليل على اختياره للمبيع ورضاه به على ما فيه من العيب. الزيادة في المبيع المعيب: إذا قبض المشتري المبيع، ثم اطّلع على عيب قديم فيه بالشروط السابقة، وكان المبيع قد زاد عنده عمّا كان عليه عند العقد، فإن هذه الزيادة لا تمنع الردّ بالعيب. وإنما يُنظر: فإن كانت الزيادة متصلة - كالسِّمَن للدابة والخياطة للثوب مثلاً - فإن شاء أمسكه وإن شاء ردّه، ولا شيء له في الحالين، لأن هذه الزيادة تبع للأصل ونماء للملك. وإن كانت الزيادة منفصلة: فله ردّ الأصل دون الزيادة، لأنها حدثت على ملْكه وفي ضمانه، وقد مر بك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الغلة بالضمان " والغلة الزيادة مطلقاً من كسب وغيره. العيب الطارئ على العيب القديم: إذا اطّلع المشتري على عيب قديم في المبيع، وكان قد طرأ عليه عيب جديد بعد قبضه، سقط حقه في الرد القهري لى البائع، أي ليس له أن يجبره على الرد، وإنما ينظر: فإن رضي البائع بردّه على حاله ردّه، ورضي المشتري به على ما فيه أمسكه. وإن لم يتراضيا: فإما أن يدفع المشتري عوضاً عن العيب الحادث ويردّه على البائع، وإما أن يدفع البائع عوضاً عن نقص العيب القديم للمشتري. فأيّهما اتفقا عليه ورضيا به جاز، لأن الحق لهما، فيعمل برضاهما. فإن اختلفا - بأن طلب البائع الرد مع التعويض عن العيب الحادث، وطلب المشتري الإمساك بالمبيع مع التعويض عن العيب القديم، أو طلب المشتري الرد ويدفع العوض عن العيب الحادث، وطلب البائع إبقاء المبيع عند المشتري ويدفع العوض عن العيب القديم - فإنه يُجاب منهما مَن كان في طلبه إقرار العقد وإبقاؤه، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 ففي الصورة الأولى يُجاب المشتري إلى طلبه، وفي الصورة الثانية يُجاب البائع. ويستثنى من سقوط الرد القهري بالعيب الطارئ ما إذا كان العيب القديم لا يُعرف إلا به، كمَن اشترى ما مأكولٌه داخل قشره - كالبطيخ والرمان ونحوهما - وشرط سلامته والاطّلاع على ما في داخله، فإن له رد المبيع إذا ظهر فيه عيب قديم رغم العيب الجديد، إذا لم يكن زائداً عن الحاجة لمعرفته، لأن البائع قد سلّطه على إحداث هذه العيب. شرط البراءة من العيوب: لو شرط البائع على المشتري عند العقد: أنه بريء من كل عيب يظهر في المبيع صحّ عقد البيع، لأنه شرط يؤكد العقد ويقرره، إذ ينفي الرد والفسخ، كما يوافق ظاهر الحال من سلامة المبيع من العيوب. وهل يسقط هذا الشرط خيار العيب، وبالتالي ليس للمشتري ردّ المبيع وفسخ العقد إذا ظهر فيه عيب قديم على ما قد علمنا؟. والجواب أنه يُنظر: فإن كان المبيع غير حيوان: فإن هذا الشرط لاغٍ، ولا يسقط حق الرد، ولا يبرأ البائع من أيّ عيب يظهر في المبيع ويُثْبت الخيار على ما سبق. وإن كان المبيع حيواناً: فإنه يبرأ من كل عيب باطن في الحيوان، موجود عند العقد، ولم يعلمه البائع. وذلك لأن الحيوان لا يخلوا غالباً من وجود عيوب خفية فيه، فكان للبائع الحق في أن يحترز عن المسؤولية عنها بشرط البراءة. وقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه باع عبداً له بثمانمائة درهم بالبراءة، فقال له المشتري: به داء لم تسمَّه لي، فاختصما إلى عثمان رضي الله عنه، فقضي على ابن عمر أن يحلف: لقد باعه العبد وما به داء يعلمه، فأبى أن يحلف وارتجع العبد، فباعه بألف وخمسمائة. وروى أن المشتري زيد بن ثابت رضي الله عنه وأن ابن عمر كان يقول: تركت يميناً لله، فعوضني الله عنها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 فدلّ قضاء عثمان رضي الله عنه على صحة البراءة في صورة الحيوان المذكورة، واشتهر قضاؤه بين الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكره عليه أحد، فكان إجماعاً. فإذا كان العيب ظاهراً لم يبرأ منه لسهولة الاطّلاع عليه. وكذلك إذا علمه البائع، لأن الواجب بيانه، وإلا كان غشّاً، ومثله لو جهله ولكن كان من السهل الاطلاع عليه. كما لا يبرأ عما حدث بعد العقد وقبل بالقبض، لأن الشرط ينصرف إلى ما كان موجوداً عند العقد، ولو شرط البراءة عما يحدث لم يبرأ، لأنه إسقاط للشيء قبل ثبوته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 البيوع الخاصة ما تقدم من كلام عن عقد البيع إنما هو في البيع على وجه العموم، وهو عقد البيع الذي ليس له تسمية خاصة، والذي يتعامل به غالب الناس، والصورة الغالبة والعامة في بياعات الناس وتجاراتهم ومعاوضاتهم. وهناك حالات وصور لعقد البيع تأخذ أسماءً خاصة بهم، وتقع في أحوال نادرة، منها ما هو جائز ومنها ما هو ممنوع، والممنوع منها: بعض منه صحيح مع الإثم والحرمة، وبعض منه باطل، وإليك بيان هذه البيوع: أ - البيوع الجائزة : هي بيوع تختلف بعض الشيء عن صورة البيع العامة، وقد يوهم اختلافها ذلك عدم جوازها، ولذلك ينص عليها الفقهاء بخصوصها دفعاً لتوهم عدم صحتها، وهي: 1 - التولية: وهي أن يبيع ما اشتراه وقبضه بالثمن الذي اشتراه به دون أن يذكر هذا الثمن، أو يقو للمشتري: وليتك هذا العقد. 2 - الإشراك: وهو كالتولية، ولكنه على جزء من المبيع لا على جميعه، كأن يقول له: أشركتك في هذا العقد نصفه بنصف الثمن، ونحو ذلك. ويشترط أن يبين هذا الجزء الذي يشركه فيه، فإن ذكر جزءاً ولم يبينه، كأن قال: أشركتك في بعض العقد، لم يصح العقد للجهالة. فإن أطلق الإشراك كأن يقول: أشركتك في هذا العقد، صح وكان مناصفة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 3 - المرابحة: وهي أن يبيعه ما اشتراه وقبضه بما اشتراه به مع ربح معلوم محدد، كأن يقول: بعتك هذه الدار بما اشتريتها به وربح عشرة في المائة مثلاً، أو: وربح هذه السيارة مثلاً، وهكذا، فيجوز أن يكون الربح ليس من جنس الثمن. 4 - المحاططة (الوضعية): وهي أن يبيعه ما اشتراه وقبضه بما اشتراه به مع حط - أو وضع، أو خسارة - قدر معين من الثمن، كعشرة في المائة مثلاً ونحو ذلك. فالمحاططة والوضعية بعكس المرابحة كما ترى. فهذه البيوع الأربعة جائزة ومشروعة، ودليل لك: 1 - أنها بيوع مستوفية لأركان عقد البيع وشروطه، فهي داخله في عموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} البقرة275. 2 - قد يستدل لبعضها بما جاء في حديث الهجرة الطويل عن عائشة رضي الله عنها: أن أبا بكر رضي الله عنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: خذ - بأبي أنت وأمي - إحدى راحلتي هاتين، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " بالثمن ". فالظاهر أنه عقد تولية، والله تعالى أعلم. (أخرج الحديث البخاري في فضائل الصحابة، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، رقم 3692). ويشترط لصحة هذه البيوع: أن يكون المتبايعان على علم بالثمن الأول عند العقد، فإن كانا يجهلان الثمن عند العقد، أو كان أحدهما يجهله، لم ينعقد البيع، حتى ولو حصل العلم بذلك في مجلس التعاقد وقبل التفرق. وكون المشتري الثاني يجهل الثمن الأول غير بعيد التصور، وكذلك البائع له، فقد يكون قد نسي الثمن، أو ما إلى ذلك. وينبغي التنبيه هنا: إلى أنه إن قال بعتك بما اشتريت - في جميع الصور- لم يدخل في ذلك غير الثمن المشتري به أولاً، ولا يدخل فيه شيء آخر من النفقات إن وجدت. وإن قال بعتك: بما قام علي، دخل في ذلك كل ما أنفقه على المبيع، من أجرة نقل ومخزن ونحو ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 وهناك بيوع خاصة جائزة، كالسلم وبيوع الربا والصرف، سنتكم عنها بالتفصيل بعد الكلام عن البيوع المنهي عنها . ب - البيوع المنهي عنها: هناك صور من البيوع نهى عنها الشارع لخللٍ فيها أو لأمر اقترن بها، ولذلك كانت على نوعين: باطلة، وصحيحة مع الحرمة. أولاً: البيوع المحرمة والباطلة: وهي البيوع التي نهى عنها الشارع لخلل في أركانها أو نقص في شروطها، وقد سمى الشارع أنواعاً من هذه البيوع ونهى عنها، وحكم الفقهاء ببطلانها، وهي: 1 - بيع اللبن في الضرع قبل أن يحلب، والصوف على ظهر الدابة قبل أن يُجَزّ أي يُقَصّ، وكذلك بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يباع ثمر حتى يطعم، أو صوف على ظهر، أو لبن في ضرعٍ، أو سمن في لبن" أي قبل أن يمخض ويستخرج منه. (أخرجه الدارقطني في البيوع، رقم الحديث: 42). وسبب البطلان هنا الجهالة في المعقود عليه وهو المبيع، فالثمر قبل بدو صلاحه - أي نضجه - لا يعرف كم سيكون مقداره بعد النضج، وقد يختلف اختلافاً كبيراً. وكذلك اللبن في الضرع، والصوف أيضاً: إذا قصّ من أُصوله كان في ذلك ضرر بالحيوان لا يجوز، وإن ترك منه شيء كي لا يؤذي الحيوان لا يعلم مقدار ما يترك منه، وفي ذلك كله غرر وجهالة تبطل البيع. ونريد أن نتوسع في الكلام عن بيع الثمر قبل نضجه، لكثرة وقوع الناس في هذه المخالفة في هذه الأيام. بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها (الضمان) وضعنا كلمة الضمان بين قوسين في العنوان لأن الناس في هذه الأيام يسّمون هذا النوع من البيع بهذه التسمية (الضمان). وتعنينا التسمية ـ فهي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 خاطئة على كل حال - وإنما يعنينا المضمون، فهو بيع للثمار قبل ظهور نضجها وصلاحها للأكل، بل لقد ذهب الناس أكثر من ذلك فأصبحوا يشترون الثمار قبل وجودها، وبمجرد ظهور الطَّلْع أي الزهر، وهذا خلل أكبر يجعل هذا البيع أكثر بطلاناً واشد إثماً، لأنه بيع المعدوم الذي قد لا يوجد. وعلى كل حال علينا البيان، وعلى مَن آمن بالله تعالى وصدق برسوله - صلى الله عليه وسلم - وآمن بالوقوف بين يدي الله عزّ وجل، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، أن يسمع ويذعن ويخضع لأمر الشرع، فيبتعد عمّا نهى عنه، ولو كان يظنّ في ذلك مصلحة له، على أن الضرر كل الضرر كامِن فيما يخالف أمر الله تعالى أو أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -. نقول: إن بيع الثمار قبل بدو صلاحها - بالإضافة إلى ما ذكرناه من الجهالة بمقدار المبيع - فيه غرر كبير، إذ قد تأتي آفة عليه من صقيع أو مرض أو ما إلى ذلك فلا يخرج، وهنا يأخذ صاحب الشجر مالاً بدون عوض يبذله مقابل ما زعمه ثمناً لثمر أشجاره، فيكون أكلاً لأموال الناس بالباطل، وهذا ما صرح به حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: " أرأيْت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ " وفي رواية فبم تستحل مال أخيك؟ (رواه البخاري في البيوع، باب: إذا باع الثمار قبل أن يبدوا صلاحها ... رقم: 2086. ومسلم: المساقاة، باب: وضع الجوائح، رقم: 1555) فبيع الثمار قبل بدوّ الصلاح حرام وباطل، وقد جاء النهي عنه صريحاً، ويحتمل الإثم البائع والمشتري. فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى يَبْدُوَ صَلاحُها، نهى البائعَ والمبتاعَ - أي المشتري " (البخاري: البيوع، باب: بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، رقم: 2082. ومسلم: البيوع، باب: النهي عن بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها، رقم: 1534). وحكمة التشريع واضحة في واقع الناس، فقلّما تجد المتعاملين بهذا، أي الذين يَضْمَنُون ويُضمِّنون بلغة العامة، إلا ويختلفون ويختصمون، وربما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 أدّى ذلك إلى إراقة الدماء أحياناً، نتيجة مخالفتهم لشرع الله عزّ وجل وإعراضهم عن نهيه - صلى الله عليه وسلم - وبيان حكمته، فأحرى بالمؤمنين، بل وبالناس أجمعين، أن يلتزموا شرع الله تعالى، لتكون لهم السعادة والرضا، ومَن ترك شيئاً لله عزّ وجل عوّضه الله تعالى خيراً منه. وأما بيعه بعد بدوّ صلاحه وظهور نضجه فجائز، ودلّ على ذلك مفهوم الحديث السابق وغيره من الأحاديث التي سيأتي بعضها، فالنهى عن بيعها قبل بدوّ صلاحها يُفهم منه جواز بيعها بعد بدوّ صلاحها، والحكمة في ذلك واضحة: فإن آفات الثمار تصبح مأمونة غالباً بعد ذلك، لغلَظ الثمرة وكبر نواها، وأما قبله فتسرع إليها الآفات لضعف الثمر وصغَر نواه، ونحو ذلك. فإذا بيع الثمر بعد نضجه كان للمشتري أن يُبْقيه على الشجر إلى أوان قطفه وقطعه، حسب العُرف الجاري والعادة المعمول بها، إلا إذا شرط البائع قطعه في الحال. وضابط بدوّ الصلاح وظهور النضج: فيما كان يتلوّن: أن يحمرّ أو يصفّر أو تظهر عليه علامات نضجه المعهودة. وفي غير المتلوّن: أن تظهر عليه مبادئ النضج، ويتحقق فيه ما يُقصد منه، كحموضة أو حلاوة ولين تين، ونحو ذلك. وفي الحديث: " نهى أن تُباع ثمرة النخل حتى تزهو، أو: يزهو. قيل: وما يزهو؟ قال: يَحْمَارُّ أو يصفارّ " وفيه: " حتى تُشْقِحَ. فقيل: ما تُشْقِحَ؟ قال: تحمارُّ وتصفارُّ ويُؤكَلُ منها ". (البخاري ومسلم: المواضع المشار إليها قبل قليل). هذا ويجوز بيع الثمار قبل نضجها بشرط القطع، إذا كانت يُنتفع بها، كحصرم مثلاً، لانتفاء المانع من البيع وهو الغرر بإبقائها، وتحقق شرط المبيع وهو أن يكون منتفعاً به. فإذا كان المقطوع لا ينتفع به لم يصحّ، وكذلك إذا بيعت بشرط الإبقاء لما سبق، ومثل شرط الإبقاء إذا بيعت بدون شرط وكان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 العرف جارياً بإبقائها، فهو باطل، لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فيٌقام جريان العرف بإبقائه مقام شرط إبقائه فيبطل. ومثل الثمر في كل ما سبق الزرع، لأنه في معناه، إذ المقصود منهما واحد، والله تعالى أعلم. 2 - البيوع التي فيها معنى المقامرة: وهي بيوع إما فيها جهالة بالمبيع أو خلل في إرادة العاقدين، ومما نُصًّ عليه من هذه البيوع: بيع المنابذة أو الملامسة: وهو أن يتبايعا أحد المبيعات دون تعيين، فإذا نبذ - أي ألقى - البائع أحدها ولمس المشتري أحدها كان هو المبيع. ومنها أن يبيعه الثوب - مثلاً - في الظلمة، فيلمسه دون أن يراه. أو أن يتبايعا مبيعاً معيناً، على أنه متى نبذه البائع أو لمسه المشتري فقد وجب البيع ولزم. وواضح أن في الصورة الأولى جهالة في المبيع، وفي الصورة الثانية خللاً في إرادة المتبايعين، لأنه لا يُدرى متى يلقي ذاك أو يلمس هذا ليُلزم الآخر بالبيع. وقد روى أبو سعيد الخدري رضي اله عنه قال: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المُلاَمَسَةِ والمنابَذَةِ في البيع ". وقد جاء تفسيرهما عن راوي الحديث إذ قال: (والملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار، ولا يقلِبُهُ إلا بذلك. المنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، وينبذ الآخر إليه ثوبه، ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراضٍ). (رواه البخاري في اللباس، باب: اشتمال الصمّاء، رقم: 5482. ومسلم: البيوع، باب: إبطال بيع الملامسة والمنابذة، رقم: 1512). ومثل المنابذة الملامسة في المعنى: بيع الحصاة، وهو أن يتبايعا إحدى السلع، على أن يلقي أحدهما حصاة، فعلى أيّها وقعت كان هو المبيع، وقد ورد النهي عنه وحكم الفقهاء ببطلانه لما فيه من الجهالة والخلل في إرادة العاقدين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 فعن أبي هريرة رضي الله عنه: " أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بَيْع الحَصَاةِ" (أخرجه مسلم في البيوع، باب: بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر، رقم: 1513). ومثله ما يجري الآن من وضع أشياء في أماكن، وتدار عليها خشبة أو حديدة، فأيّ شيء وقفت عنده الحديدة أو الخشبة ثبت بيعه للمشتري بقيمة معينة. وكذلك إذا وضع للأشياء أرقام، وأديرت دواليب ذات أرقام، فإذا وقفت عند أرقام يحملها أحد الأشياء كان هو المبيع، ولزم البيع. 3 - بيعتان في بيعة: وهو أن يذكر في صيغة العقد عقدان في آن واحد، كأن يقول البائع: بعتك هذه الدار - مثلاً - بألف نقداً وبألفين تقسيطاً أو إلى سنة. فيقبل المشتري البيع بالنقد أو بالتقسيط. أو أن يقول: بعتك هذه السيارة - مثلاً بألف - على أن تبيعني دارك بألفين. فهذا النوع من البيوع منهيُّ عنه وباطل، للجهل بالثمن في الصورة الأولى، والتعليق على الشرط في الصورة الثانية. روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بّيْعَتَيْنِ في بَيْعَةٍ ". (أخرجه الترمذي في البيوع، باب: ما جاء في النهي عن بيعتين في بيعه، رقم: 1231، كما أخرجه النسائي وأحمد). البيع بالتقسيط وبالمناسبة نبيِّن أن البيع بالتقسيط لا مانع منه وهو صحيح، شريطة أن لا يذكر في صيغة العقد السعران، كما سبق، فيكون بيعتين في بيعة، وهو باطل كما علمت. أما لو تساوم المتبايعان على السعر قبل إجراء العقد، ثم اتفقا في نهاية المساومة على البيع تقسيطاً، وعقد العقد على ذلك، فإن العقد صحيح، ولا حرمة فيه ولا إثم، حتى ولو ذكر السعر نقداً أثناء المساومة، طالما أنه لم يتعرض له أثناء إنشاء العقد. وينبغي أن ينتفي من الأذهان أن في هذا العقد رِباً، لأن الفارق بين السعرين هو في مقابل الأجل. لأننا نقول: إن الربا هو الزيادة التي يأخذها أحد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 المتعاملين من الآخر من جنس ما أعطاه، مقابل الأجل. كأن يقرضه ألف درهم مثلا، على أن يأخذها منه بعد شهر ألفاً ومائة، أو أن يبيعه ألف صاع حنطة مثلاً بألف صاع ومائة من الحنطة، يعطيها له الآن أو بعد أجل، كما ستعلم في باب الربا. أما أن يعطيه سلعة قيمتها الآن ألف، فيبيعها له بألف ومائة إلى أجل أو تقسيطاً، فهذا ليس من الربا في شيء، بل هو نوع من التسامح في التعامل والتيسير، لأنه أعطاه سلعة ولم يعطه دراهم أو غيرها، ولم يأخذ منه زيادة من جنس ما أعطاه، ولا شك أن للحلول فضلاً على الأجل، فكل الناس يؤثر الأقل الحال - أي الذي يُدفع الآن - على الكثير الذي يُدفع بعد حين. 4 - بيع العُرْبون: وهو أن يبيعه شيئاً على أن يعطيه جزءاً من الثمن، يكون هبة للبائع إن لم يتم البيع، وإن تم البيع حُسب من الثمن. فهو منهي عنه وباطل لأن فيه شرطاً فاسداً، وهو الهبة للبائع. روى عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع العُرْبان ". (أخرجه أبو داود في البيوع والإجارات، باب: في العُربان، رقم: 3502 كما أخرجه ابن ماجه في التجارات). [والعُرْبان لغة في العُرْبون]. هذا وينبغي التنبيه على أن المحرم والباطل هو الذي شرط فيه ذلك أثناء العقد، أما لو لم يشرط ذلك في العقد، ويعد تمام العقد طالب البائع بقسط من الثمن عربوناً فلا بأس، ولكن لا يحلّ له إذا فُسخ العقد فيما بعد إلا برضا المشتري. 5 - بيع الدّيْن بالدَّيْن: وهو أن يكون - مثلاً - لشخص دين على آخر، ولثالث دين على الأول، فيبيع أحد الدائِنَيْن دَيْنه من الآخر بالدَّيْن الذي له على الثالث فهذا البيع وأمثاله منهيُّ عنه وباطل، لعدم القدرة على تسليم المبيع. وروى ابن عمر رضي الله عنهما: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعِ الكَالِئِ بالكَالِئ " (أخرجه الدارقطني في البيع، رقم الحديث: 269). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 [والكالئ هو الدَّيْن، من كلأ يكلأ إذا تأخر، فهو كالئ] وفسره بعضهم بأن يشتري أحد سلعة يستلمها بعد أجل معين، ويسلم ثمنها الآن، فإذا حلّ الأجل وعجز البائع عن تسليم السلعة قال للمشتري: بعني هذه السلعة بكذا إلى أجل. وهذا باطل أيضاً. ومن صور بيع الدَّيْن بالدَّيْن: أن يبيعه لمن عليه الدَّيْن أيضاً بدين. وكذلك لو باع الدين الذي له على شخص بعين - أي سلعة حاضرة، أو قدر من المال يبرزه ويدفعه - لشخص آخر غر مَنْ عليه الدين، فهو باطل أيضاً، لعدم القدرة على تسليم المبيع. أما لو باع الدين بعين لمن هو عليه الدين، كأن باعه الألف التي له في ذمّته بسجادة مثلاً، أو خمسمائة يخرجها مَنْ عليه الدين ويدفعها، صحّ هذا البيع، لأنه في معنى الصلح، وهو جائز كما ستعلم إن شاء الله تعالى. ويستدل أيضاً لهذه الصورة بحديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إني أبيع الإبل بالبَقِيعِ، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير؟ فقال: " لا بأسَ أنْ تَأخُذّ بسعرِ يومِها، ما لم تَفْتَرِقا وبينَكُما شيءٌ " (انظر: الترمذي: البيوع، باب: في اقتضاء الذهب من الورق، رقم: 3354 كما أخرجه باقي أصحاب السنن والإمام أحمد). فقوله: (أبيع بالدنانير ... ) أي ديناً، لأنه لم يقبضها، ثم يستبدل بها دراهم يقبضها، فهذا بيع للدين بعين ممّن عليه الدين. والبقيع: اسم موضع فيه قبور أهل المدينة، وكان سوقاً للتجار. 6 - بيع المبيع قبل قبضه: وذلك بأن يشتري إنسان سلعة أو بضاعة، ثم يبيعها قبل أن يقبضها. فهو بيع منهي عنه وباطل، لما علمنا أن المبيع لم يدخل في ضمان المشتري قبل قبضه، فلا يملك أن يبيعه. روى ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من ابْتَاعَ طعاماً فلا يَبِعْهُ حتَّى يَقْبِضَهُ ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أما الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو الطعام أن يُبَاع حتى يُقبَضَ). قال ابن عباس: (ولا أحسَبُ كلّ شيء إلا مثْلَهُ). (البخاري: البيوع، باب: بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك 2028، 2029. مسلم: البيوع، باب: بطلان بيع المبيع قبل القبض، رقم: 1525، 1527). وهذا إذا كان البيع لغير البائع الأول، فإذا كان البيع لنفس البائع الأول كان باطلاً أيضاً إذا كان بغير الثمن الأول أو بمثله، لأنه بيع يدخل في عموم النهي. أما إذا باعه للبائع الأول بنفس الثمن الذي اشتراه به، أو بمثله إن تلف الثمن الأول، كان صحيحاً، لأنه في الحقيقة إقالة من البيع الأول وليس بيعاً جديداً، وإن كان على صورة البيع. ثانياً - البيوع المحرّمة غير الباطلة: وهي البيوع التي ورد النهي عنها لا لنقص في أركانها ولا لخلل في شروطها، وإنما لأمر خارج عنها، ولذا يحكم بصحتها مع ثبوت التحريم لها والإثم على فاعلها. وهذه البيوع هي: 1 - بيع المُصَرّاة: وهي الناقة أو البقرة أو الشاة، يترك حلبها عمداً أياماً ليجتمع اللبن في ضَرعها، فيتوهم المشتري كثرة اللبن فيها على الدوام، فيرغب بشرائها، وربما زاد في ثمنها. فإذا وقع الشراء كان العقد صحيحاً، ولكن مع الحرمة، لما فيه من الغش والتدليس. فإذا علم المشتري بذلك ثبت له خيار الرد على الفور، لأنه في حكم خيار الرد بالعيب، فإذا ردّها وكان قد حلبها ردّ معها صاعاً من تمر بدل اللبن الذي أخذه، أو ردّ البن نفسه إذا رضي البائع بذلك. وإن رضي بالشاة مع العلم بالتصرية لم يكن له شيء. ودليل ما سبق: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تُصَرُّوا الإبل والغنم، فمن ابْتَاعها بعدَ ذلك فهو بخير النَّظَرّيْنِ بعد أن يَحْلُبها: إن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 رضيها أمسكَها، وإن سَخِطَها ردّها وصاعاً من تمر". (أخرجه البخاري في البيوع، باب: النهي أن لا يحفل الإبل .. ، رقم: 2041. ومسلم في البيوع، باب: تحريم بيع حبل الحبلة، رقم 1515). ويقاس على الإبل الغنم غيرهما مما يتحقق فيه هذا المعنى، ولا سيما الحيوان المأكول اللحم. 2 - النَّجْش: وهو أن يزيد شخص في ثمن السلعة وهو لا يقصد الشراء، وإنما ليوهم غيره نفاستها، فيشتريها بأكثر من ثمنها. واصل النجش الاستتار، لأنه يستر قصده. وهذا العمل حرام، لما رواه عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النَّجْش ". (أخرجه البخاري في البيوع، باب: النجش، رقم: 2035. ومسلم في البيوع، باب: تحريم بيع الرجل على بيع أخيه ... ، رقم: 1516) فإذا حصل الشراء كان صحيحاً. فإذا قام الدليل على أن ذلك كان بتواطؤ بين البائع والناجش كانت الحرمة عليهما، وكان البائع غارّاً وغاشّاً للمشتري ومدلِّساً عليه، فيثبت له بذلك حق الخيار. وإن لم يثبت أن ذلك كان بتواطؤ منهما لم يكن للمشتري الخيار، لأنه مقصِّر في التحرِّي والبحث. 3 - بيع الحاضر للبادي: وهو أن يَقْدَم رجل من سفر - من بادية أو غيرها - ومعه متاع يريد بيعه، وأهل البلد في حاجة إليه، فيقول له من آخر من أهل البلد: لا تبع حتى أبيع لك هذه البضاعة شيئاً فشيئاً، ويزداد الثمن. فمثل هذا العمل حرام، لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يَبْع حاضِرٌ لبادٍ ". فقيل لابن عباس: ما قوله: " لا يبع حاضر لبادٍ"؟ قال: (لا يكون سمساراً) (أخرجه البخاري في البيوع، باب: هل يبيع حاضر لبادٍ بغير أجر ... ، رقم: 2050. ومسلم في البيوع، باب: تحريم بيع الحاضر للبادي، رقم: 1521). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 وسبب النهي والتحريم ما في ذلك من تضييق على الناس. وينبغي التنبيه إلى أن هذا لا ينطبق على ما يفعله اليوم الوسطاء، حين يقومون ببيع البضائع لمن يجلبونها إلى البلد، لأن معنى التضييق لأهل البلد غير وارد، بل ربما كان عملهم تسهيلاً وتيسيراً على المنتج والمستهلك. 4 - تلقَّي الركبان: وهو أن يخرج التاجر إلى خارج البلد، فيستقبل القادمين بالبضائع، ويوهمهم أن ما معهم من السِّلَع كاسد في البلد، وأن أسعارها بخسة، ليشتريها منهم بأقل من ثمنها. فإذا اشترى منهم هذه البضائع كان البيع صحيحاً مع حرمته، لما فيه من الخداع، وقد دل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق: " لا تَتَلَقَّوْا الرُّكْبَان ". فإذا نزل أصحاب البضائع السوق وعرفوا الأسعار، وبانَ لهم أنهم مغبونون بالثمن، ثبت لهم خيار فسخ البيع. روى أبو هريرة رضي الله عنه قال " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُتَلَقَّى الجَلَبُ، فإن تلقاه إنسانٌ فابتاعَهُ فصاحب السلعةِ فيها بالخيارِ إذا ورد السوق ". (انظر مسلم: البيوع، باب: تحريم تلقي الجلب، كما أخرجه أصحاب السنن). 5 - الاحتكار: وهو أن يشتري البضائع التي تعتبر أقواتاً للناس من الأسواق، ولا سيما عند حاجة الناس إليها، فيجمعها عنده ولا يظهرها، ليرتفع ثمنها أكثر فأكثر، فيبيعها شيئاً فشيئا مستغلاً حاجة الناس. فمثل هذا التصرف حرام، لما رواه معمر بن عبدالله العدوي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يحتكر إلى خاطئ" (أخرجه مسلم في المساقاة، باب تحريم الاحتكار في الأقوات، رقم 1605). [والخاطئ هو المذنب العاصي]. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 فإذا صار الناس في حاجة شديدة إلى هذه الأقوات، أو ضرورة، أُجبر المحتكر على بيعها بالسعر المناسب، فإن أبى باعها القاضي عليه وأدى له ثمنها. وهذا ينبغي أن يعلم أن شراء مثل هذه البضائع في المواسم وحال توفرها في الأسواق، من أجل ادّخارها لتباع وقت الحاجة إليها، كما يفعل الكثيرون من التجّار حين يشترون الجبن مثلاً، وكما تفعل المعامل حين تُصَنِّع بعض الأغذية وتحفظها من الفساد، لينتفع الناس بها حين عدم توفرها، كل ذلك ليس باحتكار، وإنما هو تجارة مشروعة وعمل نافع، وقد يكون في ذلك خير العباد والبلاد، ويؤجر هؤلاء الذين يحفظون الفائض عن الحاجة في موسمه ليتوفر في أوقات أخرى، لا سيما لأولئك الناس الذين قد لا يتمكنون من ادّخار الأقوات، وما يسمى (المونة) في بعض البلدان اليوم. 6 - البيع على بيع أخيه أو السوم على سومه: أما البيع: فهو أن يجئ إلى من اشترى شيئاً وهو مدة الخيار فيقول له: أنا أبيعك أجود مما اشتريت بنفس الثمن، أو أبيعك مثله بأقل من هذا الثمن. وأما السَّوْم: فأن يكون رجل يسوم سلعة، وربما اتفق مع صاحبها على ثمن، فيأتي آخر ويعرض على صاحب السلعة ثمناً أكبر ليبيعها له. أو أن يعرض على المشتري سلعة مثلها بثمن أقل، أو أنفس منها بنفس الثمن. فكل ذلك حرام، لما رواه أبو هريرة وابن عمر رضي الله عنهما من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا بيع الرجُلُ على بيع أخيه ". وقوله: " لا يَسُم المسلمُ على سَوْمِ أخيه " (البخاري: البيوع، باب: لا يبيع على بيع أخيه ... ، رقم: 2023. ومسلم: البيوع، باب: تحريم بيع الرجل على بيع أخيه .. ، رقم: 1515). والحكمة من تحريم هذه الأمور: ما فيها من إخلال بالمروءة، وإيغار للصدور، وزرع للبغضاء وإثارة للنزاع والشحناء، وإفساد للمجتمعات بقطع الصلات وإلقاء العداوة بين الناس، مما يتنافى مع حرص الإسلام على تآلف المجتمعات، وتمتين الروابط بين الناس وتحسين الصلات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 7 - مبايعة من يعلم أن جميع ماله حرام: إذا علم أن فلاناً من الناس كل ماله حرام، كأن كان ثمن محرم بيعه كخمرٍ أو خنزير أو ميتة أو كلب، أو كسبه بطريق غير مشروع، كاليانصيب مثلاً أو رشوة، أو أُجرة على محرم ونحو ذلك، فإنه يحرم بيعه كما يحرم الشراء منه، وكذلك كل أنواع التعامل معه كإجارة أو عارية أو نحو ذلك. كما يحرم الأكل من طعامه. فإذا لم يكن كل ماله حراماً، بل كان مخلوطاً من حرام وحلال، كره التعامل معه بجميع الأوجه التي سبقت. دلّ على ذلك: ما رواه النعمانُ بن بشير رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الحلال بَيِّنٌ والحرامُ بَيِّنٌ، وبينهما أمورٌ مشتبهاتٌ لا يعلمُها كثيرُ من الناس فمَن اتَّقَى الشبهات فقد اسْتَبْرَأَ لدينه وعرضْه، ومَن وقَع في الشبهات وقع في الحرامِ " (أخرجه البخاري في الإيمان، باب فضل مَن استبرأ لدينه، رقم: 152. ومسلم: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، رقم: 1599). و من آداب البيع : 1 - السماحة في البيع والشراء: وذلك بأن يتساهل البائع في الثمن فينقص منه، والمشتري في المبيع فلا يتشدد في الشروط، وفي الثمن فيزيد فيه، وأن يتساهل مع المعسر بالثمن فيؤجله إلى وقت يساره، وإذا طالبه بدينه فلا يشدد عليه ولا يحرجه. روى جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " رحم الله رجلاً سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقْتضى - أي طالب بدينه - " (أخرجه البخاري في البيوع، باب: السهولة والسماحة في الشراء والبيع .. ، رقم: 1970). 2 - الصدق في المعاملة: بأن لا يكذب في إخباره عن نوع البضاعة ونفاستها، أو مصدر صنعها ونحو ذلك، وكذلك لا يدّعي ن تكاليفها أو رأس مالها أكثر مما يعطيه المشتري من الثمن، إلى غير ذلك، بل يصدق في كل هذا فيما لو سئل وينصح. عن رفاعة رضي الله عنه: أنه خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى، فرأى الناس يتابعون، فقال: " يا معشر التُّجار ". فاستجابوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورفعوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: الترمذي " إنّ التجارّ وصححه، يُبعثُون يومَ القيامة فُجّاراً، إلا اتقى الله وَبَرّ وصَدَقَ " (أخرجه الترمذي في البيوع وصححه، باب: ما جاء من في التجار وتسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - إياهم، رقم: 1210). [بَرّ: أحسن في المعاملة]. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " التّاجرُ الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء " (الترمذي: البيوع، باب: ما جاء في التجار وتسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - إياهم، رقم: 1208). وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرِّقا - أو قال " حتى يتفرّقا - فإنْ صَدَقا وبيِّنا بُورك لهما في بيعهما، وإنْ كتَما وكَذَبا مُحقَتْ بركة بيعهما " (البخاري: البيوع، باب: ما يمحق الكذب والكتمان في البيع، رقم: 1976. ومسلم: البيوع، باب: الصدق في البيع والبيان، رقم: 1532). 3 - عدم الحلف ولو كان صادقاً: ومن آداب البيع والشراء ودلائل الصدق فيه عدم الإكثار من الحلف، بل عدم الحلف مطلقاً، حال كونه صادقاً في البيع، لأن في ذلك امتهاناً لاسم الله تعالى، وقد قال جلّ وعلا: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ} (البقرة224). وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " الحلفُ مَنفْقَة للسلعة، ممحقة للبركة " (البخاري: البيوع، باب: (يمحق الله الربا ويربى الصدقات ... ) رقم: 1981. مسلم: المساقاة، باب: النهي عن الحلف في البيع، رقم: 1606). وليحذر كل الحذر أولئك الذين يروِّجون بضائعهم ويغرون زبائنهم بالأيمان الكاذبة، فعن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ". قلنا: من هم يا رسول الله فقد خاُبوا وخسرُوا؟ فقال: " المنَّان، والمُسْبل إزارهُ، والمُنفق سلْعته بالحَلف الكاذب " (أخرجه مسلم في الإيمان، باب: غلظ تحريم إسبال الإزار ... رقم: 106) [وإسبال الإزار: المراد به إطالة الثياب تكبراً وتعالياً] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 4 - الإكثار من الصدقات في الأسواق وحال البياعات: عسى أن يكون ذلك تكفيراً لما قد يقع من حلف لم ينتبه إليه، أو غش بسبب عيب لم يفطن البائع إلى بيانه، أو غبن في السعر، أو سوء خلق أو ما إلى ذلك. روى قيس بن أبي غرزة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نسمَّي السماسرة، فقال: " يا معشَرَ التجار، إنَّ الشيطان والإثْم يحْضُرَانِ البيع، فشُوبُوا بيعكُم بالصدقة " (أخرجه الترمذي في البيوع، باب: ما جاء في التجار وتسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - إياهم، رقم 1208. كما أخرجه أبو داود وابن ماجه). [وقوله: " شوبوا " أي اخلطوا] 5 - الكتابة والإشهاد: إذا كان البيع بالنسيئة - أي أن الثمن مؤخر إلى أجل - استحب كتابة العقد وبيان مقدار هذا الدين وأصله وما يتعلق بذلك مما ينفي المنازعة، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (البقرة282) ففي ذلك مزيد من الضمان للحق، وتمتين للثقة والتعاون بين المسلمين، قال تعالى: {وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ} أي أقرب إلى الحق وأعدل بين الناس، والتبديل للحق، الذي يغلب أن يؤدي إلى فقد الثقة وعدم التداين بين الناس، وفي ذلك من التضييق ما فيه. وكذلك يستحب الإشهاد على التبايع ولو لم يكن في ذلك تداين، وكان البيع مع نقد الثمن وتسليم المبيع، كي لا يقع إنكار للعقد أو شيء من شروطه، فيحصل النزاع والتخاصم، وامتثالاً لأمر الله عز وجل إذ يقول: {وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ}. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 الإقالة تعريفها: الإقالة - في اللغة - معناها الرفع، واستعمالها في العقود يعني: رفع أحكام العقد وآثاره. فهي في اصطلاح الفقهاء: توافق المتعاقدين على رفع العقد القابل للفسخ بخيار. فمن التعريف نعلم أن الإقالة إنما تكون في العقود اللازمة، أي التي إذا تمّت - بتحقق شروطها وكما أركانها - لم يكن للمتعاقد فسخها إلا بموافقة الطرف الآخر. أما العقود الجائزة - وهي التي لكلِّ من العاقدين فسخها متى شاء، ولو لم يرض الطرف الآخر - فلا داعي فيها للإقالة. وكذلك نعلم من التعريف أن الإقالة إنما تكون في العقود التي تقبل الفسخ، كالبيع والإجارة ونحو ذلك. أما العقود التي لا تقبل الفسخ - كالنكاح - فلا إقالة فيها. مشروعيتها: والإقالة مشروعة، بل هي مندوبة إذا طلبها أحد المتعاقدين، لما فيها من التيسير على الناس، وتخليصهم مما يظنون أنه ورطة يندمون على الوقوع فيها، فقد يعقد أحدهم عقداً ثم يرى أنه مغبون فيه، أو أنه ليس بحاجة إليه، فيبقى في غمِّ وكرب، ويكون في إقالته منه تنفيس لكربه وتفريج لغمّه وفي ذلك من الأجر ما فيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 ودل على مشروعيتها: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أقال مسلماً بيعته أقال الله عثرته ". وفي لفظ: " من أقال مسلماً أقال الله عثرته يوم القيام ". وفي لفظ: " من أقال نادماً ". (أخرجه أبو داود في البيوع، باب: في فضل الإقالة، رقم: 3460. كما أخرجه ابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم، وغير هؤلاء). ركن الإقالة: لا بدّ في الإقالة من صيغة هي ركن الإقالة، وهي الإيجاب: كأقلني بيعتي، والقبول: كأقلتك. وتصح بلفظ الفسخ والترك والرفع. ويُشترط فيها اتحاد المجلس بين الإيجاب والقبول، كغيرها من العقود، لأنها عقد. شروطها: 1 - رضا المتقايلَيْن بها، كما عُلم من قولنا في التعريف: (بخيار). فلو كان أحدهما مكَرهاً لم تصح، لأنها فسخ للعقد، فيلزم لها ما يلزم له من الرضا والاختيار. 2 - أن لا يكون فيها زيادة ولا نقصان عن أصل العقد، فلا يُزاد في أحد البدلين ولا يُنقص منه، لأنها - كما قلنا - فسخ، أي رفع للعقد الذي جرى، وعودة بالمتعاقدين إلى ما كانا عليه قبل العقد. ولذا لو كانت الإقالة في البيع، وزاد المبيع زيادة منفصلة متولِّدة من الأصل، كأن يكون المبيع شاة فتلد، امتنعت الإقالة. وبناء على ذلك تصحّ على الزيادة والنقصان. وهذا ما يجري عليه أكثر الناس في أيامنا هذه، إذ إنهم لا يرضَوْن بالإقالة ما لم يكن من طالبها تنازل عن شيء من حقه، أو أن يعطي الطرف الثاني ما يرضيه ليرجع عن العقد ويقبل برفعه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 الباب الثاني السلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 السلم تعريفه: هو - في اللغة - السلف، أي التقديم. وشرعاً: هو بيع شيء موصوف في الذمة بلفظ السلم أو السلف. وهو نوع من البيوع، وهو مستثنى من بيع المعدوم وما ليس عند الإنسان. مشروعيته: قلنا: إن عقد السلم مستثنى من بيع المعدوم، وقد علمنا أنه لا يصحّ بيع المعدوم، وإنما استُثني السلم من ذلك لحاجة الناس إلى مثل هذا العقد. روى عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ المدينةَ وهم يُسْلِفُونَ في الثمار السنة والسنتين، فقال: " من أسْلَفَ فَلْيُسلفْ في كيل معلوم، ووزْن معلم، إلى أجل معلوم " (البخاري: السلم، باب: السلم في وزن معلوم، رقم: 2125. مسلم في المساقاة، باب: السلم، رقم: 1604). وعن عبد الرحمن بن أبزي وعبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنهما قالا: كنّا نصيب المغانم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يأتينا من أنْبًاطِ الشام، فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت إلى أجَل مسمى. قبل: أكان لهم زرع أو لم يكن؟ قالا: ما كنا نسألُهم عن ذلك (البخاري: السلم، باب: السلم إلى من ليس عنده أصل، رقم: 2128). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أشهد أن الله تعالى أحلّ السلف المضمون، وأنزل فيه أطول آية في كتابه، وتلا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ .. } البقرة282 وانظر تفسير الآية عند ابن كثير. ووجه دلالة الآية على مشروعية السلم أنه نوع ديْن، والآية أقرت الدين وأجازته، فيكون السلم جائزاً. حكمة تشريعه: أشرنا أن القياس في السلم أن يكون غير مشروع، لأنه بيع المعدوم وما ليس عند الإنسان، وإنما شرع لحاجة الناس إليه. وهذه الحاجة تظهر في أن أصحاب الصناعات والأعمال، وكذلك أصحاب الأراضي والأشجار، كثيراً ما يحتاجون إلى المال من اجل تأمين السلع الأولية لمنتجاتهم، أو تهيئة الآلات والأدوات لمصانعهم، وكذلك الزرّاع ربما احتاجوا للمال من رجل رعاية أراضيهم وحفظ بساتينهم. وقد لا يجد هؤلاء المال لدى مَن يمكن أن يقدّمه لهم قرضاً، وقد لا يرضى بذلك، فيسّر لهم الشرع أن يستلفوا هذا المال على أساس أن يقدموا بدله منتجاتهم من زرع أو ثمر أو سلع ونحو ذلك. وكذلك التجار الذين يرغبون بتأمين السلع والبضائع في الوقت المناسب، قد لا يجدون مَن يبيعهم ذلك في حينه، ويكون المال متوفراً لديهم، فيسّر لهم الشرع أن يسلفوا هذا المال في البضائع التي يرغبون. وهكذا نجد أن تشريع السلم حقّق مصالح عدّة، إذ يسّر المال لمن لا يجده والبضاعة لمن يرغب بها، وفتح الطريق أمام المال ليقوم بوظيفته الأساسية، ألا وهي قوام عيش الناس، فلم يبق مخزوناً مكنوزاً. وتلافي أخطار بيع المعدوم بالشروط والقيود التي أحاط بها هذا العقد، والتي ستراها خلال البحث. أركانه وشروطه: أركان عقد السلم أربعة: عاقدان وصيغة ورأس مال السلم والمُسلَم فيه، ولكلِّ منها شروط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 1 - الركن الأول: العاقدان: وهما المشتري الذي يسلف ماله مقابل السلعة التي يرغب بها، ويسمى المُسلم. والبائع الذي يستسلف المال ليقدم السلعة بمقابله، ويسمى المسلَم إليه. ويشترط فيهما ما يشترط في البائع والمشتري في عقد البيع، من العقل والبلوغ والاختيار ونحو ذلك. ويستثنى شرط البصر، فإن الأعمى يصحّ السلم منه بينما لا يصح بيعه كما علمنا، لأن البيع يُشترط فيه رؤية المبيع من المتعاقدين، وفي السلم المبيع موصوف في الذمّة، فيمكن معرفة صفاته بالسماع، وعند القبض يوكل مَن يقوم بذلك ليتحقق من وجود الصفات المشروطة. 2 - الركن الثاني: الصيغة: وهي الإيجاب والقبول، كأن يقول صاحب المال: أسلفتك أو أسلمتك هذه الألف دينار في ألف ثوب صفتها كذا مثلاً، فيقول المسلَم إليه: قبلت، أو استلفت، أو استسلمت، ونحو ذلك. ويشترط فيها ما يشترط في الصيغة في البيع من اتحاد المجلس وموافقة الإيجاب للقبول ونحو ذلك. ويضاف إلى ما سبق: أن تكون الصيغة بلفظ السلم أو السلف، فلا تصحّ بغيرهما. وكذلك يشترط خلو العقد عن خيار الشرط، أي أن يكون العقد باتاً، لأن خيار الشرط شُرع استثناءً في عقد البيع المطلق، فلا يُقاس على البيع غيره، فيبقى شرط الخيار فيه على أصل المنع. وكذلك يشترط في السلم تسليم رأس المال في مجلس العقد - كما ستعلم - وخيار الشرط في العقد بمنع تحقّق ذلك، لأن شرط الخيار يمنع ثبوت الملْك للمسلَم إليه في الثمن، فيكون قبضه صورة، ويؤدي ذلك إلى افتراق العاقدين قبل تمام العقد، وذلك لا يجوز، فيكون العقد الذي شرط فيه الخيار باطلاً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 أما خيار المجلس: فإنه يثبت في عقد السلم، لأنه ينقضي بالتفرّق، فيكون تفرّق العاقدين عن تمام العقد، فلا تعارض بين خيار المجلس وشروط عقد السلم. 3 - الركن الثالث: رأس المال: وهو الثمن الذي يدفعه المشتري سلفاً إلى البائع، ويشترط فيه: أ - أن يكون معلوماً للعاقدين قدراً وصفة، بأن يكون - مثلاً - ألف دينارٍ أو ألفي درهم، وإذا كان الثمن مما يُباع بالكيل أو الوزن، كأن يكون حنطة أو سكراً ونحو ذلك، يشترط بيان قدره كيلاً ووزناً، كألف مدّ أو ألف رطل، وكذلك يشترط عندها بيان صفته من حيث الجودة والرداءة. فإن كان مشاهداً، كأن يسلفه كومة من الحنطة في سلعة ما، أو هذه الدراهم، اشترط بيان القدر، ويستغنى عن ذكر الصفة والجنس والنوع، لأن المشاهدة تنوب مناب ذلك في البيان. ب - تسليم رأس المال من رب المال في مجلس العقد وقبض المسلَم إليه له، وذلك قبل تفرق أبدانهما، لأن التسليم هو أصل معنى السلم، فإذا لم يوجد ذلك لم يوجد العقد، ولأنه يصير في معنى بيع الدين بالدَّيْن، وهو منهي عنه كما علمت. ويشترط فيه القبض الحقيقي، فلو أحال برأس مال السلم ليقبضه المسلم إليه لم يصح، لأن الحوالة ليست بقبض. 4 - الركن الرابع: المسلم فيه: وهو الشيء المبيع محل العقد، الذي تعهّد البائع بتأديته إلى المشتري، مقابل رأس مال السلم المدفوع سلفاً. ويشترط فيه: أ - أن يكون مما يمكن ضبطه بالوصف، الذي تختلف به الأغراض، بحيث تنتفي الجهالة عنه، ولا يبقى إمكان للاختلاف بين أفراد جنسه إلا بتفاوت يسير يتساهل الناس به عادة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 ودليل ذلك: ما رواه عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: إنّا كنّا نُسْلف على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في الحنطة والشعير والزبيب والتَّمْر (أخرجه البخاري في المسلم، باب: السلم إلى مَن ليس عنده أصل، رقم: 2128). وهذه الأصناف كلها مما يمكن ضبطه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في السلم في الكرابيس: إذا كان ذَرْعاً معلوماً إلى أجلِ معلوم فلا بَأْسَ. والكرابيس: ثياب تتخذ من القطن الأبيض، فهي مما يضبط بالوصف وعن أبي النضر رضي الله عنه قال: سئل عمر رضي الله عنه عن السلم في السّرَق، قال: لا بأس. والسّرَقة: الشقة من الحرير، وهو مما يمكن ضبطه. ويقاس على هذه الأشياء المذكورة غيرها مما لم يذكر، سواء أكان موجوداً قديماً أم وجد الآن أو يوجد في المستقبل، طالما أنه في معناها، أي مما يمكن ضبطه بالوصف، ولو لم يكن مثلياً. فإذا كان لا يمكن ضبطه بالوصف فلا يجوز السلم فيه ولا يصح، لأنه عقد على ما فيه جهالة فاحشة تؤدي إلى النزاع. ويذكر الفقهاء هنا أمثلة كالجلود، فإنها تختلف رقّة وثخونة، وتلك أغراض مقصودة. وكالجواهر النفيسة، فإن قيمتها تختلف باختلاف صفائها، وذلك مما لا يمكن ضبطه. ويلحق بهذا في أيامنا كل ما كان في معناه لدى التجار. ويدخل في مالا ينضبط ولا يصح السلم فيه: كل ما أثَّرت فيه النار شيّاً أو قلياً أو طبخاً، لأن تأثير النار فيه مختلف، فلا يمكن ضبطه. أما ما أثرت فيه النار للتمييز، كالسمن ليميز منه اللبن، والعسل ليميز منه الشمع، فإنه يصح السلم فيه، لضعف تأثير النار فيه في هذه الحالة. ب - أن يكون معلوم الجنس والنوع والقدر والصفة للمتعاقدين، أما الجنس كأن يكون قمحاً أو شعيراً. والنوع كأن يكون بلدياً أو جلباً (أي مستورداً من بلد معين). والقدر كألف صاع إن كان مكيلاً، أو بالوزن كان موزوناً، أو بالعدد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 إن كان معدوداً، أو بالذَّرْع - أي بالقياس - إن كان مذروعاً. والصفة كأن يذكر لونه أو نقشه أو شكله، ورقته أو ثخونته، وغير ذلك من الأوصاف التي تختلف بها الأغراض، كما ذكرنا. ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (مَن أسلفَ فلسْلفْ في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ) ويقاس على القدر غيره من الأمور التي تحدد العلم بالمبيع. ج - أن لا يكون مختلطاً من أجناس مختلفة، كعلف مخلوط من شعير وغيره مثلاً، أو طيب مخلوط من مسك وعنبر وغيرهما، ونسبة كل جنس في الخليط مجهولة. فإن عُلمت مقادير الأجناس المختلطة، ونسبة كل جنس في الخليط، وأمكن ضبطها بالوصف، صحّ السلم فيها، كثياب مصنوعة من صوف وقطن - مثلاً - ونسبة كلّ من الصوف والقطن محددة معلومة. وكذلك يصحّ السلم في الجنس الذي اختلط به غيره إذا كان خلطه فيه لمصلحته وحفظه، كالجبن - مثلاً - يخالط اللبن فيه الملح والأنفحة، وهي لمصلحته، فيجوز السلم فيه. د - أن يكون المسلم فيه ديناً، أي شيئاً موصوفاً في الذمّة غير معين، كأن يسلمه ألف دينار - مثلاً - في مائة ثوب مضبوط بالوصف. فإذا قال أسلمتك ألف دينار بهذه الأثواب المائة، وهي موجودة معينة، لم يصح السلم، لأن السلم شُرع لبيع شئ موصوف في الذمة، ولفظه يدل على هذا المعنى. لأن ينعقد بيعاً، لأن لفظ السلم يقتضي أن يكون المبيع ديناً، ولفظ هذه الأثواب يقتضي أن يكون المبيع عيناً، فصار تناقض بين اللفظين، فلم يصح العقد. هـ - أن يكون مقدوراً على تسليمه، من حيث الأجل والنوع، بأن يغلب على الظن وجود نوعه عندما يحين وقت استحقاقه، ولو بالنقل من بلد إلى آخر، إذا كان من المعتاد نقله منه للبيع ونحوه. فلو أسلم فيما ينقطع وجوده غالباً وقت حلول الأجل، كعنب في الشتاء أو رطب ونحو ذلك، لم يصح السلم. وكذلك لو أسلم فيما يندر وجوده من حيث نوعه، كبطيخ بحجم معين، أو من موضع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 معين يقلّ فيه إنتاجه لصغر البلد مثلاً، لأن الغالب عدم القدرة على تسليم ذلك، فربما جاءت آفة أو طرأ حادث على إنتاج ذلك البلد، فيفقد. ولو أسلم فيما يغلب وجوده، فلم يتوفر عند حلول وقت الاستحقاق، لم ينفسخ العقد، بل يخيَّر المسلم صاحب المال: بين أن ينتظر حتى يتوفر المسلم فيه، وبين أن يفسخ العقد ويسترد رأس المال الذي دفعه دون زيادة أو نقصان. وينبغي الانتباه هنا إلى أنه لا يجوز أن يُسْتَبْدَل المسلم فيه بغيره، كأن يستبدل البر مثلاً بسمن، أو يستبدل الثياب بحديد، أو نحو ذلك. بل يفسخ عقد السلم أولاً إذا لم يرغب بالانتظار، وبعدها: إما أن يسترد رأس المال فيشتري به ما شاء من المسلم إليه أو غيره. أو أن يبقى رأس المال في ذمته، والمسلم إليه له الخيار أن يبيعه به ما يشاء من سلع عنده، أو يردّه إليه. وكذلك ينبغي الانتباه هنا إلى أنه ليس للمسلم رب المال: أن يبيع المسلم فيه إلى أحد قبل أن يقبضه، على خلاف ما يفعل الكثير من التجار اليوم، حيث إنهم يبيعون السلع المستوردة قبل وصولها واستلامها. وطريق تصحيح ذلك أن يبيعوها سلماً بالشروط التي سبقت، وعندها يكون البائع ملزماً بتسليم المبيع المسلم فيه حسب الشروط، سواء من تلك البضاعة المستوردة أم من غيرها، وله أن يسلمها من غيرها إذا وافقت الشروط المتفق عليها، ولو سلمت بضاعته واستلمها. وتعيين الأجل الذي يجب عنده تسليمه، وأن يكون الأجل محدداً معلوماً، كأن يقول: أسلمتك ألف درهم في عشرة أثواب صفتها كذا، على أن تسلمني إياها بعد شهر من تاريخ العقد، أو أول شهر كذا. فإن لم يذكر أجلاً، أو ذكر أجلاً غير محدد، كأن يقول: إلى قدوم فلان من سفره، أو إلى الحصاد مثلاً، لم يصح، لأن الأجل مجهول، فلا يُدرى متى يقدم فلان، والحصاد يستمر مدة، فيقع الخلاف والنزاع في الوقت المقصود ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إلى أجل معلوم). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 وينبغي التنبيه هنا إلى أنه: لو أحضر المسلم إليه المسلم فيه قبل الأجل المسمى أجبر المسلم رب المال على قبوله، إن لم يكن له نفقة وكلفة خلال المدة الباقية، ولم يكن للمسلم غرض مقصود معتبر شرعاً بالأجل المعين أو بالامتناع من قبوله. فإن كان له مؤنة كحيوان مثلاً، أو كان له غرض صحيح، كأن يكون اشتراه لمناسبة معينة، أو كان المجيء به في وقت نهب مثلاً، كان له أن يمتنع، ولا يجبر على قبوله. ومثل ذلك ما لو كان يحتاج إلى تخزين ليباع في موسمه، ولا مستودع عنده. ز - أن يعيّن موضع تسليمه، إذا كان الموضع الذي جرى فيه العقد لا يصلح لذلك، أو كان يصلح للتسليم ولكن لنقل المسلم فيه إليه كلفة ونفقة. فإذا كان الموضع صالحاً للتسليم ولا كلفة لنقله إليه: كان هو موضع التسليم، إذا لم يُنصّ في العقد على موضع آخر له، فإن اتفق على موضع معين غيره صالح للتسليم تعين ذلك. ويرجع في هذا إلى العرف عند الاختلاف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 عقد الاستصناع هو أن يطلب إنسان ممّن له صنعة: أن يصنع له شيئاً مما له علاقة بصنعته على وجه مخصوص، وتكون مادة الصنعة من الصانع. وهو عقد ينتشر انتشاراً واسعاً في هذا الزمن، مما يجعلنا في حاجة أن نبيّن حكم هذا العقد. وقبل بيان حكمه نذكر أمثلة عليه: - أن يطلب من حذَّاء أن يصنع له حذاء أو أحذية، والجلد وما يحتاج إليه من الصانع لا من المستصنع. - يدخل في هذا اليوم عمل النجّارين، حيث يطلب صاحب بناء أو نحوه من النجّار أن يصنع له نجارة معينة، من خشب أو ألمنيوم، والمادة من الصانع، وقد يدخل فيها الزجاج وغيره من أقفال ومفاتيح ومغاليق. - ويدخل في هذا صنع الأثاث المنزلي من مفروشات وغيرها، حيث يتفق المستصنع مع الصانع على صنع غرفة نوم مثلاً، أو مقاعد، وما يتركب منه المصنوع كله من الصانع، حسب نموذج معين يطلع المستصنع عليه ويحصل الاتفاق. إلى غير ذلك من أسئلة في معنى ما ذكرنا. إن هذا العقد موضع اختلاف لدى الفقهاء، ونستطيع أن نقول: إذا انطبقت عليه شروط عقد السلم التي مرّ ذكرها: من ضبطه بالوصف، وضبط ما يدخل فيه من مواد، ومن تحديد الأجل لتسليمه، وتسليم ثمنه في مجلس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 العقد، إلى غير ذلك من شروط، استطعنا أن نحكم بصحته على أنه عقد سلم، وإن جرى بلفظ البيع، لأن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني. وإذا لم تنطبق عليه شروط السلم السابقة الذكر، وهذا هو الغالب في تعامل الناس بهذا العقد، فإن أكثر المستصنعين يدفعون للصانع قسطاً من الثمن عند التعاقد، وقد لا يدفعون شيئاً بالكلية، ثم يؤدون باقي الثمن أقساطاً، أو عند الانتهاء من الصنعة، وربما بقي للصانع شيء من الثمن يتقاضاه فيما بعد، هذا هو الغالب في تعامل الناس، وعليه فلا يعتبر هذا سَلماً، وبالتالي فهو غير صحيح عند الشافعية رحمهم الله تعالى. وقد قال بصحة هذا التعاقد السادة الحنفية رحمهم الله تعالى فيما جرى به العرف وِتعامَل الناس به، لحاجة الناس إليه. شريطة أن يبيّن في العقد ما يزيل عن المستصنَع الجهالة المفضية إلى التنازع بين المتعاقدين، كأن تذكر مادة الصنع ومصدرها، وصفتها وقدرها، وما إلى ذلك. هذا ولا نرى مانعاً من الأخذ برأي السادة الحنفية رحمهم الله تعالى، والحكم بصحة هذا التعامل، تيسيراً على الناس، إذ أن الحاجة ماسّة إليه، والناس يتعاملونه - كما ذكرنا - في أكثر صناعاتهم، وكل من الأئمة والفقهاء يسعى وراء الحق، ويلتمس المصلحة لعباد الله تعالى على ما يرضي الله عزّ وجل، ويوافق سنّة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، والله تعالى أعلم. بيع المنازل على الخارطة ونرى أنه يدخل في هذا الموضوع بيع الشقق على الخارطة: فإنها إذا كانت منضبطة الأوصاف، معلومة المقادير الداخلة في الصنع للمتعاقدين، كالإسمنت والحديد ونحو ذلك، وسلم الثمن كله في مجلس العقد، صحّ العقد والبيع من باب السلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 وإذا لم تنطبق شروط السلم على العقد - وهذا هو الغالب في تعامل الناس، إذ أننا لا نجد مَن يدفع الثمن كله عند التعاقد، ولا يعرف أحد عنده أيضاً ما يدخل في البناء من مواد الصنع - كان ذلك عقد استصناع، واعتبر العقد صحيحاً، طالما أن الناس يتعاملون بهذا، شريطة أن توضّح مواصفات البناء عند التعاقد بحيث لا تبقى جهالة تؤدي إلى النزاع، أن لا يكون في ذلك شيء من الشروط الباطلة والفاسدة التي لا توافق شرع الله تعالى، وقد تعود على العقد بالبطلان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 الباب الثالث الرّبا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 الربا تعريف الربا: - في اللغة: هو مصدر: ربا يربو، إذا زاد ونما، فهو بمعنى الفضل والزيادة والنماء، ومنه: قوله تعالى: {َتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ} الحج5 أي تحركت وارتفعت وزادت عمّا كانت عليه قبل نزول الماء. وقوله تعالى: {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} النحل92 أي أكثر عدداً وقوة. وقوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} الروم39 أي وكل ما تعطونه لأكلة الربا من زيادة على رؤوس أموالهم، لتزيد أموالهم وتنمو بها، فإن الله تعالى يمحقه ولا يبارك فيه. - وفي اصطلاح الفقهاء: عقد على عوض مخصوص، غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد، أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما. والمراد بالعوض المخصوص: الأموال الربوية التي سيأتي بيانها. وغير معلوم التماثل: كأن يكون أحد العوضين متفاضلاً مع العوض الآخر أو مجهول التساوي معه. ومعيار الشرع هو: الكيل في المكيلات، والوزن في الموزونات. والتقييد بحالة العقد احتراز عمّا لو علم التماثل بين البلدين بعد العقد. كما لو باعه كومة من قمح بكومة أخرى، ولا يعلم قدرهما، فهو عقد ربوي، تنطبق عليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 أحكام الربا الآتية، حتى ولو كيلت الكومتان بعد العقد وخرجتا متماثلتين، لأن التماثل كان مجهولاً حالة العقد. والمراد بالتأخير في البدلين أو أحدهما: عدم التقابض في المجلس بين المتعاقدين، أو اشتراط الأجل في العقد. الأموال التي يجري فيها الربا: يجري الربا في الأموال الستة التالية، وهي: الذهب، والفضة، والقمح، والشعير، والتمر، والملح. وذلك لورود النص صريحاً فيها. روى البخاري ومسلم وغيرهما: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء " وفي رواية: " الورق بالذهب ربا إلا هاء وهاء " البخاري في البيوع، باب: ما يذكر في بيع الطعام والحكرة (1)، رقم: 2027 ومسلم في المساقاة، باب: الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً، رقم: 1586). [هاء وهاء: اسم فعل بمعنى خذ، والمراد: أن يعطي كل من المتعاقدين ما في يده من العوض، ويحصل التقايض في المجلس. البر: الحنطة. الورق: الفضة]. وقد جاء النص على هذه الأشياء، بالإضافة إلى الملح، في أحاديث كثيرة ستأتي معنا خلال البحث. وكما يجري الربا في تلك الأموال الستة يجري في غيرها، وذلك أن الحكم فيها معلّل، فُيقاس عليها كل مالٍ توجد فيه العلة المعتبرة في تحقق وصف الربا. علة الربا: المراد بعلة الربا الوصف الذي إذا وجد في المال كان مالاً ربوياً، وإذا وجد نفسه في العوضين كانت المعاملة ربوية.   (1) الحكرة: حبس السلع عن البيع، كالاحتكار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 وهذا الوصف غير منصوص عليه فيما ورد من نصوص في الباب، وإنما استنتجه الفقهاء من تلك النصوص فقالوا: إن الأشياء المنصوص عليها في الأحاديث إما أثمان كالذهب والفضة، وإما مطعومات للآدميين كالبر والشعير والتمر والملح. وعليه: فالعلة المعتبرة في كون المال ربوياً هي الثمنية أو الطعم، دون النظر إلى الكيل أو الوزن. فكأن الشّارع قال: ما كان ثمناً أو مطعوماً فلا يُباع بجنسه إلا بشروط. وإذا ثبت هذا: فكلّ ما يجري التعامل به من الأثمان، ويقوم مقام الذهب والفضة، كالعملات الرائجة الآن، يُعتبر مالاً ربوياً ويجري فيه الربا إلحاقاً بالذهب والفضة. وكل مطعوم يطعمه الآدميون غالباً فهو مال ربوي يجري فيه الربا، سواء أكان يُتناول قُوتاً كالأرز والذرة إلحاقاً بالبر والشعير، أو تفكّهاً كالزبيب والتين ونحوهما إلحاقاً بالتمر، أو تداوياً وإصلاحاً للغذاء أو البدن كالزنجبيل والمصطكي ونحوهما إلحاقاً بالملح. وكل ما ليس بثمن أو مطعوم للآدميين من الأشياء فليس بمال ربوي. ومن ذلك سائر المعادن غير الذهب والفضة، والأقمشة وغيرها، وما كان في الغالب قوتاً لغير الآدميين. فلا يعتبر التعامل في كل ذلك تعاملاً ربوياً. ولا فرق في كل ما سبق بين أن يكون مقدراً بكيل أو وزن أو غير ذلك. أنواع الربا وحكم كلّ منها: حين يبحث الفقهاء في التعامل الربوي يبحثون - غالباً - في بيع الأموال الربوية التي مرّ ذكرها بعضها ببعض: من حيث زيادة أحد البدلين على الآخر، ومن حيث وجود الأجل في التعامل وعدمه، كما يعلم من تعريفهم السابق للربا. وبناء على ذلك يقسمون الربا إلى أنواع: 1 - ربا الفضل: أي الزيادة، وهو بيع المال الربوي بجنسه مع زيادة في أحد العوضين. كأن يبيعه مُدّ قمح بمُدَّيْن منه، أو: مائة غرام من ذهب بمائة وعشرة منه، أو أقل أو أكثر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 ومعنى الربا في هذا النوع - وهو الزيادة - ظاهر وواضح. وهذا النوع من التعامل محرم وممنوع، للنهي عنه في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تبيُعوا الذهبَ بالذهب إلاّ مثلاً بمثلِ، ولا تُشفُّوا بعضَها على بعضٍ. ولا تبيعوا الورِق بالوَرِق إلا مثلاً بمثل، ولا تُشفُّوا بعضها على بعض " (أخرجه البخاري في البيوع، باب: بيع الفضة بالفضة، رقم: 2068. ومسلم في المساقاة، باب: الربا، رقم: 1584) [الورق: الفضة. لا تشفوا: لا تفضلوا، والشف يطلق على الزيادة والنقصان، فهو من الأضداد]. وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الذهبُ بالذهب والفضَّة بالفضة، والبُرُّ بالبُر والشعيرُ بالشعير، والملحُ بالملح: مثلاً بمثلٍ يداً بيدٍ، فمن زادَ أو استزاد فقد أرْبى، الآخذ والمطعِى فيه سواءٌ ". وروى مثله عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه (انظر: صحيح مسلم: كتاب المساقاة، باب: الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً). ولا عبرة في هذا لجودة النوع أو رداءته، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تشفوا بعضَها على بعض ". ولما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء بلال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمر بُرْنيّ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من أين هذا؟ " قال بلال رضي الله عنه: كان عندنا تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع لنُطْعم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك "أوَّه أوَّه، عيُن الربا عين الربا لا تَفْعَلْ " (البخاري في الوكالة، باب: إذا باع الوكيل شيئاً فاسداً فبيعه مردود، رقم: 2188. ومسلم في المساقاة باب: بيع الطعام مثلاً بمثل، رقم: 1594). [بُرْني: نوع من التمر هو أجود. أوّه: كلمة توجّع وتحزّن. عين الربا: أي هذا حقيقة الربا الممنوع]. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 وكذلك لا عبرة للصنعة في هذا، فلو باعه ذهباً مصوغاً بسبائك وجب التماثل في الوزن بين البدلين، وامتنع أن يكون أحدهما أنقص من الآخر، لما دلّ عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا تبيعوا الوَرقَ بالوَرِقِ إلا مثلاً بمثل " فإن الورق يتناول الفضة المضروبة وغير المضروبة " وضربها صنعة لها. 2 - ربا النساء: أي التأخير، وهو بيع المال الربوي بمال ربوي آخر فيه نفس العلة إلى أجل. ولا فرق في هذا بين أن يكون المالان من جنس واحد أم من جنسين مختلفين، وسواء أكانا متفاضلين أم متساويين. ومثال ذلك: أن يبيعه مُدّ حنطة بمدّ حنطة - أو بمدّ شعير أو بمدّين إلى شهر. أو يبيعه عشر غرامات من الذهب بعشر غرامات من الذهب أو الفضة أو أكثر أو أقل، إلى يوم مثلاً أو أكثر. وهذا التعامل أيضاً محرم وممنوع، لوجود معنى الربا فيه حقيقة، وإن لم يكن ظاهراً، فإن للحلول فضلاً على الأجل، فيكون في ذلك زيادة في أحد العوضين، وهو المدفوع حالاً. وقد دل على هذا المنع قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد رضي الله عنه السابق: " ولا تبيعُوا منها غائباً بنَاجز ". والغائب هو المؤجل والناجز هو الحاضر، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر: " مثلاً بمثل، يداً بيد " وجاء أيضاً في حديث عباده رضي الله عنه: " فإذا اختلفتْ هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتُم، إذا كان يدً بيدٍ ". [ومعنى قوله: " يداً بيد " أي مقابضة، بحيث يسلم كلِّ من المتعاقدين البدل الذي في يده في مجلس العقد، وهذا يستلزم الحلول غالباً]. 3 - ربا اليد: وهو أن يبيع المال الربوي بآخر فيه نفس العلة، دون أن يشترط في ذلك أجل بنفس العقد، ولكن يحصل التأخير في قبض البدلين أو أحدهما عن مجلس العقد بالفعل. ودليل هذا: ما جاء في حديث عمر رضي الله عنه السابق: " إلا هاءَ وهاءَ " أي خذ وخذ، وهذا يعني وجوب التقابض فعلاً في المجلس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 ما يعتبر جنساً واحداً وما لا يعتبر: وضع الفقهاء قاعدة لمعرفة ما هو جنس واحد، وما ليس بجنس واحد، فقالوا: كل شيئين اتفقا في الاسم الخاص من أصل الخلقة فهما جنس واحد، وكل شيئين اختلفا في الاسم من أصل الخلقة فهما جنسان. والمراد بالاسم الخاص ما يميز الشيء عن الاسم العام المشترك، فكلمة تمر اسم خاص، يميز نوعاً من الفاكهة والثمر عن غيره، مما يشاركه في الاسم العام، وهو فاكهة أو ثمر والمراد بأصل الخلقة هيئته التي خلق عليها، فلا يكفي الاتفاق بالاسم بعد الصنعة أو التحويل. - فالذهب بأنواعه جنس واحد، وكذلك الفضة. - والتمر بأنواعه جنس واحد، وكذلك الزبيب. - والحنطة بأنواعها جنس واحد، وكذلك الشعير. - وكل ماله رطب ويابس، كالعنب والزبيب والرُّطَب والتمر، فرطبه ويابسه جنس واحد. - وما تفرغ عن أصل يعتبر مع أصله جنساً واحداً، فالحنطة ودقيقها والمجروش منها - كالبرغل - كلها جنس واحد. - ولحوم الحيوانات أجناس مختلفة: فالضأن جنس والمعز منه، والبقر جنس والجواميس منه، ولحوم الإبل كلها جنس واحد. ولا فرق بين أن يكون اللحم أحمر أم أبيض، فهما جنس واحد، ويدخل فيه ما خالطه من دهن أو لاصقه، كدهن الظهور والجوانب والصدر. وأما الشحم الذي يكون في البطن فهو جنس آخر غير اللحم، وكذلك الآلية، فهي جنس غير الشحم واللحم، وكذلك سنام البعير جنس مستقل. وكذلك الأحشاء - كالكبد والطحال والكرش - فهي أجناس مختلفة فيما بينها، ومختلفة عمّا سبق من اللحم والشحم والآلية. - وفروع الأصول المختلفة الأجناس أجناس مختلفة كأُصولها: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 - فدقيق الحنطة جنس، ودقيق الشعير جنس آخر. - وخلّ العنب جنس، وخل التمر جنس آخر. - وكذلك الأدهان التي تُعدّ للأكل أو الدواء، فهي أجناس كأُصولها المأخوذة منها. - وكذلك الألبان أجناس مختلفة: فلبن الضأن والمعز جنس واحد، ولبن البقر والجاموس جنس واحد، وألبان الإبل جنس واحد. - وبيض الطيور أجناس مختلفة حسب أُصولها. تبايع الأموال الربوية وشروط صحته: إن الأموال الربوية التي ذكرناها - وبيّنّا علّتها ومعيارها، وصنفنا أجناسها - كثيراً ما يحتاج الناس إلى التعامل بها وتبادلها فيما بينهم عن طريق معاوضة بعضها ببعض. وشرع الله عزّ وجل إنما جاء بالتيسير ورفع الحرج عن المكلفين، قال تعالى {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة185 وقال: {جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحج78 ولذلك شرع الله تعالى للناس أن يتبايعوا هذه الأموال ويتعاوضوها بشروط، إذا توفرت صحّ تعاملهم وجاز بيعهم، إذ من شأن تلك الشروط أن تخرج التعامل عن معنى الربا المحرم، الذي يوقع المتعاقدين في الإثم. وهذه الشروط نستنتجها من خلال ما سبق من الكلام عن علّة الربا وأنواع الربا، ونلخصها مرتّبة فيما يلي: 1 - عند اتحاد الجنس: إذا بيع مال ربوي بجنسه - وواضح في هذه الحالة أن العلة فيهما واحدة - كحنطة بحنطة، وسكر بسكر، وفضة بفضة، اشترط في هذا البيع ثلاثة شروط ليخرج عن كونه عقداً ربوياً، وهي: أ - المماثلة في البدلين: كيلاً في المكيلات كمدّ بمدّ ولتر بلتر، ووزناً في الموزونات كرطل برطل، وكيلو غرام، وعدداً في العدديات، كخمسة بخمسة ونحو ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 ب - أن يكون العقد حالاً: وذلك بأن لا يذكر في العقد أي اجل لتسليم أحد البدلين، مهما قصر ذلك الأجل. جـ - التقابض: بأن يقبض كلُّ من المتعاقدين البدل من الآخر قبل أن يتفرقا بأبدانهما من مجلس العقد. وهذه الشروط الثلاثة مأخوذة: - من قوله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث السابقة " مثلاً بمثل " فقد دلّ على جواز بيع الربوي بجنسه عند المماثلة، وعدم جوازه عند عدمها. - ومن قوله - صلى الله عليه وسلم - " يداً بيد " وقوله: " هاءَ وهاءَ " فقد دلاّ على صحة البيع عند التقابض والحلول، وعدم صحته عند التأجيل، أو عدم التقابض. 2 - عند اختلاف الجنس واتحاد العلة: إذا بيع مال ربوي بمال ربوي آخر من غير جنسه، ولكن العلة فيهما واحدة - كما إذا كانا ثمنين أو مطعومين - اشترط لصحة البيع وخروجه عن معنى الربا شرطان: أ - أن يكون العقد حالاً، كما مر في اتحاد الجنس. ب - أن يجري التقابض في مجلس العقد. ولا يشترط التماثل بين البدلين في هذه الحالة، بل يجوز أن يبيعه مدّ حنطة بمدّيْ شعير، وغراماً من ذهب بخمسة من فضة، ويصحّ العقد وتترتب عليه آثاره، إذا لم يكن فيه أجل، وحصل التقابض على ما علمت ودل على هذا: ما جاء في حديث عباده رضي الله عنه السابق: "فإذا اختلفتْ هذه الأصنافُ فبيعُوا كيف شئتُم، إذا كان يداً بيد ". والمراد بالأصناف أجناس الأموال الربوية المذكورة من الأحاديث وما يلحق بها. والمراد باختلاف كون الثمن في البيع من غير جنس المبيع. ومعنى قوله " فبيعوا كيف شئتم " أي جاز لكم أن تتبايعوا هذه الأموال عند الاختلاف دون شرط التماثل بين البدلين]. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 3 - عند اختلاف العلة: علمنا أن العلة في اعتبار المال ربوياً عند الفقهاء كونه ثمناً أو مطعوماً، وعليه: فلا يتصور اختلاف العلة في البدلين في العقد الربوي إلا أن يكون أحدهما من الأثمان والآخر مطعوماً، وفي هذه الحالة فلا يشترط لصحة البيع وجواز التعاقد أي شرط من الشروط السابقة، فيصحّ بيع عشرين مددّاً من القمح بعشر غرامات من الذهب مثلاً، حصل التقابض أو لم يحصل، اشترط الأجل أو لم يشترط. ودليل هذا: ما رواه البخاري ومسلم: عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلاً على خيبر، فجاء بتمر جنيب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أكل تمر خيبر هكذا؟ " فقال: لا والله يا رسول الله، إنّا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم اتبع بالدراهم جنيباً " (البخاري في الوكالة، باب: الوكالة في الصرف والميزان، رقم: 2180 ومسلم في المساقاة، باب: بيع الطعام مثلاً بمثل، رقم 1593). [والجنب: التمر الجيد، والجمع التمر الرديء أو المختلط]. فقد دلّ هذا الحديث على جواز البيع مطلقاً حين يكون أحد البدلين من الأثمان، والبدل الثاني من غيرها، سواء أكان مطعوماً أم غير مطعوم. 4 - عند المبادلة بمال غير ربوي: إذا بيع مال ربوي بمال آخر غير ربوي صحّ البيع مطلقاً، بدون أيّ شرط من شروط جواز التعامل الربوي، فلا يشترط تماثل ولا حلول ولا تقابض، لأن العقد خرج عن كونه عقداً ربوياً طالما أن أحد البدلين مال غير ربوي. فإذا بيع الطعام على اختلاف أنواعه بغير طعام، كثوب مثلاً، جاز مطلقاً، كما لو كان أحد البدلين ثمناً كما علمت. فالبيع جائز وصحيح سواء أكان البدلان متماثلين أم متفاضلين، وسواء أكان البيع حالاً أم مؤجلاً، وسواء أكان البدلان من جنس واحد أم من جنسين مختلفين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 المماثلة: تحقّقها واعتباره وما يمنع منها: قد علمت أنه إذا بيع مال ربوي بآخر من جنسه اشترط تحقق المماثلة بين البدلين حتى يصحّ البيع ويخرج عن معنى الربا، إلى جانب الشروط الأخرى التى مّرت بك. والذي نريد بيانه الآن هو: ما تتحقق به هذه المماثلة، ومتى تعتبر؟ وما الذي يمنع من تحققها؟ أ - ما تتحقق به المماثلة: حتى تتحقق المماثلة بين البدلين لابدّ من كونهما متساويين في القدر المعتبر شرعاً لكل مال من الأموال الربوية. والمعتبر في هذا: الكيل في المكيلات وإن تفاوت الوزن، والوزن في الموزونات وإن تفاوت كيلها. فما يُباع بالكيل لا يصحّ بيعه بجنسه إلا بما يماثله كيلاً، فإذا بيع بما يساويه وزناً لم يجز. وما يُباع بالوزن لا يُباع بجنسه إلا بما يساويه وزناً، فإذا بيع بما يساويه كيلاً لم يجز. فالمماثلة تتحقق إذن: في المكيل كيلاً، وفي الموزون وزناً. والعبرة في كون المال مما يكال أو يوزن هو: غالب عادة أهل الحجاز - مكة والمدينة - في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن الغالب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطّلع على ذلك واقرّه، ولما رواه أبو داود والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الوزْنُ وزْنُ أهل مكة، والمكيال مكْيَالُ أهل المدينة " (أبو داود: البيوع والإجارات، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " المكيالُ مكَيالُ المدينة " رقم: 3340. والنسائي: البيوع، باب: الرجحان في الوزن: 7/ 284). فما نقل فيه عرف لأهل الحجاز في ذلك الوقت فالمعتبر فيه عرفهم، وإن أحدث الناس خلافه في بلدانهم. وما لم يكن في عه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالبن مثلاً - أو كان وجُهل حاله، ينظر: - فإن كان مما لا يمكن كيله، بأن كانت حبّاته كباراً تتجافى عن جوانب المكيال، أو تترك فرجاً فيما بينها، كالسفرجل والرمان والباذنجان، فالمعتبر فيه الوزن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 - وإن كان مما يمكن كيله، ففيه وجهان: - الوجه الأول: يعتبر بأشبه الأشياء به في الحجاز. - الوجه الثاني: يعتبر فيه عرف بلد البيع وعادتهم. وهذا هو الأرجح. قال أبو يوسف رحمه الله تعالى من الحنفية: المعتبر في كون الشيء مكيلاً أو موزوناً هو العرف مطلقاً، فما تعارف الناس في بلد البيع بيعه كيلاً فهو مكيل، وما تعارف الناس بيعه وزناً فهو موزون. وقال: إن النص ورد جرياً على العرف، وإنما نصّ الشارع على كيل بعض الأشياء ووزن بعضها لأن العرف كان جارياً بذلك، ولو كان العرف جارياً على خلافة لورد النص على خلافه. ورجح بعض المتأخرين من الحنفية العمل بهذا القول، ولعله أقرب إلى التيسير على الناس وإخراجهم من الإثم وإلا حُكم على تعاملهم في أكثر البلدان بالفساد والبطلان، ووصفوا بالفسوق والعصيان. ولذا لا نرى مانعاً من العمل به، والله تعالى أعلم. ب - متى تعتبر المماثلة: 1 - إذا كان المبيع الربوي مما يختلف كيلاً أو وزناً من حال إلى حال، وله وقت رطوبة ووقت جفاف، فالمماثلة فيه تعتبر وقت الجفاف الذي هو حال الكمال في نضجه: - فلا يباع الحب بعضه ببعض إلا بعد أن ييبس ويشتد، ويشترط فيه تنقيته من قشره، حتى تتحقق المماثلة. - ولا يباع الرُّطَب حتى يصبح تمراً، فلا يباع الرطب بالرطب ولا الرطب بالتمر. - ولا يباع العنب بالعنب ولا العنب بالزبيب، إذ الكمال فيه أن يصبح زبيباً. - وكذلك لا يباع أي جنس من الفاكهة - كالتين والمشمش - بشيء من جنسه حتى ييبس، فلا يباع منه رطب برطب، ولا رطب بيابس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 والعمدة في هذا ما رواه الترمذي: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسْأل عن اشتراء التمر بالرُّطَب، فقال لمن حوله: " أيَنْقُصُ الرَّطَب إذا يبس؟ " قالوا: نعم، فنهى عن ذلك. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم. (سنن الترمذي: البيوع، باب: ما جاء في كراهية بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، رقم: 1225 وأخرجه أبو داود في البيوع والإجارات، باب: في التمر بالتمر، رقم 3359. والنسائي في البيوع، باب: اشتراء التمر بالرطب: 7/ 268. وابن ماجه في التجارات، باب: بيع الرطب بالتمر، رقم: 2264. والموطأ في البيوع باب: ما يكره من بيع التمر: 2/ 624). 2 - وإذا كان المكيل أو الموزون من الأموال الربوية مما جفاف له، كالقثاء، والعنب الذي لا يتزبب، والرطب الذي لا يتتمر، والزيتون، فإنه تكفي مماثلته رطباً، ويباع وزناً وإن كان مما يُكال. 3 - ولا يكفي تماثل ما يتخذ من الحب، كالدقيق والبرغل والنشاء ونحوها، فلا يباع شيء منها بمثله من جنسه ولا بالحب الذي اتخذ منه، لخروجها عن حالة الكمال، وعدم إمكان العلم بالمماثلة في هذه الحالة، لاختلافها في النعومة والخشونة، وهي مكيلة، فما يتركه بعضاً من فراغ في الكيل يختلف عمّا يتركه الآخر. أما إذا بيع شيء منها بغير جنسه، كأن يُباع دقيق الحنطة بدقيق الشعير ونحو ذلك متماثلاً أو متفاضلاً فلا مانع، لاختلاف الجنس، ولكن يُشترط الحلول التقابض كما علمت. 4 - وتعتبر المماثلة في حبوب الأدهان - كالسمسم - حال كونها حبّاً، وحال كونها دهناً، ولكن لا يُباع حبها بدهنها، لعدم تحقق المماثلة. 5 - وتتحقق المماثلة في العنب زبيباً، كما تتحقق فيه خلاً أو عصيراً على الأصح وكذلك الرطب: تتحقق فيه المماثلة تمراً أو خلاًَّ أو عصيراً. 6 - وتتحقق المماثلة في اللبن: لبناً خالصاً - أي غير مشوب بماء أو غيره - فيُباع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 الحليب بالحليب ولكن بعد سكون رغوته، وكذلك يباع الرائب بمثله وبالحليب. كما تتحقق المماثلة فيه سمناً خالصاً مصفّى بشمس أو نار، فيجوز بيع بعضه ببعض. ولا تكفي المماثلة في أحواله الأخرى كأن يكون جبناً أو أقطاً أو زبداً، لأنها لا تخلو في هذه الأحوال عن مخالطة غيرها، فالجبن يخالطه الإنفحة، والأقط يخالطه الملح، والزبد لا يخلو من قليل من المخيض، فلا تتحقق فيها المماثلة، وعليه: فلا يباع بعض كلَّ منها بعض، ولا يباع بعضها ببعض، ولا يباع الزبد بالسمن، كما لا يباع اللبن بما يتخذ منه كالسمن وغيره. ج - ما يمنع من المماثلة: يمنع من المماثلة بين المتجانسين: 1 - تأثير النار: فإذا أثّرت النار على مال ربوي، شَياً أو قلْياً أو طبخاً، كاللبن المغلي واللحم المشوي والحمص المُحَمَّص، فلا يباع شيء منه بمثله من جنسه، لامتناع تحقّق المماثلة فيه، لأن تأثير النار لا غاية له ولا حدّ، فيختلف من شيء إلى شيء فلا تتحقق المماثلة. ولا يضر تأثير تمييز: كتمييز العسل من الشمع، والسمن من اللبن، والذهب والفضة مما خالطهما من غش. 2 - المخالطة: فإذا خالط المال الربوي شيء آخر من غير جنسه، سواء أكان المخالط ربوياً أم غير ربوي، امتنع تحقق المماثلة فيه، لعدم التحقّق من نسبة الخليط وبالتالي لا يُباع شيء منه بآخر من جنسه، سواء كان مخالطاً أم لا. ولذلك لم تعتبر المماثلة في الجبن والأقط كما علمت. المماثلة تحقيقاً لا ظناً وتخميناً: علمنا أنه إذا بيع المال الربوي بمال ربوي من جنسه اشترطت المماثلة بالكيل أو الوزن بين البدلين، حتى يصحّ البيع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 وهذه المماثلة لا بدّ من وجودها تحقيقاً ويقيناً حين العقد، بأن يكال كلُّ من البدلين أو يوزن قبل التعاقد، أو يكون قدر كلِّ منهما معلوماً للمتعاقدين. فلا تكفي المماثلة ظناً وتخميناً، كان يبيعه صبرة حنطة مجازفة، أي بدون كيل أو وزن، على تقدير أنهما متساويتان. أو يبيعه مائة صاع من حنطة بصبرة منها تساويها تقديراً، فهذا البيع في الحالين ممنوع، لاحتمال التفاضل بين البدلين، وشرط صحة البيع في الربويات عند اتحاد الجنس: الخلو عن احتمال التفاضل، لأن احتمال التفاضل مثل تحققه. ويدل لهذا المنع حديث جابر رضي الله عنه قال " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الصُّبْرََة من التَّمْر، لا يعلم مكيلَتُها، بالكيل المسمَّى من التمر". (أخرجه مسلم في البيوع، باب: تحريم بيع صبرة التمر المجهولة القدر بتمر، رقم 1530). [والصبرة هي الكومة]. ويشهد لهذا أيضاً قول ابن مسعود رضي الله عنه: ما اجتمع الحلال والحرام في شيء إلا وقد غلب الحرام. أي إذا توارد أمران على شيء: أحدهما يقتضى حله والآخر يقتضي حرمته، قدم ما يقتضي حرمته ومنع منه، احتياطاً في الدين وبُعداً عن الوقوع في الشبهات. وهنا احتمال عدم التفاضل يقتضي حلّ بيع الصبرة بغيرها، واحتمال التفاضل يقتضي المنع من ذلك، فقدّم المنع. المزابنة والمحاقلة: ومما لا يخلو عن احتمال التفاضل في بيع الربويات: المحاقلة والمزابنة. والمحاقلة: أن يبيع الحب في سنبله بما يساويه خرصاً، أي تقديراً وتخميناً لكيله أو وزنه. والمزابنة: أن يبيع الرُّطَب على رؤوس الشجر بما يساويه خرصاً من التمر المجذوذ، أي المقطوع والمقطوف. ومثل الرطب والتمر العنب والزبيب. فكلُّ من المحاقلة والمزابنة ممنوع شرعاً، لعدم الجزم بتساوي البدلين، أو عدم تحقّق المماثلة يقيناً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 وقد ثبت النهي عن ذلك في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة: أن يبيع ثمرَ حائطه: إن كان نخلاً بتمر كيلاً، وإن كان كرماً: أن يبيعه بزبيب كيلاً، أو كان الزرع بالطعام كيلاً، رقم: 2091 ومسلم في البيوع، باب: تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، رقم: 1542). [حائطه: بستانه. كرماً: الكرم شجر العنب]. العرايا: العرايا - في اللغة - جمع عريه، وهي الشجرة التي يفردها مالكها للأكل، سمِّيت بذلك لأنها عريت عن حكم جميع البستان. وفي الشرع: أن يبيع الرطب على النخل بخرصه تمراً، أو العنب بخرصه زبيباً، فيما دون خمسة أوسق، أي ما يساوي سبعمائة كيلوغرام تقريباً. وذلك أنه لمّا ورد النهي عن بيع التمر رطباً بما يساويه من جنسه يابساً، وكان في الناس مَن يرغب أن يأكل الرطب أو العنب من على الشجر، وليس لديه نخيل أو كرم، رخص الشّرع فيما ذكر، تلبية لحاجة الناس وتخفيفاً عليهم وتيسيراً. وقد جاء في مشروعية ذلك أحاديث كثيرة منها: ما رواه البخاري ومسلم عن سهل بن أبي حَثْمة رضي الله عنه، " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الثمر بالتمر، ورخص في العرية أنْ تُبَاع بخَرْصها، يأكلها أهلها رطباً ". [أهلها: الذين اشتروها] وما رواه البخاري ومسلم - أيضاً - عن أبي هريرة رضي الله عنه: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في بيع العَرَايا، في خمسة أوْسقٍ، أو دون خمسة أوسق ". وكذلك ما روياه عن رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة رضي الله عنهما: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المزابنة: بيع الثمر بالتمر، إلا أصحاب العرايا، فإنه أذن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 لهم " (البخاري: البيوع، باب: بيع الثمر على رؤوس النخل .. ، رقم: 2078، 2079، والمساقاة، باب: الرجل يكون له ممر أو يشرب .. ، رقم: 2254. ومسلم: البيوع، باب: تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، 1540، 1541). والأحاديث كما ترى رخّصت بثمر النخيل رُطَباً وتمراً، وقيس به ثمر الكرم: العنب والزبيب، بجامع أن كلاَّ منهما مال زكوي يمكن خرصه ويُدّخر يابسه. بيع اللحم باللحم، وبيع اللحم بالحيوان، والحيوان بالحيوان: - بيع اللحم باللحم: مرّ معنا أن اللحوم أجناس حسب أصولها، وأنها من الأموال الربوية، فيجوز بيع بعضها ببعض بشرط التماثل والحلول والتقابض - على ما مرّ- إن كانت من جنس واحد. فإن اختلف الجنس، كلحم ضأن بلحم بقر مثلاً، جاز التفاضل واشترط الحلول والتقابض. ونريد أن نعرف هنا حكم بيع الحيوان بالحيوان، وحكم بيع اللحم بالحيوان: - بيع الحيوان بالحيوان: من خلال ما سبق من كلام نعلم أن الحيوان ليس بمال ربوي لأنه غير مطعوم على حاله وهيئته، وواضح أنه ليس من جنس الأثمان. وعليه: فيجوز بيع الحيوان بالحيوان متفاضلاً، سواء أكانا من نوع واحد أم من نوعين، فيجوز بيع شاة بشاتين، وبيع شاة ببعير، وبيع بعير بثلاث شياه، وهكذا. ولا فرق بين أن يكون يصلح للركوب والحمل، والأكل والنتاج، أم للأكل خاصة. وكذلك يجوز بيعه حالاً ومؤجلاً، حصل التقابض في مجلس العقد أم لم يحصل، سواء أكان البدلان من جنس واحد أم من جنسين مختلفين. ودليل ذلك: ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: " أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجهز جيشاً، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ في قِلاَصِ الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرَيْن إلى إبل الصدقة " (أخرجه أبو داود في البيوع والإجارات، باب: في الرخصة في ذلكَ، بعد باب: في الحيوان بالحيوان نسيئة، رقم: 3357). قال النووي رحمه الله تعالى في المجموع (9/ 454): حديث ابن عمرو بن العاص رواه أبو داود وسكت عنه، فيقتضي أنه عنده حسن كما سبق تقريره، وإن كان في إسناده نظر، لكن قال البيهقي: له شاهد صحيح، فذكره بإسناده الصحيح. - بيع اللحم بالحيوان: لا يجوز بيع اللحم بالحيوان مطلقاً لا نقداً ولا نسيئة، وسواء أكان اللحم من جنس الحيوان أم من غير جنسه، وسواء أكان الحيوان مأكول اللحم - كشاة بلحم بقر - أم غير مأكول اللحم - كلحم بقر بحمار - فلا يجوز مطلقاً. ومثل اللحم ما في معناه: كالشحم والألية والكبد والقلب والكلية والطحال، وكذلك جميع أجزائه المأكولة. وأجازوا بيع الحيوان بالجلد بعد دبغه، لخروجه عن كونه لحماً أو ما في معناه. أما قبل الدبغ فلا يجوز أيضاً، لأنه يُعتبر لحماً. وعمدتهم في هذا المنع: - حديث سمرة رضي الله عنه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الشَّاة باللحم " (رواه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، رواته عن آخرهم أئمة حفّاظ ثقات انظر: المستدرك: البيوع، باب: النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الشاة باللحم: 2/ 35). - وما رواه مالك في الموطأ مرسلاً: عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحيوان باللحم " (الموطأ: البيوع، باب: بيع الحيوان باللحم: 2/ 655) حكم التعامل الربوي من حيث ما يترتب عليه: إذا بيع المال الربوي بمال ربوي آخر، ولم تتوفر الشروط التي تخرج هذا العقد عن معنى الربا وتصححه، كما إذا اتحد الجنس وكان التفاضل وهو ربا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 الفضل، أو اختلف الجنس واتحدت العلة وكان التأخير وهو ربا النساء، فما حكم هذا العقد؟ قال الفقهاء: إنه عقد باطل، فلا يترتب عليه أي أثر، وكأنه لم يكن، وذلك أن الربا في المعاوضات مبطل لها. ومعنى ذلك أن على المتعاقدين أن يترادَّا البدلين، فيسترد كل منهما ما دفعه للآخر، ثم يعودان إلى التعاقد من جديد، بعد أن تتوفر شروط صحة العقد الربوي على ما سبق، وإلا وقعا في الإثم واستحقا العقاب الأليم من الله عزّ وجل، وكان كسبهما حراماً خبيثاً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 ربا القرض هو أن يستدين إنسان من آخر مقداراً من المال إلى أجل، على أن يردّه له مع زيادة معينة، أو يعطيه أقساطاً معينة كفائدة وربح، إلى حين استرداد ذلك المال. وهذا النوع من التعامل هو الذي جاءت نصوص الشريعة أولاً وبالذات لإبطاله ومنعه. فالربا الذي كان أهل الجاهلية يتعاطونه فيما بينهم لا يختلف عن هذا التعامل في قليل ولا كثير، ولذا رغب فريق من الناس في تلبيس الأمر - كما يرغب الكثيرون في ذلك هذه الأيام فقالوا: الربا وسيلة من وسائل الربح، لا فرق بينه وبين البيع في ذلك، فجاء القرآن يؤنبهم على هذا التلبيس ويصفهم بالخبال وشيء من الجنون على هذا الفهم السقيم والقول الأثيم وذلك القياس مع الفارق، وتوعّدهم على ذلك بأليم العقاب والخلود في النار فقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة275 وهكذا قررت الآية بصراحة ووضوح حرمة الربا مطلقاً، ولم تفرق بين قليل منه أو كثير وحرضت على الانتهاء عنه وتوعدت على العودة إليه. وهي في مضمونها تقرر الفارق الكبير بينه وبين البيع، وحسبه أنه الفارق بين الحلال والحرام. ثم توجهت الآيات إلى أولئكم الذين صدقوا بإيمانهم، وكان لكلمة التقوى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 أثر في نفوسهم، فأمرتهم بترك الربا على الإطلاق دون مواربة أو تعنّت، وجعلت ذلك شرطاً لصحة الإيمان ودليلاً عليه، وتوعّدت على الإصرار على التعامل بالربا بما لم تتوعّد به على فعل منكر من المنكرات. ثم أرشدت إلى التعامل الأمثل والسلوك الأفضل إلى تشييد صرح التعاون والحب والودّ في المجتمعات، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. َإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ. وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 278 - 280). قال الإمام ابن كثير في تفسيره (يقول تعالى - آمراً عباده المؤمنين بتقواه، ناهياً لهم عمّا يقرّبهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه - فقال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} أي خافوه وراقبوه فيما تفعلون {وذَرُوا ما بقى من الربا} أي اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال بعد هذا الإنذار {إن كنتم مؤمنينَ} أي بما شرع الله لكم من تحليل البيع وتحريم الربا وغير ذلك. وقد ذكر زيد بن أسلم وابن جريج ومقاتل بن حيان والسدي: أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف، وبني المغيرة من بني مخزوم، كان بينهم رباً في الجاهلية، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه طلبت ثقيف أن تأخذه منهم، فتشاوروا، وقالت بنو المغيرة: لا نؤدي الربا في الإسلام. فكتب في ذلك عتّاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت هذه الآية، فكتب بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. َإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} فقالوا: نتوب إلى الله ونذر ما بقي من الربا، فتركوه كلهم. وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار. قال ابن جريج: قال ابن عباس: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ} أي: استيقنوا بحرب من الله ورسوله. وتقدم من رواية ربيعه بن كلثوم، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب: ثم قرأ: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ}. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ}: فمن كان مقيماً على الربا لا ينزع فحقُ على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه. وقال قتادة: أوعدهم الله بالقتل كما تسمعون، وجعلهم بهرجاً (1) أينما أتوا، فإياكم وما خالط هذه البيوع من الربا، فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه، فلا تلجئنكم إلى معصيته فاقة. رواه ابن أبي حاتم. وقال الربيع بن أنس: أوعد الله آكل الربا بالقتل. رواه ابن جرير انتهى كلام ابن كثير. وهذا الذي ذكره هذا الحافظ الجليل رحمه الله تعالى محل اتفاق المفسرين فيما اشتمل عليه من المعاني عن السلف رضوان الله عنهم أجمعين، وهو واضح في فهم هذه الأُمة تحريم قليل الربا وكثيره من الآية منذ عصر النبوّة جيلاً بعد جيل وعصراً بعد عصر، فهماً يقيناً لا يتطرق إليه احتمال، وأن ذلك هو معناها عند المسلمين، ومنذ عصر النبوّة جيلاً بعد جيل وعصراً بعد عصر. والآية ناطقة بذلك نطقاً قاطعاً حاسماً يفهمه كلُّ من له سمع يدرك وعقل يعي، فقد نادى القرآن داعية الامتثال، ومهد بالأمر بالتقوى ثم قال {َذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} وكلمة {ما} هذه عند مَن يفهم اللغة العربية تشمل كل ربا مهما كان قليلاً، ولو كان درهماً لمليون درهم. وكذلك يعلم أهل لغة القرآن أن قوله تعالى {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} لم يبح شيئاً زائداً عن رأسمال الدائن مهما كان قليلاً، لأنه لم يجعل له شيئاً سوى رأسماله. هذا وقد زاد النص القرآني هذا المعنى تقريراً وتأكيداً فقال: {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} قال المفسرون: لا تظلمون بأخذ زيادة على رأس المال، ولا تُظلمون بنقص شيء من رؤوس الأموال، بل لكم ما دفعتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه. ولقد انطوت الآية على مواعظ في ترك الربا تلين لها الصم الصِّلاب، فوجهت الخطاب بـ {يا أيها الذين آمنوا} ثم بقوله {اتقوا الله} ثم بقوله {إن   (1) - البهرج: الرديء من الشيء، والباطل المزيف، والمباح غير المحمي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 كنتم مؤمنين} وختمت الزجر عن الربا ببيان أعظم العقوبات وأخطرها لمن أصرّ على الربا، ذلك أن عليه أن يأذن بحرب من الله ورسوله. وإلى جانب هذه النصوص القرآنية وما صرّحت به، وما دلت عليه: فقد تضافرت نصوص السنّة على تأكيد ما جاء في القرآن من حرمة الربا، وأنه من أفظع الذنوب وأكبر الآثام، التي تؤدي بفاعلها إلى الهلاك والدمار، وتنذر المجتمع الذي تتفشى فيه بالاضمحلال والضياع. ومن هذه الأحاديث: - ما رواه جابر - رضي الله عنه - قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكلَ الربا ومُوكِلَهُ، وكاتبَه وشاهدَيْه، وقال: " هم سواء ". (أخرجه مسلم في المساقاة، باب: لعن الله آكل الربا وموكله). - ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اجتنبوا السبعَ المُوبقَات " قالوا: يا رسول الله، وما هُنَّ؟ قال: " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتَّولي يوم الزحْف، وقذْف المحصنات المؤمنات الغافلات ". (أخرجه البخاري في الوصايا، باب: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً}، رقم: 2615. ومسلم في الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها، رقم 89). [الموبقات: المهلكات. إلا بالحق: سبب جناية يعاقب عليها الشرع بالقتل. التولّي يوم الزحف: الفرار من المعركة في قتال الكفّار. قذف المحصنات المؤمنات: اتهام العفيفات عن الفواحش اللواتي يحجزهن إيمانهن عن الفجور، ورميهن بالزنا. الغافلات: اللواتي يجهلن ما أتُّهمن به ولا يعرفن طرقه ولا يسلكنها]. - ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا ظهر الزّنا والربا في قرية فقد أحلُّوا بأنفسهم عذاب الله عز وجل " وفي رواية: " إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله بهلاكها ". (أخرج الرواية الأولى الحاكم في مستدركه: البيوع، باب: إذا ظهر لزنا والربا في قرية: (2/ 37) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده، والطبراني، وأخرج الرواية الثانية الطبراني أيضاً). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 فهذه النصوص كافية عمّا سواها في بيان فظاعة الربا وشدة نكارته. وحسبنا في هذا أن نصيب اللعن - هو الطرد من رحمة الله تعالى - على كل من ساهم في التعامل الربوي، وأن يُعَدّ أكل الربا في جملة تلك الجرائم التي لا يُدانيها غيرها إثماً واعتداءً، وزوراً وبهتاناُ، من شرك بالله تعالى - وهو نهاية الزور والباطل والافتراء - ومن سحر - وهو دجل وتحريف وتمويه وإيذاء - إلى غير ذلك من الآثام الشنيعة. وليس أدل على أن الربا من أفحش ما يأتيه الإنسان أنه قرن بالزنا - الذي لا يساويه شئ في الاعتداء على الحرمات، وفساد الأفراد والمجتمعات - وجُعل معه سبباً لا ستحقاق عذاب الاستئصال. من أجل ذلك كله أجمع المسلمون على حرمة الربا، وأنه من أكبر الكبائر التي يفسق فاعلها، ولا يقبل الله تعالى منه عملاً صالحاً حتى يتوب توبة نصوحاً من تعاطي الربا. بل لقد أجمعت الشرائع السماوية على حرمة الربا والتعامل به، وأخبرنا القرآن - وهو الكتاب المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - أن بني إسرائيل استحقّوا اللعن والعذاب والشدة والنكال، بسبب ما اقترفته أيديهم من الآثام، وفي طليعتها الربا وقد نهوا عنه. قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً. وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} (النساء 160 - 161). بيان وتنبيه: جمهور الفقهاء على أن التعامل الربوي يجري، وتحرم المعاوضة، متى وجدت علّة الربا فيه، سواء أكان التعامل مع مسلم أم ذمّي أم حربي وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى: شرط جريان الربا أن يكون بَدَلا المعاوضة التي يتحقق فيها الربا معصومَيْن، أي: مملوكين ملكاً لا يجوز الاعتداء عليه وأخذه من صاحبه بغير وجه مشروع. وعليه فلو كان أحد البدلين مالاً غير معصوم، كأن يكون ملكاً لحربي - وهو غير مسلم الذي بين المسلمين وبين أهل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 بلاده غير المسلمين حرب - فإن الربا لا يجري فيه إذا كان المسلم هو الآخذ للزيادة. فلو دخل تاجر مسلم دار الحرب بعقد أمان منهم، وتعامل مع أهلها وكسب منهم مالأً عن طريق الربا، فإنه يجوز له ذلك عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى. أما الذميّ - وهو المواطن غير المسلم في بلاد الإسلامية - فإن ماله معصوم باتفاق، وكذلك المستأمن - وهو الحربي الذي يدخل بلد المسلمين بعقد أمان وإذن من حاكم المسلمين - فلا يجوز التعامل بالربا معهما، ولا عبرة باختلاف الدين، لأن اتحاد الدين ليس شرطاً من شروط جريان الربا بالاتفاق. وحجه الجمهور: أن حرمة الربا ثابتة في حق المسلمين وغير المسلمين، لأن غير المسلمين مخاطبون بفروع الشريعة على الصحيح. وكذلك النصوص الواردة في التعامل الربوي عامة، ولا مخصص لها، فتبقى على عمومها. وحجة أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى: أن مال الحربي غير معصوم، بل هو مباح في نفسه، إلا أن المسلم المستأمن في دار الحرب مُنع من تملكه من غير رضاه، لما فيه من الغدر والخيانة، فإذا بذله الحربي باختياره ورضاه فقد زال المنع لزوال موجبه، كالاستيلاء على الحطب والحشيش غير المحرز من قبل أحد. والذي ينبغي التنبيه إليه هو: أن هذا القول لا مجال للعمل به في هذه الأيام، لأن المسلم لا يتمكن من العمل والمتاجرة في دار الحرب أو مع الحربي، حسب القوانين والأعراف القائمة، لذلك نرى من الأولى أن لا يتعرض الفقهاء والمفترون لهذا القول والبحث فيه. وإنما خالفنا ما نراه الأولى وذكرناه من كثرة ما نسمع من استغلال له من قبل أولئك الناس الذين يتمسكون بخيوط العنكبوت ليتوصلوا إلى تحليل الحرام، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 وذلك أن الكثير من هؤلاء من يتعاملون بالربا مع المصارف الأجنبية، فيأكلون الربا وربما أطعموها، مدّعين أنهم استفتوا فأفتوا بجواز ذلك، فذكرنا هذا القول لننبّه على الحق فيه، وهو أن القول خاص بالحربي، والحربي هو الذي بيننا وبين بلدة حرب قائمة بالمعنى الشرعي والعرفي لهذا، ولا ينطبق ذلك الآن إلا على ما بيننا وبين اليهود المغتصبين لأرضنا ومقدساتنا في فلسطين، أما بلاد الغرب أو الشرق من غير المسلمين فليسوا بحربيين بالمعنى الشرعي، وأن كان فريق منهم وأعواناً ومناصرين للصهاينة في الحقيقة، إلا أنهم لا ينطبق عليهم الحكم الذي ذكره أبو حنيفة وصاحبه رحمهما الله تعالى، ولذلك نقول: إن التعامل بالربا مع أي مصرف من المصارف الأجنبية أو الأفراد منهم حرام وممنوع، كما لو كان في بلاد المسلمين، هذا إذا لم يكن أشد حرمة ومنعاً، لما فيه من إخراج الأموال من بلاد المسلمين وتسخيرها لمصلحة غيرهم، مما يكون فيه كبير ضرر في كثير من الأحيان على مصالح البلاد الإسلامية، ووقوعها في أزمات اقتصادية. لأننا ندخل بلادهم ويدخلون بلادنا دون عائق، والذين قالوا بهذا القول بينوا أنه لا ينطبق على التعامل مع من دخل بلاد المسلمين بأمان من أهل الحرب، فضلاً عمن دخلها من غيرهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 الباب الرّابع الَصَرْف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 الصرف معناه: أ - في اللغة: يقع الصرف على معانٍ عدة، منها: - الفضل والزيادة، ومنه سميّت النافلة صرفاً، لأنها زيادة على الفريضة. جاء في الحديث: " ذمّة المسلمين واحدةّ، يَسْعى بها أدناهم، فمن أخْفَرَ مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ". (أخرجه البخاري في الاعتصام باب: ما يكره من التعمّق والتنازع في العلم والغلّو في الدين والبدع، رقم 6870. ومسلم في الحج، باب: فضل المدينة ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بالبركة، رقم 1370). [ذمة المسلمين: إعطاؤهم الأمان لغير المسلم. يسعى بها أدناهم: عهدهم صحيح ومعتبر وينبغي أن يراعى ولو صدر من أقل واحد منهم. أخفر مسلماً: نقض عهده واعتدى على مَن أعطاه الأمان]. فالصرف النافلة، والعدل الفريضة. والمعنى: لا يرضى الله تعالى من فعله لهما ولا يثيبه عليهما. - الرد والدفع، والنقل، والنقل والتحويل، جاء في القرآن قوله تعالى (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ) (يوسف 34) أي دفعه وردّه، وقوله تعالى: (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون) (التوبة 127) أي حوّلها ونقلها عن الحق. وقوله تعالى (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) (الأحقاف 29) أي نقلناهم إليك وحوّلناهم نحوك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 ب - وفي الاصطلاح: بيع كلُّ واحد من عوضيه من جنس الأثمان، أو: هو بيع النقد بالنقد والمراد بالأثمان والنقد الدراهم والدنانير أو ما كان من جنسهما، وهو الذهب والفضة مطلقاً، سواء أكانت مضروبة أم مصوغة أم غير ذلك. ويدخل في هذا العملات المتعارفة في هذه الأيام، لأن لها رصيداً ذهبياً محفوظاً، وكل قطعة منها عبارة عن وثيقة بيع أو شراء ما يقابلها من هذا الرصيد المحفوظ. ومن الواضح أن التعامل بها في هذه الأيام يقوم مقام التعامل بالدراهم والدنانير في الأيام السالفة، فوجب أن تنزل منزلتها في الحكم الشرعي. ويصحّ بلفظ البيع والفظ الصرف. حكم عقد الصرف من حيث مشروعيته: عقد الصرف عقد جائز ومشروع، وحكمه من هذه الحيثية كحكم عقد البيع المطلق، مع زيادة شروط سيأتي بيانها. ودلّ على مشروعية الصرف أحاديث كثيرة وآثار عن الصحابة رضي الله عنهم سيأتي بعضها في الباب، وعلي ذلك إجماع المسلمين. الشروط الخاصة لصحة عقد الصرف: من خلال تعريفنا لعقد الصرف يتبين لنا أنه عقد ربوي، لأن كلاً من البدلين فيه مال ربوي تتحقق فيه علة الربا، وهي الثمنية، إذ كل من الذهب والفضة ثمن من الأثمان. وإنما أفرد هذا العقد بالكلام عنه تحت هذا العنوان لأنه خاص بما يكثر تداوله والتعامل به وهو النقد، ولهذا كانت شروطه الخاصة به هي شروط صحة العقد الربوي، وقد مرّت بك مفصّلة، وسنعيدها لك موجزة هنا حسب تعلقها بعقد الصرف. وهي: 1 - المماثلة عند اتحاد الجنس: فإذا بيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، فلا بد من تساوي العوضين في الوزن، سواء أكانا مضروبين أو مصوغين أم غير ذلك، أو كان أحدهما مصوغاً أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 مضروباً والآخر غير ذلك، وسواء أكان أحدهما جيداً والآخر رديئاً أم لا. فإذا كان الدبلان مختلفين في الجنس، كما إذا كان أحدهما فضة والآخر ذهباً، جاز التفاضل بينهما وبيعهما مجازفة، أي بدون وزن، كما لو قال له: بعنك هذا الذهب بهذه الفضة فيجوز. وكّل ذلك مرّ معك بأدلته في باب الربا، فارجع إليه. وكل ما يقال في الدراهم والدنانير يقال في العملات الرائجة الآن، والتساوي بينها حسب نوعها المتعامل به. 2 - التنجير في العقد: فيشترط في عقد الصرف استبعاد الأجل في العوضين أو أحدهما فلو قال: اصرف لي ديناراً بعشرة دراهم، على أن أعطيك الدينار بعد ساعة، فقال له: صرفت لك، وقال الأول: قبلت، لم يصح العقد. ودلّ على اشتراط عدم التأجيل - بالإضافة إلى ما سبق في باب الربا - ما رواه البخاري ومسلم واللفظ له - عن أبي المنهال قال: باع شريك لي ورقاً بنسيئة إلى الموسم، أو إلى الحج، فجاء إليّ فأخبرني، فقلت: هذا أمر لا يصلح قال: قد بعته في السوق فلم ينكر ذلك عليّ أحد. فأتيت البراء بن عازب فسألته، فقال: قدمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ونحن نبيع هذا البيع، فقال: " ما كان يداً بيد فلا بأس به " وما كان نسيئة فهو رباً " وائت زيد بن أرقم، فإنه أعظم تجارة مني. فأتيته، فسألته فقال مثل ذلك. وفي لفظ لدى البخاري ومسلم: سألت البراء بن عازب عن الصرف؟ فقال: سَلْ زيد ابن أرقم، فهو أعلم، فسألت زيداً، فقال: سَلِ البراء فإنَّه أعلمُ. ثم قالا: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الورق بالذهب ديناً " (البخاري: البيوع، باب: بيع الورق بالذهب نسيئة، رقم: 2070 ومسلم: المساقاة باب: النهي عن بيع الورق بالذهب ديناً، رقم: 1589). [الورق: الفضة. نسيئة: أي ديناً إلى أجل]. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 3 - التقابض في مجلس العقد: وذلك بأن يسلم كل من المتعاقدين البدل الذي في يده للآخر في مجلس العقد قبل التفرّق، سواء أكان البدلان جنساً واحداً كالذهب بذهب أو فضة بفضة، أم كانا جنسين مختلفين كذهب بفضة. والمراد بالتقابض هنا التقابض الفعلي، فلا بدّ من أن يسلم كل من المتعاقدين ما في يده بحيث يقبضه الآخر، فلو خلّى بينه وبينه ولم يقبضه إياه لم يصح، لأن الشرط القبض الكامل، والتخلية ليست قبضاً كاملاً. والمراد بالمجلس هنا مجلس الأبدان، وبالتفرّق تفرّق الأبدان، فلو تماشيا معاًً في جهة واحدة لم ينقطع المجلس، حتى يذهب كل منهما في جهة. فإذا افترقا بأبدانهما ولم يقبض أحدهما البدل الذي في يده للآخر لم يصحّ العقد، وكان باطلاً. ودلّ على اشتراط التقابض قوله - صلى الله عليه وسلم - " ولا تبيعوا منها غائباً بناجز " والناجز الحاضر، وقوله " إلا هاءَ وهاءَ " أي خذ وخذ. وقد مرّ هذا عند الكلام عن أنواع الربا. وروى مالك مثله عن عمر رضي الله عنه موقوفاً، وفيه زيادة " وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تُنْظرْه " إني أخاف عليكم الرّماء " (الموطأ: البيوع، باب: بيع الذهب بالفضة تيراً وعيناً (1): 2/ 632). [والرماء: هو الربا. يلج: يدخل]. وعن مالك بن أوس بن الحدثان: أنه التمس صرفاً بمائة دينار، قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضْنا حتى اصْطَرَف منِّي، وأخذ الذهب يقلِّبُها في يده ثم قال: حتى يأتيَنِي خازني من الغابَةِ وعمر بن الخطاب يسمع، فقال عمر: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه. ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الذهب بالوَرِق رباً إلا هاءَ وهاءَ، والبُرّ بالبُرّ إلا هاءَ وهاءَ والتمرُ بالتمر إلا هاء وهاء، والشعيرُ بالشعير رباً إلا هاءَ وهاءَ (البخاري: البيوع، باب: بيع الشعير بالشعير، رقم: 2065.   (1) التبر: الذهب غير المضروب. العين: الذهب المضروب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 ومسلم المساقاة:، باب الرف وبيع الذهب بالورق نقداً، رقم: 1586. ومالك في الموطأ: البيوع باب: ما جاء في الصرف: 2/ 636. واللفظ لمالك رحمه الله تعالى). وبهذا يُعلم أن ما يجري بين الكثير من الناس من عقود صرف - أي بيع العملات بعضها ببعض - بدون تقابض، وربما كان بالهاتف، فهي عقود باطلة، والكسب بها كسب خبيث. استبدال بدل الصرف بغيره أو التصرف به قبل قبضه: لا يصحّ استبدال بدل الصرف بغيره قبل قبضه، فلو تصارفا مائة درهم من فضة مثلاً بسوار من ذهب، وقبل أن يقبض كل منهما أو أحدهما البدل من الآخر استبدل بما استحقه من بدل شيئاً آخر، فإنه لا يصحّ ذلك، لأنه لم يحصل التقابض في البدلين اللذين جرى عليهما التعاقد. فإذا ردّ ما استبدل به بدل الصرف في نفس المجلس، وقبض البدل الذي جرى عليه التعاقد قبل التفرق، صحّ العقد. وكذلك ليس لأحد المتعاقدين التصرّف بما استحقه من بدل قبل قبضه، كأن يبيعه أو يهبه، لأن في ذلك تفويتاً للقبض الذي هو شرط صحة عقد الصرف. وبهذا يتبين - أيضاً - بطلان ما يجري من تبايع للنقد، من مُشترٍ إلى مشترٍ آخر .. وهكذا، دون أن يقبض أحدهما ما باعه ممن اشتراه منه، بل ربما حصل التبايع من واحدٍ لآخر ولثالث على الهاتف، فكل هذه العقود باطلة، والكسب بها كسب خبيث. 4 - أن يكون العقد باتاً: أي ليس فيه شرط الخيار لأحد المتعاقدين أو لهما، فلو تصارفا على أنهما - أو أحدهما - بالخيار يوماً أو يومين، أو أكثر أو أقل، لم يصحّ الصرف، لأن الشرط صحته التقابض كما علمت، والخيار يمنع ثبوت الملك، فينعدم التقابض حقيقة بانعدام المالك، فلم يصحّ الصرف لعدم تحقق شرط من شروطه. خيار الرؤية وخيار العيب: عقد الصرف يصحّ على مُعَيَّنَيْن، كما لو قال: بعتك أو صارفتك هذا الدينار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 بهذه الدراهم. وعلى موصوفين في الذمة، كما لو قال: بعتك عقْداً من الذهب صفته كذا في ذمتي بمائة غرام من الذهب في ذمتك، أو بسوار من الفضة يصفه له الآخر في ذمته، فإن ذلك جائز إذا أخرجا البدلين وتقابضا قبل التفرّق على ما علمت. وعلى هذا: فللعاقد الذي لم يرَ البدل الذي تعاقد عليه أن يأخذه حين يخرج له ويراه، وأن يردّه إن وجد على غير الصفة التي وصف بها، ويلزمه قبوله إن وجد على الصفة التي وصف به. وكذلك إذا قبض كل من المتصارفين بدله من الآخر، سواء أكان معيناً أم موصوفاً في الذمة، ثم وجد فيه عيباً: فله ردّه بالعيب وفسخ الصرف واسترداد ما دفعه للآخر من بدل. وله الرضا به وإمضاء العقد وعدم فسخه. وبهذا يعلم أن خيار الرؤية وخيار العيب يثبتان في عقد الصرف ولا يمنعان من صحته، لأنهما لا يمنعان من الملك، فلا يمنعان من التقابض الذي هو شرط صحة هذا العقد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 البَاب الخَامس القرض الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 القرض تعريفه: هو في اللغة: القطع، قال في " المصباح المنير ": (قرضت الشيء قرضاً قطعته. ويطلق اسماً على ما تعطيه غيرك من المال لتُقضاه، وسمي بذلك لما فيه من قطع يد مالكه عنه). وهو في اصطلاح الفقهاء: تمليك شيء مالي للغير على أن يردّ بدله من غير زيادة. وسمي قرضاً، لأن المقرض يقطع جزءاً من ماله ليعطيه إلى المقترض، ففيه معنى القرض الغوي. ويسميه أهل الحجاز سلفاً، ولذلك يصحّ بلفظ أسلفت، كما سيأتي. مشروعيته: القرض جائز ومشروع، ويجوز سؤاله لمحتاجه ولا نقص عليه، بل وهو مندوب إليه في حق من سُئِلَه. دل على ذلك الكتاب وصريح السنّة وإجماع الأُمة: أما الكتاب: فقوله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} البقرة 245. والقرض لله تعالى يتناول الصدقات كما يتناول القرض للعباد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 وأما السنة: - فما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه دَيْناً كان علْيه، فاشْتَدَّ عليه حتّى قال له: أُحَرَّجُ عليك إلاّ قضَيْتني. فاْنَتَهرهُ أصحابُه وقالوا: ويْحَكَ، تدري مع من تَكَلَّمَ؟ قال: إني اطلبُ حقي. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هلا مع صاحب الحق كنتم " ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها: " إن كان عندَك تمرّ فأقرضينا حتى يأتينا تَمْر فنقضيك " فقالت: نعم، بأبي أنت يا رسولَ الله. قال: فأقَرضته، فقضى الأعرابي وأطعمه، فقال: أوفيتَ أوفى الله لك. فقال " أولئك خيارُ النّاس، إنه لا قُدِّسَتْ أمّة لا يأخُذُ الضعيفُ فيها حقَّه غير مُتَعْتَع " (أخرجه ابن ماجه في كتاب الصدقات، باب: لصاحب الحق سلطان، رقم: 2426). [أُحّرج عليك: أضيِّق عليك؟ غير متعتَع: من غير أن يصيبه أذى يقلقه ويزعجه]. - ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " ما من مسلمٍ يُقْرضُ مسلماً قرضاً مرتين إلاّ كان كصدقَتها مَرَّةْ " (أخرجه ابن ماجه في الصدقات، باب: القرض، رقم: 2430. وابن حبّان: الزوائد: البيوع، باب: ما جاء في القرض، رقم: 1115). - ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أخذ أموال الناس يريدُ أداءها أدّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله " (أخرجه البخاري في الاستقراض وأداء الديون، باب: من أخذ أموال الناس .. ، رقم: 2257). وأما الإجماع: فإن الأمة لا تزال تتعامل به من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عصرنا هذا، والعلماء يُقِرّونه، من غير أن ينكر ذلك واحد منهم. حكمة تشريعه: إن الحكمة من تشريع القرض واضحة جليّة، وهي تحقيق ما أراده الله تعالى من التعاون على البرّ والتقوى بين المسلمين، وتمتين روابط الأخوّة بينهم بالتنادي إلى مدّ يد العون إلى مَن ألمّت به فاقه أو وقع في شدة، والمسارعة إلى تفريج الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 بعضهم كربة بعض، فلربما تلكأ الناس عن دفع المال على وجه الهبة أو الصدقة، فيكون القرض هو الوسيلة الناجحة في تحقيق التعاون وفعل الخير، والله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الحج77 ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " المسلم أخو المسلم: لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة " (أخرجه البخاري في المظالم، باب: لا يظلم المسلم ولا يسلمه، رقم: 2310. ومسلم في البرّ والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، رقم: 2580). ويقول " والله في عَوْن العبد ما كان العبدُ في عون أخيه " (أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، رقم: 2699). وأبلغ حكمة لتشريع القرض هو القضاء على استغلال عوز المعوزين وحاجة المحتاجين، إذ الغالب أن المكلّف لا يقترض إلا وهو في حاجة، فإذا لم يكن القرض الحسن كان الربا وكان الاستغلال - كما هو الحال لدى مَن لا يتعاطون القرض الحسن - ولهذا جاء في الحديث أن أجر القرض يفوق أجر الصدقة. فقد روى أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوباً: الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر. فقلت: يا جبريل: ما بالُ القرض أفضلُ من الصدقة؟ قال لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرضُ لا يستقرض إلا من حاجة " (أخرجه ابن ماجه في الصدقات، باب: القرض، رقم: 2431). حكم القرض من حيث الوصف الشرعي القائم به: مما سبق من أدلة على مشروعية القرض نعلم أنه مندوب في حق المُقْرض، مباح في حق المقترض. وهذا حكمه في حالته العادية، وقد تعتريه حالات يتغيّر فيها حكمه حسب الغرض الذي يقترض من أجله، فيكون: - حراماً: إذا أقرضه وهو يعلم أنه يقترض لينفق المال في محرم، كشرب خمر أو لعب قمار ونحو ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 - مكروهاً: إذ كان يعلم أن يفترض المال ليصرفه في غير مصلحة، أو ليبذخ فيه ويبدِّدَه. أو كان المستقرض يعلم من نفسه العجز عن وفاء ما يستقرضه. - واجباً: كأن يعلم أن المقترض يحتاج إليه لينفقه على نفسه وعلى أهله وعياله في القدر المشروع، لا طريق له لتحصيل هذه النفقة إلا اقتراضه منه. أركان القرض: للقرض أركان ثلاثة، وهي: صيغة، وعاقد، ومعقود عليه. 1 - الصيغة: وهي إيجاب وقبول، كأقرضتك واقترضت. ولا يشترط لفظ القرض، بل يصحّ بكل لفظ يؤدي معناه كأسلفتك وملكتكه ببدله وخذه بمثله، وقول المقترض: استلفت وتملّكته ببدله، ونحو ذلك. ويصحّ أيضاً بلفظ الماضي والأمر، كقوله: أقرضني وأسلفني، واقترض منّي واستلف، ونحوها، لما اعتاده الناس فيه من المسامحة. ولابدّ من الصيغة، أي الإيجاب من المقرض والقبول من المقترض، لأنها عنوان التراضي، وهو المبدأ الذي تقوم عليه العقود ولا تكفي المعاطاة، كأن يقول: أقرضني، فيعطيه المطلوب ويأخذه. 2 - العاقد، وهو المقرض والمقترض، ويشترط فيهما: أ - الرشد، وهو الاتّصاف بالبلوغ والصلاح في الدِّين والمال، لأن القرض عقد معاوضة مالية، والرشد في العاقد شرط في صحة عقود المعاوضة، فلا يصحّ الإقراض ولا الاستقراض من صبي ولا مجنون ولا محجور عليه لسفه، لأن كلاً منهم غير جائز التصرّف في المال. ب - الاختيار: فلا يصحّ من مكرَهٍ لأن الإكراه يفقد الرضا. ج - أهلية التبرع في المقرض فيما يقرضه: لأن القرض فيه شائبة تبرع، فيجب أن يكون المقرض أهلاً له، فلا يصحّ من الولي أن يقرض من مال من تحت ولايته لغير حاجة أو ضرورة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 3 - المعقود عليه وهو المال المقرض محل القرض: لا تُُشترط في المال المقرض أن يكون مثلياً، بل يجوز قرض كل مال يُملك بالبيع، ويضبط بالوصف على وجه لا يبقى معه إلا تفاوت يسير، ويصح أن يُسْلَم فيه. وعلى هذا: يصحّ القرض في الدراهم والدنانير، والقمح والشعير، والبيض واللحم وغير ذلك من المثليات. ويصحّ القرض في الحيوانات والعقارات وغيرها من القيميات التي تنضبط بالوصف. ولا تثبت في الذمة، ففي صحة القرض فيها قولان: والأصح أنه لا يجوز، لأن ما لا ينضبط بالوصف يتعذر أو يعسر رد بدله. والدليل على ما ذكر: أ - حديث أبي رافع، مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اسْتَلَفَ من رجل بَكْرَاًُ، فقدمت عليه إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضيَ الرجل بكره، فقال: لا أجد إلا خياراً رباعياً؟ فقال: " أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاءً ". (أخرجه مسلم في المساقاة، باب: من استلف شيئاً فقضى خيراً منه، رقم: 1600. وأخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه في الوكالة، باب: الوكالة في قضاء الديون، رقم: 2183، مع اختلاف في بعض الألفاظ). [بكراً: البكر الفتي من الإبل. خياراً: مختاراً جيداً. رباعياً: هو ما أتى عليه ست سنين من الإبل ودخل في السابعة، وهو الذي طلعت رباعيته، وهي السِّنّ التي بين الثنية والناب، والثنية إحدى السِّنَّيْنِ اللتين في مقدمة الأسنان]. وواضح أن البكر ليس مثلياً، فدل ذلك على عدم اشتراط المثلية في المال المقَرض محل القرض. ب - أن ما أمكن ضبطه بالوصف يعطي حكم المثلي لشبهه به، فيصح القرض به لذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 ويشترط في محل القرض: أ - أن يكون معلوم القدر عند القرض - كيلاً أو وزناً أو عدداً أو ذرعاً - ليتمكن من رد بدله فلو أقرضه دراهم لا يعلم عددها، أو طعاماً لا يعلم كيله أو وزنه، لم يصحّ القرض، وكذلك لو أقرضه مطبوخاً لم يصحّ القرض، لاختلاف كميته بالنضج وجهل مقدار نضجه. والعبرة في كون الشيء مكيلاً أو غيره تحديد الشرع، فإن لم يوجد فالمرجع العرف، على ما علمت في باب الربا. ب - أن يكون المال المقرض جنساً لم يختلط به غيره، لأن يتعذر في هذه الحالة رد بدله، ولاسيما إذا جهلت مقادير الخليط. فلا يجوز قرض قمح مخلوط بشعير، ولا لبن بماءٍ. اقتراض الخبز: أجاز العلماء اقتراض الخبز وزناً وعدداً، لجريان العرف بذلك في جميع العصور من غير إنكار. واستثنوا ذلك من منع ما اختلط بغيره وما لا ينضبط. حكم القرض من حيث الأثر الذي يترتب عليه: إذا صح القرض ترتب عليه حكمه، وهو: انتقال ملكية المال المقترَض من المقرض إلى المستقرض على وجه يلتزم معه بردّ بدله حال طلب المقرض له. وهل تنتقل هذه الملكية بقبض العين المستقرضة أو بالتصرف فيها؟ والقول الأصح: أن المستقرض يملك العين المستقرضة بالقبض، لأنه يجوز له التصرّف فيه بعد القبض باتفاق، فدل على ثبوت ملكيته له قبله، إذ لو لم يملكه بالقبض لما جاز له التصرّف فيه. وعلى هذا: إذا تم عقد القرض، وقبض المستقرض العين المستقرضة: فعلى قول: ليس للمقرض استردادها منه إلا برضاه، ولكن له استرداد بدله، لأنه الواجب بعقد القرض. والأصح: أن للمقرض الرجوع بالعين المستقرضة ما دامت باقية على حالها، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 ولم تتعلق بها حقوق لازمة للغير، ولا يمنع ذلك من القول بملكية المستقرض لها بالقبض. لأن للمقرض المطالبة ببدل المستقرَض عند فقده، فالمطالبة بعينه - إذا كان قائماً - أولى، لأنه أقرب منه، فيلزم المستقرض رده إذا طالب به المقرض. - أما إذا كانت العين قائمة، ولكنها لم تبق على حالها - كما لو كانت شاة فذبحت، أو حنطة فطحنت - أو تعلق بها حق زم للغير - كأن رهنها المستقرض - فليس للمقرض حق الرجوع بها واستردادها بعينها. أما لو أجر المستقرض العين المستقرضة فللمقرض الرجوع بها واستردادها، بخلاف الرهن، لأن للمرتهن حقاً لازماً يتعلق بالعين المرهونة، أما المستأجر فليس له ذلك. وكذلك له استردادها ولو زادت زيادة متصلة أو منفصلة، لأن المتصلة تبع للأصل، وأما المنفصلة: فإنها لا تمنع استرداد الأصل، وإن كان المستقرض يملكها، لأنها حصلت على ملكه. ولا خلاف أن للمستقرض ردّ عين القرض على المقرض، وليس للمقرض أن يطالبه برد بدله من مثل أو قيمة. والقول الثاني في وقت انتقال الملكية: إن المستقرض لا يملك المقال المقترَض إلا بالتصرّف المزيل للملك، كالهبة أو البيع أو الَهلاك أو الاستهلاك، لأن الملك يتبين به، ولأن للمقترض الرجوع بها قبل ذلك، كما أن للمستقرض أن يردّها، ولو ملكها المستقرض بالقبض لم يملك واحد منهما فسخ ذلك الملك، ولم يكن لهما حق الرد أو الاسترداد. وعلى هذا القول: للمقرض استرداد العين المستقرضة ما دامت في يد المستقرض - على النحو السابق - قولاً واحداً، لأنها ما زالت على ملكه، ولم تدخل في ملك المستقرض. وتظهر فائدة الخلاف بين القولين فيما إذا كان للمال المستقرض نفقة أو منفعة: - فعلى القول بثبوت الملك بالقبض يكون على المستقِرض نفقته، وله منفعته من حين القبض، ولو لم يتصرف فيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 - وعلى القول بثبوت الملك بالتصرف تكون نفقته على المقرض، وله منفعته من حين القبض على وقت التصرف. ما يجب رده بدل القرض : علمنا أن المال المقترض ينبغي أن يكون مثلياً أو أن يكون قيمياً ينضبط بالوصف، وعليه: فيجب ردّ المثل إذا كان محل القرض مالاً مثلياً وكان موجوداً، فإذا انعدم وجب ردُّ قيمته وإن كان محل القرض مالاً قيمياً وجب ردّ مثله صورة، كما لو اقترض شاة، فإنه يردّ شاة بدلها بنفس أوصافها، لحديث أبي رافع رضي الله عنه الذي مرّ معنا، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يقضي الرجل بكراً بدل بَكْره. وقيل: يجب ردّ القيمة في القيمي، لأن ما يضمن بالمثل إن كان له مثل يضمن بالقيمة إذا لم يكن له مثل. وعلى القول بوجوب القيمة: - فالواجب القيمة يوم القبض، على القول بأن العين المستقرَضة تُملك بالقبض، وهو الأصح. - وعلى القول بأنه يُملك بالتصرف: فالواجب أكثر القيم من يوم القبض إلى يوم التصرف. وإن اختلف المقرض والمقترض في قدر القيمة أو صفة المثل: فالقول قول المقترض مع يمينه، لأنه هو المدَّعي عليه الذي سيُغَرَّم القيمة أو المثل. متى يطالب بردّ بدل القرض؟ للمقرِض أن يطالب المستقرض بدفع المال المقترض في أي وقت شاء، بعد قبض المستقرض له، لأن حكم القرض - كما تقدم - يوجب على المستقرض ردّ المال المقترض حال طلب المقرض له، وكذلك: لأنه عقد يمتنع فيه التفاضل فامتنع فيه الأجل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 وسواء في ذلك أحدِّد أجل معين في العقد للوفاء أم لم يحدَّد وسواء أوُجد في ذلك عُرْف معين أم لم يوجد. الشروط في القرض : قد يقترن عقد القرض بشروط، فبعض هذه الشروط تفسده، وبعضها يلغو ولا يؤثر على القرض، وبعضها يلزم الوفاء به، وإليك بيان ذلك: 1 - الشروط المفسدة: هي كل شرط ليس من ملائمات العقد، وفيه منفعة للمقرض، كما لو أقرضه بشرط ردّ زيادة في البدل، أو بشرط رد صحيح بدل مَعيب، أو بشرط أن يبيعه داره مثلاً. فمثل هذا الشرط فاسد ومفسد للعقد. لقوله - صلى الله عليه وسلم - " كل قرضٍ ير منفعة فهو ربا (1) " قال في " مغني المحتاج ": وهو وإن كان ضعيفاً، فقد روى البيهقي معناه عن جمع من الصحابة. وذكر في " المهذَّب ": أنه روي عن أبي بن كعب وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عباس - رضي الله عنهم - أنهم نَهْوا عن قرضٍ جر منفعة. والمعنى في هذا: أن موضوع القرض قائم على الإرفاق والعون للمقترض، فإذا شرط فيه المقرض لنفسه منفعة زائدة على حقه فقد خرج العقد عن موضوعه، ولم يؤدِّ غرضه، فلم يصح. وكذلك روى عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " لا يحل سلف وبيع " (أخرجه الحاكم في المستدرك: البيوع، باب لا يجوز بيعان في بيع .. (2/ 17)، وانظر زوائد ابن حبان: البيوع، باب: ما نهي عنه في البيع من الشروط وغيرها). وقد مّر معنا في تعريف القرض: أنه السف في لغة أهل الحجاز. هذا ومن المعلوم أن فساد العقد يعني بطلانه أصلاً، وأنه لا يترتب عليه شيء من الآثار.   (1) أخرجه الطبراني في المعجم الكير [انظر: الجامع الصغير] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 المنفعة أو الزيادة غير المشروطة: إذا ردّ المستقرض زيادة عن بدل القرض، أو قدم هدية للمقرض، دون أن يشرط المقرض ذلك في العقد ولم يجر به عرف، فما حكم ذلك؟ يُنظر: - فإن كانت تلك المنفعة المقدَّمة قبل وفاء بدل القرض: فالأولى التنزّه عنها إلا إذا كان تبادل تلك المنفعة معتاداً بينهما قبل القرض. لما روي عن أنس رضي الله عنه، وقد سئل: الرجل منّا يقرض أخاه المال، فيهدي إليه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أقْرَض أحدُكم قرضاً، فأهْدى إليه، أو حملَه على الدابَّةِ، فلا يَرْكَبْهُا ولا يَقْبَلْهُ، إلاَّ أنْ يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك ". (أخرجه ابن ماجه في الصدقات، باب: القرض، رقم: 2432). وكذلك تزول الكراهة إذا كافأه المقرض عليها. - وإذا كانت المنفعة المقدمة - من زيادة أو هدية أو غيرها - بعد وفاء القرض: فلا بأس بها، ولا يكره للمقرض أخذها، لانتهاء حكم القرض بالوفاء. بل يستحب للمستقرض أن يفعل ذلك، اقتداءً بفعله صلى الله عليه وسلم، وامتثالاً لأمره بحسن الوفاء، وهذا من حسن الوفاء. روى البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه قال: أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان لي عليه دينُ، فقضاني وزادني (البخاري في الاستقراض، باب: حسن القضاء، رقم2264. ومسلم في المساقاة، باب: بيع البعير واستثناء ركوبه). وقد مرّ بنا أمره - صلى الله عليه وسلم - بإعطاء المقرض خياراً رباعياً بدل بَكْره، وقوله في ذلك: "فإن خيار الناس أحسنهم قضاءً ". وهذا إذا لم يجر عُرف بين الناس بردّ المستقرض زيادة عن بدل القرض أو تقديم منفعة للمقرض، وكذلك إذا لم يكن المستقرض قد تَعَوّد هذا وعرف به. فإن كان معتاداً في عُرف الناس، أو كان المستقرض معروفاً به: فالأوجه كراهة قبول هذه المنفعة، لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً. 2 - الشروط اللاغية غير المفسدة للعقد: وهي كل شرط ليس من ملائمات العقد، ولكنه لا مصلحة فيه لأحد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 المتعاقدين، أو كان مصلحة للمستقرض، وذلك كما لو شرط عليه أن يردّ معيباً بدل صحيح، أو رديئاً بدل جيد، وكذلك لو شرط عليه أن يقرضه غيره. فمثل هذه لاغيه لا يلزم الوفاء بها. والأصح أنها لا تفسد العقد، لأن فيها تأكيداً لموضوعه وهو الإرفاق، إذ ليس فيها جرّ منفعة للمقرض، وإنما فيها جرّ منفعة للمقترض، فكأن المقرض يزيد في الإرفاق والعون للمقترض. شرط الأجل في القرض : ذكرنا أن للمقرض أن يطالب ببدل القرض متى شاء، سواء أَشُرط أجل في العقد أم لم يُشرط. وعليه: إذا شرط اجل في العقد فلا يلزم الوفاء به، ويعتبر لاغياً. وهل يؤثر على العقد؟ ينظر: - فإن كان في شرط الأجل غير للمقرض - كما لو كان الزمن زمن نهب، وشرط له أجلاً للوفاء يغلب على ظنه الأمن فيه - فإنه يفسد العقد، لما فيه من جر المنفعة للمقرض، فصار كشرط زيادة في العقد. - وإن لم يكن في شرط الأجل غير للمقرض فلا يفسد العقد، ولا يلزم الأجل على الصحيح، وإن كان يُندب الوفاء به، لأنه وعد بالإحسان. 3 - ما يلزم الوفاء به من الشروط: هي كل شرط فيه توثيق للعقد وإثبات للحق وتأكيد له. كما لو اشترط رهناً بمال القرض، أو كفيلاً، أو إشهاداً على العقد، أو إقراراً به عند حاكم، أو كتابة للدين. فإن ذلك كله جائز، ويحقّ للمقرض أن يشرطه، لأنه توثيق - كما قلنا - ولا زيادة فيه. ولقد روى البخاري عن أنس رضي الله عنه: ولقد رهن النبي - صلى الله عليه وسلم - درعاً له بالمدينة عند يهودي، وأخذ منه شعيراً لأهله (البخاري: البيوع، باب: شراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسيئة، رقم: 1963). ويلزم المستقرض الوفاء بهذه الشروط، فإن لم يوف بها كان للمقرض أن يفسخ العقد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 الباب السادس الهبة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 الهبَة تعريفها : هي في اللغة: العطية التي لم يسبقها استحقاق، وفيها نفع للمعطَى له. وبهذا المعنى تكون في الأعيان وغيرها. - فمن ورودها في الأعيان: قوله تعالى {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ} (الشورى49). وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء} (إبراهيم39). - ومن ورودها في غير الأعيان: قوله تعالى: {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} (آل عمران8). وقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا} (الأحزاب50) أي يحلّ لك يا محمد - صلى الله عليه وسلم - أن تتزوج بالمرأة المؤمنة التي فوّضت أمرها إليك، ورضيت أن تتزوجها بغير مهر، فيحلّ لك ذلك. قيل: أصل معناها من هبوب الريح، لما في ذلك من العطاء. وقيل: مَن هبَّ من نومه، إذا استيقظ، فكأن فاعلها استيقظ وانتبه للعطاء. وهي في الاصطلاح الشرعي: عقد يفيد تمليك العين بلا عوُض، حال الحياة، تطوعاً. أي إن عقد الهبة يرد على تمليك ذات الشيء الموهوب للموهوب له، دون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 أن يتوجب عليه ردّ بدل لهذا الشيء، فهو بهذا يختلف عن البيع الذي هو تمليك بعوض. وكذلك هذا التمليك يكون حال الحياة، وبهذا تختلف الهبة عن الوصية، التي هي تمليك بلا عوض، ولكن بعد الموت. كما تختلف الهبة عن الزكاة التي هي تمليك واجب على المزكّي، بينما الهبة تمليك على سبيل التطوع والتبرع. والهبة بهذا المعنى تشمل الهدية والصدقة، فإن كلاً منهما تمليك للعين بلا عوض في حال الحياة تطوعاً، وإن كان بين هذه الثلاثة شيء من الاختلاف في المعنى والحكم: - فالهبة: بالمعنى الذي سبق عامّةُ، سواء أكانت من غني لفقير أم لا، وقصد بها الثواب في الآخرة أم لا، نُقلت العين الموهوبة للموهوب أم لا. - أما الصدقة: فالظاهر أنها تمليك للمحتاج، تقرباً إلى الله تعالى وقصداً للثواب في الآخرة غالباً. - وأما الهدية: فالظاهر أنها تمليك لمن يرغب بالتقرّب والتحبّب إليه من الناس، وغالباً ما يكون مع ذلك نقل للموهوب إلى مكان الموهوب له. وهذا الفارق بين الصدقة والهدية يظهر في قوله - صلى الله عليه وسلم - حين طلب أن يُطْعَم من اللحم - الذي رآه يطبخ وقيل له: إنه لحم تُصُدِّق به على بريرة فقال: " هو عليها صدقةُ، وهو لنا هديَّةّ " (أخرجه البخاري في الزكاة، باب: إذا تحولت الصدقة، رقم: 1424. ومسلم في الزكاة باب: إباحة الهدية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، رقم: 1074) أي فقد اختلف القصد في العطاء، فاختلف الاسم والحكم. ولهذا المعنى كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويأكل منها، بينما كان لا يأكل من الصدقات. فقد روى البخاري ومسلم - واللفظ لمسلم - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أُتِىَ بطعام يسأل عنه: فإن قيل هدية أكل منها، وإن قيل صدقة لم يأكل منها. (البخاري: كتاب الهبة، باب: قبول الهدية، رقم: 2437. ومسلم في الزكاة، باب: قبول النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدية وردّه الصدقة، رقم: 1077). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 - وكذلك لابدّ في الهبة من الإيجاب والقبول، كما سيأتي، بينما لا يشترط هذا في الصدقة أو الهدية: أما الصدقة: فما أكثر ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتصدق، وكذلك أصحابه رضوان الله عليهم، ولم يُعهد أو يُنقل أنه كان يَجري إيجاب وقبول بين المتصدِّق ومن يتصدّق عليه. وأما الهدية: فقد ثبت أن الناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يتحرون بهداياهم يوم وجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند عائشة رضي الله عنها. ولم يُنقل أنه كن يحصل إيجاب وقبول بينهم وبينها، أو بينهم وبينه (انظر البخاري: كتاب الهبة، باب: قبول الهدية، رقم، 2435. ومسلم: فضائل الصحابة، باب: في فضل عائشة رضي الله تعالى عنها، رقم: 2441). مشروعيتها : الهبة - بالمعنى العام الشامل الذي سبق بيانه - مستحبة ومندوب إليها، دلّ على ذلك: الكتاب، والسنّة، والإجماع. أما الكتاب: - فمن ذلك قوله تعالى: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} (النساء4) أي إذا وهبكم أزواجكم شيئاً من مهورهن - بعد إعطائهنّ ذلك المهر حقاً مفروضاً لهنّ - وكانت نفوسهنّ راضية بتلك الهبة، فما وهبنه لكم كسب طيب حلال، فكلوه سائغاً لذيذاً، ولا حرج عليكم في أكله ولا مؤاخذة عليكم في أخذه. - ومنه قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} (1) (البقرة177)   (1) البر: كلمة جامعة لكل خير. تولوا وجوهكم: تديروها وتتوجهوا وتستقبلوا بها. قِبَل: نحو وجهة. آتى: أعطى. على حبه: أي أعطى المال مع حبه له وتعلق قلبه به. أو: أعطاه ونفسه راضية بهذا العطاء غير كارهة له. في الرقاب: في تحرير العبيد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 فقد شملت الآية بالعطاء المحتاجين وغيرهم، وإعطاء المحتاجين صدقة، وإعطاء غيرهم هبة. وأما السنة: فإن الأحاديث في مشروعية الهبة كثيرة، سيأتي بعض منها خلال البحث، ومنها: - وما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيران من الأنصار، كانت لهم منائحُ، وكانوا يمْنَحُون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ألبانِهم فيسقينا (البخاري: الهبة، باب: فضلها والتحريض عليها، رقم: 2428. مسلم في الزهد والرقائق، رقم: 2972). [والمنائح جمع منيحة، وهي العطية، والمراد بها هنا الناقة أو الشاة التي فيها لبن. ويمنحون: أي يجعلون ذلك منحة له، أي عطية]. - ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة " (البخاري في الهبة، باب: فضلها والتحريض عليها، رقم: 2427. ومسلم في الزكاة، باب: الحث على الصدقة ولو بالقليل، رقم: 1030). [أي لا تستصغرن جارة شيئاً يتقدمه لها جارتها عطية وهبة، فتمتنع من قبوله، ولو كان المقدم والمعطى فرسن شاة، وهو ما دون الرسغ من يدها، وقيل: عظم قليل اللحم. أو المراد لا تستصغر ذلك فتمتنع عن هبته لجارتها، بل لتقدّمه لها، فإن في ذلك جلباً للمحبة والألفة]. - ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إلى ذراع أو كراع لقبلت " (أخرجه البخاري في الهبة، باب: القليل من الهبة، رقم: 2429). [ذراع: هو اليد من كل حيوان. كراع: هو ما استدق من ساق الحيوان]. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 وأما الإجماع: فقد اجمع فقهاء المسلمين في جميع العصور على استحباب الهبة بكل أنواعها لأنها من باب التعاون، والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة2). الهبة للأقارب: وإذا كانت الهبة مشروعة ومندوباً إليها، مطلقاً، فهي للأقارب أشد استحباباً وأكثر ندباً وأفضل ثواباً وأجراً، لما يكون فيها - إلى جانب البّر والتعاون - من صلة الرحم. وقد حثّنا الله تعالى في كتابه على صلة الرحم فقال سبحانه: {وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} (النساء1) أي اتقوا الأرحام من أن تقطعوها. وكذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: " من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه " (أخرجه البخاري في البيوع، باب: من أحب البسط في الرزق، رقم: 1961. ومسلم في البر والصلة والآداب، باب: صلة الرحم وتحريم قطيعتها، رقم: 2557). [يُبسط له: يوسَّع عليه ويبارك له فيه. ينسأ له في أثره: يطيل الله عمره ويؤخر له فيه]. المكافأة على الهبة : ويستحب لمن وهب له شيء أن يكافئ الواهب على هبته إن تيسر له ذلك، اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويثبت عليها (أخرجه البخاري في الهبة، باب: المكافأة في الهبة، رقم: 2445) حكمة مشروعيتها : يهدف الإسلام لإقامة المجتمع المثالي المتكامل، الذي يقوم على أساس من المحبة والوّد، والصلة والقرْب. ولذا يشرع كل ما من شأنه أن يقوّي روابط القرب بين الأفراد، ويحقق التوادد والألفة بين الناس. والهبة من الوسائل الناجعة التي تحقق هذا المعنى، لما فيها من تعبير عن الإكرام والودّ والاحترام. والإنسان مفطور على حب من أكرمه وأحسن إليه، واظهر له ودّه واحترامه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صريح في هذا المعنى إذ يقول: " تهادَوْا تحابَّوا " (أخرجه مالك مرسلاً في كتاب حسن الخلق، باب: ما جاء في المهاجرة: 2/ 908) ويقول " تهادوا، فإنّ الهديَّة تُذْهبُ وحَرَ الصّدْر " أي غلَّه والحقد الذي قد يكون فيه. (أخرجه الترمذي في أبواب الولاء، باب: ما جاء في حثّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على التهادي، رقم: 2131). وحتى يتحقق هذا المعنى كاملاً نجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحثّ من وُهِبَ له شيء أن يقبله ولا يردّه، لما في الرد على الواهب من إيذاء له، إذ قد يشعر باستصغاره وعدم الاكتراث به. وقد مرّ بك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تحقرن جارة لجارتها ولو فْرِسِنَ شاة " وروى الإمام أحمد في مسنده: عن خالد بن عدي رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من بلغه معروف عن أخيه، من غير مسألة ولا إشراف نفس، فليقبله ولا يردّه، فإنما هو رزق ساقه الله عز وجل إليه ". (مسند أحمد: 4/ 221). وإذا كان هناك سبب شرعي معتبر لعدم القبول ينبغي أن يبيِّنه، حتى لا يبقى في نفس الواهب شيء، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أُهدي له صيد وهو محرم. فقد أخرج البخاري ومسلم عن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه: أنه أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حماراً وحشياً، وهو بالأبواء أو بودّان، فردّه عليه، فلما رأى ما في وجهه، قال: " أما إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم " ( ... البخاري: الإحصار وجزاء الصيد، باب: إذا أهدى للمحرم حماراً وحشياً حياً لم يقبل، رقم: 1729. ومسلم في الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم، رقم: 1193). [حماراً وحشياً: هو الحمار المخطط المعروف، وهو من الأنعام المأكولة اللحم. الأبواء وودّان: اسما موضعين بين مكة والمدينة. ما في وجهة: أي من الحزن والكراهية لردّه - صلى الله عليه وسلم -، لأنه قد يكون سبب غضب منه وعدم رضا عنه. حرم: محرومون: يمتنع علينا أخذ ما صِيدَ لنا]. أركان الهبة وشروطها : للهبة أركان ثلاثة، وهي: عاقدان، وصيغة، وموهوب. ولكلَّ من هذه الأركان شروطها نبينها فيما يلي: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 1"- العاقدان: وهما الواهب والموهوب له: ويشترط في الواهب: أن يكون مالكاً للموهوب، وأن يكون أهلاً للتبرع، مطلق التصرف في ماله، فلا تصحّ هبة ما لا يملكه، كما لا تصح هبة الصغير والمجنون، لأنها ليسا أهلاً للتبرع ولا يملكانه، لأنه ضرر محض. ولهذا لا يملك وليُّهما أيضاً هبه شيء من مالهما، لأنهما تبرع لا يقابله نفع دنيوي، فهي لذلك ضرر محض لا يملكه الولي، لأن ولايته قاصرة على وجوه النفع لمن تحت ولايته. وكذلك لا تصحّ الهبة من المحجور عليه في ماله، لسفه أو فلس. ويشترط في الموهوب له: أن يكون أهلاً لتملك ما وهب له، فتصح الهبة لكل إنسان مولود، وغير المكلف - كالصبي والمجنون - يقبل عنه وليّه. ولا تصح الهبة للحمل لأنه لا يملك ملكاً اختيارياً. 2"- الصيغة: وهي الإيجاب والقبول: فمن الإيجاب أن يقول: وهبتك، ونحلتك، وملّكتك بلا ثمن، وأعطيتك. وكذلك: أطعمتك هذا الطعام، وجعلت هذا الثواب لك. فهذه ألفاظ بعضها صريح في الهبة لاستعمالها فيها، وبعضها يجري مجري الصريح لدلالته على التمليك في الحال بلا عوض، وهو معنى الهبة. فهذه الألفاظ لا تحتاج إلى نيّة، ولو ادّعى قائلها وعدم إرادة الهبة به فلا يُصدق بدعواه. وهناك ألفاظ في الإيجاب ليست صريحة في الهبة ولا تجري مجرى الصريح فيها، وفتحتاج إلى نيّة مثل قوله كسوتك هذا الثوب، وحملتك على هذه الدابة، فمثل هذه الألفاظ كناية في الهبة، فإن نواها انعقدت بها، وإن قال: لم أرد بها الهبة صدق في ذلك وكانت عارية وإنها تحتمل العارية وتصلح لها، كما تحتمل الهبة. ولو قال: منحتك هذا الشيء، أو هذا الشيء لك منحه، فهو هبة، لأن هذا اللفظ مستعمل في الهبة صراحة. وأما القبول فأن يقول: قبلت، أو رضيت، أو اتهبت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 ويشترط في الصيغة: 1 - اتصال القبول بالإيجاب، بحيث لا يفصل بينهما فاصل معتبر عرفاً. 2 - عدم تقيدها بشرط: كان يقول: إن قدم زيد فقد وهبتك هذا الثوب، لأن الهبة تمليك، والتمليكات لا تحتمل التعليق بما له خطر الوجود والعدم، فلم يصحّ الإيجاب. 3 - عدم تقيدها بوقت: كوهبتك هذا الكتاب شهراً أو سنة، لأنه شرط منافٍ لمقتضى العقد، الذي هو التمليك المطلق للحال. العمري والرقبي 1 - العمري: مأخوذة من العُمُر، وهي أن يقول الواهب للموهب له: أعمرتك هذه الدار، أو جعلت هذه الدار لك عمري، أو عمَرك، أو حياتك أو حياتي، فإذا متّ فهي لورثتي. وهذه صيغ من صيغ الهبة كما ترى، ولكنها مقيدة بوقت وهو عمر الواهب أو الموهوب له. وقد علمت أن من شرط صيغة الهبة عدم التقييد بوقت، ومع ذلك فالهبة صحيحة والشرط باطل ولاغٍ، استثناء من المنع السابق، لما صحّ في ذلك من أحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقد روى البخاري ومسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((العمرى جائزة)). ورويا أيضاً عن جابر رضي الله عنه قال: قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمري أنها لمن وهبت له، وفي رواية عند مسلم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((العُمري لمن وهبت له)). (أنظر البخاري: الهبة، باب: ما قيل في العمري والرقبي ومسلم: الهبات، باب: العمري). وروى مسلم أيضاً عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((أمسكوا عليكم أموالكم ولا تُفْسدُوها، فإنَّه من أعْمَرَ عُمْري فهي للذي أعمرها، حياً وميتاً، ولا عقبه)) (مسلم: الهبات، باب: العمري). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم: (المراد به إعلامهم أن العمري هبة صحيحة ماضية، يملكها الموهوب له ملكاً تاماً لا يعود إلى الواهب أبدأ، فإذا علموا ذلك: فمن شاء أعمر ودخل على بصيرة، ومن شاء ترك لأنهم كانوا يتوهمون أنها كالعارية ويرجع فيها). 2 - الرقبي: وهي أن يقول الواهب لغيرة: داري لك رقبي، أو: أرقبتك هذه الدار، أو: جعلتها رقبي. ومعناها: إن متَّ قبلي عادت إليّ، وإن مت قبلك استقرت لك. فهي مأخوذة من الرقوب والترقب وهو الانتظار، لأن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه وينتظره. وهذه الصيغة أيضاً من صيغ الهبة المعتبرة شرعاً، رغم تقييدها بشرط فهي هبة صحيحة، والشرط لاغٍ، لورود السنّة بصحتها كالعمري. روى جابر رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((العُمْرَي جائزةّ لأهْلها والرُّقْبي جائزة لأهلها)): أي نافذة وماضية. (أخرجه الترمذي في الأحكام، باب: ما جاء في الرقبي، رقم: 1351، وقال: هذا حديث حسن. وأبو داود في البيوع، باب الرقبي، رقم: 3558. وإبن ماجه في الهبات، باب: الرقبي، رقم: 2383). وهذا استثناء أيضاً من بطلان الهبة المقيدة بشرط كما علمت. جاء في ((مغني المحتاج)): قال السبكي: وصحة العمرى والرقبي بعيد عن القياس، لكن الحديث مقدَّم على كل أصل وكل قياس. 3"- الموهوب: الركن الثالث من أركان الهبة محل العقد وهو الموهوب، والقاعدة في هذا أن ما جاز بيعه جازت هبته، ومنها تستخرج شروط الموهوب، وهي: أأن يكون موجوداً وقت الهبة: فلا تصح هبة ما كان مفقوداً حال العقد، لأن مقتضي الهبة التمليك للحال , وتملك المعدوم على هذا مُحال، فتبطل الهبة. ومثاله: ما لو وهبة ما ستثمر نخيله هذه العام، أو ما ستلد أغنامه هذه السنة. ومثل المفقود حقيقة المفقود حكماً، كما لو وهبه ما في بطن هذه الشاة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 أو ما ضرعها، فلا تصح الهبة وإن سلطه على القبض عنده الولادة والحلب، لأنه لا وجه لتصحيح الملك للحال لأن اللبن والحمل في حكم المفقود حال العقد، لاحتمال وجودة وعدمه، لأن انتفاخ البطن قد يكون للحمل وغيره، وكذلك انتفاخ الضرع قد يكون باللبن وبغيره. ولا وجه لتصحيح الملك بالإضافة إلى ما بعد الحدوث، لأن التمليك بالهبة مما يحتمل الإضافة إلى الوقت. ب أن يكون مالاً متقوماً: فلا تصح هبة الميتة، ولا الدم، ولا الخنزير ولا الخمر، ولا صيد المحرم أو الحَرَم، لأن هذه الأشياء ليست أموالاً متقوّمة شرعاً. ت أن يكون مملوكاً للواهب: فلا تصح هبة ما ليس مملوكاً بنفسه كالمباحات (1) كما لا تصح هبة مال غيرة بغير إذنه، لأن الهبة تمليك، وتمليك ما ليس بمملوك محال. هبة ما كان مشغولاً بغيرة أو متصلاً به: حسب القاعدة السابقة: أن ما جاز بيعه جازت هبته، ينظر: -فإن كان الموهوب المتصل بغيره يمكن تمييزه عنه دون إلحاق ضرر به، ولا غرر في هذا، صحت الهبة فيه، يجوز بيعه. كما لو وهبه ذراعاً من أرض أو ثوب لا تنقص قيمته بقطعة منه. ـ وإن كان الموهوب المتصل بغيره لا يمكن تمييزه عنه إلا بضرر، كما لو وهبه نصف سيفه، أو كان في تمييزه عسر أو كان في ذلك غرر، كما لو وهبه الصوف على ظهر الغنم، فإنه يعسر تمييزه الموهوب عن غيره، لأنه ينبغي جزّه من أصله، وهو غير ممكن، وكذلك قد يحدث شعر جديد، فيختلط بالذي كان حال الهبة، ولا يمكن تمييزه، ويكون في ذلك غرر أيضاً، فلا تصح الهبة لأن بيع ذلك غير صحيح.   (1) المباحات: هي ما يباح لكل إنسان أن يتملكه بالإحراز، كالحيوانات البرية والبحرية غير المملوكة، والعشب ونحوه فلا تصحّ هبته قبل حيازته وإحرازه، لأنه غير مملوك قبلها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 فإذا وهبه ثمراً على رأس الشجر: فإن كان مما يغلب تلاحقه واختلاط حادثة بالموجود فلا يصح، لتعذر تمييزه. وإن لم يكن كذلك فإنه يصح. هذا فيما كان متصلاً بغيره. أما إن كان مشغولاً بغيره، كدار فيها متاع للواهب أو دابة عليها حمل له، أو شجر عليه ثمر، فإن هبة ذلك كله جائزة وصحيحة، لأن تمييز الموهوب على غيره ممكن، ولا عصر فيه ولا ضرر ولا غرر. ولأن بيع ذلك جائز وصحيح. هبه المشاع وذلك: بأن يكون لإنسان حصة غير معينه في شيء، فيهبها لآخر. أو يكون مالكاً لشيء فيهبه لأثنين أو أكثر. فالهبة جائزة وصحيحة، ويكون القبض في الموهوب بقبض الموهوب له جميع العين، فيستوفي حقه بمقدار حصته منها، ويكون باقيها أمامها في يده كالوديعة والحجة بهذا: أ- ما رواه البخاري ومسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: كنت يوماً جالساً مع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في منزل في طريق في مكة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - نازل أمامنا، والقوم محرمون وأنا غير محرم، فأبصروا حماراً وحشياً، وأنا مشغول أخصف نعلي فلم يؤذنني به، وأحبّوا لو أني أبصرته، والتفت فأبصرته، فقمت إلى الفرس فأسرجته، ثم ركبت ونسيت السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح، فقالوا: لا والله لا نعينك عليه بشيء فغضبت فنزلت فأخذتهما، ثم ركبت فشددت على الحمار فعقرته، ثم جئت به وقد مات، فوقعوا فيه يأكلونه، ثم إنهم شكّوا في أكلهم إياه وهم حُرُم، فرحنا، وخبأت العضد معي، فأدركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألناه عن ذلك، فقال: (معكم منه شيء؟ ) فقلت: نعم، فناولته العضد، فأكلها حتى نفدها، وهو محرم (البخاري: الهبة، باب، من استوهب من أصحابه شيئاً، رقم: 2431. ومسلم: الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم، رقم: 1196). فهذا الحديث دليل على جواز هبة المشاع، لأن أبا قتادة هو الذي ملك الصيد، ووهب أصحابه حصصاً شائعة منه، وأقراهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فعلهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 ب - ما رواه مالك والنسائي وأحمد عن عمير بن سَلَمه الضمري عن البهريّ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج يريد مكة وهو محرم، حتى إذا كان بالروحاء، إذا كان بالروحاء، إذا حمارُ وحشي عقير، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " دعُوهُ، فإنّه يُوشكُ أنْ يأتيَ صاحبُه " فجاء البهري وهو صاحبه، إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله شأنَكُمْ بهذا الحمار. فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر، فقسمه بين الرفاق. (انظر الموطأ: الحج، باب: ما يجوز للمحرم أكله من الصيد. والنسائي: مناسك الحج، باب: ما يجوز للمحروم أكله من الصيد). قالوا: وهذا الخبر صريح في صحة هبة المشاع، إذ وهب الواحدُ للجميع. ج - وقالوا أيضاً: القصد من الهبة التمليك، والملك يثبت في المشاع كما يثبت في المُفْرَز المقسوم، بدليل صحة بيعه. لزوم الهبة بالقبض : عقد الهبة لا يكمل ولا يلزم بمجرد الإيجاب والقبول، بل يبقى عقداً غير لازم من قبل الواهب، فيحقّ له الرجوع بالهبة والتصرف بالموهوب ما دام في يده. وعليه فلا يستقر ملك الموهوب للموهوب له إلا بعد القبض. فإذا حصل القبض بشروطه الآتية فقد تم عقد الهبة وكمل، وأصبح عقداً لازماً، واستقرت فيه ملكية الموهوب له للعين الموهوبة. والدليل على أن الهبة لا تملك ملكاً تاماً إلا بالقبض: أ - ما رواه الحاكم وصحح إسناده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما تزوج أُم سلمة رضي الله عنها قال لها: " إنّي أهديتُ إلى النجاشيِّ أوَاقاً من مسْك وحُلة، وإني لا أراه إلا قد مات، ولا أرى الهدية التي أهديت إليه إلا سترد، فإذا ردت إلى فهو أو لكن ". فكان كما قال، هلك النجاشي، فلما ردّت الهدية أعطى كل امرأة من نسائه أوقيَّة من ذلك المسك، وأعطى سائرَه أم سلمة، وأعطاها الحُلَْةَ. (المستدرك: كتاب النكاح، باب: حق الزوجة على الزوج 2/ 188). فلو كانت الهبة تلزم بدون قبض - والهدية منها - لما رضي - صلى الله عليه وسلم - برجوعها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 إليه، بل كان يردّها إلى ورثة النجاشي، لأنها تعتبر من تركته حينئذ. فقبوله - صلى الله عليه وسلم - لردّها دليل على أنها لم تثبت ملكيتها للمُهدى له قبل قبضها. ب - ما رواه مالك في الموطأ: عن عائشة رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نَحَلَها جادَّ عشرينَ وَسْقا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله - يا بُنَّيُه - ما من الناس أحد أحبَّ إلى غنى بعدي مْنك، ولا أعَزَّ عليَّ فقراً بعدي منك، وإني كنتُ نحلتك جادَّ عشرين وسْقاً، فلو كنت جددتيه، واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارثٍ، وإنّما هما أخواك وأُختاك، فاقتسموه على كتاب الله. قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت: يا أبت، والله لو كان كذا وكذا بتركته، إنما هي أسماءُ، فمن الأُخرى؟ فقال أبو بكر: ذو بَطْن بنت خارجة، أراها جارية (1). [نحلها: أعطاها بلا عوض، وهي الهبة. جادّ عشرين وسقاً: أي ما يقطع منه هذا القدر، والوسق مكيال يتسع لما يزن (140) كيلوغرام تقريباً. بالغابة: موضع قريب من المدينة على طريق الشام. أعزّ: أشقّ وأصعب. احتزتيه: قبضتيه وجعلتيه في حوزتك. ذو بطن: الحمل الذي في بطنها. أُراها جارية: أظنها بنتاً]. وهذا صريح في أن الهبة لا تملك إلا بالقبض. ج - روى مالك أيضاً: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما بال رجال يَنْحَلُونَ أبناءهم نحلاً ثم يمسكُونها، فإن مات ابن أحدهم قال: مالي بيدي لم أعطه أحداً، وإن مات هو قال: هو لابني، قد كنت أعطيته إياه؟ من نحل نحْلَةً، فلم يَحُزْها الذي نُحِلَها، حتى يكونَ إن مات لورثته، فهي باطلة (2). شروط القبض : حتى يصح القبض وتلزم الهبة لابدّ من تحقق شروط فيه، وهي: أ - إذن الواهب: يشترط لصحة القبض أن يكون بإذن من الواهب، فلو   (1) (الموطأ: كتاب الأقضية، باب: مالا يجوز من النحل). (2) المرجع المذكور في الحاشية السابقة. [إن مات هو: أي حضرته أسباب الموت وأيقن به]. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 قبضها الموهوب له قبل إذنه لم يصحّ القبض ولم تتم الهبة ولم تلزم. أي تبقى ملكية الموهوب للواهب، ويضمنه الموهوب له بقبضه بغير إذن. ويشترط أن يكون الإذن بالقبض صراحة، أو أن يُْقبض الواهب الموهوب بيده للموهوب له، سواء أكان ذلك في مجلس عقد الهبة أم بعده، وسواء أكان الموهوب في يد الموهوب له أم لا. فلو قبضه بلا إذن صريح أو إقباض لم يصح القبض، ولو رأى ذلك الواهب وسكت عنه. ب - أن لا يكون الموهوب مشغولاً بما ليس بموهوب، لأن الفراغ شرط صحة التسليم والقبض ولم يوجد. ولأن معنى القبض التمكّن من التصرّف في المقبوض، وهو لا يتحقق مع الشغل بغيره. فإذا فرغ الموهوب من الشغل بغيره وسلم صحّ القبض. وكذلك لو كان الموهوب متصلاً بغيره اتصال خلقه، كأرض فيها زرع، أو شجر عليه ثمر، فإذا ميز الموهوب عن غيره وسُلِّم صح القبض. وقد مرّ بك كلام نحو هذا في شروط الموهوب، وأنه يشترط فيه أن يكون متميزاً عن غيره غير متصل ولا مشغول به، على النحو الذي فُصِّل وبين. ج - أهلية القبض: يشترط فيمن يقبض الهبة أن يكون أهلاً للقبض، وهو البالغ العاقل، فلا يصح قبض الصبي والمجنون، لأن القبض من باب الولاية، وغير البالغ والعاقل لا ولاية له على نفس أو مال، فلا يصحّ قبضه. القبض بطريق النيابة: وهو القبض لمن لا يصحّ قبضه كالصبي والمجنون، فيشترط في صحة هذا القبض أن يكون للقابض ولاية على المقبوض له، أو عيلة: بأن يكون الصبي أو غيره في حجر وعيال من يقبض له، أي في رعايته وتربيته. ويجوز قبض الزوج عن زوجته الصغيرة بعد الزفاف، لأنها صارت في عياله. ويملك ذلك مع وجود وليّها على الصحيح ولو كان أباها، لأنه فوض أمورها إليه بزفافها، بخلاف ما قبل الزفاف، لأن هذا المعنى لم يحصل، ولأنها لم تدخل في عياله. وإذا وهب أحد من الأولياء شيئاً لمن تحت ولايته صحّت الهبة، وملكه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 الموهوب له بمجرد العقد، لأن الموهوب في قبض الولي فينوب عن قبض الهبة. ويكفي أن يعلم بما وهبه له، وإن أشهد على ذلك فهو أولى، تحرزاً من إنكاره لذلك فيما بعد، أو إنكار الورثة بعد موته. ومثل الأولياء مَن يكون الصبي وغيره في عياله وحجره ولو كان أجنبياً، فإنه إذا وهبه شيئاً ملكه بالعقد واعتبر وجود الموهوب في يده قبضاً له عن الهبة. حكم الهبة : إذا تم عقد الهبة، بتوفر شروطه: في الواهب والموهوب له والصيغة، والموهوب، وتم القبض للعين الموهوبة بشروطه السابقة، ترتب على ذلك حكم الهبة، وهو: ثبوت الملك للموهوب له في الموهوب من غير عوض. لأن الهبة تمليك العين بلا عوض - كما مرّ معنا - فكان حكمها ملك الموهوب من غير عوض. صفة حكم الهبة، وحكم الرجوع فيها : إن حكم الهبة الذي سبق ذكره يثبت على سبيل اللزوم، بمعنى أنه ليس للواهب أن يرجع بالهبة بعد ثبوت حكمها على النحو الذي سبق. ويستثنى من ذلك: هبة الأصل للفرع، فإن له حق الرجوع فيها بعد ثبوت حكمها. دلّ على ذلك: - قوله - صلى الله عليه وسلم -: " العائدُ في هبته كالعائد في قيئه ". وفي رواية: " ليس لنا مثل السوء: الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه " (البخاري في الهبة، باب: لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته، رقم: 2478، 2479. ومسلم في الهبات، باب: تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض، رقم: 1622). وجه الاستدلال بالحديث: أن الرجوع في القيء حرام، فكذلك ما شبه به وهو الرجوع بالهبة. وذكر الكلب في الرواية الأخرى مبالغة في الزجر والمنع. ويؤكد هذا أيضاً قوله: " ليس لنا مثل السوء " أي ليس هذا التصرّف من شأننا ولا خلقاً من أخلاقنا، أي فهو محرم علينا. - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل لرجل أن يعطي عطية، أو يهب هبة، فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده ". قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح. (أخرجه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 الترمذي في الولاء، باب: ما جاء في كراهية الرجوع في الهبة , رقم: 2133. وأبو داود في البيوع والإجارات، باب: الرجوع في الهبة، رقم: 3539). وقيس على الوالد سائر الأصل بهبته لفرعه: إذا خرج الموهوب من سلطانه وزال ملكه عنه، كما لو باعه أو وقفه أو وهبه لأحد وقبضه الموهوب له. أما لو أجره، أو وهبه لأحد ولم يقبضه الموهوب له، فإن ذلك لا يمنع الرجوع، لأنه ما زال في سلطانه، ولم يزل ملكه عنه. وكذلك إذا زاد الموهوب زيادة متصلة أو منفصلة، فإن هذا لا يمنع الرجوع، بل يرجع الواهب بالموهوب والزيادة المتصلة، كسمن دابة وحراثة أرض، لأن الزيادة المتصلة تبع للأصل. أما الزيادة المنفصلة، كالولد والثمرة، فإن كانت موجودة عند الهبة رجع بهاء وإن حدثت بعد الهبة فإنه لا يرجع بها بل تبقى للموهوب له، لأنها حدثت على ملكه. وكذلك لو وهبه دابة غير حامل، أو شجراً لا ثمر عليه، ثم حملت الدابة أو أثمر الشجر قبل الرجوع، فإنه لا يرجع بالحمل أو الثمر، ولو لم ينفصل عند الرجوع، وإنما يرجع بالأصل، وتبقى الثمرة ملكاً للموهوب له، لأنها معلومة، وقد حدثت على ملكه. ولو زال ملك الولد عن الموهوب، ثم عاد إليه بسبب آخر، كشراء أو هبة أو ميراث، لم يكن للوالد الرجوع فيه، لقيام تبدل سبب الملك مقام تبدل العين، فكأن الذي عاد غير عين الأول فلا حق له فيه. الهبة المطلقة والهبة بثواب : إذا وهب إنسان لآخر شيئاً، ولم يشترط في ذلك إثابة على هبته أو تعويضاً عنها، فإنه لا يستحق شيئاً من ذلك، ولا يلزم الموهوب له بالتعويض، لأنه الهبة المطلقة لا تقتضي إثابة ولا تعويضاً، سواء أكان الواهب أعلى من الموهوب له، أم مثله، أم دونه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 وإن كانت الهبة بثواب، أي بشرط العوض، كأن يقول: وهبتك هذا على أن تثيبني كذا، أو وهبتك هذا الكتاب على أن تعوضني هذا الثوب، أو تهبني كذا، ونحوه، ينظر: فإن كان العوض المشروط معلوماً: صح العقد وكان بيعاً على الصحيح، نظراً للمعنى، فإنه عقد معاوضة بمال معلوم فيصح، كما لو قال: بعتك كذا بكذا، إذ العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني. ولذا تثبت فيه أحكام البيع، فيثبت فيه خيار المجلس، وخيار الشرط، والرد بالعيب، وغير ذلك من أحكام البيع. وإن كان العوض المشروط مجهولاً: كأن يقول: وهبتك هذا الكتاب على أن تعوضني ثوباً، دون بيان لهذا الثوب أو تعيين له، أو: على أن تعوضني شيئاً، فالعوض المشروط في هذه الحالة مجهول، فيكون العقد باطلاً، إذ لا يمكن اعتباره بيعاً لجهالة العوض، كما لا يمكن اعتباره هبة لذكر العوض، والهبة لا تقتضيه. التسوية في الهبة للأولاد وعطاياهم : المراد بالهبات والعطايا هنا غير النفقة الواجبة، فيستحب للوالد - إذا أراد أن يهب أولاده ويعطيهم - أن يسوّي بينهم في الهبة والعطاء ذكوراً كانوا أم إناثاً، كباراً أم صغاراً، وذلك تمتيناً للمحبة فيما بينهم. ويكره له أن يميز بينهم، وأن يفضل بعضهم على بعض، بزيادة أو خصوصية، لما يؤدي إليه ذلك من الحسد بينهم وبغض بعضهم بعضاً، وتفكك روابط الأسرة. روى البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضي حتى تُشْهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، فقال: " أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ " قال لا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" قال: فرجع فرد عطيته (البخاري في الهبة، باب الإشهاد في الهبة، رقم: 2447. ومسلم في الهبات، باب: كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة، رقم: 1623). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 وهذا محل اتفاق بين العلماء، فقد أجمعوا على استحباب التسوية وإن اختلفوا في المراد منها وكيفيتها: فجمهور الشافعية والحنفية على أن المراد بها أن تعطى الأُنثى مثل ما يعطى الذكر لظاهر الحديث. ونقل عن محمد رحمه الله تعالى - من الحنفية - أن التسوية كقسمة الميراث، وإن كان نقل صاحب البدائع عنه ما يقتضي ظاهرة موافقة الجمهور وقال: وهو الصحيح. وحبذا لو أخذ الناس بهذا وعملوا به ولو كان قولاً مرجوجاً، إذا لكان منهم بعض الإنصاف لبناتهم، ولم ينكصوا على أعقابهم، ويعودوا إلى ما كان عليه أهل الجاهلية من حرمان الأُنثى من كل شيء، بحجة أن الذكر يتعب معهم، وأن ما يعطى للأنثى يذهب للغريب عن الأسرة، وهو زوجها وأولادها. وهذا إذا كانوا متساوين في الحاجة، أو لم يرضوا بالتفضيل، أما لو كان أحدهم أكثر حاجة من الآخرين أو رضي الآخرون بإعطائه زيادة، فلا بأس ولا كراهية بأن يخصّ بعضهم بزيادة عن غيره. ولو فضل الوالد بعض لده على بعض، أو أعطى بعضاً ومنع بعضاً، صحّت هبته، وملكها الولد الموهوب له، وإن كان الأب قد ارتكب مخالفة الشرع، وفعل غير المطلوب والمندوب. المساواة بين الوالدين في العطايا : من واجب الوالد البرّ بوالديه والإحسان لهما: قال الله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} النساء36. وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الإسراء23 والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 ومن جملة البرّ والإحسان النفقة عليهما، وتقديم الهدايا والهبات والعطايا في المناسبات، ولاسيما في العيدين: الفطر والأضحى. وكما تسنّ التسوية بين الأولاد في العطايا، تسنّ أيضاً بالنسبة للوالدين ولا بأس أن يفضل الأُم أحياناً ويخصّها بشيء من العطاء والإكرام، عملاً بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: " أمك " قال: ثم من؟ قال: " أمك " قال: ثم من؟ قال: " أبوك " (أخرجه البخاري في الأدب، باب: من أحق الناس بحسن الصحبة، رقم: 5626. ومسلم في البر والصلة والآداب، باب: برّ الوالدين وأنهما أحق به، رقم: 2548). المساواة بين الإخوة في الهبات : وممن يجب على المسلم البرّ بهم والإحسان إليهم الإخوة والأخوات، قال الله تعالى (وَذِي الْقُرْبَى) (النساء 36). وقال (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى) (البقرة: 177). وأقرب الناس إلى الإنسان بعد أولاده وأبويه: إخوته وأخواته، فينبغي أن يقدم لهم الهبات والهدايا، وخاصة في المناسبات.؟ وإذا فعل ذلك فيستحب له أيضاً أن يسوّي بينهم إذا كانوا في درجة واحدة من الحاجة، وإن أراد أن يخصّ بعضهم بشيء فليكن ذلك للأكبر، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " حق كبير الإخوة على صغيرهم كحقّ الوالد على ولده " وفي رواية " الأكبر من الإخوة بمنزلة الأب " (رواه البيهقي في شعب الإيمان). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 البَاب السابع الإجارة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 الإجارة تعريفها: في اللغة: اسم لما يُعطي من كراء لمن قام بعمل ما، جزاءً له علي عمله، فيقال له أجر وأجرة وإجارة. وأُجره وآجره إذا أثابه علي عمله، ولا يقال إلا في النفع دون الضُّر. ويغلب الأجر في الثواب الأخروي، والأُجرة في الثواب الدنيوي. وفي الاصطلاح: عرّفها صاحب " مغني المحتاج" بقوله: (عقد علي منفعة مقصودة معلومة، قابلة للبذل والإباحة، بعوض معلوم). والمراد بالعقد علي المنفعة أو المنافع تمليكها، كما جاء في بعض التعريفات لها: تمليك المنافع بعوض. وقد نصّ التعريف علي شروط المنفعة، وسيأتي بيان ذلك عند الكلام عن المنفعة وشروطها كركن من أركان الإجارة. مشروعيتها: أجمع المسلمون علي أن الإجارة جائزة ومشروعة، وعمدتهم في هذا الكتاب والسنّة 1 - أما الكتاب: فيقوله تعالي: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} الطلاق6. فقد أمر الله تعالي الآباء بإعطاء الأجر علي الإرضاع، فدلّ علي أن الأجر حق للمرضعة، وهي لا تستحقه إلا بالعقد، إذ لو أرضعت بدون عقد كانت متبرعة، والمتبرع لا يستحق شيئاً، فكان ذلك دليلاً علي مشروعية العقد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 ويُستأنس لها أيضاً بقوله تعالي علي لسان شعيب عليه السلام وبناته: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ. قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} القصص: 26ـ 27): أي أن تكون أجيراً لي ثماني سنين. وقلنا: يُستأنس بهذا استئناساً، لأنه وارد في شرع من قبلنا، وشرع مَن قبلنا - علي الأصح - ليس شرعاً لنا، حتى يكون هذا دليلاً علي الحكم في شرعنا. 2 - وأما السنّة: فقد ورد فيها أحاديث كثيرة، منها: - ما رواه البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها ـ في حديث الهجرة الطويل ـ قالت: واستأجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رجلاً من بني الدَّيْل ثم من بني عبد بن عديّ، هادياً خرَّيتاً ـ الخرِّيت الماهر بالهداية ـ وهو علي دين كفّار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحلَتَيْهما، ووعداه غار ثَوْر بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث، فارتحلا. (البخاري: الإجارة، باب استئجار المشركين عند الضرورة، رقم: 2144). ـ ما رواه مسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهي عن المزارعة، وأمر بالمؤاجرة وقال: " لا بأس بها ". وروي أيضاً: عن رافع بن خَديج رضي الله عنه قال: (كنّا أكثر الأنصار حقلاً، قال: كنا نُكْري الأرض علي أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك، وأما الورق فلم يَنْهََنا). وفي رواية: (أما بالذهب والورق فلا بأس به). (مسلم: البيوع، باب، كراء الأرض بالذهب والورق، وباب: في المزارعة والمؤاجرة، رقم: 1547، 1549). [قوله: (فلم ينهنا): أي فلم ينهنا عن كراء الأرض بالورق، وهو الفضة المضروبة. وقوله: (لنا هذه ولهم هذه): أي لنا ما تخرجه هذه القطعة من الأرض من زرع، ولهم ما تخرجه قطعة أخري]. ـ وما رواه البخاري أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 قال: " قال الله تعالي: ثلاثةُ أنا خصمُهم يوم القيامة: رجلّ أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفي منه ولم يعطه أجْرَه ُ". (البخاري: الإجارة، باب: إثم مَن منع أجر الأجير، رقم: 2150). [أعطي بي: عاهد باسمي أو حلف. غدر: نقض العهد ولم يف به، أو: لم يبر بقسمه. باع حرّاً: أي ادّعي أنه عبد مملوك فأعطاه مقابل ثمن وأخذ الثمن. فاستوفي منه: أي استوفي منه العمل الذي استأجره للقيام به]. أركان الإجارة وشروطها : للإجارة أركان أربعة، وهي: عاقدان، وصيغة، ومنفعة، وأُجرة. 1 - الركن الأول: العاقدان: وهما المؤجر والمستأجر. ويُشترط في كلَّ منهما أن يكون أهلا للتعاقد، بأن يكون بالغاً عاقلاً، فلا يصح عقد الإجارة من مجنون ولا صبي، لأن كلاً منهما لا ولاية له على نفسه ولا على ماله. وأن يكون غير محجور التصرف في المال، لأنها عقد يُقصد به المال، فلا يصحّ إلا من جائز التصرف فيه. 2 - الركن الثاني: الصيغة: وهي الإيجاب والقبول. فالإيجاب: كلُّ لفظ يصدر من المؤجر ويدل علي تمليك المنفعة بعوض دلالة ظاهرة، سواء أكان صريحاً أم كناية. فمن الصريح: آجرتك هذا أو أكريتك، أو ملكتك منافعه سنة بكذا. ومن الكناية: اسكن داري شهراً بكذا، أو جعلت لك منفعة هذا الشيء بكذا. والقبول: كل لفظ يصدر من المستأجر ويدل علي الرضا بتملك المنفعة دلالة ظاهرة، كقوله: قبلت أو استأجرت أو اكتريت أو استكريت، ونحو ذلك. ويقوم مقام الصيغة التعاطي إن جري العرف بذلك، كأن يدخل سيارة لنقل الركاب إلي مكان معلوم، دون أن يجري عقداً، ويعطي الأُجرة عند وصوله أو قبله، فإن ذلك صحيح، لأن التعاطي له حكم الإيجاب والقبول في الدلالة علي الرضا بالعقد إن جري به العرف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 ويشترط في الصيغة: أ - موافقة الإيجاب والقبول، فلو قال: آجرتك داري بمائة شهراً، فقال: قبلت بتسعين، لم يصح العقد للمخالفة بين الإيجاب والقبول، وذلك عنوان عدم الرضا الذي جُعلت الصيغة دليلاً عليه، وهو شرط صحة العقد. ب - أن لا يطول الفصل بين الإيجاب والقبول بسكوت أو كلام أجنبي عن العقد، لأن ذلك مُشعر بالإعراض عن العقد. جـ - عدم تعليقها علي شرط: كإذا جاء زيد فقد أجرتكها بكذا. 3 - الركن الثالث: المنفعة: ويشترط فيها شروط عدة، منها: أ - أن تكون متقوّمة، أي معتبرة ومقصودة شرعاً أو عرفاً، ليحسن بذل المال في مقابلتها، كاستئجار دار للسكن، أو دابة أو سيارة للركوب، لأنها إذا لم تكن ذات قيمة شرعاً كان بذل المال في مقابلها سفهاً وتضييعاً، وقد نهي الشرع عن إضاعة المال: ـ فلا يصح استئجار آلات اللهو، لحرمة منفعتها. وكذلك لا يصح استئجار لتصوير ذي روح، أو من تغنِّي أمام الأجانب، لحرمة ذلك. ـ ولا يصحّ استئجار كلب لصيد أو حراسة، لأن عينه لا قيمة لها شرعاً، فلا قيمة لمنفعته. ـ ولا يصح استئجار رجل ليقول كلمة لا تُتعب، وإن روّجت سلعة أو حصلت منفعة، وكذلك استئجار دراهم أو دنانير للتزيين بها. لأن مثل هذه المنفعة غير مقصود عرفاً، ولم يعتد الناس استيفاءه بعقد الإجارة. ب ـ أن يكون في مقدور المؤجر تسليمها، ليتمكن المستأجر من استيفائها. فلو كان المؤجر عاجزاً عن تسليم المنفعة، حساً أو شرعاً، لم تصح الإجارة. ـ فلا تصحّ إجارة مغصوب لغير مَنْ في يده، ولا يقدر علي انتزاعه مَمن في يده عقب العقد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 ـ ولا يصحّ تأجير سيارة مفقودة أو ضائعة. ـ ولا يصح استئجار أرض للزراعة، ليس لها ماء دائم، ولا يكفيها المطر المعتاد أو ما في معناه كالثلوج والنداوة. لعدم القدرة علي تسليم المنفعة في هذه الأشياء حسَاً. ومما لا تصح إجارته لعدم القدرة علي تسليم منفعة شرعاً: ـ استئجار المرأة الحائض أو النفساء لخدمة المسجد، لأن الخدمة تقتضي مكثها وترددها في المسجد، ولا يجوز لها ذلك، وإن أمنت تلويثه، لأنه أجيز لها العبور فيه، ولا التردّد والمكث. فهي لا تقدر علي تسليم المنفعة شرعاً. ولو استؤجرت غير الحائض لهذا، فحاضت أو نفست، انفسخت الإجارة، فإذا دخلت المسجد حال حيضها وقامت بالخدمة كانت آثمة، ولم تستحق الأجرة. ومثل خدمة المسجد تعليم القرآن. ـ وكذلك لا تصح إجارة امرأة متزوجة، لرضاع أو خدمة بغير إذن الزوج، لأن أوقاتها مستغرقة بحقه، فلا يجوز لها شرعاً شغل شيء من وقتها بغير حقه إلا بإذنه. فهي عاجزة إذن ـ شرعاً ـ عن تسليم المنفعة التي استؤجرت لها. ـ وكذلك لا يجوز إجارة امرأة مطلقاً للقيام بعمل يقتضي سفراً من غير صحبة زوج أو ذي رحم محرم، أو يقتضي خلوة بأجنبي، للحرمة الثابتة بالنهي الصريح والصحيح عن ذلك، فهي إذن غير قادرة شرعاً علي تسليم مثل هذه المنفعة. جـ - الشرط الثالث للمنفعة: أن يكون حصولها للمستأجر، لا للمؤجر: فلا تصح الإجارة علي القُرب التي تحتاج إلي نيّة ولا تدخلها النيابة كالصلاة والصوم، لأن منفعتها ـ وهي الثواب ـ تعود علي المؤجر لا المستأجر، ولأن القصد منها امتحان المكلف بالامتثال وكسر النفس، ولا يقوم غيره مقامه في هذا. وتصحّ الإجارة علي كل قربة وعبادة تدخلها النيابة وإن كانت تحتاج إلي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 نيّة. فتصحّ الإجارة علي الحج عن العاجز والميت، وكذلك الصوم عن الميت، ولذبح أُضحية، ونحر هدي، وتفرقة زكاة. لأن هذه العبادات ثبت في الشرع النيابة فيها عن غير المكلّف بها أصلاً وأما القرب والعبادات التي لا تحتاج إلي نيّة كفروض الكفالة: ـ فإذا كانت شائعة في الأصل ـ أي أن كل مسلم مخاطب بها، ولكنها إذا فعلها بعض المسلمين سقطت عن الباقين ـ كالجهاد، فلا يصحّ الاستئجار عليها، لأن المسلم الذي أجّر نفسه للجهاد إذا حضر المعركة تعيّن عليه الجهاد، فيقع جهاده عن نفسه لا عمّن استأجره، فلا تعود المنفعة علي المستأجر، وإنما تعود علي المؤجر، فلا تصحّ الإجارة. ـ وإن لم تكن شائعة في الأصل صحت الإجارة عليها، كتجهيز الميت من غسل وتكفين ودفن، فإنه يختص في الأصل بتركته، فإن لم تكن تركة فبمَن تجب عليه نفقته، فإن لم يكن، وجب علي أغنَياء المسلمين القيام به. وكذلك تعليم القرآن أو بعضه، لأن الأصل في التعليم أنه يختص بمال المتعلم أو مَن تلزمه نفقته. وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أحقَّ ما أخذتم عليه أجراً كتابُ الله ". (أخرجه البخاري في الطب، باب: الشرط في الرقية بقطيع من الغنم، عن ابن عباس رضي الله عنهما رقم: 5405). ومثل القرآن تعليم مسائل العلم والقضاء ونحو ذلك من فروض الكفاية، التي لا يقصد في الأصل كل مكلّف، فإذا استؤجر عليها وقام بها لم تقع عنه، لأنه غير مقصود بفعله، فلا تعود منفعته عليه. وكذلك الشعائر غير الواجبة كالأذان، فإنه تصح الإجارة عليه. د ـ الشرط الرابع: أن لا يكون في المنفعة استيفاء عين قصداً: فلا تصحّ إجارة البستان لاستيفاء ثمرته، ولا الشاة لاستيفاء صوفها أو لبنها أو نتَاجها، لأن الأصل في عقد الإجارة تمليك المنافع، فلا تملك الأعيان بعقدها قصداً. ولأن هذا في الحقيقة استهلاك لا انتفاع، وموضوع الإجارة في الأصل الانتفاع لا الاستهلاك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 فإذا تضمن عقد الإجارة استيفاء منفعة تبعاً لا قصداً جاز، كما إذا استأجر امرأة للحضانة والإرضاع، أو للإرضاع فقط، فإن ذلك يستتبع استيفاء لبن المرضع وهو عين، فيصحّ ذلك للضرورة أو الحاجة الداعية إليه. قال تعالي: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} الطلاق6. ومثل هذا لو استأجر داراً للسكني، ولها حديقة فيها أشجار مثمرة، جاز، لأن استهلاك الثمر تبع لاستيفاء المنفعة. هـ ـ الشرط الخامس من شروط المنفعة: أن تكون معلومة للعاقدين عيناً وصفة وقدراً. فيشترط لصحة الإجارة: - العلم بعين المنفعة: ويكون ذلك ببيان محلها، فلا تصحّ إجارة إحدى الدارين داراً دون تعيين، لجهالة عين المنفعة بجهالة محلها. وكذلك لو قال: أجرتك داراً، دون بيان أوصافها أو الإشارة إليها. وذلك أن المنفعة هي محل العقد في الإجارة، فلا بدّ من تعيينها ليصحّ العقد، ولما كانت المنفعة ليست شيئاً مادياً يمكن تجسيده وتعيينه، استُعيض عن ذلك ببيان محلها للضرورة، فيقوم بيان محل المنفعة مقام بيانها. - العلم بنوع المنفعة وصفتها: وذلك حين يكون المستأجَر يختلف الناس في الانتفاع به اختلافاً ظاهراً لا يُتسامح به عادة. فلا تصحّ إجارة أرض للزراعة دون أن تُعيَّن المزروعات التي ستزرع فيها، لأن أثر المزروعات علي الأرض يختلف من النوع إلي نوع، فإذا ذكر المستأجر أنه يستأجرها ليزرع فيها ما يشاء صحّ العقد، لأنه يُحمل علي الأشد، فإذا انتفع فيها بالأخف كان له ذلك من باب أولي. فإذا كانت المنفعة المرادة مما لا يختلف الناس فيها اختلافاً ظاهراً يؤدي إلي المنازعة صحت الإجارة دون بيان نوعها، وذلك كاستئجار الدور للسكني، فلا يشترط بيان مَن سيسكن معه من أُسرته، أو بيان ما سيضع في البيت من أثاث وأمتعة، لأن ذلك مما يتسامح الناس فيه عادة. فإذا انتفع بها بخلاف الغالب والمعتاد لم يكن له ذلك، كما إذا انتفع بالدار بصناعة أو تجارة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 وعليه: يشترط لصحة إجازة الدار إذا كانت في محلة ينتفع الناس فيها بالدور بالسكني وغيرها، أن يبيِّن نوع المنفعة من سكني أو تجارة أو صناعة، كما ذكرنا، وأن يبيّن نوع التجارة أو الصناعة كذلك. وكذلك يشترط لصحة الإجارة علي عمل: أن يبيّن نوع العمل الذي سيقوم به الأجير. - العلم بقدر المنفعة: ويختلف تقدير المنفعة باختلاف نوعها: فمنها ما يُقدَّر بالزمن، ومنها ما يقدر بالعمل، ومنها ما يصحّ فيه الأمران. أـ فما تقدر فيه المنافع بالزمن: هو كل منفعة لا يمكن ضبطها بغيره وتقلّ وتكثر، أو تطول وتقصر، كإجارة الدور للسكني، فإن سكني الدار تطول وتقصر، وكالإجارة للإرضاع، فإن ما يشربه الرضيع من اللبن يقلّ ويكثر، وكالإجارة لتطيين جدار، فإن التطيين لا ينضبط رقّة وسماكة. فمثل هذه المنافع لا يمكن تقديرها بغير الزمن، لأن تحصيلها لا ينضبط بغير ذلك. ولهذا جاء علي لسان شعيب عليه السلام: (عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) فقد قدّر منفعة استئجار موسي عليه السلام بالزمن، وإنما استأجره للرعي ونحوه، والرعي من هذا النوع من المنافع. ما تجوز عليه الإجارة من الزمن: وإذا قدرت المنفعة بالزمن وجب أن يكون مدة معلومة، تبقي فيها العين المؤجرة غالباً، ليتمكن المستأجر من استيفاء المنفعة المعقود عليها. والمرجع في معرفة المدة التي تبقي فيها كل عين غالباً إنما هو العرف وأهل الخبرة. ويختلف ذلك من عين إلي عين: ـ فالأرض ـ مثلاً ـ تصح إجارتها مائة سنة أو أكثر. ـ والدار: تصح إجارتها ثلاثين سنة. ـ والدابة: تصح إجارتها عشر سنين. وهكذا كل شيء علي ما يليق به، ويقدر أهل الخبرة أنه يبقي هذه المدة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 ما يستثني من زمن الإجارة: ويستثني من الزمن المستأجر عليه الزمن الذي تستغرقه العبادات الواجبة التي لا تؤدَّي إلا في المدة المستأجر عليها، وكذلك أوقات الطعام المعتادة لدي الإُجراء والمستأجرين. وكذلك إذا كانت المدة مقدرة بزمن طويل: استُثني أيام الأعياد الثابتة بالشرع، وأيام التعطيل الثابتة بالعُرْف، فإن الأجير يستحق الأجر علي هذه الأيام وتلك الأوقات ولو لم ينص عليها في العقد، فلا ينقصه المستأجر شيئاً من الأجر المتفق عليه لليوم أو الشهر أو السنة. ب ـ ما تقدر فيه المنافع بالعمل: وذلك إذا كانت المنفعة معلومة في ذاتها ولكنها قد تستغرق زمناً يقصر أو يطول، فلا يمكن ضبطها به. وذلك كالاستئجار لخياطة ثوب، وطلاء جدار، وطبخ طعام، ونحو ذلك. فإن مثل هذه المنافع تقدّر بالعمل ولا تقدّر بالزمن، لأن الزمن فيها قد يطول وقد يقصر، بينما العمل فيها منضبط ومحدد. جـ ما يصحّ تقدير المنفعة فيه بالزمن أو العمل: وذلك كاستئجار شخص لخياطة أو سيارة للركوب، فيصحّ تقدير المنفعة بالزمن كأن يستأجر يوماً ليخيط هذا الثوب. ويصحّ أن يستأجر السيارة لتوصله من دمشق إلي مكة مثلاً، فيكون تقدير المنفعة بالعمل، ولا ينظر إلي ما يستغرق من الوقت، كما يصحّ أن يستأجر السيارة يوماً أو يومين، فتكون المنفعة مقدرة بالزمن، سواء قطع بها المسفة أم لا، وركبها أم لا. ولا يصح أن تقدر المنفعة بالزمن والعمل معاً، كما إذا استأجره ليخيط له هذا الثوب بيوم، أو ليبني له هذا الجدار بيومين، أو ليوصله من دمشق إلي مكة بثلاثة أيام، لأن العمل قد لا يستغرق الوقت المحدد، وقد يزيد عنه، فيكون في ذلك غرر، فلا يصح العقد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 4 - الركن الرابع: الُأجرة: ويشترط في الأجرة ما يشترط في الثمن في العقد البيع، لأن الأجرة في الحقيقة هي ثمن المنفعة المملوكة بعقد الإجارة. فيشترط فيها: أ - أن تكون طاهرة: فلا يصحّ عقد الإجارة إذا كانت الأُجرة كلباً أو خنزيراً أو جلد ميتة لم يُدبغ أو خمراً، لأن هذه الأشياء نجسة العين. ففي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهي عن ثمن الكلب. وفيهما أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ". (البخاري: البيوع، باب: بيع الميتة والأصنام. وباب: ثمن الكلب، رقم: 2121، 2122. ومسلم في المساقاة، باب: تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي، وباب: تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، رقم: 1567، 1581). وكذلك إذا كانت عيناً متنجسة لا يمكن تطهيرها، كالخل واللبن والدهن المائع والزيت والسمن، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإراقة السمن المائع إذا تنجس. روي ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الفأرة تقع في السمن فتموت؟ قال: " إنْ كان جامداً ألقي ما حَوْلَها وأكَلَهُ، وإن كان مائعاً لم يقربه ". وفي رواية: " فأريقوه". (انظر: موارد الظمآن إلي زوائد ابن حبان: الأطعمة، باب: في الفأرة تقع في السمن، رقم: 331). فالأمر بإراقته والنهي عن قربه دليل علي أنه لا يمكن تطهيره، وبالتالي لا يجوز بيعه. ولما كانت هذه الأشياء لا يصحّ بيعها لنجاستها لم يصحّ جعلها أُجرة. وقيس علي ما ذُكر غيرها من الأعيان النجسة التي لم تذكر، وهي في معناها. ب - أن تكون منتفعاً بها: فلا يصحّ جعل الأجرة شيئاً لا يُنتفع به: إما لخسْته كالحشرات وكحبَّتي حنطة، وإما لإيذائه كالحيوانات المفترسة، وإما لحرمة استعماله شرعاً كآلات اللهو والأصنام والصور. وذلك لأن هذه الأشياء وأمثالها مما لا نفع فيه لا يُعََد مالاً، فلا يصحّ أخذ المال في مقابلته. والمنفعة التي هي محل عقد الإجارة مال متقوم كما ذكرنا، فلا يصح بذلها في مقابلة ما لا يُعدّ مالاً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 جـ - أن تكون نقدوراً علي تسليمها: فلا يصحّ أن تكون الأجرة طيراً في الهواء، ولا سمكاً في الماء، كما لا يصحّ أن تكون مالاً مغصوباً إلا إذا كانت لمن في يده المغصوب، أو لقادر علي انتزاعه منه. د - أن يكون للعاقد ولاية علي دفعها: بملك أو وكالة، فإن كانت الأُجرة لا ولاية للعاقد عليها بما ذُكر لم تصح الإجارة. هـ - أن تكون معلومة للعاقدين: فلا تصحّ إجارة الدار بما تحتاجه من عمارة، ولا إجارة سيارة بوقودها، أو دابة بعلفها، لجهالة الأُجرة في هذه الحالات. ومن الجهالة في الأُجرة أن تجعل جُزءاً من المأجور يحصل بعمل الأجير، كما إذا استأجره ليذبح شاة ويسلخها بجلدها أو جزء منها، للجهالة بثخن الجلد أو قدر الجزء. وكذلك إذا استأجره ليطحن له قدراً معيناً من القمح بجزء مما يخرج من دقيقه، كربعه أو خمسه، للجهالة بقدر الدقيق. ولأن الأجير ينتفع هنا بعمله، فيكون عاملاً لنفسه من وجه، فلا يستحق الُأجرة علي عمله. وقد روي الدارقطني (البيوع / الحديث: 195): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن قَفيز الطَّحَّان. وقد فسر بأن تُجعل أُجرة الطحن قفيزاً مطحوناً مما استؤجر لطحنه. [القفيز: مكيال كان معروفاً]. فلو استأجره بجزء من الحنطة ليطحن باقيها صحّ، لانتفاء المعني الذي مُنع من أجله، وهو الجهالة وكون الأجير عاملاً لنفسه. ويدخل في هذا المنع من باب أولي: - أن يعطي من يقوم بحصاد الزرع ـ بنفسه أو بواسطة الآلات ـ جزءاً من المحصول ـ كالعشر أو نحوه ـ أُجرة علي الحصاد. - أن يعطي جباة الأموال، للجمعيات ونحوها، جزءاً مما يجبونه من الأموال كاثنين في المائة ونحو ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 - أن يعطي سماسرة الدور ونحوها أيضاً جزءاً بنسبة معينة من قيمة ما يَبيعونه كاثنين في المائة أو ثلاثة. فهذه الأنواع الثلاثة من الإجارة غير صحيحة، لأن الأُجرة فيها مجهولة، وينبغي أن يعلم أن أخذ هذه الأموال بهذه الطريقة كسب خبيث غير مشروع، يُؤاخذ عليه من يأخذ ومَن يعطيه، فليحذر الذين يخالفون شرع الله تعالي، ولا سيما جباة أموال الجمعيات الذين كثيراً ما تكون الأموال التي يجبونها حقاً للفقراء والمساكين، فيأكلون جزءاً منها ظلماً وزوراً، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فليحذر هؤلاء سخط الله تعالي وعقابه. أقسام الإجارة وشروطها : الإجارة قسمان: إجارة عين وإجارة ذمة. 1 - فإجارة العين: هي الإجارة الواردة علي منفعة متعلقة بعين معينة. كما لو قال: أجرتك هذه الدار، أو السيارة الفلانية ـ لسيارة معينة يعرفها المتعاقدان ـ أو أن يستأجر شخصاً معيناً لعمل ما، أو ليخيط له هذا الثوب. 2 - وإجارة الذمة: هي الإجارة الواردة علي منفعة متعلقة بالذمة، كأن يستأجره ليوصله بسيارة موصوفة في ذمته إلي مكان معين، أو يؤجره سيارة موصوفة في ذمته مدة معينة، وكأن يلزم المستأجر المؤجر عملاً في ذمته كبناء أو خياطة أو نحو ذلك، فيقبل. ومن هذا النوع ما يحصل في هذه الأيام من استئجار وسائل النقل المختلفة، فإن الإجارة ترد علي منفعة موصوفة في الذمة، لا علي منفعة متعلقة بعين معينة. شروط إجارة العين: 1 - أن تكون العين المؤجرة معينة، فلا يصح أن يؤجره إحدى هاتين السيارتين، كما مرّ 2 - أن تكون العين المؤجرة حاضرة ومشاهدة من المتعاقدين، عند عقد الإجارة. فلو قال: أجرتك داري أو سيارتي أو ثوبي، وهما غائبان عن الدار، أو السيارة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 والثوب ليسا في مجلس العقد، لم تصحّ الإجارة، إلا إذا كان المتعاقدان قد شاهدا العين المؤجرة قبل العقد بمدة لا تتغير فيها غالباً فتصحّ الإجارة. 3 - أن لا يؤجل استيفاء المنفعة عن العقد، كأن يؤجره داره السنة المقبلة، أو يؤجره نفسه علي أن يبدأ العمل أول الشهر، أو يؤجره سيارته غداً، أو أن يؤجره داره سنة أو شهراً اعتباراًُ من أول الشهر القادم، وهكذا، إلاّ إذا كانت الإجارة للمستقبل لمن هو مستأجر للعين وقت العقد، لمدة تنتهي ببدء مدة الإجارة الجديدة فتصحّ الإجارة، لاتصال المدتين مع اتحاد المستأجر، فصار كما لو استأجر العين في المدتين في عقد واحد. شروط إجارة الذمة: 1 - أن تكون الأُجرة حالة، وأن تسلَّم في مجلس العقد، لأن هذه الإجارة سََلم في المنافع، فيشترط تسليم رأس مال السلم ـ وهو الأجرة ـ في مجلس العقد، واشتراط التأجيل كعدم التسليم. فلو اتفقا في العقد علي تأجيل الأُجرة لم تصحّ الإجارة حتى ولو سلمت في المجلس. وكذلك إذا لم يتفقا علي التأجيل ولم تسلم الأُجرة بالفعل في مجلس العقد. 2 - بيان جنس العين التي تُستوفي منها المنفعة ونوعها وصفتها. كما إذا عقد إجارة مع مكتب نقل لينقله إلي بلد معين، فينبغي بيان الوسيلة التي سينقله فيها: هل هي وسيلة جوية أو بحرية أو برية؟ وهل هي سيارة كبيرة أو صغيرة؟ وهل هي حديثة أو قديمة؟ وما إلي ذلك من أُمور تتفاوت فيها الأغراض. حكم الإجارة : إذا تم عقد الإجارة بتوفر أركانه وشروطه انعقد صحيحاً، وترتب عليه حكمه ـ أي أثره الشرعي ـ بمجرد انعقاده، وهو: - ثبوت الملك للمستأجر في منفعة المؤجَّر، وجواز تصرفه فيها واستيفائه لها. - ثبوت الملك للمؤجَّر في الأُجرة التي هي قيمة المنفعة التي ملكها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 المستأجر من حين العقد. ويراعي في هذا الملك: أنه كلما مضي جزء من الزمن، والعين المستأجرة سليمة في يد المستأجر، بأن أنه استقر ملكه في جزء من الأُجرة يقابل ما استوفي أو فات من المنفعة في ذلك الزمن الذي مضي. فإذا استوفي المنفعة كاملة، أو مضت مدة الإجارة، استقر ملكه في كامل الأُجرة حتى ولو لم ينتفع بالعين المؤجرة، طالما أنها سليمة في يده وسلطانه، لأن منافعها تلفت تحت يده فاستقر عليه بدلها، كما لو تلف المبيع في يد المشتري، فإنه يستقر عليه ثمنه. وإذا هلكت العين المستأجرة بعد استيفاء جزء من المنفعة أو تمكنه من ذلك ينظر: فإن كان هذا الجزء منتفعاً به عادة استقر للمؤجر ملك ما يقابله من الأُجرة، كما لو استأجر سيارة لتوصله إلى مكان معين، فعطبت قبل الوصول إليه، فإنه يستحق أجرة المسافة التي قطعت إن كان يمكن متابعة السفر دون مشقة من المكان الذي عطبت فيه السيارة، أو كان للمستأجر غرض بذلك المكان. وإن كان الجزء المستوفى من المنفعة لا ينتفع به عادة، كما لو كان مكان عطب السيارة لا يُقصد عادة، أو يصعب متابعة السفر منه، لم يستقر شيء من الأُجرة للمؤجر، وكان كهلاك العين المؤجرة قبل استلامها، أو قبل استيفاء شيء من منفعتها أو التمكّن منه. ويثبت الملك في الأُجرة سواء أكانت معجلة أم مؤجلة. وقد علمت إنه إذا كانت الإجارة ذمة لم يجز تأجيل الأُجرة، واشتُرط تسليمها في مجلس العقد. أما إذا كانت الإجارة إجارة عين: - فإن كانت الأُجرة معينة، كما إذا أجّره داره سنة بهذه الدراهم أو بهذه السجادة، وجب تعجيلها ولم يجز تأجيلها، لأن الأعيان لا تقبل التأجيل. - وإن كانت الأُجرة في الذمة، كما إذا أجّره داره سنة بألف درهم، جاز تعجيلها وتأجيلها، كما يجوز تعجيل بعضها وتأجيل بعض، وتقسيطها على الشهور حسب اتفاق المتعاقدين. فإذا لم ينص في العقد على التعجبل أو التأجيل كانت معجلة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 حق استيفاء المنفعة : علمنا أنه إذا تم عقد الإجارة صحيحاً ملك المستأجر منفعة العين المؤجرة، وبالتالي يثبت له حق استيفائها. وللمستأجر أن يستوفي المنفعة بنفسه، كما أن له أن يستوفيها بغيره. فإذا استأجر داراً كان له أن يسكنها بنفسه ومع غيره، وأن يسكنها غيره: إعارة أو إجارة. فلو شرط المؤجر على المستأجر أن يستوفي المنفعة بنفسه لم تصحّ الإجارة، وكان كما لو باعه شيئاً وشرط عليه أن لا يبيعه، فلا يصح عقد البيع. ويشترط لصحة استيفاء المنفعة بغير المستأجر: 1 - أن يكون مَنْ سٌلِّمت إليه العين المؤجَّرة ليستوفي منفعتها أميناً. 2 - أن يكون مساوياً للمستأجر في استيفاء المنفعة، أو أقل منه إضراراً بالعين المستأجرة فإذا استأجر داراً للسكنى فليس له أن يسلمها لمن يستعملها للصناعة أو التجارة. وإذا أجّره سيارة للركوب ليس له أن يسلمها لمن يستعملها للحمل ونحوه، إذا كان ذلك يضرّ بها أكثر من الركوب. وإذا أجرّه ثوباً ليَلْبَسه ليس له أن يُلْبَسَه مَن هو أضخم منه، وهكذا. الإجارة الفاسدة وأُجرة المثل: إذا اختلّ شرط من شروط الإجارة كانت الإجارة فاسدة، ووجب على المستأجر أن يردّ العين المؤجرة إذا كان قد استلمها. فإذا كان قد استوفى منافعها، أو مضى وقت يمكنه فيه الاستيفاء، وجب عليه أجرة المثل كاملة، سواء أكانت مساوية للأجرة المسمّاة أم أكثر منها أم أقل. وجمهور الحنفية قالوا: لا يزاد بأُجرة المثل على الأُجرة المسمّاة، لاتفاق المتعاقدين على حطّ ما فوقها. وكذلك إذا استوفي بعض المنفعة، ثم فُسخ العقد لفساده، وجبت أُجرة مثل المقدار المستوفى من المنافع وسقط الباقي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 ومثل المنفعة العين ما إذا كانت الإجارة على عمل، وعمل الأجير العمل المستأجَر عليه أو بعضه، فإنه يستحق أُجرة مثل ما عمل، كُلاًّ أو بعضاً، على الخلاف المذكور. وأُجرة المثل: هي الأُجرة التي يقدرها أهل الخبرة عادة لمثل العين المستأجرة أو العمل المستأجر عليه. والأُجرة المسماة: هي الأُجرة المتفق عليها بين المتعاقدين، وقد تزيد على أجرة المثل وقد تنقص. وإنما وجبت أجرة المثل في الإجارة الفاسدة لأن الإجازة بيع المنافع كما علمت، فإذا فسد العقد كان ما سمّياه من الأُجرة غير لازم، لأنه إنما يلزم بالعقد ولا عقد، والمنفعة كالعين المبيعة، فإذا استوفيت وجب بدلها، وهو أجرة المثل. ضمان العين المستأجرة : إن يد المستأجر على العين المستأجرة يد أمانة، فلا يضمن ما أصابها من تلف أو تعييب، سواء أكان ذلك أثناء استيفاء المنفعة أم قبلها أم بعدها. وذلك لأن قبضة لها قبض بحق، إذ لا يمكن استيفاء المنفعة - التي هي محل العقد في الإجارة - إلا بقبضها ووضع اليد عليها وتبقى العين المستأجرة غير مضمونة في يد المستأجر ما دام لم يتعدّ في استعمالها أو يقصر في حفظها. فإذا استأجر داراً للسكنى فسكنها، ثم أصابها حريق - مثلا - بسبب ما يستعمل عادة في الدار من وسائل الوقود وبدون إهمال أو تقصير، فلا يضمن ما نتج من أضرار عن ذلك الحريق. أما لو حدث الحريق بسبب لا يكون عادة في دور السكن، كما لو استعمل فيها النار لصناعة حدادة ونحو ذلك، فإنه يضمن، لأنه تعدّى بالاستعمال حيث استعمل الدار لغير ما استأجرها من اجله. وكذلك لو نتج الحريق بسبب إهمال أو تقصير، كما لو ترك المدفأة موقدة أثناء النوم، فنتج عن ذلك حريق، فإنه يضمن ما نتج عن ذلك من أضرار بالدار، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 لأن تركه لها موقدة أثناء النوم تقصير أو إهمال، ولأنه خلاف المعتاد لدى الغالبية العظمى من الناس، ولأنه منهي عنه شرعاً أيضاً، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال " لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون " وبلغه أنه احترق بيت بالمدينة على أهله من الليل، فقال: " إن هذه النار إنما هي عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم " (البخاري الاستئذان، باب: لا تُترك النار في البيت عند النوم، رقم: 5935، 5936. ومسلم: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء ... وإطفاء السراج والنار عند النوم .... ، ورقم: 2015، 2016). وكذلك لو كان ذلك بسبب ترك وسائل الإيقاد في أيدي الصغار ونحوهم. وهكذا أيّ ضرر يصيب العين المستأجرة بسبب سوء الاستعمال، كما لو استأجر سيارة للركوب وأسرع بها في السير في الأماكن المزدحمة أو الطرقات الوعرة، فنتج عن ذلك ضرر لها. وكذلك إذا قصر في الحفظ، كأن يضع العين المستأجرة في مكان لا توضع فيه عادة، كما إذا وضع السيارة في منتصف الطريق، أو مكان غير مأمون دون حراسة، فإنه يضمن ما يطرأ عليها من حوادث. أما لو وضعها في مكان مأمون يعتاد الناس وضعها فيه، ثم أصابها شيء، فإنه لا يضمنه. وكذلك يضمن المستأجر العين المؤجرة إذا استعملها بعد انتهاء مدة الإجارة، أو لم يستعملها ولكنه لم يخل بينها وبين مالكها. أما لم يستعملها، وأصابها شيء قبل التمكّن من ردّها أو التخلية بينها وبين مالكها، فإنه لا يضمن، استصحاباً لما كان قبل انتهاء المدة من عدم الضمان. ضمان الأجير : الأجراء نوعان: أ - أجير خاص: وهو الذي يتعاقد معه المستأجر علي القيام بعمل ما مدةً من الزمن، يستحق المستأجر نفعه فيها جميع الوقت، ويستحق الأجير فيها الأجر ولو لم يقم بعمل، أو يتعاقد معه المستأجر ليقوم له بعمل معيَّن دون أن يتقبل عملاًً آخر لغيره قبل انتهائه، كالعمال في المعامل، والأجراء في الحوانيت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 ودور الصناعة كالخياطين وغيرهم، وكذلك الدهّان في البيت والبنّاء والنجار، ومَن إلي مَمن يعملون في حوزة المستأجر أو بحضوره، فأمثال هؤلاء الأجراء لا يضمنون ما استؤجروا عليه وما تحت أيديهم أو تعيَّب، كما إذا تعمد الإتلاف، أو تساهل وقصر بأسباب الحفظ وأُصول العمل. وذلك لأن يد المستأجر ثابتة حكماً علي ما استأجر عليه الأجير، وإنما استعان بالأجير لشغله وتصنيعه، فصار كالمستعين بالوكيل. ب - أجير مشترك: وهو الذي يتعاقد معه المستأجر علي عمل معين يقوم به، ويستحق الأجر بانتهائه، ويمكن أن يتعاقد مع كثيرين علي مثل هذا العمل أو غيره في زمن واحد، ولا يكون عمله غالياً في حوزة المستأجر أو حضوره، وإنما يستقل بعمله في منزله أو دكانه أو معمله، كالخياط والصبّاغ والكوّاء والحمّال إذا حمل لاثنين فأكثر، ومصلحي السيارات ونحو ذلك. فهؤلاء الأُجراء أيضاً ـ ويسمَّوْن لدي الفقهاء أحياناً: الصُّنّاع ـ لا يضمنون إلا بالتعدي. والعين أمانة في يد الأجير، لأنه متطوع بالحفظ إذ الأُجرة مقابل العمل، ولأن قبضه للعين إنما هو لمصلحة المستأجر، فلا يضمن إلا إذا تعدَّي أو قصر. وذهب أبو يوسف ومحمد ـ من أصحاب أبي حنيفة ـ رحمهم الله تعالي إلي: أن الأجير المشترك يضمن ما هلك تحت يده، إلا إذا كان الهلاك بسبب عام لا يمكن الاحتراز عنه كالحريق والغرق الغالب، فإذا كان الهلاك أو التلف بسبب يمكن الاحتراز عنه غالباً، كالسرقة ونحوها، فإنه يضمن. وحجتهم في هذا: الحفاظ علي مصالح الناس، لأن أمثال هؤلاء الأُجراء إذا لم يضمنوا ما تحت أيديهم من الصناعات استهانوا بأمتعة المستأجرين وأموالهم، وتقبلوا أعمالاً تفوق إمكاناتهم وقدرتهم علي حفظها، والناس في حاجة شديدة إلي صناعاتهم، فكانت المصلحة في تضمينهم، ضرورة حملهم علي الحرص والمحافظة علي ما في أيديهم من أموال الناس (1).   (1) انظر المسألة مفصلة بأدلتها لدى المذاهب الفقهية في كتاب (أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي) للدكتور مصطفى البغا، ص 71. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 ونري أن العمل بهذا هو الأرجح في أيامنا هذه. انتهاء الإجارة : تنتهي الإجارة وتنقضي أحكامها بأمور، هي: 1 ـ الفسخ: عقد الإجارة عقد لازم من الطرفين، أي بعد انعقاده صحيحاً ليس للمؤجر أو المستأجر فسخه متى شاء، ولا يفسخ إلا بعذر، وإذا فسخ فقد انتهت الإجارة. ومن الأعذار التي تنفسخ بها الإجارة: أهلاك العين المؤجرة في إجارة العين، فإذا استأجر داراً معينة أو سيارة معينة، ثم تهدمت الدار أو عطبت السيارة استيفاء شيء من المنفعة فقد انفسخت الإجارة، لفوات المحلّ المعقود عليه. ومثل تلف العين تعيبها بحيث يتعذر استيفاء المنفعة المقصودة منها. فإذا حصل التلف أو العيب بعد استيفاء شئ من المنفعة: انفسخت الإجارة بالنسبة للمستقبل من حين الهلاك، ويستحق المؤجر أجرة ما استوفي من المنفعة بقسطه من الأجرة المتفق عليها في العقد. فإذا كانت الإجارة إجارة ذمة، كما إذا استأجره ليوصله بسيارة موصوفة في الذمة إلي مكان كذا، فأحضر سيارة ثم عطبت أو تعيبت، فإن الإجارة لا تنفسخ، بل علي المؤجر أن يأتي ببدلها، سواء أكان ذلك قبل استيفاء شيء من المنفعة أم بعد استيفاء بعض منها، لأن المعقود عليه لم يفت بهلاك السيارة المحضرة، لأن العقد لم يرد علي سيارة معينة، وإنما علي سيارة موصوفة في الذمة، فيمكن استبدالها. ومثل العين المستأجرة في كل ما سبق: الأجير، فإذا استأجر شخصاً معيناً ليقوم بعمل، ثم مات أو مرض مرضاً يتعذر معه القيام بالعمل المستأجر عليه، انفسخت الإجارة. وإذا كانت إجارة ذمة، فأحضر له مَن يعمل فحصل الموت أو المرض، لم تنفسخ الإجارة، لأن استيفاء المنفعة يمكن أن يكون بغيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 ب - عدم تسليم العين المؤجرة في المدة: إذا كانت الإجارة إجارة عين، وكانت المنفعة محددة بمدة من الزمن، وانقضت تلك المدة ولم يسلم المؤجر العين المؤجر ة، فقد انفسخت الإجارة لفوات المعقود عليه قبل قبضه. وكذلك إذا كانت الإجارة إجارة ذمة، ولم يُحضر المؤجَّر ما تُستوفي منه المنفعة في الوقت المتفق عليه. فإذا لم يُحدد وقت لاستيفاء المنفعة ولم يتعلق به غرض أصلي للمستأجر، ولم يُحضر المؤجِّر ما تُستوفي منه المنفعة حتى مضي وقت يمكن استيفاؤها فيه، فلا فسخ ولا انفساخ، لأنه دين تأخر وفاؤه. فإذا سلم المؤجر العين المؤجرة أو أحضرها بعد مضيّ بعض مدة الإجارة الفسخ العقد فيما مضي، وكان المستأجر بالخيار فيما بقي. وإذا كانت المنفعة محددة بعمل، وتأخر تسليم العين حتى مضي وقت يمكن فيه إنجاز العمل، لم تنفسخ الإجارة، لأن العقد تعلق بالمنفعة لا بالزمن، فلم يتعذر الاستيفاء حتى تنفسخ الإجارة. ما لا تنفسخ به الإجارة: أ - لا تنفسخ الإجارة بخروج العين المؤجرة من ملك المؤجر، كما إذا أجر داراً ثم وهبها أو باعها، لأن عقد الإجارة يرد علي المنفعة فلا يمنع بيع الرقبة. وتنتقل ملكية العين حين عقد البيع أو الهبة إلي المشتري أو الموهوب له دون المنفعة، لأن البائع أو الواهب ما كان يملكها حين العقد. وتبقي في يد المستأجر إلي انتهاء مدة الإجارة، ولكن يثبت للمشتري الخيار إن كان يجهل الإجارة، أو كان يعلمها ويجهل مدتها. ب - وكذلك لا تنفسخ الإجارة بموت أحد المتعاقدين المؤجر أو المستأجر ولا بموتهما، بل تبقي إلي انقضاء المدة، لأنها عقد لازم فلا ينفسخ بالموت كالبيع، ويخلف المستأجرَ في استيفاء المنفعة وارثُه. جـ - وكذلك لا تنفسخ الإجارة بعذر طرأ في غير المعقود عليه: - كما أجر سيارة وهو سائق لها، فمرض وعجز عن الخروج مع المستأجر، لأنه يمكن استيفاء منفعة العين المؤجرة بغيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 - وكذلك لو استأجر سيارة للسفر عليها، ثم مرض المستأجر وتعذر عليه السفر، أو استأجر داراً للسكني، ثم اضطر إلي السفر. 2 ـ استيفاء المنفعة المعقود عليها: ينتهي عقد الإجارة حكماً باستيفاء المنفعة المعقود عليها: فإن كانت مقدرة بعمل انتهت الإجارة بإتمام العمل، وإن كانت مقدّرة بزمن انتهت الإجارة بمضي ذلك الزمن. فإذا استعمل المستأجر العين المؤجرة بعد انتهاء الإجارة وجب عليه أُجرة المثل، مقابل ما استوفاه من المنفعة بعد استيفاء المعقود عليه، وكان ضامناً للعين المؤجرة، لأنه تعدي باستعمالها بغير عقد. وكذلك إن استأجر أرضاً مدة لزراعة معينة، وانقضت المدة ولم يستحصد الزرع، فإنه لا يُجبر علي قلعه، لما في ذلك من ضرر عليه، وإنما يجب عليه أُجرة المثل للمدة التي شغل بها الأرض بعد انتهاء مدة الإجارة، ولكنه لا يكون ضامناً الأرض، لأنه لم يكن متعدياً بالاستعمال. الخيارات في عقد الإجارة 1 ـ خيار المجلس وخيار الشرط: لا يثبت في عقد الإجارة خيار المجلس ولا خيار الشرط، لأن عقد الإجارة من عقود الغرر، لأنها عقد علي معدوم، وهي المنافع، فإنها معدومة عند العقد، وإنما شرعت تيسيراً لحاجة الناس إليها. والخيار أيضاً غرر، فلا يكون فيها، لأنه يصير عندئذ ضم غرر إلي غرر، ولا يصحّ التعاقد حال وجود الغرر الكثير. 2 ـ خيار العيب: أما خيار العيب فإنه يثبت في إجارة العين، فإذا حدث عيب بالعين المؤجرة، وأثّر في منفعتها تأثيراً يظهر في تفاوت أُجرتها حال كونها سليمة وحال كونها معيبة بذلك العيب، كما لو استأجر أرضاً للزراعة فانقطع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 ماؤها، أو سيارة للركوب فعطبت عجلاتها ولم يبادر المؤجِّر إلي إصلاح ذلك العيب، كان المستأجر بالخيار بين إمضاء الإجارة أو فسخها، ولا شيء عليه حال الفسخ إن كان قبل مضي شيء من الوقت، فإن كان بعد مضي شيء من الوقت لمثله أُجرة: ثبت عليه قسطه من الأجرة المسماة في العقد. ولا يثبت خيار العيب في إجارة الذمة، فإذا أحضر المؤجر عيناً تُستوفي منها المنفعة المعقود عليها في الذمة، ثم تعيَّبت تلك العين المحضرة، وجب علي المؤجر أن يُحضر بدلها، لأن المعقود عليه في الذمة مقَّيد بوصف السلامة، وما أحضره غير سليم، فإذا لم يرض به المستأجر رجع إلي ما في الذمة، فلا ينفسخ عقد الإجارة. اختلاف المؤجر والمستأجر في دعوي الرد أو التلف أـ دعوي التلف: إذا تلفت العين المؤجرة أو تعيّبت في يد المستأجر، وادعي المستأجر أنه لم يتعدّ بذلك، وإنما حدث بآفة سماوية أي بسبب قهري خارج عن إرادته، أو حدث بسبب الاستعمال المأذون به عادة، وادّعي المؤجر أن ذلك حصل بتعدّ من المستأجر، من تجاوز في الاستعمال أو تفريط وعدم حفظ للعين المؤجرة. فالذي يُقبل قوله هو المستأجر، فيُصدَّق بيمينه، لأن المؤجر يدّعي التعدّي والمستأجر ينكره ويدّعي عدمه، والأصل عدم التعدي وبراءة الذمة من الضمان، فالقول قول مدعي الأصل بيمينه. ب ـ دعوي الرد: وإذا اختلف المؤجر والمستأجر: فادعي المستأجر أنه ردّ العين المستأجرة إلي المؤجر، وأنكر ذلك المؤجر فقال: إنك لم تردّها عليّ. فيقبل قول المؤجر بيمينه، لأن المستأجر قبض العين المؤجرة لمنفعته، والأصل عدم الرد، والمستأجر يدّعيه، فالقول قول المنكر بيمينه، فيُقبل قول المؤجرة، لأنه ينكر الرد ويدّعي الأصل وهو عدم الرد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 البَاب الثَامن الجعَالة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 الجعالة تعريفها: الجعالة - في اللغة - بفتح الجيم وكسرها وضمها، وهي اسم لما يجعله الإنسان لغيره على شيء يفعله، ويقال لها جُعْل وجعيلة. وشرعاً: هي التزام عوض معلوم على عمل معَّين، معلوم أو مجهول، بمعين أو مجهول. أي يحصل هذا العمل من عامل معين أو مجهول، وسيتضح لنا معنى التعريف عند الكلام عن أركانها. مشروعيتها: الجعالة مشروعة، وقد دلّ على مشروعيتها: ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: انطلق نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حيَّ من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبَوْا أن يضيِّفوهم، فلُدغ سيد ذلك الحيّ، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا، لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتَوْهم فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لدغ، وسعَيْنا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم يضيَّفونا، فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً. فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ: (الحمد لله رب العالمين) فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة. قال: فأوفَوْهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا. فقدموا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له، فقال: "وما يدريك أنها رقية؟! ". ثم قال. " قد أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم سهماً " فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (البخاري الإجارة، باب: ما يُعطى في الرقية .. , رقم: 2156. مسلم: السلام، باب: جواز أخذ الأُجرة على الرقية ... ، رقم: 2201). فقوله - صلى الله عليه وسلم - تقرير لفعلهم، وهو دليل على مشروعية الجُعْل. [فلدغ: لسعته حية أو عقرب. الرهط: جماعة الرجال ما دون العشرة. لأرقى: من الرقية، وهي كل كلام يُستشفى به من وجع أو غيره. جعلاً: عطاءً على ما أفعله. فصالحوهم: اتفقوا معهم. قطيع: قبل القطيع ثلاثون من الغنم. يتفل: ينفخ مع بصاق قليل. نشط من عقال: فُك من حبل كان مشدوداً به. قَلَبَة: علة. اضربوا لي: اجعلوا لي منه نصيباً]. واستؤنس لها بقوله تعالى: (قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ) (يوسف: 72). فهو وإن كان ورد في شرع من قبلنا، فقد جاء في شرعنا ما يقرره، كما علمت من الحديث السابق، فيُستأنس به للمشروعية، وإن كان لا يعتبر دليلاً. [صُواع: مكيال خاص. زعيم: ضامن وكفيل]. حكمتها : وحكمة مشروعيتها أن الحاجة داعية إلى مثل ذلك، فقد يفقد الإنسان شيئاً ولا يجد من يتطوع له بالبحث عنه وردّه عليه، وقد يعجز عن عمل لا تصحّ الإجارة عليه للجهالة فيه، فيستعين على تحصيل ذلك بمَن يقوم به على جُعْل يلتزمه، فشُرعت تحقيقاً لهذه المصلحة وتلبية لتلك الحاجة. أركانها: لها أربعة أركان: عاقدان، وصيغة، وعمل، وعوض. 1 - العاقدان: وهما: * الجاعل: صاحب العمل الذي يلتزم بالجعل، ويُشترط فيه أن يكون مكلفاً أي بالغاً عاقلاً رشيداً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 * والعامل: وهو الذي يقوم بالعمل، ويستحق الجعل عليه. ولا يُشترط أن يكون معَّيناً، كأن يقول: مَن ردّ علي سيارتي فله كذا، ولأنه قد يكون له عمل يحتاج إلى إنجازه، ولا يعرف من يقوم به، فجاز أن يجعل جعلاً لمن يقوم به ولو كان مجهولاً. 2 - الصيغة: وهي لفظ يدل على الإذن في العمل المطلوب بعوض ملتزم، كقول الجاعل: مَن ردّ علي سيارتي - مثلاً - فله كذا. أو أن يقول لطبيب: إن عالجتَ مريضي فبرأ فلك كذا، أو أن يقول لمعلِّم: إن علّمت ولدي القراءة والكتابة فلك كذا، ونحو ذلك. لا يُشترط قبول من يقوم بالعمل، ولو كان معِّيناً، لأنها تجوز من إبهام العامل وجهالته، فيكفي العمل. 3 - العمل: وهو ما شرطه صاحب المال لاستحقاق الجعل، من ردّ ضالة، أو تعليم صبيّ، أو معالجة مريض، وما إلى ذلك. ولا يُشترط أن يكون العمل معلوماً كالمنفعة في الإجارة، التي قد علمنا أنها تحدَّد بعمل أو زمن، فتصحّ الجعالة ولو كان العمل مجهولاً، أي غير محدّد بفعل أو زمن، فقد يستغرق ردّ الضالة أو تعليم الصبي - مثلاً - زمناً طويلاً أو قصيراً، وقد يكلفه الكثير من الجهد وقد لا يكلفه، فكل ذلك جهالة في العمل، وهي مغتفرة للحاجة إلى ذلك. 4 - العوض: وهو ما يلتزمه صاحب المال للعامل، ويشترط أن يكون معلوماً، لأنه عقد معاوضة، فلا تجوز بعوض مجهول. فلو شرط جعلاً مجهولاً كان العقد فاسداً، فإذا قام العامل بالعمل استحق أُجرة المثل، لأن كل عقد وجب المسمى والمعين في صحيحه وجب المثل في فاسده. أحكامها : للجعالة أحكام عدّة، وهي: 1 - هي عقد جائز أي غير لازم، بل هو قابل للفسخ من صاحب العمل متى شاء، كما أن للعامل أن يرجع عن عمله من شاء، رضي الطرف الآخر أو لم يرض، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 علم بذلك أو لم يعلم. وذلك لأنها عقد على عمل مجهول بعرض، فجاز لكل واحد من المتعاقدين فسخه. فإن فسخه العامل لم يستحق شيئاً، ولو قام بشيء من العمل، لأنه لا يستحق الجعل إلا بالفراغ من العمل - كما ستعلم - وقد تركه، فسقط حقه. وإن فسخ صاحب العمل: فإن كان قبل الشروع بالعمل لم يلزمه شيء، لأنه فسخ قبل أن يستهلك شيئاً من منفعة العامل، فلم يلزمه شيء. وإن كان بعد الشروع بالعمل لزمه أجرة المثل لمل عُمِل، لأنه استهلك شيئاً من منفعته بشرط العوض، فلزمته أُجرته. 2 - لا يستحق الجعل إلا بإذن صاحب العمل، كأن يقول: مَن وجد لي ضالّتي الفلانية فله كذا. فإذا عمل عامل بدون إذن لم يستحق شيئاً، كما إذا وجد إنسان ضالة لآخر فردّها عليه، أو علّم ولده دون إذن منه، لأنه بذل منفعته من غير عوض، فلم يستحقه. فإن أذن له بالعمل ولم يشرط له جعلاً: فالمذهب أنه لا يستحق شيئاً، وقيل: تلزمه أُجرة مثل عمله، إن كان العامل معروفاً أنه يقوم بمثل هذا العمل بالأُجرة. وإن أذن لشخص بالعمل، فعمل غيره فلا شي له، وإن كان معروفاً بالقيام بهذا العمل بعوض، لأنه لم يلتزم له بعوض، فوقع عمله تبرعاً. 3 - لا يستحق العامل الجعل إلا بالفراغ من العمل، كالبرء من المرض إن كان الجعل على الشفاء، أو الحذق بالقراءة والكتابة إن كان على التعليم مثلاً، أو تسليم الضالة إن كان على ردّها، وهكذا. وإن اشترك في العمل أكثر من واحد اشتركوا في الجعل بالتساوي وإن تفاوت عملهم، لأن العمل لا ينضبط حتى يوزَّع الجعل بنسبة ما قام به كل منهم. 4 - تجوز الزيادة والنقص في الجعل قبل الفراغ من العمل، فلو قال لشخص: اعمل كذا ولك عشرة، ثم قال: اعمله ولك عشرون أو: ولك خمسة لزمه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 بالفراغ منه ما قاله أخيراً من العشرين أو الخمسة، إن كان قاله قبل الشروع بالعمل، وقد علم به العامل إن كان معيناً، أو أعلنه صاحب العمل إن كان العامل غير معين. وإن كان ذلك بعد الشروع بالعمل وجبت أُجرة المثل للعامل، لأن الالتزام الثاني فسخ للأول، والفسخ أثناء العمل يقتضي الرجوع إلى أُجرة المثل. وكذلك الحال إذا كان قبل الشروع ولم يعلم به العامل المعين، أو لم يعلنه الملتزم، استحق أُجرة المثل على الراجح. 5 - إذا اختلف العامل وصاحب المال: فإن اختلفا في شرط الجعل: فقال العامل شرطت جعلاً على هذا العمل، وقال صاحب المال: لم أشرط، فيقبل قول صاحب المال بيمينه، لأن الأصل عدم الشرط، ولأن العامل يدّعى عليه الضمان والالتزام، والأصل عدمه، والقول المعتبر هو قول مَن يتمسك بالأصل مع يمينه. و ... كذلك لو اختلفا في العمل الذي شرط له الجعل: كأن يقول صاحب المال: شرطت الجعل لردّ سيارتي الضائعة، ويقول العامل: بل شرطته لرد متاعك الفلاني الضائع. أو اختلفا فيمن قام بالعمل: فقال زيد من الناس: أنا الذي قمت بهذا، وقال صاحب العمل: بل قام به فلان غيرك. ففي الصورتين يُصدِّق صاحب العمل بيمينه، لأن العامل يدعى عليه شرط الجعل في عقد الأصل عدمه، كما أنه يدّعي عليه شغل ذمته، والأصل براءة ذمته. وإن اختلفا في قدر الجعل أو صفته أو جنسه، كأن قال العامل: شرطت لي ألف درهم، فقال صاحب المال: بل شرطت خمسمائة، أو قال: شرطت عشرة دنانير، فقال: بل عشرة دراهم، ونحو ذلك، تحالفا، أي حلف كل منهما على إثبات قوله ونفي قول الآخر. فإذا حلفا تساقطت أقوالهما، واستحق العامل أجرة المثل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 وكذلك لو اختلفا في العمل: فقال العامل: شرطت لي كذا على هذا العمل وحده، وقال صاحب العمل: بل شرطته على هذا العمل وذاك. ما تختلف به الجعالة عن الإجارة: تختلف الجعالة عن الإجارة من أوجه هي: 1 - جواز الجعالة على عمل مجهول، بينما لا تصح الإجارة إلا على عمل معلوم. 2 - تصحّ الجعالة مع عامل غير معيّن، ولا تصحّ الإجارة مع مجهول. 3 - في الإجارة لا بدّ من قبول الأجير القائم بالعمل، وفي الجعالة لا يشترط قبول العامل. 4 - في الجعالة لا يستحق الجعل إلا بالفراغ من العمل، ولو شرط تعجيله فسد العقد. وفي الإجارة له أن يشرط تعجيل الأجرة. 5 - الجعالة عقد جائز كما علمنا، بينما الإجارة عقد لازم، ليس لأحدهما أن يفسخه إلا برضا الآخر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 البَاب التَاسِع الصُلح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 الصلح تعريفه: هو - في اللغة - قطع النزاع والتوفيق بين الخصوم وإحلال السلم بينهم. وشرعاً: عقد يحصل به التوفيق ورفع النزاع. مشروعيته: - الصلح جائز ومشروع، وربما كان مندوباً إليه، وقد وصفه القرآن بأنه خير، قال تعالى: {والصُّلْحُ خَيْرٌ} (النساء: 128) وذلك دليل على مشروعيته، لأن كل ما كان خيراً فهو مشروع، وكل ما كان شراً فهو في شرع الله تعالى ممنوع. وقال تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (النساء: 114) [نجواهم: حديث الناس وكلامهم] وستأتي أدلة أُخرى من القرآن على مشروعيته. وقد تثبتت مشروعيته أيضاً في السنة. روى عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً)). أخرجه الترمذي في أبواب الأحكام، باب: ما ذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلح بين الناس، رقم 1352. وأبو داود في الأقضية، باب: الصلح رقم: 3594. وابن ماجه في الأحكام، باب: في الصلح، رقم 2353). وخُصَ المسلمون بالذكر لأنهم المقصودون غالباً في الخطاب، ولأنهم ألأكثر انقياداً لشرع الله تعالى، وإلا فغير المسلمين في هذا كالمسلمين. وقد أجمع المسلمون في كل العصور على مشروعية الصلح، وقد ورد عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 عمر رضي الله عنه أنه قال: (ردّوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث الضغائن). قال ذلك في حضور الصحابة رضي الله عنهم، ولم ينكر عليه أحد منهم، فكان ذلك إجماعاً ذلك منهم على مشروعية الصلح. حكمة مشروعيته : الإسلام دين الوحدة والأُخوة، والتعاون والتضامن، ونبذ التفرقة وأسبابها وما يؤدي إليها، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) (آل عمران: 103). ولذا نجد شرع الله تعالى يحثّ الناس على أداء الحقوق لأصحابها، لأن الإخلال بذلك هو الغالب في إثارة الخصومة والنزاع، فقال تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 188). وفي موضع آخر قرن بين ذلك وقتل النفس بغير حق، لأنه غالباً ما يؤدي إليها، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) (النساء: 29) ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحذر من التباغض والتنازع، لأن نتيجة ذلك التقاتل الذي قد يعود بالناس إلى الكفر، فيقول: ((لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً))، ويقول: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)). (البخاري: العلم، باب: الإنصات للعلماء، رقم: 121، والأدب، باب: ما ينهي عن التحاسد والتدابر، رقم 5718. مسلم: الإيمان، باب: بيان معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا ترجعوا بعدي كفاراً .. ، رقم 65، والبر والصلة والآداب، باب: تحريم التحاسد والتباغض والتدابر، رقم 2559). ويحثَ الناس على ما يمتِّن عرى المحبة بينهم ويزيل بواغث الشقاق، فيحثّهم على التسامح بدل التشاحح، وعلى التواصل بدل التقاطع، فيقول عليه الصلاة والسلام: ((رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى، وإذا قضى أقتضى)) أحرجة البخاري في البيوع، باب: السهولة والسماحة في الشراء والبيع، رقم 1970). الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 ولما كان الصلح بين الناس، والسعي في رفع الخصومات من بينهم في طليعة ما يحقّق الأهداف الإسلامية المشار إليها، شرعه الإسلام وحثّ عليه وجعله من الخير - بل هو الخير - الذي تتطلع إليه القلوب، وتهواه النفوس السليمة السامية، التي كانت كبحت جماح الهوى وتغلبت على الشح فيها، وارتقت فوق المطامع والدنِيِّ من الرغبات، فكان في ذلك خير للأُمة في كل زمان ومكان، وكل حادثة وحال. ونجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبيح للمسلم في سبيل الإصلاح أن يقول كلاماً لم يقل، طالماً أنه من شأنه أن يزيل النزاع ويحل بدله الوفاق، فيقول: ((ليس الكذِّابُ الذي يُصْلحُ بينَ الناس، فيَنْمي خيْراً ويقول خيراً)). (البخاري: الصلح، باب: ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس، رقم: 2546. مسلم: البرّ والصلة والآداب، باب: تحريم الكذب وبيان المباح منه، رقم: 2605). [ينمي خيراً: من نمي الحديث إذا رفعه وبلغه ونقله بين المتخاصمين]. أنواع الصلح : الصلح في الشرع أنواع، وكلها مشروعه، ومنها: 1 - الصلح بين دولة المسلمين وغيرهم، قال تعالى: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) (الأنفال: 61). ومن ذلك صلح الحديبية، وأمثله كثيرة في سيرته - صلى الله عليه وسلم -. 2 - الصلح بين أهل العدل من المسلمين وأهل البغي منهم، قال تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) (الحجرات: 9). 3 - الصلح بين الزوجين عند حصول النزاع بينهما، قال تعالى (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً) (النساء: 128). 4 - الصلح بين المتخاصمين في غير الأمور المالية وليس منهم بغاة، فقد روى سهل بن سعد رضي الله عنه: أن أهل قباء اقتتلوا حتى ترامَوْا بالحجارة، فأخبر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: (اذهبُوا بنا نُصْلحْ بينهم)). البخاري: الصلح، باب قول الإمام لأصحابه: اذهبوا بنا نصلح، رقم: 2547). 5 - الصلح في المعاملة التي لها علاقة بالمال، وهو المقصود بالباب لدى الفقهاء عند عنونتهم للصلح، وأما أنواع الصلح الأُخرى فتبحث ضمن أبوابها. الصلح في المعاملة: قد يجري الصلح في المعاملة بين المتداعيين، وقد يجري بين المدعي وأجنبي، ولكل من الحالين أحكام. *الصلح بين المدعي والمدعى عليه: قد يجري الصلح بين المدعي والمدَّعى عليه، والمدّعى عليه مقرّ بهذا الحق، الذي ادُّعى عليه به، ويسمى: الصلح مع الإقرار. وقد يجري الصلح والمدَّعى عليه منكر وغير مقر بما ادُّعى عليه به، ويسمى، الصلح مع الإنكار فما حكم كلِّ منهما؟ الصلح مع الإنكار: وهو أن يدّعي إنسان على آخر حقاً - من دَْين كألف درهم مثلاً، أو عين كسجادة أو دار - فلا يقر المدعي عليه بذلك، وينكر أن للمدّعي عليه حقاً، أو يسكت، ثم يطلب من المدعي أن يصالحه عمّا أدّعاه، فما حكم هذا الصلح لو وقع؟ والجواب: أن هذا الصلح غير جائز وغير مشروع، ولو حصل وقع باطلاً لا يترتب عليه أيّ أثر أو حكم من أحكام الصلح التي سنعرفها إن شاء الله تعالى. والحجة فيه بطلانه: أنه صلح يحلّ حراماً أو يحرّم حلالاً، وهو غير جائز بنص الحديث السابق الذكر، إذ قال - صلى الله عليه وسلم - (الصُّلحُ جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً)) (1). وبيان ذلك:   (1) انظر: مشروعية الصلح، صفحة: 169. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 إن المدّعي - إن كان كاذباً في دعواه - يكون بالصلح قد استحل مال غيره، وهو حرام عليه، فذلك صلح أحلّ حراماً، وهو ممنوع. وإن كان صادقاً، فقد حرّم على نفسه جزء من ماله، وهو حلالا عليه، لأن المدَّعَي عليه اضطره بإنكاره إلى التنازل عنه، فيكون صلحاً حرّم حلالاً، وهو ممنوع. الصلح مع الإقرار: وهو أن يدّعي إنسان حقاً على أخر، من دين أو عين، فيعترف المدّعي عليه ويقرّ بهذا الحق، ثم يطلب المصالحة عن ذلك. فإذا حصل الصلح كان جائزاً ووقع صحيحاً، وترتبت عليه آثار الصلح وأحكامه، لأنه مما يدخل في أدلة مشروعيته الصلح دخولاً أوليّاً. وفي هذه الحالة إما أن يكون الحق المدعى المصالَح عنه عيناً، وإما أن يكون ديناً، ولكل أحكامه. أالصلح عن العين: قد يكون المصالح عليه عن العين بعضها، ويسمىَ صلح الحَطيِطة، وقد يكون عيناً أخرى غيرها أو منفعة، فيسمى صلح المعاوضة. - صلح الحَطيِطة: إذا كان الحق المدعى والمصالح عنه عيناً، وجرى الصلح بين المدّعي والمدّعَى عليه على جزء من هذا العين، كأن كان داراً فجري الصلح على أن يأخذ المدَّعي نصفها مثلاً، كان ذلك هبة للنصف الثاني من صاحب الحق المدَّعي لمن العين في يده وهو المدّعَي عليه، وتأخذ هذه الصورة من الصلح أحكام الهبة التي عرفتها في بابها، والتي من جملتها اشتراط القبول من المدّعي عليه ونحو ذلك. ويسمى هذا النوع من الصلح: صلح الحَطيِطة، لأن صاحب الحق قد حط جزءا عن المدّعي عليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 - صلح المعاوضة: وإذا كان حق المدَّعَي المصالح عنه عيناً، وجرى الصلح بين المدّعي والمدّعَى عليه على أن يدفع المدَّعَى عليه - الذي في يده العين - عيناً أخرى غير المدعاة بدلاً عنه، كما لو كان المدعي - مثلاً - داراً، فجرى الصلح على أن يعطيه عوضاً عنها سيارة، فإن ذلك جائز وصحيح، ويكون في الحقيقة بيعاً للعين المدعاة بهذه العين المدفوعة، فيثبت فيه جميع أحكام البيع التي عرفتها: من العلم بالثمن، وكونه مالاً منتفعاً به شرعاً مثلاً، كما يثبت فيه خيار المجلس وخيار الشرط وخيار الرد بالعيب، ويفسده ما يفسد البيع من الشروط على ما علمت، ويحرم فيه ما يحرم في البيع من الغرر ونحو ذلك. ويسمى هذا النوع من الصلح في كل صورة: صلح المعاوضة، لأن صاحب الحق قد استعاض عن حقه بشيء أخر رضي به، عيناً كان أم منفعة. وإن جرى الصلح على منفعة عين أُخرى، كان صالحه عن الدار على استعمال سيارته سنه مثلاً، كان ذلك الصلح عقد إجارة، فيثبت فيه أحكام الإجارة لأنه فيه معناها. ... وإن جرى الصلح على منفعة نفس العين المدّعاة، كأن صالحه على أن يسكن المدّعي الدار المدعاة مثلاً عشر سنوات ثم يردّها إليه، فهو إعارة، تثبت فيه أحكامها، لأنه في معناها. ب الصلح عن الدين: - وهو أن يدّعي إنسان على أخر دَيْناً، ألف درهم مثلاً، فيقر المدّعي عليه بذلك ويتصالحان عنه، وقد يكون المصالح عليه بعض الدين فيكون صلحه الحَطيِطة، أو عيناً أو منفعة فيكون صلح المعاوضة. 1 - صلح الحَطيِطة: أن يختصم مع المدين وهو مقرّ بالدين، ثم يتصالحا على أن يحطّ عنه قسماً معيناً من الدين، كان يصالحه عن الألف التي له عليه بخمسمائة. فهذا صلح صحيح، ويكون إبراءاً للمدين من بقية الدَّيْن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 روى كعب بن مالك رضي اله عنه: أنه تقاضى عبد الله بن أبي حدرد راضي الله عنه ديناً كان له عليه , في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد , فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيت، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهما، وحتى كشف سجْفَ حُجْرته، فنادى كعب بن مالك فقال: ((يا كعبُ)) فقال: لبَّيك يا رسولَ الله، فأشار بيده: أنا ضَعِ الشطر، فقال كعب: قد فعلت يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((قم فأقضه)). البخاري: باب الصلح، باب: الصلح بالدَّيْن والعين، رقم: 2563. مسلم: المساقاة، باب: استحباب الوضع من الدين، رقم: 1558). [تقاضي: طالب بالوفاء. سِجْف حجرته: ستر باب غرفته]. ويصح هذا الصلح بلفظ الصلح كما يصح بلفظ الإبراء والحطّ والإسقاط. فإذا كان بلفظ الإبراء ونحوه لم يشترط فيه القبول، واشترط فيه تحقق شروط الإبراء، وهي: 1 - أن يكون المبرئ من أهل التبرع فيما أبرأ منه، فلا يصحّ من الولي عن الصبي، لأنه ليس من أهل التبرع بماله. 2 - أن يكون عاماً بما أبرأ منه، فلا يصح أن يقول، أبرأتك من جزء الدَّيْن، وكذلك لا يصح لو قال: من ربع الدين وهو يجهل قدره. 3 - أن يكون الإبراء عن دين، فإذا كان الصلح عن عين فلا يصحّ بلفظ الإبراء. 4 - أن يكون معلقاً على شرط ولا مؤقتاً بزمن. وإذا جرى بلفظ الصلح اشترط فيه القبول كباقي أنواع الصلح. إذا لم يؤدي المبرأ بقية الدين: إذا أبرأ الدائن المدين من جزء من الدين ليؤدَّيَ له الباقي، ثم امتنع المدين عن أداء ذلك فهل يعود الدين كما كان، وللدائن أن يطالب بجميعه؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 والجواب: الأصح أنه لا يعود الدين كما كان، وليس للدائن أن يطالب إلا بما بقي بعد الإبراء، لأن الإبراء إسقاط للحق من الذمة، فبه سقط جزء من الدين من ذمة المدين، والقاعدة الفقهية تقول: (الساقط لا يعود). ولذا ينبغي على أصحاب الديون أن ينتبهوا إلى هذا فلا يتلفظوا بالإبراء ونحوه من الألفاظ التي معناه كسامحتك - مثلاً - بما لي عليك، فإن ديوانهم تسقط من ذمة المدين، وليس للدائن بعد ذلك مطالبة بها، سواء أَقبل ذلك الإبراء أم لا، وسواء أقبل ذلك الإبراء أم لا، وسواء أكان ذلك في حالة غضب أو نشوة سرور - كما تفعل الزوجات أحياناً حين تبرئ إحداهنّ الزوج مما لها من مؤخَّر في ذمته - أم لا. 2 - وأما صلح المعاوضة في الدين: فهو أن يدّعي ديناً على أخر، كألف مثلاً ويقّر له المدَّعَى عليه بذلك، ثم يصالحه عنها أن يعطيه سلعه معَّينة، غسالة مثلاً فهذا معاوضة وبيع، تجري عليه أحكام البيع، وإذا صالحه على منفعة عين - كأن يسكنه داراً سنة مثلاً - فهو إجارة، تجري عليها أحكام الإجارة، كما علمنا عن الصلح في العين. *الصلح بين المدَّعي وأجنبي: وذلك بأن يدّعي إنساناً حقاً على أخر، فيأتي شخص ثالث غير المدَّعَي عليه ويصالح المدَّعي عمّا أدّعاه. ولهذا الصلح صور حسب حال المدََّعَى عليه وموقف الأجنبي من ذلك، ولكل صورة حكمها، إليك بيان ذلك: 1 - أن يدّعي الأجنبي الوكالة عن المدّعي عليه ويصالح له، كأن يقول: وكّلني المدّعي عليه أن أصالحك، وهو مقر لك بما أدّعيت، ولم ينكر المدَّعي عليه الوكالة بعد ذلك، وصالح، كان الصلح صحيحاً، وصار المصالَح عنه - وهو الحق المدّعى - ملْكاً للمدّعي عليه موكِّل الأجنبي. وإن كان أنكر المدعى عليه الوكالة بعد ذلك كان الصلح باطلاً. 2 - أن يصالح الأجنبي لنفسه، بأن يقول: إن فلاناً الذي ادّعيت عليه الحق مقرّ لك به، وأنا أُصالحك عنه علة كذا، دون دعوى الوكالة، فهو كشراء الفضولي، أي شراء الإنسان لغيرة، والصحيح أنه باطل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 3 - أن يكون المدعى علبه منكراً ويقول الأجنبي: هو مبطل في إنكاره، ويصالح عن الحق المدعى لنفسه، فهو في حكم بيع المغضوب لغير الغاضب: فإن كان قادراً على انتزاعه من يد المدعى عليه صحّ الصلح، وإن لم تكن قادراً على ذلك لم يصح. 4 - أن يكون المدّعى عليه منكراً، ولم يعرف الأجنبي ببطلان إنكاره، وصالح المدّعي عن الحق المدعى لنفسه، فالصلح في هذه الحالة باطل، ولأنه في حكم شراءه للمدّعي ما لم يثبت له ملكه، فلا يصح. أركان الصلح وشروطها : للصلح أركان، لأنه عقد، ولكن عقد أركانه، وأركان عقد الصلح أربعه: عاقدان، وصيغة، ومصالح عنه، ومصالح عليه. الركن الأول: العاقدان: وهما: المدّعي المصالَح، والمدَّعَي عليه المصالح، ويشترط في كل منهما شروط، هي: 1 - التكليف، أي أن يكون كلا منهما عاقلاً بالغاً، فلا يصحّ الصلح من الصبي ولو كان مميزاً، ولا من المجنون، لأن الصلح نقد وتصرّف، وتصرفاتهما غير معتبرة شرعاً وعقودها باطله، كما علمت مراراً. 2 - ولاية التصرف في المال، إذا كان الصلح عن الصغير، وذلك كالأب والجدّ والوصيّ، لأن الصلح تصرّف في المال، ولا يملك التصرّف في مال الصغيرين من الأولياء غير هؤلاء. 3 - أن لا يكون في الصلح ضرر ظاهر، إذا كان الصلح من وليّ الصغير عنه، سواء أكان مدّعياً أو مدّعي عليه. - فلو كان الصبي مدّعي عليه، وصالح وليّه عماً ادعي به على شيء به من مال الصبي: - فإن كان المدّعي بيِّنه على مدعاه، وكان ما صالح عليه الولي مثل الحق المدعي به، أو بزيادة يتغابن الناس بمثلها عادة، فالصلح جائز. لأن الصلح في معنى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 المعاوضة، والولي يلمك المعاوضة لمن تحت ولايته بالغبن اليسر المألوف عادة. - وإن لم يكن للمدّعي بيِّنة على مدعاه، أو كان ما صالح عليه الولي أكثر من الحق المدّعي بزيادة فاحشة لا يتغابن الناس بمثلها عادة، فالصلح باطل. لأن في مل التبرع بمال الصبي، والتبرع ضرر محض في حقه، فلا يملكه الولي. فلو صالح الوليّ من ماله الخاص جاز، لأنه ما أضرّ الصغير بل نفعه، حيث قطع الخصومة عنه. - ولو كان ولي الصبي هو المدِّعي له، وصالحه المدَّعَي عليه على حق بعض المدَّعي به وأخذ الباقي: - فإن كان للولي المدعي بيِّنه على الدين لم يصحّ الصلح، لأن الحطّ من الدِّيْن تبرع، وهو لا يملك التبرع للمال الصبي. - وإن لم يكن للولي المدّعي، وصالحه على مثل قيمة الحق المدعي به، أو مع غبن يسير، صحّ الصلح، لأنه في معنى البيع من مال الصبي - كما سبق - وهو يملكه فإن كان مع غبن فاحش لم يصح، لأنه تبرع لا يملكه كما علمت. الركن الثاني: الصيغة: وهي الإيجاب والقبول من المتصالحَيْن، وكما يقول المدّعي عليه المصالح: صالحتك عن كذا على كذا، أو: من دعواك كذا على كذا. ويقول الآخر: قبلت، أو رضيت، أو صالحت، ونحو ذلك مما يدل على رضاه وقبوله بهذا الصلح. وقد مّر معنا أنه يصحّ في بعض أنواعه بلفظ الإبراء والحط وما في معناه. الركن الثالث: المصالح عنه: وهو الحق الذي يدّعيه، ويطلب منه أن يصالح عنه على عين أو دين أو منفعة، على ما سبق، ويشترط فيه شروط: 1 - أن يكون حقاً لآدمي، مالاً أم ليس بمال كالقصاص، فإنه يصحّ الصلح عنه، فلو استحق إنسان على أخر القصاص، فصالحه على مال بدل القصاص جاز، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 سواء أكان البدل المصالح عليه عيناً - كدار مثلاً - أم ديناً - كألف دينار مثلاً - فإذا كان ديناً اشترط التقابض في مجلس الصلح، حتى لا يكون دَيْناً بدَيْن. وتصح المصالحة عن القصاص، سواء أكان في النفس أم فيما دون النفس من ألأعضاء والجراح. عن أنس رضي الله عنه: أن الرُّبَيّع - وهي ابنة النضر - كسرت ثِنَيّة جارية، فطلبوا الأرش وطلبوا العفو فأبوا، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرهم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: أتُكْسَر ثَنِيِّة الربيع يا رسول الله؟ لا والذي بعث بالحق لا تكسر ثنيتها. فقال: ((يا أنسُ، كتاب الله القصاصَ)). فرضي القوم وعفوا- وفي الرواية وقبلوا الأرش - فقال - صلى الله عليه وسلم - ((إنَّ من عباد الله مَن لو أقْسم على الله لأبَرَّه)) البخاري: الصلح، باب: الصلح في الدية، رقم: 2556. مسلم: القسامة، باب: إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها، رقم: 1675). [ابنة النضر: أي عمّة أنس بن مالك بن النضر، رضي الله عنه وعن عمّه وعمته. ثنية: هي إحدى السنين التي في مقدّم الأسنان. جارية: امرأة شابة أو بنتاً صغيرة. فطلبوا: أي أهل الجانية. الأرش: أن يصالحوا على أن يدفعوا مالاً يقابل الجناية، القصاص: لكثر سنها. كتاب الله القصاص: أي حكم كتاب الله تعالى يقضي بالقصاص، فكيف تقول ذلك. لأبرَّه: لحقق له ما أقسم عليه كي لا يقع في الإثم، لعلمه بصدقه وإخلاصه). فلو كان المصالح عنه حقاً من حقوق الله تعالى، كان يصالح زانياً على ما يأخذه منه على أن يرفع أمره إلى القضاء - مثلاً - كي لا يقيم عليه الحد، لم يصح الصلح، لأن الحدّ حق الله تعالى، ولا يصح الاعتياض عن حق الغير على أن الصلح من الحدود صلح يحلّ الحرام فلا يجوز. عن أبي هريرة رضي الله عنه وزيد بن خالد الجهني رض الله عنهما قالا: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب الله، فقام خصمه فقال: صدق، أقض بيننا بكتاب الله - وفي راوية وائذن لي - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قل). فقال: إن ابني كان عَسِيفاً على هذا، فزني بامراته، فقالوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 لي: على ابنك الرجم، ففديتُ ابني منه بمائة من الغنم ووليدة، ثم سألت أهل العلم فقالوا: إنما على ابنك الجلد مائة وتغريب عام. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " لأقْضيَنَّ بينكما بكتاب الله، أما الوليدةُ والغنمُ فردِّ عليك، وعلى ابنك الجلد مائة وتغريب عام، وأما أنَت يا أُنَسْ ُ- لرجل - فأغْد على امرأة هذا فارْجُمها (رواه البخاري في الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جَوْر فالصلح مردود، رقم: 2549 مسلم في الحدود، باب: مَن اعترف على نفسه بالزنا، رقم: 1697). (عسيفاً: أجيراً. وليدة: امرأة مملوكة. أهل العلم: الصحابة العلماء رضي الله عنهم). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أما الوليدة والغنم فردّ عليك " دليل صريح في بطلان هذا الصلح الذي جرى على حق من حقوق الله تعالى، والذي مقتضاه تحليل حرّم الله عز وجل، وهذا ما صرّح به البخاري رحمه الله تعالى لترجمته للحديث. ويقاس على حدّ الزنا جميع الحدود التي تغلب فيها حق الله تعالى، كحدّ السرقة وحدّ القذف، وإن كان فيها حق للعبد، ولكن الغالب حق الله تعالى، وحق العبد مغلوب، والمغلوب تابع للغالب، فلا يلتفت إليه شرعاً. وكذلك لا يصحّ الصلح على ألا شهد عليه، أي أن يعطيه مالاً كي لا يؤدي الشهادة التي تحمّلها عليه، لأن الشهادة حق الله تعالى، قال جلّ وعلا: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) (الطلاق: 2). وقال: (كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ) (النساء: 135). فالصلح عن هذه الحقوق صلح باطل، ويجب على مَن أخذ المال بدلاً عنها ردّه إلى مَن أخذه منه، لأنه أخذ بغير حق وكسب خبيث، وهو فسوق تردّ به الشهادة عند القاضي إذا علم به. 2 - أن يكون حقاً للمصالح، فإن لم يكن حقاً له لم يصح الصلح، إلا إن كان الصالح عن الذي تحت ولايته وفي حجرة كما علمت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 فلو ادّعت امرأة مطلقة أن الولد الذي في يدها ابن زوجها المطلق، فأنكر زوجها ذلك، فصالحته عن النسب إليه على شيء، فالصلح باطل. لأن النسب حق الصبي لا حقها، فلا تملك المعاوضة عنه. 3 - أن يكون حقاً ثابتاً للمصالح في محل الصلح، أي ما يرد عليه عقد الصلح. فلو صالح الشفيع - أي الشريك في العقار ونحوه، الذي باع شريكه حصته لغيره دون علمه، فإن يحقّ له أخذ هذه الحصة من المشتري بثمنها، كما ستعلم في باب الشفعة - فلو صالح هذا الشفيع المشتري عن حق الشفعة الذي ثبت له بالشرع على مال معلوم يأخذه منه، على أن يترك الحصة لهذا المشتري، فإن الصلح باطل، لأن الشريك الشفيع لا حق له في محل الصلح - وهو حصة شريكه المباعة - حتى يحق له أن يصالح عنها، وإنما أثبت له الشرع حق التملك القهري لما اشتراه المشتري، دفعاً لما يتوهم من ضرر الشريك الجديد عليه، فإذا رضي به فقد سقط حقه، فليس له أخذ المال منه، لأنه أخذ لمال غيره بغير عوض. 4 - أن يكون معلوماً، فلو كان المصالح عنه مجهولاً للمتصالحين أو أحدهما كان الصلح باطلاً، لما فيه من الغرر المنهي عنه، فيكون داخلاً في معنى الصلح الذي أحلّ حراماً الركن الرابع: المصالح عليه: وهو البدل الذي يأخذه المدّعي من المدّعى عليه مقابل ما ادّعاه من الحق، ويُشترط فيه 1 - أن يكون مالاً شرعاً، فلو صالح من الحق الذي ادّعاه على خمر أو خنزير أو أداة لهوِ - مثلاً - لم يصحّ الصلح، لأن هذه الأشياء ليست بمال شرعاً، وعقد الصلح فيه معنى المعاوضة، فالمصالح عنه والمصالح عليه كالمبيع والثمن في عقد البيع، وما ليس بمال شرعاً لا يصلح عوضاً في البيع، وما لا يصلح عوضاً في البيع لا يصلح بدلاً في الصلح. ولا مانع أن يكون المال المصالح عليه عيناً كسجادة مثلاً، أو ديناً كألف دينار، أو منفعة كسكنى دار سنة مثلاً، لأن مثل ذلك يكون عوضاً في المبايعات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 وعقود المعاوضة، فيصح أن يكون بدلاً في الصلح، وقد مرّ معنا أمثلة كثيرة على ذلك. 2 - أن يكون مملوكاً للمصالح، فلو صالح على شيء ثم تبين أنه لا يملكه، كما لو كان خرج مسروقاً أو مغصوباً أو نحو ذلك، فإن الصلح يبطل حتى ولو كان المصالَح قد قبضه، لأنه تبيّن أنه صالح على ما لا يملك، فتبين أنه لا صلح، لأنه لا يملك أن يصالح على مال غيره. 3 - أن يكون المصالح عليه معلوماً للعاقدين، لأن جهالة البدل تؤدي إلى المنازعة، وذلك من شأنه أن يفسد العقد. التزاحم على الحقوق المشتركة جرت عادة الفقهاء أن يعقدوا في كتاب الصلح فصلاً للتزاحم على الحقوق المشتركة، ويبينوا ما يجوز فيه الصلح منها وما لا يجوز، ونحن نذكر فيما يلي طرفاً من هذه الحقوق المشتركة: 1 - بناء الروشن والساباط والميزات: الروشن: هو الخشب الخارج من الحائط الممتد في الهواء، ويسمى جناحاً تشبيهاً بجناح الطائر، ويسمى شرفة أيضاً. الساباط: هو السقيفة على حائطين والطريق بينهما. الميزاب: مسيل الماء من السطح، وهو المز راب. وهذه الأشياء الثلاثة إما أن تنشأ في طريق نافذ، أو في طريق غير نافذ، ولكلّ منهما تفاصيل وأحكام نوجزها فيما يلي: أ - إنشاء هذه الأشياء في الطريق النافذ: الطريق النافذ: هو ما يستحق المرور فيه كل إنسان، ولا يختص به واحد دون آخر. هذا الطريق لا يجوز أن يُتصرف فيه بما يضر المارّة، كإشراع جناح وبناء ساباط ووضع ميزاب. لأن الحق ليس له بل هو للمارة، فإن فعل ما هو ممنوع منه وجبت إزالته، لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا ضرر ولا ضرار " (أخرجه ابن ماجه في الأحكام، باب: مَن بني في حقه ما يضرّ بجاره، رقم: 2340، 2341. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 ومالك في الموطأ: الأقضية، باب القضاء في المرفق: 2/ 745). والذي يقوم بإزالته الحاكم خوفاً من وقوع فتنة، لكن لكل واحد المطالبة بإزالته لأنه منكر. فإن كان إنشاء ما ذكر غير ضارّ بالمارة، وكان الطريق خاصاً بالمشاة اشترُط ارتفاعه بحيث إذا مرّ الماشي الطويل وهو حامل على رأسه أو ظهره شيئاً لم يتضرّر به عادة، واشترط أيضاً أن لا يكون حاجباً للنور بحيث يظلم المكان إظلاماً لا يحتمل. وإن كان الطريق غير خاص بالمشاة، بل هو ممر للفرسان والقوافل ومثلها السيارات في عصرنا هذا، فيشترط أن يرفع بناء الروشن والساباط بحيث يمر تحته المحمل على البعير مع أخشاب المظلة التي فوق المحمل ومثلها حمولة الشاحنات الكبيرة على اختلافها. والأصل في جواز البناء حيث لا ضرر حديث " نصب بيده الكريمة - صلى الله عليه وسلم - ميزاباً في دار عمه العباس وكان شارعاً إلى مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - (ذكر في نيل الأوطار [5/ 278] في كتاب الصلح، باب: إخراج ميازيب المطر إلى الشارع: أنه أخرجه أحمد والبيهقي والحاكم). فورد النص في الميزاب وقيس عليه الباقي. وهذه الأشياء يحرم الصلح عليها سواء أكان الصلح من جانب الإمام أم من غيره، لأن الهواء لا يفرد بالعقد وإنما هو تابع للقرار، وهو الأرض الموازية له، ولأنه إن ضرّ لم يجز فعله بعوض أو غير عوض، وإن لم يضرّ فالباني مستحق له، وما يستحقه الإنسان في الطريق لا يجوز أخذ العوض عنه كالمرور. ب - إنشاء هذه الأشياء في الطريق غير النافذ: الطريق غير النافذ إن كان لواحد فقط فهو ملك له، وإن كان مشتركاً بين جماعة فلا يجوز له بناء شيء مما ذكر إلا بإذن بقية الشركاء، ولا يصحّ الصلح على ذلك. هذا ويعدّ شريكاً فيما بين رأس الدرب كلُّ مَن نفذ باب داره إليه، لاَ مَن لاصق جداره الدرب، ويكون شريكاً فيما بين رأس الدرب وباب داره فقط. أما ما يلي باب داره إلى آخر الدرب فلا حق له فيه، ولا يعتبر إذنه في البناء أو عدم إذنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 2 - فتح باب جديد في الدرب: يحق لمن كان شريكاً في الدرب أن يفتح باباً جديداً إذا كان الباب المفتوح أقرب على رأس الدرب، لأنه تنازل منه عن بعض حقه بشرط سدّ القديم. أما إذا كان أبعد من القديم عن رأس الدرب وأقرب إلى نهايته فلا يجوز له فتحه إلا بإذن الشركاء. وكذلك الحكم إذا فتح باباً ثانياً ولم يسدّ الأول. وحيث منع من فتح الباب فصالحه أهل الدرب على مالٍ صح، لأنه انتفاع بالأرض. 3 - بناء دكة وغرس شجرة في الطريق: يحرم أن يبني في الطريق دكة - مصطبة - أو دعامة لجدار وأن يغرس شجرة، ولو اتسع الطريق ولم يضرّ بالمارّة وأذن به الإمام، لأنه قد تزدحم المارة فيتعثرون ويضيق الطريق عليهم، ولأنه إذا طالت المدة أشبه موضعهما الأملاك وانقطع أثر الاستحقاق في الطروق فيه. وعلى هذا فلا يجوز المصالحة على ذلك، إذا كان غرس الأشجار للتملّك الفردي. أما إذا كان الغرس لعموم المسلمين ولمصلحتهم فلا مانع من ذلك حيث لا ضرر. 4 - وضع خشبة على جدار غيره: قد يكون الجدار الملاصق ملكاً لشخص آخر، وعلى هذا فلا يجوز وضع خشبة على هذا الجدار أو غرزها فيه إلا برضا مالكه في المذهب الجديد، ولا يجبر المالك له إن امتنع، لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا يحلُّ لامرئ من مال أخيه إلاّ ما أعطاه عن طِيبِ نفْس " (مسند أحمد: 5/ 113) ولقوله: " لا ضررَ ولا ضرارَ " (1) وفي المذهب القديم يجوز ذلك، ويجبر المالك إن امتنع، لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يَمْنَعَنَّ جار جارَه أن يضعَ خشبهً في جِداره " ثم قال أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين؟! والله لأرْمِيَنّ بها بين أكتافكم (أخرجه البخاري في المظالم، باب لا يمنع جار جاره أن   (1) انظر تخريجه في الفقرة: أ، ص 182 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 184 يغرز خشبة في جداره، رقم: 2331. ومسلم في المساقاة، باب: غرز الخشب في جدار الجار، رقم: 1609). فلو رضي المالك بوضع الخشبة بلا عوض كان ذلك عارية، تثبت فيها أحكام العارية فيستفيد بها المستعير مرةِّ واحدة، حتى لو رفع جذوعه أو سقطت بنفسها، سقط الجدار، فبناه صاحبه بتلك الآلة لم يكن له الوضع ثانياً في الأصح، لأن الإذن يتناول مرة واحدة. ولو رضي بوضع الجذوع والبناء عليها بعوض، فإن أجّر رأس الجدار للبناء فإجارة، وإن قال بعته للبناء أو بعته حق البناء عليه فالأصح أن هذا العقد فيه شوب بيع وشوب إجارة، لأن المستحق به منفعة فقط فهو إجارة، ولكون مؤيداً فهو بيع. مبطلات الصلح : ويبطل الصلح بأشياء غير ما سبق في مواضعه، منها: 1 - الإقالة في غير الصلح عن القصاص، فلو قال أحد المتصالحين للآخر بعد الصلح: أقلني عن هذا الصلح، أي أحب فسخ هذا العقد، وقبل الآخر انفسخ الصلح، لأنه عقد فيه معنى معاوضة المال بالمال، فكان محتملاً للفسخ كالبيع. فلو كان الصلح عن القصاص فإنه لا ينفسخ، لأن الصلح عن القصاص إسقاط محض لحض وليّ الدم في استيفاء القصاص من القاتل، لأنه عفو عنه، وقد علمت أن الساقط لا يعود بعد إسقاطه، فلا يحتمل الفسخ. وفي هذه الحالة يرجع المدّعي على القاتل بالدية، لا بما صالح عليه، لأن القصاص سقط لشبهة الصلح، فيسقط إلى بدله المشروع وهو الدية. 2 - الرد بخيار العيب، كما لو صالحه على شيء ثم قبضه المصالح، فوجد فيه عيباً ينقص قيمته عرفاً - على ما عرفت في عقد البيع - فإن له الخيار أن يردّه، فإذا ردّه انفسخ الصلح وبطل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 حكم الصلح بعد بطلانه : إذا بطل عقد الصلح يرجع المدّعي إلى أصل دعواه إن كان الصلح عن إنكار، وقد علمت أن الصلح مع الإنكار باطل أصلاً. وإذا كان الصلح مع الإقرار: رجع المدَّعي على المدَّعى عليه بالمدَّعى به لا غيره، لأن بطلان الصلح جعله كأن لم يكن، وعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الصلح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 الباب العاشر الحوالة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187 الحوالة تعريفها: في اللغة: هي النقل أو الانتقال، قال في المصباح المنير: (تحول من مكانه انتقل عنه، وحوّلته تحويلاً نقلته من موضع إلى موضع ... وحوّلت الرداء نقلت كل طرف إلى موضع الآخر، والحَوالة - بالفتح - مأخوذة من هذا، فأحلته بديَنْه نقلته إلى ذمة غير ذمتك، وأحلت الشيء إحالة نقلته أيضاً. ويقال: حال عن العهد أي انتقل عنه وتغيّر). وفي الاصطلاح: عقد يقتضي نقل دَيْن من ذمة إلى أخرى. قال في "مغني المحتاج ": (ويُطلق على انتقاله من ذمة إلى أُخرى، والأول هو غالب الاستعمال). مشروعيتها: دلّ على مشروعية الحوالة وجوازها: ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " مَطْلُ الغنيِّ ظُلْم، فإذا أُتْبع أحدُكم على مليء فلْيَتْبَع " وفي رواية عند أحمد: " ومنْ أُِحِيل على مليء فليَحْتَل " (البخاري في كتاب الحوالة، باب: في الحوالة وهل يرجع في الحوالة، رقم: 2166. ومسلم في المساقاة، باب: فضل إنظار المعسر رقم: 1564. وأحمد في مسنده [2/ 463]). [مطل الغني: تأخيره ما استحق عليه أداؤه، والغني: المستدين الذي يجد لديه ما يفي به دينه. ظلم: تعدّ على حق غيره وهو محرّم عليه. أتبع أحدكم: أحيل مَن كان منكم له دين على غيره. مليء: غني قادر يجد ما يقتضي به الدين فليحتل: فليقبل الحوالة]. وقد أجمع المسلمون في مختلف العصور على مشروعية الحوالة وجوازها، ولم يُعلم مخالف في هذا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 189 وجمهور العلماء على أن الأمر المذكور في الحديث بقوله " فليتبع " وقوله " فليحتل " أمر ندب واستحباب لا أمر فرض وإيجاب. وعليه: فمَن كان له دين على آخر، فأحاله المستدين على غيره استحبّ له أن يقبل هذه الحوالة ولم يجب عليه ذلك. بل ويعتبر في هذا الاستحباب أن يكون من أُحيل عليه لديه ما يفي بدين المحال، وان لا يكون في ماله شبهة. فإذا لم يكن لديه وفاء بدين المحال، أو كان في ماله شبهة لم يكن قبول الحوالة مستحباً في حق المُحال. أركان الحوالة وشروطها : للحوالة أركان تقوم عليها وتتألف منها، وكلّ من هذه الأركان له شروط تتعلق به. وإليك بيان هذه الأركان مع بيان ما يتعلق بكلّ منها من شروط: 1 - المُحيل: هو المَدين الذي يحيل دائنه بدَيْنه على غيره. ويُشترط فيه: أن يكون أهلاً للعقد، أي أن يكون عاقلاً بالغاً، فلا تصح الحوالة من المجنون والصبي غير المميِّز، لأنه في حكم الذي لا يعقل، والعقل شرط لصحة ممارسة التصرفات. 2 - المُحال: وهو الدائن الذي يحال بدينه ليستوفيه من غير مدينه، أي هو الدائن للمحيل الذي أحاله ليستوفي دينه من غيره، ويقال له أيضاً: المحتال، أي طالب الإحالة. ويشترط فيه أيضاً: أن يكون أهلاً للعقد، أي أن يكون عاقلاً، لأن قبول المحال من أركان عقد الحوالة، وغير العاقل ليس من أهل القبول. وأن يكون بالغاً أيضاً، لأن قبول الصبي غير صحيح، لعدم اعتبار أقواله في المعاملات شرعاً. 3 - المُحال عليه: وهو الذي يلتزم بأداء الدَّيْن للمحال. ويشترط فيه: العقل والبلوغ، فلا تصحّ الحوالة على المجنون ولا على الصبي ولو كان عاقلاً مميزاً، لأن التزام الدَّيْن وأداءه فيه معنى التبرّع، وغير البالغ العاقل لا يصح منه التبرع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 190 4 - المُحال به: وهو الحق الذي يكون للمحال على المحيل، ويحيله به على المحال عليه. ويشترط فيه: أ - يكون ديناً: فلا تصحّ الحوالة بالأعيان القائمة، لأن الحوالة نَقْل حكمي، لأنها نقل لما في الذمة إلى ذمة أُخرى، والنقل في الأعيان القائمة نقل حقيقي لا حكمي، لأنها لا تثبت في الذمة، فلا حوالة فيها. فإذا أحاله ليستوفي عيناً قائمة - كسجادة مثلاً أو غسالة - كانت وكالة لا حوالة، وتثبت في هذه الحالة أحكام الوكالة لا أحكام الحوالة. ب - أن يكون الدين لازماً: كالثمن بعد تسليم المبيع وانتهاء مدة الخيار، أو آيلاً إلى اللزوم: كالثمن في زمن الخيار، لأنه يؤول إلى اللزوم بانتهاء مدة الخيار. وهذا هو الأصح، فلو أحال البائع أحداً على المشتري ليقبض منه الثمن، صحّت الحوالة. وقيل: لا تصح الحوالة بالثمن زمن الخيار، لأنه دين غير لازم. وتصحّ الحوالة بالدَّيْن وإن لم يستقر بعد، كالصداق قبل الدخول، والأجرة قبل مضي مدة الإجارة، والثمن قبل قبض البيع. 5 - الصيغة: وهي الإيجاب والقبول، فالإيجاب أن يقول المحيل: أحلتك على فلان، والقبول أن يقول المحال: قبلت أو رضيت. ويشترط في الإيجاب والقبول أن يكونا في مجلس العقد. خيار الشرط وخيار المجلس: ويشترط في عقد الحوالة أن يكونا باتاً، فلا يثبت فيه خيار المجلس ولا خيار الشرط: أما خيار الشرط: فلأن الأصل فيه أن يثبت في العقود لحماية المتعاقدَيْن من الغبن، وعقد الحوالة لم يُبْنَ على المغابنة، وإنما هو عقد للإرفاق والمعاونة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 191 وأما خيار المجلس: فلأنه يثبت في بيع الأعيان، والحوالة بيع دين بدين على الأصح. شروط صحة الحوالة : 1 - وجود دين للمحيل على المحال عليه: فلا تصح الحوالة إلا على مَن كان عليه دَيْن للمحيل، لأن الأصح أنها بيع دين بدين أُجيز للحاجة، فلا بدّ أن يكون للمحيل على المحال عليه شيء يكون عوضاً عن حق المحال. ويشترط في الدين للمحال عليه: أ - أن يكون دَيْناً لازماً أو آيلاً إلى اللزوم، كما هو الحال في الحق المحال به. ب - أن يكون متساوياً مع الدين المحال به: حلولاً وأجلاً، وجنساً وقدراً وصفة. فإذا اختلف الحقان في شيء من هذا لم تصحّ الحوالة، لأن الحوالة عقد معاوضة للارتفاق، أُجيزت للحاجة والتعاون، فاعتبر فيها الاتفاق كما هو الحال في القرض، فإذا اختلف الحقان صار في طلب زيادة على الحق، فلا يجوز. وكذلك الحوالة تجري مجرى المقاصّة، لأنه يسقط بها ما في ذمة المحيل بمقابل ماله في ذمة المحال عليه، والمقاصة لا تصح حال الاختلاف بين الحقَّيْن. 2 - رضا أطراف الحوالة: المحيل والمحال والمحال عليه. أما المحيل: فلآن له إيفاء الحق الذي في ذمته من حيث شاء، فله أن يوفي دائنه بنفسه، وله أن يوفيه بواسطة مدينه الذي هو المحال عليه، فلا يُلزم بجهة معينة سواء كانت نفسه أو مدينَه، فإذا رغب دائنه أن يستوفي حقه من جهة غيره فلا بد أن يكون ذلك برضاه. وأما المحال: فقد اشتُرط رضاه حتى تصحّ الحوالة، لأنه هو صاحب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 192 الحق الذي سينتقل بالحوالة من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وحقه إنما ثبت له في ذمة المحيل لا في ذمة غيره، فلا يصح أن ينتقل إلا برضاه، لأن الذمم تتفاوت في حسن القضاء أو المماطلة، فإذا انتقل حقه بدون رضاه كان في ذلك ضرر عليه، بإلزامه أن يتبع مَن لا يُحسن وفاءه لحقه. وأما المحال عليه: فلا يشترط رضاه لأن الحق عليه لا له، والمحيل صاحب الحق له أن يستوفيه بنفسه وأن يستوفيه بغيره، كما لو وكّل غيره بالاستيفاء وقبض الدين، فلا يعتبر رضا مَن عليه. 3 - يُشترط لصحة الحوالة أن يعلم المحيل والمحال بالدَّيْن المحال به والدين المحال عليه، قدراً وجنساً وصفة، لأن الحوالة بيع - كما ذكرنا - والجهالة في الثمن أو المبيع تمنع صحة البيع. حكم الحوالة : هو انتقال الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فإذا صحّت الحوالة باستكمال أركانها وتوفر شروطها ترتب عليه حكمها، وهو: براءة ذمة المحيل من دين المحال، وانتقال الحق من ذمته إلى ذمة المحال عليه. وبالتالي: يسقط دينه عن المحال عليه، مقابل نظيره الذي صار في ذمته وأصبح محالاً عليه، ليوفيه إلى المحتال. انتهاء الحوالة : علمنا أن حكم الحوالة انتقال الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه بصورة تبرأ بها ذمة المحيل من الدين. وبهذا تنتهي الحوالة، ولا تبقى أية علاقة بين المحيل والمحال، وإنما تصبح العلاقة بين المحال والمحال عليه، وليس للمحال عودة على المحيل حتى ولو لم يستطع الحصول على الدَّيْن من المحال عليه بسبب من الأسباب، كما لو وجده مُفْلساً، أو أنكر المحال عليه الدين وذلك لأن الحق تحول بالحوالة من موضعه الأول إلى غيره، وما تحوّل من موضعه لا يعود إليه إلا بتجديد عودته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 193 وكذلك بالحوالة سقط الحق من ذمة المحيل، وهو سقط لا يعود بإعسار ولا بغيره، كما لو قبل عوضاً من حقه لا تلف في يده، فإنه لا يعود عليه بشيء لسقوط الحق من ذمته، وتعذُّرُ الحصول على الحق كتلفه في يده. وسواء في ذلك أعلم بإعسار المحال عليه عند الحوالة أم لا. وسواء أشرط يساره أم لا. فيكون كمَن أشترى شيئاً هو مغبون فيه، فإنه لا يرجع بشيء ولو شرط عدم الغبن، لأنه مقصَّر بترك البحث عن حال المحال عليه عند الحوالة، ولا عبره بشرطه. ولو شرط المحال الرجوع المحيل عند تعذّر الإستيفاء بسبب من الأسباب بطلت الحوالة، لأن هذا الشرط منافٍ صراحة لمضمون الحوالة، وهو تحوّل الحق وانتقاله. اختلاف الحيل والمحال في الحوالة: إذا قبض المحال الدَّيْن من المحال عليه، ثم اختلف مع المحيل: فقال المحيل: لم يكن لك علىّ دَيْن، وإنما أنت وكيلي في القبض، والقبض لي، وقال المحال بل أحلتني بما لي عليك من دين فقبضته. فالقول قول المحيل مع يمينه، لأن المحال يدّعي عليه ديناً، المحيل ينكر، والقول قول المنكر عند عدم البينة مع يمينه. وكذلك لو أقرّ المحيل بالدَّيْن، ولكن قال: وكّلتك لتقبض لي، وقال الآخر: بل أحلتني أو قال المحيل: أردت بقوله أحلتك الوكالة، فقال المحال: بل أردت الحوالة، صُدِّق المحيل بيمينه، لأنه أعرف بإرادته وقوله. ولأن ألأصل بقاء كل حق على حاله والمحال يدّعي خلاف ذلك. ولو قال: أردت قولي: (أحلتك بالمائة التي لي على فلان) الوكالة، لم يُقبل قوله، لأن اللفظ لا يحتمل إلا حقيقة الحوالة، فيُقبل قول مدّعيها مع يمينه. حوالة المحال أو المحال عليه : إذا صحّت الحوالة كان للمحال أن يُحيل غيرة من دائنية على المحال عليه ' ليقبض دينه منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 194 وكذلك للمحال عليه أن يحيل المحال على غيره من مدينيه، ليقبض دينه منه. الحوالة البريدية : إذا أعطى إنسان أخر مبلغاً ليدفعه مبلغاً من المال ليدفعه إلى فلان من الناس في بلد كذا: - فإن أعطاه إياه أمانة جاز بلا كراهة، ولا يضمنه الناقل إذا لم يقصر في حفظه ولا يخلطه مع ماله، فإن خلطه بماله كان ضامناً له. ومن هذا القبيل ما يسمى الآن بالحوالة البريدية، فإن المبالغ التي يدفعها الناس لمؤسسة البريد، لتوصيلها إلى أشخاص معينين، يُخلط بعضها ببعض وبغيرها، ولا تُدفع هي بذاتها للمحمولة إليه. ولذلك فهي مضمونة إلى المؤسسة. - وإذا أعطاه إياه قرضاً، دون أن يشرط عليه دفعها إلى فلان في بلد كذا، ثم طلب منه ذلك بعض القرض جاز أيضاً ولا كراهة. فإذا أعطاه إياه قرضاً بشرط أن يدفعها إلى فلان في بلد كذا، كانت كشرط الأجل في القرض: إن لم يكن للمقرض فيه غرض صحّ القرض ولغا الشرط، وإن كان يندب الوفاء به، - وإن كان للمقرض فيه غرض صحّ القرض ولغا الشرط، وإن كان يندب الوفاء به. - وإن كان للمقرض غرض فيه، كما إذا كان في طريق خطر محقق، بطل العقد، لما فيه من جرّ المنفعة للمقرض. تم الجزء السادس من هذه السلسة بعون الله وتوفيقه ويأتي الجزء السابع - إن شاء الله تعالى - في المعاملات، ونسأل الله تعالى حسن القبول. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 195 الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى الجزء السابع في المعاملات الشفعة، المساقاة، العارية، الشركة، المضاربة، الوديعة اللقطة، الرهن، الكفالة، الوكالة، الإكراه، الغصب تأليف الدكتور مصطفى الخن ... الدكتور مصطفى البغا على الشربجي دار القلم دمشق بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين. أما بعد، فهذا الجزء السابع من كتابنا (الفقه المنهجي) نقدمه لطلاب العلم ورواد الفقه في دين الله عز وجل، ولكل من اراد ان تستقيم معاملته في الدنيا ليكون ناجيا يوم القيامة، بينا فيه احكام المعاملات التي تكثر في حياة الناس، والتي كثيرا ما يؤدي الجهل في احكامها الى نزاعات وخلافات، تجر الى دور القضاء، وربما كان ذلك في كثير من الأحيان سببا لإراقة الدماء او ضياع الحقوق، فتناولنا في هذا الجزء المواضيع التالية: 1 - الشفعة. ... 7 - اللقطة. 2 - المساقاة وما يلحق بها من المزارعة ونحوها. ... 8 - الرهن. 3 - العارية. ... 9 - الكفالة والضمان. 4 - الشركة ... 10 - الوكالة. 5 - المضاربة [القراض]. ... 11 - الإكراه. 6 - الوديعة. ... 12 - الغصب. وكانت طريقتنا في بحث هذه الموضوعات كما اعتدنا في الأجزاء السابقة، من بسط الحكم وبيان دليله وتعليله، من غير تعقيد ولا مناقشات لفظية، مع كثرة التقسيمات وتعداد الفقرات، كي لا تتداخل الأحكام بعضها في بعض. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 ومعلوم أن سلسلتنا هذه في فقه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، ولما كانت المعاملات متشعبة الوجوه، فقد يضيق حكم المذهب بتصرفات الناس احيانا، وهي احيانا قليلة، ولذا فقد اشرنا في بعض المواضع الى رأي المذاهب الأخرى تسهيلا وتيسيرا، لا إعراضا عن حكم المذهب ولا نقدا او تضعيفا. والله تعالى نسأل ان يمن بالقبول، ويجزل الأجر والمثوبة ويجعل ذلك حسنة في سجل اعمالنا، واعمال والدنيا ومعلمينا، انه اكرم مسؤول. المؤلفون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 الباب الأول الشفعة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 الشفعة تعريفها: الشفعة - بضم الشين وسكون الفاء - هي في اللغة: من الشفع بمعنى الضم. وفي اصطلاح الفقهاء: حق تملك قهري، يثبت للشريك القديم على الحادث، فيما ملك بعِوض، بما ملك به، لدفع الضرر. فالشفعة حق اثبته الشرع، يتملك به الشريك الأول ما باعه شريكه لغيره، كما اذا كان اثنان شريكين في دار، فباع احدهما حصته لغير شريكه، فلشريكه الحق ان يأخذ هذه الحصة من المشتري - الذي صار شريكا جديدا له - بغير رضاه، بمثل الثمن الذي دفعه وهذا خلاف الاصل الثابت في التملك شرعا: ان يكون برضا المالك. وسمى هذا الحق شفعة لأن الشريك يضم به نصيب شريكه الى نصيبه. مشروعيتها: الشفعة جائزة ومشروعة، دل على مشروعيتها احاديث كثيرة، منها: ما رواه جابر بن عبدالله الانصاري رضى الله عنه قال: قضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. (اخرجه البخاري: اول كتاب الشفعة، باب: الشفعة في ما لم يقسم .. ، رقم: 2138، ومسلم: المساقاة، باب: الشفعة، رقم: 1608). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 [ومعنى وقعت الحدود: صارت الأرض مقسومة وحددت الأقسام. صرفت الطرق: ميزت وبينت]. وسيأتي خلال البحث احاديث في هذا المعنى. وما دل عليه الحديث اجمع على العمل به علماء المسلمين في كل عصر. حكمة المشروعية : ان التشريع الاسلامي يهدف الى تحقيق مصالح الناس بجلب النفع له ودفع الضرر عنهم، والمرء قد يكون على وفاق وتعاون مع من كان يشاركه في دار او ارض، وقد يحتاج احد الشريكين الى بيع نصيبه ويكون في ذلك تحقيق مصلحته، فلا يحول الشرع بينه وبين ذلك، وانما يحوط تصرفه وتحقيق نفعه بما لا يضر بشريكه، وانما يصون مصلحته ايضا ويحميه من الضرر الذي قد يلحق به، من جراء البيع الى اجنبي عن الشركاء، فقد يبادر هذا الشريك الجديد الى طلب القسمة، او يكون منه سوء خلق ومعاملة، فيضطرهم الى ذلك اوطلبه فينال شركاءه بذلك ضرر احداث مرافق جديدة ونحو ذلك، ويكلفهم اعباء القسمة ونفقتها، فيحل محل الوئام الشقاق والنزاع بين الجيران، وتفوت المصالح ويكثر الضرر بين الأنام. ولذا وجه شرع الله عز وجل هذا الراغب ببيع نصيبه ان يعرض هذا اولا على شركائه، فإن رغبوا بشرائه كانوا هم اولى واحق، فإن لم يرغبوا بذلك كان له الحق ان يبيعه لمن يشاء. فعن جابر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له شريك في ربعة او نخل فليس له ان يبيع حتى يؤذن حتى يؤذن شريكه، فإن رضى اخذ وإن كره ترك". (اخرجه مسلم في المساقاة، باب: الشفعة، رقم: 1608). وعن عمرو بن الشريد رضى الله عنه قال: وقفت على سعد بن ابي وقاص - رضى الله عنه - فجاء المسور بن مخرمة - رضى الله عنه - فوضع يده على احدى منكبي اذ جاء ابو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنه - فقال: يا سعد، ابتع مني بيتي في دارك، فقال سعد: والله لا ازيدك على اربعة الاف منجمة او مقطعة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 فقال ابو رافع: لقد اعطيت بها خمسمائة دينار، ولوا اني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الجار أحق بسبقه" ما اعطيتكها بأربعة آلاف، وأنا اعطي بها خمسمائة دينار. فأعطاها إياه. (البخاري: الشفعة، باب: عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع، رقم: 2139). [منجمة: مؤجلة ومفرقة تعطى جزءا بعد جزء. اربعة آلاف: أي درهم، وكانت تساوي اربعمائة دينار. بسبقه: ما قرب من داره]. وهكذا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسم الطريق واضحا لحفظ الود والوئام بين الناس، ويوجه الى أمثل خلق في التعامل، ونجد اصحابه - رضوان الله تعالى عليهم اجمعين - يلتزمون هديه فلا يحيدون عنه، ولو كان في ذلك خسارة مادية ظاهرة، فيأبون إلا ان يقولوا: سمعنا واطعنا. فإذا ما خالف المرء ما وجه اليه، ولم ينظر في مصلحة غيره ولم يبادر الى استشارة شركائه، فباع الى اجنبي عنهم، بادر الشرع لدفع ما قد يكون من خطر وما قد يقع من ضرر، فانتقل من التوجيه الى التشريع، فجعل الحق لهؤلاء الشركاء: ان يتملكوا حصة شريكهم رغما عن المالك الجديد لها، بمثل ما قامت عليه من ثمن. وبهذا تحقق مصالح الجميع، وتلبي حاجات الناس، ويندفع الضرر عنهم، وتتلاشى اسباب البغضاء والشحناء، ويكون المسلمون مثل الجسد الواحد في الوئام والوفاق وكالبنيان في التماسك والتعاون والإحسان. أركان الشفعة : للشفعة اركان نبينها فيما يلي: 1 - الشفيع (أي الذي له حق الشفعة): علمنا من حكمة التشريع ان الشفعة شرعت لدفع الضرر المتوقع، وهذا المعنى قد يكون في الشريك، وقد يكون في غيره كالجار الملاصق مثلا، ولكن الشرع خصه في الشريك الذي لم يقاسم، وهو الذي يشترك مع غيره في الأصل وملحقاته، كأن يكون شريكا في الدار - مثلا - ومرافقها وطريقها، او في الأرض وحق شربها وحظائرها ونحو ذلك، كما صرح به الحديث: "في كل ما لم يقسم". وصاحب الحق هذا يسمى: الشفيع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 فإذا قسمت الدار او الأرض، واصبح كل من الشركاء مستقلا بنصيبه، فباع احدهم ما يملكه لأجنبي، أي غير واحد من الشركاء السابقين، فليس لهم ان يأخذوا هذا النصيب بحق الشفعة، حتى ولو كانت المرافق - كالممر وحق الشرب ونحو ذلك - مشتركة، لما جاء في الحديث: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" وهؤلاء المستقلون بحصصهم، والمشتركون بالمرافق، يسمى كل منهم بالشريك المخالط. واذا لم تثبت الشفعة للشريك المخالط فلا تثبت للجار الملاصق وغيره من باب أولى. ولم تثبت الشفعة لغير الشريك الذي لم يقاسم - مع ان المعنى الذي شرعت من اجله، وهو دفع الضرر المتوقع، قد يوجد في غيره - لأنها شرعت كما علمت على خلاف الأصل، اذ الأصل ان لا يتملك احد شيئا قهرا عمن ملكه، وقد علمت ان الشفيع يتملك الحصة قهرا عن المشترى الذي ملكها بالشراء من الشريك القديم الشفيع. والمراد بالأصل هنا: المعنى الذي يراعيه التشريع في غالب احكامه، وهو الذي يسميه العلماء: علة الحكم، وقد يطلقون عليه كلمة: القياس. والقاعدة في التشريع الاسلامي: ان كل ما ثبت على خلاف الأصل يقتصر فيه على ما ورد بالنص، ولا يلحق به غيره، وقد يعبرون عن هذا بقولهم: ما ثبت على خلاف القياس فغيره عليه لا يقاس. وقد ورد النص الصحيح الصريح هنا بثبوت الشفعة للشريك الذي لم يقاسم، فلا يلحق به غيره من شريك مقاسم اوجار ولا يقاس عليه. وما جاء من قوله صلى الله عليه وسلم: "الجار احق بسبقه" ليس صريحا في ثبوت حق الشفعة، انما هو من باب الحث على تحصيل النفع للجار وانه اولى بالإحسان من غيره. على ان كلمة الجار عامة في اللغة، فتشمل الشريك وغيره. والأولى تفسيرها في الحديث بالشريك الذي ذكرناه، لأن ابا رافع رضى الله عنه اورده بهذا المعنى حين طلب من شريكه ان يشتري بيتيه - أي غرفتيه - اللتين في داره، وواضح ان الدار لم تكن مقسومة، والله تعالى اعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 تزاحم الشفعاء: علمنا ان الشفيع هو الشريك، فقد يكون للشريك البائع حصته اكثر من شريك، فيكون اصحاب الحق في الشفعة متعددين، وقد تكون حصصهم متساوية - كما لو كانوا يملكون الدار المبيعة اثلاثا مثلا - وقد تكون متفاوتة، كما لو كان احدهم يملك الربع والثاني الربع والثالث النصف مثلا، فاذا باع احدهم حصته، وليكن صاحب الربع مثلا، واراد شركاؤه جميعا اخذ نصيبه بالشفعة، فهل يأخذونه بالسوية حسب عددهم، ام ان كلا منهم يأخذ بنسبة حصته؟ والجواب: ان كلا منهم يأخذ بنسبة حصته، فمن كان له الربع يأخذ ثلث الحصة، ومن كان له النصف يأخذ ثلثيها، لأن سبب الاستحقاق هو الملك وهم متفاوتون فيه، فيتفاوتون في الاستحقاق. ? تجزئة الشفعة: حق الشفعة من الأمور التي لا تتجزأ، فالشفيع: اما ان يأخذ نصيب شريكه المباع جميعه، واما ان يتركه. فاذا كان هناك اكثر من شفيع - كما سبق - ولم يرد بعضهم الأخذ بالشفعة، واسقط حقه: فالأصح ان باقي الشفعاء - او الشفيع الآخر - يخير بين اخذ الجميع او ترك الجميع، كما لو كان شفيع واحد، وليس لمن لم يسقط حقه ان يأخذ بقدر حصته. وذلك لكي لا تفرق الصفقة وتبعض على المشتري، فيناله بذلك ضرر، لأن مصلحته قد تكون في الجميع، ولا يتحق غرضه في البعض. ? غيبة بعض الشفعاء: اذا كان احد الشفعاء او بعضهم غائبا كان للحاضرين طلب الشفعة والأخذ بها، وتقسم بينهم على قدر حصصهم كما علمنا، لأن الغائب في حكم من اسقط حقه، فلم يبق للحاضرين مزاحم، فلهم ان يأخذوا الكل، وليس لهم الاقتصار على قدر حصصهم كما علمنا، اذ من المحتمل ان لا يأخذ الغائب حصته اذا حضر فتتفرق الصفقة على المشتري: فإذا اخذ الحاضرون الكل ثم حضر الغائب، كان له الحق ان يطالب بنصيبه، وقاسم الشركاء فيما اخذوا بنسبة ما كان يملك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 والأصح: ان لمن حضر من الشفعاء ان يؤخر الأخذ بالشفعة حتى يحضر الغائب، وذلك لأنه قد يكون له غرض ظاهر في هذا، فقد يكون غير قادر على اخذ الجميع، او لا يرغب ان يأخذ ما قد يؤخذ منه اذا حضر الغائب. 2 - المشفوع عليه: وهو الذي انتقل اليه ملك نصيب الشريك القديم، والذي هو محل الشفعة. ويشترط ان يكون انتقل الملك اليه بعوض: وقد يكون هذا العوض مالا، كما اذا انتقل الملك اليه بالشراء، او بالصلح عن جناية موجبة للمال، كما اذا صالحه من الدية التي تثبتت عليه على نصف العقار الذي يملكه، فلشريك المصالح ان يأخذ هذا الشِّقص بالشفعة. وقد يكون العوض غير مال، كما اذا جعل نصيبه من العقار مهراً، او جعلته بدل الخُلع، ونحو ذلك، فللشريك ايضا اخذ هذا النصيب ممن انتقل اليه بالشفعة. وذلك لأنه مملوك بعقد معاوضة فأشبه البيع. ويأخذ الشفيع هذا الشقص بالثمن الذي ملك به اذا كانا مثليا، وبقيمته يوم البيع ان كان قيميا كثوب مثلا، وبمهر المثل في النكاح والخلع يوم النكاح ويوم الخلع سواء أنقص عن قيمة النصيب او زاد. فإذا انتقل الملك الى الشريك الجديد بغير عوض لم يكن للشريك القديم ان يأخذ الشقص بالشفعة، وذلك كما انتقل الملك اليه بهبة بغير عوض، او صدقة، او وصية، او انتقل اليه بواسطة الإرث، ونحو ذلك. 3 - المشفوع فيه: وهو الشئ الذي يريد الشفيع ان يتملكه بالشفعة. ويشترط فيه ان يكون غير منقول، كالدور والأراضي ونحوها، ولا تثبت في المنقول كالحيوان والأمتعة ونحو ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 ودليل هذا: 1 - ما رواه جابر رضى الله عنه: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشفعة في كل شِرْك: في ارض او ربع او حائط .. " (اخرجه مسلم في المساقاة، باب: الشفعة، رقم: 1608). [شرك: شئ مشترك. ربع: دار. حائط: بستان] 2 - ان الأخذ بالشفعة ثبت بالنص على خلاف القياس في العقار، فلا يلحق به غيره ولا يُقاس عليه ما ليس في معناه، لأن الشفعة شرعت لدفع ضرر سوء الجِوار على الدوام، وما ينقل ويحول لا يدوم الضرر فيه. ويلحق بالعقار البناء والشجر اذا بيعا مع الأرض تبعا للأرض. ويشترط في العقار ونحوه حتى تثبت فيه الشفعة: ان يكون قابلا للقسمة. والعقار القابل للقسمة هو الذي إذا قسم كان قسم منه صالحا لتحقيق المنفعة المقصودة منه، فإذا ابطلت القسمة منفعته كان غير قابل للقسمة، وبالتالي لا يثبت فيه حق الشفعة، وذلك كحمام صغير وطاحون صغيرة ونحو ذلك. ودليل ذلك: انه صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، فاذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. وهذا يدل على ان الشفعة فيما يمكن ان يقسم ما دام لم يقسم. وكذلك: الشفعة انما ثبتت لدفع ضرر مؤنة القسمة واستحداث المرافق، وذلك لا يوجد الا فيما يقبل القسمة. وقيل: تثبت الشفعة في العقار ونحوه فيما لم يقسم، ولو كان غير قابل للقسمة، لعموم قوله: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم، ولأن الشفعة شُرعت لإزالة ضرر المشاركة، وهذا المعنى في الذي لا يقسم آكد، لأن الضرر فيه يتأبد عند ذلك. شروط الأخذ بالشفعة : علمت اركان الشفعة وما يشترط في كل ركن منها، ونذكر لك الآن بعض الشروط الأخرى التي لابد منها حتى يثبت حق الأخذ بالشفعة، وهي: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 1 - ان يزول مِلْك الشريك الأول عن المشفوع فيه ويزول حقه فيه، فلو باع الشريك حصته لغير شريكه، وشرط لنفسه الخيار، فلا تثبت الشفعة مدة الخيار، وكذلك لو شرط الخيار للبائع والمشتري، لأن المبيع لم يخرج من ملك البائع في هذه المدة، فإذا انتهت المدة ولم يختر فسخ البيع فقد تم البيع وثبتت الشفعة. اما لو شرط الخيار للمشتري وحده فإن الشفيع له ان يأخذ الشقص بالشفعة فور عقد البيع، لأن البيع قد خرج من ملك الشريك الأول بمجرد العقد وعدم شرط الخيار لنفسه. وكذلك لا يثبت الأخذ بالشفعة اذا تبين فساد عقد التمليك وبطلانه، لأن ملك البائع ايضا لم يزل عن البيع. 2 - ان يكون الشفيع مالكا لما يشفع به عند عقد تمليك الشريك الجديد، وان يستمر ملْكه ذلك الى ان يقضي له بالشفعة على الأصح. فلو اخرج الشفيع الشقص عن ملكه ببيع او هبة او نحو ذلك، قبل ان يقضي له بالشفعة، بطل حقه، سواء اكان عالما بهذا ام جاهلا وسواء اطالب بالشفعة ام لم يطالب، لزوال سبب الأخذ بالشفعة وهو الشركة. وفي هذه الحالة لو طالب الشريك الجديد - وهو المتملك من الشفيع - ان يأخذ هو بالشفعة ما كان للشفيع ان يأخذه، فليس له ذلك، لأنه لم يكن مالكا لما يشفع به عند عقد التمليك الأول. ويستثنى من هذا: ما اذا مات الشفيع قبل القضاء له بالشفعة، فإن لوارثه ان يأخذ بها، مع انه لم يكن مالكا لما يشفع به عند البيع ونحوه، لأن الشفعة من الحقوق التي تورث وسواء اكان ذلك قبل طلب المورث الشفيع للشفعة ام بعدها. 3 - ان لا يظهر من الشفيع ما يدل على اعراضه عن الأخذ بالشفعة، وذلك بأن يعلن رضاه بتمليك الشريك الجديد، او يكون منه ما يدل على عدم رغبته بالشفعة من قول او فعل او سكوت، كأن يحصل عقد البيع امامه، فيقوم ويغادر المجلس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 دون ان يطالب بالشفعة، او يبلغه خبر التمليك فلا يطالب بالشفعة زمنا طويلا من غير عذر ففي هذه الحالات ليس له ان يعود ويطالب بالشفعة. إلا ان هناك حالات له ان يطالب فيها بالشفعة رغم ظهور الاعراض منه، وهي: أ- ... ان لا يُخبر بحقيقة العوض الذي حصل به التمليك، كما لو اخبر انه مائة الف مثلا، فأعرض عن الطلب ثم تبين له بعد ذلك انه تسعون مثلا، لأن اعراضه اولا لم يكن عن رضا منه، وانما لارتفاع العوض فلم يكن اعراضه دليل الرضا بالشريك الجديد. ب- ان يخبر ان المشتري فلان، فلا يطالب بالشفعة، ثم يتبين له انه غير، فله ان يطالب بها، لأنه قد يرغب في مشاركة انسان ولا يرغب بمشاركة آخر، ولهذا لم يطلب اولا، ولم يكن ذلك بتقصير منه. ج- ان يخبر بأن العوض معجل، ثم يتبين له انه مؤجل، فله ان يطالب بالشفعة ولو ظهر منه إعراض اولا، اذ قد يقدر على اخذ الشقص بمؤجل، ولا يقدر على اخذه بمعجل. د- ان لا يخبر بقدر المبيع حقيقة، كما لو اخبر ان المبيع نصف الشقص فتبين انه جميعه، او ان المبيع الشقص كله فتبين انه جزء منه، فإذا ظهر منه الإعراض اولا حق له ان يطالب بعد تبين الحقيقة، لأنه قد يرغب بتملك قدر معين ولا يرغب بتملك قدر غيره. 4 - ان يبادر الشفيع الى الطلب بالشفعة بحسب الإمكان، وذلك ان حق الشفعة حق فوري، لأنه ثبت على خلاف القياس كما علمت، فهو حق ضعيف وقد جاء في الحديث: "الشفعة كحل العقال" (اخرجه ابن ماجه في الشفعة، باب: طلب الشفعة، رقم: 2500). ومعناه: انها تفوت ان لم يبادر الى طلبها، كما ان البعير يشرد فورا اذا حل عقاله، أي رباطه، ولذا يجب على الشفيع المبادرة الى الطلب بها عند علمه بانتقال الملك من شريكه الى غيره حسب العادة وقدر الإمكان، فلو علم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 ليلا كان له تأخير ذلك الى النهار، وان كان مريضا او غائبا عن البلد فليوكل بذلك او ليشهد على طلبه، فإن قصر فيما هو قادر عليه سقط حقه على الأظهر. ولا يشترط لثبوت الحق حكم حاكم ولا حضور المشتري ولا رضاه، واحضار الثمن، وانما يشترط طلبها بلفظ يدل على الأخذ بها، كتملكت او اخذت بالشفعة. ويشترط تسليم العوض الى المشتري، او رضاه بأن يكون في ذمة الشفيع، واذا لم يحصل هذا وقضى له القاضي بالشفعة ملك بها في الأصح. أحكام الشفعة : 1 - سقوط حق الشفعة: علمنا أن حق الشُفعة حق ضعيف، ولذا يتعرض للسقوط بأقل الأسباب، ومن هذه الأسباب ما علم مما مر: كالإعراض عن الطلب بها، وكذلك عدم المبادرة اليها، وخروج الشقص عن ملكه قبل الحكم بها، ونحو ذلك. ومن ذلك ايضا: الصلح عن الشفعة على عوض، كما لو صالح الشفيع المشتري على شئ من مال ليترك له الشقص الذي اشتراه، فإن الصلح باطل، ولا يستحق شيئا من العوض، وبالتالي سقط حقه في الشفعة. 2 - تصرف المشتري في المشفوع فيه: على من اشترى شقصا من عقار او دار ان يتريث في التصرف فيما اشتراه، حتى يتبين له موقف الشفيع من حيث المطالبة بالشفعة او التنازل عنها، لأن حق الشفيع متقدم على حقه، واستقرار ملكه فيما اشتراه متوقف على اسقاط الشفيع حقه في الشفعة. فإذا تصرف المشتري قبل طلب الشفيع او تبين الحال كان تصرفه صحيحا ونافذا، لأنه يتصرف في ملكه وان لم يلزم ويستقر. ولكن هل يبطل تصرفه ذلك حق الشفيع؟ والجواب: ان ذلك لا يبطل حقه، بل للشفيع ان ينقض كل تصرف لا شفعة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 فيه لو وجد ابتداء، كالهبة والوقف والاجارة، وان يأخذ الشقص بالشُفعة، لأن حقه سابق على هذه التصرفات، فلا يبطل بها. واما اذا كان التصرف الجديد مما تثبت به الشُفعة ايضا، كالبيع مثلا ونحوه من التمليك بعوض، كان له الخيار: بين ان يأخذ الشقص بالشُفعة بناء على التصرف الجديد، وبين ان ينقضه ويأخذ بالحق الثابت له اولا. وفائدة هذا التخيير: ان العوض قد يكون في أحدهما اقل او ايسر في جنسه عليه، فيختار ما فيه مصلحته. ولو تصرف المشتري في الشقص تصرفا يزيد فيه او ينقص منه: - كما لو زرع الأرض او غرس فيها او بنى، كان للشفيع ان يكلفه قلع ما فعل وتسوية الأرض، لأنه متعد في فعله، وله ان يأخذ الغراس او البناء بقيمته مقلوعا. - ولو كان في الأرض بناء او شجر، فهدم البناء او قطع الشجر، فللشفيع اخذ الشقص بما يخصه من الثمن، بعد نقص قيمة البناء او الشجر يوم العقد، لأنهما - وان كانا تابعين للأرض - صارا مقابلين بشئ من الثمن لأنه قصد اتلافهما. وكذلك الحال لو تلف بعض الأرض بغرق أوانهيار، فإنه يسقط من الثمن ما يقابل القسم التالف منها، لأنه بعض الأصل. اما لو تلف البناء او الشجر بغير صنع احد: كان للشفيع ان يأخذ الأرض بكل الثمن او يدعها، ولا يسقط شئ من الثمن، لأن البناء والشجر تابع للأرض، ويدخلان معها في البيع ولو لم يذكر في العقد، فلا يقابلهما شئ من الثمن بخصوصهما. 3 - نقص الثمن على المشتري او الزيادة فيه: إذ حط البائع بعض الثمن عن المشتري او زاد فيه، وأراد الشفيع الأخذ بالشفعة، فهل يستفيد من هذا النقص او تلزمه تلك الزيادة؟ والجواب: - اذا كانت الزيادة او النقص بعد لزوم البيع واستقراره، كما اذا كان البيع باتا لا خيار فيه، وتفرق العاقدان من المجلس، او كان ذلك بعد انتهاء مدة الخيار إن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 كان مشروطا، لم يلحق ذلك الشفيع، لأن نقص الثمن في هذه الحال يكون بمثابة هبة من البائع للمشتري، والزيادة فيه بمثابة هبة من المشتري للبائع، ولا صلة لهذا بالثمن لأن العقد قد تم قبل ذلك. - واذا كانت الزيادة او النقص قبل لزوم البيع واستقراره، كما لو كانت في مجلس العقد وقبل التفرق، او كانت في مدة الخيار ان كان مشروطا، لحق ذلك الشفيع، فينحط عنه من الثمن ما حطه البائع، كما يلزمه ما زاد فيه المشتري، لأن ذلك يعتبر لاحقا للعقد وجزءا منه، طالما انه وقع قبل لزوم العقد واستقراره. 4 - أخذ ما بيع مؤجلا: اذا باع الشريك نصيبه بثمن الى اجل، وطلب الشفيع ان يأخذ بالشفعة، فهل يستفيد من تأجيل الثمن؟ والجواب: ان الشفيع في هذه الحالة يخير: بين ان يأخذ بالشفعة في الحال ويعجل الثمن، وبين ان يؤجل الأخذ بالشفعة الى حلول الاجل، فإذا حل الأجل، دفع الثمن وأخذ المبيع، ولا يسقط حقه بهذا التأخير لأنه معذور به، لأننا لو ألزمناه الأخذ في الحال مع تعجيل الثمن كان في ذلك إضرار به، لأن الأجل غالبا ما يقابل بقسط من الثمن، فما بيع مؤجلا يغلب ان يكون ثمنه اكثر مما بيع حالا. ولو اجزنا له ان يأخذ الشقص المبيع في الحال بالثمن المؤجل كان في ذلك إضرار وقد لا يرضى المشتري - الذي سيدفع هو الثمن للبائع، ويأخذ الثمن من الشفيع - قد لا يرضى ان يبيعه الى اجل باختياره، فإذا الزمناه بذلك اضررنا به، فكان في تخييره على ما ذكر دفع للضرر عن الجانبين. ولو رضى المشتري ان ياخذ الشفيع الشفعة في الحال، وان يؤجل الثمن الى وقت حلوله، فأبى الشفيع الا ان يؤجل الأخذ الى وقت الحلول، بطل حقه في الشفعة على الأصح. 5 - اختلاف المشتري والشفيع: قد يختلف الشفيع والمشتري في قدر الثمن، فيقول الشفيع: اشتريته بألف مثلا، ويقول المشتري: اشتريته بألف ومائة، ولا بينة على ذلك، يصدق المشتري الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 بيمينه، لأنه اعلم بما باشره من الشراء وما دفعه من الثمن، ولأن الشفيع يدعي عليه الاستحقاق بالأقل وهو ينكر ذلك، والقول دائما قول المنكر بيمينه، فإذا نكل المشتري في اليمين - أي امتنع من الحلف - حلف الشفيع على مدعاه، واخذ الشقص بما حلف عليه. واذا اختلفا في البيع اصلا، فأنكر المشتري الشراء والشفيع يدعيه، فيصدق المشتري بيمينه، لأن الأصل عدم الشراء، إلا اذا اعترف الشريك القديم بالبيع. وكذلك الحال لو انكر المشتري كون الشفيع الطالب شريكا، فيحلف على نفي العلم بشركته، لأن الأصل عدمها والقول قول من يتمسك بالأصل. ********** الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 الباب الثاني المساقاة والمزارعة والمخابرة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 المسَاقَاة تعريفها: هي - في اللغة - مأخوذة من السَّقْي. وشرعا: هي ان يتعاقد صاحب الشجر مع غيره، على ان يقوم بإصلاحه وتعهده وما يحتاج إليه من عمل، ويأخذ جزءا معينا مما يخرج منه من ثمر. وسميت مساقاة: لأن هذا العمل يحتاج الى السقي بالماء ونضحه ونقله أكثر من غيره، فهو أكثر الأعمال مشقة على العامل، وأنفعها للمتعاقد من اجله وهو الشجر. وتسمى معاملة، وتسميتها مساقاة أولى، لما ذكر. مشروعيتها: المساقاة مشروعة وجائزة، وقد دل على مشروعيتها: 1 - السنّة: ومن ذلك ما رواه عبدالله بن عمر رضى الله عنهما: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر او زرع، وفي رواية: عامل اهل خيبر .. (اخرجه البخاري: المزارعة، باب: المزارعة بالشطر ونحوه، رقم: 2203، ومسلم: المساقاة، باب: المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع، رقم: 1551). 2 - إجماع الصحابة رضى الله عنهم، فقد استمروا على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافة ابي بكر وعمر رضى الله عنهما، ولم ينكر ذلك احد منهم. (انظر البخاري ومسلم الموضع المذكور قبل). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 حكمة مشروعيتها: إن الحكمة من مشروعية المساقاة هي تلبية الحاجة الداعية الى ذلك، والتيسير على الناس في تحقيق مصالحهم المشتركة من غير ضرر ولا ضرار، فقد يكون للرجل الأرض والشجر ولا قدرة له على تعهدها والانتفاع بها، ويكون غيره لا ارض له ولا شجر، ولديه القدرة البدنية والخبرة العملية لإصلاح الشجر واستثماره. وفي استئجار من يقوم بالعمل احتمال ضرر بالغ بالمالك، فقد يهمل الأجير العمل، فلا يخرج شئ من الثمر، او يخرج قليل منه لا يقابل الأجر الذي غرمه المالك، وربما غرمه فور التعاقد على العمل. فبهذا العقد ينشط العامل ويندفع للعمل، فربما كان الثمر كثيرا، فينتفع هو مقابل جهده، وينتفع المالك من ثمرة ملكه دون ان يقع عليه ضرر، فتتحقق مصلحة الطرفين، بل مصلحة المجتمع بالانتفاع برزق الله عز وجل، الذي يكون ثمرة الكسب والعمل والبذل، مع الصدق والأمانة والحفظ. أركانها: للمساقاة أركان ستة: مالك، وعامل، وصيغة، ومورد، وعمل، وثمر، ولكل منها شروط، وسنبينها مع شروطها بعون الله تعالى. 1 - المالك: ويشترط فيه أن يكون كامل الأهلية، إن قام بالتعاقد لنفسه، فإن كان المالك غير اهل للتعاقد - كالصبي والمجنون والمحجور عليه لسفه - ودعت الحاجة والمصلحة الى هذا التعاقد، قام بالتعاقد من له ولاية على المالك، او من له ولاية على المِلْك كأن كان المالك غير معين - كمال بيت المال والوقف - قام بذلك ناظر الوقف والحاكم او نائبه. 2 - العامل: ويشترط فيه ما يشترط في المالك من الأهلية، فلا تصح اذا كان صبيا او مجنونا. 3 - الصيغة: لابد في المساقاة من ايجاب وقبول، فالإيجاب قد يكون بلفظ صريح: كأن يقول ساقيتك على هذا النخيل - مثلا - بكذا من الثمرة، وبلفظ الكناية: كقوله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 سلمت اليك هذا الشجر لتتعهده بكذا، او اعمل على هذا الشجر بكذا، ونحو ذلك من الألفاظ التي يتعارفها الناس في هذا التعاقد، فإذا قبل العامل بلفظ يدل على رضاه بما اوجبه المالك صحت المساقاة. ولا تنعقد بلفظ الإجارة على الأصح، فلو قال: استأجرتك لتقوم بتعهدها بكذا من ثمرتها، لم تنعقد مساقاة، لأن لفظ الإجارة صريح في عقد آخر، ولم تنعقد إجارة لجهالة الأجرة في هذه الحالة. ولا بد لصحة الانعقاد من القبول على ما ذكرنا، وان يكون لفظا متصلا بالإيجاب عرفا، وتقوم الإشارة والكتابة من الأخرس مقام اللفظ. 4 - موردها: أي ما ترد عليه صيغة المساقاة، وما يصح ان يحصل التعاقد على اصلاحه وتعهده من الشجر، وهو شجر النخيل والعنب. وذلك لأن النص قد ورد في النخيل صراحة، فقد جاء في رواية من حديث ابن عمر رضى الله عنهما: "دفع الى اهل خيبر نخلها وارضها .. ". وقيس شجر العنب على النخيل لأنه في معناه، لأن ثمر كل منهما تجب فيه الزكاة باتفاق الفقهاء، ويتأتي فيه الخرص - أي تقدير ما يكون في رطبه من يابس - ولكل منهما رطب ويابس يدخر ويقتات به، فالنخيل يؤكل ثمره رُطبا ويصير تمرا، وشجر العنب يؤكل ثمره عنبا كما يصبح زبيبا. واختار بعض أئمة المذهب ومرجحيه صحة ورودها على جميع الاشجار المثمرة، قياسا على النخيل والعنب، ولعموم قوله "من ثمر .. ". ولعل هذا الذي اختاره هو الأرجح والأوفق لحكمة التشريع، من رعاية المصالح والتيسير على الناس، ولاسيما في هذه الأزمان التي كثر فيها تنوع الاشجار المثمرة، فصارت الحاجة ملحة لصحة المساقاة في كل شجر، ولعل سبب ورود النص على النخيل انه كان الأكثر والغالب في بلاد العرب ولاسيما الحجاز، وخصوصا خيبر، يدل على هذا اختلاف روايات الحديث، وان الأكثر منها لم يذكر فيه النخيل، والله تعالى اعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 وصحتها في كل الأشجار المثمرة هو قول الشافعي رحمه الله تعالى القديم، ومذهب اكثر الفقهاء غير الشافعية 5 - العمل: وهو ما يقوم به العامل من جهد لرعاية الشجر واصلاحه. وعلى العامل ان يقوم بكل عمل يحتاج اليه لصلاح الثمر واستزادته، مما يتكرر كل سنة: - فعليه السقي وما يتعلق به: من اصلاح طرق الماء، وفتح رأس الساقية وسدها عند السقي، وتنقية مجرى الماء من طين وعشب ونحوه، واصلاح الحفر حول اصول الشجر ليستقر فيها الماء. - وعليه تلقيح الأشجار ونحوه. - وكذلك إزالة قضبان مضرّة وتنحية اعشاب وحشائش قد تؤثر على الشجر. - وعليه - ايضا - تعريش ما جرت العادة بتعريشه من الأشجار في تلك البقاع، ووضع حشائش ونحوها على الثمار لصيانتها من الشمس، حسب العادة والحاجة. - والأصح أن عليه حفظ الثمر وصيانته من السرّاق، وكذلك عليه حفظه من الحشرات بالرش بالمبيدات ونحو ذلك، كما ان عليه قطعه وتجفيفه إن كان مما يجفف، كثمر النخيل والعنب والتين. فإن عجز عن بعض هذه الأعمال - لكثرة الشجر مثلا او كبر البستان - استعان عليها، وكانت نفقتها عليه. وليس عليه ان يقوم بأي عمل يقصد به حفظ الشجر، ولا يتكرر كل سنة. فليس عليه بناء حيطان، ولا حفر نهر جديد او بئر، ولا نصب باب، ولا ادوات حراثة، ولا ما يستخرج به الماء كمحرّك، ونحو ذلك، بل ذلك كله ونفقاته على المالك. ولو شرط المالك على العامل القيام بما ليس عليه لم تصحّ المساقاة، وكذلك لو شرط العامل على المالك القيام بما هو من واجب العامل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 ويشترط في صحة المساقاة: - ان ينفرد العامل بالعمل وباليد، أي في التخلية بينه وبين المعقود عليه وان يسلم اليه، ليتمكن من العمل متى شاء. فلو شرط بقاء البستان في يد المالك، او اشتراكهما في اليد لم تصح المساقاة، ولو شرط المالك وجود اجير له، ليقوم عنه بما يترتب عليه ويخصه من اعمال، صحّ. - كما يشترط معرفة قدر العمل إجمالا، وذلك بذكر مدة تثمر فيها الأشجار المعقود عليها غالبا وتبقى صالحة للاستغلال. فلا تصحّ مطلقة عن المدة، أو مقيدة بزمن لا تثمر فيه تلك الأشجار غالباً، لخلوّها عن العوض بالنسبة للعامل، ولا مقّيدة بزمن لا تبقي فيه الأشجار صالحة للأستغلال. ولا يصح توقيتها بإدراك الثمر على الأصح، لجهالة المدة، لأن إدراكه قد يتقدم وقد يتأخر. 6 - الثمرة: أي ثمرة الأشجار التي ورد عقد المساقاة على تعهدها، ويشترط في هذا: 1 - أن تكون مختصّة بهما، أي المالك والعامل، فلا يجوز ان يشترط جزء منها لغيرهما، فلو شرط شئ من ذلك فسد عقد المساقاة. 2 - ان يشتركا في الثمر، فلو شرط ان كون الثمر كله لواحد منهما كانت مساقاة فاسدة. 3 - ان يكون نصيب كل منهما معلوما بالجزئية، كربع وثلث ونصف ونحو ذلك، فلو قال: على ان الثمر بيننا، كان مناصفة، فلو شرط لواحد منهما نصيب معين - كألف صاع مثلا، أو الف رطل من الثمرة - لم يصح، لأنه ربما ما أثمرت ذلك، او لم تثمر غيره، فيخلو العاقد الثاني عن العوض، ومثل هذا لو شرط لواحد منهما قدر معين من النقد. ويثبت حق العامل في الثمرة بظهورها، فإذا اطلعت قبل انقضاء المدة - أي ظهر اول حملها ولو لم يظهر تماما - ثبت حقه فيها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 ويصح عقد المساقاة قبل ان يكون الثمر بالكلية، كما تصح بعد وجوده وظهوره - لكن قبل بدء صلاحه - على الأظهر، لبقاء اكثر العمل. وصف عقد المساقاة : عقد المساقاة عقد لازم من العاقدين، فإذا وجدت اركانه بشروطها أصبح كل منهما ملزما بتنفيذه وليس له فسخه والرجوع عنه الا برضا العاقد الآخر، سواء أكان ذلك قبل العمل ام بعده، لأن العمل المعقود عليه يكون في أعيان قائمة بحالها، فيلزمه إتمام أعمالها ولو تلفت الثمرة كلها بآفة ونحوها. ووجه لزومها مراعاة مصلحة العاقدين: اذ لو كان للعامل فسخها قبل تمام العمل لتضرّر المالك بفوات الثمرة او بعضها، لعدم تمكن المالك من إتمامه، لكونه لا يحسنه او لا يتفرغ له. ولو كان للمالك فسخها لتضرر العامل بفوات نصيبه من الثمرة، لأن الغالب ان يكون أكثر من اجرة مثله. حكم المساقاة الفاسدة: كل ما سبق من أحكام يترتب على المساقاة الصحيحة، وهي التي استوفت اركانها بكامل شروطها. فإذا اختل ركن من الأركان او شرط من الشروط كانت المساقاة فاسدة، كما بينا ذلك في مواضعه، وذلك في كل موضع قلنا فيه: لا تصلح المساقاة: كأن شرط على احدهما ما ليس من عمله، او يكون نصيبه مجهولا او غير معلوم بالجزئية، او كان موردها شجرا غير مثمر، ونحو ذلك. فإذا تبين فساد المساقاة: كان الثمر لصاحب الشجر، لأن نماء ملكه، وكان للعامل اجرة مثله لمثل عمله الذي قام به، لأنه بذلك منفعته على ان تقابل بعوض، ولم يكن متبرع بعمله. يد العامل: يد العامل يد أمانة، فإن ادعى هلاك شئ تحت يده - من شجر او ثمر او غير ذلك - بغير تقصير منه ولا تعد، كان القول قوله، فيصدق بيمينه. وكذلك فيما اذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 ادعى المالك خيانته وانكر هو، فإنه يصدق بيمينه، لأن المالك قد ائتمنه، والقول دائما قول المؤتمن بيمينه. انتهاء المساقاة : تنتهي المساقاة اذا انتهت المدة المتعاقد عليها، اذا كان الثمر قد نضج وقطف. فإذا انتهت المدة وكان الثمر قد ظهر طله - أي بدء وجوده - فقد تعلق به حل العامل كما علمت، فتستمر المساقاة حتى ينضج ويقطف، وعلى العامل ان يستمر بالعمل حتى يتمه. ولا تنتهي الماساقة بموت احدهما: فإذا مات المالك استمر العامل بعمله وأخذ حصته عند تمام العمل. واذا مات العامل كان للوارث ان يتم العمل بنفسه، وعلى المالك ان يمكنه من ذلك اذا كان ثقة عارفا بالعمل، وان كان لم يكن كذلك استأجر المالك بإذن الحاكم من يقوم بالعمل من تركة العامل. ولا يجبر الوارث على العمل، بل له ان يتمه من تركة الوارث او من ماله. ويجبر على اتمام العمل، اذا ترك العامل تركة، لأنه حق قد وجب عليه، فيلزم أداؤه من التكرة كغيره من الحقوق. فإذا لم يترك العامل تركة لم يجبر الوارث على اتمام العمل لا بنفسه ولا من ماله. ولا يقترض على العامل. بل للمالك ان يفسخ المساقاة لتعذر استيفاء المعقود عليه وهو العمل، ويستحق ورثة العامل اجرة المثل لما مضى ان لم يظهر الثمر، وان ظهرت الثمرة كان للورثة قيمة نصيب العامل على تلك الحالة، والله تعالى أعلم. ولا تنتهي المساقاة بخيانة العامل، اذا ثبتت بإقراره او ببينة ونحو ذلك، وانما يضم اليه مشرف ليمتنع عن الخيانة، ولا ترفع يده عن العمل لأنه واجب عليه، ويمكن استيفاؤه منه بهذا. وتكون اجرة المشرف عليه لأنها استحقت بسببه. فإذا لم يتحفظ عن الخيانة رغم وجود المشرف ازيلت يده بالكلية، واستؤجر عليه من ماله من يقوم بالعمل ويتمه، لتعذر الاستيفاء منه مع لزومه له. وكذلك الحال فيما لو هرب العامل - او حبس او مرض- قبل تمام العمل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 والفراغ منه، فلا تنفسخ المساقاة، بل يستأجر عليه الحاكم من يقوم بالعمل ويتمه، الا اذا تبرع عنه المالك وغيره، فيبقى استحقاقه فيما اتفق عليه من نصيب من الثمر. وفي حال عدم التمكن من الرجوع الى الحاكم - او عدم استجابته لذلك - يستأجر المالك من يقوم بالعمل، ويشهد في ذلك على ما ينفقه من اجله، وانه ينفق ليرجع على العامل، فإذا اشهد كان له الرجوع على العامل بما انفق، والا كان متبرعا. واذا لم يجد الحاكم ولا المالك من يقوم بالعمل عن العامل - ولم يشأ المالك التبرع عنه - كان للمالك ان يفسخ المساقاة، لتعذر استيفاء المعقود عليه وهو العمل. وكان للعامل اجرة مثل ما سبق من عمله ان لم تظهر الثمرة، وقيمة نصيبه على تلك الحالة ان كانت قد ظهرت. اختلاف العامل والمالك : اذا اختلف العامل وصاحب الشجر في العوض المشروط، فقال المالك: شرطت لك ثلث الثمرة، وقال العامل: شرطت لي نصفها، يحلف كل منهما على اثبات دعواه ونفي دعوى خصمه، لأن كلا منهما منكر لدعوى الآخر، فإذا تحالفا انفسخ عقد المساقاة، وكان الثمر كله للمالك، وللعامل اجرة مثله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 المزارعة والمخابرة تعريفهما: المزارعة - في اللغة - على وزن مفاعلة من الزرع. وهي في الاصطلاح: ان يتعاقد مالك الأرض مع غيره ليقوم بزراعة الأرض وتعهد الزرع ويكون الخارج بينهما حسب الاتفاق، والبذر على المالك. والمخابرة - في اللغة - من الخبار، وهو الارض اللينة، ومن قولهم خبرت الأرض اذا شققتها للزراعة، واصطلاحا: هي مثل المزارعة، وانما البذار فيها على العامل. مشروعيتهما: وكل من المزارعة والمخابرة باطلة اذا كانت هي المقصودة بالعقد، كأن كانت الأرض لا شجر فيها، او كان فيها شجر وجرى التعاقد على زراعة الأرض دون المساقاة على الشجر. ودليل بطلانهما: حديث رافع بن خديج رضى الله عنه قال: كنا نحاقل الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى، فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن امر كان لنا نافعا، وطواعية الله ورسوله انفع لنا، نهانا ان نحاقل بالأرض فنكريها على الثلث والربع والطعام المسمى، وامر رب الأرض ان يَزرعها اويُزرعها، وكره كراءها وما سوى ذلك. (البخاري: المزارعة، باب: ما كان اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسي بعضهم بعضا في الزراعة والثمرة. مسلم: البيوع، باب: كراء الأرض بالطعام). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 [نحاقل: من الحقل وهي الأرض التي لا شجر بها. الطعام: القمح ونحوه. المسمى: المعين والمحدّد قدره]. وروى جابر رضى الله عنه: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة (البخاري: المساقاة، باب: الرجل يكون له ممر او شرب في حائط او في نخل، رقم: 2252. ومسلم في البيوع، باب: النهي عن المحاقلة والمزابنة، رقم: 1536). جواز المزارعة تبعا للمساقاة : إذا كان بين الأشجار ارض لا شجر فيها صحّت المزارعة عليها مع التعاقد على مساقاة الشجر تبعا، لما جاء في حديث ابن عمر رضى الله عنهما: انه صلى الله عليه وسلم دفع ارض خيبر الى اهلها بشطر ما يخرج من ثمر او زرع. ويشترط في هذا: 1 - اتحاد العامل، أي أن يكون من تعاقد معه المالك على مساقاة الشجر هو الذي تعاقد معه على مزارعة الأرض. 2 - ان يعسر إفراد الشجر بالسقي ونحوه عن الأرض، فإذا كان هذا ممكنا لم تصح المزارعة. 3 - أن لا تكن اصلاً مقصوداً في التعاقد، وذلك بأن يحصل التعاقد على المساقاة والمزارعة معا، فلو تعاقدا على المساقاة، ثم تعاقدا على المزارعة، لم تصح، لأن تعدد القصد ينفي التبعية. ولذا يشترط - في الأصح - ان لا تقدّم المزارعة في العقد على المساقاة، فلو قال: زارعتك على هذه الأرض وساقيتك على هذا الشجر، لم يصح، لأن، المزارعة يجب ان تكون تبعا، والتبع لا يكون متقدما على متبوعه. ولا فرق - في الأصح - بين ان تكون الأرض بين الأشجار قليلة او كثيرة، لأن السبب عسر إفرادها بالتعهد، فالحاجة الى جوازها تبعا لا تختلف بين القليل والكثير. ولا يشترط ايضا ان يكون الجزء المخصص لكل منهما متساويا في المزارعة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 والمساقاة، بل يمكن ان يختلف، فيكون في المساقاة - مثلاً - شطرين، وفي المزارعة اثلاثاً: لأن المزارعة - وان كانت تابعة - فهي في حكم عقد مستقل. المخابرة باطلة مطلقا : هذا ولا تصح المخابرة مطلقا ولو كانت تبعا للمساقاة، لأنها لم يرد بها الشرع، بخلاف المزارعة، بالاضافة الى ان المزارعة في معنى المساقة، لأن كلا منهما ليس فيها على العامل الا العمل، بينما في المخابرة عليه البذر إلى جانب العمل. حكم المخابرة والمزارعة الفاسدة: علمنا ان المخابرة فاسدة مطلقا، وكذلك المزارعة اذا لم تتحقق شروط صحتها، فإذا تعاقد صاحب الأرض مع العامل مزارعة او مخابرة، وقام العامل بالعمل وسلّم الزرع: - فإن كانت مزارعة: كان الحاصل ملكا لصاحب الأرض، لأنه نماء ملكه وهو البذار الذي بذله في ارضه. وعليه للعامل اجرة مثل عمله ودوابه وآلاته ان كانت منه. - وان كانت مخابرة: كان الحاصل للعامل، لأن البذر منه، والغلّة تبع للبذر. وعليه لصاحب الأرض او مستحقها اجرة مثلها. فإن كان البذار منهما: كان الحاصل بينهما، بنسبة ما لكل منهما من البذر. ويرجع كل منهما على الآخر بأجرة ما صرفه من المنافع على حصته فلو كان البذر مناصفة منهما: رجع صاحب الأرض بنصف اجر مثلها على العامل، ورجع العامل على صاحب الأرض بنصف اجر مثل عمله، وهكذا. طريقة حلّ المحصول في المزارعة والمخابرة مشتركاً بين المالك والعامل: لما كان شرع الله تعالى يسراً لا عسر فيه ولا حرج، والحكمة من احكامه ضمان الحقوق وإبعاد الناس عن الضرر والمنازعة وما الى ذلك، جهد الفقهاء في ان يجدوا مخرجا للناس، حين توقعهم ظواهر النصوص في شئ من الحرج، ولا سيما عندما يؤمن الضرر وتنتفي الجهالة وتصان الحقوق، حرصاً على هيبة الشرع وإبقاء الناس تحت سلطان احكامه، مع تحقيق مصالحهم وتيسير امورهم، طالما ان ذلك ممكن ولو بوجه من الوجوه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 وتحقيقاً لهذا المعنى وجد الفقهاء طريقة لتحقيق ما في المزارعة والمخابرة من مصلحة في بعض الأحيان، إذ قد توجد الأرض لدى من لا يُحسن استخدامها او لا يستطيع الاستفادة منها، ويفقدها من لديه الخبرة على استخراج ما أودعه الله تعالى فيها من خيرات، وفي نفس الوقت ليس لديه المال ليستأجرها ويستثمرها. وذلك: بأن يستأجر المالك العامل بجزء معلوم من البذر وشائع فيه، أي كربعه او نصفه دون تمييز له، ليزرع له النصف الآخر في الأرض، ويعيره - في نفس الوقت - جزءا شائعاً من الأرض بقدر ما استأجره به من البذر، وهكذا يقوم العامل بالعمل في الأرض، ويكون الحاصل بينهما بنسبة ما ملك كل منهما من البذر. او يستأجره بنصف البذر شائعاً - مثلا - ونصف منفعة الأرض كذلك، ليزرع له النصف الآخر من البذر في النصف الآخر من الأرض. وهكذا يشتركان في الغلة، ولا يكون لأحدهما أُجرة على الآخر، لأن العامل يستحق من منفعة الأرض بقدر نصيبه من الزرع، والمالك يستحق من منفعة العامل بقدر نصيبه من الزرع ايضا. وهذا اذا كان البذر من المالك. فإذا كان البذر من العامل: استأجر من المالك جزءا معينا شائعا من الأرض كنصفها - مثلا - بنصف شائع من البذر وبعمله في النصف الآخر منها. او يستأجر نصفها بنصف البذر، ويتبرع له بالعمل بنصفها الآخر. وهكذا ايضا يملك كل منهما من الغلة بنسبة ما ملك من البذر ومنفعة الأرض، ولا يكون لأحدهما اجر على الآخر. هذا على أن كثيراً من الفقهاء غير الشافعية - رحمة الله تعالى على الجميع - قالوا بجواز المزارعة استقلالاً، بدليل معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، واعتبروا المخابرة في معنى المزارعة، لأن كلاًّ منهما وارد على منفعة، فإذا كن البذر من صاحب الأرض فالمنفعة عمل العامل، وإن كان البذر من العامل فالمنفعة هي منفعة الأرض. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 الباب الثالث العَاريَّة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 العارية تعريفها: العاريّة - بتشديد الياء أفصح من تخفيفها - وهي في اللغة: اسم لما يعطيه الرجل لغيره لينتفع به ثم يرده عليه، كما تطلق على العقد الذي يتضمن هذا. مشتقة من التعاور وهو التداول وانتقال الشئ من يد الى يد. وهي في الاصطلاح الشرعي: إباحة الانتفاع بما يحل الانتفاع به مع بقاء عينه. فعقد العاريَّة يتضمن اباحة الانتفاع للمستعير، فهو لا يملك المنفعة وانما يباح له ان ينتفع بالعين، أي الشئ المستعار على ما سيأتي، ولذا لا يملك ان يؤجر العين المستعارة لأحد، كما لا يملك ان يعيرها لغيره. وإنما تصحّ اعارة ما يحلّ الانتفاع به، فلا تصحّ اعارة خنزير او آلات لهو، كما لا تصح اعارة مصحف لحائض ونفساء، لأنه لا يجوز لهما مسّه والقراءة فيه. والإعارة تكون في الأعيان التي لا تستهلك بالاستعمال، كما سيأتي بيانه عند الكلام عن أركان العارية، فإذا كانت تستهلك بالاستعمال - كالصابون مثلا - فلا تصح اعارتها. مشروعيتها: الإعارة مشروعة، وقد دلّ على مشروعيتها نصوص من الكتاب والسنّة، وانعقد على ذلك الإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: "فويل للمصلّين. الذين هم عن صلاتهم ساهون. الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون" "الماعون: 4 - 6". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 فقد ذكر الله تعالى ان منع الماعون من صفات المكذب بيوم الدين والمهدَّد بالويل - وهو العذاب والهلاك - يوم القيامة، فدلّ ذلك على انّ بذل الماعون امر مشروع ومطلوب. وجمهور المفسرين على ان المراد بالماعون ما يستعيره الجيران بعضهم من بعض، كالدلو والإبرة والقِدْر ونحو ذلك، ويلحق به كل ما في معناه. وأما السنّة: - فما رواه انس رضى الله عنه، ان النبي صلى الله عليه وسلم استعار فرساً من ابي طلحة فركبه. (اخرجه البخاري في الهبة، باب: من استعار من الناس الفرس، رقم: 2484. ومسلم في الفضائل، باب: في شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وتقدمه للحرب، رقم: 2307). - وما رواه جابر بن عبدالله رضى الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن كانت له ارض فليهبها أو ليُعرْها" (اخرجه مسلم في البيوع، باب: كراء الأرض، رقم: 1536). وسيأتي معنا احاديث أُخرى خلال البحث، فيها دلالة على مشروعية العاريَّة مع بيان احكامها. وما دلّ عليه القرآن والسنّة من مشروعية الإعارة عامة: انعقد عليه اجماع علماء المسلمين في كل العصور. حكمة مشروعيتها : إن حكمة التشريع في العاريّة هي تحقيق التعاون الذي ندب الله تعالى المسلمين اليه اذ قال: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) (المائدة: 2). فكثير من الناس لا يتمكن من اقتناء كل ما يحتاج اليه من متاع او ملبس او مسكن او عقار: إما لقلة ذات يده، او لفقدانه في الأسواق، أو ندرة وجوده، او لكثرة مشاغل بعض الناس التي تنسيهم بعض حاجاتهم، وعندها قد يجد المرء نفسه في ساعة من ليل او نهار في حاجة ماسة لأن يطرق باب جيرانه، فيطلب منهم استعارة بعض الأشياء، او يتوجه بالطلب الى صديقه في سفر او حضر ان يستعين ببعض متاعه لقضاء حاجته، ولا سيما اولئك الكثيرات من ربّات البيوت، اللواتي قد يكون رجالهنّ في سفر، او غائبين عن البيت لانهماكهم في العمل، والمرأة مضطرة لأن تهيئ الطعام او تقوم بشؤون الأولاد، فتحتاج الى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 اشياء كثيرة لا تتمكن من تهيئتها بنفسها، فلا بد من ان تستعين بمتاع من يساكنها في دارها او يجاورها. ولما كان الاسلام دين التيسير والتعاون - كما ذكرنا - يسّر على الناس وشرع لهم ان ينتفع بعضهم بأمتعة بعض، بإذن منه ورضا، جلبا للمصلحة ودفعا للمضرة، ورفعا للحرج، وحفظا من الارهاق والعنت، كي تسود الألفة والمودة، ويكون الله عز وجل في عون الجميع، طالما ان كلا منهم يسعى ان يكون في عون غيره، مستجيبين لتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ يقول: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه". وبهذا يحمون أنفسهم من العقاب والعتاب، في يوم عصيب لا ينفع المرء فيه الإ ما قدّم من احسان في هذه الدار، ورعاية للحقوق واداء للواجب. روى جابر بن عبدالله رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من صاحب ابل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها، الا أُقعد لها يوم القيامة بقاعٍ قَرْقَرٍ، تطؤه ذات الظِّلْفَّ بظِلْفها، وتنَطحُهُ ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذً جمّاء ولا مكسورة القرن". قلنا: يا رسول الله، وما حقّها؟ قال: "اطراقُ فحلها، واعارة دلوها، ومنيحتُها، وحلبها على الماء، وحملٌ عليها في سبيل الله". (اخرجه مسلم في الزكاة، باب: اثم مانع الزكاة، رقم: 988). [قاع قرقر: ارض مستوية. تطؤه: تدوسه. الظلف: ما يكون في نهاية القدم من البقر والغنم ونحوها، جماء: لا قرن لها. اطراق فحلها: اعارة الذكر منها لينزو على اناثها. منيحتها: المنيحة هي الشاة او البقرة او الناقة، يعطيها مالكها لغيره لينتفع بلبنها ونحوه زمانا، ثم يردها لمالكها]. حكم العاريَّة: العاريَّة مستحبة ومندوب اليها، لما سبق من أدلة في بيان مشروعيتها وحكمة التشريع، وقد كانت واجبة في اول التشريع، للتهديد الشديد لمانعها كما علمت، ولكن هذا الوجوب نسخ بالإجماع، وبقى الحكم على الاستحباب، وهذا هو الاصل في حكمها الآن. وقد تصبح واجبة، اذا توقف عليها انقاذ حياة انسان معصوم، أي غير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 حربي، كإعارة ثوب لدفع حرٍّ او بردٍّ شديدين مهلِكَيْن، واعارة حبل لإنقاذ غريق، واعارة ضماد لعصب جرح بليغ ونحو ذلك. ومن الواجب اعارة ما فيه حفظ مال محترم ايضا، كإعارة سكّين لذبح حيوان مأكول اللحم يخشى موته اذا لم يذبح، لأن عدم ذبحه إضاعة مال، وهو منهي عنه شرعا. وقد تكون العاريَّة محرمة، كإعارة آلة قاتلة لمن غلب على ظنه انه سيقتل بها، وكإعارة مصحف لحائض او نفساء كما علمت. وقد تكون مكروهة، كما لو كان فيها مساعدة على مكروه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 أركان عقد الإعارة للإعارة أركان اربعة، وهي: المُعير، والمستعير، والصيغة، والشئ المستعار، ولكلٍّ منها شروط، واليك بيانها: 1 - المعير: وهو الذي يبيح لغيره الانتفاع بالعين التي في حوزته، ويشترط فيه: أ- أن يكون مالكاً للمنفعة في العين المُعارة، سواء أكان يملك العين ام لا يملكها، كالمستأجر - مثلا- والموصى له او الموقوفة عليه، فكل منهم له ان يعير العين المستأجر لها او الموصي له بمنفعتها او الموقوفة عليه، لأنه يملك منفعتها، والإعارة ترد على المنفعة لا على العين، ولذا ليس للمستعير ان يعير العين التي استعارها، لأنه لا يملك منفعتها، وانما ابيح له الانتفاع بها. ب- أن يكون ممن يصح تبرعه، فلا تصح الإعارة من الصبي ولا من المجنون، كما لا تصحّ من المحجور عليه بسفه أو فلس اذا كانت المنفعة تقابل بعوَض، وذلك لأن الإعارة تبّرع بالمنفعة، وهؤلاء ليسوا من اهل التبرع. ج- أن يكون مختاراً، فلا تصحّ الإعارة من مُكرَه عليها، لأن المنفعة المبذولة مال، لأنها تقابل بعوض، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحلّ مال امرئ مسلم الا عن طيب نفس" (اخرجه الدارقطني في البيوع، الحديث: 91). 2 - المستعير: وهو الذي أُبيح له الانتفاع بالعين المُعارة، ويشترط فيه شرطان: أ - ان يكون أهلا للتبرع عليه بعقد، أي تصحّ عبارته شرعا ويعتدّ بها وهو البالغ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 العاقل، فلا تصحّ الإعارة لصبي او مجنون، لأن كلاٍّ منهما لا يعتبر قوله شرعا، فإذا احتيج الى اعارتهما تولى ذلك عنهما وليُّهما. ب- ان يكون معيّناً، فلو قال لإثنين: أعرتُ احدكما كتابي، او قال لجماعة: اعرت احدكم كتابي، لم تصحّ الإعارة، لأن المستعير غير معين. 3 - صيغة عقد العاريَّة: وهي العبارة التي تدل على هذا العقد من الإيجاب والقبول، ولا يُشترط اللفظ من المعير والمستعير، بل يكفي اللفظ من أحدهما والفعل من الآخر، بما يدل على إذن مالك المنفعة بإباحتها لغيره، فلو قال المالك: خذ هذا الكتاب واقرأ به، او: اعرتك هذا الكتاب، فاستلمه المستعير، صحّت الإعارة، وكذلك لو قال المستعير: اعرني كذا، فسلّمه اليه المالك، صحّ العقد. ولابد فيها من اللفظ من احد المتعاقدين، فلو اخذ المستعير المتاع دون كلام، وسكت المعير، لم تصح الإعارة، ولم يترتب عليها إباحة الانتفاع للمتسعير. ولا يشترط التتابع بين طرفي الصيغة، فلو قال: اعرني كذا، ودفعه اليه بعد زمن، صح ذلك، ما لم يوجد ما يدل على الرجوع من المعير او الرد من المستعير. وتصح الإعارة مطلقة عن الوقت والشرط، كما تصح معلقة على شرط ومقيدة بوقت، كما لو قال له: اعرتك داري هذه لتسكنها سنة، او ان خرج منها فلان الذي يسكنها، وذلك لأن الاعارة ليست بعقد تمليك حتى لا تقبل التعليق والتوقيت، وانما هي اباحة انتفاع كما علمت. 4 - المستعار: وهو العين التي تُباح منفعتها للمتسعير، ويشترط فيها: أ - ان تكون منفعتها ملْكاً للمُعير كما علمت، فلا تصحّ اعارة المستعير لغير. ب- ان تكون يمكن الانتفاع بها، فلا تصحّ اعارة ثياب لا تقي من حرٍّ ولا برد او لا تستر عورة، كما لا تصح اعارة دابّة مريضة مرضاً مزمناً للركوب، وكذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 سيارة لا محرّك فيها، لأن عقد العاريَّة يرد على المنفعة، ولا منفعة في مثل ذلك، فيكون عقدا على غير معقود عليه. ولا يشترط وجود النفع عند العقد على الصحيح، فلو اعاره مهرا صغيرا للركوب صح ذلك، ان كانت الاعارة مطلقة، او مقيدة بزمن يمكن ان يصبح المهر فيه صالحا للركوب. وكذلك لو اعاره ثوبا غير صالح للبس ولكن يمكن اصلاحه، ونحو ذلك. ج- ان يكون الانتفاع بها مباحا شرعا، فلا تصح اعارة آلات اللهو، ولا اعارة حلي لامرأة تتزين به امام الأجانب، ولا اناء ليصنع فيه خمر، او سكين ليذبح بها خنزير للأكل، او سلاح لمن يعتدي به على معصوم الدم، ونحو ذلك، لأن، مثل هذا الانتفاع حرام وممنوع شرعاً. د- ان يكون الانتفاع بها لا ينقص عينها، كالثياب والدور والأواني ونحو ذلك. فإذا كان الانتفاع بها ينقصها لم تصح اعارتها، وعليه: فلا اعارة لشمعة ليستضاء بها، او صابون للتنظيف ونحو ذلك، لأن الانتفاع بها يكون باستهلاكها وتلف عينها شيئا فشيئا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 أحكام تتعلق بالعاريَّة 1 - حدود الانتفاع بالعين المستعارة: للمستعير ان ينتفع بالعين المستعارة ضمن الحدود التي أذن فيها المالك، لرضاه بهذا، وليس له ان ينتفع بغير ما اذن به، لأنه لم يرض بذلك، الا اذا كان اقل تأثيرا على العين من الذي اذن به، فإن اطلق الاذن بالانتفاع، بأن اعاره مطلقا دون التقييد بوجه من وجوه الانتفاع، كان له ان ينتفع من العين بما ينتفع بها عادة، وان نهاه عن الانتفاع بوجه من الوجوه امتنع عليه ذلك الوجه، ولو كان اقل تأثيرا على العين، وذلك كله لأن المعير مالك للمنفعة ومتبرع بها، فله تحديد وجه الانتفاع بما شاء، وعليه: - فلو اعاره ارضا لينتفع بها، جاز له ان يبني فيها وأن يغرس شجراً أو يزرع زرعا، لأنه اطلق الإذن بالانتفاع، فلو قال: اعرتك هذه الأرض، دون ان يقول لتنتفع بها، فالصحيح ان الإعارة غير صحيحة. - وان أعاره للبناء او الغراس جاز له ان يزرع، لأن الزرع اقل ضررا من الغراس او البناء، فرضاه بالأشد دليل رضاه بالأقل، الا ان نهاه عن ذلك فليس له فعله. - وإن أعاره للزرع فليس له ان يبني او يغرس، لأن البناء والغراس كل منهما اكثر ضررا على الأرض من الزرع، ورضاه بالأقل لا يدل على رضاه بالأشد. - وان اعاره للزراعة مطلقا زرع ما شاء، فإن اعاره لزراعة نوع معين كان له زرعه وزرع ما هو مثله او اقل منه تأثيرا، وليس له زراعة ما هو اشد منه ضررا على الأرض. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 وهكذا القول في كل عين مستعارة: فلو استعار سيارة للركوب فليس له ان يستعملها لحمل الأمتعة مثلا، وان استعارها لحمل امتعة خفيفة - كخشب مثلا ونحوه - فليس له ان يحمل فيها اشياء ثقيلة كحديد او اسمنت ونحو ذلك. وللمستعير ان يستوفي المنفعة او بمن ينوب منابه - كوكيله مثلا - لأن الانتفاع يعود عليه ويرجع اليه، شريطة ان يكون مثله او دونه في استيفاء المنفعة من حيث التأثير على العين المستعارة، فلو استعار دراجة وأراد ان يركب عليها أجيره أو وكيله للقيام بعمله لمصلحته، كان له ذلك، الا اذا كان يزيد عنه في وزنه وثقله، وهكذا. 2 - يد المستعير على العين المستعارة: إن يد المستعير على العين المستعارة يد ضمان، فإذا قبض المستعير العين المستعارة دخلت في ضمانه، ومعنى هذا ان المستعير العين المستعارة إذا تلفت، سواء أتعدى باستعمالها أم لم يتعدّ، وقصّر في حفظها ام لم يقصّر، لأنه قبض مال غيره لمصلحة نفسه. وقد دلّ على ذلك حديث أُمية بن صفوان بن أُمية عن ابيه صفوان رضى الله عنه: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه دروعاً يوم حنين، فقال: أغصب يا محمد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا، بل عاريَّة مضمونة" (اخرجه ابو داود في البيوع والإجارات، باب: في تضمين العارية، رقم: 3562). ويضمن المستعير العين المستعارة بقيمتها يوم تلفها، اذا تلفت وذهبت ولو بآفة سماوية، ولا يضمن ما بَلِيَ منها او نقص من قيمتها بسبب الاستعمال المأذون فيه، فإذا استعملها في غير ما أذن له به، فنقصت، فإنه يضمن. وكذلك يضمن ما نقص منها بسبب الاستعمال ان استعملها فيما لا تستعمل فيه عادة، كأن استعمل الدار او النجارة، او استعمل اوعية الطعام لنقل الرمل او الحجارة. ويضمنها ايضا اذا استعملها بعد رجوع المُعير بالاعارة وطلبه ردّ العين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 المستعارة، حتى ولو استعملها فيما هو مألوف في استعمالها، او ما اذن له المعير سابقا باستعمالها فيه، لأنه استعمال غير مأذون فيه، وكذلك الحال لو كانت العارية مؤقتة واستعملها بعد انتهاء المدة. شرط الضمان فيما لا ضمان فيه، وعدم الضمان فيما فيه الضمان: علمنا أنه لا ضمان فيما تلف او نقص من عين العارية بالاستعمال المأذون فيه، وكذلك تضمن العارية اذا تلفت بغير الاستعمال المأذون فيه مطلقا، فلو شرط في العقد خلاف هذا كان الشرط لاغيا لا يلزم الوفاء به، ويبقى عقد العارية صحيحا كما لو يشرط فيه هذا الشرط، وقيل: تفسد الإعارة أيضا. 3 - نفقة المستعار ومؤونة رده: إذا كان للمستعار نفقة - كما لو كان دابة فتحتاج الى علف، او مسكنا فيحتاج الى ترميم - فهذه النفقة على مالك العين، سواء أكان المعير هو المالك للعين أم المستأجر لها، لأن النفقة تبع للملك، والإعارة تبرع بالمنفعة من مالكها لينتفع بها المستعير، فلا يجب عليه في مقابلها شئ. فإذا انتهت الاعارة او فسخت، ووجب على المستعير رد العين المستعارة الى المعير، وكان لردها عليه مؤونة ونفقة، كأجرة دابة او سيارة نقل مثلا، كان ذلك على المستعير، لأن الرد واجب عليه، إذ انه قبض العين لمنفعة نفسه، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والرد الواجب عليه لا يتم الا بالنفقة، فهي واجبة عليه. وقد دل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه". وجاء في رواية من حديث صفوان بن امية رضى الله عنه: انه صلى الله عليه وسلم قال له: "عاريّة مؤدّاة". (الترمذي: البيوع، باب: ما جاء في أن العارية مؤداة، ابو داود: البيوع، باب: ما جاء ان العارية مؤداة. ابن ماجة: الصدقات، باب: العارية). وهذا اذا رد العين المستعارة الى المعير نفسه، فإذا استعار من مستأجر، ورد العارية الى المالك المؤجر، فالمؤونة حينئذ على المالك، لأن المستعير يقوم في هذا مقام المستأجر في رد العين المستأجرة الى المؤجر، ومؤونة الرد في الإجارة على المالك لا على المستأجر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 4 - الرجوع بالعاريّة وردّها: عقد العاريَّة عقد جائز من الطرفين، أي يحقّ لكِّل من المعير والمستعير فسخه متى شاء ولو بغير علم الآخر ولا رضاه، فيحق للمعير ان يرجع بالعارية ويسترد العين المستعارة متى شاء، حتى ولو كانت الإعارة مؤقتة بوقت لم ينته بعد. وكذلك يحق للمستعير ان يردها ايضا متى شاء. ولا يلزم أي منهما باستمرار الإعارة، لأنها مبرة من المعير وارتفاق من المستعير، فلا يناسبها الإلزام لأي منهما. ويستثنى من ذلك ما اذا استعار ارضاً لدفن ميت، فليس لأحدهما فسخ الإعارة في الأرض المدفون فيها، فلا يحق للمعير استرداد الأرض ولا للمستعير ردها، حتى يبلى المدفون ويندرس أثره، بأن يصير ترابا ولا يبقى منه شئ ظاهر. وذلك لأن الدفن كان بإذن. وفي النبش هتك حرمة الإنسان، ولا يلزمه اجرة على أي حال في هذا. وكذلك يستثنى ما إذا أذن المعير في شغل المستعار بشئ يتضرر المستعير بالرجوع فيه، كما لو اعاره سفينة لنقل بضاعة وطالبه بها في لجّة البحر، او أعارة سيارة لذلك وطالبه بها في موضع لا يستطيع فيه تحصيل غيرها، كالصحراء مثلا، ففي هذه الأحوال لا يلزم المستعير رد العين المستعارة، وله ان يستمر بالانتفاع بها حتى يتمكن من ردها بغير ضرر، ولكن يلزمه في هذا وامثاله اجرة المثل من حين الطلب الى حين الرد. الرجوع بالأرض المعارة واستردادها: إعارة الأرض إما أن تكون للبناء والغراس، وإما أن تكون للزراعة: فإن اعاره للبناء او الغراس: ثم رجع المعير عن الإعارة بعد البناء او الغراس، يُنظر: - فإن كان المعير قد شرط على المستعير ان يقلع ما بناه او غرسه عند الرجوع بالإعارة وجب عليه ذلك عملا بالشرط، لقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم". فإن امتنع من ذلك قلعه المعير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 - وان كان شرط عليه تسوية الأرض بعد القلع لزمه ذلك في الحالين، وان لم يشرطه فلا يلزمه. - وان كان المعير لم يشترط على المستعير القلع يُخَيّر المستعير بين القلع وعدمه: فإن اختار القلع قلع، ولا يستحق شيئا اذا نقصت قيمة البناء او الغراس بالقلع، لأنه ملكه وقد رضى بنقصانه حين اختار قلعه، ويلزمه تسوية الأرض على الأصح، ليصبح ما استعاره كما كان عليه حين أخذه، ليرده كما اخذه. وانما لزمته التسوية لأنه قلع باختياره، ولو امتنع من القلع لم يجبر عليه. وان لم يختر المستعير القلع: فالمعير مخير بين امور ثلاثة، وهي: 1 - ان يبقى البناء او الغراس ويأخذ اجرة المثل. 2 - ان يقلع الغراس او يهدم البناء، ويضمن للمستعير ما ينقص من قيمة ذلك ما بين حاله قائما وحاله مقلوعا، كما انه يلزم بأجرة القلع او الهدم. 3 - ان يتملّك البناء او الغراس بقيمته مستحق القلع، ولا بدّ ان يكون ذلك بعقد مشتمل على إيجاب وقبول. وانما كان التخيير للمعير لأنه هو المُحسن، ولأنه هو مالك الأرض التي هي الأصل، فإن اختار واحدة منها اجبر المستعير عليها. وان لم يختر المعير واحدة منها: فالأصح ان القاضي يعرض عنهما حتى يصطلحها او يختار امعير، وقيل: ان الحاكم يبيع الأرض وما فيها، ويقسم الثمن بينهما بنسبة قيمة ما لكل منهما، فصلا للخصومة. ولا فرق في كل ما سبق: بين ان تكون الإعارة مطلقة او مقيدة بوقت على الأصح، الا انه في الاعارة المطلقة: اذا بنى او غرس ثم قلع فليس له ان يبني او يغرس الا بإذن جديد، فإن فعل ذلك بلا اذن كان للمعير ان يجبره على القلع وتسوية الأرض مطلقا، والله تعالى أعلم، واما في الإعارة المؤقتة: فله ان يبني او يغرس مرة بعد اخرى، طالما ان المدة لم تنته ولم يرجع المعير في الإعارة، وعند الرجوع تطبق الأحكام المذكورة اولا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 وإن اعاره للزراعة: ثم رجع المعير عن الإعارة قبل ان يدرك الزرع: فالصحيح ان للمستعير ان يبقيه الى ان يدرك ان كان ينقص قيمته بالقلع قبله، لأنه مال محترم، وله امد يدرك فيه بالعادة فينتظر، وللمعير اجرة المثل في هذه الحال على الصحيح. ولا فرق في هذا بين ان تكون الإعارة مطلقة او مقيدة بمدة، الا انه في حال التقييد بمدة: اذا لم يدرك الزرع قبل انتهائها، لتقصير المستعير: كأن يتأخر بالزراعة، او يكون هناك مانع منها من ثلج او سيل ونحو ذلك، ثم يزرع في الأرض بعد زوال المانع ما لا يدرك غابا في المدة المتبقية، او يزرع غير ما استعار من اجله مما يبطئ اكثر منه، ففي هذه الحالات: للمعير ان يجبر المستعير على قلع الزرع وتسوية الأرض، وان نقص بسبب ذلك، لأنه متعد وظالم بفعله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس لعرق ظالم حق" (اخرجه ابو داود في الخراج والامارة والفئ، باب: في احياء الموات، رقم: 3073، والترمذي في الأحكام، باب: احياء ارض الموات، رقم: 1378). 5 - كيفية رد العين المستعارة: يكون رد العين المستعارة الى المعير بحسب الشئ المستعار عرفا وعادة: فالأشياء المنقولة لابد من نقلها وتسليمها للمعير، ولاسيما اذا كانت نفيسة، فيختلف التسليم باختلاف نفاستها، كالجواهر والمعادن الثمينة، فربما اشترط تسليمها ليد المعير بنفسه، وربما اكتفى بردها الى منزله وتسليمها الى من ينوب منابه في قبضها، كالأوعية ونحوها. واذا كانت العين المستعارة غير منقولة، كالأرض والدور ونحو ذلك، كفى فيها التخلية وازالة الموانع من استلامها والانتفاع منها. 6 - الاختلاف بين المعير والمستعير: قد يختلف المعير مع المستعير في أُمور، من ذلك: أ- الاختلاف في الرد: كأن يدعي المستعير انه رد العين على المعير، وينكر المعير ذلك ويقول: لم تردها على، فيُحلّف المعير على قوله ويصدّق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 بيمينه، لأنه المنكر، والقاعدة في هذا: أّن البيَّنة - أي الشهود - على المدعي واليمين على من انكر. لأن الأصل عدم الرد اذ ثبت كون العارية في يد المستعير، فالأصل انها لا تزال في يده، فالمعير متمسك بالأصل بقوله، والقول المصدق هو قول من يتمسك بالأصل. ب- الاختلاف في حال التلف: لو تلفت العين المستعارة، وادعى المستعير انها تلفت بالاستعمال المأذون فيه، وانكر المعير ذلك وقال: بل تلفت بغير الاستعمال، او باستعمال غير مأذون فيه، يصدق هنا المستعير بيمينه، لأنه من الصعب عليه ان يقيم بينة على قوله، اذ ليس من العادة ان يستعمل المستعار على ملأ من الناس حتى يشهدهم على التلف. ولأن الأصل براءة ذمته من الضمان، والمعير هنا يدعي الضمان وهو ينكره تمسكا بالأصل، والقول قول المنكر والمتمسك بالأصل بيمينه كما علمت، فيحلف المستعير على قوله ويبرأ من الضمان. ج- الاختلاف في اصل العقد: كأن يدعي المالك الإجارة، ويدعي المنتفع الاستعارة. او ان يقول المنتفع: اعرتني، ويقول المالك: بل غصبته مني. فالأصح انه يصدق المالك بيمينه. فيحلف انه ما اعاره وانما اجره، او يحلف انه ما اعاره وانما غصب منه. وانما كان القوم قول المالك لأن الأصل ان لا يأذن بالانتفاع فيما يملك الا بمقابل. فإذا حلف استحق اجرة المثل ان مضت مدة لها اجرة. فاذا كانت العين قائمة ردها، وان تلفت قبل الرد ضمنها المنتفع في دعوى الغصب. فإن كان ما يدعيه المالك من التضمين اكثر مما يدعيه المنتفع حلف المالك على الزيادة. وبيان ذلك ان العارية تضمن بقيمتها يوم التلف، والمغصوب يضمن بأعلى قيمه من يوم الغصب الى يوم التلف، فإذا كانت القيمة متساوية فقد اتفقا، والا حلف المالك على الزيادة، لأنهما لم يتفقا عليها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 7 - انتهاء عقد العاريّة: ينتهي عقد الإعارة بأمور، وهي: أ - طلب المعير للعاريَّة ورجوعه عن الاعارة، سواء اكان ذلك قبل انتهاء مدة الإعارة ام بعدها، لأنها عقد جائز من طرفه كما علمنا. ب- رد المستعير للعين المستعارة على المعير، بعد انتهاء مدة الإعارة ام قبلهان لأنها عقد جائز ايضا من طرفه. ج- جنون احد المتعاقدين او اغماؤه، لاختلال شروط المعير والمستعير على ما علمت، اذ يشترط في المعير اهلية التبرع وفي المستعير اهلية التبرع عليه، والمجنون والمغمى عليه ليسا اهلا لذلك. د- موت المعير او المستعير، لأنها عقد اباحة الانتفاع بالإذن، وبموت المعير لم يبق صاحب الإذن، وبموت المستعير لم يبق المأذون له. هـ- الحجر بالسفه على المعير او المستعير، لأنه لم يبق المحجور عليه اهلا للتبرع، فلا تصح الإعارة، فتفسخ. والحجر بالفلس على المالك، لأنه يمتنع عليه التبرع بمنافع امواله، حفظا لمصحلة دائنيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 الباب الرابع الشركة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 55 الشركة تعريفها: الشركة: بكسر الشين وسكون الراء هو الأفصح، ويصحّ بفتح الشين وكسر الراء او سكونها. وهي في اللغة: الاختلاط بعقد أم بغير عقد. وتطلق على الاختلاط في الأموال، ومنه قوله تعالى: "وإنْ كان رجلٌ يُورَثُ كلالةً او امرأةٌ وله اخٌ او أُختٌ فلكلِّ واحدٍ منهما السُّدُس فإن كانوا اكثرَ من ذلك فهم شركاءُ في الثلث" (النساء: 12). [يورث كلالة: أي يرثه كلالة، وهم الورثة غير الفروع مطلقاً وغير الأصول من الذكور. والمراد بهم هنا اخوة الميت من أُمه]. كما تُطلق على الخلطة في غير الأموال، ومنه قوله تعالى: "هارونَ اخي. اشدُدْ به أَزْري. وأَشْرِكْه في امري". (طه: 32) وهي في اصطلاح الفقهاء: ثبوت الحق في شئ واحد، لاثنين فأكثر، على جهة الشيوع، لا على جهة التعيين، كأن يملك اثنان فأكثر ارضا، دون ان تعَّين منها حصة كل واحد منهم، وهذا تعريف الشركة بمعناها العام، الذي يتناول ما كان منها بعقد وما كان بغير عقد. واما تعريفها بالمعنى الخاص: فهي عقد يحدث بالاختيار بقصد التصرف وتحصيل الربح. اقسامها: من التعريف يتبين لنا ان الشركة قد تكون بقصد الربح، وقد تكون لغير ذلك، ولهذا جعلها العلماء قسمين: شركة املاك، وشركة عقد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 57 فشركة الأملاك: ان يملك اثنان فأكثر شيئاً واحداً، وقد يكون ذلك قهراً عنهما، أي بغير فعلهما ولا إرادتهم، كما لو ورثاه معاً، وقد يكون اختيارياً، أي بفعل منهما ورغبتهما، كأن يشتريا شيئا واحدا معا، او يقبلا هبته لهما من احد ونحو ذلك. وحكم هذه الشركة: ان كل واحد من الشريكين اجنبي في نصيب الآخر، فلا يجوز له ان يتصرف فيه الا بإذنه، اذ لا ولاية لأحدهما على مال الآخر. وهذه الشركة ليست هي المقصودة بالكلام في باب الشركة لدى الفقهاء، وانما تبحث كل صورة منها في موضعها من الباب الفقهي المتعلقة به، من هبة او إرث أو وصية ونحو ذلك. وأما شركة العقد: فهي المقصودة بالبحث في باب الشركة هنا، وقد مرّ بك تعريفها، وهي أنواع، منها ما هو مشروع ومنها ما ليس بمشروع، وسنتكلم عن هذا بالتفصيل - ان شاء الله تعالى - بعد الكلام عن مشروعية الشركة وحكمة مشروعيتها . مشروعيتها: الشركة على العموم مشروعة وجائزة، ودلَ على هذه المشروعية: القرآن: ومن ذلك آية الميراث التي مرَت بك، وفيها: "فهم شركاءُ في الثلث" في صريحة في جواز الشركة، اذ ن الله تعالى جعل الإخوة للأم شركاء في الثلث، يقتسمونه بينهم بالسوية، ويستأنس لها ايضا بما جاء على لسان داود عليه السلام من قوله تعالى: "وإن كثيراً من الخُلَطاء لَيَبغْي بعضُهم على بعض" (ص: 44) والخلطاء هم الشركاء، وقلنا يستأنس ولم نقل يستدل لأن هذا واردٌ في شرع من قبلنا، والأصح انه ليس بشرع لنا. السنة: وفي ذلك احاديث كثيرة، منها: 1 - ما رواه ابو هريرة رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى: انا ثالث الشريكين ما لم يخُنْ احدهما صاحبه، فاذا خانه خرجتُ من بينهما" (ابو داود في البيوع والاجارات، باب: في الشركة، رقم: 3383). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 58 ومعنى الحديث: ان الله تعالى يشمل الشريكين - او الشركاء - بالحفظ والمعونة فيمدّهما بالبركة في أموالهما وتجارتهما، طالما أنهما على الصدق والامانة فاذا زاغا عن الصدق وعدلا عن الأمانة رفعت البركة من تجارتهما، وحجبت الإعانة عنهما، فيكون النزاع والخصام والفشل والخسران. 2 - حديث السائب بن ابي السائب رضى الله عنه: انه كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة في التجارة، فلما جاء يوم الفتح قال: "مرحبا بأخي وشريكي، لا يداري ولا يماري" (اخرجه ابو داود في الأدب، باب: في كراهية المراء، رقم: 4836). فقوله: "شريكي" اقرار منه صلى الله عليه وسلم لمشروعية الشركة، وان كان من قوله صلى الله عليه وسلم، وان كان من قول السائب رضى الله عنه فسكوته صلى الله عليه وسلم اقرار منه له. [يداي: اصله يدارئ بالهمز، وجاء بالياء تسهيلا ليوافق لفظ يماري، ويدارئ من درأ بمعنى دفع، ويماري: من المراء وهو الجدال]. ومعنى الحديث: كنت شريكا متسامحا، توافقني في عملي، فلا تخالفني ولا تنازعني. 3 - ما رواه البراء بن عازب رضى الله عنه: انه كان وزيد بن ارقم رضى الله عنه شريكين، فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهما: "ان ما كان بنقد بأجيزوه، وما كان نيسئة فردوه" (مسند احمد: 4/ 371). [نسيئة: أي الى اجل]. وهذا ايضا اقرار منه صلى الله عليه وسلم لجواز الشركة. كما كان الناس يتعاملون بالشركة فيما بينهم، ولم ينكر عليهم صلى الله عليه وسلم وعلى هذا جرى التعامل بين المسلمين في كل العصور دون انكار من احد فكان ذلك اجماعا. حكمة تشريع الشركة : الناس متكاملون في قدراتهم ومواهبهم وامكانياتهم خلقهم الله عزّ وجل متفاوتين في هذا كله، لا يستطيع احد منهم ان يتسقل بكل ما تتطلبه الحياة، ولكنه يكمل ذلك بالتعاون مع غيره، ليستقيم العيش، ويكون الرزق الحلال، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 وصدق الله عز وجل اذ قال: "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون" (الزخرف: 32). فقد يوجد من لديه المال الوفير، ولكن ليس لديه الخبرة الكافية في إدارة الامور، ويوجد من لديه الخبرة، ولكن ليس عنده القدرة الجسدية اللازمة، اولا يلك المال الكافي للقيام بعمل ما، فيضم بعضهم ما لديه من قدرات الى ما عند غيره، فتتوفر دعائم العمل، وتتيسر اسباب التجارة التجارة الرابحة، فيكون التكامل، ويتحقق التعاون. وهذا ما تحققه الشركة بين الشركاء فتقدم للمجتمع منافع جمة ربما حرم منها لو بقى كل فرد مستقلا بجهوده ومواهبه وممتلكاته، فكانت الحاجة ماسة والمصحلة ملحة لتشريع الشركة، وشرع الله تعالى الذي جاء للتيسير على الناس ورفع الحرج عنهم، على اسس سليمة وقواعد اخلاقية قويمة، ما كان ليقف دون تلبية تلك الحاجة او تحقيق هذه المصلحة، فكان من سمو تشريعه وكمال تقنينه ان شرع الشركة واجزها، ووضع لها الضوابط والاحكام التي من شأنها ان تجلب ما فيها من نفع وخير، وتدفع ما قد يكون فيها من مفسدة وشر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 60 أنواع الشركة والمشروع منها شركة العقد يمكن ان تحصل على صور متعددة يحصرها الفقهاء في اربعة انواع، وهي: شركة العنان ، وشركة المفاوضة، وشركة الأبدان، وشركة الوجوه. 1 - اما شركة العنان: فهي ان يشترك شخصان او اكثر في التجارة بأموال لهم، على ان يكون الربح بينهم. وهذا النوع من الشركة جائز ومشروع باتفاق الفقهاء، وسنتكلم عنه بالتفصيل بعد الكلام عن الأنواع الثلاثة الأخرى. 2 - واما شركة المفاوضة: فهي أن يشترك اثنان فأكثر في اموالهم عامة، ويكونوا شركاء في كل ما لدي كل منهم، وكل منهم وكيل عن الآخر وكفيل له، يشاركه في كل مغنم وعليه ما يصيبه من كل غرم. وهذا النوع من الشركة باطل عند الشافعية رحمهم الله تعالى، لما تنطوي عليه من الغرر الكبير، لما فيها من الوكالة بالمجهول والكفالة به، وكل منهما باطل لو انفرد فكيف اذا اجتمعا؟ ولذا قال الشافعي رحمه الله تعالى: إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة، فلا باطل أعرفه في الدنيا. وقد اجازها غير الشافعية رحمهم الله تعالى بقيود وشروط تكاد تجعلها لا وجود لها اصلا في الواقع، والله تعالى أعلم. 3 - وأما شركة الأبدان (وتسمى شركة الأعمال): فهي أن يشترك اثنان أوأكثر - لا مال لهم - على أن يتقبلوا أعمالا ويوقوموا بها، سواء أكانوا متفقين في الحِرْفة أم مختلفين - على أن يكون الربح بينهم متساوياً او متفاوتاً، وذلك كالحمّالين والخيّاطين وغيرهم من اصحاب الصناعات والحِرَف المشروعة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 وهذا النوع من الشركة باطل ايضاً، لما فيه من الضرر المنهي عنه شرعاً، لأنه ربما قام بعضهم بأعمال تفوق ما قام به غيره بكثير، وربما قام أحدهم بالعمل كله ولم يقم غيره بشئ، فيكون في ذلك غبن حين يتقاسم الشركاء ثمار العمل، ولا تطمئن نفس مَن قام بالجهد ان يبذل نتاج جهده لغيره بدون مقابل. وقد أجازها الأئمة غير الشافعية - رحم الله تعالى الجميع - للحاجة الداعية اليها، إذ إن الحكمة من مشروعية الشركة تنمية المال كما علمت، وهذا النوع من الشركة يكون به تحصيل أصل المال للشركاء، وربما كانت الحاجة لتحصيل أصل المال فوق الحاجة إلى تنمية ما هو موجود منه، والله تعالى أعلم. 4 - وأما شركة الوجوه: فهي ان يشترك اثنان فأكثر ممّن لهم وجاهة عند الناس وحُسْن سمعة، على أن يشتروا السلع في الذمة إلى أجل، مشترِكِين أم منفردين، ويكون المشتري مشتركاً بينهم، ثم يبيعوا تلك السلع، فما كان من ربح كان بين الشركاء، يقتسمونه بالسويّة او حسب الاتفاق. وهذا النوع باطل ايضاً، لعدم وجود المال المشترك بينهم، والأصل في الشركة المال، ولوجود الضرر فيها ايضا، لأن كلا من الشركاء يعاوض صاحبه بكسب غير مقابل بعمل او صنعة او ما الى ذلك، فلم يكن الربح هنا نماء للمال، ولا مقابلا للعمل، فلا يستحق. وكذلك اجاز هذه الشركة غير الشافعية رحمهمالله تعالى جميعا، للحاجة اليها على ما سبق في التي قبلها، والله تعالى اعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 شركة العِنان علمنا مما سبق ان شركة العِنان هي النوع المشروع من الشركة باتفاق الفقهاء، وهي - في الحقيقة - النوع الشائع والمتعارف لدى الناس في الشركات، وهو الأصل فيها، لما فيه من معنى الاشتراك فعلا، إذ إن مال الشركة في الأصل مشترك بين الشركاء، وهذا هو الأصل في الشركة، سواء اكان الاشتراك بالعمل ام لم يكن، وان كان الغالب هو الاشتراك به ايضاً. وقد علمت أنها اتفاق اثنين فأكثر على ان يشتركوا بمال من الجميع، يتاجرون به، على أن يكون الربح لهم. وسمِّيت شركة عِنان تشبيهاً لكلٍّ من الشركاء براكب الدابة، الذي يمسك بإحدى يديه عنانها ويعمل بالأُخرى، وذلك أن كل شريك يجعل للشركاء غيره أمر التصرّف - الذي يشبه بالعنان - في بعض ماله، بينما يستقل هو بالعمل في بعضه الآخر، او لأن كلا من الشركاء يملك بها ان يتصرف بمال شريكه في الشركة كما يملك الراكب التصرّف بالدابة بواسطة عنانها. شروطها : يُشترط لصحة هذا النوع من الشركة شروط هي: 1 - الصيغة: وهي لفظ صريح من كلٍّ من الشركاء للآخرين، يدل على الإذن في التصرف بالبيع والشراء ونحوهما من متعلقات التجارة، ويكفي في ذلك ما يدلّ على هذا المعنى ويشعر به، مما تعارفه التجار فيما بينهم من ألفاظ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 والأصح أنه لا يكفي الاقتصار على قولهم اشتركنا، لاحتمال ان يكون هذا إخبار عمّا حصل لهما من الشركة في المال كشركة الأملاك، كما لو ورثا مالا من مورِّث واحد، فلا يلزم من ذلك جواز التصرّف. وقيل يكفي ذلك، لدلالته على الشركة وفهم المقصود منه عرفا. 2 - أهلية الوكالة في الشركاء: بأن يكون كل منهما عاقلاً بالغاً غير محجوز عليه التصرّف في ماله، لأن كل واحد من الشركاء يتصرف بمال الشركة: أصالة في ماله ووكالة - أي بالإذن - في مال غيره، فكل منهم وكيل وموكل. 3 - أن يكون مال الشركة مثليا: بحيث إذا خلطت الأموال لا يتميز بعضها عن بعض، كالعملات المتعارفة اليوم، وكالموزونات والمكيلات اذا كان مال كل من الشركاء من جنس مال الآخرين، كالبرّ والشعير والحديد اذا كانت الأموال على صفة واحدة. فإذا كان رأس مال الشركة - او مال احد الشركاء - عروضاً، أي اعياناً متميزة غير مثلية لم تصحّ الشركة، لأنها لا يمكن خلطها بحيث لا تتميز، وقد يتلف مال أحدهم او ينقص فلا يمكن ان يعوض عنه من مال الآخرين. وطريقة تصحيح الشركة في حال كون راس مالها عروضا: ان يبيع كل منهم جزءا من عروضه للآخر بجزء من عروضه، فيصيرا شركاء في العروض كلهم، فيأذن كل منهم للآخر بالتصرّف، فاذا باعها كان الثمن بينهما. وكذلك اذا كان مال أحدهما نقداً ومال الآخر عروضا: باع صاحب العروض جزءاً منها بجزء من نقد الآخر واشتركا في الجميع. وعلى هذا لو ملكا عرضاً - إرثاً أو شراءً أو غيرهما - واذن كلٌ منهما للآخر بالتصرف في نصيبه تجارة تمت الشركة بينهما. 4 - خلط اموال الشركة: بعدما يتفق الشركاء على الشركة، لا بدّ وان يحضروا الأموال التي تصح فيها الشركة على النحو الذي سبق، وأن تخلط هذه الأموال - إن لم تكن مشتركة - بحيث لا يتميز بعضها عن بعض، ثم يجري عقد الشركة بعد ذلك، فإن جرى العقد قبل خلط المال لم تصح الشركة ولو خُطلت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 الأموال في مجلس العقد بعد اجرائه، ولابدّ من إعادة التعاقد بعد الخلط لتصحّ الشركة. وهذا إذا أخرج كلٌ من الشركاء مالاً وحصل العقد على ذلك، فإذا ملك الشركاء قبل عقد الشركة مالاً بالإشتراك بينهم - إرثا او شراء او هبة او نحو ذلك - ثم حصل عقد الشركة فإنه يصح، ولا يشترط اقتسامهم له ثم خلطه، لأن المقصود من الخلط - وهو عدم تمييز مال كلٍّ منهم على حدة - حاصل. 5 - أن يكون الربح والخسران على قدر المال: لأن الربح نماء المال، وكذلك الخسارة نقصان له بمقابل الربح. فلا يصح ان يشرط لأحد الشركاء زيادة في الربح عن قدر نسبة ماله من رأس المال، كما لا يصح ان يشرط عليه زيادة في الخسارة أو نقص عن ذلك، ولا يشترط التساوي في المال لكل الشركاء، فلو اشترك أحدهم بالربع والآخر بالنصف والثالث بالربع صح، وكان الربح ربعه للأول ونصفه للثاني وربعه للثالث، وكذلك توزع الخسارة، سواء أشترك الجميع بالعمل أم لم يشترك بعضهم، وسواء تساوَوْا في العمل حين الاشتراك أم اختلفوا. فإن شُرِط تفاوت في الخسارة كانت الشركة باطلة باتفاق الفقهاء، وان اشترط تفاوت في الربح عن قدر رأس المال لم تصحّ الشركة ايضاً، فلو حصل البيع والشراء من الشركاء نفذت تصرفاتهم لوجود الإذن منهم بالتصرّف، وكان لكل منهم الربح بقدر نسبة رأس ماله، ويرجع على الآخرين بأجرة المثل. وأجاز الحنفية والحنابلة رحمهم الله تعالى ان يكون للشريك ربح اكثر من نسبة ماله من رأس مال الشركة، وذلك في الصور التالية: 1 - أن تتساوى اموال الشركاء، كأن يكون من كلٍّ منهم الثلث مثلا، ويكونوا جميعا قائمين بالعمل، فيصحّ أن يشرط لأحدهم زيادة في الربح عن نسبة رأس ماله، لأنه قد يكون مهارة في عمله من غيره، فتكون الزيادة مقابل عمله ومهارته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 2 - أن يتساوى الشركاء في المال ويكون العمل على بعضهم، ويكون للقائمين بالعمل زيادة في نسبة الربح عن نسبة أموالهم. 3 - ان يتفاوت الشركاء في نسبة الاشتراك بالمال، كأن يكون من احدهم الثلث ومن الآخر الثلثان مثلا، ويشتركا في العمل، جاز ان يكون لأحدهما زيادة في نسبة الربح عن نسبة ماله، كأن يتساويا في الربح او يزيد احدهما عن الآخر، لاحتمال ان يكون عمله اكثر ومهارته افضل، فتكون الزيادة مقابل ذلك. 4 - ان يتفاوتا في رأس المال كما سبق في الصورة قبلها، ويكون العمل على مَن كان رأس ماله أقل، على ان يتساويا في الربح او تزيد نسبة ربح من كان قائما في العمل، فيصح ايضا، وتكون الزيادة مقابل عمله. وينبغي ان ينتبه الى ان الزيادة تصحّ لمن صحّت له اذا كانت في ضمن نسبة الربح المخصَّصة له، كأن يكون نصيبه كله نسبة مئوية من الربح العام، خمسين بالمائة مثلا او ستين او اكثر او اقلّ، أما أن يعطي نسبة مستقلة من الربح مقابل عمله، او ان يعطي قدراً معيناً - كألف مثلا كل شهر ونحو ذلك - فلا يصح باتفاق الفقهاء. وعلى هذا يتبين لنا فساد الكثير من عقود الشركات التي يقوم بها الناس، والتي يخصِّصون فيها لبعض الشركاء - سواء أكان مستقلاً بالعمل أم شريكا مع غيره من الشركاء - راتباً شهرياً مقطوعاً من الشركة غير نصيبه من الربح، او نسبة متميزة من الربح، كالربع - مثلا - او النصف مقابل عمله، ثم يقاسم بعد ذلك الشركاء فيما تبقى بنسبة رأس ماله. وليحذر هؤلاء المخالفون من عقاب الله تعالى، وليعلموا ان الكسب من عقد فاسد كسب خبيث لا يبارك الله تعالى فيه. هذا ولا نرى مانعا من العمل بما قاله الحنفية والحنابلة رحمهم الله تعالى، لاسيما في هذه الأزمان التي اصبح الناس لا يرضون فيها بالقليل، ولا يقنعون بربح يتوافق وما آتاهم الله تعالى من مال، وان كان الأورع ان يكون العمل متفقا عليه لدى فقهاء الأمة، وهو الأحوط في دين الله عزّ وجل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 ما يترتب على صحة العقد من آثار : إذا توفرت شروط شركة العِنان صحّت وترتب على ذلك الآثار التالية: 1 - تُطلق يد كل من الشركاء في مال الشركة، لأنه وكيل عن شركائه واصيل عن نفسه، ولكن يتقيد هذا الإطلاق بالعُرف وعدم الإضرار بالشركاء. 2 - وعليه: فلا يبيع بالنسيئة - أي بتأجيل الثمن الى زمن معين - ولا بغير النقد الغالب في البلد كما لا يبيع ولا يشتري بغبن فاحش، ولا يسافر بمال الشركة، إلا إذا أذن له الشركاء في شئ مما ذُكر فإنه يصح تصرفه فيه، فإذا لم يأذنوا له به كان تصرفه باطلا. 3 - يجب العمل على الشركاء حسب الاتفاق. 4 - إذا اشترى أحدهم شيئاً بمال الشركة - بالشرط المذكور سابقا - كان الشراء للجميع، لأنه وكيل عنهم، الا ان البائع يطالب المشتري وحده، لأن الشركاء الآخرين غير كافلين له. فساد الشركة وما يترتب عليه : علمنا ان للشركة شروطا اذا تحققت كان العقد صحيحا، وترتبت عليه آثاره السابقة، واذا اختلّ شئ منها كانت الشركة فاسدة. فإذا علم فسادها قبل البدء بأعمال الشركة لم يترتب على ذلك شئ من آثار العقد وينبغي تجديد العقد على وجه صحيح اذا اريد الاستمرار بالشركة. واذا تبين الخلل بعد البدء بأعمال الشركة وجب التوقف عن الاستمرار بذلك، وتجديد العقد على وجه صحيح إذا أريد الاستمرار بها وترتب على تبين فساد الشركة فيما مضى الأمور التالية: 1 - يقسم ما ظهر من ربح على الشركاء بمقدار ما لكل من رأس المال، لأن الربح استفيد من المال، وقد تبين بطلان الشركة، فيرجع الى الأصل وهو المال، فتكون نسبة ربح كلٍّ من الشركاء بنسبة مشاركته بالمال. 2 - يرجع كل شريك على الشركاء الآخرين بأُجرة عمله من اموالهم الخاصة، لأنه تبّين انه كان اجيرا لهم وليس شريكا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 3 - كلُّ ما قام به الشركاء من تصرفات تعتبر نافذة، لأن كلاً منهم تصرف بإذن من الآخرين. انتهاء عقد الشركة الصحيحة : ينتهي عقد الشركة بأمور، هي: 1 - فسخ عقد الشركة من قبل الشركاء أو بعضهم، فإن عقد الشركة عقد جائز، أي لكل من الشركاء ان يفسخه متى شاء، والفسخ إنهاء لها، فإذا كانا شريكين فقد انتهت الشركة بينهما، وان كانوا اكثر وفسخ احدهم بقيت الشركة في حق من لم يفسخ. 2 - موت الشركاء، فإذا مات الشركاء فقد انتهت الشركة، لزوال المُلْك عن المتعاقدين وخروجهم عن اهلية التصرف، لأن الشركة تتضمن الوكالة كما علمنا ولا تنتقل الى الورثة، لأن الورثة لم يتعاقدوا على الشركة، فإذا مات احد الشركاء: فإن كانا شريكين فقد انتهت الشركة ايضا، وان كانوا اكثر من اثنين انتهت الشركة في حق من مات وحده، وبقيت قائمة بين الشركاء الآخرين، لأن الوكالة في حقهم باقية، وتصرفهم جائز وصحيح. ويكون الفسخ والانتهاء من تاريخ وفاة الشريك ولو لم يعلم الشركاء الآخرون، لأن الموت عزل حكمي عن الوكالة بالتصرف 3 - الجنون او الإغماء: فإذا جن احد الشركاء او اغمي عليه فقد انفسخت الشركة في حقه وانتهت، لزوال العقل الذي هو مناط التكليف، لكن يشترط في الإغماء ان يستغرق وقت فرض صلاة حتى تنفسخ به الشركة، فإن لم يستغرق ذلك لم يؤثر. وفي حال الجنون ينتقل الحكم الى الوليّ: فإن شاء اختار قسمة المال، وان شاء اختار استئناف الشركة بعقد جديد. واما في حال الإغماء: فإن رُجي زواله عن قرب لم ينتقل الحكم الى وليه، لأنه لا يولي عليه في هذه الحالة. فإذا افاق: فإن شاء اختار القسمة، وان شاء استأنف الشركة بعقد جديد ولو بلفظ التقرير. فإن أُيس من افاقته عن قرب، او استمر اغماؤه ثلاثة ايام فأكثر انتقل الحكم الى وليّه كما في الجنون، فإن شاء اختار قسمة المال، وان شاء استأنف الشركة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 الباب الخامس القراض "المضاربة" الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 القراض تعريفه: القراض: مشتق من القرض وهو القطع، سمى به هذا العقد لأن مالك المال يقطع من ماله جزءاً يعطيه للعامل يتصرف فيه، كما يقطع له جزءاً من ربح هذا المال، ويسمى مقارضة، وهو المساواة، لتساويهما في الربح. والمضاربة: مشتقة من الضرب في الأرض وهو السفر، سمِّيت به هذه الشركة لأن الغالب فيها السفر لجلب البضاعة وتسويقها وجلب الربح ونحو ذلك. وهذه الشركة في عُرْف الفقهاء: ان يدفع مالك المال مالا لغيره ليعمل به ويتجر فيه، على أن يكون الربح مشتركاً بينهما، ومن هنا سميت شركة، لاشتراكهما في الربح. مشروعيته: هذا النوع من الشركة جائز ومشروع، دّل على مشروعيته السنّة، وانعقد عليه إجماع المسلمين. - فقد روي عبدالله بن عباس رضى الله عنهما عن أبيه العباس بن عبدالمطلب رضى الله عنه: أنه كان إذا دفع مالاً مضاربة اشترط على صاحبه: أن لا يسلك به بحراً، ولا ينزل به وادياً، ولا يشترى به دابة ذات كبد رطبة، فإن فعل ذلك ضمن. فبلغ شرطه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجازه. (اخرجه البيهقي في كتاب القراض: 6/ 111). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 - وعن صهيب رضى الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث فيهنّ البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة، وخلط البُرّ بالشعير للبيت لا للبيع". (اخرجه ابن ماجه في التجارات، باب: الشركة والمضاربة، رقم: 2289). وهذه الأحاديث وان كان في سند كل منها ضعف، لكنها بمجموعها تقوي فتصبح مقبولة صالحة للاحتجاج بها، ولاسيما وقد ايدها عمل الصحابة رضى الله عنهم وإجماعهم على مشروعية هذا العمل. وإليك نماذج من هذا العمل: روى زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: خرج عبدلله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب - رضى الله عنهم - في جيش الى العراق، فلما قفل مرّا على ابي موسى الأشعري رضى الله عنه - وهو أمير البصرة - فرحب بهما وسهّل، ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت. ثم قال: بلى، هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأسلفكماه، فتبتاعان به متاعاً من متاع العراق، ثم تبيعانه بالمدينة، فتؤديان رأس المال الى أمير المؤمنين ويكون الربح لكما. فقالا: وددنا ذلك. ففعل، وكتب الى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال. فلما قدما باعا فأربحا، فلما دفعا ذلك الى عمر قال: أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا: لا، فقال عمر بن الخطاب: أبنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أدّيا المال وربحه. فأما عبدالله فسكت، واما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا، لو نقص هذا المال او هلك لضمناه. فقال عمر: أدّياه، فسكت عبدالله وراجعه عبيدالله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً، فقال عمر: قد جعلته قراضاً، فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، واخذ عبدالله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال. - وعن العلاء بن عبدالرحمن عن ابيه عن جدّه: ان عثمان - رضى الله عنه - اعطاه مالا قراضاً يعمل فيه، على أن الربح بينهما. (اخرجهما مالك في الموطأ: اول كتاب القراض، باب: ما جاء في القراض: 2/ 687. والبيهقي في السنن: كتاب القراض: 6/ 111). - وعن حكيم بن حزام رضى الله عنه: أنه كان يشرط على الرجل إذا اعطاه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 مالاً مقارضة يضرب له به: ان لا تجعل مالي في كبد رطبة، ولا تحمله في بحر، ولا تنزل به بطن مسيل، فإن فعلت شيئا من ذلك فقد ضمنت مالي. (اخرجه البيهقي في السنن: القراض: 6/ 111). فهذه الآثار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على تعاملهم بالقراض، وجرت منهم على علم ومسمع من غيرهم، ولم ينقل عن أحد منهم إنكار لها، فصار ذلك إجماعاً على مشروعيته. وعلى هذا أجمعت الأمة في جميع الأعصار. حكمة مشروعيته : علمنا ان حكمة مشروعية الشركة عامة هو تنمية المال، وتحقيق التعاون بين أفراد المجتمع، وتحقيق التكامل بين القدرات والإمكانيات والكفايات، بالاستفادة ممّن لديه المال الكثير وقد تكون الخبرة لديه قليلة، والاستفادة ممّن لديه الخبرة الواسعة وربما كان المال لديه قليلاً، الى غير ذلك من الصور. وهذا المعنى في الشركة عامة يوجد في المضاربة على اتمّ وجه وأعلى نسبة، لما فيها من تحصيل المال اصلاً لمن لا يوجد لديه غالبا، وتحقيق الفائدة لمن عنده المال ولا خبرة عنده اصلاً، فكانت الحاجة ماسة الى هذا النوع من الشركة، لتحقيق التعاون والنفع بين هذين الصنفين من الناس، ورعاية للمصلحة العامة في الاستفادة من وظيفة المال التي هي قوام معاش الناس، والخبرة التي وهبها الله عز وجل لتسخر في أمور الناس: "ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا". (الزخرف: 32). حكم عقد القراض : عقد القراض والمضاربة وعقد جائز، أي غير لازم، بمعنى ان كلا من المتعاقدين - أي صاحب المال والعامل - له الحق ان يفسخ هذا العقد، سواء ابدأ العامل بالتصرّف - أي الشراء والبيع ونحو ذلك - ام لم يبدأ. فإذا كان الفسخ قبل الشروع بالعمل لم يجز للعامل ان يتصرف بشئ من راس المال، لأنه تصرف في غير ملكه بغير اذن مالكه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 وإذا كان الفسخ بعد الشروع بالعمل توقف العامل - أي الشريك المضارب - عن شراء شئ جديد، ووجب عليه بيع ما لديه من سلع بالنقد المتعامل به في البلد، واستيفاء الديون العائدة الى هذه الشركة، ثم يجري الحساب، ويسترد صاحب المال رأس ماله، ويتقاسمان الربح بينهما حسب اتفاقهما. أركان عقد المضاربة: أركان عقد المضاربة ثلاثة: صيغة، وعاقدان، ورأس مال. 1 - الصيغة: وهي الإيجاب والقبول بألفاظ تدل على الرضا بهذا العقد وهذه الشركة. فالإيجاب: كقوله: ضاربتك وقارضتك وعاملتك، وما يؤدي هذه المعاني من الألفاظ كقوله: خذ هذه الدراهم واتجر فيها، وما يحصل من ربح بيننا مناصفة، او ثلث لي وثلثان لك، ونحو ذلك. والقبول: أن يقول العامل المضارب: قبلت ذلك، أو رضيت أو نحو ذلك مما يدل على الرضا بهذا. ويشترط في الصيغة: ان تكون منجزة، فلا يصح تعليقها على شرط، كإذا جاء رمضان فقد قارضتك، ونحو ذلك. كما يشترط ن يكون القبول متصلا بالإيجاب عرفا، فلو فصل بينهما سكت طويل او كلام لا علاقة له بالعقد لم يصح. 2 - العاقدان: وهما صاحب المال والعامل. ويشترط فيهما أهلية الوكالة والتوكيل، لأن المالك كالموكِّل، والعامل كالوكيل، إذ أن العامل يتصرف في مال صاحب المال بإذن منه، فلو كان أحدهما محجوراً عليه لسفه - أي لسوء تصرفه بالمال - لم يصحّ العقد، وكذلك لو كان العامل أعمى، لأنه ليس أهلاً لأن يكون وكيلاً في البيع والشراء وأعمال التجارة. أما لو كان صاحب المال أعمى لم يضرّ ذلك، لأنه يصح منه أن يوكل غيره بذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 3 - رأس المال: ويشترط فيه: 1) أن يكون من النقود، كالدراهم والعملات المتعارفة اليوم، ولا يصحّ أن يكون عروضاً - أي سِلَعاً - تجارية، لأن في ذلك غرراً فاحشاً، إذ يصبح كل من الربح ورأس المال مجهولاً، لأن العرض تختلف قيمته بين يوم قبضه ويوم بيعه او ردّه. والأصل في عقد القراض أنه فيه غرر، لأن العمل فيه غير مضبوط، والربح غير موثوق به، وإنما جاز لحاجة الناس إليه كما بينا، فلا يضاف إليه غرر آخر، ولذا يقتصر فيه على ما يروج بكل الأحوال وتسهل التجارة به، وهو النقود. 2) ويشترط أن يكون رأس المال معلوم المقدار، فلا تصحّ المضاربة على مال مجهول القدر، كي لا يكون الربح مجهولاً. 3) ان يكون معيناً، فلا تصحّ المضاربة على مال في الذمّة، إلا إذا أخرجه في مجلس العقد وعينه، وكذلك لا تصح على دين له في ذمة العامل، إلا إذا نقده في المجلس ايضاً. 4) ان يكون مسلَّماً الى العامل، أي أن يكون في يد العامل وهو وحده الذي يتصرف فيه، فلا يصح اشتراط أن يكون المال في يد المالك أو غيره، ليعطى العامل منه ثمن ما يشتريه في كل صفقة، كما لا يصح ان يشترط عليه مراجعة صاحب المال في كل تصرف، لأنه قد لا يجده عند الحاجة الى ذلك، فيكون في ذلك تضييق عليه وإضرار به. شروط عقد المضاربة: 1 - الإطلاق وعدم التقييد: يشترط في المضاربة أن تكون مطلقة، أي لا تصحّ المضاربة فيما اذا قيّد صاحب المال العامل بشراء شئ معين كهذه السجادة مثلاً، أو نوع معين من شخص معين كحنطة زيد، أو من بلد صغير، كحنطة هذه القرية وهي صغيرة قليلة الإنتاج، أو معاملة شخص بعينه، كالشراء من عمرو وبيعه، أو المتاجرة بشئ يندر وجوده. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 ولا يشترط تعيين مدة للقراض، فإن عيّن مدة لا يتحقق فيها الغرض أي لا يتمكن فيها من الشراء للبضاعة المطلوب المتاجرة فيها، وكذلك بيعها وتسويقها ليحصل الربح الذي هو المقصود من هذا التعامل، فسدت هذه الشركة. وإن عيَّنَ مّدةً يتمكن فيها من الشراء، ومنعه من الشراء بعدها ولم يمنعه من البيع صحّ ذلك، لحصول الاسترباح بالبيع الذي له فعله بعد تلك المدة. 2 - اشتراكهما في الربح واختصاصهما به: يشترط ان يكون الربح مشتركا بين صاحب المال والعامل، ليأخذ المالك نماء ماله والعامل ثمرة جهده، فيملك صاحب المال الربح بملكه والعامل بعمله، فلو شرط الربح لأحدهما خاصة فسدت الشركة، لمخالفة هذا الشرط لمقتضى العقد. ولو شرط ان يكون الربح كله للعامل فسد العقد، وكان الربح كله لصاحب المال، واستحق العامل اجرة مثله، لأنه عمل طامعاً في المنفعة والربح. ولو شرط ان يكون الربح كله لصاحب المال فسد العقد ايضاً، ولم يكن للعامل شئ، لأنه يعتبر متبرعاً في هذه الحالة بالعمل، إذ لم يكن لديه طمع في أن يحصل على شئ من الربح. ويشترط ان يكون نصيب كل منهما من الربح معلوم القدر بالجزئية، أي ان يكون نصيبا شائعا معلوما، كالربع مثلا، او خمسين في المائة، او اكثر او اقل. فلا يصح العقد اذا لم يكن نصيب كل منهما من الربح معلوما، لأن الربح في هذا العقد هو المقصود، فهو محل العقد، أي المعقود عليه، وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد، كجهالة المبيع في البيع. وكذلك لا يصحّ العقد إذا كان الربح المشروط لأحدهما قدراً معينا بالعدد، كأن يشرط ان يكون لأحدهما ألف مثلا من الربح، او اكثر او اقل، لاحتمال ان لا يكون الربح كله اكثر من هذا المقدار، فيختص به من شرط له، فلا يتحقق اشتراكهما في الربح، فلا تكون شركة، ولا يكون التصرّف قراضا او مضاربة، فيفسد العقد، وفي هذه الحالة يكون الربح كله لصاحب المال، ويكون للعامل اجرة مثله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 وكذلك الحال لو شرط للعامل نصيب جزئي من الربح ومقدار معين منه، كأن يشرط له راتب شهري قدره الف - مثلا - وخمسة في المائة من الربح، للمعنى المذكور قبله، واحتمال أن لا يكون الربح أكثر مما عيّن له. وعليه يتبّين فساد الكثير من تصرفات الناس في هذا الزمن، حيث يتعاقدون مع من يعمل بأموالهم، على ان يتقاضى راتبا شهريا معينا، ويكون له نسبة معينة من الارباح عند الجرد السنوي او غيره. وكذلك يشترط أن يكون الربح خاصا بهما، أي بصاحب المال والعامل، ولا يجوز ان يشرط جزء منه لغيرهما، الا اذا شرط عليه ان يعمل مع العامل، فيكون قراضا بين صاحب المال وعامِلَيْن أو أكثر. 3 - استقلال العامل بالتصرّف والعمل: فلا تصحّ المضاربة إذا شرط فيها ان أيشارك صاحب المال العامل ي العمل والتصرف، لأن شرط ذلك يعني بقاء المال على يد صاحب المال، وقد علمنا انه يشترط ان يكون المال في يد العامل. فإذا لم يشرط ذلك، واستعان العامل بصاحب المال في العمل، جاز ذلك، لأن الاستعانة به لا توجب خروج المال من العامل إليه. يد العامل المضارب: العامل المضارب يده يد أمانة على المال الذي استلمه، وكذلك السلع التي اشتراها به أو بجزء منه، والمراد بيد الأمانة: انه لا يضمن ما تلف في يده من اموال المضاربة الا اذا تعدّى أو قصر في واجبه، وذلك بخلاف من كانت يده يد الضمان على ما في يده، فإنه يضمن مطلقا، سواء اقصر ام لم يقصر، تعدى ام لم يتعد. ومن التعدّي أن يفعل ما ليس له فعله، مما سنذكره بعد قليل. الخسارة على صاحب المال: ولما كانت يد المضارب يد أمانة كانت الخسارة عند انتهاء المضاربة على صاحب المال وحده، وليس على العامل منها شئ، لأنها في حكم تلف بعض مال المضاربة، وهو غير ضامن لذلك طالما انه لم يتعد ولم يقصر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 ما ليس للمضارب فعله: هناك أُمور لا بدّ للمضارب من التزامها وعدم مخالفتها، ومنها: 1 - أن لا يشتري للقراض بأكثر من رأس المال المدفوع إليه وما يحصل معه من ربح، لأن المالك لم يرضَ ان يشغل ذمته بأكثر من ذلك. 2 - لا يسافر بالمال إلا بإذن من صاحبه، لأن السفر يغلب فيه الخطر على المال، فإن اذن له جاز بحسب الإذن ان قيّده، وإن أطلق الإذن سافر الى البلاد المأمونة بحسب ما جرت به عادة التجار. 3 - لا يبيع بالنسيئة، أي بتأجيل الثمن الى أجل، إلا إذا أذن له المالك بذلك، لاحتمال تلف المال في هذا. 4 - لا يجوز له ان يقارض عاملاً آخر ليشاركه في العمل والربح على الأصح، حتى ولو أذن له صاحب المال بذلك، لأن موضوع القراض: أن يكون أحد العاقدين مالكاً لا عمل له، والآخر عاملاً لا ملك له، ومقارضة العامل لآخر على خلاف ذلك، إذ إنه يجري بين عاملين لا ملك لهما. فإذا حصل مثل ذلك كان العقد الثاني باطلاً، وبقى العقد الأول على صحته، فإن تصرّف العامل الثاني بما دفع له من مال كان له أُجرة مثله من صاحب المال، وكأن ربح المال الذي دفع له كله لصاحب المال، وليس للعامل الأول منه شئ لأنه لم يعمل شيئا لتحصيله. 5 - لا ينفق على نفسه مال المضاربة حال الإقامة في بلده قولاً واحداً، لأن العرف لا يقضي بذلك، ولأن النفقة قد تستغرق الربح كله، فيلزم من ذلك انفراد العامل به دون صاحب المال، وهذا ينافي شروط هذا العقد، وإذا لم تستغرقه لزم أن يختصّ بجزء معين من الربح، وهذا ينافيه ايضاً. والأظهر أنه ليس له الإنفاق ايضا حال السفر، للمعنى المذكور. وقيل: له ان يأخذ ما يزيد على النفقة بسبب السفر إذا أنفق بالمعروف. وقال الحنفية رحمهم الله تعالى: له ان يأخذ جميع نفقته من مال المضاربة إذا سافر، لأنه اصبح بالسفر محبوساً لها، فاستحق النفقة مقابل احتباسه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 ولا نرى مانعاً من الأخذ بهذا الرأي إذا دعت الحاجة إليه، على أن يشرط ذلك في العقد، لأن شرط مثل ذلك في العقد يفسده. ما على العامل فعله: على العامل ان يقوم بكل عمل يلزم للمضاربة إذا كان من عادة أمثاله القيام به، أو كان من عادة التجّار ونحوهم القيام به بأنفسهم، حتى ولو لم يعتد هو بالذات فعل ذلك. فإذا استأجر على القيام بما يلزمه عرفاً كانت الأُجرة في ماله خاصة، لا في مال القراض ولو شرط على المالك الاستئجار عليه من مال المضاربة لم يصحّ العقد، لأنه شرط ينافي مقتضى العقد، إذ أن مقتضاه أن غير المالك للمال هو الذي يقوم بالعمل، وما لا يلزمه القيام به من العمل حسب العُرْف له ان يستأجر عليه من مال المضاربة، لأنه من تتمة التجارة ومصالحها، والعُرْف لا يلزمه بالقيام به، حى ولو اعتاد فعله، ولكن لو قام به بنفسه كان متبرعاً، ولم يجز له ان يأخذ اجرة مثله من مال المضاربة، لأنه يكون قد استأجر نفسه، وذلك غير صحيح. متى يملك العامل حصته من الربح؟ إذا أستلم العامل رأس مال المضاربة وتصرّف به في البيع والشراء، وظهر فيه ربح بهذا التصرف، فالأظهر أن العامل لا يملك حصته من هذا الربح حتى ينض جميع المال، أي تباع السلع جميعها ويعود المال نقداً، ثم يتقاسم المالك والعامل الربح بعد تمييز راس مال المضاربة منه، لأنه من المحتمل ان تحصل خسارة قبل القسمة، فتُجبر من الربح، لأن الربح في هذه الشركة وقاية للمال. على أن حق العامل في هذا قبل القسمة مؤكد، ولذا لو أتلف المالك مال المضاربة او استردّه قبل القسمة غرم للعامل نصيبه من الربح الذي ظهر، ولو مات العامل كذلك قبل القسمة ورث عنه هذا النصيب. ما يطرأ على رأس المال من النقص: إذا طرأ على رأس مال المضاربة بعد العقد نقص، فمّن يتحمل هذا النقص؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 للجواب على ذلك نقول: يُنظر: - فإن كان النقص قد طرأ قبل تصرف العامل به ودون تعٍّد منه أو تقصير: فالأصح أنه يكون من رأس المال، ويتحمله المالك، لأن عقد المضاربة يتأكد بالعمل والتصرف، وذلك لم يحصل بعد. - وان طرأ النقص بعد التصرف يُنظر: - فإن كان ذلك بسبب رخص الأسعار بعد الشراء به، او عيب حدث كمرض في الحيوان او فساد في الثمار مثلا، فهو محسوب من الربح ومجبور به ما امكن قولاً واحداً، لاقتضاء العُرْف ذلك، ولأن الربح وقاية للمال كما علمنا. - وان كان ذلك النقص حصل بسبب آفة سماوية كحريق او غريق ونحو ذلك، او غصب او سرقة، فالأصح - أيضاً - أنه يحسب من الربح ويُجبر به. انتهاء عقد المضاربة : ينتهي عقد المضاربة بأمور، هي: 1 - الفسخ: فقد علمنا ان عقد القراض عقد جائز، لكلٍّ من المالك والعامل فسخة متى شاء، قبل تصرّف العامل او بعده، وسواء اكان الطرف الآخر حاضراً ام غائباً، رضى او لم يرضَ. فإذا فسخه احدهما او كلاهما فقد انتهت المضاربة من تاريخ الفسخ، ولو لم يعمل الآخر بذلك، ويحصل بقول المالك: فسخت القراض أو أبطلته، او لا تتصرف بعد الآن، ونحو ذلك. وليس للعامل بعد الفسخ ان يشتري شيئاً من مال المضاربة، ولو اشترى شيئا به قبل العلم لم ينفذ شراؤه، ولو ان يبيع ما عنده من عروض اذا توقع فيها ربحا ظاهرا، وعيله ان يبيعها ليصبح رأس المال نقودا ويظهر الربح، ان طلب المالك منه ذلك كما يلزمه استيفاء الديون الراجعة لمال القراض. 2 - موت أحد المتعاقدين: لأن من شرطها اهلية التوكيل كما علمت، وبالموت تبطل الوكالة، ولكن لو مات المالك كان للعامل بيع ما في يده لينضّ المال، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 أي يصبح نقودا، بغير إذن ورثة المالك، استصحابا لإذن المالك السابق، وليظهر الربح. بخلاف ما لو مات العامل، فإنه ليس لورثته تنضيض المال الا بإذن المالك، لأنه لم يرض بتصرفهم، وانما رضى بتصرف مورثهم. 3 - جنون أحد العاقدين أو إغماؤه، وإن زال ذلك عن قرب، لأن كلا منهما لو قارن العقد لم يصح، فكذلك اذا طرأ عليه قطعه. ويقوم العامل بتنضيض المال لو كان الذي جن أو أغمى عليه المال، وولى العامل بإذن المالك لو كان الذي جن أو أغمي عليه العامل. 4 - هلاك رأس مال المضاربة: لأنه محل العقد، فإذا هلك لم يبق معنى للعقد، وسواء أكان ذلك التلف بآفة سماوية كالحريق والغريق، ام بإتلاف المالك، ام العامل، ولكن يستقر نصيب العامل فيما اذا كان المُتْلِف هو المالك. فإذا كان المتلف هو العامل: فإذا لم يُؤخذ منه البدل انتهت المضاربة، وأن أُخذ منه البدل استمرت. وكذلك الأمر إذا اتلفه غيرهما: إن لم يؤخذ منه بدل انتهت المضاربة، وإن أُخذ منه بدل لم تنته. والمطالب بالبدل في هذه الحالة: المالك إن لم يكن ربح، فإن كان ربح كانت المطالبة للمالك والعامل، لأنهما مشتركان في البدل. اختلاف العامل والمالك : 1 - لو اختلف العامل والمالك في الربح، فقال العامل لم أربح شيئاً، أو: لم أربح إلا كذا، صُدّق العامل بيمينه، لأن الأصل عدم الربح. فإذا اقرّ بربح قدر معين، ثم أدّعى غلطاً في الحساب، لم يقبل قوله، لأنه رجوع عمّا أقرّ به من حق لغيره، فلا يقبل. 2 - ولو اختلفا في شئ: فقال المالك: اشتريته للقراض، وقال العامل: اشتريته لنفسي، او بالعكس، صُدِّق العامل ايضا بيمينه ان كان الشراء في الذمة، لأنه مؤتمن، وهو أدرى بقصده، ولو كان الشراء بعين مال القراض: فإنه لا يقبل قوله ولو نواه لنفسه، فيقع المشتري للقراض. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 81 3 - ولو أختلفا في قدر رأس المال أو جنسه، فالمصدَّق العامل ايضا بيمينه، لأن الأصل عدم دفع زيادة عليه. 4 - ولو أختلفا في دعوى تلف رأس المال: فقال المالك: تلف بتعدٍّ او تقصير، وقال العامل: بل بلا تعدٍّ ولا تقصير، صدِّق العامل بيمينه، لأنه مؤتمن، والأصل عدم الخيانة والضمان. 5 - ولو اختلفا في ردّ رأس المال: فادّعى العامل ردّه، والمالك عدم ردّه، صدق العامل بيمينه، لأنه مؤتمن، وكل امين ادعى الرد على من ائتمنه صُدق بيمينه. 6 - ولو ادعى المالك بعد تلف المال انه قرض، وادعى العامل انه قراض، صدق المالك بيمينه، لأن العامل اعترف بالقبض وادعى سقوط الضمان، والأصل عدم سقوطه. ومثله: لو ادعى العامل القراض، وادعى المالك التوكيل، صدق المالك بيمينه، لأنه اعلم بقصده. ولا اجرة للعامل، لأنه مقر بعدم استحقاق الأجر. 7 - ولو اختلفا في المشروط له: أهو الربع أم الثلث ونحو ذلك؟ تحالفا، أي حلف كل منهما على ما ادّعاه، لاختلافهما في عِوَض العقد مع اتفاقهما على صحته، فكل منهما مدَّعٍ ومدّعى عليه، فيحلف كل منهما على إثبات دعواه ونفى دعوى الآخر، فإذا حلفا كان للمالك جميع الربح لأنه نماء ملْكه، وللعامل اجرة مثل عمله، لأنه لا يمكن رجوعه بعمله، فيرجع بقيمته، وهي أُجرة المثل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 82 الباب السادس الوديعة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 الوَديعَة تعريفها: هي - في اللغة - ترك الشئ عند غير صاحبه ليحفظه، وتطلق على الشئ المتروك. مشتقة من الوَدْع وهو التَرْك، ورد في الحديث: "لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجُمُعات، او ليختمنّ الله على قلوبهم، ثم ليكونُنْ من الغافلين". (مسلم: في الجمعة، باب: التغليظ في ترك الجمعة، رقم: 865). والمراد بقوله: "ودعهم الجمعات" أي صلاة الجمعة، وتكرار ذلك منهم. وهي في الاصطلاح الشرعي: تطلق ويراد بها الشئ المودوع، كما تطلق بمعنى العقد وهو الإيداع، وهذا هو المقصود في الباب غالباً، وهي بهذا المعنى: توكيل في حفظ مملوك، او محترم مخصوص، على وجه مخصوص. والمراد بالمملوك: ما يصحّ تملكه شرّعا، كالأعيان الطاهرة والمباحة الاستعمال، وبالمحترم المخصوص: ما لا يصحّ تملّكه شرعاً، ولكن يصح وضع اليد عليه والاختصاص به، كالكلب المعلّم، ومعنى محترم: أي غير مأمور بإتلافه. وسنوضح هذا عند الكلام عن أركان الوديعة. مشروعيتها: الوديعة مشروعة، وقد دلّ على مشروعيتها القرآن والسنة والإجماع: اما القرآن: فقوله تعالى: (إن الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات الى اهلها) (النساء: 58) وقوله تعالى: "فإن أمِنَ بعضُكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن امانته". (البقرة: 283). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 والأمانة لفظ عام، يتناول كل ما استُحفظ عليه الإنسان من دين او عين، والائتمان على العين هو الوديعة. وأداؤها يعني: ان يكون المؤتمن موضع حسن ظن من ائتمنه، فيحفظ ما استودع عنده او اؤتمن عليه، ويرده على صاحبه. والأمر بردّ الأمانات وحفظها يتضمن الإخبار بمشروعيتها. وأما السنّة: فما رواه ابو هريرة رضى الله عنه: ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أدّ الأمانة الى مَن ائتمنك، ولا تُخن مَن خانك". (اخرجه ابو داود في البيوع والاجارات، باب: في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، رقم: 3535. والترمذي في البيوع، باب: حدثنا ابو كريب .. ، رقم: 1264). ووجه الاستدلال بالحديث هو نفس الاستدلال بالآيتين. وروى انه صلى الله عليه وسلم كانت عنده ودائع لأهل مكة، فلما أراد الهجرة اودعها عند ام ايمن بركة الحبشية رضى الله عنها، وامر عليا ان يردّها على أصحابها. وأما الإجماع: فقد اتفق علماء المسلمين في كل عصر - من لدن الصحابة رضى الله عنهم الى يومنا هذا - على ان الوديعة جائزة ومشروعة. حكمة مشروعيتها : واضح ان الحكمة من مشروعية الوديعة هي التيسير على المسلمين، وتحقيق مصلحتهم ودفع الحرج والضرر عنهم، فهم في حاجة شديدة لأن يستعين بعضهم ببعض لحفظ امواله، وصيانة امتعته: فقد يكون لدى أحدهم مال، ولا يكون عنده موضع امين يحفظه فيه، او يكون عاجزاً عن دفع الأيدي الآثمة عنه، ويكون هناك مَن عنده حرز لحفظ هذا المال، ولا يُصطلي له بنار، فلا يجرؤ أحد من السفهاء أن يقترب من داره او مخزنه، فيستودعه ماله. وقد يكون أحدهم يريد سفراً لقضاء مصالحه، ولا يأمن أن يترك ماله وما لديه دون رعاية أو اشراف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 وكذلك قد يكون المرء في السوق، فيشتري من السلع ما يحتاج اليه من مواضع متعدّدة، ولا يتمكن من حمل هذه الأمتعة والتجوّل بها من مكان لآخر، فيستودعها مَن يحفظها له ألى أن يقضي عمله. وكثيرا ما يقتني الناس سلعا، قد لا يحتاجونها الآن، وإنما يحتاجون اليها في مستقبل الأيام، ولا يجدون المكان الذي يحفظونها فيه في دورهم ونحوها. فالحاجة داعية في كل ما سبق الى الإيداع والاستيداع، والله تعالى يقول: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" (البقرة: 185). فمشروعية الوديعة تيسير ومنعها عسر، وهو سبحانه يقول: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) (المائدة: 2). وفي مشروعيتها تعاون على البر، ومنع من الإثم والعدوان، والله تعالى أعلم. حكمها : يتناول الوديعة الأحكام الخمسة، وهي: 1 - الاستحباب: فالأصل في الوديعة انها مستحبة، أي مندوبة، وذلك إذا كان الوديع قادراً على حفظها، واثقا من أمانة نفسه، وكان يوجد غيره ممّن هو مثله في الأمانة والقدرة على الحفظ، وذلك لما فيها من عون المسلم لأخيه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والله في عون العبد ما دام العبد في عون اخيه". (مسلم: الذكر والدعاء، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن .. ، رقم: 2699). 2 - الوجوب: ويصبح قبول الوديعة واجباً على الوديع، اذا عُرضت عليه وكان امينا واثقا من امانة نفسه وقدرته على حفظها، ولا يوجد غيره مثله، لأن في عدم قبوله لها تضييعا للمال، وفي قبولها صيانة لمال غيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن اضاعة المال، وبيّن حرمة مال المسلم فقال: "حرمة مال المؤمن كحرمة دمه". فكما يجب على المسلم ان يدافع عن اخيه ويصونه من ان يسفك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 دمه كذلك يجب عليه ان يحافظ على ماله ان خاف ضياعه. 3 - الكراهة: وقد يكون قبول الوديعة مكروها في حق الوديع، وذلك اذا كان امينا وقت عرضها عليه، ولكنه لا يثق ان يبقى امينا في المستقبل، فيكره له قبولها خشية الخيانة فيها وتضييعها على مالكها. 4 - التحريم: أي يحرم على الوديع قبول ايداع ما عرض عليه ايداعه، وذلك اذا كان يعلم من نفسه العجز عن حفظها، لأن في قبوله للوديعة - والحالة هذه - تضييعا لها، وتعريضها للتلف، فيدخل تحت النهي عن اضاعة المال. 5 - الإباحة: بمعنى ان للوديع ان يقبل الإيداع وله ان لا يقبل، ويستوى الحال بالنسبة اليه، وذلك في حال انه لا يثق بأمانته في المستقبل، او كان عاجزا عن حفظ الوديعة، وعلم المالك المودع بحاله، ورضى بإيداعها عنده. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 أركان الوديعة وشروطها لعقد الوديعة أركان ثلاثة هي: العاقدان، والصيغة، والشئ المودع، ولكل منها شروط: 1 - العاقدان: وهما المودع المالك للشئ المودَع، والوديع وهو الذي تعرض عليه الوديعة ويُتْستَحْفَظُ عليها. ويشترط في كلٍّ منهما: اهلية التوكيل، لأن الوديعة وكالة في الحفظ فكلّ مَن صحّ توكيله صحّ دفع الوديعة إليه، وكلّ مَن صحّ أن يوكِّل غيره صحّ إيداعه عند غيره. وسيأتي معنا في باب الوكالة: أنه يشترط في الموكل والوكيل أن يكون كل منهما عاقلاً بالغاً، تصحّ مباشرته التصرّف الذي وَكَّل فيه إن كان موكِّلاً، والذي وُكِّل فيه إن كان وكيلاً. فلا يصحّ أن يكون الصبي أو المجنون مودِعاً أو وديعاً، لأن كلاًّ منهما ليس من أهل الوكالة لأنه غير مكلف، وكذلك لا يصحّ أن يكون المحجور عليه لسفه وديعاً، لأن الوديعة تصرّف مالي، وهو محجور عليه فيه. وكذلك لا يصحّ استيداع غير المسلم مصحفاً، لأنه لا يمكِّن من حمله ومسِّه، فلو أودَعَ أحد شيئا عند واحد من هؤلاء فتلف، لم يضمن، وإن قصّر الوديع في الحفظ، لأن المودِع قد قصّر في الإيداع عنده. 2 - الصيغة: وهي الإيجاب والقبول: وذلك بأن يقول المالك المودِع: أودعتك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 هذا الثوب، ويقول الوديع: قبلت، ويمكن ان يتقدّم كلام الوديع على كلام المودِع، كأن يقول: أودِع عندي ثوبك هذا، فيقول: أودعت. ولا يشترط ان يكون لفظ من العاقدين، بل يكفي ان يكون لفظ من أحدهما وفعل من الآخر. فلو قال المودع: أودعت كتابي هذا عندك، فأستلمه الوديع كفى. وكذلك لو قال الودِيع: أودع عندي متاعك هذا، فدفعه إليه المودع المالك ولم يتكلم، صحّت الوديعة. ولا يشترط ايضاً أن يكون صريحاً في الوديعة، بل يكفي ان يكون اللفظ كناية، مع نيّة الوديعة ووجود قرينة تدل عليها. كأن يقول: ضع لي هذا عندك، او خذه أمانة، او أنَبْتُك في حفظه، ويقبضه الوديع. 3 - الشئ المودَع: ويطلق عليه لفظ الوديعة في اكثر الأحيان. ويشترط فيه أن يكون محترماً، أي مملوكاً أو محرزاً، ولو لم يكن مالاً، أي غير متموّل شرعاً، كحبات قليلة من الحنطة مثلاً، أو كان نجساً، ككلب صيد أو زبل. فلو كان غير محترم شرعاً، كخنزير او آلة لهو، فلا يجوز إيداعه ولا استيداعه، ولا تنطبق عليه أحكام الوديعة. ما يترتب على عقد الوديعة : إذا حصل الإيداع وصحّ عقد الوديعة ترتّب عليه الأحكام التالية: 1 - وجوب حفظ الوديع لما أُودع عنده، لأن الإيداع من جانب المالك استحفاظ وائتمان، ومن جانب الوديع التزام بالحفظ، فيلزمه ذلك لأنه في حكم اشتراطه عليه، والحديث يقول: "المسلمون على شروطهم" (الترمذي: الأحكام، باب: ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح .. ، رقم: 1352). وعلى الوديع أن يحفظ الوديعة في حرزِ مثلها، في مكان امين تُحفظ فيه عادةً. وكذلك عليه ان يحفظها بنفسه، وليس له أن يحفظها بغيره كولده أو زوجته أو أجيره، لأن المودِع قد رضى بأمانته وان يجعل متاعه تحت يده، ولم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 يرضَ بأمانة غيره ويده. فإذا أذن له المالك بحفظه بغيره جاز له ذلك، وكذلك إذا كان له عذر في هذا، كما اذا طرأ له سفر او وقع حريق، ولم يستطع ردّ الوديعة إلى المالك، أو وكيله أو القاضي، فله ان يدفعها الى من يحفظها. 2 - عقد الوديعة عقد جائز: أي لكلٍّ من العاقِدِيْن فسخه متى شاء دون إذن العاقد الآخر، فللمودِع ان يستردّ الوديعة متى شاَء، وللوديع ان يردّها عليه ايضا متى شاء. فإذا طلبها المالك وجب على الوديع ردُّها له عند طلبه قدر الإمكان، لقوله تعالى: "إن الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات الى اهلها" (النساء: 58) ولا يعني ردُّها حملَها إلى صاحبها، وانما المراد ان يخلي بينه وبينها. 3 - صفة يد الوديع: يد الوديع على الوديعة يد امانة، أي لا يضمنها اذا تلفت عنده لا اذا فرط في حفظها او تعدى عليها، ودليل ذلك: - قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس على المستودَع غير المُغِلّ ضمان". (اخرجه الدارقطني في البيوع، رقم: 167). - ولأنه لو كان ضامناً لامتنع الناس عن قبول الودائع، فيكون في ذلك حرج على الأمة. - ولأن الوديع متبرع بالحفظ ومُحسِن - وان كان قد التزمه - والله تعالى يقول: (ما على المحسنين من سبيل) (التوبة: 91). - ولأن يده على الوديعة تقوم مقام يد المالك، فكان هلاكها من يد المالك. وعلى هذا: لو أودعه على انه ضامن مطلقاً، أو أنه غير ضامن مطلقاً، لم يصحّ الإيداع. متى تُضمن الوديعة؟ علمنا أن الوديعة أمانة في يد الوديع، لا يضمنها اذا تلفت بدون تعدٍّ منه عليها، او تقصير في حفظها، هذا هو الأصل، وقد تصبح مضمونة عليه في الحالات التالية: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 1. إذا أودعها عند غيره، بلا اذن من المودع ولا عذر، كما سبق، فإنها تصبح مضمونة عليه. فإذا أودعها - في هذه الحالة - عند مَن لا يصحّ إيداعها عنده، فهلكت، كان للمالك ان يُضمِّن أيهما شاء، فإن ضمّن الثاني وكان جاهلاً بالحال رجع على الأول بما ضمن، لأنه وديع غير متعدٍّ، فلا يضمن. وأن كان عالماً أن الذي أودع عنده ليس بمالك، وإنما يودع عنده وديعة غيره وبدون إذنه، لم يرجع عليه بما ضمن، لأنه في هذه الحلة غاصب لا وديع. 2. ترك الحفظ: علمنا أن واجب الوديع حفظ الوديعة، فإذا ترك ذلك، ثم هلكت الوديعة كان ضامناً لها، ويكون ترك الحفظ بما يلي: أ- ... بنقل الوديعة من مكان الى مكان آخر دونه في الحرز، لأن في ذلك تعريضا لها للتلف، فإذا كان ما نلت اليه مساوياً لما نقلت منه في الحرز، او أحرز منه، فلا ضمان عليه، لأن مَن رضى بحرز رضي بمثله، ورضى بما هو احرز منه من باب أولى، إلا إذا نهاه المودع عن نقلها، أو كان الطريق فيه خطر عليها، فإنه يضمن في الحالتين ان نقلها وتلفت، لأن ذلك تعدٍّ منه وتقصير. ب- ويكون ترك الحفظ ايضاً: بترك دفع الأخطار عنها وما يتلفها، لأن دفع مثل ذلك عن الوديعة واجب ما أمكن، لأنه من جملة حفظها، وذلك كما لو أودعه حيواناً، فترك علفه أو سقيه مدّة يموت مثله فيها، فمات فإنه يضمنه، سواء أمره المالك بعلفه وسقيه أم سكت، لن ذلك واجب عليه حقا لله تعالى، وبه يحصل الحفظ الذي التزمه بقبوله الإيداع. وكذلك لو كانت الوديعة مما يحتاج الى تعريض للشمس والريح كالصوف مثلاً، او وضع عقاقير لتحفظه. فإن نهاه المالك عن دفع ما يسبّب إتلاف الوديعة، فترك ذلك وتلفت، فإنه لا يضمن على الصحيح، لأن المالك هو الذي أذن في إتلاف ما يملك. واذا كانت الوديعة حيوانا أثم بدفع التلف عنه ان امره المالك بهذا، لحُرمة الروح ولم يضمن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 3. استعمال الوديعة والانتفاع بها: بأيّ وجه من وجوه الاستعمال والانتفاع، فيضمنها إذا تلفت ولو بعد ترك الاستعمال والانتفاع، لأنه تعدّى باستعماله ملْك غيره بغير إذنه، وبالتعدّي ارتفع الحكم الأصلي للوديعة وهو كونها أمانة في يده، فلا يعود الا بتجديد للعقد، فإذا تلفت قبل تجديد العقد كانت مضمونة عليه. 4. السفر بالوديعة: اذا طرأ للوديع سفر من بلد الإيداع فليس له أن يسافر بالوديعة، لأن واجبه حفظها في الحرز والسفر ليس من مواضعه، فيجب عليه - في هذه الحالة - ردّها على مالكها أو وكيله إن كان غائباً، فإن كانا غائبَيْن وجب عليه ان يدفعها الى الحاكم ان كان يؤتمن عليها، والا دفعها الى أمين يحفظها. فإن سافر بها مع وجود مَن يمكن دفعها اليه ممّن ذُكر كان ضامناً لها، وإن لم يجد احدا منهم كان معذوراً أن يسافر بها، لأن السفر بها أحوط في حفظها من تركها عند مَن لا يؤتمن عليها. وهذا الذي ذكر في حق مَن طرأ له السفر هو حكم مَن مرض مرضاً يخاف منه الموت، ومن حَضَرَتْهٌ أسباب الوفاة، فإن لم يجد مَن يدفعها إليه أوصى بها، وإلا كان ضامناً لها إذا تلفت بعد الموت لأنه يعرّضها للفوات على مالكها بترك ما ذكر، إذ قد يدّعي الوارث أنها ملك مورِّثه، اعتماداً على الظاهر، لأنها تحت يده وفي حَوْزته. 5. انكار الوديعة بغير عذر: فإذا طلب المودع الوديعة، فأنكر الوديع أن له وديعة عنده، ثم تلفت، فإنه يضمنها حتى ولو عاد فاعترف بها بعد الإنكار، لأنه بإنكاره صار غاصباً لها، ويد الغاصب يد ضمان، وقد ارتفع عقد الوديعة بالإنكار، فلا يعود الا بالتجديد. فإن كان له عذر بالإنكار فإنه لا يرتفع به عقد الوديعة، وتبقى امانة في يده، فإذا تلفت لا يضمنها، وذلك كما إذا أجبر المالك على طلبها غاصب او ظالم، وعلم الوديع أنه إن اعترف بها استردّها الملك وانتزعها منه غير المحق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 بأخذها، فأنكرها ظاهراً دفعاً للضرر عن المالك، ثم تلفت بعد هذا، فإنه لا يضمنها، لأنه غير متعدٍّ. 6. الامتناع من ردّها بعد الطلب: علمنا ان الوديعة عقد جائز، ويترتب على ذلك: أن المودع له ان يفسخه ويطلب ردّ الوديعة، وفي هذه الحالة يجب على الوديع ان يردّها عليه فوراً، أي أن يخلّي بينه وبينها كما علمنا. فإن امتنع عن ردّها او أخّره من غير عذر ضمن، لأنه تعدّى بحبس ملك غيره بغير عذر ولا رضاّ منه فإن أخّر ذلك لعذر،: كأن طلبها في وقت لا يتمكن فيه من الردّ، او خشى إن ردّها عليه أن يغصبها منه متسلِّط، ونحو ذلك، فإنه لا يضمن. 7. خلط الوديعة بغيرها: على الوديع أن يحفظ الوديعة في حرز مثلها، دون أن يخلطها بماله او متاعه الذي لا تتميز عنه إذا خلطت به، فإذا خلطها - او اختلطت بنفسها دون قصد منه - فإنه يضمنها، لأنه تعدّى بخلطها، والمالك لم يرضَ باختلاطها بغيرها. فإذا كانت تتميّز عمّا اختلطت به او خلطت، كأن كانت دراهم فاختلطت بدنانير، او نقود سورية اختلطت بغيرها، فإنه لا يضمنها، لسهولة تمييزها، فإن كان تمييزها صعباً- كما لو كانت قمحا فاختلطت بشعير - فإنه يضمنها، لعسر تمييزها، فهو في حكم عدم التمييز. وفي حال الضمان: يضمن مثلها ان كانت مثلية، أو قيمتها إذا لم تكن مثلية، ولكن يضمنها بأغلى القيم من يوم الإيداع الى وقت التلف كالمغصوب، وتصبح ملكاً له. 8. مخالفة شرط المودِع: كما إذا أمره أن يحفظ الوديعة بمكان معين أو بطريقة معينة، فخالف في هذا وحفظها في مكان غيره، أو بطريقة أُخرى، فتلفت بسبب هذا التغيير، فإنه يضمنها، لأن التلف حصل من جهة مخالفته. ومن ذلك ما إذا خالف ما هو المعتاد في الحفظ، كما لو وضع على الصندوق قفلين، وقد كان يضع قفلاً واحداً، فسُرقت، فقيل: إنه يضمن، لانه بذلك اغرى السارق بنفاسة ما فيه، والأصح أنه لا يضمن، لان ما فعله مزيد احتياط في الحفظ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 الوديعة عند اثنين : إذا أودع رجل وديعة عند اثنين: فإن كانت مما يُقسم - كالنقود مثلاً - فلهما أن يقسماها، ويأخذ كل واحد منهما نصفه ويحفظه عنده، فإن دفعها أحدهما للآخر كاملة ضَمِنَ نصفها، لأن المالك رضى بحفظهما للجميع ولم يرض بواحد منهما، وقيل: لا يضمن لأن المالك رضى بأمانتهما، فكان لكل واحد منهما ان يدفعها للآخر. وإن كانت مما لا يقسم: جاز لكل واحد منهما أن يدفعها الى الآخر، ولا ضمان عليه قولاً واحداً، لنه لا يمكن حفظها الا في مكان واحد، والمالك يعلم أنهما لا يجتمعان على حفظها دائماً، فكان دفعه لها دليلا على رضاه بحفظ احدهما. إيداع الأثنين عند واحد: إذا أودع اثنان وديعةً عند وديع واحد، ثم جاء أحدهما يطلب استردادها، او استرداد نصيبه منها، فهل للوديع ان يجيبه الى طلبه؟ والجواب: انه ليس للوديع ان يدفع اليه شيئا منها، لأنهما اتفقا على الإيداع، فينبغي ان يتفقا في الاسترداد، فإذا اراد ان يسترد نصيبه خاصة رفع الأمر الى القاضي، ليقسم الوديعة ويرد اليه نصيبه. انتهاء الوديعة : تنتهي الوديعة باسترداد المودَع للشئ المودع، كما تنتهي بردّ الوديع له على المودع، وان كان يحرم على الوديع ردها حيث وجب القبول ولم يرد المالك الرد، كما يكره حيث ندب القبول ولم يرد المالك الرد. كما تنتهي بموت المودع او الوديع، لأن العقد جرى بينهما. وكذلك تنتهي بجنون احدهما او اغمائه، وبالحَجْر على المودع لسفه، وكذلك بالحجر على الوديع لفلس. وتنتهي ايضاً بنقل المالك ملكيتها إلى غيره ببيع او هبة او نحو ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 وبانتهاء الوديعة يرتفع حكمها، وفي حال انتهائها بغير الرد او الاسترداد تصبح أمانة شرعية في يده كالضاّلة، فيجب عليه ردّها لمالكها او وليّه - ان عرفه - فورا عند تمكّنه من ذلك، وان لم يطلبها، والمراد بالردّ هنا الإعلام بها أو بمحلّها، فإن غاب من ذُكر ردّها للقاضي الأمين، فإن قصّر في هذا ضمنها، ان تلفت في يده بعد إنتهاء الوديعة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 96 الباب السابع اللقطَة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 اللقطَة تعريفها: اللقطة في اللغة - بضم اللام وفتح القاف - هي الشئ الملتَقَط أي المأخوذ من الأرض، قال تعالى في شأن موسى عليه السلام: (فالتقطه آل فرعون ... ) (القصص: 8) وفي اصطلاح الشرع: هي مال أو اختصاص محترم، وجد في مكان غير مملوك، لم يحرز ولا عرف الواجد مستحقه. فقولنا: (اختصاص) أي شئ لا يملك شرعاً، ولكن يمكن أن يدخل تحت اليد ويختصّ به مكلَّفٌ ما، كالكلب مثلاً. وقولنا: (محترم) صفة للمال والاختصاص، أي أن يكون المال محترماً، أي معتبراً شرعاً، فنحو آلات اللهو والخمر والخنزير ليس بمال محترم، وكذلك مال الحربي. والاختصاص المحترم نحو كلب صيد او حراسة، فإذا لم يكن كذلك فليس بمحترم. وقولنا: (لم يحرز) أي ليس عليه علامات الحفظ والإحراز، وأنه وضع في هذا المكان لحفظه، أو أن المكان غير محرز، أي ليس مُحاطاً ولم يتخذ لحفظ الأشياء فيه. مشروعية الالتقاط: الالتقاط مشروع، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن ذلك: "اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرِّفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 طالبها يوماً من الدهر فأدِّها إليه". (البخاري: اللقطة، باب: ضالة الإبل، رقم: 2295. ومسلم: اول كتاب اللقطة، رقم: 1722). [وكاءها: هو ما يُربط به فم الكيس ونحوه. عفاصها: وعاءها الموضوعة فيه. عرفها: ناد عليها واخبر الناس بأنك وجدت لقطة. لم تعرف: أي صاحبها. فاستنفقها: تملكها وتصرف بها. ولتكن: أي قيمتها: طالبها: صاحب اللقطة]. وهناك أحاديث أخرى تأتي خلال البحث. حكمة التشريع : لا شك أن من فقد شيئاً يملكه او يختصّ به يصيبه شئ من الكرب على فقده، وقد يصعب على هذا الانسان أن يتعرّف على مكان وجوده، ويغيب عن ذهنه أين نسيه، وقد لا يعلم أين فقده، وربما تعرّض لهذا الشئ مَن لا أمانة عنده فأخذه وضاع على صاحبه، وربما أسرع إليه التلف وذهب سُدّى دون ان ينتفع به. ففي تشريع الالتقاط تيسير على الناس وتلبية حاجة ملحّة لديهم، فالملتقط يُعين صاحب الشئ على العثور عليه، ويتعاون معه على كفّ الأيدي الآثمة عن أموال الناس، تحقيقاً لقول الله عزّ وجل: (وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) (المائدة: 2). واستجابة لتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه". وإذا تعرّف صاحب الشئ الضائع عليه سُرَّ به وزال غمّه وذهب كربه، فيكون للملتقط اجر عند الله عزّ وجل، كما اخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ قال: "من نفّس عن مسلم كُرْبة من كُرَب الدنيا نفّس الله عنه كًرْبةً من كربات يوم القيامة". وبهذا يعيش الناس آمنين مطمئنين، يعلمون أن أموالهم مصونة، حتى ولو فُقدت منهم فستعود اليهم، تحملها النفوس الأبيّة والأيدي الأمينة، لتوصيلها الى مستحقّيها أوفر ما كانت، فيسود الحب، ويكون الإخاء والود. حكمها : إذا وجد المسلم لقطة - أي شيئا ساقطاً على النحو الذي عرفت - فهل يلتقطه او يتركه؟ والجواب: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 يستحبَ له الالتقاط إذا كان واثقاً من أمانة نفسه، ويخشى ان يضيع هذا الشئ على صاحبه إن لم يلتقطه، حفظاً لمال أخيه كما علمت. فإن لم يخف عليها الضياع كان التقاطها مباحاً، له أن يأخذها وله ان يدعها. وإن تيقن ضياعها، لمعرفته بعدم وجود أمين غيره في ذاك الموضع، وجب عليه التقاطها، لأن حفظ مال المسلم واجب. وإن لم يثق بأمانة نفسه مستقبلاً، وخشي ان تسوّل له نفسه أكلها، كره له التقاطها، وإن علم من نفسه الخيانة، وأنه إن التقطها سيلتقطها لنفسه، لا ليحفظها على مالكها ومستحقها، حرم عليه التقاطها. وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: "لا يأوى الضالة إلا ضال، ما لم يعرفها" (مسند احمد: 4/ 360، من حديث جرير بن عبدالله رضى الله عنه). [والضالة: هي الشئ الضائع، وإيواؤها التقاطها]. لقطة الحيوان ولقطة غير الحيوان : الشئ الضائع قد يكون حيواناً، وقد يكون غير حيوان: 1 - فإن كان حيواناً يُنظر: أفإن كان مما يمتنع بنفسه - أي يحمي نفسه - من صغار السباع: اما لقوته كالفرس والبعير، او لسرعة جريه كالغزال والأرنب. فإن وجدها في صحراء لم يجز له التقاطها، فقد جاء في حديث خالد بن زيد رضى الله عنه: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل؟ فقال: "ما لك ولها، دعها فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربُّها". (البخاري: اللقطة، باب: ضالة الغنم، رقم: 2296). أي تقوى بخفها على قطع الصحراء، كما انها تملأ كرشها ماء بما يكفيها اياما، يتمكن فيها صاحبها من العثور عليها. وقيسَ على الإبل ما في معناها من الحيوانات التي تقدر على الامتناع بنفسها من عدوها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 وحمل العلماء قوله صلى الله عليه وسلم هذا على التقاطها للتملّك، وفي حال غلبة الظن ان صاحبها سيعثر عليها، لأن الغالب على أصحاب الإبل ونحوها إرسالها لترعى في الصحراء بلا راع، فالغالب أنها ليست بضائعة، فلا ينبغي التقاطها، ولذا أجازوا التقاطها للحفظ لا للتملّك زمن الأمن، أي يلتقطها بقصد ان يحفظها على صاحبها، لا ليتملكها ولو بعد تعريفها المدة المطلوبة. وان وجدها في بنيان من مدينة او قرية جاز له التقاطها مطلقاً، لاختلاف حالها في البنيان عن الصحراء، إذ لم يعتد الناس إرسالها في القرى والمدن لترعى وحدها، ولأن من يمر بها هنا كثير فيخشى عليها، بخلاف الصحراء فإن المجتازين فيها قلة. وقد دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربّها" فإن سياقه يدلّ على ان ذلك يكون في الصحراء، حيث يوجد الماء والشجر ولا يوجد من الناس من يتعرض لها، وهذا المعنى لا يتحقق في المدن والقرى. ب وإن كان الحيوان لا يمتنع بنفسه: إما لضعف ذاتي فيه كالغنم ونحوها، وإما لعجز طارئ كبعير مريض او فرس مكسور، جاز التقاطه في الصحراء وغيرها، وللتملّك وغيره. وقد دلّ على ذلك: ما جاء في حديث خالد بن زيد رضى الله عنه انه صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن ضالة الغنم؟ فقال: "خذها، فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب" أي إما أن تأخذها أنت وإما أن يأخذها غيرك وإما أن يأكلها الذئب. وقيسَ على الغنم غيرها مما في معناها من الحيوان الذي لا يمتنع بنفسه. 2 - وإن كان الشئ الضائع غير حيوان: جاز التقاطه مطلقاً كالحيوان غير الممتنع، على التفصيل الذي عرفته في حكم اللقطة من حيث الوجوب وعدمه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 وقد دلّ على ذلك أحاديث: منها حديث زيد بن خالد رضى الله عنه، وقد جاء فيه انه صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن اللقطة: الذهب او الوَرِق؟ فقال: "اعرف وكاءها وعفاصها .. " وقد مّر بك في مشروعية الالتقاط. ومنها: حديث أُبيّ بن كعب رضى الله عنه قال: اخذت صُرة فيها مائة دينا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "عرفها حولا" فعرفتها حولا فلم اجد من يعرفها، ثم أتيته فقال: "عرفها حولا" فعرفتها فم اجد، ثم اتيته ثلاثا فقال: "احفظ وعاءها وعددها ووكاءها، فإن جاء صاحبها والا فاستمتع بها " فاستمتعت. (البخاري: اول كتاب اللقطة، باب: واذا اخبره رب اللقطة بالعلامة دفع اليه، رقم: 2294. ومسلم في اوائل كتاب اللقطة، رقم: 1723). لُقّطة الحرم: المراد بالحرم: مكة وما حولها من الأماكن التي تُعرَف بالحرم، والتي لا يحلّ الصيد فيها ولا قطع شجرها ونحو ذلك. فإذا وجد المسلم فيها شيئاً ساقطاً - ينطبق عليه تعريف اللقطة - لم يحلّ له التقاطه الا بقصد الحفظ على مالكه، ولا يحلّ له تملّكه ابد الدهر، لأن الغالب ان يعود صاحبه الى مكة ولو بعد حين. وقد دلّ على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم في مكة يوم الفتح: "ولا تحلّ لقطتها الا لمنشد" أي معرِّف على الدوام. (البخاري: اللقطة، باب: كيف تعرف لقطة اهل مكة، رقم: 2301. ومسلم: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها ... ولقطتها، رقم: 1355). وتلزمه الإقامة لتعريفها، فإن أراد الارتحال عن مكة دفعها الى الحاكم او مَن ينوب منابه، ليقوم بتعريفها ويحفظها لمالكها. الإشهاد على الالتقاط : الأصح أن الإشهاد على الالتقاط غير واجب، لأنه لم يرد الأمر به في أكثر أحاديث اللقطة، وإنما هو مستحب ولو كان الملتقط عدلاً، ليقطع على نفسه طريق الخيانة مستقبلاً، ودرءاً من أن يأخذها وارثُه بعد موته بحجة أنها كانت في يده. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 وقد دلّ على الاستحباب قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن التقط لقطة فليُشهد عليها ذا عدل او ذوَيْ عدل" (ابو داود: اللقطة، باب: التعريف باللقطة، رقم: 1709). فالتخيير في ان يُشهد عدلاً أو عدلين يقتضي عدم الوجوب، ولو كان الإشهاد واجباً لما اكتُفى بعدل واحد. ويذكر للشهود بعض صفاتها ولا يستوعبها، ويكره له ان يزيد في البيان، وإن خشي من الإشهاد ان يعلم بها غير أمين، فيأخذها منه ظلماً، امتنع عليه الإشهاد. تعريف اللقطة : إذا وَجد المرء شيئا ضائعا بمعنى اللقطة الذي عرفت، يُنظر: فإن كان شيئاً تافهاً: أي ليس من شأن الناس عادة - إذا فقدوه - ان يطلبوه ويبحثوا عنه، كاللقمة والتمرة ونحو ذلك، حسب عُرْف كل مكان وزمان، فإن الملتقط يتملك ذلك دون ان يعرف به او يتعرف عليه. وقد دلّ على ذلك: حديث أنس رضى الله عنه قال: مّر النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق، قال: "لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها". (البخاري: اللقطة، باب: اذا وجد تمرة في الطريق، رقم: 2299. ومسلم: الزكاة، باب: تحريم الزكاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم: 1071). وإن كان شيئا ذا قيمة: أي من شان الناس أن يطلبوه إذا فقدوه ويبحثوا عنه، كان على الملتقط تعريفه، دلّ على ذلك صريح الأحاديث التي سبقت. والأصح أن التعريف واجب، سواء أكان الالتقاط بقصد الحفظ فقط أم بقصد الحفظ ثم التملّك. كيفية التعريف ومدته ومكانه : اولاً: يتعرف على العين الملتقطة بما يميِّزها عن غيرها من الصفات، بحيث إذا جاء مَن يدعيها وسأله عن صفاتها استطاع ان يعرف هل هو صاحبها أمْ لا؟ فإذا دفعها كان على يقين انه دفعها لمستحقِّها. فيتعرف على وعائها إن كان لها وعاء، وعلى رباطه إن كان له رباط، وهي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 العفاص، والوكاء، كما يعرف عددها إن كانت ذات عدد، وجنسها ونوعها، وما الى ذلك من صفات كما ذكرت، تختلف باختلاف الشئ. دلّ على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "اعرف وكاءها وعفاصها وعدّتها" وذلك انه سُئل عن لقطة الذهب والفضة، ومن شأنها أن تكون في وعاء مربوط ولها عدد، فيقاس على ذلك غيره من الصفات التي تتميز بها الأشياء وتتّضح. ثانياً: إذا عرف صفاتها وميِّزاتها نادى عليها، ذاكراً بعض صفاتها التي من شأنها ان تنبّه فاقدها إليها، ولا يتوسع بذلك كي لا يعرف صفاتها مَن لا يستحقها فيدّعيها، وربما اخذها ظلماً وباطلاً. ثالثاً: إذا كان الشئ ذا بال كبير، يتأسف عليه فاقده زمناً طويلاً، عرفه سنة كما ثبت في النص، لأنها لو كانت لمسافر يغلب أن لا يغيب عن مكان فقده اكثر من سنة. يعرفه كل يوم مرتين لمدة أسبوع، ثم كل يوم مرة اسبوعاً آخر، ثم كل اسبوع مرة ليتمّ سبعة اسابيع، ثم في كل شهر مرة. وزيد في الأيام الأولى لأن الطلب يكون فيها أشد، وهذا التحديد اجتهاد استحبّه العلماء، وإلا فالمطلوب تعريف حسب العادة، بحيث ينتبه صاحب الحق الى حقه ويصل إليه. فإذا كان الشئ ليس ذا بال كبير: فإنه يُعرَّف فترة يغلب على الظن أن صاحبه يكفّ عن طلبه، دلّ على ذلك قرائن الأحوال التي وردت فيها الأحاديث، فسؤال عن صرّة فيها مائة دينار، وسؤال عن ذهب وفضة، وسؤال عن ضالة الغنم والإبل ونحو ذلك، فكلها اشياء ذات قيمة، لا يكف فاقدها عن طلبها غالبا في اقل من سنة، والله تعالى اعلم. رابعاً: يكون التعريف في الأماكن العامة والأسواق وعلى أبواب المساجد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 نحوها حيث يجتمع الناس، ويكثر منه في موضع وجودها، لأن الغالب ان يطلبها فاقدها فيه. ويكره ان يعرفها في المسجد، لما فيه من رفع الصوت والتشويش على المصلّين والذاكرين فيه، وقد ورد الزجر عن هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردّها الله عليك، فإن المساجد لم تُُبّنْ لهذا". (اخرجه مسلم: في المساجد، باب: النهي عن نشد الضالة في المسجد ... ، رقم: 568). ويستثنى من هذا المسجد الحرام، فإنه يجوز فيه، لأن من ينشدها في غيره متّهم انه يفعل ذلك من اجل ان يتملك اللقطة بعد تعريفها، وهذا المعنى غير موجود فيمن ينشد لقطة المسجد الحرام، لأن تعريفها لمصلحة مالكها وحفظها، اذ ان الملتقط ليس له تملّكها كما علمت. هذا والذي نراه أن هذا الكلام لا ينطبق على النداء على الضالة بالمكبرات الصوتية في هذه الأيام، التي ينادي بها للصلوات، لأن الصوت لا يكون في المسجد، وكل ما هنالك هو استعانة بهذه المكبرات لأنها توصل النداء الى أمكنة لا تصل إليها أصوات الناس، ولعل الحاجة داعية الى ذلك ولاسيما في المدن التي اتّسعت رقعتها، وكثر ساكنوها، مع كثرة الانتقال بين احيائها وبقاعها. فلا داعي لاستنكار هذا النداء وان كان الأوْلى الاستغناء عنه، اللَّهمّ إلا إذا كان نداءً من أجل ضياع طفل او طفلة، فإننا نرى أنه قد يكون واجباً، لما فيه من إحياء النفس، ودفع ترويع اهله عليه، وكفكفة دمعه الذي قد يطول حتى يعثر عليه اهله لولا هذا النداء، والله تعالى أعلم. نفقة التعريف : للملتقط ان يقوم بالتعريف بنفسه وله ان يقوم به بغيره، فإن احتاج الى نفقة كانت هذه النفقة على المالك، لأنه لمصلحة ملكه، فإما أن يدفعها القاضي من بيت المال، وإما أن يقترض من الملتقط أو غيره على المالك، أو يأمر الملتقط بدفعها ليرجع بها على المالك، او يبيع جزءاً منها في ذلك، فإن أنفق الملتقط من ماله دون إذن الحاكم كان ذلك تبرعاً منه، لا يلزم به المالك إن ظهر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 أنواع ما يلتقط وكيفية التصرّف به: اللقطة قد تكون حيواناً وقد تكون غير حيوان، وغير الحيوان قد يكون مما يبقى وقد يكون مما يفسد، ولكلٍّ حكم: 1 - فإن كان حيواناً: فإن شاء أبقاه وأنفق عليه بإذن الحاكم، ليرجع على صاحبه عند ظهوره بما أنفق، فإن لم يجد حاكماً أشهد على ذلك، فإن انفق دون إذن ولا إشهاد كان متبرعاً، ليس له أن يرجع بما أنفق. وإن شاء باعه بإذن الحاكم وحفظ ثمنه. وله - إن أخذه في مكان لا يتسير فيه البيع - أن يتملكه حالاً ثم يأكله، ويغرم قيمته - يوم تملكه - لصاحبه إن ظهر. 2 - وإن كان غير حيوان مما يسرع اليه الفساد: فهو مخيّر بين أن يأكله ويغرّم قيمته، أو يبيعه بإذن الحاكم ويحفظ ثمنه. 3 - وإن كان يبقى بعلاج: - كتجفيف ونحوه - كرطب يجفّف، ولبن يصنع أقطاً: وجب على الملتق أن يفعل ما هو الأصلح للمالك والأنفع من الأمور التالية: أن يبيعه كله بإذن الحاكم ويحفظ ثمنه، أو يعالجه ليبقى متبرّعاً بعلاجه، فإن لم يتبرع بذلك بيع بعضه - بإذن الحاكم - بقدر ما يعالج به الباقي. 4 - وان كان مما يبقى ابداً بدون علاج: وجب عليه حفظه مدة التعريف اللازمة. ويبنغي ان ينتبه الى انه: في الحالات التي تُباع فيها العين الملتقطة، ويحفظ فيها ثمنها، لابد من استمرار التعريف بها المدة اللازمة، ويكون التعريف للعين الملتقطة لا للثمن. تملّك اللقطة: للملتقط ان يتملّك العين الملتقطة إن كانت باقية - أو ثمنها حال بيعها كما في الصور السابقة - بعد انتهاء مدة تعريفها اللازمة، فإذا تملّكها صارت مضمونة عليه، ويغرَّم قيمتها لصاحبها إن ظهر يوم تملّكها، اخذاً من النصوص السابقة: "ثم عرّفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها ... ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 ويتملكها بلفظ صريح كقوله تملكت هذه، او كناية - كأخذت ونحوه - مع النّية، وقيل: يتملّكها بمضيّ مدّة التعريف اكتفاء بقصد التملّك، ولا يحتاج إلى لفظ يد الملتقط وحفظ اللقطة : على الملتقط أن يحفظ اللقطة في حرز مثلها، وكذلك ثمنها في حال بيعها، وهو غير ضامن لما يصيبها دون تعدٍّ أو تقصير، لأنه متبرّع بالحفظ، وهذا م صرّحت به الأحاديث: "ولتكن وديعة عندك". فهي غير مضمونة عليه خلال مدة التعريف وكذلك بعده إن لم يتملكها، فإذا تملكها أو تملك ثمنها صار ضامناً، وعليه - كما سبق - ان يغرَّم قيمتها يوم التملك إن ظهر صاحبها. دفع اللقطة الى مدّعيها: إذا جاء مَن يدّعي اللقطة وأنها ملكه سأله الملتقط عن أوصافها، فإن وصفها وأحاط بجميع أوصافها، وغلب على ظن الملتقط صدقه جاز له أن يدفعها إليه عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن جاء صاحبها، وعرف عفاصها ووكاءها وعددها، فأعطها إياه". (مسلم: في اوائل كتاب اللقطة، في رواية من حديث زيد بن خالد رضى الله عنه). فإذا دفعها اليه برئت ذمته، ولا يضمن فيما لو ظهر كاذبا. والأصح أنه لا يجب عليه أن يدفعها إليه حتى ولو وصفها بدقة، وغلب على ظنه صدقه، إلا إذا أقام بيَّنة عند القاضي وحكم بها على الملتقط، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لو يعطي الناس بدعواهم لادّعى رجال اموال قوم ودماءهم، لكن البينَّة على المدّعي واليمين على مَن أنكر". (البخاري: التفسير/ آل عمران، باب: "ان الذين يشترون بعهد الله .. " رقم: 4277. ومسلم: الأقضية، باب: اليمين على المدعي عليه، رقم: 1711). فلا يعطي أحد شيئاً بمجرّد دعواه أنه لا، حتى يثبت ذلك بالبيِّنة أو ما يقوم مقامها حسب الدعوى. تنبيه: في كل موضع ذكر إذن القاضي أو إخباره وما إلى ذلك: في حال إمكان ذلك، وعدم خوفه اخذها ظلماً وضياعها على مالكها، فإن خاف شيئا من ذلك لم يرجع إليه، والله تعالى أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 الباب الثامن الرَّهن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 الرَّهن تعريفه : هو - في اللغة - الحبس، ومنه قوله تعالى: "كلُّ نفسٍ بما كسبتْ رهينة" (المدَثر: 38): أي محتسبة وممنوعة من دخول الجنة يوم القيامة، بسبب ما كسبته في الدنيا، حتى تحاسب عيه. ويأتي أيضاً بمعنى الثبوت والدوام، جاء في مختار الصحاح: أرهنتُ لهم الطعام والشراب أدمته لهم، ويقال: الأحوال الراهنة، أي الحاضرة والدائمة. وهو في الاصطلاح الشرعي: يُطلق على عقد الرهن، وهذا هو الأصل والغالب في إطلاق الفقهاء، وقد يُطلق ويُراد به الشئ المرهون، ومن ذلك قوله تعالى: (وان كنُتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتباً فرهانٌ مقبوضة) (البقرة: 283). فرهان هنا جمع رهن، لأنها وصفت بأنها مقبوضة، والقبض يكون في الأشياء ولا يكون في المعاني، والعقد معنى فلا يتأتّى فيه القبض. فالرهن بمعنى العقد: هو جعل عين متمولة وثيقة بدَيْن، يُستوفى منها عند تعذّر الوفاء. فالجعل يكون بالعقد، والجاعل هو الراهن، والمجعول عنده هو المرتهن، والمجعول هو العين المرهونة، والعين تطلق على كل ذي حجم، وكون هذه العين متمولة أي تعتبر مالا في عُرف الشرع، وهذا الجعل انما هو للتوثّق، أي ليستوثق الدائن من ان دَيْنه لن يذهب ويضيع، بل يطمئن إلى انه سيعود اليه، فالعين تجعل مرهونة مقابل الدَّيْن، بحيث اذا تعذّر - أي صعب او استحال - على المدين إن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 يوفى دَيْنه في أجله، استطاع الدائن أن يستوفي دَيْنه من هذه العين، بأن تُباع ويأخذ دَيْنه من ثمنها. وهكذا نجد أن التعريف قد شمل بإيجاز أركان عقد الرهن واحكامه وحكمته، التي سنتعرّض لبيانها بالتفصيل ان شاء الله تعالى. مشروعية الرهن: الرهن جائز ومشروع، بإجماع المسلمين في كل العصور والأزمان، ومستند هذا الإجماع ما ثبت من نصوص صريحة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم تدل على ذلك: أما الكتاب: فقوله تعالى: "وان كنتُم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهانٌ مقبوضة" (البقرة: 283). جاء ذلك بعد قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اذا تداينتُم بدَيْن الى اجل مسمّى فاكتبوه .. " فدلّ على أن الرهان تقوم مقام الكتابة في التوثيق للدَيْن، وذلك عنوان المشروعية. وأما السنة: فأحاديث كثيرة، منها حديث عائشة رضى الله عنه قالت: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير". (البخاري: الجهاد، باب: ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم والقميص في الحرب، رقم: 2759). وسيأتي معنا مزيد من الأدلة على المشروعية خلال البحث ان شاء الله تعالى. الرهن في الحضر وحال وجود الكاتب : جاء في الآية الآنفة الذكر قوله: "وان كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتباً فرهان .. " وظاهر ذلك: أن الرهن إنما يشرع حال السفر وفي الحضر، وحال وجود الكاتب وحال عدمه، دلّ على ذلك حديث عائشة رضى الله عنها وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً الى أجل، ورهنه درعاً من حديد. (البخاري: البيوع، باب: شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة، رقم: 1962. مسلم: المساقاة، باب: الرهن وجوازه في الحضر والسفر، رقم: 1603). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 والظاهر أنهما كانا في المدينة، فهما غير مسافِرَيْن، والكُتَّاب في المدينة ايضاً كُثُر، فدلّ على أنه لا يشترط لصحة الرهن أيٌّ من هذين الأمرين. وأجاب العلماء عن حكمة ذكر السفر وعدم الكاتب في الآية: بأنه بيان للغالب في واقع الأمر، إذ الغالب أن يحتاج إلى الارتهان في السفر، الذي كثيراً ما يُعدم فيه الشهود ويفتقد الكاتب، لاسيما في تلك الأزمان التي كانت فيها القراءة والكتابة قليلة، وذلك من اسلوب الكلام العربي الذي جاء القرآن على ارقى مستوى منه. حكم الرهن : ظاهر الآية التي تدل على مشروعيته ان ذلك واجب، اذ قالت: "فرهان مقبوضة" وهذه صيغة من صَيِغ الأمر، إذ المعنى فليكن منكم رهان ... ، والأمر للوجوب، ولكن العلماء اتفقوا على أن الرهن ليس بواجب، وأنه أمر جائز، للمكلّف ان يفعله وان لا يفعله، لأنه شرع لتوثيق الحق، وللانسان ان يوثّق حقه وأن لا يوثقه، وقد أكد معنى الجواز قوله تعالى في الآية: "فإن أمَن بعضُكم بعضاً فليؤدِّ الذي اؤتمن امانته": أي فليكن المدين المؤتمن على الدَّيْن دون توثق اهلاً لهذا الائتمان، وليؤدِّ الأمانة دون اساءة، وواضح ان الائتمان لا يكون إلا إذا لم يكن ارتهان، لأن طلب الارتهان دليل الشك في الأمانة. وقال العلماء ايضاً: إن الرهن بدل عن الكتابة، فيأخذ حكمها، والكتابة ليست واجبة، بدليل قوله تعالى: "ولا تَسْأمو ان تكتبوه صغيراً او كبيراً إلى أجله ذلكم أقسطُ عند الله وأقومُ للشهادة وأدني ألاّترتابوا " أي لا تملّوا من كتابة الدَّيْن قلّ أو كثر، فإن كتابته أقرب إلى العدل وعدم ضياع الحقوق، واسهل لإقامة الشهادة عند الاختلاف، وابعد عن الشك في قدر الدَّيْن أو صفته أو اجله. قالوا: هذه المعاني تدل على ان الامر بالكتابة أمر إرشاد وتوجيه، وليس امر إيجاب وتحتيم. على أننا نقول: إذا لم تكن الكتابة أو الرهن واجباً، فذاك لا يعني ان نتساهل في الأمر، ثم يجرّ بعضنا بعضاً الى دُور القضاء، او يتخذ ذلك بعض من رق دينهم ذريعة الى أكل اموال الناس بالباطل، فأقل ما قاله العلماء انه امر ارشاد وذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 يعني الندب والاستحباب، فالأولى الكتابة على أيّ حال، والرهن اذا لم تتيسر الكتابة، كي لا يترك الناس فعل الخير خشية ضياع اموالهم وذهاب حقوقهم، اللهم الا اذا كانت الثقة بالأمانة والدين والخلق اقرب الى اليقين، والله تعالى الموفق. حكمة مشروعية الرهن: تكرر معنا ان شرع الله تعالى مِلةّ التيسير ورفع الحرج ورعاية مصالح الناس، والناس يتعاملون فيما بينهم، وكثيراً ما يحتاجون الى النقد فلا يجدونه، وهم محتاجون الى بعض السلع، فيحتاجون الى استقراض النقد أو تأجيل الثمن، ولا يجدون مَن يثق بهم ليعطيهم المال أو السلعة دون وثيقة، ويرغب صاحب المال أو السلعة بما يوثّق حقه ويطئمنه الى أنه سيعود اليه كاملاً موفوراً، ولا يرغب ان يقع في مخاصمات ومرافعات، فلا يرضى بالكفالة ولا يكتفي بالكتابة والإشهاد، فيطلب سلعة تكون وثيقة في يده مقابل حقه، ويرضى صاحب الحاجة الى النقد او تأجيل الثمن بهذا التوثيق، فيدفع متاعاً يستطيع ان يستغنى عن منفعته لطالب الوثيقة، وهنا تتحقق مصلحة الطرفين، ويسهل التعامل بين الناس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 أركان عقد الرهن علمنا مما سبق أن لعقد الرهن أركانا كغيره من العقود، لا يوجد ولا يقوم إلا بوجودها، كما أن لتلك الأركان شروطاً، لا يصحّ العقد ولا تترتّب عليه آثاره المعتبرة شرعاً إلا بتوفرها، وأركان عقد الرهن هي: 1 - العاقدان، وهما اللذان يقومان بإنشاء هذا العقد، وهما الراهن والمرتهن. 2 - الصيغة، أي الكلام الذي يصدر عن العاقِدَيْن ليدل على إنشاء هذا العقد. 3 - الدَّيْن، الذي هو سبب هذا العقد، والذي يكون في ذمّة الراهن للمرتهن. 4 - المرهون، وهو العين التي توضع لدى المرتهن وثيقة بدّيْنه. وسنتكلم بالتفصيل - ان شاء الله تعالى - عن هذه الأركان مع شروط كلٍّ منها. الركن الأول: العاقدان: وهما الراهن والمرتهن: فالراهن هو المدين، أي الذي عليه الدَّيْن، وذمته مشغولة به تجاه المرتهن، والمرتهن: هو الدائن الذي له الدَّيْن في ذمة الراهن، والذي توضع العين المرهونة تحت يده وسلطانه. ويشترط في كلًّ منهما: 1 - ان يكون مكَّلفاً: أي عاقلاً بالغاً غير محجور عليه في تصرفاته المالية. فالصبي - ولو كان ممِّيزاً - لا يصلح ان يكون راهناً ولا مرتهناً، فلو رهن شيئاً من ممتلكاته عند أحد فلا يصحّ منه هذا الرهن، والمرتهن ضامن لما أخذه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 منه في هذه الحالة. وكذلك لو رهن احد عنده متاعا، فلا يعتبر ذلك رهنا، والا تثبت له احكامه، ومثل الصبي المجنون الذي غلب على عقله. وذلك لأن الرهن عقد تترتب عليه أحكام ومسؤوليّات، وكل من الصبي والمجنون ليس اهلاً لذلك، فالشرع لم يعتبر أقوالهما وتصرفاتهما في العقود، لأنهما ليسا اهلا للمؤاخذة كما علمت في كثير من المواضع. قال صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم" أي يبلغ. (ابو داود: الحدود، باب: في المجنون يسرق او يصيب حدا، رقم: 4401). والمراد برفع القلم عدم المؤاخذة والمسؤولية. وأما المحجور عليه في تصرفاته المالية - وهو السفيه في عُرْف الشرع - وهو الذي لا يحسن التصرّف بالمال: إما بإنفاقه في المحرّمات، أو إسرافه في المباحات، او لطيش فيه: فلأنه تصرّف مالي، وهو ممنوع منه، كما علمت في (باب الحجر). 2 - أن يكون غير مُكْرَه: أي أن يرهن الراهن ما يرهن باختياره، وكذلك المرتهن، فلو أُكره الراهن على الرهن، أو المرتهن على الارتهان، فلا يصحّ الرهن، ولا تترتب عليه آثاره واحكامه التي ستعرفها، بمعنى أنه إذا زال الإكراه عن العاقد رجع الحال إلى ما كان عليه قبل الإكراه، ووجب على الراهن ان يستردّ العين إن كان المكره هو المرتهن، وعلى المرتهن ان يردّ العين إن كان المكرَه هو الراهن، ثم إذا رغبا في الرهن أنشآه من جديد. وذلك لأن الرهن من التصرفات الشرعية الإنشائية، والإكراه عليها يؤثر فيها ويذهب أثرها، كما ستعلم ذلك مفصلا في (باب الإكراه) ان شاء الله تعالى. 3 - ان يكون من أهل التبرّع فيما يرهنه أو يرتهن به: كأن يكون مالكا للعين التي يرهنها مثلا، وان يكون مالكا للدين الذي يرتهن به. رهن الولي والوصي وارتهانهما : والمراد بهذا الشرط بيان: أنه ليس لأحد أن يرهن شيئاً من مال مَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 له عليه ولاية مالية كالوليّ والوصي، كما انه ليس له ان يرتهن شيئا لهم بشئ من اموالهم، لأن الولي والوصي - كلاًّ منهما - ليس اهلاً للتبرّع من أموال مَن تحت ولايته أو وصايته، والرهن والارتهان كلٌّ منهما فيه معنى التبرع. فالبرهن يُمنع الراهن من التصرّف في المرهون - إلا بشروط كما سيأتي - وذلك حبس لمال القاصر وتفويت للمنفعة بغير عوض، فهو تبرع. وبالارتهان تأجيل للمال الذي يستحقه القاصر، وذلك تفويت لمنفعة التعجيل بغير عوض، إذ ليس للمرتهن أن ينتفع بالعين المرهونة كما ستعلم، وذلك تبرع ولذا قال الفقهاء: ليس لوليّ القاصر أن يبيع شيئاً من ماله - في الأحوال العادية - إلا بحالٍّ مقبوض قبل أن يسلم المبيع، وبالتالي فلا ارتهان بماله. على أن الفقهاء قد استثنوا حالتين، يجوز فيهما للوليّ والوصي الرهن والارتهان، لما في ذلك من مصلحة ظاهرة لمن كان تحت ولايتهما، وهما: 1 - حالة الضرورة: كأن يحتاج إلى النفقة على مَن تحت ولايته، ولا يكن له مال ينفق عليه منه، فيرهن شيئاً من أمتعتهم مقابل مال يأخذه لينفقه عليهم، وهو يرجو أن يوفيه من غلّة ينتظر خروجها لهم، او دَيْن لهم سيحلّ أجَله، او بيع متاع لهم كاسد الآن يرجى نفاقه. وكذلك له أن يرتهن بمال لهم، يخشى عليه السرقة أو النهب فيبيعه الى أجل أو يقرضه، ويرتهن بذلك متاعاً لهم حفظاً واستيثاقاً لدَيْنهم. 2 - أن يكون الرهن والارتهان لمصلحة ظاهرة: وذلك كأن يجد سلعة تساوي مائتين مثلاً، تباع بمائة، ولا مال لهم، فيشتريها على أن يرهن بها شيئاً من متاعهم يساوي مائة. ويشترط في هذه الحالة ان يكن هذا المتاع المرهون عند امين موسر، وان يشهد على ذلك، وان يكون الى اجل غير طويل عُرفاً، فإن فقد شرط من ذلك لم يصحّ الرهن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 ومثل الرهن الارتهان، وذلك كأن يبيع شيئا من متاعهم يساوي مائة بمائتين، ويرتهن لهم بذلك متاعاً يساوي مائتين. فالمصلحة هنا ظاهرة والمنفعة بالغة لهؤلاء القاصرين، ولذا صحّ الرهن والارتهان لهم. الركن الثاني: الصيغة: وهي الإيجاب والقبول: وهما كل كلام يدل على الرهن والقبول به، من الراهن والمرتهن، كأن يقول الراهن: رهنتك داري هذه بما لَك علىّ من الدَّين، أو خذ هذا - لسلعة في يده - رهناً بثمن هذا، لشئ اشتراه، فيقول صاحب الدين في الحالين: قبلت، أو ارتهنت، ونحو ذلك. والأصل في اشتراط الصيغة في الرهن - وغيره من العقود - أنه عقد فيه تبادل مالي، فيشترط فيه الرضا، لأنه لا يحلّ مال امرئ إلا عن طيب نفس منه، والرضا أمر خفيّ، فيُكتفي بما يدل عليه وهو اللفظ من المتعاقِدَيْن، وذلك يكون بالإيجاب والقبول. وهل يكتفي فيه بالمعاطاة؟ كأن يقول له: يعني هذه السلعة بكذا الى أجل، وخذ منيّ هذه الساعة مثلاً رهناً بالثمن، فيقول: بعتك، ويقبضه السلعة وذلك يعطيه الساعة. الأصلح أن هذا الرهن لا ينعقد، ولا بدّ من صيغة خاصة به، تدل على الرهن والارتهان. هذا بالنسبة لمن يستطيع النطق، وأما الأخرس: فيكتفي منه بإشارته المعهودة المفهمة رضاه بالرهن أو الارتهان، فتقوم مقام نطقه للضرورة، لأنها تدل على ما في نفسه من الرضا أو عدمه، وكذلك كتابته فيما اذا كان يحسن الكتابة. الركن الثالث: المرهون: وهو العين التي يضعها الراهن عند المرتهن ليحتبسها وثيقة بدَيْنه، وقد اشترط الفقهاء فيها شروطاً ليصح ارتهانها، منها: 1 - أن يكون عيناً: فلا يصحّ رهن المنفعة، كأن يرهنه سكنى دار، لأن المنفعة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 تتلف بمرور الزمن، فلا يحصل بها توثّق ولا تثبت عليها يد الحبس. 2 - أن يكون قابلاً للبيع: أي تتوفر فيه شروط المبيع التي مرّت بك في عقد البيع، بأن يكون موجوداً وقت العقد، وأن يكون مالاً متقوِّماً شرعاً، وأن يكون مقدوراً على تسليمه، وأن يكون قد وقع عليه التملّك من الراهن أو دخل في سلطانه. فلا يصحّ رهن ما ستلده أغنامه، لأنه غير موجود عند العقد. ولا يصحّ رهن كلب وخنزير، لأنهما ليسا بمال ذي قيمة شرعاً، ومثلهما صيد المرحم بحج او عمرة وصيد الحرم المكّي، لأن كلاًّ منهما في حكم الميتة، وهي ليست بمال شرعاً. كما لا يصحّ أن يرهن طيراً في الهواء، لأنه غير مقدور على تسليمه. ومثله أن يرهن ما له في ذمّة فلان من الدَّيْن، لأنه غير قادر على تسليمه ايضاً. وكذلك لا يصحّ رهن ما يسومه ليشتريه، او ما يريد ان يجمعه من المُباحات كالحطب والكلأ - أي الحشيش - غير المملوكين، لأن هذه الأشياء لم يقع عليها التملّك بعد، ولم تدخل في سلطانه. وهل يشترط ان يكون الراهن مالكاً للعين المرهونة، أم يكفي أن تكون في سلطانه؟ الجواب: أنه لا تشترط ملكية الراهن للمرهون، بل له أن يستعير شيئاً ليرهنه، بشروط وأحكام، سيأتي بيانها في فقرة مستقلة تحت عنوان: العين المستعارة للرهن. وكذلك لا يشترط ان يكون مالكاً لجميع العين المرهونة، بل يصح ان يكون مالكاً لجزء منها، فيرهن ما هو ملْك له، كما لو كان يملك نصف سيارة أو نصف الدار أو العقار، فله ان يرهن حصته مقابل ما عليه من الدَّيْن، وهذا ما يسمى عند الفقهاء: رهن المشاع، وذلك لأن المشاع قابل للبيع، فمّن كان يملك حصة شائعة في شئ - أي غير مقسومة ولا معزولة - له ان يبيعها، فكذلك يصح له ان يرهنها، لأن الغاية من الرهن الاستيثاق والتمكن من الاستيفاء منه عند تعذر وفاء الدَّيْن، وذلك يحصل برهن المشاع، لأنه يمكن بيعه عند حلول الأجل واستيفاء الدَّيْن من ثمنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 وسيأتي بيان كيفية قبض المرهون المشاع عند الكلام عن القبض في الرهن إن شاء الله تعالى. الركن الرابع: المرهون به: وهو الحق الذي للمرتهن في ذمة الراهن، والذي يوضع الرهن بمقابله، ويشترط فيه أمور، وهي: 1 - أن يكون دَيْناً: أي مما يثبت في الذمة كالدراهم والدنانير ونحوها من العملات المتداولة، والتي تقوَّم بها الأشياء، لأن مقصود الرهن استيفاء المرهون به من قيمة المرهون وثمنه عند تعذّر الوفاء، وهذا ممكن في الدَّيْن. ولا عبرة بسبب الدَّين سواء أكان ثمن مبيع اشتراه الراهن إلى أجل، أم كان قرضاً، أم كان ضماناً بسبب إتلافه شيئاً ما للمرتهن. وعليه: فلا يصحّ أن يكون الحق المرهون به عيناً، كما لو غصب انسان متاعاً من آخر، فطالبه المغصوب منه به، وطلب منه ان يرهنه شيئاً مقابله الى ان يأتيه به، وكذلك لو استعار احد شيئا، فطلب المعير من المستعير ان يرهنه شيئا ما - متاعا او نقودا مثلا - مقابله حتى يأتيه به، فلا يصح مثل هذا الرهن، وهذا يقع كثيراً في هذه الأيام. قال صاحب كتاب [مغني المحتاج]: ومن هنا يؤخذ بطلان ما جرت به عادة بعض الناس من كونه يقف كتابا، ويشرط ان لا يعار او يخرج من مكان يحسبه فيه الا برهن. وانما لم يصح الرهن مقابل الأعيان لأنها لا يمكن استيفاؤها من ثمن المرهون عند تعذر الوفاء وبيع العين المرهونة، اذ كيف تستوفى مثلا ساعة من ليرات ونحوها، واذا قلنا تستوفى قيمتها، فإن القيمة تختلف باختلاف المقومين، فيؤدي ذلك الى التنازع. على ان الرهن انما شرع وذكر في كتاب الله تعالى في الدين - كما علمت عند الكلام عن مشروعيته - فلا يثبت في غيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 2 - ان يكون الدَّيْن ثابتاً في ذمّة الراهن للمرتهن: كثمن مبيع بعدما أبرم البيع ولو قبل تسليم المبيع، أو نفقة زوجة عن زمن مضى، أو مال اقترضه الراهن وقبضه أو قبل قبضه، ونحو ذلك، فيصحّ الرهن. وإنما صحّ الرهن في هذه الحالات لأن الحق قد ثبت، فصارت الحاجة داعية لأخذ الوثيقة به، فصار الرهن ضماناً للدَّيْن، فجاز أخذه به. وكذلك يصحّ الرهن لو وقع مع العقد الموجب للدَّيْن، كما لو قال: بِعْني هذا الثوب بمائة إلى شهر، وأرهنك بها هذه الساعة، فقال البائع: قبلت، أو بعتك وارتهنت، أو قال: أقرضني ألفاً الى سنة، وأرهنك بها هذه السجادة، فقال: قبلت، أو أقرضتك وارتهنت، لأن الحاجة تدعو الى ذلك، فلو لم يعقد ذلك ويشترطه مع ثبوت الدَّيْن ربما لم يتمكن من إلزام المشتري أو المقترض بعقد الرهن بعد ثبوت الدَّيْن، فيفوت حقه في التوثّق من دَيْنه. أما إذا حصل عقد الرهن قبل ثبوت الحق أو العقد الذي يوجبه فإنه لا يصحّ، كما لو ارتهنت الزوجة متاعاً مقابل ما سيثبت لها من نفقة في ايام مقبلة، او ارتهن شيئاً بما سيقرضه إياه، أو بثمن ما سيشتريه منه، فإن الرهن في هذه الحالات لا يصحّ ولا ينعقد. وذلك لأن الرهن وثيقة بالحق فلا تقدم على ثبوته، وتابع فلا يسبقه، كالشهادة فلا تقدّم قبل ثبوت المشهود عليه ولا تسبقه. 3 - أن يكون الدَّيْن معلوماً للعاقِدَيْن قدراً وصفة: فلو ثبت أن للمرتهن دَيْناً في ذمة الراهن، لكنه يجهل ما هو: أليرات سورية ام غير ذلك؟ أو يجهل قدرها، أهي الف ام الفان؟ فارتهنه شيئاً بها، فإن الرهن لا يصح، سواء أعلم العاقد الثاني قدرها وصفتها أم لا. وذلك لتعذّر استيفاء هذا الدَّيْن المجهول من ثمن العين المرهونة إذا بيعت عند عدم الوفاء. لزوم عقد الرهن : إذا وجدت أركان عقد الرهن بشروطها فقد انعقد صحيحاً، ولكن هل لزم العقد؟ بمعنى أنه ليس للراهن أن يرجع عنه، ويلزمه دفع العين المرهونة للمرتهن، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 ام لا يزال له الخيار في ذلك، ان شاء دفع وان شاء رجع؟ والجواب: أن عقد الرهن عقد جائز قبل القبض، وأن القبض من تمامه، وشرط لا يلزم إلا به، فما دامت العين المرهونة بيد الراهن كان له الرجوع عن رهنها، فإذا دفعها للمرتهن، وقبضها المرتهن قبضاً صحيحا لزم العقد، وصار من حق المرتهن احتباسه، وليس للراهن واسترداد العين المرهونة إلا برضاه. ودليل ذلك: قوله تعالى: "وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كتابا فرهان مقبوضة". فالفاء المقرونة بكلمة رهان هي جواب للشرط "وإن كنتم" وجزاء له، ومثل هذه الصيغة من صيغ الأمر، فهو أمر إذن بالرهان التي وصفت بأنها "مقبوضة" والأمر بالشئ الموصوف بصفة يقتضي أن يكون ذلك الوصف من تمامه وشرطاً فيه، لأن المشروع بصفة لا يوجد إلا إذا وُجدت تلك الصفة، فدلّ ذلك على أن عقد الرهن لم يتم إذا لم يحصل القبض، فإذا حصل القبض تمّ، وإذا تمّ فقد لزم. وكذلك: لو كان الرهن يلزم بدون قبض لم يكن لقوله: "مقبوضة" أية فائدة، وكلام الشارع يُصان عن اللغو وعدم الفائدة، فكان لابدّ من إعتبار هذا الوصف الذي قيِّدت به الرهان ليلزم العقد. وأيضاً: عقد الرهن فيه معنى التبرّع من جهة الراهن - كما مرّ معنا عند الكلام عن شروط العاقِدَيْن - لأنه لا يستوجب على المرتهن بمقابلة حبس العين شيئا، وعقد التبرّع لا يُجبر عليه القائم به، فلو كان الرهن يلزم بمجرد انعقاده لكان مجبراً على إمضائه، ولذا لابدّ من إمضائه باختياره، وذلك يكون بالإقباض منه والقبض من المرتهن، فإذا حصل إمضاء العقد باختياره صار ملزماً به، وامتنع عليه الرجوع عنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 كيفية قبض الرهن : إذا كان القبض شرطاً لتمام عقد الرهن ولزومه، فكيف يكون هذا القبض؟ نقول: إن العين المرهونة قد تكون غير منقولة كالأرض والعقار، وقد تكون منقولة كالسيارة وغيرها من السلع. فإذا كانت غير منقولة: كفى فيها ان يخلِّى الراهن بينها وبين المرتهن، والتخلية تكون برفع الموانع التي تحول دون استلامها، كما لو كانت مشغولة بأمتعة، او بمَن يسكن الدار مثلاً، وما إلى ذلك، فإقباضها وقبضها يكون بتفريغها وعدم الحيلولة دون استلامها. وإذا كانت العين المرهونة منقولة: فلا يكفي فيها التخلية، بل لا بدّ فيها من التناول والنقل حسب العُرْف بالنسبة للشئ المنقول، وما يسمى قبضاً له في العادة، فإذا لم يحصل ذلك لا يعتبر القبض. وهذا إذا كانت العين المنقولة أو غير المنقولة كلها رهناً، فإذا كان بعضها هو المرهون، وهو رهن المشاع الذي أشرنا إليه عند الكلام عن المرهون، فكيف يكون القبض فيه؟ والجواب: أنه إن كانت العين منقولة كان قبضها بتسليمها كلها للمرتهن، وذلك بعد إذن الشريك بالقبض، لأنه لا يحصل إلا بالنقل كما علمت، فإن أبى الشريك ذلك ولم يأذن بالنقل: فإما أن يرضى المرتهن بوضعها في يد الشريك كلها، ويعتبر الشريك نائباً عن المرتهن في قبض الحصة المرهونة، فيجوز ذلك ويتمّ العقد، وإذا لم يرضَ المرتهن بذلك رفع الأمر الى القضاء، وعندها ينصب الحاكم عدلاً تكون العين في يده لهما، أي للمرتهن والشريك. وللشريك ان ينتفع بالعين المرهونة بنسبة ملْكه منها، وبإذن من المرتهن او القاضي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 أحكام عقد الرهن علمنا ان لكل عقد من العقود الشرعية احكاماً، وهي الآثار التي يرتبها الشارع على وجود ذلك التصرف بين المتعاقِدَيْن، وانعقاده صحيحاً بوجود أركانه وتحقّق شروطه، وعقد الرهن مثل غيره من العقود: إذا صحّ ولزم، على المعنى الذي علمتَ، ترتّبت عليه آثاره وثبتت له أحكامه، فما هي هذه الأحكام؟ سنتكلم عن هذه الأحكام، ولتسهيل البحث نجعلها أقساماً أربعةً: * القسم الأول: الأحكام التي تتعلق بالمرهون حال بقائه في يد المرتهن. * القسم الثاني: الأحكام التي تتعلق بالمرهون حال هلاكه. * القسم الثالث: الأحكام التي تتعلق بنماء المرهون وهو في يد المرتهن. * القسم الرابع: احكام فرعية تتعلق بالرهن. - القسم الأول: ما يتعلق بالمرهون حال بقائه في يد المرتهن: بعدما يدفع الراهن العين المرهونة الى المرتهن، قد تكاملت أركان الرهن وشروطها، يترتب على ذلك آثار وأحكام من حيث: حبس المرهون، وحفظ العين المرهونة ومؤونتها، وما هي حقيقة يد المرتهن على المرهون؟ وهي ينتفع بالعين المرهونة في هذه الحالة؟ وما حكم التصرّف بهذه العين؟ وفكاك الرهن وتسلمه وردّه بوفاء الدين، ومتى يُباع المرهون وكيف؟ وإليك الكلام عن هذه الامور: - أولاً: حبس المرهون: علمنا أن عقد الرهن لا يتم ولا يلزم إلا بقبض العين المرهونة، فإذا قبضها المرتهن تم العقد ولزم، وليس للراهن الرجوع عنه واسترداد المرهون إلا بفكاكه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 بوفاء الدَّيْن، وبالتالي صار للمرتهن حق في ان يحتبس العين المرهونة عنده، وليس للراهن ان يُخرجها من يده. ويكفي لتمام الرهن القبض الأول، فلا يشترط استدامة هذا القبض، كما لا يشترط أن تبقى العين المرهونة محبوسة على الاستمرار لدى المرتهن حتى يبقى عقد الرهن مستمراً، ولذا كان للمرتهن ان يخرج المرهون من يده برضاً منه وإذن ويدفعه للراهن، ولا يبطل بذلك الرهن ولا ينقطع، ويبقي حق المرتهن متعلقاً، بالمرهون له أن يعيده إلى يده ويحتبسه متى شاء. وذلك: لأن القصد من الرهن الاستيفاء، وذلك ممكن بدون استمرار الحبس، ولأن الراهن يملك منافع الرهن كما سيأتي بيانه، فله ان يستوفى هذه المنافع بإذن المرتهن، وذلك لا يكون إلا باستخراج المرهون من يده. - ثانياً: حفظ الرهن ومؤونته: حفظ الرهن يعني: مراقبته ورعايته والابقاء عليه من ان يناله ضرر أو تلف كأن يسرق مثلا، وذلك من مصلحة المرتهن، لأن مصلحته أن يبقى الرهن سالماً كي يستوفي حقه منه إذا تعذّر على الراهن وفاء الدَّيْن. ولذا كان حفظه عليه ومن واجبه لأنه من مصلحته، ولأنه تحت يده ورعايته، وكَلَ مَن كانت له يد على شئ كان عليه حفظه ورعايته، وعليه ان يحفظه بنفسه حسب العُرف والعادة، لأنه هو العاقد الملتزم بالحفظ بمقتضى العقد. فإذا احتاج الحفظ الى مستودع مثلاً كانت عليه أُجرته، أو إلى خزانة كان عليه إيجادها، أو أجرة حارس، وهكذا. وأما مؤونة الرهن، وهي: كل ما تحتاجه العين من نفقة لبقائها، كعلف الدابة وسقي الاشجار، وترميم الدار مثلاً، فهو على الراهن، لأنه لابدّ منه لبقاء العين التي هي ملكه، ويُجبر عليها كي لا تهلك العين، محفظة على حق المرتهن. ودلّ على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَغلق الرهن، الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غُنَمه وعليه غُرْمه" ومن غُرْمه نفقته ومؤونته، (رواه الشافعي في الام: كتاب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 الرهن، باب: ضمان الرهن: 3/ 147. والدارقطني: البيوع، رقم الحديث: 133). - ثالثاً: يد المرتهن: علمنا أنه إذا تحقق شروط بعد وجود أركانه فقد انعقد صحيحاً، وللمرتهن الحق في أن يقبض العين المرهونة إذا لم يرجع الراهن عن الرهن، فإذا قبض المرتهن العين صار له الحق في احتباسها عنده حتى يؤدي الدَّيْن، وليس للراهن أن يخرجها من يده إلا بإذن منه وهذا هو معنى اليد، أي أن العين المرهونة في يده وتحت سلطانه. والذي نريد أن نعلمه الآن: هي يد المرتهن على العين يد أمانة أم يد ضمان؟ ويد الأمانة تعني: أن صاحبها لا يغرَّم بسبب ما هلك تحت يده شيئاً إلا إذا تعدّى أو قصر في مسؤوليته. ويد الضمان تعني: أن صاحبها يغرّم بسبب ما هلك تحت يده، سواء أتعدّى بالهلاك أم لا، قصّر في مسؤوليته أم لا. والجواب: أن يد المرتهن على العين المرهونة يد أمانة، فلا يغرّم شيئاً إذا هلكت، ولا يسقط عن الراهن شئ من الدَّيْن بمقابل بعض هلاك العين المرهونة او كلِّها، إلا إذا تعدّى في هذا الهلاك أو قصر، كما ستعلمه مفصّلاً عند الكلام عن هلاك المرهون. ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "له غُنْمه وعليه غُرْمه" ومن غُرْمه هلاكه وتلفه، واذا كان هلاكه على الراهن فمعناه أنه هو الضامن له، وبالتالي المرتهن غير ضامن، وتكون يده يد أمانة. - رابعاً: الانتفاع بالمرهون: أ - انتفاع الراهن بالمرهون: قد علمنا أنه لا يشترط لبقاء عقد الرهن استمرار حبس المرهون في يد المرتهن، بل له أن يخرجه من يده بإذنٍ منه ورضاه كما علمنا من خلال ما مرّ أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 منافع المرهون لمالكه وهو الراهن، لقوله صلى الله عليه وسلم: " له غُنْمه" ومن غنمه منافعه، ولكنه محجوز عنها لحق المرتهن طالما أن المرهون محبوس عنده، فإذا أذن للراهن باسترداده والانتفاع به جاز له ذلك. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة" والذي يركب يشرب هو المالك للمنفعة وهو الراهن، فله الانتفاع وعليه النفقة. ولكن يشترط في ذلك: ? أن يكون الانتفاع بالعين المرهونة لا يُلحق بها ضرراً من نقص او تلف. ? أن لا يسافر الراهن بالعين المرهونة، لأن السفر مظنة الخطر، ولا ضرورة له، فإذا أذن المرتهن بما يُمنع منه الراهن جاز له ذلك. وكذلك: ان امكن الانتفاع بالمرهون وهو في يد المرتهن دون اخراجه واسترداده انتفع به عنده، وان لم يمكن ذلك الا باستخراجه من يده استخراجه، والأولى ان يشهد المرتهن على ذلك رجلين او رجلا وامرأتين، لأنه امر مالي. وعلى الراهن رد العين المرهونة بعد استيفائه المنفعة منها الى يد المرتهن. ب- انتفاع المرتهن بالمرهون: علمنا أن عقد الرهن يُقصد به التوثق للدْين، وذلك بثبوت يد المرتهن على العين المرهونة، ليمكن بيعها واستيفاء الدَّيْن من قيمتها عند تعذّر وفائه على الراهن. وعليه: فإن عقد الرهن لا يعني امتلاك المرتهن للعين المرهونة، ولا استباحته لمنفعة من منافعها، بل تبقى ملكية رقبتها ومنافعها للراهن، المالك الأصلي لها، وبالتالي: فليس للمرتهن أن ينتفع بالعين المرهونة بدون إذن الراهن مطلقاً، فإذا فعل ذلك كان متعدِّياً وضامناً للمرهون. وهل له أن ينتفع به إذا أذن له الراهن بذلك؟ ينبغي ان نفرِّق هنا بين أن يكون الإذن بالانتفاع لاحقاً لعقد الرهن وبعد تمامه ودون شرط له، وبين أن يكون مع العقد ومشروطاً فيه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 فإن كان مع العقد ومشروطاً فيه كان شرطاً فاسداً، ويفسد معه عقد الرهن على الأظهر، وذلك لأنه شرط يخالف مقتضى العقد، إذ مقتضى العقد التوثّق - كما علمت - لا استباحة المنفعة، وكذلك هو شرط فيه منفعة لأحد المتعاقِدَيْن وإضرار بالآخر، إذ به منفعة للمرتهن وإضرار بمصلحة الراهن. ومقابل الأظهر: أن الشرط فاسد لا يُلتفت إليه، والعقد صحيح، وقول ضعيف. وأما إذا لم يكن الانتفاع للمرتهن مشروطاً في العقد فهو جائز، ويملكه المرتهن، لأن الراهن مالك، وله أن يأذن بالتصرّف في ملكه بما لا يضيّع حقوق الآخرين فيه، وقد أذن له بذلك، وليس في ذلك تضييع لحقه في المرهون، لأنه بانتفاعه به لا يخرج من يده، ويبقى محتبساً عنده لحقه. - خامسا: التصرّف بالمرهون: المراد بالتصرف هنا: التصرّف الذي يُنشئ التزاماً وينتج أثراً شرعياً، كالهبة والبيع ونحو ذلك. وهذا التصرّف إما أن يكون من الراهن وإما أن يكون من المرتهن، وإما ان يكون بإذن من الطرف الآخر وإما أن يكون بغير إذن. أ-تصرّف الراهن بالعين المرهونة: إذا تصرف الراهن بالعين المرهونة تصرفاً يُزيل ملكه عنها، كالبيع والهبة والوقف، كان تصرفه باطلاً إذا كان بغير إذن المرتهن، ولم يترتب عليه أيّ أثر شرعي، وبقى الرهن على حاله. وذلك: لأن المرهون وثيقة بيد المرتهن مقابل دينه، فإذا أُجيز تصرّف الراهن هذا فيه فاتت الوثيقة وذهب حقّه، ولذا كان باطلا محافظة على حقه. وكما لا يصحّ التصرّف الذي يُزيل الملْك لا يصح التصرّف الذي ينقص العين المرهونة حِسّاً أو مَعّنىً، كأن يعيره الى مَن يستعمله استعمالاً يَبْليه، أو يؤجّره الى مدة يحلّ الدَّيْن قبل انتهائها، فإن ذلك ينقصه مَعْنىً، إذ أن الرغبة تقلّ في شراء العين المؤجرة، وعندها إذا احتيج الى بيع العين لوفاء الدَّيْن: إما أن لا تُباع، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 وإما أن تُباع بأبخس من قيمتها، فإذا كانت المدة تنتهي مع حلول الدَّيْن أو قبله جاز ذلك وصحّ، لأنه لا ضرر فيه. وكذلك لا يصحّ له رهنه عند مرتهن آخر، لأنه يُنشئ له بذلك حقاً يزاحم فيه حق المرتهن الأول، فيفوت مقصود الرهن. فإذا كان التصرّف لا يتحقق فيه ما سبق كان صحيحاً ونافذاً، كالإعارة ونحوها. كلُّ ذلك إذا كان التصرّف بغير إذن المرتهن كما علمت، فإذا كان التصرّف بإذنه: صحّت كلّ تلك التصرّفات ونفذت، وترتبت عليها آثارها المعتبرة شرعاً، لأن المنع من صحتها لحقْ المرتهن، وقد تنازل عن حقه بإذنه فيها. لكن للمرتهن حق الرجوع عن إذنه قبل تصرّف الراهن، لأن حقَّه باقٍ طالما أن التصرف المأذون فيه لم يحصل. فإذا لم يرجع عن إذنه وتصرّف الراهن نفذ التصرّف، وبطل الرهن إذا كان التصرّف يُزيل الملْك كالهبة ونحوها، وإذا لم يكن كذلك - كالإجارة ونحوها مما لا يزيل الملْك - بقى الرهن على حاله. ب- تصرّف المرتهن: لا يعدو تصرّف المرتهن بالعين المرهونة: أن يكون بإذن الراهن، أو بغير إذنه: ? فإذا كان تصرّف المرتهن بغير إذن الراهن، كان تصرّفه باطلاً لا يترتب عليه أيّ أثر شرعي، مهما كان نوع ذلك التصرّف، وإذا سلم العين المرهونة بسبب تصرّفه كان في ذلك متعدّياً، وصارت العين المرهونة مضمونة عليه، وذلك لأنه تصرّف بغير ملكه وبغير إذن المالك، لأن المرتهن لا يملك العين المرهونة، كما أنه لا يملك منفعتها. ? وإذا كان تصرّف المرتهن بالعين المرهونة بإذن الراهن: صحّ تصرّفه ونفذ، لأنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 تصرف بإذن المالك في ملكه، وإنما ينظر: - فإن كان التصرّف يُزيل الملْك كالهبة والبيع بطل الرهن، لأن الوثيقة قد ذهبت. - وإن كان لا يُزيل الملْك - كالإعارة والإجارة - لم يبطل الرهن، لأن عين الوثيقة - وهي المرهون - لا تزال قائمة. - سادسا: فِكاك الرهن وتسليمه وردّه بوفاء الدَّيْن: إذا سَدَّد الرهن ما عليه من الدَّيْن كاملاً انفكّ المرهون وانتهى عقد الرهن، ووجب على المرتهن ردّ العين المرهونة على الراهن وتسليمها له، سواء أكان ذلك عند انتهاء الأجَلْ للدَّيْن أم قبله، وإذا لم يفعل ذلك، وقصّر في الرد أو امتنع دون عذر، كان ضامناً للعين، لأنه صار في حكم الغاصب، إذ لم يبق له حق في احتباس العين المرهونة، فإذا كان له عذر، كأن كانت العين غائبة في مكان لا يتمكن من إحضارها إلا بعد زمن، لم يكن ضامناً، وكذلك لو امتنع من تسليمها لعلمه أن هناك مَن سيغصبها من الراهن إذا دفعها إليه، والله تعالى أعلم. وإذا دفع الراهن دَيْنه على أقساط: فإنه لا ينفك شئ من الرهن حتى يؤدي الدَّيْن كله، أو يبرئه المرتهن مما بقى له من أقساط وليس له أن يطالب بفك جزء من العين المرهونة لو كانت قابلة للتجزّؤ، مقابل ما دفعه من أقساط. وذلك: لأن الرهن وثيقة بجميع أجزاء الدَّيْن، فلا ينفك جزء منه إلا بأداء جميع الدَّيْن وعلي ذلك أجمع الفقهاء. فلو شرط الراهين في العقد: أنه كلما قضي من الدَّنْن قسطاً انفكّمن الرهن بقدره فسد الرهن، لاشتراط ما ينافيه. - سابعاً: بيع المرهون: إذا حلّ أجل الدَّيْن، ولم يكن عند الراهن وفاء له، وطالب المرتهن به، بِِيع المرهون ليُستوفى الدَّيْن من قيمته. والذي له حق بيعه هو الراهن أو وكيله، لأنه هو المالك له ووكيله نائب عنه، وأنما يُشترط في هذا إذن المرتهن، لأن له حقاً في ماليّته، أي في قيمته، ليستوفى دَيْنه منها. فإن لم يأذن المرتهن في بيعه رُفع الأمر إلى القضاء، وامره القاضي بالإذن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 ببيعه او إبراء الراهن من الدَّيْن، فإن لم يفعل شيئاً من ذلك باعه الحاكم رغماً عنه، ووفاه دينه من ثمنه، دفعاً للضرر عن الراهن. وكذلك لو امتنع الراهن من بيع المرهون في هذه الحالة: فإن القاضي يلزمه بقضاء الدَّيْن أو بيع المرهون، فإنْ أبي باعه الحاكم رغماً عنه، ووفّى المرتهن دَيْنه من ثمنه، دفعاً للضرر عنه. فإذا كان للراهن متاع آخر يمكن ان يُباع ويوفّى الدَّيْن من ثمنه لم يُجبر على بيع المرهون، إذا رغب ببيع غيره والوفاء منه، لأن المرهون لم يتعيّن للوفاء، لأن الواجب وفاء الدَّيْن من مال المدين، فلا فرق بين المرهون وغيره، كما لو لم يكن بالدَّيْن رهن، فإنه لا يتعين لوفائه مال دون مال. وإذا أذِنَ الراهن للمرتهن أن يبيع العين المرهونة: فالأصح أنه إذا باعها في حضرة الراهن صحّ ذلك، لأن الراهن يستطيع ان يرجع عن الإذن قبل إبرام العقد إذا وجد أن في البيع عبناً له. أما إذا باع المرتهن في غَيْبة الراهين فلا يصحّ البيع، لأن بيعه لغرض نفسه، وهو استيفاء دَيْنه، فيتّهم حال غَيْبة الراهن بالاستعجال وعدم التروَّي والتحفّظ لمصلحة الراهن، مما لا يحصل في حال حضوره. - القسم الثاني: ما يتعلق بهلاك العين المرهونة واستهلاكها: قد تتعرض العين المرهونة الى التَّلَف: إما بهلاكها بنفسها أو بآفة سماوية، أي بدون أي فعل يقع عليها من أحد، وإما باستهلاكها من قِبَل الراهن او المرتهن او غيرهما، ولكل حال حكمها. 1. هلاكها بنفسها: وذلك لا يخلو من ان يكون الهلاك بتعدَّ أو تقصير او لا يكون بتعدَّ او تقصير: فإن كان الهلاك بتعدَّ أو تقصير: كانت العين المرهونة مضمونة على المتعدَّي أو المقصّر، سواء أكان الراهن أو المرتهن أو غيرهما، لأن المتعدّي والمقصّر ضامن على أيّ حال، والضمان يكون بمثلها إن كانت لها مثل، أو بقيمتها إن لم يكن لها مثل، ويكون المثل أو القيمة رهناً بدلها في يد المرتهن. وإن كان الهلاك بلا تعدَّ أو تقصير: فلا ضمان على المرتهن إن كانت في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 يده وإنما تهلك من مال الراهن، ولا يسقط شئ من الدَّين بهلاكها، لأن يد المرتهن عليها يد أمانة. ودليل ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن، الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غُنْمه وعليه غُرْمه". (اخرجه الشافعي في الأم: كتاب الرهن، باب: ضمان الرهن: 3/ 147). ومعنى أن الرهن من صاحبه أن هلاكه يكون من ماله، بدليل قوله: "له غنمه وعليه غرمه". وغنمه: سلامته وزيادته ومنافعه، وغرمه: نفقته ونقصه وهلاكه. فكان هلاكه من مال مالكه وهو الراهن، ولكن لا يضمن بدله ليوضع رهناً، لأنه لم يتعدَّ بهلاكه. ? ومما يؤكد ما سبق من فهم الحديث: أن الرهن وثيقة بالدَّين، فإذا هلك بدون تعدَّ كان كهلاك غيره من الوثائق كالصّك الذي كُتب فيه الدَّيْن والشاهِدَيْن والكفيل، ولا يسقط شئ من الدَّيْن بهلاك شئ من هذه الوثائق، فكذلك لا يسقط شئ منه بهلاك العين المرهونة. 2. استهلاك العين المرهونة: استهلاك العين المرهونة: إما أن يكون من قبل الراهن، أو من قبل المرتهن، أو من قبل غيرهما، وهو ما نسمّيه بالأجنبي، أي الذي لا علاقة له بعقد الرهن، وأيّاً منهم كان المستهلِك كان ضامناً لقيمة العين المرهونة، ولكن لكلٍّ حالة أحكامها: 1 - فإذا كان المستهلك هو الراهن ترتبت الأحكام التالية: أ - إذا كان الدَّيْن قد حلّ أجله يطالب الراهن بالدَّيْن، ولا يطالب بالضمان، أي بقيمة المرهون لتكون رهناً جديداً، إذ لا فائدة في ذلك طالما أن الأجل قد انتهى. ب- فإذا كان الدَّيْن لم يحلّ أجلهُ بعد طولب بالمثل أو القيمة، ليكون ذلك رهناً في يد المرتهن بدل العين الهالكة حتى يحل أجَل الدَّيْن، لقيام الضمان مقام العين المضمونة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 ج- الذي يخاصم الراهن في التضمين ويرافعه لدى القضاء هو المرتهن، لأنه صاحب الحق في مالية العين المرهونة، اذ من حقه حبسها ليستوفى منها دينه عند حلول الأجل اذا تعذّر على الراهن وفاؤه. 2 - وإن كان المستهلك هو المرتهن: ترتب ما يلي من الأحكام: أ - فهو ضامن لمثله أو قيمته يوم قبضه له، لأن قبضه هو المعتبر في ضمانه، إذ به دخل في ضمانه، لأنه قبض لمصلحته لاستيفاء الدَّيْن منه. وإنما كان ضامناً - رغم أن يد المرتهن على الرهن يد أمانة - لأنه أتلف مال غيره بغير حق. ب- فإن كان الدَّيْن لم يحلّ أجَله بعدُ كان المثل أو القيمة رهناً في يد المرتهن حتى يحلّ الأجل، لأن ذلك بدل العين المرهونة فيأخذ حكمها. ج- وإن كان الدَّيْن قد حلّ أجله، وكان الضمان من جنس الدَّيْن استردّ المرتهن منه حقه، وردّ الزيادة إن فضل شئ عن الدَّيْن، وإن كان الدَّيْن أكثر رجع على الراهن بالنقص، وإن كانا متساوِيَيْن حصلت المقاصّة، ولا شئ على واحد منهما. 3 - وإن كان المستهلك أجنبياً ترتب ما يلي من الأحكام: أ- يضمن قيمة الرهن يوم الاستهلاك إن لم يكن له مثل، فإن كان له مثل ضمن مثله، ويكون المثل أو القيمة رهناً عند المرتهن بدل العين المستهلكة. ب- الذي يخاصم في الضمان هو الراهن، لأنه هو المالك للعين المستهلكة ومنفعتها، وللمرتهن أن يحضر الخصومة لتعلّق حقّه بالبدل الذي سيكون رهناً عنده، فإن لم يخاصم الراهن فليس للمرتهن أن يخاصم على الأصح. - القسم الثالث : ما يتعلق بنمَاء الرهن: نمَاء الرهن هو ثمرة المرهون وغلّته وزيادته، متصلاً كان كالسِّمَن أو منفصلاً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 كالولد، وسواء أكان متولِّداً من الأصل كالثمرة والولد والسِّمَن، أم غير متولِّدٍ منه كأجرة الدار وكسب السيارة. إذا حصل هذا النماء للعين المرهونة كان ملكاً للراهن، لأنه نماء ملْكه، فهو تبع للأصل في الملْك، ولكن هل يدخل هذا النماء في عقد الرهن تبعاً للأصل، ويكون للمرتهن حق احتباسها معه حتى يفكّ المرهون، أم للراهن أخذها، لأنها لم يجرِ عليها عقد الرهن؟ والجواب: أنه من الواضح دخول الزيادة المتصلة كالسَّمْن ونحوه في الرهن، لأنه لا يمكن انفصالها او تمييزها عن الأصل. وأما الزيادة المنفصلة: كالولد واللبن والثمرة وما أشبه ذلك، فلا تدخل في الرهن، وليس للمرتهن أن يحبسها عن الراهن، لأنها ملْكه ولم يجر عليها عقد الرهن، دلّ على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: "له غنمه .. " ومن غنمه: زوائده ونماؤه. - القسم الرابع: أحكام فرعية تتعلق بالرهن: هناك أحكام فرعية غير ما سبق تتعلق بالرهن، وهي: أولاً: وضع المرهون على يد عدْل: قد يطلب المرتهن رهناً بدَيْنه، ولا يطئمن الراهن الى وضعه في يده، فيتفقان على وضعه عند إنسان يثقان به ويرضيانه، لعدالته وحُسْن سيرته وامانته وحرصه على رعاية مصالح الناس. فالعدل: هو الثقة الأمين الذي يرضى به كل من الراهن والمرتهن، ليضعا عنده العين المرهونة. وحكم ذلك: أنه جائز ومشروع إذا شرطاه أو اتفقا عليه، فإذا قبض العين بالمرهونة صحّ قبضه وتمّ عقد الرهن، وكان في ذلك وكيلاً عن المرتهن في القبض. ويتعلق بوضع المرهون على يد العدل أحكام، وهي: 1 - ليس للعدل أن يدفع العين المرهونة إلى الراهن أو المرتهن بلا إذن الآخر، لأن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 كلاًّ منهما لم يرض بوضعه في يد صاحبه اولاً، ولأن كل واحد منهما قد تعلّق حقه بالمرهون: فحق الراهن حفظ ملْكه في يد مَن ائتمنه، وحق المرتهن التوثّق من أجل استيفاء الدَّيْن، فليس له ان يبطل حق واحد منهما بدفعه الى الآخر بغير إذنه، فإذا اذن في ذلك جاز. فإذا دفعه الى أحدهما بدون إذن الآخر كان متعدِّياً، وصار ضامناً للعين المرهونة، يضمن قيمتها إذا تلفت. 2 - إذا هلكت العين المرهونة في يده بلا تعدًّ ولا تقصير لم يضمن، لأن يده يد المرتهن هنا، ويد المرتهن يد أمانة كما علمت، فإذا تعدّى أو قصّر ضمن، كالمرتهن. 3 - ليس للعدل أن يبيع العين المرهونة عند حلول أجَل الدَّيْن وتعذّر وفائه، لأنهما جعلا له حق الإمساك لا التصرّف، إلا إذا سلّطاه على ذلك، أو شرطا في العقد أن يبيعه العدل، وعندها يجوز له بيعه، ولا يجب عليه مراجعة الراهن في الأصح، فإن عزله الراهن عن البيع صحّ عزله، ولم يملك البيع عندئذ. وكذلك للعدل ان يعزل نفسه عن ذلك، ويترك أمر البيع لهما. 4 - إذا ضمن العدل قيمة الرهن - بسبب تعدّيه في إتلافه، أو دفعه إلى أحد المتراهنين بدون إذن الآخر وتلف في يده - أخذت منه القيمة ثم جعلت رهناً من جديد عنده، أو جعلت عند غيره. ثانياً: رهن العين المستعارة للرهن: قد مّر معنا عند الكلام عن شروط المرهون أنه لا يشترط أن يكون الراهن مالكاً للعين المرهونة، بل يصحّ أن يستعير عيناً ليرهنها. وإنما جاز ذلك: لأن الرهن توثيق للدَّيْن، وهو يحصل بما يملكه المدين وما لا يملكه كالشهود والكفالة، وكذلك الرهن بمعنى وفاء الدَّيْن وقضائه، والانسان يملك أن يقضي دينه بمال غيره إذا أذن له بذلك. ويتعلق بذلك أحكام: 1 - تقييد الإعارة: بمعنى أنه يشترط في ذلك ان يبيِّن الراهن المستعير للمعير: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 جنس الدَّيْن وقدره وصفته والمرهون عنده، لأن الأغراض تختلف باختلاف هذه الأشياء، فقد يرضى برهن متاعه عند شخص ولا يرضى بذلك عند آخر، لاختلاف الناس في حُسْن المعاملة وعدمها، وقد يرضى برهن متاعه بدَيْن معيّن من اليسير على الراهن وفاؤه، بينما لا يرضى برهنه مقابل دَيْن قد يتعذّر عليه وفاؤه، فيُباع في ذلك متاعه، وهكذا. 2 - موافقة الراهن المستعير شروط المعير ومخالفته لها: اذا وافق الراهن شروط المعير في رهن العين التي استعارها منه كان الرهن صحيحاً، فإذا قبض المرتهن العين المرهونة تمّ عقد الرهن ولزم، وليس للمعير ولا للراهن المستعير الرجوع عنه، وترتبت على ذلك جميع أحكام الرهن السابقة التي من جملتها: أنه إذا هلكت العين المرهونة في المرتهن بلاتعدِّولا تقصير فلا ضمان عليه كما أن الراهن المستعير لا يضمن شيئاً لأنه لم يسقط عنه بهلاكها شيء من الدَّيْن الذي في ذمته، وهو لم يخالف ما شرط عليه. أما إذا خالف الراهن المستعير شروط المعير، كأن أعاره ليرهنه عند شخص معين فرهنه عند غيره، بطل الرهن. وكذلك لو خالف في جنس الدَّيْن كأن يرهنه بنقد سوري فرهنه بغيره مثلاً، ومثله المخالفة في القدر،: كأن أعاره ليرهنه بألفٍ فرهنه بألفين. أما لو كانت المخالفة في القدر الى أقل، كأن اعاره ليرهنه بألفين فرهنه بألف، لأنه أيسر في الوفاء، فهي مخالفة لمصحلة المعير. 3 - هلك العين المستعارة للرهن في يد المستعير: قد علمنا أنه إذا هلكت العين المستعارة في يد المرتهن بلا تعدٍّ أو تقصير فلا ضمان، أما إذا هلكت أو تعيِّبت في يد المستعير فإنه ضامن لها، سواء أكان ذلك قبل دفعها للمرتهن أم بعد فكاك الرهن، وسواء تعدّى في ذلك أم لم يتعدّ، لأنها تلفت في غير الاستعمال الذي استعارها من أجله، وهو الرهن هنا، والعاريّة مضمونة مطلقاً اذا هلكت بغير الاستعمال، كما علمت في باب العاريّة. 4 - فك المعير للعين المستعارة للرهن: إذا عجز الراهن عن وفاء الدَّيْن وافتكاك العين المرهونة عند حلول اجل الدَّيْن، وأراد المعير مالك العين وفاء الدَّيْن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 ليفتك ملْكه كان له ذلك، وأُجبر المرتهن على قبول الوفاء منه، لأنه غير متبرِّع بقضاء دَيْن الراهن، لأنه يسعى في تخليص ملْكه، فلا مِنَّة له في ذلك، ولذا يُجبر الدائن على القبول، بخلاف ما لو كان الذي يقضي الدين متبرعاً، فإن الدائن لا يجبر على القبول، لما في ذلك من المِنّة. وفي هذه الحالة يرجع المعير على الراهن المستعير بجميع ما قضي عنه من الدين. 5 - موت المعير أو المستعير: إذا مات الراهن المستعير، ولم يترك مالاً يؤدَّي منه الدَّيْن، بقى الرهن على حاله، ولا يباع المرهون المستعار إلا برضا المعير لأنه ملكه، فإذا رضى ببيعه - وكان في ثمنه وفاء للدَّيْن - بيع ولو لم يرض المرتهن، لأن حقه - وهو استيفاء الدَّيْن - يحصل بالبيع. وإذا لم يكن في ثمنه وفاء الدَّيْن لم يبع إلا برضا المرتهن، لأن في حبسه منفعة له، فقد يحتاجه المالك المعير فيسعى لتخليصه بوفاء الدَّيْن كاملاً، كما أنه قد ترتفع قيمته فيكون في بيعه عندها وفاء دينه. وإذا مات المعير وكان عليه دين، ولم يترك ما يفي به إلا العين المستعارة للرهن، أمر الراهن المستعير بفكاك الرهن، ليعود الى ورثة المعير فيفوا منه دَيْنه، ويصل كلّ ذي حقٍّ إلى حقه. فإن عجز الراهن عن فك الرهن بقى على حاله، ولورثة المعير عندها أن يأخذوا العين المرهونة إن قضوا ما عليه من دَيْن، فإن لم يقضوا دَيْن المعير، وطالبوا هم والغرماء أصحاب الديون ببيع العين المرهونة بيعت إن كان في ثمنها وفاء لدين المرتهن ولو بغير رضاه، فإن لم يكن فيها وفاء لا تُباع الا برضاه، لمصلحته في حبسه، فلعلّهم يفكّوه بوفاء الدين أو يزداد السعر. ثالثاً: الزيادة في المرهون أو الدَّيْن بعد تمام عقد الرهن: أ - الزيادة في المرهون: لو رهن شخص شيئاً ما بدَيْن، وبعد قبض المرتهن المرهون أراد الراهن أن يزيد في المرهون ويضع عيناً أُخرى، لتكون رهناً مع العين الأولى بذلك الدَّيْن نفسه صحّ ذلك، لأنه زيادة توثيق لحق المرتهن، كما لو كان له عليه دَيْن بلا رهن، ثم رهنه شيئاً به. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 فإذا قبض المرتهن تلك الزيادة صارت مرهونة قصداً لا تبعاً، وجرت عليها جميع أحكام الرهن كما تجرى على المرهون الأول، وصارت معه رهناً واحداً. ب- الزيادة في الدَّيْن: وذلك بأن يرهن شخص متاعاً بألف مثلاً، ويتم عقد الرهن بالقبض، ثم يرغب أن يأخذ الفاً ثانية، على أن يكون المتاع المرهون رهناً بالألفين. فإن ذلك لا يصحّ، لأنه نقص في الوثيقة، على خلاف ما سبق من الزيادة في المرهون، لأن بعض المرهون الأول هنا جعل رهناً بالدَّيْن الثاني، فنقصت الوثيقة بالدَّيْن الأول. وكذلك فإن العين المرهونة مشغولة بالدَّيْن الأول، فالزيادة في الدَّيْن شغل لما هو مشغول، فلا يصح، بخلاف الزيادة في المرهون، فإنها شغل لما هو غير مشغول، وهو المرهون الثاني فإنه فارغ من الشغل بدَيْن، فتصح. رابعاً: تعدد أطراف الرهن: يمكن ان يجري عقد الرهن اولا مع اكثر من عاقدين، وان يكون على مرهونين فأكثر، واليك بيان ذلك: 1 - تعدّد الراهنين: وذلك بأن يكون لرجل واحد دَيْن على شخصين او اكثر، فيرهن هؤلاء جميعاً عنده شيئاً ما، سجادة او داراً أو نحو ذلك، بهذا الدَّيْن كله في عقد واحد، ولا فرق أن يكون الدَّيْن ثبت على الجميع في صفقة واحدة، أم كان ثبوت كل جزء منه على كل واحد منهم على حدة. ان هذا الرهن صحيح، لأن المرتهن كالمشتري والراهن كالبائع، ويصح ان يشتري انسان واحد سلعة واحدة من عدة بائعين. وهل اذا دفع احدهم نصيبه من الدين انفك قسطه الذي يقابله من المرهون، ام يبقى كله رهنا حتى يؤدي الجميع؟ والجواب: ان الصفقة متعددة لتعدد العاقدين، فصار عقد الرهن كأنه متعدد والعين المرهونة كأنها متعددة، ولذا ينفك من الرهن نصيب كل منهم اذا وفى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 ما عليه من الدين. 2 - تعدد المرتهنين: وذلك بأن يكون لاثنين أو أكثر ديون على شخص، فيرهن عندهم جميعاً متاعاً ما أو داراً مثلاً بتلك الديون، ويقبل هؤلاء. ان هذا الرهن صحيح، سواء أكان هؤلاء شركاء في الديون التي عليه، أم لم يكونوا كذلك. وإذا وفي الراهن دين أحد المرتهنين انفك من المرهون قسطه الذي يقابله من الدين، وذلك لتعدد الصفقة بتعدد المستحقين، وهم الدائنون، فصار كأنه عقد مع كل واحد منهم على حدة. 3 - تعدد العين المرهونة: وذلك بأن يقول الراهن للمرتهن: رهنتك هاتين السيارتين - مثلاً - بمائتي ألف، ويقبل المرتهن ويقبض السيارتين. ان هذا الرهن صحيح. وهل ينفك احد الرهنين إذا أدى قسطه من المال؟ ينظر: ? فإن كان رهن العينين مقابل الدَّيْن بدون تفريق: لم يكن له الحق بقبض شئ من الأعيان المرهونة حتى يوفى الدَّيْن كله، لأن الأعيان المرهونة رهن بكل الدَّيْن، فتكون جميعها محبوسة بكل جزء من اجزائه، فلا ينفكّ شئ منها حتى تؤدَّي جميع الأجزاءن ويصير ذلك كحبس كل المبيع في يد البائع حتى يقبض كل الثمن. ? وإن كان فرّق عند الرهن فقال: كل واحدة بألف مثلاً، كان له الحق أن يقبض إحداهما إذا أدّى ما عيّن لها من الدَّيْن، لأن العقد صار في حكم عقدين حين عيّن حصة كل من المرهونين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 الباب التاسع الكفالة والضمان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 الكفَالة تعريفها: هي - في اللغة - الالتزام والضم، ومنه قوله تعالى: "وكفّلها زكريا" "آل عمران: 37": أي ضمّها إليه والتزم برعايتها. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا" وأشار بالسبّابة والوسطى وفرّج بينهما شيئاً. (اخرجه البخاري في الطلاق، باب: اللعان، رقم 4998). وكافل اليتيم: هو الذي يضمّه إليه ويلتزم رعايته والنفقة عليه. وشرعاً: هي التزام حقّ ثابت في ذمة غيره، أو إحضار مَن عليه حق لغيره أو عين مضمونة. أي هي عقد يلتزم فيه العاقد - وهو المسمى الكفيل أو الضامن - حقاً ثابتاً لشخص في ذمة غيره، بحيث إذا لم يؤدِّه مَن عليه الحق أدّاه ذلك الملتزم. أو أن يلتزم أن يحضر الشخص الذي عليه الحق إلى مجلس القضاء أو إلى صاحب الحق. أو أن يلتزم لشخص أن يحضر له عيناً - هي حقّ له - من يد غيره التي هي في يده مضمونة عليه، كأن تكون مغصوبة. مشروعيتها: هي مشروعة، وربما كانت مندوبة، إذا كان القائم بها واثقاً بنفسه، ويأمن من أن يناله ضرر بسببها، وقد دلّ على مشروعيتها نصوص كثيرة، منها: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 ما رواه سلمة بن الأكْوَع رضى الله عنه قال: كناً جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتى بجنازة، فقالوا: صلِّ عليها فقال: "هل عليه دَيْن؟ " قالوا: لا، قال: "فهل ترك شيئاً؟ " قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أتى بجنازة أُخرى، فقالوا: يا رسول الله صلِّ عليها، قال " هل عليه دين؟ " قيل: نعم، قال: " فهل ترك شيئاً؟ ". قالوا: ثلاثة دنانير، فصلى عليها. ثم أُتي بالثالثة، فقالوا صلِّ عليها، قال" هل ترك شيئاً؟ " قالوا: لا قال " فهل عليه دين؟ " قالوا: ثلاثة دنانير، قال " صلّوا على صاحبكم " قال أبو قتادة: صلِّ عليه يا رسول الله وعلىَّ دينُه فصلى عليه. (البخاري: الحوالات، باب: ان احال دين الميت على رجل جاز، رقم: 2168) ومنها: انه صلى الله عليه وسلم تحمّل عن رجل عشرة دنانير. (اخرجه الحاكم). وسيأتي معنا مزيد من النصوص خلال فقرات البحث. ويُستأنس لمشروعيتها أيضاً بقوله تعالى - على لسان يوسف عليه السلام: "ولمَن جاء به حِمْلُ بعير وأنا به زعيم" (يوسف: 72). قال ابن عباس رضى الله عنهما: الزعيم: الكفيل. وقلنا يستأنس ولم نقل يُستدل، لأن هذا وارد في شرع مَن قبلنا، والصحيح أن شرع مَن قبلنا ليس بشرع لنا. وهذا الذي دلتّ عليه النصوص موضع إجماع المسلمين في كل الأزمان والعصور. حكمة مشروعيتها : هي التيسير على المسلمين وتحقيق التعاون فيما بينهم، فقد يشتري إنسان سلعة هو في حاجة إليها، ولا يجد الثمن، ولا يطئمن البائع إليه فلا يرضى بإنظاره به، ولا يتيسر له رهن يضعه به، وقد لا يرضى البائع بالرهن، فيحتاج في هذه الحالة الى كفيل، وقد يستقرض مالاً هو في حاجة إليه، ويطلب المقرض كفيلاً، وقد يقع في جناية يعاقب عليها، وهو بعيد عن بلده، وعليه حقوق وتَبِعات يضطر الى أجَلٍ للقيام بها، فيحتاج الى مَن يكفله حتى يذهب ويعود. وقد يضطر إنسان إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 استعارة عين، ولا يرضى صاحبها بإعارتها له إلا بكفيل يضمن له ردّها سالمة. وقد تكون في يده عين مغصوبة، يحتاج إلى أجل لإحضارها، فيأبى صاحبها أن يفلته إلا بكفيل، وهكذا، فالمصلحة في تشريع الكفالة واضحة، والحاجة إليها أكيدة، وشرع الله تعالى إنما جاء لرعاية مصالح العباد، وتخليصهم من الحرج. قال الله تعالى: "يريدُ الله بكُمُ اليُسْر ولا يريد بكُمُ العُسْر" (البقرة: 185) وقال: "ما جَعَلَ عليكم في الدَّيْن من حَرَج" (الحج: 78). وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الدَّيْن يُسَر" وقال: "يسّروا ولا تعسّروا". (اخرجهما البخاري: في الايمان، باب: الدين يسر، رقم: 39، وفي العلم، باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم .. ، رقم: 69). أنواع الكفالة : الكفالة نوعان: فهي إما أن يتكفل بدَيْن ثبت في ذمّة إنسان، يلتزم الكفيل اداءه اذا لم يؤدِّه مَن هو عليه في أجله، وتسمى: الكفالة بالدَّيْن، كما تسمى: الضمان. وإما أن يتكفّل باحضار مَن لزمه حق، من دَيْن أو غيره كقصاص مثلاً، دون أن يتكفّل بأداء الدَّيْن، وتسمى: كفالة بالنفس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 أركان الكفالة للكفالة أركان خمسة، سواء أكانت كفالة مال أم كفالة نفس، وهي: الكفيل، والمكفول له، والمكفول عنه، والمكفول به، والصيغة، ولكلٍّ منها شروط نبيِّنها فيما يلي إن شاء الله تعالى. الركن الأول: الكفيل: وهو الضامن الذي يلتزم بأداء الحق المضمون، أو إحضار الشخص المكفول ويشترط فيه: أن يكون اهلاً للتبرّع، بأن يكون عاقلاً بالغاً رشيداً، لأن الكفالة تبّرع، فيشترط أن يكون الكفيل أهلاً له، فلا تصحّ كفالة المجنون ولا الصبي، لأنهما ليسا من أهل التبرّع، ولا سلطان لهما على أنفسهما ومالهما، فلا سلطان لهما على غيرهما من باب أولى، وكذلك لا تصحّ الكفالة بالمال ممّن كان محجوراً عليه بسفه، لأنه تصرّف مالي، وهو محجور عليه في التصرفات المالية، لأنه لا يحسنها. ويتفرّع على ذلك: انه مَن كان مريضاً مرضاً يخاف معه موته ليس له ان يكفل الا في حدود ثلث ما يملك، لانه محجور عليه التصرفات المالية التي هي من قبيل التبرّع في أكثر من ثلث ماله، أما في حدود الثلث فجائز. الركن الثاني: المكفول له: وهو مستحق الحق، الذي يلتزم الكفيل بما التزم به حفظاً لحقه، ويشترط الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 أن يكون معروفاً لدى الضامن معرفة عينية، أي أن يعرف شخصه، فلا يكفي أن يعرف نسبه مثلاً، واشتُرطت معرفته لأنه هو صاحب الحق الذي سيُطالب الكفيل به، والناس يتفاوتون في المطالبة بحقوقهم شدَّة ويُسراً، فلا بدّ لمن يلتزم بالأداء أن يعرف مَن سيطالبه وكذلك إذا كان مجهولاً لا يتحقق ما شرعت له الكفالة، وهو التوثّق لصاحب الحق. واكتفى بمعرفة شخصه لأن الظاهر غالباً عنوان الباطن. ويُشترط معرفة وكيله إن كان له وكيل، لأن الغالب في الناس أن يوكّل مَن هو اشدّ منه في المطالبة، ولهذا تغنى معرفة الوكيل عن معرفة الأصيل. ولا يُشترط حضور المكفول له، كما لا يُشترط قبوله الكفالة أو رضاه بها، لأنها التزام وضمان لصالحه لا يرتب عليه شيئاً، ودليله حديث أبي قتادة رضى الله عنه، إذ لم يتعرّض فيه إلى المكفول له، وقيل: يشترط رضاه دون التلفّظ بقبوله. الركن الثالث: المكفول عنه: وهو المطالَب بالحق من قِبَل المكفول له، ويعبَّر عنه أحياناً بالأصيل مقابل الكفيل، ويشترط فيه أن يكون ثَبَت في ذمته حقٌّ مِنْ دَيْن أو نحوه، مما يصحّ ضمانه. ولا يشترط رضا المضمون عنه في المال قولاً واحداً، لأن قضاء دَيْن غيره بغير إذنه جائز، فالتزامه جائز من باب أولى، ولذا صحّ الضمان عن الميت وإن ولم يخلف وفاءً وكذلك ضمانه عنه معروف، والمعروف يُصنع مع مَن يعرفه ومَن لا يعرفه، وسواء أكان اهلاً له أم لا. ولا تشترط معرفته في الأصح، لأنه ليس هناك معاملة بين الكفيل والمكفول عنه. الركن الرابع: المكفول به: وهو الحق الذي وقع عليه الضمان والكفالة من دَيْن أو غيره، ويشترط فيه: 1 - أن يكون حقاً ثابتاً حال العقد، فلا يصحّ ضمان ما لم يثبت، سواء أجرى سبب وجوبه كنفقة الزوجة المستقبلة، أم لم يجر كضمان ما سيقرضه لفلان، لأن الضمان وثيقة بالحق فلا يتقدم عليه، كالشهادة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 ويكفي في ثبوت الحق اعتراف الضامن به وإن لم يثبت على المضمون شئ. فلو قال: لزيد على عمرو مائة دينار وأنا ضامن لها، فأنكر عمر الدَّيْن، فلزيد مطالبة الضامن به. وقيل: يصحّ ضمان ما سيجب، كما لو قال: أقْرِضه مائة وأنا ضامنها، ففعل، صحّ ذلك، لأن الحاجة ماسّة إليه. ولا يصحّ ضمان النفقة المستقبلة عن القريب ونحوه قولاً واحداً، لأن سبيلها البرّ والإحسان، لا الدَّيْن. ويستثنى من هذا ضمان الدَّرَك، وهو أن يلتزم لمن يشتري سلعة أن يردّ له ثمنها، إن خرجت السلعة معيبة أو ناقصة أو مستحقة، أي مغصوبة أو مسروقة أو ضائعة، ووجدها صاحبها، فإنه يقيم البيِّنة عليها ويأخذها، لأنه احقّ بها. ففي هذه الحالة يعود المشتري على الضامن بثمنها. وإنما صحّ هذا الضمان - وهو ضمان لدَيْن لم يثبت، لأنه يثبت عند استحقاق المبيع من يد المشتري - لأن الحاجة تدعو إليه، وخاصة عند التعامل مع الغريب الذي يخشى ان يكون ما يبيعه مستحقا لأحد، ولا يظفر به عند الاستحقاق ونحوه، فاحتيج الى الضمان ليتوثق المشتري لما يدفعه من ثمن. ويشترط أن يكون هذا الضمان بعد قبض البائع الثمن، لأن الضامن يضمن ما دخل في يد البائع، والثمن لا يدخل في ضمانه الا بقبضه. 2 - ان يكون لازما: سواء أكان مستقراً كثمن البيع بعد القبض وانتهاء مدة الخيار، والمَهْر بعد الدخول، ام غير مستقر كثمن المبيع قبل القبض والمهر قبل الدخول. ويصحّ أيضا ضمان ما هو آيل الى اللزوم، أي ما يلزم بنفسه ولا يتوقف لزومه على شئ، كالثمن في مدة الخيار، فإنه يلزم بنفسه بانتهاء مدة الخيار، فيصح ضمانه وان لم يلزم بعد. والمراد باللازم والآيل الى اللزوم ما لا يملك فسخه بلا سبب كالأمثلة السابقة، فلو كان الدين غير لازم ولا آيل الى اللزوم، بأن كان يستطيع من هو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 عليه فسخه بدون سبب كجعل الجعالة - وهو ان يلتزم دفع مال معين لمن يأتي له بضالته - فهو يملك الرجوع عن ذلك قبل ان يأتيه احد بها، فهو دين غير لازم ولا آيل الى اللزوم، فلا يصحّ ضمانه، لأنه لا يثبت الا بعد الفراغ من العمل، كما علمت في باب الجعالة. 3 - أن يكون معلوماً للضامن، جنساً وقدراً وصفة، فالجنس كأن يكون دراهم أو دنانير أو غيرهما، والقدر كألف أو أكثر أو أقل، والصفة كجيد أو ردئ فيما لو كان يوصف بذلك، وأن يعلم عينه إذا كان ضمان عين كالمغصوب. وإنما اشترط العلم به لأنه إثبات مال في الذمة لآدمي بعقد، كالثمن في البيع والأجرة في الإجارة، فلا بدّ من العلم به، أو تعيينه إن كان عيناً، وقد دلّ على هذا ما جاء في حديث أبي قتادة رضى الله عنه حيث بيّن الدَّيْن وأنه ثلاثة دنانير. وعليه فلا يصحّ ضمان المجهول، كضمنت مالك عليه من دين، أو أحد الدَّيْنين، أو أحد المغصوبَيْن، وهكذا. 4 - أن يكون الحق المضمون قابلاً للتبرّع به، أي أن يكون قابلاً للانتقال لغير مَن هو له بغير عوض، كالحقوق التي ذكرت أمثلة فيما مضى، فلو كان غير قابل لذلك فلا يصحّ الضمان به، كحق الشفعة مثلاً، فهو حق للشفيع، أي للشريك الذي يملك حصة مع البائع، فإذا باع شريكه حصته لغيره كان له الحق ان يأخذها بالثمن، ولكن ليس له أن ينقل هذا الحق لغيره، فلا يصح الضمان به. الركن الخامس: الصيغة: وهي الإيجاب من الضامن الكفيل، والقبول من المكفول له. ويكفي في تحقيق الكفالة إيجاب الكفيل الضامن، ولا يشترط فيها قبول المكفول له ولا رضاه، كما مرّ معنا عند الكلام عن المكفول له. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 ويشترط فيها: 1 - أن تكون بلفظ يدلّ على الالتزام، صريحاً كان أم كناية: فمن الصريح أن يقول: ضمنت دَيْنك على فلان، أو تحملته، أو تكفّلت به، أو تكفلت ببدن فلان، أو أنا كفيل أو ضامن بإحضار فلان ونحو ذلك. ومن الكناية أن يقول: خلِّ عن فلان والدين الذي لك عليه هو عليَّ، ونحو ذلك. فإن كان اللفظ لا يدل على الالتزام فلا تصحّ الكفالة، كما لو قال: أؤدي المال الذي على فلان، أو: أحضر فلاناً، ونحو ذلك. فإن مثل هذه الصيغة لا يدل على الالتزام ولا يشعر به، فهو وعد لا يلزم الوفاء به، إلا إن صحبه قرينة تصرفه إلى ذلك، كما إذا رأى صاحب الحق يريد حبس المدين، فقال: أنا أؤدي المال الذي عليه، فهذا قرينة على أنه يريد الضمان، فكأنه يقول: أنا ضامن له، فدعه ولا تتعرض له. ويقوم مقام اللفظ من الناطق ما يدل عليه من كتابة الأخرس أو إشارته المفهمة والمعهودة. 2 - التنجيز في العقد، أي عدم التعليق على الشرط، سوءا أكانت كفالة مال أم كفالة بدن، فالأصح أنه لو قال: إن قَدِمَ زيد فأنا كفيل لك بما على فلان، لم يصحّ الضمان، وكذلك لو قال: إن فعلت كذا تكفّلت لك بإحضار فلان، لم تصحّ الكفالة، لأن الكفالة عقد، والعقود لا تقبل التعليق. 3 - عدم التوقيت في كفالة المال قولاً واحداً، لأن المقصود منه الأداء، فلا يصحّ تأقيته، وكذلك كفالة البدن على الأصح، لأن المقصود الإحضار ايضاً. فلو نجز الكفالة وشرط تأخير إحضار المكفول إلى أجل معين جاز، كما لو قال: ضمنت إحضاره، ولكن أحضره بعد شهر مثلا، لأنه التزم بعمل في الذمة، فصار كالإجارة على عمل، يجوز حالاًّ ومؤجلاً. وكذلك يصحّ ان يضمن الدَّيْن الحال على ان يؤدّيه بعد أجل معلوم، لأن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 الضامن متبرع، وقد لا يكون متيسراً له الأداء حالاً، والحاجة داعية إلى الضمان، فيكون على حسب ما التزمه، ويثبت الأجل في حق الضامن وحده، بمعنى ان المكفول له ليس له حق مطالبته الآن، وأما المكفول عنه - وهو الأصيل - فلا يثبت الأجل في حقه، ويبقى لصاحب الحق ان يطالبه بالوفاء الآن. دل على ذلك: ما رواه ابن عباس رضى الله عنهما: إن رجلاً لزم غريماً له بعشرة دنانير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما عندي شئ اعطيكه، فقال: والله لا افارقك حتى تقضيني او تأتيني بحميل، فجره الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كم تستنظره؟ " قال: شهرا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فان احمل له". فجاءه في الوقت الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من اين اصبت هذا؟ ". قال: من معدن. قال: "لا خير فيها" وقضاها عنه. (اخرجه ابن ماجه في الصدقات. باب: الكفالة، رقم: 2406). وكذلك له أن يضمن الدَّيْن المؤجل حالا، لأنه تبرع بالتزام التعجيل، فصحّ ذلك منه، ولكن لا يلزمه التعجيل على الأصح، بل يثبت في حقه الأجل تبعاً للأصيل الذي عليه الدَّيْن. وإذا قضاه حالاً لا يرجع بما قضاه على الأصيل قبل حلول الأجل، لأن تعجيله تبرع به، لا يسقط حق الأصيل في الأجل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 أحكام الكفالة بالنفس 1 - علمنا أن الكفالة بالنفس نوع من الكفالة، وهي أن يلتزم الكفيل إحضار المكفول إلى المكفول له. كما علمنا أنها مشروعة، لأنها تدخل في عموم الأدلة التي تدل على مشروعية الكفالة، ويؤيد ذلك ما جاء في خصوصها من آثار عن الصحابة رضى الله عنهم، منها: ما رواه أبو اسحاق السَّبيعي عن حارثة بن مضرب قال: صلّيت مع عبدالله بن مسعود رضى الله عنه الغداة، فلما سلّم قام رجل فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد، فوالله لقد بتّ البارحة وما في نفسي على أحد إِحْنَة، وإني كنت استطرقت رجلاً من بني حنيفة، مسجد عبدالله بن النواحة، فسمعت مؤذّنهم يشهد ان لا اله الا الله وان مسيلمة رسول الله، فكذبت سمعي، وكففت فرسي حتى سمعت أهل المسجد قد تواطؤوا على ذلك، فقال عبدالله بن مسعود رضى الله عنه: علىَّ بعبد الله بن النواحة، فحضر وأعترف، فقال له عبدالله بن مسعود: أين ما تقرأ من القرآن؟! قال: كنت أتقيكم به، فقال له: تُبْ. فأبى، فأمر به فأُخرج الى السوق فجُزَّ رأسه. ثم شاور أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في بقية القوم، فقال عديّ بن حاتم رضى الله عنه: ثؤلول كفر، قد أطلع رأسه، فاحسمه، وقال جرير بن عبدالله والأشعث بن قيس رضى الله عنهما: استتبهم، فإن تابوا كفلهم عشائرهم، فاستتابهم فتابوا، وكفلهم عشائرهم. (اخرجه البيهقي في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 كتاب المرتد، باب: من قال في المرتد يستتاب مكانه فإن تاب والا قتل: 8/ 206. وذكر البخاري جزءا منه تعليقا في صحيحه: الكفالة، باب: الكفالة في القرض والديون بالأبدان وغيرها). [إحنة: حقد او بغض. استطرقت: أتيتُ ليلاً. بغلس: الغلس ظلمة آخر الليل. كففت فرسي: منعته عن الجري. تواطؤوا: توافقوا واجتمعوا في قولهم. فجز: فقطع. ثؤلول كفر: الثؤلول هو ما يخرج على الجلد من حَبّات زائدة عنه، فشبّه به لشذوذه وخروجه عن الاستقامة. أطلع رأسه: أظهر كفره. فاحسمه: فاقطعه واقطع به دابر الشرّ]. وقد يستأنس لها بقوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: (لن ارسله معكم حتى تُؤُْتوني مَوْثقاً مِنَ الله لتأتُينَّي به) (يوسف: 66). 2 - والكفالة بالبدن قد تكون كفالة ببدن مَن عليه مال، وقد تكون كفالة ببدن مَن عليه عقوبة. أما كفالة بدن مَن عليه مال: فهي صحيحة مطلقاً إذا كانت تكفّلاً بإحضار مَنْ عليه مال، سواء أعلم بمقدار المال ام لا، لأنه تكفّل بالبدن ولم يتكفل بالمال، ولهذا لا يُطالَب بالمال، وإنما يطالب بإحضار المكفول، وإنما يشترط أن يكون المال الذي في ذمّة المكفول مما يصحّ ضمانه على ما علمت عند الكلام عن المكفول به. وأما كفالة بدن مَن عليه عقوبة: فيُنظر: فإن كانت العقوبة حقاً لآدمي، كقصاص وحدّ قذف - فإنهما حق للآدمي، لأن القصاص بدل النفس وحدّ القذف لدفع العار عنه - فإنها صحيحة، لأنها كفالة بحق لازم، فأشبهت الكفالة بالمال. وإن كانت العقوبة حقاً لله تعالى، كحدّ الخمر والسرقة والزنا، فلا تصحّ، لأن الحدود مبناها على الدرء - أي الدفع - والإسقاط، طالما أنها حقوق لله تعالى، فالمطلوب منّا سترها والسعي في دفعها ما أمكن، وقطع الوسائل المؤدية إليها، والكفالة بها إظهار لها وسعي في تأكيدها وتوسيعها فلا تصحّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 3 - أحكام أُخرى تتعلق بالكفالة بالبدن، منها: 1= مكان تسليم المكفول ووقته: فإذا شرط الكفيل وقتاً معيناً لتسليم المكفول لزمه احضاره فيه اذا طالب المكفول له بإحضاره، وفاء بما التزمه، فإذا احضره فقد وفى ما عليه، وان لم يحضره حبسه الحاكم لامتناعه عن إيفاء ما استحق عليه. فإن غاب المكفول - وجهل الكفيل مكانه - لم يلزمه إحضاره، لعذره في ذلك، ويقبل قوله في دعوى جهالة مكانه بيمينه. وإن علم مكانه لزمه إحضاره، إن أمِنَ على نفسه في الطريق وغلبت السلامة، ويُمهل مدة الذهاب والإياب حسب العادة والإمكان. فإن مضت المدة التي أمهله إياها ولم يحضر المكفول حبسه ايضاً إلا إذا أدّى ما على المكفول من الدَّيْن، لأنه مقصِّر في تسليم ما وجب عليه تسليمه وهو المكفول. وإذا حبسه استمر بحبسه إلى أن يتعذر إحضار الغائب، بموت أو جهل بموضعه أو بإقامته عند مَن يحميه ويمنعه من أن يصل إليه أحد. وإذا أدى الدين حتى لا يُحبس، ثم جاء الغائب المكفول، كان له استرداد ما أدّاه إن كان باقياً على حاله، أو بدله إن كان قد استهلك، لأنه ليس متبرعاً بأدائه، هذا من حيث الزمان. وأما من حيث مكان التسليم: فإن كان الكفيل قد عَيَّن مكاناً لتسليم المكفول تعيّن إن كان صالحاً للتسليم، تبعاً لشرطه، فإن لم يكن صالحا لذلك، أو كان له مؤونة حُمل على اقرب مكان اليه، ويشترط في هذا إذن المكفول، فإن لم يأذن فسدت، وإذا لم يعيّن مكاناً للتسليم فمكانه مكان الكفالة إن كان صالحاً لذلك، وإن لم يكن صالحاً تعيَّن أقرب مكان لمكان الكفالة يصلح لهذا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 2 - يبرأ الكفيل إذا سلم المكفول في مكان التسليم على ما علمت، ويُشترط أن لا يكون هناك حائل يمنع المكفول له من الوصول الى حقه، لقيام الكفيل بما التزمه، فإذا سلّمه في موضع التسليم، وكان هناك حائل يمنعه من الوصول الى حقه، كذى منعة يمنعه منه، فلا يبرأ الكفيل، لعدم حصول المقصود بتسليمه. فإذا سلّمه في غير مكان التسليم، ولم يرضَ المكفول له ان يتسلمه، فلا يجبر على استلامه اذا امتنع لغرض، كأن يكون له في مكان التسليم بيِّنة أو مَن يعينه على الوصول إلى حقه فإن لم يكن له غرض في امتناعه أجبره الحاكم على استلامه، فإن أبى استلمه عنه، فإن فقد الحاكم اشهد الكفيل على تسليمه له، وبرئ. وكما يبرأ الكفيل إذا سلم المكفول بالشروط السابقة يبرأ أيضاً إذا سلم المكفول نفسه، فإن أبى استلامه أجبر على ذلك على ما سبق من تفصيل في تسليم الكفيل له. ولا يكفي مجرد حضور المكفول، بل لا بدّ من أن يقول: سّلمت نفسي عن فلان. 3= ويبرأ الكفيل فيما إذا مات المكفول ودُفن، أو توارى ولم يعرف محله، ولا يُطالب بما عليه من حق، لأنه التزم إحضار المكفول، ولم يضمن ما عليه من حقوق. 4= لو شرط في الكفالة بالنفس: أنه إن عجز الكفيل عن إحضار المكفول ضمن ما عليه من الحق بطلت الكفالة على الاصح. لأنه شرط ينافي مقتضى الكفالة بالنفس، لأن مقتضاها عدم الغرم بالمال، لأنها ليست ضماناً بالمال. 5= يبرأ الكفيل من المطالبة بإحضار المكفول اذا أبرأه المكفول له من ذلك، لأنه ملتزم بإحضره لحق المكفول له، وقد تنازل عن حقه، فلا مطالبة. 6= يشترط في الكفالة بالنفس رضا المكفول على الأصح، لأن الكفيل فيها لا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 يغرم المال عند العجز، فلا فائدة لها إذن إلا احضار المكفول ولا يلزمه الحضور مع الكفيل إذا لم يكن راضياً بكفالته له. والأصح أنه لا يشترط رضا المكفول له، لأنها وثيقة له فتصحّ من غير رضاه كالشهادة، وكذلك هي التزام حق له من غير عوض يدفعه، فلا يعتبر رضاه فيها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 أحكام الكفالة بالمال الكفالة بالمال هي ما يسمى بالضمان، وهي: أن يلتزم إنسان أداء ما في ذمة من مال إذا لم يؤدّه المدين. وهي أحد نوعي الكفالة كما سبق. وهي مشروعة كما علمنا، لما ذكرنا من الأدلة عند الكلام عن مشروعية الكفالة العامة، فيدخل فيها الضمان دخولاً أولياً، وقد أجمع المسلمون في كل العصور على مشروعيتها. ولقد علمت الصيغة التي تنعقد بها هذه الكفالة، كما علمت أركانها وشروطها فيما سبق، وإليك الآن بعض أحكامها: 1 - مطالبة الكفيل والمكفول عنه: إذا ضمن شخص ما في ذمة غيره ثبت لصاحب هذا الدَّيْن حق مطالبته به، ولا يعني ذلك براءة ذمة المدين الأصيل المكفول عنه، بل لصاحب الحق مطالبته أيضاً، لأن ذمته هي المشغولة بالدَّيْن أصلاً، وانضم إليها انشغال ذمة الضامن به، ولأن الضمان وثيقة للدَّيْن كالرهن والصك، فلا يتحول من ذمّة المدين الى الوثيقة إذا وجدت. ولهذا لو شرط في عقد الضمان أن يبرأ الأصيل من الدين لم يصحّ الضمان، لأن الضمان توثيق للدَّيْن، وهذا الشرط ينافيه، لأن التوثيق يحصل بضمّ ذمّة أُخرى إلى ذمّة الأصيل، لا ببراءتها. وقد دلّ على هذا ما جاء في حديث أبي قتادة رضى الله عنه: فتحملهما أبو قتادة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بيوم: "ما فعل الديناران؟ " قال: إنما مات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 امس، ثم أعاد عليه بالغد، قال: قد قضيته. قال: "الآن بردت عليه جلده". (اخرجه احمد في مسنده: 3/ 330 من حديث جابر رضى الله عنه). فقوله: "الآن بردت عليه جلده" يدل على ان الدَّيْن لم يتحوّل عن المدين ولم تبرأ منه ذمته بمجرد الضمان، ولو كان كذلك لبردت عليه جلده من حين الضمان. وإذا لم تبرأ ذمة المدين الأصيل من الدين فلصاحبه مطالبته به، كما يطالب الضامن لأنه التزم ذلك، فإذا حضر الكفيل الضامن والأصيل المضمون عنه، وكلاهما موسر، فلصاحب الدَّيْن أن يطلبه ويأخذه من أيّهما شاء، لأن الأصيل الدَّيْن ثابت في ذمته أصلاً، وأما الكفيل: فلقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الزعيم غارم". والزعيم هو الكفيل، فيغرم الدين ويطالب به اذا لم يؤدّه المدين: (الحديث اخرجه الترمذي في البيوع، باب: ما جاء في ان العارية مؤداة، رقم: 1265 وغيره). 2 - براءة الكفيل ببراءة الأصيل: إذا أبرأ صاحب الحق المدين الأصيل من الدَّيْن برئ الضامن من المطالبة به، لأنه تبع للأصيل، وضمانه توثيق للدَّيْن، فإذا سقط الدَّيْن بالإبراء فقد سقطت الوثيقة. وأما إذا أبرأ صاحب الحق الكفيل من ضمانه، أو من الدَّيْن والمطالبة به، فإنه لا تبرأ بذلك ذمة المدين الأصيل، وإنما تبرأ ذمة الضاضمن وحده. لأن إبراء الكفيل إسقاط لوثيقة الدين من غير قبض له، فلا يسقط الدَّيْن بإسقاط الوثيقة، كتمزيق الصك وفسخ الرهن. ويتعلق بهذا ما إذا ضمن الضامن ضامن آخر، وهو ضمان صحيح، لأن الدين المضمون لازم وثابت في ذمته، فصحّ ضمانه، وعليه: يعتبر الدين ثابتاً في ذمم ثلاثة: الأصيل والضامن الأول والضامن الثاني، ولصاحب الحق أن يطالب أيّهم شاء. فإذا أبرأ الاصيل برئت ذمم الجميع، وإذا أبرأ الضامن الأول برئت ذمة الضامن الثاني أيضاً معها ولم تبرأ ذمة الأصيل، وإذا أبرأ الضامن الثاني برئ وحده، ولم تبرأ ذمة الضامن الأول ولا ذمّة الأصيل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 3 - مطالبة الكفيل الاصيل بتخليصه: إذا طالب الدائنُ صاحب الحق الكفيلَ بالدَّيْن، فهل للكفيل أن يطالب الأصيل المكفول بأداء الدين، ليخلصه من المطالبة؟ يُنظر: فإن كان الضمان بإذن الاصيل المضمون عنه كان للكفيل الحق في أن يطالبه بتخليصه من المطالبة بأداء الدَّيْن، لأنه لزمته المطالبة والأداء عنه بإذنه وأمره، فكان له حق مطالبته بتبرئة ذمته. وإن كان الضمان بغير إذن الأصيل لم يكن للضامن الكفيل حق مطالبته بذلك، لأنه لم يلتزم ما غرِّم به بإذنه، فلا يلزمه تبرئته وتخليصه منه. هذا إذا طالب صاحب الحق الكفيل بالدَّيْن، فأما إذا لم يطالبه به: فالأصح أنه ليس له مطالبة الاصيل بتخليصه من التزاه طالما أنه لم يطالب بذلك. 4 - حلول الدَّيْن المؤجل بالموت: إذا مات الكفيل أو المكفول عنه حلّ الدَّيْن المؤجّل في حقه، وبقى الأجل في حق الطرف الثاني، لأن الموت مبطل للأجل، وقد وجد في حق أحدهما ولم يوجد في حق الآخر، والأجل منفعة له فلا يبطل في حق. فإن كان المتوفّي هو الأصيل: فللضامن الكفيل أن يطالب صاحب الدَّيْن بأخذ الدَّيْن من تَرِكَته قبل أن يقتسمها الورثة، أو إبرائه من الكفالة، لأن التَرِكَة قد تذهب إلى أن يحين الأجل، فيغرّم هو. وإن كان الميت هو الكفيل، وأخذ صاحب الدَّيْن دينه من تَركَته، فليس لورثته الرجوع على المكفول عنه قبل حلول أجل الدَّيْن، لأن الأجل باقٍ في حقه. 5 - رجوع الكفيل على المكفول بما أدى عنه: إذا أدّى المكفول عنه الدَّيْن برئت ذمته منه، كما تبرأ ذمة الكفيل، لأن ذمته شُغلت وثيقة بحق صاحب الدَّيْن، فانتهت الوثيقة بقبض الحق. وكذلك تبرأ ذمتهما من حق المكفول له صاحب الدَّيْن إذا قضاه الكفيل، لأن صاحب الحق قد استوفاه من الوثيقة وهو الكفيل، فبرئت ذمة مَن عليه الحق وهو الأصيل، وتبرأ ذمة الكفيل تبعاً له، كما علمت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 وفي هذه الحالة: هل يرجع الكفيل على الاصيل بماأداه عنه ام لا؟ يُنظر: أ- فإن كان الضمان والأداء بإذن المضمون عنه رجع الكفيل عليه، لأنه ضمن وغرم بإذنه. ب- وإن كان الضمان بإذن من المضمون عنه، والأداء بغير إذنه: فالأصح - ايضاً - أنه يرجع عليه بما أدّاه عنه، لأن الضمان سبب الأداء، وقد أذن فيه. ج- وإن كان الضمان والأداء بغير إذن المضمون عنه لم يرجع الكفيل عليه بشئ مما أدّاه عنه، لأنه قضى دَيْن غيره بغير إذنه، فهو متبرِّع، والمتبرِّع لا يرجع مبما تبرّع به. د- وإن كان الضمان بغير إذن من المضمون عنه، وكان الأداء بإذن منه: فالأصح أنه لا يرجع الكفيل على الأصيل بما أدّى عنه، لأن سبب وجوب الأداء هو الضمان، وهو لم يأذن فيه، فكان في معنى المتبرّع بوفاء دَيْن غيره. وفي حال الرجوع على المكفول عنه، فبماذا يرجع عليه؟ لا شك أنه لو أدى عنه الدَّيْن الذي كان في ذمته بنفس صفته فإنه يرجع به عليه، لأنه هو الذي برئت به ذمّة المكفول عنه، وهو الذي غرمه الكفيل في نفس الوقت. وإذا أدّى عنه غير ما ثبت في ذمته: فالأصح أنه يرجع عليه بما أدّاه إذا كان أقل من الدَّيْن، لأنه هو الذي غرمه وبذله، فإن كان أكثر من الدَّيْن رجع بمقدار الدَّيْن، لأنه هو الذي كان ثابتاً في ذمة الأصيل، وبرئت منه بالأداء عنه، فلو كان له في ذمته ألف صحيحة مثلاً، فأدى عنها ألفاً معيبة، رجع بالمعيبة، ولو صالح عن الألف بخمسمائة رجع بخمسمائة فقط. ولو صالح عن الألف بسلعة تساوي ثمانمائة رجع بها أيضاً. ولو كان الشئ الذي صالح عليه يساوي الفاً ومائة - مثلاً - رجع بالألف وحده. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 6 - دعوى الضامن قضاء الدَّيْن: إذا ادّعى الكفيل الضامن قضاء الدَّيْن عن الأصيل، فإما أن يقرّ بذلك المكفول له أو ينكر ذلك: فإن أقرّ المكفول له بذلك رجع الضامن بما أدّاه على الأصيل المكفول عنه، لتبرئته لذمته وسقوط المطالبة عنه بإقرار صاحب الحق، ولو أنكر المضمون عنه ذلك لم يُلتفت إلى إنكاره، لأن ما في ذمته حق للمضمون له، فإذا اعترف بالقبض من الضامن فقد اعترف بأن الحق الذي كان له قد صار حقاً للضامن، فيقبل إقراره لكونه في حق نفسه. وإن أنكر المكفول له ذلك ينظر: - فإن كان للضامن بيّنة على الأداء قضى بها، ورجع على المضمون عنه بما أدّاه. - وإن لم يكن له بيِّنة على الأداء فالقول قول المكفول له بيمينه، لأنه منكر للقبض، والأصل عدمه، والكفيل مقصِّر بترك الإشهاد، فإذا حلف كان له أن يطالب مَن شاء من الضامن أو الأصيل، لأن حقه ثابت في ذمّتهما، فإذا طالب الكفيل وقضاه الدَّيْن يُنظر: - فإن كان قضاه في غَيْبة المكفول عنه: فلا رجوع له على الأصيل قولاً واحداً إنْ كذّبه في دعواه، لأنه منكر للأداء، والأصل عدمه، وكذلك إنْ صدّقه، فلا رجوع له عليه في الأصح، لأنه لم ينتفع بأدائه عنه، ولم تسقط المطالبة، فلا رجوع عليه طالما أنه لم يُبرئ ذمته، لأنه هو المقصّر في عدم إشهاده على القضاء. - وإن كان قضاءه في حضور المكفول عنه رجع عليه في الأصح، وإن كان قضاء الكفيل لم يبرئ ذمته من الدَّيْن ولم يسقط المطالبة عنه، لأنه في هذه الحالة هو المقصِّر في ترك التحفّظ لحقه وطلب الإشهاد على الدفع، فكان عليه ان يحتاط لنفسه، فهو المقصّر إذن دون الضامن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 ضمان الأعيان إذا ضمن شخص لآخر ان يردّ له العين التي يملكها من يد غيره، يُنظر: - فإن كانت العين أمانة في يد مَن هي بيده - كالوديعة - لم يصح ضمانها، لأنها إذا لم يجب ضمانها على من هي عنده فمن باب أولى أن لا يجب ضمانها على غيره الذي يضمنها. - وإن كانت العين مضمونة على مَن هي في يده - كالعين المغصوبة، والمستعارة، والمقبوضة على سوم الشراء، والمبيع قبل قبض المشتري له من البائع - صحّ ضمانها. - ويشترط في هذا الضمان: أن يأذنه فيه مَن كانت العين تحت يده، أو أن يكون الضامن قادراً على انتزاع العين منه. - فإذا صحّ الضمان: برئت ذمة الضامن بردّ العين للمضمون له. - وإن ضمن أن يردّ القيمة إن تلفت العين لم يصحّ الضمان، لأنه ضمان لدَيْن لم يثبت، وقد علمت أن من شرط صحة الضمان أن يكون المضمون ديناً ثابتاً، وقيمة العين لا تثبت إلا بهلاك العين، فإذا ضمنها والعين قائمة لم يصحّ، لأنها لم تثبت بعد، فكان ضماناً لدَيْن لم يثبت، فلم يصح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 الباب العاشر الوكَالَة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 الوكَالَة تعريفها: الوكالة - في اللغة - بفتح الواو وكسرها، وتطلق على معانٍ، منها: - الحفظ، ومن ذلك قوله تعالى: "حسبُنا الله ونعم الوكيل" (آل عمران: 173): أي الحافظ. - التفويض، ومنه قوله تعالى: (وتوكّل على الله) (الأنفال: 61) أي فوِّض أمرك إليه. وفي اصطلاح الفقهاء: هي تفويض شخص ما له فعله، مما يقبل النيابة، إلى غيره، بصيغ، ليفعله في حياته. أي ان يفوّض المرء غيره بالقيام بتصرّف يملك هذا المفَوِّض القيام به بنفسه، ليقوم به عنه في حال حياته، أي حياة المفوِّض، على أن يكون هذا الفعل تصحّ النيابة فيه، وسيتضح معنا التعريف على وجهه الكامل من خلال الكلام عن أركان الوكالة وشروطها وأحكامها. مشروعية الوكالة: الوكالة مشروعة، وقد ثبتت مشروعيتها بالكتاب والسنّة وحصل على ذلك الإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: (وإن خِفْتُم شِقاقَ بينهما فابعثوا حَكَماً من أهله وحَكَماً من أهلها) (النساء: 35) أي إذا حصل نزاع بين الزوجين واشتدّ، ولم يتوافقا، فيُعيِّن حَكَمان يكونان وكيلين عنهما ينظران في الأمر، وهذا النص وإن كان خاصاً بشأن الزوجين - فهو عام في مشروعية الوكالة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 ويُستأنس لهذا أيضاً بقوله تعالى: "فأبعثوا أحَدَكُم بِوَرِقِكُم هذه إلى المدينة فلينظر أيُّها أزكى طعاماً فليأتِكُمْ برزقٍ منه" "الكهف: 19": فبعثُ واحد من الجماعة توكيل له منهم. [بِورِقِكم: هي الفضة المصكوكة. أزكى: أطيب وأمتع. برزق: بطعام ونحوه]. وكذلك قوله تعالى: "اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه ابي يأت بصيرا" (يوسف: 93) فقد وكلهم بالذهاب بالقميص والقائه على وجه ابيه. وقلنا: يستأنس بهاتين الآيتين لأنهما واردتان في القرآن حكاية عن شرع من قبلنا، وقد تكرر منا القول: ان شرع من قبلنا ليس بشرع لنا. وأما السنّة: فأحاديث كثيرة، منها: ما رواه أصحاب السِّيَر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكّل عمرو بن أُمية الضمري رضى الله عنه في قبول نكاح أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضى الله عنهما. ما رواه رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة حلالاً، وبنى بها حلالا، وكنت السفير بينهما. (اخرجه الترمذي في ابواب الحج، باب: ما جاء في كراهية تزويج المحرم، رقم: 841). [حللاً: أي غير محرم بحج أو عمرة، بنى بها: أي دخل. السفير: هو الذي يقوم بالاصلاح وتحقيق الوفاق بين اثنين ونحوهما]. وما رواه عروة البارقي رضى الله عنه قال: دفع إلىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً لأشتري له شاة، فاشتريت له شاتين، فبعت إحداهما بدينار، وجئت بالشاة والدينار الى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر له ما كان من أمره، فقال له: "بارك الله لك في صفقة يمينك". (أخرجه البخاري في المناقب، باب: سؤال المشركين ان يُريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية .. ، رقم: 3443. والترمذي في أبواب البيوع، باب: حدثنا ابو كريب، رقم: 1258). وسيأي مزيد من الأحاديث خلال البحث. وهذا الذي دلتّ عليه الآيات والأحاديث هو موضع إجماع علماء الأمة في كل عصر من العصور. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 حكمة تشريع الوكالة : إن الله تعالى خلق الناس متفاوتين في المواهب والقدرات، وفتح لهم أبوب الرزق، ويسّر لكلٍّ منهم سبيلاً أو أكثر من سبل الكسب والمعاش. فمن الناس مَن أوتي القدرة والكفاءة التي تجعله على استعداد لأن يباشر جميع أعماله بنفسه، إلا أنه قد تتوالى عليه الشواغل وتتزاحم عليه الأعمال، فيضطر إلى مساعدة الآخرين والاستعانة بهم. ومن الناس مَن لم يؤتَ من القدرة والكفاءة ما يؤهله للقيام بأعمال قد يكون وبأمسِّ الحاجة إليها. وقد تكون لديه القدرة والكفاءة، ولكن تنقصه الخبرة في عمل من الأعمال أو مصلحة من المصالح. ومنهم مَن يكون صاحب حق، ولكنه لم يؤتَ من الحجة واللسن، والفصاحة والبيان، ما يجعله قادراً على أن يظهر حقه ويدافع عن نفسه، وقد يكون خصمه الحن منه في حجته، فيقلب باطله حقاً. من اجل ذلك كله كانت الحجة ماسة لكثير من الناس ان يعتمد على غيره، ويستفيد من خبراته في بعض اعماله، قليلة كانت ام كثيرة، فكانت المصلحة في تشريع الوكالة، سدا للحاجة وتيسيرا للمعاملة، ورفعا للحرج الذي جاء شرع الله تعالى برفعه اذ قال: "ما جعل عليكم في الدين من حرج" (الحج: 78). حكمها : قلنا: إن الوكالة جائزة ومشروعة، والأصل فيها الإباحة. وقد تكون مندوبة: إن كانت إعانة على مندوب. وقد تكون مكروهة: إن كان فيها إعانة على مكروه. وقد تكون حراما: إن كان فيها إعانة على أمر محرم. وقد تكون واجبة: إن توقف عليها دفع ضرر عن الموكل، كما إذا وكله بشراء طعام مضطر إليه، وهو عاجز عن شرائه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 أركان الوكالة للوكالة أركان أربعة، هي: الموكِّل والوكيل وصيغة العقد، والموكِّل فيه. الركن الأول: الموكِّل: وهو الذي يستعين بغيره، ليقوم ببعض التصرفات نيابة عنه. ويُشترط فيه: صحة مباشرته للتصرّف الذي وكل فيه بملك أو ولاية. أي أن يكون له شرعاً حق التصرّف فيما أذن لغيره أن يقوم به، ويعتبر الشرع تصرّفه صحيحاً ويبني عليه آثاره وأحكامه. فإذا كان لا تصحّ مباشرته لما أذن بالتصرّف فيه لم يصحّ توكيله، لأنه الأصل، وإذا كان الأصل غير قادر على التصرّف، فنائبه غير قادر عليه من باب أولى. فلمالك المال أن يوكِّل في التصرّف فيه، إذا كان بالغاً عاقلاً نافذ التصرف، أي غير محجور عليه، لأنه يتصرّف في ملكه. وكذلك لولىّ المال - كالأب والجدّ والوصي - أن يوكل غيره ليتصرف بمال من تحته ولايته، لأنه يملك هو مباشرة ذلك بسبب الولاية. وللرجل البالغ العاقل أن يوكل أحداً في تزويجه، لأنه يملك مباشرة ذلك بنفسه. ولوليّ البكر العدل أن يوكِّل في نكاح ابنته أو غيرها ممّن تحت ولايته، لأنه يصحّ منه مباشرة ذلك بنفسه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 وعليه: فلا يصحّ توكيل الصبي أو المجنون أو المغمى عليه مطلقاً، لأنهم لا تصحّ منهم مباشرة التصرفات شرعاً. ولا يصحّ توكيل المحجور عليه لسفه في تصرّف مالي، لأنه لا يملك مباشرته. ولا يصحّ للأب الفاسق أن يوكل في تزويج ابنته، لأنه لا يملك مباشرة ذلك بنفسه، وكذلك غيره من الأولياء. والمرأة لا يصحّ منها أن تباشر عقد زواجها بنفسها، فكذلك لا يصحّ توكيلها فيه. والمحرم بحج أو عمرة لا يجوز له أن يعقد زواج لنفسه، فكذلك لا يصحّ أن يوكِّل مَن يعقد له ذلك حال إحرامه، فلو وكّله ليعقد له بعد الإحرام صحّ. ويستثنى من هذا الشرط: الأعمى، فإنه لا يصحّ أن يباشر البيع والشراء ونحوهما مما يتوقف على الرؤية كما علمت، ويصح أن يوكّل في ذلك للضرورة، لأنه لو لم يصحّ توكيله فيها - والحال أنه لا تصحّ مباشرته لها - لكان في ذلك حرج عليه شديد. الركن الثاني: الوكيل: وهو الذي يقوم بالتصرّف نيابة عن غيره، بإذن منه وتوكيل. ويشترط فيه ايضاً: أن تصحّ مباشره للتصرّف المأذون فيه لنفسه: فإذا كان التصرّف الموكِّل فيه لا يصحّ أن يباشره لنفسه لم يصحّ توكيله فيه، لأن تصرّف الإنسان لنفسه أقوى من تصرفه لغيره، لأنه يتصرّف لنفسه بطريق الأصالة، ويتصرف لغيره بطريق النيابة، والأصالة أقوى من النيابة، فإذا كان غير قادر على التصرّف بالأقوى، فهو غير قادر عليه بالأضعف من باب أولى. وبناءاً عليه: فلا تصحّ الوكالة للصبي والمجنون والمغمى عليه، لعدم صحة مباشرتهم التصرفات كما علمت، ويصحّ توكيل الصبي المميِّز في حج تطوع وذبح أُضحية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 وتفرقة زكاة، لأن هذه التصرفات تصحّ منه لنفسه. والسفيه، لا يكون وكيلاً في التصرفات المالية. والأعمى، لا يصحّ أن يكون وكيلاً في تصرّف تتوقف صحته على الرؤية. والمحرم بحج أو عمرة لا يصح أن يوكِّل في عقد نكاح، وكذلك المرأة، لأنهما لا تصحّ منهما مباشرة ذلك لأنفسهما. ويستثنى من هذا: توكيل الصبي المميز المأمون في الإذن بدخول الدار وإيصال هدية ونحوها على الصحيح، لتسامح السلف في ذلك، فيعتمد قوله فيها. وكذلك يعتمد قوله في إخباره بدعوة صاحب الوليمة، والفاسق وغير المسلم في هذا كالصبي، قال النووي رحمه الله تعالى: لا أعلم في جواز اعتمادهما خلافاً. ويُشترط في الوكيل أيضاً: أن يكون معيّناً، فلو قال لاثنين: وكّلت أحدكما ببيع داري، لم يصح، وكذلك لو قال: وكّلت ببيع داري كلّ من أراد بيعها. ويشترط في الوكيل أيضاً أن يكون عدلاً، إذا كان وكيلاً عن القاضي، أو كان وكيلاً عن الولىَّ في بيع مال مَن كان تحت ولايته. الركن الثالث: صيغة عقد الوكالة: وهي الإيجاب والقبول، ويشترط فيها شرطان، وهما: 1 - أن يكون من الموكِّل لفظ يدل على رضاه بالتوكيل، صراحة أو كناية، لأن المكلَّف ممنوع من التصرّف في حق غيره الا برضاه. فالصريح: كقوله: وكّلتك ببيع داري، أو فوّضت إليك أمر بيعه. والكناية: كقوله: أقمتك مقامي في ببيعه، أو أنبتك. وينوب في الوكالة الكتابة والرسالة مناب النطق. ويكفي من الوكيل ما يدل على القبول، ولا يشترط فيه اللفظ، بل يكفي الفعل، لأن التوكل إباحة للتصرّف ورفع للحجر الذي كان قبلها، فأشبه إباحة الطعام للضيف، فلا يشترط فيها القبول لفظاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 170 2 - عدم تعليقها بشرط على الأصح، كأن يقول: إن جاء زيد من سفره فأنت وكيلي بكذا، أو: إذا جاء شهر رمضان فقد وكّلتك بكذا، وذلك لأن في التعليق جهالة فاحشة، فلا تصحّ الوكالة معه. فإذا تصرّف الوكيل في هذه الحالة عند وجود الشرط صحّ تصرّفه، لوجود الإذن في التصرّف. ولا مانع من تعليق التصرّف إذا كانت الوكالة منجزة، كما إذا قال له: وكّلتك في بيع داري، على أن تبيعه عند قدوم فلان، أو إذا جاء شهر كذا. وكذلك لا مانع من تقييدها بوقت، كأن يقول له: أنت وكيلي لمدة شهر، فتصحّ الوكالة، وتنتهي بانتهاء الشهر، وليس للوكيل أن يتصرف بعده. الركن الرابع: الموكَّل فيه: وهو التصرف الذي يقوم به الوكيل نيابة عن الموكِّل. ويشترط فيه شروط هي: 1 - أن يكون حق التصرف فيه ثابتاً للموكل عند التوكيل، كما لو وكّله ببيع ما يملكه عند التوكيل، أو وكّله بما لا ولاية عليه كتأجير دار الصبي الذي تحت ولايته، والتي يملكها الصبي عند عقد الوكالة، فإن الولي يملك التصرّف في ذلك. وعليه: فلا يصحّ أن يوكّل بالتصرّف فيما لا يملكه، أو فيما سيملكه، كما لو وكّل ببيع دار صديقه - مثلاً - وهو لا يملكها، أو وكّل ببيع دار زيد التي سيشتريها منه، أو وكّل بطلاق فلانة التي سيتزوجها، فإن الوكالة غير صحيحة في ذلك كله، لأنه لا يحقّ له ان يباشر ذلك بنفسه حين التوكيل، فكيف يستنيب غيره فيه. أما لو وكّله في التصرّف فيما سيملكه بعد التوكيل تبعاً لما يملكه حال التوكيل: فإن الوكالة صحيحة، كما لو وكّله ببيع ما ستثمره أشجاره، فيصحّ ذلك، لأنه يملك الأصل وهي الأشجار، وكذلك لو وكّله ببيع ما عنده من أثواب وما سيشتريه أيضاً منها، صحّ توكيله في بيع ما لم يملكه عند التوكيل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 تبعاً لما كان يملكه. ولو وكّله ببيع متاع، وأن يشتري له بثمنه شيئاً، صحّ التوكيل بالشراء على الأشْهَرِ. 2 - أن يكون الموكِّل فيه معلوماً ولو من بعض الوجوه، فإن الضرر بذلك يقلّ والجهالة ترتفع نوعاً ما. ولا يشترط العلم به من كل الوجوه، لصعوبة ذلك، ولأن الوكالة شرعت للحاجة، وذلك يقتضي المسامحة فيها. فلو قال: وكّلتك في بيع أموالي، واستيفاء ديوني، واسترداد ودائعي - مثلاً - صحّ ذلك، وإن جهل الأموال، والديون ومَن هي عليه، والودائع ومَن هي عنده، لأن الضرر فيها قليل، والموكِّل فيه صار معلوماً من بعض الوجوه. وأما لو قال: وكّلتك في كل قليل وكثير من أُموري، أو فوّضت إليك كل شئ، أو أنت وكيلي فتصرف كيف شئت، لم يصحّ التوكيل، لكثرة الضرر، وجهالة الموكِّل فيه من كل وجه. وعليه فلا يصحّ ما يسمى اليوم بالوكالة العامة، وإن أضرارها ظاهرة، حيث يتصرف الوكيل احياناً في أشياء لا يرغب الموكّل تصرفه فيها. وكذلك لو قال: وكّلتك ببيع بعض مالي، دون أن يعيّن هذا البعض، لكثرة الجهالة وفحش الغرر. 3 - أن يكون الموكِّل فيه قابلاً للنيابة، فلا يصحّ التوكيل فيما لا يقبل النيابة، ولذا لا تصح الوكالة في العبادات البدنية المحضة كالصلاة والصوم، لأن حكمة تشريعها الابتلاء والاختبار بمجاهدة النفس، وذلك لا يحصل بفعل غير المكلف بها. ويصح التوكيل في العبادات التي تشترط القدرة البدنية لأدائها لا لوجوبها كالحج والعمرة، عند العجز عن القيام بها. وكذلك يصحّ التوكيل فيما هو من تمام العبادات المالية والإعانة عليها، كتوزيع الزكاة على مستحقّيها، وتفرقة مال منذور أو كفّارة وكذلك ذبح الأضحية والهَدْى وشاة الوليمة ونحو ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 ونفصّل القول هنا فيما يصحّ التوكيل فيه وما لا يصحّ فنقول: الوكالة يمكن أن تكون في حق من حقوق العباد، ويمكن أن تكون في حق من حقوق الله تعالى. الوكالة في حقوق الله تعالى : وحقّ الله تعالى: هو ما شرع حكمه للمصلحة العامة لا لمصلحة فرد معين، فهو من النظام العام الذي يتعلق به حقّ كل فرد من الناس، ولذلك نسب لرب الناس جمعيهم، لعظم خطره وشموله نفعه، وسمى حق الله تعالى لأنه هو المستحق له وحده، فلا يملك أحد من الناس إسقاطه. ومن حقوق الله تعالى العبادات المحضة، وقد علمنا انه لا يصحّ التوكيل فيها. ومنها العقوبات الكاملة وهي الحدود، والوكالة فيها: إما في إثباتها وإما في استيفائها. فإذا كانت الوكالة في إثباتها فلا تصحّ، لأن مبنى الحدود على الدرء، أي إن الشارع يرجّح فيه جانب الدفع والإسقاط، فيسقطها لأقل شبهةٍ، والتوكيل في إثباتها يخالف ذلك لأنه يوصل إلى إيجابها وتنفيذها. وإذا كانت في استيفاء الحدود فهي جائزة وصحيحة، لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم وكّل في رجم مَن ثبت زناه، وجلد مَن ثبت شربه المسكر. (انظر البخاري: الوكالة، باب: الوكالة في الحدود). الوكالة في حقوق العباد : حقوق العباد هي كل ما يتعلق بأفرادهم على أنهم أفراد لا جماعة، كالبيع والشراء والزواج والطلاق والشركة والصلح ونحو ذلك. فمثل هذه الحقوق تصحّ الوكالة فيها باتفاق العلماء، وقد مرّ معنا عند الكلام عن مشروعية الوكالة أدلة ذلك. ومن هذه الحقوق الخصومة في إثبات هذه الحقوق، والوكالة فيها جائزة أيضاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 ودليل ذلك: أن علياً رضى الله عنه وكّل عقيلاً عند أبي بكر - رضى الله عنهما - وقال: ما قضى له فلي، وما قضى عليه فعليّ، ووكّل عند عثمان رضى الله عنه عبدالله بن جعفر رضى الله عنهما، وقال: إن للخصومة قُحَماً وإن الشيطان ليحضرها، وإني لأكره أن أحضرها. (البيهقي: الوكالة، باب: التوكيل في الخصومات .. : 6/ 81) [قحماً: جمع قُحْمة، وهي الأمر الشاقّ الذي لا يكاد يحتمل، وقحم الخصومات ما يحمل الإنسان على ما يكرهه]. الوكالة في القصاص : تصحّ الوكالة في إثبات القصاص واستيفائه، لأن الغالب فيه حق العبد، وهم أولياء المقتول، ولذا يملكون إسقاطه، كما يملكون استبداله بالدية. الوكالة في الشهادة والأيْمان والنذور: لا تصحّ الوكالة في الشهادة، كأن يقول له: وكّلتك أن تشهد عنّي بكذا، لأن حكمها متعلّق بعلم الشاهد، لأنها إخبار عما رآه أو سمعه، وهذا غير حاصل للوكيل، فتعلقت الشهادة بعين الشاهد، فلا تقبل التوكيل، فإن وكّل فيها كان الوكيل شاهداً على الشهادة. وكذلك لا تصحّ الوكالة في النذور والأيمان، كأن يقول: وكّلتك أن تحلف عنّي أو تنذر عنّي، لأن فيها تعظيم الله تعالى، فأشبهت العبادة المحضة، وتعلقت بعين الحالف والناذر. الوكالة في الإيلاء واللعان والقسامة والظهار : وكذلك لا تصحّ الوكالة في الإيلاء واللعان والقسامة، لأنها أيمان، وقيل: إن اللعان شهادة، وكلٌّ من الشهادة والأيمان لا تصحّ فيه الوكالة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 والأصح أن الوكالة لا تصحّ في الظهار، لأن الغالب فيه معنى اليمين، لتعلّقه بألفاظ وخصائص كاليمين. وقيل: تصحّ الوكالة فيه، لأنه ملحق بالطلاق، لأن الغاية فيه تحريم الاستمتاع بزوجته، وهذا ما يثبت بالطلاق، وصورته أن يقول: أنتِ على موكِّلي كظهر أُمه، أو جعلتُ موكِّلي مظاهراً منك. الوكالة في الإقرار : وذلك بأن يقول له: وكّلتك لتقرّ عنّي لفلان بألف دينار له علىَّ، ونحو ذلك. فالأصح أن الوكالة في ذلك غير صحيحة، ولو أقرّ عنه لا يلزمه ما أقرّ به عليه، لأن الإقرار إخبار عن إثبات حق - كالشهادة - فل يقبل التوكيل. الوكالة في تملّك المباحات كالاصطياد والاحتطاب: فلو وكّله أن يحتطب له أو أن يصطاد له: فالأصح صحة الوكالة، وأن ما يجمعه الوكيل من الحطب أو يمسك به من الصيد، بنيّة الموكّل، يكون ملكاً للموكّل، لأن تملّك المباحات أحد أسباب الملْك، فأشبه الشراء ونحوه، فصحّت الوكالة به. الوكالة في المحرّم: وذلك بأن يوكِّله في غصب شئ أو سرقته، أو فعل جناية، فإن الوكالة غير صحيحة، وإن فعل الوكيل شيئاً من ذلك كان هو الضامن والإثم عليه، لأن حكم المحرّمات مختصٌّ بمرتكبها، ولأن الشارع قصد بالامتناع عنها كل شخص بعينه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 حدود تصرفات الوكيل إذا وقعت الوكالة مستوفية لأركانها وشروطها ثبت للوكيل حق التصرّف فيما وكّل فيه، ولكن ما هي حدود هذا التصرّف؟ هذا ما سنبيِّنه فيما يلي بحسب موضوع الوكالة التي أسندت إليه. 1 - الوكالة في الخصومة: وهي توكيل بالدعوى والمرافعة أمام القضاء وهي المشهور في أيامنا بعمل المحاماة، فإذا وُكِّل المحامي وغيره بالخصومة فهو يملك أن يتصرف بكل ما يتعلق بإثبات الحق لموكِّله أو دفعه عنه إذا كان خصمه يدّعيه. وهل يملك الإقرار بالحق على موكِّله؟ والجواب: هو أنه لا يملك ذلك، لأنه وكيل في المنازعة والإقرار بخلاف ذلك لأنه مسالمة، فلا يتناوله التوكيل بالخصومة، فلا يملكه الوكيل. وإذا أثبت الوكيل بالخصومة بالمال الحق لموكِّله وقُضى له به، فهل يملك قبضه؟ والجواب: أنه لا يملك ذلك، لأن الإذن في إثبات الحق ليس إذناً في قبضه، لا من جهة النطق ولا من جهة العُرْف، إذ ليس في العُرْف أن مَن يرضاه لتثبيت الحق يرضاه لقبضه، بل الغالب أن يختار لتثبيت الحق ألدّ الناس خصومة. وأكثرهم حيلة ودهاءً، وقد يكون أقل الناس دِيناً وحياءً، بينما يختار للقبض مَن هو أوفى الناس أمانة وأكثرهم ورعاً، فمَن يصلح للخصومة قد لا يصلح للقبض، وتوكيله بالخصومة لا يدلّ على الرضا به للقبض. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 2 - الوكيل بالقبض: إذا وكّل إنسان آخر بقبض حق له من فلان، فأنكر فلان أن للموكّل عليه حقاً، فهل يملك الوكيل بالقبض المخاصمة في إثبات ذلك الحق الذي يدّعيه الموكّل؟ فيه وجهان: أحدهما: يملك ذلك لأنه بالمخاصمة يتوصل إلى إثبات الحق وقبضه، فيكون الإذن بالقبض إذناً في المخاصمة. والثاني: أنه لا يملك المخاصمة في تثبيت الحق، لأن الإذن في القبض ليس إذناً في التثبيت، لا لفظاً ولا عُرْفاً، ومَن يرضاه في قبض حقه قد لا يرضاه في تثبيته، لأنه يختار للقبض مَن كان ذا أمانة ودين وورع، وقد يكون أقل الناس حيلة وأضعفهم حج ومخاصمة، وعليه لو رافع في الأمر إلى القضاء، وقضي على موكِّله، فلا يمضي عليه هذا القضاء، ولعلّ هذا الوجه هو الارجح، والله تعالى أعلم. 3 - الوكيل بالبيع والشراء: الوكالة بالبيع: إذا وكّله ببيع شئ له، فلا يخلوا من أن تكون هذه الوكالة مطلقة أو مقيّدة، ولكلٍّ منهما حكم يتعلق بها: - الوكالة المطلقة بالبيع: وهي أن يوكّلَه ببيبع شئ دون أيّ تقييد، ففي هذه الحالة يتقيد الوكيل بما يلي: 1 - لا يبيع بغير نقد البلد، لأن العُرْف يقيده به عند الإطلاق، فإن كان فيه نقدان يتعامل بهما أهله باع بالغالب منهما، فإن استويا في التعامل باع بأنفعهما للموكِّل، وإن استويا بالنفع باع بأيّهما شاء. 2 - لا يبيع بالنسيئة أي بتأجيل الثمن إلى زمن معين، وإن كان البيع بأكثر من ثمن مثله حالاًّ، لأن مقتضى الإطلاق الحلول، إذ هو المعتاد في البيع غالباً. فلو وكّله ليبيع مؤجلاً: فإن قدّر له أجَلاً معيناً جاز أن يبيع إلى ذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 الأجل ولا يزيد عليه، فإن نقص عنه أو باع حالاًّ صحّ البيع، فإن كان في التعجيل ضرر على الموكِّل- كنقص ثمن أو خوف على الثمن ونحو ذلك - لم يصحّ. وإن أطلق الأجل صحّ التوكيل على الأصح، وحمل الأجل على المتعارف في مثله، فإن لم يكن فيه عُرْف راعي الأنفع للموكل. 3 - ولا يبيع بغبن فاحش، وهو ما لا يُحتمل غالباً، وضبطوه بما يخرج عن تقدير المقدِّرين، كأن يقدِّره المقدِّرون بما بين السبعة والعشرة مثلاً، فيبيعه بخمسة أو ستة. فإذا خالف أحد هذه القيود الثلاثة وباع لم يصحّ بيعه على الأصح، وإذا سلم المبيع للمشتري كان ضامناً له، لأنه تعدّى في تصرفه، فإن كان المبيع موجوداً استردّه، وإلا غرَّم الموكِّل قيمته من شاء من الوكل أو المشتري، ويستقر الضمان على المشتري، أي هو الذي يغرم القيمة في النهاية، ويعود على الوكيل بالثمن إن كان قد دفعه إليه. - الوكالة المقيدة بالبيع: وذلك بأن يوكِّله ببيع شئ يملكه، ويقيده بشخص أو زمن أو مكان أو ثمن. ? فإن قيّده بشخص، كأن قال: بِعْ هذا لفلان، تعيّن عليه البيع له، لأن تخصيصه قد يكون لغرض يقصده، كأن يكون ماله أبعد عن الشبهة، فإن دلّت قرينة على أن مراده الربح، وأنه لا غرض له في التعيين إلا ذلك، جاز بيعه لغير ذلك الشخص الذي عيّنه. ? وإن قيّده بزمن، كأن قال: بِعْه يوم الجمعة مثلاً، تعيّن هذا، ولم يجز أن يبيع قبله ولا بعده، لأنه قد يُؤثر البيع في زمان لحاجة خاصة فيه، ولا يؤثره في غيره. ? وإن قيّده بمكان، كسوق كذا، يُنظر: ? فإن كان له في التعيين غرض صحيح، كأن يكون الثمن فيه أكثر، أو النقد فيه أجود، لم يجز البيع في غيره، لأنه لا يجوز تفويت غرضه عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 وإن لم يكن في التعيين غرض صحيح، كأن يكون الثمن فيه وفي غيره واحداً، فالراجح أن له البيع فيه وفي غيره، لأن مقصوده يتحقق في أيّ مكان، فكان الإذن بالبيع بمكان إذناً بالبيع في غيره. ? وإن قيده بثمن، كأن قال له: بِعْ بمائة مثلاً، فليس له أن يبيع بأقل منها، ولو كان ثمن المثل أو كان النقص قليلاً، لأنه مخالف للإذن. والأصح أنَ له أن يبيع بأكثر منها، لأن المفهوم من ذلك عُرْفاً هو عدم النقص، بل لا يجوز له أن يبيع بالمائة إن وجد مَن يرغب شراءه بأكثر منها، لانه مأمور بالأنفع للموكِّل، حتى لو وجد الراغب بالزيادة زمن الخيار لزمه الفسخ، وإذا لم يفسخه هو انفسخ بنفسه. فإذا صرّح له بالمنع من البيع بزيادة عمّا قيده به، كأن قال له: بِعْه بمائة، ولا تَبعْ بأكثر من ذلك، لم يصحّ بيعه بزيادة، لأنه لا عبرة للدلالة مع التصريح، فقد أبطل النطق دلالة العُرْف. - البيع لمن يتهم فيه بالمحاباة: الوكيل بالبيع لا يصحّ أن يشتري الموكَّل ببيعه لنفسه كما لا يصحّ أن يشتريه لولده الصغير ولا لكل مَن هو في حَجْره وتحت ولايته، لأن العُرْف في مثل هذا أن يبيع الوكيل لغيره، لا لنفسه، وبيعه لولده الصغير ومن في حجره كبيعه لنفسه، فلم يصحّ ذلك كله، حتى ولو أذن له فيه الموكَّل، لتعارض أغراض البائع والمشتري، فالمشتري يرغب السلعة بأرخص الأثمان، ووكيل البائع عليه ان يحصل لموكله اغلاها واعلاها، وهنا المشتري والبائع واحد، فلا تتحقق اغراض البيع. واما غير هؤلاء - ممّن يتهم في محاباتهم من ذوي قرباه - فلا مانع من بيعهم، فيبيع لزوجته واخوته ونحوهم، لأن العاقد ليس واحدا، فالأغراض غير متنافية. والاصح انه يبيع لأبيه وسائر أصوله، كما أنه يبيع لابنه البالغ وسائر فروعه المستقلِّين عنه، طالما أنه يبيعهم بالثمن الذي لو باع به لأجنبي لصحّ، فتنتفي التهمة ويصحّ البيع، كما لو باع لصديق له، ليس بينه وبينه قرابة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 - التوكيل ببيع فاسد: لو وكّله أن يبيع بعقد فاسد - كما لو وكّله ببيع المال الربوي بجنسه متفاضلاً، كصاع حنطة بصاعين، أو أن يبيع المبيع بثمن محرم كآلة لهو مثلا - فلا يجوز أن يعقد هذا العقد، لأن الله تعالى لم يأذن فيه، فلم يملكه الموكِّل أصلاً حتى يملكه الوكيل. وهل يملك أن يبيعه بعقد صحيح؟ والجواب: لا يملك ذلك، لأن الموكّل لم يأذن فيه. ب الوكالة بالشراء: ? الوكالة المطلقة بالشراء: وذلك بأن يوكِّله بشراء شئ موصوف أو معين دون أن يقيده بنوع أو ثمن، كأن يقول: وكّلتك أن تشتري لي سيارة، فهنا يتقيد الوكيل بما يلي: 1 - لا يشتري معيباً، لأن الإطلاق يقتضي الوصف بالسلامة من العيب، فإن اشترى ما فيه عيب يُنظر: ? فإن كان الوكيل يعلم العيب: وقع الشراء له ولم يقع للموكل، حتى ولو كان المشتري يساوي الثمن الذي اشترى به مع العيب على الأصح، لأنه لم يأذن له بشراء المعيب، فهو مقصِّر بشرائه، وقد لا يتمكن الموكّل من ردّه لهروب البائع فيتضرر بذلك، ولا سيما حين يكون لا يساوي الثمن. ? وإن كان الوكيل لا يعلم العيب: فإن كان المشتري يساوي الثمن مع العيب وقع الشراء للموكِّل، إذ لا ضرر عليه، لأنه يملك الاختيار بين إمساكه - ولا خسارة عندها لأنه يساوي الثمن - وأن يردّه على البائع، والوكيل غير مقصّر بهذا، لأنه جهل العيب، ولم يشتره بأكثر من ثمن مثله. وكذلك الحال أن كان المشتري لا يساوي الثمن مع العيب في الأصح، كما لو اشتراه الموكّل بنفسه جاهلاً للعيب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 وفي هذه الحالة: يكون للموكّل وحده خيار الرد بالعيب إن اشتُرى بعين ماله، لأنه هو المتضرِّر بذلك، فإن رضى به فليس للوكيل حق ردّه، لأن العقد لا يمكن أن يقع له، فلا يتضرر به. وإن كان الوكيل قد اشتراه بالذمة: ثبت حق الرد له أيضاً، لأنها ظلامة حصلت بعقده فجاز له رفعها، كما لو اشتراه لنفسه، ولأنه لو لم يجز له الردّ. فربما لا يرضى به المالك، فتنقلب ملكيته للوكيل، ويتعذر ردّه لكون الرد فورياً، فيتضرر الوكيل بذلك. 2 - لا يشتري إلا بثمن المثل، أو بزيادة يسيرة يقبل الناس التغابن فيها عادة، فإن اشترى بزيادة لا يتغابن فيها الناس عادة - على ما سبق - فيا يقع البيع للموكِّل. ? الوكالة المقيَّدة بالشراء: إذا وكّله أن يشتري له شيئاً، وقيّده بنوع أو ثمن، لزمه مراعاة القيد، فإذا خالف الوكيل في هذا وقع الشراء للوكيل، ولم يقع للموكل إلا إذا خالف إلى خير. ومثال التقييد بالنوع من المشتري أن يقول له: اشتر لي سيارة من نوع كذا صنع سنة كذا، فإذا اشتراها مع هذا الوصف كان الشراء للموكِّل، وإن خالف في هذا فاشتراها من نوع آخر أو من صنع سنة غير المذكورة في العقد، كان الشراء للوكيل وليس للموكل، لأنه خالف قيداً معتبراً قد يكون للموكل مصلحة فيه. ومثال التقييد في الثمن، أن يقول: اشتر لي سيارة - مثلاً - أو داراً بمائة ألف، فاشتراها بمائتي ألف، فلا يلزم هذا الشراء الموكِّل، وإنما يلزم الوكيل لمخالفة قيد الثمن. ومثال المخالفة الى خير: أن يشتري ما وكّله بشرائه بألف - بصفة معينة - بثمانمائة بنفس الصفقة والقيد، فهذا الشراء يلزم الموكِّل - وإن خالف فيه الوكيل - لانها مخالفة إلى خيره وصالحه. ومن هذا ما لو وكّله بشراء سلعة موصوفة بثمن معين، فاشترى اثنتين منها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 بالثمن نفسه، كلٌّ منهما تساوي الثمن المعين، صحّ الشراء للموكل، لأنه مخالفة إلى ما هو أنفع. ودلّ على ذلك كله حديث عروة رضى الله عنه السابق. ? أشتراط الوكيل الخيار: ليس للوكيل بالبيع أن يشرط الخيار للمشتري، كما أنه ليس للوكيل بالشراء أن يشرط الخيار للبائع، لأنه - في الحالين - شرط لا مصلحة فيه للموكِّل، فإن أذن به الموكَّل جاز. وللوكيل أن يشرط الخيار لنفسه او للموكِّل، لأن في ذلك مصلحة للموكّل واحتياطاً له. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 حقوق العقد بالوكالة وحكمه المراد بحقوق العقد: التصرفات التي لا بدّ منها للحصول على الغاية والقصد من العقد، مثل تسليم المبيع وقبض الثمن في البيع، والمطالبة بالمهر في النكاح، ونحو ذلك. وحكم العقد: هو الغرض منه والمقصود، كثبوت الملكية في المبيع للمشتري، وحل الاستمتاع بالزوجة في عقد النكاح ونحو ذلك. وبحثنا الآن: لمن تثبت حقوق العقد وحكمه، للوكيل أم للموكل؟ والجواب هو: أما حكم العقد: فقد اتفق الفقهاء على أنه يقع ويثبت للموكِّل لا للوكيل، لأن الوكيل واسطة وسفير في هذا، وهو يتكلم باسم الموكّل ويعقد له، فولايته على العقد مستمدَّة منه فكأنّ العاقد في الحقيقة هو الموكَّل، ولذلك يثبت حكم العقد له مباشرة، بمجرد تمام العقد وصحته من قِبَل الوكيل. وأما حقوق العقد: فهي نوعان بحسب العقود التي تترتب عليها، فإن العقود التي يمكن ان يقوم بها الوكيل نوعان: ? عقود يضيفها الوكيل إلى نفسه. ? وعقود يضيفها الوكيل إلى موكِّله. فالعقود التي يضيفها إلى نفسه: هي كالبيع والشراء والإجارة ونحوها، فإن الوكيل يقول عند التعاقد: بعت واشتريت وأجَّرْتُ، دون أن يقول: عن موكِّلي، أو لموكِّلي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 فمثل هذه العقود تتعلق أحكامها بالوكيل لا بالموكِّل، فهو المعتبر في رؤية المبيع قبل العقد، ويلزم العقد بمفارقته المجلس، وهو الذي يطالب بالثمن أو المبيع، وهو الذي يستلم البدل من العاقد الآخر ونحو ذلك. وإنما رجعت إليه هذه الحقوق لأنه أصل في التعاقد، بدليل استغنائه عن إضافة العقد إلى الموكّل. وأما العقود التي يضيفها الوكيل للموكّل: فهي كالزواج والخلع والصلح عن دم ونحو ذلك، فإن الوكيل يقول عندها: قبلت زواج ابنتك لموكِّلي فلان مثلا، ويقول: خالعتك عن زوجتك فلانة، وما الى ذلك. فمثل هذه العقود تتعلق أحكامها بالموكل لا بالوكيل فلا يطالب الوكيل بالمهر وإنما يطالب به الموكّل، ولا يطالب وكيل الزوجة المخالع عنها ببدل الخلع وإنما تطالب به الزوجة الموكلة، وهكذا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 أحكام تتعلق بالوكالة 1 - توكيل الوكيل: إذا كان الوكيل يمكنه القيام بما وُكِّل فيه، وكان مما يليق بأمثاله القيام به، فليس له أن يوكّل غيره بدون إذن الموكِّل، لأن الموكِّل رضى بتصرفه ولم يرضَ بتصرّف غيره، ولا ضرورة لذلك. فإن كان لا يتأتى منه القيام بما وُكِّل فيه، إما لأنه لا يحسنه وإما لأنه لا يليق به، فله عندئذ أن يوكّل غيره بالقيام بذلك، لأن تفويض مثل ذلك إليه من الموكّل بقصد منه إنابته عنه في توكيل مَن يقوم بما أسنده إليه. وإذا كان الموكل فيه مما يحسنه ويليق به، ولكنه كثر حتى عجز الوكيل عن الإتيان بكله، جاز له أن يوكّل فيما زاد من قدرته على الأصح، لأن الضرورة دعت إليه. وحيث جّوزنا للوكيل أن يوكِّل - عن نفسه أو عن الموكّل - اشترط أن يوكِّل اميناً رعاية لمصلحة الموكِّل، إلا إن عين الموكّل أحداً غير أمين، فله توكيله اتباعاً لتعيين الموكّل. وهل الوكيل الثاني وكيل الموكِّل، أو وكيل الوكيل الاول؟ والجواب: ? إذا قال: وكِّل عن نفسك، فالثاني وكيل الوكيل، فللأول أن يعزله، كما أنه ينعزل بعزل الموكل للوكيل الأول، أو بعزل الوكيل الأول لنفسه، لأنه تبع له. ? وإن قال: وكِّل عنّي، أو أذن له بالتوكيل مطلقاً، فالوكيل الثاني وكيل للموكل، فلا يملك أحد الوكيلين عزل الآخر، وللموكّل عزل أيّهما شاء فلا ينعزل الثاني بانعزاله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 2 - التوكيل بجُعْل: الوكالة صحيحة سواء أجعل الموكِّل شيئاً مقابل ذلك أم لم يجعل. فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم وكَّل ولم يعط شيئاً على العمل، كما أنه كان يوكِّل السُعاة بجمع الزكاة ويعطيهم على ذلك أجراً يجعله لهم مقابل عملهم. وفي حال كونها بجعل يشترط أن يكون الجعل معلوماً، فلا يصح ما يفعله الناس اليوم من إعطاء المحامين نسبة مئوية من مال القضية التي يربحونها كأتعاب لهم. كما لا يصح اعطاء جباة الجمعيات ونحوها نسبة مئوية مما يجبونه من اموال، وكذلك إعطاء أصحاب المكاتب العقارية نسبة مئوية من قيمة ما يبيعونه. والمشروع في ذلك كله تحديد جُعْل يُتّفق عليه قبل بدء العمل وعند التوكيل. ويستحق هذا الجعل عند الانتهاء من العمل الموكل فيه. 3 - صفة يد الوكيل: يد الوكيل على ما وكّل فيه يد أمانة، فلا يضمن إلا بالتعدِّي، حتى ولو كانت الوكالة بجُعْل، لأن الوكيل نائب عن الموكِّل في التصرّف فيما تحت يده، فكانت يده كيده، فكما ان المالك لا يضمن ما تلف في يده من ملكه فكذلك وكيله. وأيضاً فإن الوكالة إرفاق وتعاون من الوكيل، والضمان ينافي ذلك وينفّر عنه، ويجعل الناس يمتنعون عنها، فيكون في ذلك حرج، فإذا تعدَى - كأن استعمل ما وكل ببيعه او شرائه، او ضاع منه ولم يدر كيف ضاع، او وضعه في مكان ثم نسيه، او خالف الموكل - فإنه يضمن في ذلك كله. 4 - دعوى الوكالة: إذا جاء إنسان ألى مَن عليه حق لآخر، وادّعى أنه وكيل صاحب الحق، وأنه وكّله في قبض الحق منه، وصدّقه مَن عليه الحق في ذلك، فهل يجب دفع الحق إليه؟ والجواب: إنه لا يجب عليه ذلك، لأن هذا الدفع لا يبرئه من الحق، فلا يؤمر به لا أن أقام بينة على دعواه. فإذا دفع اليه وقبضه جاز، فإذا حضر صاحب الحق وصدقه بالوكالة فقد ظهر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 أنه كان وكيلا له، وان قبضه صحيح، فتبرأ ذمة من كان عليه الحق منه. وإن أنكر صاحب الحق التوكيل صُدّق بيمينه أنه ما وكّل، لأن الأصل عدم التوكيل، فإذا حلف يُنظر: فإن كان الحق عيناً: أخذها إن كانت باقية أو أخذ بدلها إن كانت تالفة. وله أن يطالب أيّهما شاء: مَن كان عليه الحق ودفعه، ومَن أدعى الوكالة وقبض. لأن الدافع دفع إلى مَن لم يثبت له إذن صاحب الحق له بالقبض، والقابض قبض ما لم يكن له حق في قبضه. وإذا ضمّن واحدً منهما لم يكن له أن يرجع بما ضمنه على الآخر، لأن كلاًّ منهما يرى أن ما يأخذه صاحب الحق منه ظلم، فليس له أن يرجع على غيره لدفع الظلم عن نفسه. وإن كان الحق دَيْناً: فله أن يطالب به الذي كان عليه، لأن حقه - على رأيه - لا يزال في ذمته ولم ينتقل الى ذمة غيره. وليس له أن يطالب القابض على قول الأكثر، لأن ما قبضه لم يتعين حقا له، فليس له أن يطالب به. 5 - الوكالة في قضاء الدَّيْن: إذا وكّل رجلاً في قضاء دينه لزم الوكيل أن يشهد على القضاء، لأنه مأمور بما هو الأحوط لمصلحة الموكِّل، ومن مصلحته أن يشهد على قضاء دينه، كي لا يرجع عليه الدائن وينكر القضاء. فإذا دفع الوكيل الدَّيْن دون إشهاد، وأنكر صاحب الدَّيْن الوفاء، لم يُقبل قول الوكيل عليه، وبقى دينه في ذمة الموكّل. وهو للموكّل ان يضمِّن الوكيل ما دفعه إليه؟ والجواب: يُنظر: ? فإن كان دفع إليه في غَيْبة الموكِّل ضمن للموكل ما دفعه إليه، لأنه فرّط في ترك الإشهاد على الدفع. ? وإن كان في حضوره لا يضمن، لأن المفرّط هو الْموكَِل، إذ كان عليه أن يشهد على الدفع، لأن الإشهاد لمصلحته ولحقه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 6 - الوكالة لإثنين: إذا وكّل وكيلين في تصرّف، فهل للواحد منهما أن يتصرّف فيما وُكِّلا فيه منفرداًَ عن الآخر؟ فإن كان قد نصّ في الوكالة على أن لكِّل منهما أن يتصرّف دون الآخر صحّ له ذلك، وكذلك إذا كان توكيلهما على التعاقب أو على انفراد، ولم يكن بلفظ واحد، جاز لكلٍّ منهما أن يتصرّف دون أن يرجع إلى صاحبه. وإن كان التوكيل بلفظ واحد ينظر: فإن كان يتعلق بأمر فيه بدل مالي، كالبيع والشراء وقبض الدَّيْن والنكاح والطلاق على مال، لم ينفرد أحدهما عن الآخر، ولو تصرّف توقف تصرّفه على إجازة الآخر، لأن هذه التصرفات تحتاج الى مزيد من الرأي، والموكِّل رضى برأيهما ولم يرضَ برأي أحدهما، واجتماعهما ممكن، فلا ينفذ تصرّف أحدهما دون الرجوع الى الآخر، لأن الموكّل لم يأذن به. وإن كان التصرّف لا يتعلق بأمرٍ فيه بدل مالي، كالطلاق على غير مال وتسليم الهبة وقضاء الدَّيْن ونحو ذلك، فلكل واحد منهما أن ينفرد بالتصرّف، لأن هذه التصرفات لا تحتاج الى مزيد نظر ورأي، فتكون إضافة التوكيل إليهما تفويضاً بالتصرّف إلى كل واحد منهما على انفراده. وكذلك التوكيل بالخصومة لاثنين، لأن القصد منها إعلام القاضي بحق الموكِّل والمرافعة أمامه، وقد يكون في حضورهما معاً إخلال بذلك. 7 - اختلاف الموكِّل مع الوكيل: قد يختلف الموكِّل مع الوكيل في بعض الأمور، فما هو الحكم عند الاختلاف؟ وأبرز هذه الأمور الاحوال التالية: أ-الاختلاف في تلف ما في يد الوكيل: علمنا أن الوكيل أمين، وأنه لا يضمن ما تلف في يده إلا إذا فرّط أو تعدّى. فإذا ادّعى الوكيل أنه تلف في يده ما وكّله ببيعه مثلاً، أو الثمن الذي وكّله بالشراء به، أو الثمن الذي قبضه له ونحو ذلك، فكذّبه الموكِّل بدعواه وقال: لم يتلف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 شئ في يدك، فيصدَّق الوكيل بدعواه مع يمينه، لأنه أمين، والأصل عدم تضمينه، والتلف مما يتعذر إقامة البيِّنة عليه فلا يكلّف بها. إلا إذا ادّعى أن التلف حصل بأمر ظاهر لا يخفى، كحريق أو غرق أو نهب، فيكلّف إقامة البيّنة على هذا الأمر، لأنه ليس مما يتعذّر إقامة البيّنة عليه، فإن لم يقم بيِّنة على ذلك كان ضامناً لما كان في يده. ب- الاختلاف في التعدِّي أو التفريط: إذا توافق الموكِّل والوكيل في دعوى التلف، ولكن اختلفا في التعدِّي وعدمه، كأن يدّعى الموكِّل مخالفة الوكيل شروطه، أو التقصير في الحفظ، أو الاستعمال لنفسه ونحو ذلك، مما يُعتبر تعدّياً من الوكيل أو تقصيراً منه، والوكيل ينكر ذلك ويدّعي أنه ما تعدّى ولا قصّر، فالمعتبر قول الوكيل مع يمينه، لأن الموكِّل يدّعى عليه الضمان وهو ينكره، والقول دائماً قول المنكر مع يمينه، فإذا حلف فلا ضمان عليه. ج- الاختلاف في التصرف: كأن يدّعي الوكيل أنه باع ما وُكِّل ببيعه وينكر الموكِّل البيع، أو يقول الوكيل: بعتُ وقبضتُ الثمن وتلف، ويقول الموكّل: بعتَ ولم تقبض الثمن. فالقول - أيضاً - قول الوكيل مع يمينه، لأنه يملك التصرّف بالبيع والقبض بالإذن، ومَن ملك تصرفاً ملك الإقرار به. د- الاختلاف في الردّ: أي ادّعى الوكيل أنه ردّ ما في يده من حقوق الموكِّل إليه، كما لو ادّعى ردّ العين التي وكَّله ببيعها، أو ردّ الثمن الذي باع به، وأنكر الموكِّل ذلك: - فإن كانت الوكالة بغير جُعْل فالقول قول الوكيل بغير جعل فالقول قول الوكيل بيمينه، لأن قبضه للمال كان لصالح مالكه، فيُقبل قوله في ردّه. - وإن كانت الوكالة بجُعْل: فوجهان: قيل: لا يقبل قوله، لأن قبضه للمال كان لصالح نفسه، وقيل: يُقبل قوله، لأن منفعته كانت بعمله لا بقبضه لمال الموكِّل، وهذا القول هو الأرجح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 هـ- الاختلاف في التوكيل: إذا اختلف الوكيل مع الموكِّل في أصل الوكالة، فقال: وكّلتني بكذا، وقال الأصيل: لم أُوكِّلك: - فإن كان قبل التصرّف: فلا خصومة، أي يُرَدُّ ترافعهما أمام القضاء، إذ لا فائدة من ذلك، لأن إنكار الموكِّل في هذه الحالة الوكالة عزل للوكيل لو حصل التوكيل. - وإن كان بعد التصرّف: فالقول قول الموكِّل بيمينه، لأن الأصل عدم الإذن وعدم التوكيل، والوكَّيل يدّعيه والموكِّل ينكره، والمعتبر - كما علمنا - قول المنكِر بيمينه. وتسمية الطرفين هنا وكيلاً وموكِّلاً مجاز، حسب دعوى مدّعي التوكيل. والاختلاف في صفة الوكالة: إذا توافق الموكِّل والوكيل على الوكالة، ولكن اختلفا في صفتها، كأن قال الوكيل مثلاً: وكّلتني بالبيع إلى أجل، وقال الموكِّل: بل نقداً، أو قال الوكيل: وكّلتني أن أشتري لك كذا بألف، فقال الموكّل: بل بخمسمائة، أو قال الوكيل: وكّلتني بشراء سيارة، فقال الموكِّل: بل بشراء دار، وهكذا. فالقول قول الموكِّل مع يمينه، لأنه أعرف بحال الإذن الصادر منه، وأعلم بالعبارة التي نطق بها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 انتهاء عقد الوكالة ينتهي عقد الوكالة بأُمور، هي: 1 - الفسخ: عقد الوكالة عقد جائز من الطرفين: أي إن الموكِّلَ له فسخُ عقد الوكالة وعزل الوكيل عن التصرف متى شاء، لأنه قد يرى أن مصلحته في ترك التوكيل، أو يرى مصلحته في توكيل شخص آخر، والتوكيل إذن منه للتصرّف في ملْكه، فله أن يرجع عنه متى شاء. وكذلك للوكيل أن يفسخ الوكالة ويعزل نفسه عن التصرّف متى شاء، لأنه قد لا يتفرّغ للقيام بما وُكِّل به، أو قد يكون التوكيل في غير مصلحته، فلو كان ملزَماً بها لكان في ذلك إضرار به. ولا يختلف الحال سواء أكانت الوكالة بجُعْل أم بغير جٌعْل. وبناءً عليه: فلو عزل الموكِّل الوكيل فقد انتهت الوكالة، ويكون ذلك بقوله: رفعت الوكالة، أو أخرجتك منها، أو عزلت وكيلي عن التصرّف، أو أرسل إليه رسولاً يخبره بذلك، أو كتب إليه بعزله، ونحو ذلك. وإذا وقع العزل من الموكِّل فقد انعزل الوكيل في الحال، وخرج عن الإذن السابق له بالتصرّف، سواء أكان حاضراً أم غائباً، وبلغة خبر العزل أم لم يبلغه، لأن العزل رفع للعقد فلا يُشترط فيه الرضا، ولا يحتاج إلى العلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 فلو تصرّف بعد العزل وقبل العلم به فتصرّفه باطل. وكذلك الحال إذا عزل الوكيل نفسه، بأن قال: عزلت نفسي عن الوكالة، أو: رددتٌ الوكالة ونحو ذلك، فإنه ينعزل للحال وتنتهي الوكالة، ولو كان الموكِّل غائباً ولم يبلغه علم العزل. 2 - خروج أحد العاقدين عن أهلية التصرّف: علمنا أنه يشترط في الموكِّل والوكيل شروط حتى تصحّ الوكالة، فإذا اختلّ شرط من هذه الشروط في الموكِّل أو الوكيل فقد خرج عن أهلية التصرّف، وبالتالي بطلت الوكالة وانتهت، لأن اختلال هذه الشروط وعدم توفرها لو قارن العقد لما صحّت الوكالة، فكذلك إذا طرأ عليها فإنه يبطلها، وذلك مثل الجنون والإغماء والسفه والفلس. وكذلك تنتهي الوكالة بموت أحدهما: الوكيل أوالموكِّل، سواء أعلم الآخر بموته أم لم يعلم، لأن الموكّل يخرج عن أهلية الإذن بالتصرّف بموته، وكذلك الوكيل يفقد بالموت أهلية التصرّف. 3 - خروج محل التصرّف عن ملك الموكِّل أو ولايته: ومما تنتهي به الوكالة خروج محل التصرّف - أي محلّ التوكيل - عن ملْك الموكِّل أو ولايته، فينعزل الوكيل. ومثال خروجه عن ملْكه: ما لو باع العين التي وكَّله ببيعها أو وهبها، ونحو ذلك. ومثال خروج محل الوكالة عن ولاية الموكِّل: بما لو وكّله ببيع مال للصبي الذي تحت ولايته، ثم بلغ الصبي رشيداً، فيرتفع عنه الحَجْر، وتنتهي ولاية الموكِّل عليه، فيبطل إذنه في التصرف بأمواله بعد بلوغه، فتبطل الوكالة. ومثل خروج محل الوكالة عن ملْك الموكِّل أو ولايته هلاكه، كما لو وكّله ببيع سيارة فسُرقت، أو دار فهُدمت، أو وكّله بنكاح ابنته فماتت، فينعزل الوكيل في كل هذه الصور وتنتهي الوكالة، لأن محل التصرف لم يبق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 4 - قيام الوكيل بما وُكّل به: من الواضح أنه إذا قام الوكيل بالتصرّف الذي أذن له الموكِّل فيه وفوّض إليه القيام به فقد انتهت الوكالة، كما لو وكّله ببيع داره فباعها، أو بشراء سلعة معيّنة فاشتراها، أو بتزويجها من فلان فقبل زواجها له من وليّها، وهكذا، لأن توكيله بعد ذلك يصبح غير ذي موضوع، ولا محل فيه للتصرّف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 الباب الحادي عشر الإكَراه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 الإكَراه حقيقته ومعناه : في المصباح المنير: كَرُه الأمرُ والمنظرُ كراهةً فهو كريه، مثل قُبح قباحة فهو قبيح، وزناً ومعنىً، وكرهته أكرهه كرهاً - بضم الكاف وفتحها - ضد أحببته، فهو مكروه. والكَره - بالفتح - المشقة، وبالضم: القهر، وقيل: بالفتح الإكراه، وبالضم المشقة. وأكرهته على الأمر إكراهاً حملته عليه قهراً، يقال: فعلته كَرهاً - بالفتح - أي إكراهاً، وعليه قوله تعالى: (طوعاً أوكَرْهاً) (فصّلت: 11) فقابل بين الضدّين. والخلاصة: أن الإكراه في اللغة: حمل الغير على أمر يكرهه، أي إثبات الكره في نفس المكرَه، أي قيام معنى في نفسه ينافي المحبة والرضا، فالكره ضد لهما ويستعمل في مقابليهما، قال تعالى: (وعسى أن تَكْرَهُوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحِبُّوا شيئاً وهو شَرٌ لكم) (البقرة: 216). ويسمى الإغلاق، فكأن المكرَه أُغلق عليه باب ومنع من الخروج منه إلا بما أُكره عليه. وفي الاصطلاح: هو الإلجاء إلى فعل الشئ قهراً. وعرّفه الشافعي رحمه الله تعالى في "الأُم" بقوله: أن يصير الرجل في يدَيْ مَن لا يقدر على الامتناع عنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 ويحصل ذلك بالتخويف بمحذور كضرب وحبس وإتلاف مال، ويختلف ذلك باختلاف أحوال الناس: فالتهديد بالاستخفاف للوجيه بين الملأ، والحبس القصير له، إكراه بالنسبة إليه، وقد لا يكون إكراهاً بالنسبة لغيره. والتهديد بالضرف اليسير لمن كان من أهل المروءات والهيئات إكراه بالنسبة إليه، بينما قد لا يكون إكراهاً بالنسبة لغيره. والمعتبر بالتهديد بإتلاف المال التضييق على المكره في ماله، فما يعتبر تهديداً للفقير في ماله غير ما يعتبر في الغني. هذا وما يكون إكراهاً في حق نفسه يكون إكراها إذا كان في حق غيره، من الناس الذين يهمّه أمرهم ويغتمّ لإلحاق الأذى بهم، كالأُصول والفروع، والإخوة والأخوات ونحو هؤلاء، فلو هدِّد بقتل واحد منهم كان كالتهديد بقتل نفسه. شروط تحقّق الإكراه: حتى يتحقق الإكراه وتترتب عليه آثاره شرعاً فلا بد أن توجد فيه بعض الشروط وهي: 1 - أن يكون المكره قادراً على تنفيذ ما هدَّد به، وإلا كان هذياناً، لأن الضرورة الملجئة الى فعَل ما أُكره عليه لا تتحقق إلا عند قدرة المكرِه. 2 - أن يغلب على ظن المستكرَه أن المكرِه سيحقّق ما أَوْعد به وهدّد، إذا لم يُجب الى ما دُعى إليه ولم يقم بما طُلّب منه. 3 - أن يعجز المستكرَه عن التخلص من المكرِه وما أكره عليه، بهرب أو مقاومة أو استغاثة، أو نحو ذلك. 4 - أن يكون المستكرَه ممتنعاً عن فعل ما أُكره عليه قبل الإكراه لحقٍّ ما، أي لحق نفسه كإتلاف ماله، أو لحق شخص آخر كإتلاف مال غيره، أو لحق الشرع كشرب الخمر والزنا ونحو ذلك. 5 - أن يكون المهدِّد به أشد خطراً على المستكرَه مما أُكره عليه، فلو هدد إنسان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 198 بصفع وجهه إن لم يتلف ماله، وكان صفع الوجه بالنسبة إليه أقل خطراً من إتلاف المال، فلا يُعدّ هذا إكراهاً. أما لو هدده بالقتل إن لم يقطع يده، فإن هذا إكراه، لأن القتل المهدد به أشد خطراً مما أُكره عليه وهو قطع اليد، فله أن يختار الأهون، وقد ثبت عن عائشة رضى الله عنها قالت: "ما خُيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار أيسرهما" (البخاري في المناقب، باب: صفة النبي صلى الله عليه وسلم. ومسلم في الفضائل، باب: مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام واختياره من المباح أسهله). 6 - أن يترتب على فعل المكرَه به الخلاص من المهدد به: فلو قال انسان لآخر: اقتل نفسك وإلا قتلتك، لا يُعد هذا إكراهاً، لأنه لا يترتب على قتل النفس الخلاص مما هدِّد به. وكذلك لو هدَّد بقطع يده ما لم يقطعها بنفسه. فلا يصحّ للمستكرَه أن يقدم على ما أُكره عليه لأنه لا يسمى مكرَهاً حقيقة، لأن المكره حقيقة هو ما ينجو مما هدَّد به بالإقدام على ما طُلب منه. بل هو اذا قتل نفسه او قطع يده كان الخطر متيقِّناً، لأنه يفعله بنفسه. ولو لم يُقدم على ذلك لم يكن متيقِّناً مما هدِّد به، فربما كان الكره يخوِّفه بما لا يحقّقه. 7 - أن يكون المهدَّد به عاجلاً: فلو كان آجلاً لم يتحقق الإكراه، لأن التأجيل مظنة التخلّص مما هدِّد به بالاستغاثة والاحتماء بالسلطان، وما إلى ذلك. 8 - أن لا يخالف المستكرَه المكره بفعل غير ما أُكره عليه، أو بالزيادة عليه أو النقصان، لأنه في هذه الأحوال الثلاثة يكون طائعاً فيما أتى به، فلا يكون مكرهاً. فلو أكره إنسان شخصاً على طلاق امرأته، فباع داره، أو أكرهه على طلقة واحدة رجعية فطلّقها ثلاثاً، أو أكرهه على طلاق امرأته ثلاثاً، فطلّقها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 199 واحدة، فهذه الصور الثلاثة نافذة، أي تترتب أحكامها على المكلّف كما لو فعلها باختياره، لأنها ليست من الإكراه في شئ. 9 - أن يكون المكرَه عليه معيّناً، بأن يكون شيئاً واحداً، فلو أُكره إنسان على طلاق إحدى امرأتيه، أو على قتل زيد أو عمرو، فلا يعدّ هذا إكراهاً. 10 - ألاّ يكون المكره عليه أو المخوف به مستحَقّاً عليه: كما لو هُدِّد المفلسُ المحجورُ عليه ببيع ماله، أو هدِّد المُولى بالتطليق عليه، أو القاتل عمداً بالقصاص، فليس هذا بإكراه، لأن هذه الأمور المهدِّد بها مستحَقّه على المستكره. 11 - ألاّ يكون المهدِّد به حقاً للمكره، يتوصل به إلى ما ليس حقاً له ولا واجباً، كتهديد الزوج زوجته بطلاقها إن لم تُبرئه من دَيْنها، فلا يكون إكراهاً، فإذا أبرأته فقد سقط الدَّيْن من ذمته، وليس لها أن تطالبه بعد ذلك. وقال بعضهم: يُعتبر إكراهاً، لأن الزوج سلطان زوجته، فيتحقق منه الإكراه، وعلى هذا القول: لو أبرأته لتخلص من هذا التهديد لا تبرأ ذمته من الدَّيْن، وكان لها أن تطالبه به بعد ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 200 ما يقع عليه الإكراه من التصرفات وأثره فيها التصرفات التي يمكن أن يقع الإكراه على فعلها أو تركها نوعان: تصرفات حسيّة: أي أُمور تُعرف بالحواس، قولية كانت أم فعلية، كالأكل والشرب، والقتل والإتلاف، والشتم والكفر. تصرفات شرعية: أي أُمور عرفت بالشرع، حيث أعطاها اسماءً خاصة، ورتب عليها احكاماً معينة، كالبيع والنكاح والطلاق، وما إلى ذلك من عقود أو فسوخ. أولاً: التصرفات الحسيّة وأثر الإكراه عليها: يتعلق بالتصرفات الحسيّة نوعان من الأحكام: نوع يرجع إلى الآخرة من حيث المؤاخذة وعدمها، ونوع يرجع إلى الدنيا من حيث الضمان وترتّب العقوبة وعدم ذلك. فما هو أثر الإكراه على هذه التصرفات في أحكامها الأخروية أو الدنيوية؟ يختلف أثر الإكراه على التصرفات الحسيّة بحسب نوع التصرّف المكرَه عليه، فقد يصبح التصرّف مباحاً بعد أن كان حراماً ومحظوراً، وقد يرخّص به مع بقاء أصل المنع، وقد يبى على حُرمته فلا يُباح ولا يرخَّص به. وإليك بيانَ هذه الأنواع الثلاثة وأحكامها: النوع الأول: ما يُباح بالإكراه من التصرفات الحسيّة: من هذا النوع أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وشرب الخمر، ونحو ذلك من المحظورات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 201 فإذا أُكره المسلم على تعاطي شئ منها أُبيح له ذلك، لأن الله تعالى أباحها عند الاضطرار، فإنه سبحانه قال بعد تحريمها: "إلا ما اضْطُرِرْتم إليه" (الانعام: 119)، والاستثناء من التحريم دليل الإباحة. وقال جلّ وعلا: (فمَن اضْطُرّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فلا إثَم عليه) (البقرة: 173). ونفى الإثم دلل الإباحة ايضاً. والمستكرَه على تعاطيها مضطر، فيشمله الحكم. فلو امتنع من تعاطيها حتى ناله الأذى كان مؤاخَذاً، لأنه بامتناعه يُلقي بنفسه الى التهلكة، وقد نهى الله تعالى عن ذلك إذ قال: "ولا تُلْقوا بايديكم الى التهلكة" (البقرة: 195) هذا من حيث المؤاخذة الأُخروية. وأما من حيث الأحكام الدنيوية: فقد بحث الفقهاء في أثر الإكراه على شرب الخمر: هل يُحَدّ شاربه أوْ لا؟ وما حكم تصرّفاته حال سكره؟ فقالوا: إن مَن أُكره على شرب الخمر لا يُقام عليه الحدّ، لأن الحدّ شُرع زجراً عن فعل هذه الجناية في المستقبل، والمستكره على شرب الخمر لم يكن فعله جناية، لأنه أُبيح له، بل صار واجباً عليه، طالما أنه يأثم إذا لم يفعله حتى وقع عليه ما هدِّد به. وكذلك قالوا: لا تنفذ تصرفات من أُكره على الشرب حال سكره، لأن نفاذ تصرفات السكران تكون حال إثمه بسكره - أي عند شربه المُسكر باختياره دون عذر - تغليظاً عليه وزجراً له عن فعله، ولا معنى لهذا التغليظ حال الإكراه على السُكْر، لأن الغرض منه غير متحقِّق، إذ لم يقدم المستكرَه على الفعل باختياره، وهو غير آثم به كما علمت. والعمدة في هذا والذي سبقه: عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن أُمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". (اخرجه ابن ماجه في الطلاق، باب: طلاق المكرَه والناسي، وقد جاء الحديث من طرق عند غيره، مع اختلاف في بعض الألفاظ). والمعنى: وضع عنهم حكم ذلك وما يترتب عليه، لا نفس هذه الأمور، لأنها واقعة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 202 وعليه: فما يترتب على الإكراه موضوع، أي غير معتبر، والحديث يشمل الحكم الدنيوي والحكم الأُخروي. النوع الثاني: ما يرخَّص فيه بالإكراه من التصرفات الحسيّة: أ- قول أو فعلُ ما ظاهره الكفر: كأن يُجْري ألفاظ الكفر على لسانه، أو يسبّ النبي صلى الله عليه وسلم أو يسجد لصنم أو يعظّم ما يعظِّمه الكفّار تعظيم عبادة وتقديس، فمثل هذه الأقوال أو الأفعال يرخَّص له الإقدام عليها - وقلبه مطمئن بالإيمان - بسبب الإكراه. ودليل ذلك قوله تعالى: "مَنْ كفر بالله من بعد إيمانه إلا مَن أُكره وقلبُهُ مطئمنُّ بالإيمان ولكن مَنْ شَرَح بالكفر صدراً فعليهم غضبٌ من الله ولهم عذاب عظيم" "النحل: 106". وروى الحاكم عن محمد بن عمّار بن ياسر، عن أبيه رضى الله عنه قال: أخذ المشركون عمّار بن ياسر، فلم يتركوه حتى سبّ النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما وراءك؟. قال: شرٌ يا رسول الله، ما تُركت حتى نلتُ منك وذكرتُ آلهتهم بخير. قال: "كيف تجد قلبك؟ ". قال: مطئمنٌّ بالإيمان. قال: "إن عادوا فعد" قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (المستدرك: كتاب التفسير - تفسير سورة النحل - باب: حكاية اسارة عمار بن ياسر بيد الكفار: 2/ 357). وإنما رُخّص بذلك ولم يُبَحْ لأن الكفر لا يحتمل الإباحة بحال، فالحُرمة قائمة، إلا أن المؤاخذة سقطت بسبب الإكراه، فأَثَرُ الرخصة في تغيّر حكم الفعل - أي ما يترتب عليه من المؤاخذة وغيرها - لا في تغيّر وصفه وهو الحرمة. ولما كانت الحرمة قائمة، وكان التصرّف في هذا مرخّصاً فيه وليس مباحاً، كان الامتناع عن ذلك أفضل. وإن أدى امتناع المستكرَه عنها الى قتله أُثيب ثواب المجاهد في سبيل الله تعالى، لأنه جاد بنفسه في سبيل إعلاء كلمة الله عزّ وجل، وإظهاراً لإعزاز دينه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 وقد دلّ على ذلك: ? ما روى البخاري عن خباب بن الأرتّ رضى الله عنه قال: شكَوْنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو متوسِّدٌ بردة له في ظل الكعبة - قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجعل فيها، فيُجاء بالمنشار فيُوضع على رأسه فيشقّ باثنين، وما يصدُّه ذلك عن دينه. ويمشَطُ بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم او عصب، وما يصدّه ذلك عن دينه، والله لَيَتَّمَّنَّ هذا الأمرُ حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون". (اخرجه البخاري في المناقب، باب: علامات النبوة، رقم: 3416). ووجه الاستدلال بالحديث: أنه صلى الله عليه وسلم وصف الأُمم السالفة بالصبر على المكروه في ذات الله تعالى حتى أصابهم ما أصابهم، وأنهم لم يتظاهروا بالكفر ليدفعوا عن أنفسهم العذاب والقتل، وصفهم بذلك على سبيل المدح لهم وبيان فضيلتهم ومقامهم عند الله عزّ وجل، فدلّ ذلك على أن الصبر والاحتمال أفضل من التخلّص بالرخصة. ? وروى ان مسيلمة الكذّاب أخذ اثنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول فيَّ؟ قال: وأنت ايضاً، فخلّى سبيله وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول فيَّ؟ قال: أنا أصم، لا أسمع، فأعاد عليه ثلاث مرات، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أما الأول فقد أخذ برخصة الله تعالى، وأما الثاني فقد صدع بالحق، فهنيئاً له". ? وكذلك ما ثبت من قصة خبيب رضى الله عنه، وأنه حين أخذه الكفار وباعوه لأهل مكة، أخذوا يعذِّبونه ليذكر النبي صلى الله عليه وسلم بالسوء فلم يفعل، فقتلوه، فبلغ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 204 ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر صبره وعدم ترخّصه، بل روى أنه قال فيه: "هو سيد الشهداء وهو رفيقي في الجنة". والذي سبق فيما يتعلق بأحكام الآخرة. وأما ما يتعلق بأحكام الدنيا من أثر الإكراه على الكفر: فإن المستكرَه على ذلك لا يُحكم بكفره، ولا يُعامل معاملة المرتد. قال الشافعي رحمه الله تعالى في معرض الكلام عن قوله تعالى: "إلاِّ مَن أُكره .. ": وللكفر أحكام، كفِراق الزوجة، وأن يُقتل الكافر ويُغنم ماله، فلما وضع الله عنه سقطت عنه أحكام الإكراه على القول كله، لأن الأعظم إذا سقط عن الناس ما هو أصغر منه وما يكون حكمه بثبته عليه. الإكراه على الإسلام: إذا أُكره إنسان على الإسلام فأسلم اعتُبر إسلامه صحيحاً، وعومل معاملة المسلمين، لأنه إكراه بحق، ولا سيما في المرتد والحربي، وإن احتمل الكفر في قلبه، ترجيحاً لجانب الإسلام، لأن في ذلك إعلاءً للدين الحق، وإعلاء الدين الحق واجب. ب-إتلاف مال المسلم أو النَّيْل من عرضه: فلو أُكره على إتلاف مال المسلم رُخص له بذلك، ولا يأثم بالإقدام عليه، لأن مال غيره يرخص له باستهلاكه حال الاضطرار إليه، لدفع الهلاك عند شدة الجوع ونحوه، فكذلك حال الإكراه لأنه نوع اضطرار. وكذلك لو أُكره على شتم المسلم والطعن في عرضه وما إلى ذلك. ولو امتنع المستكرَه على الإتلاف أو الطعن كان أفضل، وإذا أصابه أذى في سبيل ذلك أُثيب عليه، لأن حُرمة مال المسلم وعرضه ثابتة بقوله صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه". (اخرجه مسلم في البرّ والصلة والآداب، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 205 باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وماله وعرضه، رقم: 2564). فلا يجوز التعرّض لها على كل حال، إلا أنه رخص بذلك بسبب الإكراه، والرخصة - كما سبق وعلمنا - تؤثر في سقوط المؤاخذة لا رفع الحرمة، فإذا امتنع عن الرخصة كان ذلك إيثاراً لحفظ حق حُرمة أخيه المسلم على حق نفسه، فكن مأجوراً غير مأزور. ويؤكد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن قتل دون ماله فهو شهيد": أي مَن قاتل دفاعاً عن ماله فقُتل كان له أجر الشهيد. (اخرجه أبو داود في كتاب السنّة، باب: في قتال اللصوص، رقم: 4771. والترمذي في أبواب الديات، باب: ما جاء فيمن قُتل دون ماله فهو شهيد، رقم: 1418). وهذا يدل على أنه إذا أُكره على إتلاف مال نفسه فامتنع كان أفضل، وإذا كان الامتناع في حق مال نفسه أفضل، كان في حق مال غيره من باب أولى. ومن حيث الحكم الدنيوي: فقد قال الفقهاء: إذا أُكره إنسان على اتلاف مال غيره فأتلفه، كان لصاحب المال تضمين المكرِه أو المستكرَه، بمعنى أن له أن يطالب أيّهما شاء، لأن المكرِه تسبب بالإتلاف، والمستكرَه هو الذي باشره، والتسبّب بالفعل ومباشرته سواء. ولكن الضمان يستقر في النهاية على المكرِه، أي إذا ضمن المستكرَه رجع بما غرمه على المكره في الأصح. النوع الثالث: ما لا يُباح ولا يرخّص فيه بالإكراه من التصرفات الحسيّة: هناك تصرفات محظورة شرعاً، وحرمتها ثابتة بالعقل كما هي ثابتة بالشرع، ولذلك لا تُباح ولا يرخّص بها في حالٍ من الأحوال، من ذلك: أ-قتل المسلم بغير حق: لأن القتل حرام محض، ولا يُستباح للضرورة ولا يرخص فيه. قال تعالى: "ولا تقتلوا النفس التي حرَّم اللهُ إلا بالحق" (الانعام: 151). وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ دم امرءٍ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثَيب الزاني، والمفارق لدينه التارك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 206 للجماعة". (أخرجه البخاري في الديات، باب: قوله تعالى: "وأن النفس بالنفس"، رقم: 6484. ومسلم في القسامة، باب: ما يُباح به دم المسلم، رقم: 1676). [النفس بالنفس: أي القاتل عمداً وعدواناً يقتل. الثَّيب الزاني: المتزوج الذي ارتكب الفاحشة، المفارق لدينه: المرتد عن الإسلام. التارك للجماعة: الخارج على جماعة المسلمين وعامّتهم، والمخالف لمنهجهم وطريقتهم]. ومثل القتل من حيث الحرمة وعدم الترخيص بالإكراه قطع عضو من أعضائه، أو الضرب المهلك الذي يُلحق به أذىً شديداً، لأنه اعتداء، والاعتداء حرام. قال تعالى: "والذي يُؤْذُون المؤمنين والمؤمنات بغيرِ ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً" (الاحزاب: 58). وعليه: فمَن أُكره على شئ مما سبق فأقدم عليه كان آثماً عند الله عزّ وجل باتفاق الفقهاء، سواء أكان الإكراه تاماً أم ناقصاً. وأما من حيث الأحكام الدنيوية: ? فالأصح عند الفقهاء: أنه يُقتص من المكرِه والمستكرَه، لأن المستكره باشر القتل ووُجد منه حقيقة، والمكرِه متسبِّب بالقتل وحامل عليه، والمتسبِّب كالمباشر، فيُقتص منهما، تغليظاً لأمر الدماء وزجراً عن الاعتداء. ب-الزنا: فهو من المحرّمات التي لا تُباح ولا تُرخّص في حال من الأحوال، لاتفاق الشرائع والعقل على حرمتها، لفحشها ونكارتها. قال تعالى: (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشةً وساء سبيلاً) (الاسراء: 32). فإذا لأُكره إنسان على الزنا لم يرخَّص له بالإقدام عليه، رجلاً كان أم امرأة، فإن أقدم عليه كان آثماً ومؤاخذاً عند الله عزّ وجل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 207 وأما من حيث إقامة الحدّ على المستكرَه على الزنا: فقد قال الفقهاء: لا حدّ على المستكرَه على الزنا، رجلاً كان أم امرأة، لوجود الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، أي تُدفع وتُسقط إذا لابَسَتْها شبهة، والشبهة هنا قائمة بسبب الإكراه. ثانياً: التصرفات الشرعية وأثر الإكراه فيها: التصرفات الشرعية إما أن تكون إنشاءً أو إقراراً. والتصرفات الإنشائية نوعان: نوع لا يحتمل الفسخ والردّ: كالطلاق، والنكاح، والرضاع، والرجعة، واليمين، والنذر، والظهار، والإيلاء، والفئ في الإيلاء، والعفو عن القصاص. فهي تصرفات لازمة تلزم بمجرد انعقادها، ولا تقبل فسخاً ولا ردّاً. ونوع يحتمل الفسخ والردّ: كالبيع والشراء، والإجارة، والهبة، ونحو ذلك. فإنها تصرفات لا تلزم بمجرد انعقادها، فهي تقبل الفسخ أو الرد. أثر الإكراه في التصرفات الإنشائية التي لا تحتمل الفسخ : قال الفقهاء: إن الإكراه على إيقاع شئ من هذه التصرفات يفسدها ويجعلها غير معتبرة، فلا يترتب عليها شئ من آثارها المعتبرة شرعاً، فالإكراه يجعلها كأنها لم تكن، ولو وقعت من المستكرَه عليها. واستدلوا على ذلك عموماً: بأن التلفّظ بالكفر حالة الإكراه لم يعتبره الشرع، ولم يترتب عليه أثراً من الآثار، وهو أشد من أيّ قول شرعاً، وإذا سقط حكم الأشد سقط حكم الأخف من باب أولى، فلا يترتب أثر على أيّ تصرّف قولي مع الإكراه. فلو أكره على النكاح: فإن العقد لا يثبت، ولا يترتب عليه آثاره: من وجوب المهر، وحِلّ الاستمتاع وما الى ذلك، لما ذكرناه. وذلك على هذا أيضاً: ما رواه البخاري عن خنساء بنت خذام الأنصارية رضى الله عنها: أن أباها زوّجها وهي ثِّيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردّ نكاحها، (أخرجه البخاري في النكاح، باب: إذا زوّج الرجل ابنته وهي كارهة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 208 فنكاحه مردود، رقم: 4845. واخرجه النسائي ايضا في النكاح، باب: الثيب يزوجها ابوها وهي كارهة: 6/ 86). ويؤيده ايضاً: ما رواه النسائي عن عائشة رضى الله عنها: أن فتاة دخلت عليها فقالت: إن أبي زوّجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته: فأرسل إلى أبيها فدعاه، فجعل الأمر إليها. (أخرجه النسائي في النكاح، باب: البكر يزوِّجها أبوها وهي كارهة: 6/ 86). [ليرفع بي خسيسته: ليُزيل بسب تزويجي منه دناءته]. وكذلك لو أُكره على الطلاق، فإنه لا يقع طلاقه. روى ابو داود عن عائشة رضى الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا طلاقَ ولا عتاقَ في غَلاق" وعند ابن ماجه والحاكم: "في إغلاق" وفُسِّر الإغلاق بالإكراه، لأن المكرِه كأنه أغلق عليه أمره وتصرفه. (ابو داود في الطلاق، باب: في الطلاق على غلط، رقم: 2193. وابن ماجه في الطلاق، باب: طلاق المكره والناسي، رقم: 2046. والحاكم في المستدرك: الطلاق، باب: لا طلاق ولا عتاق في الإغلاق: 2/ 198). وهكذا سائر هذه التصرفات لا تُعتبر مع الإكراه، ولا يترتب عليها أيّ أثر من آثارها الشرعية، للأدلة الخاصة والعامة، ومنها ما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم: "وما استُكرهوا عليه" الذي دلّ على رفع حكم الإكراه، ورفعه لا يكون إلا بانعدام ما يتعلق بالتصرّف المكرَه عليه من أحكام. ويُستثنى مما سبق: ما لو أُكرهت المرأة على الرضاع، أو أُكره الرجل على الوطء، فإنه لا أثر للإكراه هنا، بل يترتب على ذلك ما يتعلق به من أحكام شرعية: فتثبت بالرضاع الحُرمة، إذا وُجدت شروطها، كما يترتب على الوطء كامل المهر بعد العقد وغير ذلك من أحكام. أثر الإكراه في التصرفات الانشائية التي تحتمل الفسخ: قال الفقهاء: إذا وقع الإكراه على شئ من هذه التصرفات أبطلها، فلا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 209 يترتب عليها شئ من آثارها المعتبرة شرعاً، لأن شرط صحة هذه التصرفات الرضا، وهو معدوم حالة الإكراه، فلم تصحّ ولم تُعتبر شرعاً، لعدم تحقّق شرطها. قال في [مغني المحتاج]: فلا يصحّ عقد مكرَه في ماله بغير حق، لقوله تعالى: "إلا أن تكونَ تجارةٌ عن تراضٍ منكم" (النساء: 9). والعقد المالي يشمل البيع والإجارة والهبة والحوالة والوكالة، وغير ذلك من العقود التي لها علاقة بالمال. أثر الإكراه على الإقرارات من التصرفات الشرعية: اتفق الفقهاء على أن الإكراه على الإقرار يُلغيه، ولا يرتب عليه أي اثر، سواء أكان المقرّ به: تصرفًا حسيّاً، كمن أُكره ليقرّ بالزنا، أو شرب الخمر، أو القتل، أو غير ذلك. أو كان تصرفاً إنشائياً لا يحتمل الفسخ، كالنكاح والطلاق ونحوهما. أو كان تصرفاً إنشائياً يحتمل الفسخ، كالبيع والإجارة ونحوهما. والعمدة في هذا: 1 - أن الإقرار بالكفر لم يُعتبر حال الإكراه، ولم يترتّب عليه أيّ أثر، فمن باب أولى أن لا يُعبتر الإقرار بغيره ولا يترتب عليه أثر ما. 2 - عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "وما استُكرهوا عليه" فإنه يدل على رفع حكم كل تصرف أُكره عليه، والإقرار تصرّف من التصرفات، فالإكراه عليه يرفع حكمه، فلا يترتب عليه أيّ أثر من آثاره. 3 - الإقرار خبر يحتمل الصدق والكذب، ورُجِّح جانب الصدق حالةَ الاختبار وصحّ الإقرار، لأن الإنسان لا يُتّهم بالكذب على نفسه. وحالةَ الإكراه يترجح جانب الكذب بسبب التهديد القائم، فلا يصحّ الإقرار. 4 - الإقرار من باب الشهادة، قال تعالى: "ياأيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم" (النساء: 135). والشهادة على النفس ليست إلا إقراراً، فكان الإقرار في حكم الشهادة، والشهادة تردّ بالتهمة ولا تصح، والمقرّ حالة الإكراه متهم في شهادته على نفسه، فلا يقبل إقراره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 210 أثر الإكراه على التصرفات المخير فيها : ما سبق من كلام عن أثر الإكراه في التصرفات إنما هو حال كون المكرَه عليه أمراً واحداً معيناً. فإذا كان الإكراه على امر غير معين، كأن يكرهه على شرب الخمر او إتلاف المال، او يكرهه على الطلاق او الإيلاء، أو يكرهه على البيع أو الإجارة، ثم يقدم المستكره على أحد الأمرين، ويوقعه، فما هو أثر الإكراه على هذا التصرف؟ والجواب: أنك قد علمت أن من شروط تحقّق الإكراه أن يكون المكره عليه معيناً، فإذا كان مخيَّراً فيه لم يتحقق الإكراه، وبالتالي لا أثر للإكراه على التصرف المخير فيه، أي على احد أمرين دون تعيين، فإذا أقدم المستكرَه على تصرّفٍ ما في هذه الحالة كان تصرفه صحيحاً، وترتبت عليه آثاره المعتبرة شرعاً كما لو فعله مختاراً، لأن إقدامه عليه مع التخيير بينه وبين غيره على أنه فعله مختاراً غير مستكره. ويستوي في هذا ما إذا كان الأمران من التصرفات الحسيّة أو الشرعية أو غيرها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 211 الباب الثاني عشر الغَصَب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 213 الغَصَب تعريفه: الغصب - في اللغة - أخذ الشئ ظلماً. وشرعاً: هو الإستيلاء على حق غيره عُدْواناً. والمراد بحق غيره: ما كان عيناً كدار ونحوها، أو منفعة كسكنى الدار بغير رضاه، أو اختصاصاً ككلب صيد ونحوه، وكحق الشرب ونحوه. وقولنا: (عدواناً) أي على جهة التعدّي والظلم، أي بغير رضاً من صاحب الحق، بل قهراً عنه. فلو أكل طعام غيره بغير إباحة منه ولا عقد فهو غصب. ولو سكن دار غيره بغير رضاه، فهو غاصب، ولو أعطاه أُجرة. ولو جلس على فراشه بغير إذن منه فهو غاصب أيضاً، وهكذا. وهنا ننبّه إلى ما يفعله الكثير من الناس في هذا الزمن من سكنى دور غيرهم، أو استخدام حوانيتهم، بأُجور لا يرضَوْن بها، فإن هؤلاء غاصبون، وتنطبق عليهم جميع أحكام الغصب الدنيوية والأُخروية، وإن كانوا يظنون أنهم يحسنون صنعاً حين يدّعون أنهم مستأجرون وأنهم يدفعون أُجوراً حسب الاتفاق القديم، فلا تنطبق عليهم أحكام الإجارة، لأنهم في الحقيقة غاصبون وليسوا بمستأجرين. تحريمه: الغصب حرام شرعاً، وهو من الكبائر، لما ورد من زجر عن التعدِّي على الأموال، ووعيد على أخذها بغير حق، ومن ذلك آيات في القرآن وأحاديث من السنة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 215 أما آيات القرآن: فمنها قوله تعالى: "ولا تأكلوا اموالَكم بينكم بالباطل وتُدْلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون" (البقرة: 188). ? ومنها قوله تعالى: "إنَّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيَصْلَوْن سعيرا" (النساء: 10) ? وأما الأحاديث: ? فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام .. " (اخرجه البخاري في العلم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: رب مبلغ اوعى من سامع، رقم: 67. ومسلم: القسامة، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، رقم: 1679). ? ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه" (اخرجه الدارقطني في البيوع، الحديث: 91، ج3، صفحة 26). ? ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "من أخذ شبراً من الأرض ظلماً فإنه يُطَوَّقُه يوم القيامة من سبع أرضين". (البخاري: بدء الخلق، باب: ما جاء في سبع ارضين، رقم: 3026. ومسلم: المساقاة، باب: تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، رقم: 1610). وقد أجمع المسلمون على تحريم الغصب - بكل أشكاله وألوانه - في كل العصور، من لدن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 216 أحكام الغصب يترتب على الغصب حكم أُخروي وحكم دنيوي: أما الحكم الأُخروي: فهو الإثم واستحقاق المؤاخذة والعقاب في الآخرة، إذا تعدى على حقوق غيره عالماً متعمداً، لأن ذلك معصية كبيرة كما علمت، وفعل المعصية عالماً متعمداً يستوجب العقاب والمؤاخذة عند الله عزّ وجل إذا لم يتب منها قبل فوات أوان التوبة. وأما الحكم الدنيوي : فإنه يتناول ما يلي: 1 - تأديب الحاكم للغاصب: وتعزيره بما يراه رادعاً له ولغيره عن مثل هذه المعصية، بالضرب أو السجن ونحو ذلك، حتى ولو عفا المغصوب منه عن الغاصب. لأن ذلك حق لله تعالى، وحسم للشرّ، وإغلاق لباب الظلم والاعتداء. 2 - الكف عن الغصب فوراً: وذلك بردّ المغصوب - إذا كان عنياً - ما دام قائماً، لأن الغصب معصة كما علمنا والخروج عن المعصية واجب فوري قدر الإمكان. ودليل ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يأخذنّ أحدكم متاع أخيه جادّاً ولا لاعباً، وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردّها عليه" (أخرجه الترمذي في الفتن، باب: ما جاء لا يحلّ لمسلم أن يروِّع مسلماً، رقم: 2161. وأبو داود في الأدب: باب: مَن يأخذ الشئ على المزاح، رقم: 5003). الجزء: 7 ¦ الصفحة: 217 وترد العين المغصوبة إلى مكان غصبها، وكلفة الرد ونفقته إنما كون على الغاصب، لأن الردّ واجب عليه، وإذا كان لا يتم إلا بالنفقة كانت النفقة واجبة، إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما هو معلوم. وإنما يحصل الردّ في العين المغصوبة بوضعها بين يَدَيْ من غُصبت منه، بحيث يتمكن من أخذها وإثبات يده عليها، ويخرج عن الغصب في الحقوق الأُخرى بتمكين صاحب الحق مما غصب منه، وإزالة الموانع من إثبات يده عليه والاستفادة منه. وإذا حصل الرد للمغصوب خرج الغاصب من حكم الغصب وبرئ من الضمان. 3 - ضمان المغصوب إذا تلف في يد الغاصب: إذا تلف المغصوب في يد الغاصب ضمنه، سواء أتلفه هو أم تلف بنفسه أو بآفة سماوية أو غير ذلك، لأنه متعدٍّ في إثبات يده عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "على اليد ما أخذت حتى تؤدِّيه". وهذا صريح في أنه مسؤول عن أداء ما أثبت يده عليه وردّه، فإذا عجز عن ردّه لهلاكه كان ضامناً له، وعليه أن يردّ بدله من مثل أو قيمة. كيفية ضمان المغصوب: إذا تلف المغصوب في يد الغاصب كان عليه أن يرد بدلاً عنه ما هو أقرب إليه وأشبه به: فإن كان مثلياً وجب عليه ردّ المثل، لقوله تعالى: "وإن عاقبْتُم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" (النحل: 126) أي بمثل ما وقع عليكم من الفعل الذي يستحق العقاب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 218 والمثلى من الأعيان: هو ما يوجد له في الأسواق مثيل لا يتفاوت عنه تفاوتاً يُلتفت إليه، والمثليات في هذه الأزمان كثيرة، لاسيما المصنوعات، لأنها تُصنع بآلة واحدة، ومن المثليات ما يُباع كيلاً كالزيت ونحوه، أو وزناً كالسكر ونحوه، وكذلك العدديات المتقاربة كالبيض والجوز، والذرعيات، وهي ما يباع بالذرع بالمقاييس المتعارفة كالثياب ونحوها، إذا كانت من نوع واحد. فإذا كان المغصوب قيمياً، وهو ما لا مثيل له على النحو السابق، أو كان مثلياً ولكن تعذّر ردّ المثل، وجب ردّ القيمة بدلاً عن المغصوب نفسه، الذي وجب ردّه بذاه ما دام قائماً، دفعاً للضرر ما أمكن عن المغصوب منه. ومن الاشياء القيمية الحيوانات، فكل واحد منها من نوعه يختلف عن الآخر في قيمته، لاختلاف الصفات المميزة له عن غيره. وكذلك السيارات والدور وغيرها من الأمتعة التي تختلف قيمتها باختلاف مزاياها وصفاتها. وإنما يتعذّر ردّ المثل في المثليات: إذا انقطع المثل من الأسواق، فلم يوجد بعد البحث عنه والسعي لتحصيله، أو وجد بثمن يزيد زيادة فاحشة عن مثله عادة، فلا يكلّف شراءه في هذه الحالة، وإنما يتوجب عليه ردّ القيمة. القيمة الواجب ردّها: إذا حكِم على الغاصب بقيمة المغصوب، لكونه قيمياً أو لتعذّر المثل، فما هي القيمة المقدّرة؟ والجواب: - إذا كان المغصوب مثليا: وجب ردّ أقصى قيمة له من يوم الغصب إلى يوم تعذّر وجوده، إن كان موجوداً وقت التلف، فإن كان مفقوداً يوم التلف وجب ردّ أقصى قيمة له من يوم الغصب إلى يوم التلف. - وإن كان قيمياً: وجب ردّ أقصى قيمة له من وقت الغصب إلى وقت التلف. فلو كان عند الغصب قيمته الفاً، ونزل سعره بعد ذلك، وجب الألف. ولو كان عند الغصب خمسمائة، وارتفع في يوم من الأيام إلى ألف، ثم نزل الى سبعمائة، وجب الألف ايضاً، وهكذا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 219 وإنما وجبت القيمة بأقصى ما بلغت إليه: لأنه كان غاصباً له في الوقت الذي زادت فيه قيمته، فلزمه ضمان قيمته في ذلك الوقت الذي غصبه فيه. ما يترتب على ضمان المغصوب: إذا ضمن الغاصب العين المغصوبة لمالكها، ودفع له البدل، ترتب على ذلك: أ- ان المغصوب منه يملك البدل الذي دفع له، فتصحّ جميع تصرفاته فيه من بيع وهبة وإجارة ونحو ذلك. ب-لا يملك الغاصب العين المغصوبة بضمانها، فلو ظن هلاك العين المغصوبة - كما لو ضاعت أو سرقت - ضمنها الغاصب ووجب عليه ردّ بدلها للمغصوب منه، لأنه حيلَ بينه وبين ملْكه، فاستحق بدله، فإذا وُجد بعد ذلك وعاد إلى يد الغاصب فإنه لا يملكه بضمانه، بل عليه ردّه إلى المغصوب منه، لأن الأصل أن الواجب ردّ عين المغصوب، فحين تعذّر ذلك عُدل الى البدل، وحيث تمكّن من ردّ الأصل لا يعدل عنه، فيجب ردّه، وبهذا يتبين أنه لم يملكه. فإذا ردّ العين المغصوبة الى المغصوبة منه جب عليه ردّ البدل الذي أخذه على الغاصب، فإن كان قد زاد زيادة متصلة - كالسِّمَن مثلاً - رُدّت مع البدل ضرورة، وإن كانت الزيادة منفصلة - كالولد أو أُجرة الدار - لم يردّها مع البدل، لأنها حدثت على ملكه. 4 - تصرفات الغاصب بالعين المغصوبة: إذا تصرّف الغاصب بالعين المغصوبة - بيعاً أو هبة أو إجارة أو إعارة أو وديعة ونحو ذلك - كان تصرفه باطلاً، لا يترتب عليه أيّ أثر شرعي له، وسرى حكم الغصب على مَن انتقلت العين إلى يده فكان ضامناً للعين المغصوبة كما لو كانت في يد الغاصب، لأن كلاًّ من هؤلاء قد وضع يده على ملْك غيره بغير إذنه، ولو كان يجهل أنها مغصوبة، لن الجهل يُسقط الإِثم ولا يسقط الضمان، كما لو أتلف مال غيره بغير قصد أو علم، فإنه يضمن وإن كان لا يأثم. وعليه: إذا تلف المغصوب كان للمغصوب منه أن يطالب مَن شاء من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 220 الغاصب ومَن انتقلت إليه العين بالضمان، فإذا طالب غير الغاصب وغرمه رجع على الغاصب بما غرم، إن كان لا يعلم الغصب وكانت يده في تصرفه يد أمانة كالمودَع والمستأجر، أما إن كانت يده في الأصل يد ضمان كالمستعير والمشتري والمقترض ونحوهم، فلا يرجعون، لأنهم تعاملوا مع الغاصب على أنهم ضامنون، فلا تغرير من الغاصب بهم. وإن كان على علم بالغصب فليس له أن يرجع عليه، لأنه لم يغرر به، وهو يعلم أنه غاصب. 5 - تغيّر العين المغصوبة: إذا تغيرت العين المغصوبة في يد الغاصب يُنظر: - فإن كان تغيّرها بنفسها - كما لو غصب بيضاً فصار فرخاً، أو غصب زرعاً فصار حبّاً - فللمغصوب منه الرجوع به، لأنه عين ماله، وإن نقصت قيمته بالتغيّر كان له أن يطالب الغاصب بقيمة هذا النقص، لأنه حدث في يده، وإن زادت القيمة فليس للغاصب شئ، لأن الزيادة نماء الأصل وتبع له، فهي ملْك لمالك الأصل. - وإن كان التغيّر بوصف العين المغصوبة بسبب عمل عمله الغاصب فيها يُنظر: فإن كان التغيّر بالعمل وحده، دون إدخال عين أُخرى على المغصوب - كما لو كان ثوباً فقصّره، أو غزلاً فنسجه، أو خشباً فصنعه باباً - ردّه أيضاً على المالك لأنه عين ملكه، وليس للغاصب شئ بدل عمله وإن زادت قيمته، لأنه عمل بدون إذن، فهو متبرع بعمله، فلا يستحق بدلاً عنه. ? وإن كان التغيّر بإضافة عين له - كما لو كان ثوباً فصبغه، أو داراً فطلاها أو طيّنها - ينظر: ! إن لم تزد قيمة المغصوب مع التغيير استردّه المغصوب منه وليس للغاصب شئ، لأن قيمة ما أضافه استهلكت بفعله. ! وإن نقصت قيمته مع التغيير عمّا كانت عليه قبله: وجب على الغاصب ضمان ما نقص، لأن النقص حصل بفعله. ? وإن زادت القيمة بعد التغيير يُنظر: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 221 فإن صارت القيمة تساوي قيمة المغصوب وقيمة العين المضافة: اشتركا في ثمنه بنسبة ما لكل واحد منهما، فلو كانت قيمة المغصوب مائة، وقيمة المضاف إليه خمسين، كان ثمنه بينهما أثلاثاً، وإن كانت قيمة كل منهما مائة كان الثمن بينهما نصفين، وهكذا. وإن لم تساوِ القيمة قيمة المغصوب والعين المضافة، كما لو صارت القيمة مائة وخمسين، وكانت قيمة المغصوب مائة وقيمة المضاف مائة، كان للمغصوب منه قيمة ملكه - وهو مائة مثلاً - وللغاصب خمسون، وهو فرق زيادة القيمة بفعله وما أضافه. وإن زادت القيمة عن قيمة المغصوب والمضاف إليه - كما لو صارت القيمة ثلاثمائة في المثال السابق - كان لكلٍّ منهما من الزيادة - بالإضافة إلى قيمة عينه - بنسبة ملْكه. فإذا كان ملْك كلٍّ منهما مائة كانت الزيادة مناصفة بينهما، وإن كانت قيمة ملْك أحدهما ضعف قيمة ملْك الآخر مثلاً، كانت الزيادة بينها اثلاثاً، وهكذا. وإن كان التغيّر في ذات المغصوب واسمه بفعل - كما لو كان حنطة فطحنها، أو شاة فذبحها - لم ينقطع ملْك المالك عنه، وكان له استرداده، فإن نقصت قيمته بذلك كان له أن يطالب بأرش النقص، لأنه نقصان في عين المغصوب حصل في يد الغاصب وفعله، فوجب ضمانه. ولو طالب المغصوب منه ببدله لم يكن له ذلك، لأن عين ماله باقية، فلا يملك المطالبة ببدلها. 6 - نقص المغصوب: النقص في المغصوب قد يكون نقصاً حسياً، وقد يكون معنوياً: فالنقص الحسي: إن كان له بدل مقدّر يضمن به، كنقص جزء من العين فإنه مضمون على الغاصب حتى ولو لم تنقص قيمة العين، كما لو غصب أشياء مثلية فتلف بعضها، وكانت قيمة ما بقى تساوي قيمة الجميع، أو غصب شاة فذهبت عينها، ولم تنقص قيمتها بذلك، فعليه ردّ مثل ما تلف أو قيمة ما نقص. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 222 وإن لم يكن للنقص الحسيّ بدل مقدّر يضمن به، ولا يضمن إلا بنقص القيمة، كما لو كانت الشاة سمينة فهزلت، فإن نقصت قيمتها ضمن ذلك النقص، وإن لم تنقص قيمتها لم يلزمه شئ. والنقص المعنوي: أن تنقص القيمة دون أن تنقص العين، ذلك بسبب انخفاض الأسعار، فإن الغاصب لا يضمن هذا النقص إذا ردّ العين المغصوبة كما غصبها، لبقاء المغصوب على حاله، والذي فات هو رغبات الناس. أما لو تلفت أو تلف جزء منها: فإنه يضمن قيمتها أو قيمة ما تلف منها بأرفع ما وصلت إليه القيمة كما علمت. 7 - زوائد المغصوب: إذا زادت العين المغصوبة في يد الغاصب كانت تلك الزيادة ملكاً للمغصوب منه، لأنها نماء ملكه، ودخلت تلك الزيادة في حكم الغصب كالأصل، وكانت مضمونة على الغاصب كأصلها، لأنها تبع له، والتابع في الوجود تابع في الحكم. ولا فرق في ذلك بين أن تكون الزيادة متصلة كالسِّمَن، أو منفصلة كالثمرة للشجر والولد للحيوان. فإذا تلفت الزيادة المنفصلة في يد الغاصب ضمنها كما يضمن أصلها لو تلف، وكذلك لو هزلت الدابة بعدما سمنت عنده ضمن الفرق بين قيمتها سمينة وقيمتها هزيلة. 8 - منافع المغصوب: إذا كان للعين المغصوبة منفعة، كسكنى الدار وركوب الدابة أو السيارة ونحو ذلك، فإنها تدخل في ضمان الغاصب، سواء استوفاها بنفسه أم بغيره أم لم يستوفها، فيلزمه أُجرة المثل أقصى ما كانت، من حين الغصب إلى حين ردّ العين المغصوبة، أو تلفها في يده، إذا كانت المدة مما يقابل بأُجرة عادية، وذلك لأن المنافع أموال، وقد عطلها على مالكها بغصبه لأصلها، فهو غاصب لها أيضاً، فيلزمه ردّ بدلها وهو أُجرة المثل، ويلزمه أقصى أُجرة لها لأنه معتدٍ وغاصب، وقد فوّتها على المالك حين ارتفع أجْرها وهو غاصب لها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 223 وهذه الأُجرة التي تلزمه هي بدل المنافع، فإذا تلفت العين في يده لزمه ضمانها أيضاً. 9 - البناء على الأرض المغصوبة وغرسها أو زرعها: إذا غصب أرضاً وبنى عليها بناءً أو غرس فيها أشجاراً كلِّف بنقض البناء وقلع الغراس، وتسوية الأرض كما كانت، ووجب عليه أرش نقص قيمة الأرض إن نقصت بذلك، وأُجرة مثل الأرض إن مضت مدة لمثلها أُجرة، لأنه متعدٍّ في ذلك كله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس لعرق ظالم حق". (انظر تخريجه صفحة: 51). ولو أراد المالك تملك البناء أو الغراس بقيمته لم يُلزم الغاصب بذلك، لأن البناء والغراس ملكه، فلا يتملك منه بغير رضاه، فإن توافقا على ذلك صحّ. ولوكان البناء والغراس مغصوبين أيضاً من صاحب الأرض، ورضى المالك ببقائهما، لم يكن للغاصب هدم البناء أو قلع الغراس، ولا شئ له على عمله لأنه لم يؤذن له به، ولا شئ عليه أن لم تنقص قيمة الجميع بفعله، وإلا لزمه النقص. وإذا زرع الغاصب الأرض كان للمالك أن يجبره على إخراج البذر وتسوية الأرض، ويلزمه أرش النقص وأُجرة المثل. وإذا رضى المالك بإبقاء البذر في الأرض بقيمته امتنع على الغاصب إخراجه، لأنه لا ينتفع به في الغالب. 10 - خلط المغصوب بغيره: إذا اختلط المغصوب بغيره أو خلط: فإن أمكن تمييزه وجب ذلك على الغاصب وإن شقّ عليه، وإن لم يكن تمييزه فقد تعذّره ردّه أبداً، فأشبه التالف، فللمالك تغريمه بدله من مثل أو قيمة على النحو الذي علمت. وللغاصب أن يعطيه من المخلوط، إن خطله بجنسه وكان المخلوط به مثله أو أجود منه، فإن خلطه بأقل منه فليس له ذلك إلا أن رضى المالك به. 11 - ردّ المغصوب وإن تضرر الغاصب: علمنا أن الواجب على الغاصب ردّ العين المغصوبة فوراً، وأنه لا يبرأ من الإثم وعُهدة الضمان إلا بالرد، فلو كان يترتب على ردّه العين المغصوبة ضرر بالغ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 224 به كلِّف بذلك، ولا يلتفت إلى ما يناله من ضرر، لأنه ظالم ومتعدٍّ بغصبه. فلو غصب خشبة، فوضعت في بناء أو سفينة، وجب نزعها وردّها، وإن تهدم البناء أو غرقت السفينة، ويلزم الغاصب أرش النقص للمغصوب منه ولصاحب البناء أو السفينة إن كان غير الغاصب ويجهل الغصب، كما يلزمه أُجرة المثل إن كان لمثلها أُجرة. فإن كان يترتب على ردّه هلاك آدمي معصوم الدم، أو حيوان محترم أي غير مأمور بقتله شرعاً ويجوز تملكه أو حيازته، أو إتلاف مال مسلم أو ذمّي، فإنه لا يجب ردّه، فيعدل الى تضمين البدل من مثل أو قيمة. 12 - اختلاف الغاصب والمغصوب منه: قد يقع اختلاف بين الغاصب والمغصوب منه في أُمور، هي: أ- تلف المغصب وبقاؤه: كأن يدّعي الغاصب أن العين المغصوبة قد تلفت فعليه بدلها، ويدّعي المغصوب منه أنها لا تزال قائمة عنده فعليه ردّها. فالصحيح أنه يصدق الغاصب بيمينه، لاحتمال صدقه وعجزه عن إقامة البيِّنة على دعواه - إذ الغالب عدم البيِّنة على التلف - فإذا لم يصدّق أدّى ذلك إلى تخليده في الحبس. فإذا حلف غرم للمالك بدل المغصوب من مثل أو قيمة على الأصح، لعجز المالك عن الوصول إلى عين ماله بيمين الغاصب. ب- قيمة المغصوب: وذلك يعني أنهما اتفقا على تلفه، ولكنهما اختلفا في قيمته، فقال المالك: قيمته ألف، وقال الغاصب: قيمته ثمانمائة، صدق الغاصب بيمينه، لأن المالك يدّعي عليه الزيادة عمّا اتفقا عليه - فقد اتفقا في قولهما في المثال المذكور على الثمانمائة واختلفا في الزيادة، فالمالك يدّعيها والغاصب ينكرها - والأصل براءة ذمته منها، فيكون القول المصدِّق قوله بيمينه. فإذا أقام المالك بيِّنة على أن القيمة أكثر مما قاله الغاصب سمعت بيِّنته، وكلّف الغاصب الزيادة عمّا ادّعاه هو إلى حدٍّ لا تقطع البيِّنة بالزيادة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 225 عليه بأن تجوز الزيادة عليه وعدمها، كأن تفيد البيِّنة أن قيمته - مثلاً - ألف أو تسعمائة، مع احتمال أن تكون أكثر أو أقل. ج- صفة المغصوب أو قدره: كأن يدّعي المغصوب منه أن الدار المغصوبة كانت مطليّة مثلاً، ويدّعي الغاصب أنها لم تكن كذلك، أو يدّعي المالك أنه غصبه عشرين رطلاً قمحاً، ويقول الغاصب: بل عشرة أرطال. ونحو ذلك من الاختلاف في القدر أو الصفة التي هي صفة زيادة. فالمصدّق هو الغاصب بيمينه في ذلك، لأنه هو الذي سيغرم، والأصل براءة ذمته، وهو منكر لشغلها، فالقول قوله بيمينه. وإن اختلفا في عيبٍ حادث: وهو الاختلاف في صفة نقص، كأن ادّعى المالك أن المغصوب كان سليماً من العيوب، وأدعى الغاصب أنه كان معيباً. فإن كانت اليعن تالفة صدّق المالك بيمينه على الصحيح، لأن الأصل والغالب السلامة من العيوب، والقول قول مَن يتمسك بالأصل. وإن كانت العين باقية، وردّها الغاصب معيبة كما ادّعى، صُدِّق الغاصب بيمينه، لأن الأصل براءة ذمته من ضمان ما يزيد على تلك الصفة القائمة. د- ردّ العين المغصوبة: فلو ادّعى الغاصب أنه ردّ العين المغصوبة على المغصوب منه، وأنكر المغصوب منه ذلك، فالقول قول المالك بيمينه، فيصدّق انه ما ردّ عليه المغصوب، لأن العين المغصوبة كانت في يده، والاصل عدم الردّ، فيصدَّق مَن يتمسك به وهو المغصوب منه، فإما أن يردّه الغاصب عليه، وإما أن يضمن له بدله. تم الجزء السابع من كتاب الفقه المنهجي بعون الله تعالى وتوفيقه، ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء الثامن في الجنايات والجهاد والقضاء وما يتعلق بها، والله تعالى ولي التوفيق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 226 الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى الجزء الثامن الجنايات والحدود وتوابعها، الجهاد وتوابعه، الفتوة وأحكامها أنواع اللهو، القضاء، الدعاوى والبينات والشهادات واليمين والقسمة، والإقرار، والحجر، والإمامة العظمي تأليف الدكتور مصطفي الخن ... الدكتور مصطفي البغا علي الشربجي دار القلم دمشق بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم وسار على هديهم إلي يوم الدين، وبعد: فهذا هو الكتاب الثامن في سلسلة الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالي، أودعنا فيه عدداً من الأبواب والمباحث الفقهية: الجنايات والحدود وتوابعها، الجهاد وتوابعه، الفتوة وأحكامها، أنواع اللهو الجائز والمحرم، القضاء الدعاوى والبينات والشهادات واليمين، والقسمة، والإقرار، والحجر، وأحكام الإمامة العظمى. وقد بذلنا ما نستطيع لتجلية هذه الأحكام، وصياغتها بأسلوب يرى فيه القارئ السهولة في التعبير، والوضوح في الأداء. والله تعالى نسأل أن يجعل عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعله في عداد الصدقات الجارية والأعمال المبرورة، إنه كريم مجيب، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. المؤلفون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 الباب الأول الجنايات والحدود وتوابعها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 الجنايات تعريف الجنايات لغة واصطلاحاً: الجنايات: جمع جناية، وهي في اللغة مصدر جنى يجني، إذا أذنب، وجني على نفسه: أساء إليها، وجني على قومه: أذنب ذنباً يؤخذ به. وتطلق الجناية على التعدي على بدن، أو مال، أو عرض. وأما الجناية في الاصطلاح: فهي التعدي على البدن بما يوجب قصاصاً، أو مالاً. فالجناية إذا في اصطلاح الفقهاء أخص مما هي في اللغة. حكم الجناية شرعاً، ودليله: الجناية على البدن حرام شرعاً ومنهي عنها، فلا يجوز التعدي علي الأبدان، ولا توجيه الأذى إليها. وقد انعقد إجماع المسلمين على تحريم القتل بغير حق، ولم يخالف بذلك أحد. ودليل هذا الإجماع الكتاب والسنة: أما الكتاب: فقول الله تبارك وتعالي: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} (الإسراء33). [لوليه: لوارثه. سلطاناً: تسلطاً على القاتل. فلا يسرف في القتل: فلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 يتجاوز الحد، فيقتل غير قاتل مورثه. منصوراً: معاناً على أخذ حقه]. وقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} (النساء: 92) أي: ما ينبغي أن يصدر منه قتل له. وقوله ـ أيضاً _ عز من قائل: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (النساء93). وأما الأدلة من السنة فكثيرة: منها: ما رواه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". (رواه البخاري [6484] في الديات. باب: قول الله تعالى {أن النفس بالنفس. . }؛ ومسلم [1676] في القسامة، باب: ما يباح به دم المسلم). [الثيب الزاني: هو من سبق له زاج، ذكراً كان أم أنثى. المفارق لدينه: التارك له، وهو المرتد]. ومنها: أيضاً ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". (أخرجه البخاري [2615] في الوصايا، باب: قول الله تعالى {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً. . }؛ ومسلم [89] في كتاب الإيمان، باب: تحريم الكبائر وبيانه. ورواه أيضاً أبو داود [2874] في الوصايا، باب: ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم؛ والنسائي [6/ 257] في الوصايا، باب: اجتناب أكل مال اليتيم). [الموبقات: المهلكات. التولي يوم الزحف: الفرار عن القتال عند لقاء الأعداء. قذف المحصنات: اتهام العفيفات بالزنى]. هذا ولا خلاف بين الأمة في تحريم القتل بغير حق، وأنه من أكبر الكبائر بعد الشرك، وفاعله المستحل له كافر من غير خلاف، ومخلد في نار جهنم. أما إذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 قتل متعمداً، وهو غير مستحل لذلك: فإنه يحكم عليه بالفسق والفجور، ولا يحكم عليه بالكفر. وأمره بعدئذ إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، وتوبته إذا تاب توبة نصوحاً مقبولة عند الله تعالى ولا يستلزم إثمه التخليد في نار جهنم. ودليل ذلك: قول الله عز وجل: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} (النساء48). وقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} (الزمر: 53). ويدل على ذلك أيضاً: ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلي أرض كذا وكذا، فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلي أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة ". (أخرجه البخاري [3283] في الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل؛ ومسلم [2766] في التوبة، باب: قبول توبة القاتل). هذا، وإذا كانت التوبة تصح وتقبل من الكافر، فقبولها من الفاسق والعاصي أولى. وأما قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا .. } (النساء: 93). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 فمحمول على من استحل القتل عمداً بغير حق، أو على أن هذا جزاؤه لو لم يتب، أو لم يغفر الله له. وقيل: هذا من باب المطلق الذي قيده قوله عز وجل: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48). أقسام الجناية : قلنا فيما سبق: إن الجناية شرعاً هي التعدي علي البدن، وهذا التعدي: - إما أن يكون بإزهاق الروح، وهو القتل. - وإما أن يكون واقعاً على عضو من الأعضاء، دون إزهاق روح: كقطع يد، أو قلع عين، أو قطع أذن أو أنف، أو ما شابه ذلك. ولكل قسم من هذين القسمين أحكام تتعلق به، سنبينها إن شاء الله تعالى. الجناية علي النفس : ويقصد بالجناية على النفس هنا القتل وإزهاق الروح، وهي أنواع ثلاثة، لكل نوع منها حكم يبين في حينه. أنواع القتل : القتل ثلاثة أنواع : القتل العمد، القتل شبه العمد، القتل الخطأ. ولكل نوع من هذه الأنواع الثلاثة حقيقة وحكم يتعلق به. 1 - القتل العمد: وحقيقة القتل العمد: أن يقصد قتل شخص بما يقتل غالباً. ومن هذا التعريف لحقيقة القتل العمد يتبين أنه لا يسمى قتل عمد، إلا إذا تحقق فيه أمران: أحدهما: قصد الشخص بالقتل، فلو كان غير قاصد لقتله، فإنه لا يسمي عمداً: ... كمن رمي سهماً يريد صيداً، فأصاب شخصاً، فقتله. ثانيهما: أن تكون الوسيلة في القتل مما يقتل غالباً. فلو أنه ضربه بعصاً صغيرة، أو بحصاة صغيرة في غير مقتل، فمات من ذلك الضرب، فإنه لا يسمى ذلك القتل قتل عمد، لأن تلك الوسيلة لا تقتل في الغالب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 صور من القتل العمد: وللقتل العمد صور كثيرة يتحقق فيها كلها الأمران المذكوران آنفاً، ومن هذه الصور: أ - ضربه بحد سيف فمات من ذلك الضرب، أو أطلق عليه رصاصاً، فأصابه فمات منه. ب - غرز إبرة في مقتل: كدماغ، وعين، وخاصرة، ومثانة وما أشبه ذلك، مما يقول عنه أهل الاختصاص: إنه مقتل، فإذا مات بسبب شئ من ذلك كان قتله عمداً. جـ - ضربه بمثقل كبير يقتل مثله غالباً، سواء كان من حديد، كمطرقة وشبهها، أم كان من غير الحديد، كالحجر الكبير، والخشبة الكبيرة. ويدل لهذا كله ما رواه أنس رضي الله عنه؛ أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين، فسألوها: من صنع بك هذا؟ فلان فلان؟ حتى ذكروا يهودياً، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فأقر، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرض رأسه بين حجرين. وفي رواية: فجيء بها، وبها رمق. (أخرجه البخاري [2595] في الوصايا، باب: إذا أومأ المريض برأسه إشارة بينة جازت؛ ومسلم [1672] في القسامة، باب: ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره؛ وأبو داود [4528، 4527] في الديات، باب: يقاد من القاتل، وباب: القود بغير حديد؛ والترمذي [1394] في الديات، باب: فيمن رضخ رأسه بحجر؛ والنسائي [22/ 8] في القسامة، باب: القود من الرجل للمرأة). [[رض رأسها: دق رأسها. والرض: دق الشيء بين حجرين وما جري مجراهما. فأومأت برأسها: أشارت به]. د - حرقه بالنار، أو هدم عليه حائطاً، أو سقفاً، أو وطأه بدابة أو سيارة، أو دفنه حياً، أو عصر خصيتيه عصراً شديداً فمات، وكذلك أمثال هذه الحالات؛ فإن قتله بها يكون عمداً. هـ - خنقه: بأن وضع يده على فمه، أو وضع مخدة على فمه حتى مات من انقطاع النفس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 فإن خلاه قبل أن يموت، فإن انتهي إلي حركة المذبوح، أو ضعف وبقي متألماً حتى مات، فذلك كله من قبيل القتل العمد. وأوجره سماً قاتلاً، أو حسب ومنعه الطعام والشراب حتى مات، أو سحره، وكان السحر مما يقتل غالباً، فكل هذا من القتل العمد. ز - ضربه بعصاً صغيرة، أو رماه بحجر صغير، إلا أنه والى بين الضرب أو الرمي حتى مات، أو اشتد به الألم وبقي متألماً حتى مات، فهذا أيضاً قتل عمد. حـ - شهد رجلان عند القاضي على شخص بأنه قتل عمداً، فقتل، ثم رجعا عن الشهادة، وقالا تعمدنا الكذب لزمهما القصاص، لأنهما تسببا بإهلاكه، فكان ذلك بمنزلة القتل العمد منهما. وهناك صور أخرى للقتل العمد مذكورة في كتب الفقه المطولة. 2 - القتل شبه العمد: وحقيقة القتل شبه العمد: أن يستعمل في القتل أداة لا تقتل غالباً، قاصداً بها الشخص عدواناً من غير حق، إلا أن الشخص قد مات بذلك الفعل. وللقتل شبه العمد صور كثيرة، نذكر منها: أ - ضربه بعصا صغيرة ضرباً خفيفاً، فأصاب منه مقتلاً فمات من ذلك الضرب. ب - ألقاه في ماء مغرق إلا أن ذلك الشخص يحسن السباحة، ولكنه فاجأه ريح شديد، أو موج، فغرق ومات. أما إذا كان لا يحسن السباحة، فإنه عندئذ يكون قتل عمد. جـ - أن يربطه ويلقيه إلي جانب ماء، قد يزيد، فزاد الماء، ومات الشخص. أما إذا كانت الزيادة متيقنة، فحصلت، ومات، كان ذلك قتل عمد. وهناك صور كثير أمسكنا عنها خشية الإطالة، وسوف تجدها إن شئت في المطولات من كتب الفقه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 3 - القتل الخطأ: وحقيقة القتل الخطأ: أن يقع من الشخص من غير أن يقصده، ولا يريده؛ وذلك: كمن زلقت رجله فوقع على إنسان فقتله، أو رمى صيداً، فأصاب إنساناً، الخطأ، الذي لم توجد فيه حقيقة القتل العمد، ولا شبه العمد. حكم أنواع القتل الثلاثة: قلنا: إن لكل نوع من أنواع القتل حكماً يخصه، بل أحكام، هذا ما سنتحدث عنه في العجالة الآتية: حكم النوع الأول، وهو القتل العمد: القتل العمد له حكمان: حكم دياني (أي في الآخرة)، وحكم قضائي (أي في الدنيا). أما حكمه الديني الأخروي: فهو التحريم، ويترتب عليه إثم عظيم يلي درجة الكفر، والعياذ بالله، والعذاب الأليم في جهنم، إن لم يلجأ ذلك القاتل إلى التوبة، وتتداركه عناية الله بالعفو والرحمة. وإلى هذا تشير الآية الكريمة:: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (سورة النساء: 93). ولقد مرت هذه الآية، ومر القول فيها. وأما الحكم القضائي الدنيوي، فهو القصاص "القود"، ويسمى القصاص قوداً، لأنهم كانوا يقودون الجاني بحبل ونحوه إلى موضع قتله والقصاص منه. ودليل هذا الحكم الذي هو القصاص قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (سورة البقرة: 178 - 179). [كتب: فرض. القصاص: الجزاء على الذنب، وهو أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل، وسمي قصاصاً لأن المقتص يتتبع جناية الجاني ليأخذ مثلها. عفي له من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 أخيه: ترك القصاص منه، وفي ذكر "أخيه" تعطف داع إلى العفو. فاتباع بالمعروف: مطالبة القاتل بالدية من غير عنف. وأداء إليه بإحسان: على القاتل أداء الدية إلى الوارث بلا مطل ولا بخس. ذلك تخفيف: العفو عن القصاص إلى الدية تيسير من الله ورحمة بعباده حيث لم يضيق عليهم بتشريع حكم واحد وهو القصاص. فمن اعتدي بعد ذلك: أي ظلم القاتل، واعتدي عليه بالقتل بعد العفو، فله عذاب أليم في الآخرة بالنار، أو في الدنيا بالقتل]. ترك القصاص والعفو عنه: القصاص هو الحكم الأصلي المترتب على القتل العمد، وهو حق أولياء القتيل، فإن شاؤوا استوفوه، وعلى القاضي مساعدتهم، وتمكينهم من نيل حقهم، كما قال عز وجل: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} (سورة الإسراء: 33) أي: معاناً من قبل القضاء. وإن شاؤوا عفوا عن القصاص، أو عفا بعضهم إلى الدية، فإن فعلوا، أو فعل بعضهم ذلك، وجبت لهم الدية حالة في مال القاتل، وكان عليه أداؤها إليهم دون مماطلة أو بخس. وإلى هذا الحكم: وهو وجوب الدية، يشير قول الله تبارك وتعالى: {َمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (سورة البقرة: 178). قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: (فالعفو أن يقبل الدية في العمد، قال: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} يتبع هذا بالمعروف، ويؤدي هذا بإحسان). (أخرجه البخاري [4228] عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير سورة البقرة، باب: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ}؛ والنسائي [8/ 37] في القسامة، باب: تأويل قوله عز وجل: {َمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}). وقد مرت الآية مستوفاة. وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن للولي الحق في القصاص، أو العفو عنه إلي الدية: روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يعفو وإما أن يقتل". وفي رواية: " إما أن يقاد وإما أن يفدى". (أخرج الترمذي الأولي [1405] في الديات، باب: ما جاء في حكم ولي القتيل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 في القصاص والعفو؛ وأخرج الثانية النسائي [8/ 38] في القسامة، باب: هل يؤخذ من قاتل العمد الدية إذا عفا ولي المقتول عن القود؟ ). ومما ينبغي أن يعلم أن عفو بعض أولياء القتيل عن القصاص كعفو جميعهم لأن القصاص لا يتجزأ، فإذا عفا بعضهم انتقل حق الجميع إلى الدية، وليس لأحدهم أن يطالب بالقصاص. تغليظ الدية: قلنا فيما سبق إن أولياء القتيل إذا تركوا القصاص، ورضوا بالدية، وجبت لهم على القاتل، وكانت مغلظة، تشديداً على القاتل. وتغليظ الدية يكون من ثلاثة أوجه: أ - كون الدية علي ثلاثة أنواع من الإبل من حيث أسنانها، لا على خمسة أنواع، كما هي في قتل الخطأ، وسيأتي بيانها. ب - كون الدية حالة. جـ - كونها في مال الجاني وحده، فلا تجب على أحد من أوليائه. ودليل ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تعقل العاقلة عمداً ولا صلحاً. . ". (رواه البيهقي [8/ 104]، عن ابن عباس رضي الله عنهما). وروي مالك في الموطأ [2/ 865] عن ابن شهاب أنه قال: (مضت السنة أن العاقلة لا تحمل شيئاً من دية العمد إلا أن يشاؤوا). دليل تغليظ الدية: ودليل تغليظ الدية في القتل العمد، مارواه الترمذي (رقم [1387] في الديات، باب: كمهي من الإبل؟ )، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل متعمداً دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وما صالحوا عليه فهو لهم، وذلك لتشديد العقل. [حقة: الحقة من الإبل ما استكملت ثلاث سنين، ودخلت في الرابعة، سميت بذلك، لأنها استحقت أن تركب ويحمل عليها. جذعة: الجذعة ما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 استكملت أربع سنين، ودخلت في الخامسة، سميت بذلك، لأنها أجذعت مقدم أسنانها، أي أسقطته. خلفة: الخلفة هي التي تكون أولادها في بطونها]. العفو عن الدية: لولي المقتول أن يعفو عن القصاص، وينتقل إلي الدية، كما قلنا، وكذلك له أن يعفو عن الدية، أو يعفو عن بعضها، فإذا عفا عنها، أو عن بعضها سقط المعفو عنه من الدية، لأن الله عز وجل، شرع الدية حقاً للعبد، وتسوية للعلاقات الإنسانية حتى لا يتهددها الخطر والضغائن والأحقاد، فإذا عفا صاحب الحق عن حقه، كان ذلك له، بل هو الأفضل والأنفع له ولغيره. قال الله عز وجل: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} (سورة البقرة: 237). حكم النوع الثاني، وهو القتل شبه العمد: وللقتل شبه العمد ـ وقد عرفت حقيقته ـ أيضاً حكمان، ديني أخروي، وهو الحرمة، والإثم، واستحقاق العذاب في الآخرة، لأنه قتل بقصد، لكن عقابه دون عقاب القتل العمد. وأما حكمه القضائي الدنيوي، فهو الدية مغلظة من بعض الوجوه، وقد مر معنا معنى تغليظ الدية. فإن هذا النوع من القتل لا يستوجب قصاصاً، كالقتل العمد، وإن طالب به ولي المقتول. وإنما تثبت به الدية على عاقلة القاتل مؤجلة، تستوفى خلال ثلاث سنوات. فكونها على العاقلة ومؤجلة تخالف دية العمد العدوان، وكونها مثلثة ذات أعمار معينة تشبه دية العمد، فهي مغلظة من هذين الوجهين. ودليل هذا الحكم ما رواه أبو داود [4547] في الديات، باب: في الخطأ شبه العمد، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " عقل شبه العمد مغلظة مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه". [العقل: الدية. وأصلها أن القاتل كان إذا قتل قتيلاً جمع الدية من الإبل، فعقلها بفناء أولياء المقتول ليقبلوها منه، فسميت الدية عقلاً. والعاقلة: هم العصبة والأقارب من قبل الأب الذين يعطون دية قتيل الخطأ، وشبه العمد]. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 وروي النسائي [8/ 40] في القسامة، باب: كم دية شبه العمد؟، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " شبه العمد قتيل السوط والعصا، فيه مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها". وأما كون الدية في قتل شبه العمد علي العاقلة، فلما رواه مسلم [1681] في القسامة، باب: دية الجنين، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، قال: ضربت امرأة ضرة لها بعمود فسطاط، وهي حبلى فقتلتها، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية المقتولة على عصبة القاتلة. وروى البخاري [6521] في الديات، باب: جنين المرأة. .؛ ومسلم [1681] في القسامة، باب: دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى أن دية المرأة على عاقلتها. هذا ولقد قلنا: إن العاقلة هم عصبة الإنسان وأقاربه من جهة أبيه، ونقول هنا: إن المقصود بالعاقلة الذين يلزمهم أداء الدية إلي ولي المقتول إنما هم عصبة الجاني الذكور، ما عدا الأصول والفروعـ أما هم، فلا يتحملون من الدية شيئاً. ويقدم الأقرب فالأقرب من عصبة الجاني، في تحمل الدية. والدليل على أن الأصول والفروع لا يدخلون في العاقلة، ولا يتحملون من الدية شيئاً: ما رواه أبو رمثة رضي الله عنه، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعي ابني، فقال: " من هذا "؟ فقلت: ابني وأشهد به، قال: "أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه". (أخرجه أبو دادو [4206] في الترجل، باب: في الخضاب، والنسائي [8/ 53] في القسامة، باب: هل يؤخذ أحد بجريرة غيره؟ ). [لا يجني عليك ولا تجني عليه: أي الوالد لا يضمن من جناية ابنه شيئاً، ولا يضمن الولد من جناية أبيه شيئاً [. وروي النسائي [7/ 176] في تحريم الدم، باب: تحريم القتل، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يؤخذ الرجل بجناية أبيه". وقد روى أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - برأ الولد من عقل أبيه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 حكم النوع الثالث، وهو القتل الخطأ: وللقتل الخطأ ـ وقد عرفت حقيقته ـ حكمان: الأول ديني أخروي، والثاني دنيوي قضائي. أما حكمه الديني الأخروي فعفو لا إثم فيه ولا عقاب، لأنه عمل وقع خطأ من غير قصد، وقد جاء في الحديث: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه". رواه ابن ماجه [2045] في الطلاق، باب طلاق المكره والناسي عن ابن عباس. وأما حكمه في الدنيا فهو وجوب الدية على عاقلة القاتل، مؤجلة إلى ثلاث سنوات، ومخففة: أي مقسمة إلى خمسة أنواع: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة. أما وجوب الدية في القتل الخطأ، فيدل عليه قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} (سورة النساء: 92). أما كون الدية في القتل الخطأ على العاقلة فلما قلنا إنها في القتل شبه العمد على العاقلة، فهي في الخطأ أولي أن تكون عليهم. وأما كون الدية مخففة: أي في خمسة أسنان، فلما رواه الدارقطني [3/ 172] عن ابن مسعود رضي الله عنه، موقوفاً، أنه قال: (دية الخطأ أخماساً: عشرون جذعة، وعشرون حقة، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون بنت مخاض). ومثل هذا الكلام من ابن مسعود رضي الله عنه، له حكم الحديث المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه من المقدرات، وهي ليست مما يقال بالرأي. وأما كون الدية في قتل الخطأ مقسطة في ثلاث سنوات، فلما روي عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، أنهم قضوا بذلك ولم ينكر عليهم أحد من الصحابة، فكان إجماعاً، وهم رضي الله عنهم لا يقولون مثل هذا إلا بتوقيف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل قال الشافعي رحمه الله تعالى: ولم أعلم مخالفاً أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 20 رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالدية قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين. وقال الترمذي [1386] في أول كتاب الديات، باب: ما جاء في الدية كم هي؟: وقد أجمع أهل العلم على أن الدية تؤخذ في ثلاث سنين في كل سنة ثلث الدية، ورأوا أن دية الخطأ على العاقلة. بنت مخاض: هي التي لها سنة من الإبل، وطعنت في السنة الثانية، وسميت بنت مخاض، لأن أمها بعد سنة تحمل مرة أخري، فتصير من المخاض: أي الحوامل. بنت لبون: هي التي لها سنتان من الإبل وطعنت في الثالثة، سميت بنت لبون، لأن أمها آن لها أن تلد فتصير لبوناً. وقد مر بيان الحقة والجذعة. الحكمة في تخفيف الدية في القتل الخطأ وجعلها على العاقلة: قلنا إن القتل الخطأ وقع بغير قصد، ولم يكن مراداً للقاتل، فلذلك ناسب أن تخفف الدية فيه، ولا يكلف المخطئ ما يكلفه المعتدي، الذي باشر القتل قصداً. ولما كان هذا شأن المخطئ، كان من الحكمة أن يواسيه الأدنون من عصباته، ويحملون عنه هذا الغرم الموجع، ويكفيه هو ما يحمله من الكفارة، وهي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين. قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ. . } ثم قال عز وجل: {َمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} (سورة النساء: 92). تغليظ الدية في القتل الخطأ في بعض الأحوال: ذكر علماء الشافعية أن الدية في القتل الخطأ تغلظ في بعض الحالات، ويكون تغليظها من حيث وجوب التثليث فيها فقط (ثلاثون حقة، ثلاثون جذعة، أربعون خلفة). وهذه الحالات التي تغلظ فيها هي: أ - إذا وقع القتل في حرم مكة، وحدود الحرم مذكورة في كتاب الحج، وهي الحدود التي يحرم الاصطياد داخلها، وذلك احتراماً لهذا البيت، ورعاية لزيادة الأمن فيه. قال الله عز وجل: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 21 أَلِيمٍ} (سورة الحج: 25). [بإلحاد بظلم: ميل عن الحق بسبب الظلم]. ب - إذا وقع القتل في الأشهر الحرم، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، لحرمة هذه الأشهر، ومنع ابتداء القتال فيها. قال الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِير} (سورة البقرة: 217) أي: كبير إثمه. وقال تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام} (سورة المائدة: 2). [ى تحلوا: لا تستحلوا وتجيزوا. شعائر الله: جمع شعيرة، أي معالم دينه، وأحكام شرعه، مثل الصيد في الحرم. ولا الشهر الحرام: أي بالقتال فيه]. جـ - إذا وقع القتل الخطأ على محرم ذي رحم، كالأم، والأخت، والعم، والخال، ونحوهم من كل ذي رحم محرم. ودليل التغليظ في هذه المواضع عمل الصحابة رضي الله عنهم، وإن اختلفوا في كيفية التغليظ ـ وقد عرفت مذهب الشافعي في ذلك ـ ومثل هذا الحكم منهم لا يدرك بالاجتهاد، بل بالتوقيف من النبي - صلى الله عليه وسلم -. اشتراك جماعة بقتل شخص واحد: إذا اشترك جماعة ـ اثنان أو أكثر ـ في قتل شخص واحد من المسلمين، وذلك بأن كان عمل كل واحد منهم ـ لو انفرد ـ مزهقاً للروح وقاتلاً، ثبت القصاص على كل واحد من أولئك المشتركين في قتله. أما إذا جرحه واحد منهم، وكان الجرح غير قاتل، ثم قتله الآخر، فأجهز عليه، كان الثاني هو القاتل، وثبت عليه القصاص، وأما الجارح الأول، فعليه ما يستحق من قصاص جرح، أوديته. ولو جرحه أحدهم جرحاً، فأنهاه إلى حركة مذبوح، وذلك بأن لم يبق معها إبصار، ولا نطق ولا حركة اختبار، وأصبح يقطع بموته من ذلك الجرح، ولو بعد أيام، ثم جنى عليه شخص الجزء: 8 ¦ الصفحة: 22 آخر، فالأول هو القاتل، لأنه صيره إلى حالة الموت. ويعزر الثاني لهتكه حرمة الميت، كما لو قطع عضواً من ميت. ويستدل على ثبوت القصاص في حق الجماعة بقتل شخص واحد بالأدلة الآتية: أ - روى البخاري تعليقاً، في الديات، باب: إذا أصاب قوم من رجل، هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم؟، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن غلاماً قتل غيلة، فقال عمر رضي الله عنه: (لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم). وفي البخاري في نفس الباب؛ قال مغيرة بن حكيم عن أبيه: إن أربعة قتلوا صبياً، فقال عمر مثله. ب - روي مالك رحمه الله في الموطأ [2/ 871] عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل نفراً ـ خمسة أو سبعة ـ برجل واحد قتلوه غلية، وقال: (لو تمالا عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاُ). [قتل غيلة: خديعة ومكراً من غير أن يعلم. تمالأ: اتفق وتواطأ على قتله]. وهناك قصة ذكرها الطحاوي والبيهقي في سبب هذه الأحاديث، وهي أن المغيرة بن حكيم الصنعاني حدث عن أبيه أن امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها، وترك في حجرها ابنا له من غيرها غلاماً يقال له أصيل، فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلاً، فقالت له: إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله فأبي، فامتنعت منه فطاوعها، فاجتمع على قتل الغلام الرجل ورجل آخر والمرأة وخادمها، فقتلوه ثم قطعوه أعضاء، وجعلوه في عيبة (وعاء من أدم) فطر حوه في ركية ـ البئر التي لم تطو ـ ليس فيها ماء، فذكر القصة، وفيه فأخذ خليلها فاعترف، ثم اعترف الباقون، فكتب يعلى ـ وهو يومئذ أمير ـ بشأنهم إلى عمر، فكتب إليه عمر بقتلهم جميعاً، قال: والله لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين. جـ - إن حد القذف يثبت للواحد على الجماعة إذا اشتركوا في قذفه، فكذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 23 ينبغي أن يثبت قصاص القتل للواحد على الجماعة إذا صدر من كل منهم من العدوان عليه ما لو انفرد به لكان قاتلاً بحسب الظاهر، لعدم الفرق بين الصورتين. د - يتعين القصاص من الجميع سداً للذرائع، فإن المعتدي إذا علم أن الشركة في العدوان تنجيه وتنجي المشتركين من القصاص التجأ إليها لإنفاذ جريمته، والفرار بعد ذلك من القصاص. قال ابن قدامة: ولأن القصاص لو سقط بالاشتراك أدى إلى التسارع إلى القتل به، فيؤدي إلى إسقاط حكمة الردع والزجر. اجتماع المباشرة والسبب في القتل: إذا اجتمع في القتل الواحد المباشرة والسبب، فتارة يقدم السبب على المباشرة فيقتص من المتسبب، وتارة تقدم المباشرة على السبب فيقتص من المباشرة. وقد يستوي السبب والمباشرة، فهذه ثلاثة أنواع: النوع الأول: أن يشهد على الرجل شهود زور بأنه قاتل، فيقتله القاضي، فاعترف الشهود بتعمد الكذب وأنهم شهدوا زوراً، فعليهم القصاص دون القاضي أو الولي إذا باشر القصاص وكان جاهلاً بكذب الشهود. فهنا قدم السبب على المباشرة. النوع الثاني: غلبة المباشرة على السبب، وذلك كأن يرميه رام من شاهق فيتلقاه آخر بسيف فيقده نصفين، أو يضرب رقبته قبل وصوله إلى الأرض، فالقصاص على القاد، ولا شيء على الملقي سوى التعزيز، سواء عرف الحال أم لم يعرف. ومثل ذلك إذا أمسكه شخص فقتله آخر، فالقصاص على القاتل، وليس على الممسك قصاص أو دية، وإنما عليه التعزير. روى الدارقطني [3/ 140] عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر، يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك|. قال في بلوغ المرام: رجاله ثقات وصححه ابن القطان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 24 ويشترط في حال الإمساك هذه أن يكون القاتل مكلفاً، أما إذا كان القاتل صبياً أو مجنوناً فإن القصاص على الممسك، وكذلك إذا عرضه لسبع ضار، ومثل ذلك لو ألقاه في ماء مغرق كلجة بحر، فالتقمه حوت، سواء أكان الا لتقام قبل الوصول إلى الماء أو بعده، فالقصاص على الملقي. أما ألقاه في ماء غير مغرق فالتقمه حوت، فلا قصاص في هذه الحالة، لكن تجب عليه في هذه الحالة دية شبه العمد. النوع الثالث: أن يتساوى السبب والمباشرة، كأن أكره إنساناً على قتل آخر، وجب القصاص عليهما، أما وجوب القصاص على المكره فلأنه أهلكه بما يقصد به الإهلاك غالباً، فأشبه ما لو رماه بسهم فقتله، وأما وجوب القصاص على المكره لأنه قتله عمداً عدواناً لاستبقاء نفسه. هذا ولا فرق بين أن يكون المكره هو الإمام أو غيره. أما لو أمره بقتل نفسه بأن قال له: اقتل نفسك وإلا قتلتك، فقتل نفسه لم يجب القصاص في هذه الحالة، لأن هذا لا يعد إكراهاً حقيقة، لاتحاد المأمور به والمخوف منه، فصار كأنه مختار له. أما لو خوفه بشيء أشد من القتل كالإحراق بالنار مثلاً فهو إكراه يجب فيه القصاص على المكره. وكذلك إذا قال له اقتلني وإلا قتلتك فلا قصاص إذا قتله، لأن الإكراه شبهة يدرأ بها الحد. هذا ولو أمر السلطان شخصاً بقتل آخر بغير حق، والمأمور لا يعلم ظلم السلطان ولا خطأه وجب القود أو الدية والكفارة على السلطان، ولا شيء على المأمور، لأنه آلته ولا بد منه في السياسة، فلو ضمناه لم يتول تنفيذ الحد أحد، ولأن الظاهر أن الإمام لا يأمر إلا بالحق، ولأن طاعته واجبة فيما لا يعلم أنه معصيته، وليس للمأمور أن يكفر لمباشرة القتل. وإن علم بظلمه أو خطئه وجب القود على المأمور، إن لم يخف قهر السلطان بالبطش بما يحصل به الإكراه، لأنه لا يجوز طاعته حينئذ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف" (رواه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 25 البخاري [4085] في المغازي، باب: سرية عبدالله بن حذافة السهمي؛ ومسلم [1840] في الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية). فصار كما لو قتله بغير إذن، ولا شيء على السلطان إلا الإثم فقط فيما إذا كان ظالماً، وأما إن اعتقد وجوب طاعته في المعصية فالضمان على الإمام لا عليه، لأن ذلك مما يخفي. فإن خاف قهره فكالمكره فالضمان بالقصاص وغيره عليهما. فائدة: فيما يباح بالإكراه: ذكر النووي في كتابه " روضة الطالبين" فصلاً يوضح فيه ما يباح بالإكراه وما لا يباح، فقال رحمه الله تعالى: (فصل: الإكراه على القتل المحرم لا يبيحه، بل يأثم بالاتفاق إذا قتل، وكذا لا يباح الزنى بالإكراه. ويباح بالإكراه شرب الخمر، والإفطار في رمضان، والخروج من صلاة الفرض، وإتلاف مال الغير، ويباح أيضاً كلمة الكفر، وفي وجوب التلفظ بها وجهان، أحدهما: وهو الصحيح، لا يجب للأحاديث الصحيحة في الحث على الصبر على الدين، واقتداءً بالسلف، فعلى هذا الأفضل أن يثبت ولا يتلفظ وإن قتل، وقيل: إن كان ممن يتوقع منه النكاية في العدو أو القيام بأحكام الشرع؛ فالأفضل أن يتلفظ، وإلا فالأفضل الامتناع. ولا يجب شرب الخمر عند الإكراه على الصحيح، ويمكن أن يجيء مثله في الإفطار في رمضان، ولا يكاد يجيء في الإكراه على إتلاف المال. ثم إذا أتلف مال غيره بالإكراه؛ فللمالك مطالبة المكره الآمر بالضمان، وفي مطالبة المأمور وجهان، أحدهما: لا يطالب لأنه إتلاف مباح له بالإكراه، وأصحهما يطالب، لكنه يرجع بالمعزوم على الآمر، هذا هو المذهب، وقيل: إن الضمان على المأمور ولا رجوع له، وقيل: يتقرر الضمان عليهما بالسوية كالشريكين، والقول في جزاء الصيد إذا قتله المحرم مكرها كالقول في ضمان المال). حكم شريك من لا يقتص منه: إذا قتل شخص شخصاً وكان شريكاً في القتل لمن لا يقتص منه، فما الحكم في ذلك أيقتص منه أم لا؟ لهذه المسألة صور كثيرة نوضحها فيما يلي: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 26 الصورة الأولى: أن يكون شريكاً لمخطئ أو شريكاً لقاتل شبه عمد، فهذا لا يقتص منه، لأن الزهوق حصل بفعلين أحدهما يوجبه والآخر ينفيه، فغلب المسقط، ولكنه يجب عليه في هذه الحال نصف الدية، دية العمد. الصور الثانية: أن يكون القاتل شريكاً للأب في القتل، فعلى القاتل هنا القصاص وعلى الأب نصف الدية مغلظة، لأن الأب لا يقتص منه. الصورة الثالثة: أن يشارك عبد حراً في قتل عبد، فيقتص من العبد، لأنه لو انفرد بالقتل لاقتص منه، وأما الحر فلا يقتص منه. الصورة الرابعة: أن يشارك دمي مسلماً في قتل ذمي، فهنا يقتص من الذمي، لأنه لو انفرد في قتله لاقتص منه، وأما المسلم فعليه نصف دية الذمي، وسيأتي مقدار دية الذمي. الصورة الخامسة: أن يقطع شخص يد شخص قصاصاً أو حداً، فجرحه شخص آخر فمات بهما، فعلي الجارح الثاني القصاص. الصورة السادسة: أن يشترك في القتل مع صبي أو مجنون، فعليه القصاص، وأما الصبي والمجنون فلا قصاص عليهما. وهناك صور أخري كثيرة تطلب في المطولات من الكتب. الجناية على ما دون النفس: لقد مر بنا أن الجناية على البدن إما أن تكون بإزهاق الروح، وهو القتل، وهذا هو الذي سبق الحديث عنه، وإما أن تكون فيما دون ذلك من قطع يد أو قلع عين أو قطع أنف وأذن وما شاكل ذلك، وهذا هو الذي نريد أن نتحدث عنه فيما يلي: أنواع الجناية على ما دون النفس: الجناية على ما دون النفس على ثلاثة أنواع: الأول: الجناية بالجرح. الثاني: قطع الطرف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 27 الثالث: إبطال المنافع. النوع الأول: الجناية بالجرح: الجراح الواقعة على البدن على ضربين: أحدهما: الواقعة على الوجه والرأس، وتسمى الشجاع. والثاني: الجراحات في سائر البدن. وفيما يلي نوضح كل ضرب من هذين، ونبين ما يتعلق به من أحكام. أ - الشجاج الواقعة على الرأس والوجه، وهي عشر: إحداها: الحارصة، وهي التي تشق الجلد قليلاً كالخدش، وتسمى القاشرة. ثانيها: الدامية، وهي التي تدمي موضعها من الشق والخدش، ولا يقطر منها دم، فإن سال فهي دامعة، وهذه قسم آخر يزيد على العشر. الثالثة: الباضعة، وهي التي تبضع اللحم بعد الجلد، أي تشق اللحم بعد الجلد شقاً خفيفاً، مأخوذ من البضع وهو القطع. الرابعة: المتلاحمة، وهي التي تغوص في اللحم ولا تبلغ الجلدة بين اللحم والعظم، سميت بذلك تفاؤلاً بما يؤول إليه من الالتحام. وتسمي أيضا اللاحمة. الخامسة: السمحاق، وهي التي تبلغ تلك الجلدة، وتسمي تلك الجلدة السمحاق. السادسة: الموضحة، وهي التي تخرق السمحاق، وتوضح العظم، أي تكشفه، بحيث يقرع بالمرود، وإن لم يشاهد العظم من أجل الدم الذي يستره. السابعة: الهاشمة، وهي التي تهشم العظم أي تكسره، سواء أوضحته أم لا. الثامنة: المنقلة، وهي التي تنقل العظم من موضع إلى موضع، سواء أوضحته وهشمته أو لا. التاسعة: المأمومة، وهي التي تبلغ أم الرأس، وهي خريطة الدماغ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 28 المحيطة به، ويقال لها الآمة. العاشرة: الدامغة، وهي التي تخرق خريطة الدماغ، وتصل إليه، وهي مذففة غالباً. إذا علمت ذلك فالعلم أن القصاص يجب في الموضحة فقط، لتيسر ضبطها واستيفاء مثلها، ولا قصاص فيما عداها من الهاشمة والمنقلة وغيرهما إذ لا يؤمن فيها الزيادة والنقصان في طول الجراحة وعرضها، ولا يوثق باستيفاء المثل. ب - الجراحات في سائر البدن: فما لا قصاص فيه إذا كان في الرأس أو الوجه، لا قصاص فيه إذا كان على غيرهما، فالموضحة التي تقع في جزء من أجزاء البدن كالصدر والعنق والساعد والأصابع هي التي يكون فيها القصاص، وما لا فلا قصاص فيه لما ذكرنا آنفاً من صعوبة الحصول على المماثلة. النوع الثاني: الجناية بقطع الطرف: أقسام قطع الطرف ثلاثة أقسام كالقتل، فكما أن القتل ثلاثة أقسام عمد وشبه عمد وخطأ، كذلك ينقسم قطع الطرف إلى ثلاثة أقسام عمد وشبه عمد وخطأ، وكما أنه لا يجب القصاص في النفس إلا بالعمد فكذلك قطع الطرف لا يجب إلا بالعمد، وأما شبه العمد بقطع الطرف والخطأ به فلا يجب فيه القصاص. شروط القصاص بالطرف: يجري القصاص بقطع الطرف بشرط إمكان المماثلة وأمن استيفاء الزيادة، ويحصل ذلك بطريقتين: أحدهما: أن يكون للعضو مفصل توضع عليه الحديدة وبيان، والمفصل موضع اتصال عضو بعضو على منقطع عظمين، وقد يكون ذلك بمجاورة محضة وقد يكون مع دخول عضو في عضو، كالمرفق والركبة، فمن المفاصل: الأنامل، والكوع وهو مفصل الكف، والمرفق، ومفصل القدم، والركبة، فإذا وقع القطع على بعضها، اقتص من الجاني، ومن المفاصل أصل الفخذ والمنكب. الطريق الثاني، أن يكون للعضو حد مضبوط ينقاد لآلة الإبانة، فيجب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 29 القصاص من فقء العين، وفي الأذن، وفي الجفن، وفي المارن وهو ما لان من الأنف، وفي الذكر، وفي الأنثيين، وفي الشفة، وفي الشفرين إذا كان القطع من امرأة ـ والشفران طرفا الفرج ـ، وفي الأليين، وفي اللسان. وعلى هذا لو قطع بعض الأذن أو بعض المارن من غير إبانة وجب القصاص لإحاطة الهواء بهما وإمكان الاطلاع عليهما من الجانبين، ويقدر المقطوع بالجزئية كالثلث والربع، لا بالمساحة. ولو قطع الكوع أو بعض مفصل الساق والقدم ولم يبن فلا القصاص لأنها تجمع العروق والأعصاب، وهي مختلفة الوضع تسفلاً وتصعداً، فلا يوثق بالمماثلة فيها بخلاف المارن. القصاص بكسر العظام: لا قصاص بكسر العظام لعدم الوثوق بالمماثلة، بل عليه الدية كما سيأتي، لكن لو كسر عظماً وأبانه فللمجني عليه قطع أقرب مفصل إلى المكسور، وأخذ حكومة عن الباقي ـ والحكومة هي مال مقدر على حسب الجناية يقدره الخبراء وأصحاب المعرفة بهذا الشأن ـ وعلى هذا فلو كسر يده من العضد كان له أن يقطع يده من المرفق، وله على الباقي حكومة. ولو كسر يده من الساعد فله قطع اليد من الكف، وله على الباقي حكومة، وهكذا. النوع الثالث: إبطال منافع العضو: قد تكون الجناية بإبطال منفعة عضو من الأعضاء، أو قسم منها، فعند ذلك يجب فيها دية، على حسب ما يلي: أولاً: إزالة العقل، فإذا أزال إنسان عقل إنسان بسبب ما، وجب كمال الدية في ذلك، وسيأتي بيان كمال الدية. ولا يجب فيه قصاص لعدم إمكان ذلك، ولو نقص عقله ولم تستقم أحواله نظر في ذلك، فإن أمكن الضبط، وجب قسط الزائل، والضبط قد يأتي بالزمان بأن يجن يوماً ويفيق يوماً، فيجب نصف الدية، أو يجن يوماً ويفيق يومين فيجب ثلث الدية، وقد يتأتي الضبط بغير الزمان، بأن يقابل صواب قوله ومنظوم فعله بالخطأ المطروح منهما، وتعرف النسبة بينهما، فيجب قسط الزائل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 30 وإن لم يمكن الضبط بأن كان يفزع أحياناً مما يفزع، أو يستوحش إذا خلا وجبت حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده. وهذا الحكم إذا قال أهل الخبرة إن هذا العارض لا يتوقع زواله، أما إذا ذكر أهل الخبرة أن هذا العارض قد يزول، فيتوقف في الدية، فإن عاد إليه عقله سقطت الدية، وإن لم يعد وجبت الدية. ثانياً: السمع، فإذا أبطل السمع من الأذنين وجب كمال الدية، وإن أبطله من أذن واحدة وجب نصف الدية، ولو قطع الأذن وأبطل السمع وجب ديتان، دية للقطع ودية لإبطال السمع. وذلك لأن السمع ليس في الأذن. ولو قال أهل الخبرة: لطيفة السمع باقية في مقرها، ولكن ارتتق داخل الأذن بالجناية، وامتنع نفوذ الصوت، ولم يتوقعوا زوال الارتتاق فالواجب حكومة، وقيل دية. هذا إذا ذهب السمع، أما إذا نقص السمع من الأذنين أو من أحدهما، نظر فإن عرف مقدار النقص وجب قسطه من الدية، وإن لم يعلم وجب في ذلك حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده. ثالثاً: البصر، ففي إذهابه من العينين دية كاملة، وفي إذهابه من واحدة منهما يجب نصف الدية، سواء في ذلك ضعيف البصر وغيره، وسواء في ذلك الأحول والأخفش وغيرهم (والخفش صغر في العين وضعف البصر خلقة). ولو فقأ عينيه لم يجب إلا دية واحدة، كما لو قطع يديه، وهذا بخلاف الأذن كما مر. ويمتحنه أهل الخبرة لمعرفة زوال البصر إذا ادعي ذلك المجني عليه، وأنكر ذلك الجاني. هذا إذا ذهب البصر بالكلية، وأما إذا نقص ولم يذهب، فإن عرف قدره بأن كان يرى الشخص من مسافة فصار لا يراه إلا من بعضها، وجب ممن الدية قسط الذاهب، وإن لم يعرف قدره وجب في ذلك حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده. هذا وإذا كان الجني عليه أعشى ـ وهو من يبصر بالنهار دون الليل ـ فذهب ضوء عينيه، وجبت الدية كاملة، وفي ذهاب ضوء إحداهما نصف الدية، ولو جنى عليه فصار أعشى وجب نصف الدية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 31 رابعاً: إبطال الشم، وفي إبطال بالكلية الدية كاملة، وأن أبطال الشم من أحد المنخرين وجب نصف الدية، وإن نقص الشم وأمكن ضبطه وجب قسط الناقص من الدية، وإن لم يمكن ضبطه وجب فيه حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده، كما مر مثل ذلك في السمع والبصر. خامساً: ذهاب النطق، إذا جنى على لسانه فأبطل كلامه، وجبت الدية كاملة هذا إذا قال أهل الخبرة إنه لا يعود نطقه. ولو بطل بالجناية بعض الحروف وزعت الدية عليها، وسواء في ذلك ما خف على اللسان من الحروف وما ثقل. والحروف مختلفة في اللغات، فكل من تكلم بلغة فالنظر عند التوزيع إلي حروف تلك اللغة فإن تكلم بلغتين فبطل بالجناية حروف من هذه، وحروف من تلك، وجب التوزيع على أكثرهما حروفاً. هذا إذا ذهب بعض الحروف، وبقي في البقية كلام مفهوم، أما إذا لم يبق في البقية كلام مفهوم كان ذلك كذهاب جميع النطق، فيجب في ذلك الدية كاملة. وإذا جنى عليه جناية فصار يبدل حرفاً بحرف وجب قسط الحرف الذي أبطله، ولو ثقل لسانه بالجناية أ, حدث به عيب فالواجب حكومة لبقاء المنفعة. وإن كان لا يحسن بعض الحروف كالأرت والألثغ الذي لا يتكلم إلا بعشرين حرفاً مثلاً إذا ذهب بالجناية كلامه وجبت الدية كاملة. سادساً: ذهاب الصوت، فإذا جنى على شخص فأبطل صوته وبقي اللسان على اعتداله ويمكنه من التقطيع والترديد، لزمه لإبطال الصوت كمال الدية، فإن أبطل معه حركة اللسان حتى عجز عن التقطيع والترديد وجب ديتان: دية للصوت ودية للسان. سابعاً: ذهاب الذوق، فإذا أذهبه شخص بجناية وجبت الدية كاملة. والمدرك بالذوق خمسة أشياء: الحلاوة والحموضة والمرارة والملوحة والعذوبة، والدية تتوزع عليها، فإذا أبطل إدراك واحد منها، وجب فيه خمس الدية، ولو نقص الإحساس فلم يدرك الطعوم على كمالها، فالواجب حينذاك حكومة يقدرها الحاكم. ولو ضربه ضربة فزال بها ذوقه ونطقه وجب ديتان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 32 ثامناً: زوال المضغ، فإذا زال مضغه بالجناية وجبت الدية كاملة. تاسعاً: زوال الإمناء، فإذا كسر صلبه فأبطل قوة إمنائه وجبت الدية كاملة، ولو قطع أنثييه فذهب ماؤه وجب في ذلك ديتان: إحداهما للماء والأخرى للأنثيين، لما سيأتي في الديات من أن قطع الأنثيين يوجب الدية. العاشر: إبطال قوة الإحبال، إذا أبطل في المرأة قوة الإحبال لزمه ديتها، ولو جنى على ثديها فانقطع لبنها لزمه حكومة، فإن نقص وجب حكومة تليق به، وإن لم يكن لها لبن عند الجناية، ثم ولدت ولم يدر لها لبن، وامتنع به الإرضاع وجبت حكومة إذا قال أهل الخبرة إن الانقطاع بجنايته، أو جوزوا أن يكون هو سببها. الحادي عشر: إبطال الجماع، إذا جنى جناية على صلبه فذهب جماعه وجبت الدية، لأن الجماع من المنافع المقصودة. الثاني عشر: إفضاء المرأة، وهو إزالة الحاجز بين مسلك الجماع والدبر، وقيل رفع الحاجز بين مسلك الجماع ومخرج البول. والواقع أ، كلا منهما إفضاء، وفي هذا الإفضاء كمال الدية. الثالث عشر: زوال البطش والمشي، فإذا ضرب يديه فشلتا وجبت الدية كاملة، ولو ضرب رجليه فزال المشي وجبت الدية كاملة أيضاً. ولو ضربه فبطلت منفعة أصبع وجب دية الأصبع، وهو عشر الدية كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وأما إذا نقص مشيه ففي ذلك حكومة يحكم بها الحاكم بالاجتهاد. هذا ولا بد من الإشارة هنا أنه قد يجب على الجاني أكثر من دية، وذلك فيما إذا كانت الجناية على أكثر من موضع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 33 القصاص معنى القصاص: القصاص مصدر قص يقص، من قص أثره إذا تتبع مواطئ أقدامه في المسير، والمقصود به أن يفعل بالشخص مثل ما فعل بغيره من وجوه الأذى الجسمي، سواء أكان الفعل قتلاً أو دونه من الأضرار الجسمية. شروط القصاص: يشترط في القصاص بالنفس شروط أربعة وهي: الشرط الأول: أن يكون المقتص منه مكلفاً، أي بالغاً عاقلاً، فلا قصاص على صبي ولا مجنون وإن صدر منهما ما يستوجب القصاص، لأن البلوغ والعقل أساس التكليف. والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يعقل، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق" (رواه أبو داود [4399] في الحدود، باب: في المجنون يسرق أو يصيب حداً). ولأن القصاص عقوبة مغلظة فلم يجب على الصبي والمجنون كالحدود، ولأنهم ليس لهم قصد صحيح فهم كالقاتل خطاً. والشرط أن يكون الصبا والجنون حال فعل الجناية، وعلى هذا لو قتل وهو صبي ثم بلغ فلا يقتص منه، ولو جنى وهو مجنون ثم أفاق فلا يقتص منه، أما لو جنى وهو عاقل ثم جن فإنه يقتص منه ولو أثناء جنونه. أما من قتل وهو سكران فإنه يقتص منه إذا كان متعدياً بسكره. الشرط الثاني: أن لا يكون أصلاً للمقتول بأن كان أباً أو أماً أو جداً أو جدة مهما علا الفرق بينهما، فلو قتل شخص ابنه لم يقتص من الأب القاتل. دليل ذلك: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 35 أولاً: ما رواه الترمذي [1399] في الديات، باب: ما جاء في الرجل يقتل ابنه يقاد منه أم لا؟، عن سراقة بن مالك رضي الله عنه، قال: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقيد الأب من ابنه، ولا يقيد الابن من أبيه. وروي الترمذي أيضاً [1401] في الديات، في نفس الباب السابق، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تقام الحدود في المساجد، ولا يقتل الوالد بولده". وروى الترميذي [1400] في الديات، في نفس الباب السابق عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يقاد الوالد بالولد". وهذه الأحاديث الثلاثة وإن كان كل واحد منها ضعيف السند، إلا أن بعضها يشهد لبعض، فيقوي به. ولها شاهد عند البيهقي [8/ 38] بإسناد حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال الشافعي رحمه الله تعالى: (حفظت عن عدد من أهل العلم لقيتهم: أنه لا يقتل الوالد بالولد، وبذلك أقول). وثانياً: رعاية حرمة الأب، فإنه كان سبباً في وجود ابنه، فما ينبغي أن يكون الابن سبباً في إعدام أبيه. الشرط الثالث: أن يكون المقتول معصوم الدم بإسلام، أو عهد ذمة، أو أمان، أما الحربي فيهدر دمه، وكذلك المرتد، فإنه حلال الدم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه" (رواه البخاري [2854] في الجهاد، باب: قتل النساء في الحرب). ويدل عليه أيضاً عموم قول الله تبارك وتعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} (التوبة: 36). فيدخل في هذا الحربي والمرتد. الشرط الرابع: التكافؤ بين القاتل والمقتول، وذلك بأن لا يكون المقتول أنقص من القاتل بكفر أو رق، فلا يقتل مسلم بكافر، سواء كان ذمياً أو معاهداً أو حربياً أو لم تبلغه دعوة الإسلام، ولا يقتل حر بعيد أيضاً سواء كان مدبراً أو مكاتباً أو قنأ أو مبعضاً. ودليل ذلك ما رواه البخاري [6507] في الديات، باب: العاقلة، عن علي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 36 رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نهى أن يقتل مسلم بكافر). ورواه الترميذي [1412] في الديات، باب: ما جاء لا يقتل مسلم بكافر، عن علي رضي الله عنه، وأبو دواد [4531] في الديات، باب: يقاد المسلم بالكافر؟. وفي رواية لأبي داود [4517]: " لا يقتل حر بعبد". وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ. . . } (سورة البقرة: 78). فالآية تفيد أن الحر لا يقتل بالعبد. هذا والمعتبر في المكافأة المشروطة ساعة العدوان، فلا عبرة بما يطرأ بعد ذلك من تفاوت المتكافئين، أو تكافؤ المتفاوتين. شرائط القصاص بالأطراف: ما مر يتعلق في القصاص بالنفس، أما القصاص في الأطراف كاليد والرجل والأذن ونحو ذلك؛ فيشترط منه ما ذكر في قصاص النفس دون أي فرق، ويضاف إلى ما مر من الشروط الشروط التالية: الشرط الأول: اشتراك العضو الذي يراد قطعة قصاصاً، مع العضو الذي قطع عدواناً في الاسم الخاص لكل منهما، بأن تقطع اليمنى واليسرى باليسرى، والخنصر بالخنصر، فلا يجوز يسار بيمين أو عكسه، ولا يجوز إبهام بخنصر، أو أنملة بأنملة أصبع أخرى، وذلك لعدم تحقق معنى القصاص، الذي هو التساوي الدقيق في الأمر. ولا يضر تفاوت بكبر أو طول أو قوة بطش. الشرط الثاني: أن لا يكون بأحد الطرفين شلل مع صحة الطرف الآخر، فلا تقطع صحيحة بشلاء، وإن رضي بذلك الجاني، لكن يجوز قطع اليد الشلاء بصحيحة أو بما كان دونها شللاً، لأن هذه الصورة لا تضر بملاحظة المساواة التي هي أساس معنى القصاص. الشرط الثالث: أن يكون العضو الذي يراد القصاص عنه قد قطع من مفصل كمرفق وكوع، أو من حدود منضبطة كأذن، فلو لم يكن ذلك بأن كان خدشاً أو جرحاً أو قطعاً ولكن من غير مفصل وحدود معروفة؛ لم يجز القصاص فيه، لعدم إمكان التماثل الذي هو شرط أساسي في القصاص. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 37 روى ابن ماجه [2636] في الديات، باب ما لا قود فيه عن نمران بن جارية عن أبيه أن رجلاً ضرب على ساعده بالسيف فقطعها من غير مفصل، فاستعدي عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر له بالدية، قال: إني أريد القصاص، قال: "خذ الدية بارك الله لك فيها" ولم يقض له بالقصاص. ملاحظة: لا يكون القصاص سواء أكان في النفس أم الطرف إلا بالعمد، وأما شبه العمد والخطأ؛ فلا قصاص فيه، بل يثبت فيه الدية. وإن اشترك جماعة في قطع طرف من شخص قطعوا جميعاً كما في اشتراك جماعة في قتل شخص واحد. كيفية القصاص: الأصل في القصاص أن تتحقق فيه المساواة التامة للعمل العدواني، في كل من الشكل والمضمون. أما المساواة بينهما في المضمون فواجب أساسي لا بد منه، حتى إذا لم يمكن تحققها سقط القصاص. فقطع العضو قصاصه قطع عضو مثله من المكان الذي قطع، فإذا لم يتيسر تحقيق هذه المساواة سقط القصاص، اللهم إلا إذا كسر عضده وأبانه قطع من المرفق لأنه أقرب مفصل إلى الجناية، وله حكومة الباقي، وهكذا له القطع من كل مفصل هو أقرب إلى موضع الكسر وحكومة في الباقي. وأما المساواة بينهما في الشكل فحق ثابت لولي المقتول، يطالب بتحقيقها إذا شاء، وهي أن يقتص من القاتل بنفس الأداة وبنفس الطريقة اللتين مارس المعتدي بهما عدوانه على المقتول، فإن قتل بسيف فالمساواة الشكلية هي أن يقتص منه بالسيف، أو قتله برصاص أو بحرق أو بخنق؛ فمن حق ولي المقتول أن يطالب بقتل الجاني بنفس الطريقة التي مارسها، وعلى الحاكم أن يستجيب لطلبه. هذا إذا كانت الوسيلة إلى القتل مما يجوز استعماله، أما إذا كانت لا يجوز استعمالها كأن قتله بسحر أو بأي عمل محرم، فعند ذلك لا يكون القصاص إلا بالسيف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 38 من يقوم بتنفيذ القصاص؟ إذا نظر الحاكم في جناية الجاني؛ قتلاً كانت الجناية أو دون ذلك كالقطع ونحوه، ثم حكم عليه بالقصاص؛ فلولي المقتول أن يطلب من الحاكم تمكينه من استيفاء القصاص بنفسه، وعلى الحاكم أن يمكنه من ذلك، ليشفي ولي المقتول غليله بالقصاص. ويشترط لاستيفاء ولي المقتول القصاص بنفسه شرطان اثنان: الشرط الأول: أن يكون ذلك بإذن من الإمام، فلو بادر واقتص من الجاني دون أن يستأذن الإمام أو الحاكم أثم، وعلى الحاكم أن يعزره بالعقوبة التي يراها من حبس أو ضرب، ولكن لا يجوز له أن يقتص منه. هذا إذا كان في البلدة إمام أو حاكم، أما إذا وقعت الجناية حيث لا يوجد إمام أو حاكم، وكان بوسع ولي المقتول أن يقتص منه دون اندلاع فتنة فله ذلك. الشرط الثاني: أن يكون القصاص في قتل النفس، فأما إذا كان في الأطراف والأعضاء، فالصحيح أنه لا يجوز أن يستوفيها إلا الحاكم بنفسه، أو بنائب عنه مفوض من قبله، وعلة ذلك أنه لا يؤمن من مباشرة ولي المقتول لذلك أن يقع حيف وظلم عند الاقتصاص من الجاني، بسبب جهالته بأصول القطع وتحري المماثلة فيه. أما القتل فلا ترد فيه هذه المخاوف. تعدد أولياء المقتول: وإذا كان المقتول أولياء متعددون، وأبوا إلا أن يستوفوا القصاص بأنفسهم وجب عليهم أن يفوضوا واحدا منهم بذلك نيابة عنهم، فإن اختلفوا وجب المصير إلى القرعة، ويقوم بتنفيذ القصاص من خرجت عليه القرعة من بينهم. هذا ولا بد من البيان هنا أنه إذا كان أحد أولياء الدم غائباً ينتظر حتى يأتي، وإذا كان الجاني امرأة حاملاً انتظرها حتى تضع حملها وترضعه من لبنها حتى يستطيع الاستغناء عنها. وكذلك إذا كان في الورثة صغير ينتظر حتى يبلغ، أو كان هناك مجنون ينتظر حتى يفيق من جنونه، ويحبس القاتل حتى يبلغ الصبي ويفيق المجنون. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 39 الديات معني الدية: الدية لغة: اسم مصدر من ودى يدي، وأصلها ودية على وزن فعلة، وهو دفع الدية. قال في مختار الصحاح: والدية واحدة الديات، والهاء عوض عن الواو، ووديت القتيل أدية دية: أعطيت ديته، واتديت أخذت ديته، وإذا أمرت منه قلت دفلاناً، وللاثنين ديا، وللجماعة دوا فلاناً. والدية شرعاً: اسم للمال الواجب دفعه بسبب جناية على النفس أو ما دونها، وتكون من الإبل أصالة، أو قيمتها بدلاً. أنواع الدية: تنقسم الدية من حيث نوع العدوان إلى النوعين التاليين: أ - دية نفس، وهي التي تكون في مقابل إزهاق للنفس عدواناً. ب - دية أطراف أو أعضاء، وهي التي تكون في مقابل قطع طرف أو عضو. وتنقسم من حيث النظر إلى درجة القصد وعدمه في العدوان إلى النوعين التاليين: أ - دية مغلظة، وهي دية العمد أو شبه العمد. ب - دية مخففة، وهي دية القتل الخطأ. مقدار الدية: الدية كما قلنا إما أن تكون في مقابل العدوان على النفس، أي إزهاق الروح، وإما أن تكون في مقابل العدوان على ما دون ذلك من الأعضاء والأطراف، أو في مقابل ما دون ذلك أيضاً ممن الجروح ونحوها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 40 دية النفس: لقد ذكرنا فيما مضى أنواع القتل وهي: العمد، وشبه العمد، والقتل الخطأ. وهذه الأنواع الثلاثة ديتها مائة من الإبل، إلا أن دفعها إلى أولياء القتيل يختلف من حيث الكيف، ولا يختلف من حيث الكم، وإليك بيان ذلك: أولاً: دية العمد: الأصل في القتل العمد القصاص، وبما أن القصاص من حق أولياء القتيل، فلهم أن يعفوا عن القصاص إلى الدية، فإن عفوا إلى الدية، وجب أن تكون الدية مقسمة على ثلاثة أنواع: ثلاثون حقة، وهي ما لها ثلاث سنوات ودخلت في الرابعة، وثلاثون جذعة، وهي ما لها أربع سنوات وطعنت في الخامسة، وأربعون خلفة، أي حوامل. فان لم يكن هناك إبل، وجب أن تدفع قيمتها بالغة ما بلغت، ويجب أن تكون في مال الجاني، وتكون معجلة غير مؤجلة. ثانياً: دية شبه التعمد: وهي مائة من إبل كما قلنا، وتقسم أثلاثاً: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، والفرق بين العمد وشبه العمد، أن الدية في العمد على الجاني، أما دية شبه العمد فهي على العاقلة. وتدفع على ثلاث سنوات، في كل سنة ثلث الدية. والعاقلة هم عصبة الجاني ما عدا الأصول والفروع. ثالثاً: دية القتل الخطأ: وهي مائة من الإبل مقسمة على خمسة أنواع: عشرون بنت مخاض، وهي ما لها سنة ودخلت في الثانية، وعشرون بنت لبون، وهي ما لها سنتان ودخلت في الثانية، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة. وهي أيضاً على العاقلة، وموزعة على ثلاث سنوات. العفو عن الدية: هذا ولا بد من البيان هنا أن الدية بما أنها حق لأولياء القتيل فلهم العفو عنها كلاً أو جزءاً، لأن الله تعالى شرعها حقاً للعبد، وتسوية للعلاقات الإنسانية أن لا يتهددها الضغائن والأحقاد، فإذا عفا صاحب الحق عن حقه؛ فذلك هو الأفضل، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 41 قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (سورة البقرة: 178 - 179). وقال سبحانه: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (سورة البقرة: 237). دية الأعضاء والأطراف: في مقدار الدية ينظر إلى خطورة العضو المقطوع وأهميته، وهي بالنظر إلى ذلك إما أن تكون دية كاملة، أو بعضاً من الدية. فأما وجوب الدية كاملة فتثبت في قطع كلتا اليدين من مفصليهما، والرجلين، والأنف، أي قطع ما لان منه وهو المنخران والحاجز بينهما، والأنثيين، والعينين، والجفون الأربعة، واللسان، والشفتين، وقد مر بك إذهاب منافع الأعضاء وحكم ذلك. عن أبي بكر بن محمد عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن وفيه: " أن من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة، فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول، وإن في النفس الدية مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل، وإن الرجل يقتل بالمرأة'، وعلى أهل الذهب ألف دينار" (سنن النسائي [8/ 57] كتاب القسامة، باب: ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين له، مسند الإمام أحمد [2/ 217] عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما). وأما وجوب بعض الدية فما ذكر بعضه في الحديث الأنف الذكر، فاليد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 42 الواحدة، والرجل الواحدة، والعين الواحدة، والأذن الواحدة، والجفنان، في كل واحد كما ذكر نصف الدية خمسون من الإبل. وفي كل أصبع من أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل، كما مر. وفي كل جفن ربع الدية خمسة وعشرون من الإبل. وفي الموضحة خمس من الإبل، وفي قلع السن الواحدة الأصلية الثابتة خمس من الإبل أيضاً. وأما دية الجروح ونحوها مما لا ضابط له، كقطع عضو لا منفعة فيه، مثل اليد الزائدة ففي ذلك حكومة كما مر. معنى الحكومة: لقد مر بنا أن بعض الجنايات يترتب عليها حكومة، فما هي الحكومة؟ الحكومة: هي جزء من الدية يدفع للمجني عليه، وتقدير هذا الجزء يكون بأن يقوم المجني عليه بتقديره رقيقاً بصفاته التي هو عليها، ويقوم بعد الاندمال مع الجناية، فما نقص ممن ذلك وجب بقسطه من الدية، لأن الجملة مضمونة بجميع الدية، فتضمن الأجزاء بالأجزاء. فلو كانت قيمته قبل الجناية مائة، فيقال: كم قيمته بعد الجناية؟ فإذا قيل تسعون، فالتفاوت العشر، فيجب عشر دية النفس، وهو عشر من الإبل، إذا كان المجني عليه بلغت نقص القاضي منها شيئاً، وإن لم يكن مقدراً اشترط أن لا يبلغ بها مبلغ دية النفس. وإنما سمي ذلك حكومة لاستقرارها بحكم الحاكم دون غيره، حتى لو اجتهد غيره بذلك لم يكن له أثر. دية المرأة: إن دية المرأة في كل ما ذكر على النصف من دية الرجل، سواء أكان ذلك في دية النفس أم كان ذلك في دية الأعضاء والأطراف، أم كان في الجروح والمنافع. دليل ذلك: حديث البيهقي [8/ 95] في الديات، باب ما جاء في دية المرأة: "دية المرأة نصف دية الرجل". وعن ابن شهاب وعن مكحول وعطاء قالوا: (أدركنا الناس على أن دية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 43 المسلم الحر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة من الإبل، فقوم عمر بن الخطاب تلك الدية على أهل القرى ألف دينار، أو اثني عشر ألف درهم، ودية الحرة المسلمة إذا كانت من أهل القرى خمسمائة دينار أو ستة آلاف درهم، فإذا كان الذي أصابها من الأعراب فديتها خمسون من الإبل، لا يكلف الأعرابي الذهب ولا الورق) (سنن البيهقي [8/ 95] كتاب الديات، باب: ما جاء في دية المرأة، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه). والحكمة في كون دية المرأة نصف دية الرجل، أن الدية منفعة مالية، والشرع قد اعتبر المنافع المالية بالنسبة للمرأة على النصف من الرجل، كالميراث مثلاً، وهذا عدل يتلاءم مع واقع كل من الرجل والمرأة وطبيعتهما. دية الجنين: الجنين هو الحمل الذي في بطن الأم قبل الولادة، إذا بدأ بمرحلة التصور والتخلق، فإن جنى الجاني على جنين حر مسلم سواء أكان ذكراً أو أنثى، بأن ضرب بطن الأم فانفصل الجنين ميتاً بسبب الجناية على أمه، وجب على الجاني غرة، وهي عبد أو أمة، أو نصف عشر الدية، وهي خمس من الإبل، فإن لم يجد الإبل وجب دفع قيمتها، وقيل يدفع خمسين ديناراً. ودليل وجوب دية الجنين ما رواه الشيخان أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى في الجنين بغرة. (رواه البخاري [6511] في الديات، باب: جنين المرأة؛ ورواه مسلم [1681] في القسامة، باب: دية الجنين). [والغرة: عبد أو أمة تساوي قيمته نصف عشر الدية، وهو خمس من الإبل]. وفي البخاري أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر قتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى دية المرأة على عاقلتها. (رواه البخاري [6511] في الديات، باب: جنين المرأة). وفي البخاري أيضاً [6509] في الديات، باب: جنين المرأة، عن المغيرة بن شعبة عن رضي الله عنه: أنه استشارهم في إملاص المرأة فقال المغيرة: قضي النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغرة عبد أو أمة، قال: ائت من يشهد معك، فشهد محمد بن مسلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى به. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 44 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم. فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل؟ فمثل ذلك يطل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هذا من إخوان الكهان" من أجل سجعه الذي سجع. (أخرجه البخاري [5426] في الطب، باب: الكهانة؛ ومسلم [1681] في القسام، باب: دية الجنين). وقد مر بك أن عمر رضي الله عنه قوم الدية بألف دينار، فيكون نصف عشر الدية مساوياً لخمسين ديناراً. ومثل الضرب التخويف والإرعاب، فقد ورد أن عمر بن الخطاب استدعى امرأة فخافت، وكانت حاملاً فأسقطت منم الخوف، فاستشار الصحابة في ذلك، فأفتاه بعضهم بأنه لا يجب عليه شيء وقال له: أنت مؤدب، ولكن علي بن أبي طالب أفتاه بوجوب الدية فعمل عمر برأي علي رضي الله عنهما. وإذا فعلت الأم بنفسها ما سبب موت الجنين، بأن تناولت بعض الأدوية المسقطة للجنين من غير ضرورة وجب عليها نصف عشر الدية تدفعه لورثته، ولا تشترك معهم فيه لأنها قاتلة والقاتل لا يرث. وكذلك الطبيب الذي يسقط الجنين من غير ضرورة. هذا ولا بد من البيان أنه يجب إلى جانب الدية الكفارة كما سيأتي. شروط وجوب دية الجنين: يشترط لوجوب الدية في الجنين شروط هي: أولاً: أن تكون الجناية مما يؤثر في الجنين كضرب وإيجار دواء ونحوهما، ولا أثر للطمة خفيفة ونحوها. ثانياً: الانفصال، فلو ماتت الأم ولم ينفصل جنين على الضارب شيء من دية الجنين. ويعد الانفصال بانفصال جزء منه لتحقق وجوده. ثالثاً: كون المنفصل ميتاً، فلو انفصل حياً نظر، فإن بقي سالماً زماناً غير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 45 متألم ثم مات فلا ضمان على الضارب، لأن الظاهر أنه مات بسبب آخر، وإن مات عند خروجه أو بقي متألماً حتى مات؛ وجبت فيه دية كاملة لأنا تيقنا حياته، فأشبه سائر الأحياء، وسواء استهل أو وجد ما يدل على حياته كتنفس وامتصاص ثدي وحركة قوية. ولو انفصل ميتاً بعد موت الأم من الضرب وجبت دية الجنين. دية الكتابي: الكتابي هو اليهودي والنصراني، فإذا كان الكتابي معصوم الدم بذمة أو عهد أو أمان فقتل فديته ثلث دية المسلم في النفس فما دونها. ودليل ذلك ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه - صلى الله عليه وسلم - " فرض على كل مسلم قتل رجلاً من أهل الكتاب أربعة آلاف درهم" وقد كانت مقدرة إذ ذاك بثلث كامل دية المسلم. وقد روي ذلك عن عمر وعثمان. وروى الشافعي في الأم [6/ 92] قال: قضى عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما في دية اليهودي والنصراني بثلث دية المسلم، وانظر: سنن أبي داود [4542]. ومما يجب أن يعلم أن العدوان على الذمي حرام، وهو معصية كبيرة، روي الترمذي [1403] في الديات، باب: ما جاء فيمن يقتل نفساً معاهدة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ألا من قتل نفساً معاهدة له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً". [أخفر ذمة الله: نقض عهده، وغدر به]. دية المجوسي: ودية المجوسي وكذلك الوثني المستأمن ثلثا عشر دية المسلم وهي تساوي 1/ 15 من دية المسلم، وهي تساوي أيضاً ثمانمائة درهم من اثني عشر ألف درهم، وذلك لما روي عن عمر أنه قال: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، ودية المجوسي ثمانمائة درهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 46 قال الشافعي في الأم [6/ 92] وقضى عمر في دية المجوسي بثمانمائة درهم. وذلك ثلثا عشر دية المسلم، لأنه كان يقول: تقوم الدية اثني عشر ألف درهم. وروي مثل ذلك عن عثمان وابن مسعود، وانتشر ذلك في الصحابة، فكان إجماعاً. (تكملة المجموع: [17/ 375]. بم يثبت موجب القصاص؟ إنما يثبت موجب القصاص بأحد أمرين: الأول: الإقرار فإذا أقر الشخص بما يوجب قصاصاً ثبت القصاص في حقه، سواء أكان موجب القصاص قتلاً أو جرحاً. الثاني: البينة، وذلك يكون بشهادة عدلين ذكرين، ولا يكتفي في ذلك بشهادة رجل وامرأتين. بم يثبت موجب المال؟ يثبت موجب المال بأمور: أحدها: الإقرار فإن أقر بقتل شبه عمد أو خطأ أو جرح لا قصاص فيه ثبت ذلك في حقه. الثاني: شهادة عدلين ذكرين كما سبق. الثالث: شهادة رجل وامرأتين، لأن النساء تقبل شهادتهن في الأموال ويكون شهادة امرأتين تقوم مقام شهادة عدل واحد. الرابع: شهادة رجل ويمين المدعي، وذلك لأن الرسول علية الصلاة والسلام قضي بيمين وشاهد. (رواه مسلم [1712] في الأقضية، باب: القضاء باليمين والشاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما). الخامس: علم القاضي فإذا علم القاضي بذلك جاز حكمه وثبت على المدعي عليه ما يستحق من المال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 47 أحكام القسامة معنى القسامة: بفتح القاف: اسم للأيمان التي تقسم على أولياء الدم، مأخوذة من القسم وهو اليمين، وقيل تطلق على الأولياء أنفسهم. والمقصود بها هنا خمسون يميناً يقسمها ولي المقتول عندما يتهم شخصاً بقتله، مع وجود قرينة ما تقرب احتمال صدقه، أو يقسمها المدعي عليه عندما لا يكون ثمة قرينة لاتهامه. وقد كانت القسامة معروفة في الجاهلية، وأول من قضى بها الوليد بن المغيرة، ثم جاء الإسلام فأقرها بقيود وضوابط وشروط نبينها فيما يلي: دليل تشريع القسامة: القسامة واردة على خلاف الأصل، إذ الأصل أن تكون البينة على المدعي واليمين على من أنكر، كما جاء في الحديث "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه". روى البخاري [4277] في التفسير، باب: اليمين على المدعي عليه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه". وروى مسلم [138] في الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه، قال: كان بيني وبين رجل أرض باليمن، فخاصمته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "هل لك بين'"؟ فقلت: لا. قال: "فيمينه"، وفي رواية: "شاهداك أو يمينه". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 48 والدليل الذي اقتضي التخصيص ما رواه البخاري ومسلم عن رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة أنهما حدثا أن عبدالله بن سهل ومحيصة بن مسعود أتيا خيبر فتفرقا في النخل، فقتل عبدالله بن سهل، فجاء عبدالرحمن بن سهل وخويصة ومحيصة ابنا مسعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فتكلموا في أمر صاحبهم، فبدأ عبدالرحمن وكان أصغر القوم، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كبر الكبر" قال يحيى: يعني ليل الكلام الأكبر، فتكلموا في أمر صاحبهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أتستحقون قتيلكم أو قال صاحبكم بأيمان خمسين منهم؟ " قالوا: يا رسول الله قوم كفار، ففداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبله، قال سهل: فأدركت ناقة من تلك الإبل فدخلت مربدا لهم فركضتني برجلها. (رواه البخاري [5791] في الأدب، باب إكرام الكبير؛ ومسلم [1669] في القسامة، باب: القسامة). ولهذا الحديث روايات أخرى وألفاظ أخري ولكنها كلها تتفق على غرض واحد. فكان هذا الحديث مخصصاً لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "البينة على المدعي. . " فقد أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوى الدم الاعتماد على أيمان المدعي، إن لم يكن معه بينة، وكان ثمة لوث يقوي دليل الاتهام. كيفية القسامة: يثبت حكم القسامة في ظل الأمور التالية: أولا: أن يوجد قتيل في مكان، ولم يتيسر معرفة قاتله بيقين. ثانياً: أن يدعي أولياؤه أن رجلاً معيناً أو جماعة معينة قتلوه، وليس مع أوليائه بينة تثبت صحة دعواهم. ثالثاً: أن يكون هناك لوث (أي قرينة) يقرب احتمال الصدق في دعوى أولياء المقتول، كأن وجد قتيلاً بين أعدائه وليس فيهم غيرهم، أو وجد على ثوب المتهم رشاش دم، أو عثر في يده على سكين ملوثة بالدم، أو اجتمع قوم في بيت أو صحراء وتفرقوا عن قتيل، أو شهد عدل واحد أن فلاناً قتله، أو قاله جماعة من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 49 العبيد والنسوان جاؤوا متفرقين بحيث يؤمن تواطؤهم على الكذب أو نحو ذلك من أمارات وعلامات يغلب على القلب صدق المدعي بما ادعاه. فعندئذ يستغني عن البينة التي يطالب بها المدعي، بأن يحلف خمسين يميناً أن هذا هو القاتل، أو هؤلاء هم القتلة لفلان، يسمي كلاً باسمه أو يشير إليه باسم الإشارة. فإذا حلف المدعي ـ وهو ولي المقتول ـ هذه الأيمان استحق الدية من المدعى عليه، وكانت هذه الأيمان بمثابة البينة. وإذا كان للقتيل أولياء متعددون يرثون منه، واتهموا شخصاً أو جماعة بالقتل ووجد لوث يؤيدهم في اتهامهم؛ اشتركوا جميعاً في الحلف ووزعت الأيمان بينهم على حسب ميراثهم من المقتول، لأن ما يثبت بأيمانهم من الدية يوزع عليهم، فوجب على كل منهم من الأيمان بقدر نسبة ما يرثه من المقتول. فأما إن اتهم ولي المقتول شخصاً أو جماعة، ولم يكن هناك لوث يرجح صدق المدعي في اتهامه؛ فاليمين تحول إلى المدعى عليه ـ أي المتهم ـ عملاً بالفقرة الثانية من قاعدة "البينة على المدعى واليمين على من أنكر". فيحلف المدعى عليه خمسين يميناً أنه لم يقتل فلاناً، ويسميه باسمه أو يشير إليه معبراً عنه باسم الإشارة. فإن حلف الأيمان برئت ساحته، وإن لم يحلف أعيدت الأيمان إلى المدعى فحلفها بدلاً عنه، واستحق بذلك الدية. وعلى المدعى وهو يحلف أن يبين نوع القتل هل كان خطأ أو عمداً أو شبه عمد، فإن لم يبين ذلك لم يعتد بأيمانه. ولا يثبت بالقسامة القصاص، لقيام نوع من الشبهة فيها، بل تثبت بها الدية، فإن كان القتل عمداً استحقها المدعي في مال المدعى عليه، وإن كان القتل خطاً أو شبه عمد استحقها المدعى على عاقلة المدعى عليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 50 كفارة القتل حكمها ودليله: يجب على قاتل النفس المحرمة ولو جنيناً، كفارة لحق الله عز وجل، سواء أكان القاتل عمداً أو خطأ أو شبه عمد، وسواء عفي عن الدية المستحقة عليه أم لا، وسواء كان القاتل صبياً أو مجنوناً أو راشداً. دليل وجوبها قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} (سورة النساء: 92). ولخبر أبي داود [3964] في العتق، باب: في ثواب العتق، وصححه الحاكم وغيره عن واثلة بن الأسقع قال: أتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - في صاحب لنا قد استوجب النار بالقتل، فقال: "أعتقوا عنه رقبة يعتق الله بكل عضو منها عضو منها عضواً من النار". فدل هذا الحديث على أن الكفارة تجب في القتل العمد، لأنه لا يستوجب القاتل النار إلا إذا كان عامداً، أخذاً من قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (سورة النساء: 93). وإذا دلت الآية السابقة على وجوب الكفارة على قاتل الخطأ فمن الأولى أن تجب على قاتل العمد وشبهه، لأن الكفارة للجبر وهؤلاء أحوج إليها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 51 كيفية كفارة القتل: يجب على القاتل عتق رقبة مؤمنة تفضل عن كفايته من تلزمه نفقته كما نصت الآية الآنفة الذكر، ويشترط في هذه الرقبة أن تكون سليمة من العيوب، كما في كفارة الظهار. فإن لم يتمكن من عتق رقبة لفقره أو لعدم وجود رقيق وجب عليه أن يصوم شهرين متتابعين، أخذاً من الآية السابقة: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ}. فإن عجز عن صيام شهرين لمرض، بقيت الكفارة متعلقة بذمته حتى وجود القدرة على واحد مما سبق، ولا ينتقل عند العجز إلى الإطعام، كما ينتقل في كفارة الإفطار بالجماع في نهار رمضان، وكما ينتقل أيضاً في كفارة الظهار، لأن ذلك قياس، والقياس غير جائز في الكفارات. ملاحظة: لا تجب الكفارة على قاتل الباغي والصائل، لأنها لا يضمنان فأشبها الحربي والمرتد والزاني المحصن، وكذلك لا تجب على قتل من يقتص منه لأنه مباح الدم بالنسبة إليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 52 الحدود تمهيد: لقد كرم الله الإنسان، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (سورة الإسراء: 70). ومن مظاهر هذا التكريم أنه أقامه خليفة في إعمار هذه الأرض، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة: 30). وقال جل وعز: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} (سورة الأنعام: 165). {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} (سورة هود: 61). هذا الاستخلاف لا يتحقق ولا يتم إلا بتأمين المصالح لبني الإنسان ودرء المفاسد عنهم، ولا يكون هذا إلا بالمحافظة على الضروريات الخمس التي هي: الدين والنفس والعقل والنسل والمال، التي هي ضرورية لبقاء هذا النوع الإنساني على ظهر الأرض، وقيامه بالمهمة التي وكلها الله إليه. والدين الإسلامي جاء للمحافظة على هذه الضروريات الخمس ولدرء المفاسد عنها، ومن هنا قالوا: الإسلام جاء لجلب المصالح ودرء المفاسد، فشرع لذلك التشريعات، ومن هذه التشريعات الحدود والتعزيرات أقامها لكل من تسول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 53 له نفسه الاعتداء على هذه الضروريات الخمس. وإليك بيان هذه الحدود والتعزيرات، وبيان حرص الإسلام على إقامتها كي يحقق لبني الإنسان السعادة المنشودة. أقسام العقوبات: تنقسم العقوبات إلى قسمين: حدود وتعزيرات. تعريف الحد: الحد عقوبة مقدرة من قبل الشارع، فلا يجوز الزيادة عليها باسم الحد ولا النقصان منها. تعريف التعزير: التعزير عقوبة غير محددة من قبل الشارع، بل هي متروكة لرأي الحاكم، وسنتحدث عن التعزير إن شاء الله عقيب الانتهاء من الحديث عن الحدود. الحدود المفروضة: العقوبات المقدرة التي هي الحدود ستة وهي: حد الزنى ـ حد القذف ـ حد السرقة ـ حد شرب المسكر ـ حد الحرابة ـ حد الردة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 54 حد الزنى أنواع الزنى: الزاني إما أن يكون مدفوعاً إلى الفاحشة، بشبهة مسوغ شرعي، أو مدفوعاً إليها بمحض رعونة ورغبة، وكل منهما إما أن يكون محصناً أو غير محصن، فالأنواع إذا أربعة. أما المدفوع إلى الزنى بشبهة مسوغ شرعي، كأن ظنها زوجته فتبين أنها أجنبية، أو توهم أ، ها خلية أو غير محرم له فعقد نكاحه عليها، فتبين فيما بعد أنها ليست خلية، بل هي على عصمة زوج، أو تبين أنها أخته في الرضاع. فحكم الزنى في هذه الحال أن لا يستلزم إثماً لصاحب الشبهة ولا يستوجب حداً، سواء أكان الفاعل محصناً أو غير محصن، لمكان الشبه في ذلك، إلا أنه يترتب على فعله آثار وأحكام قضائية تذكر في مكان آخر إن شاء الله تعالى. وهناك صور للشبهة تستلزم الإثم ولكنها لا تستوجب الحد. وأما المدفوع إلى الفاحشة برغبة لا شبهة فيها، فينظر في وضعه، وهو أنه أما أن يكون محصناً أو غير محصن. فأما المحصن فهو من توافرت فيه الصفات التالية: 1 - أن يكون مكلفاً، أي بالغاً عاقلاً، فلا تنطبق صفة الإحصان على الصبي ولو كان مميزاً، ولا على المجنون جنوناً مطبقاً، وأما إن كان جنونه متقطعاً، وفعل ذلك في حال الصحو فيدخل في نطاق التكليف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 55 2 - أن يكون حراً، وأما العبد فينصف في حقه الجلد، كما سيأتي سواء أكان محصناً أم غير محصن. 3 - وجود الوطء منه في نكاح صحيح، سواء أكان له زوجة عند الزنى أم لم يكن. أما لو مارس الوطء بشكل غير مشروع فلا يعد محصناً. فإذا وجدت فيه هذه الصفات الثلاث طبق عليه حكم الزاني المحصن. وهذه الصفات تنطبق على الإناث كما تنطبق على الذكور. وأما غير المحصن، فهو من لم تتكامل فيه هذه الصفات، بأن كان غير مكلف، أو لم يمارس الجماع بطريقه المشروع بناءً على عقد صحيح، كما مر ذلك آنفاً. حكم كل من هذه الأنواع: لقد مر بك آنفاً أن الزنى الذي يتم بسبب شبهة مسوغ شرعي، لا يستوجب الحد، وقد لا يستلزم الإثم أيضاً، سواء كان الزاني محصناً أم غير محصن. أمام من لم يكن فعله مستنداً إلى شبهة، فهو يستلزم الإثم ويستوجب الحد، ويختلف الحد على حسب صفة الزاني بالنظر إلى وجود الإحصان وعدمه، ويكون الحد على ما يلي: حد الزاني المحصن: إذا ثبتت صفة الإحصان بالنسبة للزاني، طبق في حقه حد الزاني المحصن، وهو: الرجم بالحجارة حتى الموت. ثبت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً، كما ثبت أن هذا الحكم كان متلواً في القرآن ثم نسخت تلاوته. روى الشيخان عن عمر رضي الله عنه أنه خطب فقال: (إن الله بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل الله عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم حق في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف) (رواه البخاري [6442] في المحاربين، باب: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 56 رجم الحبلى في الزنى إذا أحصنت؛ ومسلم [1691] في الحدود، باب: رجم الثيب في الزنى). والآية التي نسخت تلاوتها هي: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم". وروى البخاري [6430] في المحاربين، باب: لا يرجم المجنون. والمجنونة؛ ومسلم [1691] في الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل من المسلمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات، فقال: "أبك جنون"؟ قال: لا، قال: "فهل أحصنت"؟ قال: نعم، فقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: "اذهبوا به فارجموه". وفي مسلم [1696] في الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما: أن امرأة من جهينة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حبلى من الزنى، فقالت: يانبي الله أصبت حداً فأقمه علي، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليها فقال: "أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها"، ففعل فأمر بها فشكت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها، فقال عمر: أتصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟! فقال: "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لو سعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله؟ ". حد الزاني غير المحصن: إذا زنى شخص وهو غير محصن بالمعنى الذي سبق ذكره أقيم عليه الحد، وحد غير المحصن مائة جلدة وتغريب عام. أما جلده مائة جلدة فقد ثبت بالقرآن الكريم، قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (سورة النور: 2). وكذلك ثبتت بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الآتي ذكره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 57 وأما تغريب العام فقد ثبت في أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة الصحيحة. روي مسلم [1690] في الحدود باب: حد الزني؛ عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " خذوا عني، خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". وروى البخاري [6467] في المحاربين، باب: هل يأمر الإمام رجلاً فيضرب الحد غائباً عنه؛ ومسلم [1697] في الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما: أن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الآخر ـ وهو أفقه منه ـ: نعم فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي، فقال: "قل". قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أن علي ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها". وقد غرب عمر رضي الله عنه إلى الشام، وغرب عثمان رضي الله عنه إلى مصر، وغرب علي رضي الله عنه إلى البصرة، ولم ينكر عليهم أحد فكان ذلك إجماعاً. وروى الترمذي [1438] في الحدود، باب: ما جاء في النفي، عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب". والتغريب يكون بحكم القاضي، فلو تغرب بنفسه عاماً كاملاً لم يكف، ولو كان التغريب إلى ما دون مسافة القصر لم يكف أيضاً. ويستوي كل من الرجل والمرأة في وجوب التغريب، غير أنه يشترط في تغريب المرأة أن يكون معها محرم، فلو لم يوجد المحرم لم يجز تغريبها، لأن المرأة لا يجوز أن تسافر إلا ومعها ذو محرم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 58 شروط إقامة الحد: لا بد لإقامة الحد على المحصن وغيره، من توافر الشروط التالية: الشرط الأول: التكليف، وهو أن يكون الزاني بالغاً عاقلاً، فلا يحد غير المكلف من صبي وفاقد العقل، أما السكران فإن كان متعمداً في سكره جرى عليه حكم التكليف، وطبق في حقه الحد إذا توافرت فيه الشروط الأخرى، وأما إذا كان غير معتمد بسكره، كأن شرب مسكراً يظنه ماء فسكر، فهذا يعد الآن غير مكلف. الشرط الثاني: عدم الإكراه، فلو أكره أو أكرهت على الزنى، بأن هدد أو هددت بالقتل، فقام بهذا الأمر؛ لم يقم عليه حد، لما جاء في الحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ". رواه ابن ماجه [2045] في الطلاق باب: طلاق المكره والناسي عن ابن عباس. الشرط الثالث: خلو الزنى عن شبهة مسوغ شرعي، فلا حد على الزنى الذي وقع في ظروف شبهة. مثاله: أن يجد على فراشه امرأة فيظنها زوجته، فيطأها ثم يتبين أنها أجنبية، أو أن يعقد نكاحه على فتاة بلا شهود ثم يجامعها؛ إذ يوجد من العلماء من لم يشترط الشهود في النكاح، وهذا مثل للشبهة التي تستلزم إثماً، ولكنها لا تستوجب حداً، أما الإثم فلا تباعه القول الشاذ الذي لا سند له، بل الدليل قائم على اشتراط الشهود في العقد، إذ يقول عليه الصلاة والسلام: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" (رواه ابن حبان [1247]). وأما الشبهة فترجيحاً لجانب المعذرة للجاني، وعملاً بقوله عليه الصلاة والسلام: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم" (رواه الترمذي [1424] في الحدود، باب: ما جاء في درء الحدود، عن عائشة رضي الله عنها). الشرط الرابع: ثبوت الزنى إما بإقراره أو بقيام بينة. أما الإقرار فينبغي أن يقر الزاني بعمله بعبارة واضحة جازمة لا تقبل احتمالاً، ويكفي عند ذلك إقرار واحد، ولا يشترط تكرار الإقرار، فإن رجع عن الإقرار سقط عنه الحد، وبطل إقراره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 59 دليل ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزاً والغامدية بإقرارهما. (أخرجه مسلم [1695] في الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى). ودليل صحة الرجوع عن الإقرار، وسقوط الحد بالرجوع عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - عرض لماعز بالرجوع عن الإقرار. روى البخاري [6438] في المحاربين، باب: هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أتى ماعز بن مالك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت"، قال: لا يا رسول الله. فلو لم يسقط الحد بالرجوع عن الإقرار؛ لما كان لهذا القول أي معنى. وأما البينة فهي شهادة أربعة رجال عدول على الزنى، بتعبير صريح غير قابل للاحتمال، مع تعيين المكان الذي جرى فيه، واتفاقهم جميعاً عليه، فلو لم يذكروا المكان، أو اختلفوا في تعيينه لم تثبت البينة ويقام الحد على هؤلاء الشهود، حد القذف الذي يأتي الحديث عنه. والدليل على اشتراط شهود أربعة قوله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ} (سورة النساء: 15)، وقوله تعالى: {لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (سورة النور: 13). حد الأمة والرقيق: إذ زنت الأمة أو العبد وثبت ذلك في حقهما أقيم عليهما الحد، وحد الأمة والعبد خمسون جلدة وتغريب نصف عام، سواء كانا محصنين أم غير محصنين، وذلك لقوله تعالى في حق الإماء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (سورة النساء: 25) وقيس العبد على الأمة في ذلك بجامع الرق فيهما. حكم ما يتبع الزنى اللواط ونحوه: اللواط هو الإتيان في الدبر، سواء أكان المأتي ذكراً أم أنثى، والصحيح من المذهب أن حكمه حكم الزنى، بالنسبة إلى الفاعل، فإن قامت البينة أو أقر، فإن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 60 كان محصناً رجم حتى الموت، وإن كان غير محصن جلد مائة جلدة، وغرب عن بلده عاماً كاملاً. ودليل ذلك العموم في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً}. مع قوله سبحانه في عمل لوط: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} (سورة الأعراف: 80). وقد ورد في الحديث تسمية من يفعل ذلك زانياً. فقد روى البيهقي [8/ 233] في الحدود، باب ما جاء في حد اللوطي عن أبي موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أتى الرجل فهما زانيان". أما المفعول به غير الزوجة فيجلد ويغرب كالبكر وإن كان محصناً، سواء أكان ذكراً أم أنثى، لأن المحل لا يتصور فيه إحصان. وقيل ترجم المرأة المحصنة. وفي قول للشافعي أن من يفعل ذلك يقتل، أخذاً من الحديث الذي رواه أصحاب السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" (أخرجه الترمذي [1456] في الحدود، باب: في حد اللواط؛ وأبو داود [2561] في الحدود، باب: من عمل عمل قوم لوط). وهناك رأي لغير الشافعية أنه يحرق بالنار لما أخرجه البيهقي "أنه اجتمع رأي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تحريق الفاعل والمفعول به" (سنن البيهقي [8/ 233] كتاب الحدود، باب: ما جاء في حد اللوطي). وقال الحافظ المنذري: حرق اللوطية بالنار أربعة من الخلفاء: أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير، وهشام بن عبد الملك (الترغيب والترهيب [3/ 289]). هذا وأما إتيان الزوجة في الدبر فهو حرام ومن الكبائر لما ورد فيه من الأحاديث الكثيرة التي تلعن من يفعل ذلك: فمن هذه الأحاديث التي وردت في التنفير من ذلك ما روي عن أبي هريرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 61 وابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها" (أخرجه الترمذي [1176] في الرضاع، باب: ما جاء في كراهية إتيان النساء في أدبارهن). وما روي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أتي حائضاً في فرجها أو امرأة في دبرها أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد" (أخرجه الترمذي [135] في الطهارة، باب: في كراهية إتيان الحائض). وما روي عن أبي هريرة أيضاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ملعون من أتى امرأة في دبرها" (أخرجه أبو داود [2162] في النكاح، باب: جامع النكاح). لكن إن فعل ذلك مع زوجته وارتكب هذا المحرم عزره القاضي بما يراه مناسباً من العقوبات المختلفة، بشرط أن لا تصل إلى أدنى الحدود المقررة. ودليل ذلك ما رواه البيهقي [8/ 327] عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين". حكم إتيان البهائم: من أتى بهيمة, فإنه يعزر، ولا حد عليه على القول الراجح في الذهب، لأن فعله مما لا يشتهى عند أصحاب الأذواق السليمة، بل هو مما ينفر منه الطبع الصحيح ولا تميل إليه النفس السليمة، فلا يحتاج إلى زجر، والحد إنما شرع زجراً للنفوس عن مقاربة ما يشتهى طبعاً على وجه غير مشروع. والتعزير إنما هو عقوبة غير مقدرة، يفرضها القاضي المسلم العادل حسبما يراه رادعاً لمثل هؤلاء عن مثل هذه الدنايا، من ضرب أو نفي أو حبس أو توبيخ، لأنه فعل معصية لا حد لها ولا كفارة، وإذا انتفي الحد وجب التعزير. روى الترمذي [1455] في الحدود، باب: ما جاء فيمن يقع على البهيمة؛ وأبو داود [4465] في الحدود، باب: فيمن أتى بهيمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ليس على الذي يأتي البهيمة حد). من يتولى إقامة الحد: إنما يستوفي الحد الإمام أو نائبه، ولا يتولى ذلك أحد غير ما ذكر، إلا الرقيق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 62 ذكراً كان أو أثنى فللسيد إقامة الحد عليهما، وذلك لما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر". (أخرجه الترمذي [2045] في البيوع، باب: بيع العبد الزاني؛ ومسلم [1703] في الحدود، باب: رجم اليهود أهل الذمة في الزنى). وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أقيموا الحدود على أرقائكم من أحصن منهن ومن لم يحصن". (رواه مسلم [1705] في الحدود، باب: تأخير الحد عن النفساء؛ والترمذي [1441] في الحدود، باب: ما جاء في إقامة الحد على الإماء). إقامة الحد على الضعيف: إذا استحق الزاني الرجم وكان ضعيفاً أو مريضاً أو كان هناك حر أو برد مفرطان لا يؤخر الرجم، لأن النفس مستوفاة، ولا فرق بينه وبين الصحيح. وأما إن كان مستحقاً للجلد فيؤخر إلى أن يقوي أو يذهب الحر أو البرد، لكن إذا جلد الإمام في هذه الحالة فمات المجلود فلا ضمان عليه، لأن التلف حصل من واجب أقيم عليه. ويجلد الضعيف بعثكال عليه مائة غصن، فإن كان به خمسون غصناً ضرب به مرتين، وتمسه الأغصان، أو ينكبس بعضها على بعض ليناله بعض الألم، أو يضرب بالنعال أو بالثياب. فقد روى أحمد والنسائي وابن ماجه عن ماجه عن سعيد بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما قال: كان بين أبياتنا رويجل ضعيف فخبث بأمة من إمائهم، فذكر ذلك سعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اضربوه حده"، فقالوا: يا رسول الله إنه أضعف من ذلك، قال: "خذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ ثم اضربوه ضربة واحدة، ففعلوا". (سنن أبي داود [4472] كتاب الحدود، باب: في إقامة الحد على المريض؛ سنن ابن ماجه [2574] كتاب الحدود، باب: الكبير والمريض يجب عليه الحد؛ مسند الإمام أحمد [5/ 212]، عن سعيد بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 63 كيفية الرجم: يستحب أن يحفر للمرأة حفرة إن ثبت زناها ببينة، وأما إن كان ثبت زناها بإقرار فلا يحفر لها كي تتمكن من الهرب إن رجعت عن الإقرار. أما الرجل فلا يحفر له حفرة. وجميع بدن المحصن محل للرجم: المقاتل وغيرها، ولكن يختار أن يتوقى الوجه، لورود بعض الأحاديث بتجنبه. ويكون موقف الرامي بحيث لا يبعد عنه فيخطئه، ولا يدنو منه فيؤلمه. والأولي لمن حضره أن يشارك في رجمه إن ثبت زناه ببينة، وأن يمسك إن رجم بالإقرار، ويجب أن تستر عورة الرجل وجميع بدن الحرة عند الرجم، ولا يربط ولا يقيد. ويكون الرجم بمدر أي طين متحجر، وبحجارة معتدلة أي ملء الكف لا بحصيات خفيفة لئلا يطول تعذيبه، ولا بصخرات تذففه وتجهز عليه، فيفوت التنكيل المقصود. ويستحب حضور الإمام وشهود الزنى، وحضور جمع من المسلمين الأحرار، لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (سورة النور: 2). والسنة أن يبدأ الإمام بالرجم ثم الناس إن ثبت الزنى بالإقرار، فإن ثبت بالبينة فالسنة أن يبدأ الشهود بالرجم ثم الإمام ثم الناس، وتعرض عليه التوبة ـ كما قال الماوردي ـ قبل رجمه، لتكون خاتمة أمره، وإن حضر وقت صلاة أمره بها، وإن أراد التطوع مكنه من صلاة ركعتين، وإن استسقى ماء سقي، وإن استطعم لم يطعم، لأن الشرب لعطش سابق، والأكل لشبع مستقبل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 64 حد القذف لقد ذكرنا فيما مضى أن الإسلام حريص على صيانة الضروريات الخمس، وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال. ولذلك شرع الحدود والعقوبة لمن يريد أن يعتدي على واحدة منها، ومن الحدود التي شرعها الإسلام صيانة للعرض ومحافظة على النسب عقوبة القذف، فما القذف وما عقوبته؟ إليك بيان ذلك فيما يلي: معنى القذف في اللغة: القذف في اللغة معناه الرمي، ومنه قذف الحجارة وقذف الجمار، قال في مختار الصحاح: القذف بالحجارة الرمي بها. معنى القذف في اصطلاح الشرع: القذف في الشرع هو الرمي بالزنى في معرض الشتم والتعيير، والمقصود بقولنا: في معرض الشتم والتعيير، إخراج كلام الطبيب مثلاً عندما يفحص حال فتاة، فيقرر أنها قد مارست الزنى، وإخراج الشهادة بالزنى، فلا حد في ذلك، إلا أن يشهد به دون أربعة من الشهود، فيحدون كما سيأتي. حكم القذف: يحرم على المسلم أن يرمي أخاه المسلم بالفاحشة، سواء كان صادقاً عند نفسه في اتهامه أم كاذباً، أما في حالة الكذب فلأنه بهتان وظلم، والكذب من أقبح المحرمات، وأما في حالة كونه صادقاً عند نفسه فلأنه كشف للأسرار، وهتك للأعراض، وفضح لما أمره الله بالستر عليه، إذا انزلقت نفسه في فاحشة أو معصية، ونشر لمقالة السوء في المجتمع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 65 ولهذا عد الشرع الشريف القذف من الكبائر فقال عليه الصلاة والسلام: " اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات". (أخرجه البخاري [2615] في الوصايا، باب: قول الله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً؛ ومسلم [89] في الإيمان، باب: تحريم الكبائر؛ وأبو داود [2874] في الوصايا، باب: ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم؛ والنسائي [6/ 257] في الوصايا، باب: اجتناب أكل مال اليتيم). حد القذف ودليله: الحد في الشرع هو عقوبة مقدرة، وجبت حقاً لله كحد الزنى، أو حقاً لآدمي كحد القذف. وحد القذف إذا استوفى شروطه: ثمانون جلدة، وكذلك إسقاط شهادته، إلا إذا تاب فتعود إليه شهادته. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (سورة النور: 4 - 5). شروط حد القذف: لا يقام حد القذف على القاذف إلا بعشرة شروط، خمسة منها يجب أن تتحقق في القاذف، وخمسة منها يجب أن تتحقق في المقذوف. - الشروط الخمسة في القاذف هي: الأول: البلوغ، فلا يقام حد على من دون البلوغ، لأنه غير مكلف لحديث: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم". (رواه أبو داود [4399] في الحدود، باب: في المجنون يسرق أو يصيب حداً، عن ابن عباس رضي الله عنهما). وأما إذا كان مميزاً فيعزر. الثاني: العقل، فلا يقام الحد على قاذف مجنون، لأنه رفع القلم عنه كما مر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 66 في الحديث السابق، والحكمة من عدم إقامة الحد على الصبي والمجنون أنه لا إيذاء في قذفهما. وأما السكران المتعدي بسكره فهو كالمكلف، فإنه يقام عليه الحد. الثالث: أن لا يكون أصلاً للمقذوف، كالأب والجد مهما ارتفع، وكالأم والجدة مهما علت، فلا يحد هؤلاء بقذف الولد وإن سفل، كما أنهم لا يقتلون به كما مر ذلك في مبحث الجنايات، وكذلك لا يحدون بقذف من ورثه الولد، ولم يشاركه فيه غيره، كما لو قذف امرأة له منها ولد ثم ماتت، لأنه إذا لم يثبت له ابتداء لم يثبت له انتهاء كالقصاص. أما لو كان لها ولد من غيره، فإنه لا يسقط عنه حد القذف، وحيث قلنا إنه لا يجب فيحقه حد القذف، لا يسقط ذلك عنه عقوبة التعزير، بل يعزر بما يراه الحاكم عقوبة لذلك. الرابع: أن يكون مختاراً، فلا حد على من أكره على القذف، لقوله عليه الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه|. (سنن ابن ماجه [2043 - 2045] الطلاق، باب: طلاق المكره والناسي). ولأنه لم يقصد الأذى بذلك لإجباره عليه، وكذلك لا يجب على المكره لأنه لا يسمي قاذفاً. الخامس: أن يكون عالماً بالتحريم، فلا حد على جاهل بحكم القذف، لقرب عهده بالإسلام، أو لبعده عن العلماء، أما لو كان عالماً بالتحريم، ولكنه يجهل وجوب الحد، فلا يعفيه جهله هذا من إقامة الحد عليه. - الشروط الخمسة في المقذوف هي: الأول: أن يكون المقذوف مسلماً. الثاني: أن يكون بالغاً. الثالث: أن يكون عاقلاً. الرابع: أن يكون عفيفاً، بأن لا يكون قد ثبت عليه الزنى من قبل. الخامس: أن لا يكون قد أذن المقذوف بقذفه. فإن الإذن وإن كان لا يسوغ القذف ولا يبيحه، إلا أنه يجعل في القذف شبهة، وفي الحديث "ادرؤوا الحدود الجزء: 8 ¦ الصفحة: 67 عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة". (رواه الترمذي [1424] في الحدود، باب: ما جاء في درء الحدود). وجوب التعزير إذا لم تتكامل الشروط: إذا لم تتحقق هذه الشروط العشرة أو لم يتحقق واحد منها، سقط الحد. وليس معنى سقوط الحد أنه لا عقوبة على القاذف، بل هناك عقوبة التعزير، وكان للحاكم أن يعزره بعقوبة يراها صالحة، من حبس وضرب، شريطة أن لا يبلغ في التعزير أدنى الحدود إذا كان من جنسها. روى البيهقي [8/ 327] عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين". بعض ألفاظ القذف: من ألفاظ القذف أن يقول: زنيت، أو يا زاني، أو يا مخنث، أو لطت، أو لاط بك فلان، أو يا لائط، أو يا لوطي، أو للمرأة يا قحبة، أو يقول لابنها من زيد لست ابنه أو لست منه، أو ما أشبه ذلك من ألفاظ تدل على هذه المعاني. مسقطات حد القذف: يسقط حد القذف على القاذف بثلاثة أشياء: أحدها: إقامة البينة على ثبوت الزنى، أو إقرار المقذوف بذلك، فإذا انضم إلى القاذف ثلاثة شهود، وكانوا جميعاً ممن تصح شهادتهم، وشهدوا على الزنى بصريح القول، أو أقر المقذوف بما قذف به سقط بذلك حد القذف، وتحول الحد على المقذوف. فإن شهد أقل من ثلاثة معه، لم تثبت البينة وكانوا جميعاً قذفة يتعلق بهم حد القذف جميعاً. ففي البخاري، (كتاب الشهادات، باب: شهادة القاذف والسارق والزاني)، أن عمر جلد أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعاً بقذف المغيرة بن شعبة، ثم استتابهم وقال: من تاب قبلت شهادته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 68 ثانيا: عفو المقذوف عن القاذف، كعفو ولي المقتول عن القصاص، لأن هذا الحد حق من حقوق العباد فيسقط بالإسقاط. فإذا عفا المقذوف عن القاذف أمام القضاء؛ سقط الحد بذلك عن القاذف. ثالثا: أداء اللعان إذا كان القاذف زوجاً، والمقذوفة الزوجة، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ {6} وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (سورة النور: 6 - 7). والحكمة من أن يكون هذا المسقط خاصاً بالزوج إذا قذف زوجه، هي أن الزوج قلما يتهم زوجته بالزنى أمام الحاكم إلا وهو صادق فيما فعل، وفي تكليفه بإحضار شهود على زناها إحراج له، وجرح لكرامته ومنافاة لما تقتضيه المحافظة على عرضه، وبينهما من التعايش ما لا يسمح بتغاضيه عن الأمر، كما لو كانت أجنبية عنه، من أجل كل ذلك شرع الله اللعان بكل أحكامه التي مرت بك وعرفتها؛ حلا لهذه المشكلة. روى البخاري عن ابن عباس: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي - صلى الله عليه وسلم -: " البينة أو حد في ظهرك"، فقال: يا رسول الله إذا رأي أحدنا على امرأته رجلاً ينطق يلتمس البينة؟! فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "البينة وإلا حد في ظهرك"، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل عليه: {والذين يرمون أزواجهم. . . } فقرأ حتى بلغ:: {إن كان من الصادقين} فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليها، فجاء هلال فشهد والنبي ... - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب"، ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوهها وقالوا: إنها موجبة، قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء"، فجاءت به كذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن". (رواه البخاري [4470] تفسير سورة النور باب: ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 69 شروط الشهود: يشترط في كل شاهد أن يكون ذكراً، فلو شهد أربع نسوة، لم تقبل شهادتهن وأقيم عليهن حد القذف. وكذلك يجب أن يكونوا أحراراً فلو شهد عبيد أقيم عليهم الحد، وكذلك يشترط أن يكونوا من المسلمين، فإن كانوا كفرة لم تقبل شهادتهم، ويقام عليهم الحد، وليعلم أن حد العبد على النصف من حد الحر، فيجلد أربعين جلدة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 70 حد شرب الخمر لقد مر هذا البحث كاملاً في الجزء الثالث، عند البحث في الأشربة المحرمة. ونكتفي هنا بهذه العجالة، ليكون هذا البحث في مكانه بين الحدود. من شرب خمراً، أو مسكراً مهما كان منشؤه، ومهما اختلف اسمه، أقيم عليه حد الشرب، سواء حصل الإسكار بقليل منه، أو كثير. فقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البتع، وهو شراب يصنع من العسل، والمزر وهو شراب يصنع من الشعير أو الذرة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أو مسكر هو"؟ قال: نعم. قال: "كل مسكر حرام، إن على الله عز وجل عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال"، قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: "عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار" (رواه مسلم [2001، 2002] في الأشربة، باب: بيان أن كل مسكر خمر وكل خمر حرام). وحد شرب الخمر أربعون جلدة أربعون جلدة، ويجوز أن يبلغ به ثمانين جلدة، على وجه التعزير لا الحد. روى مسلم [1706] في الحدود، باب: حد الخمر، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين. [الجريد: أغصان النخل إذا جردت من الورق]. وإنما يزيد الإمام على الأربعين جلدة تعزيراً إن رأى مصلحة في ذلك، لا سيما إذا فشا شرب الخمر، وانتشر شرها، ليحصل الردع والزجر. ودليل أن الزيادة على الأربعين جلدة تعزير وليس بحد، ما رواه مسلم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 71 [1707] في الحدود، باب: حدد الخمر، أن عثمان رضي الله عنه أمر بجلد الوليد بن ابي معيط، فجلده عبدالله بن جعفر رضي الله عنهما، وعلي رضي الله عنه يعد، حتى بلغ أربعين، فقال: (أمسك، ثم قال: جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلى). أي الاكتفاء بأربعين، لأنه الذي فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أحوط في باب العقوبة، من أن يزيد فيها عن المستحق، فيكون ظلماً. بم يثبت الحد؟ يثبت حد شرب المسكر، ويجب عليه بأمرين: الأول: البينة: أي شهادة رجلين مسلمين عدلين. الثاني: الإقرار، وذلك بأن أقر على نفسه بشرب مسكر. ولا شك أن الإقرار حجة يقوم مقام البينة. هذا ولا يثبت الحد بالقيء، والاستنكاه ـ وهو شم رائحة الفم ـ لاحتمال أن يكون شربه مكرهاً، أو مخطئاً، والحدود تسقط بالشبهات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 72 المخدرات معنى التخدير: التخدير هنا يقصد به الحالة التي تغشى العقل والفكر من الكسل والثقل والفتور. والمخدرات كل ما يسبب هذه الحالة للعقل، من بنج وأفيون وحشيشة ونحوها. حكم المخدرات: المخدرات حرام كيفما كان تعاطيها، لما فيها من الأضرار بالعقل والجسم. روى أبو داود [3686] في الأشربة، باب: النهي عن المسكر، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل مسكر ومفتر). عقوبة تناول المخدرات: عقوبة المخدرات عقوبة تعزيرية، مفوضة من حيث نوعها وشدتها إلى ما يراه القضاء الإسلامي العادل من سجن، أو ضرب، أو تقريع، بشرط أن لا يبلغ به أدنى حد من الحدود الشرعية. وبحث المخدرات قد مر مفصلاً في الجزء الثالث من بحث الأشربة المحرمة. ولذلك نكتفي هنا بهذه الخلاصة، والله الموفق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 73 حد السرقة كما جاء الإسلام بالمحافظة على الأنفس والأعراض، كذلك جاء بالمحافظة على الأموال، فشرع حد السرقة لمن يعتدي على الأموال صيانة لها. فما هي السرقة وما حدها؟ إليك بيان ذلك فيما يلي: ما هي السرقة؟ السرقة في اللغة أخذ المال خفية، وشرعاً: أخذ مال الغير خفية ظلماً من حرز مثله بشروط معينة. فخرج بقولنا خفية الغصب، فالغاصب يستلب المال جهراً، فلا يسمى سارقاً، ولا يدخل في عقوبة السرقة. وخرج بقيد مال الغير النباش وهو الذي يسرق ما في القبور من أكفان الموتى، فإنها لا تدخل في تعريف السرقة، لعدم وجود مالك لها، وإن كانت حرمة الميت تمنع من جواز العدوان عليها. إلا إن كان القبر في بيت أو بمقبرة بطرف عمارة فإن النباش عندئذ يعد سارقاً، ويقام عليه حد السرقة. روى الترمذي [1448] في الحدود، باب: ما جاء في الخائن ولا منتهب ولا مختلس والمنتهب، عن جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع". [الخائن: الذي يأخذ المال خفية، ويظهر النصح للمالك. والمنتهب: هو الذي يأخذ المال على وجه القهر والغلبة. والمختلس: هو الذي يأخذ المال على سبيل الخلسة]. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 74 حد السرقة: إذا ثبتت السرقة بالشروط الآتي ذكرها أمام القضاء، وجب إقامة الحد على هذا السارق، والحد هو قطع اليد من مفصل الكوع ـ والكوع طرف الزند الذي يلي الإبهام ـ أي تقطع اليد من مفصل الكف، ودليل ذلك قوله تعالى:: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة المائدة: 38). وحديث عمرو بن شعيب: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بسارق فقطع يده من مفصل الكف. (رواه الطبراني، انظر: مغني المحتاج [4/ 77]). وروى البخاري ومسلم واللفظ لمسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلمه أسامة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قام فاختطب فقال: أيها الناس إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها". (رواه البخاري [6406] في الحدود، باب: كراهية الشفاعة في الحدود إذا رفع إلى السلطان؛ ومسلم [1688] في الحدود، باب: قطع السارق الشريف، عن عائشة رضي الله عنها). تقطع يد السارق اليمنى ـ كما قلنا ـ إن سرق أول مرة، فإن سرق ثانية بعد قطع اليمنى تقطع رجله اليسرى، فإن سرق ثالثة بعد قطع رجله اليسرى قطعت يده اليسرى، فإن سرق رابعة بعد قطع يده اليسرى قطعت رجله اليمنى، فإن سرق بعد ذلك يعزر، فيعاقبه الحاكم بما يراه رادعاً. روى الشافعي في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في السارق: "إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله". (الأم [6/ 138]). شروط إقامة الحد على السارق: ليس كل سارق تقطع يده، بل لا بد لإقامة حد القطع من استيفاء ثمانية شروط: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 75 الأول: البلوغ، فلا تقطع يد الصبي الذي لم يبلغ، لأنه رفع التكليف عنه، لحديث "رفع القلم عن ثلاثة. . . " ومنها الصبي حتى يحتلم. (رواه ابن ماجه [2045] في الطلاق، باب: طلاق المكره). الثاني: العقل، فلا تقطع يد المجنون، لأنه رفع التكليف عنه للحديث السابق أما السكران الذي زال عقله بسبب السكر، فإنه يقام عليه إن كان متعدياً في سكره، وإلا فلا. الثالث: أن لا يكون مكرهاً، لأن المكره رفع القلم عنه كما في الحديث. الرابع: أن يبلغ المال الذي سرقه نصاباً، والنصاب ما يساوي ربع دينار فصاعداً، والدينار الواحد يساوي ثلاثة دراهم، لأن صرف الدينار على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان اثني عشر درهماً، فربع الدينار يساوي ثلاثة دراهم. روى البخاري [6407] في الحدود، باب: قول الله {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا}؛ ومسلم [1684] في الحدود، باب: حد السرقة ونصابها ـ واللفظ لمسلم ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً". وروى البخاري [6411] في الحدود، باب: وفي كم يقطع؛ ومسلم [1686] في الحدود، باب: حد السرقة ونصابها، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم. [والمجن: الترس]. الخامس: أن يؤخذ المال المسروق من حرز مثله، وحرز المثل هو المكان الذي يحفظ فيه أو في مثله عادة المال المسروق، فالنقود إنما تحفظ في الصناديق وما على شاكلتها، والثياب تحفظ في الخزائن ونحوها، ومرجع ذلك كله إلى العرف وأهله. فلو سرق المال من مكان لم يجر العرف والعادة بوضعه فيه وجعله حرزاً له، لم يجز معاقبة السارق بالقطع، دليل ذلك خبر أبي داود [4390] في الحدود، باب: ما لا قطع فيه، عن عبدالله بن العاص رضي الله عنهما؛ وغيره، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 76 مرفوعاً: "لا قطع في شيء من الماشية إلا فيما آواه المراح، ومن سرق شيئاً من التمر بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع". السادس: أن لا يكون للسارق ملك أو شبهة ملك، فإن كان شريكاً فيه لم يقطع، لأن له ملكاً، ولو سرق الولد من مال أبيه، أو العبد من مال سيده، أو أحد الناس من مال الدولة وهو فقير، أو في وقت مجاعة، فلا قطع في ذلك، لقيام شبهة ملكية ما في المال المسروق. دليل ذلك حديث عائشة: "ادرؤوا الحدود ما استطعتم، فإن الحاكم لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة". (رواه الترمذي [1424] في الحدود، باب: ما جاء في درء الحدود). السابع: أن يكون السارق عالماً بالتحريم، فلو تناول رجل من متجر جاره بضاعة أو طعاماً، وهو لا يعلم أن ما أقدم عليه محرم، لجهله بأصول الإسلام أو لقرب عهده بالدخول في الإسلام، لم يعاقب بقطع اليد، وعوقب بالتعزيز مع الضمان. الشرط الثامن: أن يكون المال المسروق طاهراً، فلو سرق خمراً أو خنزيراً أو كلباً أو جلد ميتة بلا دبغ فلا قطع. وكذلك يجب أن يكون مباح الاستعمال، فلو سرق طنبوراً أو عوداً أو مزماراً أو ضمناً أو صليباً لا يقطع، لأن التوصل إلى إزالة المعصية مندوب إليه، فصار شبهة كإراقة الخمر. واعلم أن هذه الشروط كلها إنما هي شروط لمعاقبة السارق بالقطع، وليست شروطاً لأصل العقوبة، فإذا فقد شرط منها سقط القطع، لكن تخير الحاكم من العقوبات التعزيرية إلى جانب الغرامة ما يراه زاجراً للسارق. ثبوت السرقة: تثبت السرقة بواحد من الأمور التالية: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 77 الأول: الإقرار فإذا أقر ثبت في حقه السرقة وما يستحق عليها من عقوبة، لكن إذا رجع بعد الإقرار قبل رجوعه، وللقاضي أن يعرض له بالرجوع كما في الإقرار بالزنى، لكن هنا لا يقبل إقراره إلا بعد حضور المالك وطلبه. الثاني: البينة وتكون بشهادة رجلين عدلين قد استوفيا شروط الشهادة، فإن شهد رجل وامرأتان ثبت المال، ولا يثبت بهذه الشهادة القطع. الثالث: حلف المدعي اليمين، بعد نكول المدعى عليه عن حلف اليمين. ضمان السارق المال المسروق: إذا ثبتت السرقة وقطعت يد السارق، وجب عليه أيضاً أن يرد ما سرق إن كان المسروق لا يزال موجوداً، فإن كان قد تلف ضمنه. ودليل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه". (أخرجه أبو داود [3561] في البيوع، باب: في تضمين العارية، والترمذي [1266] في البيوع، باب: ما جاء في أن العارية مؤداة، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه). القطع حق الله تعالى: إذا ثبتت السرقة ورفع الأمر إلى القاضي وجب تنفيذ العقوبة ولا يجوز التوسط في إسقاط الحد، ودليه ما سبق من حديث المخزومية التي سرقت، أما إذا لم يصل الأمر إلى القاضي فيجوز إسقاطه والتوسط في إسقاطه ففي الحديث: بينما صفوان بن أمية مضطجع بالبطحاء إذ جاء إنسان فأخذ بردة من تحت رأسه، فأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر بقطعه فقال: إني أعفو وأتجاوز، فقال: هلا قبل أن تأتيني به؟. (سنن النسائي [8/ 68] كتاب قطع السارق، باب: الرجل يتجاوز للسارق؛ مسند أحمد [3/ 401]، عن صفوان بن أمية رضي الله عنه). الرد على خصوم الإسلام في تقولهم عن مشروعية الحدود: لا شك أنك تسمع من خصوم الإسلام وأعداء تشريعه، عبارات تنبىء عن الاشمئزاز من أن تكون عقوبة السارق قطعاً لليد، وعقوبة الزاني المحصن الرجم. وإن لنا كلمة ينبغي أن تستوعبها في الرد على هؤلاء في ذلك. أولاً: إن سبب اشمئزاز خصوم الإسلام وأعدائه من عقوبة القطع والرجم؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 78 هو كونهم خصوماً للإسلام قبل كل شيء، فلا يريدون أن يحكموا عقولهم في حقيقة هذه الحدود، وأسبابها وأهدافها ونتائجها، ودوافعها وشروطها، إذ إن من المعلوم بداهة أن الخصم حينما يمارس خصومته؛ إنما ينطلق من دافع أنه خصم، قبل أن ينظر فيما يقتضيه المنطق والحق والتفكير السليم، وإلا لم يكن اسمه خصماً. وهذه الحقيقة تجعل النقاش مع أمثال هؤلاء الناس في جزئية من جزئيات الإسلام الذي هم خصومه ـ كجزئية الحدود مثلاً ـ سعياً عابثاً لا طائل من ورائه، ولا يؤدي إلى النتيجة المطلوبة. ولكننا إذا ناقشنا وبحثنا في أمثال ذلك، فلكي لا يعلق شيء من انتقاداتهم الفكرية المصطنعة في عقول وأذهان المسلمين الصادقين في إسلامهم، ممن يعوزهم التعمق في فهم الإسلام وسبر حكمه وأهدافه. ثانيا: إن المنهج المنطقي الذي نسير على أساسه في تقبل هذه الأحكام والإيمان بها، والتعيين بأنها الدواء الذي لا بديل له للمجتمع؛ هو إيماننا بأن القرآن الكريم الذي تضمن هذه الأحكام وغيرها؛ إنما هو كلام الله المنزل على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وحياً، وإذا كان إيماننا بالله وكتابه حقيقة مفروغاً منها؛ فلا سبيل إلى تسرب أي شك أو وسواس في روعة هذه الأحكام ودقة فائدتها وضرورة التشبث بها. ومحال أن يتشكك في شيء من هذه الأحكام إلا من تشكك قبل ذلك بالله عز وجل، وبأ، هذا القرآن كلامه، وبأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - نبيه، وإنما يناقش هذا الإنسان في الأصل الذي تفرع عنه هذا الشك، لا في الفرع الصغير الذي هو ثمرة الكفر الكبير. ثالثاً: نتجاوز ما يقوله علماء النفس عن خطورة السرقة واليد التي تعتاد عليها، ومن أن مثل هذه الجرائم تنقلب في كيان أصحابها إلى أمراض متأصلة، لا يجدي في علاجها شيء من العقوبات التقليدية المألوفة، ونتجاوز الحديث عن خطورة الزنى وسوء عاقبته في المجتمع من كل الجوانب، ولا سيما إصابته بمرض الجزء: 8 ¦ الصفحة: 79 الإيدز الذي أخذ ينتشر في المجتمع الذي يبيح الزنى، والذي أصبح يهدده بالخراب والدمار. إذا أعرضنا عن ذلك كله ولفتنا النظر إلى ما هو واقع مشاهد في المجتمعات التي أعرضت عن شرع الله عز وجل، وقارنا بينها وبين الأوساط التي تقييم حدود الله، وجدنا الفرق واضحاً جلياً. إن اللصوص في هذه المجتمعات المعرضة عن أحكام الله، يتمتعون بكيانات لا يتمتع بها كثير من أرباب الشركات وأعضاء النقابات، وعصاباتهم تستعصي على كل إرهاب أو عقاب، وإن الأمراض التناسلية فيها تفتك بشيبها وشبابها وصغارها وكبارها، وتفعل بهم أضعاف بهم أضعاف أضعاف ما يفعله عقاب جلد أو رجم. بينما ننظر إلى الأمة التي تقيم فيما بينها حدود الله تعالى وأحكامه، فنجدها أمة تنعم بالأمن والرفاهية والخلو من هذه الأمراض التي تعصف بحياة البشر، وتؤدي إلى دمارهم وهلاكهم. إن في هذا لبلاغاً وذكرى لكل عاقل منصف، آمن بالله وبرسوله أولاً، ثم تمتع بحرية الفكر والبحث ثانياً، والله الهادي إلى طريق الرشاد. هذا ولا بد هنا ـ ونحن بصدد الحديث عن الحدود ـ لا بد من الإشارة إلى أمرين هامين في هذا الموضوع: أحدهما: أن الإسلام حينما شرع هذه الحدود الزاجرة، شرع إلى جانبها تشريعات تقي من الوقوع في أعمال تؤدي إلى إقامة الحد. ففي موضوع حد السرقة شرع تأمين حاجيات الفرد، فإن كان الفرد عاملاً فرض له من بيت مال المسلمين ما يهمىء له فرص العمل من رأس مال وأدوات، وما يتصل بذلك، فيصبح الفرد بعد زمن قليل منتجاً مستغنياً عن مساعدة غيره، بل يصبح مساعداً غيره في تهيئة فرص العمل، فيكون المجتمع كله مساعداً متضامناً متكافلاً. وفي موضوع حد الزنى أمر الإسلام بالستر والحجاب وعدم اختلاط الرجال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 80 بالنساء، وعدم خلوة الرجل بالمرأة، وحث على ترخيص المهور، وعلى تزويج من يرضى خلقه ودينه، من غير تفتيش معه على المال والثروة، "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد" (أخرجه الترمذي [1085] في النكاح، باب: إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه، عن أبي هريرة رضي الله عنه). هذا إلى كثير من الأحكام التي يجدها الباحث مبثوثة في كتب الفقه. الأمر الثاني: هو أن الهدف من العقوبة في الإسلام، ليس هو تعذيب الجاني، بل الهدف سلامة المجتمع، فيجب أن تكون العقوبة مؤدية إلى الهدف المنشود، وأما كيفية العقوبة فهي وسيلة لا غاية، فما كان من الوسائل مؤدياً إلى الهدف فهذا هو المطلوب. ولقد ثبت أن هذه العقوبات التي شرعها الإسلام قد أدت إلى الغاية المنشودة، وسجل التاريخ يتحدث عن ذلك عبر العصور الماضية والحاضرة، فهي إذا الدواء الناجح الناجع. بينما نري القوانين الوضعية في أرقى الدول لم تؤد إلى هذه الغاية، وهي سلامة المجتمع وأمنه واستقراره والأحداث التي تنشرها الصحف اليومية والنشرات والإحصاءات التي تنشر بين حين وآخر تتحدث عن ذلك بما لا يقبل الشك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 81 الحرابة وحدها معنى الحرابة: الحرابة في اصطلاح الشريعة: هي البروز لأخذ مال أو لقتل أو لإرعاب مكابرة، اعتماداً على الشوكة، مع البعد عن مسافة الغوث، من كل مكلف ملتزم للأحكام، ولو كان ذمياً أو مرتداً. فخرج بقيد " اعتماداً على الشوكة" ما لو كان الاعتماد على المغافلة والهرب، أو على ضعف المجني عليه، فلا يسمي ذلك في الاصطلاح الشرعي حرابة، وإنما هو من قبيل النهبة ونحوها، وله حكمه الخاص به. خرج بقيد "البعد عن مسافة الغوث" ـ وهي المسافة القريبة من المدينة أو القرية، بحيث لو استغاث الإنسان منها لبلغ صوته أهلها ـ ما لو كانت المسافة داخلة في حدود الغوث، فلا يسمي العدوان حينئذ حرابة. وخرج بقيد " ملتزم للأحكام " الكافر الحربي، فهو وإن قتل وأخذ المال، لا يدخل في هذا الباب، وإنما هو كافر حربي مهدر الدم على كل حال، فإن دخل في الإسلام لم يؤاخذ بجناية جناها من قبل، لأن الإسلام يجب ما قبله. ويدخل في التعريف العبد والمرأة والسكران المتعدي بسكره، لأنهم جميعاً مكلفون. ويدخل في ذلك أيضاً الواحد والجماعة، إذا تحققت بهم بقية الصفات. ويطلق على أرباب هذا الشأن: قطاع الطريق، وسموا بذلك لأن الناس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 82 يمتنعون من سلوك الطريق التي يكون بها هؤلاء، فكأنهم قد قطعوها حقيقة. أقسام أهل الحرابة "قطاع الطريق". ينقسم أهل الحرابة "قطاع الطريق" إلى أربعة أقسام: القسم الأول: من يقتلون من يمر بهم، ويستلبون أموالهم. القسم الثاني: من يقتلون من يمر بهم ولا يأخذون أموالهم أو شيئاً منها. القسم الثالث: من يأخذون الأموال، ولا يعتدون على الحياة. القسم الرابع: من يخيفون المارين بهم، من دون أن يعتدوا على حياتهم، أو أن يسلبوهم شيئاً من أموالهم. فهؤلاء أربعة أقسام، أشدهم خطراً من يقتل النفس ويسلب المال، وأخفهم شأناً من يخيف، ولا يعتدي على حياة ولا مال، ولهذا تنوعت عقوبتهم على حسب ما يقومون به من أعمال، وبيان ذلك فيما يلي: حكم كل قسم من هذه الأقسام: أما القسم الأول ـ وهم من يمارسون القتل ويستلبون المال ـ فيجب قتلهم ثم صلبهم ثلاثاً على مرتفع كخشبة ونحوها، زيادة في التنكيل بهم، وليشتهر حالهم، وإنما يصلبون بعد الغسل والتكفين والصلاة عليهم، لأنهم لم يخرجوا بعملهم هذا عن كونهم مسلمين، والمسلم واجب غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه. وأما القسم الثاني ـ وهم الذين يقتلون فقط ـ فجزاؤهم القتل دون صلب، ولا أثر هنا لعفو أولياء الدم في إسقاط القصاص لأنه أصبح من حقوق الله. والفرق بين هذا الباب وباب القصاص أن القاتل هنا يضيف إلى القتل الإخافة وقطع الطريق على السابلة، والاعتماد على القوة والشوكة، وعدم الترصد لشخص واحد بذاته، بل يفتك بكل من مر به، فقد أصبح حده من حقوق الله تعالى، ولذلك لم يكن لعفو الولي عن القصاص أثر. وأما القسم الثالث ـ وهم من يأخذون المال فقط ـ فجزاؤهم قطع يدهم ورجلهم من خلاف، أي قطع اليد اليمنى من مفصل الكف، وقطع الرجل اليسرى من مفصل القدم، فإن عاد قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى الباقيتان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 83 ولا بد من اشتراط كون المأخوذ من المال بالغاً نصاب السرقة، وهو ربع دينار فصاعداً، أو ما يساوي ذلك ذلك، فإن لم يبلغ هذا المقدار عزره القاضي بما يراه مناسباً من عقوبات التعزير. والفرق بين المحارب والسارق أن السارق يأخذ المال خفية، أما هذا فيضيف إلى ذلك قطع الطريق والتخويف، معتمداً على القوة والشوكة، وعلى بعد الضحية عن المدينة والناس. وأما القسم الرابع ـ وهم الذين يخيفون المارة، دون أن يأخذوا منهم مالاً أو أن يعتدوا منهم على حياة ـ فجزاؤهم عقوبة من عقوبات التعزير من نفي أو حبس أو غير ذلك، والأمر في ذلك راجع إلى الإمام، ولا يقدر الحبس بمدة، وللإمام أ، يعفو عن هؤلاء إن رأي مصلحة في العفو عنهم. الدليل على حكم هذه الأقسام : الأصل في أحكام باب الحرابة، والدليل على ما ذكرناه قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة: 33). فالقتل وحده منصرف إلى الحالة الثانية، وهي ما إذا كان هناك قتل ولم يكن استلاب للمال، والقتل مع الصلب منصرف إلى الحالة الأولى، وهي ما إذا كان قتل واستلاب مال، وقطع اليد والرجل منصرف إلى الحالة الثالثة، وهي ما إذا كان هناك أخذ مال ولم يكن اعتداء على حياة، والنفي من الأرض منصرف إلى الحالة الرابعة، وهي ما أذا كان هناك إخافة دون قتل واستلاب مال. متى يسقط حد الحرابة؟ هذه العقوبات التي ذكرناها تسقط في حالة واحد، وهي أن يتوب الجاني المحارب قبل أن تمتد إليه يد الحاكم، لهرب أو اختفاء أو لعدم شعور الحاكم به، فإذا تاب هذا الجاني قبل أن يقع في قبضة القضاء، سقطت عنه العقوبات المختصة بقطاع الطريق "أي الحرابة" وهي تحتم القتل والصلب وقطع اليد والرجل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 84 معاً، ودليل قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المائدة: 34). ويؤول أمره عندئذ إلى كونه مجرد قاتل أو غاصب، فيؤخذ بما قد ترتب عليه من حقوق القتل والغصب والنهب، كل على حسب قواعده وأحكامه المعروفة، ولا تسقط التوبة شيئاً مما جناه قبل الحرابة. فالقتل التائب قبل أن يقبض عليه الحاكم يؤخذ بعقوبة القصاص، إلا إذا عفا عنه ولي المقتول إلى الدية أو إلى غير شيء، والغاصب يؤخذ بضمان المال الذي أخذ مع التعزيرات التي قد يراها الحاكم. وبهذا نعلم أن قاطع الطريق إذا كان قد سرق مثلاً أو شرب خمراً أثناء ممارسته للحرابة وقطع الطريق، أو قبل ذلك؛ فإن توبته لا تسقط عنه حد السرقة والشرب، لأن مثل هذه الحدود لا تسقطها التوبة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 85 بيان موجز للحدود التي تسقط بالتوبة، والتي لا تسقط بها وأثر الفرق بين كونها حقاً لله أو حقاً للإنسان في ذلك الحقوق المتعلقة بالإنسان أنواع، منها ما هو خالص حق الله تعالى، ومنها ما هو خالص حق الإنسان، فما كان خالص حق الله قد يسقط بالتوبة، وما كان خالص حق الإنسان فإنه لا يسقط بالتوبة أو العفو عن الجاني، وإليك بيان ما يسقط منها بالتوبة وما لا يسقط. ما يسقط من الحدود بالتوبة أو العفو : 1 - حد تارك الصلاة: فإنه إذا تاب توبة صادقة نصوحاً، سقط عنه الحد ولو بعد رفعه إلى الحاكم؛ لأن موجبه الإصرار على الترك، لا الترك الماضي. 2 - حد القذف: إذا عفا المقذوف عن القاذف أمام الحاكم، ذلك لأن حد القذف حق شرعه الله للإنسان، فإذا أسقط صاحب الحق حقه؛ سقط الحد المترتب عليه. 3 - حد الحرابة: إذا تاب صاحبها قبل وقوعه في قبضة القضاء، ولكنه يلاحق بما عدا ذلك من حقوق الأشخاص وحقوق الله تعالى، من قتل وسرقة وشرب وغصب ونحو ذلك، كما مر آنفاً. ما لا يسقط من الحدود بالتوبة : ما عدا هذه الحدود الثلاثة الآنفة الذكر، من سائر الحدود الأخرى، لا تسقك بعد الثبوت بالتوبة، كحد السرقة والشرب والزنى. ففي البخاري [6406] في الحدود، باب: كراهية الشفاعة في الحدود. .، عن عائشة رضي الله عنها: أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 86 قالوا: من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قام فاختطب فقال: يا أيها الناس إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، ثم أمر بها فقطعت يدها". (ورواه مسلم أيضاً [1688] في الحدود، باب: قطع السارق الشريف). وروى أصحاب السنن الأربعة عن صفوان بن أمية رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لما أمر بقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه: "هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به؟ ". [مر تخريجه في الصفحة 78]. وذلك لعموم أدلة هذه الحدود من غير تفصيل ولا استثناء، ولأن حق الله فيها هو المتغلب. ومعنى أن التوبة لا تسقطها، أي لا تسقط وجوب تنفيذ هذه الحدود في دار الدنيا أمام القضاء، أما ما بين مستحق الحد وربه، فان التوبة الصادقة تسقط جميع تبعات ذلك الجرم، وآثار تلك المعصية يوم القيامة. قال الله تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدي} (سورة طه: 82)، وقال سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} (سورة الزمر: 53). وفي الصحيح عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك". (رواه البخاري [18] في الإيمان، باب: علامة الإيمان حب الأنصار؛ ومسلم [1709] في الحدود، باب: الحدود كفارة لأهلها). هذا والفرق بين هذا وذاك أن الحدود القضائية في الدنيا تقام من أجل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 87 التسويات الحقوقية، وحراسة النظام والوضع الاجتماعي، ولا شأن للتوبة في ذلك. أما التبعات والآثام الأخروية المترتبة على المعاصي أيا كان نوعها، فهي بسبب تفريطه في جنب الله عز وجل، إذ لم يلتزم أوامره ونواهيه، والتوبة الصادقة تمحو كل ذلك كما أسلفنا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 88 الصيال تعريفه: الصيال لغة: مصدر من صال يصول صولاً وصيالاً، وهي الاستطالة والمواثبة. والصائل شرعاً: كل من قصد مسلماً بأذى في جسمه أو عرضه أو ماله. دليل الصيال: والأصل في حكم الصيال قوله تعالي: {فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين} (سورة البقرة: 194)، وقوله عليه الصلاة والسلام: " من قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد". (رواه أبو داود [4771] في السنة، باب: قتال اللصوص؛ والترمذي [1421] في الديات، باب: ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد). أنواع الصائل: يتنوع الصائل حسب تنوع ما يهدف إليه في عدوانه، فهو ينقسم بناء على ذلك إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الصائل على النفس، وهو الذي يستطيل بالظلم على غيره بقصد القتل أو الإضرار بالجسم بجرح ونحوه. القسم الثاني: الصائل على العرض، وهو الذي يتجه بالعدوان إلى امرأة ليست زوجته، قريبة كانت له أو أجنبية عنه، بقصد ارتكاب الزنى أو ارتكاب ما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 89 يتيسر له من مقدماته، وكالمرأة في ذلك الذكر. القسم الثالث: الصائل على مال الغير، والمال كل ما يتمول ويتقوم شرعاً، سواء في ذلك ما يمتلك بوجه من وجوه التملك الشرعي، أو بوضع اليد عليه مثل كلب الصيد والحراسة والأسمدة النجسة ونحوها. فيدخل في المال النقد والمتقومات المختلفة من أرض ودور ومنتفعات سواء أكانت طاهرة أم نجسة. حكم الصائل: مر بنا آنفاً أن الأصل في باب الصيال قوله تعالى: {فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم} (سورة البقرة: 194). فهذه الآية توضح لنا حكم الصائل، وهو جواز مقابلة اعتدائه بالمثل، أي بالرد والصد، وإن استلزم ذلك قتله. ويدخل في معنى الاعتداء الاستطالة بالأذى على كل من النفس والمال والعرض. فإذا قصد إنسان إلى أذى المسلم في نفسه أو عرضه أو ماله؛ فهو صائل، ويشرع للمسلم المصول عليه رده، وإن كان الصائل مساماً أو قريباً، إلا أن يكون والداً يصول على ابنه من أجل المال فلا يجوز رده بالمقاومة والعنف. متى يجب رد الصائل ومتى يجوز ذلك؟ قلنا إن رد الصائل مشروع، وقد عرفت دليل ذلك من القرآن الكريم والسنة النبوية، ولكن هل يجب على المصول عليه أن يقاوم ويرد عنه صائله في كل الأحوال أو يجب عليه في بعض الأحوال ويجوز له في بعض الآخر؟ الواقع أنه يجب عليه الدفع في بعض الأحوال ويجوز له في البعض الآخر، وإليك بيان ذلك. الصيال على المال: إن الصيال إن كان على المال وكان المصول عليه هو المالك له فالمقاومة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 90 في مثل هذه الحال لا تعدو أن تكون جائزة، فإن شاء أن يستسلم ويترك للصائل المال، فله ذلك، وإن شاء أن يدفع الصائل فله ذلك أيضاً. هذا إذا كان المصول عليه مالكاً لهذا المال، وأما إذا لم يكن مالكاً له، بل كان أميناً عليه لأصحابه، كرئيس الدولة ونوابه والقائمين على حراسة أراضي المسلمين وممتلكاتهم، كالجيش والجند، فيجب عليهم مقاومة الصائل ورده، لأن الأمين على مال غيره ملزم بالمحافظة عليه، ولا يملك التبرع به. الصيال على البضع: وإن كان الصيال على بضع، فإن الرد والمقاومة ودفع الصائل تجب عندئذ أيا كان الصائل، مسلماً أو كافراً، قريباً أو غريباً، لأنه لا سبيل إلى إباحته، ومثل البضع مقدماته. الصيال على النفس: وإن كان الصيال على النفس نظر، فإن كان الصائل كافراً وجب رده، فإن تراخى عن ذلك باء بالإثم والعصيان، لأن الاستسلام للكافر ذل في الدين. وكذلك يجب الدفع إذا كان الصائل بهيمة، لأنها تذبح لاستبقاء الآدمي، فلا وجه للاستسلام لها. وكذلك يجب الدفع إن كان الصيال على عضو أو على منفعة عضو. وأما إن كان الصائل مسلماً وكان المصول عليه هو المقصود بالإيذاء والقتل، فإن الرد والمقاومة تكون عند ذاك جائزة ليست بواجبة، إذ له أن يضحي بحياته في سبيل أن يحقن دم أخيه المسلم ولو كان معتدياً عليه، بل استحب بعض الفقهاء ذلك لما رواه أبو داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فليكن كخير ابني آدم". (سنن أبي داود [4259] في الفتن والملاحم، باب: في النهي عن السعي في الفتنة؛ كما أخرجه الترمذي وابن ماجه في الفتن أيضاً). يعني قابيل وهابيل، أي كن كالذي لم يبسط يده إلى أخيه بالقتل وهو هابيل، ولا تكن كالمعتدي القاتل وهو قابيل، ولقد قص الله علينا قصتهما في القرآن الكريم إذ قال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 91 الْمُتَّقِينَ. لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (سورة المائة: 27 - 30). ولأن عثمان رضي الله عنه يوم الدار منع عبيده من الدفاع عنه، وكانوا أربعمائة، وقال لهم: من ألقى سلاحه فهو حر، واشتهر ذلك في الصحابة فلم ينكره أحد منهم. وأما إن كان المصول عليه غير مقصود بالإيذاء أو القتل، بل كان المعتدي يهدف إلى أسرته وأولاده، أو يهدف إلى رعيته وشعبه، فإن المقاومة حينذاك واجبة، لأن المعتدي عليه أمين على أرواح الآخرين، لكونه رب أسرة، أو حاكم أمة. كيف يدفع الصائل ومتى يذهب دمه هدراً؟ الصائل إما أن يكون معصوم الدم كالمسلم، أو غير معصوم الدم كالمرتد والزاني المحصن، فإن كان غير معصوم الدم، فللطرف المعتدى عليه أن يبدأ مباشرة بقتله، وليس عليه أن ينذر أو يبدأ بالأخف ثم الأشد. وأما إن كان معصوم الدم كمسلم وذمي ومعاهد، فإن تنبه المعتدى عليه إليه وهو يباشر الجريمة، كتلبسه بالفاحشة، أو قتل بريء فله أن يباشر القتل دون أية مقدمات، وإذا قتل الصائل في هذه الحالة فدمه هدر، لا قصاص فيه ولا دية. وأما إن تنبه إليه المعتدى عليه وهو يحاول الوصول إلى غايته العدوانية، من قتل أو سرقة أو فاحشة أو نحو ذلك؛ وجب عليه أن يدفع الصائل بالأخف فالأخف، على حسب غلبة الظن، فان أمكن دفعه بكلام واستغاثة حرم الضرب، وإن أمكن بضرب بيد حرم الضرب بسوط، وإن أمكن بالضرب بسوط حرم الضرب بعصا، وإن أمكن بقطع عضو حرم القتل، لأن ذلك جوز للضرورة، ولا ضرورة للأثقل متى ما أمكن بالأخف. فإن لم يندفع إلا بالقتل فقتله كان دمه هدراً لا قصاص فيه ولا دية، أما إذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 92 أمكن دفعه بالأخف فقتله لزمه القصاص، لأنه حينذاك معتد فهو ضامن. صور من الصيال وأحكامها: أولاً: من نظر إلى حرم رجل في داره، من كوة أو ثقب عمداً، فرماه صاحب الدار بخفيف كحصاة ونحوها، فأعماه أو أصاب قرب عينه فمات فهدر، ودليل ذلك ما ورد في الصحيحين: "لو اطلع أحد في بيتك، ولم تأذن له فخذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح". (رواه البخاري [2158] في الآداب، باب: تحريم النظر في بيت غيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه). وهذا مشروط بأن لا يكون للناظر محرم وزوجة، لأن له في النظر شبهة، كما لا يقطع بشركة المال المشترك. ثانياً: لو عزر ولي ووال من تحت أيديهما: زوج زوجته، ومعلم صغيراً يتعلم منه؛ فإذا حصل به هلاك، فإن كان بضرب يقتل غالباً فالقصاص ما لم يكن ذلك من أصل، وإذا لم يكن الضرب قاتلاً فمات فعليهم دية شبه العمد تدفعها العاقلة، لأن ذلك مشروط بسلامة العاقبة، إذ المقصود التأديب لا الهلاك، فإذا حصل هلاك تبين أنه جاوز الحد المشروع. ثالثاً: لو حد الإمام أو نائبه الحد المقدر من غير زيادة فمات المحدود فلا ضمان، لأن الإمام بما يجب عليه، وسواء أكان ذلك الحد جلداً أو قطعاً، وسواء جلده في حر أو برد مفرطين أم لا، وسواء أكان في مرض يرجى برؤه أم لا. رابعاً: للبالغ العاقل الحر إذا ظهر في بدنه سلعة أي خراج كهيئة الغدة أن يقطعها إذا لم تكن مخوفة، أما إذا كانت مخوفة ولا خطر في تركها فلا يجوز له قطعها، وكذلك الحكم إذا كان الخطر في قطعها أكثر. ولأب وجد قطع السلعة من صبي ومجنون مع الخطر إن زاد خطر الترك على خطر القطع، لأنها يليان صون مالهما عن الضياع، فصون بدنهما أولى. ومثل قطع السلعة ما يجري من العمليات الجراحية كقطع عضو متآكل، وقطع العروق والكي وما أشبه ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 93 وللسلطان فعل ذلك بلا خطر، ويجوز للسلطان والأب والجد وبقية الأولياء فصد وحجامة بلا خطر، إذا أشار الأطباء بذلك، للمصلحة مع عدم الضرر، ولا يجوز ذلك للأجنبي، لأنه لا ولاية له عليهما. فلو فعل هؤلاء ما يجوز لهم فمات الشخص فلا ضمان عليهم. خامساً: إذا قتل جلاد أو ضرب بأمر الإمام، فإن جهل ظلم الإمام وخطأه لم يضمن هو، وكان الضمان على إمام قوداً ومالاً لا على الجلاد، أما إذا علم ظلمه وخطأه فالقصاص والضمان على الجلاد وحده، هذا إذا لم يكن إكراه من جهة الإمام، فإن كان إكراه فالضمان عليهما بالمال قطعاً. سادساً: لو عضت يده خلصها بالأسهل من فك لحييه فضرب شدقيه فإن عجز فسلها فسقطت أسنانه فهدر ولا ضمان، وذلك لما في الصحيحين: أن رجلاً عض يد رجل فنزع يده من فيه، فوقعت ثناياه، فاختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " أيعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل، لا دية لك ". (رواه البخاري [6497] في الديات، باب: إذا عض رجلاً فوقعت ثناياه، ومسلم [1673] في القسامة، باب: الصائل على نفس الإنسان أو عضوه، عن عمران بن حصين رضي الله عنه). ولأن النفس لا تضمن بالدفع، فالأجزاء أولى. " تنبيه ": يحرم على المتألم تعجيل الموت وإن عظم ألمه ولم يطقه، لأن برءه مرجو. وذكر الخطيب الشربيني أن الشخص إذا ألقى نفسه في محرق علم أنه لا ينجو منه إلا إلى مائع مغرق ورآه أهون عليه من الصبر على لفحات المحرق، جاز لأنه أهون عليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 94 المسؤولية التقصيرية المقصود بالمسؤولية التقصيرية: المسؤولية التي تقع على عاتق المكلف، لا تعدو أن تكون لأحد سببين: الأول: قصد عدواني كمسؤولية القاتل عمداً، والسارق، والمغتصب، والقاذف، وقاطع الطريق. الثاني: إهمال وتقصير في الرعاية والحذر، تسبب عنها ضرر مالي أو جسمي أصاب بريئاً محترماً معصوم الدم، كدابة رجل أتلفت زرعاً لصاحب بستان. فالمسؤولية التقصيرية: هي الحكم الشرعي الناتج عن تقصير الإنسان في تقدير الظروف، أو القيام بالرعاية والحذر المطلوبين، من ضمان ونحوه. الأثر الشرعي المترتب على المسؤولية التقصيرية: إذا أمكن تصور التقصير في ميزان النظر الشرعي؛ ثبتت المسؤولية المترتبة عليه، وإنما يظهر أثر هذه المسؤولية بضمان المقصر للمثل أو القيمة، أو بتكليفه بما ينزل منزلة الضمان كالدية والأرش ونحوهما. واعلم أن التقصير في نظر الشرع يثبت حكماً إذا كانت الواقعة تحتمله، سواء أكان صاحب الواقعة مقصراً في الحقيقة أم لا، فلا يشترط لتكليفه بالضمان أن يقوم تحقيق لبيان الدليل على تقصيره، بل الشرط الوحيد أن يكون الواقعة مما يتصور إمكان التفريط والتقصير فيها، فيحكم على صاحبها بالضمان جبراً للضرر، وحيطة في الأمر، وتسوية للحقوق بين الناس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 95 أمثلة تطبيقية للمسؤولية التقصيرية: 1 - القتل الخطأ ـ وقد مر بك تعريفه ـ يستوجب الدية، ولا شك أن القاتل لا يتحملها لذنب ارتكبه، أو لعدوان بدر منه، ولكنه يتحملها لتصور تقصيره في أخذ الحيطة، حتى وإن لم يكن مقصراً في الواقع ونفس الأمر. 2 - أقام جدار بيته مائلاً، فانقض بدون قصد منه، فهلك تحته إنسان معصوم الدم، أو تلف تحته مال، وجبت على عاقلته دية الإنسان، وعلى صاحب الجدار ضمان المال لصاحبه، لا زجراً له عن عدوان أو معصية ارتكبها، بل جبراً لمصيبة وقعت على أخيه، لسبب يتصور أن لتقصيره دخلاً فيه. 3 - أتلفت الدابة أو السيارة مالاً، كزرع ونحوه، أو أهلكت أو جرحت إنساناً معصوم الدم؛ وجب على راكبها أو سائقها أو قائدها مالكاً كان أو مستأجراً ضمان الزرع والمال، ووجبت الدية على العاقلة، لأن جناية الدابة أو السيارة ونحوها تعتبر في الحكم جناية من هي في يده، أيا كان صاحب اليد. صور احترازية لا مسؤولية فيها: 1 - سقطت الدابة ميتة أو مات سائق السيارة أثناء قيادتها، فأهلكت الدابة أثناء وقوعها أو السيارة أثناء اقتحامها مالاً، أو قضت على إنسان، فلا مسؤولية على سائق الدابة، ولا على أحد من ورثة سائق السيارة، إذ لا مجال لتصور التقصير على أحد. 2 - نخس الدابة إنسان بغير إذن صاحبها أو مستأجرها الذي يضمن جنايتها، فجمحت فأتلفت مالاً، فليس من ضمان على من هي في يده، لعدم تصور أي تقصير منه في الأمر، وإنما الضمان على الناخس، إذ هو المتسبب المباشر. ومثل ذلك ما إذا سلم أجنبي سيارة شخص إلي مجنون؛ فساقها فأتلفت شيئاً فإن صاحب السيارة ـ وهو صاحب اليد ـ لا يعد ضامناً، إذ لا مجال لإسناد أي تقصير إليه، وإنما الضمان على الأجنبي. 3 - أرسل الدابة نهاراً وأسلمها إلى طريقها الذي ألفته وعرفته، فأتلفت زرعاً أو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 96 نحوه في طريقها؛ لا يضمن صاحبها ما أتلفت، إذ لا مجال لإسناد أي تقصير إليه. بخلاف ما لو أرسلها ليلاً فأتلفت شيئاً؛ فإنه لتقصيره في إرسالها في وقت غير صالح لذلك. وتحقيقاً لهذا الفرق قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ فيما رواه أبو داود [3570] وغيره ـ على أهل الحوائط "أي البساتين" حفظ بساتينهم بالنهار، وعلى أهل المواشي ما أصابت ماشيتهم بالليل. ذلك لأن العرف جار على حفظ الزر وع ونحوها نهاراً، وحفظ الأنعام ليلاً، فلو اختلف العرف اختلف الحكم تبعاً له. القاعدة المستخلصة للمسؤولية وعدمها: نستخلص من الأمثلة السابقة القاعدة المعتمدة التالية: أ - تناط المسؤولية بمن باشر إحداث ضرر بالغير، أو تسبب لما ينتهي بإحداث ضرر بالغير قصداً أو بغير قصد، وهي إما أن تكون مسؤولية عدوان أو مسؤولية تقصير. ب - لا تناط المسؤولية بالمتسبب غير المباشر، إذا انقطعت فاعلية تسببه، لتدخل عنصر أجنبي، كأن حفر رجل بئراً في الطريق، فألقى آخر بنفسه فيها متعمداً، فلا يضمن الحافر، لأن تسببه قد انقطع أثره بتدخل هذا الذي ألقي بنفسه في البئر عمداً. وكأن ترك رجل دابته أمام زرع بدون أن يوثقها، فجاء آخر فنخسها فجمحت فأتلفت بذلك شيئاً، فإن المسؤولية تزول عن صاحبها المتسبب، لانتساخ تسببه ذاك بفعل هذا الأجنبي. جـ - لا تحمل المسؤولية لأحد في ضرر نجم عن قوة قاهرة لا يستطيع الإنسان دفعها، كمثال موت الدابة، وموت سائق السيارة، وكما لو وضع حجراً في مكان آمن، فأقبل سيل داهم جرف الحجر من مكانه، وألقي به حيث أتلف شيئاً، إذ لا مجال لتصور التقصير في ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 97 البغاة وأحكامهم من هم البغاة؟ البغاة: جمع باغ، وهو كل متجاوز للحد الذي ينبغي أن يلتزمه. والبغي في أصل اللغة الظلم. والمقصود بالبغاة هنا: جماعة من المسلمين خرجوا على أمام المسلمين، وتمردوا على أوامره، أو منعوا حقاً من الحقوق، سواء أكان هذا الحق لله أم للناس. حكمهم : يجب على أمام المسلمين إذا بدرت بادرة البغي بالمعني الذي ذكرناه، من أي فئة من فئات المسلمين؛ أ، يبادر فيبعث إليهم من يسألهم عن مطالبهم، وما قد يكرهونه من أمره، فإن ذكروا علة يمكن إزالتها دون أن تترك أثراً سيئاً أو تستلزم ضرراً؛ وجب إجابتهم إلى ما يريدون، وإن لم يكن ذلك أو لم يذكروا علة وجيهة لبغيهم، وعظهم وخوفهم بالقتال، وأمرهم بالعود إلى الطاعة، فإن لم يتعظوا أعلمهم بالقتال، فإن أبوا وأصروا على ما هم عليه قاتلهم وجوباً. شروط قتال البغاة : يشترط لقتال البغاة الشروط التالية: أولاً: أن يكونوا في شوكة ومنعة، لكثرة أو قوة، ولو بحصن بحيث يمكنهم معها مقاومة الإمام، فيحتاج في ردهم إلى الطاعة لكلفة من بذل مال وتحصيل رجال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 98 ثانياً: أن يخرجوا بشكل فعلي عن قبضة الإمام بسبب المنعة التي ذكرناها، إذ لو كانوا في قبضته وتحت سلطانه؛ لكان في غنى عن أن يناصبهم القتال، ولأمكن أن يكتفي بمعاقبتهم بما يراه من حبس وغيره. ثالثاً: أن يعتمدوا تأويلاً سائغاً له مجال في النظر والاجتهاد، يسوغون به تمردهم عليه، وإن كان هذا التأويل فاسداً إلا أنه لا يقطع بفساده، وذلك كتأويل الذين خرجوا على علي رضي الله عنه من أهل الجمل وصفين، بأنه يعرف قتلة عثمان رضي الله عنه، ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لمواطأته إياهم. فلو لم يكن لهم تأويل أو اجتهاد يعتمدون عليه في عصيانهم للأمام؛ لم يترتب عليهم حكم البغاة، ووجب قتالهم بوصف كونهم فسقة، بل ربما يكفرون إذا استحلوا عصيان إمام المسلمين، والخروج على أمره دون معتمد شرعي يستندون إليه. رابعاً: أن يكون لهم مطاع فيهم يحصل به قوة لشوكنهم، وإن لم يكن إماماً منصوباً فيهم، يصدرون عن رأيه، إذ لا قوة لمن لا يجمع كلمتهم مطاع. هذا ومن المهم أن تعرف أن البغاة لا يفسقون ولا يكفرون، وإن وجب على الإمام قتالهم؛ لأن لهم من وجهة النظر الشرعي ما يعتبر عذراً لهم بزعمهم هم. دليل حكم قتالهم وحكمته : أما دليل وجوب قتالهم فقوله عز وجل: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9). قال العلماء: هذه الآية وإن لم يكن فيها ذكر الخروج على الإمام، لكنها تشمله لعمومها، أو تقتضيه قياساً، لأنه إذا طلب القتال لبغي طائفة على طائفة فلأن يطلب ذلك للبغي على الإمام من باب أولي. وكالآية حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 99 الإسلام من عنقه ". (أخرجه أبو داود [4758] في السنة، باب: في القتل الخوارج، عن أبي ذر رضي الله عنه). وأما الحكمة من وجوب قتالهم ـ رغم ما قلنا من أنهم يعتمدون في عصيانهم على شبهة شرعية ـ فهي أن استتباب الأمر للإمام بعد صحة إمامته على المسلمين وشرعيتها، أساس كلي هام لاجتماع شمل المسلمين وبقاء وحدتهم، وخوف الأعداء منهم، وهو ما أمر الله المسلمين بالدخول في بيعة أمام لهم من أجله، وذلك كان من الواجب على عامة المسلمين طاعة الإمام ولو كان جائرا، لكن الطاعة مشروطة بما لا معصية فيه، وذلك لأن عصيان العامة للإمام أخطر على المسلمين من وجوره في حقهم. فمن أجل ذلك أمر الله الحاكم بقتال أهل البغي، دون أن يشفع لهم اجتهادهم ومعتمدهم الذي يستندون إليه، إذ إن خضوعهم لأمره أعظم خيراً للمسلمين من تمسكهم باجتهادهم. طبيعة قتال البغاة ومظاهر الفرق بينه وبين غيره : يمتاز قتال البغاة عن القتال غيرهم من الكفار والفسقة والأعداء بمظاهر هامة، نظراً إلى أن البغاة لا يفسقون كما قلنا، ولا ينسبون إلى أي بدعة، وإنما الضرورة هي التي تدعو إلى قتالهم حفظاً للأمن، ووقاية لوحدة المسلمين أن لا تصدعها الفتن، وإليك خلاصة هذه المظاهر: أ - يجب أن يسبق القتال نصح وحوار بينهم وبين ممثلي الإمام، كما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع الذين خرجوا عليه، فقد بعث إليهم عبد الله بن عباس رضي الله عنه ليناظرهم فيما يدعون. فلعلهم يرجعون إلي الحق أو يرجع بعضهم. ففي الحلية لأبي نعيم عن ابن عباس قال: لما اعتزلت الحرورية قلت لعلي: يا أمير المؤمنين أبرد عني الصلاة لعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم، قال: أني أتخوفهم عليك، قال قلت كلا إن شاء الله، فليست أحسن ما أقدر عليه من هذه اليمانية ثم دخلت عليهم وهم قائلون في نحر الظهيرة، فدخلت علي قوم لم أر قوماً أشد اجتهاداً منهم، أيديهم كأنها ثفن إبل ـ جمع ثفنة وهي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 100 ركبة البعير وما مس الأرض من كركرته ـ ووجوههم مقلبة من آثار السجود، قال: فدخلت فقالوا: مرحباً بك يا ابن عباس، ما جاء بك؟ قال؟ جئت أحدثكم، على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل الوحي، وهم أعلم بتأويله، فقال بعضهم: لا تحدثوه، وقال بعضهم: لنحدثنه. قال: فقلت أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وختنه وأول ممن آمن به، وأصحاب رسول الله معه؟ قالوا: أولاهن أنه حكم الرجال في دين الله، وقد قال الله عز وجل: {إن الحكم إلا الله} (سورة الأنعام: 57)، قال: قلت: وماذا؟ قالوا: قاتل ولم يسب ولم يغنم، لئن كانوا كفاراً لقد حلت له أموالهم، وإن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دماؤهم، قال: قلت: ثم ماذا؟ قالوا: ومحا نفسه من أمير المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين. قال: قلت أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم، وحدثتكم من سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ما لا تنكرون أترجعون؟ قالوا: نعم، قال: قلت أما قولكم إنه حكم الرجال في دين الله فإنه يقولك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} ... (سورة المائدة: 95). وقال في المرأة وزوجها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا} (سورة النساء: 35). أنشدكم الله أفحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وصلاح ذات بينهم أحق، أم في أرنب ثمنها ربع درهم؟ فقالوا: اللهم في حقن دمائهم وصلاح ذات بينهم، فقال: أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم. قال: وأما قولكم إنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، أتسبون أمكم ثم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها؟ فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها ليست بأمكم فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام، أن الله عز وجل يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (سورة الأحزاب: 6)، فأنتم تترددون بين ضلالتين، فاختاروا أيتهما شئتم، أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم. قال: وأما قولكم محا نفسه من أمير المؤمنين؛ فإن، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا قريشاً يوم الحديبية على أن يكتب بينه وبينهم كتاباً، فقال: اكتب هذا ما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 101 قاضي عليه محمد رسول الله، فقالوا: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبدالله، فقال: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب يا على محمد بن عبدالله. فرسول الله كان أفضل من علي، أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم، فرجع منهم عشرون ألفاً، وبقي منهم أربعة آلاف فقتلوا. (انظر كتاب الحلية لأبي نعيم [1/ 318 ـ 320]). وفي البداية والنهاية لابن كثير: أن علياً بعث إلى الخوارج عبدالله بن عباس، حتى إذا توسط عسكرهم، فقام ابن الكوا فخطب الناس فقال: يا حملة القرآن، هذا عبدالله بن عباس، فمن لم يكن يعرفه فإني أعرفه، ممن يخاصم في كتاب الله بما لا يعرفه، هذا ممن نزل فيه وفي قومه: {بل هم قوم خصمون} فردوه إلى صاحبه ولا تواضعوه كتاب الله، فقال بعضهم: والله لنواضعنه، فإن جاء بحق نعرفه لنتبعنه، وإن جاء بباطل لنكبتنه بباطلة، فواضعوا عبدالله الكتاب ثلاثة أيام، فرجع منهم أربعة آلاف كلهم تائب، فيهم ابن الكوا، حتى أدخلهم على علي الكوفة (1). فإن لم يجد الحوار والنصح بينهم وبين ممثلي الإمام؛ يتل ذلك التحذير والتخويف من عاقبة الاستمرار على العصيان، ثم يتبع ذلك الإنذار بالقتال، حتى إذا لم تجد هذه الأسباب كلها شيئاً؛ وجب القتال. وقد مر بيان هذا غي أول البحث. ب - لا يجوز بعد بدء القتال ملاحقة المدبرين منهم، ولا القضاء على المثحنين بالجراح منهم، وإنما يحصر القتال في مواجهة من يواجه القتال بمثله. جـ - لا يجوز قتل كم يؤسر منهم، لصريح ما ورد من النهي عن ذلك في حديث البيهقي [8/ 182] عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابن مسعود: يا ابن أم عبد ما حكم من بغي من أمتي؟ قال: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يتبع مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يقتل جريحهم، وزاد البيهقي:   (1) البداية والنهاية: [7/ 281]. لنواضعنه: في القاموس: المواضعة المراهنة ومشاركة البيع والموافقة في الأمر. وهلم أواضعك الرأي: أطلعك على رأيي وتطلعني على رأيك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 102 ولا يغنم فيئهم. وروى ابن أبي شيبة ـ مغني المحتاج [4/ 127]ـ أن علياً رضي الله عنه أمر مناديه يوم الجمل فنادي: لا يتبع مدبر، ولا يذفف على جريح، ولا يقتل أسير، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن. نعم يجب حبسه إن لم يذعن للمبايعة والاحتفاظ به، إلى أن تنقضي الحرب ويتفرق جمع البغاة، ليكفى شره، ثم يطلق سراحه بعد أن يأخذ عليه العهد أن لا يعود إلى القتال، فإن خيف من نكثه العهد جاز إبقاؤه في السجن، حتى يغلب على الظن صدقه في العهد. أما إذا أذعن للطاعة قبل انقضاء الحرب؛ وظهرت علائم الصدق عليه، فيجب المبادرة إلى إطلاق سراحه. د - لا يجوز امتلاك شيء من أموالهم على وجه الغنيمة، بل ينظر: فما كان منها آلات حرب فيحتفظ بها إلى أن تضع الحرب أوزارها، ويطمئن الحاكم إلى أنهم لم يعودوا إلى القتال، فتعاد إليهم عند ذاك، فإن بقي الخوف قائماً من عودهم إلى القتال لم تسلم إليهم، وبقيت تحت يد الدولة على وجه الاحتفاظ لا الامتلاك. وما كان منها أموالاً عادية؛ فيجب إعادته إلى أصحابه عند انقضاء الحرب، وإن خفنا عودهم إلى القتال. الآثار المترتبة على قتال البغاة : 1 - إذا بدأ الإمام قتال البغاة بالشروط التي ذكرناها، وبعد المقدمات التي أوضحناها، فمن قتل منهم أثناء المعركة فدمه هدر، لا يتابع قاتله بقصاص ولا دية، لما عرفت من مشروعية هذا القتال ووجوبه. 2 - إذا انقضت الحرب وقتل جنود الإمام أحد البغاة، فإن كان قد بايع على السمع والطاعة اقتص من القاتل، إلا أن يحلف القاتل أنه ظنه باغياً أي مصراً على العصيان، فيطالب بالدية ويسقط القصاص. 3 - إذا قتل الأسير أو ذفف الجريح وجبت ديته على القاتل، وسقط القصاص لوجود الشبهة في جواز قتله، وقد مر بك حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ادرؤوا الحدود ما استطعتم". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 103 أحكام الردة معنى الردة : الردة في اللغة: الرجوع عن الشيء إلى غيره، وهي في اصطلاح الشريعة الإسلامية: الرجوع عن الإسلام بعد اعتناقه إلى أي دين من الأديان، أو عقيدة من العقائد. والردة أفحش أنواع الكفر، وأغلظه حكماً وأثراً، ومن الأدلة على ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (سورة البقرة: 217). ضابط ما تكون به الردة : تقع الردة عن الإسلام بواحد من ثلاثة أشياء: الأول: إنكار حكم مجمع عليه، معروف في الدين بالضرورة: كإنكار وجوب الزكاة والصوم والحج، وكإنكار حرمة شرب الخمر، أو أكل الربا، وإنكار أن القرآن كلام الله عز وجل، فهذه أحكام معروفة بالضرورة لكل مسلم، يستوي فيها علماء الدين وغيرهم، ولذلك كان الجحود بها من أسباب الردة. أما إن أنكر حكماً غير مجمع عليه، أو مجمع عليه ولكنه خفي عن كثير من الناس، فإن إنكاره لا يستلزم الردة، كما أنكر مشروعية صلاة الضحي، أو أنكر حرمة زواج المطلقة قبل انقضاء عدتها. الثاني: أن يفعل فعلاً من خصائص الكفار: كالسجود لصنم، وممارسة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 104 شيء من عبادات الكفار، أو أن يفعل فعلاً يتنافي مع التزامه لدين الإسلام: كأن يلقي مصحفاً في قاذورة متعمداً، وكالمصحف كتب الحديث والتفسير، بشرط أن يفعل ذلك مختاراً لا مكرهاً. الثالث: أن ينطق بقول يتنافى مع التزامه الإسلام، سواء صدر ذلك عنه اعتقاداً، أو عناداً، أو استهزاء؛ مثاله: أن يسب الدين، أو الإله، أو أحد الأنبياء، أو أن يقول مثلاً: الإسلام لا يتلاءم مع الرقي الإنساني، أو الخالق غير موجود، أو الزكاة تتنافى مع المجتمع الاشتراكي، أو إن إلزام المرأة بالحجاب مظهر من مظاهر التخلف. فمثل هذه الأقوال مستوجبة للردة، سواء كان الدافع إلى النطق بها اعتقاداً، أو غضباً، أو عناداً: كأكثر الذين يسبون الدين، أو يشتمون الإله عز وجل في ظروف غضب أو مشاكسة، أو استهزاء لمجرد إثارة الضحك وأسباب اللهو والسخرية: كمن يقول لزميله الذي يعظه: إذا دخلت الجنة غداً فأغلق الباب خلفك، ولا تدخلني معك. التحذير من الوقوع في الردة : لاحظت مما مضي بيانه أن الردة قد تكون بكلمة يتلفظ بها القائل، أو بتصرف يراه بسيطاً غير ذي مدلول، أو بتكذيب لحقيقة يظن صاحبه أنه لا يعبر بذلك عن أكثر من حرية الرأي والتفكير. غير أن هذا التصرف أو الكلام الذي يراه صاحبه أمراً غير ذي بال، ينبني عليه انقلاب كلي خطير في مصير صاحبه بعد الموت، فهو بعد أن كان في حكم الله تعالى من المسلمين الذين يجوز أن يتجاوز الله عن جميع سيآتهم، ويجعل ذلك كله داخلاً في شفاعة إسلامهم، أصبح من الكافرين الذين يئسوا من رحمة الله تعالى مهما جاؤوا بد من الأعمال الإنسانية المبرورة. كما ينبني عليه انقلاب خطير في حكم النظر إليه، والتعامل معه، في نطاق المجتمع الإسلامي في دار الدنيا، حيث تسلب منه الحقوق التالية: أ - حق الحياة، إذ يجب إعدامه. ب - حق الامتلاك، حيث تسقط ملكيته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 105 جـ - تلغى سائر أوضاعه الشرعية بالنسبة لحالته الشخصية من زواج وميراث وغير ذلك. وسنذكر تفصيل ذلك فيما يلي. إذا علمت هذا، فيجب على المسلم أن يحجز لسانه عن التفوه بالكلمات التي تستوجب الردة، مهما ثار به غضبه، وليجهد جهده أن يعبر عن غضبه وثورته بأي شيء أخر غير الكلمات التي تستوجب الردة، فتستوجب على أثر ذلك خراب داره في الدنيا والآخرة. حد الردة : وحد الردة يشمل الرجل والمرأة على السواء دون بينهما، فإذا صدر من الرجل أو المرأة ما يستوجب الردة مما مر ضابطه آنفاً، وكان كل منهما بالغاً عاقلاً، ترتيب الأحكام التالية: أولاً: وجوب استتابته فوراً، إذ يفرض أنه لم يرتد إلا لشبهة اعترضته، أو لغضب أفقده الرشد والضبط أفقده الرشد والضبط، فينبه إلى الحق والرشد، عن طريق الاستتابة والنصح، والتنبيه إلى بطلان ما ارتد إليه، وخطورة ما انقلب إليه. ثانياً: التحذير من عواقب الإصرار على ردته إن لم يستجب لطلب التوبة، حيث يوضح له أنه سيقتل إن هو أصر على كفره، عناداً كان، أو اعتقاداً، أو استهزاءً. ثالثاً: وجوب القتل إن أصر على ردته، ولم يتب، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من بدل دينه فاقتلوه ". (رواه البخاري [2854] في الجهاد، باب: لا يعذب بعذاب الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما). وروى البخاري [6484] في الديات، باب: قول الله تعالى: أن النفس بالنفس؛ ومسلم [1676] في كتاب القسامة، باب: ما يباح بد دم المسلم، عن عبدالله رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا أله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة ". وروى الدارقطني [3/ 118] عن جابر رضي الله عنه: أن امرأة يقال لها أم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 106 رومان ارتدت، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعرض عليها الإسلام، فإن تابت وإلا قتلت. شروط إقامة الحد على المرتد : قلنا فيما سبق: إن حد الردة هو القتل فوراً، ولكن لا يقام حد الردة ألا إذا توفرت الشروط التالية: 1 - البلوغ والعقل، فلا عبرة بردة الصبي والمجنون، لأنهما غير مكلفين، إلا أن على ولي الصبي تأديبه وزجره واستتابته مما تصرف أو تفوه به. 2 - الاستتابة، فلا يجوز قتل المرتد قبل أن يستتاب، ولكنه بعد الاستتابة يقتل فوراً، ولا يمهل إن لم يتب. روى البخاري [6525] في كتاب استتابة المرتدين، باب: حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم: حديث تولية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه على اليمن، فيه: ثم اتبعه معاذ بن جبل رضي الله عنه، فلما قدم عليه ألقى له وسادة، قال: انزل، وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهودياً فأسلم، ثم تهود، قال: اجلس، قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، ثلاث مرات، فأمر به فقتل. [قضاء الله: أي هذا قضاء الله. ثلاث مرات: أي كرر قوله ثلاثاً]. 3 - ثبوت ردته بإقرار أو شهادة صحيحة متوفرة الشروط. الآثار المترتبة على الارتداد : إذا ارتد المسلم، وثبت على ردته، ولم يتب، ترتبت، آثار هامة على ذلك، علاوة على ما ذكرنا من وجوب إقامة الحد عليه قتلاً، وهذه الآثار هي: 1 - الحجر التام على سائر أمواله، حيث توضع تحت إشراف الإمام الأكبر، أو من يرفع الحجر عنها، ويتبين أنه كان خلال ارتداده مالكاً لها. وإن لم يتب وقتل، تبين أن ملكيته عليها زالت منذ ارتداده. ومعنى ذلك أن الحكم بمصير ملكيته يكون موقوفاً على معرفة نتيجة أمره من توبة، أو إصرار يعقبه قتل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 107 2 - بطلان سائر تصرفاته وعقوده المدنية من بيع وشراء وهبة ورهن، ونحو ذلك، إذ يفقد بالردة أهليته لذلك كله. 3 - انقطاع حق التوارث فيما بينه وبين أقاربه. فلو مات قريب له مسلم أثناء ردته، لم يرث منه شيئاً، وإن كان في الأصل معدوداً من الورثة له، لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم". (رواه البخاري [6383] في الفرائض، باب: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم؛ ومسلم [1614] في الفرائض، في فاتحته، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما). 4 - يفصل بينه وبين زوجته، ويعتبر عقد الزواج ببينهما موقوفاً، فإن تاب ورجع إلى الإسلام خلال مدة العدة، عادت إليه زوجته بدون عقد، ولا رجعة، ويتبين استمرار عقده الأصلي صحيحاً، وإن لم يتب خلال مدة العدة، فسخ العقد، وتبين أن فسخه كان منذ ساعة ارتداده، فإذا تاب بعد ذلك لم يكن له أن يعود إليها إلا بعقد ومهر جديدين. الآثار المترتبة على قتل المرتد : وهي غير الآثار المترتبة على ردته بقطع النظر عن القتل، وهي تتلخص فيما يلي: 1 - حرمة تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، إذ لم يستوجب القتل إلا لخروجه عن دارة الإسلام وحكمه، وإنما يغسل ويكفن ويصلي عليه من كان خاضعاً لدين الإسلام ملتزماً لحكمه، قال الله عز وجل: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌَ} (سورة البقرة: 217). 2 - لا يدفن في مقابر المسلمين، بل تحفر له حفرة في مكان ما بعيداً عن مقابر المسلمين، ويوارى فيها. 3 - لا يرثه أحد من أقاربه، لانقطاع الأساس الذي تقوم عليه القرابة المعتبرة في الإسلام، وهو وحدة الدين، للحديث السابق ذكره، ولأن ملكيته تزول عن الأموال التي في حوزته بالردة، غير أنه لا يقضي بذلك إلا بعد موته مرتداً، إذ يتبين بذلك أنه منذ اللحظة التي ارتد فيها عن الإسلام لم يعد مالكاً لشيء مما تمتد يده عليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 108 أحكام ترك الصلاة أهمية الصلاة في الإسلام: الصلاة أول مظهر من مظاهر الإسلام في حياة المسلم، وأهم تعبير عن عبودية الإنسان لله عز وجل، وحسبك من أهميتها خطورة أمرها قول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (سورة النساء: 103)، وقوله تبارك وتعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (سورة طه: 132). فإذا ترك المسلم الصلاة، فقد قطع بذلك شوطاً كبيراً إلى الكفر، وقلما يواظب المرء على ترك الصلاة، ثم تسلم في قلبه عقيدة الإسلام، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة". (رواه مسلم [82] في الإيمان، باب: إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة). وإذا واظب المسلم على الصلاة جعل الله له منها كفارة لآثامه، وطهوراً لأدرانه، وكان له منها نسب موصول إلى الله عز وجل يري أثره عند الموت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مثل الصلوات الخمس كمثل نهر عذب غمر بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات، فما ترون ذلك يبقي من درنه؟ "، قالوا: لا شيء، قال - صلى الله عليه وسلم -: "فإن الصلوات الخمس تذهب الذنوب كما يذهب الماء الدرن". (رواه البخاري [505] في مواقيت الصلاة، باب: الصلوات الخمس كفارة؛ ومسلم [668] في المساجد، باب: المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات). حكم تارك الصلاة : ينقسم تارك الصلاة إلى ضربين: الأول: من يتركها غير معتقد بوجوبها، أو مستخفاً بشأنها، فهو بذلك يكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 109 مرتداً، وقد مر بيان حكمه وحده، إذ إنه أنكر أمراً معروفاً من الدين بالضرورة. الثاني: من يتركها موقناً بوجوبها، كأن كان الحامل على تركها الكسل أو نحوه، فهذا المسلم مرتكب لجرم كبير يستوجب ـ إن هو أصر على ذلك ـ حداً من حدود الإسلام. فيؤمر أولاً بالتوبة، والنهوض إلى الصلاة، وينبغي أن يقوم بذلك الحاكم، أو من ينوب منآبه، فإن لم يقم بذلك كان على أي مسلم أن يقوم مقامه، في أمره بالتوبة، وهو أمر إلزامي علي سبيل الوجوب، يتحتم القيام به فوراً. فإن لم يتب، ولم ينهض إلى الصلاة، وجب إقامة الحد عليه. حد تارك الصلاة : يحد تارك الصلاة ـ بعد استتابته ـ بالقتل، بضرب عنقه بالسيف، ولو على صلاة واحدة، حداً من حدود الإسلام، لا كفراً. ودليل ذلك ما روى البخاري [25] في الإيمان، باب: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، ومسلم [22] في الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. .، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله ". وقال - صلى الله عليه وسلم -: " خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن، فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة". (رواه مالك في الموطأ [1/ 123] في صلاة الليل، باب: الأمر بالوتر؛ وأبو داود [425] في الصلاة، باب: في المحافظة على وقت الصلاة). فدل الحديث على أن تارك الصلاة لا يكفر، لأنه لو كفر لم يدخل في قوله: "إن شاء أدخله الجنة" لأن الكافر لا يدخل الجنة قطعاً. فحمل الحديث على تركها كسلاً جمعاً بين الأدلة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 110 كم يمهل تارك الصلاة قبل تنفيذ الحد؟ يجب أولاً استتابة تارك الصلاة كما قلنا. فإن لم يتب أنذره الحاكم بتنفيذ حد القتل فيه، ثم أمهله، وهو موضوع تحت المراقبة، وفي متناول الحاكم، وإلى أن تخرج الصلاة عن وقت الضرورة والعذر. ووقت العذر للصلاة، هو آخر وقت لجمعها جمع تأخير مع غيرها. فيقتل على تركه صلاة الظهر عند مغيب الشمس، ودخول وقت المغرب، ومثلها صلاة العصر، لأنهما يجمعان جمع تأخير لأرباب الأعذار، وآخر وقت جمعهما مغيب الشمس، ويقتل على تركه صلاة المغرب والعشاء عند بزوغ الفجر، لأنهما يجمعان جمع تأخير عند العذر، ويمتد وقتهما على هذا الأساس إلى أول وقت الفجر. فإذا خرج وقت الضرورة الذي هو وقت الجمع تأخيراً للصلاة المتروكة، وهو مصر بعد على الترك بدون عذر، رغم الاستتابة والتهديد بالقتل، نفذ فيه الحد الذي ذكرنا. الآثار المترتبة على إقامة الحد : حكم تارك الصلاة كسلاً ـ أو لدافع نحوه ـ بعد القتل حداً، حكم باقي المسلمين، فيجب دفنه حسب الطرق المشروعة، وغسله وتكفينه، والصلاة عليه، كغيره من المسلمين. ولا تتأثر علاقة القرابة بينه وبين ذوي قرباه بهذا الحد، فيرث منه أقاربه، وتستمر أحكام الزوجية من عدة وإحداد وغير ذلك بالنسبة لزوجته. خاتمة : لو زعم زاعم أن بينه وبين الله حالة من القرب أسقطت عنه الصلاة، وأحلت له بعض المحرمات، فلا شك في وجوب قتله، كأي رجل جاحد للصلاة، ومثل ذلك ما لو ادعى أنه يصلي في الكعبة وهو بعيد عنها، كما نقل عن بعض مدعي التصوف. قال الفقهاء: وقتل هؤلاء أفضل من قتل مائة كافر، لأن ضرره أشد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 111 الباب الثاني أحكام الجَهاد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 113 أحكام الجهاد معني الجهاد : الجهاد في اللغة مصدر جاهد، أي بذل جهداً في سبيل الوصول إلي غاية ما. والجهاد في اصطلاح الشريعة الإسلامية: بذل الجهد في سبيل إقامة المجتمع الإسلامي، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تسود شريعة الله العالم كله. أنواع الجهاد : من التعريف الذي ذكرناه للجهاد، يتضح أن الجهاد أنواع، منها: 1 - الجهاد بالتعليم، ونشر الوعي الإسلامي، وردّ الشبه الفكرية التي تعترض سبيل الإيمان به، وتفهم حقائقه. 2 - الجهاد ببذل المال لتأمين ما يحتاج إليه المسلمون في إقامة مجتمعهم الإسلامي المنشود. 3 - القتال الدفاعي: وهو الذي يتصدي به المسلمون لمن يريد أن ينال من شأن المسلمين في دينهم. 4 - القتال الهجومي: وهو الذي يبدؤه المسلمون عندما يتجهون بالدعوة الإسلامية إلي الأُمم الأخرى في بلادها، فيصدّهم حكامها عن أن يَبْلُغوا بكلمة الحق سمع الناس. 5 - حالة النفير العام، وذلك عندما يقتحم أعداء المسلمين ديارهم معتدين بذلك على دينهم وأرضهم، وحرية اعتقادهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 115 والتعريف الشامل لكل هذه الأنواع أنه: بذل الوسع انتصاراً لشريعة الله، ورفعاً لكلمته في الأرض. الترغيب في الجهاد وبيان فضله : لقد جاءت الآيات كثيرة، تأمر بالجهاد وتحضّ عليه، وتبيّن مكانته وتذكر فضل المجاهدين، والشهداء عند الله عزّ وجل. وكذلك جاءت السنّة النبوية المشرّفة فأغنت هذا الموضوع، وزادته وضوحاً، ودعت إليه ورغّبت فيه، وبيّنت فضله ومكانته عند الله تبارك وتعالى. قال الله عزّ وجل: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة190). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (سورة التوبة: 123) " {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} " (سورة التوبة: 111) " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً} (سورة النساء: 71) " {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (سورة التوبة: 41) " {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة: 216) " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 116 الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (سورة التوبة: 38 - 39). {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} (سورة البقرة: 154). وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ " (سورة آل عمران: 169 - 170) وأما الأحاديث فكثيرة منها: حديث أبي داود {2533} في الجهاد، باب: الغزو مع أئمة الجَوْر، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: الجهادُ واجبٌ عليكم مَعَ كلِّ أميرِ، بَرَّاً كان أو فاجِراً " وقال عليه الصلاة والسلام: " جاهدُوا المشركينَ بأموالكم وأنفسكُم وألسنتِكُم ". (رواه أبو داود {2504} في الجهاد، باب: كراهية ترك الغزو، والنسائي {6/ 8} في الجهاد، باب وجوب الجهاد، عن أنس رضي الله عنه). وقال - صلى الله عليه وسلم -: {يا أيُها النَّاسُ، لا تَتَمَنَّوا لقاءَ العدُوَّ واسألوا الله العافِية، فإذا لقيتُموهمْ فاصبرُوا واعلمُوا أنَّ الجنةَ تحتَ ظلالِ السيوفِ}. (رواه البخاري [2861، 2862] في الجهاد، باب: لا تمنّوا لقاء العدو، ومسلم [1742] في الجهاد باب: كراهية تمنّي لقاء العدو، عن عبدالله بن أبي أوفي رضي الله عنه). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {لَغدْوةٌ في سبيل الله أو رَوْحهُ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها} (رواه البخاري [2639] في الجهاد، باب: الغدوة والروحة في سبيل الله، ومسلم [1880] في الإمارة، باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله، عن أنس رضي الله عنه). [الغدوة: زمن ما بين طلوع الشمس إلي الزوال. والروحة: زمن ما بين الزوال إلي الليل]. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 117 وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: {ما من عبد يموت، له عند الله خير، يسره أن يرجع إلي الدنيا، وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد، لما يري من فضل الشهادة، فإنه يسره أن يرجع إلي الدنيا فيقتل مرة أخري} (رواه البخاري [2642] في الجهاد، باب: الحور العين ... ) والأحاديث في الباب كثيرة جداً. حكم الجهاد : الجهاد فرض كفاية بالنظر لأنواعه الأربعة التي سبق ذكرها، فإذا قام به من فيهم كفاية سقطت المسؤولية عن الباقين. ومن هذه الأنواع ـ كما قد علمت ـ إقامة الحجج ورد الشبه والمشكلات عن الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر المعارف والعلوم الدينية الإسلامية. والجهاد فرض عين: بالنظر لنوعه الخامس والأخير ـ وقد مر بك ـ وهو ما يسمي بالنفير العام، فيجب على جميع المكلفين من أهل البلدة التي اقتحمها العدو، رجالاً ونساءً ـ إن اقتضي الأمر ـ أن يهبوا للذود عن أرض الإسلام وحكمه. الفرق بين الحرب والجهاد : وبهذا الذي ذكرناه يتضح لك الفرق جلياً بين الحرب والجهاد. فالحرب حالة من حالات الجهاد، أو نوع من أنواعه، وليس كل جهاد حرباً. أي فكلمة الجهاد أعم من كلمة الحرب في المفهوم والمعني. تحديد الفرق بين الجهاد وأنواع أخري من القتال : كما يتضح لك بما قد ذكرناه أن ثمة فرقاً كبيراً بين القتال الذي يكون جهاداً في سبيل الله وغيره مما قد مر بك بيان بعض منه. ـ فقتال الصائل: قائم على رد عدوان دنيوي، يستهدف حياةً أو مالاً أو بضعاً، ومشروعيته ليست من أجل إعلاء كلمة الله من حيث هي، بل للمحافظة على المصالح التي جاء الإسلام من أجل رعايتها والمحافظة عليها للناس. ـ وقتال البغاة قائم على رد أسباب الفوضى، والتصدي لنذير الشر، وتصديع الوحدة الإسلامية داخل الدولة الإسلامية الواحدة، وليس قائماً على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 118 الدافع الكلي الذي يدخل في قوام معني الجهاد، وهو إعلاء كلمة الله تعالي، ونشر الشريعة الإسلامية، ورفع لوائها في الأرض. غير أنه قد يلتقي الجهاد في سبيل الله مع قتال الصائل في صورة واحدة: وهي أن يعتدي عدو للمسلمين على قطعة من ديارهم ابتغاء الانتقاص من أرضهم والقضاء على دينهم، فيقاتلهم المسلمون من أجل ردهم عن كلا الغرضين، فهو قتال جهاد، ورد صيال معاً. زمن مشروعية الجهاد والتدرج الذي تم في تشريعه : أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة ثلاث عشر عاماً، يدعو إلي الله سلماً لا يقابل العدوان بمثله، فلما هاجر عليه الصلاة والسلام إلي المدينة شرع الله المرحلة الأولي من مراحل الجهاد، وهي التصدّي لرد عدوان المعتدين، أي القتال الدفاعي، ونزل في تشريع ذلك قوله عزّ وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} (سورة الحج: 39 - 40)، وقوله عز وجل: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ (سورة البقرة: 190). ثم شرع الله تبارك وتعالي لنبيه جهاد المشركين ابتداء بالقتال، إذا اقتضي الأمر ذلك إلا في الأشهر الحرم، ونزل في ذلك قوله عز وجل: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} التوبة5 وذلك بعد صلح الحديبية. ثم شرع الله تبارك وتعالى لنبيه جهاداً من غير تقيد بشرط زمان ولا مكان، ونزل في ذلك قوله عز جل {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} البقرة191 فالشأن في مشروعية الجهاد يشبه الشأن في حكم تحريم الخمر، فقد تكامل الحكم في كل منهما على مراحل، غير أن أول مشروعيته إنما كان عقب هجرة المصطفي - صلى الله عليه وسلم - إلي المدينة المنورة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 119 الحكمة من مشروعية الجهاد : لقد علمت أن القتال في سبيل الله نوع من أنواع الجهاد الذي يطلق على بذل الوسع بكل أنواعه في سبيل إعلاء كلمة الله. والجهاد له حكمة تتعلق بالمسلمين الذين يكلفون بالجهاد، وله حكمة أخري تتعلق بأولئك الذين يجاهدهم المسلمون من الكافرين وأعوانهم. فأما حكمة تكليف الله المسلمين بالجهاد، فهي أن يتبين صدق إيمانهم وأن يمارسوا حقيقة العبودية التي لا تتجلي إلا بتحمل المشاق والتضحية بالنفيس في سبيل الله عز وجل، من نفس وراحة ومال. يدل على ذلك قوله تعالي: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (سورة آل عمران: 142). وأما حكمة وقوع الجهاد بالقتال ونحوه على الكافرين، ففيه ما فيه من الجبر لهم والضغط عليهم، وتكليفهم في دين الله طوعاً أو كرهاً، فهي تتمثل في الأمور التالية: 1 - تحرير عامة الناس ودَهْمائهم من الوقوع تحت سلطة الطغاة والمستعبدين، فإن الأمة التي لا تدين بالعبودية لله عز وجل، لا بد أن يستبد الأقوياء منها بالضعفاء، ويسوقهم بعصا الاستعباد في الطريق التي ترسمها لهم أهواؤهم. أما إذا دخل الإيمان في قلوب تلك الأمة، فإن أقوياءهم يستشعرون الضعف والمسؤولية تجاه فاطرهم العزيز جل جلاله، فيقلعون عن الظلم والاستعباد، وإن ضعفاءهم يستشعرون القوة والعزة بإيمانهم، وأن لا نافع ولا ضار إلا الله، فيتحررون عن التبعية لأسيادهم، حيث لا يذلهم تهديد ولا يخوفهم بطش أو وعيد، فتتقارب عندئذ الطبقات، وتتساوي الفئات ويستشعر الكل أنهم إخوة في ظلال العبودية لله تعالي. والجهاد هو وسيلة كبرى لتحقيق هذا الأمر. 2 - إشعار الناس بكل فئاتهم وأنواعهم أن الأرض أرض الله والدولة دولة الله فالحكم فيها لا ينبغي أن يكون إلا له عز وجل فمن دخل في حكم الله طوعاً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 120 فقد أرضي بذلك ربه، وأسعد حياته ومن لم يقبل بالدخول فيه طوعاً كان لابد أن يحمل عليه كرهاً، وإنما سبيل ذلك الجهاد. فمن قال لك: إن الناس أحرار يدينون بما يشاؤون، ويحكمون بما يريدون، فقل،: أي دولة من دول الأرض تقبل هذا المنطق من رعاياها عندما تلزمهم بقانونها المصنوع، وتشريعها الموضوع، وكيف جاز لهذه الدول أن تهدد المتمردين إن تمردوا ثم تقتلهم وتسوي بهم الأرض إن هم أصروا وعاندوا، ثم لا يجوز لرب هذه الأمم والدول كلها أن يلزمهم بتشريعه، وأن يحكمهم بقانونه؟! 3 - درء أسباب الشقاق والخصومات الناتجة عن الإعراض عن تشريع الله وحكمه، والاستعاضة عنهما بتشريعات البشر وأحكامهم، فإن الناس إذا لم يدخلوا خاضعين تحت حكم خالقهم الفرد الصمد جل جلاله، اضطروا إلي أن يتواضعوا فيما بينهم على تشريعات هم الذين يؤلفونها، ولا بد أن تتدخل في الخلاف، وتتصارع الاتهامات، ثم لابد أن يتحول الشقاق إلي حرب مستمرة وشقاق لا نهاية له، وإنما المفر من ذلك تحكيم شرع الله، وليس من سبيل لذلك في كثير من الظروف إلا الجهاد وقد عبر البيان الآلهي عن هذه الحكمة أروع تعبير في هذه الآية: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} (سورة البقرة: 193). شروط وجوب الجهاد : هناك شروط تتعلق بالمجاهدين، وشروط تتعلق بالكفار. أولاً: الشروط التي تتعلق بالمجاهدين: إنما يجب الجهاد (عندما يكون فرض كفاية) على من توفرت فيه الشروط التالية: 1 - الإسلام: فلا يجب على كافر أصلي وجوب مطالبة في دار الدنيا، لأن الجهاد عبادة وهي لا تصح من كافر، شأنه في ذلك كشأن الصلاة والصوم ونحوهما. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 121 2 - التكليف: فلا يجب الجهاد على صبي، ولا علي مجنون وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرد صغاراً لم يصلوا إلي سن التكليف عن الاشتراك في الغزو. روي البخاري [2521] في الشهادات، باب: بلوغ الصبيان وشهادتهم، ومسلم [1868] في الإمارة، باب: بيان سن البلوغ، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه، قال: (عرضني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد في القتال، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، وعرضني يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) أي فأذن لي بالخروج والاشتراك في القتال. 3 - الذكورة: فلا يجب الجهاد على أنثي، لضعفها عن القتال، ولأن الأمر فيه سعة، بسبب كونه فرض كفاية، فيكفي أن يقوم به الرجال، وهم أقدر عليه من النساء بغير شك. روي البخاري [1762] في الإحصار وجزاء الصيد، باب: حج النساء عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله، ألا نغزوا ونجاهد معكم؟ فقال: لكن أحسن الجهاد وأجمله، حج مبرور. وروي ابن خزيمة [3074] في الحج، باب الدليل على أن جهاد النساء الحج والعمرة، وغيره بأسانيد صحيحة عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: يا رسول الله، هل على النساء جهاد؟ قال: نعم، جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة. 4 - الاستطاعة: وتشمل الاستطاعة الجسمية مطلقاً، والاستطاعة المالية إذا لم يكن لدي الدولة ما تغني به المجاهدين من ركوب وعتاد ونفقة، ونحو ذلك، فلا يجب الجهاد على من ليس مستطيعاً على نحو ما ذكرنا كالأعمى والأعرج، وفاقد النفقة، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} (سورة التوبة: 91 - 92). [الحرج: الإثم والذنب، ونفي الحرج نفي للإثم والذنب، وهو يتضمن نفي الوجوب] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 122 5 - رضا الوالدين: فلو لم يرض أبوه وأمه بخروجه للجهاد لم يجز له مخالفتهما، لأن حقهما عند الضرورة والحاجة إلي المساعدة ألزم إذ هو فرض عين بينما الجهاد في الحالة التي نذكرها فرض كفاية. جاء في الصحيحين: أن رجلاً استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد، فقال: {ألك والدان؟ } قال: نعم، قال: {ففيهما فجاهد}. وفي رواية: أقبل رجل إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله، فقال: هل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما حي، قال: فتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم قال: فأرجع إلي والديك فأحسن صحبتهما. وفي رواية لأبي داود والنسائي: قال: جاء رجل إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبواي يبكيان، قال: {ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما} (رواه البخاري [2842] في الجهاد، باب: الجهاد بإذن الأبوين، ومسلم [2549] في البر والصلة، باب: بر الوالدين، وأبو داود [2530] في الجهاد، باب: في الرجل يغزو وأبواه كارهان، والترمذي [1671] في الجهاد، باب: فيمن خرج في الغزو وترك أبويه، والنسائي [6/ 10] في الجهاد، باب: الرخصة في التخلف لمن له والدان، كلهم عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما). وكالوالدين في ذلك الغريم صاحب الدين الذي حل أجله مع يسر المدين به، فلا يجوز له الخروج إلي الجهاد إلا بإذن غريمه، وأنت تعلم أن هذا كله في الجهاد الذي هو فرض كفاية. ثانياً: الشروط التي تتعلق بالكفار: إنما يجب على المسلمين الخروج لقتال الكفار على وجه الجهاد بعد ملاحظة الشروط التالية: 1 - أن يكون الكفار مستأمنين، أو معاهدين، أو من أهل الذمة وذلك لقوله عز وجل في حق المستأمنين: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 123 يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (سورة التوبة: 6). وقال تبارك وتعالي في حق المعاهدين: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} (سورة الأنفال: 58)، فإذا لم يجد بوادر الخيانة فلا يجوز نكث العهد وخرقه، ومقاتلة أصحاب تلك العهود. وقال عليه الصلاة والسلام في حرمة قتال أهل الذمة وقتلهم: {من قتل رجلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً} (رواه أبو داود [2760] في الجهاد، باب: في الوفاء للمعاهد، وحرمة ذمته، عن أبي بكر رضي الله عنه). وروي الترمذي [1403] في الديات، باب: ما جاء فيمن يقتل نفساً معاهدة، وابن ماجه [2687] في الديات، باب: من قتل معاهداً، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ألا من قتل نفساً معاهدة له ذمة الله ورسوله، فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً ". [أخفر بذمة الله: نقض العهد وغدر به]. 2 - أن يسبق القتال تعريف لهم بالإسلام، وشرح لحقيقته، ورد لما قد يكون من شبه لهم فيه، حتى إذا قامت بذلك عليهم الحجة، ولم يتحولوا عن عنادهم على الكفر، قوتلوا على ذلك، ودليل ذلك إرساله عليه الصلاة والسلام الرسائل والكتب إلي الملوك والأمراء في العالم يومئذ يعرفهم فيها بالإسلام، ويشرح لهم جوهر رسالته التي أرسله الله بها إلي العالمين، ويأمرهم بالخضوع لهذا الإسلام والدخول فيه، ولقد كان ذلك منه عليه الصلاة والسلام مقدمة لابد منها بين يدي جهادهم، وليس أدل على هذا الشرط من كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبدالله ورسوله إلي هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدي، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 124 الأريسيين، و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (سورة آل عمران: 64). (الحديث رواه البخاري [7] في بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومسلم [1773] في الجهاد، باب: كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلي هرقل). [بدعاية الإسلام: بدعوته وهي كلمة الشهادة التي يدعي إلي النطق بها أهل الملل الكافرة. توليت: أعرضت عن الإسلام، ورفضت الدخول فيه. إثم الأريسيين: إثم استمرارهم على الباطل والكفر أتباعاً لك، والمراد بالأريسيين الأتباع من أهل مملكته، وهي في الأصل جمعي أريسي، وهو الحارث والفلاح كلمة سواء بيننا وبينكم: مستوية لا تختلف فيها الكتب المنزلة، ولا الأنبياء المرسلون] فإذا توفر هذان الشرطان، كان لإمام المسلمين أن يقاتلهم إذا اقتضته مصلحة الدعوة الإسلامية، حتى وإن كان ذلك بدون سابق إنذار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 125 مراحل الجهاد وآدابه الدعوة أولاً: اعلم أن قتال الكفار وسيلة وليس غاية، فإذا تحقق الهدف المقصود بدون قتال، فذلك هو المطلوب، ولا يشرع القتال حينئذ، وإنما الهدف نزول الكفار الحاكمين عن عروش طغيانهم، والخضوع لحكم الله تعالي في سياسة شعوبهم ورعاياهم، وترك الحقائق الدينية تنتشر على سجيتها في أفكار الناس وعقولهم. والوسيلة الأولي إلي ذلك إنما هي الدعوة القائمة على المنطق والحوار واستنهاض كوامن الإنسانية والإنصاف والحذر من العواقب في نفوسهم. فإذا قطع المسلمون الشوط الكافي في سبيل هذه الدعوة بالشرح والبيان ورد الشبه، والكشف عن الغوامض، وبيان المعروف، والأمر به وبيان المنكر والنهي عنه، فإن تحقق الهدف المطلوب بذلك وحده فتلك هي النهاية التي يجب على المسلمين أن يقفوا عندها، لا يطمعون بعدها منهم بأرض ولا مال، ولا حكم ولا سلطان. وإن لم يتحقق الهدف المطلوب، بأن قوبلت الدعوة بالاستنكار والعناد والصد والمنع، حتى لم يكن من سبيل لإبلاغها دهماء الناس عامتهم، فإن على المسلمين حينئذ أن يتبعوا هذه المرحلة بالمرحلة الثانية التي تليها، بأمر من الحاكم المسلم وبشرط أن يأنس القدرة على ذلك، وهي القتال والمناجزة. الجزية ثانياً: قلنا: إن الخطوة الثانية التي تلي مرحلة الدعوة إلي الله بالحكمة والموعظة الحسنة، هي القتال والمناجزة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 126 غير أنه إذا أمكن تفادي القتال والمناجزة بوسيلة وسطي بين العناد على الكفر بعد وضوح الأدلة على بطلانه، وبين الدخول في الإسلام تديناً به، وهذه الوسيلة الوسطى، هي الدخول في حكم الدولة الإسلامية والانسجام مع أحكامه التشريعية المتعلقة بالنظام الاجتماعي، وجب المصير إليها، وإقامة سلم بينهم وبين المسلمين على أساسها، على أن يخضع الكافرون لضريبة تدفع إلي إمام المسلمين، تنزل منزلة الزكاة التي يدفعها المسلمون إليه تسمى: الجزية وذلك بناء على شروط معينة سنذكرها بعد قليل إن شاء الله تعالي. القتال ثالثاً: فإن رفض الكفار بعد إجراء كل ما سبق، الدخول في الإسلام، ورفضوا الانضواء تحت سلطانه قانوناً ونظاماً، كانت المرحلة الثالثة، وهي القتال، وذلك لصريح قول الله تبارك وتعالي: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ,لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (سورة التوبة: 29) ولقول ربعي بن عامر لقائد الجيش الفارسي: إن مما سنهُ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن لا نمهل الأعداء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل: الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء ـ أي الجزية ـ ونقبل ونكف عنك وإن احتجت إلينا نصرناك، أو المنابذة ـ أي القتال ـ في اليوم الرابع. من هم الذين يخيرون بين الإسلام والجزية؟ تنقسم فئات الكفار، من حيث الخضوع لحكم الجزية وعدمه إلي طائفتين: الطائفة الأولي: هم أهل الكتاب هم أهل الكتاب، ومن في حكمهم، فأما أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى، وأما الذين هم في حكمهم، فالمجوس، وزاعمو التمسك بصحف إبراهيم وزبور داود عليهما الصلاة والسلام. الطائفة الثانية: وهم من عدا أولئك الذين ذكرناهم، من سائر الكفار، سواء كانوا ملا حدة، أو عبدة أوثان، أو غير ذلك. فالطائفة الأولي هي التي تقبل منها الجزية، حين تخير بينها وبين الإسلام وذلك لدلالة الآية السابقة، وحديث ربعي بن عامر المار ذكره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 127 وأما المجوس، فقد جاء الأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعاملتهم في الجزية معاملة أهل الكتاب. روي مالك في الموطأ [1/ 278] في الزكاة، باب: جزية أهل الكتاب والمجوس، عن جعفر بن محمد رحمه الله، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكر المجوس، فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: أشهد لقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: {سنوا بهم سنة أهل الكتاب}. وروي البخاري [2988] في الجزية، باب: ما جاء في أخذ الجزية من اليهود والنصارى والمجوس والعجم، ومسلم [2961] في أول كتاب الزهد والرقائق، عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بعث أبا عبيدة بن الجراح إلي البحرين يأتي بجزيتها. أما الطائفة الأخرى، وهم سائر الفئات الأخرى من الكفار، على اختلافهم، فلا يقبل منهم إلا الإسلام، وذلك عملاً بدلالة النصوص الواردة، ولأن من عدا الكتابيين من الكفار، ومن في حكمهم، لا يتصلون مع المسلمين بأي علاقة أو سبب، فانضواؤهم في منهج النظام الإسلامي غير ذي معنى ولا فائدة. وعليهم ينطبق قول الله تبارك وتعالي: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (سورة التوبة: 5) وفيهم يصدق أيضاً قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله " (رواه البخاري [25] في كتاب الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، عن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 128 بيان الحكمة من التفريق بين الطائفتين من الكفار : ولعلك تسأل: فما الحكمة التي قامت عليها مشروعية قبول الكتابيين على حالهم، مع أخذ الجزية منهم؟ وهلا كان سائر الكفار مثلهم؟ والجواب أن التفريق بين هاتين الطائفتين قائم على حقيقتين اثنتين: الحقيقة الأولي: ومفادها أن الكتابي يشترك مع المسلمين في إيمانه بالله والنبيين، وإن لم يؤمن بوحدانية الله، ولا بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو آمن بنبوته إلي العرب فقط، فكان له سبيل سائغة للانضواء تحت نظام الحكم الإسلامي، كشرعة وقانون، وكان له من إيمانه هذا ما يجعله متمكناً من الانسجام مع نظامه، ثم إنه بعد ذلك سيجد مجالاً رحباً للنظر بإمعان وحرية فكرية مطلقة في حقيقة الإسلام وواقعه، ولسوف يظهر له مع الزمن ـ إن كان يتمتع بحرية فكرية تامة ـ أن الإسلام دين حق لا مرية فيه. أما الجزية التي تؤخذ منه، فهي كما قلنا آنفاً: ليست إلا عوضاً عن الزكاة التي تؤخذ من أغنياء المسلمين، لتحقيق نفس الفائدة بواسطتها، وهي إعادتها على فقرائهم، ونهوض الدولة بالمسؤولية التامة تجاههم. الحقيقة الثانية: أن بقية فئات الكفر لا تجمعهم مع المسلمين أي جامعة، ومن ثم فليس من سبيل لانضوائهم في نظام الحكم الإسلامي، ولتجاوبهم معه، وهم بعد ذلك ـ فيما يحملون من عقائد الجحود بالله، وإنكار الصانع جل جلاله ـ جراثيم ضارة فتاكة بالمجتمع الذي يحلون فيه، وهم في واقعهم هذا يشكلون شذوذ الإنسانية عن منهجها الفطري الطبيعي، فكان أمراً سليماً أن لا يقبل منهم إلا الإسلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 129 الآثار المترتبة على الجهاد تترتب على الجهاد آثار ونتائج كثيرة ذات أهمية، ولكل منها أحكام خاصة بها. فلنستعرض هذه الآثار واحدة إثر أخري، موضحين خلاصة الأحكام المتعلقة بكل منها: 1 - الأسر: من أبرز نتائج الجهاد وقوع أسري من الكفار تحت سلطان المسلمين، وفي أيديهم. فهؤلاء الأسري: إن كانوا أطفالاً أو نساءً أصبحوا بمجرد الأسر أرقاء حكماً أما إن كانوا رجالاً بالغين، فلا يعتبرون أرقاء بمجرد الأسر، وإنما يتبع ذلك حكم الإمام، فإن ضرب عليهم الرق أصبحوا أرقاء، وإلا فهم أحرار. مصير الأسري: ثم إن الإمام يختار لمصير الأسرى واحدة من خصال أربعة: القتل، والمن والفداء بالمال، والاسترقاق. يختار ما شاء متبعاً في ذلك مصلحة المسلمين وخيرهم. أما المن والفداء، فقد جاء مصرحاً بهما في قول الله عز وجل: {َإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} (سورة محمد: 4) [أثخنتموهم: أثقلتموهم بالقتل والجراح. فشدوا الوثاق: فأسروهم، وشدوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 130 رباطهم حتى لا يفلتوا منكم. مناً: أي تمنون منا، والمن: هو الإنعام على الأسير وإطلاق سراحه من غير فدية. تضع الحرب أوزارها: تنتهي الحرب وذلك بوضع المحاربين أسلحتهم] وأما ما يدل على قتل الأسري، فقول الله عز وجل: {َا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة الأنفال: 67) [حتى يثخن في الأرض: حتى يبالغ في قتل الكفار] وأما الاسترقاق، فقد ثبت بدلالة السنة، وفعل النبي $، فقد استرق أسرى في غزوة خيبر وقريظة، وفي غزوة حنين. روي البخاري [3804] في المغازي، باب: حديث بني النضير .. ، ومسلم [1766] في الجهاد، باب: إجلاء اليهود من الحجاز، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: حاربت النضير وقريظة، فأجلي بني النضير، وأقر قريظة، ومن عليهم، حتى حاربت قريظة، فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين. واسترق - صلى الله عليه وسلم - أسرى هوازن، ثم تشفع فيهم لدي المسلمين بعد أن قسموا بينهم، عندما جاء وفد هوازن مسلمين، وطلبوا منه - صلى الله عليه وسلم - أن يرد إليهم سبيهم وأموالهم، فمنوا عليه. (رواه البخاري [2963] في الخمس، باب: الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين) وروي مسلم [1755] في الجهاد والسير، باب: التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى، عن إياس بن سلمة عن أبيه أن سرية من المسلمين أتوا بأسري، فيهم امرأة من بني فزارة، فبعث بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلي أهل مكة، ففدي بها ناساً من المسلمين، كانوا أسروا بمكة. وروي مسلم [1763] أيضاً أنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ الفداء من أسري بدر. 2 - الرق: الرق في اصطلاح الشريعة الإسلامية: عجز حكمي يتلبس الإنسان بسبب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 131 الكفر في الأصل، ويظهر هذا العجز الحكمي، بفقدان أهليه التملك، وفقدان الحقوق المدنية. الحكمة من مشروعية الرق: عرفت أن حكم الاسترقاق والمن والفداء داخل في أحكام السياسة الشرعية، ومنوط برأي الحاكم المسلم، يراعي فيه المصلحة العامة للمسلمين. والحكمة في أن يتخذ الاسترقاق محله بين هذه الخصال التي يخير بينها هي أنه سلاح موجود في أيدي الأعداء بالنسبة لأسرانا عندهم. فكان من أسس العدالة أن يملك المسلمون هذا السلاح نفسه، ثم يعطي الحاكم صلاحية استعماله، بمجرد أن يري ضرورة لذلك، كأن يجد أعداءنا قد استرقوا أسرانا، وأنت تعلم أن القانون الدولي يقر مبدأ التعامل بالمثل فيما يتعلق بالأسري. وكان من الإجحاف أن ينسخ هذا السلاح (الاسترقاق الناتج عن الحرب) نسخاً شاملاً، مع استعمال الأعداء له، وشعورهم بالسعادة لكونهم وحدهم الذين يملكون هذا السلاح. مصير حكم الاسترقاق اليوم: لا يزال ضرب الرق على أسري الحرب إلي اليوم، حكماً شرعياً من أحكام الإمامة، أي أن الإمام يرى في ذلك رأيه، بناءً على المصلحة العامة للمسلمين. غير أنه منذ حين بعيد، أبعد هذا الحكم عن التنفيذ، وذلك لعدم وجود مصلحة تدعو إلي ذلك، ولأن دول العالم اتفقت فيما بينها على عدم استرقاق الأسري، فكان في هذا الاتفاق ما أبعد المصلحة الإسلامية عن ضرب الرق عليهم. واعلم أن أحكام السياسة الشرعية المتعلقة بأبواب الجهاد أشبه ما يكون بما يسمي بأحكام الطوارئ، فكما يجوز لرئيس الدولة أن يعلق القانون، ويعلن حالة الطوارئ، ويقرر ما يشاء تحت هذا العنوان، فكذلك يجوز لإمام المسلمين أن يمارس صلاحيات معينة، وضعها الشارع تحت يده ليستفيد منها عند الضرورة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 132 واللزوم كحكم الرق، وقتل الأسري، وقطع أشجار الكفار وتحريق بيوتهم، ونحو هذا مما يري فيه مصلحة المسلمين. ومما يجب أن يعلم أن من أسلم من الكفار قبل الأسر، ولو بعد الهزيمة فقد أحرز دمه من القتل، ونفسه من الرق، وصغر أولاده من السبي والاسترقاق، يدل على ذلك قول الله عز وجل: {َإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (سورة التوبة: 5) وقول الله عز وجل: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {(سورة التوبة: 11). ولا شك أن هذه الأخوة تستلزم المحافظة على أرواحهم وأموالهم وأولادهم ما داموا قد أسلموا قبل وقوعهم أسرى في أيدي المسلمين. ويدل على هذا أيضاً قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله " (رواه البخاري [25] في الإيمان، باب: فإن تابوا ... ، ومسلم [22] في الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، عن ابن عمر رضي الله عنهما). وهذا ويُحكم على الصغر من الأولاد بالإسلام عند وجود ثلاثة أسباب: 1 - إسلام أحد أبويهم، فإنه يتبع أشرف أبويه في الدين، تغليباً لجانب الإسلام، وترجيحاً لمصلحة الصغير، وما هو أنفع له، فإن الإسلام صفة كمال وشرف وعلو، قال عليه الصلاة والسلام: " الإسلام يعلو ولا يعلي ". (رواه الدارقطني في سننه، كتاب النكاح، ورواه البخاري تعليقاً في الجنائز، باب: إذا اسلم الصبي. انظر العيني [8/ 169]). 2 - أن يسبيه مسلم وهو منفرد عن أبويه، فيحكم عندئذ بإسلامه تبعاً لدين من سباه، ترجيحاً لمصلحته كما قلنا. 3 - أن يوجد لقيطاً في دار الإسلام، فيحكم بإسلامه تبعاً للمكان الذي وجد فيه وتغليباً لجانب الخير بالنسبة له. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 133 3 - الغنائم والأسلاب: الغنيمة: هي المال المأخوذ من أهل الحرب قهراً، سواء كانت منقولة، أو غير منقولة، وسواء أخذت، والحرب قائمة، أو أخذت عند مطاردة الأعداء وفرارهم، والأسلاب: جمع سلب، وسلب القتيل: ما وجد معه وفي حوزته من المال والسلاح. حكم الغنائم: يجب تقسيم الغنائم خمسة أقسام، فأما أربعة أخماسهم، فتوزع بين المقاتلين، وكان من هدى النبي - صلى الله عليه وسلم - في عصره أن المقاتل راجلاً، يأخذ سهماً واحداً يفرضه له الحاكم، والمقاتل فارساً يأخذ ثلاثة أسهم. روي البيهقي [9/ 62] أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ما تقول في الغنيمة؟ قال: " لله خمسها، وأربعة أخماسها للجيش " وروي البخاري [2708] في الجهاد، باب: سهام الفرس عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله $ جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهماً. وفي رواية عند البخاري [3988] في المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم [1762] في الجهاد والسير، باب: كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قسم رسول الله $ يوم خيبر: للفرس سهمين، وللراجل سهماً. وإذا كان هذا التقسيم بذاته غير وارد اليوم لاختلاف أساليب الحرب، وأدواتها، فإن المطلوب الآن ملاحظة جنس التفاوت بين المقاتلين، بالقدر الذي يتناسب والفرق ما بين الفارس والراجل فيما مضي، فيعطي للأدنى 1/ 3 مما يأخذه الأعلى. فيجب على كل حال حجز أربعة أخماس الغنائم، وقصرها على الجند والمقاتلين، بنفس الطريقة التي كان يسلكها رسول الله $، مع ملاحظة ما تطورت إليه وسائل القتال، وطرائقه، وأثرها في تفاوت درجات المقاتلين. ولا مانع من أن توزع عليهم حصصهم على شكل علاوات، أو مرتبات متلاحقة، إنما المهم أن الدولة لا يجوز لها أن تستمسك بشيء من هذه الأموال المغنومة لنفسها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 134 هذا لا يسهم على الشكل الذي ذكرنا من الغنيمة إلا لمن اجتمعت فيه الشروط التالية: الإسلام، والبلوغ، والعقل والحرية، والذكورة، فإن اختل شرط من هذه الشروط، رضخ له الإمام، أي أعطاه شيئاً من الغنيمة قبل قسمتها ويجتهد في قدره حسب ما قدم من نفع، على أن لا يبلغ ما يعطيه سهم الراجل ولك لأن هؤلاء الذين لم تتكامل فيهم تلك الشروط، كالصغار والنساء والعبيد، ليسوا من أهل الجهاد الذي يفرض عليهم حضوره. وأما الخمس الخامس من الغنيمة، فيوزع أخماساً كما نصت عليهم الآية القرآنية: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (سورة الأنفال: 41). [لله خمسه: أي يحكم فيه كما يشاء. وللرسول أي قسمته وتوزيعه، وله فيه نصيب، وهو خمسه. اليتامى: جمع يتيم، وهو كل صغير لا أب له، فإذا بلغ لم يبق يتيماً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يتم بعد احتلام ". (رواه أبو داود [2873] في الوصايا باب: ما جاء متى ينقطع اليتم، عن على بن أبي طالب رضي الله عنه). ابن السبيل: المسافر الذي فقد النفقة، وهو بعيد عن ماله. ولذي القربى: هم أقارب الرسول الذين لا تحل لهم الصدقة، وهم بنو هاشم والمطلب، روي البخاري [2981] في الخمس، باب: الدليل على أن الخمس للإمام، وأنه يعطي بعض قرابته دون بعض، عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا رسول الله، أعطيت بني المطلب وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد ". بمنزلة واحدة: أي من حيث القرابة، لأن الجميع ينو عبد مناف، شيء واحد: لأنهم ناصروه قبل إسلامهم وبعده] حكم الأسلاب: وقد عرفت الأسلاب، والفرق بينها وبين الغنائم، وحكمها أن سلب القتيل يكون ملكاً لقاتله إذا أخذه وكان ممن يستحق الغنيمة. ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من قتل قتيلاً له عليه بينه، فله سلبه ". (رواه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 135 البخاري [2973] في الخمس، باب: من لم يخمس الأسلاب، ومن قتل قتيلاً فله سلبه، ومسلم [1851] في الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل، عن أبي قتادة رضي الله عنه). تنبيه : يري الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أن حكم الأسلاب ـ على نحو ما ذكرنا ـ هو حكم تبليغي، أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فه ثابت إلي ويم القيامة. وذهب مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى إلي أنه حكم قضائي، قضي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوصف كونه حاكماً، ولم يخبر به عن الله عز وجل بوصف كونه نبياً، وعليه يجوز للحكام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخالفوه إلي ما هو مصلحة في عصرهم، وظروفهم. 4 - الفيء: تعريف الفيء: الفيء هو ما أخذه المسلمون من أعدائهم بدون قتال، ومن أموال منقولة، وغير منقولة، قال الله عز وجل في أموال يهود بني النضير: {وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (سورة الحشر: 6). [أوجفتم: أسرعتم. ولا ركاب: ولا أبل، أي لم تقاسموا فيه مشقة] فالفرق إذاً بين الفيء والغنائم، أن الغنائم مال وصل إلي المسلمين في أعقاب حرب، والفيء: مال وصل إلي المسلمين من أعدائهم بدون حرب ولا قتال. حكم الفيء: يقسم الفيء أخماساً، فيجعل خمسه في أصحاب خمس الغنيمة وخم خمس فئات كما مر في الغنيمة. 1 - رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان يأخذ من خمس الخمس ما يحتاج إليه من نفقته ونفقة عياله، وما فضل كان يضعه في مصالح المسلمين: كالثغور، والمشاريع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 136 المختلفة. وسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته يصرف في مصالح المسلمين. روي البخاري [2748] في الجهاد، باب: المجن ومن يترس بترس صاحبه، ومسلم [1757] في الجهاد والسير، باب: حكم الفيء، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله $ خاصة، وكان ينفق على أهله نفقة سنته، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع، عدة في سبيل الله. 2 - ذوو القربى، وهم بنو هاشم والمطلب أقرباء رسول الله $، وقد مر دليل ذلك. 3 - اليتامى، وهم من مات آباؤهم وهم صغار دون سن البلوغ. 4 - المساكين، ويدخل في زمرتهم الفقراء، لأن الفقراء أسوأ حالاً من المساكين. 5 - أبناء السبيل، وهم المسافرون الذين فقدوا نفقتهم، وهم بعيدون عن أموالهم. وأما الأربعة الأخماس الأخرى فتصرف في مصالح المسلمين، بشرط أن يكون في مقدمتها رفع مستوي العاملين في الجيش، وهم الأجناد المرصود ون للجهاد. فإن كانت أموال الفيء منقولة وزعت عليهم أعيانها. وإن كانت غير منقولة كالعقارات، وقفت لمصالح بيت مال المسلمين، ووزع ريعها على من ذكرناهم. ويدل على كل ما ذكر قول الله تبارك وتعالي: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}. وهذه الآية مطلقة لم يذكر فيها التخميس، كما هو واضح، لكنها تحمل على آية الغنيمة المقيدة بالتخميس، فتخمس كما ذكرنا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {ما لي مما أفاء الله إلا الخمس، والخمس مردود فيكم}. (رواه البيهقي [نهاية: 3/ 272]) [والمراد بالخمس: خمس الخمس، كما علمت. وقوله: مردود فيكم: أي يصرف في مصالحكم. وذلك بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 137 هذا، ومن جملة مصارف الفيء: النفقة على أسر من يموت من المجاهدين الذين سبق ذكرهم، ويسمون المرتزقة، ولو في غير قتال، أو العلماء ونحوهم، ممن تحتاج الأمة إلي أعمالهم، فيعطي ورثتهم الذين كانت تلزمهم نفقتهم في حياتهم ما يسد حاجتهم. قال في النهاية: ومن مات من المرتزقة دفع إلي من كان تلزمه نفقته من أربعة أخماس الفيء كفايته، لا ما كان يأخذه هو، فتعطي الزوجة وإن تعددت، والبنات حتى ينكحن، أو يستغنين بكسب أو بغيره، والذكور حتى يستقلوا بالكسب، أو المقدرة على الغزو، لئلا يشتغل الناس بالكسب عن الجهاد، إذا علموا ضياع عيالهم بعدهم، ومن بلغ من الأبناء عاجزاً، فكمن لم يبلغ وقال: ويعطي أولاد العالم من أموال المصالح إلي أن يستقلوا، وللزوجة حتى تنكح ترغيباً في العلم [3/ 74] 5 - الجزية: تعريف الجزية: الجزية: من الجزاء، وهو الثواب والعقاب، والمراد منها شرعاً: المال الذي يدفعه الكتابي، ومن في حكمه، لبيت مال المسلمين جزاء كف اليد عنهم، ودخولهم تحت الحماية والرعاية، والتزام الدولة الإسلامية النظر في شؤونهم وذلك ضمن ضوابط وشروط معينة. دليل مشروعية الجزية: قلنا سابقاً بأن الجزية شرعت، لأهل الكتاب، ومن في حكمهم، ويدل على مشروعيتها قول الله عز وجل، في أهل الكتاب: {حتي يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (سورة التوبة: 29). [عن يد: أي طائعتين غير ممتنعين. وهم صاغرون: قال الشافعي رحمه الله تعالى: الصغار: جريان أحكام المسلمين عليهم وقد سبق بيان ذلك] حكمة تشريع الجزية : قلنا سابقاً: إن الكتابي يملك من الإيمان بالله تعالي ما يفسح مجالاً لتعايش المسلمين معه ضمن حدود وضوابط مرسومة. ومن فوائد هذا التعايش القائم على حرية النظر والفكر، أن تتلاقح الأفكار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 138 ويطلع الكتابيون على ما لم يكونوا يعلمونه من حقائق الإسلام، وتذوب أسباب العصبية، فيجتمع الكل على الحق. إلا أن هذا التعايش لا يتم إلا بتحمل الدولة الإسلامية مسؤولياتها تجاههم، والنظر في شؤونهم، لا سيما المعيشية والاقتصادية، فكان لابد من أخذ ضريبة مالية محددة، لتيسير أسباب القيام بهذه المسؤوليات. شروط الجزية : يشترط لعقد الجزية الشروط التالية: 1 - أن يكون أصحابها من أهل الكتاب ـ نصارى أو يهوداً ـ أو من هم في حكمهم، وهم المجوس، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " سنُّوا بهم سنة أهل الكتاب ". (رواه مالك في الموطأ [1/ 278] في الزكاة، باب: جزية أهل الكتاب والمجوس). ومثل المجوس في الحكم من يزعمون التمسك بمصحف إبراهيم، أو زبور داود عليهما السلام. وروي البخاري [2987] في الجزية، باب: أخذ الجزية من اليهود والنصارى والمجوس والعجم، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لم يكن ليأخذ من المجوس، حتى شهد عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي $ أخذها من مجوس هجر. 2 - أن يجري بذلك عقد إيجاب وقبول بينهم وبين إمام المسلمين، فيقول الإمام، أو من ينوب منابه: أقربكم بدار الإسلام على أن تبذلوا جزية قدرها كذا وكذا، وتنقادوا لحكم الإسلام، ثم يقول ممثل الطرف الآخر من أهل الكتاب: قبلنا بذلك. 3 - أن يذكر قدر الجزية محددة، ومصنفة بالنسبة لأغنيائهم وفقرائهم، وأن يتم القبول بناء على ذلك. 4 - أن لا يؤقت عقد الجزية بفترة زمنية محدودة، كعام ونحوه، لأنه عقد يحقن به الدم، فلا يجوز أن يكون مؤقتاً، كعقد الإسلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 139 شروط من تأخذ الجزية منهم : يشترط فيمن تؤخذ منهم الجزية خمس صفات: العقل، والبلوغ، والحرية، والذكورية، وأن يكون من أهل الكتاب ومن في حكمهم. ويدل على اعتبار هذه الشروط قول الله تعالي: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (سورة التوبة: 29) , فقد دلت هذه الآية على أن الجزية تؤخذ من المكلفين أهل القتال، فخرج النساء، لأنهن لسن من أهل القتال، وكذلك العبيد، وخرج الصبيان والمجانين، لأنهم غير مكلفين. وروي البيهقي [9/ 195] أن عمر رضي الله عنه كتب إلي عماله أن لا يضربوا الجزية على النساء والصبيان. حدود الجزية : أقل الجزية دينار على كل رجل في كل عام، فيؤخذ الدينار ممن كانوا دون المرتبة الوسط في المعيشة واليسر. ويؤخذ ديناران كل عام من المتوسط الحال. ويؤخذ أربعة دنانير من أصحاب الغني. واعلم أن الزيادة على الدينار مستحبة عند اليسر، بالشكل الذي ذكرناه، أما الواجب فهو دينار واحد، فلو أبي الغني أو المتوسط عقدها إلا بدينار واحد أجيب، لأنه القدر المنصوص عليه وجوباً. ويجوز للإمام أن يشترط على أهل الجزية الضيافة فضلاً عن مقدار الجزية وقد جاءت الأحاديث، ووردت السنة بكل ما ذكرنا. روي أبو داود [3038] في الإمارة، باب: في أخذ الجزية، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وجهه إلي اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً أو عدله من المعافري. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 140 [حالم: محتلم، أي بالغ. عدله: ما يعادله ويساويه. من المعافري: نسبة إلي معافر، موضع باليمن، تنسب إليه الثياب، وتكون به] وروي مالك في الموطأ [1/ 279] في الزكاة، باب: جزية أهل الكتاب والمجوس، عن أسلم رحمه الله تعالى: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهماً مع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيام. [الورق: الفضة]. وروي البيهقي [9/ 195] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالح أهل أيله على ثلاثمائة دينار، وكانوا ثلاثمائة رجل، وعلى ضيافة من مر بهم من المسلمين. وروي البيهقي أيضاً [9/ 196] أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وضع على الغني ثمانمائة وأربعين درهماً، وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهماً، وعلى الفقير اثني عشر درهماً. وكان صرف الدينار باثني عشر درهماً. الآثار التي تترتب على عقد الجزية من حقوق للمسلمين : يتضمن عقد الجزية أربعة أشياء يلزم بها أهل الجزية: 1 - أداء الجزية حسب الاتفاق الذي تم بينهم وبين المسلمين، ديناراً فأكثر. 2 - أن يجري عليهم حكم الإسلام فيما يقرون ـ ولو ضمناً ـ بحكم الإسلام فيه، كحرمة الزني مثلاً، وبناءًَ على ذلك رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - يهودياً ويهودية زنيا. (رواه البخاري [6433] في المحاربين، باب: الرجم في البلاط، ومسلم [1699] في الحدود، باب: رجم اليهود أهل الذمة في الزني، عن ابن عمر رضي الله عنهما). وعليه، فإنهم يمنعون من التعامل بالربا، ومن ارتكاب الفواحش، وأسباب الفسوق، لأنهم يعرفون حرمة ذلك في دينهم ودين المسلمين، بخلاف ما لا يقرون بحكمه في الإسلام، كشرف الخمر مثلاً فإنهم لا يقرون بحرمته في شريعتهم، فلا تجري عليهم أحكامنا فيه، إلا إن ترافعوا إلي قاضي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 141 المسلمين، فإنه يحكم بينهم بشرعنا. 3 - أن لا يذكروا دين الإسلام إلا بخير، فلو تعرضوا للقرآن، أو ذكروا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما لا يليق، أو طعنوا في شرع الله عز وجل، عزروا، وإن كان شرط انتفاض العهد بذلك نقض. ولو عثر على أنهم يكيدون للإسلام في الخفاء بقول أو فعل، فسخ عقد الذمة بيننا وبينهم، إلا ما كان من ذلك تعبيراً عن عقيدتهم مثل قولهم: إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليس برسول، وإن القرآن ليس بكلام الله تعالي، فلا تنقض الذمة بيننا وبينهم، لأنهم يعبرون بذلك عن عقيدتهم، وإن كنا نعلم بطلانها. 4 - أن لا يفعلوا ما فيه ضرر بالمسلمين: كأن يؤووا جاسوساً للكفار، أو يتواطؤوا مع أهل الحرب علي إيذاء المسلمين. فلو امتنعوا من أداء الجزية المتفق عليها، ولو كانت أكثر دينار، أو ذكروا الله ورسوله بسوء، أو عثر على أنهم متواطئون مع أهل الحرب ضد المسلمين انتقضت ذمتهم. بيان ما يجب لهم من الرعاية والحماية بعقد الذمّة: إن عقد الذمة بيننا وبين أهل الكتاب يتضمن أربعة أشياء يلزم بها المسلمون تجاه أهل الذمة: 1 - إنهاء الحرب معهم، وعودة العلاقات السلمية بيننا وبينهم، ودليل ذلك ما رواه مسلم [1731] في الجهاد، باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث، وغيره عن بُريدة رضي الله عنه، وفيه: " فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ". 2 - وجوب حمايتهم، والمحافظة عليهم، وعلى أموالهم وحرماتهم إزاء أي اعتداء عليهم، أو عليها، من المسلمين، أو من غيرهم. روي البخاري [2887] في الجهاد، باب: يقاتل عن أهل الذمة ولا يسترقون عن عمر بن ميمون، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (وأوصيه بذمة الله، وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من وراءهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 142 3 - عدم التعرض لكنائسهم القائمة، وما يتبعها من شعائرهم الدينية، وخمورهم وخنازيرهم، ما لم يظهروها أو يتباهوا بها. جاء في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لنصارى نجران: " ... ولنجران وحاشيتها وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، لا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، وليس عليه دية ولا دم جاهلية، ولا يخسرون ولا يعسرون، ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقاً، فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين ". 4 - لزوم عقد الذمة في حق المسلمين واستمراره، فلا يملك إمام المسلمين، أو احد منهم نقضه بحال، لأنه عقد مؤبد، ما لم يصدر من أهل الذمة شيء يستوجب نقض العهد مما قد سبق بيانه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 143 الهدنة والاستئمان معني الهدنة : الهدنة، وتسمي الموادعة والمعاهدة والمسالمة، وهي في اللغة: بمعني المصالحة. والهدنة شرعاً: مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة، والأصل في تشريعها، قبل الإجماع، قول الله عز وجل: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} (سورة التوبة: 1)، وقوله تبارك وتعالي: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (سورة الأنفال: 61). ومهادنة النبي - صلى الله عليه وسلم - قريشاً عام الحديبية. (رواه البخاري [3945] في المغازي، باب: غزوة الحديبية، ومسلم [1783] في الجهاد والسير، باب: صلح الحديبية في الحديبية). معني الاستئمان : والاستئمان: أن يطلب أي فرد من أهل الحرب الأمان من أي واحد من أفراد المسلمين، فيعطيه هذا الأمان، ولكل من المسلمين أن يعطي الأمان لمن طلبه من الأعداء، حاكماً كان المعطي، أو واحداً من عامة الناس، ذكراً كان أو أنثي، فإذا أعطاه الأمان حقن بذلك دمه، وحرم على سائر المسلمين أن تمتد إليه أيديهم بأي أذي. قال الله تعالي: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (سورة التوبة: 6) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 144 الفرق بين الهدنة والاستئمان : نلاحظ من التعريفين السابقين لكل من الهدنة والاستئمان الفروق التالية: أولاً: أن الهدنة صلح جماعي يمثله من طرف المسلمين الحاكم الأعلى أو نائبه، ويمثله من طرف الأعداء قائدهم، أو من ينوب عنه، بينما الاستئمان يكون للآحاد والجماعات من الكفار، ويقوم بإعطائه لهم، أو لأي فرد منهم أي شخص من المسلمين، حاكماً أو غيره، رجلاً أو امرأة. ثانياً: أن الهدنة طريقة من طرق إنهاء الحرب بين المسلمين وعدوهم، فلا يمكن أن تجتمع الحرب مع الهدنة، أما الاستئمان، فيمكن أن يتم أثناء الحرب، بأن يستأمن أحد الجنود من أهل الحرب مسلماً رآه أمامه، فأعطاه الأمان، فإنه يصبح عندئذ محقون الدم، لا يجوز لأحد علم بذلك أن يمسه بأذى، مع أن الحرب دائرة، بين المسلمين والكافرين. حكم كل من الهدنة والاستئمان : حكم الهدنة : أما الهدنة، فلها حالتان: الحالة الأولي: أن يطلبها الأعداء، فيجب على إمام المسلمين الاستجابة لهم مع الحذر، وأخذ الحيطة، ولا يجوز أن يمتد أجلها أكثر من أربعة أشهر. الحالة الثانية: أن يبادر إليها المسلمون، وإنما تجوز بناء على ظهور مصلحة للمسلمين فيها، فإن كانت اعتباطاً، أي بدون مصلحة داعية لها، لم تصح ولم تنعقد. ثم إن كانت المصلحة الداعية إلي الهدنة رجاء التخلص من ضعف في ظلال السلم، وطمأنينة الأمن، جاز أن يمتد أجلها إلي عشرة أعوام فقط، ودليل ذلك صلح الحديبية، فقد تم بسبب ما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - من ضعف المسلمين، وتألب الأعداء عليهم، وكان أجله في العقد المتفق عليه بين المسلمين ومشركي مكة عشرة أعوام. أما إن كانت المصلحة شيئاً آخر غير الضعف، كتوقع إسلام الأعداء، أو خضوعهم للجزية، فلا يجوز والحالة هذه أن تزيد الهدنة عندئذ عن أربعة أشهر، وذلك تمسكاً بمفهوم قول الله تعالي: {فسيحوا في الأرض أربعة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 145 وأعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين} (سورة التوبة: 2). حكم الاستئمان : وأما الاستئمان، فالإجابة إليه واجبة، إن لوحظت في ذلك مصلحة للمسلمين، أو مصلحة للمستأمن، ذلك لصريح قول الله عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (سورة التوبة: 6) ويجوز أن يخاطب بالاستئمان الحاكم، أو نائبه، أو أي شخص من المسلمين، ويجري في حقهم جميعاً الحكم الذي ذكرناه، وهو وجوب الاستجابة مهما لوحظت في ذلك المصلحة. ويعتد بأمان المسلم أيا كان ذكراً أو أنثي، لقوله عليه الصلاة والسلام: " المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعي بذمتهم أدناهم " (أخرجه أو داود [4530] في الديات، باب: إيقاد المسلم بالكافر، وابن ماجه [2683] في الديات، باب: المسلمون تتكافأ دماؤهم، وأحمد في المسند [1/ 119]، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه). وروي البخاري [3000] في الجزية، باب: أمان النساء وجوارهن، ومسلم [336] في الحيض، باب: تستر المغتسل بثوب ونحوه، وغيرهما، عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها، أنها ذهبت إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره، فسلمت عليه، فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال: " مرحباً بأم هانئ "، فلما فرغ من غسله قام فصلي ثماني ركعات ملتحفاً في ثوب واحد فقلت: يا رسول الله، زعم ابن أمي على، أنه قاتل رجلاً قد أجرته، فلان بن هبيرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ " قالت أم هانئ: وذلك ضحي. [فلان ابن هبيرة: قيل هو جعدة، ولد زوجها من غيرها. وذلك ضحي: أي وقت الضحى] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 146 شروط مشروعية كل من الهدنة والاستئمان : أولاً: شروط الهدنة: لا تتم الهدنة إلا بالشروط التالية: الشرط الأول: أن يعقد الهدنة الإمام أو نائبه، فلا تصح هدنة بين المسلمين وأعدائهم يعقدها واحد من عامة المسلمين، أو من أولي الحل والعقد فيهم، وذلك لما فيها من الخطورة والأهمية، إذ يترتب عليها إنهاء الحرب مع العدو، والانتقال إلي حال السلم، ولو كان السلم مؤقتاً بزمن معين، وإنما يملك إعلان السلم، وتقريره من يملك إعلان الحرب وقيادتها، وهو الحاكم، أو نائبه الأعلى. الشرط الثاني: أن تنطوي الهدنة مع العدو على مصلحة أكيدة للمسلمين، أيا كان نوع تلك المصلحة، فإن لم ترج مصلحة ما منها للمسلمين، لم تصح ولم تشرع. الشرط الثالث: أن لا تزيد الهدنة بين المسلمين وعدوهم على عشرة أعوام، إن كان المصلحة منها رجاء تخلص المسلمين من ضعف يعانونه، وأن لا تزيد عن أربعة أشهر إن كانت المصلحة شيئاً آخر غير متعلق بضعفهم. فلو عقدها لهم الإمام مطلقاً، أي دون تقيد بزمان فسدت، ولم تصح ودليل هذا الشرط ما سبق وذكرنا من صلحه عليه الصلاة والسلام في الحديبية مع قريش، وكان أمد ذلك الصلح عشر سنين وكذلك قول الله عز وجل للمشركين: {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} (سورة التوبة: 2). الشرط الرابع: أن لا يشترط أن لا يشترط الكفار لأنفسهم على المسلمين شرطاً باطلاً. فإن شرطوا لأنفسهم ذلك، ووافقهم الإمام عليه فسدت الهدنة وذلك كان يطلب المسلمون الهدنة، فيشترط الكفار لأنفسهم حق الاحتفاظ بأسري المسلمين، أو يشترطوا على المسلمين التنازل عن بعض أموالهم المنقولة أو غير المنقولة، أو التنازل عن بعض واجباتهم الإسلامية، فإن إقحام شرط من هذا القبيل في عقد الهدنة يفسدها، ويجعلها لاغية لا صحة لها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 147 ثانياً: شروط الاستئمان: ويشترط لتأمين أحد من الكفار الشروط التالية: الشرط الأول: أن يكون الأمان، بناءً على طلب من أهل الحرب، شخصاً كان أو جماعة، فلا يعطي الكافر الحربي أماناً بدون طلب منه، وهذا الشرط واضح في الآية السابقة: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره} أي طلب منك الأمان. الشرط الثاني: أن يكون المجير أهلاً للإجارة، وإنما يكون أهلاً لها بالإسلام، فلو أجار ذمي حربياً وأعطاه أماناً، فلا أمان له، ولا اعتبار بكلامه، ولا يجب على المسلمين احترام ذمته، لأنه لا يجير على المسلمين إلا واحد منهم. الشرط الثالث: أن يعلم به ولي الأمر، أو قائد الجيش فيقره، فلو لم يعلم به، أو علم به ولكنه لم يقره، بل ألغاه، إذا ثبت له مثلاً أنه عين على المسلمين وجاسوس لأعدائهم، فلا عبرة بالأمان المعطي لذلك الشخص، أو لتلك الجماعة. أما إذا علم ولي الأمر، أو قائد الجيش بالأمان الذي أعطاه أحد المسلمين لواحد من الحربيين، وبحث فلم يجد ما يمنع الموافقة على أمانه، فليس له أن يلغيه أو يهمله، بل يجب عليه أن يعلن الأمان له ليسري ذلك على جماعة المسلمين كلهم. الآثار والالتزامات التي تترتب على عقد الهدنة والاستئمان : إذا تم عقد الهدنة بين المسلمين وعدوهم، وتكاملت فيه الشروط المذكورة، وأعطي الحربي المستأمن الأمان ممن طلبه منه بشروطه المذكورة أيضاً، ترتب على كل منهما آثار والتزامات يجب الوفاء بها. أولاً: الآثار والالتزامات المترتبة على عقد الهدنة: يترتب على عقد الهدنة آثار والتزامات نلخصها فيما يلي: أ- يجب الكف عمن هودنوا، ويحرم مسهم بأي أذي أو سوء، ولكن لا يجب المحافظة عليهم ضد الآخرين، ويستمر هذا الحكم إلي إحدى غايتين: الغاية الأولي: انقضاء مدة الهدنة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 148 الغاية الثانية: أن يبدر منهم ما ستوجب نقضها، وذلك بان يصرحوا بنقضهم لها، ويكون ذلك بتصريحهم جميعاً، أو بتصريح ولي أمرهم عنهم بذلك أو بأن يبادروا إلي القتال، أو بأن يكاتبوا أعدائنا بكشف بعض أسرارنا، أو بأن يقتل مسلم على أيديهم. فإن تضامنوا جميعاً بنقض الهدنة بسبب من هذه الأسباب، وما يشبهها فلا جرم أن المسلمين يصبحون بمجرد ذلك في حل من معاهداتهم ومسالمتهم. أما إن استقل بعضهم بارتكاب واحد من هذه الأسباب فينظر: _ أن أنكر الباقون، بأن اعتزلوهم، أو ضربوا على أيديهم، أو أعلموا الإمام باستنكارهم فعل إخوانهم، وأعلنوا بقائهم على العهد، لم يؤثر شيء من ذلك على الهدنة، وبقيت أحكامها مستمرة، في حق من لم يبدر منهم سؤ. ـ وإن لم ينكروا بقول ولا فعل مع علمهم بذلك، انتقضت الهدنة في حقهم جميعاً. وإذا استشم إمام المسلمين بوادر الخيانة في صفوف المهادنين، أي لاحظ مجرد مقدمات لها، دون أن يعثر على خيانة مادية يمكن الاعتماد عليها في إنهاء عقد الهدنة، لم يكن له نقض الهدنة إلا بعد أن يعلن عليهم جميعاً أن المسلمين مقدمون على إلغاء الهدنة التي بينهم وبين المسلمين، بسبب ما قد بدر من دلائل الخيانة في صفوفهم. ويستدل على ما ذكرنا بقول الله عز وجل: {َمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (سورة التوبة: 7)، وقلوه تبارك وتعالي: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} (سورة الأنفال: 58). [فانبذ إليهم على سواء: أي اطرح إليهم عهدهم على علم منك ومنهم]. فإذا أعلمهم ببوادر خيانتهم، وطرح لهم عهدهم حل للمسلمين قتالهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 149 على الشكل الذي أرشدهم الله عز وجل إليه. قال الله تعالي: {{الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الأنفال 56 - 57) [تثقفنهم: تجدنهم وتدركنهم. فشرد بهم من خلفهم: فرق بهم من خلفهم من المحاربين بالتنكيل بهم والعقوبة لهم] وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء ". (رواه الترمذي [1580] في السير، باب: ما جاء في الغدر، وأبو داود [2759] في الجهاد باب: في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه). ب- يجب على المسلمين الوفاء كل شرط تحملوه للطرف الآخر، إلا شرطاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً، فلا يجوز الوفاء به، بل لا يجوز إقحامه في عقد الهدنة مثال الشروط الصحيحة التي يجب الوفاء بها: أن يشترط العدو على المسلمين إيواء من يصل إليهم من المرتدين الذين كانوا عندنا مسلمين، أو نرد إليهم من جاءنا مسلماً منهم لأن سهيل بن عمرو شرط ذلك على المسلمين في صلح الحديبية فوافقه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وقد سبق تخريج حديث صلح الحديبية. ومثال الشروط الباطلة: أن يشترطوا على المسلمين إعادة النساء المسلمات اللائي يأتين إلينا من قبلهم، لأن الله عز وجل، نهى عن ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (سورة الممتحنة: 10). ج- عقد الهدنة يصبح عقداً لازماً بعد وجوده مستوفي الشروط والأركان فلا يجوز للمسلمين نقضه بدون موجب إلي أن تنتهي المدة المضروبة له. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 150 ثانياً: الآثار والالتزامات المترتبة على إعطاء الأمان: وهذه الالتزامات نُجملها فيما يلي: أيجب على المسلمين جميعاً كف الأذى عمن أعطي الأمان، بقطع النظر ـ كما قلنا ـ عن الشخص الذي أجاره وأعطاه الأمان، ودون تفريق بين كونه ذكراً أو أنثي، بشرط أن يكون مسلماً، إلا إذا علم أنه عين للكافرين علينا، أو غلب على الظن ذلك فيلغي أمانه. ب - إذا انتهت مدة الأمان، أو أراد المستأمن أن يخرج عن جوار المسلمين قبل انتهائها، وجب على الحاكم أن يبلغه مأمنه، أي المكان الذي يطمئن فيه من العدوان على حياته وماله، ويستطيع أن يأخذ فيه حذره من أي شر قد يصيبه، وذلك لصريح قول الله تعالي: {َإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (سورة التوبة: 6). ج - إذا أصبح الكافر الحربي مستأمناً في جوار المسلمين، كان ذلك بمثابة العقد اللازم، فليس لمن أجاره وأمنه أن يعود، فكيف عن ذلك بدافع ندم، أو نحوه ما لم يصدر من المستأمن ما يستدعي إلغاء جواره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 151 الباب الثالث الفتوة وأحكامها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 153 المسابقة تعريف المسابقة : المسابقة لغة: مفاعلة من السبق، وهو التقدم على الغير، والمسابقة أيضاً: اختبار يجري لأشخاص للحصول على عمل ينتقي أفضلهم. والمقصود بالمسابقة هنا أن يتباري اثنان فأكثر في ركض الدواب التي تصلح للكر والفر: كالخيل والإبل، على أن تكون من نوع واحد. والسبق: اسم للمال الذي يرصد للمسابقة. حكم المسابقة ودليل مشروعيتها : المسابقة سنة موروثة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعمل مشروع، والأصل الأول في مشروعيتها واستحبابها: قول الله تبارك وتعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُون} (سورة الأنفال: 60). وخبر ابن عمر رضي الله عنه: " وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سابق الخيل التي قد ضمرت، من الحيفاء إلي ثنية الوداع، وبين الخيل التي لم تضمر، من الثنية إلي مسجد بني زريق ". (رواه البخاري [410] في المساجد، باب: هل يقال مسجد بني فلان، ومسلم [1870] في الإمارة، باب: المسابقة بين الخيل وتضميرها، عن ابن عمر رضي الله عنهما). [أضمرت، وضمرت: سمنت أولاً، ثم قلل علفها وأدخلت مكاناً وجللت حتى يكثر عرقها ويجف فيذهب رهلها ويقوي لحمها ويشتد. الحيفاء: موضع قرب المدينة. الثنية: ثنية الوداع في المدينة]. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 155 هذا إذا قصد بالمسابقة التأهب للجهاد، وإعداد القوة له، أما إذا قصد بها الفخر والخيلاء كانت حراماً، لأن الأمور بمقاصدها، أما إذا لم يقصد بها هذا ولا ذاك فهي مباحة ولأنها من الرياضيات المفيدة للجسم، والمقوية للشكيمة. أنواع المسابقة : للمسابقة صور مختلفة، بعضها مشروع وبعضها محرم، ونحن نستعرض أولاً هذه الصور كلها، ثم نوضح المحرم والمشروع منها: الصورة الأولي: أن يتسابق الطرفان، ويقرر مال معين للسابق منهما، على أن يكون الدفع من الحاكم، أو من شخص آخر، خارج عن الاشتراك في عملية السباق، بأن يقول هذا الشخص: من سبق منكما فله مني كذا .. ، ويجوز أن يقوم بالتسابق أكثر من اثنين. الصورة الثانية: أن يلتزم أحد المتسابقين دفع المال لزميله إن هو سبقه، ولا يلتزم زميله شيئاً عن هو سبق، بأن يقول الأول: أن سبقتني فلك على كذا، أو سبقتك، فلا شيء لي عليك. الصورة الثالثة: أن يلتزم كل منهما دفع مبلغ من المال لمن سبقه، فأيهما تخلف يلتزم بإعطاء المبلغ المتفق عليه للسابق. الصورة الرابعة: كالصورة الثالثة، على أن يضاف إليهما محلل، وهو عنصر ثالث مسابق، فرسه كفء لفرسيهما. فإن سبقهما أخذ المالين من كل منهما، وإن سبقاه، وجاءا معاً، فلا شيء لأحد على الآخر، لأن المتراهنين وصلا معاً، ولأن المحلل لم يلتزم شيئاً عن التخلف، وإن وصل المحلل مع أحدهما أولاً، وتخلف الثاني عنهما، فمال الأول منهما مع المحلل يبقي له، ومال المتأخر منهما يوزع بالتساوي بين المحلل والذي وصل معه. بيان الجائز والمحرم من هذه الأنواع : إذا تصورت هذه الأنواع من المسابقة، وأدركت الفرق بينها، فأعلم أن صورة واحدة منها هي المحرمة، لها حكم الميسر، وهو القمار، وهي الصورة الثالثة، أما الصور: الأولي والثانية والرابعة فهي مشروعة لا مانع منها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 156 وإنما سمي العنصر الثالث في الصورة الرابعة محللاً، لأنه إذا دخل في الصورة الثالثة مشتركاً بالشكل الذي ذكرناه حولها من الحرمة إلي الحل. فالصورة الرابعة هي عين الثالثة مضافاً إليها هذا المحلل. شروط المسابقة : وأيا كانت صورة المسابقة، فلا بد فيها من توفر شروط معينة، نلخصها فيما يلي: الشرط الأول: علم المتسابقين بالمنطلق الذي يبدؤون منه الجري، وبالغاية التي يتوقف الجري عندها، ولا بد أن يكون المبدأ والمنتهي للجميع واحداً. الشرط الثاني: تعيين الأفراس، أو الإبل مثلاً، فإذا تعينت وعرفت، لم يجز استبدال فرس بأخر، فإن استبدل أحدهم بفرسه غيره فسدت المسابقة. الشرط الثالث: أن تكون الأفراس بحالة يمكن معها السبق والتخلف، فإن كان فيها ضعيف يقطع العقل بتخلفه، أو فاره يجزم العقل بتقدمه لم يجز السباق. الشرط الرابع: أن يعلم الكل مبلغ المال المشروط للسابق الأول، والثاني، وهكذا. فلو كان فيهم من لم يعلم بالمال، أو كميته لم يصح السباق. الشرط الخامس: أن يكون المال من يد أجنبي غير مشتركة بالسباق، بأن يكون من الدولة، أو من أحد الأثرياء مثلاً، فإن كان من أحد المشتركين جاز بشرط أن لا يلزم الآخرون بالدفع عند تخلفهم، فإن ألزموا بذلك كان لابد من أن يشترك معهما أو معهم عنصر محلل، ينسق بينهم المال بالطريقة التي شرحناها. أثر دخول عنصر المال في السباق : مما ذكرنا يتبين لك أن دخول عنصر المال في السباق لا يمنع مشروعيته ولا يؤثر فيه بأي فساد، بل هو مما يرغب فيه، لتحقيق المزيد من التشجيع. إلا أن عنصر المال يفسد السباق في حكم الشريعة الإسلامية، عندما يكون أخذاً وعطاءً من الطرفين، بأن يقال: السابق منكما يأخذ، والمتخلف منكما يدفع. وسبب الفساد أن عنصر المال بهذه الصورة يأخذ، والمتخلف منكما يدفع. وسبب الفساد أن عنصر المال بهذه الصورة يأخذ محور الميسر تماماً، وقد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 157 حرمه الله تعالي بصريح تبيانه قال عز وجل: {اأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (سورة المائدة: 90). [الخمر: كل مسكر. الميسر: القمار. الأنصاب: الأصنام. الأزلام: قداح الاستقسام، التي كانوا يطلبون معرفة ما هو مقسوم لهم بواسطتها. رجس: خبيث مستقذر]. ما تجوز به المسابقة : وتجوز المسابقة بكل الدواب التي تصلح للحرب والكر والفر، مثل الخيل والبغال والجمال، وما لا يصلح شيء منها لذلك، فلا تجوز المسابقة به كالبقر، والطيور وغيرها. ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا سبق إلا في خف، او حافر، أو نصل " (رواه أبو داود [2574] في الجهاد، باب: في السبق، والترمذي [700] في الجهاد، باب: ما جاء في الرهان والسبق). [خف: أي ذي خف، والمراد الإبل. حافر: أي ذي حافر، والمراد الخيل وما يلحق بها. نصل: القسم الذي يخرج من السيف والرمح والسهم ونحوها والمراد الرمي بها] وقد كانت هذه هي آلة الحرب وعدته يومها، فيلحق بها كل ما كان كذلك حسب الزمان والمكان، مما يصلح في الحرب، ويستعمل في نكاية العدو. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 158 المناضلة بالسهام والأسلحة المختلفة تعريف المناضلة : المناضلة: مفاعلة، من النضل، وهو الرمي، وتناضل القوم: تراموا لتظهر مهارة كل منهم في الرمي، وهي والمكافحة والمقاومة بمعني واحد. والنضال بالسهام أو السلاح، يراد به استعمالها على الوجه الصحيح في نضال الأعداء. والمناضلة شرعاً: تنافس متشاركين فأكثر على البراعة في استعمال السلاح، ورمي الهدف على مال بشروط معينة. حكم المناضلة، ودليله : المناضلة سنة، كما قلنا في المسابقة، مادام الغرض منها الإعداد للجهاد، ومقارعة الأعداء، فإذا كان الغرض منها المفاخرة، أو العدوان على الأبرياء انقلبت إلي معصية عملاً بالقاعدة: الأمور بمقاصدها. ويستدل على مشروعية المناضلة، والترغيب فيها، بقول الله عز وجل: {َأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (سورة الأنفال: 60). فقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - القوة في الآية بالرمي، فقال: " ألا إن القوة الرمي " (رواه مسلم [1917] في كتاب الإمارة، باب: فضل الرمي والحث عليه، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه). وروي البخاري [2743] في الجهاد، باب: التحريض على الرمي، عن سلمة بن الأكوع رض الله عنه قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفر من أسلم ينتضلون، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 159 فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان "، قا: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما لكم لا ترمون "؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ قال " ارموا، فأنا معكم كلكم ". وروي أبو داود [2574] والترمذي [1700] وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل ". وقد سبق تخريج الحديث في المسابقة. فأما الخف والحافر، فكناية عن البعير والفرس، وأما النصل، فكناية عن السهام، وما يدخل في حكمها من الأسلحة الأخرى المختلفة. أنواع المناضلة : تتنوع المناضلة بالسلاح، كما تنوعت المسابقة على الخيل، إلي الصور الأربعة المذكورة. وتبطل منها هنا الصورة الثالثة أيضاً، وهي أن يتراهن المتناضلان كل منهما يدفع المال للأول في الإصابة، فهي قمار باطل، وهي من الميسر الذي نهي الله عنه وسماه رجساً. شروط المناضلة : يشترط في المناضلة مراعاة الأمور التالية: أولاً: إذا كان النضال بالسهام ونحوها، فإنه يشترط أن يبين المتناضلان كون الرمي المطلوب مجرد قرع للهدف، أو خرقاً، فإن أطلقا، ولم يبينا صحت المناضلة على الوجه الصحيح، وحمل الرمي المطلوب على القرع. ثانياً: يشترط اتحاد جنس السلاح من بندقية وغيرها، فلا تصح المناضلة ببندقيتين مختلفتي الجنس ولو رضي الطرفان بذلك. ثالثاً: يشترط تعيين الرماة والهدف المطلوب تعييناً دقيقاً، وتعيين الموقف الذي يلتزمونه، وتعيين عدد الرشقات. رابعاً: العلم بالمال وقدره، ووجود محلل إن كانت المناضلة من النوع الثالث المحرم الذي مر ذكره في المسابقة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 160 ما لا تجوز المناضلة فيه : اعلم أن القاعدة العامة فيما تجوز فيه المناضلة (أي المناضلة على مال) كل أداة نافعة في الحرب، فكل ما لم يكن له فائدة أو شأن في الحرب لا تجوز المناضلة به على مال. فلا تجوز المناضلة على الكرة بأشكالها وأنواعها المختلفة، ولا علي سباحة ولعب شطرنج، ووقوف على رجل واحدة مثلاً، والسباق الزوارق الصغيرة التي لا شأن لها بالحرب. ذلك لأن شيئاً من هذه الألعاب لا تفيد بالحرب، فهي وإن كانت جائزة، بل منها ما هو مستحب ومندوب إليه كالسباحة، إلا أنه لا يجوز النضال بها على مال. عقد المسابقة والمناضلة عقد لازم : إذا تم التعاقد على مسابقة أو مناضلة على مال مشروط، بالنحو الذي ذكرناه، فإن العقد يصبح عندئذ لازماً في حق من التزم العوض، فليس له أن يفسخه أو أن يترك العمل. ومعني العقد اللازم أنه لا يملك طرف واحد فسخه إلا بموافقة الآخر، كالبيع والإجارة. فإن لم تقم المسابقة والمناضلة على مال مشروط، فهي عقد جائز كل من الطرفين أن يستقل بفسخه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 161 الباب الرابع أصْنَاف اللهو الجَائِزةَ والمحرمَة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 163 أصناف اللهو الجائزة والمحرمة معني اللهو : اللهو: هو كل ما يشغل الإنسان عن المزعجات، والأفكار، والمؤرقات المختلفة، دون أن تكون له حقيقة ثابتة، كاللعب، وأحاديث الفكاهة والأسمار، والغناء ونحو ذلك. أصناف اللهو: ثم أن اللهو، إما أن ينقضي دون أن يترك وراءه أثراً من نفع أو ضرر، إلا أنه يشغل الفكر عن الجد في الأمور، والمهمات من الشؤون، وإما أن يترك ـ علاوة على ذلك ـ أثراً ضاراً في النفس: كأن يتعود على الدعة والانصراف عن القيام بواجبات الحياة، وعزائم الأمور، وإما أن يترك أثراً مفيداً فيها: كأن يعودها على بعض أعمال الخير، ويسهل عليها اقتحام بعض الشدائد. فاللهو إذا يتفرع حسب ما ذكرنا إلي ثلاثة أصناف. حكم كل صنف من هذه الأصناف : ـ أما الصنف الأول: وهو ما لا يترك أثراً في الحياة نافعاً أو ضاراً، فهو مكروه: كالاسترسال في المجالس التي يشيع فيها المزاح والفكاهات التي لا فائدة منها، بحيث ينقضي الوقت فيها دون فائدة. ـ وأما الصنف الثاني: وهو ما يعقب أثاراً ضارة في النفس والمجتمع، فهو محرم، ولا يجوز تعاطيه مقاله: الصنف الأول ذاته، إذا زاد استرسال الإنسان فيه، بحيث أصبح يفوت عليه واجباته، من عبادات مفروضة، أو سعي من أجل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 165 المعيشة، أو يوجد في طبيعة سيئة: كالكذب، والتهاون في علاقاته الأخلاقية مع الناس. ومثاله أيضاً: مجالس الغناء المقرونة بالمعازف والآلات المحرمة، أو المقرونة بنساء، أو غلمان. - وأما الصنف الثالث: وهو ما أعقب فائدة للنفس والمجتمع، فهو مباح وقد يسمو إلي درجة الاستحباب، حسب مدي أهمية الفائدة الناجمة عنه. مثاله: ما ذكرناه من السباق والرمي، والألعاب المفيدة للحرب ولغيرها مما يعتد به في ميزان الحكم الإنساني. تطبيق هذه الأحكام على مزيد من الأمثلة : أولاً: الألعاب الهادئة الشائعة بين الناس، كالشطرنج، والنرد، وما يسمى بالشدة، أي الورق، ونحوها وهذه الألعاب تقوم أحكامها على أساس القاعدة التالية: ? كل ما كان من هذه الألعاب قائماً على التفكير والتدبير والنظر في العواقب، فهو جائز، ثم هو يدور بين الإباحة والكراهة حسب مدى انصراف اللاعب إليها، وانشغاله بها. من هذه الألعاب الشطرنج، فهو قائم على تشغيل الذهن، وتحريك العقل والفكر. ولا ريب أنه لا يخلو عن فائدة للذهن والعقل، فإن عكف عليه زيادة عما تقتضيه هذه الفائدة، فهو مكروه، فإن زاد عكوفه حتى فوت بسببه بعض الواجبات عاد محرماً. ? وكل ما كان قائماً على المصادفة، وإغماض الفكر والعقل، كالنرد، والورق، ونحوهما فهو محرم، وذلك لأن مثل هذه الألعاب يعود النفس على الركون إلي معني المصادفة في تقلبات الأحوال والأمور، ويجعل العقل يتخيل المصادفة هي العامل الأول في الكون وحركته، فهو من اللهو الذي يترك أثراً ضاراً في النفس. ثانياً: اللهو بالحيوانات: كتحريش الديكة على بعضها، ودفع المواشي إلي التناطح وكالذي يسمي اليوم بمصارعة الثيران، فهو محرم، قولاً واحداً، لما يترك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 166 من الآثار الضارة على حياة البهائم أو الإنسان. ثالثاً: المصارعة، وهي كما تعلم أصناف كثيرة: ? فكل ما لم يعقب أثراً ضاراًَ في الجسم، وكان من شأنه أن يعود الإنسان على القوة، وفنون القتال، والدفاع عن النفس، فهو مباح، وربما مستحباً ود صارع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركانة وغلبه. وكل ما كان من شأنه أن يعقب أثراً ضاراً في الجسم، كجرح أو تهشيم عظم أو تشويه طرف، فهو محرم: كالمصارعة الحرة، والملائكة، ونحوهما، إلا أن تكون المصارعة على نحو وبوسائل تضمن عدم الإضرار بأحد الطرفين، فيصبح حكمها حكم النوع الذي قبلها: مباحاً أو مستحباً، حسب ما بينا. لا يجوز شيء من اللهو على مال مشروط : ثم أعلم أن شيئاً من أصناف اللهو واللعب التي ذكرناها، لا يجوز على المال، سواء كان من طرف واحد أو طرفين، أو من أجنبي عنهما. وكل مال يدخل في شيء من اللهو الذي ذكرنا، فهو من الميسر الذي يحرم تعاطيه، إلا أن في شرط المال في المصارعة المباحة، وجهاً عند الشافعية، فهي ـ على هذا الوجه ـ تتبع السباق والرمي اللذين مضي حكمهما. دليل هذا الوجه: ما رواه أو داود في مراسليه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صارع ركانة، إذ كان مشركاً، على شياه ". والصحيح في المذهب أنه لا يجوز شرط المال في شيء غير السباق والرمي، من أصناف اللعب واللهو المباحة، وإن كان مصارعة. أما الاستدلال بحديث أبي داود، فيجاب عنه بما يلي: أولاً: الحديث ضعيف لكونه مرسلاً. ثانياً: على فرض صحته فإنما كان ذلك قبل إسلام ركانة. ولتلك الحالة شأن آخر، والدليل على ذلك أن ركانة لما أسلم بعد ذلك أعاد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - الشياه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 167 البَاب الخامس القًضَاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 169 القضاء تعريف القضاء : القضاء في اللغة له معانٍ عدة، منها: 1 - الحكم، يقال: قضى قضاء: أي حكم حكماً. ومنه قول الله تبارك وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (الإسراء: 32) أي: حكم. 2 - الفراغ والانتهاء من الشيء، يقال: قضى حاجته إذا فرغ منها. ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: {فوكزه موسى فقضي عليه} (القصص: 15) أي: قتله وفرغ منه. [وكزه: ضربه بجمع كفه]. 3 - الأداء والانتهاء، يقال: قضى دينه إذا أداه، وأنهي ما عليه قال تعالى: {وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} (الحجر: 66). [أي أدينا إليه، وأنهينا إلي عمله. دابر هؤلاء: آخرهم. مقطوع مصبحين: مستأصل في الصباح]. 4 - الصنع والتقدير، يقال: هذا شيء قضاه: أي صنعه. وعليه قول الله تبارك وتعالي: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: 12) [أي صنعهن وقدرهن وسواهن]. والقضاء شرعاً: فصل الخصومة بين اثنين فأكثر بحكم الله عز وجل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 171 فالقضاء إذاً هو الحكم بين الناس، وتسوية الخلاف بينهم. بإعادة الحقوق إلي أصحابها. وسمي القضاء حكماً لما فيه من الحكمة التي هي وضع الشيء في محله فهو يكف الظالم عن ظلمه وينصف المظلوم من ظالمه. مشروعية القضاء : القضاء مشروع في الإسلام ومطلوب، ويدل على مشروعيته الكتاب، والسنة والإجماع، والعقل. أما الكتاب الكريم فآيات، منها: قول الله عز وجل: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ} (المائدة: 49). وقوله تبارك وتعالي: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) وقوله سبحانه وتعالي: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} (النساء: 105). [خصيماً: مخاصماً ومدافعاً عنهم]. وأما السنة المطهرة فأحاديث كثيرة منها: ما رواه أبو داود [3582] في الأقضية، باب: كيف القضاء، عن على بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلي اليمن قاضياً، فقلت يا رسول الله، ترسلني وأنا حدث السن، ولا علم لي بالقضاء؟ فقال: " إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلا تقضين حتى تسمع من الآخر، كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء " قال: فما زلت قاضياً، أو ما شككت في قضاء بعد. [حديث السن: صغير السن. أحرى: أجدر وأعون] ومنها أيضاً: ما رواه البخاري [6919] في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، ومسلم [1716] في الأقضية، باب: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 172 بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر ". [اجتهد: بذل وسعه للتعرف على القضية، ومعرفة الحق فيها. أصاب: وافق الواقع في حكمه. أخطأ: لم يصب الحق في حكمه]. أما الإجماع، فهو منعقد على مشروعية القضاء، وعلى فعله، سلفاً وخلفاً لم يخالف في ذلك أحد، وقد استقضي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده من الخلفاء إلي يومنا هذا من غير نكير من أحد. وأما العقل، فهو قاض بمشروعية القضاء وضرورته، فطبائع البشر مختلفة، والتظالم ومنع الحقوق واقع منهم، وقل من ينصف من نفسه، ولا يقدر الإمام أن يتولي فصل الخصومة بين كل الناس بنفسه، فلذلك كانت الحاجة ماسة إلي تشريع القضاء، ونصب القضاة، ليحكموا بين الناس، ويفصلوا في الخصومات. حكمة تشريع القضاء : وحكمة تشريع القضاء، وجود الحاجة إليه، وقيام المصالح به، فالإنسان اجتماعي بطبعه، وليس قادراً أن يعيش وحده، بل لا بد أن يعيش مع الناس لينال حاجاته الضرورية، بالتعاون معهم، وإذا كان التعامل مع الناس، والتعاون معهم أمراً ضرورياً، كان لاجرم أنه ستقوم بين الناس خصومات ومنازعات بسبب تعارض مصالحهم، وتضارب أهوائهم، وطغيان بعضهم على بعض، ومن هنا نشأت الحاجة إلي القضاء، وكان لابد من قاض يرجع إليه الناس عند الاختلاف والنزاع، والإسلام دين الفطرة السوية يدعو إلي رعايتها، والمحافظة على نظافتها وحسن سيرها. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30). [أقم وجهك للدين: ألزمه ولا تحد عنه. حنيفاً: مائلاً إليه. فطرة الله خلقته. القيم: المستقيم]. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 173 أهمية منصب القضاء : القضاء منصب عظيم تدعو إليه الحاجة، وله مكانة عظيمة بين شرائع الإسلام، وهو وظيفة الأنبياء والخلفاء والعلماء، قال الله تبارك وتعالى لنبيه داود عليه السلام: {َا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (ص: 26). فمن ولي هذا المنصب فعدل وبر كان في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله. وقد ولي هذا المنصب رجال عظام من سلف هذه الأمة، أمثال عمر وعلى ومعاذ وأبي موسى الأشعري، وشريح وأبي يوسف، رضي الله عنهم جمعياً، وضربوا أروع الأمثلة في العدل والورع والعلم والذكاء. روي أبو داود [3592] في الأقضية، باب: اجتهاد الرأي في القضاء، والترمذي [1327] في الأحكام، باب: ما جاء في القاضي كيف يقضي، عن معاذاً إلي اليمن، قال له: " كيف تقضي إذا عرض له قضاءٌ؟ " قال " أقضي بكتاب الله. قال " فإن لم تجد في كتاب الله؟ " قال أقضي بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال " فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ " قال: أجتهد رأيي، ولا آلُوا قال: فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره، وقال: " الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما يرضي رسول الله ". [اجتهد رأيي: أبذل طاقتي ووسعي في طلب الحق والتعرف عليه. ولا آلوا: ولا أقصر في طلب الحق والبحث عنه]. خطورة منصب القضاء : مع أهمية منصب القضاء، فإنه منصب خطر في نفسه، وفيه مسالك وعرة، ومزالق صعبة، والناجي فيه قليل، والهالك كثير، والمعصوم من عصمة الله تعالي. روي أبو داود [3573] في الأقضية، باب: في القاضي يخطيء، عن بريدة بن الخصيب رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " القضاة ثلاثة: واحدٌ في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 174 الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق وقضي به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ". وروي أبو داود [3571] في الأقضية باب: في طلب القضاء ، والترمذي [1325] في الأحكام، باب: ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القاضي، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من جعل قاضياً بين الناس، فقد ذبح بغير سكين " [ذبح بغير سكين: المراد به: التحرز من طلب القضاء، والإشفاق منه] وقال الله عز وجل: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} (الجن: 15) [القاسطون: الجائرون في حكمهم]. لذلك خشي هذا المنصب كثير من الصحابة والعلماء، ,أعرضوا عنه، خشية التقصير فيه. حكم تولي القضاء : وجود قاض في كل ناحية، يقضي ين المتخاصمين ويرفع التظالم بينهم، فرض كفاية في حق الصالحين له. أما كونه فرضاً، فلوجود الأمر به في كتاب الله عز وجل. قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} (النساء: 135). [قوامين: دائمي القيام. بالقسط: بالعدل]. وأما كونه فرض كفاية فلأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما من فروض الكفاية. وقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً رضي الله عنه قاضياً إلي اليمن، كما ولي معاذ بن جبل أيضاً قضاء اليمن، واستخلف عليه الصلاة والسلام عتاب بن أسيد على مكة والياً وقاضياً، وقد بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا موسي الأشعري إلي البصرة قاضياً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 175 فلو كان القضاء فرض عين على كل من يصلح له لم يكف قاض واحد في كل ناحية. فإذا قام بهذا الفرض من يصلح له سقط الفرض عن الباقين، وإن امتنعوا ولم يقم به أحد أثموا جميعاً، ووجب على الإمام أن يجبر أحد الصالحين للقضاء على تولي هذا المنصب، والقيام بهذا الفرض. لذلك قال علماء الشافعية: يجب على الإمام أن يولي في كل مسافة عدوي قاضياً، كما يجب عليه أن يجعل في كل مسافة قصر مفتياً. ومسافة العدوى، هي التي يرجع منها مبكر إلي موضعه ليلاً، أي: إذا خرج من بيته في الصباح الباكر رجع إليه في الليل. أما إذا تعين للقضاء واحد في ناحية، وذلك بأن لم يصلح غيره، وجب عليه، وكان فرض عيه بالنسبة له، ولزمه طلبه، إن لم يدع إليه لوجود الحاجة إليه، ولا يعذر في رفضه لخوف ميل منه، بل يلزمه، وتحرز من الميل والجور، كسائر فروض الأعيان. هذا، وإذا عرض القضاء على من يصلح له ليتولاه، وكان في ناحيته من هو أولي منه وأصلح، ورضي أن يتولاه جاز له، وإن كان هناك من هو أولي منه، ما دام قد دعي إليه من غير طلب منه، لأن وجود الأفضل لا يمنع تولي المفضول، ما دام أهلاً له ن وقد ولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عتاب بن أسيد قضاء مكة، ولم يكن أفضل الصحابة رضي الله عنهم. طلب القضاء : يكره طلب القضاء، إذا كان في الناحية من هو مثله، أو أفضل منه، لورود النهي فيه، والتحذير منه. روي أبو داود [3578] في الأقضية، باب: في طلب القضاء والتسرع إليه، والترمذي [1324] في الأحكام، باب: ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القاضي، عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من ابتغي القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلي نفسه ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكاً يسدده ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 176 وروي مسلم [1733] في الإمارة، باب [النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها] عن أبي موسي الأشعري رضي الله عنه، قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحد الرجلين: يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك. فقال: " إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله، ولا أحداً حرص عليه ". هذا ولقد استثني علماء الشافعية من هذه الكراهة ثلاث صور، حكموا باستحباب طلب القضاء فيها: الأولي: ما إذا كان العالم خاملاً غير مشهور بين الناس، وكان يرجو في طلبه القضاء نشر العلم، لتحصل المنفعة بنشره إذا عرف الناس فضله وعلمه، فيكون لهم به نفع. الثانية: أن يكون فقيراً محتاجاً إلي الرزق، فإذا ولي القضاء حصل له كفايته من بيت مال المسلمين، بسبب هو طاعة، لما في العدل بين الناس من جزيل الأجر والثواب. الثالثة: أن تكون الحقوق مضاعة لجور القضاة، أو عجزهم عن إحقاق الحق، فيقصد بطلبه القضاء تدارك ذلك. وقد أخبر الله تبارك وتعالي عن نبيه يوسف عليه السلام أنه طلب الولاية على الأموال، شفقة على الناس، وإنصافاً لهم، لا لحظ نفسه، ولا لمنفعة تخصه. قال تعالي عنه: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (يوسف: 55). أما إذا كان قصده بطلب القضاء الانتقام من الأعداء، أو التكسب بالارتشاء، أو المباهاة والاستعلاء، فإن طلب القضاء، والحالة هذه حرام، لكونه وسيلة إلي الظلم، وفعل الحرام، وللوسائل حكم المقاصد، كما هو معروف. روي الترمذي [1336] في الإحكام، باب: ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي في الحكم ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 177 شروط القاضي : يشترط فيمن يتولي القضاء حتى تصح توليته الشروط التالية: 1 - الإسلام، فلا يجوز شرعاً تولية الكافر القضاء: قال الله تعالى " {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) ولا سبيل أعظم من القضاء، لأنه ولاية وحكم وسبيل وسلطان على المسلمين. وكذلك لا يجوز أن يلي القضاء كافر، ليقضي بين الكفار في ديار المسلمين، لأن الغرض من القضاء فصل الأحكام بين الناس بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام والكافر جاهل بهما، وغير مأمون عليهما 2 - التكليف، أي أن يكون القاضي بالغاً عاقلاً، فلا يجوز تولية صبي ولا مجنون، وإن كان جنونه متقطعاً، لنقص من وجدت فيه هذه الصفات. ولا يكفي مجرد وجود العقل الذي يتعلق به التكليف، بل يجب أن يكون القاضي صحيح الفكر، جيد الفطنة، بعيداً عن السهو والغفلة، يتوصل بذكائه إلي وضوح المشكل، وحل المعضل، لأن عمله يتطلب كل هذا. 3 - الحرية، فلا يولي القضاء رقيق، كله أو بعضه، لفقدان ولايته أو نقصها. 4 - الذكورة، فلا يجوز أن تتولي امرأة القضاء مهما كانت كفاءتها. روي البخاري [4163] في المغازي، باب: كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلي كسري وقيصر، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " ولأن القضاء يتطلب الاجتماع بالرجال، وفي اجتماع الرجال بالنساء لا تؤمن الفتنة. وأيضاً في تولي النساء القضاء صرف لهن عن مهمتهن الأصلية، وهي القيام بشؤون البيت والأولاد، وكذلك يشترط للقضاء القوة والسطوة حتى لا يطمع الناس بجانب القاضي، والمرأة قد يعوزها هذا الجانب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 178 5 - العدالة، فلا يولي فاسق القضاء، لأنه لا يوق بقوله، ولا يؤمن الجور في حكمه. قال الله عز وجل: {َا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6). والعدالة تعني: ? تجنب الكبائر من الذنوب والكبائر: كل ما ورد فيه وعيد شديد في كتاب الله تعال أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ودل ارتكابه على تهاون في الدين: كشرف الخمر، والتعامل بالربا. ? وان يكون غير مصر على القليل من الصغائر، والصغائر: هي ما لم ينطبق عليه تعريف الكبيرة: كالنظر المحرم، وهجر المسلم فوق ثلاث، ونحوهما. ? وأن يكون سليم السريرة، أي العقيدة محافظاً على مروءة مثله، لأن من لا مروءة له لا حياء له، ومن لا حياء له قال ما شاء. ومروءة مثله: أن يتخلق بأخلاق أمثاله من أبناء عصره ممن يراعون مناهج الشرع وآدابه في الزمان والمكان، ويرجع في هذا غالباً إلي العرف. ? وأن يكون مأموناً غير متهم من أن يتخذ منصبه لجر منفعة لنفسه أو دفع مصرة عنها من وجه شرعي. هذا وقد قال علماء الشافعية: إنه لا يولي القضاء مبتدع ترد شهادته، ولا من ينكر حجية الإجماع، ولا من ينكر العمل بخبر الآحاد، ولا من ينكر الاجتهاد المتضمن إنكاره إنكار القياس. 6 - السمع، ولو بصياح في أذنه، فلا يجوز أن يتولي القضاء أصم لا يسمع أصلاً، لأنه لا يمكنه والحالة هذه أن يفرق بين إقرار الخصوم وإنكارهم. 7 - البصر، فلا يولي أعمي قد فقد البصر كلياً، ولا من يري الأشباح، ولا يعرف الصور، لأن الأعمى لا يستطيع أن يميز بين الخصوم، ولا يعرف الطالب من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 179 المطلوب، وهو إن ميز بين الناس فإنما يميز بينهم بالصوت، والصوت قد يشتبه عليه. أما ما قيل من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولي عبدالله بن أم مكتوم على المدينة، وهو أعمي، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يوله الحكم والقضاء وإنما استخلفه ليؤم الناس في الصلاة. 8 - النطق، فلا يجوز تولية الأخرس، وإن فهمت إشارته، لعجزه عن تنفيذ الأحكام. 9 - الكفاية للقيام بأمور القضاء، فلا يولي مغفل مختل نظر، بسبب كبر أو مرض. وفسر بعض العلماء الكفاية اللائقة بالقضاء بأن يكون في القاضي قوة على تنفيذ الحق بنفسه، فلا يكون ضعيف النفس جباناً، فإن كثيراً من الناس يكون عالماً ديناً، ونفسه ضعيفة عن التنفيذ والإلزام والسطوة فيطمع بعض الناس في جانبه بسبب ذلك. قال ابن عبد السلام رحمه الله تعالى: للولاية شرطان: العلم بأحكامها، والقدرة على تحصيل مصالحها وترك مفاسدها. فإذا فقد الشرطان حرمت الولاية. روي مسلم [1826] في الإمارة، باب: كراهة الإمارة بغير ضرورة، عن أبي ذر رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين ما يتيم ". وروي مسلم أيضاً [1825] في نفس الكتاب والباب السابقين عن أبي ذر رضي الله عنه قال ك قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: " يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدي الذي عليه فيها ". 10 - الاجتهاد، فلا يولي القضاء الجاهل بالأحكام الشرعية، ولا المقلد فيها، وهو من حفظ مذهب إمامه، لكونه غير عارف بغوامضه، وقاصر عن تقرير أدلته، ولأن المقلد لا يصلح للفتوي، فعدم صلاحيته للقضاء أولي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 180 والمجتهد هو من يعرف من الكتاب والسنة ما يتعلق بالأحكام ما يتعلق الأحكام، ولا يشترط حفظ تلك الأدلة عن ظهر قلب، بل يكفي ان يعرف مظانها في أبوابها، فيراجعها وقت الحاجة، ويعرف خاص الأدلة وعامها، ومجملها ومبينها، وناسخها ومنسوخها، ومتواتر السنة وآحادها، والمتصل والمرسل، وحال الرواة قوة وضعفاً، ويعرف لسان العرب لغة ونحواً، وما لا بد منه في فهم الكتاب والسنة، لأنه لسان الشرع الذي نزل به الكتاب، ونطقت به السنة. ويعرف أقوال العلماء من الصحابة ومن بعدهم إجماعاً واختلافاً، ويعرف القياس بأنواعه. هذا في المجتهد المطلق، أما المجتهد المقيد، فيشترط فيه معرفة مذهب إمامه. والأصل في هذا الشرط ـ الاجتهاد ـ ما رواه أبو داود [3573] في الأقضية، باب: القاضي يخطيء، عن بريدة بن الخصيب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق وقضي به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار، ورجل قضي للناس على جهل فهو في النار ". ويدل على هذا الشرط أيضاً ما رواه البخاري [6919] في الاعتصام بالكتاب والسنة باب: أجر الحاكم إذا الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، ومسلم [1716] في الأقضية: باب: بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب، أو أخطأ، ومسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ن وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر ". فقد دل هذا الحديث على أن القاضي الذي يصح أن يحكم بين الناس، ويمضي حكمه هو الذي لديه أهلية الاجتهاد ولا تتوفر تلك الأهلية إلا إذ تحقق الشرط السابق الذي ذكرناه بكل تفصيلاته. قال الإمام النووي رحمه الله تعالي في " شرحه على مسلم " [12/ 13] " (قال العلماء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم، فإن أصاب فله أجران: أجر باجتهاده، وأجر بإصابته، وإن أخطأ فله أجر اجتهاده، فأما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 181 من ليس بأهل الحكم، فا يحل له الحكم، فإن حكم فلا أجر له ن بل هو آثم، ولا ينفذ حكمه، سواء وافق الحق أم لا، لأن إصابته اتفاقية ـ أي عن غير قصد ـ وليست صادرة عن أصل شرعي، فهو عاص في جميع أحكامه، سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها، ولا يعذر في شيء من ذلك، وقد جاء في السنن: القضاة ثلاثة) ... ثم ساق حديث أبي داود السابق ز فإن تعذر في رجل جمع تلك الشروط السابقة في القاضي، فولي سلطان له شوكة قاضياً مسلماً فاسقاً أو مقلداً، نفذ قضاؤه للضرورة، لئلا تتعطل مصالح الناس. وواجب الإمام أن يبحث عن حال القاضي قبل توليته، ويسأله ليعرف أهليته للقضاء، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما ولي معاذ بن جبل رضي الله عنه قضاء اليمن. فقال له: " كيف تقضي إذا عرض لك قضاءٌ "؟ قال: أقضي بكتاب الله قال " فإن لم تجد في كتاب الله "؟ قال " أقضي بسنة رسول الله. قال: " فإن لم تجد في سنة رسول الله "؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. قال: فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره، وقال: " الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله ". (رواه ابو داود [3592] في الاقضية، باب: اجتهاد الرأي في القضاء، والترمذي [1327] في الأحكام، باب: ما جاء في القاضي كيف يقضي). فإذا ولي الإمام من لا يصلح للقضاء مع وجود الصالح له والعلم بالحال أثم المولي والمولي، ولا ينفذ قضاؤه وإن أصاب فيه. ما يستحب أن يكون عليه القاضي من الصفات : ويندب أن يكون من يتولي القضاء من قريش، ومراعاة العلم والتقي أولي من مراعاة النسب، وأن يكون ذا حلم وتثبت ولين وفطنة ويقظة، وصحة حواس وأعضاء، وأن يكون عارفاً بلغة البلد الذي يقضي لأهله، قنوعاً سليماً من الشحناء، صدوقاً وافر العقل ذا وقار وسكينة. قال مزاحم بن زافر: قال لنا عمر بن عبدالعزيز: خمس إذا أخطأ القاضي منهن خطة كانت فيه وصمة: أن يكون فهماً حليماً عفيفاً صليباً عالماً سؤولاً عن العلم. (رواه البخاري في الأحكام، باب: متي يستوجب الرجل القضاء) لأن هذه الصفات تزيده بصيرة في القضاء، ومحبة من العامة وثقة في نفوس الناس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 182 ثبوت تولية القاضي : إذا نصب الإمام قاضياً ثبتت توليته بشهادة شاهدين يخرجان معه إلي محل ولايته يخبران بتنصيبه قاضياً، وكذلك تثبت توليته باستفاضة خبر تعينه، واشتهار تنصيبه. ويسن أن يكتب له الإمام كتاباً بالتولية، إتباعا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كتب لعمرو بن حزم لما بعثه إلي اليمن كتاباً، وهو ابن سبع عشرة سنة، رواه مالك في الموطأ [1545] في كتاب العقول. وكتب أبو بكر رضي الله عنه كتاباً لأنس لما بعثه إلي البحرين، وختمه بخاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رواه البخاري [1318] في الزكاة، باب: العرض في الزكاة). ويستحب أن يكتب إليه في كتاب التولية ما يحتاج إلي القيام به، ويعظه فيه ويوصيه بتقوى الله تعالى، ومشاورة أهل العلم، وتفقد الشهود، وغير ذلك وإنما لم يكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ رضي الله عنه، لما أرسله إلي اليمن، لبيان الجواز وعدم الوجوب. ولا شك أن ولاية القاضي تثبت اليوم بالطرق المتبعة لدي الحكومات، من إصدار قرار بتوظيفه ونشره في الصحف وتسليمه نسخة منه. وتبدأ وظيفته ويستحق الأجر على عمله من حين مباشرته مهام عمله ويسن للقاضي أن يدخل بلد قضائه يوم الاثنين، فإن تعذر، فالخميس، فإن تعذر فالسبت للإتباع في ذلك. كما يسن له أيضا أن يبحث عن علماء البلد الذي عين فيه، وعن عدوله قبل دخوله إليه، ليدخل على بصيرة بحال من فيه من الناس. وظيفة القاضي : وظيفة القاضي كبيرة، وكثيرة الجوانب والواجبات، فهو يقضي في فصل الخصومات بين الناس بالحكم، أو بالإصلاح عن تراض، والحبس والتعزيز وإقامة الحدود، وتزويج من لا ولي لها، والولاية على مال الصغار والمجانين والسفهاء، وبيع التركة للدين وحفظ مال الغائب، وبيع مال لا يتعين تاركه وحفظ ثمنه، او صرفه في المصالح، والنظر في الوقف وإيصال غلته إلي مصارفه والنظر في الوصايا، والمنع من التعدي بالأبنية، ونصب المفتين والمحتسبين، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 183 وأخذ الزكاة وقسمة التركات، ونصب الأئمة في المساجد، وغير ذلك مما هو داخل في اختصاصه. وواجب القاضي أن يحكم في كل ما ذكر وغيره بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما أجمع عليه المسلمون، ويقيس الأمور بعضها على بعض، فيحكم بأقربها إلي الحق، ويبذل جهده في معرفة حكم الله تعالى في كل قضية ومستند ذلك حديث معاذ رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً إلي اليمن، فقال: كيف تقضي؟ فقال أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره، وقال: " الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله ". (رواه أبو داود [3592، 3593] في الأقضية، باب: اجتهاد الرأي في القضاء، والترمذي [1327، 1328] في الأحكام باب: ما جاء في القاضي كيف يقضي). وروي النسائي [8/ 320] في القضاء، باب: الحكم باتفاق أهل العلم، عن عبد الرحمن بن زيد، قال: أكثروا على عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ذات يوم ن فقال عبدالله: إنه آتي علينا زمان، ولسنا نقضي، ولسنا هنالك، ثم إن الله عز وجل قدر علينا أن بلغنا ما ترون، فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم، فليقض بما في كتاب الله فإن جاء أمر ليس في كتاب فليقض بما في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فإن جاء أمراً ليس في كتاب الله ولا قضي به نبيه - صلى الله عليه وسلم - فليقض بما قضي به الصالحون، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله، ولا قضي به نبيه ولا قضي به الصالحون فليجتهد رايه ن ولا يقل: إني أخاف، فالحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور متشابهات، فدع ما يريبك إلي ما لا يريبك. وروي النسائي أيضا [8/ 231] في القضاء باب: الحكم باتفاق أهل العلم، عن عبدالرحمن بن زيد قال: أكثروا على عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ذات يوم، فقال عبدالله: إنه قد أتي علينا زمان، ولسنا نقضي، ولسنا هنالك، ثم إن الله عز وجل قدر علينا أن بلغنا ما ترون، فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم، فليقض بما في كتاب الله فإن جاء أمر ليس في كتاب الله، فإن جاء أمر ليس في كتاب، فليقض بما في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولا قضي به نبيه - صلى الله عليه وسلم - فليقض بما قضي به الصالحون فإن جاء أمر ليس في كتاب الله، ولا قضي به نبيه، ولا قضي به الصالحون فليجتهد رأيه، ولا يقل: إني أخاف فالحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور متشابهات فدع ما يريبك إلي ما لا يريبك. وروي النسائي أيضا [8/ 231] في القضاء باب: الحكم باتفاق أهل العلم عن شُريح أنه كتب إلي عمر رضي الله عنه يسأله، فكتب إليه: (أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يكن في كتاب الله تعالي ولا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقض بما قضي به الصالحون فإن لم يكن في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقض به الجزء: 8 ¦ الصفحة: 184 الصالحون، فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر ولا أري التأخر إلا خيراً لك والسلام) [فتقدم: أي اقض. باجتهادك. فتأخر: توقف لتراجعني وتري رأيي] والأحاديث واضحة في أن القاضي يلتزم في قضائه بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، وما أجمع عليه علماء المسلمين، ثم يعم رأيه بعد ذلك لاستخراج الحكم الصحيح والوصول إلي الحق الواضح. مكان جلوس القاضي ونزوله : ويستحب للقاضي أن ينزل وسط البلد إذا ما وصل إليه، ليتساوي أهله في القرب إليه، ويسهل عليهم الرجوع إليه، إذا كان هناك متسع لذلك، وإلا نزل حيث تيسر له، هذا إذا لم يكن في البلد موضع معين لنزول القاضي، والجلوس فيه. كما يسن للقاضي أن يدخل البلد نهاراًَ ويقصد الجامع فيصلي فيه ركعتين، ثم يذهب إلي مكان عمله، ويرسل منادياً ينادي: من كانت له حاجة فإن القاضي قد حضر، فينظر بعدئذ ما يرفع إليه من الأمور، وبهذا يكون قد أخذ في العمل واستحق رزقه. فيم ينظر القاضي أولاً؟ ـ ينظر القاضي أولاً في أمر المسجونين، لأن الحبس والسجن عذاب، فينظر في أمرهم هل يستحقون السجن، أو لا؟ وكيفية النظر في أمر المسجونين أن يعلم الناس أنه ينظر في أمرهم يوم كذا، وقد كان قديماً يرسل منادياً ينادي في البلد: ألا إن القاضي فلاناً ينظر في أمر المسجونين يوم كذا، فمن كان له محبوس فليحضر. فمن قال من أهل الحبس: حبست بحق، أو ثبت له أنه حبس حق، فعل به ما يقتضي ذلك الحق، فإن كان الحق حداً أقامه عليه، وأطلق سراحه، وإن كان تعزيزاً فعل به ما يري، وإن كان مالاً أمره بأدائه. ومن قال حُبست ظلماً طلب من خصمه الحجة، فإن لم يقم الحجة صدق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 185 المحبوس بيمينه وأطلق سراحه. ـ ثم ينظر في حال الأوصياء على الأطفال، والمجانين والسفهاء، لأنهم يتصرفون في حق من لا يملك المطالبة ماله، فكان تقديمهم أولي مما بعدهم فمن وجده منهم عدلاً قوياً اقره، ومن وجده فاسقاً أخذ المال منه وجوباً ووضعه عند غيره ومن وجده عدلاً ضعيفاً عضده وقواه بمعين. ـ ثم يبحث عن أمناء القاضي المنصوبين على الأطفال وتفرقة الوصايا فيعزل من فسق منهم، وبعين الضعيف بآخر. ـ ثم يبحث عن الأوقاف العامة وعن متوليها، وعن الأوقاف الخاصة أيضا. ـ ويرتب بعد هذا أموره، ويقدم من القضايا الأهم فالأهم، والقاضي بعد هذا مؤتمن على مصالح الناس وحقوقهم على أن يبذل جهده، ويقوم بمهام عمله على وجه السرعة، والعدل وليحذر من الإهمال والتسويف والظلم والتساهل في حقوق الناس ومصالحهم. روي الترمذي [1330] في الأحكام، باب: ما جاء في الإمام العادل، عن عبدالله بن أبي أوفي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلي عنه ولزمه الشيطان ". وروي البخاري [6731] في الأحكام، باب: من استرعي رعية فلم ينصح، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من عبد يسترعيه الله رعية، فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة ". اتخاذ القاضي مزكيين : ويتخذ القاضي ندباً مزكيين، ليعرفاه حال من يجهل من الشهود، لأنه لا يمكنه البحث عنهم بنفسه، فاحتاج إلي من يعاونه في ذلك ويشترط في المزكي: - أن يكون عارفاً بالجرح والتعديل، لئلا يجرح العدل، ويزكي الفاسق. - معرفة ماضي من يزكيه بصحبة أو جوار أو معاملة. - كما يشترط في المزكي أيضاً أن يكون مسلماً عاقلاً بالغاً عدلاً، حتى يورث قوله طمأنينة، ويوثق بقوله وتزكيته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 186 اتخاذ كاتب : ويسن للقاضي أن يتخذ كاتباً، لوجود الحاجة إليه إذ القاضي مشغول بالحكم والاجتهاد، والكتابة تشغله عن ذلك، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاب يكتبون له ن وربما زادوا على الأربعين. شروط الكاتب : ويشترط في الكاتب أن يكون: أمسلماً عدلاً حراً ذكراً، لتؤمن خيانته، ويوثق بكتابته، إذ قد يغفل القاضي أو يشغل عن قراءة ما يكتبه. ب عارفاً بكتابة المحاضر: هي ما يكتب فيها ما جري للمتحاكمين في المجلس والسجلات،: وهي ما كتب فيها الحكم وتنفيذه زيادة على ما كتب في المحاضر. ما يستحب في الكاتب : ويستحب أن يكون الكاتب: أفقيهاً، لئلا يؤتي من قبل جهله. ب موفور العقل، لئلا يخدع ويدلس عليه. ت جيد الخط، لئلا يقع في الغلط والالتباس. قال على رضي الله عنه: الخط الحسن يزيد الحق وضوحاً. ث حاسباً، للحاجة لذلك في قسمة المواريث، وتوزيع الوصايا. ج فصيحاً عالماً بلغات المتخاصمين. وينبغي للقاضي أن يجعل الكاتب بين يديه ليملي عليه ما يريد، ويري ما يكتبه، فيكون على علم به. اتخاذ مترجم : ويندب للقاضي أن يتخذ مترجماً يفسر له لغة المتخاصمين، لأن القاضي قد لا يعرف لغاتهم، فيحتاج إلي من يطلعه على ذلك. قال خارجه بن زيد بن ثابت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يتعلم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 187 كتاب اليهود حتى كتبت للنبي - صلى الله عليه وسلم - كتبه، وأقرأته كتبهم إذا كتبوا. وقال أبو جمرة: كنت أترجم بين ابن عباس رضي الله عنه، وبين الناس. (رواه البخاري في الأحكام، باب: ترجمة الحكام). شروط المترجم : ويشترط في المترجم: الإسلام والحرية، والعدالة، ليحصل الاطمئنان لما يقول. اتخاذ درة وسجن : ويتخذ القاضي درة للتأديب، اقتداء بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد كان يتخذ درة، وقيل هو أو من اتخذها. قال الشعبي رحمه الله تعالي: كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج. ويتخذ سجناً أيضاً، لأداء حق الله، أو حق الناس، أو لتعزيز من يستحق ذلك، لأن عمر رضي الله عنه اشترى داراً بمكة بأربعة آلاف درهم، وجعلها سجناً. رواه البيهقي. وفي البخاري: بأربع مائة [2/ 853] في الخصومات، باب: الربط والحبس في الحرم. مجلس القاضي : ويستحب أن يكون مجلس القاضي فسيحاً، لأن الضيق يتأذي منه الخصوم، وأن يكون بارزاً ظاهراً ليعرفه من أراده من مستوطن وغريب، مصوناً من أذي حر وبرد، لائقاً بالوقت والقضاء، فيجلس في كل فصل من الصيف والشتاء بما يناسبه، كيلا يتأذي القاضي والخصوم. كراهة الجلوس للقضاء في المسجد : يكره للقاضي أن يجلس للقضاء في المسجد صوناً له عن الصياح واللغط والخصومات، إذ مجلس القاضي لا يخلو غالباً من ذلك، على أنه قد يحتاج أن يحضر مجلس القضاء من ليس لهم أن يمكثوا في المسجد، كالحيض، ومن لا يليق دخولهم بالمسجد: كالصغار والمجانين والكفار. ومن الأدب أن يجلس القاضي على مكان مرتفع كمنصة ليسهل عليه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 188 النظر إلي الناس، وأن يستقبل القبلة، لأنها اشرف الجهات، وأن يدعو عقب جلوسه بالتوفيق والتسديد، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج من بيته قال: " بسم الله توكلت على الله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي ". (رواه الترمذي [3423] في الدعوات، باب: التعوذ من أن نجهل أو يجهل علينا، وغيره، عن أم سلمه رضي الله عنها). كراهة اتخاذ الحاجب، وجواز اتخاذ المحضر : الحاجب: هو البواب الذي يحجب الناس عن القاضي، ويمنعهم من الدخول إليه في وقت جلوسه للحكم، فيكره للقاضي ان يتخذ هذا الحاجب، بل يترك بابه مفتوحاً للمراجعين، إلا أن يكون هناك ازدحام على بابه، فلا مانع أن يقف هذا البواب لينظم دخول الناس على القاضي. روي أبو داود [2948] في الخراج والإمارة، باب: فيما يلزم الإمام من أمر الرعية، عن أبي مريم رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة ". وروي الترمذي [1332، 1333] في الأحكام، باب: ما جاء في إمام الرعية، عن عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله أبوب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته ". أما المحضر، فهو الذي يرتب الخصوم، وينادي عليهم، وكان يسمي النقيب، فلا بأس أن يتخذه القاضي لوجود الحاجة إليه. مشاورة الفقهاء : ويندب للقاضي عند اختلاف وجهات النظر، وتعارض الأدلة في الحكم أن يشاور أهل الفقه والبصر بالدين، لقول الله عز وجل: {وشاورهم في الأمر} (سورة آل عمران: 519) التسوية بين الخصوم : ويسوي القاضي وجوباً بين الخصمين في أمور ثلاثة: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 189 أفي الدخول عليه، فلا يجوز أن يقوم لأحدهما، ولا يقوم للآخر، لأن ذلك ينافي العدل، ويكسر قلب من لم يقم له، فإما أن يقوم لهما، أو لا يقوم لأحد. ب في الاستماع لهما، وطلاقة الوجه معهما، ورد السلام عليهما، وذلك لتحقيق العدل معهما، ولئلا ينكسر قلب أحدهما، إذا ما خص أحدهما بلفظ أو لحظ لم يعامل الثاني منهما بمثله. ت وفي المجلس بين يديه، وذلك بأن يجلسهما أمامه، وبين يديه، أو أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، ليطيب بذلك قلبهما، ويعدل بينهما. والأصل في هذا ما رواه الدارقطني [4/ 205] عن أم سلمه رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من ابتلي بالقضاء بين الناس فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده، ولا يرفعن صوته على أحد الخصمين، مالا يعرفه على الأخر" وروي أبو داود [3588] في الأقضية: باب كيف يجلس الخصمان بين يدي القاضي، عن عبدالله بن الزبير رضي الله عنه قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الخصمين يقعدان بين يدي الحكم. هذا ولا يجوز للقاضي أن يسال المدعى عليه، إلا بعد فراغ المدعي من بيان دعواه، ولا يحلف المدعي عليه إلا بعد أن يطلب المدعي من القاضي أن يحلفه لأن استيفاء اليمين من المدعي عليه حق للمدعي فيتوقف على إذنه وطلبه، ولا يلقن خصماً حجة، ولا يفهمه كلاماً يعرف به كيفية الدعوى أو الجواب، أو كيف ينكر أو يقر، لما في ذلك من إظهار الميل له والإضرار بخصمه، وهذا حرام، ولا يتعنت بالشهداء فيشق عليهم، ولا يؤذيهم بالقول ونحوه، كأن يهزأ بهم أو يعارضهم في أقوالهم، لأن مثل هذا ينفر من الشهادة وتحملها وأدائها، والناس في حاجة إليها، قال الله تعالى: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} (سورة البقرة: 282). ولا يقبل الشهادة إلا ممن ثبتت عدالته، بمعرفة القاضي له، أو بتزكية عدلين له عنده، ولا يقبل شهادة عدو على عدوه، ولا شهادة والد لولده، ولا ولد لوالده، وذلك لوجود تهمة التحامل على العدو، والمحاباة للوالد، أو الولد، والأصل في رد مثل هذه الشهادة ما رواه الترمذي [2299] في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 190 الشهادات، باب: فيمن لا تجوز شهادته، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلا: " لا تجوز شهادة خائن ولا خائنه ولا زانٍ ولا زانية ولا ذي عمر على أخيه ". [الغمر: الحقد والغل والشحناء] وروي مالك في الموطأ [2/ 720] في الأقضية، باب: ما جاء في الشهادات، قال: بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين) [الظنين: المتهم] الحالات التي يتجنب فيها القاضي القضاء : ويتجنب القاضي القضاء في عشرة مواضع: عند الغضب، والجوع والعطش، وشدة الشهوة، والحزن والفرح المفرط، وعند المرض، ومدافعة الأخبثين ـ البول والغائط وعند النعاس، وشدة البرد والحر. ويلحق بهذه الأحوال ما كان مثلها من كل ما يورث اضطراباً في النفس وسواء في الخلق، وخللاً في الفكر. والأصل في هذا ما رواه البخاري [6739] في الأحكام، باب: هل يقضى القاضي أو يفتي وهو غضبان، ومسلم [1717] في الأقضية، باب: كراهة قضاء القاضي وهو غضبان، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ولا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان]. والنهي في الحديث محمول على الكراهة فلو قضي في حال منها نفذ حكمه شراء وبيع القاضي بنفسه : يندب للقاضي أن لا يشتري، وأن لا يبيع بنفسه، لئلا يشتغل قلبه عما هو بصدده، ولأنه قد يحابي، فيميل قلبه إلي من يحابيه، إذا وقع بينه وبين غيره خصومة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 191 حكم القاضي لنفسه أو شريكه وأصله وفرعه : ألا يجوز للقاضي أن يحكم لنفسه، ولا ينفذ حكمه في ذلك لوجود التهمة في حكمه، وخوف الميل لمصلحته. ب ولا يحكم أيضاً لشريكه في المال المشترك بينهما، للتهمة أيضاً، وخشية الميل والمحاباة. ت وكذلك لا يجوز له أن يحكم لأصله، ولا لفرعه، ولا ينفذ حكمه لكل منهما، لاحتمال التهمة والمحاباة. أما إذا حكم على من ذكرنا سابقاً، فإنه يجوز حكمه، وينفذ، لعدم التهمة في ذلك. هـ ولا يجوز للقاضي أيضاً أن يحكم على عدون، لوجود التهمة، ويجوز أن يحكم له لانتفائها. وإذا امتنع حكم القاضي لمن ذكرنا سابقاً، فإنه يحكم لهم الإمام، أو يحكم لهم قاضٍ آخر، لانتفاء التهمة في حكمه. الهدية إلي القاضي : ـ لا يجوز للقاضي أن يقبل الهدية من الذين يرجعون إليه في حل خصوماتهم والفصل في منازعاتهم، مهما قلت تلك الهدية، أو زادت، وسواء كانوا يهدون إليه قبل ولاية القضاء، أو لم يكونوا، وسواء كانوا من محل ولايته، أو كانوا من غيرها، لأن قبول مثل هذه الهدايا من أولئك الذين لهم خصومات عنده يدعو إلي الميل والمحاباة غالباً. وقد أمر الدين بسد الذرائع التي قد يفضي الولوج منها إلي محرم. ـ وكذلك لا يجوز له قبول الهدية من كل شخص لم يعتد أن يهدي إليه قبل ولايته القضاء، ولو لم يكن له عنده خصومة، لاحتمال حصول الخصومة في المستقبل، وليس من عادته أن يهدى إليه قبل الولاية، فيحمل عمله ذلك على أن سببه القضاء غالباً. والأصل في هذا ما رواه البخاري [6260] في الإيمان والنذور، باب: كيف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 192 كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم [1832] في الإمارة، باب: تحريم هدايا العمال، عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل عاملاً، فجاءه العامل حين فرغ من عمله، فقال: يا رسول الله، هذا لكم وهذا أهدي لي، فقال له: " أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك، فنظرت أيهدي لك أم لا؟! " ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشية بعد الصلاة، فتشهد وأثني على الله بما هو أهله، ثم قال: " أما بعد فما بال العامل نستعمله، فيأتينا فيقول: هذا من عملكم، وهذا أهدى لي، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر: هل يهدي له أم لا؟! فو الذي نفس محمد بيده، لا يغل أحدكم منا شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه: إن كان بعيراً جاء به له رغاء، وإن كانت بقرة جاء بها لها خوار، وإن كانت شاة جاء بها تيعر، قد بلغت " ثم رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه حتى إنا للنظر إلي عُفرة إبطيه. وفي رواية عند أحمد [5/ 424] عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " هدايا العمال غُلُولٌ ". [استعمل: وظفه على جمع الزكاة. لا يغل: من الغلول، والغلول في الأصل: الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، وسميت هدية العامل غولاً، بجامع أن كلاً منهما فيه خيانة، وإخلال بالأمانة، لأن الهدية غالباً ما تحمل العامل على ذلك ولذلك هي حرام كالغلول. رغاء: صوت الإبل. خوار: صوت البقر تيعر: من اليعار وهو صوت الغنم والمعز عُفرة إبطيه: باطنهما، من شدة رفعه ليديه، والعفرة في الأصل: بياض يخالطه لون كلون التراب، وكذلك لون باطن الإبط] هذا كله إذا كانت الهدية للقاضي ممن له عنده خصومة، أو قضية ينظر فيها أو ممن لم تسبق له عادة في إهدائه قبل توليته القضاء، فإن كانت ممن له عادة في إهدائه وليس له خصومة عنده، جاز له قبولها، إن لم يزد فيها عن القدر المعتاد، كماً وكيفاً، فإن زاد فيها نظر، فإن كانت الزيادة لها أثر ظاهر لم تقبل، وإلا قبلت ومما ينبغي الانتباه إليه: هو أن الكلام في الهدية إذا لم يكن هناك قصد ظاهر، فإن كانت بقصد أن يحكم بغير الحق، أو ليمتنع من الحكم بالحق، فهي رشوة، وهي من الكبائر، ويأثم القاضي بقبولها، كما يأثم الباذل لها والساعي في شأنها. روي الترمذي [2336] في الأحكام، باب: ما جاء في الراشي والمرتشي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 193 في الحكم، وأبو داود [3580] في الأقضية، باب: في كراهية الرشوة، عن ابي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن الراشي والمرتشي في الحكم. وعند أحمد [5/ 279] عن ثويان رضي الله عنه، قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي، والرائش بينهما. [الرائش: الذي يمشي بين الراشي والمرتشي]. ملك الهدية : إذا قبل القاضي الهدية، في الصور المحرمة التي مر ذكرها، فإنه لا يملكها، ويجب عليه ردها إلي صحابها، فإن تعذر ردها إلي صاحبها وضعها في بيت مال المسلمين، لأنها كسب غير مشروع، فلا يملكها. حضور الولائم : - لا يجوز للقاضي حضور وليمة أحد الخصمين، حال الخصومة، ولا يقبل ضيافة أحد منهما ولو كانا في غير محل ولايته، لخوف الميل والمحاباة. - ويجوز له حضور وليمة غير المتخاصمين، إذا جرت عادته قبل الولاية، لعدم التهمة في ذلك. - ويندب له إجابة دعوة غير المتخاصمين، ولو من غير عادة، إذا كانت وليمة عامة، كوليمة العرس، والختان، وقد عمم صاحبها الدعوة، لانتفاء التهمة في ذلك، ولأن فيها تطيب قلوب أصحاب الدعوة، شريطة أن لا يشغله ذلك عن أعمال القضاء. - يجوز للقاضي عيادة المريض، وشهود الجنائز، لأن في ذلك قربة، ولا تهمة فيه. رجوع القاضي عن الاجتهاد الذي قضى به، وما يترتب عليه : إذا قضي القاضي في قضية من القضايا، ثم تغير اجتهاده فيها، فهل ينقض الحكم الأول، أم ينفذ حكمه على ما قضاه، ويكون رجوعه سارياً فيما يجد من القضايا والأحكام؟ في الإجابة على ذلك تفصيل نذكره فيما يلي: 1 - إذا حكم القاضي باجتهاده، ثم بان له أن حكمه كان خلاف نص الكتاب أو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 194 خلاف السنة المتواترة أو الآحاد الصحيحة، أو كان خلاف الإجماع، أو القياس الجلي، وهو ما يقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع، نقول: إذا كان حكمه خلاف أصل من هذه الأصول، وجب نقضه من قبل القاضي نفسه، أو من قبل غيره. ويترتب على ذلك رد ما قضى به، وإعادته إلي ما يوافق الكتاب والسنة، أو الإجماع والقياس، وتصحيح الآثار التي ترتبت على ذلك الحكم. ودليل ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ". (أخرجه البخاري [2550] في البيوع، باب: النجش، تعليقاً ووصله في الصلح باب: إذا اصطلحوا علي صلح جور فالصلح مرود، ومسلم [1718] في الاقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة، ورواه غيرهما عن عائشة رضي الله عنها). والأمثلة على ذلك كثيرة في أقضية الصحابة ومن بعدهم، منها: أكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفاضل بين الأصابع في الدية، لتفاوت منافعها، حتى روي له الخبر في التسوية بينها، فنقض حكمه، ورجع عنه. رواه الخطابي في "المعالم ". ب قضى عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه فيمن رد عبداً بعيب، أنه يرد خراجه معه، فأخبره عروة عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن الخراج بالضمان، فرجع عن حكمه، وقضى بأخذ الخراج من الذي أخذه. رواه الشافعي في مسنده. ت ونقض على رضي الله عنه قضاء شُريح في ابني عم، أحدهما أخ لأم، بأن المال للأخ، متمسكاً بقوله تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (سورة الأنفال: 75} قال له على رضي الله عنه: قال اله تعالي: {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحدٍ منهما السدس}. 2 - أما إذا كان حكمه الأول، إنما بناه على اجتهاد، أو على مقتضي قياس خفي، ثم تغير اجتهاده، فإنه لا ينتقض حكمه الأول، بل ينفذ على ما مضى، ويتغير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 195 الحكم بناء على الاجتهاد الجديد بما سيأتي من أقضية، لأن الظنون المتعادلة، ليس بعضها أولي من بعض، ولو جاز أن ينقض بعضها بعضاً، لما استمر حكم، ولما استقر تشريع، ولشق الأمر على الناس، ومن هنا نشأت القاعدة المعروفة: (لا ينقض الاجتهاد بمثله). ويترتب على ذلك أن الحكم الأول يمضي على حاله ولا يرد، وقد روي عن عمر رضي الله عنه مثل هذا: روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكم بحرمان الأخ الشقيق من الميراث، في المسألة المعروفة بالمشتركة، وهي أن يموت الميت عن زوج وأم وإخوة لأم وأخ شقيق. ومقتضي القواعد أن يأخذ الزوج النصف، والأم السدس، والإخوة لأم الثلث، ولا شيء للأخ الشقيق، لأنه عصبة، ولم يبق له شيء بعد أصحاب الفروض، وهكذا قضى عمر رضي الله عنه أولاً. ثم رجع عن ذلك، وقضي بالتشريك بين الأخ الشقيق والإخوة لأم في الثلث، على أنهم أخوة لأم، وقال رضي الله عنه لما قيل له: قد قضيت بغير هذا: (ذلك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي) ولم ينتقض حكمه الأول. حكم القاضي نافذٌ قضاءَ لا ديانة: إذا قضي القاضي في قضية، بناء على بينة صحيحة شرعاً نفذ حكمه قضاءً وظاهراً، واستحق المحكوم له ما حكم له به القاضي ن فإن كان المدعى صادقاً في دعواه استحق المدعي به، وحل له قضاء وديانة، ظاهراً وباطناً. أما إذا كان المدعى كاذباً، وحكم له القاضي ببينته، فإن هذا الحكم وإن نفذ قضاءٌ وظاهراً وباطناً. أما إذا كان المدعى كاذباً، وحكم له القاضي ببينته فإن الحكم وإن نفذ قضاءٌ، واستحق المدعي والمحكوم له به، إلا أنه ديانة وعند الله عز وجل حكم باطل لا يحل به الحرام، ولا يستحق هذا المدعى ما حكم له به ن وعليه أن يتوب غلي الله تعالى، ويرد الحق إلي صاحبه. ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنما أنا بشرٌ وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون الحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النار ". (رواه البخاري [6748] في الأحكام، باب: موعظة الإمام للخصوم، ورواه أيضا ي غر هذا الباب، ومسلم [1713] في الأقضية، باب: الحكم بالظاهر واللحن بالحجة عن أم سلمه رضي الله عنها). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 196 [ألحن بحجته: أقوم بها، وأقدر عليها] وقد أخذ العلماء من هذا الحديث أحكاماً منها: 1 - إثم من خاصم في باطل ن فاستحق به في الظاهر شيئاً، وما استحقه بهذه الطريقة حرام لا يحل له ديانة عند الله تعالى. 2 - أن من احتال لأمر باطل بوجه من وجوه الحيل، حتى يصير حقاً له في الظاهر ويحكم له هـ، فإنه لا يحل له تناوله في الباطن، ولا يرتفع عنه الإثم بالحكم. 3 - أن المجتهد إذا أخطأ في الحكم، لا يلحقه إثم، بل يؤجر عند الله، وإن كان حكمه هذا لا يحل حراماً في حقيقة الأمر، وعند الله تعالى. جاء في الحديث: " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجرٌ" (رواه الترمذي [1326] في الأحكام، باب: ما جاء في القاضي يصيب ويخطيء، والنسائي [8/ 224] في القضاء، باب: الإصابة في الحكم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه البخاري [6919] في الاعتصام، باب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، ومسلم [1716] في الأقضية، باب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما). ما يترتب على هذه القاعدة (حكم القاضي نافذ قضاء لا ديانة) من المسائل: لقد رتب العلماء على هذه القاعدة أحكاماً كثيرة في أبواب متعددة، نذكر منها بعض المسائل: 1 - إذا ادعى رجل على امرأة أنها زوجته، وأقام البينة، وقضى له القاضي بذلك، وكان المدعى كاذباً، فإنه لا يحل له الاستمتاع بها بذلك الحكم، ويجب على المرأة الامتناع منه، وعدم تمكينه منها. 2 - إذا ادعى رجل مالاً على غيره، وحكم له به القاضي، وكان المدعى كاذباً، فلا يحل له هذا المال، ولا يملكه ديانة، ويجب رده إلي صاحبه. 3 - إذا قضى القاضي لشريك بالشفعة، وكان قد أسقط حقه فيه، ثم أنكر وأقام البينة، فإنه لا يستحق الشفعة ديانة، وإن استحقها قضاءً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 197 انعزال القاضي وعزله أولاً: انعزال القاضي: ينعزل القاضي بنفسه من غير عزل الإمام له إذا اتصف بواحدة من الصفات التالية: أالردة، لأنه بذلك يخرج من الإسلام، ويصبح كافراً، والكافر لا ولاية له على المسلمين، قال الله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (سورة النساء: 141). ب زوال الأهلية، وذلك كأن يعتريه جنون أو إغماء أو عمى أو خرس أو صمم، أو ذهبت أهليه اجتهاده وضبطه للأمور، بنحو غفلة أو نسيان. فإذا انعزل بذلك لم ينفذ حكمه، لفقدان أهليه القضاء في كل ذلك. ومثل ذلك المرض المعجز عن القيام بواجب القضاء. ت الفسق وكذلك لو فسق القاضي فإنه ينعزل ولا ينفذ حكمه لوجود المنافي للولاية، وهذا في غير قاضي الضرورة وهو القاضي الفاسق الذي يعينه سلطان ذو شوكة. وإذا زالت هذه العوارض التي ذكرناها، والأحوال اتي بيناها عن القاضي، لم تعد ولايته، لأنه خرج عن منصبه، ولا يعود إليه إلا بتنصيب جديد، ولأن الشيء إذا بطل لم ينقلب إلي الصحة نفسه. ثانياً: عزل القاضي من قبل الإمام: أويجوز للإمام عزل القاضي إذا ظهر منه خلل لا يقتضي انعزاله: كما إذا كثرت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 198 الشكاوي منه، وقد روى أبو داود في باب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عزل إماماً يصلى بقوم بصق في القبلة، وقال: " لا يصلي بهم بعدها أبداً ". فإذا جاز هذا في إمام الصلاة، جاز هذا في القاضي، بل هو أولي. ب ويجوز للإمام عزله أيضاً إذا وجد من هو أفضل منه تحصيلاً لتلك المزية للمسلمين. ت ويجوز عزله إن كان هناك مثله، أو دونه وكان في عزلة مصلحة للمسلمين: كتسكين فتنة، لما فيه من دفع الضرر عن المسلمين بالقضاء علي الفتنة. ث فإن لم يكن شيء من ذلك حرم عزله، لأن ذلك عبث منهي عنه، لكنه إن فعل ينفذ عزله إن وجد صالح للقضاء مكانه، مراعاة لطاعة الإمام، فإن لم يوجد مكانه من يصلح للقضاء، فإنه لا ينفذ العزل، لشدة الضرر في ذلك على مصالح المسلمين. متى يتم عزل القاضي؟ ألا ينعزل القاضي قبل بلوغه خبر عزله، لعدم عمه بذلك، وإنما يتم عزله حين يبلغه خبر العزل. ب وإذا كتب الإمام إليه: إذا قرأت كتابي فأنت معزول، فقرأه انعزل، وكذلك إذا قرئ عليه، لأنه بكل ذلك قد بلغه خبر العزل، ولا ولاية له بعد العزل. عزل القاضي نفسه : ويجوز للقاضي أن يعزل نفسه، لأنه كالوكيل عن الإمام، والوكيل يصح له أن يعزل نفسه عن الوكالة، وكذلك القاضي. هذا إذا لم يتعين للقضاء، أما إذا تعين للقضاء، ولم يوجد مكانه قاض آخر صالح للقضاء، فإنه لا يجوز له عزل نفسه، ولا ينعزل في هذه الحال، لأن القضاء في الحالة هذه فرض عليه، ولا يجوز له تركه. عدم انعزال القاضي بموت الإمام : وإذا مات الإمام، أو خرج من ولايته، فإن القاضي لا ينعزل، لشدة الضرر، في تعطل القضاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 199 الباب السادس الدّعَاوى والبَيِّنات والشهَادَات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 201 الدّعَاوى والبَيِّنات تعريف الدعاوى : الدعاوَي بفتح الواو، والدعاوي بكسر الواو، جمع دعوى. والدعوى لغة: الطلب. قال الله تعالى: {ولم ما يدعون} (سورة يس: 57) أي: لهم ما يطلبون. والدعوى شرعاً: إخبار عن وجوب حق على الغير عند الحاكم تعريف البيِّنات: البيِّنات: جمع بينة، وهي: الحجة الواضحة، من البيان، وهو الإيضاح والكشف. والبيئة شرعاً: هم الشهود سُمُّوا بذلك لأن بهم يظهر الحق ويتضح. دليل مشروعية الدعاوي والبيِّنات: يستدل على تشريع الدعوى والبينات بالقرآن والسنة. أما القرآن فقول الله عز وجل: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ} (سورة النور: 48). وقوله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ} (سورة آل عمران: 23). وأما الحديث، فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لو يعطي الناس بدعواهم لادعى ناس دماء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 203 رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين على المدعي عليه " (رواه البخاري [4277] في التفسير، باب: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً ومسلم [1711] في الأقضية، باب: اليمين على المدى عليه، عن عبدالله ن عباس رضي الله عنهما). وروي مسلم [138] في الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه، قال: كان بيني وبين رجل أرض باليمن، فخاصمته إلي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " هل لك بينة؟ " فقلت لا. قال " فيمينه ". وفي رواية " شاهداك أو يمينه " وروي الترمذي [1341] في الأحكام، باب: ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته: " البينة على المدعى، واليمين على المدعي عليه ". تعريف المدعي والمدعي عليه والفرق بينهما : المدعى: هو من خالف فوله الظاهر. والمدعى عليه: هو من وافق قوله الظاهر. والفرق بينهما أن المدعي يدعى حقاً على المدعى عليه، وقوله هذا مخالف للظاهر، وهو البراءة، والمدعى عيه ينكر ذلك الحق، والأصل ـ وهو البراءة ـ معه. حكمه كون البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه : الحكمة في ذلك: هي أن جانب المدعى ضعيف، لكون دعواه خلاف الأصل، فكلف الحجة القوية، وهي البينة، وأن جانب المدعى عليه قوي، لأنه متمسك بالأصل، وهو البراءة، فاكتفي منه بالحجة الضعيفة، وهي اليمين. وإنما كانت البينة قوية، واليمين ضعيفة، لأن الحالف متهم في يمينه بالكذب، لأنه يدفع عن نفسه، بخلاف الشاهد، فإنه غير متهم، لأنه يشهد لغيره كما جاء في الحديث الذي تقدم ذكره: " فأقضي له على نحو ما أسمع ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 204 شروط صحة الدعوى : يشترط لصحة كل دعوى أمام القاضي، سواء كانت دعوي دم، أو غيره: كغصب وسرقة وإتلاف ستة شروط: الشرط الأول: أن تكون الدعوى معلومة، وذلك بأن يفصل المدعى ما يدعيه، كأن يقول المدعى: إن فلاناً قتل قريبي عمداً، أو يقول: قتله خطأ وحده أو اشترك مع فلان، فلو أطلق، وقال: هذا قتل قريبي لا تقبل دعواه، لكن يسن للقاضي أن يطلب منه أن يفصل دعواه. وإنما وجب عليه أن يفصل دعواه، لأن الأحكام تختلف باختلاف الحالات، فحكم العمد غير حكم الخطأ مثلاً. الشرط الثاني: أن تكون الدعوى ملزمة، فلا تسمع دعوى هبة مطلقة من غير دعوى الإقباض، كأن يقول المدعى: وهبني فلان مالاً، لأن الهبة لا تلزم إلا بالقبض فلو قال المدعي: وهبني وقبضته بإذن الواهب ـ والهبة تلزم بالقبض ـ فإن الدعوى تسمع عندئذ، ويقبلها القاضي. الشرط الثالث: أن يعين المدعى في دعواه المدعي عليه، واحداً كان أو جمعاً فلو قال عند القاضي: قتل قريبي أحد هؤلاء الثلاثة، لا يقبل القاضي دعواه حتى يعين المدعى عليه، لوجود الإبهام في دعواه من غير تعيين. فلو طلب المدعي من القاضي أن يحلفهم لا يحلفهم القاضي لعدم صحة الدعوي. الشرط الرابع: أن يكون المدعى مكلفاً: أي بالغاً عاقلاً، فلا تسمع دعوى صبي ولا مجنون. الشرط الخامس: أن لا يكون المدعي أو المدعى عليه حربياً، لا أمان له، فإن الحربي لا يستحق قصاصاً ولا غيره، لأن حقوقه مهدورة. الشرط السادس: أن لا تناقض الدعوى دعوى أخري، فلو ادعى على شخص أنه انفرد وحده بالقتل، ثم ادعى على آخر انه شريكه، أو انفرد وحده أيضاً بالقتل، لم تسمع الدعوى الثانية، لما فيها من تكذيب الدعوى الأولي ومناقضتها، إلا إذا صدقه المدعى عليه الثاني، فإنه يؤخذ بإقراره، وتسمع الدعوى عليه، فإذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 205 استوفت الدعوى هذه الشروط كلها صحت وسمعها القاضي، ثم سأل المدى البينة بعد ذلك على صحة دعواه، فإن أثبتها حكم له بمدعاه. ما يتوقف فيه الحكم على الدعوى وما لا يتوقف : أفعال المكلفين من حيث تعلق الأحكام الشرعية بها أربعة أقسام: القسم الأول: أحكام شرعت والمقصود بها مصلحة المجتمع، فحكمها أنها حق خالص لله تعالى، وليس للمكلف فيها خيار، وتنفيذ هذه الأحكام عائد إلي ولي الأمر، ولا يتوقف الحكم فيها على دعوى عند القاضي. ومثالها: 1 - العبادات المحضة كالصلاة والصيام والحج وما تستند إليه هذه العبادات، من الإيمان والإسلام، فإن هذه العبادات إنما قصد بتشريعها إقامة الدين، وإقامته ضروري لنظام المجتمع. 2 - العبادات التي فيها معنى المؤونة، كالزكاة وصدقة الفطر، فإنها عبادة من جهة أن المكلف يتقرب بها إلي الله تعالى، وفيها معنى الضريبة على المال أو النفس من جهة أخري. 3 - الضرائب التي فرضت على الأرض الزراعية، سواء كانت عشرية أو خراجية، فإن المقصود من هذه الضرائب صرفها في مصالح المجتمع. 4 - الضرائب التي فرضت فيما يغنم بالجهاد، أو فيما يوجد في باطن الأرض من الكنوز والمعادن. 5 - أنواع من العقوبات الكاملة، وهو حد الزنى، وحد السرقة، وحد البغاة الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فساداً. 6 - نوع من العقوبات القاصرة، وهي حرمان القاتل من الميراث، وسميت قاصرة، لأنها ليست بعقوبات جسدية، ولا مالية، وإنما هي منع له من حق كان يستحقه لو لم يقتل. 7 - عقوبات فيها معنى العبادة: ككفارة اليمين والظهار والقتل الخطأ، فإن فيها معنى العبادة، لأنها تؤدي بما هو عبادة من صوم وصدقة وتحرير رقبة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 206 فهذه الأنواع حق خالص لله تعالى، وإنما كان تشريعها لتحقيق مصالح الناس العامة، فلا يملك المكلف أن يسقط منها شيئاً، لان المكلف لا يملك أن يسقط إلا حق نفسه، وهذه ليست له، وإنما هي من حقوق الله تعالى، ولا يتوقف الحكم فيها على دعوى من المكلف أمام القضاء، كما أسلفنا. القسم الثاني: أحكام شرعت وكان المقصود بها مصلحة المجتمع والمكلف معاً، غير أن مصلحة المجتمع فيها أظهر، فحق الله فيها غالب. وحكم هذا القسم، كحكم ما هو حق خالص لله تعالى، لا يملك المكلف إسقاطه، ولا يتوقف الحكم فيه على دعوي أمام القضاء. القسم الثالث: أحكام شرعت، وكان المقصود بها مصلحة المكلف خاصة، فحكمها حق خالص لمكلف، مثال ذلك تضمين من أتلف مالاً بمثله أو قيمته، وهذا حق خالص لصاحب المال. وحبس العين المرهونة حق خالص للمرتهن. واقتضاء الدين حق خالص للدائن. فالشارع الحكيم أثبت هذه الحقوق لأصحابها، وجعل لهم الخيرة في أمرها، فإن شاؤوا استوفوها، وإن شاؤوا أسقطوها ويتوقف الحكم فيها على دعوى عند القاضي، وليس للقاضي أن يتبرع بإقامة الدعوى نيابة عنهم بغير دعواهم. القسم الرابع: أحكام شرعت وكان المقصود بها مصلحة المكلف والمجتمع غير أن مصلحة المكلف فيها أظهر وأغلب. وحكم هذا القسم كحكم القسم الثالث، وهو ما كان حقاً خالصاً للمكلف، ومثاله القصاص من القاتل عمداً، وحدٌ القذف من القاذف، فلا بد لاستيفائها والحكم بهما من إقامة دعوى عند القاضي. يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى، في متن المنهاج: (تشترط الدعوى عند قاض في عقوبة كقصاص وقذف، فلولي الدم أن يعفو عن القصاص، وله أن يسامح بالدية. وكذلك للمقذوف أو المقذوفة أن يسقط حقه في الحد ويسامح به). وبعض العلماء يجعل حد القذف مما غلب فيه حق الله تعالى، فلا يتوقف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 207 فيه الحكم على دعوى، ولا يملك المقذوف أو المقذوفة حق إسقاطه والعفو عن القاذف إذا ثبت القذف عند القاضي لا يشترط لإقامة حده دعوى عنده. بيان أن البينة علي المدعى واليمين على من أنكر : قلنا: إن البينة إنما هي الشهود وسموا بذلك لأن الحق يستبين بشهادتهم ويظهر، وإنما يكلف بإقامة البينة المدعى، الذي يدعي حقاً على غيره ليثبت دعواه، وإنما جعلت البينة عليه لأن جانبه ضعيف، إذ إنه يدعى خلاف الأصل، إذ الأصل في الناس براءة ذممهم حتى تثبت إدانتهم. لذلك كلف المدعى بالبينة، وهي حجته في ثبوت حقه. واليمين وهو الحلف بالله تعالى، أو بصفة من صفاته، وقد جعله الدين على المدعى عليه، ينفي به الدعوى عن نفسه، وإنما كلف المدعى عله باليمين، لأن جانبه قوي، إذ هو مؤيد بالبراءة الأصلية: كما قلنا، فاكتفي منه باليمين، وهو حجة ضعيفة. ودليل هذا التوزيع بين المدعى والمدعى عليه، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " البينة على المدعى واليمين علي من أنكر ". (رواه البيهقي) [8/ 123] في القسامة. وقد سبق حديث البخاري [4277] ومسلم [1711] عن ابن عباس رضي الله عنهما: " ... ولكن اليمين على المدعى عليه ". وحديث مسلم [138] عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: " البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه ". وقد مر تخريج هذه الأحاديث. فإذا أقام المدعى البينة على دعواه، حكم له القاضي، وليس له أن يطلب من المدعى عليه أن يحلف على نفي الدعوى، وليس للمدعي عليه أن يطلب من القاضي أن يحلف المدعى بعد إقامة البينة، لأن في ذلك تكليف المدعى أن يقيم حجة بعد حجة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 208 عجز المدعي عن إقامة البينة : إذا عجز المدعى أن يقيم البينة على ما يدعيه، بأن لم يكن له بينة، أو أن الشهود ماتوا مثلاً، فإن القاضي يطلب من المدعى عليه أن يحلف على نفي ما يدعيه المدعى، فإن حلف حكم القاضي ببراءته. امتناع المدعى عليه من حلف اليمين : إذا لم يكن للمدعى بينة، وامتنع المدعى عليه من اليمين، ردت اليمين على المدعى، فيطلب منه القاضي، أن يحلف على مدعاه، فإذا حلف استوجب ما يدعيه وحكم له به القاضي عملاً بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد رد اليمين إلي المدعى. روي الحاكم [4/ 100] عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد اليمين على طالب الحق. حكم يمين الرد كالإقرار : ويمين الرد، وهي ـ كما قلنا ـ يمين المدعي بعد نكول خصمه، كإقرار الخصم، لا كالبينة، لأنه قد توصل باليمين بعد نكول المدعى عليه إلي الحق، فأشبه إقراره به، فيجب الحق للمدعى بعد فراغه من اليمين من غير افتقار إلي حكم كالإقرار، ولا تسمع بعدها حجة بمسقط، أو إبراء، لتكذيبه لها بنكوله عن اليمين، لأن نكوله كالإقرار، كما مر. امتناع المدعي عن اليمين : إذا امتنع المدعى عن اليمين بعد إذ ردها إليه القاضي ولا عذر له سقط حقه، لإعراضه عن اليمين. ويسن للقاضي أن يبين حكم النكول للجاهل له، فيقول له: إن نكلت عن اليمين حلف المدعى وأخذ منك الحق، أو يقول للمدعى إن امتنعت عن يمين الرد سقط حقك، فإن لم يبين لهما وحكم لمجرد النكول نفذ حكمه، وكان المدعى أو المدعى عليه مقصراً بترك البحث عن حكم النكول. سكوت المدعى عليه : إذا أصر المدعي عليه على السكوت عن جواب الدعوى لغير عذر، جعل كمنكر للمدعى به، وجعل أيضاً ناكلاً عن اليمين، وترد اليمين على المدعى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 209 بيان النكول : النكول لغة: مأخوذ من نكل عن العدو، وعن اليمين إذا جبن. والنكول شرعاً: أن يقول المدعى عليه: أنا ناكل، أو يقول له القاضي: احلف فيقول: لا أحلف، أو يصر على السكوت، كما مر. إذا ادعى اثنان شيئا ً: إذا ادعى شخصان شيئاً، كأرض مثلاً، فادعى كل واحد منهما أنها له، ولا بينة لأحدهما، فإن كانت الأرض في يد أحدهما، فالقول قول صاحب اليد بيمينه، فيحلف على أنها له، ويستحقها، عملاً بالأصل، واستصحاب الحال، فإن وجودها بيده يرجح أنها ملكه، حيث لا بينة تخالفه، لأن الأصل أن لا تدخل في يديه إلا بسبب مشروع، وإن كانت في أيديهما، ولا بينة كما قلنا لأحدهما، تحالفا، وجعلت الأرض بينهما. ومعنى تحالفا: أي حلف كل منهما على نفي أن تكون الأرض ملكاً للآخر، ودليل ذلك ما رواه أبو داود [3613] عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: أن رجلين ادعيا بعيراً أو دابة إلي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ليست لواحد منهما بينة، فجعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما، ورواه الحاكم أيضاً [4/ 95] وقال: هذا حديث صحيح. البينات وأنواعها: لقد سبق تعريف البينات، ودليل مشروعيتها، في أول بحث الدعاوي والبينات. والبينات أنواع: فقد تكون البينة شاهدين ذكرين، وقد تكون رجلاً وامرأتين، وقد تكون شاهداً ويميناً، وقد تكون أربع نسوة، وقد تكون أربعة جال، وسنفصل هذا في بحث الشهادات . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 210 الشهادات تعريف الشهادات : الشهادات جمع شهادة، من الشهود بمعني الحضور. والشهادة لغة: الخبر القاطع. والشهادة شرعاً: إخبار عن شيء بلفظ خاص. دليل مشروعية الشهادة : الشهادة مشروعة بنص القرآن والسنة، وإجماع الأمة. أما القرآن فقول الله عز وجل: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} (سورة البقرة: 282) وقوله تبارك وتعالى: {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} (سورة البقرة: 283). وأما السنة، فما رواه مسلم [138] في الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " شاهداك أو يمينه ". وأما الإجماع، فهو منعقد علي مشروعية الشهادة، واستحبابها، ولم يخالف بذلك أحد من العلماء. حكمة تشريع الشهادة : والحكمة من تشريع الشهادة صيانة الحقوق، وإثباتها، فلو لم تشرع الشهادة لأمكن أن يضيع كثير من الحقوق، ويتعذر إثباتها لأصحابها، وهذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 211 ينافي غرض الإسلام وحرصه على أن يصل كل إنسان إلي حقه، من غير نزاع ولا صراع، فكان تشريع الشهادة تلبية إذاً لحاجة مقصودة، ومصلحة أكيدة. اختلاف الشهادات من حيث عدد الشهود : الحقوق المشهود بها نوعان: حق الله، وحق العباد. النوع الأول: حق الله تعالي : وهذا النوع من الحقوق لا يقبل فيه شهادة النساء، بل لا بد فيه من شهادة الرجال، لأن شهادة النساء لا تخلو من شبهة النسيان والخطأ، وهذه حقوق يؤخذ فيها بالاحتياط. وحقوق الله هذه ثلاثة أضرب: الضرب الأول: لا يقبل فيه أقل من أربعة شهود، وهو الزنى. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (سورة النور: 4) فقد رتب سبحانه وتعالى الجلد على عدم الإتيان بأربعة شهداء، فدل بذلك على أن الزني لا يثبت بأقل منهم. وقال تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ} (سورة النساء: 15). وقال عز من قائل، في حادثة الإفك: {َوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (سورة النور: 13). دل ذلك على أن نصاب الشهادة في الزني أربعة من الذكور. وبيّن هذا حديث مسلم [1498] في كتاب اللعان، أن سعد بن عبادة رضي الله عنه، قال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم "، قال: كلا والذي بعثك بالحق، إن كنت لأعاجلنه بالسيف قبل ذلك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اسمعوا إلي ما يقول سيدكم، إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني ". وقال ذلك عندما نزل: {والذين يرمون المحصنات .... } ثم نزلت آيات اللعان فسحة للأزواج. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 212 الحكمة من وجود أربعة شهداء في الزنى : الحكمة من طلب أربعة شهداء على ثبوت حد الزني، أن الزني لما كان يقوم بين اثنين: الرجل والمرأة، صار كالشهادة على فعلين، فاحتاج إلي أربعة من الشهود. وكذلك فإن الزني من أغلظ الفواحش، فغلظت الشهادة فيه ليكون أستر على الناس. وإنما تقبل شهادة الشهود في الزني، إذا قالوا: حانت منا التفاته فرأينا ذلك كاملاً، أو قالوا: إنا تعمدنا النظر لأداء الشهادة. الضرب الثاني: وهذا يقبل فيه رجلان اثنان، وهو ما سوى الزني من حقوق الله عز وجل، مثل الردة، وقطع الطريق، وقتل النفس، والسرقة، وشرب الخمر. ودليل ذلك عموم قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} (سورة البقرة: 282). وقوله عز وجل: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (سورة الطلاق: 2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " شاهداك أو يمينه ". (رواه مسلم: [138]). وقول الزهري: (مضت السنة بأنه لا يجوز شهادة النساء في الحدود). الضرب الثالث: وهذا يقبل فيه شهادة رجل واحد، وهو هلال رمضان بالنسبة للصوم، وذلك احتياطاً له. إذ الخطأ في فعل العبادة أقل مفسدة من الخطأ في تركها، ولذلك لا يقبل في هلال شوال أقل من شاهدين رجلين. روي أبو داود [2342] في الصوم، باب: شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان، عن أبي عمر رضي الله عنهما، قال: تراءي الناس الهلال، فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني رايته فصامه وأمر الناس بصيامه. النوع الثاني: حق العباد : وهذا النوع أيضاً على ثلاثة أضرب: الضرب الأول: لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين، وهو مالا يقصد منه المال، ويكون مما يطلع عليه الرجال: كالطلاق، والرجعة، والإسلام والردة، والجرح، والتعديل، والوقف والوصية، ونحو ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 213 ودليل ذلك أن الشريعة نصت علي شهادة الرجلين في النكاح والطلاق والوصية، وقيس عليها ما لم يذكر فيها نص، مما هو مثلها من كل حق لآدمي لا يقصد به المال. قال تعالى، في الطلاق: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (سورة الطلاق: 2) وقال عز وجل في الوصية: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} (سورة المائدة: 106). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الزواج: " لا نكاح إلا بولي، وشاهدي عدل ". (رواه الشافعي في مسنده، وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: إنه اصح شيء في الباب ـ انظر: مغني المحتاج 3/ 155 ـ ورواه ابن حبان [1247] وقال: لا يصح في ذكر الشاهدين غيره). وقال الزهري رحمه الله: مضت السنّة بأن لا يجوز شهادة النساء في الحدود ولا في النكاح والطلاق. الضرب الثاني: يقبل فيه شاهدان رجلان، أو رجل وامرأتان، أو شاهد ويمين المدعى، وهو كل حق كان القصد منه المال، من عين أو دين أو منفعة، كالبيع، والإقالة، والحوالة، والضمان، والإجارة، والرهن، والشفعة، ونحوهما. ودليل ذلك قول الله عز وجل: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} (سورة البقرة: 282). وروي مسلم [1712] في الأقضية، باب: القضاء باليمين والشاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمين وشاهد. وفي مسند الشافعي: قال عمرو ـ أي ابن دينار راويه عن ابن عباس ـ: في الأموال. [الأم: 6/ 156 هامش]. وقيس ما ذكر غيرها من كل حق فيه مال. الضرب الثالث: يقبل فيه شهادة رجلين، أو شهادة رجل وامرأتين، أو أربع نسوة، وذلك في كل حق للآدمي لا يطلع عليه الرجال غالباً، وذلك مثل الولادة، والرضاعة، والبكارة، وعيوب النساء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 214 ودليل ذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن الزهري رحمه الله تعالى، قال: مضت السنة بأنه يجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن، من ولادة النساء وعيوبهن. [الإقناع: 2/ 297]. ومثل هذا القول من التابعي حجة، لأنه في حكم الحديث المرفوع، إذ لا يقال مثله من قبيل الرأي والاجتهاد. وقيس بما ذكر غيره مما يشاركه في معناه وضابطه، واشترط العدد لأن الشارع جعل شهادة المرأتين بشهادة رجل واحد، وإذا قبلت شهادة النساء منفردات في شؤونهن، فقبولها مع اشتراك رجل، وامرأتين أولي، لأن الأصل في الشهادة الرجال، وكذلك إذا انفرد الرجال بالشهادة. تنبيه: قال العلماء: لا تقبل شهادة على فعل من الأفعال، كالزنى وشرب الخمر ونحوهما، إلا بالإبصار والمعاينة لذلك الفعل مع فاعله، لأنه بذلك يصل به إلي العلم اليقين، فلا يكفي فيه السماع من الغير، قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (سورة الإسراء: 36). إلا أنه في الحقوق اكتفي فيها بالنظر المؤكد، لتعذر اليقين فيها، والحاجة تدعو إلي إثباتها، كالعدالة والإعسار، فلا سبيل لمعرفة ذلك يقيناً، فاكتفي فيه بغلبة الظن. شروط الشهادة : الشهادة قسمان: شهادة تحمل، وشهادة أداء. أولاً: شروط تحمل الشهادة: لا يشترط عند تحمل الشهادة إلا شرط واحد، ألا وهو التمييز، لأنه به يعي الإنسان ما شاهده، ويحفظ ما يراه. ثانياً: شروط أداء الشهادة: يشترط في الشاهد عند أداء الشهادة الشروط التالية: 1 - الإسلام، فلا تقبل شهادة كافر على مسلم، ولا على كافر. ودليل ذلك قول الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 215 تعالي: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ} (سورة البقرة: 282) والكافر ليس من رجالنا. وقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (سورة الطلاق: 2) والكافر ليس بعدل، كما أنه ليس منا أيضاً، لأنه لا يؤمن كذبه، وأيضا فالشهادة ولاية، ولا ولاية للكافر. 2 - البلوغ، فلا تقبل شهادة الصبي، ولو مميزاً، لأن الله عز وجل قال: {من رجالكم} والصبي لم يبلغ مبلغ الرجال، ولأنه لا يؤمن كذبه، لأنه غير مكلف. 3 - العقل، فلا تقبل الشهادة من مجنون، لعدم معرفته بما يقول، وللإجماع أيضاً على عدم جواز شهادته. 4 - الحرية، فلا تقبل شهادة العبد، لأن الشهادة فيها معنى الولاية، والعبد مسلوب الولاية. 5 - العدالة، فلا تقبل شهادة الفاسق، لقوله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (سورة الحجرات: 6)، ولقوله عز وجل: {واستشهدوا ذوي عدل منكم} (سورة الطلاق: 2)، وقوله تبارك وتعالى: {ممن ترضون من الشهداء} (سورة البقرة: 282) وغير العدل ممن لا يرضي ولا يؤمن كذبه. 6 - أن يكون غير متهم في شهادته، لقول الله عز وجل: {ذلكم اقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدني أن لا ترتابوا} (سورة البقرة: 282) والريبة حاصلة بالمتهم. وبناء على ذلك لا تقبل شهادة عدو على عدوه، ولا شهادة والد لولده، ولا والد لوالده، لتهمة التحامل على العدو، والمحاباة للوالد، أو الولد. روي أبو داود [3600] في الأقضية، باب: من ترد شهادته، عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تجوز شهادة خائن، ولا خائنة، ولا زان ولا زانية، ولا ذي غمر على أخيه ". وفي رواية عند الترمذي [2299] في الشهادات، باب: ما جاء فيمن لا تجوز عن عائشة رضي الله عنها: " ولا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 216 ظنين في ولاء ولا قرابة". وعند مالك [2/ 720] في الأقضية، باب: ما جاء في الشهادات، عن أنس رضي الله عنه بلاغاً: " لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ". [الغمر: الحقد والغل والشحناء. الظنين: المتهم] 7 - أن يكون ناطقاً، فلا تقبل شهادة الأخرس، وإن كانت إشارته مفهمة، احتياطياً في إثبات الحقوق. 8 - أن يكون الشاهد يقظاً، فلا تقبل شهادة المغفل لاحتمال الخطأ والغلط في شهادته شروط العدالة في الشهادة : للعدالة في الشاهد خمسة شروط: 1 - أن يكون مجتنباً للكبائر. 2 - غير مصر على القليل من الصغائر. 3 - سليم السريرة. 4 - مأموناً عند الغضب. 5 - محافظاً على مروءة مثله. فالكبائر من الذنوب: هي كل ما ورد فيه وعيد شديد في كتاب أو سنة، ودل ارتكابه على تهاون في الدين: كشرب الخمر، والتعامل بالربا، وقذف المؤمنات بالزنى: قال الله تعالي: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (سورة النور: 4). والصغائر: هي ما لم ينطبق عليه تعريف الكبيرة، كالنظر المحرم، وهجر المسلم فوق ثلاثة أيام، ونحو ذلك. ومعني سليم السريرة: أي سليم العقيدة، فلا تقبل شهادة من يعتقد جواز سب الصحابة رضي الله عنهم. ومعنى مأموناً عند الغضب، أي لا يتجاوز الحد في تصرفه إذا غضب، ولا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 217 يقع في الباطل والزور، إذا ما استثير. ومعني مروءة مثله: أي متخلقاً بأخلاق أمثاله من أبناء عصره، ممن يراعون آداب الشرع ومناهجه في الزمان والمكان، ويرجع في هذا غالباً إلي العرف. فإذا قلت مروءة الشخص، قل حياؤه، ومن قل حياؤه قال ما شاء. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " (أخرجه البخاري). [3296] في الأنبياء. وكذلك لا تقبل شهادة من يجر لنفسه نفعاً بشهادته، أو يدفع عنها ضرراً: مثال الأول: أن يشهد الوارث أن مورثه مثلاً قد مات قبل أن يندمل جرحه، وغرضه من هذه الشهادة أخذ الدية، فلا تقبل. ومثال الثاني: أن تشهد العاقلة مثلاً في قتل الخطأ أن الشهود الذين شهدوا على القتل كانوا فسقة، حتى لا يتحملوا الدية. والأصل في رد هذه الشهادات وجود التهمة. شهادة الأعمى : الأصل في شهادة الأعمى أنها لا تجوز، لأنه لا يستطيع أن يميز بين الخصوم، ولكن العلماء جوزوا شهادته في خمسة مواضع: 1 - الموت. 2 - النسب. 3 - الملك المطلق: وذلك كأن يدعي شخص ملك شيء، ولا منازع له فيه، فيشهد الأعمى،: أن هذا الشيء مملوك، دون أن ينسبه لمالك معين. وإنما قبلت شهادة الأعمى في هذه الأمور، لأنها مما يثبت بتسامع الناس لها وتناقلها بينهم، واستفاضتها فيهم، ولا تفتقر إلي مشاهدة وسماع خاص، لأنها تدوم مدة طويلة، يعسر فيها إقامة البينة على ابتدائها لذهاب من حضرها في غالب الأحيان. 4 - الترجمة: أي بيان كلام الخصوم والشهود وتوضيحها، لأن ذلك يعتمد على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 218 اللفظ لا على الرؤية. 5 - على المضبوط: أي على الممسوك، وذلك: كأن يقول أحد في أذن الأعمى قولاً من إقرار، أو طلاق، ونحوه، فيمسكه ويذهب به إلي القاضي ويشهد عليه بما قاله في أذنه. حكم الرجوع عن الشهادة وما يترتب على ذلك : أولاً: حكم الرجوع عن الشهادة: الرجوع عن الشهادة حرام، إن كان الشهود صادقين في شهادتهم، لأن في رجوعهم تضييعاً للحقوق، ويعتبر رجوعهم كتماناً للشهادة. والله عز وجل يقول: {َلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (سورة البقرة: 283) أما إذا كان الشهود كاذبين فرجوعهم عن الشهادة واجب، لأنها شهادة زور، وهي كبيرة من الكبائر. ثانياً: ما يترتب على رجوعهم عن الشهادة: وإذا رجع الشهود عن الشهادة التي كانوا قد شهدوا بها، فإما أن يكون رجوعهم عنها قبل الحكم، أو بعده. وإذا كان رجوعهم عنها بعد الحكم، فإما أن يكون ذلك الرجوع قبل استيفاء الحقوق من مال أو عقوبة، أو بعد استيفائها، فهذه حالات ثلاث نذكرها فيما يلي: أ) رجوعهم عن الشهادة قبل الحكم : فإن كان رجوعهم عن الشهادة قبل حكم الحاكم به امتنع الحكم بشهادتهم، سواء شهدوا شهادة غيرها، أم لم يشهدوا، وسواء كانت شهادتهم مال، أو بعقوبة، لأن الحاكم لا يدري: اصدقوا في الأولي، أو في الثانية، أم صدقوا في الشهادة أو في الرجوع، فينتفي ظن الصدق بشهادتهم، وأيضاً فإن كذبهم ثابت لا محالة، إما في الشهادة الأولي، أو في الشهادة الثانية، وفي الشهادة أو في الرجوع عنها ولا يجوز الحكم بشهادة الكاذب. وإن رجعوا عن شهادة في زني حدوا حد القذف، لأن شهادتهم قذف للمقذوف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 219 ب) رجوعهم عن الشهادة بعد الحكم وقبل استيفاء الحق : وإن كان رجوع الشهود عن الشهادة بعد حكم القاضي بها، ولكن ذلك الرجوع كان قبل استيفاء الحق ممن هو عليه: ـ فإن كان المشهود به مالاً نفذ الحكم به، واستوفي المال ممن هو عليه، لأن القضاء قد تم، وليس الحكم بالمال مما يسقط بالشبهة، حتى يتأثر بالرجوع، فينفذ الحكم، ويستوفي المال، مادام الحكم قد صدر قبل رجوعهم. ـ وإن كان الحق المشهود به عقوبة، سواء كانت لله تعالي: كالزني، أم كانت لآدمي: كالقذف، فلا تستوفي العقوبة، مادام الشهود قد رجعوا عن شهادتهم قبل استيفائها، لأنها تسقط بالشبهة، والرجوع عن الشهادة شبهة. روي الترمذي [1424] في الحدود، باب: ما جاء في درء الحدود، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الأمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ". ج) رجوعهم عن الشهادة بعد الحكم وبعد استيفاء الحق : وإن كان رجوع الشهود عن الشهادة بعد الحكم بها، وبعد الاستيفاء للمحكوم به، لم ينقض الحكم، لتأكد الأمر، ولجواز صدقهم في الشهادة، وكذبهم في الرجوع، أو العكس ذلك. وليس أحدهما بأولي من الآخر، فلا ينقض الحكم بأمر مختلف ومشكوك فيه يترتب على رجوعهم هذا: ـ أنه إن كان الحق المستوفي من المشهود عليه عقوبة: كأن كان قصاصاً في نفس أو طرف، أو قتلاً في ردة أو رجماً في زني، ومات المشهود عليه، ثم رجعوا عن الشهادة، وقالوا: تعمدنا الشهادة، ولا نعلم حال المشهود عليه، أو قالوا: تعمدنا الكذب في الشهادة، فعليهم القصاص، أو دية مغلظة في مالهم موزعة على عدد رؤوسهم، لتسببهم إلي إهلاك المشهود عليه. ـ ولو شهدوا بطلاق بائن، أو لعان، وفرق القاضي بين الزوجين، فرجعا عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 220 الشهادة دام الفراق، لأن قولهما في الرجوع محتمل الكذب والصدق، فلا يرد الحكم بقول محتمل، وعلي هؤلاء الشهود الراجعين عن الشهادة مهر مثل للزوج، لأنه بدل ما فوتوه عليه. ـ ولو رجع شهود شهدوا على مال بعد الحكم واستيفاء المال غرموا المال الذي استوفي من المحكوم عليه، لأنه بدل ما فوتوه عليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 221 اليمين ، وآدابه، وكيفيته، وحكم النكول تعريف اليمين : اليمين في اللغة، تطلق على اليد اليمنى، وإنما أطلقت اليمين على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالوا، يأخذ كل واحد منهم بيمين صاحبه. وسميت اليد اليمنى بهذا الاسم لوفور قوتها. قال الله تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} (سورة الحاقة: 45) أي بالقوة. واليمين شرعاً: توثيق أمر غير ثابت المضمون ـ ماضياً أو مستقبلاً، نفياً أو إثباتاً ـ بذكر اسم من أسماء الله عز وجل، أو صفة من صفاته. ما يصح به اليمين : واليمين لا تصح ولا تنعقد إلا بذات الله عز وجل، أو صفة من صفاته. روي البخاري [6270] في الإيمان والنذور، باب: النهى عن الحلف بغير الله تعالى عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطاب، وهو يسير في ركب، يحلف بأبيه: فقال: " ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت. فاليمين إذاً لا يصح ولا ينعقد إلا بما ذكر، وهو بغير ذلك معصية يأثم الحالف بها. روي الترمذي [1535] في الأيمان والنذور، باب: ما جاء في كراهية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 222 الحلف بغير الله، عن سعد بن عبيدة، أن ابن عمر رضي الله عنهما سمع رجلاً يقول: لا والكعبة، فقال له: لا تحلف بغير الله، فإن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال: هذا على التغليظ. آداب اليمين : لليمين آداب ينبغي مراعاتها، منها ما هو واجب، ومنها ما هو دون ذلك، ومن هذه الآداب: 1 - تعظيم القاضي لأمر اليمين، حيث يستحب له أن يعظ الحالف قبل الحلف، ويعظم له حرمة اليمين، ويخوفه من اليمين الفاجرة، أي الكاذبة، ويقرأ عليه من الآيات والأخبار ما فيه عظة ومزدجر. 2 - الحلف حال الصدق، فإذا توجهت اليمين إلي المدعى عليه، وهو يعلم من نفسه، أنه لو حلف كان صادقاً، فإنه يباح له أن يحلف، ولا شيء عليه من إثم ولا غيره، لأن الله عز وجل شرع اليمين، ولا يشرع ما فيه إثم، بل إن حلفه ربما كأن أولي من تركه، وذلك لأمرين: الأمر الأول: حفظ حقه من الضياع، وقد نهى الشرع عن إضاعته. الأمر الثاني: تخليص أخيه الظالم من ظلمه، وأكله مال غيره بغير حق، وهذا من باب النصح النصر له، وذلك بكفه عن ظلمه. وهذا من باب النصح والنصر له، وذلك بكفه عن ظلمه. ويؤيد هذا ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أشار على رجل أن يحلف، ويأخذ حقه، وقد حلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي رضي الله عنه على نخل، ثم وهبه له. 3 - التورع عن الحلف حال الكذب، إذ الحلف الكاذب الذي يقتطع به حق الغير، ويؤكل به مال الناس بالباطل جريمة نكراء، وإثم كبير، فإذا كان المدعي عليه يعلم من نفسه الكذب، فينبغي له ن ويجب عليه أن يترك اليمين، ويتورع عنه، ويعترف بالحق على نفسه، ويرده إلي صاحبه، ولا يوقع نفسه في الإثم، ومعصية الله تعالي، والحرمان من رحمته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 223 قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (سورة آل عمران: 77). [لا خلاق لهم: لا نصيب لهم من الثوب في الآخرة، ولا يزكيهم: ولا يطهرهم من رجس الذنوب]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان ". (رواه البخاري [6299] في الإيمان، باب: قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} ومسلم [138] في الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه) [يمين صبر: أصل الصبر: الحبس، وقتل فلان صبراً: أي حبساً على القتل، ويمين الصبر: أن يلزم الحاكم الخصم اليمين حتى يحلف. يقتطع: يأخذ بغير حق]. وروي البخاري [6298] في الأيمان والنذور: باب: اليمين الغموس، عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس". [اليمين الغموس: اليمين التي يتعمد صاحبها فيها الكذب، سميت غموساً، لأن صاحبها يستحق أن يغمس في النار]. كيفية اليمين : وكيفية الحلف، أن الحالف إما أن يحلف على فعل نفسه، أو على فعل غيره: - فإن أراد أن يحلف على فعل نفسه، فليحلف على البت والقطع، إثباتاً كان أو نفياً، لأنه يعلم حال نفسه، ويطلع عليها، فيقول في البيع والشراء مثلاً: ولله لقعد بعت بكذا، أو يقول في النفي: والله ما بعت بكذا. - وإن أراد أن يحلف على فعل غيره: فإن كان في الإثبات: كالبيع والشراء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 224 والغصب ونحوها، فليحلف أيضاً على البت والقطع، لأنه يسهل معرفة ذلك والوقوف عليه فيقول: والله لقد باع بكذا، أو اشتري بكذا، أو والله لقد اغتصب كذا. وإن كان يحلف على النفي، فليحلف على نفي العلم، لأن النفي المطلق يعسر الوقوف عليه، فيقول مثلاً: والله ما علمت أن فلاناً سدد ما عليه. حكم النكول عن اليمين : مر معنا بيان النكول، وقلنا: هو أن يمتنع المدعى عليه من الحلف بعد أن يعرضها عليه القاضي، وهنا نبين حكم النكول في اليمين. قال الشيخ عز الدين رحمه الله تعالى: إذا كان المدعى كاذباً في دعواه، وكان المدعى به ـ أي الذي يدعيه المدعى ـ مما لا يباح بالإباحة: كالدماء والأبضاع: فإن علم المدعى عليه أن خصمه لا يحلف على ما يدعيه، إن هو نكل عن اليمين، فإنه يتخير إن شاء حلف، وإن شاء نكل. وإن علم أو غلب على ظنه أنه يحلف، وجب عليه أن يحلف حتى لا تستحل الدماء والأبضاع باليمين الكاذبة. فإن كان المدعى به مما يباح بالإباحة كالأموال، وعلم المدعى عليه أو ظن أن المدعي لا يحلف إذا نكل فيتخير أيضاً، وإن علم أو غلب على ظنه أنه يحلف فالذي أراه وجوب الحلف دفعاً لمفسدة كذب الخصم. أما ما يترتب علي امتناع المدعى عليه عن الحلف وحلف المدعى فقد مر في بحث البينة: البينة على المدعى واليمين على من أنكر، وهو أنه يرد اليمين على المدعى، فإن أبي سقطت الدعوى. والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 225 الباب السابع القسمة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 227 القسمة تعريف القسمة : القسمة: لغة مأخوذة، من قسم الشيء يقسمه، إذا فصله إلي أجزاء. والقسمة شرعاً: تمييز بعض الأنصباء عن بعض تبعاً لمصلحة الشركاء، وطبقاً لشروط مخصوصة، وكيفيات معينة. مشروعية القسمة : القسمة مشروعة نص الكتاب والسنة، ودليل الاجتهاد والنظر. أما الكتاب، فقول الله عز وجل: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} (سورة النساء: 8). فقد علق الأمر بإكرام اليتيم وأولي القربى على حضورهم قسمة المال، فدل ذلك على مشروعيتها، وعدم وجود ما يمنع منها، إذا جرت على أصولها المشروعة. وأما السنة، فقد روي البخاري [2138] في الشفعة: باب: الشفعة فيما لم يقسم، ومسلم [1608] في المساقاة، باب: الشفعة، عن جابر رضي الله عنه قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. فتعليق حق الشفعة على عدم القسمة فرع عن مشروعيتها، ودليل على جوازها، كما دلت الآية المذكورة سابقاً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 229 وأما دليل النظر والاجتهاد، فهو أن الشركة لما كانت عقداً جائزاً من الشريكين، أي لكل منهما فسخها متى شاء كان لابد للقسمة أن تكون مشروعة استجابة لرغبة كل منهما، إذ لا معنى لانفساخ الشركة، إذا لم يكن سبيل إلي القسمة، ولأن في القسمة مصلحة صاحب الحق عندما يرى مصلحته في ذلك. أنواع القسمة : تنحصر القسمة المشروعة في ثلاثة أنواع، وذلك بالنظر إلي طبيعة المال الذي تعلقت به القسمة. النوع الأول: القسمة بالأجزاء ـ وتسمى أيضاً: قسمة المتشابهات ـ: وهي التي تتعلق بمال لا تحتاج قسمته إلي رد، ولا إلي تقويم، ولا إلي التجاء لسبيل من سبل التسوية بين الأقسام: كالمثليات من حبوب، ورداهم، وأقمشة، ونحوها، وكأرض مستوية القيمة والأجزاء. ويمتاز هذا النوع من القسمة بسهولة تقسيمه، وإن تفاوتت الحصص. النوع الثاني: قسمة التعديل: وهي تطلق على تقسيم كل متمول تختلف قيمة أجزائه: كأرض تختلف قيمة أجزائها بسبب اختلافها في قوة الإنبات، وخصوبة التربة، أو القرب من الماء، أو نحو ذلك، بحيث تكون قيمة ثلثها كقيمة ثلثيها مثلاً. ويمتاز هذا النوع من القسمة بضرورة ملاحظة القيمة دون الاقتصار على المساحة أو الشكل أو الكيل وحده. النوع الثالث: القسمة بالرد: وهي أن تتعلق بمتمول يمتاز ببعض أجزائه بشيء غير قابل للقسمة، ولا يوجد نظيره في الطرف الآخر، أو الأجزاء الأخرى، كأن يكون في أحد جانبي الأرض بئر أو شجر، وليس في الجان الآخر ما يعادله، إلا بواسطة ضميمة خارجية إليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 230 ويمتاز هذا النوع بضرورة إدخال الجبر على التقسيم فيه ن كي تتحقق العدالة في القسمة. فإذا تأملت في هذه الأنواع الثلاثة للقسمة أدركت أن بينها قدراً مشتركاً من الشبه، وهو أنها جميعاً تتعلق بأموال قابلة للقسمة من حيث المبدأ، أي لا ضرر في قسمتها، وإن اختلفت هذه الأنواع عن بعضها في طريق القسمة: أي يقع ضرر بالمالك بسبب قسمته: كالجوهرة، والثوب، والرحى، والبئر، والسيارة، ونحو ذلك. فلا يدخل في القسمة المشروعة، ولا يجبر الطرف الممتنع عن القسمة على القسمة، لأن فيه إضاعة للمال، وإضراراً بالمالك، بل يحرم التقسيم وإن رضي الطرفان، إذا كان فيه نقص بين للمنفعة، أو إهدار لها، لأنه من التبذير الذي نص الله عز وجل على وجوب اجتنابه. أحكام القسمة : للقسمة أحكام نذكرها فيما يلي: أولاً: شأن القسمة أن يتولاها الشركاء، أو من يرتضونه، أو من يحكمونه عند الاختلاف، أو من ينصبه الحاكم. فأما في الحالتين الأوليين، فلا يشترط أكثر من التراضي وموافقة الأطراف،. وأما في الحالتين الأخيرتين، فيشترط في القاسم أن يكون: ذكراً، مسلماً، بالغاً، عاقلاً، حراً، عدلاً، عالماً، بالحساب والمساحة، وذلك لأن القاسم له ولاية على من يقسم لهم، لأن قسمته ملزمة، ومن لم تتوفر فيه هذه الشروط، فليس من أهل الولاية. وأما معرفة الحساب والمساحة، وما يحتاج إليه القاسم حسب نوع المقسوم، فلأن ذلك آلة القسمة، كما أن معرفة أحكام الشرع آلة القضاء، فالقاسم في الحالتين الأخيرتين، يتولى إذا منصباً سواء جاء عن طريق الحاكم، أو عن طريق الشركاء، ولا بد لتوليه هذا المنصب من توفر شروط الكفاءة فيه، وهي ما ذكرنا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 231 أما في حالة ارتضاء الشركاء بمن يقسم بينهم، فإنه ليس أكثر من وكيل عنهم، ولهم أن يوكلوا عنهم في ذلك من يشاؤون، إذا كانت شروط الوكالة كالعقل والبلوغ ونحوها متوفرة في القاسم. ثانياً: كل ما عظم الضرر في قسمته، لا يجبر الطرف الممتنع على قبول قسمته، ولا يجب الحاكم الأطراف، وإن اتفقوا ـ في تعيين خبير يتولى القسمة بينهم. فإن تولوا هم بأنفسهم التقسيم بناء على رضي الجميع، جاز لهم ذلك إن لم تبطل منفعة المقسوم بالكلية، وليس للحاكم أن يمنعهم من القسمة، ولم يجز لهم ذلك إن بطلت بسبب تلك القسمة منفعة المقسوم بطلاناً تاماً، وللحاكم أن يمنعهم من المضي في تلك القسمة: ككسر سيف، وتجزيء سيارة، ونحو ذلك. ثالثاً: كلا ما لا ضرر في قسمته من الأنواع الثلاثة التي ذكرناها يستجاب فيها لرأي طالب القسمة، فيجبر الممتنع من الشركاء عليها، إذ لا ضرر عليه فيها، وفي الاستجابة لتعنته إضرار بشركائه الآخرين، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا ضرر ولا ضرار ". (رواه مالك مرسلاً [2/ 745] في الاقضية، باب: القضاء في المرفق، وغيره، بأسانيد يقوي بعضها بعضاً). فإن كان المال من النوع الأول (وهو قسمة الأجزاء) عدلت السهام حسب نصيب كل من الشركاء، كيلا في المكيل، ووزناً في الموزون، وذرعاً في المذروع كالأرض، فإن استوت الحصص: كأرباع، مثلاً، أو نصفين، وجب اعتماد القرعة في توزيع هذه الحصص على أصحابها. وإن كانت القسمة من النوع الثاني (وهو قسمة التعديل) كأرض تختلف قيمة أجزائها حسب تفاوت منافعها، أو اختلاف خصائصها: كبستان بعضه نخل، وبعضه عنب، أو بعضه أقوي في الإثبات والخصوبة من بعض وجب التعديل في أجزائها، بحيث تتساوي قيمة الأقسام إذا كانت متساوية: كأرباع وأثلاث، أو بحيث يكون لكل جزء من القيمة ما يتفق مع نسبته إلي الكل. فالذي يملك السدس يجتزأ له من الأرض ما يساوي سدس مجموع القيمة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 232 والذي يملك الربع يجتزأ منها ما يساوي ربع مجموع القيمة، بقطع النظر عن مساحة أجزاء الأرض، ثم تعين الحصص لأربابها، إذا كانت متساوية عن طريق الاقتراع. وإن كانت القسمة من النوع الثالث (وهو قسمة الرد) وهو ما كان في أحد أجزائه شيء له قيمة ماليه خاصة به ولا يمكن قسمته: كأرض في بعض جوانبها بئر أو دار وجب جعل البئر، أو الدار ضمن أحد الأنصبة، ورد نسبة حصص الآخرين من قيمتها عليهم، فإن كانت الأرض بين اثنين مثلاً أخذ البئر أحدهما وأعاد نصف قيمتها إلي شريكه، وإنما يأخذ البئر، أو نحوها من خرجت له القرعة. رابعاً: لا بد من التراضي بعد تحقيق ما سلف ذكره من الأسباب، وبعد الاعتماد على وسيلة الاقتراع فإن لم يقع التراضي لم تصح القسمة. خامساً: قسمة الأجزاء (وهو النوع الأول) من قبيل الإفراز، أما النوعان الآخران (وهما قسمة التعديل، وقسمة الرد) فبيع على الصحيح، لنقابل المال بالمال فيه وقيل: هو بيع في القدر الذي يتم فيه التعديل والرد. وعلى كل فهو بيع ضمني وليس بيعاً صريحاً، فهو لا يتوقف في صحته على إيجاب وقبول نحوهما. سادساً: كل قسمة تتضمن تقويماً ـ كقسمة الرد ـ لابد لصحتها من الاعتماد على قاسمين اثنين. إذ هي تتضمن شهادة تعيين قيمة لشيء متمول ومثل هذه الشهادة لا بد فيها من شاهدين اثنين. أما ما لا يعتمد منها على تقوم، فيكتفي فيه بقاسم واحد، سواء كان من قبل الحاكم أو من قبل الشريكين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 233 الباب الثامن الإقرار الجزء: 8 ¦ الصفحة: 235 الإقرار تعريف الإقرار : الإقرار لغة: الإثبات، مأخوذ من: قر الشيء، إذا ثبت. والإقرار شرعاً: إخبار عن حق ثابت على المخبر. ويسمى الإقرار اعترافاً. دليل مشروعية الإقرار : الإقرار مشروع، وقد ثبتت مشروعيته، بنص الكتاب، والسنة وإجماع الأُمة أما الكتاب فقول الله عز وجل: {َأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (سورة آل عمران: 81). [إصري: عهدي] وقوله تبارك وتعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} (سورة النساء: 135) [قوامين بالقسط: دائمي القيام بالعدل]. قال العلماء: شهادة الإنسان على نفسه، معناها الإقرار. وأما في السنة فما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اغد يا أنيس إلي امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها " فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول اله - صلى الله عليه وسلم - فرُجمت (رواه البخاري [2575] في الشروط، باب: الشروط التي لا تحل في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 237 الحدود، ومسلم [1697] في الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما). أما الإجماع، فقد نقل عن العلماء أنه منعقد على مشروعيته، وأن المقر مؤاخذ بإقراره. حكمة تشريع الإقرار : والحكمة من تشريع الإقرار، وجود الحاجة إليه، وما أكثر ما تشرع الأحكام تلبية لمقتضي حاجة الناس إليها. فقد يكون على المرء حق لا بينه لصاحبه عليه، فلو لم يكن الإقرار مشروعاً، ولا حجة على المقر لضاع كثير من هذه الحقوق، والإسلام ـ كما هو معلوم ـ حريص على إثبات الحقوق إلي أصحابها، وإيصالها إليهم ـ كما هو معلوم ـ حريص على إثبات الحقوق إلي أصحابها، وإيصالها إليهم. وهو دائماً يسعى إلي حفظ الأموال وصيانتها من الضياع، فكان طبيعياً إذا أن يشرع الإقرار ويعتد به. وكذلك إن كانت الحقوق غير أموال، سواء كانت الله، أو لآدمي، فإنها تظهر بالإقرار، وتتضح، فيؤخذ حق الآدمي، وتؤدى حقوق الله عز وجل. فقد اعترف ماعز بن مالك رضي الله عنه أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالزنى، واقر به وطلب من الرسول أن يطهره منه ويقيم الحد عليه أداء الحق الله تعالى، فأمر - صلى الله عليه وسلم - برجمه حتى مات. وكذلك أقرت امرأة من غامد بالزني، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت. جاء هذا في البخاري [2575] ومسلم [1695]. وهذا يدل على مشروعية الإقرار، وبيان الحكمة من تشريع وانه حجة يؤخذ به المقر ولو كان الحق لله تعالى. المقر به من الحقوق وحكم الرجوع فيه : المقر به من الحقوق نوعان: حق الله عز وجل، وحق العباد. النوع الأول: حق الله تعالى : حق الله تعالى، مثل حد الزني، وحد السرقة، وحد الردة، وشرب الخمر، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 238 والزكاة والكفارة ونحوها، فهذه الحقوق إنما شرعت إقامة للدين، وتحقيق مصالح المجتمع. وحكم حق الله عز وجل أنه تنفع فيه التوبة فيما بين العبد وربه، ويصح الرجوع عنه بعد الإقرار فيه، لأن مبنى حق الله عز وجل على الدرء والستر. ودليل ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض لماعز بن مالك بالرجوع عندما أقر على نفسه بالزني فقال له " لعلك قبلت، أو غمزت ". ومعنى هذا الكلام الإشارة على تلقينه الرجوع عن الإقرار بالزني، واعتذاره بشبهة يتعلق بها. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ". (أخرجه الترمذي [1424] في الحدود، باب: ما جاء في درء الحدود). ولا شك أن الرجوع عن الإقرار شبهة تسقط الحدود. ويندب للقاضي أن يعرض للمقر بالرجوع، ولا يقول له: ارجع، فيكون أمراً له بالكذب. فلو رجع المقر بعد إقراره بحقوق بالله وجل، صح رجوعه، وزال عنه حكم ما كان أقر به. يدل على ذلك، ما جاء في قصة رجم ماعز بن مالك رضي الله عنه، أنه لما وجد مس الحجارة فر، فأدركوه ورجموه، وأخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " هلا تركتموه ". (رواه البخاري [4670]، ومسلم [1691] في نفس الأبواب السابقة، كما رواه الترمذي [1428] في الحدود، باب: ما جاء في درء الحد عن المعترف إذا رجع) النوع الثاني: حق العباد : وهذا الحق لا يصح الرجوع فيه عن الإقرار، لتعلق حق المقر له بالحق المقر به إلا إذا كذبه المقر له به، فحينئذ يصح له الرجوع به. فلو أنه بدين لزيد، أو إتلاف، أو قذف، فإنه لا يصح الرجوع عنه، ويلزمه ما أقر به، إلا كذبه المقر له، كما قلنا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 239 شروط المقر : للمقر شروط حتى يصح إقراره أمام القضاء، ويعتد به. وهذه الشروط هي: 1 - البلوغ، فلا يصح إقرار صبي دون البلوغ، ولو كان مميزاً، لامتناع تصرفه، ولرفع القلم عنه. 2 - العقل، فلا يحص إقرار مجنون أو مغمي عليه، أو من زال عقله بعذر، لامتناع تصرفهم، وعدم تمييزهم، ولرفع القلم عنهم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل ". (رواه أبو داود [4403]، وغيره، عن على رضي الله عنه). 3 - الاختيار، فلا يعتد بإقرار المكره بما أكره عليه. روي ابن ماجه [2044] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " " إن الله تجاوز لأمتي عما توسوس به صدورها، ما لم تعمل به أو تتكلم به، وما استكرهوا عليه " أي أنه سبحانه وتعالى أسقط التكليف عن المكره فيما استكره عليه، فلا يصح إقراره فيما أكره على الإقرار به، بل إن الله تعالى الغي اعتبار الإقرار بالكفر حال الإكراه مع طمأنينة القلب، فقال تعالى: {إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان} (سورة النحل: 106) فلا اعتبار للإقرار بغيره من باب أولي. 4 - أن لا يكون محجوراً عليه، فإن كان محجوراً عليه فإنه لا يصح إقراره بدين في معاملة أسند وجوب الدين إليها قبل الحجر أو بعده، وكذلك لا يصح إقراره بإتلاف مال قبل الحجر، أو بعده، لأن المحجور عليه ممنوع من التصرف بماله. ويصح إقرار المحجور عليه بالحد والقصاص، لعدم تعلقها بالمال، ولبعد التهمة، فإذا كان الحد قطع سرقة قطع، ولا يلزمه المال المسروق الذي اقر به. شروط المقر له : يشترط في المقر له الشروط التالية: 1 - أن يكون المقر له معيناً نوع تعيين بحيث يتوقع منه الدعوى والطلب. فلو قال: لإنسان أو لواحد من بني آدم على ألف، لم يصح إقراره لأنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 240 إقرار لمبهم، والإبهام مبطل للإقرار. ولو قال: لأحد هؤلاء الثلاثة على ألف صح إقراره لوجود التعيين ولو بالجملة، فإذا قل واحد منهم أنا المراد بالإقرار صدق بيمينه إن لم يكذبه المقر، لاحتمال أن يكون هو المراد، ويمينه يؤكد ذلك، أضف إلي ذلك عدم تكذيب المقر له. 2 - أن يكون المقر له فيه أهلية استحقاق المقر به، لأن الإقرار حينئذ يصادف محله، وصدقه محتمل. فلو قال: لهذه الدابة على ألف لم يصح إقراره، لأن الدابة ليست أهلاً للاستحقاق، فإنها غير قابلة للملك في الحال ولا في المآل. 3 - الا يكذب المقر له المقر، فلو كذبه في إقراره بطل إقراراه، وبقي المال المقر به في يده، أن يده تشعر بأنه مالك للمال ولو ظاهراً، والإقرار الطارئ عارضه التكذيب فسقط. شروط الصيغة : يشترط في صيغة الإقرار لفظ صريح أو كناية تشعر بالتزام، وتدل عليه، وفي معنى اللفظ الصريح الكتابة مع النية، وإشارة الأخرس المفهمة. ـ فلو قال: لزيد على ألف، أو له في ذمتي ألف، كان ذلك إقراراً، وحمل على الدين الملتزم بالذمة، لأنه المتبادر من الصيغة عرفاً. ـ ولو قال: لزيد معي أو عندي ألف كان ذلك أيضاً إقراراً، وحمل على العين، لأنهما ظرفان، فيحمل كل منهما عند الإطلاق على عين له بيده. ـ ولو قال له إنسان: لي عليك ألف ليرة فقال: بلى، أو نعم، أو صدقت، فإقرار لأن هذه الألفاظ موضوعة للتصديق. ـ ولو قال له: أبرأتني منه أو قضيته له، فهو إقرار أيضاً، لأنه قد اعترف بشغل ذمته بالحق، ثم ادعى الإسقاط والأصل عدمه. شروط المقر به : 1 - يشترط في الحق المقر به أن لا يكون ملكاً للمقر حين يقر به، لأن الإقرار ليس إزالة عن الملك، وإنما هو إخبار عن كونه مملوكاً للمقر له. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 241 فلو قال: ثوبي لزيد، أو ديني الذي لي على زيد لعمر لم يصح هذا الإقرار، لأن إضافة هذه الحقوق لنفسه تقتضي أنه مالكها، فينا في ذلك إقراره بها لغيره. 2 - أن يكون الحق المقر به في يد المقر، ليسلمه بالإقرار إلي المقر له، لأنه إذا لم يكن في يده كان إقراره إما دعوى عن الغير بغير إذنه، أو شهادة بغير لفظها فلا تقبل. فلو أقر بحق ولم يكن في يده، ثم صار في يده عمل بمقتضي الإقرار لوجود شرط العمل فيسلم للمقر له. الإقرار بمجهول : يصح الإقرار بالمجهول، لأن الإقرار إخبار عن حق سابق، والشيء يخبر عنه مفصلاً تارة، ومجملاً تارة أخري. - فإذا قال: لزيد على مال صح إقراره، ورجع إليه في تفسيره، ويقبل تفسيره بكل ما يتمول وإن قل كدرهم مثلاً، لأن اسم المال صادق عليه. - وإذا أقر بمجهول وامتنع من تفسيره حبس حتى يبين قدر الحق الذي أقر به ن لأن البيان واجب عليه، فإذا امتنع منه حبس كالممتنع من أداء الدين. الاستثناء في الإقرار وحكمه : يصح الاستثناء في الإقرار، لكثرة وروده في القرآن الكريم وغيره من السنة النبوية، وكلام العرب في نثرهم وأشعارهم. فلو قال: على ألف إلا مائة صح إقراراه ولزمه تسعمائة. شروط صحة الاستثناء في الإقرار : ويشترط في الاستثناء شروط حتى يكون صحيحاً منها: أ- أن يتصل المستثني المستثنى منه في الكلام، بحيث يعد معه كلاماً واحداً عرفاً، فلا يضر الفصل اليسير بسكتة تنفس أو تذكر. أما لو طال الفصل ن وانقطع الكلام الأول عن الثاني، بحيث لم يعد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 242 عرفا متصلاً به فإن الاستثناء لا يصح، ويثبت كامل الحق المقر به قبل الاستثناء. ب ـ أن لا يستغرق المستثني منه، كأن يقول: له على خمسة إلا أربعة فإن الاستثناء يصح ويلزمه واحد فقط. أما إذا قال: له على خمسة إلا خمسة، فاستثناؤه باطل، وتلزمه الخمسة كاملة، لأنه قد أقر بها. الاستثناء المنقطع : ويصح الاستثناء من غير جنس المستثني منه، ويسمى استثناءً منقطعاً، لوروده في القرآن الكريم وغيره، ومنه قوله تعالي: {أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} (سورة الشعراء: 75 - 77). فلو قال: له على ألف ليرة إلا ثوباًَ صح إقراره، ويجب أن يبين بثوب قيمته أقل من ألف ليرة، حتى لا يستغرق المستثني المستثنى منه، فإن فسره بثوب قيمته ألف بطل تفسيره والاستثناء، ولزمه ألف ليرة. الاستثناء من معين : يصح أيضاً الاستثناء من معين، كأن يقول: لزيد هذه الدار إلا هذا البيت، لأنه إقرار وإخراج بلفظ متصل، فهو كالتخصيص. الإقرار في حال المرض : يصح الإقرار في حال المرض، ولو مرض موت، ويكون حكمه حكم الإقرار في حالة الصحة، فلو اقر في صحته بدين لإنسان، وفي مرضه بدين لآخر صح إقراره بدين المرض، ولم يقدم عليه دين الصحة. وكذلك يقبل إقراره في مرض موته لوارثه كالأجنبي، لأن الظاهر أنه محق، لأنه انتهي إلي حالة يصدق فيها الكاذب ويتوب فيها الفاجر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 243 الباب التاسع الحجر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 245 الحجر تعريف الحجر : الحجر في اللغة: المنع. والحجر في اصطلاح الشريعة الإسلامية: هو المنع من التصرفات المالية لسبب يخل بها شرعاً. والأسباب التي تخل بالتصرفات فتستوجب الحجر كثيرة ومتنوعة، ويتنوع الحجر تبعاً لها. فمن أنواعه الحجر على المفلس لحق الغرماء، والحجر على المريض مرض الموت لحق الورثة، والحجر على الصغير والمجنون محافظة على مالهما، والحجر على الراهن في التصرف في المرهون لحق المرتهن. وأكثر هذه الأنواع موزعة في أبواب فقهية مختلفة، كباب الرهن، والوصية، والردة، وسنتحدث في هذا الباب عن أهم هذه الأنواع، ونحيل علم الأنواع الأخرى إلي الأبواب التي تذكر فيها، وسوف تجد أحكامها في هذه السلسلة الفقهية. دليل مشروع الحجر : الحجر بالمعني الذي ذكرناه مشروع، ومقرر في الفقه، ودليل تشريعه القرآن والسنة والإجماع. أما القرآن فقول الله عز وجل: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً} (سورة النساء: 5). [السفهاء: جمع سفيه، وهو الذي لا يحسن التصرف بالمال ن ويضعه في غير مواضعه، أموالكم: نسب المال إلي الجميع، لأنه مال الله تعالى، وللأمة حق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 247 فيه وإن كان ملكاً خالصاً للفرد. قياماً: فيه قيام معايشكم وقضاء مصالحكم]. ووجه الاستدلال بالآية أن الله عز وجل نهى الأولياء أن يضعوا الأموال بين أيدي السفهاء، وهذا هو الحجر عليهم. وقال تبارك وتعالى: {فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} (سورة البقرة: 281). [الذي عليه الحق: المستدين. ضعيفاً: لصغر، أو اختلال عقل. لا يستطيع أن يمل: لا يحسن الإملاء لعقدة في لسانه ونحوه، والإملاء هنا: أن يقرأ على الكاتب عقد الدين ليكتبه] ووجه الاستدلال بالآية: أن الله تعالى أخبر أن هؤلاء ينوب عنهم أولياؤهم في التصرف وهو معنى الحجر عليهم. وقال عز وجل أيضاً: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (سورة النساء: 6). [ابتلوا: اختبروا. اليتامى: جمع يتيم، وهو الصغير الذي مات والده. بلغوا النكاح: أصبحوا أهلاً للزواج، والمراد به البلوغ. آنستم: لمستم وعرفتم. رشداً: سلامة عقل وحسن تصرف وصلاح دين] دلت الآية على أن الذي لم يلمس منه الرشد، لا يجوز أن يدفع له ماله، بل يحجر عليه حتى يرشد. وأما دليل السنة، فما رواه عبدالرحمن بن كعب عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حجر على معاذ ماله، وباعه على دين كان عليه. رواه البيهقي [6/ 48] والحاكم [4/ 101] في الأحكام وصححه. وروي ابن عمر رضي الله عنه، قال: عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني. (أخرجه البخاري [3871] في المغازي، باب: غزوة الخندق، ومسلم [1868] في الإمارة، باب: بيان سن البلوغ). وروي مالك [1456] في الوصية عن عمر رضي الله عنه قال: ألا إن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 248 الأسيفع ـ أسيفع جُهينة ـ رضي من دينه وأمانته: أن يقال: سبق الحاج، فأدان معرضاً عن الوفاء، فأصبح وقد رين به ن فمن كان له عنده شيء فليحضر غداً، فإنا: بائعوا ماله وقاسموه بين غرمائه، ثم إياكم والدين، فإن أوله هم، وآخره حزن. [فادان: استدان. رين به: تراكمت عليه الديون. غرماؤه: جمع غريم وهو صاحب الدين]. وأما الإجماع فمنعقد على مشروعية الحجر وجوازه، من غير نكير من أحد من العلماء، وكيف ينكره أحد، وقد دلت عليه النصوص الثابتة في القرآن والسنة. الحكمة من تشريع الحجر : الحجر عمل سلبي احتياطي، يستهدف تحقيق مصلحة المحجور عليه إن كان طفلاً أو سفيهاً أو نحوهما، ويستهدف مصلحة غيره من ذوي الحقوق إذا كان مفلساً، ذلك لأن الطفل والسفيه ومن في حكمهما كالمجنون، لا تسقط أهلية التملك والاحتياز في حقهم، وإنما ثمرة الملكة ما يتبعها من سياسة التصرف كالبيع والشراء والإيجار، ونحو ذلك، وهي لا تستقيم إلا على رشد كامل ونباهه تامة في شؤون المال والدنيا، فكان لا بد من كف يد هؤلاء الذين لم يتكامل فيهم الرشد والوعي الدنيوي عن التصرف بأموالهم، على أن ينوب عنهم في ذلك من توفرت لديهم هذه البصيرة الدنيوية ريثما يبلغون أشدهم، ويصبحون قادرين على إصلاح أمرهم. أما المفلس الذي تراكمت عليه الديون، فيغلب عليه أن يتناسى ـ في غمرة الضيق الذي ينتابه ـ حقوق الآخرين، فيتصرف بماله الباقي عنده على نحو يضر أصحاب الحقوق ويفوت عليهم حقوقهم، أو ما يمكن أن يحصلوا منها، فكان في الحجر عليه عن طريق الرقابة العادلة ما يضمن توفير حق الغرماء مع عدم الإضرار به، مهما أمكن ذلك. أنواع الحجر : قلنا: إن الحجر أنواع مختلفة، ولكن الكثير من هذه الأنواع منتثر في أماكنه من أبواب متفرقة في الفقه، ولذا فلن نتعرض لها ههنا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 249 أما الأنواع الرئيسية التي سوف نتناولها في هذا الباب، فهي الأنواع التالية: 1 - الحجر على الصبي ومن في حكمه، كالسفيه والمجنون. 2 - الحجر على المفلس. 3 - الحجر على المريض المخوف عليه الموت. وسندرس فيما يلي كل نوع من هذه الأنواع الثلاثة على حدة مع إيضاح الأحكام المتعلقة به. أحكام الحجر على الصبي ومن هو في حكمه : ونقصد بمن كان في حكم الصبي كلاً من السفيه والمجنون. فأما الصبي: فهو من لم يحتلم، أو يبلغ سن الحلم، وهو خمس عشرة سنة. وأما السفيه: فهو من لم يكن رشيداً، بحيث لا يقيم مصالح دينه ودنياه: بأن يكون مبذراً لا يبالي أن يغبن غبناً فاحشاً في معاملاته، أو أن يرمي ماله في غير طائل، أو أن ينفقه في المحرمات التي لا وجه لها. وأما المجنون: فهو فاقد التمييز سواء كان بشكل جزئي أو كلي، إذا كان ذلك يسرى بالاضطراب إلي تصرفاته المالية. أهم الأحكام المتعلقة بالحجر على هؤلاء : هناك أحكام تعلق بالحجر على هؤلاء الأصناف الثلاثة من الناس نجملها فيما يلي: أولاً: لا يصح تصرف الصبي ولا السفيه ولا المجنون في بيع أو شراء أو رهن، أو هبه أو نكاح ونحوها، أي لا يصح أن يكون أحدهم طرفاً مستقلاً في أي عقد من العقود، إذ هو ثمرة الحجر الذي دل عليه نص الكتاب الكريم والسنة المشرفة. وترتب علي هذا الحكم: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 250 أأنه لو اشتري أو اقترض مثلاً، وقبض المال، ثم تلف تحت يديه بآفة، أو أتلفه بتقصير منه، لم يضمنه المحجور عليه، ولم يكن للبائع، او لمقرض حق في تضمينه ومطالبته، سواء علم حاله أم لم يعلم، لأن عليه ان يتحرى لمصلحته، ولأنه هو المفرط في حق نفسه، إذ هو الذي سلط المحجور عليه على إتلافه بإقباضه إياه. نعم يضمن المحجور عليه في ثلاث حالات: الحالة الأولي: أن يقبضه ممن هو مثله في عدم الرشد. الحالة الثانية: أن يقبضه من رشيد، ولكن بدون إذنه. الحالة الثالثة: أن يطالبه البائع، أو المقرض بالتسليم، فلا يستجيب المحجور عليه ثم يتلف المال المقبوض بعد ذلك. ففي هذه الحالات الثلاث يضمن المحجور عليه، أي يثبت في ذمته قيمة المتلف، لعدم وقوع أي تقصير من جانب المقبض. ب ـ وترتب على ذلك أيضاً أنه لا يعتد بشيء من إقراراته المتعلقة بالمال، سواء كانت عائدة إلي ما قبل الحجر، أو بعده، كإقراره بدين، أو إتلاف مال، إذ إن المحجور عليه بما ذكرنا لا يتمتع بأهلية تمكنه من أن يتعلق به أي التزامات ماليه، بخلاف ما إذا اقر بموجب حد أو قصاص، فهو إقرار صحيح تترتب عليه أحكامه، لأنه غير مستوجب لأي التزام مالي من حيث الأصل. نعم إذا أقر بعد رشده بأي التزام مالي كان قد لزمه أثناء الحجر صح إقراره قطعاً، وكلف بدفعه. ثانياً: يعتد بجميع التصرفات التي لا تتعلق بالمال، ولا تترتب عليها ذمم مالية، من الصبي ومن في حكمه، وهو السفيه والمجنون. فتصح عباداتهم على اختلافها، إلا المجنون المطبق فيما يشترط فيه التمييز. ولكن ليس لهؤلاء أن يتولوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 251 تفريق زكاة أموالهم بأنفسهم، إذ هو تصرف مالي لا ينفذ إلا ممن كان ذا أهلية ورشد، وإنما يتولي ذلك عنه وليه، أو يأذن له وليه، ويعين له الأشخاص الذين ينبغي أن يدفع زكاته إليهم، على أن يدفع المحجور عليه إليهم بحضرة الولي وإشرافه، خشية أن يتلف المال إذا خلا به. ثالثاً: إذا كان مصدر السفه هو الصغر، أي بحيث لم يكن مسبوقاً برشد، ترتبت الأحكام المذكورة عليه بدون الحاجة إلي أدعاء، ولا إلي حكم قاض بذلك، فإذا ارتفع السفه، وتحقق الرشد، وانتهي الحجر بموجب ذلك، ثم عاد السفه لسبب عارض، لم تعد هذه الأحكام المذكورة إلا بموجب حكم يصدره القاضي، ومثل السفه في ذلك الجنون. رابعاً: ولي الصبي ومن في حكمه، ممن لم يطرأ موجب الحجر عليه عرضاً، بل نشأ معه منذ صغره، وهو الأب، ثم الجد للأب وإن علا، ثم وصيهما، بشرط العدالة في كل منهما، فإن فسق الولي بعد أن كان عدلاً نزع القاضي الولاية منه، واختار لها من يراه، أو باشرها بذاته، وذلك لما رواه الترمذي [1102] في النكاح، باب: ما جاء لا نكاح إلا بولي، بسند حسن، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " السلطان ولي من لا ولي له ". أما من طرأ عليه السفه أو الجنون بعد رشد، فإن وليه القاضي، أو من ينيبه عنه، إذ هو الذي يملك ضرب الحجر عليه، فكان حق الولاية له. خامساً: يجب على الولي أيا كان أن يتصرف بمال المحجور عليه حسب ما تقتضيه المصلحة، بأن يحفظه عن التلف، وينميه بالوسائل الممكنة، التي لا مقامرة فيها، فيتاجر به، أو يبتاع به عقاراً، أو يسخره في غير ذلك من وجوه التنمية التي يغلب فيها احتمال الغبطة والربح، وذلك لقوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} (سورة النساء: 5). ومكان الاستدلال في الآية: قوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} فقد عدى الفعل (بفي) ولم يعده (بمن) تنبيهاً إلي أن على الولي أن ينفق على موليه من ريع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 252 ماله، لا من عينه بحيث يبقي ماله بذلك أشبه ببيت يستقر فيه، لا يأتي عليه نقصان ولا تلف. فإن راعي الولي وجه الغبطة والحيطة في تنمية مال موليه، فخسر المال لسبب لا بد له فيه، لم يضمن، ويصدق الولي بيمينه، إن وقع خلاف بينه وبين المحجور عليه بعد الرشد. وهل يجوز للولي أن يأخذ أجراً على رعايته لمال المحجور؟ الصحيح أنه إن كان غنياً لم يجز له ذلك، ,إن كان فقيراً، وشغلته هذه الرعاية عن كسبه والتفرغ لشأن نفسه، جاز له أن يأخذ أجراً على ذلك بالمعروف. وإنما يعين القدر الذي يقضي به العرف الحاكم أو من يقوم مقامه. ودليل هذا الحكم قول الله عز وجل: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً} (سورة النساء: 6). أحكام الحجر على المفلس : المفلس في اللغة، مأخوذ من الفلس، وهو أقل النقود قيمة، ويقصد به من تحولت أمواله إلي فلوس، كناية عن افتقاره. أما المفلس في اصطلاح الشريعة الإسلامية، فهو من تراكمت عليه ديون حالة زائدة على ماله. وللحجر على المفلس أحكام مختلفة نجمل أهمها فيما يلي: أولاً: لا يجوز الحجر علي المفلس إلا إذا زادت الديون التي عليه عن الأموال التي يملكها، فإذا تساويا، أو زادت ممتلكاته عليها لم يجز الحجر عليه، سواء كانت نفقاته من هذه الأموال ذاتها، أم من كسب يومي يكتسبه، لأن الأدلة التي دلت على مشروعية الحجر على المفلس خاصة بما إذا زادت الديون التي عليه على ممتلكاته، ومنها حديث حجره عليه الصلاة والسلام على معاذ بن جبل السابق ذكره، عند عرض الأدلة. ثانياً: لا يحجر على المفلس إلا بسؤال الغرماء ذلك، فإن اختلفوا فيما بينهم استجيب لرغبة طالبي الحجر يشرط أن تزيد ديونهم بمفردها على مجموع ماله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 253 ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حجر على معاذ طلب غرماؤه ذلك، ولأن الحجر إنما هو لمصلحة الغرماء، فإذا لم يصرحوا بطلب الحجر، فإن ذلك يعني أنه لم يتبين لهم مصلحة في الحجر، فلا يضار المفلس بذلك. ثالثاً: إذا أوقع الحاكم الحجر على المفلس، تحولت حقوق الغرماء من التعلق بذمته إلي التعلق بأمواله: أي إن شأنها يصبح كشأن العين المرهونة التي يتعلق بها حق المرتهن. ولذلك يعطيهم الشارع حق التسلط على هذه الأموال، باستيفاء حقوقهم وديونهم منها. رابعاً: يسن للحاكم أن يشهر قرار الحجر على المفلس حتى يتقلي الناس من التعامل المطلق معه. خامساً: يجيب على الحاكم أو من ينيبه عنه أن يبيع ماله، ثم يقسم القيمة بين الغرماء حسب دين كل منهم، ويسن أن يبادر بذلك قدر الإمكان، وعليه أن يتبع مصلحة المحجور عليه في طريقة البيع وكيفيته، كأن يقدم أولاً بيع ما يسرع فساده، كالطعام ونحوه، ثم المنقول، ثم العقار، وكأن يبيع كل شيء في سوقه وثمنه الذي يستحقه ويسن أن يكون ذلك بمشهد من المحجور عليه، وأصحاب الحقوق. ويجب أن يبقي له الحاكم حاجاته، وحاجات أهله الضرورية بالمستوي اللائق به، من ثياب وقوت ومسكن، فإن كان يمتع نفسه من ذلك ما يزيد على اللائق به نزل به إلي الحد الذي يرى أنه اللائق به سادساً: إذا قسم المال أو ثمنه على الغارمين، كل منهم بنسبة وجب عليهم أن يمهلوه فيما بقي لهم عليه، إلي أن تحل عقدة عسرته، وذلك عملاً بقول الله عز وجل: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة: 280)، ولما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: أصيب رجل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها، فكثرت ديونه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تصدقوا عليه "، فتصدق الناس عليه، ولم يبلغ ذلك وفاء دينه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 254 فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك ". ويترتب على ذلك أن المحجور عليه لا يطالب بعد تقسيم ماله بين الغرماء، أن يكتسب لحسابهم، أو أن يؤجر نفسه لهم، كي يوفي بقية حقوقهم عليه. تصرف المفلس بعد الحجر عليه : يترتب على الحجر على المفلس، وما يتعلق به من الأحكام التي ذكرناها، كف يد المحجور عليه عن التصرفات المالية المختلفة، إذ تنحسر علاقته عن أمواله عد الحجر، لتحل محلها حقوق الغارمين، وإن كانت ملكيته باقية. ويمكن أن نجمل لك خلاصة الأحكام المتعلقة بتصرفات المفلس بعد الحجر عليه فيما يلي: ألا يصح من المفلس المحجور عليه أن تصرف مالي: كالبيع والرهن والهبة والإيجار، أذا كان متعلقاً بعين ماله وهو القول الصحيح في مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، والرأي المقابل له ـ وهو ضعيف ـ يرى أنه تصرف موقوف، فإن تبين أنه قد زاد عن ديون الغارمين نفذ، وإلا فلا. ب ـ يصح من المفلس المحجور عليه جميع التصرفات المالية إذا كانت متعلقة بذمته، كما لو باع على وجه السلم، أو باع موصوفاً بالذمة، إذ لا ضرر على الغرماء في ذلك. ج ـ يصح منه جميع التصرفات التي لا تتعلق بشيء من أمواله العينية ن سواء تعلق بالذمة، كما ذكرنا في الفقرة (ب) السابقة، أو لم يتعلق بمال قط، فيصح نكاحه وطلاقه، وخلعه، واقتصاصه ممن ثبت له عليه حق القصاص، أو إسقاطه ذلك، سواء تحول عنه إلى الدية، أو عفا عن الدية أيضاً. نعم إذا كانت الزوجة هي المحجور عليها، لم يصح لها أن تخالع نفسها، لأنه تصرف يتعلق ببعض مالها الذي تعلقه به حق الغرماء. د- يصح منه كل إقرار بحق أو مال، يعود وجوبه إلى ما قبل الحجر عليه، ويترتب عليه خضوع أمواله العينية التي وقع الحجر عليها لما يقتضيه ذلك الإقرار من تعلق حقوق أخري بها، واشتراك آخرين مع الغرماء في قسمتها بينهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 255 أما إن أقر بحقوق ترتبت على ماله بعد الحجر، فهو إقرار مرفوض ليس على الغرماء أن يخضعوا له. ومن ثم فليس للأشخاص الذين اقر المفلس لمصلحتهم أن يشركوهم في تقاسم أمواله، بل ينتظرون فك الحجر عنه. أحكام تصرف المريض المخوف عليه من الموت : تعريفه : المريض المخوف عليه من الموت: هو من أصيب بمرض من شأنه أن ينتهي بالموت إذا اشتد، ثم برح به هذا المرض إلى درجة جعلت الطبيب وأصحاب الخبرة يحذرون عليه من الموت. ويقاس على هذا المريض من هم في حكمه، مثل حالة التحام القتال، أو تموج البحر واشتداد العاصفة به، أو اشتداد طلق الولادة. وخرج بما ذكرنا وجع الضرس مثلاً، فإنه لا يدخل في حكم المرض المخوف منهما كان شديداً، إذ ليس من شأنه عادة أن ينتهي بالموت. الأحكام المتعلقة به : وإليك أهم الأحكام المتعلقة بهذا المريض: أولاً: إذا لم يكن له وارث خاص، أو كان له وارث غير جائز التصرف كطفل صغير مثلاً، لم يجز له أن يتصرف فيما يزيد على ثلث ماله، سواء كان تصرفاً ناجزاً، أو تصرفاً معلقاً على الموت، كالوصية، فإن تصرف غير ملتزم بهذا الحد نفذ منها ما كان داخلاً في الثلث وطل الزائد. هذا إذا جاءت تصرفاته متتابعة، فإن وقعت دفعة واحدة، قسم الثلث عليها حسب نسبة كل منها إن أمكن، وإلا بطل جميعها. ثانياً: إذا كان له وارث خاص، وكان جائز التصرف توقفت تصرفاته فيما زاد على ثلث ماله على إجازة وارثه، فإن أجازها صحت، وإلا آلت إلى البطلان. والعبرة بإجازته لها أو عدم أجازته بعد الموت. ودليل ما سبق ما رواه البخاري [1233] في الجنائز، باب: رثاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 8 ¦ الصفحة: 256 سعد بن خولة؛ ومسلم [1628] في الوصية، باب: الوصية بالثلث، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: يا رسول الله إني قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال " لا " فقلت: بالشطر؟ فقال: " لا " ثم قال " الثلث، والثلث كبير، أو كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ". ثالثاً: محل هذا الحكم السابق الذي ذكرناه إذا لم يكن على المريض دين يستغرق جميع تركته، فإن كان عليه ذلك حجر عليه في الجميع دون نظر إلي الثلث وغيره. رابعاً: ينبغي أن نفرق فيما ذكرناه بين التبرعات والتصرفات، أو النفقات الواجبة. فأما التبرعات فينطبق عليه ما ذكرناه في البنود الثلاثة الماضية. وأما التصرفات، أو النفقات الواجبة، فإن أنجزها في حياته، فهي من رأس المال كله، وإن أوصي بها إلي ما بعد موته، كما لو أوصي بأداء دين، أو حج واجب عليه، أو زكاة، فإن أطلق الوصية بها فهي من رأس ماله، وإن قيدها بالثلث اعتبرت منه، ولكن يجب أن تتمم ما زاد عليه إن لم يف بها الثلث. وما الفائدة إذاَ من التقيد بالثلث؟ الفائدة تظهر فيما لو كان قد أوصى بتبرعات غيرها، فإن هذه الواجبات تزاحمها عندئذ، حتى إذا لم يتسع الثلث للجميع أُلغيت التبرعات، أو أُلغي منها بالقدر الذي يكفي لتنفيذ الواجبات، وهكذا فإن فائدة التقيد بالثلث تؤول إلى النظر في مصلحة الورثة كي لا تستهلك الوصايا قدراً كبيراً من التركة. البلوغ والرشد وطريقة معرفة كل منهما : علق الله تعالى انتهاء الحجر على الصغار، بظهور صفتين فيهم، وهما البلوغ والرشد. قال تبارك وتعالى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 257 رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (سورة النساء: 6). فما معنى كل منهما، وكيف السبيل إلى التحقق منهما؟ أما البلوغ: فالمقصود به بلوغ السن التي يتأهل فيها الإنسان للتكليفات الإلهية، إذ كان سوياً في نشأته الإنسانية العامة. وسن البلوغ يعرف بواحد من هذه الأشياء: 1 - استكمال الخامسة عشرة من العمر، سواء كان ذكراً أم أنثي. 2 - الاحتلام، بخروج المنى من الذكر أو الأنثى. 3 - رؤية دم الحيض بالنسبة للأنثى. والوقت الذي يمكن أن يحصل فيه الاحتلام، أو الحيض يبدأ من استكمال تسع سنين من العمر. ثم إن التأخر وعدمه عن سن الإمكان هذه يتبع طبيعة الأقاليم، وظروف الحياة. وأما الرشد: فالمقصود به الاهتداء إلي سبيل حفظ الأموال ورعايتها، ويتضح ذلك بالاختبار والتجربة، وهل يشترط أن يضم ذلك إلى صلاح في الدين أيضاً؟ مذهب جمهور من أصحاب الشافعي رحمهم الله تعالى أنه يشترط ذلك، فلا يسمى رشيداً إلا من اهتدي إلى سبيل الخير في دينه ودنياه، وذهب فريق من علماء المذهب إلي أن المطلوب هنا الرشد في شؤون المال والدنيا ن إ ذ هو محل البحث في هذا المقام. إذا علمت هذا، فلتعلم أنه لا بد لرفع الحجر عن الصغير من تحقق كل من وصفي: البلوغ والرشد. فلو لوحظ في تصرفاته الرشد، وهو دون البلوغ، لم يكن له أي أثر، ولو بلغ الحلم ولم يلاحظ فيه الرشد لم يكن لبلوغه أيضاً أي أثر مهما تطاول به العمر. نلاحظ هذا في قول الله عز وجل: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (سورة النساء: 6). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 258 فقد جعل الرشد شرطاً للبلوغ المستلزم رفع الحجر. الفسق بعد البلوغ وما يترتب عليه : والفسق: أن يتجاوز الرجل حدود أوامر الله تعالى: بأن يرتكب كبيرة من الكبائر، ولا يتوب عنها، أو أن يثابر على ارتكاب بعض الصغائر من المحرمات. وقد عرفت فيما سبق ضابط كل من الكبائر، والصغائر من المعاصي. فإذا رفع الحجر عن البالغ الراشد، ثم فسق في سلوكه مع صلاح تصرفاته الدنيوية، فهل يعود الحجر عليه؟ الصحيح في المذهب، أنه لا يُعاد الحجر عليه بسبب ذلك، إذا لم يؤثر في عهد الصحابة، ولا في عهد التابعين أنهم كانوا يعيدون الحجر على من انحرف إلي الفسوق بعد الاستقامة. والفرق بين هذه الصورة، وصورة بلوغه فاسقاً عند الجمهور القائلين بأن الرشد هو الهداية إلي صلاح الدين والدنيا معاً، أن الحجر هناك مستمر ن فلا يرتفع إلا بزوال مجموع أسبابه، إذ الأصل بقاء ما كان على حاله، فإذا ارتفع بعد ذلك لم يجز أن يعود ثانية إلا بوجود مجموع أسبابه أيضاً، وإنما الفسق سبب واحد فقط. أما إذا صاحبه سفه جديد، أي سوء تصرف في شؤونه المالية، فإن ذلك يستوجب عود الحجر عليه، ولكن بشرط أن يقضي بذلك الحاكم أو نائبه. ولا عبرة بولاية أقاربه حينئذ على الصحيح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 259 الباب العاشر الإمَامَة العظمَي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 261 الإمامة العظمي مقدمة في بيان أهمية الإمامة، وقيام الحكم والمجتمع الإسلامي على سلامتها الإمامة العظمي منصب ديني يخلف النبوة، بحيث يكون الإمام خليفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إدارة شؤون المسلمين، مع ملاحظة فارق واحد، هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يتلقي الأحكام التي يلزم بها أمته وحياً من عند الله عز وجل، أما الإمام فهو يتلقاها نصوصاً ثابتة من الكتاب والسنة، أو إجماعاً التقى عليه المسلمون، أو يجتهد في شأنها طبق الأدلة العامة، والقواعد الثابتة، إن لم يجد فيها نصاً ولم يتعلق بها إجماع. ومنصب الإمامة، ذو أهمية قصوى في تحقيق الوجود المعنوي للمسلمين، فكان لا بد من إيجاد إمام لهم، وتنصيبه عليهم، للأسباب التالية: أمن أعظم الواجبات التي أمر الله بها عباده المسلمين أن يجتمعوا على حبل الله عز وجل، ولا يتفرقوا أو يتنازعوا فيما بينهم، ولا يمكن لأي أمة أن تنجوا من بلاء التفرق والتنازع إلا إذا أسلمت مقادتها لكبير فيها، تجتمع الكلمة على رأيه، وتخضع الآراء لحكمه، ويكون من سائر أفراد الأمة كالقطب من الدائرة، يجسد وحدتهم، ويرعى بقيادته قوتهم، وهى حاجة ماسة في استقامة النظام، واتساق الأوضاع، يشعر بها حتى عالم الحيوانات والبهائم. ب ـ إن شطراً كبيراً من أحكام الشريعة الإسلامية منوطة ـ من الناحية التنفيذية ـ بسلطة الإمام، بحيث لا عبرة في تنفيذها والقيام بشأنها إلا بواسطته وإشرافه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 263 كالفصل في الخصومات، وتعيين الأولياء، وإعلان الحجر، والحرب وإقرار الصلح ... إلخ، فكان لا بد، لكي تنزل الأحكام الشرعية منزلتها الصحيحة المقبولة عند الله عز وجل من وجود إمام يقوم بشأنها، ويرعى تنفيذها. جـ- في الشريعة الإسلامية طائفة كبيرة من الأحكام المعلقة التي لم يجزم الشارع بوجه معين ثابت فيها، بل وكل أمر البت فيها إلى بصيرة الإمام أو اجتهاده طبقاً لما تقتضيه مصالح المسلمين وظروفهم التي يمرون فيها، مثل كثير من التنظيمات المالية، وكتسيير الجيوش، وسياسة الأسرى، فإذا لم يكن ثمة إمام يتبوأ منصبة الإمامة عن كفاءة وجدارة، بقيت هذه الأمور معلقة لا مجال للبت فيها بحكم. د- الأمة الإسلامية معرضة في كل وقت لظهور طائفة فيها تبغي وتشق عصا المسلمين بسائق من الأهواء أو الأفكار الجانحة باسم الدين والإصلاح. ولا سبيل إلى إطفاء نار مثل هذه الفتنة إلا بواسطة إمام مسلم عادل، يوضح للأمة المنهج السليم، ويحذرها من الانصياع للسبل الأخرى، فإن الأمة عندئذ لا يمكن أن تقع ـ بسبب الجهالة ـ في الحيرة أو اللبس، لأن ما يأمر به الإمام هو الذي يجب العمل به في حكم الله عز وجل. أما عند غياب هذا الإمام، فإن أصحاب الدعوات المختلفة من شأنهم أن يوقعوا أشتات المسلمين في حيرة مهلكة، لا مناص منها، إذ سرعان ما ينقسم المسلمون شيعاً وأحزاباً متطاحنة، وما هو إلا أن يفنيها الشقاق، ويهلكها الخلاف. شروط الإمامة : يشترط لمن يتبوأ منصب الإمامة أن تتوفر فيه الصفات التالية: أولاً: الإسلام، فلا تصح إمامة غير المسلم، لأنها من الأحكام الشرعية المتعلقة بتنظيم شؤون المسلمين، فلا يمكن أن تسند إلى من لا يؤمن بهذه الأحكام. ثانياً: الذكورة، فلا تصح إمامة الأنثى، لما ثبت في الحديث الصحيح أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 264 النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لن يفلح قوم ولوا أمورهم امرأة ". (أخرجه البخاري [4163] في المغازي، باب: كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كسري وقيصر، عن أبي بكرة رضي الله عنه)، ولأن الإمامة العظمي من شأنها أن تستوعب حل المشكلات المختلفة التي قد يتعرض لها المسلمون، وفي هذا المشكلات ما لا تقوي المرأة على مجابهتها وحلها. ثالثاً: الرشد، فلا تصح إمامة الصبي والسفيه ونحوهما، وإن توفر مستشارون من حولهما، وقد روي الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: تعوذوا بالله من إمارة الصبيان ". [2/ 326]. رابعاً: العدالة، والعدل: هو من لم يرتكب كبيرة، كالقتل والزنى وأكل الربا، ولم يلازم ارتكاب صغيرة من الصغائر، فلا يصح تنصيب الفاسق، وهو من لم تتوفر فيه شروط العدالة. خامساً: أن يكون لديه من العلم بأحكام الدين وأدلتها ما يجعله ذا بصيرة نافذة تمكنه من الاجتهاد فيها عندما تقتضي الحاجة. إذ إن في الشريعة الإسلامية مسائل كثيرة، لا يجوز أن يبت في أحكامها ـ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ إلا إمام المسلمين، وإنما يبت فيها اجتهاداً ونظراً إلى ما تقتضيه مصالح المسلمين. سادساً: سلامة كلٍّ من حاسة السمع والبصر واللسان، بحيث لا يكون مصاباً بعاهة في واحدة منها، إذ من شأن ذلك أن يعيقه عن فصل الأمور، والنظر فيها على وجه الدقة المطلوبة. سابعاً: النباهة والوعي العام، بحيث يتوفر له من ذلك ما يجعله كفؤاً لإدارة الحكم وحراسة البلاد والأمة من أي شر قد يتهددها. وإنما يدرك هذه النباهة ويقدرها أصحاب النظر وأهل الشورى، ومن كان له سبق معاناة لهذا الأمور. ثامناً: أن يكون قرشي النسب، وذلك لما رواه أحمد في مسنده [3/ 129] عن انس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الأئمة من قريش ". وقد روي البخاري [3309] في الأنبياء: مناقب قريش، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " إن هذا الأمر في قريش ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 265 وروي مسلم [1818] في الإمارة، باب: الناس تبع لقريش، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الناس تبع لقريش في هذا الشأن ". وليس مع هذه النصوص كما يقال الماوردي ـ المسلم بها ـ شبهة لمنازع فيه، ولا قول لمخالف له. هذا إذا توفر القرشي الجامع لهذه الصفات السابقة، فإن لم يتوفر فليكن عربياً في النسب، أي من أصل عربي قديم، فإن لم يوجد عربي أيضاً له ما ذكرنا من الصفات، اقتصر على اشتراط الصفات السبع السابقة، أيا كان نسبة. أما إذا فقد بعض تلك الشرائط أيضاً، فيجب عندئذ تقديم صفات الكفاءة على صفات الصلاح الشخصي، فيقدم مثلاً البصير بشؤون الحكم البارع في إدارة الأمور، وإن كان مجروح العدالة بسبب سلوك شخصي فيه، علي الذي لم تتوفر فيه تلك الكفاءة وإن كان صالحاً مستقيماً في شخصه، إلا أن شرط الإسلام لابد أن يكون متحققاً فيه. كيفية انعقاد الإمامة : تنعقد الإمام بواحدة من الطرق التالية: الطريقة الأولي: البيعة، وسنتكلم بعد قليل عن كيفيتها وشروطها. الطريقة الثانية: الاستخلاف، يعنى استخلاف الإمام لشخص يخلفه من بعده، وتُعتبر هذه الطريقة شرعية صحيحة، إذا توفر فيها الشرطان التاليان: الشرط الأول: أن يكون المستخلفُ جامعاً لشروط الإمامة التي سبق ذكرها، بحيث لا يوجد من يفوقه في التمتع بها فإن كانت تلك الشروط غير متوفرة لديه، أو كان غيره أغني بها منه لم تنعقد إمامته. الشرط الثاني: أن يصرح المستخلف بقبول الإمامة وأن يكون هذا التصريح ـ على أصح الأقوال ـ في حياة الإمام الذي استخلفه، ولا مانع في أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 266 يتراخي ويتمهل في إبداء رأيه، ولا حدود مشروطة في تمهله، إلا أن يقع القبول في حياة الإمام، وقبل وفاته. فإذا توفر هذان الشرطان انعقدت إمامه المستخلف بموت الإمام الذي قبله، ولا يُشترط لذلك رضي أهل الحل والعقد، لا في حياة الإمام السابق، ولا بعد موته. ودليل ذلك إجماع المسلمين على صحة عهد أبي بكر رضي الله عنه إلي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بقوله المشهور: (هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند آخر عهده من الدنيا وأول عهده بالآخرة، في الحالة التي يؤمن فيها الكافر، ويتقي فيها الفاجر: أني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن بر وعدل فذالك علمي به، وإن جار وبدل فلا علم بالغيب والخير أردت). هذا إذا استخلف الإمام واحداً بعينه، فأما إذا جعل الأمر شورى بين جمع من الناس، وجب عليهم أن يختاروا فيما بينهم واحداً منهم بعد موت الإمام بشرط أن تتوفر فيه الشروط التي سبق ذكرها. ودليل ذلك ما أجمع عليه المسلمون من صحة العهد الذي عهده عمر رضي الله عنه إلى واحد من ستة، فقال " هذا الأمر إلى على وبإزائه الزبير، وإلى عثمان وبإزائه عبدالرحمن بن عوف، وإلى طلحة وبإزائه سعد بن أبي وقاص). الطريقة الثالثة: الاستيلاء بالقوة والغلبة، ولانعقاد الإمامة بذلك شرطان اثنان: الشرط الأول: أن يكون المستولي جامعاً لشروط الإمامة التي سبق ذكرها، أو أن يكون أغني بهذه الشروط أو بعضها من الآخرين. وفي عدم توفر العدالة في المستولي خلاف، والصحيح أن إمامته تنعقد بالتغلب، ولكنه يكون عاصياً بما فعل. الشرط الثاني: أن يكون الاستيلاء بعد موت الإمام الذي قبله، أو بعد عزله، بموجب شرعي صحيح، أما إذا استولي على الأمر في حال حياته، فإن كانت إمامة من قبله منعقدة هي الأخرى بالاستيلاء والغلبة انعقدت للغالب منهما، وإن كانت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 267 منعقدة بالبيعة أو العهد، لم تنعقد إمامة هذا الثاني عندئذ بالاستيلاء والغلبة، مهما تغلب على خصمه، أو استتب له الأمر، وعليه يحمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ". (رواه مسلم [1853] في الإمارة، باب: إذا بويع لخليفتين، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه). وروي عرفجة بن شريح رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ". (أخرجه مسلم [1853] في الإمارة، باب: حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع). البيعة: شروطها وكيفيتها : قلنا فيما سبق: إن البيعة هي الطريقة الأولي لانعقاد الإمامة، والبيعة: هي العقد الذي يكون بين الخليفة وعامة الناس، ولا يكون هذا إلا بعد شوري أهل الحل والعقد، وأن يقع الاختيار على من استكمل صفات الإمامة تحقيقاً، وذلك لقوله عز وجل: {وأمرهم شوري بينهم} (سورة الشورى: 38). وقد كان الناس في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل أحدهم في الإسلام، مد يده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبايعه على السمع والطاعة بوصفة نبياً، وبوصفه حاكماً، ولعلك تذكر من ذلك بيعة العقبة الأولي والثانية في مكة، وبيعة آحاد الصحابة رضي الله عنهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - عند دخولهم في الإسلام. ومن هذا قول عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: (بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثره علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم). (رواه البخاري [6774] في الأحكام، باب: كيف يبايع الإمام الناس، ومسلم [1709] في الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، ومالك في الموطأ [2/ 445، 446] في الجهاد، باب: الترغيب في الجهاد، والنسائي [7/ 138، 137] في البيعة باب: البيعة على السمع والطاعة، وابن ماجه [2866] في الجهاد، باب: البيعة). [المنشط: الأمر الذي ننشط له، ونخف إليه، ونؤثر فعله. المكره: الأمر الذي نكرهه، ونتثاقل عنه. أثره علينا: الأثرة: الاستئثار بالشيء، والانفراد به، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 268 والمراد بالحديث: أنا نؤثر غيرنا على أنفسنا، ونفضلهم عليها]. فلما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لابد أن يبايع الناس من ينوب منابه، - صلى الله عليه وسلم - في إدارة أمور المسلمين، ورعاية شؤونهم، وتصريف أمور الدولة الإسلامية، تعبيراً بذلك عن استمرار بيعتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - واستمرار طاعتهم له، بطاعة خلفائه من بعده. شروط البيعة : وشروط البيعة لتنعقد بها الخلافة والإمامة ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن تصدر من أهل الحل والعقد، من شتي الأقطار والبلاد. وأهل الحل والعقد هم: العلماء، والزعماء، ووجوه الناس الذين يهرع إليهم عادة في حل المشكلات، وتدبير الأمور، ولا يشترط أن يجتمع على البيعة جميع أهل الحل والعقد من سائر البلدان، كما لا يُشترط لذلك عدد معين، بل يُكتفي بمبايعة جماهيرهم من كل بلدة، سيان في ذلك الرجال والنساء، سوى أن بيعة النساء تختلف عن بيعة الرجال، بأن الأولي لا مصافحة فيها، بل يقتصر فيها على المعاهدة باللسان، دليل ذلك: مبايعة أهل مكة للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة، فقد بايعه الرجال والنساء، لكنه أحجم عن مصافحة النساء. فإذا بايع أهل الحل والعقد، أو جماهيرهم، رجلاً ممن توفرت لديه شروط الإمامة، انعقدت له الإمامة بذلك، وكان على سائر المسلمين أن يدخلوا في بيعته حقيقة أو حكماً، بأن يبايعه مباشرة، أو يعقد العزم على السمع والطاعة له ضمن الحدود المشروعة التي سوف نتحدث عنها. وإنما لم يشترط مبايعة جميع الناس له، واكتفي بأهل الحل والعقد منهم، لأن أهل الحل والعقد هم الذين ينعقد بهم الإجماع الذي هو مصدر من مصادر الشريعة وإذا قام الإجماع بهم، لم يسع بقية الناس إلا الدخول فيما اتفقوا وأجمعوا عليه، إذ الإجماع دليل قطعي لا تجوز مخالفته. الأمر الثاني: أن يتوفر في المبايعين من أهل الحل والعقد كل من: أدرجة الاجتهاد في موضوع الإمامة وأحكامها. ب - وصفة الشهود من العدالة وتوابعها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 269 فإن لم يكونوا كذلك لم تكن بيعتهم نافذة، ولم تنعقد الإمامة بموجبها. الأمر الثالث: أن يجيبهم إليها من وقع الاختيار على مبايعته، بأن يظهر الموافقة بصريح العبارة أو كنايتها، فإن امتنع عنها، فليس لهم أن يُكرهوه عليها، ذلك لأنها عقد مراضاة واختيار، لا يصلح أن يدخله إجبار ولا إكراه. آثار البيعة : فإن استقرت الإمامة لمن تقلدها، إما ببيعة، أو عهد، أو استيلاء مع توفر الشروط التي ذكرناها، فقد أصبح ولياً لأمور المسلمين، وترتبت على ذلك الواجبات التالية: أولاً: أن يُشاع بين الناس والأمة كافة أن الإمامة قد أفضت إليه، وأن يعرف لهم بصفاته ومزاياه، ,إن لم يعرفوه بعينه واسمه. ثانياً: أن ينهض الإمام بالأمور التالية: 1 - حفظ الدين على أصوله التي جاء بها الكتاب والسنة، وأجمع عليها سلف هذه الأمة، بحيث إذا زاغ ذو شبهة، أو نجم مبتدع أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بما يراه من الحقوق والحدود. 2 - تنفيذ أحكام الله تعالى المتعلقة بالمعاملات المالية والمدنية والأحوال الشخصية والجنايات وغيرها. 3 - العمل على نشر الطمأنينة والأمن في البلدان والأقطار الإسلامية، والطرق الموصلة بعضها ببعض، وتحقيق المصالح الإنسانية المختلفة وحمايتها، من اقتصادية واجتماعية وثقافية. 4 - تحصين الحدود والثغور بالعدة الكافية، والقوة المانعة، وتحقيق كل ما يلزم لذلك. 5 - النهوض بأمر الدعوة الإسلامية في شتى أقطار العالم، وجهاد من عاند سبيل الدعوة الإسلامية، ووقف عقبة في وجهها. وله في سبيل تحقيق هذه الواجبات أن يستعين بما يراه من أشكال التنظيم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 270 للجهاز التنفيذي الذي يستعين به، وبما يراه من تنصيب الولاة والقضاة والوزراء وعزلهم، وتكون أحكامه في ذلك كله نافذة. ثالثاً: أن تدخل ألأُمة كافة في طاعته، والانصياع لأوامره، فيما لا معصية فيه، لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (سورة النساء: 59) ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " (رواه البخاري [6725] في الأحكام، باب: السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، ومسلم [1839] في الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وغيرهما عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما). قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: (أجمع العلماء على وجوبا ـ أي الطاعة ـ في غير معصية، وعلى تحريمها في المعصية). ولا فرق في وجوب الطاعة له بين أن يكون عادلاً أو جائراً، ما دامت الطاعة بذاتها ليست في معصية. فإذا أمر بمعصية حرمت طاعته فيها، ووجب الجهر بالحق حيثما كان، أما الخروج عليه بمحاولة خلعه أو قتاله، فلا يجوز بإجماع المسلمين، لما فيه من تعريض وحدة المسلمين للتصدع والفتنة. وكالأمر بالمعصية تلبسه بها، يجب على المسلمين ـ إذا كان مجاهراً بها ـ بيان الحق والجهر بالإنكار عليه، دون قتاله والخروج عليه. هذا إذا لم يتلبس بكفر أو يأمر به، فأما إذا فعل ذلك فإن إمامته تُلغي، ويصبح المسلمون في حل من بيعتهم له. وسنذكر تفصيل ذلك عند البحث في عزل الإمام. حكم الشورى، والأحكام التي تشرع فيها الشورى : الشورى، والمشورة: هي الاستعانة بآراء الآخرين للوصول إلى الحقيقة، وحل المشكلات على أساسها. وتنقسم أحكام الشورى الإسلامية إلي طائفتين: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 271 الطائفة الأولي: أحكام ترتبط بنصوص بينة واضحة من الكتاب أو السنة، أو تعتمد على دليل الإجماع. فهذه الأحكام لا شأن لها بالشورى، ولا يستطيع أحد من الناس أيا كان في مستواه أو علمه أن يغير منها، أو يطور فيها، وإنما وظيفة الحاكم أن يسهر على تنفيذها، كما جاءت بها النصوص، أو كما استقر عليه الإجماع. الطائفة الثانية: أحكام اجتهادية، وهي تنقسم إلي قسمين: القسم الأول: أحكام مقررة في علم الله تعالى، تستوعبها أدلة التشريع من القرآن، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس، ولكنها خفية تحتاج في استنباطها من أدلتها إلى بحث وجهد، فهذه أحكام تبليغية من الله عز وجل في جملتها وتفصيلها، يبرم في أمرها المجتهدون من علماء المسلمين، سواء كانوا حكاماً أو رعايا. القسم الثاني: أحكام أنزل الله تعالى كلياتها، ووكل أمر تفاصيلها، وكيفية تطبيقاتها إلي مصلحة المسلمين، وما تقتضيه ظروفهم وأوضاعهم المتطورة، عن طريق ما يراه الحاكم المسلم ببصيرته الواعية، وإخلاصه في خدمة المسلمين. فهذه الأحكام تسمي أحكام الإمامة، أو أحكام السياسة الشرعية، لا يبرم في شأنها إلا الحاكم المجتهد، وقد مر بك في أول هذا الباب أمثلة لهذه الأحكام. فالطائفة الثانية بقسميها خاضعة للشورى، بحيث لا يجوز أن يبرم الإمام الحكم في شيء منها إلا بعد الرجوع إلي مشورة نخبة صالحة من علماء المسلمين ومجتهد يهم. ودليل هذا من القرآن الكريم، قول الله عز وجل لرسوله عليه الصلاة والسلام: {وشاورهم في الأمر} (سورة آل عمران: 159)، وقوله تبارك وتعالى ـ في معرض مدح الجماعة المسلمة ـ: {وأمرهم شوري بينهم} (سورة الشورى: 38). الجزء: 8 ¦ الصفحة: 272 ومن السنة النبوية ما ثبت من استشارته - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في مختلف شؤون المسلمين، مما ليس فيه وحي جازم، كاستشارته إياهم في غزوة بدر، وغزوة أُحد، والخندق، واستشارته لهم في أساري بدر، وفي صلح الحديبية، والأمثلة كثيرة كثيرة. والدليل على أن الطائفة الأولي من الأحكام لا مجال للشورى فيها، قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} (سورة الأحزاب: 36) وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يستشير في شيء من هذه الأحكام أصحابه، بل كان يلزم نفسه وإياهم بها كما وردت. ولكن ينبغي أن تعلم أنه لا يوجد للشورى أي أثر ملزم للإمام الذي يستشير: أي أن الإمام ليس ملزماً أن يأخذ رأي الأكثرية مثلاً من مجلس شوراه، كما هو الشأن بالنسبة لكثير من النظم الديموقراطية. بل إن واجب الإمام أن يستعين بما عند أهل العلم والبصيرة من وجوه الرأي، وأن يتبصر بما عندهم من العلم والنظر، لعل لديهم من ذلك ما لم يتنبه هو إليه، فإذا استعرض وجوه النظر والاجتهادات كلها، كان عليه بعد ذلك أن يتخير أقربها إلي الصحة، وأشبهها بالحكم الإلهي الثابت في علم الله عز وجل، وقد علمت أن الحديث إنما هو عن الإمام الذي توفرت فيه شروط الإمامة من علم وصل إلي درجة الاجتهاد، وإخلاص في الدين، وأمانة في الخلق. وخلاصة الفرق أن مجلس الشورى في النظم الوضعية مشرع، ومن ثم فإن رأي الأكثرية ملزم، ومجلس الشورى في الشريعة الإسلامية ناقب وباحث عن حكم الله عز وجل، فهو ليس مشرع، ولذلك يستوي فيه القلة والكثرة الغالبة، إذ قد يهتدي إلى حكم الله عز وجل واحد منهم، أو كثرة ساحقة فيهم. فأيهم ظهر الحق على لسانه وجب إتباعه، وإنما يفوقهم الإمام بمزيد من البصيرة الدالة على حكم الله عز وجل، بدليل ما وقع عليه إجماعهم من مبايعته وارتضائه حاكماً فيهم مقدماً بينهم، فكان في اختياره لواحد من الآراء ما يدل على رجحانه على غيره، ومن ثم فإنه يجب على كافة المسلمين إتباعه، والاجتماع عليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 273 الأُسس التي ينبغي أن تنهض عليها علاقة الإمام بالأُمة: ليس الإمام ـ بعد أن علمت أهم أحكام الإمامة وشروطها ـ أكثر من خليفة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حراسة أحكام الله تعالى عن أن تضيع أو تبدل، وفي الإشراف على سلامة تنفيذها، ولا ريب أن سلامة تنفيذ هذه الأحكام هي الضمانة لانتشار الأمن والطمأنينة، وأسباب الخير والسعادة في أفراد الأمة. ولذلك: 1 - فالإمام إذاً، لا يتمتع بأي سلطة تشريعية، إذ إن سلطة التشريع خصيصة محصورة في ذات الله عز وجل، وحتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس إلا مبلغاً عن حكم الله تعالى، فإذا اجتهد في حكم وقضي به فإن المعول في نفاذه ومشروعيته على إقرار الله له عن طريق الوحي. 2 - ومن ثم فإن الإمام لا يتمتع ـ بسبب كونه إماماً ـ بأي امتيازات يعلو بها على بقية الناس في نطاق الأحكام الشرعية المختلفة، من قضاء وعقود وعقوبات وغيرها. فشهادته مثلاً، لا تعلو في قيمتها القضائية عن شهادة غيره، لا في العدد ولا في الأهمية المعنوية. بل ليس له ـ وهو حاكم ـ أن يحكم بين أحد من الناس بموجب علمه فيه، أي لا يجوز أن يكون حاكماً وشاهداً بآنٍ واحد. بل هو إما حاكم، فلا قيمة لشهادته، وإنما يستند في حكمه إلي شهادة الشهود الصالحين، وإما شاهد، فينبغي عندئذ أن يتخلي عن حاكميته، ويقف شاهداً في الموضوع أمام حاكم آخر يُنيبه عنه. وقد ترافع اثنان إلي عمر بن الخطاب رضي الله عنه أثناء خلافته، فقال له المدعى: إن هذا ظلمني (وذكر له ظلامته) ثم قال: وأنت يا أمير المؤمنين أعرف الناس بذلك. فقال له عمر رضي الله عنه: إن شئت قضيت بينكما ولا اشهد، وإن شئت شهدت لك، ولا أقضي. وليس له من منصبه الذي يتمتع به ما ينجيه من أي حد، أو قصاص، أو عقوبة يستوجبها بفعل صدر منه، أو ما يخفف عنه من العقوبة التي استحقها كغيره، لأمر ما صدر عنه. ويقدر له من الأجر على قيامه بالمهام التي وكلت إليه، ما يقرره مجلس الشورى بالعرف، وحسب ما تقتضيه متطلبات الحياة الكريمة المشروعة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 274 وإذاً فإن علاقة الإمام بالناس قائمة على الأُسس التالية: 1 - الإمام مستخلف فيهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن خلفائه من بعده، مع ملاحظة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يُوحي إليه، وكانت آراؤه الاجتهادية أحكاماً شرعية إذا أقرها الوحي ولم يردها أما خلفاؤه من بعده فليس أمامهم إلا كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وما أجمع عليه المسلمون، وما أمره الله بأن يجتهد فيه، وهو داخل في عموم دلالة السنة. 2 - الإمام ولىّ لأمور المسلمين العامة، وهو التي لا تغني فيها ولاية الأفراد بعضهم على بعض. ومن ثمّ فتصرفاته في أمورهم منوطة بالمصلحة، أي لا تعتبر عنها أحكام الله عز وجل، لا لسيادة يتمتع بها عليهم، بل ليمكنوه من العمل على تحقيق مصالحهم العامة، والتنسيق بينهما وبين مصالح الأفراد. 3 - الإمام هو الذي يباشر الإشراف على عمل من دونه من الولاة والوزراء والقضاة، فيما وكّل إليهم من الخدمات المختلفة للأُمة، فهو مرجعها فيما قد يكون لها من شكوى أو ظلامة عند أحد من ولاته أو موظفيه، وليس له أن يفوّض الأمور إلى من دونه، ثم ينصرف إلى شؤونه وملاذه، أو مصالحه الخاصة. يقول الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية: (عليه أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفّح الأحوال، لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملّة، ولا يعّول على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين، ويغش الناصح). 4 - وعلاقة الإمام بالأمة بناءً على ذلك كله، هي علاقة خادم أمين بمخدومه، ورب الأسرة الرحيم بأفراد أسرته، ويبذل جهده لإسعادها، ولا يدّخر وسعاً لنشر الأمن والرخاء في ربوعها، ينساق لتحقيق ذلك كله بروح من الرحمة والإخلاص، لا بدافع من الوظيفة أو الإكراه. ما ينعزل به الإمام : ينعزل الإمام عن الإمامة بواحد من الأسباب التالية: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 275 السبب الأول: الكفر، سواء كان صريح القول، أو بأي فعل أو قول يستلزم الكفر، فإذا صدر من الإمام ذلك بطلت إمامته، وخرجت الأُمة عن بيعته، ووجب عليهم الخروج عليه وخلعه. أما موجبات الفسق، سواء بارتكاب المحظورات، أو باعتناق بعض البدع غير المكفرة، فلا يستوجب العزل. قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم: (أجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق)، ذلك لأن ضرر الفتنة التي قد تنشأ عن عزله يفوق في الغالب ضرر بقائه متلبساً بالفسق. فقد علمت سابقاً أن الإمامة لا تنعقد لفاسق ابتداءً، فأما الفسق الطارئ بعد انعقاد الإمامة، فلا نعزل به الإمام لما قد علمت. وإن كان الفسق منه معصية وحراماً. السبب الثاني: طروء نقص جسمي في شيء من أعضائه أو حواسه، بحيث يقعده عن القيام بواجبات الإمامة، كزوال البصر، أو السمع، أو كانقطاع يده أو رجله أو نحو ذلك. والعبرة ليست بشكل النقص، بل بما يترتب عليه من تعذر القيام بمهام الإمامة والحكم، فإن كان بحيث لا يضير في شيء من ذلك فلا يستوجب العزل، ولا يعتبر مجرد الشين في الجسم موجباً للعزل. ومثل نقص شيء من الحواس والأعضاء فيما ذكرنا طروء خبل أو جنون ولو كان متقطعاً، فإذا كان من الشدة والكثرة بحيث يؤثر على نهوضه بواجبات الحكم عُزل وإلا فلا. السبب الثالث: طروء نقص في إمكان التصرف، وهو يكون لأحد سببين: أحدهما: الحجر: كأن يستولي عليه من أعوانه من يستبد بتنفيذ الأمور، فهذا الحجر لا يكون سبباً لانعزاله، ولا يقدح في استمرار إمامته، ولكن يُنظر في حكم المستولي وسياسته، فإن كان جاريين وفقاً لأحكام الدين ومقتضي العدل، وجب إقراره عليها، مع استمرار حكم الإمامة للإمام الأصلي، أما إن كانت أحكام المستولي خارجة عن حكم الدين ومقتضي العدالة، فلا يجوز إقراره عليها، بل يجب على المسلمين كف يده، وبذل كل ما في الوسع لإزالة تغلبه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 276 ثانيهما: القهر: ويقصد به أن يقع الإمام في قبضة عدوٌّ قاهر لا سبيل للخلاص منه، ففي هذه الحالة يجب على الأمة كافة العمل بكل الوسائل على استنفاذه، وهو مستمر حكماً في إمامته، ما كان مرجو الخلاص، مأمول الفكاك، فإذا وقع اليأس من إمكان استنقاذه، فإن إمامته تُلغي عن الاعتبار، وعلى أهل الحل والعقد المبادرة باختيار غيره، فإن كُتب للأول الخلاص بعد مبايعة الثاني لم يعد إلى الإمامة، أو قبل مبايعته عاد إلى الإمامة دون الحاجة إلى عقد أو بيعة جديدة له. السبب الرابع: أن ينعزل الإمام نفسه: بأن يستقيل عن الحكم لأمر ما، فإن كان في المسلمين من يمكن أن يقوم مقامه، ممن تتوفر فيه شروط الإمامة، وإن كان دونه في الكفاءة والمقدرة، صحت استقالته، وعُزل بذلك عن الحكم، وإن لم يكن في المسلمين من يقوم مقامه، أو يسد مسده لم تقبل استقالته، ولم يكن لعزله نفسه أي أثر شرعي صحيح، إذ إن للمسلمين حينئذ أن يحملوه حملاً على الإمامة، وعليه أن يقبلها راضياً أو كارهاً. والإمامة وإن كانت ـ كما قلنا فيما مضى ـ عقد تراض بين طرفين، إلا أنها في مثل هذه الحالة تصبح عقد إجبار، شأنها كشأن كثير من العقود الرضائية التي تصبح عقوداً جبرية لأسباب استثنائية طارئة ـ وشأنها في ذلك شأن فروض الكفاية عند تعين من يقوم بها، فإنها تصبح فرض عين بالنسبة إليه. فإذا عزل الإمام لسبب من هذه الأسباب الأربعة، أصبح المسلمون كافة في حل من طاعته وبيعته، وعاد في أهليته ووضعه المدني كشأن أي فرد عادي من المسلمين. فإن ذهب السبب الموجب للعزل قبل أن ينصب غيره لم يكن ذلك موجباً لأن يعود إلي الإمامة بشكل آلي، بل لا بد من بيعة جديدة له من أهل الحل والعقد. خاتمة : تنصيب الإمام بهذا الشكل الذي رأيت، ولتحقيق المهام التي تحدثنا عنها واجب متعلق بأعناق المسلمين حيثما كانوا، فإن لم ينهضوا به تحقيقاً لأمر الله عز الجزء: 8 ¦ الصفحة: 277 وجل باؤوا جميعاً بإثم كبير، إذ هو ـ بالإضافة إلي الضرورات الدينية والاجتماعية والسياسية المختلفة ـ شعيرة كبري من شعائر الإسلام التي يجب أن تكون بارزة حية في بلاد المسلمين. ولا يجوز تعدد الإمام في وقت واحد، إذ إن من مهام الإمامة تجميع شمل المسلمين كافة في كافة أقطارهم وبلدانهم، وتعدد الأئمة ينافي ذلك منافاة واضحة. والله سبحانه وتعالى أعلم وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 278