الكتاب: التحبير شرح التحرير في أصول الفقه المؤلف: علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الدمشقي الصالحي الحنبلي (المتوفى: 885هـ) المحقق: د. عبد الرحمن الجبرين، د. عوض القرني، د. أحمد السراح الناشر: مكتبة الرشد - السعودية / الرياض الطبعة: الأولى، 1421هـ - 2000م عدد الأجزاء: 8   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- التحبير شرح التحرير المرداوي الكتاب: التحبير شرح التحرير في أصول الفقه المؤلف: علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الدمشقي الصالحي الحنبلي (المتوفى: 885هـ) المحقق: د. عبد الرحمن الجبرين، د. عوض القرني، د. أحمد السراح الناشر: مكتبة الرشد - السعودية / الرياض الطبعة: الأولى، 1421هـ - 2000م عدد الأجزاء: 8   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ـ[التحبير شرح التحرير في أصول الفقه]ـ المؤلف: علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الدمشقي الصالحي الحنبلي (المتوفى: 885هـ) المحقق: د. عبد الرحمن الجبرين، د. عوض القرني، د. أحمد السراح الناشر: مكتبة الرشد - السعودية / الرياض الطبعة: الأولى، 1421هـ - 2000م عدد الأجزاء: 8 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على نَبينَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه أَجْمَعِينَ، وَبعد: فَلَمَّا كنت قد صنفت الْمُخْتَصر فِي الْأُصُول الْمُسَمّى تَحْرِير الْمَنْقُول مُعْتَمدًا على الله وَحده فِي الْإِخْلَاص وَالْقَبُول، فجَاء - بِحَمْد الله - وافياً بالمراد، كَافِيا لمن فهم مَعْنَاهُ من الْعباد. وَلما رَأَيْت الطّلبَة قد أَقبلُوا عَلَيْهِ، واعتنوا بِهِ وتوجهوا إِلَيْهِ، أَحْبَبْت أَن أعلق عَلَيْهِ شرحاً وَاضحا، يرجع إِلَيْهِ عِنْد حل المشكلات، ويعتمد عَلَيْهِ عِنْد وجود المعضلات. فَوَضَعْنَا هَذَا الشَّرْح محيطاً بجل أَطْرَافه، ومستوعباً لمسائله من أكنافه. فَنَذْكُر فِيهِ مَا ذهب إِلَيْهِ أَحْمد وَأَصْحَابه أَو بَعضهم أَولا غَالِبا، ثمَّ مَذَاهِب الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة وأتباعهم إِن كَانُوا مُخْتَلفين، ونزيد هُنَا غَالب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 مَذَاهِب الْأَئِمَّة الْمَشْهُورين، وَالْعُلَمَاء المعتبرين، وَطَرِيقَة الْمُتَكَلِّمين من الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم من المناظرين، وطريقتي الرَّازِيّ، والآمدي فَإِن الْعَمَل فِي هَذِه الْأَزْمِنَة وَقبلهَا على طريقتهما. فَنَذْكُر أُمَّهَات جميلَة، ودقائق جليلة، خلت عَنْهَا أَكثر المطولات، وَلم تشْتَمل عَلَيْهَا جلّ المصنفات؛ وَذَلِكَ لِأَنِّي أطلعت على كتب كَثِيرَة للْقَوْم من المختصرات والمطولات، من الْمُتُون والشروح، من كتب أَصْحَابنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وَغَيرهم من أَرْبَاب الْمذَاهب الثَّلَاثَة وَغَيرهَا، وَقد رَأَيْت أَن أذكرها بأسمائها هُنَا؛ ليعلم من أشكل عَلَيْهِ شَيْء فِي الْمَتْن أَو فِي هَذَا الشَّرْح، أَن يُرَاجع الْمَنْقُول من الْكتاب الَّذِي نَقَلْنَاهُ مِنْهُ؛ لاحْتِمَال سَهْو أَو غَيره. وَرُبمَا ذكرنَا بعض مسَائِل من كتب الْفِقْه وَغَيرهَا مِمَّا هُوَ مُتَعَلق بِالْمحل فأذكره. وَمن الْكتب كتب نقلت عَنْهَا لم أرها، مُقَلدًا فِي ذَلِك النَّاقِل عَنْهَا أَو مِنْهَا. وَفِي ذَلِك فَائِدَة أُخْرَى: وَهُوَ الْعلم بِمَعْرِِفَة صَاحب الْكتاب عِنْد من لَا يُعلمهُ. فَمن الْكتب الَّتِي للأصحاب مِمَّا نقلت عَنْهَا، وَمِنْهَا: " الْكِفَايَة "، و " الْعدة " فِي / الْأُصُول، و " الْمُعْتَمد " و " الْخلاف "، و " الْمُجَرّد "، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 و " إبِْطَال التَّأْوِيل "، و " كتاب الرِّوَايَتَيْنِ "، " الْمُخْتَصر "، كل ذَلِك للْقَاضِي أبي يعلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 و " التَّمْهِيد " فِي الْأُصُول مُجَلد كَبِير، و " الِانْتِصَار " لأبي الْخطاب. و" الْوَاضِح " فِي الْأُصُول، ثَلَاث مجلدات، و " مُخْتَصر فِي الْأُصُول " - أَيْضا - مُجَلد، و " الْإِرْشَاد فِي أصُول الدّين "، و " المنثور "، و " المناظرات "، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 و " الْفُنُون "، و " الْفُصُول: فِي الْفِقْه، لِابْنِ عقيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 و " الرَّوْضَة " فِي الْأُصُول، و " الْمُغنِي " فِي الْفِقْه، للشَّيْخ موفق الدّين ابْن قدامَة. و" المسودة " لبني تَيْمِية، وهم: الشَّيْخ مجد الدّين، وَولده الشَّيْخ عبد الْحَلِيم، وحفيده الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَهُوَ المُرَاد بِقَوْلِي فِي الْمَتْن: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 (قَالَ الشَّيْخ) ، (وَعند الشَّيْخ) ، وَنَحْوه. و" مُخْتَصر الرَّوْضَة "، و " شَرحه "، ثَلَاث مجلدات، للشَّيْخ سُلَيْمَان ابْن عبد الْقوي الطوفي. و" شَرحه " للشَّيْخ عَلَاء الدّين الْكِنَانِي، مُجَلد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 و " التَّذْكِرَة " مُخْتَصر الرَّوْضَة - أَيْضا - لولد الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ الْمَقْدِسِي. و" مختصرها " - أَيْضا - لِابْنِ أبي الْفَتْح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 و " الْمقنع " فِي الْأُصُول، و " الرعايتان "، و " آدَاب الْمُفْتِي "، و " نِهَايَة المبتدئين "، لِابْنِ حمدَان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 و " مُخْتَصر الْمقنع "، و " شَرحه "، مُجَلد، لأبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الْحَرَّانِي. ومجلد فِي أصُول الْفِقْه، للشَّيْخ عبد الْمُؤمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ومجلد فِي الْأُصُول، للشَّيْخ شمس الدّين ابْن مُفْلِح الْمَقْدِسِي، وَهُوَ اصل كتَابنَا الْمَتْن؛ فَإِن غَالب استمدادنا فِيهِ مِنْهُ. ومجلد فِي الْأُصُول، للشَّيْخ شرف الدّين ابْن قَاضِي الْجَبَل الْمَقْدِسِي، وصل فِيهِ إِلَى أثْنَاء الْقيَاس، وَلم يعاود النّظر حَتَّى اخترمته الْمنية. و" الْإِيضَاح " فِي الجدل، للشَّيْخ أبي مُحَمَّد يُوسُف بن الشَّيْخ الْحَافِظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 أبي الْفرج الْجَوْزِيّ، وَهُوَ المُرَاد بِقَوْلِي فِي الْمَتْن: (وَقَالَ الْجَوْزِيّ) ، (وَعند الْجَوْزِيّ) ، وَنَحْوه. ومجلد لطيف فِي " الْأُصُول وَالْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة "، للشَّيْخ عَلَاء الدّين البعلي. وَمن كتب الْفِقْه غير مَا تقدم: " الْخرقِيّ "، و " الْإِرْشَاد "، لِابْنِ أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 مُوسَى، و " الْمُبْهِج "، / و " الْإِيضَاح "، لأبي الْفرج الْمَقْدِسِي، وَله: " التَّبْصِرَة "، و " جَامع الْأَنْوَار لتوحيد الْملك الْجَبَّار "، فِي أصُول الدّين. و" الْوَاضِح "، لِابْنِ الزَّاغُونِيّ، و " الْعُقُود والخصال " لِابْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الْبَنَّا، و " التَّلْخِيص "، و " التَّرْغِيب "، و " الْبلْغَة " للشَّيْخ فَخر الدّين ابْن تَيْمِية، و " الرَّوْضَة " فِي الْفِقْه، لَا نعلم مصنفها، وَقيل: إِنَّهَا لأبي الْفَتْح نصر بن عَليّ الضَّرِير الْحَرَّانِي، و " الحاويان "، للشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الْقَاسِم مدرس المستنصرية، و " الْقَوَاعِد الْفِقْهِيَّة " لِابْنِ رَجَب. وَمن الْكتب الَّتِي لغير الْأَصْحَاب مِمَّا اطَّلَعت عَلَيْهَا ونقلت مِنْهَا: " الْمُسْتَصْفى "، و " شِفَاء الغليل "، للغزالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 و " اللمع "، و " شرحها "، للشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَهُوَ المُرَاد بِقَوْلِي فِي الْمَتْن: (قَالَ الشِّيرَازِيّ) ، (وَعند الشِّيرَازِيّ) ، وَنَحْوه. و" الْبَزْدَوِيّ "، وشمس الائمة، ... . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 و " الْمنَار "، و " الأخسيكثي "، و " الوافي " شَرحه، للحنفية. و" الورقات "، لإِمَام الْحَرَمَيْنِ أبي الْمَعَالِي، وَهُوَ المُرَاد بِقَوْلِي فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الْمَتْن: (أَبُو الْمَعَالِي) لَا أَبُو الْمَعَالِي ابْن المنجا الْحَنْبَلِيّ. و" شرحها "، لِابْنِ الفركاح، و " شرحها " لغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 و " الْمَحْصُول "، و " منتخبه "، و " المعالم، للفخر الرَّازِيّ. و" شرح الْمَحْصُول " للقرافي، و " شَرحه " للأصفهاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 و " الإحكام "، و " مُنْتَهى السول والأمل "، للآمدي. و" التَّوْقِيف على المعالم "، و " الْحَاصِل "، للأرموي. و" المحصل "، و " شرح المحصل "، للكاتبي. و" التَّنْقِيح "، و " شَرحه "، للقرافي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 و " الْمِنْهَاج "، للبيضاوي، و " شَرحه " للإسنوي، و " شَرحه "، لِابْنِ الملقن، و " شَرحه "، للخنجي، و " شَرحه "، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 للاصفهاني، و " شَرحه "، للجاربردي، و " شَرحه "، للتستري، و " شَرحه "، للتاج السُّبْكِيّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 و " مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب "، و " الْكَبِير "، و " الصَّغِير "، و " شَرحه "، للقطب الشِّيرَازِيّ، و " شَرحه "، للاصفهاني، و " شَرحه "، للْقَاضِي عضد الدّين، ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 و " شَرحه "، لِابْنِ المطهر الرافضي، و " شَرحه "، للسَّيِّد ركن الدّين، و " شَرحه "، للتاج السُّبْكِيّ. و" نِهَايَة الْوُصُول إِلَى علم الْأُصُول "، للصفي الْهِنْدِيّ، أَربع مجلدات، و " جمع الْجَوَامِع "، للتاج السُّبْكِيّ، و " منع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الْمَوَانِع "، لَهُ " أَيْضا -، و " شَرحه "، للزركشي، و " شَرحه "، / لِابْنِ الْعِرَاقِيّ، و " شَرحه "، ... ... ... ... ... ... ... ... ... . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 للمحلي، و " شَرحه "، للكوراني، و " حَوَاشِي الْعَضُد "، للأبهري، و " حَوَاشِيه "، للتفتازاني، و " منظومة الْبرمَاوِيّ "، و " شرحها "، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 مجلدان، و " التَّحْرِير "، لِابْنِ الْهمام، وَالله الْمَسْئُول لإتمامه بفضله وإنعامه. فَأَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم، عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 شرح مُقَدّمَة الْكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 قَوْله: {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} . ابتدأنا بالبسملة تبركاً بهَا، وتأسياً بِكِتَاب الله، واتباعاً لسنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَيْثُ ابْتَدَأَ بهَا فِي [كِتَابَته] إِلَى الْمُلُوك وَغَيرهم. واقتداء بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بعض الرِّوَايَات: " كل أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَهُوَ أَبتر ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وبفعل سُلَيْمَان بن دَاوُد - عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام -، حَيْثُ كتب إِلَى بلقيس. قَوْله: {الْحَمد لله} . ثنينا بِالْحَمْد؛ مُوَافقَة لوضع الْكتاب الْعَزِيز، وامتثالاً لقَوْل سيد الْمُرْسلين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة وَغَيره أَنه قَالَ: " كل أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِالْحَمْد لله فَهُوَ أقطع ". وَفِي رِوَايَة: " بِحَمْد الله "، وَفِي رِوَايَة: " بِالْحَمْد "، وَفِي رِوَايَة: " بِبسْم الله الرَّحْمَن " كَمَا تقدم، وَفِي رِوَايَة:: فَهُوَ أَجْذم "، وَفِي رِوَايَة: " لَا يبْدَأ فِيهِ بِذكر الله ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وَالْمَشْهُور حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَهُوَ حَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه، وَالنَّسَائِيّ فِي " عمل الْيَوْم وَاللَّيْلَة "، وَابْن حبَان فِي " صَحِيحه "، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 والإسفراييني فِي " الْمخْرج على صَحِيح مُسلم ". وَمعنى ذِي بَال: أَي ذِي حَال يهتم بِهِ. وَمعنى أقطع: نَاقص الْبركَة أَو قليلها ". وَكَذَا معنى أَجْذم بِالْجِيم والذال الْمُعْجَمَة. وَلَا شكّ أَن الْيمن وَالْبركَة فِي ذكر اسْم الله تَعَالَى والابتداء بِهِ. إِذا علم ذَلِك؛ فالألف وَاللَّام فِي الْحَمد اخْتلف فِيهَا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 فَذهب الزَّمَخْشَرِيّ وَمن تبعه إِلَى أَنَّهَا لتعريف الْجِنْس، وَأَنَّهَا لَا تفِيد سوى التَّعْرِيف، وَالِاسْم يدل على نفس الْمَاهِيّة الْمعبر عَنْهَا بالجنسية، فَلَا يُسْتَفَاد الِاسْتِغْرَاق / من اللَّام، لَكِن لَا شَيْء من الْجِنْس ثَابت لغيره وَإِلَّا لَكِن الْجِنْس ثَابتا للْغَيْر، لِأَنَّهُ مَتى وجد فَرد مِنْهُ وجد الجنسفي ضمنه فَيَنْتَفِي الِاخْتِصَاص، فَحصل الِاسْتِغْرَاق حِينَئِذٍ لَكِن بِدلَالَة الِالْتِزَام، وَذَلِكَ لِأَن الْجِنْس إِنَّمَا نظره إِلَى الْمَفْهُوم، لدلَالَة الْحَيَوَان - مثلا - على جسم نَام حساس متحرك بالإرادة مَعَ قطع النّظر عَن الْأَفْرَاد، فَهُوَ غير مركب مِنْهَا وَلَا نظر لَهُ إِلَيْهَا إِلَّا من حَيْثُ إِنَّه لَا يُوجد منفكاً عَنْهَا، فَكَمَا أَن السّقف لَا يُوجد بِدُونِ حَامِل، كَذَلِك الْجِنْس لَا يُوجد بِدُونِ فَرد، بِخِلَاف الِاسْتِغْرَاق فَإِنَّهُ لمجموع الْأَفْرَاد، فدلالته على كل فَرد على انْفِرَاده بالتضمن؛ لِأَن الْمَجْمُوع تركب من تِلْكَ الْأَفْرَاد، فَلَا خلاف بَينه وَبَين الِاسْتِغْرَاق فِي الْمَآل حِينَئِذٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وَقَالَ الْجُمْهُور: إِنَّهَا للْعُمُوم، أَي: هُوَ الَّذِي يسْتَحق المحامد كلهَا على الْحَقِيقَة، فَهِيَ للاستغراق، بِمَعْنى: أَن كل فَرد من الْحَمد ثَابت لله تَعَالَى، فدلالته على ثُبُوت الْجَمِيع لَهُ من حَيْثُ هُوَ مَجْمُوع بِدلَالَة الْمُطَابقَة، وعَلى الْبَعْض بالتضمن. قَالَ السرمري من أَصْحَابنَا فِي " شرح الؤلؤة ": (الْألف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وَاللَّام فِي الْحَمد للاستغراق، أَي: هُوَ الْمُسْتَحق لجَمِيع الْحَمد من كل أحد على كل حَال فِي كل زمَان) . وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره ": (الْحَمد لَفظه خبر، كَأَنَّهُ يخبر أَن الْمُسْتَحق للحمد هُوَ الله) . قَالَ: (وَفِيه تَعْلِيم لِلْخلقِ تَقْدِيره: قُولُوا الْحَمد لله) . انْتهى. وَقيل: الْألف وَاللَّام للْعهد، وَيكون الْمَعْهُود مَا ورد فِي الشَّرَائِع الْمنزلَة، فَيكون أمرنَا بِمَا عهدناه من ذَلِك مِمَّا هُوَ مُمكن. قَالَ الواحدي: (الْألف وَاللَّام فِي الْحَمد يحْتَمل كَونهَا للْجِنْس أَي: جَمِيع المحامد لله؛ لِأَنَّهُ الْمَوْصُوف بِصِفَات الْكَمَال فِي نعوته وأفعاله الحميدة، وَيحْتَمل / كَونهَا للْعهد، أَي: الْحَمد الَّذِي حمدته بنفسي وحمدته أولياؤه) انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وعَلى [كل] الْأَقْوَال: الْحَمد لُغَة: هُوَ الثَّنَاء على الله تَعَالَى بجميل صِفَاته. وَالثنَاء مَحَله اللِّسَان على قصد التَّعْظِيم سَوَاء تعلق بالفضائل أَو الفواضل. وَقَالَ كثير: هُوَ الْوَصْف بالجميل الِاخْتِيَارِيّ على وَجه التَّعْظِيم. وَالشُّكْر: فعل يُنبئ عَن تَعْظِيم الْمُنعم لكَونه منعماً على الشاكر بِسَبَب إنعامه، سَوَاء كَانَ قولا بِاللِّسَانِ، أَو فعلا بالأركان، أَو اعتقاداً أَو محبَّة بالجنان. فنقيض الْحَمد الذَّم، ونقيض الشُّكْر الْكفْر. فموروده الْحَمد اللِّسَان وَحده فَهُوَ مُخْتَصّ بِالظَّاهِرِ، ومتعلقة النِّعْمَة عَلَيْهِ وَغَيرهَا من الْأَفْعَال الجميلة كالكرم والشجاعة وَنَحْوهمَا، فمورد خَاص ومتعلقة عَام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ومورد الشُّكْر اللِّسَان وَغَيره، فَشَمَلَ الظَّاهِر وَالْبَاطِن، ومتعلقة النِّعْمَة فَقَط، فمورده عَام ومتعلقة خَاص، وَمن موارده الْقلب، وَهُوَ أشرف الْمَوَارِد كلهَا؛ لِأَن فعله وَإِن كَانَ خفِيا يسْتَقلّ بِكَوْنِهِ شكرا من غير أَن يَنْضَم إِلَيْهِ فعل غَيره، بِخِلَاف الموردين الآخرين، إِذْ لَا يكون فعل شَيْء مِنْهُمَا حمداً وَلَا شكرا حَقِيقَة مَا لم يَنْضَم إِلَيْهِ فعل الْقلب. قَالَ بَعضهم: (فَالْحَمْد أَعم بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَقع عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَقع على الْأَفْعَال وَالصِّفَات، وأخص بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَقع بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يكون إِلَّا بِاللِّسَانِ) . وَالشُّكْر أَعم بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَقع بِهِ، لِأَنَّهُ يَقع بالاعتقاد وَاللِّسَان وَالْفِعْل، وأخص بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَقع عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يكون إِلَّا فِي مُقَابلَة الْإِحْسَان فَهُوَ جَزَاء. فَالْحَمْد أَعم من الشُّكْر بِاعْتِبَار الْمُتَعَلّق، وأخص بِاعْتِبَار المورد، وَالشُّكْر أَعم من الْحَمد بِاعْتِبَار المورد وأخص بِاعْتِبَار الْمُتَعَلّق، فبينهما عُمُوم وخصوص / من وَجه، وشأن الْعُمُوم وَالْخُصُوص من وَجه أَن يجتمعا فِي صُورَة، وينفرد كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي صُورَة، فيجتمع الْحَمد وَالشُّكْر فِي الثَّنَاء بِاللِّسَانِ، وينفرد الْحَمد بالثناء على الصِّفَات الحميدة من غَيره، وينفرد الشُّكْر بالثناء بالجنان والأركان) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (الْحَمد أَعم من جِهَة أَسبَابه، وَالشُّكْر أَعم من جِهَة أَنْوَاعه. فَالْحَمْد أَعم؛ لكَونه هُوَ الثَّنَاء الْحسن مُطلقًا، أَعنِي: فِي مُقَابلَة السَّرَّاء وَالضَّرَّاء على جِهَة التَّعْظِيم. وَالشُّكْر هُوَ الثَّنَاء الْحسن على حسن الصَّنِيع، فَمن هَذَا الْوَجْه الشُّكْر أخص، وَمن جِهَة كَونه بالْقَوْل وَالْفِعْل أَعم. قَالَ الله تَعَالَى: {اعْمَلُوا ءال دَاوُد شكرا} [سبأ: 13] . وَقَالَ الشَّاعِر: (أفادتكم النعماء مني ثَلَاثَة ... يَدي ولساني وَالضَّمِير المحجبا) وَالْحَمْد لَا يكون إِلَّا بالْقَوْل، قَالَ الله تَعَالَى: {وَقل الْحَمد لله الَّذِي لم يتَّخذ ولدا} [الْإِسْرَاء: 111] ، {وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي أذهب عَنَّا الْحزن} [فاطر: 34] إِلَى غير ذَلِك، فَالْحَمْد وَالشُّكْر حِينَئِذٍ ضدهما الْكفْر) ، انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وَقَالَ ابْن الْقيم فِي " عدَّة الصابرين ": (الشُّكْر يتَعَلَّق بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان والجوارح، فالقلب للمعرفة والمحبة، وَاللِّسَان للثناء وَالْحَمْد، والجوارح لاستعمالها فِي طَاعَة المشكور وكفها عَن معاصية. وَالشُّكْر أخص بالأفعال، وَالْحَمْد أخص بالأقوال. وَسبب الْحَمد أَعم من سَبَب الشُّكْر، ومتعلق الشُّكْر وَمَا بِهِ الشُّكْر أَعم مِمَّا بِهِ الْحَمد. وَمَا يحمد الرب عَلَيْهِ أَعم مِمَّا يشْكر عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ يحمد على أَسْمَائِهِ وَصِفَاته وأفعاله ونعمه، ويشكر على نعمه. وَمَا يحمد بِهِ أخص مِمَّا يشْكر بِهِ؛ فَإِنَّهُ يشْكر بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان والجوارح، ويحمد بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان) انْتهى. وَلَقَد أَجَاد وأفصح عَن المُرَاد. وَقَالَ أَيْضا: (الْحَمد الْإِخْبَار عَنهُ بِصِفَات كَمَاله مَعَ محبته وَالرِّضَا وَعنهُ، فَإِن كرر المحامد شَيْئا بعد شَيْء صَار ثَنَاء، فَإِن كَانَ الْمَدْح بِصِفَات / الْجلَال وَالْعَظَمَة والكبرياء وَالْملك صَار مجلداً، وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسلم أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " قَالَ الله تَعَالَى: قسمت الصَّلَاة بيني وَبَين عَبدِي نِصْفَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ولعبدي مَا سَأَلَ، فَإِذا قَالَ: الْحَمد لله رب الْعَالمين، قَالَ الله: حمدني عَبدِي. وَإِذا قَالَ: الرَّحْمَن الرَّحِيم، قَالَ الله: أثنى عَليّ عَبدِي. وَإِذا قَالَ: مَالك يَوْم الدّين، قَالَ الله تَعَالَى: مجدني عَبدِي) فَفرق بَين الْحَمد وَالثنَاء، وَلَو كَانَ الْحَمد هُوَ الثَّنَاء لما صَحَّ الْفرق) انْتهى. وَذهب الْمبرد وَغَيره إِلَى أَن الْحَمد وَالشُّكْر بِمَعْنى وَاحِد. قلت: قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الْحَمد: الشُّكْر وَالرِّضَا وَالْجَزَاء وَقَضَاء الْحق، وَأحمد الله إِلَيْك وأشكره) انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وَقد قَالَ ابْن عَبَّاس: " معنى الْحَمد لله: الشُّكْر لله ". وَسُئِلَ - أَيْضا - عَن الْحَمد فَقَالَ: " كلمة شكر لأهل الْجنَّة ". ورده جمع وَقَالُوا: (لَيْسَ بمرضي) ؛ فَإِن فِي الحَدِيث: " الْحَمد رَأس الشُّكْر " رَوَاهُ الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره "، وَهُوَ دَال على الْفرق بَينهمَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وَقيل: الشُّكْر أَعم من الْحَمد؛ فَإِنَّهُ بِاللِّسَانِ والجوارح، وَالْحَمْد بِاللِّسَانِ فَقَط، ذكره ابْن الملقن. وَالْحَمْد لَا يكون إِلَّا عَن علم، وَالشُّكْر قد يكون عَن ظن، نَقله ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " مُخْتَصر لَهُ على الْمِنْهَاج ". تَنْبِيهَات: الأول: مَا ذكر من معنى الْحَمد وَالشُّكْر أَولا مَعْنَاهُمَا لُغَة، وَأما مَعْنَاهُمَا فِي عرف الْأُصُولِيِّينَ وَغَيرهم فَهُوَ: أَن الْحَمد لَيْسَ هُوَ قَول الْقَائِل: الْحَمد لله. وَإِن كَانَ هَذَا القَوْل فَردا من أَفْرَاد الْمَاهِيّة، بل هُوَ فعل يشْعر بتعظيم الْمُنعم بِسَبَب كَونه منعماً، وَذَلِكَ الْفِعْل: إِمَّا فعل الْقلب. أَعنِي: اعْتِقَاد اتصافه بِصِفَات الْكَمَال والجلال. أَو فعل اللِّسَان. أَعنِي: ذكر مَا يذكرهُ بِقَلْبِه. أَو فعل الْجَوَارِح. وَهُوَ الْإِتْيَان بِأَفْعَال دَالَّة على ذَلِك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وَالشُّكْر لَيْسَ هُوَ قَول الْقَائِل: الشُّكْر لله، وَلَا القَوْل الْمُطلق الدَّال على تَعْظِيم الله، وَإِن كَانَ الثَّانِي / جُزْءا مِنْهُ وَالْأول فَرد من هَذَا الْجُزْء، بل هُوَ صرف العَبْد جَمِيع مَا أنعم الله عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ إِلَى مَا خلق لأَجله من جَمِيع الْحَواس والآلات والقوى، فَالْحَمْد هُنَا أَعم من الشُّكْر مُطلقًا، فَكل شكر حمد وَلَا عكس. إِذا علم ذَلِك؛ فقد يوضع الْحَمد مَوضِع الشُّكْر، فَيُقَال: (حمدته على معروفه عِنْدِي) ، كَمَا يُقَال: (شكرته) وَلَا عكس، فَلَا يُقَال: (شكرته على شجاعته وَكَرمه) . فَائِدَة: اخْتلف فِي اشتقاق الْحَمد، فَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل: (هُوَ مُشْتَقّ من الحمدة، وَهِي شدَّة لَهب النَّار) . قلت: قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (حمدة النَّار بِالتَّحْرِيكِ، صَوت التهابها، وَيَوْم محتمد شَدِيد الْحر) انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: (هُوَ مقلوب من الْمَدْح، كَقَوْلِهِم: مَا أطيبه وأيطبه) وَيَأْتِي هَذَا. الثَّانِي: قد تقدم أَن بَين الْحَمد وَالشُّكْر اللغويين عُمُوما وخصوصاً من وَجه؛ لِأَن الْحَمد قد يَتَرَتَّب على الْفَضَائِل وَهِي الصِّفَات الجميلة لَا يتَجَاوَز مِنْهَا أثر وَلَا مَنْفَعَة إِلَى غير الممدوح كالشجاعة. وَالشُّكْر يخْتَص بالفواضل وَهِي النعم، وَهِي الصِّفَات والمزايا المتعدية الَّتِي يحصل مِنْهَا مَنْفَعَة لغير الممدوح، كالإحسان والمواهب والعطايا. وَبَين الْحَمد وَالشُّكْر العرفيين عُمُوم وخصوص مُطلقًا، فَالْحَمْد أَعم مُطلقًا لعُمُوم النعم الْوَاصِلَة إِلَى الحامد وَغَيره، واختصاص الشُّكْر بِمَا يصل إِلَى الشاكر. وَذَلِكَ لِأَن الْمُنعم الْمَذْكُور فِي تَعْرِيف الْحَمد مُطلق، لم يُقيد بِكَوْنِهِ منعماً على الحامد وَغَيره فتناولهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 بِخِلَاف الشُّكْر؛ إِذْ قد اعْتبر فِيهِ منعم مَخْصُوص وَهُوَ الله تَعَالَى، ونعمه واصلة إِلَى الشاكر. وَالنِّسْبَة بَين الحمدين اللّغَوِيّ والعرفي عُمُوم وخصوص من وَجه؛ لِأَن الْحَمد الْعرفِيّ هُوَ الشُّكْر اللّغَوِيّ. وَبَين الشكرين الْعرفِيّ واللغوي عُمُوم مُطلق؛ لِأَن الشُّكْر اللّغَوِيّ يعم النِّعْمَة إِلَى الْغَيْر دون الْعرفِيّ فَهُوَ أَعم والعرفي أخص مُطلقًا، وَكَذَا بَين الشُّكْر الْعرفِيّ / وَالْحَمْد اللّغَوِيّ؛ لِأَن الأول مَخْصُوص بِالنعْمَةِ على الشاكر سَوَاء كَانَ بِاللِّسَانِ أَو لَا، وَالثَّانِي - وَإِن خص بِاللِّسَانِ - فَهُوَ مشترط فِيهِ مُطَابقَة الْأَركان والجنان؛ ليَكُون على جِهَة التبجيل، وَقد لَا يكون فِي مُقَابلَة نعْمَة فَهُوَ أَعم مُطلقًا فَكل شكر عرفي حمد لغَوِيّ وَلَا ينعكس، وَهَذَا بِحَسب الْوُجُود، وَكَذَا بَين الْحَمد الْعرفِيّ وَالشُّكْر اللّغَوِيّ عُمُوم مُطلق - أَيْضا - إِذا قيدت النِّعْمَة فِي اللّغَوِيّ بوصلها إِلَى الشاكر، وَأما إِذا لم يتَقَيَّد فهما متحدان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وَأما الشُّكْر الْمُطلق فَهُوَ على قِيَاس مَا مضى من تَعْظِيم الْمُنعم بِصَرْف نعْمَته إِلَى مَا يرضيه. الثَّالِث: الْحَمد والمدح أَخَوان فِي الِاشْتِقَاق الْأَكْبَر لَا مُتَرَادِفَانِ، ويشتركان - أَيْضا - فِي الْمَعْنى؛ لِأَن الْحَمد هُوَ الثَّنَاء على الْجَمِيل الِاخْتِيَارِيّ من نعْمَة وَغَيرهَا. والمدح هُوَ الثَّنَاء على الْجَمِيل مُطلقًا. فاشتركا فِي الثَّنَاء، وَهُوَ الذّكر بِالْخَيرِ مُطلقًا، لَكِن الْحَمد يخْتَص بِأَهْل الْعلم بِخِلَاف الْمَدْح. وَلِأَنَّهُ شَامِل الْأَفْعَال الاختيارية وَغَيرهَا، وَالْحَمْد لَا يكون إِلَّا على الْأَفْعَال الاختيارية من الْإِحْسَان والفضائل. تَقول: (حمدته على علمه وَكَرمه) ، وَلَا نقُول: (حمدته على صباحة خَدّه ورشاقة قده) بل (مدحته) ، فالمدح أَعم، لِأَن كل حمد مدح وَلَيْسَ كل مدح حمداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وَالشُّكْر على النِّعْمَة خَاصَّة لَكِن بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان والجوارح، فبينه وَبَين الْحَمد والمدح عُمُوم من وَجه، كَمَا تقدم فِي الْحَمد وَالشُّكْر. وَقَالَ الرَّافِعِيّ وَتَبعهُ الرَّاغِب: (الْمَدْح أَعم من الْحَمد؛ لِأَن الثَّنَاء على الشَّخْص بِمَا لَا اخْتِيَار لَهُ [فِيهِ] كحسن الْوَجْه وَالْقد وَنَحْوهمَا يُطلق على الْمَدْح دون الْحَمد، وَحِينَئِذٍ يكون مُتَعَلق الْمَدْح هُوَ الممدوح عَلَيْهِ أَعم الثَّلَاثَة) انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: (الْحَمد مقلوب / الْمَدْح) كَمَا تقدم ذكره. تَنْبِيه: إِنَّمَا خص الْحَمد هُنَا دون الْمَدْح، ليؤذن بِالْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيّ، وَدون الشُّكْر ليعم الْفَضَائِل والفواضل، وَلِأَن الْحَمد رَأس الشُّكْر، واقتداء بِالْكتاب الْعَزِيز كَمَا تقدم. قَوْله: {لله} . أَقُول: قرن الْحَمد بِاللَّه دون سَائِر أَسْمَائِهِ لفائدتين جليلتين عظيمتين. إِحْدَاهمَا: أَنه اسْم للذات مُخْتَصّ بِهِ على مَا يَأْتِي قَرِيبا، فَيعم جَمِيع أَسْمَائِهِ الْحسنى. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: (وَاخْتِيَار الشَّافِعِي وَكثير من الْمُحَقِّقين: أَنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 اسْم علم للذات المقدسة - وَسَيَأْتِي ذَلِك وتعليله - وَالْألف وَاللَّام لَازِمَة لَهُ لَا للتعريف وَلَا لغيره) انْتهى. الثَّانِيَة: أَنه اسْم الله الْأَعْظَم عِنْد كثير من الْعلمَاء. قَالَ الْبَنْدَنِيجِيّ: (قَالَ أَكثر أهل الْعلم: اسْم الله الْأَعْظَم هُوَ الله) . وَاللَّام فِيهِ للاستحقاق والاختصاص، أَي: الْحَمد يخْتَص بِهِ الله تَعَالَى دون غَيره من الموجودات، أَي: أَنه مَقْصُور عَلَيْهِ لَا يسْتَحقّهُ أحد سواهُ. فَالله [يُقَال] اسْم للباري مُخْتَصّ لم يسم بِهِ غَيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ثمَّ قيل: بل هُوَ مُعرب من اللُّغَة السريانية نقلته الْعَرَب إِلَى لغتها، وَأَصله: (لَاها) فحذفوا الْألف من آخِره، وَأتوا بِالْألف وَاللَّام فِي أَوله. وَنسب هَذَا القَوْل إِلَى الْبَلْخِي، وَهُوَ وَجه لأَصْحَاب الشَّافِعِي، حَكَاهُ ابْن الملقن فِي الإشارات وَغَيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وَقَالَ الْجُمْهُور: بل هُوَ عَرَبِيّ. ثمَّ قيل: هُوَ مرتجل لَيْسَ بمشتق كأسماء الْأَعْلَام كزيد وَعمر، وَهُوَ محكي عَن الشَّافِعِي وَجمع من الْعلمَاء، وَنقل عَن أبي حنيفَة، والخليل بن أَحْمد، وَنَقله الْبَغَوِيّ عَن الْخَلِيل وَجَمَاعَة غَيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وَقيل: مُشْتَقّ، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، وَحَكَاهُ سِيبَوَيْهٍ عَن الْخَلِيل. ثمَّ قيل: هُوَ صفة لَا علم، فَهُوَ وصف فِي أَصله، لَكِن لما غلب عَلَيْهِ بِحَيْثُ إِنَّه لَا يسْتَعْمل فِي غَيره وَصَارَ كَالْعلمِ / مثل الثريا والصعق أجري مجْرَاه فِي إِجْرَاء الْوَصْف عَلَيْهِ، وَامْتِنَاع الْوَصْف بِهِ، وَعدم تطرق احْتِمَال الشّركَة؛ لِأَن ذَاته من حَيْثُ هُوَ هُوَ بِلَا اعْتِبَار أَمر آخر حَقِيقِيّ أَو غَيره غير مَعْقُول للبشر، وَهَذَا اخْتِيَار الْبَيْضَاوِيّ. وَقيل: علم لذاته الْمَخْصُوصَة، وَهُوَ الْأَصَح، وَتقدم اخْتِيَار الشَّافِعِي وَغَيره، لِأَنَّهُ يُوصف وَلَا يُوصف بِهِ، وَلِأَنَّهُ لابد من اسْم تجرى عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 صِفَاته، وَلَا يصلح لَهُ مِمَّا يُطلق عَلَيْهِ سواهُ، وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ وَصفا لم يكن قَول: (لَا إِلَه إِلَّا الله) توحيداً، مثل قَول: (لَا إِلَه إِلَّا الرَّحْمَن) ، فَإِنَّهُ لَا يمْنَع الشّركَة، قَالَه الْبَيْضَاوِيّ. ثمَّ اخْتلف فِي اشتقاقه. فَقيل: أَصله (الْإِلَه) ، ألقينا حَرَكَة الْهمزَة على لَام الْمعرفَة، ثمَّ سكنت أَو أدغمت فِي اللَّام الثَّانِيَة، ثمَّ فخمت إِذا لم يكسر مَا قبلهَا فَإِن [كسر] رققت، وَمِنْهُم من يرققها على كل حَال، وَمِنْهُم من يفخمها على كل حَال، والتفخيم من خواصه. قَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي: (همزَة " إِلَه " حذفت من غير إِلْقَاء، وَعوض عَنْهَا الْألف وَاللَّام، وَكَذَلِكَ قيل: " يَا ألله " بِالْقطعِ) . ف " أل " فِي الِاسْم الْجَلِيل، قيل: للتعريف تفخيماً وتعظيماً، ثمَّ صَار علما بالغلبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وَقيل: بل [هما] من أصل الْكَلِمَة، وَلَعَلَّ قَائِله أَرَادَ: إِذا قُلْنَا: إِنَّه غير مُشْتَقّ، وهمزة " إِلَه " أصل، وَهُوَ من أَله - بِكَسْر اللَّام - يؤله إلاهة وألوهة وألوهية بِمَعْنى عبد، فإله مصدر فِي مَوضِع الْمَفْعُول، أَي: المألوه وَهُوَ المعبود. وَقيل: من أَله: إِذا تحير، إِذْ الْعُقُول تتحير فِي مَعْرفَته. وَقيل: أَله: إِذا فزع من أَمر نزل عَلَيْهِ، وألهه غَيره: أجاره، إِذْ العابد يفزع إِلَيْهِ. أومن ألهت إِلَى فلَان: سكنت إِلَيْهِ؛ لِأَن الْقُلُوب تطمئِن بِذكرِهِ، والأرواح تسكن إِلَى مَعْرفَته، قَالَه الْمبرد. أَو من أَله الفصيل: إِذا / ولع بِأُمِّهِ؛ إِذْ الْعباد مولعون بالتضرع إِلَيْهِ فِي الشدائد. وَقيل: من أَله - بِفَتْح اللَّام - بِمَعْنى عبد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وَقيل: أصل الْهمزَة وَاو؛ لِأَنَّهُ من الوله، فأبدلت الْوَاو همزَة، كَمَا فِي إشاح أَصله وشاح، فالإله الَّتِي تتوله الْقُلُوب إِلَيْهِ، أَي: تتحير أَو تطرب. وَقيل: من وَله: إِذا تحير وتخبط عقله، وَكَانَ أَصله " ولاها " فقلبت الْوَاو همزَة؛ لاستثقال الكسرة عَلَيْهَا، وَهُوَ كَالَّذي قبله. وَقيل: أَصله لَام، وياء، وهاء، مصدر من لاه يَلِيهِ ليهاً: إِذا ارْتَفع، لِأَنَّهُ تَعَالَى مُرْتَفع على كل شَيْء وَعَما لَا يَلِيق بِهِ. وَقَالُوا فِي مقلوبه: لهى أَبوك. وَقيل: أَصله لَام، وواو، وهاء، من لاه يلوه: احتجب، لِأَنَّهُ مَحْجُوب عَن الْأَبْصَار، ثمَّ أدخلت الْألف وَاللَّام. وَحَاصِل مَا نقل فِي أصل الْجَلالَة قَولَانِ: أَحدهمَا: لاه، وَنقل عَن الْبَصرِيين. وَالثَّانِي: إِلَه، وَنقل عَن الْكُوفِيّين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فوزنه على الأول: " فعل " أَو " فعل " قلبت الْوَاو وَالْيَاء ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، وأدخلت " أل " وأدغمت اللَّام فِي اللَّام ولزمت، وَهِي زَائِدَة لم تفد تعريفاً فتعريفه بالعلمية، وَتقدم ذَلِك، ويقصد حذفهَا فِي قَوْلهم: لاه أَبوك، أَي: لله أَبوك. ووزنه على الثَّانِي: " فعال "، وَمَعْنَاهُ: مفعول، كالكتاب بِمَعْنى الْمَكْتُوب، وَقد تقدم أَيْضا. قَوْله: {الَّذِي وفْق} ، أَي: سهل طَرِيق الْخَيْر وَالطَّاعَة. والموفق اسْم فَاعل، وَهُوَ صفة من صِفَات الله تَعَالَى، سمي بِهِ؛ لِأَنَّهُ يوفق الْعباد، أَي: يرشدهم ويهديهم إِلَى طَاعَته، مَأْخُوذ من الوفق والموافقة وَهِي الالتحام بَين الشَّيْئَيْنِ. والتوفيق مصدر وفْق، قَالَ ابْن الْقيم فِي " شرح منَازِل السائرين ": (التَّوْفِيق إِرَادَة الله من نَفسه أَن يفعل بِعَبْدِهِ مَا يصلح بِهِ العَبْد، بِأَن يَجعله قَادِرًا على فعل مَا يرضيه، مرِيدا لَهُ محباً مؤثرا لَهُ على غَيره، وَيبغض إِلَيْهِ مَا يسخطه ويكرهه، وَهَذَا مُجَرّد فعله، وَالْعَبْد مَحل لَهُ. / قَالَ: وفسرت الْقَدَرِيَّة التَّوْفِيق، بِأَنَّهُ خلق الطَّاعَة، والخذلان: خلق الْمعْصِيَة) انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وَقَالَ الْبَغَوِيّ: (هُوَ تسهيل سَبِيل الْخَيْر وَالطَّاعَة) انْتهى. وَقَالَ غَيره: (هُوَ خلق قدرَة الطَّاعَة وتسهيل سَبِيل الْخَيْر، وَعَكسه الخذلان) . وَهُوَ قريب من الَّذِي قبله، أَو هُوَ هُوَ، وَنسب إِلَى الْمُتَكَلِّمين. وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْإِرْشَاد ": (صرفت الْمُعْتَزلَة التَّوْفِيق إِلَى خلق [لطف] يعلم الرب تَعَالَى أَن العَبْد يُؤمن عِنْده، والخذلان مَحْمُول على امْتنَاع اللطف) . إِذا علم ذَلِك؛ فَهُوَ الَّذِي وفْق الْإِنْسَان لمراشد أمره، وَلَوْلَا توفيقه - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لما قدر العَبْد على فعل شَيْء من الطَّاعَات، لَا من الْعلم وَلَا من غَيره، وَلَا ترك شَيْء من الْمعاصِي، والأشياء إِنَّمَا تحصل وتوجد بتوفيقه وتسديده، وَلكنه عَزِيز، وَلذَلِك يُقَال: (التَّوْفِيق أعز الْأَشْيَاء) . قَالَ بعض السّلف: (مَا نزل من السَّمَاء أعز من التَّوْفِيق، وَلَا صعد من الأَرْض أعز من الْإِخْلَاص) انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وَلِهَذَا لم يرد فِي الْقُرْآن إِلَّا فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. أَحدهَا: قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلَام: {وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب} [هود: 88] . الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى عَن الْحكمَيْنِ: {وَإِن يريدا إصلاحاً يوفق الله بَينهمَا} [النِّسَاء 35] الثَّالِث: قَوْله تَعَالَى عَن الْمُنَافِقين {ثمَّ جاءوك يحلفُونَ بِاللَّه إِن أردنَا إِلَّا إحسانا وتوفيقا} [النِّسَاء: 62] . قَوْله: {فَعلم} . أَي: بتوفيقه علىعلم الْإِنْسَان، وَلَوْلَا توفيقه وهدايته وتيسيره لما حصل الْعلم أحد وَلَا تعلمه، قَالَ الله تَعَالَى: {الَّذِي علم بالقلم علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} [العلق: 4 - 5] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وعلمك مَا لم تكن تعلم} [النِّسَاء: 113] ، وَقَالَ تَعَالَى: {الرَّحْمَن علم الْقُرْآن خلق الْإِنْسَان علمه الْبَيَان} [الرَّحْمَن: 1 - 4] وَقَالَ تَعَالَى: {وَعلم ءادم الْأَسْمَاء كلهَا} [الْبَقَرَة: 31] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقوا الله ويعلمكم [الله} [الْبَقَرَة: 282] ، وَهُوَ وَارِد] فِي آي كَثِيرَة، وَيَأْتِي قَرِيبا حد الْعلم. قَوْله: {وأنعم فألهم وَفهم} . / أنعم مصدره: إنعام، والإنعام: الْإِعْطَاء من غير مُقَابلَة. قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (أنعمها الله وأنعم بهَا: عطيته) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 فَهُوَ الَّذِي أنعم على عَبده، بِأَن ألهمه طَرِيق الْخَيْر والسعادة، وسهلها لَهُ، وفهمه مَعَاني كِتَابه وَسنة رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والعلوم النافعة والأعمال الصَّالِحَة. وَيَأْتِي معنى الإلهام عقب فصل الْأَعْيَان المنتفع بهَا، وَمعنى الْفَهم قَرِيبا. و" فهم " مضعف للفورية والتكثير. قَوْله: {وَالصَّلَاة} . ثلثنا بِذكر الصَّلَاة عَلَيْهِ - صلوَات لله وَسَلَامه عَلَيْهِ تترى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة - لما قَامَ بِهِ الدَّلِيل على ذَلِك عقلا ونقلاً. أما النَّقْل: فقد قرن الله تَعَالَى ذكره بِذكرِهِ فِي كِتَابه، فَهُوَ مَعَه فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَطيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول} [الْمَائِدَة: 92، والتغابن: 12] ، {وَمن يطع الله وَرَسُوله} [النِّسَاء: 13، والأحزاب: 71، وَالْفَتْح: 17] ، {وَالله وَرَسُوله أَحَق أَن يرضوه} [التَّوْبَة: 62] ، {ألم يعلمُوا أَنه من يحادد الله وَرَسُوله} [التَّوْبَة: 63] ، إِلَى غير ذَلِك من الْآيَات. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {ورفعنا لَك ذكرك} [الشَّرْح: 4] ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: (لَا أذكر إِلَّا وتذكر معي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وَقد رُوِيَ هَذَا التَّفْسِير مُسْندًا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَن رب الْعَالمين، ذكره النَّوَوِيّ وَغَيره. وَيدل على ذَلِك ذكره مَعَه فِي التَّشَهُّد، والخطب، والتأذين، وَغَيرهَا. وَأمر الله تَعَالَى الْمُؤمنِينَ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَام عَلَيْهِ، وَأخْبر أَنه وَمَلَائِكَته يصلونَ عَلَيْهِ فِي الْآيَة الْكَرِيمَة، وَأدنى مَرَاتِب الْأَمر الِاسْتِحْبَاب. وَأما عقلا: فَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الَّذِي علمنَا شكر الْمُنعم، وَكَانَ سَببا فِي كَمَال هَذَا النَّوْع، فَاسْتحقَّ أَن يقرن شكره بشكر الله تَعَالَى. وَأما مَعْنَاهُ. فَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الصَّلَاة: الدُّعَاء وَالرَّحْمَة وَالِاسْتِغْفَار وَحسن الثَّنَاء من الله تَعَالَى على رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ... وَصلى صَلَاة دَعَا) انْتهى. قَالَ ابْن الْقيم فِي / " جلاء الأفهام ": (أصل الصَّلَاة لُغَة يرجع إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الدُّعَاء والتبريك، لقَوْله تَعَالَى {وصل عَلَيْهِم إِن صلواتك سكن لَهُم} [التَّوْبَة: 103] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا} [التَّوْبَة: 84] ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا دعِي أحدكُم إِلَى الطَّعَام فليجب فَإِن كَانَ صَائِما فَليصل "، أَي: فَليدع، على الصَّحِيح) انْتهى. وَقَالَ السُّهيْلي: (معنى الصَّلَاة حَيْثُ تصرفت يرجع إِلَى الحنو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 والعطف، فَيكون محسوساً ومعقولاً، فيضاف إِلَى الله تَعَالَى مِنْهُ مَا يَلِيق بجلاله، وينفى عَنهُ مَا يتقدس عَنهُ. والحنو والعطف يتعديان بِحرف على كَمَا تعدت الصَّلَاة بِهِ، وهما مخصوصان بِالْخَيرِ) انْتهى. وَقَالَ بَعضهم: (لفظ الصَّلَاة يجمع أَنْوَاع الدُّعَاء الصَّالح) . وَقَالَ الزّجاج: (أَصْلهَا اللُّزُوم) . إِذا علم ذَلِك، فقد قَالَ كثير من الْعلمَاء: (إِن الصَّلَاة من الله الرَّحْمَة، وَمن الْمَلَائِكَة الاسْتِغْفَار، وَمن العَبْد التضرع وَالدُّعَاء) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 قَالَ الضَّحَّاك، والمبرد، وَابْن عَطِيَّة، والسخاوي: (الصَّلَاة من الله رَحمته) . وَقَالَ الضَّحَّاك - أَيْضا -: (الصَّلَاة من الله الْمَغْفِرَة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة: (صَلَاة الله على رَسُوله: ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْد الْمَلَائِكَة) ، ذكره البُخَارِيّ فِي " صَحِيحه ". وَفِي رِوَايَة: (صَلَاة الله: ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ، وَصَلَاة الْمَلَائِكَة عَلَيْهِ: الدُّعَاء) . وَفِي البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " معنى يصلونَ يبركون ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 قَالَ الْمَاوَرْدِيّ فِي " تَفْسِيره ": (فِي قَوْله تَعَالَى: " يصلونَ " أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: ثَنَاؤُهُ، ثَانِيهَا: كرامته، ثَالِثهَا: رَحمته، رَابِعهَا: مغفرته. وَفِي صَلَاة الْمَلَائِكَة قَولَانِ: أَحدهمَا: دعاؤهم، وَالثَّانِي: استغفارهم) انْتهى. وَقد ورد فِي الحَدِيث صفةصلاة الْمَلَائِكَة على من جلس ينْتَظر الصَّلَاة: " اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ، اللَّهُمَّ ارحمه " فَهَذَا دُعَاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وَاخْتَارَ ابْن الْقيم فِي " جلاء الأفهام ": (أَن صَلَاة الله عَلَيْهِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ / وَإِرَادَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الْآفَات كلهَا. قَالَ ابْن الْقيم فِي " بَدَائِع الْفَوَائِد ": (فِي معنى السَّلَام الْمَطْلُوب عِنْد التَّحِيَّة قَولَانِ مشهوران. أَحدهمَا: أَن الْمَعْنى: اسْم السَّلَام عَلَيْكُم، وَالسَّلَام هُنَا هُوَ الله تَعَالَى، وَمعنى الْكَلَام: نزلت بركَة الله عَلَيْكُم وحلت عَلَيْكُم وَنَحْوه. وَالثَّانِي: أَن السَّلَام مصدر بِمَعْنى السَّلامَة، وَهُوَ الْمَطْلُوب الْمَدْعُو عِنْد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 التَّحِيَّة، وَهُوَ أولى، لِأَنَّهُ يُنكر فَيُقَال: سَلام عَلَيْكُم، وَلَو كَانَ من أَسمَاء الله تَعَالَى لم يُنكر، لِأَن التنكير لَا يصرف اللَّفْظ إِلَى معنى، فضلا عَن أَن يصرفهُ إِلَى الله وَحده، بِخِلَاف الْمُعَرّف فَإِنَّهُ يصرفهُ إِلَيْهِ تعييناً إِذا ذكرت أسماؤه الْحسنى. وَأَيْضًا: عطف الرَّحْمَة وَالْبركَة عَلَيْهِ، إِذا قَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، يدل على أَن المُرَاد الْمصدر، وَلِهَذَا عطف عَلَيْهِ مصدرين مثله؟ وَلَو كَانَ من أَسْمَائِهِ لم يستقم الْكَلَام إِلَّا بإضمار، وَتَقْدِيره: بركَة اسْم السَّلَام عَلَيْكُم، فَإِن الِاسْم نَفسه لَيْسَ عَلَيْهِم، وَلَو قلت: اسْم الله عَلَيْكُم كَانَ مَعْنَاهُ: بركَة هَذَا الِاسْم، وَالتَّقْدِير خلاف الأَصْل، وَلَا دَلِيل عَلَيْهِ. ثمَّ اخْتَار قولا ثَالِثا جمع فِيهِ بَين قَوْلَيْنِ، وَذَلِكَ أَن لفظ السَّلَام تضمن مَعْنيين: أَحدهمَا: ذكر الله، وَالثَّانِي: طلب السَّلامَة، وَهُوَ مَقْصُود الْمُسلم، فقد تضمن اسْما من أَسمَاء الله وَطلب السَّلامَة مِنْهُ) انْتهى. وَقَالَ فِي " الشفا ": (فِي معنى السَّلَام عَلَيْهِ ثَلَاثَة وُجُوه: أَحدهَا: السَّلامَة لَك ومعك، وَيكون [السَّلَام] مصدرا كاللذاذ واللذاذة. الثَّانِي: أَي: السَّلَام على حفظك ورعايتك متول لَهُ وكفيل بِهِ، وَيكون السَّلَام هُنَا اسْم الله تَعَالَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الثَّالِث: أَن السَّلَام بِمَعْنى المسالمة لَهُ والانقياد، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجاً مِمَّا قضيت يسلمُوا تَسْلِيمًا} [النِّسَاء: 65] . تَنْبِيه: أضفنا السَّلَام إِلَى الصَّلَاة / عَلَيْهِ - صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ - لنخرج من خلاف الْعلمَاء فِي كَرَاهَة إِفْرَاد الصَّلَاة عَلَيْهِ. لِأَن بعض أهل الْعلم كره إِفْرَاد الصَّلَاة عَلَيْهِ من غير ذكر السَّلَام، لقَوْله تَعَالَى: {إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا صلوا عَلَيْهِ وسلموا تَسْلِيمًا} [الْأَحْزَاب: 56] . وَلِهَذَا قَالَ النَّوَوِيّ فِي خطْبَة " شرح مُسلم ": (يكره إِفْرَاد الصَّلَاة عَن التَّسْلِيم) انْتهى. وَكَانَ يَنْبَغِي لمن يُصَلِّي عَلَيْهِ أَن يسلم، امتثالاً لقَوْله تَعَالَى: {وسلموا تَسْلِيمًا} [الْأَحْزَاب: 56] . وَقَالَ النَّوَوِيّ - أَيْضا - مَا مَعْنَاهُ: (إِن الْعلمَاء كَرهُوا ذَلِك) ، وَظَاهره أَنه مُتَّفق عَلَيْهِ. قَالَ بعض الْعلمَاء الْمُتَأَخِّرين - الَّذِي لم يطلع إِلَّا على نقل النَّوَوِيّ وَكَأَنَّهُ سلمه إِلَيْهِ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ -: (والعذر عَمَّن أفرد من الْعلمَاء الصَّلَاة، أَنه قد يكون الْمَعْنى كَرَاهَة اتِّخَاذ الْإِفْرَاد عَادَة، وعَلى هَذَا يَكْفِي جَمعهمَا مرّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وعَلى التنزل، فَيحْتَمل أَن يكون من فعل ذَلِك مِنْهُم جَمعهمَا بِلِسَانِهِ وَاقْتصر على كِتَابَة أَحدهمَا. وعَلى التنزل، فَيحْتَمل أَن تكون الْكَرَاهَة بِمَعْنى خلاف الأولى، فَلَا يشْتَد التحاشي من ارتكابه، أَو يحمل الْحَال على الذهول. وَقد علمت من طروق هَذِه الِاحْتِمَالَات أَن أفرد من أَفْرَاد أَحدهمَا من الْعلمَاء لَا يدل على عدم الْكَرَاهَة) انْتهى. قلت: مَا تقدم من ذَلِك كُله فِيهِ ضعف، وَبَعضه لَا يَنْبَغِي نسبته إِلَى الْعلمَاء الراسخين فِي الْعلم، الَّذين تركُوا السَّلَام، بل تَركهم لذَلِك يدل على عدم الْكَرَاهَة ظَاهرا، ويرشحه مَا رَوَاهُ مُسلم وَغَيره أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من صلى عَليّ صَلَاة صلى الله عَلَيْهِ عشرا) ، وَفِي غير مُسلم " سبعين "، وَظَاهره الِاقْتِصَار على الصَّلَاة، وَهَذَا أظهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وَقد قَالَ الإِمَام الْحَافِظ شهَاب الدّين ابْن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ فِي الحَدِيث الَّتِي قَالَت الصَّحَابَة فِيهِ: يَا رَسُول الله، هَذَا السَّلَام عَلَيْك فقد عَرفْنَاهُ، فَكيف نصلي عَلَيْك؟ ... إِلَى آخِره قَالَ: (وَاسْتدلَّ بِهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الحَدِيث على أَن إِفْرَاد الصَّلَاة عَن التَّسْلِيم لَا يكره، وَكَذَا الْعَكْس، لِأَن تَعْلِيم التَّسْلِيم / تقدم قبل تَعْلِيم الصَّلَاة، وأفرد التَّسْلِيم مُدَّة فِي التَّشَهُّد قبل الصَّلَاة عَلَيْهِ. وَقد صرح النَّوَوِيّ بِالْكَرَاهَةِ، وَاسْتدلَّ بورود الْأَمر بهما مَعًا فِي الْآيَة. قَالَ: وَفِيه نظر؛ نعم يكره أَن يفرد الصَّلَاة وَلَا يسلم أصلا، أما لَو صلى فِي وَقت، وَسلم فِي وَقت آخر، فَإِنَّهُ يكون ممتثلاً) انْتهى. قلت: لَو قيل إِن الْآيَة لم تَشْمَل مَا إِذا صنف الْإِنْسَان كتابا أَو كتب رِسَالَة وَنَحْوهمَا لَكَانَ قَوِيا، لِأَن الْآيَة إِنَّمَا وَردت فِي القَوْل إِذا قَالَه، فَإِذا صلى على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلِسَانِهِ فيردفه بِالتَّسْلِيمِ، هَذَا مَحل الْخلاف فِي الْكَرَاهَة - فِيمَا يظْهر لي - وَهُوَ ظَاهر الْآيَة. فَإِن قيل: قَوْله تَعَالَى: {صلوا عَلَيْهِ وسلموا تَسْلِيمًا} [الْأَحْزَاب: 56] ، يَشْمَل الْفِعْل أَيْضا. قلت: أصل وضع الْأَمر لِلْقَوْلِ، وإطلاقه على الْفِعْل مجَاز، وَأَيْضًا إِطْلَاقه على التَّسْلِيم يكون قد جمع فِيهِ بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز بِلَفْظ، وَفِي الْمَسْأَلَة خلاف يَأْتِي، وَمَا الَّذِي اضْطر إِلَى ارْتِكَاب ذَلِك كُله؟ ! قَوْله: {على أفضل خلق الله} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 هَذَا مِمَّا لَا يشك فِيهِ مُسلم، وَقد ورد فِي معنى ذَلِك أَحَادِيث تدل عَلَيْهِ، مِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنا سيد ولد آدم وَلَا فَخر ". وَمِنْهَا: مَا خصّه الله تَعَالَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. فَفِي الدُّنْيَا: كَونه بعث إِلَى النَّاس كَافَّة، وَغَيره مِمَّا لَا يُحْصى. وَفِي الْآخِرَة: اخْتِصَاصه بالشفاعة، والأنبياء تَحت لوائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وَمَا أعطي ذَلِك واختص بِهِ، إِلَّا لشرفه وفضله وعظمه عِنْد الله تَعَالَى. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُوتيت فواتح الْكَلم وخواتمه وجوامعه " رَوَاهُ أَحْمد، وَفِي رِوَايَة: " وَاخْتصرَ لي الحَدِيث اختصاراً ". فَبَعثه الله تَعَالَى بجوامع الْكَلم، وَخَصه ببدائع الحكم. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: " بعثت بجوامع الْكَلم ". قَالَ الزُّهْرِيّ: (جَوَامِع الْكَلم فِيمَا بلغنَا: أَن الله تَعَالَى يجمع لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الْأُمُور / الْكَثِيرَة الَّتِي كَانَت تكْتب فِي الْكتب قبله فِي الْأَمر الْوَاحِد والأمرين وَنَحْو ذَلِك) . وَرُوِيَ عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " فضلت على من قبلي بست وَلَا فَخر "، فَذكر مِنْهَا " وَأُوتِيت جَوَامِع الْكَلم "، وَهَذَا مِمَّا لَا يحْتَاج إِلَى إطالة وَلَا تَقْرِير. قَوْله: {وَأعلم} . كَونه أعلم خلق الله من الْمُتَّفق عَلَيْهِ بَين الْأمة من غير توقف، لِأَن من تتبع مجاري أَحْوَاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وطالع جَوَامِع كَلمه، وَعلمه بِمَا فِي الْكتب الْمنزلَة، وَحكم الْحُكَمَاء، وسير الْأُمَم الْمَاضِيَة وأيامها، وَضرب الْأَمْثَال، وسياسة الْأَنَام، وَتَقْرِير الشَّرَائِع، وتأصيل الْآدَاب النفسية، والشيم الحميدة، إِلَى فنون الْعلم، وَغير ذَلِك، دون تَعْلِيم وَلَا مدارسة وَلَا مطالعة كتب، تحقق أَنه أعلم الْعلمَاء، وأعقل الْعُقَلَاء، وَالْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة قبل تدل على ذَلِك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 قَالَ وهب بن مُنَبّه: (قَرَأت فِي أحد وَسبعين كتابا، فَوجدت فِي جَمِيعهَا: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرجح النَّاس عقلا وأفضلهم رَأيا) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: فَوجدت فِي جَمِيعهَا: (أَن الله تَعَالَى لم يُعْط جَمِيع الْخلق من بَدْء الدُّنْيَا إِلَى انْقِضَائِهَا من الْعقل فِي جنب عقله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، إِلَّا كحبة رمل بَين رمال الدُّنْيَا) . فَائِدَة: سمي نَبينَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِكَثْرَة خصاله المحمودة. أَي: ألهم الله تَعَالَى أَهله ذَلِك لما علم من خالصه المحمودة، قَالَه ابْن فَارس. وَقَالَت أمة: (سَمَّاهُ الله بذلك) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وَقيل: (إِن جده سَمَّاهُ فِي سابعه) . قَالَ أهل اللُّغَة: (يُقَال رجل مُحَمَّد ومحمود أَي: كثير الْخِصَال المحمودة) . وَأنْشد الْجَوْهَرِي وَغَيره: (إِلَيْك أَبيت اللَّعْن كَانَ كلالها ... إِلَى الْمَاجِد القرم الْجواد المحمد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وَهُوَ علم مَنْقُول من التَّحْمِيد، مُشْتَقّ من الحميد اسْم الله تَعَالَى، لمبالغة ليحمده / أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض. قَالَ الْبَغَوِيّ: (مُحَمَّد هُوَ الْمُسْتَغْرق لجَمِيع المحامد، لِأَن الْحَمد لَا يستوجبه إِلَّا الْكَامِل، والتحميد فَوق الْحَمد، فَلَا يسْتَحقّهُ إِلَّا المستولي على الْأَمر فِي الْكَمَال، وَأكْرم الله نبيه وَصفيه باسمين مشتقين من أَسْمَائِهِ - جلّ جَلَاله -: مُحَمَّد وَأحمد) انْتهى. وَقد أَشَارَ إِلَيْهِ حسان بقوله: (وشق لَهُ من اسْمه ليجله ... فذو الْعَرْش مَحْمُود وَهَذَا مُحَمَّد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 قَالَ السُّهيْلي: (الْمَحْمُود الَّذِي حمد مرّة بعد مرّة، كَمَا قَالُوا فِي المكرم والممدح) . وَلما شاع قبل وِلَادَته أَن نَبينَا يظْهر يبْعَث من الْعَرَب واسْمه مُحَمَّد، سمى جمَاعَة أَبْنَاءَهُم الَّذين ولدُوا فِي تِلْكَ الْأَيَّام مُحَمَّدًا رَجَاء أَن يكون هُوَ، وَالله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسالاته. فَذكر أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن حبيب: أَن الَّذين سموا أَوْلَادهم بِمُحَمد سِتَّة، وهم: مُحَمَّد بن سُفْيَان بن مجاشع، جد الفرزدق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وَمُحَمّد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي، وَهُوَ أَخُو عبد الْمطلب لأمه، وَمُحَمّد بن بحران الْجعْفِيّ، مُحَمَّد بن مسلمة الْأنْصَارِيّ، وَمُحَمّد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ابْن الْبكْرِيّ، وَمُحَمّد بن الْخُزَاعِيّ السّلمِيّ. وَقيل: أول من تسمى بِمُحَمد، مُحَمَّد بن سُفْيَان. واليمن تَقول: بل مُحَمَّد بن اليحمد من الأزد، وَهَذَا سَابِع. وَسبب تسميتهم بذلك: أَن آبَاء هَؤُلَاءِ كَانُوا قد وفدوا على بعض الْمُلُوك، وَكَانَ عِنْده علم بِالْكتاب الأول، فَأخْبرهُم بمبعث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وباسمه، وَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُم قد خلف امْرَأَته حَامِلا، فَنَذر كل وَاحِد مِنْهُم إِن ولد لَهُ ولد أَن يُسَمِّيه مُحَمَّدًا، فَفَعَلُوا ذَلِك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وَمِنْهُم من زَاد على مَا سلف: مُحَمَّد بن عتوارة الْكِنَانِي، وَمُحَمّد بن حرماز بن مَالك التَّمِيمِي، فيكمل تِسْعَة، وَالله أعلم. قَالَ ابْن الهائم: وَقد بَلغهُمْ بعض الْحفاظ سَبْعَة عشر شخصا. وَأما أَحْمد فَلم يسلم بِهِ أحد قبل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لَكِن لم يكن / مُحَمَّدًا حَتَّى كَانَ أَحْمد، حمد ربه فنبأه وشرفه، فَلذَلِك تقدم اسْم أَحْمد على اسْم مُحَمَّد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 فَذكر عِيسَى فَقَالَ: {اسْمه أَحْمد} [الصَّفّ: 6] ، وَذكره مُوسَى حِين قَالَ ربه: " تِلْكَ أمة أَحْمد "، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من أمة أَحْمد ". فبأحمد ذكر قبل أَن يذكر بِمُحَمد، لِأَن حَمده لرَبه كَانَ قبل حمد النَّاس لَهُ، فَلَمَّا وجد وَبعث كَانَ مُحَمَّدًا بِالْفِعْلِ. قَالَه بَعضهم. {وعَلى آله} . الْآل جمع لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وَأَصله فِي قَول النّحاس: (أهل) ، فأبدل من الْهَاء همزَة وَمن الْهمزَة ألف. وَفِي قَول يُونُس وَالْكسَائِيّ: (أول) فأبدلت الْوَاو ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا. وعزى بَعضهم الأول لسيبويه أَيْضا. ثمَّ اخْتلف النُّحَاة فِي جَوَاز إِضَافَة (آل) إِلَى الضَّمِير، فجوزه الْأَكْثَر كالمظهر، وَعمل أَكثر المصنفين عَلَيْهِ، وَمنعه جمع مِنْهُم الْكسَائي والنحاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 والزبيدي، وَقَالُوا: لَا تصح إِضَافَته إِلَى مُضْمر. وَاخْتلف الْعلمَاء أَيْضا فِي الْآل من هُوَ؟ على أَقْوَال: أَحدهَا: أَنهم أَتْبَاعه على دينه، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح من الْمذَاهب، نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَعَلِيهِ أَكثر الْأَصْحَاب، قَالَه الْمجد فِي " شرح الْهِدَايَة " [و] هُوَ قَول القَاضِي وَغَيره من الْأَصْحَاب، وقدنه فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 " الْمُغنِي "، و " الشَّرْح "، و " شرح الْمجد "، وَابْن منجا، وَابْن عبد الْقوي، وَابْن عُبَيْدَان، وَابْن ... ... ... ... ... ... ... . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 رزين، فِي شروحهم، وَابْن تَمِيم، وَابْن حمدَان فِي " الرِّعَايَة الْكُبْرَى "، و " صَاحب المطلع "، وَغَيرهم، وَاخْتَارَهُ الْأَزْهَرِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وَغَيره من الْمُحَقِّقين. وَقيل: هم وأزواجه وعشيرته مِمَّن آمن بِهِ. وَقيل: بَنو هَاشم. وَقيل: وَبَنُو الْمطلب - أَيْضا - وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَأكْثر أَصْحَابه. وَقيل: أَهله. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: هم أهل بَيته. - وَقَالَ - نَص عَلَيْهِ أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وَاخْتِيَار الشريف أبي جَعْفَر وَغَيره وَصَححهُ، فَمنهمْ بَنو هَاشم، وَفِي بني الْمطلب روايتا الزَّكَاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 - وَاخْتَارَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَيْضا -: دُخُول أَزوَاجه وَأهل بَيته. وَأَن أفضل أهل بَيته: عَليّ، وَفَاطِمَة، وَحسن وحسين، الَّذين أدَار عَلَيْهِم الكساء وخصهم بِالدُّعَاءِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وَظَاهر / كَلَامه فِي مَوضِع آخر: أَن حَمْزَة أفضل من حسن وحسين، وَاخْتَارَهُ بَعضهم. وَقَالَ ابْن الْقيم فِي " جلاء الأفهام ": (فِي الْآل أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهمَا: هم الَّذين حرمت عَلَيْهِم الزَّكَاة، نَص عَلَيْهِ أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَأكْثر أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، فعلى هَذَا القَوْل فيهم ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهمَا: بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وَالثَّانِي: هم بَنو هَاشم خَاصَّة، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد، وَقَول ابْن الْقَاسِم. وَالثَّالِث: بَنو هَاشم وَمن فَوْقهم إِلَى غَالب، فَدخل بَنو الْمطلب وَبَنُو أُميَّة وَبَنُو نَوْفَل وَمن فَوْقهم، اخْتَارَهُ أَشهب وإصبغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وَالْقَوْل الثَّانِي: آله أَزوَاجه وَذريته، حَكَاهُ ابْن عبد الْبر فِي " التَّمْهِيد ". وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن آله أَتْبَاعه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، حَكَاهُ ابْن عبد الْبر عَن بعض أهل الْعلم، وأقدم من قَالَه جَابر بن عبد الله، ذكره الْبَيْهَقِيّ عَنهُ، وَاخْتَارَهُ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي، حَكَاهُ عَنهُ أَبُو الطّيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الطَّبَرِيّ، وَرجحه النَّوَوِيّ فِي " شرح مُسلم "، وَاخْتَارَهُ الْأَزْهَرِي. وَالْقَوْل الرَّابِع: آله: الأتقياء من أمته، حَكَاهُ القَاضِي حُسَيْن والراغب وجماعته) انْتهى نقل ابْن الْقيم، وَذكر لكل قَول من هَذِه أَدِلَّة وحججاً، فليعاودها من أرادها. نُكْتَة: قد جرت عَادَة غَالب المصنفين وَغَيرهم بِتَقْدِيم الْآل على الْأَصْحَاب، فعلى قَول من قَالَ: إِن الْآل أَتْبَاعه، وَاضح، وَيكون من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وَأما على قَول غَيرهم، فقدموهم لِلْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِم، وَلِهَذَا وَجَبت فِي التَّشَهُّد على قَول، وهم - أَيْضا - أشرف نسبا وَإِن كَانَ فِي الصَّحَابَة من هُوَ أفضل كَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ. وَقَالَ بَعضهم: (لما كَانَت الصَّلَاة على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تالية لحمد الله، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الَّذِي علمنَا شكر الْمُنعم، وَكَانَ سَببا فِي كَمَال هَذَا النَّوْع، فَاسْتحقَّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَن يقرن شكره بشكره) ، كَمَا تقدم. قَالَ: (ولهذه الْعلَّة بِعَينهَا ثلث بالآل) . قَوْله: {وَأَصْحَابه} . أَصْحَاب جمع صَاحب، وَسَيَأْتِي مَعْرفَته فِي معرفَة الصَّحَابَة مُبينًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 قَوْله {أولي / الْعُلُوم وَالْحكم} . اخْتصَّ الله تَعَالَى الصَّحَابَة بعلوم وَحكم لم يلْحقهَا أحد مِمَّن مضى، وَلَا مِمَّن أَتَى بعدهمْ، منحة من الله فضلا ونعمة، وَلِهَذَا قَالَ عبد الله ابْن مَسْعُود: " من كَانَ مِنْكُم مستناً فَليَسْتَنَّ بِمن قد مَاتَ، فَإِن الْحَيّ لَا يُؤمن عَلَيْهِ الْفِتْنَة، أُولَئِكَ أَصْحَاب مُحَمَّد، كَانُوا أفضل هَذِه الْأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علما، وأقلها تكلفاً، قوم اخْتَارَهُمْ الله لصحبة نبيه، وَإِقَامَة دينه، فاعرفوا لَهُم فَضلهمْ، واتبعوهم فِي آثَارهم، وتمسكوا مَا اسْتَطَعْتُم من أَخْلَاقهم وَدينهمْ، فَإِنَّهُم كَانُوا على الْهدى الْمُسْتَقيم "، رَوَاهُ غير وَاحِد مِنْهُم ابْن بطة عَن قَتَادَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 فسبحان من أَعْطَاهُم واختصهم بِهَذِهِ المزايا، وبصحبة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، رزقنا الله محبتهم وَاتِّبَاع آثَارهم، وَلَا جعل فِي قُلُوبنَا غلاً للَّذين آمنُوا. نُكْتَة: إِنَّمَا جَمعنَا بَين الْآل وَالْأَصْحَاب مُخَالفَة للمبتدعة؛ لأَنهم يوالون الْآل فَقَط، وَأهل السّنة يوالون الْآل وَالْأَصْحَاب. وجمعنا الْعلم بقولنَا: الْعُلُوم، وَإِن كَانَ الْعلم جِنْسا، لاخْتِلَاف أَنْوَاعه. فَائِدَة: يجوز الصَّلَاة على غير الْأَنْبِيَاء - صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ - مُنْفَردا من غير ذكر الرَّسُول مَعَه على الصَّحِيح من الْمَذْهَب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 نَص عَلَيْهِ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَغَيره، وَاخْتَارَهُ أَكثر الْأَصْحَاب، مِنْهُم: القَاضِي، وَابْن عقيل، وَالشَّيْخ عبد الْقَادِر، وَقدمه فِي " الْفُرُوع " وَغَيره. قَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْخرقِيّ " فِي الْخطْبَة: (وَلَا يخْتَص بالأنبياء عندنَا، لقَوْل عَليّ لعمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: " صلى الله عَلَيْك ") . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وَقيل: لَا يصلى على غير الْأَنْبِيَاء إِلَّا تبعا، جزم بِهِ الْمجد والناظم، وَقدمه ابْن تَمِيم، وَابْن حمدَان فِي " الرِّعَايَة الْكُبْرَى "، وَابْن مُفْلِح فِي " الْآدَاب "، وَغَيرهم، وَقَالَ ابْن مُفْلِح: (وكرهها جمَاعَة) ، وَقيل: يحرم، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين مَعَ الشعار، فَإِنَّهُ ورد عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: " لَا تصلح الصَّلَاة إِلَّا على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (إِنَّمَا قَالَه ابْن عَبَّاس لما صَارَت الشِّيعَة تخص بِالصَّلَاةِ عليا دون غَيره) . قَوْله: {أما بعد} . أَي: بعد مَا ذكر من حمد الله وَالصَّلَاة على رَسُوله. وَهَذِه الْكَلِمَة يَأْتِي بهَا الْمُتَكَلّم / إِذا أَرَادَ الِانْتِقَال من أسلوب إِلَى غَيره. قَالَ: أما بعد) . وَيسْتَحب الْإِتْيَان بهَا فِي الْخطب والمكاتبات اقتدار بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِن كَانَ يَقُولهَا فِي خطبه وَشبههَا، رَوَاهُ عَنهُ الْخَمْسَة وَثَلَاثُونَ صحابياً، ذكر الْحَافِظ الرهاوي اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ فِي كِتَابه " الْأَرْبَعين "، وَذكر رِوَايَة كل وَاحِد مِنْهُم بِالْأَسَانِيدِ. وَزَاد ابْن مَنْدَه فِي مستخرجه ثَلَاثَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 فَالَّذِي ذكرهم الرهاوي: سعد بن أبي وَقاص، وَعبد الله ابْن مَسْعُود، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، وَعبد الله بن ... ... . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 عمر، وَالْفضل بن الْعَبَّاس. وَعبد الله بن عَبَّاس، وَجَابِر بن عبد الله، وَعقبَة بن ... ... ... ... ... . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 عَامر، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَسمرَة بن جُنْدُب، وعدي بن حَاتِم، وَأَبُو حميد السَّاعِدِيّ، والطفيل بن ... ... ... ... ... ... ... ... ... . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 سَخْبَرَة، وَجَرِير بن عبد الله، وَأَبُو سُفْيَان بن حَرْب، وَزيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ابْن أَرقم، وَأَبُو بكرَة، وَأنس ابْن مَالك، وَزيد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 خَالِد، وقرة بن دعموص النميري، والمسور بن مخرمَة، وَجَابِر بن سَمُرَة، وَعمر بن تغلب، وزر بن أنس السّلمِيّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وَالْأسود ابْن سريع، وَأَبُو شُرَيْح بن عَمْرو الْخُزَاعِيّ، وَعَمْرو ابْن حزم، وَعبد الله بن عكيم، وَعقبَة بن ... ... ... ... ... ... . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 مَالك، وَعَائِشَة، وَأَسْمَاء ابنتا الصّديق، - رَضِي الله عَنْهُم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 أَجْمَعِينَ - وَالَّذِي زادهم ابْن مندة فِي " مستخرجه ": الْبَراء بن عَازِب، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَأَبُو شَدَّاد رجل من أهل (ذمار) قَرْيَة من قرى عمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 فَأَما (أما) فحرف تَفْصِيل، وأصل وَضعهَا: أَن تذكر لتفصيل شَيْئَيْنِ فَأكْثر، فَيكون بعْدهَا (أما) أُخْرَى. تَقول إِذا أردْت تَفْصِيل أَحْوَال جمَاعَة: أما زيد فكريم، وَأما عَمْرو ففاضل. وَقد تذكر وَحدهَا كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَأَما الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ ... .} الْآيَة [آل عمرَان: 7] وَهِي متضمنة معنى الشَّرْط، لارتباط الحكم الْمَذْكُور بعْدهَا بالمحكوم عَلَيْهِ ولزومه لَهُ. وَقد قَالَ سِيبَوَيْهٍ: (مَعْنَاهَا: مهما يكن من شَيْء) . وَفِي " الْمُحكم ": (مَعْنَاهَا: أما بعد دعائي إِلَيْك) . وَفِي " الْجَامِع " للقزاز: / (يَعْنِي: بعد الْكَلَام الْمُتَقَدّم، أَو بعد مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 يبلغنِي من الْخَبَر، ثمَّ حذفوا هَذَا كُله) . وَقَالَ بَعضهم: (هِيَ حرف إِخْبَار مضمن معنى الشَّرْط) . فَالْأَصْل على قَول سِيبَوَيْهٍ فِي قَوْلك: أما يزِيد فمنطلق: مهما يكن من شَيْء فزيد منطلق، فَحذف فعل الشَّرْط وأداته وأقيمت (أما) مقامهما، فَكَانَ الأَصْل أَن يُقَال: أما فزيد منطلق، فتجعل فِي صدر الْجَواب، وَإِنَّمَا أخرت لضرب من اصْطِلَاح اللَّفْظ. و (بعد) من الظروف المبنية المنقطعة من الْإِضَافَة، وَالْعَامِل لَهَا (أما) لنيابتها عَن الْفِعْل، وَالْأَصْل: مهما يكن من شَيْء بعد الْحَمد وَالثنَاء، كَمَا تقدم، و (مهما) هُنَا مُبْتَدأ، والاسمية لَازِمَة للمبتدأ، و (يكن) شَرط، و (الْفَاء) لَازِمَة لَهُ غَالِبا، فحين تَضَمَّنت (أما) معنى الِابْتِدَاء وَالشّرط لزمتها (الْفَاء) ، ولصوق الِاسْم إِقَامَة اللَّازِم مقَام الْمَلْزُوم وإبقاء لأثره فِي الْجُمْلَة. وَالْمَشْهُور ضم الدَّال، وَأَجَازَ الْفراء نصبها ورفعها بِالتَّنْوِينِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فيهمَا، وَأَجَازَ هِشَام فتح الدَّال، وَأنْكرهُ النّحاس. فَائِدَة: اخْتلف فِي أول من قَالَهَا. فَقيل: دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ مَرْفُوعا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 حَدِيث أبي مُوسَى، وَعَن الشّعبِيّ أَنه فصل الْخطاب الَّذِي أوتيه دَاوُد على أحد التأويلات فِي الْآيَة. وَقيل: يَعْقُوب - عَلَيْهِ السَّلَام -[رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي غَرَائِبه بِسَنَد ضَعِيف: " لما جَاءَ ملك الْمَوْت إِلَى يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام] فَقَالَ من جملَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 كَلَامه: أما بعد فَإنَّا أهل بَيت مُوكل بِنَا الْبلَاء ... " الحَدِيث. وَقيل: يعرب بن قحطان، حَكَاهُ النَّوَوِيّ فِي " شرح مُسلم " فِي كتاب الْجُمُعَة. وَقيل: كَعْب بن لؤَي، قَالَه أَبُو سَلمَة بن ... ... ... ... ... ... . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 عبد الرَّحْمَن حَكَاهُ أَبُو جَعْفَر النّحاس. وَقيل: قس بن سَاعِدَة، قَالَه الْكَلْبِيّ، حَكَاهُ عَنهُ النّحاس فِي كِتَابه " صناعَة الْكتاب ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وَقيل: سحبان بن وَائِل - بِفَتْح السِّين وَسُكُون الْحَاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة -، رجل من وَائِل وَكَانَ لسناً بليغاً يضْرب بِهِ الْمثل فِي الْبَيَان / وَهُوَ الْقَائِل: (لقد علم الْحَيّ اليمانون أنني ... إِذا قلت أما بعد أَنِّي خطيبها) وَالْأول أشبه، قَالَه الْحَافِظ ابْن حجر. قَالَ: (وَيجمع بَينه وَبَينه غَيره بِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الأولية الْمَحْضَة، والبقية بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعرف خَاصَّة، ثمَّ يجمع بَينهمَا النِّسْبَة إِلَى الْقَبَائِل) انْتهى. قَوْله: {فَهَذَا} . إِشَارَة منا إِلَى مَا تصورناه فِي الذِّهْن وأقمناه مقَام الْمَكْتُوب المقروء الْمَوْجُود بالعيان. وَقَوله: {مُخْتَصر} . أَي: موجز، فالمختصر مَا قل لَفظه وَكَثُرت مَعَانِيه. والاختصار: إيجاز اللَّفْظ وَاسْتِيفَاء الْمَعْنى. وَقيل: رد الْكَلَام الْكثير إِلَى قَلِيل فِيهِ معنى الْكثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وَسمي اختصاراً لاجتماعه، وَمِنْه المخصرة، وخصر الْإِنْسَان. والاختصار فِي الْكَلَام مَحْمُود للْحَدِيث الْآتِي قَرِيبا، وَقَالَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: " خير الْكَلَام مَا قل وَدلّ وَلم يطلّ فيمل "، فقربته وقللت أَلْفَاظه حجماً. والاختصار تقليل الشَّيْء، فقد يكون بتقليل مسَائِله، وَقد يكون بتقليل أَلْفَاظه مَعَ تأدية الْمَعْنى، وَمِنْه قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُوتيت جَوَامِع الْكَلم وَاخْتصرَ لي الْكَلَام اختصاراً "، وَهُوَ مرادنا. واختصاره مشَاهد بالعيان كَذَلِك، إِذْ لَو كَانَ مطولا لَكَانَ أوسع وأكبر حجماً، وَإِنَّمَا اختصرناه لمعان. مِنْهَا: لِئَلَّا يحصل الْملَل بالإطالة. وَمِنْهَا: ليحفظ، فَإِن حفظ الْمُخْتَصر أيسر وأسهل وأهون على النُّفُوس، فَإِن الْكتاب المطول فِي هَذِه الْأَزْمِنَة وَلَا سِيمَا فِي أصُول الْفِقْه لَا يرغب فِيهِ وَلَا يقْرَأ، فضلا عَن أَن يحفظ، فَإِن الهمم قد قصرت والبواعث قد فترت. وَمِنْهَا: قلَّة الْأَلْفَاظ وَكَثْرَة الْمعَانِي الَّتِي بحثها لَو جازة لَفظه، فيكثر علمه ويقل حجمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 قَوْله: {فِي أصُول الْفِقْه} أَي: لَا فِي علم غَيره، وَهُوَ الْعلم الْآتِي حَده وتفصيله وَحكمه. قَوْله: {جَامع لمعظم أَحْكَامه} . أَي: يؤلف المتفرق من غَالب أَحْكَامه، إِذْ لم أر فِي / الْغَالِب مَسْأَلَة فِي أصُول الْفِقْه إِلَّا ذكرتها فِيهِ، خُصُوصا فِي الْمَذْهَب. وَمَعَ هَذَا لم أستوعبه، إِذْ جَمِيعهَا لَا يُحِيط بهَا بشر، بل ذكرت المتداول بَين الْعلمَاء الْأَعْيَان غَالِبا، وَفَوق كل ذِي علم عليم. قَوْله: {حاو لقواعده وضوابطه وأقسامه} . أَي: جَامع ومحرز لقواعده ... إِلَى آخِره. فَمَعْنَى حاو: جَامع، وَإِنَّمَا أتيت بهما لمُخَالفَة اللَّفْظ، وَإِن كَانَ الْمَعْنى وَاحِدًا. وَالْقَوَاعِد جمع قَاعِدَة، والضوابط جمع ضَابِط. وَالْقَاعِدَة: هِيَ الْأَمر الْكُلِّي الَّتِي تنطبق على جزئيات كَثِيرَة تفهم أَحْكَامهَا مِنْهَا. فَمِنْهَا: مَا لَا يخْتَص، بِبَاب كَقَوْلِنَا (الْيَقِين لَا يرفع بِالشَّكِّ) . وَمِنْهَا: مَا يخْتَص، كَقَوْلِنَا: (كل كَفَّارَة سَببهَا مَعْصِيّة فَهِيَ على الْفَوْر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وَالْغَالِب فِيمَا يخْتَص بِبَاب وَقصد بِهِ نظم صور متشابهة يُسمى ضابطاً وَإِن شِئْت قلت: مَا عَم صوراً، فَإِن كَانَ الْمَقْصُود من ذكر الْقدر الْمُشْتَرك الَّذِي بِهِ اشتركت الصُّور فِي الحكم فَهُوَ الْمدْرك. وَإِلَّا فَإِن كَانَ الْقَصْد ضبط تِلْكَ الصُّور بِنَوْع من أَنْوَاع الضَّبْط من غير نظر فِي مأخذها فَهُوَ الضَّابِط وَإِلَّا فَهُوَ الْقَاعِدَة. وَمن الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة وَهِي الْمَقْصُودَة هُنَا قَوْلنَا: الْأَمر للْوُجُوب، وللفور، وَدَلِيل الْخطاب حجَّة، وَقِيَاس الشّبَه دَلِيل صَحِيح، والْحَدِيث الْمُرْسل يحْتَج بِهِ، وَنَحْو ذَلِك من مسَائِل أصُول الْفِقْه هِيَ قَوَاعِد للمسائل الْفِقْهِيَّة، وَيَأْتِي الْإِلْمَام بذلك فِي التَّكَلُّم على حد أصُول الْفِقْه لقباً إِن شَاءَ الله تَعَالَى. والأقسام جمع قسم، وَهُوَ الْجُزْء من الشَّيْء. قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (هَذَا يَنْقَسِم قسمَيْنِ، بِالْفَتْح إِذا أُرِيد الْمصدر، وبالكسر إِذا أُرِيد النَّصِيب أَو الْجُزْء من الشَّيْء الْمَقْسُوم) انْتهى. فَهُوَ هُنَا كالجزء المفروز، كالأبواب الْمَذْكُورَة فِي الْكتاب. / قَوْله: {مُشْتَمل على مَذَاهِب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة الْأَعْلَام} . مُشْتَمل، أَي: محتو أَو مُحِيط، وَهُوَ اسْم فَاعل من اشْتَمَل، يُقَال: اشْتَمَل على كَذَا، أَي: أحَاط بِهِ، قَالَه فِي " الْقَامُوس ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وَقَالَ: (شملهم الْأَمر كفرح وَنصر: عمهم، أَو شملهم خير أَو شَرّ: أَصَابَهُم ذَلِك، وأشملهم شرا: عمهم بِهِ، واشتمل بِالثَّوْبِ: أداره على جسده كُله حَتَّى لَا تخرج مِنْهُ يَده، واشتمل عَلَيْهِ الْأَمر: أحَاط بِهِ) انْتهى. والمذاهب: جمع مَذْهَب، وَالْمذهب: الطَّرِيق الْوَاضِح. [يُقَال] : ذهب مذهبا حَقًا، وذهاباً وذهوباً. وَالْمرَاد هُنَا على طَرِيق الْأَئِمَّة، أَي: آراؤهم واختيارهم، وَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ من الْأَدِلَّة وَالْأَحْكَام. قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الْمَذْهَب المعتقد الَّذِي يذهب إِلَيْهِ والطريقة وَالْأَصْل) انْتهى. وَالْأَئِمَّة: جمع إِمَام، وَالْإِمَام: الْكَبِير المقتدى بِهِ، الْجَامِع للخير والمتبع. وَالْأَرْبَعَة: هم الإِمَام أَبُو حنيفَة النُّعْمَان بن ثَابت، وَالْإِمَام أَبُو عبد الله مَالك بن أنس الأصبحي، وَالْإِمَام أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وَالْإِمَام أَبُو عبد الله أَحْمد بن حَنْبَل الشَّيْبَانِيّ، قدس الله أَرْوَاحهم، وَنور ضرائحهم، وَرَضي عَنْهُم وأرضاهم، وَجَعَلنَا من محبيهم وأتباعهم، وَهُوَ مرادي فِي الْمَتْن بِقَوْلِي: (الْأَرْبَعَة) ، وَأما قولي: (الثَّلَاثَة) ، أَو (عِنْد الثَّلَاثَة) ؛ فَإِنِّي لَا أطلق ذَلِك إِلَّا صرحت باسم الرَّابِع، فَيعلم حِينَئِذٍ الثَّلَاثَة. قَوْله: {وأتباعهم} . أَعنِي: ومشتمل على أَقْوَال أتباعهم، أَي: أَتبَاع الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة غَالِبا، أَي الَّذين اتَّبَعُوهُمْ على مذاهبهم وأقوالهم وَمَشوا خَلفهم، وَرُبمَا ذكرتهم بِأَسْمَائِهِمْ، وَهَذَا هُوَ مُعظم الْمَقْصُود من هَذَا التصنيف، فَإِن مدَار الْإِسْلَام واعتماد أَهله قد بَقِي على هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة وأتباعهم، وَقد ضبطت مذاهبهم وأقوالهم وأفعالهم، وحررت ونقلت من غير شكّ فِي ذَلِك. بِخِلَاف مَذْهَب غَيرهم، وَإِن كَانَ من الْأَئِمَّة الْمُعْتَمد عَلَيْهِم، لَكِن لم تضبط الضَّبْط الْكَامِل، وَإِن كَانَ صَحَّ بَعْضهَا فَهُوَ يسير، فَلَا يَكْتَفِي بِهِ وَذَلِكَ لعدم الِاتِّبَاع، و - أَيْضا - فَإِن أَقْوَالهم إِمَّا أَن تكون مُوَافقَة لقَوْل أحد من هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة وأتباعهم، أَو خَارِجَة / عَن ذَلِك، فَإِن كَانَت مُوَافقَة فقد حصل الْمَقْصُود، وَيحصل بهَا التقوية، وَإِن كَانَت غير مُوَافقَة كَانَت فِي الْغَالِب شَاذَّة لَا يعول عَلَيْهَا، وَقد أذكرهم فَإِنَّهُم أهل لذَلِك. وَأما غَيرهم من أَرْبَاب الْبدع، كالجهمية والرافضة والخوارج والمعتزلة وَنَحْوهم، فَلَا اعْتِبَار بقَوْلهمْ الْمُخَالف لأقوال الْأَئِمَّة وأتباعهم، وَلَا اعْتِمَاد عَلَيْهَا، لَكِن إِن ذكرتها فعلى سَبِيل الْإِعْلَام والتبعية، وَقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 يذكرهَا الْعلمَاء؛ ليردوا على قَائِلهَا وينفروا عَنهُ، ويعلموا مَا فِيهِ من الدسائس، وَقد ذكر الأصوليون ذَلِك حَتَّى بالغوا، فَذكرُوا بعض مَذَاهِب الْيَهُود وَالنَّصَارَى والسوفسطائية، والسمنية فرقة من عَبدة الْأَصْنَام، والبراهمة وهم الَّذين لَا يجوزون على الله بعث الرُّسُل، والملاحدة وَغَيرهم. وَكَانَ شيخ الْإِسْلَام سراج الدّين البُلْقِينِيّ يعيب على من يذكر ذَلِك فِي أصُول الْفِقْه، وَيَقُول: (إِنَّمَا مَحل ذَلِك أصُول الدّين) ، وَهُوَ كَمَا قَالَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 قَوْله: {اجتهدت} . أَي: بذلت الوسع. {فِي تَحْرِير نقُوله} . أَي: فِي تقويمها، لما فِيهِ من الْخبط وَالِاخْتِلَاف وَالِاضْطِرَاب الَّذِي لَا يُوجد فِي علم غَيره، حَتَّى رُبمَا وجد عَن عَالم فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة نقُول كَثِيرَة مُخْتَلفَة، فَلهَذَا تحريت النَّقْل الصَّحِيح عَن صَاحبه، وتنكبت عَن غَيره حَيْثُ حصل الِاضْطِرَاب، جهد الطَّاقَة. وَقد أنتقد على كثير من المصنفين عزوهم أقوالاً إِلَى أشخاص وَالْمَنْقُول الصَّحِيح عَنْهُم خِلَافه، أَو قَوْلهم مؤول وَمَا أشبهه. وَنحن نسْأَل الله السّتْر والسلامة والتوفيق للصَّوَاب وَالْهِدَايَة , وَقد يكون لأَحَدهم الْقَوْلَانِ وَالثَّلَاثَة فَرُبمَا ذكرتها. قَوْله: {وتهذيب أُصُوله} . أَي: تَخْلِيصهَا وتسهيلها بعبارات وَاضِحَة مقربة إِلَى الْفَهم، مَعَ الْإِتْيَان بِالْمَعْنَى الْجَلِيّ الْوَاضِح. قَوْله: {مُجَردا عَن الدَّلِيل / وَالتَّعْلِيل} . أَي: خَالِيا عَنْهُمَا، وَالْأَمر كَذَلِك، وَذَلِكَ للفوائد الَّتِي ذَكرنَاهَا قبل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فَإِن الدَّلِيل وَالتَّعْلِيل يطول بِهِ الْكتاب، وَمحله الْكتب المطولة، وَإِن ذكر فِي المختصرات قل علمهَا. وَيَأْتِي حد الدَّلِيل. وَالْعلَّة: حِكْمَة الحكم، أَي: مَا يثبت الحكم لأَجله فِي مَحَله، وَهِي أخص من الدَّلِيل، إِذْ كل تَعْلِيل دَلِيل، وَلَيْسَ كل دَلِيل تعليلاً، لجَوَاز أَن يكون نصا أَو إِجْمَاعًا. وَيَأْتِي معنى الدَّلِيل قَرِيبا، وَتَأْتِي الْعلَّة فِي خطاب الْوَضع، وَفِي الْقيَاس أَيْضا. قَوْله: {وَالله المسؤول لبلوغ المأمول} . هُوَ المسؤول وَالْمَقْصُود والمرجو فِي جَمِيع الْأُمُور، وَفِي بُلُوغ مَا نؤمله من تَكْمِيل الْكتاب وَغَيره، وَقد كمل بِحَمْد الله تَعَالَى، ونرجوا من كرم الله تَعَالَى تَكْمِيل الشَّرْح. قَوْله: {وأقدم الصَّحِيح من مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وأقوال أَصْحَابه} . وَهَذَا فِي الْغَالِب، لِأَن الْكتاب للحنابلة، ومصنفه حنبلي الْمَذْهَب، وَالَّذِي يَنْبَغِي لَهُ تَقْدِيم مَذْهَب إِمَامه الَّذِي هُوَ مقلد لَهُ، وأقوال أَصْحَابه، وَكَذَا سَائِر المصنفين من أَتبَاع الْأَئِمَّة يَفْعَلُونَ ذَلِك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وَفِيه فَائِدَة أُخْرَى وَهِي الْمَقْصُودَة: وَهِي معرفَة الصَّحِيح من مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه، وَهُوَ من أعظم الْمُهِمَّات وأجلها. قَوْله: {ومرادي بِالْقَاضِي: أَبُو يعلى} . وَهُوَ مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْفراء، من أعظم أَئِمَّة الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ الْمُعْتَمد فِي نقُوله وتصانيفه، وَله الْيَد الطُّولى فِي الْمَذْهَب من الْأُصُول وَالْفُرُوع وَغَيرهمَا، بل هُوَ الَّذِي جمع أشتاته وشوارده وهذبه وحرره بعد الْخلال. وَلما كَانَ إِطْلَاق القَاضِي فِي غَالب المختصرات والمطولات فِي أصُول الْفِقْه ينْصَرف إِلَى القَاضِي أبي بكر الباقلاني؛ لِأَن مُرَادهم مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب وَغَيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وَعند الْمُعْتَزلَة فِي كتبهمْ ينْصَرف / إِلَى القَاضِي عبد الْجَبَّار، احتجت أَن أبين مَا اصطلحت عَلَيْهِ، لِئَلَّا يشْتَبه بِغَيْرِهِ فَيحصل لبس وَشك، وَقد يكون اختيارهم مُخْتَلفا، فَيحصل الْخبط، عِنْد من لَا يعرف المصطلح. قَوْله: {وبأبي الْفرج: الْمَقْدِسِي} . وَأَيْضًا لما كَانَ ذكر أبي الْفرج بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَصْحَاب يَشْمَل: أَبَا الْفرج الْمَقْدِسِي الشِّيرَازِيّ الإِمَام الْجَلِيل المستجاب الدُّعَاء صَاحب القَاضِي أبي يعلى. ويشمل أَبَا الْفرج ابْن الْجَوْزِيّ الْحَافِظ الْكَبِير، وَيشْتَبه بِإِطْلَاقِهِ على السَّامع فَلَا يعرف من هُوَ مِنْهُمَا، احتجت أَن أبين أَن مرادي بِهِ الشِّيرَازِيّ الْمَقْدِسِي صَاحب " الْمُبْهِج "، و " الْإِيضَاح "، و " الْإِشَارَة "، و " التَّبْصِرَة "، و " جَامع الْأَنْوَار لتوحيد الْملك الْجَبَّار " فِي الْأُصُول، وَغير ذَلِك، وَلِأَن أَقْوَاله فِي أصُول الْفِقْه أَكثر من أَقْوَال ابْن الْجَوْزِيّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وَإِذا كَانَ لِابْنِ الْجَوْزِيّ قَول فِي الْمَسْأَلَة ذكرته بِقَوْلِي: (قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ) ، و (عِنْد ابْن الْجَوْزِيّ) وَنَحْوه. وَإِذا أردْت وَلَده أَبَا مُحَمَّد يُوسُف، صَاحب " الْإِيضَاح " فِي الجدل، قلت: (الْجَوْزِيّ) ، بِإِسْقَاط ابْن، ليحصل التَّمْيِيز بَينهمَا أَيْضا. قَوْله: {وبالفخر: إِسْمَاعِيل أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ} . لما كَانَ أَيْضا الْفَخر يشْتَبه بالفخر الرَّازِيّ، بل أَكثر النَّاس إِنَّمَا يسري وهمهم إِلَى الرَّازِيّ، بيّنت مصطلحي فِي ذَلِك لأجل الِاشْتِبَاه. فَإِن هَذَا اسْمه إِسْمَاعِيل بن عَليّ، وَيعرف بِابْن الرفا، وبابن الماشطة، واشتهر بِغُلَام ابْن المنى، أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ، حنبلي الْمَذْهَب، لَهُ الْيَد الطُّولى فِي الْأَصْلَيْنِ وَعلم الجدل وَغَيرهَا من الْعُلُوم. وَالْفَخْر الرَّازِيّ أشعري الْمَذْهَب. قَوْله: {ورتبته على مُقَدّمَة} . تشْتَمل على سِتَّة وَأَرْبَعين فصلا، وعَلى ثَلَاثِينَ فَائِدَة، وعَلى ثَلَاثَة عشر تَنْبِيها، وخاتمة، وَفرع، وتتمة. {وأبواب} . عدتهَا ثَمَانِيَة عشر بَابا، وَهِي: بَاب الْكتاب، بَاب السّنة، / بَاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الْإِجْمَاع، بَاب الْأَمر، بَاب النَّهْي، بَاب الْعَام وَالْخَاص، بَاب التَّخْصِيص، بَاب الْمُطلق والمقيد، بَاب الْمُجْمل، بَاب الْمُبين، بَاب الظَّاهِر والتأويل، بَاب الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم، بَاب النّسخ، بَاب الْقيَاس، بَاب الِاسْتِدْلَال، بَاب الِاجْتِهَاد، بَاب التَّقْلِيد، بَاب تَرْتِيب الْأَدِلَّة والتعادل والتعارض وَالتَّرْجِيح. وَهَذِه الْأَبْوَاب {مُشْتَمِلَة على فُصُول وفوائد} وتنابيه وَفِي بَعْضهَا خَاتِمَة وتذنيب. وَيَأْتِي حد التذنيب آخر الْكتاب. والفصول جمع فصل، كفروع جمع فرع، وأصول جمع أصل، وَهُوَ لُغَة: الحجز بَين شَيْئَيْنِ، وَمِنْه: فصل الرّبيع؛ لِأَنَّهُ يحجز بَين الشتَاء والصيف، وَهُوَ فِي كتب الْعلم كَذَلِك؛ لِأَنَّهُ يحجز بَين أَجنَاس الْمسَائِل وأنواعها، لكنه فِي كتَابنَا: الحجز بَين أَنْوَاع الْمسَائِل. والفوائد: جمع فَائِدَة، وَهِي فِي الأَصْل: الزِّيَادَة تحصل للْإنْسَان، وَهِي اسْم فَاعل من قَوْلك: فادت لَهُ فَائِدَة فيداً من بَاب بَاعَ، وأفدته مَالا إِفَادَة: أَعْطيته، وأفدت مِنْهُ مَالا: أَخَذته، وَفَائِدَة الْعلم وَالْأَدب من هَذَا. قَوْله: {وتنابيه} . جمع تَنْبِيه، مثل: تَعْلِيل وتعاليل، وَهُوَ تذكير شَيْء غفل عَنهُ الْمُخَاطب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 أَو السَّامع أَو الْقَارئ أَو الْمطَالع. والخاتمة: وَهِي آخر الشَّيْء، وَهِي فِي كتب الْفِقْه وَالْأُصُول وَنَحْوه: آخِرَة الشَّيْء الَّذِي قبلهَا من الْأَبْوَاب وَنَحْوهَا. والتذنيب يَأْتِي بَيَانه آخر بَاب التَّقْلِيد، فَإِنِّي ذكرته هُنَاكَ. فالمقدمة فِي تَعْرِيف هَذَا الْعلم، وَفَائِدَته، واستمداده، وَمَا يتَّصل بذلك من مُقَدمَات ولواحق، كالدليل، وَالنَّظَر، والإدراك، وَالْعلم، وَالْعقل، وَالْحَد، واللغة ومسائلها وأحكامها، وَأَحْكَام خطاب الشَّرْع، وخطاب الْوَضع، وَمَا يتَعَلَّق بهما، وَغير ذَلِك. فمقدمة الْكتاب فِي غير الْمنطق: مَا يذكر فِيهِ قبل / الشُّرُوع فِي الْمَقْصُود لارتباطها بِهِ. قَالَ التَّفْتَازَانِيّ: (يُقَال: مُقَدّمَة الْعلم: لما يتَوَقَّف عَلَيْهِ مسَائِله، - كمعرفة حُدُوده وغايته وموضوعه - ومقدمة الْكتاب: لطائفة من كَلَامه قدمت أَمَام الْمَقْصُود؛ لارتباط لَهُ بهَا وانتفاع بهَا فِيهِ - سَوَاء توقف عَلَيْهَا أم لَا -. قَالَ: وَالْفرق بَينهمَا مِمَّا خَفِي على كثير من النَّاس) انْتهى. وَهِي بِكَسْر الدَّال - على الْمَشْهُور -: كَلَام مقدم أَمَام الْمَقْصُود لتوقفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 عَلَيْهِ وانتفاعه بِهِ بِوَجْه، كمقدمة الْجَيْش وَهِي طَائِفَة تتقدمه، وَهِي من قدم بِمَعْنى تقدم، لقَوْله تَعَالَى: {لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله} [الحجرات: 1] ، أَي: لَا تتقدموا. وَقد تفتح الدَّال؛ لِأَن صَاحب الْكَلَام أَو أَمِير الْجَيْش قدمهَا، أَو لِأَنَّهَا مشبهة لمقدمة الرحل، وَهِي أَمَام الرَّاكِب، مُقَابلَة لمؤخره، وَهِي مَا وَرَاءه. قَالَ السُّبْكِيّ: (وَهِي أشهر) ، وَاخْتَارَ أَبُو حَيَّان الْفَتْح وَمنع الْكسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وَاقْتصر جمَاعَة على الْكسر، وَالْحق جَوَاز الْوَجْهَيْنِ بالاعتبارين. وَهَذِه الْمَادَّة ترجع تراكيبها إِلَى معنى الأولية، فمقدمة الْكتاب أَوله، وَهِي فِي الأَصْل صفة ثمَّ استعملوها اسْما لكل مَا وجد فِيهِ التَّقْدِيم، كمقدمة الْجَيْش، وَالْكتاب، ومقدمة الدَّلِيل، وَالْقِيَاس، وَهِي الْقَضِيَّة الَّتِي تنْتج ذَلِك مَعَ قَضِيَّة أُخْرَى، نَحْو: كل مُسكر خمر وكل خمر حرَام، وَنَحْو ذَلِك: كل وضوء عبَادَة وكل عبَادَة تشْتَرط لَهَا النِّيَّة، والعالم مؤلف وكل مؤلف مُحدث، وَنَحْو ذَلِك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 {الْكَلَام على الْمُقدمَة} {أَقُول وَمن الله أَسْتَمدّ المعونة: مَوْضُوع كل علم مَا يبْحَث فِيهِ عَن عوارضه الذاتية} . مَوْضُوع: اسْم مفعول، من وضع الشَّيْء، - مَبْنِيّ للْمَفْعُول -، يوضع فَهُوَ مَوْضُوع، أَي: محطوط. قد علمت أَن الْعلم لَا يتَمَيَّز عِنْد الْعقل إِلَّا بعد الْعلم بموضوعه، / فَكل علم يتَمَيَّز عَن غَيره من الْعُلُوم بموضوعه كَمَا يتَمَيَّز برسمه. وَلما كَانَ مَوْضُوع أصُول الْفِقْه أخص من مُطلق الْمَوْضُوع، وَالْعلم بالخاص مَسْبُوق بِالْعلمِ بِالْعَام، وَجب أَولا تَعْرِيف مَوْضُوع الْعلم حَتَّى تحصل معرفَة مَوْضُوع أصُول الْفِقْه، إِذْ كل علم لَهُ مَوْضُوع ومسائل. فموضوع كل علم: مَا يبْحَث فِي ذَلِك الْعلم عَن الْأَحْوَال الْعَارِضَة لَهُ، الذاتية. ومسائله: هِيَ معرفَة تِلْكَ الْأَحْوَال. فموضوع علم الطِّبّ مثلا: هُوَ بدن الْإِنْسَان، لِأَنَّهُ يبْحَث فِيهِ عَن الْأَمْرَاض اللاحقة لَهُ ومسائل: هِيَ معرفَة تِلْكَ الْأَمْرَاض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وموضوع علم النَّحْو: الْكَلِمَات، فَإِنَّهُ يبْحَث عَن أحوالها من حَيْثُ الْإِعْرَاب وَالْبناء. وَالْعلم بالموضوع لَيْسَ دَاخِلا فِي حَقِيقَة ذَلِك الْعلم، كَمَا قُلْنَا فِي بدن الْإِنْسَان والكلمات؟ وموضوع علم الْفَرَائِض: التركات، لَا الْعدَد على الْأَصَح. إِذا علم ذَلِك؛ فَلَا يبْحَث فِي الْعُلُوم إِلَّا عَن الْأَعْرَاض الذاتية لموضوعاتها، أَي: الَّتِي منشؤها الذَّات بِأَن لحقته لذاته، وَلِهَذَا قُلْنَا: عَن عوارضه الذاتية. والعوارض الذاتية هِيَ الَّتِي تلْحق الشَّيْء لما هُوَ هُوَ، أَي: لذاته، كالتعجب اللَّاحِق لذات الْإِنْسَان، أَو تلْحق الشَّيْء لجزئه كالحركة بالإرادة اللاحقة للْإنْسَان بِوَاسِطَة أَنه حَيَوَان، أَو تلْحقهُ بِوَاسِطَة أَمر خَارج عَنهُ مسَاوٍ لَهُ كالضحك الْعَارِض للْإنْسَان بِوَاسِطَة التَّعَجُّب. وتفصيل ذَلِك أَن الْعَوَارِض سِتَّة: [لِأَن مَا يعرض] للشَّيْء إِمَّا أَن يكون عروضه لذاته، أَو لجزئه، أَو لأمر خَارج عَنهُ، وَالْأَمر الْخَارِج عَن المعروض: إِمَّا مسَاوٍ لَهُ، أَو أَعم مِنْهُ، أَو أخص مِنْهُ، أَو مباين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 فالثلاثة الأول وَهِي: الْعَارِض لذات المعروض، والعارض لجزئه، والعارض الْمسَاوِي، تسمى أعراضاً ذاتية لاستنادها إِلَى ذَات المعروض. أما الْعَارِض / للذات فَظَاهر، وَأما الْعَارِض للجزء؛ فَلِأَن الْجُزْء دَاخل فِي الذَّات، والمستند إِلَى مَا فِي الذَّات مُسْتَند إِلَى الذَّات فِي الْجُمْلَة. وَأما الْعَارِض لِلْأَمْرِ الْمسَاوِي؛ فَلِأَن الْمسَاوِي يكون مُسْتَندا إِلَى ذَات المعروض، والعارض مُسْتَند إِلَى الْمسَاوِي، والمستند إِلَى الْمُسْتَند إِلَى الشَّيْء مُسْتَند إِلَى ذَلِك الشَّيْء، فَيكون الْعَارِض - أَيْضا - مُسْتَندا إِلَى الذَّات. وَالثَّلَاثَة الْأَخِيرَة هِيَ: الْعَارِض لأمر خَارج أَعم من المعروض، كالحركة اللاحقة للأبيض بِوَاسِطَة أَنه جسم، وَهُوَ أَعم من الْأَبْيَض وَغَيره. والعارض للْخَارِج الْأَخَص، كالضحك الْعَارِض للحيوان بِوَاسِطَة أَنه إِنْسَان، وَهُوَ أخص من الْحَيَوَان. والعارض لسَبَب المباين، كالحرارة الْعَارِضَة للْمَاء بِوَاسِطَة النَّار وَهِي مباينة للْمَاء، تسمى أعراضاً غَرِيبَة لما فِيهَا من الغرابة بِالْقِيَاسِ إِلَى ذَات المعروض، وَفِي الْعُلُوم إِنَّمَا يبْحَث عَن الْأَعْرَاض الذاتية لموضوعاتها، قَالَه القطب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 فِي " شرح الشمسية ". قَالَ التَّفْتَازَانِيّ فِي " شرح الشمسية ": (الثَّالِث: بَيَان مَوْضُوعه، أَعنِي: تعْيين مَا بِهِ يتَمَيَّز هَذَا الْعلم فِي نَفسه عَن الْعُلُوم الْأُخَر حَتَّى يحصل لَهُ اسْم [وَاحِد] على الِانْفِرَاد، فَإِن تمايز الْعُلُوم فِي [ذواتها] لَيْسَ إِلَّا بِحَسب تمايز الموضوعات، حَتَّى لَو لم يكن لهَذَا مَوْضُوع مُغَاير لموضوع ذَلِك بِالذَّاتِ أَو بِالِاعْتِبَارِ لم يَكُونَا علمين، وَلم يَصح تعريفهما بِوَجْهَيْنِ مُخْتَلفين، لِأَن الْعلم عبارَة عَن جَمِيع مَا يبْحَث فِيهِ عَن الْأَعْرَاض الذاتية للموضوع بِاعْتِبَار وَاحِد) انْتهى. قَوْله: {فموضوع أصُول الْفِقْه: الْأَدِلَّة الموصلة إِلَى الْفِقْه} . يحْتَمل أَن تكون الْفَاء هُنَا فِي جَوَاب شَرط مُقَدّر، وَتَقْدِير الشَّرْط: إِذا علمت أَن مَوْضُوع كل علم مَا يبْحَث فِيهِ عَن عوارضه الذاتية، فموضوع أصُول الْفِقْه كَذَا، فَجَاءَت الْفَاء جَوَاب / هَذَا الشَّرْط الْمَحْذُوف. وَيحْتَمل أَن تكون فَاء التَّفْرِيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 إِذا علم بذلك؛ فموضوع أصُول الْفِقْه: أدلته من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس وَنَحْوهَا، لِأَنَّهُ يبْحَث فِيهَا عَن الْعَوَارِض اللاحقة لَهَا، من كَونهَا عَامَّة أَو خَاصَّة، أَو مُطلقَة أَو مُقَيّدَة، أَو مجملة أَو مبينَة، أَو ظَاهِرَة أَو نصا، أَو منطوقة أَو مفهومة، وَكَون اللَّفْظ أمرا أَو نهيا، وَنَحْو ذَلِك، وَهَذِه الْأَشْيَاء هِيَ مسَائِله. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (مَوْضُوع أصُول الْفِقْه: الْأَدِلَّة الموصلة إِلَى الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، وَاخْتِلَاف مراتبها، وَكَيْفِيَّة الِاسْتِدْلَال بهَا) . قَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": (مَوْضُوعه: مَا يبْحَث فِي علم أصُول الْفِقْه عَن أَحْوَاله على وَجه كلي، وَهُوَ الْأَدِلَّة الْمَذْكُورَة) . وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ: (مَوْضُوع علم الْأُصُول: أَدِلَّة الْفِقْه؛ لِأَنَّهُ يبْحَث فِيهَا عَن الْعَوَارِض اللاحقة لَهَا من كَونهَا، عَامَّة وخاصة، وأمراً ونهياً، وَهَذِه الْأَشْيَاء هِيَ الْمسَائِل) انْتهى. وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ أَيْضا وَغَيره: (وَإِذا كَانَت الْأَدِلَّة هِيَ مَوْضُوع هَذَا الْعلم فَلَا تكون من ماهيته) كَمَا تقدم. وموضوع الْفِقْه: أَفعَال الْعباد من حَيْثُ تعلق الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة بهَا، ومسائله مَا يذكر فِي كل بَاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 قَوْله: {ولابد لكل من طلب علما أَن يتصوره بِوَجْه مَا، وَيعرف غَايَته، وَمَا يستمد مِنْهُ} . قَوْله: لابد، أَي: لَا فِرَاق كل من حاول علما من الْعُلُوم وَطلب مَعْرفَته أَن يعرف ثَلَاثَة أُمُور: أَحدهَا: معرفَة ذَلِك الْعلم، أَي: تصَوره بِوَجْه مَا، لِأَن طلب الْإِنْسَان مَا لَا يعرفهُ، محَال ببديهة الْعقل، وَذَلِكَ الْوَجْه الَّذِي يعرفهُ بِهِ هُوَ الْمَعْنى الَّذِي يُحِيط بكثرته، ثمَّ يَطْلُبهُ فِي جِهَة تَفْصِيله؟ فَإِن عرفه من جِهَة التَّفْصِيل كَانَ طلبه لَهُ محالاً، لِأَنَّهُ تَحْصِيل / الْحَاصِل، ثمَّ الْجِهَة الَّتِي يعرفهُ بهَا إِن كَانَت ذاتية فالمنبئ عَنْهَا الْحَد، وَإِلَّا الرَّسْم، على مَا يَأْتِي. الثَّانِي: معرفَة غَايَة ذَلِك الْعلم؛ لِئَلَّا يكون سَعْيه عَبَثا، لِأَنَّهُ تَضْييع للعمر فِيمَا لَا يعلم لَهُ فَائِدَة. الثَّالِث: أَن يعرف مَا يستمد مِنْهُ؛ ليرْجع فِي تِلْكَ الْجُزْئِيَّة إِلَى محلهَا مِنْهُ. وَاعْلَم أَن أصل هَذِه الْقَاعِدَة: أَن كل مَعْدُوم يُوجد، مُتَوَقف وجوده على أَربع علل: صورية: وَهِي الَّتِي تقوم بهَا الصُّورَة وتتميز بهَا عَن غَيرهَا، فتصور الْمركب مُتَوَقف على تصور أَرْكَانه وانتظامها على الْوَجْه الْمَقْصُود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وغائية: وَهِي الباعثة على إيجاده، وَهِي الأولى فِي الْفِكر، مُقَدّمَة على سَائِر الْعِلَل وَإِن كَانَت آخرا فِي الْوُجُود الْخَارِجِي، وَلِهَذَا يُقَال: مبدأ الْعلم مُنْتَهى الْعَمَل، وَيُقَال أَيْضا: هِيَ عِلّة فِي الذِّهْن معلولة فِي الْخَارِج. ومادية: وَهِي الَّتِي مِنْهَا يستمد المركبات أَو مَا فِي حكمهَا. وفاعلية: وَهِي المؤثرة فِي إِيجَاد ذَلِك وإخراجه من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود. وَيَأْتِي الْإِلْمَام بِهَذِهِ الْفَائِدَة فِي الْعلَّة الشَّرْعِيَّة فِي خطاب الْوَضع. قَوْله: {فالأصول جمع أصل} . الْفَاء هُنَا كالفاء فِي قَوْلنَا: (فموضوع) ، وَهَذَا بَيَان لَهَا من حَيْثُ جمعهَا وإفرادها، وَمَا كَانَ من الْأَسْمَاء على (فعل) سَاكن الْعين، فبابه فِي جمع الْقلَّة (أفعل) ، نَحْو: (أفلس) و (أكلب) ، وَفِي الْكَثْرَة على (فعال) نَحْو: (حَبل وحبال) و (كلب وكلاب) و (كَعْب وكعاب) ، وعَلى (فعول) نَحْو: فصل وفصول) و (أصل وأصول) و (فرع وفروع) . وَلما قدمنَا: أَن كل طَالب علم لابد لَهُ من معرفَة ثَلَاثَة أُمُور، شرعنا فِي بَيَانهَا، فَفِيمَا نَحن بصدده علم أصُول الْفِقْه، فَلَا بُد من مَعْرفَته / من حَيْثُ الْمَعْنى الْجَامِع لجزئياته كلهَا، وَمَعْرِفَة غَايَته، ومعرة استمداده، فَيعرف حَقِيقَته من أَرَادَ الِاشْتِغَال بِهِ، فَإِن عرف مَا يطْلب هان عَلَيْهِ مَا يبْذل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 فأصول الْفِقْه: مركب من مُضَاف ومضاف إِلَيْهِ، ثمَّ صَار بِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال فِي عرف الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاء لَهُ معنى آخر غير الأول وَهُوَ العلمية، فَصَارَ علما عَلَيْهِ بالغلبة، لقباً مشعراً برفعته، فَيَنْبَغِي أَن يعرف من حَيْثُ مَعْنَاهُ الإضافي، وَمن حَيْثُ مَعْنَاهُ اللقبي. إِذا علم ذَلِك؛ فبعض المصنفين بَدَأَ بِمَعْرِِفَة كَونه مُضَافا، فَتكلم على الْمُضَاف أَولا، ثمَّ على الْمُضَاف إِلَيْهِ ثَانِيًا، ثمَّ على كَونه مركبا، وتابعناهم على ذَلِك فِي الْمَتْن، لِأَن معرفَة الْمُفْرد تكون قبل معرفَة الْمركب. وَمن بَدَأَ بِكَوْنِهِ علما قَالَ: صَار ذَلِك كالمفرد، وَهُوَ أظهر وَأولى؛ لِأَن الأول فِيمَا تركيبه ملحوظ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 فعلى الأول: كل مركب لَا يعرف إِلَّا بِمَعْرِِفَة أَجْزَائِهِ، فأصول الْفِقْه، مركب من مُضَاف ومضاف إِلَيْهِ، فالمضاف أصُول، وَهِي جمع أصل. {وَهُوَ} أَي: الأَصْل، {لُغَة} : أَي: فِي اللُّغَة: {مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيره} . اخْتلفت عباراتهم فِي الأَصْل فِي اللُّغَة، فَقيل: هُوَ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيره، {قَالَه القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل} ، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 فِي شرح الْعُمْدَة "، وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، {وَالْأَكْثَر} . {وَقَالَ جمع: مَا مِنْهُ الشَّيْء} . مِنْهُم الأرموي فِي " الْحَاصِل ". وَقَالَ فِي " الْمَحْصُول " و " الْمُنْتَخب " و " التَّحْصِيل ": (الْمُحْتَاج إِلَيْهِ) . وَقيل: مَا يتَفَرَّع عَنهُ غَيره. وَقَالَ بَعضهم: (هَذِه الْعبارَة أحسن من قَول أبي الْحُسَيْن: " مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيره "؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَال: إِن الْوَلَد / يَنْبَنِي على الْوَالِد، وَيُقَال: إِنَّه فَرعه، وَأحسن من قَول صَاحب " الْحَاصِل " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وَجَمَاعَة: " مَا مِنْهُ الشَّيْء "؛ لاشتراك " من " بَين الِابْتِدَاء والتبعيض، وَأحسن من قَول الإِمَام: " الْمُحْتَاج إِلَيْهِ "؛ لِأَنَّهُ إِن أُرِيد بالاحتياج: مَا يعرف فِي علم الْكَلَام من احْتِيَاج الْأَثر إِلَى الْمُؤثر وَالْمَوْجُود إِلَى الموجد، لزم إِطْلَاق الأَصْل على الله تَعَالَى، وَإِن أُرِيد: مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الشَّيْء، لزم إِطْلَاقه على الْجُزْء وَالشّرط وَانْتِفَاء الْمَانِع، وَإِن أُرِيد: مَا يفهمهُ أهل الْعرف من الِاحْتِيَاج، لزم إِطْلَاقه على الْأكل واللبس وَنَحْوهمَا، وكل هَذِه اللوازم مستنكرة) انْتهى. قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (و " من " فِي قَوْله: مَا مِنْهُ الشَّيْء للتَّبْعِيض، أَي: مَا بعضه الشَّيْء، وَالْفرع بعض أَصله، كَالْوَلَدِ من الْوَالِد، والغصن من الشَّجَرَة، لِأَن الْفِقْه مقتطع من أدلته اقتطاع الْوَلَد من الْوَالِد والغصن من الشَّجَرَة وَنَحْوه، وَيجوز أَن تكون " من " لابتداء الْغَايَة، على معنى: أَن أَدِلَّة الْفِقْه من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَنَحْوهَا [هِيَ] مبدأ ظُهُوره، وَمِنْهَا ابْتِدَاء بَيَانه، وَهُوَ أظهر الْمَعْنيين فِي " من ".) انْتهى. وَقَالَ أَيْضا: (وَزعم بَعضهم أَن تَعْرِيف الشَّيْء ب " مَا " كَانَ فِي التعريفين قَبِيح؛ لِأَن المُرَاد من التَّعْرِيف الْإِيضَاح والإفهام، وَلَفظ " مَا " شَدِيد الْإِبْهَام، فالتعريف بِهِ يُنَافِي الْمَقْصُود. ورده بِأَن " مَا " وَإِن كَانَت شَدِيدَة الْإِبْهَام غير أَن التَّعْرِيف لَيْسَ بهَا وَحدهَا، بل بهَا وَبِمَا بعْدهَا، وبمجموعهما يحصل الْكَشْف عَن حَقِيقَة الْمَحْدُود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 - ثمَّ قَالَ -: نعم المناقشة على ذَلِك من وَجه آخر، وَهُوَ: أَن شَأْن الْحُدُود والتعريفات أَن يَأْتِي فِيهَا بِالْجِنْسِ الْقَرِيب ثمَّ يُمَيّز بِالْفَصْلِ، وَلَفظ " مَا " عَام فِي الْجِنْس الْقَرِيب والبعيد، فَلَا يعلم مَا المُرَاد. قَالَ: وَالْجَوَاب: / أَن الحذاق لَا يطلقون لفظ " مَا " فِي التَّعْرِيف إِلَّا مَعَ قرينَة تدل على الْجِنْس الْقَرِيب، والقرائن فِي المخاطبات كالألفاظ بل أبلغ فِي الإفهام) انْتهى. وَقَالَ الْآمِدِيّ فِي " الإحكام " و " مُنْتَهى السول ": (هُوَ مَا يسْتَند تحقق الشَّيْء إِلَيْهِ) . وَقيل: (منشأ الشَّيْء) ، وَلَا طائل تَحت هَذِه الْعبارَات، فَلذَلِك لم نذْكر فِي الْمَتْن مِنْهَا إِلَّا قَوْلَيْنِ، وَإِن كَانَ أهل اللُّغَة لم يذكرُوا هَذِه الْأَقْوَال فِي كتبهمْ، لِأَن الْأُصُولِيِّينَ يتعرضون لِأَشْيَاء لم يتَعَرَّض لَهَا أهل اللُّغَة، وَأما فِي الْعرف فَالْأَصْل مُسْتَعْمل فِي ذَلِك. فَائِدَة: قَوْلنَا مثلا: الأَصْل لُغَة، أَو الْفِقْه لُغَة، أَو الدَّلِيل لُغَة، وَنَحْو ذَلِك، وَاصْطِلَاحا أَو شرعا وَنَحْوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 اخْتلفُوا فِي الناصب لَهُ. قيل: هُوَ مَنْصُوب بِنَزْع حرف الصّفة، وَتَقْدِيره: أَي: فِي اللُّغَة، وَهَكَذَا أعربه الطوفي فِي " شَرحه " وَغَيره. وَقَالَ القطب الشِّيرَازِيّ فِي " شرح الْمُخْتَصر ": (وَقَوله: الدَّلِيل لُغَة: المرشد، وَالْإِجْمَاع لُغَة كَذَا، وَشبهه، مَنْصُوب على الْمصدر، من بَاب الْمصدر الْمُؤَكّد لغيره، لِأَن مَعْنَاهُ: أَي: [مَدْلُول] الدَّلِيل لُغَة: المرشد. لِأَن الدّلَالَة تَنْقَسِم إِلَى: دلَالَة شرع، وَإِلَى دلَالَة عرف، وَإِلَى دلَالَة لُغَة، فَلَمَّا كَانَت مُحْتَملَة وَذكر أحد المحتملات كَانَ من بَاب الْمصدر الْمُؤَكّد، وَكَانَ الْقيَاس أَن يذكر بعد [الْجُمْلَة] وَلكنهَا قدمت للقصد إِلَى أَنَّهَا لبَيَان دلَالَة الدَّلِيل، لِأَنَّهَا لَو أخرت لكَانَتْ صَالِحَة لكل وَاحِد مِنْهَا، وَلَيْسَت تمييزاً عَن النِّسْبَة، إِذْ لَا إِبْهَام فِي حمل المرشد على الدَّلِيل، وَلَا عَن [الْمُفْرد] وَهُوَ الدَّلِيل [إِذْ الْإِبْهَام فِي غير مستو] لكَونه مُشْتَركا) انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وَقَوْلنَا مثلا: خلافًا لفُلَان، مَنْصُوب على الْمصدر أَو الْحَال، أَي: أَقُول ذَلِك وَأَنا أخالفهم مُخَالفَة وَخِلَافًا. أَو أَقُول ذَلِك / فِي حَال كوني مُخَالفا لَهُم، وَهُوَ أحسن. قَوْله: {وَاصْطِلَاحا} . أَي: معنى الأَصْل فِي الِاصْطِلَاح. {مَا لَهُ فرع} . قَالَه ابْن حمدَان فِي " مقنعه " وَغَيره، وَهُوَ كَذَلِك؛ لِأَن الْفَرْع إِنَّمَا ينشأ دَائِما عَن أصل، وَالْأَصْل لَا يُطلق غَالِبا إِلَّا على مَا لَهُ فرع. قَوْله: {وَيُطلق على الدَّلِيل} . اعْلَم أَن للْأَصْل أَرْبَعَة إطلاقات إطلاقاً متعارفاً. أَحدهَا: الدَّلِيل، وَيُطلق عَلَيْهِ غَالِبا، صرح بِهِ جمع من الْعلمَاء، كَقَوْلِهِم: أصل هَذِه الْمَسْأَلَة الْكتاب وَالسّنة، أَي: دليلها. فَإِذا وصلته بالفقه وَقلت: دَلِيل الْفِقْه، كَانَ تَفْسِيرا لأصل الْفِقْه من حَيْثُ الْإِضَافَة، وَهُوَ المُرَاد هُنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وَالثَّانِي: يُطلق على الرجحان، أَي: على الرَّاجِح من الْأَمريْنِ، كَقَوْلِك: الأَصْل فِي الْكَلَام الْحَقِيقَة لَا الْمجَاز، أَي: الرَّاجِح عِنْد السَّامع هُوَ الْحَقِيقَة، وَالْأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة، وَبَقَاء مَا كَانَ على مَا كَانَ. وَالثَّالِث: الْقَاعِدَة المستمرة، أَو الْأَمر المستمر، كَقَوْلِك: أكل الْميتَة على خلاف الأَصْل، أَي: على خلاف الْحَالة المستمرة فِي الحكم. وَالرَّابِع: الْمَقِيس عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا يُقَابل الْفَرْع فِي بَاب الْقيَاس على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: {الْفِقْه لُغَة: الْفَهم، عِنْد الْأَكْثَر} . الْفِقْه: مصدر فقه، يُقَال: فقه بِكَسْر الْقَاف وَضمّهَا وَفتحهَا. فَالْأول لمُطلق الْفَهم، وَالثَّانِي إِذا كَانَ لَهُ سجية، وَالثَّالِث إِذا ظهر على غَيره، قَالَه الْقَرَافِيّ وَجَمَاعَة. قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (فقه ككرم وَفَرح فَهُوَ فَقِيه، وَفقه كندس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وَقَالَ فِي " الْمِصْبَاح الْمُنِير ": (الْفِقْه: فهم الشَّيْء) . قَالَ ابْن فَارس: (وكل علم بِشَيْء فَهُوَ فقه) . وَالْفِقْه على لِسَان حَملَة الشَّرْع: علم خَاص. وَفقه فقهاً من بَاب تَعب: إِذا علم، وَفقه - بِالضَّمِّ - مثله، وَقيل: الضَّم: إِذا صَار الْفِقْه لَهُ سجية. قَالَ أَبُو زيد: " رجل فقه - بِضَم الْقَاف وَكسرهَا -، وَامْرَأَة فقهة بِالضَّمِّ ".) انْتهى. / إِذا علم ذَلِك؛ فَلهُ مَعْنيانِ: معنى فِي اللُّغَة، وَمعنى فِي الِاصْطِلَاح. فَأَما مَعْنَاهُ فِي اللُّغَة فَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيره على أَقْوَال. أَحدهَا: أَنه الْفَهم، قَالَه الْأَكْثَر؛ لِأَن الْعلم يكون عَنهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 قَالَ الطوفي: (وَمِمَّا يدل على تغايرهما؛ أَن الْفِقْه يتَعَلَّق بالمعاني دون الْأَعْيَان، وَالْعلم يتَعَلَّق بهما، فَيصح أَن يُقَال: علمت معنى كلامك وفهمته) . قَالَ الْجَوْهَرِي: (الْفِقْه لُغَة: الْفَهم) . قَالَ أَبُو الْفرج فِي " الْإِيضَاح ": (يُقَال فِي اللُّغَة: فلَان فَقِيه، أَي: فهم، وَفُلَان يفقه عني مَا أَقُول، أَي: يفهم عني مَا أَقُول، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {فَمَال هَؤُلَاءِ الْقَوْم لَا يكادون يفقهُونَ حَدِيثا} [النِّسَاء: 78] ، {وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم} [الْإِسْرَاء: 44] ، {مَا نفقه كثيرا مِمَّا تَقول} [هود: 91] ، أَي: لَا يكادون يفهمون، وَلَكِن لَا تفهمون، وَمَا نفهم كثيرا مِمَّا تَقول، وَنَحْوه قَوْله: {وَهُوَ إِدْرَاك معنى الْكَلَام} . يَعْنِي: معنى الْفَهم: إِدْرَاك معنى الْكَلَام، زَاد ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": (بِسُرْعَة) ، وَلَا حَاجَة إِلَيْهَا؛ لِأَن من يفهم بعد حِين يُقَال: فهم. قَالَ القطب الشِّيرَازِيّ - أَي: فِي " شرح الْمُخْتَصر " -: (المُرَاد بالفهم الدَّرك لَا جودة الذِّهْن من جِهَة تهيئه [لاقتناص] مَا يرد عَلَيْهِ من المطالب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 والذهن: قُوَّة النَّفس المستعدة لِاكْتِسَابِ الْحُدُود والآراء) . وَالثَّانِي قَالَه القَاضِي فِي " الْعدة "، وَابْن فَارس فِي " الْمُجْمل "، وَأَبُو الْمَعَالِي فِي " التخليص "، والكيا، والقشيري، وَالْمَاوَرْدِيّ وَغَيرهم، وَحكي عَن الْأَصْحَاب: الْعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 لم أعلم من أَيْن نقلت أَن هَذَا القَوْل حُكيَ عَن الْأَصْحَاب الْآن. قَالَ ابْن فَارس فِي " الْمُجْمل ": (الْفِقْه الْعلم، وكل علم بِشَيْء فَهُوَ فقه) . وَالثَّالِث قَالَه ابْن الصيقل، وَصَاحب " رَوْضَة فقهنا "، وَالْغَزالِيّ، والآمدي: هما، أَي: الْفِقْه لُغَة: الْفَهم وَالْعلم. قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الْفِقْه بِالْكَسْرِ الْعلم بالشَّيْء والفهم) ، وَلم يحك خلافًا. يُقَال: فلَان يفقه الْخَيْر وَالشَّر، ويفقه كَلَام فلَان، أَي: يفهمهُ ويعلمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وَالرَّابِع قَالَه القَاضِي فِي " الْكِفَايَة ": (معرفَة قصد الْمُتَكَلّم) . قَالَ الرَّازِيّ / فِي " الْمَحْصُول " و " الْمُنْتَخب ": (هُوَ فهم غَرَض الْمُتَكَلّم من كَلَامه) . قَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع " عَن كَلَام القَاضِي فِي " الْكِفَايَة ": (يبطل بِكَلَام من لَا قصد لَهُ كالنائم وَالصَّبِيّ وَالْمَجْنُون) . وَالْخَامِس، قَالَه أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": (الْكل) . أَي: يُطلق على الْكل الَّذِي تقدم. قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": (يُقَال " فهمت كلامك، إِذا عَرفته وفهمته وعلمته، كل ذَلِك بِمَثَابَة وَاحِدَة) انْتهى. قَالَ الْقَرَافِيّ: (الْفِقْه هُوَ الْفَهم وَالْعلم وَالشعر والطب لُغَة، وَإِنَّمَا اخْتصّت بعض الْأَلْفَاظ بِبَعْض الْعُلُوم بِسَبَب الْعرف) ، وَحَكَاهُ عَن الْمَازرِيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 فِي " شرح الْبُرْهَان ". وَالسَّادِس قَالَه الشِّيرَازِيّ وَغَيره: (فهم مَا يدق) . قَالَه أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " اللمع "، وَصَاحب " اللّبَاب " من الْحَنَفِيَّة، وَمَعْنَاهُ لبَعض أَصْحَابنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 قَالَ ابْن هُبَيْرَة: (هُوَ اسْتِخْرَاج الغوامض والاطلاع عَلَيْهَا) ، وَهُوَ أظهر؛ فَإِنَّهُ لَا يُقَال: فقهت أَن السَّمَاء فَوْقنَا، وَلَا أَن النَّار حارة، وَنَحْو ذَلِك، وَيُقَال: فقهت كلامك، وَهَذَا يَقْتَضِي أَن الْفِقْه أخص من الْعلم. قَالَ ابْن مُفْلِح - من أَصْحَابنَا - عَن كَلَام ابْن هُبَيْرَة: (وَلَعَلَّه مُرَاد من أطلق) . وَالسَّابِع: (التَّوَصُّل إِلَى علم غَائِب بِعلم شَاهد) ، قَالَه الرَّاغِب. قَالَ الْعَسْقَلَانِي فِي " شرح مُخْتَصر الطوفي ": (الْفَهم هَيْئَة للنَّفس بهَا يتَحَقَّق مَعَاني مَا يحس، فالعلم إِذن عَنهُ، وَمن ثمَّ قيل: الْفِقْه التَّوَصُّل إِلَى علم غَائِب بِعلم شَاهد، فَهُوَ أخص من الْعلم) انْتهى. قَوْله: {وَشرعا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 أَي: فِي اصْطِلَاح فُقَهَاء الشَّرْع. لَهُم فِي تَفْسِيره وَحده عِبَارَات لَا تَخْلُو من إيرادات. أَحدهَا - قَالَه أَكثر أَصْحَابنَا الْمُتَقَدِّمين -: (معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الفرعية بِالْفِعْلِ أَو الْقُوَّة الْقَرِيبَة) . نَقله عَنْهُم ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ". وَيرد عَلَيْهِ: كَونهم حكمُوا بِأَنَّهُ معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الفرعية بِالْفِعْلِ، وَهَذَا لَا يقدر عَلَيْهِ بشر، أَو الْقُوَّة، وَهُوَ مُشكل، إِذْ لَا بُد للفقيه / من معرفَة بعض الْأَحْكَام بِالْفِعْلِ، فلعلهم أَرَادوا (أَو) بِمَعْنى (الْوَاو) ، فَيكون معرفَة الْأَحْكَام بَعْضهَا بِالْفِعْلِ وَبَعضهَا بِالْقُوَّةِ، فَيقرب الْأَمر، بل هَذَا هُوَ الْفَقِيه الْمُجْتَهد يعرف بعض الْأَحْكَام بِالْفِعْلِ، وَبَعضهَا بِالْقُوَّةِ، لتهيوئه لَهَا. وَقَالَ أَبُو الْفرج فِي مُقَدّمَة " الْإِيضَاح ": (حَده فِي الشَّرِيعَة: الْعلم بِأَفْعَال الْمُكَلّفين الشَّرْعِيَّة دون الْعَقْلِيَّة من تَحْلِيل أَو تَحْرِيم وحظر إِبَاحَة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": (حد الْفِقْه: الْعلم بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة) . وَقيل: (معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة) انْتهى. وَقَالَ ابْن حمدَان وَغَيره: (معرفَة كثير من الْأَحْكَام عرفا) . فَقَالَ فِي " الْمقنع ": (الْفِقْه شرعا: معرفَة أَحْكَام جمل كَثِيرَة عرفا من مسَائِل الْفُرُوع العلمية من أدلتها الْحَاصِلَة بهَا) ، وَهُوَ حسن. وَمرَاده بالمعرفة: الْفِعْل؛ لِأَن الْفَقِيه لابد لَهُ من معرفَة كثير من الْأَحْكَام بِالْفِعْلِ. وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": (الْعلم بِأَحْكَام الْأَفْعَال الشَّرْعِيَّة كالحل وَالْحُرْمَة وَالصِّحَّة وَالْفساد وَنَحْوهَا. قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": (وَأكْثر الْمُتَقَدِّمين قَالُوا: معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الثَّابِتَة لأفعال الْمُكَلّفين، وَقيل النَّاس) . قَالَ فِي " شَرحه ": (لم يقصدوا تَحْرِير الْمُتَأَخِّرين، بل أَرَادوا الْإِشَارَة إِلَى حَقِيقَة الْفِقْه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وَيرد عَلَيْهِ أَشْيَاء كَثِيرَة، ومؤاخذات لَا طائل تحتهَا وَلَا فَائِدَة، وتعرف بِالتَّأَمُّلِ. وَقيل: - هَذَا القَوْل الثَّانِي -: إِنَّه نفس الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الفرعية، وَهُوَ أظهر، وَاخْتَارَهُ ابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، والعسقلاني شَارِح " الطوفي "، وَجمع كثير، لَا مَعْرفَتهَا وَلَا الْعلم بهَا، إِذْ الْعلم أَو الْمعرفَة بالفقه غير الْفِقْه، فَلَا يكون دَاخِلا فِي مَا هيته، وَمَا لَيْسَ دَاخِلا فِي الْمَاهِيّة لَا يكون جِنْسا فِي حَده، وَيَأْتِي لذَلِك مزِيد بَيَان / فِي حد أصُول الْفِقْه لقباً. وَقيل - هَذَا القَوْل الثَّالِث -: إِنَّه الْعلم بهَا عَن أدلتها التفصيلية بالاستدلال. اخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، والبيضاوي والطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَغَيرهم. فبعضهم قَالَ: الْعلم، وَبَعْضهمْ قَالَ: الْمعرفَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وعَلى هَذَا الْحَد - أَيْضا - إيرادات ومؤاخذات كَثِيرَة، وأجوبة عَن ذَلِك، ذكروها فِي الشُّرُوح والمتون - أَيْضا - يطول الْكتاب بذكرها. وَهَذَا الْحَد مُوَافق لقَوْل أَصْحَابنَا: (معرفَة الْأَحْكَام لَا نفس الْأَحْكَام) ، وَيَأْتِي مَأْخَذ الْخلاف فِي حد أصُول الْفِقْه لقباً؛ فَإِن الْخلاف هُنَا كالخلاف هُنَاكَ عِنْد [كثير] مِنْهُم. فَائِدَة: عدي الْعلم بِالْبَاء، وَالْعلم يتَعَدَّى بِنَفسِهِ، فَلَا بُد من تَأْوِيل، وَلَهُم فِي تَأْوِيله وَجْهَان أَو ثَلَاثَة: أَحدهَا: تضمن الْعلم معنى الْإِحَاطَة بِالْأَحْكَامِ، والإحاطة تتعدى بِالْبَاء. الثَّانِي: تكون مُتَعَلقَة بِمَحْذُوف تَقْدِيره: الْعلم الْمُتَعَلّق بِالْأَحْكَامِ، فَتكون الْبَاء مُتَعَلقَة بِصفة الْعلم وَهُوَ: الْمُتَعَلّق. لَكِن قد جَاءَت الْبَاء فِي قَوْله تَعَالَى: {ألم يعلم بِأَن الله يرى} [العلق: 14] ، فَيحْتَمل زيادتها، وَيحْتَمل أَن يكون (علم) متضمناً معنى (أحَاط) . فدخول الْبَاء فِي قَوْله: (الْعلم بِالْأَحْكَامِ) أما على طَرِيق التَّضْمِين فِي الْفِعْل فَظَاهر، وَأما على طَرِيق الزِّيَادَة فِي الْفِعْل؛ فَلِأَن الْمصدر الْمَعْرُوف بِالْألف وَاللَّام ضَعِيف الْعَمَل جدا، وَإِذا ضعف تقوى بالحرف، وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {إِن كُنْتُم للرءيا تعبرون} [يُوسُف: 43] ، {ومصدقاً لما بَين يَدَيْهِ} [الْمَائِدَة: 46] ، وعَلى كل تَقْدِير: هِيَ مُتَعَلقَة بِالْعلمِ، وَأما تَقْدِير مَحْذُوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 كَقَوْلِنَا: الْعلم الْمُتَعَلّق بِالْأَحْكَامِ، فَلَا حَاجَة إِلَيْهِ، إِلَّا إِذا فسرنا الْعلم بالصناعة فَيظْهر تَقْدِيره. انْتهى. فَائِدَة: الحكم الفرعي: مَا لَا يتَعَلَّق بالْخَطَأ فِي اعْتِقَاد مُقْتَضَاهُ وَالْعلم بِهِ قدح فِي الدّين وَلَا وَعِيد فِي الْآخِرَة، كالنية فِي الْوضُوء، وَالنِّكَاح / بِلَا ولي. قَوْله: {والفقيه: من عرف جملَة غالبة مِنْهَا كَذَلِك، وأبدل الْمجد وَابْن حمدَان غالبة بكثيرة} . هَذَا تَعْرِيف الْفَقِيه، لما ذكرنَا حد الْفِقْه، أردنَا أَن نَعْرِف الْفَقِيه. وَقَوله كَذَلِك. أَي: يعرفهَا عَن أدلتها التفصيلية بالاستدلال، فَلَا يكون فَقِيها حَتَّى يعرفهَا على هَذِه الصّفة وَإِلَّا لَكَانَ مُقَلدًا. وأبدل الْمجد وَابْن حمدَان غالبة بكثيرة. فَقَالَ الْمجد فِي " المسودة ": (الْفَقِيه حَقِيقَة: من لَهُ أَهْلِيَّة تَامَّة يعرف الحكم بهَا إِذا شَاءَ، مَعَ مَعْرفَته جملا كَثِيرَة من الْأَحْكَام الفروعية وحضورها عِنْده بأدلتها الْخَاصَّة والعامة) انْتهى. وَقَالَ فِي " الْمقنع ": (الْفِقْه شرعا: معرفَة أَحْكَام جمل كَثِيرَة عرفا من مسَائِل الْفُرُوع العلمية بأدلتها الْحَاصِلَة بهَا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 فالفقيه حَقِيقَة من عرفهما معرفَة، وَيُمكن من معرفتهما معرفَة غَيرهمَا بطريقه) انْتهى. فَكَلَام الْمجد وَابْن حمدَان وَكَلَام غَيرهمَا مُتَقَارب، لَكِن ظَاهر قَوْلهم: جملَة غالبة، الْغَالِبَة لابد وَأَن تكون فَوق النّصْف، حَتَّى تكون غالبة على مَا يقابلها، بِخِلَاف الْكَثِيرَة؛ فَإِنَّهَا تطلق حَيْثُ وجدت الْكَثْرَة. وَحَيْثُ حملنَا الْعبارَة الأولى على أَكثر من النّصْف فيشكل؛ لِأَن الْفِقْه جَمِيعه لَا يُحِيط بِهِ بشر، فَكيف يعرف من ذَلِك النّصْف أَو أَكثر مِنْهُ، فَيبقى فِي الْعبارَة شَيْء. وَإِن حملناها على أَكْثَره سهل الْأَمر، فَيكون المُرَاد: كَثِيرَة غالبة، فَهِيَ أخص من الْكَثْرَة الْمُطلقَة، وَيَأْتِي فِي تَعْرِيف الْمُجْتَهد: أَنه لَا يشْتَرط فِيهِ معرفَة أَكثر الْفِقْه فِي الْأَشْهر، والمجتهد هُوَ الْفَقِيه. فعلى هَذَا يكون قَوْلهمَا: كَثِيرَة، أولى من قَول من قَالَ: غالبة، إِذا فسرناها بِأَكْثَرَ من النّصْف، وَهُوَ كَذَلِك. إِذا علم ذَلِك؛ فَلَا يُطلق الْفَقِيه على مُحدث وَلَا مُفَسّر وَلَا مُتَكَلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وَلَا نحوي وَنَحْوهم، / قَالَه الشَّيْخ الْمُوفق وَغَيره، وَهُوَ وَاضح قَوْله: {فَخرج بالأدلة: علم الله وَرُسُله غير الْمُجْتَهد فِيهِ} . أردْت أَن أنبه هُنَا على بعض نكيتات فِي قيود حد ابْن الْحَاجِب وَغَيره مِمَّا ذَكرْنَاهُ فِي الْمَتْن. فَخرج بقوله: الْعلم بِالْأَحْكَامِ: الْعلم بالذوات وَالصِّفَات وَالْأَفْعَال. قَالَ الْعلمَاء: (لَا بُد للْعلم من مَعْلُوم، وَذَلِكَ الْمَعْلُوم إِن لم يكن مُحْتَاجا إِلَى مَحل يقوم بِهِ فَهُوَ الْجَوْهَر كالجسم، وَإِن احْتَاجَ؛ فَإِن كَانَ سَببا بَين الْأَفْعَال والذوات فَهُوَ الحكم، وَإِلَّا فَهُوَ الصّفة كالحمرة والسواد) . وَخرج بقوله: عَن أدلتها: علم الله [وَرُسُله] من الْآدَمِيّين، فِيمَا لَيْسَ من اجتهادهم، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَن دَلِيل بل هُوَ [متلقى] عَن جِبْرَائِيل، وَمَا كَانَ من اجتهادهم فَهُوَ عَن دَلِيل. وَقد صرح بِهَذَا الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته، وَغَيره، وَهُوَ وَاضح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وَالصَّحِيح جَوَاز اجتهادهم ووقوعه مِنْهُم، على مَا يَأْتِي بَيَانه فِي أَحْكَام الْمُجْتَهد. وَخرج - أَيْضا - مَا علم من الدّين بِالضَّرُورَةِ، كإيجاب الصَّلَوَات الْخمس وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج، وَتَحْرِيم الزِّنَا والربا وَالسَّرِقَة وَنَحْوهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ من الْفِقْه، لكَونه مستخرجاً من دَلِيل تفصيلي، وَالْعلم بِهَذِهِ الْأَشْيَاء لَا يُسمى فقهاً فِي الِاصْطِلَاح، وَإِن سمي فروعاً بِالنِّسْبَةِ إِلَى أصُول الدّين، كَمَا يُقَال فِي تَكْلِيف الْكَافِر بالفروع، مُرَادهم بذلك الصَّلَاة وَنَحْوهَا. {وَقيل: علم الله عَنْهَا} . أَي: قيل: إِن علم الله عَن الْأَدِلَّة، ذكره ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "؛ لِأَن الْعلم بِالْعِلَّةِ وَهُوَ الدَّلِيل، لَازم للْعلم بالمعلول وَهُوَ الحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 قَالَ الاصفهاني فِي " شرح الْمُخْتَصر ": وَمَا قيل: (إِن علم الله بِالْأَحْكَامِ عَن الْأَدِلَّة التفصيلية؛ لِأَن الْعلم بِالْعِلَّةِ مُسْتَلْزم للعلوم بالمعلول، فَبَاطِل؛ لِأَن الْأَدِلَّة لَا تكون عِلّة للْأَحْكَام، بل تكون إمارات) انْتهى. فَدلَّ أَنه قد قيل، وَلِهَذَا رده. / {وَقيل: الاستدلالي} . أَي: وَقيل: خرج علم الله وَرُسُله بالإستدلال لَا بالأدلة؛ لِأَن علمهمْ غير حَاصِل بالاستدلال؛ لِأَن علم الله ذاتي عَام التَّعَلُّق بالأشياء مُخَالف لعلومنا الضرورية والنظرية، وَعلم جِبْرَائِيل وَحي يتلَقَّى من الْبَارِي تَعَالَى، وَعلم مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتلَقَّى من جِبْرَائِيل، فَلَا حَاجَة فِيهِ إِلَى الِاسْتِدْلَال. {وَقيل: بالاستدلالي} . أَي: أَن علمهمْ استدلالي. قَالَ بعض الْأُصُولِيِّينَ: (علمهمْ استدلالي؛ لِأَنَّهُ يعلمُونَ الشَّيْء على حَقِيقَته، أَي: على مَا هُوَ بِهِ، وحقائق الْأَحْكَام تَابِعَة لأدلتها وعللها، فَكَمَا يعلمُونَ حَقِيقَة الحكم يعلمُونَ كَونه تَابعا لدليله وعلته، وَأَنَّهَا كَذَا، فَكَمَا يعلم سُبْحَانَهُ تَحْرِيم الْخمر يعلم أَن عِلّة التَّحْرِيم الْإِسْكَار مثلا، وكمل يعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَهَارَة الهر يعلم أَن علتها الطوف) . ورده الطوفي ثمَّ قَالَ: (وَالتَّحْقِيق: أَن علم الله تَعَالَى لَيْسَ عَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 اسْتِدْلَال، وَعلم رسله عَن اسْتِدْلَال، غير أَن الِاسْتِدْلَال فِي علمهمْ بِالْأَحْكَامِ أظهر مِنْهُ فِي غَيرهم، لقلَّة مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ من الْمُقدمَات) . قَوْله {و [خرج] بالأدلة التفصيلية: الْأَدِلَّة الإجمالية، كعلم الْخلاف} . وَهُوَ مَا يسْتَعْمل فِي فن الْخلاف، نَحْو: ثَبت الحكم بالمقتضى، وانتفى [بِوُجُود النَّافِي] ، فَإِن هَذِه قَوَاعِد كُلية إجمالية تسْتَعْمل فِي غَالب الْأَحْكَام. إِذْ يُقَال مثلا: وجود النِّيَّة فِي الطَّهَارَة حكم ثَبت بالمقتضي، وَهُوَ تَمْيِيز الْعِبَادَة عَن الْعَادة. وَيَقُول الْحَنَفِيّ: عدم وُجُوبهَا والاقتصار على مسنونيتها حكم ثَبت بالمقتضي، وَهُوَ أَن الْوضُوء مِفْتَاح الصَّلَاة، وَذَلِكَ مُتَحَقق بِدُونِ النِّيَّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وَيُقَال - أَيْضا -: سُقُوط الْقصاص عَن الْمُسلم الْقَاتِل للذِّمِّيّ حكم ثَبت لوُجُود مقتضيه، وَهُوَ شرف الْإِسْلَام وصيانته أَن يَجْعَل الْكَافِر كفوا لَهُ. وَيُقَال: قتل الْمُسلم بالذمي حكم انْتَفَى بِوُجُود نافيه، وَهُوَ تحقق التَّفَاوُت بَينهمَا، أَو بِانْتِفَاء شَرطه، وَهُوَ الْمُكَافَأَة. وَيَقُول الْحَنَفِيّ: هُوَ حكم ثَبت بِوُجُود مقتضيه، / وَهُوَ عصمَة الْإِسْلَام المستفادة من قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا أَدّوا الْجِزْيَة فَلهم مَا لنا وَعَلَيْهِم مَا علينا ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وغالب مسَائِل الْفُرُوع يُمكن إِثْبَاتهَا بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ وَنَحْوهمَا، فَهِيَ أَدِلَّة إجمالية بِالنِّسْبَةِ إِلَى كل مَسْأَلَة. وَاعْلَم أَن الْمَطْلُوب: إِمَّا إِثْبَات الحكم فَهُوَ بِالدَّلِيلِ الْمُثبت، أَو نَفْيه فَهُوَ بِالدَّلِيلِ النَّافِي، أَو بِانْتِفَاء الدَّلِيل الْمُثبت، أَو بِوُجُود الْمَانِع، أَو بِانْتِفَاء الشَّرْط فَهَذِهِ أَربع قَوَاعِد ضابطة لمجاري الْكَلَام على تعدد جريانها وَكَثْرَة مسائلها. قَوْله: {والمقلد فِي الْأَصَح} . اخْتلف الشُّرَّاح: بِمَا خرج الْمُقَلّد من حد الْفِقْه. فَقيل - وَهُوَ الْأَصَح -: إِنَّه خرج بِقَيْد الْأَدِلَّة التفصيلية؛ لِأَن مَعْرفَته لبَعض الْأَحْكَام لَيست على دَلِيل أصلا لَا إجمالي وَلَا تفصيلي، فَلَا يكون علمه فقهاً وَلَا هُوَ فَقِيه؛ لِأَن شَرط الْفَقِيه: أَن يكون علمه عَن دَلِيل تفصيلي، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِك. وَقيل: خرج بِقَيْد الِاسْتِدْلَال؛ لِأَنَّهُ يعلم بعض الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَمَعَ ذَلِك لَا يُسمى علمه فقهاً؛ لِأَن عمله بهَا بِالْعقلِ الْمُجَرّد لَا عَن نظر واستدلال. قَوْله: {فأصول الْفِقْه علما} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 مَا مضى من الْكَلَام كَانَ على معرفَة أصُول الْفِقْه من حَيْثُ التَّفْصِيل، فتكلمنا على الأَصْل لُغَة وَاصْطِلَاحا وعَلى الْفِقْه لُغَة وَاصْطِلَاحا، وَذكرنَا فِي ضمن ذَلِك: من الْفَقِيه؟ وَالْكَلَام الْآن على أصُول الْفِقْه من حَيْثُ كَونهَا قد صَارَت علما، أَي: لقباً على هَذَا الْعلم. وَلَهُم فِي تَعْرِيفه عِبَارَات مُخْتَلفَة. أَحدهَا مَا قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " والعسقلاني شَارِح " الطوفي "، وَجمع كثير: هُوَ {الْقَوَاعِد الَّتِي يتَوَصَّل بهَا إِلَى استنباط الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة الفرعية} . قَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": (هِيَ أدلته الْكُلية الَّتِي تفيده بِالنّظرِ على وَجه كلي) انْتهى. فَجعلُوا أصُول الْفِقْه: هِيَ الْقَوَاعِد نَفسهَا، لَا الْعلم بهَا. قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى وَأَصْحَابه: (أصُول الْفِقْه مَا تبنى عَلَيْهِ مسَائِل الْفِقْه / وَتعلم أَحْكَامهَا بِهِ) . قَالَ ابْن مُفْلِح - بعد كَلَام القَاضِي وَأَصْحَابه: فَهِيَ الْقَوَاعِد ... إِلَى آخِره قَالَ -: (وَزِيَادَة " عَن " أَو " من أدلتها التفصيلية " ضائع، لِأَن المُرَاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 بِالْأَحْكَامِ: " الْفِقْهِيَّة "، وَلَا تكون إِلَّا كَذَلِك) . إِذا علم ذَلِك؛ فالقواعد: جمع قَاعِدَة، وَهِي هُنَا: عبارَة عَن صور كُلية تنطبق كل وَاحِدَة مِنْهَا على جزئياتها الَّتِي تحتهَا، وَلذَلِك لم يحْتَج إِلَى تقييدها بِالْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّهَا لَا تكون إِلَّا كَذَلِك، وَتقدم ذَلِك أَيْضا. وَذَلِكَ كَقَوْلِنَا مثلا: حُقُوق العقد تتَعَلَّق بالموكل دون الْوَكِيل. وَقَوْلنَا: الْحِيَل فِي الشَّرْع بَاطِلَة. فَكل وَاحِدَة من هَاتين القضيتين يعرف بِالنّظرِ فِيهَا قضايا مُتعَدِّدَة كَقَوْلِنَا: عُهْدَة المُشْتَرِي على الْمُوكل، وَلَو حلف لَا يفعل شَيْئا فَوكل فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فعله حنث، وَلَو وكل مُسلم ذِمِّيا فِي شِرَاء خمر أَو خِنْزِير لم يَصح، لِأَن أَحْكَام العقد تتَعَلَّق بالموكل. وَقَوْلنَا: لَا يَصح نِكَاح الْمُحَلّل، وَلَا تَخْلِيل الْخمر علاجاً، وَلَا بيع الْعينَة، وَلَا الْحِيلَة على إبِْطَال الشُّفْعَة؛ لِأَن الْحِيَل بَاطِلَة. وَهَكَذَا قَوْلنَا - وَهُوَ المُرَاد هُنَا -: الْأَمر للْوُجُوب، وللفور، وَنَحْوه على مَا تقدم. وَذَلِكَ كُله قَوَاعِد للمسائل الْفِقْهِيَّة. وَقد صنف بعض متأخري أَصْحَابنَا وَغَيره قَوَاعِد فِي أصُول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الْفِقْه، وَبنى عَلَيْهَا مسَائِل فقهية. والتوصل هُوَ: قصد الْوُصُول إِلَى الْمَطْلُوب بِوَاسِطَة، فَهُوَ كالتوسل. وَاحْترز بالتوصيل بهَا إِلَى استنباط الْأَحْكَام: عَن الْقَوَاعِد الَّتِي لَا يتَوَصَّل بهَا إِلَى استنباط شَيْء، كقواعد الْبَيْت، أَو يستنبط مِنْهَا غير الْأَحْكَام من الصَّنَائِع وَالْعلم بالهيئات وَالصِّفَات. وَالْمرَاد بِالْأَحْكَامِ: الْأَحْكَام الْخَمْسَة وَمَا فِي مَعْنَاهَا، فَلذَلِك وصفت بالشرعية؛ لِأَن تِلْكَ الْقَوَاعِد هِيَ الْأَدِلَّة السمعية من الْكتاب وَالسّنة وَمَا يتَوَصَّل بهما، وَالْأَحْكَام المستنبطة من الْأَدِلَّة السمعية لَا تكون إِلَّا شَرْعِيَّة، من حَيْثُ أَن / وجودهَا إِنَّمَا عرف من جِهَة الشَّرْع. وَقيل: يحْتَرز بهَا عَن الاصطلاحية والعقلية، كقواعد علم الْحساب والهندسة. وَاحْترز بالفرعية: عَن الْأَحْكَام الَّتِي تكون من جنس الْأُصُول، كمعرفة وجوب التَّوْحِيد من أمره تَعَالَى لنَبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله} [مُحَمَّد: 19] ، وَقيل: ككون الْإِجْمَاع دَلِيلا، وَالْقِيَاس حجَّة، وَمن ثمَّ لَا حَاجَة إِلَى زِيَادَة مَا تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 القَوْل الثَّانِي مَا قَالَه ابْن الْحَاجِب والطوفي وَجمع: أَن أصُول الْفِقْه: (الْعلم بالقواعد الَّتِي يتَوَصَّل بهَا إِلَى استنباط الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الفرعية عَن أدلتها التفصيلية) . ورد: بِأَن أصُول الْفِقْه، الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الفرعية، لَا الْعلم بهَا وَلَا مَعْرفَتهَا؛ إِذْ الْعلم والمعرفة بأصول الْفِقْه غير أصُول الْفِقْه، فَلَا يكون دَاخِلا فِي ماهيتها، وَمَا لَيْسَ دَاخِلا فِي الْمَاهِيّة لَا يكون جِنْسا فِي حَده، كَمَا قُلْنَا فِي حد الْفِقْه، وَلِأَن هَذَا الْحَد، وَهُوَ الْعلم بالقواعد بِعلم أصُول الْفِقْه أشبه مِنْهُ بأصول الْفِقْه، لِأَن أصُول الْفِقْه أدلته، وَالْعلم بالأدلة غير الْأَدِلَّة. وَظهر من هَذَا أَن الأجود أَن يُقَال: أصُول الْفِقْه الْقَوَاعِد ... إِلَى آخِره كَمَا قدمْنَاهُ. قَالَ الْإِسْنَوِيّ: (وَلَو كَانَ هُوَ معرفَة الْأَدِلَّة؛ لَكَانَ يلْزم من فقدان الْعَارِف بأصول الْفِقْه فقدان أصُول الْفِقْه، وَلَيْسَ كَذَلِك) انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 قلت: هَذِه الْمَسْأَلَة مِمَّا اخْتلف فِيهَا الْعلمَاء، فَذهب القَاضِي أَبُو يعلى - من أَصْحَابنَا - وَأَصْحَابه، وَالْقَاضِي أَبُو بكر بن الباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي، والرازي، والآمدي، وَابْن حمدَان، وَابْن مُفْلِح، والإسنوي، وَابْن دَقِيق الْعِيد، وَغَيرهم، إِلَى أَن أصُول الْفِقْه: الْقَوَاعِد، وَهُوَ أظهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وَذهب ابْن الْحَاجِب، والأرموي، والبيضاوي، والطوفي، وَجمع، إِلَى أَن أصُول الْفِقْه: الْعلم بالقواعد. قَالُوا: كَمَا أَن الْفِقْه متفرع عَن أدلته، هُوَ متفرع عَن الْعلم / بأدلته. قَالَ التَّاج السُّبْكِيّ فِي " شرح منهاج الْبَيْضَاوِيّ ": (هَذِه الْأَدِلَّة الْكُلية لَهَا حقائق فِي [أَنْفسهَا] من حَيْثُ دلالتها وَتعلق الْعلم بهَا، فَهَل وضع أصُول الْفِقْه لتِلْك الْحَقَائِق فِي [أَنْفسهَا] أَو [للْعلم] بهَا؟ [قَولَانِ] ، وَلكُل مِنْهُمَا وَجه، فَإِن الْفِقْه كَمَا يتَوَقَّف على الْأَدِلَّة يتَوَقَّف على الْعلم بهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 قَالَ: وَقد يرجح مَا قَالَه الْبَيْضَاوِيّ؛ بِأَن الْعلم بالأدلة [يُوصل إِلَى الْمَدْلُول، والأدلة] لَا توصل إِلَى الْمَدْلُول إِلَّا بِوَاسِطَة الْعلم بهَا؛ لِأَن الْفِقْه علم. لَكِن أهل الْعرف يسمون الْمَعْلُوم أصولاً، ويسمون الْمَعْلُوم فقهاً، وَتقول: هَذَا كتاب أصُول، وَكتاب فقه، وَالْأولَى: جعل الْأُصُول [للأدلة] ، وَالْفِقْه للْعلم؛ لِأَنَّهُ أقرب إِلَى الِاسْتِعْمَال اللّغَوِيّ) انْتهى. قلت: وَهَذَا التَّعْرِيف قَالَه جمع من الْعلمَاء، وَهُوَ أَن الْفِقْه: الْعلم بِالْأَحْكَامِ، وأصول الْفِقْه: الْقَوَاعِد، لَا الْعلم بهَا، وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ، وَالله أعلم. القَوْل الثَّالِث قَالَه الأرموي، والبيضاوي، وَغَيرهمَا، وَهُوَ قَوْلنَا: {وَقيل: معرفَة [دَلَائِل الْفِقْه] إِجْمَالا، وَكَيْفِيَّة الاستفادة مِنْهَا، وَحَال المستفيد} . وكل وَاحِد من هَذِه الثَّلَاثَة وَهِي: معرفَة الْأَدِلَّة، وَمَعْرِفَة كَيْفيَّة الاستفادة، وَمَعْرِفَة حَال المستفيد، من أصُول الْفِقْه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 فأصول الْفِقْه عِنْد هَؤُلَاءِ: معرفَة هَذِه الثَّلَاثَة. فمعرفة دلائله إِجْمَالا، وَاضح، ويحترز بِهِ عَن ثَلَاثَة أَشْيَاء أَحدهَا: عَن غير الْأَدِلَّة، كمعرفة الْفِقْه وَنَحْوه. وَالثَّانِي: عَن معرفَة أَدِلَّة غير الْفِقْه، كأدلة النَّحْو وَالْكَلَام. وَالثَّالِث: عَن معرفَة بعض أَدِلَّة الْفِقْه، كباب وَاحِد من أصُول الْفِقْه، فَإِنَّهُ جُزْء من أصُول الْفِقْه، فَلَا يكون أصُول الْفِقْه، وَلَا يُسمى الْعَارِف بِهِ أصولياً؛ لِأَن بعض الشَّيْء لَا يكون نفس الشَّيْء. لَكِن جمع فِي " الْمِنْهَاج " وَغَيره، الدَّلِيل على دَلَائِل، وَهَذَا لَا يعرف. قَالَ ابْن مَالك فِي " شرح الكافية ": (لم يَأْتِ " فعائل " جمعا لاسم جنس على وزن " فعيل " - فِيمَا أعلم - لكنه بِمُقْتَضى الْقيَاس جَائِز / فِي الْعلم الْمُؤَنَّث، ك " سعائد " جمع " سعيد " اسْم امْرَأَة) . وَقَوْلهمْ: (وَكَيْفِيَّة الاستفادة مِنْهَا) مجرور بالْعَطْف على دَلَائِل. أَي: معرفَة دَلَائِل الْفِقْه، وَمَعْرِفَة كَيْفيَّة الاستفادة من تِلْكَ الدَّلَائِل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 أَي: استنباط الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مِنْهَا، وَذَلِكَ يرجع إِلَى معرفَة شَرَائِط الِاسْتِدْلَال، كتقديم النَّص على الظَّاهِر، والمتواتر على الْآحَاد، وَنَحْو مِمَّا سَيَأْتِي فِي التعادل وَالتَّرْجِيح، فَلَا بُد من معرفَة تعَارض الْأَدِلَّة، وَمَعْرِفَة الْأَسْبَاب الَّتِي يرجح بهَا بعض الْأَدِلَّة على بعض، وَإِنَّمَا جعل ذَلِك من أصُول الْفِقْه؛ لِأَن الْمَقْصُود من معرفَة أَدِلَّة الْفِقْه: استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا، وَلَا يُمكن الاستنباط مِنْهَا إِلَّا بعد معرفَة التَّعَارُض وَالتَّرْجِيح؛ لِأَن دَلَائِل الْفِقْه مفيدة للظن غَالِبا، والمظنونات قَابِلَة للتعارض محتاجه إِلَى التَّرْجِيح، فَصَارَ معرفَة ذَلِك من أصُول الْفِقْه، قَالَه الْإِسْنَوِيّ. وَقَوله: (وَحَال المستفيد) مجرور أَيْضا بالْعَطْف على دَلَائِل، أَي: وَمَعْرِفَة حَال المستفيد، وَهُوَ طَالب حكم الله تَعَالَى. قَالَ الْإِسْنَوِيّ: (فَيدْخل الْمُجْتَهد والمقلد - كَمَا قَالَ فِي " الْحَاصِل " - لِأَن الْمُجْتَهد يَسْتَفِيد الْأَحْكَام من الْأَدِلَّة، والمقلد يستفيدها من الْمُجْتَهد. وَإِنَّمَا كَانَ معرفَة تِلْكَ الشُّرُوط من أصُول الْفِقْه؛ لأَنا بَينا أَن الْأَدِلَّة قد تكون ظنية، وَلَيْسَ بَين الظني ومدلوله ارتباط عَقْلِي، لجَوَاز عدم دلَالَته عَلَيْهِ، فاحتيج إِلَى رابط وَهُوَ الِاجْتِهَاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 فتلخص أَن معرفَة كل وَاحِد من هَذِه الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة من أصُول الْفِقْه) . وَقَالَ التَّاج السُّبْكِيّ: (المُرَاد بالمستفيد: الْمُجْتَهد؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَسْتَفِيد الْأَحْكَام من أدلتها، [وَلَا يدْخل الْمُقَلّد؛ لِأَن الْفِقْه / لَيْسَ مَوْقُوفا على التَّقْلِيد بِوَجْه أصلا، فَلَا] يجوز أَن يكون جُزْءا من أصُول الْفِقْه، بِخِلَاف الِاجْتِهَاد؛ فَإِن الْفِقْه مَوْقُوف عَلَيْهِ، نعم إِذا عرف الْمُجْتَهد عرف أَن مَا سواهُ مقلد) انْتهى. وَهُوَ أقعد من الَّذِي قبله. القَوْل الرَّابِع قَالَه الرَّازِيّ وَمن تبعه: أَن أصُول الْفِقْه لقباً: (مَجْمُوع طرق الْفِقْه إِجْمَالا، وَكَيْفِيَّة الاستفادة مِنْهَا، وَحَال المستفيد) . وَهُوَ أولى من [غَيره] لأوجه: أَحدهَا: أَنه قَالَ: مَجْمُوع طرق الْفِقْه، وَلم يقل: معرفَة ذَلِك، وَقد تقدم أَن الْأَصَح أَن أصُول الْفِقْه: الْأَدِلَّة، لَا مَعْرفَتهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 الثَّانِي: أَن ذَلِك يَشْمَل الْقطعِي والظني، وَأما معرفَة الْأَدِلَّة فَلَا تَشْمَل إِلَّا الظني، إِلَّا على رَأْي يَأْتِي. الثَّالِث: أَنه يَشْمَل كَيْفيَّة الإستفادة، وَحَال المستفيد، فَهُوَ أجمع من الْحَد الأول. وَالْمرَاد بطرق الْفِقْه: أدلته، فَهِيَ موصلة إِلَيْهِ، وجمعت طرق لتنوع الْأَدِلَّة، ولإفادة أَن أصُول الْفِقْه أَنْوَاع يصدق على كل نوع مِنْهَا أَنه أصُول الْفِقْه؛ لِأَن طرق الْفِقْه إِذا كَانَت أنواعاً، وكل نوع مِنْهَا أصُول فقه، كَانَ كل من الْأُمُور الثَّلَاثَة كَذَلِك، فَكل من علم الطّرق، وَعلم الاستفادة، وَعلم حَال المستفيد، تَحْتَهُ أَنْوَاع. إِذا علم ذَلِك، فانقسام أصُول الْفِقْه إِلَى كل أَنْوَاعه من قسْمَة الْكُلِّي إِلَى جزئياته، لَا من قسْمَة الْكل إِلَى أَجْزَائِهِ، وَلِهَذَا لم يصر علما بالغلبة إِلَّا جمعا مُلَاحظَة لهَذَا الْمَعْنى، فَتَأَمّله فَإِنَّهُ نَفِيس، قَالَه الْبرمَاوِيّ. قَوْله: {والأصولي: من عرفهَا} . هَذَا تَعْرِيف الأصولي من هُوَ؟ وَهُوَ نِسْبَة إِلَى الْأُصُول، وَهُوَ من قَامَ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الْأُصُول، وَقيام الْأُصُول بِهِ مَعْنَاهُ: مَعْرفَته إِيَّاه، وَهُوَ الْجمع، لِأَنَّهُ مُسَمّى بِهِ كالأنصاري وَنَحْوه، وَلَو لم يسم بِهِ لم تجز النِّسْبَة إِلَّا إِلَى الْمُفْرد / فَيُقَال: أُصَلِّي. إِذا علم ذَلِك؛ ونسبناه إِلَيْهَا، فَلَا بُد أَن يكون قد عرفهَا وحررها وأتقنها، فبذلك يُسمى أصولياً، كَمَا أَن من أتقن الْفِقْه وحرره يُسمى فَقِيها، وَمن أتقن الطِّبّ يُسمى طَبِيبا، وَنَحْو ذَلِك، وَهُوَ وَاضح. قَوْله: {وغايتها: معرفَة أَحْكَام الله تَعَالَى وَالْعَمَل بهَا} . قد تقدم أَنه لابد لكل من طلب علما أَن يتصوره بِوَجْه مَا، وَيعرف غَايَته، وَمَا يستمد مِنْهُ، فَذَكرنَا تصور أصُول الْفِقْه قبل، وَهُوَ مَا ذكر من حَده مُضَافا ومضافاً إِلَيْهِ، وَحَال كَونه مركبا لقباً. وَأما معرفَة غَايَة أصُول الْفِقْه فَهُوَ فَائِدَته، وَهُوَ التَّوَصُّل إِلَى استنباط الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، أَو معرفَة كَيفَ استنبطت إِذا تعذر إِمْكَان الاستنباط وَالِاجْتِهَاد، وليستند الْعلم إِلَى اصله، وَذَلِكَ موصل إِلَى الْعَمَل، وَالْعَمَل موصل إِلَى خيري الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 قَوْله: {فَيجب [تَقْدِيم] مَعْرفَتهَا [على الْفُرُوع] عِنْد ابْن عقيل، وَابْن الْبَنَّا [وَجمع] } . مِنْهُم: القَاضِي عبد الْجَبَّار المعتزلي، وَغَيرهم، ليتَمَكَّن بهَا من معرفَة الْفُرُوع. قَوْله: {وَهُوَ ظَاهر كَلَام أبي بكر، وَابْن أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 مُوسَى، وَأبي الْبَقَاء} . قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتى " لما ذكر هَذَا القَوْل: (وَلِهَذَا ذكره القَاضِي، وَابْن أبي مُوسَى، وَابْن الْبَنَّا، وَأَبُو بكر عبد الْعَزِيز، فِي أَوَائِل كتبهمْ الفروعية) . قَالَ أَبُو الْبَقَاء العكبري: (أبلغ مَا توصل بِهِ إِلَى إحكام الْأَحْكَام إتقان أصُول الْفِقْه وطرف من أصُول الدّين) انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 قَوْله: {وَعكس القَاضِي، وَابْن حمدَان، وَجمع} . فَذَهَبُوا إِلَى تَقْدِيم الْفُرُوع؛ ليتَمَكَّن الأصولي بهَا، ولتحصل لَهُ الدربة والملكة. قلت: الَّذِي يظْهر أَنه لَا بُد للأصولي من معرفَة بعض الْفِقْه، وَلَا يُمكن معرفَة الْفِقْه على الْحَقِيقَة إِلَّا بِمَعْرِِفَة الْأُصُول. قَوْله: {وَحكى ابْن حمدَان، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، / وَابْن قَاضِي الْجَبَل، الْخلاف فِي الْأَوْلَوِيَّة، [وَهُوَ] أولى، أَو يحمل الأول عَلَيْهِ} . اخْتلف الْأَصْحَاب فِي مَحل الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة: هَل هُوَ الْوُجُوب، أَو الْأَوْلَوِيَّة؟ فَفِي " مسودة بني تَيْمِية "، وَقَالَهُ ابْن حمدَان فِي " رعايته "، وَابْن قَاضِي الْجَبَل: (أَن الْخلاف فِي الْأَوْلَوِيَّة لَا فِي الْوُجُوب) ، وَهُوَ أظهر؛ لِأَن غَالب طلبة الْعلم من أَرْبَاب الْمذَاهب الْأَرْبَعَة، لم نر أحدا مِنْهُم، وَلَا سمعنَا انه اشْتغل أَولا إِلَّا فِي الْفِقْه من غير نَكِير من الْعلمَاء، ثمَّ يشتغلون بعد ذَلِك فِي الْأُصُول وَفِي غَيرهَا. قَالَ ابْن حمدَان فِي " آدَاب الْمُفْتِي "، وَابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " وَغَيرهمَا: (إِن مَحل الْخلاف فِي الْوُجُوب) ، ونقلوا ذَلِك عَمَّن اخْتَارَهُ قبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 فَإِن أبقينا الْوُجُوب على ظَاهره، فَالْقَوْل بالأولوية أقوى وَأظْهر، وَإِن حملنَا كَلَامهم فِي الْوُجُوب على الْأَوْلَوِيَّة ارْتَفع الْخلاف، وَيصِح حمله على ذَلِك على مَا يَأْتِي، وَإِن كَانَ ظَاهره خلاف ذَلِك، وَإِنَّمَا أولنا ذَلِك ليُوَافق عمل النَّاس قَدِيما وحديثاً، وَالله أعلم. قَوْله: {ومعرفتها فرض كِفَايَة} . يَعْنِي: معرفَة أصُول الْفِقْه، وَهَذَا الصَّحِيح، وَعَلِيهِ أَكثر الْأَصْحَاب. قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": (وَالْمذهب أَنه فرض كِفَايَة كالفقه) . {وَقيل: فرض عين} . قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": (وَقد ذكر ابْن عقيل: أَنه فرض عين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وَقَالَ العالمي الْحَنَفِيّ: هُوَ فرض عين على من أَرَادَ الِاجْتِهَاد وَالْفَتْوَى وَالْقَضَاء، فرض كِفَايَة على غَيرهم، وَهُوَ أولى إِن شَاءَ الله تَعَالَى) انْتهى. وَاخْتَارَهُ أَيْضا ابْن الصقال من أَصْحَابنَا، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " لما حكى هَذَا القَوْل: (وَالْمرَاد للِاجْتِهَاد، وَهِي لفظية) . وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِن من أَرَادَ الِاجْتِهَاد لابد من معرفَة أصُول الْفِقْه، على مَا يَأْتِي فِي شُرُوط الِاجْتِهَاد، فَالْخِلَاف لَفْظِي. قَوْله: {وتستمد من أصُول الدّين - فَلهَذَا أذكر مِنْهَا بعض الْمُتَعَلّق بهَا - والعربية، وتصور / الْأَحْكَام} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 يَعْنِي: تستمد أصُول الْفِقْه من ثَلَاثَة أَشْيَاء، وَوجه الْحصْر الاستقراء، وَأَيْضًا؛ فالتوقف إِمَّا أَن يكون من جِهَة ثُبُوت حجية [الْأَدِلَّة] فَهُوَ أصُول الدّين، وَإِمَّا أَن يكون التَّوَقُّف من جِهَة دلَالَة الْأَلْفَاظ على الْأَحْكَام فَهُوَ الْعَرَبيَّة بأنواعها، وَإِمَّا أَن يتَوَقَّف من جِهَة تصور مَا يدل بهَا عَلَيْهِ فَهُوَ الْأَحْكَام. فَهَذِهِ ثَلَاثَة أَشْيَاء تستمد مِنْهَا أصُول الْفِقْه. أَحدهَا: استمداده من أصُول الدّين؛ وَذَلِكَ لتوقف معرفَة كَون الْأَدِلَّة الْكُلية حجَّة شرعا على معرفَة الله تَعَالَى بصفاته، وَصدق رَسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا جَاءَ بِهِ عَنهُ، ويتوقف صدقه على دلَالَة المعجزة. وَلِهَذَا ذكرت فِي هَذَا الْمُخْتَصر من أصُول الدّين بعض الْمُتَعَلّق بأصول الْفِقْه، كل مَسْأَلَة فِي مَكَانهَا الْمُتَعَلّق بهَا، وَقد ذكره الأصوليون ضمنا، لأجل التَّعَلُّق الْمَذْكُور. الثَّانِي: استمداده من الْعَرَبيَّة؛ وَذَلِكَ [لتوقف] فهم مَا يتَعَلَّق بهَا من الْكتاب وَالسّنة وَغَيرهمَا عَلَيْهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فَإِن كَانَ من حَيْثُ الْمَدْلُول: فَهُوَ علم اللُّغَة، أَو من أَحْكَام تركيبها: فَعلم النَّحْو، أَو من أَحْكَام أفرادها: فَعلم التصريف، أَو من جِهَة مطابقته لمقْتَضى الْحَال وسلامته من التعقيد ووجوه الْحسن: فَعلم الْبَيَان بأنواعه الثَّلَاثَة. الثَّالِث: استمداده من تصور الْأَحْكَام. أَعنِي: تصور أَحْكَام التَّكْلِيف؛ فَإِنَّهُ لابد من تصورها ليتَمَكَّن من إِثْبَاتهَا ونفيها، ولتوقف معرفَة كَيْفيَّة الاستنباط عَلَيْهِ، وَالْحكم على الشَّيْء فرع تصَوره، دون إِثْبَات الْأَحْكَام فِي آحَاد الْمسَائِل، فَإِن ذَلِك من الْفِقْه، وَهُوَ يتَوَقَّف على الْأُصُول، فيدور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 قَوْله: {فصل} {الدَّال: الناصب للدليل، / قَالَه الإِمَام أَحْمد} . فَقَالَ: (الدَّال الله، وَالدَّلِيل الْقُرْآن) . {و} قَالَه {أَبُو الْخطاب} فِي " التَّمْهِيد "، فَقَالَ: (الدَّال الناصب للدليل، وَهُوَ صَاحب الشَّرْع، وَلِأَن كل من نصب الدَّلِيل يُسمى دَالا) . {و} قَالَه أَبُو إِسْحَاق {الشِّيرَازِيّ} فِي " اللمع " فَقَالَ: (الدَّلِيل المرشد إِلَى الْمَطْلُوب، وَأما الدَّال فَهُوَ الناصب للدليل، وَهُوَ الله عز وَجل) . {و} قَالَه {صَاحب رَوْضَة فقهنا} فَقَالَ: (الدَّال هُوَ الناصب للدليل) . فَجعلُوا الدَّال غير الدَّلِيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 قَالَ أَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي فِي مُقَدّمَة إِيضَاح الْفِقْه: (وَقيل: الدَّلِيل هُوَ الله؛ لِأَنَّهُ هُوَ الناصب للأدلة والمظهر لَهَا، وَالدَّال: هُوَ الناصب للدليل) انْتهى. {وَقَالَ كثير: الدَّلِيل} . أَي: قَالَ كثير من الْعلمَاء: إِن الدَّال هُوَ الدَّلِيل، وَعَلِيهِ أَكثر الْمُتَأَخِّرين، " فعيل " بِمَعْنى " فَاعل " كعليم وعالم وَسميع وسامع وَنَحْوهمَا، فالدليل بِمَعْنى الدَّال فهما بِمَعْنى وَاحِد، من دلّ دلَالَة، بِفَتْح الدَّال على الْأَفْصَح، وبكسرها. وَقيل: بِالْفَتْح فِي الْأَعْيَان، وبالكسر فِي الْمعَانِي. تَقول: دلّ على الطَّرِيق دلَالَة، وَدلّ الدَّلِيل على الحكم دلَالَة. وَمعنى الدّلَالَة: الْإِرْشَاد إِلَى الشَّيْء. {وَالدَّلِيل لُغَة} : إِمَّا {المرشد} حَقِيقَة، {و} إِمَّا {مَا بِهِ الْإِرْشَاد} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وَقد قسم الْآمِدِيّ وَمن تبعه الدَّلِيل إِلَى قسمَيْنِ. أَحدهمَا: المرشد، وَالثَّانِي: مَا بِهِ الْإِرْشَاد. والمرشد: هُوَ الناصب للعلامة والذاكر لَهَا. قَالَ القَاضِي عضد الدّين بعد أَن ذكر كَلَام الْآمِدِيّ: (وَلَا يبعد أَن يَجْعَل للمرشد " مَا بِهِ الْإِرْشَاد " أَيْضا، وللمعاني الثَّلَاثَة، فَإِن " مَا بِهِ الْإِرْشَاد " يُقَال لَهُ: المرشد، مجَازًا فَيُقَال: الدَّلِيل على الصَّانِع: هُوَ الصَّانِع، أَو الْعَالم) . وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي: (الدَّلِيل المرشد، وَمَا بِهِ الْإِرْشَاد، والمرشد: هُوَ الناصب للعلامة أَو الذاكر لَهَا، وَمَا بِهِ الْإِرْشَاد: الْعَلامَة / الَّتِي نصبت للتعريف. قَالَ: وَيُمكن أَن يكون " مَا بِهِ الْإِرْشَاد " فِي كَلَام ابْن الْحَاجِب مَعْطُوفًا على الذاكر، لِأَن المرشد كَمَا يُطلق على الناصب للعلامة، يُطلق على الْعَلامَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 المنصوبة، إِذْ الْفِعْل قد ينْسب إِلَى الْآلَة - كَمَا يُقَال: السكين قَاطع) انْتهى. وَالْمَقْصُود أَن المرشد: إِمَّا الناصب، أَو الَّذِي بِهِ الْإِرْشَاد من العلامات مثلا، وَإِمَّا الذاكر لذَلِك. فَفِيمَا نَحن فِيهِ: الناصب: هُوَ الله، والذاكر: هُوَ الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَمَا بِهِ الْإِرْشَاد، هُوَ كتاب الله وَسنة رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَا نَشأ عَنْهُمَا من الْإِجْمَاع وَالْقِيَاس وَغَيرهمَا. تَنْبِيه: لما كَانَ أصُول الْفِقْه مستمداً من الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة الْمُتَقَدّمَة، وَكَانَ مبادئه مِنْهَا، شرعنا فِي ذكرهَا، وَهُوَ مِمَّا لَهُ تعلق بأصول الدّين وَمِنْه الدَّلِيل، وَهَذِه هِيَ مبادئ أصُول الدّين. ورده الْأَصْفَهَانِي وَقَالَ: (وَالْأولَى أَن يُقَال: لما ذكر ابْن الْحَاجِب فِي حدي أصُول الْفِقْه الدَّلِيل، وَلم يسْبق شَيْء يعرف مِنْهُ الدَّلِيل، أَرَادَ أَن يُشِير إِلَى مَعْنَاهُ) انْتهى. قلت: الأول أولى. وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعة ": (قيل: يجب تَقْدِيم الْعلم؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُود من الْكل. وَقيل: بل الْحَد؛ لِأَن بِهِ يعرف الْمَحْدُود وَغَيره. وَقيل: بل النّظر؛ لتوقفهما عَلَيْهِ. وَقيل: بل الْعقل؛ لتوقف الثَّلَاثَة عَلَيْهِ. وَقيل: بأيها بَدَأَ جَازَ؛ لتَعلق بَعْضهَا بِبَعْض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وَالدَّلِيل يقف على الْعقل وَالْحَد وَالنَّظَر، وَيقف عَلَيْهِ الْمَطْلُوب بِهِ وَهُوَ النتيجة) انْتهى. قَوْله: {وَشرعا} . أَي: الدَّلِيل عِنْد عُلَمَاء الشَّرِيعَة: {مَا يُمكن التَّوَصُّل بِصَحِيح النّظر فِيهِ إِلَى مَطْلُوب خبري، عِنْد أَصْحَابنَا، وَغَيرهم} ، مِنْهُم: أَكثر الْفُقَهَاء والأصوليين. وَإِنَّمَا قَالُوا: مَا يُمكن، وَلم يَقُولُوا: مَا يتَوَصَّل، للْإِشَارَة إِلَى أَن الْمُعْتَبر التَّوَصُّل بِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ؛ لِأَن الدَّلِيل قد لَا ينظر فِيهِ / وَهُوَ دَلِيل. وَخرج بقوله: (مَا يُمكن) ، مَا لَا يُمكن التَّوَصُّل بِهِ إِلَى الْمَطْلُوب، كالمطلوب نَفسه؛ فَإِنَّهُ لَا يُمكن التَّوَصُّل بِهِ إِلَيْهِ، أَو يُمكن التَّوَصُّل إِلَى الْمَطْلُوب لَكِن لَا بِالنّظرِ كسلوك طَرِيق يُمكن أَن يتَوَصَّل بهَا اتِّفَاقًا، أَو يُمكن لَا بِصَحِيح النّظر بل بفاسده ككاذب الْمَادَّة فِي اعْتِقَاد النَّاظر، أَو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 يُمكن التَّوَصُّل بصحيحه لَكِن لمطلوب تصوري - لَا تصديقي خبري - وَهُوَ الْحَد والرسم، فَلَا يُسمى شَيْء من ذَلِك دَلِيلا، لَكِن يدْخل فِيهِ مَا يُفِيد الْقطع وَالظَّن، وَهُوَ مَذْهَب أَصْحَابنَا وَأكْثر الْفُقَهَاء والأصوليين كَمَا تقدم؛ لِأَن مطلوبهم عمل، وَهُوَ لَا يتَوَقَّف على الْيَقِين. {وَقيل - وَجزم بِهِ} ابْن عقيل {فِي " الْوَاضِح " -: إِلَى الْعلم بِهِ} . أَي: مَا يُفِيد الظَّن لَا يُسمى دَلِيلا بل إِمَارَة، فَلَا يُسمى دَلِيلا إِلَّا مَا يُفِيد الْعلم، وَهُوَ اصْطِلَاح الْمُتَكَلِّمين، وَنَقله الْآمِدِيّ عَن الْأُصُولِيِّينَ، لِأَن مطلوبهم يَقِين، فيزاد فِي الْحَد: إِلَى الْعلم بالمطلوب. فَيُقَال: مَا يُمكن التَّوَصُّل بِصَحِيح النّظر إِلَى الْعلم بالمطلوب الخبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وَخرج من التَّعْرِيف بذلك: الدَّلِيل بعد تَمَامه مُرَتبا صَحِيح الْمَادَّة وَالصُّورَة كَمَا تقدم، فَإِنَّهُ قد حصل بِهِ الْمَطْلُوب، أَي: فَلَا يحصل مَا هُوَ حَاصِل، وَلَا يُسمى دَلِيلا، وَلَا يتَوَصَّل بِهِ. وَيدخل فِيهِ - أَيْضا -: مَا فسد فِيهِ الدَّلِيل لفساد صورته، لَكِن مادته صَحِيحَة. {وَقيل: قَولَانِ فَصَاعِدا عَنهُ قَول آخر} . قَالَت المناطقة: الدَّلِيل تصديقان فَصَاعِدا يكون عَنهُ تَصْدِيق آخر، فَالْمُرَاد بالتصديقين الْقَوْلَانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وَقَوله: فَصَاعِدا؛ مَبْنِيّ على جَوَاز الْقيَاس الْمركب، وَهُوَ مَا كَانَ فِيهِ أَكثر من مقدمتين، وعَلى ذَلِك جرى ابْن ابْن الْحَاجِب وَجمع. وَأما من يرى أَن ذَلِك قياسان لَا قِيَاس وَاحِد لَا يحْتَاج أَن يَقُول: فَصَاعِدا، بل يَقُول: تصديقان عَنْهُمَا تَصْدِيق ثَالِث. لَكِن لابد على الْقَوْلَيْنِ أَن يكون على وَجه ينْتج الحكم الْمَطْلُوب؛ بِأَن يكون على القانون الْمُبين فِي الْمنطق المبرهن / على صِحَّته، أَفَادَ الْقطع أَو الظَّن. {وَقيل: يسْتَلْزم لنَفسِهِ} يَعْنِي: يسْتَلْزم قولا آخر لنَفسِهِ، أَعم من أَن يكون الاستلزام بَينا أَو غَيره، فَيتَنَاوَل الأشكال الْأَرْبَعَة وَغَيرهَا. وَيخرج بقوله: يسْتَلْزم لنَفسِهِ: الأمارة؛ فَإِنَّهَا لَا تَسْتَلْزِم لنَفسهَا قولا أخر؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَين الأمارة وَمَا تفيده ربط عَقْلِي يَقْتَضِي لُزُوم القَوْل الآخر عَنْهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وَيخرج قِيَاس الْمُسَاوَاة، نَحْو: " أ " مساوٍ ل " ب " و " ب " مسَاوٍ ل " ج " فَيلْزم " أ " مسَاوٍ ل " ج "، وَلَكِن لَا لنَفسِهِ بل بِوَاسِطَة مُقَدّمَة أَجْنَبِيَّة، أَي: مُقَدّمَة غير لَازِمَة لإحدى مقدمتي الْقيَاس، وَهُوَ قَوْلنَا: كل مَا هُوَ مسَاوٍ ل " ب " مسَاوٍ ل " ج ". {وَقيل: المُرَاد بالْقَوْل: تصور الْمَعْنى} . يَعْنِي بالْقَوْل الَّذِي فِي قَوْله: قَولَانِ فَصَاعِدا عَنهُ قَول آخر، قَالَ الْأَصْبَهَانِيّ فِي " شَرحه " - بعد مَا شرح مَا تقدم وَقيل يسْتَلْزم لنَفسِهِ فَتخرج الأمارة -: (وَقَول من قَالَ: إِن ذكر خُصُوصِيَّة القَوْل [ملغى] ؛ إِذْ استحضار الْمَعْنى على وَجه يكون ملزوماً - وَلَو لم يتخيل القَوْل، وَلم يتَلَفَّظ بِهِ - يكون دَلِيلا، إِلَّا إِذا كَانَ فِي الِاصْطِلَاح مَخْصُوصًا بالْقَوْل، وَحِينَئِذٍ يجب تَخْصِيص " مَا " فِي قَوْله " مَا يُمكن " أَيْضا بالْقَوْل فِيهِ مَا فِيهِ، لجَوَاز أَن يصطلح قوم على تَخْصِيص الدَّلِيل بالْقَوْل وَقوم على عدم [اخْتِصَاصه] بِهِ) انْتهى. فَائِدَة: على القَوْل الأول للمناطقة سَوَاء قَالُوا: قَولَانِ فَصَاعِدا، أَو قَولَانِ فَقَط، يسمون ذَلِك قِيَاسا، أَفَادَ الْقطع أَو الظَّن وَالْقِيَاس نَوْعَانِ: اقتراني، واستثنائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 فالاقتراني مَا كَانَت [مقدمتاه] خبريتين، نَحْو: (الْعَالم متغير، وكل متغير حَادث) ، ينْتج (الْعَالم حَادث) ؛ لِأَن الْمَحْكُوم عَلَيْهِ فِي الْمُقدمَة الأولى - وَهُوَ الْمُسَمّى بالموضوع - قد اندرج فِي الْمَحْكُوم بِهِ فِيهَا - وَهُوَ الْمُسَمّى الْمَحْمُول - وَهَذَا الْمَحْمُول مندرج تَحت مَحْمُول الثَّانِيَة؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوع لَهُ، فَلَزِمَ اندراج مَوْضُوع الأولى: تَحت مَحْمُول الثَّانِيَة، وَسقط الْوسط المكرر. وَيُسمى مَوْضُوع الأول الْحَد الْأَصْغَر، ومحمول الثَّانِيَة: الْحَد الْأَكْبَر، وَالْوسط المكرر: الْحَد [الْأَوْسَط] . وَتسَمى ذَات الْأَصْغَر: الصُّغْرَى، وَذَات الْأَكْبَر: الْكُبْرَى. وَهَذَا هُوَ الشكل الأول الَّذِي هُوَ عِنْدهم ضَرُورِيّ الإنتاج بِشَرْطِهِ. فَأَما إِذا كَانَ الْحَد المكرر مَوْضُوعا فِي الصُّغْرَى، مَحْمُولا فِي الْكُبْرَى، - عكس مَا سبق - فَهُوَ الشكل الرَّابِع، نَحْو: " أ " " ب " وكل [" ب " " أ "] أَو كَانَ مَحْمُولا فِي المقدمتين، فَهُوَ الشكل الثَّانِي، نَحْو: كل " أ " " ب " وكل " ج " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 " ب "، أَو كَانَ مَوْضُوعا فِي المقدمتين، فَهُوَ الشكل الثَّالِث، نَحْو: كل " ب " " أ " وكل " ب " " ج ". وَلَا ينْتج شَيْء من هَذِه الثَّلَاثَة إِلَّا بعد الرَّد إِلَى الأول الْمَلْزُوم غَالِبا على الْوَجْه الْمُبين فِي الْفَنّ. وَأما الاستثنائي فَهُوَ مَا كَانَ بِشَرْط أَو تَقْسِيم، فَالْأول يُسمى الْمُتَّصِل نَحْو: إِن كَانَ هَذَا إنْسَانا فَهُوَ حَيَوَان، وَيُسمى الشَّرْط مقدما وَالْجَزَاء تالياً، ثمَّ يسْتَثْنى ب " لَكِن " فَيُقَال: لكنه لَيْسَ بحيوان فَلَيْسَ إنْسَانا، أَو لكنه إِنْسَان فَهُوَ حَيَوَان، فَيحصل الإنتاج باستثناء نقيض التَّالِي فينتج نقيض الْمُقدم، وباستثناء عين الْمُقدم فينتج عين التَّالِي كَمَا مثلناه. [لِأَنَّهُ يلْزم] من ثُبُوت الملوزم ثُبُوت اللَّازِم، وَمن انْتِفَاء اللَّازِم انْتِفَاء الْمَلْزُوم غَالِبا، أما اسْتثِْنَاء عين التَّالِي أَو نقيض عين الْمُقدم فَلَا ينتجان؛ لجَوَاز أَن يكون اللَّازِم أَعم من الْمَلْزُوم، أما إِذا اسْتَوَى الْمُقدم والتالي فِي التلازم فينتج فِي الْأَرْبَعَة، نَحْو: لَو كَانَ بشرا لَكَانَ إنْسَانا. وَالثَّانِي يُسمى الْمُنْفَصِل نَحْو: الْعدَد إِمَّا زوج أَو فَرد لكنه زوج فَلَيْسَ بفرد، أَو فَرد فَلَيْسَ بِزَوْج، أَو لكنه لَيْسَ بِزَوْج فَهُوَ فَرد، أَو لَيْسَ بفرد فَهُوَ زوج. وَهَذَا مُبين فِي مَوْضِعه، وَإِنَّمَا ذكرته أنموذجاً، وَمن أَرَادَ بَسطه فليطلبه فِي مظانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 تَنْبِيهَانِ: أَحدهمَا: الْحَاصِل من الْفرق بَين تَعْرِيف الدَّلِيل على رَأْي الْفُقَهَاء، وتعريفه على رَأْي المناطقة: أَن الدَّلِيل عِنْد المناطقة / هُوَ الْمَادَّة وَالصُّورَة وَعند غَيرهم هُوَ الْمَادَّة فَقَط، فَإِذا أُرِيد الدَّلِيل على إِثْبَات الصَّانِع بحدوث مصنوعه - وَهُوَ الْعَالم - كَانَ مَجْمُوع قَوْلنَا: (الْعَالم حَادث وكل حَادث لَهُ صانع) هُوَ الدَّلِيل على أَن الْعَالم لَهُ صانع عِنْد المناطقة، وَالدَّلِيل عِنْد غَيرهم (الْعَالم) فَقَط؛ لِأَن النّظر فِيهِ يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْمَطْلُوب، أما بعد أَن يَتَرَتَّب وَيحصل الْمَطْلُوب [فَكيف] يكون دَلِيلا؟ وَرجح رَأْي المناطقة؛ بِأَن النّظر إِلَى دلَالَة الشَّيْء بِالْفِعْلِ أقوى من النّظر إِلَيْهِ بِاعْتِبَار دلَالَته بِالْقُوَّةِ، وَالله أعلم. الثَّانِي: إِذا كَانَ مُقَدمَات الدَّلِيل كلهَا قَطْعِيَّة لم ينْتج إِلَّا [قَطْعِيا] ، وَيُسمى حِينَئِذٍ برهاناً، كَمَا تقدم فِي: (الْعَالم حَادث) ، وَإِن كَانَت مقدماته كلهَا أَو بَعْضهَا ظنية لم ينْتج إِلَّا ظنياً؛ لِأَن النتيجة دَائِما تتبع أدون المقدمتين. مِثَاله: الْوضُوء عبَادَة، وكل عبَادَة بنية، ينْتج: أَن الْوضُوء بنية. وَمِثَال مَا [إِحْدَى] مقدماته قَطْعِيَّة وَالْأُخْرَى ظنية: قَوْلنَا: صَلَاة الظّهْر فرض، وكل فرض يشرع لَهُ الْأَذَان، فَصَلَاة الظّهْر يشرع لَهَا الْأَذَان، فَالْأولى قَطْعِيَّة وَالثَّانيَِة ظنية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 قَوْله: {وَيحصل الْمَطْلُوب عقبه عَادَة [مكتسباً] ، وَقيل: ضَرُورَة} . اخْتلف المتكلمون فِي حُصُول الْمَطْلُوب بعد الْإِتْيَان بِالدَّلِيلِ، هَل هُوَ مكتسب أَو ضَرُورِيّ؟ على قَوْلَيْنِ: ذهب أَكْثَرهم إِلَى أَنه مكتسب بقدرة حَادِثَة، وَعَلِيهِ أَكثر الأشاعرة. وَذهب الْأُسْتَاذ وَأَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان " [إِلَى] أَنه وَاقع بقدرة الله اضراراً، إِذْ لَو لم يكن كَذَلِك لأمكنه تَركه، وَلَا يُمكنهُ تَركه، فَدلَّ أَنه اضطراري. قلت: هَذِه الْمَسْأَلَة قريبَة من مَسْأَلَة التَّوَاتُر وَحُصُول الْعلم بِهِ، وَالصَّحِيح هُنَاكَ أَن خبر التَّوَاتُر لَا يُولد الْعلم، وَيَقَع عِنْده بِفعل الله تَعَالَى عِنْد الْفُقَهَاء وَغَيرهم، على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَقد أَطَالَ الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع " هُنَا، وَذكر أَن فِي الْمَسْأَلَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 / ثَلَاثَة أَقْوَال، قَول الأشاعرة، وَقَول الْمُعْتَزلَة، وَقَول الفلاسفة، فَقَالَ: قَالَت الأشاعرة: يجب عَادَة لَا عقلا، إِذْ لَا وجوب وَلَا إِيجَاب على الله تَعَالَى، لَكِن جرت الْعَادة بِأَن يفِيض على نفس الْمُسْتَدلّ - بعد النّظر الصَّحِيح مَادَّة وَصُورَة - مَطْلُوبَة الَّذِي توجه إِلَى تَحْصِيله. وَذَهَبت الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن حُصُوله بالتوليد، والتوليد هُوَ: أَن يُوجد وجود شَيْء وجود شَيْء آخر، كالنظر هُنَا فَإِنَّهُ وجد من النَّاظر بِلَا وَاسِطَة، وبواسطته تولد مِنْهُ الْمَطْلُوب، فالنظر فعل النَّاظر من غير وَاسِطَة، والنتيجة الْحَاصِلَة بعده فعله بِوَاسِطَة، فيسمى توليداً، فعندهم كل فعل صدر عَن الْحَيَوَان بِلَا وَاسِطَة يُسمى: مُبَاشرَة، وكل فعل احْتَاجَ فِي صدوره إِلَى وَاسِطَة: توليداً. وَذَهَبت الفلاسفة إِلَى اللُّزُوم الْعقلِيّ، أَي: بعد اشْتِمَال النّظر على الشَّرَائِط الْمُعْتَبرَة لَا يجوز التَّخَلُّف بِوَجْه، لما تقرر عِنْدهم من أَن المبدأ [تَمام] الْفَيْض، وَالنَّفس بِوَاسِطَة الْمُقدمَات الْمرتبَة الْمُشْتَملَة على شَرَائِط الصِّحَّة مَادَّة وَصُورَة [قد] استعدت لقبُول الْفَيْض، فَلَا يجوز التَّخَلُّف، إِذْ لَا مَانع من الطَّرفَيْنِ. وَالْجَوَاب: أَن الْمُخْتَار لَا يجب عَلَيْهِ شَيْء، وَقد أثبتنا فِي مَحَله أَنه مُخْتَار سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَمِمَّا يجب التَّنْبِيه لَهُ: أَن الْمُعْتَزلَة وَإِن قَالُوا بالتوليد لَكِن وافقوا الفلاسفة، إِذْ التوليد لَازم للمباشرة، كحركة الْمِفْتَاح بحركة الْيَد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك: (لَا خلاف عِنْدهم فِي أَن الْعلم الْحَاصِل - أَو الظَّن - بعد النّظر فِي الدَّلِيل مكتسب، لِأَن كل استدلالي [كسبي] وَلَا عكس، وَمَا نقل عَن بعض الْمَشَايِخ: أَن الْعلم الْحَاصِل بعد النّظر ضَرُورِيّ، مَعْنَاهُ: انه لَا تَأْثِير لقدرة العَبْد فِيهِ، لَا أَنه لَا يحْتَاج إِلَى [الْكسْب] ، إِذْ كل نَظَرِي كسبي إِجْمَاعًا، / وَلَا عكس) انْتهى. وَقَوْلنَا: (وَيحصل الْمَطْلُوب) ، أولى من قَول من قَالَ: (وَيحصل الْعلم) ؛ لِأَن الْمَطْلُوب يَشْمَل الْعلم وَالظَّن، لِأَن الدَّلِيل مُشْتَمل على كل مِنْهُمَا كَمَا تقدم، بِخِلَاف من قَالَ: الْعلم، فَإِنَّهُ يخرج من ذَلِك الظَّن. قَوْله: {والمستدل: الطَّالِب للدليل من سَائل ومسؤول، قَالَه} القَاضِي {فِي " الْعدة " و} ، أَبُو الْخطاب فِي {" التَّمْهِيد " و} ، ابْن عقيل فِي {" الْوَاضِح "} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 ذكرنَا هُنَا مسَائِل لَهَا تعلق بِالدَّلِيلِ كالمستدل نَفسه، والمستدل بِهِ، والمستدل عَلَيْهِ، والمستدل لَهُ، وَنَحْوهَا فَإِنَّهَا من مَادَّة الدَّلِيل. فالمستدل: اسْم فَاعل من اسْتدلَّ يسْتَدلّ فَهُوَ مستدل، وَالْفِعْل مِنْهُ مَبْنِيّ للطلب غَالِبا، كاستغفر واستخرج وَنَحْوهمَا، وَذَلِكَ لِأَن السَّائِل يطْلب الدَّلِيل من المسؤول، والمسؤول يطْلب الدَّلِيل من الْأُصُول، قَالَ أَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي: (السَّائِل مستدل) . قَوْله: {قَالَ الإِمَام أَحْمد: الدَّال: الله، وَالدَّلِيل: الْقُرْآن، والمبين: الرَّسُول، الْمُسْتَدلّ: أولو الْعلم، هَذِه قَوَاعِد الْإِسْلَام} . إِنَّمَا أخرنا كَلَام الإِمَام إِلَى هَذَا الْمحل؛ لنستدل بِهِ على مَا ذَكرْنَاهُ قبل ذَلِك من الدَّال وَالدَّلِيل والمبين والمستدل. وَقَوله: هَذِه قَوَاعِد الْإِسْلَام؛ الَّذِي يظْهر أَن مَعْنَاهُ: أَن قَوَاعِد الْإِسْلَام ترجع إِلَى الله تَعَالَى، وَإِلَى قَوْله وَهُوَ الْقُرْآن، وَإِلَى رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِلَى عُلَمَاء الْأمة، لم يخرج شَيْء من أَحْكَام الْمُسلمين وَالْإِسْلَام عَنْهَا. قَوْله: وَالدَّلِيل: الْقُرْآن. قَالَ الْفَخر أَبُو مُحَمَّد إِسْمَاعِيل الْبَغْدَادِيّ: (هَذَا دَلِيل على أَن الدَّلِيل حَقِيقَة قَول الله تَعَالَى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 قَوْله: {والمستدل بِهِ: مَا يُوجب الحكم} . الْمُسْتَدلّ بِهِ اسْم مفعول، لَكِن هَل هُوَ الدَّلِيل أَو أَعم مِنْهُ؟ فَإِن كَانَ هُوَ الدَّلِيل حصل التّكْرَار فِي الْمُخْتَصر، فَإِنَّهُ يُقَال مثلا: هَذِه الْآيَة دَلِيل كَذَا وَاسْتدلَّ بهَا لكذا. وَإِن كَانَ غَيره فَيكون / أَعم من الدَّلِيل، فَذكر الْأَعَمّ بعد الْأَخَص، وَهُوَ كثير فِي كَلَامهم، وَعَكسه وَهُوَ ذكر الْأَخَص بعد الْأَعَمّ. وتابعت فِي " الْمُخْتَصر " صَاحب " الرَّوْضَة فِي الْفِقْه " من أَصْحَابنَا؛ فَإِنَّهُ ذكر الدَّلِيل وَذكر الْمُسْتَدلّ بِهِ، فَقَالَ: (الدَّلِيل: هُوَ الْموصل إِلَى الْمَقْصُود والمرشد إِلَى الْمَطْلُوب، والمستدل بِهِ: هُوَ الْعلَّة الْمُوجبَة للْحكم) انْتهى. وَظَاهره: أَن الدَّلِيل أَعم من الْمُسْتَدلّ بِهِ، خلافًا لما قُلْنَا أَولا. وعَلى كل حَال حَيْثُ حصل التباين وَلَو بِوَجْه انْتَفَى التّكْرَار، وَالله أعلم. قَوْله: {والمستدل عَلَيْهِ: الحكم، فِي أَصَحهَا} . الْمُسْتَدلّ عَلَيْهِ - أَيْضا - اسْم مفعول، وَاخْتلفُوا فِيهِ، فَالْأَصَحّ أَنه الحكم، أَي: الحكم على الشَّيْء بِكَوْنِهِ حَلَالا أَو حَرَامًا أَو مُسْتَحبا أَو وَاجِبا وَنَحْوه، قطع بِهِ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَغَيره. وَحكى أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " شرح اللمع " فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال فَقَالَ: (أَحدهَا: أَنه الحكم، فَقَالَ: الْمُسْتَدلّ عَلَيْهِ: هُوَ الحكم الَّذِي هُوَ التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم؛ لِأَن الدَّلِيل يطْلب لَهُ، وَقيل: هُوَ الْخصم المناظر، وَقيل: هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 مَذْهَب الْخصم الْمَطْلُوب فَسَاده) انْتهى. قَوْله: {والمستدل لَهُ: الْخصم، وَقيل: الحكم} . حكى الْقَوْلَيْنِ ابْن مُفْلِح وَغَيره، وَالَّذِي يظْهر أَن القَوْل الأول لَازم للثَّانِي، فَإِن الِاسْتِدْلَال فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ للْحكم الَّذِي يَقُول بِهِ الْخصم، فالخصم يسْتَدلّ للْحكم الْقَائِل بِهِ وينصره، فَإِن الِاسْتِدْلَال لتَحْصِيل الحكم، أَو لكَون الْخصم قَائِلا بِهِ، فَهُوَ يسْتَدلّ لنَفسِهِ لَكِن لأجل الحكم الْقَائِل بِهِ. قَوْله: {وَتَأْتِي الدّلَالَة} . قَرِيبا، بعد الْكَلَام على الْمُفْرد والمركب، فِي الْكَلَام على اللُّغَة. {وَالِاسْتِدْلَال} بعد الجدل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 {والمدلول} فِي التَّرْجِيح. وَالْأَصْل فِي ذَلِك: أَن مَادَّة (دلّ) و (اسْتدلَّ) لكل مِنْهُمَا اسْم فَاعل وَاسم مفعول ومصدر. فاسم الْفَاعِل من (دلّ) : (دَال) ، و (دَلِيل) - إِن قُلْنَا بِمَعْنى فَاعل -، وَاسم / الْمَفْعُول: (مَدْلُول) ، والمصدر: (دلَالَة) . وَاسم الْفَاعِل من (اسْتدلَّ) : (مستدل) بِكَسْر الدَّال، وَاسم الْمَفْعُول بِفَتْحِهَا، والمصدر: (اسْتِدْلَال) ، لَكِن اسْم الْمَفْعُول مِنْهُ تَارَة يكون [مستدلاً] بِهِ و [مستدلاً] عَلَيْهِ، و [مستدلاً] لَهُ. قَوْله: {وَالنَّظَر - هُنَا -: فكر يطْلب بِهِ علم أَو ظن} . النّظر يُطلق لُغَة على الِانْتِظَار، وعَلى رُؤْيَة الْعين، وعَلى الْإِحْسَان، وعَلى الْمُقَابلَة، وعَلى الِاعْتِبَار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد على [الجشت] : (النّظر لَهُ معَان عدَّة. مِنْهَا: نظر الْعين كَقَوْلِه تَعَالَى: {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة، إِلَى رَبهَا ناظرة} [الْقِيَامَة: 22 - 23] ، وَقَوله تَعَالَى: {على الأرآئك ينظرُونَ} [المطففين: 23، و 35] . وَمِنْهَا نظر الْقلب كَقَوْلِه تَعَالَى: {أولم ينْظرُوا فِي ملكوت السَّمَاوَات وَالْأَرْض} الْآيَة [الْأَعْرَاف: 185] . وَمِنْهَا: معنى الْعَطف وَالرَّحْمَة كَقَوْلِه: {وَلَا ينظر إِلَيْهِم} [آل عمرَان: 77] . وَمِنْهَا: معنى الِانْتِظَار كَقَوْلِه تَعَالَى: {هَل ينظرُونَ إِلَّا السَّاعَة} [الزخرف: 66] ، {انظرونا نقتبس من نوركم} [الْحَدِيد: 13] ، {فناظرة بِمَ يرجع المُرْسَلُونَ} [النَّمْل: 35] . وَمِنْهَا: معنى الْمُقَابلَة والمحاذاة، يُقَال: دَاري تناظر دَارك، أَي: تقَابلهَا، والموضع الْفُلَانِيّ ينظر إِلَى جِهَة كَذَا، أَي: يُقَابله ويحاذيه. وَمِنْه النّظر: لِأَنَّهُ يُقَابل الآخر ويناظره، وَيُسمى المتحاجان: متناظرين؛ لِأَنَّهُمَا متقابلان تقَابل الشَّيْئَيْنِ المتواجهين، وَلِأَنَّهُمَا متعاونان على النّظر الَّذِي هُوَ التفكر وَالِاعْتِبَار، طلبا لإدراك الْعلم وَبَيَانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وَالْمعْنَى الأول أظهر عِنْد أهل الْعَرَبيَّة، وَإِلَى الْمَعْنى الثَّانِي صغو الجدليين) انْتهى. إِذا علم ذَلِك؛ فالنظر فِي الِاصْطِلَاح مَا ذكرنَا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: (هُنَا) ، لِأَن النّظر لَهُ معَان كَمَا تقدم، وَهُوَ - هُنَا - فكر يطْلب بِهِ علم أَو ظن، وَهَذَا التَّعْرِيف للْقَاضِي أبي بكر الباقلاني، وَتَبعهُ جمَاعَة. وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ": (النّظر تفكر وَتَأمل، وَاعْتِبَار تَرْتِيب يعرف بِهِ الْمَطْلُوب من تصور وتصديق وحد وَدَلِيل / وأمارة) ، ثمَّ ذكر حد الباقلاني قولا، وَذكر أقوالاً غير ذَلِك. وَنحن تابعنا الْجَمَاعَة، ونتكلم عَلَيْهِ. فالفكر كالجنس، وَيُطلق على [ثَلَاثَة] معَان: أَحدهَا: حَرَكَة النَّفس بِالْقُوَّةِ الَّتِي آلتها مقدم الْبَطن الْأَوْسَط من الدِّمَاغ، إِذا كَانَت تِلْكَ الْحَرَكَة فِي المعقولات، فَإِن كَانَت فِي المحسوسات سميت تخييلاً. الثَّانِي - وَهُوَ المُرَاد بِالْحَدِّ وَهُوَ أخص من الأول -: حركتها من المطالب إِلَى المبادئ، ورجوعها من المبادئ إِلَى المطالب، ويرسم الْفِكر بِهَذَا الْمَعْنى بترتيب أُمُور حَاصِلَة فِي الذِّهْن، ليتوصل بهَا إِلَى تَحْصِيل غير الْحَاصِل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الثَّالِث: إِطْلَاقه على جُزْء الثَّانِي، وَهُوَ الْحَرَكَة من المطالب إِلَى المبادئ، وَإِن كَانَ الْغَرَض مِنْهَا الرُّجُوع، وَهَذَا الَّذِي يسْتَعْمل [بإزائه] الحدس، وَهُوَ سرعَة الِانْتِقَال من المبادئ إِلَى المطالب. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (النّظر - عرفا -: الْفِكر الْمَطْلُوب بِهِ علم أَو ظن، فَينْتَقل من أُمُور حَاصِلَة ذهناً إِلَى أُمُور مستحصلة. وَقد يُطلق على حَرَكَة النَّفس الَّتِي يَليهَا الْبَطن الْأَوْسَط من الدِّمَاغ، الْمُسَمّى بالدودة، أَي حَرَكَة كَانَت فِي المعقولات، وَفِي المحسات يُسمى تخييلاً لَا فكراً) انْتهى. قَوْله: {والإدراك بِلَا حكم تصور، وبحكم تَصْدِيق} . إِدْرَاك الْمَاهِيّة من غير حكم عَلَيْهَا يُسمى تصوراً، وَهُوَ حُصُول صُورَة الشَّيْء فِي الذِّهْن، وَمَعَ الحكم يُسمى تَصْدِيقًا. فَالْأول ساذج، أَي: مَشْرُوط فِيهِ عدم الحكم، وَالثَّانِي مَشْرُوط فِيهِ الحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وَمعنى الحكم فِي التَّصْدِيق: إِسْنَاد أَمر إِلَى آخر إِثْبَاتًا أَو نفيا، نَحْو: كَون زيد قَائِما أَو لَيْسَ بقائم. وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه: (إِدْرَاك الْحَقَائِق مُجَرّدَة عَن الْأَحْكَام، وَقيل: حُصُول صُورَة الشَّيْء فِي الْعقل، والتصديق: نِسْبَة حكمِيَّة بَين الْحَقَائِق بِالْإِيجَابِ [أَو السَّلب] ، وَقيل: إِسْنَاد أَمر إِلَى آخر إِيجَابا أَو سلباً) انْتهى. وَالْمعْنَى وَاحِد، فَكل تَصْدِيق / مُتَضَمّن من مُطلق التَّصَوُّر [ثَلَاثَة] تصورات: تصور الْمَحْكُوم عَلَيْهِ والمحكوم بِهِ من حَيْثُ هما، ثمَّ تصور نِسْبَة أَحدهمَا للْآخر، فَالْحكم يكون تصوراً رَابِعا على مَا قَالَه الْمُحَقِّقُونَ من أَرْبَاب هَذَا الْفَنّ، لِأَنَّهُ تصور تِلْكَ النِّسْبَة مُوجبَة، أَو تصورها منفية. وَقَالَ ابْن سينا وَغَيره: (التَّصْدِيق: نفس الحكم كَيفَ فرضته؟ وَتلك التصورات الثَّلَاثَة السَّابِقَة عَلَيْهِ شَرط لَهُ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وَقَالَ الرَّازِيّ وَجمع: (الْمَجْمُوع هُوَ التَّصْدِيق، فالتصورات السَّابِقَة على الحكم شطر من التَّصْدِيق لَا شَرط) . وَإِنَّمَا سمي التَّصَوُّر تصوراً لأَخذه من الصُّورَة، لِأَنَّهُ حُصُول صُورَة الشَّيْء فِي الذِّهْن، وَسمي التَّصْدِيق تَصْدِيقًا؛ لِأَن فِيهِ حكما يصدق فِيهِ أَو يكذب، سمي بأشرف لازمي الحكم فِي النِّسْبَة. قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَقسم المنطقيون الْعلم إِلَى: علم بمفرد يُسمى تصوراً، كَالْعلمِ بِمَعْنى الْإِنْسَان وَالْكَاتِب، وَعلم بِنِسْبَة يُسمى تَصْدِيقًا، وَهِي: إِسْنَاد شَيْء إِلَى آخر بِالنَّفْيِ أَو الْإِثْبَات؛ بِمَعْنى إيقاعها أَو انتزاعها، وَهُوَ الحكم. كَالْحكمِ بِأَن الإسان كَاتب أَو لَا. وَأما بِمَعْنى: حُصُول صُورَة النِّسْبَة فِي الْعقل، فَإِنَّهُ من التَّصَوُّر. - ثمَّ قَالَ -: وَلم يذكر أَصْحَابنَا هَذَا التَّقْسِيم، وَاعْترض بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم عَلَيْهِ - وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين - بِأَن الْعلم [من مقوله أَن ينفعل، وَالْحكم وَهُوَ الْإِيقَاع أَو الانتزاع] من مقوله أَو يفعل، فَكيف يَصح تَقْسِيم الْعلم إِلَى التَّصَوُّر وَإِلَى التَّصْدِيق؟ وَأجِيب: لَا محيص عَنهُ إِلَّا بتقسيمه إِلَى التَّصَوُّر الساذج، وَإِلَى التَّصَوُّر مَعَ التَّصْدِيق، كَمَا فعله ابْن سينا فِي " الإشارات ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 أَو المُرَاد بِالْعلمِ: أَعم من الْإِدْرَاك، وَهُوَ: الْأَمر الْمُشْتَرك بَين الْإِدْرَاك والهيئة اللاحقة بِهِ المحتملة للصدق وَالْكذب، وَهُوَ الْمَعْنى الذهْنِي الْمُقَيد بِعَدَمِ غَيرهَا، فَيصح تقسيمه إِلَى الْإِدْرَاك الَّذِي هُوَ التَّصَوُّر، وَإِلَى الْهَيْئَة الْمَذْكُورَة / الَّتِي هِيَ التَّصْدِيق، كَذَا قيل؛ وَفِيه نظر) انْتهى. فَائِدَة: على قَول المناطقة - وَعَلِيهِ الْعَمَل عِنْد عُلَمَاء هَذَا الزَّمَان - كل من التَّصَوُّر والتصديق ضَرُورِيّ ونظري، وَلَيْسَ كل مِنْهُمَا ضَرُورِيًّا وَإِلَّا لما جهلنا شَيْئا، وَلَا نظرياً وَإِلَّا لما تحصلنا على شَيْء، والنظري مِنْهُمَا يُسمى مَطْلُوبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 قَوْله: {فصل} {الْعلم يحد عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، فَفِي " الْإِرْشَاد " معرفَة الشَّيْء، وَفِي " الْعدة "، و " التَّمْهِيد "، والباقلاني: معرفَة [الْمَعْلُوم] ، وَفِي " الْوَاضِح: إِدْرَاك الْأُمُور بحقائقها، وأصحها مَا فِي " الْمقنع " وَغَيره: صفة يُمَيّز [المتصف] بهَا تمييزاً جَازِمًا مطابقاً} . اخْتلف الْعلمَاء فِي الْعلم، هَل يحد أم لَا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 فَذهب الْأَكْثَر إِلَى أَنه يحد، وَلَهُم فِيهِ حُدُود كَثِيرَة لَا تحصر، وَلَا يسلم أَكْثَرهَا من خدش وتزييف. وَقد ذكر أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَغَيرهمَا، من ذَلِك حدوداً كَثِيرَة وزيفوها. وَمِمَّنْ قَالَ يحد: أَصْحَابنَا، والأشعرية، والمعتزلة، وَغَيرهم. وَذكرنَا هُنَا من حدودهم أَرْبَعَة. الأول قَالَه ابْن أبي مُوسَى فِي " الْإِرْشَاد ": وَهِي: (معرفَة الشَّيْء) ، وَفِيه إِيهَام وتعريف الشَّيْء بمرادفه وَهِي الْمعرفَة، وَالشَّيْء أَيْضا لَا يكون إِلَّا للموجود، فَخرج غَيره، فَلَيْسَ بِجَامِع. الثَّانِي قَالَه القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني، وَالْقَاضِي أَبُو يعلى، وَأَبُو الْفرج فِي مُقَدّمَة " الْإِيضَاح "، وَأَبُو الْخطاب، وَأَبُو الْمَعَالِي فِي " الورقات "، وَغَيرهم هُوَ: (معرفَة الْمَعْلُوم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 ورد بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: بِكَوْن الْمعرفَة مرادفة للْعلم، وتعريف الشَّيْء بمرادفه لَا يَصح. وَالثَّانِي: أَن لفظ مَعْلُوم مُشْتَقّ من الْعلم، وَلَا بُد من مَعْرفَته، فَيحْتَاج فِي معرفَة الْعلم إِلَى معرفَة الْعلم، وَهُوَ دور. وَلَكِن الْمَعْلُوم يَشْمَل الْمَوْجُود وَغَيره، فَكَانَ أجمع من التَّعْرِيف الَّذِي قبله. قَالَ فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (فِيهِ دور يمْتَنع، وتعريف بالأخفى، وَعلم الله لَا يُسمى معرفَة فَلَا يعمه) . الثَّالِث قَالَه ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " فَقَالَ: (الْعلم: وجدان النَّفس الناطقة للأمور بحقائقها) . وَيرد عَلَيْهِ: / أَن وجدان مُشْتَرك أَو مُتَرَدّد، غير أَن قرينَة التَّعْرِيف دلّت على أَن المُرَاد بِهِ الْإِدْرَاك فَيقرب الْأَمر، فَلذَلِك قلت ذَلِك: (بِمَعْنَاهُ) . وَيرد عَلَيْهِ أَيْضا: أَن علم الله يخرج مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ نفسا ناطقة قَالَه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الطوفي، وَقَالَ: (لَو قَالَ: وجدان النَّفس الْأُمُور بحقائقها لأمكن دُخُول علم الله، إِلَّا أَن يكون ابْن عقيل عرف الْعلم الْمُحدث) . الرَّابِع - وَهُوَ الأولى - قَالَه ابْن حمدَان فِي " مقنعه "، فَقَالَ: (هُوَ صفة يُمَيّز بهَا الْإِنْسَان بَين الْجَوَاهِر والأجسام والأعراض وَالْوَاجِب والممكن والممتنع تمييزاً جَازِمًا مطابقاً) . وَمَعْنَاهُ للآمدي، ونقحه ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره "، فَقَالَ: (هُوَ صفة توجب تمييزاً لَا يحْتَمل النقيض) . فَقَوله فِي " الْمقنع ": (صفة، هُوَ كالجنس للحد يتَنَاوَل جَمِيع الصِّفَات كالحياة وَالْقُدْرَة والإرادة. وَقَوله: (يُمَيّز المتصف بهَا تمييزاً جَازِمًا " أخرج جَمِيع الصِّفَات إِلَّا الصّفة الْمَذْكُورَة، لَكِن بَقِي الْحَد متناولاً الظَّن وَالشَّكّ وَالوهم؛ لِأَنَّهَا جَمِيعًا صِفَات توجب تمييزاً. وَقَوله: (جَازِمًا) ، أخرج ذَلِك. وَقَوله: (مطابقاً) ، المطابق الْمُوَافق لما فِي نفس الْأَمر، وَبِه يخرج الْجَهْل الْمركب، فالتمييز المطابق هُوَ الَّذِي لَا يحْتَمل النقيض، فَهُوَ بِمَعْنى حد ابْن الْحَاجِب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 فَائِدَة: (اعْترض على هَذَا الْحَد بِالْعلمِ بالأمور العادية، ككون الْجَبَل حجرا، فَإِنَّهُ علم وَيحْتَمل النقيض؛ لجَوَاز انقلاب الْجَبَل ذَهَبا مثلا، لتجانس الْجَوَاهِر واستوائها فِي قبُول الصِّفَات مَعَ ثُبُوت الْقَادِر الْمُخْتَار، وهما [يوجبان] جَوَاز ذَلِك. وَأجِيب بِالْمَنْعِ، [وَأسْندَ] بِأَن الشَّيْء يمْتَنع أَن يكون فِي الزَّمن الْوَاحِد حجرا وذهباً بِالضَّرُورَةِ، فَإِذا علم بِالْعَادَةِ كَونه حجرا فِي وَقت، اسْتَحَالَ أَن يكون فِي ذَلِك الْوَقْت ذَهَبا، [وَإِذا] علم كَونه حجرا دَائِما، اسْتَحَالَ أَن يكون ذَهَبا فِي شَيْء من الْأَوْقَات، وَنفي احْتِمَال النقيض فِي نفس الْأَمر فِي جَمِيع الْعُلُوم ضَرُورِيّ. نعم، إِنَّه يحْتَمل النقيض بِمَعْنى: أَنه لَو قدر بدله / نقيصه لم يلْزم مِنْهُ محَال لنَفسِهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجب الِاحْتِمَال كَمَا فِي حُصُول الْجِسْم فِي حيزه واختصاصه بحركته أَو سكونه إِذا علم بالحس، فَإِنَّهُ لَو قدر نقيضه فِي ذَلِك الْوَقْت لم يلْزم مِنْهُ محَال، مَعَ أَن نقيضه فِي ذَلِك الْوَقْت غير مُحْتَمل. وَالتَّحْقِيق: أَن احْتِمَال مُتَعَلقَة لنقيض الحكم الثَّابِت فِيهِ، لَا يسْتَلْزم أَن لَا يجْزم بِأَن الْوَاقِع أَحدهمَا بِعَيْنِه جزما مطابقاً لأمر [يُوجِبهُ] من [حس] وَغَيره) قَالَه الْعَضُد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ثمَّ اخْتلفُوا بعد ذَلِك: هَل يدْخل إِدْرَاك الْحَواس فِيمَا لَا يحْتَمل النقيض؟ وَهل هُوَ من الْعلم أم لَا؟ وَالصَّحِيح عدم الدُّخُول، فَلذَلِك قُلْنَا: {فَلَا يدْخل إِدْرَاك الْحَواس خلافًا للأشعري وَجمع} . ذهب الْأَشْعَرِيّ وَمن تبعه إِلَى دُخُول إِدْرَاك الْحَواس فِي الْحَد، إِلَّا أَن يُزَاد فِيهِ: فِي الْمعَانِي الْكُلية، حَتَّى يخرج إِدْرَاك الْحَواس، وَفِيه نظر؛ لِأَن المُرَاد بِالْعلمِ الْمَعْنى الْأَخَص الَّذِي هُوَ قسم من التَّصْدِيق، وَإِلَّا [لورد مَا] يحْتَمل النقيض كالظن والتصورات الساذجة، فَإِنَّهُ لَا يعْتَبر فِيهَا مُطَابقَة. وَذهب جمع من أَصْحَابنَا كَابْن مُفْلِح وَغَيره: إِلَى عدم دُخُولهَا فِيمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 لَا يحْتَمل النقيض، وَهُوَ أظهر، وَلِهَذَا قدمْنَاهُ فِي الْمَتْن، لِأَنَّهَا تَمْيِيز بَين المحسات الْجُزْئِيَّة لَا الْأُمُور الْكُلية، والتصديق مُتَعَلق بِالنِّسْبَةِ وَلَا يحْتَاج إِلَى الزِّيَادَة عَلَيْهِ فِي الْمعَانِي الْكُلية، لِأَن المُرَاد بِالْعلمِ: الْمَعْنى الْأَخَص، الَّذِي هُوَ قسم من التَّصْدِيق. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (عِنْد الْأَشْعَرِيّ أَن إِدْرَاك الْحَواس نوع من الْعلم) ، قَالَ: (وَفِيه نظر لجَوَاز غلط الْحس) . قَالَ الْأَصْفَهَانِي بعد كَلَام الْأَشْعَرِيّ: (وَلقَائِل أَن يَقُول: هَذَا الْحَد إِمَّا أَن يكون للْعلم بِالْمَعْنَى الْأَخَص الَّذِي هُوَ قسم من التَّصْدِيق، أَو يكون للْعلم بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ، المنقسم إِلَى التَّصَوُّر والتصديق، فَإِن كَانَ للثَّانِي فقيد: (لَا يحْتَمل النقيض) غير صَحِيح؛ لِأَن الظنون والاعتقادات علم بِهَذَا الْمَعْنى وهما يحتملان النقيض، وَأَيْضًا التصورات / الساذجة -[وَهُوَ] حُصُول صُورَة الشَّيْء [من غير كَون اعْتِبَاره] مطابقاً أَو غير مُطَابق - علم بِهَذَا الْمَعْنى، وَلم يعْتَبر [عدم] احْتِمَال النقيض فِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وَإِن كَانَ الأول؛ فَلَا نسلم اندراج إِدْرَاك الْحَواس تَحت الْحَد؛ لِأَن إِدْرَاك الْحسي من قبيل التصورات) انْتهى. وَقَالَ القطب الشِّيرَازِيّ فِي " شرح الْمُخْتَصر ": (فِي دُخُوله نظر؛ لأَنا لَا نسلم أَن إِدْرَاك الْحَواس مِمَّا يُوجب تمييزاً لَا يحْتَمل النقيض؛ لِأَن الْحس قد يدْرك الشَّيْء لَا على مَا هُوَ عَلَيْهِ، كالمستدير مستوياً، والمتحرك سَاكِنا، وَنَحْوهمَا) انْتهى. قَوْله: {وَقيل: لَا يُسمى علما} . ذكره ابْن مُفْلِح، أَي: لَا يُسمى إِدْرَاك الْحَواس علما، وَلذَلِك قَالَ الْأَصْفَهَانِي - لما قَالَ ابْن الْحَاجِب: (وَإِلَّا زيد فِي الْأُمُور المعنوية) - (أَي: وَإِن لم يسم إِدْرَاك الْحَواس علما، زيد على الْحَد) . فَدلَّ على أَنه قيل: لَا يُسمى علما، وَهُوَ ظَاهر مَا قدمه ابْن حمدَان فِي " الْمقنع "؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي حد الْعلم: (وَهُوَ صفة يُمَيّز بهَا بَين الْأُمُور الْكُلية تمييزاً) جَازِمًا بدهياً، أَو ضَرُورِيًّا، أَو نظرياً، وَقيل: أَو حسياً) . فَمَا أَدخل الْحسي إِلَّا على قَول. وَهُوَ الَّذِي مَال إِلَيْهِ القطب الشِّيرَازِيّ، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَتقدم لَفْظهمَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 قَوْله: {وَقيل: لَا يحد، قَالَ أَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ: لعسره، ويميز ببحث وتقسيم، و [قَالَ] الرَّازِيّ: لِأَنَّهُ ضَرُورِيّ، ثمَّ حَده فناقض. وَقيل: الأول: لمُجَرّد الْإِدْرَاك، وَالثَّانِي، لليقيني، وَهُوَ أولى} . اخْتلف من قَالَ: الْعلم لَا يحد، فَذهب أَبُو الْمَعَالِي وتلميذه الْغَزالِيّ إِلَى أَنه لَا يحد لعسره، لَكِن يُمَيّز ببحث وَمِثَال وتقسيم. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: (لَا يحد لعسره) ، وَمرَاده بِحَدّ حَقِيقِيّ. واستبعد مَا قَالَا، لِأَنَّهُمَا إِن أفادا تمييزاً فَيعرف بهما، وَإِلَّا فَلَا يعرف بهما. ورده القَاضِي عضد الدّين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وَذهب الرَّازِيّ وَمن تبعه إِلَى إِنَّه ضَرُورِيّ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن غير الْعلم / لَا يعلم إِلَّا بِالْعلمِ، فَلَو علم الْعلم بِغَيْرِهِ كَانَ دوراً، لكنه مَعْلُوم، فَيكون لَا بِالْغَيْر، وَهُوَ الضَّرُورِيّ. وَالْجَوَاب - بعد تَسْلِيم كَونه مَعْلُوما -: أَن توقف تصور غير الْعلم إِنَّمَا هُوَ على حُصُول الْعلم بِغَيْرِهِ، أَعنِي علما ً جزئياً مُتَعَلقا بذلك الْغَيْر، لَا على تصور حَقِيقَة الْعلم، وَالَّذِي يُرَاد حُصُوله بالغيرإنما هُوَ تصور حَقِيقَة الْعلم لَا حُصُول جزئي مِنْهُ، فَلَا دور للِاخْتِلَاف. الثَّانِي: أَن علم كل أحد بِأَنَّهُ مَوْجُود ضَرُورِيّ، أَي: مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ، وَهَذَا علم خَاص، وَهُوَ مَسْبُوق بِالْعلمِ الْمُطلق، وَالسَّابِق على الضَّرُورِيّ ضَرُورِيّ، فالعلم الْمُطلق ضَرُورِيّ. وَالْجَوَاب: أَن الضَّرُورِيّ حُصُول الْعلم، وَهُوَ غير تصور الْعلم، الَّذِي هُوَ الْمُتَنَازع فِيهِ، وَذَلِكَ أَنه لَا يلْزم من حُصُول أَمر تصَوره، حَتَّى يتبع تصَوره حُصُوله، وَلَا تقدم تصَوره، حَتَّى يكون تصَوره شرطا لحصوله، وَإِذا كَانَ كَذَلِك جَازَ الانفكاك مُطلقًا فتغايرا، فَلَا يلْزم من كَون أَحدهمَا ضَرُورِيًّا كَون الآخر كَذَلِك. مَعَ أَن الْفَخر الرَّازِيّ بعد كَلَامه هَذَا، حَده فِي تَقْسِيم حصر فِيهِ الْعلم وأضداده، فعد ذَلِك من تناقضه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وَاخْتَارَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": أَنه أَرَادَ بِالَّذِي لَا يحد لكَونه ضَرُورِيًّا هُوَ الْعلم بِمُجَرَّد الْإِدْرَاك على مَا يَأْتِي، وَمَا ذكره فِي التَّقْسِيم إِنَّمَا هُوَ التَّصْدِيق اليقيني. وَلذَلِك قَالَ: (هُوَ حكم الذِّهْن الْجَازِم المطابق لموجب) . وَهُوَ أولى من نسبته إِلَى التَّنَاقُض. قلت: وَيحْتَمل أَن يكون لَهُ فِيهِ قَولَانِ، وَلم يزل الْعلمَاء على ذَلِك. قَوْله: {تَنْبِيه: يُطلق الْعلم - أَيْضا - على مُجَرّد الْإِدْرَاك، فَيشْمَل الْأَرْبَعَة، {مَا علمنَا عَلَيْهِ من سوء} [يُوسُف: 51] ، [وعَلى التَّصْدِيق، فَيخْتَص] [الظني والقطعي] } . اعْلَم أَن للْعلم إطلاقات لُغَة وَعرفا. أَحدهَا: اليقيني، وَهُوَ الَّذِي لَا يحْتَمل النقيض، / وَهُوَ المُرَاد بِالْحَدِّ الأول، وَهُوَ الأَصْل. الثَّانِي: مُجَرّد الْإِدْرَاك، سَوَاء كَانَ جَازِمًا، أَو مَعَ احْتِمَال رَاجِح، أَو مَرْجُوح، أَو مسَاوٍ، مجَازًا، وَمن هَذَا الْقَبِيل: قَوْله تَعَالَى: {مَا علمنَا عَلَيْهِ من سوء} [يُوسُف: 51] ، إِذْ المُرَاد: نفي كل إِدْرَاك. الثَّالِث: مُطلق التَّصْدِيق - قَطْعِيا أَو ظنياً - لَا التَّصَوُّر، فَحِينَئِذٍ يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 مُقَابلا للمعرفة الَّتِي هِيَ تصور ساذج لَا حكم فِيهِ، وَمعنى مُقَابلَته: أَنَّك تَقول: إِمَّا معرفَة وَإِمَّا علم، كَمَا تَقول: إِمَّا تصور وَإِمَّا تَصْدِيق، وَيَأْتِي ذَلِك قَرِيبا فِي الْمَتْن. وَمن أجل مَا قَرَّرْنَاهُ؛ كَانَ " عرف " وَمَا فِي مَعْنَاهُ من مادته مُتَعَدِّيا إِلَى مفعول وَاحِد، تَقول: عرفت زيدا، أَي: تصورته، بِلَا زِيَادَة على ذَلِك، بِخِلَاف الْعلم وَمَا تصرف مِنْهُ، فَإِنَّهُ مُتَعَدٍّ إِلَى مفعولين، تَقول: علمت [زيدا] صَائِما، إِذْ الْمَقْصُود نِسْبَة الصّيام إِلَى زيد، فَيتَوَقَّف على مُسْند ومسند إِلَيْهِ، فَمن الأول قَوْله تَعَالَى: {فعرفهم وهم لَهُ منكرون} [يُوسُف: 58] وَمن الثَّانِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِن علمتموهن مؤمنات} [الممتحنة: 10] . قَوْله: { [فَيَأْتِي] الْعلم بِمَعْنى الظَّن: {فَإِن علمتموهن مؤمنات} [الممتحنة: 10] ، [وَعَكسه] : {الَّذين يظنون أَنهم ملاقوا رَبهم} [الْبَقَرَة: 46] ، وَبِمَعْنى الْمعرفَة: {لَا تعلمهمْ} [التَّوْبَة: 101] } . لما تقدم أَن الْعلم يُطلق على مُطلق التَّصْدِيق، فَيشْمَل الْيَقِين وَالظَّن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 مِثَاله فِي الظَّن: قَوْله تَعَالَى: {فَإِن علمتموهن مؤمنات} [الممتحنة: 10] ، أَي: ظننتموهن مؤمنات؛ إِذْ الْيَقِين هُنَا مُتَعَذر؛ إِذْ لَا قدرَة إِلَى الإطلاع عَلَيْهِ، لَكِن لما نزل ذَلِك منزلَة الْيَقِين، لتعذر الْيَقِين، ولعظم كلمة التَّوْحِيد، أطلق عَلَيْهِ علما. وَيَأْتِي الظَّن بِمَعْنى الْعلم اليقيني - عكس الأول - وَمِنْه: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهَا لكبيرة إِلَّا على الخاشعين الَّذين يظنون أَنهم ملاقوا رَبهم وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون} [الْبَقَرَة: 45 - 46] ، وَقَوله تَعَالَى [فِي] / فصلت: 0 وظنوا مَا لَهُم من محيص} [الْآيَة: 48] . وَقَوله تَعَالَى على الْأَصَح فِي بَرَاءَة: {وظنوا أَن لَا ملْجأ من الله إِلَّا إِلَيْهِ} [الْآيَة: 118] . بِخِلَاف قَوْله تَعَالَى: (قَالَ الَّذين يظنون أَنهم ملاقوا الله كم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 فِئَة قَليلَة غلبت فِئَة كَثِيرَة بِإِذن الله} [الْبَقَرَة: 249] ، وَقَوله تَعَالَى: {ورءا المجرمون النَّار فظنوا أَنهم مواقعوها} [الْكَهْف: 53] ، فَإِنَّهَا على بَابهَا على الْأَصَح فِي الثَّانِيَة. وَيَأْتِي الْعلم بِمَعْنى الْمعرفَة، وَمِنْه: قَوْله تَعَالَى: {لَا تعلمهمْ نَحن نعلمهُمْ} [التَّوْبَة: 101] ، أَي: لَا تعرفهم نَحن نعرفهم. قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: (قد جَاءَ علم بِمَعْنى عرف، وَمِنْه: قَوْله تَعَالَى: {يعلم السِّرّ وأخفى} [طه: 7] ، {يعلم خَائِنَة الْأَعْين} [غَافِر: 19] ، {حَتَّى نعلم الْمُجَاهدين مِنْكُم} [مُحَمَّد: 31] ، وَهُوَ كثير) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 قَوْله: { [وَعَكسه] } يَعْنِي: تَأتي الْمعرفَة بِمَعْنى الْعلم، وَقد قَالَ فِي " الْمِصْبَاح ": (عَلمته أعلمهُ: عَرفته، هَكَذَا يفسرون الْعلم بالمعرفة، وَبِالْعَكْسِ، لتقارب الْمَعْنيين) انْتهى، وَيَأْتِي. قلت: وَفِي التَّنْزِيل: {مِمَّا عرفُوا من الْحق} [الْمَائِدَة: 83] ، أَي: علمُوا. قَوْله: {فَوَائِد. الأولى: أَحْمد، وَالشَّيْخ، وَالْأَكْثَر: الْعلم يتَفَاوَت كالإيمان، وَعنهُ: تفاوته بِكَثْرَة المتعلقات} . اخْتلف الْعلمَاء فِي الْعلم هَل يتَفَاوَت، أم تفاوته بِكَثْرَة المتعلقات وَأما نَفسه فَلَا يتَفَاوَت؟ فِيهِ قَولَانِ لَهُم، هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد. أَحدهمَا: يتَفَاوَت، وَهُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله "، فِي التَّوَاتُر هَل يُفِيد الْعلم أم لَا؟ لما قَالَ من نفي إفادته للْعلم: لِأَنَّهُ يحصل مِنْهُ التَّفَاوُت وَهُوَ منَاف لليقين، وَأجَاب الرَّازِيّ عَن ذَلِك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 بِجَوَاب غير سديد -: قَالَ الأرموي: (وَالْجَوَاب أَن هَذَا لَيْسَ بِجَوَاب، بل الْحق أَن المعلومات تَتَفَاوَت) . - قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل -: (وَهِي مَسْأَلَة خلاف، وَعَن أَحْمد فِيهَا رِوَايَتَانِ، الْأَصَح: التَّفَاوُت، فَإنَّا نجد بِالضَّرُورَةِ الْفرق بَين كَون الْوَاحِد نصف الِاثْنَيْنِ، وَبَين مَا علمناه من جِهَة التَّوَاتُر، مَعَ كَون الْيَقِين / حَاصِلا فيهمَا) . وَيَأْتِي هُنَاكَ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَقَالَ - أَيْضا - ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي مَوضِع آخر قبل قَوْله: الْأَنْبِيَاء معصومون: (وَاخْتلفُوا فِي المعلومات هَل تَتَفَاوَت؟ وَفِيه رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد فِي الْمعرفَة الإنسانية، ذكره أَبُو يعلى) انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " فِي الْكَلَام على الْوَاجِب: (قَالَ بعض أَصْحَابنَا - يَعْنِي بِهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين -: وَالصَّوَاب أَن جَمِيع الصِّفَات الْمَشْرُوطَة بِالْحَيَاةِ تقبل التزايد، وَعَن أَحْمد فِي الْمعرفَة الْحَاصِلَة فِي الْقلب فِي الْإِيمَان هَل تقبل التزايد وَالنَّقْص؟ رِوَايَتَانِ، وَالصَّحِيح من مَذْهَبنَا، وَمذهب جُمْهُور أهل السّنة: إِمْكَان الزِّيَادَة فِي جَمِيع ذَلِك) انْتهى. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين - أَيْضا - فِي بحث مَعَ القَاضِي أبي يعلى فِي مَسْأَلَة الإحساس وَمَا يدْرك بالحواس هَل يخْتَلف؟ قَالَ: (والأصوب أَن القوى الَّتِي هِيَ [الإحساس] وَسَائِر الْعُلُوم والقوى تخْتَلف) . وَيَأْتِي هَذَا - أَيْضا - فَجعل سَائِر الْعُلُوم تخْتَلف، وَقَالَ: (هَذِه الْمَسْأَلَة من جنس مَسْأَلَة الْإِيمَان) . قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (الْأَكْثَرُونَ على التَّفَاوُت، أَي: يكون علم أجلى من علم، وَنَقله فِي " الْبُرْهَان " عَن أَئِمَّتنَا، وَحكى إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي " الشَّامِل ": أَنه لَا يتَفَاوَت عِنْد الْمُحَقِّقين، وَاخْتَارَهُ هُوَ، والأبياري فِي شرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 البرها [ن] . - قلت: وَهُوَ الرِّوَايَة الثَّانِيَة عَن أَحْمد - فعلى هَذَا تفاوته بِكَثْرَة المتعلقات. وَمن فَوَائِد الْخلاف: أَن الْإِيمَان هَل يزِيد وَينْقص؟ قِيَاسه على أَنه من قبيل الْعُلُوم لَا الْأَعْمَال، خلافًا للمعتزلة) انْتهى. قلت: أهل السّنة وَالسَّلَف على أَن الْإِيمَان يزِيد وَينْقص، وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة مَشْهُورَة، وَالْقُرْآن مَمْلُوء من ذَلِك مِمَّا ذكر بَعْضهَا البُخَارِيّ فِي " صَحِيحه " وَغَيره من الْأَئِمَّة، وَتَأْتِي محررة فِي مَسْأَلَة الْإِيمَان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 قَوْله " {الثَّانِيَة: علم الله [تَعَالَى] قديم} ، / لِأَنَّهُ صفة من صِفَاته، وَصِفَاته قديمَة، {لَيْسَ ضَرُورِيًّا وَلَا نظرياً} ، بِلَا نزاع بَين الْأَئِمَّة، وَهُوَ وَاحِد لَيْسَ بِعرْض، فَيتَعَلَّق بِجَمِيعِ المعلومات إِجْمَالا وتفصيلاً على مَا هِيَ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 قَالَ فِي الْمقنع: (علم الله صفة ذاتية وجودية وَاحِدَة، أحَاط الله بهَا - لم تزل وَلَا تزَال - بِكُل كلي وجزئي مَوْجُود ومعدوم على مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ ضَرُورِيًّا وَلَا نظرياً) انْتهى. قَوْله: {وَلَا يُوصف بِأَنَّهُ عَارِف} . لَا يُوصف سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِأَنَّهُ عَارِف؛ لِأَن الْمعرفَة قد تكون علما مستحدثاً، وَالله تَعَالَى مُحِيط علمه بِجَمِيعِ الْأَشْيَاء على حقائقها على مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَهُوَ صفة من صِفَاته، وَهُوَ قديم، وَحكي إِجْمَاعًا. قَالَ ابْن حمدَان فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (علم الله تَعَالَى لَا يُسمى معرفَة، حَكَاهُ القَاضِي إِجْمَاعًا) . وَخَالف الكرامية فَقَالُوا: يُوصف بِأَنَّهُ عَارِف لِاتِّحَاد الْعلم والمعرفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وَقَالَ القَاضِي من أَصْحَابنَا فِي " الْمُعْتَمد ": (يجوز وَصفه تَعَالَى بِأَنَّهُ عَارِف) . قلت: ومرادهم - وَالله أعلم -: أَن الْمعرفَة كَالْعلمِ، فَكَمَا أَنه يُوصف بِالْعلمِ يُوصف عِنْد هَؤُلَاءِ بالمعرفة، وَلَيْسَ مُرَادهم بالمعرفة فِي حَقه: الَّتِي هِيَ مستحدثة بعد أَن لم تكن، وَإِن هَذَا لَا يَقُوله أحد من أهل السّنة، إِنَّمَا ينْسب إِلَى الرافضة، على مَا يَأْتِي فِي بَاب النّسخ، وَهُوَ كفر. وَحكي عَن ابْن الباقلاني: اتِّحَاد الْعلم والمعرفة، ثمَّ وجدته فِي " الْمِصْبَاح الْمُنِير " قَالَه، فَإِنَّهُ قَالَ: (قَالَ النيلي [ (لَا تَعْلَمُونَهُم الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 يعلمهُمْ} [الْأَنْفَال: 60] ، أَي: لَا تعرفونهم الله يعرفهُمْ] ، قَالَ: فَإِن قلت: لَا تطلق الْمعرفَة على الله؛ لِأَنَّهَا توهم سَابِقَة الْجَهْل، قلت: سَابِقَة الْجَهْل إِنَّمَا تكون فِيمَن يَصح عَلَيْهِ الْجَهْل) انْتهى. وَهُوَ كَمَا قُلْنَا، وَقد تقدم عِنْد قَوْلنَا: (إِن الْعلم يَأْتِي بِمَعْنى الْمعرفَة) : أَن الْبرمَاوِيّ وَغَيره استدلوا لذَلِك بآيَات كَثِيرَة أَن الْعلم من الله بِمَعْنى الْمعرفَة، فليعاود، ومرادهم مَا قُلْنَا، وَيَأْتِي - أَيْضا - وَاضحا فِي الفروق بَين الْعلم والمعرفة، وَنقل الْعلمَاء أَيْضا. وَمِمَّا اسْتشْكل على ذَلِك قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: / " تعرف إِلَى الله فِي الرخَاء يعرفك فِي الشدَّة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وَأجَاب عَنهُ ابْن خطيب الدهشة وَغَيره: (بِأَن هَذَا من بَاب الْمُقَابلَة، مثل: {ومكروا ومكر الله} [آل عمرَان: 54] ، وَلَا يجوز أَن يُقَال لله ماكر إِلَّا من بَاب الْمُقَابلَة، وَأَن المُرَاد هُنَا: تقرب من الله تَعَالَى فِي الرخَاء يتَقرَّب مِنْك فِي الشدَّة) انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 قَوْله: {وَعلم الْمَخْلُوق مُحدث ضَرُورِيّ، وَهُوَ مَا يعلم من غير نظر، ونظري عَكسه، قَالَه فِي " الْعدة "، و " التَّمْهِيد " [وَجمع] ، وَقَالَ الْأَكْثَر: الضَّرُورِيّ مَا لَا يتقدمه تَصْدِيق يتَوَقَّف عَلَيْهِ، والنظري بِخِلَافِهِ} . علم الْمَخْلُوق مُحدث بِلَا نزاع بَين الْعلمَاء، وَهُوَ ضَرُورِيّ، ونظري، فالضروري: مَا يعلم من غير نظر، كتصورنا معنى النَّار، وَأَنَّهَا حارة، وَمعنى الْوَاحِد، وَأَنه نصف الِاثْنَيْنِ، وَنَحْوهمَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 والنظري عَكسه، وَهُوَ: مَا لَا يعلم إِلَّا بِنَظَر، قَالَه القَاضِي فِي " الْعدة "، وَأَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَغَيرهمَا. قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": (وَقَوْلنَا: ضَرُورَة: مَا يلْزم الْعلم بِهِ ضَرُورَة، وَلَا يُمكنهُ دَفعه فِي نَفسه بِحَال، وَلَا يُمكنهُ إِدْخَال الشَّك فِيهِ) . وَقَالَ الْأَكْثَر: (الضَّرُورِيّ: مَا لَا يتقدمه تَصْدِيق يتَوَقَّف عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ طرفاه أَو أَحدهمَا بِالْكَسْبِ، والنظري - وَيُسمى الْمَطْلُوب - بِخِلَافِهِ، أَي: يطْلب بِالدَّلِيلِ) . وَالَّذِي يظْهر أَن معنى الْقَوْلَيْنِ مُتَقَارب؛ فَإِن الَّذِي لَا يتقدمه تَصْدِيق يتَوَقَّف عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي يعلم من غير نظر، إِلَّا أَن قَول الْأَكْثَر أَعم، لدُخُول مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 إِذا كَانَ أَحدهمَا بِالْكَسْبِ أَو كِلَاهُمَا كَذَلِك. فَائِدَة: قَالَ أَبُو الْفرج فِي مُقَدّمَة " الْإِيضَاح " فِي الْفِقْه: (حد الْعلم الضَّرُورِيّ فِي اللُّغَة: الْحمل على الشَّيْء والإلجاء إِلَيْهِ، وَحده فِي الشَّرِيعَة: مَا لزم نفس الْمُكَلف لُزُوما لَا يُمكنهُ الْخُرُوج عَنهُ، وَقيل: مَا لم يجز وُرُود الشَّك عَلَيْهِ) . قَوْله: { [الثَّالِثَة] : الْمعرفَة أخص من الْعلم [من حَيْثُ أَنَّهَا] علم مستحدث، [أَو] انكشاف بعد لبس، [وأعم من حَيْثُ إِنَّهَا يَقِين وَظن] ، وَقَالَ القَاضِي: مرادفته} . الْمعرفَة أخص / من الْعلم من وَجه، وأعم من آخر، فبالنظر إِلَى أَنَّهَا علم مستحدث فالعلم أَعم؛ لكَونه يكون مستحدثاً وَغير مستحدث كعلم الله تَعَالَى، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قد قيل: الْمعرفَة علم الشَّيْء من حَيْثُ تَفْصِيله، وَالْعلم مُتَعَلق بالشَّيْء مُجملا ومفصلاً فَهُوَ أَعم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 أَيْضا الْمعرفَة قيل: أَنَّهَا لَا تكون إِلَّا بعد جهل، [بِخِلَاف الْعلم فقد يكون بعد الْجَهْل] كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَالله أخرجكم من بطُون أُمَّهَاتكُم لَا تعلمُونَ شَيْئا} [النَّحْل: 78] ، وَيكون من غير جهل كَالْعلمِ الْقَدِيم فَهُوَ أَعم، وَفِي الْحَقِيقَة هَذَا كَالْأولِ. وبالنظر إِلَى أَن الْمعرفَة تَشْمَل اليقيني والظني، وَالْعلم لليقيني، [فَهِيَ] أَعم. وَقَوله: فَهِيَ علم مستحدث. هَذَا أصل وَضعهَا فِي الْغَالِب، وَتقدم ذَلِك. وَقيل: انكشاف بعد لبس، فَهُوَ قريب من الَّذِي قبله، إِلَّا أَن الأول لم يكن حصل فِيهِ لبس، بل استحدث من غير لبس. وَقد ذكر الْعلمَاء فروقاً كَثِيرَة غير ذَلِك بَين الْعلم والمعرفة. فَمِنْهَا: أَن الْمعرفَة مَا نسي ثمَّ ذكر، بِخِلَاف الْعلم فَإِنَّهُ أَعم. وَمِنْهَا: أَن الْمعرفَة تتَعَلَّق بالجزيئات، وَالْعلم بالكليات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 [قَالَه] السُّهيْلي فِي " نتائج الْفِكر "، وَنقل عَن ابْن سينا. وَقيل: الْعلم مَا كَانَ بِدَلِيل، والمعرفة مَا كَانَ [فِيهِ] الْإِدْرَاك أولياً بِلَا اسْتِدْلَال، ذكره ابْن الخشاب. وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى من أَصْحَابنَا، والطوفي، وَجمع: الْمعرفَة مرادفة للْعلم. فَإِنَّمَا أَن يكون مُرَادهم غير علم الله تَعَالَى، وَإِمَّا أَن يكون مُرَادهم بالمعرفة بِأَنَّهَا تطلق على الْقَدِيم وَلَا تطلق على المستحدث، وَالْأول أولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 والناقل عَن القَاضِي ابْن حمدَان فِي " نِهَايَة المبتدئين ". فَقَالَ: (والمعرفة كَالْعلمِ عِنْد القَاضِي، وَقيل: هِيَ أَعم، لِأَنَّهَا [تَشْمَل] الْعلم، وَالظَّن، فَكل بشر عَالم عَارِف، وَلَيْسَ كل عَارِف عَالما، فَإِن الْبَارِي عَالم وَلَا يُوصف بِأَنَّهُ عَارِف) انْتهى. قلت: قَالَ فِي " الْمِصْبَاح ": (عَلمته أعلمهُ وعرفته، هَكَذَا يفسرون الْعلم بالمعرفة، وَبِالْعَكْسِ، لتقارب الْمَعْنيين، وَهُوَ أَن كل وَاحِد لَا يكون إِلَّا بعد سبق الْجَهْل. قَالَ الواحدي: (وَالْعلم يكون معرفَة لقَوْله تَعَالَى: / {لَا تَعْلَمُونَهُم الله يعلمهُمْ} [الْأَنْفَال: 60] ، وَقد قيل فِي الْفرق: إِن الْعلم يكون بِالسَّبَبِ، والمعرفة بالجبلة، وَلِهَذَا تكون الْمعرفَة فِي الْبَهَائِم دون الْعلم) . وَفِي التَّنْزِيل: {مِمَّا عرفُوا من الْحق} [الْمَائِدَة: 83] أَي: علمُوا قَالَ زُهَيْر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 (وَأعلم علم الْيَوْم والأمس قبله ... ولكنني عَن علم مَا فِي غَد عمي) انْتهى، وَتقدم كَلَام النيلي. قَوْله: {وَتطلق على مُجَرّد التَّصَوُّر فتقابل الْعلم} . قد تقدم أَن الْعلم يُطلق على مُجَرّد التَّصْدِيق فَيشْمَل اليقيني والظني. وَتطلق الْمعرفَة على مُجَرّد التَّصَوُّر الَّذِي لَا حكم مَعَه، فعلى هَذَا تكون الْمعرفَة قسيم الْعلم. وَقيل: الْمعرفَة فِيمَا يكون مشعوراً بالحواس، وَالْعلم غير ذَلِك، فَهُوَ مباين لَهَا، وَهَذَانِ فرقان - أَيْضا - بَين الْمعرفَة وَالْعلم. فتلخص أَن الْعلم والمعرفة، هَل بَينهمَا عُمُوم وخصوص من وَجه، أَو مُتَرَادِفَانِ، أَو متباينان، أَو الْمعرفَة أَعم، أَو عَكسه؟ فِيهِ أَقْوَال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 قَوْله: {فصل} {مَا عَنهُ الذّكر الْحكمِي، إِمَّا أَن يحْتَمل مُتَعَلّقه النقيض بِوَجْه، أَو لَا، وَالثَّانِي: الْعلم، وَالْأول: إِمَّا أَن يحْتَمل النقيض عِنْد الذاكر لَو قدره، أَولا، وَالثَّانِي: الِاعْتِقَاد، فَإِن طابق فَصَحِيح، وَإِلَّا ففاسد، وَالْأول: الرَّاجِح مِنْهُ ظن، والمرجوح وهم، والمساوي شكّ، وَعلم بذلك حُدُودهَا} . اعْلَم أَن الذّكر الْحكمِي هُوَ الْكَلَام الخبري تخيله أَو تلفظ بِهِ، فَإِذا قلت: زيد قَائِم، أَو لَيْسَ بقائم، فقد ذكرت حكما، وَهُوَ الذّكر الْحكمِي، وَمَا عَنهُ الذّكر الْحكمِي: هُوَ مَفْهُوم الْكَلَام الخبري. قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (الذّكر الْحكمِي يُنبئ عَن أَمر فِي نَفسك، من إِثْبَات أَو نفي، وَهُوَ مَا عَنهُ الذّكر الْحكمِي) . وَإِنَّمَا لم يَجْعَل الحكم مورد الْقِسْمَة؛ لِئَلَّا يلْزم خُرُوج الْوَهم وَالشَّكّ عَن موردها عِنْد من منع مقارنتهما للْحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (وَإِنَّمَا جعل المورد مَا عَنهُ الذّكر الْحكمِي دون الِاعْتِقَاد أَو الحكم، / ليتناول الشَّك وَالوهم مِمَّا لَا اعْتِقَاد وَلَا حكم للذهن فِيهِ. وَأَشَارَ بقوله: (لَو قدره) إِلَى أَن الظَّن اعْتِقَاد بسيط، وَقد لَا يخْطر نقيضه بالبال، وَلَكِن يَنْبَغِي أَن يكون بِحَيْثُ لَو أخطر نقيضه بالبال لجوز، وَلَا يكون تَمْيِيزه فِي الْقُوَّة بِحَدّ لَو قدر نقيضه لمَنعه) انْتهى. قَوْله: ومتعلقه. أَي: مُتَعَلق مَا عَنهُ الذّكر الْحكمِي، وَهُوَ النِّسْبَة الْوَاقِعَة بَين طرفِي الْخَبَر فِي الذِّهْن، فَإِن الحكم يتَعَلَّق بهَا. فَمَا عَنهُ الذّكر الْحكمِي: إِمَّا أَن يحْتَمل مُتَعَلّقه النقيض بِوَجْه من الْوُجُوه، سَوَاء كَانَ فِي الْخَارِج، أَو عِنْد الذاكر، إِمَّا بتقديره بِنَفسِهِ، أَو بتشكيك مشكك إِيَّاه، أَو لَا يحْتَمل أصلا وَالثَّانِي: الْعلم. وَالْأول: إِمَّا أَن يحْتَمل عِنْد الذاكر بتقديره فِي نَفسه، أَولا. وَالثَّانِي: الِاعْتِقَاد، فَإِن طابق فَصَحِيح، وَإِلَّا ففاسد. وَالْأول: إِمَّا أَن يكون الْمُتَعَلّق راجحاً عِنْد الذاكر على احْتِمَال النقيض وَهُوَ الظَّن، ويتفاوت حَتَّى يُقَال غَلَبَة الظَّن، أَولا. وَحِينَئِذٍ إِمَّا أَن يكون مرجوحاً، أَو لَا، وَالْأول: الْوَهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وَالثَّانِي: الشَّك. إِذا علم ذَلِك فالعلم قسيمه الِاعْتِقَاد الصَّحِيح وَالْفَاسِد. وَالظَّن قسيمه الشَّك وَالوهم. وَقَوله: وَعلم بذلك حُدُودهَا. وَذَلِكَ [لما] ذكر الْمُشْتَرك الَّذِي هُوَ كالجنس، وَهُوَ مَا عَنهُ الذّكر الْحكمِي، وَقيد كل قسم بِمَا يميزه عَمَّا عداهُ، كَانَ ذَلِك حدا لكل وَاحِد من الْأَقْسَام، لِأَن الْحَد عِنْد الْأُصُولِيِّينَ، كل لفظ مركب يتَمَيَّز الْمَاهِيّة عَن أغيارها سَوَاء كَانَ بالذاتيات أَو بالعرضيات أَو بالمركب مِنْهُمَا. (فحد الْعلم: مَا عَنهُ ذكر حكمي لَا يحْتَمل مُتَعَلّقه النقيض بِوَجْه، لَا فِي الْوَاقِع، وَلَا عِنْد الذاكر، وَلَا بالتشكيك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 والاعتقاد الصَّحِيح: مَا عَنهُ ذكر حكمي يحْتَمل مُتَعَلّقه النقيض عِنْد الذاكر بتشكيك مشكك إِيَّاه فَقَط. وَالْفَاسِد: مَا عَنهُ ذكر حكمي يحْتَمل مُتَعَلّقه النقيض عِنْد الذاكر بتشكيك مشكك، وَلَا يحْتَمل النقيض بتقديره، وَيكون غير مُطَابق للْوَاقِع. وَالظَّن: مَا عَنهُ ذكر حكمي يحْتَمل مُتَعَلّقه النقيض عِنْد الذاكر بتقديره، مَعَ كَونه راجحاً. وَالوهم: مَا عَنهُ ذكر حكمي يحْتَمل مُتَعَلّقه / النقيض عِنْد الذاكر بتقديره، مَعَ كَونه مرجوحاً. وَالشَّكّ: مَا عَنهُ ذكر حكمي يحْتَمل مُتَعَلّقه النقيض، مَعَ تَسَاوِي طَرفَيْهِ عِنْد الذاكر) وَالله أعلم. قَوْله: {فَائِدَة: الِاعْتِقَاد الْفَاسِد: الْجَهْل الْمركب، وَهُوَ: تصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 الشَّيْء على غير هَيئته} ، وَذَلِكَ أَن حكم الْعقل بِأَمْر على أَمر جازم غير مُطَابق فِي الْخَارِج، هُوَ الِاعْتِقَاد الْفَاسِد. وَيُسمى الْجَهْل الْمركب؛ لِأَنَّهُ مركب من عدم الْعلم بالشَّيْء، واعتقاد غير مُطَابق. قَوْله: {وَالْجهل الْبَسِيط: عدم الْعلم} . الْجَهْل الْبَسِيط: هُوَ انْتِفَاء إِدْرَاك الشَّيْء بِالْكُلِّيَّةِ، بِحَيْثُ لَا يخْطر بالبال أصلا من الْقَابِل للْعلم. فَإِذا قيل لشخص: هَل تجوز الصَّلَاة بِالتَّيَمُّمِ عِنْد عدم المَاء؟ فَإِن قَالَ: لَا أعلم، كَانَ ذَلِك جهلا بسيطاً، وَإِن قَالَ: لَا تجوز، كَانَ جهلا مركبا، لِأَنَّهُ مركب من عدم الْفتيا بالحكم الصَّحِيح، وَمن الْفتيا بالحكم الْبَاطِل. قَوْله: {وَمِنْه:} - أَي من الْجَهْل الْبَسِيط - {سَهْو وغفلة ونسيان، بِمَعْنى وَاحِد، وَهِي: ذُهُول الْقلب عَن مَعْلُوم، قَالَه فِي التَّمْهِيد فِي السَّهْو، وَقيل: لَا يُسمى نِسْيَانا إِلَّا إِذا طَال} . قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": (حد السَّهْو: ذُهُول الْقلب عَن النّظر فِي الْمَعْلُوم) انْتهى. وَقَوْلنَا: (وَهِي) ، عَائِد إِلَى السَّهْو والغفلة وَالنِّسْيَان. وَاعْلَم أَن الْجَهْل الْبَسِيط يَنْقَسِم أَرْبَعَة أَقسَام: سَهْو، وغفلة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ونسيان، وَغَيرهَا، وَذَلِكَ: إِن سبقه إِدْرَاك ثمَّ زَالَ سمي سَهوا، وَإِلَّا فَلَا، وَالْأول: إِن قصر فِيهِ زمَان [ذهَاب] الْإِدْرَاك اشْتهر تَسْمِيَته سَهوا، وَيُسمى - أَيْضا - غَفلَة. قَالَ الْجَوْهَرِي: (السَّهْو: الْغَفْلَة) . وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (سَهَا فِي الْأَمر: نَسيَه، وغفل عَنهُ، وَذهب قلبه إِلَى غَيره، فَهُوَ ساه، وسهوان) . وَقَالَ: (غفل عَنهُ غفولاً: تَركه وسها عَنهُ) انْتهى. وَإِن طَال زَمَانه سمي مَعَ كَونه سَهوا نِسْيَانا، فَهُوَ أخص من مُطلق السَّهْو، وَمُطلق السَّهْو أخص من مُطلق الْجَهْل الْبَسِيط، وَهَذَا قَول جمَاعَة من الْعلمَاء، وَهُوَ أحسن [مَا فرق بِهِ بَينهمَا] إِذا قيل: هما متباينان. وَقيل: النسْيَان: عدم ذكر مَا / كَانَ مَذْكُورا، والسهو: غَفلَة عَمَّا كَانَ مَذْكُورا وَعَما لم يكن مَذْكُورا، فعلى هَذَا النسْيَان أخص من السَّهْو مُطلقًا، فَهُوَ بِاعْتِبَار آخر غير الأول. وَمِنْهُم من فرق بِغَيْر ذَلِك، قَالَ فِي " الْمِصْبَاح ": (فرقوا بَين الساهي وَالنَّاسِي: بِأَن النَّاسِي إِذا ذكر تذكر، والساهي بِخِلَافِهِ) انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وَذهب كثير من الْعلمَاء إِلَى أَن مَعْنَاهُمَا وَاحِد، وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ وَقد تقدم كَلَامه فِي " الْقَامُوس ". قَالَ القَاضِي عِيَاض فِي " الْمَشَارِق ": (السَّهْو فِي الصَّلَاة: النسْيَان فِيهَا) . قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد فِي " شرح الْعُمْدَة ": (الْفرق بَينهمَا من حَيْثُ اللُّغَة بعيد، وَهَذَا أظهر) انْتهى. وَقَالَ الْحَافِظ ابْن حجر: (والسهو: الْغَفْلَة عَن الشَّيْء، وَذَهَاب الْقلب إِلَى غَيره، وَفرق بَعضهم بَين السَّهْو وَالنِّسْيَان وَلَيْسَ بِشَيْء) انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 قَوْله: {فصل} {الْعقل: مَا يحصل بِهِ الميز} . قَالَه صَاحب " رَوْضَة الْفِقْه " من أَصْحَابنَا، وَهُوَ شَامِل لأكْثر الْأَقْوَال الْآتِيَة. وَعَن الإِمَام الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: آلَة التَّمْيِيز. قَوْله: {وَهُوَ بعض الْعُلُوم الضرورية عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، [وغريزة نصا] البربهاري: لَيْسَ بجوهر وَلَا عرض وَلَا اكْتِسَاب، وَإِنَّمَا هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 فضل من الله، [وظاهرهما: أَنه الْقُوَّة المدركة لَا الْإِدْرَاك] ، التَّمِيمِي وَابْن حمدَان: نور فِي الْقلب كَالْعلمِ، أَبُو الْفرج: قُوَّة يفصل بهَا بَين حقائق المعلومات، الْأَشْعَرِيّ وَجمع: الْعلم، الفلاسفة: اكْتِسَاب، المتكلمون: كل الْعُلُوم الضرورية، وَبَعْضهمْ: جَوْهَر بسيط، وَبَعْضهمْ: مَادَّة وطبيعة، وَبَعْضهمْ: عرض يُخَالف سَائِر الْأَعْرَاض والعلوم} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 اعْلَم أَن عُلَمَاء هَذِه الْأمة وَغَيرهم اخْتلفُوا فِي مَاهِيَّة الْعقل اخْتِلَافا كثيرا بِحَيْثُ إِنَّه لَا ينْحَصر. وَقد ذهب بعض أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر إِلَى أَنه: بعض الْعُلُوم الضرورية، يستعد بهَا لفهم دَقِيق الْعُلُوم، وتدبير الصَّنَائِع الفكرية. وَمِمَّنْ قَالَ بذلك من غير أَصْحَابنَا: القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني، وَابْن الصّباغ وسليم الرَّازِيّ. فَخرجت الْعُلُوم الكسبية؛ لِأَن / الْعَاقِل يَتَّصِف بِكَوْنِهِ عَاقِلا مَعَ انْتِفَاء الْعُلُوم النظرية. وَإِنَّمَا قَالُوا: بعض الْعُلُوم الضرورية، لِأَنَّهُ لَو كَانَ جَمِيعهَا لوَجَبَ أَن يكون الفاقد للْعلم بالمدركات لعدم الْإِدْرَاك الْمُعَلق عَلَيْهَا غير عَاقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": (وَمِمَّا يدل على أَنه لَيْسَ بِجَمِيعِ الْعُلُوم، لأَنا نقُول: الْعلم يشْتَمل على ضَرُورِيّ ومكتسب، وَمَعْلُوم أَن الْإِنْسَان إِذا لم يكْتَسب وَلم يفكر فِي الدَّلَائِل يُسمى عَاقِلا، فَإِذا خرج مِنْهُ الْعلم المكتسب لم يبْق إِلَّا أَنه علم ضَرُورِيّ، وَلَيْسَ بِجَمِيعِ الْعُلُوم الضرورية، لِأَن الْإِنْسَان لَو عدم الْحَواس الْخمس مَعَ أَنَّهَا يحصل بهَا علم ضَرُورِيّ، وَلَو عدمت يُسمى عَاقِلا وَيكون عَاقِلا، وَلِهَذَا لَو قيل لَهُ مَا يضرّهُ وَمَا يَنْفَعهُ اخْتَار مَا يَنْفَعهُ، وَعكس هَذَا الصَّبِي والبهيمة، فَإِنَّهُ يحصل لَهُم علم ضَرُورِيّ مثل حسهم بالألم وَغير ذَلِك، وَمَعَ هَذَا لَا يكونُونَ عقلاء، فَثَبت - أَيْضا - أَنه لَيْسَ بِجَمِيعِ الْعُلُوم الضرورية إِنَّمَا هُوَ بَعْضهَا، مثل: أَن يعلم الْإِنْسَان اسْتِحَالَة جمع الضدين، وَكَون الْجِسْم الْوَاحِد لَيْسَ فِي مكانين، وَعلمه أَن الْوَاحِد أقل من الِاثْنَيْنِ) انْتهى. قَالَ الإِمَام أَحْمد: (الْعقل غريزة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وَقَالَهُ الْحَارِث المحاسبي فَقَالَ: (الْعقل غريزة يَتَأَتَّى بهَا إِدْرَاك الْعُلُوم) ، نَقله عَنهُ فِي " الْبُرْهَان ". قَالَ فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (الْعقل غريزة، لَيْسَ مكتسباً، بل خلقه الله تَعَالَى يُفَارق بِهِ الْإِنْسَان الْبَهِيمَة، ويستعد بِهِ لقبُول الْعلم وتدبير الصَّنَائِع الفكرية، فَكَأَنَّهُ نور يقذف فِي الْقلب كَالْعلمِ الضَّرُورِيّ، وَالصبَا وَنَحْوه حجاب لَهُ) . قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: (إِنَّه غير مكتسب كالضروري) . وَقَالَ الْحسن بن عَليّ البربهاري - من أَئِمَّة أَصْحَابنَا -: (لَيْسَ بجوهر وَلَا عرض وَلَا اكْتِسَاب، وَإِنَّمَا هُوَ فضل من الله تَعَالَى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (هَذَا يَقْتَضِي أَنه الْقُوَّة المدركة - كَمَا دلّ عَلَيْهِ كَلَام أَحْمد - لَا الْإِدْرَاك) . وَقَالَ التَّمِيمِي، وَابْن حمدَان فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (هُوَ نور فِي الْقلب كَالْعلمِ) . وَقَالَ أَبُو الْفرج الشِّيرَازِيّ / فِي " مُقَدّمَة الْإِيضَاح ": (الْعقل قُوَّة يفصل بهَا بَين حقائق المعلومات) . وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ: هُوَ الْعلم، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الأسفراييني عَن أهل الْحق، وَأَنَّهُمْ قَالُوا بترادف الْعلم وَالْعقل. وَقَالَ الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": (وَالْحق أَنه مُغَاير للْعلم، وَهُوَ قُوَّة يدْرك بهَا المغيبات، كَمَا يدْرك بالبصر المشاهدات، وإطلاقه على الْعلم تسَامح، أَو أُرِيد بِهِ مصدر عقل يعقل عقلا، فَإِنَّهُ بِمَعْنى الْعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 والإدراك، وَلَيْسَ الْكَلَام فِيهِ، بل الْكَلَام فِي تِلْكَ الْقُوَّة المودعة الَّتِي لَا تنفك عَن الْإِنْسَان نوماً وَلَا يقظة، وَقيل: هُوَ الضَّرُورِيّ من الْعلم، وَقيل: نور فِي بدن الْإِنْسَان مثله كَمثل الشَّمْس فِي ملكوت الأَرْض) انْتهى. وَاخْتَارَ الْمَاوَرْدِيّ: (أَنه الْعلم بالمدركات الضرورية) . وَقَالَت الفلاسفة: (هُوَ اكْتِسَاب) . وَقَالَ المتكلمون: (هُوَ كل الْعُلُوم الضرورية) ، وَتقدم رده. وَقَالَ بَعضهم: (هُوَ جَوْهَر بسيط) . وَقَالَ بَعضهم: (هُوَ مَادَّة وطبيعة) . وَقَالَ بَعضهم: (هُوَ عرض مُخَالف لسَائِر الْأَعْرَاض والعلوم) . وَقَالَ بَعضهم: (مَا حسن مَعَه التَّكْلِيف) . قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": (وَهَذِه الْأَقْوَال الْعشْرَة مُتَقَارِبَة الْمَعْنى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وَلم يذكر مَا قَالَه الْأَشْعَرِيّ والكوراني. وَقَالَ بَعضهم: (هُوَ شَيْء تدْرك بِهِ الْعُلُوم وَلَيْسَ علما كالمرآة) . وَقَالَ بَعضهم: (هُوَ عُلُوم بديهية وكلية) . وَقَالَ بَعضهم: (هُوَ عُلُوم ضَرُورِيَّة) . وَقَالَ بَعضهم: (ملكة تدْرك بهَا الْعُلُوم، وَالْمرَاد بالملكة: هَيْئَة راسخة فِي النَّفس) . وَقَالَ بَعضهم: (هُوَ غريزي وضروري وهما نظريان، وتجربي ونظري وهما مكتسبان. وَلَيْسَ كل الْعُلُوم الضرورية، وَلَا مَا حصل بالحواس الْخمس، وَلَا الْعلم بِحسن الْحسن وَلَا بقبح الْقَبِيح) . قلت: الْعقل وَالروح شَيْئَانِ لَا يطلع على كنه حقيقتهما إِلَّا الله تَعَالَى. {وَمحله الْقلب عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، والأطباء، وَله اتِّصَال بالدماغ، قَالَه التَّمِيمِي، وَغَيره} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 [قَالَ] ابْن الْأَعرَابِي / وَغَيره: الْعقل الْقلب، وَالْقلب الْعقل , وَاسْتدلَّ لذَلِك بقوله تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لذكرى لمن كَانَ لَهُ قلب} [ق: 37] ، أَي عقل، فَعبر بِالْقَلْبِ عَن الْعقل؛ لِأَنَّهُ مَحَله، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فَتكون لَهُم قُلُوب يعْقلُونَ بهَا} [الْحَج: 46] ، فَجعل الْعقل فِي الْقلب، وَبِقَوْلِهِ: {فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور} [الْحَج: 46] ، أَي: يتغطى على الْعقل الَّذِي فِي الصَّدْر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 فالفقه والفهم والمعرفة وَهَذِه الْأَشْيَاء هِيَ: الْعقل. وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلا إِن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله، أَلا وَهِي الْقلب) . وَقد دللنا - أَيْضا - على أَن الْعقل بعضالعلوم الضرورية، والعلوم الضرورية لَا تكون إِلَّا فِي الْقلب، وَمَعَ هَذَا لَهُ اتِّصَال بالدماغ، قَالَه التَّمِيمِي من أَصْحَابنَا، وَغَيره من الْأَصْحَاب، وَغَيرهم. قَوْله: {وَالْمَشْهُور عِنْد أَحْمد: [فِي] الدِّمَاغ، وَقَالَهُ الطوفي، وَالْحَنَفِيَّة، والفلاسفة، وَقيل: إِن قُلْنَا جَوْهَر وَإِلَّا فِي الْقلب، وَقيل: فِي كل الْبدن} . الْمَشْهُور عَن الإِمَام أَحْمد: (أَن الْعقل فِي الدِّمَاغ) نَقله ابْن حمدَان، لَكِن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 أَكثر الْأَصْحَاب قطعُوا عَن أَحْمد: (فِي الدِّمَاغ) وَلم يحكوا عَنهُ فِيهِ خلافًا، [وَهَذَا] القَوْل اخْتَارَهُ من أَصْحَابنَا الطوفي، وَالْحَنَفِيَّة، والفلاسفة. وَاحْتَجُّوا لَهُ: بِأَن الْعُقَلَاء تراهم يضيفون الْعقل إِلَى الرَّأْس، فَيَقُولُونَ: هَذَا ثقيل الرَّأْس، وَهَذَا فِي دماغه عقل، وَعكس هَذَا يَقُولُونَ: هَذَا فارغ الدِّمَاغ، وَهَذَا فِيمَا رَأسه دماغه عقل. وَاحْتَجُّوا أَيْضا: بِأَنَّهُ إِذا ضرب على رَأسه يَزُول عقله، وَلَو ضرب على جَمِيع بدنه لم يزل عقله. ورد: بِأَن الضَّرْب على غَيره يزِيل الْعقل أَيْضا. وَقيل: إِن قُلْنَا: الْعقل جَوْهَر كَانَ فِي الرَّأْس، وَإِلَّا كَانَ فِي الْقلب. وَقيل: هُوَ فِي كل الْبدن، حَكَاهُ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ". وَقَالَ / ابْن السُّبْكِيّ فِي " قَوَاعِده ": (وَقيل: لكل حاسة مِنْهُ نصيب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 قَالَ الْأُسْتَاذ: (وَهُوَ أحد قولي الْأَشْعَرِيّ) . وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ فِي بَاب أَسْنَان إبل الْخَطَأ: (نقطع بِأَن الْعقل لَيْسَ مَحَله الْيَدَيْنِ) . وَذكر - أَيْضا - فِي النِّهَايَة فِي الْبَاب الْمَذْكُور: (أَنه لم يتَعَيَّن للشَّافِعِيّ مَحَله) . تَنْبِيه: مَا نَقَلْنَاهُ عَن الْأَطِبَّاء، وَعَن الفلاسفة، تابعنا فِيهِ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَالَّذِي قطع بِهِ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " عَن الطَّائِفَتَيْنِ خلاف ذَلِك، وَلَعَلَّه الْحق، فَليُحرر ذَلِك من خَارج. قَوْله: {قَالَ الْأَصْحَاب: الْعقل يخْتَلف، فعقل بعض النَّاس أَكثر} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 هَذَا الصَّحِيح؛ لِأَن كَمَال الشَّيْء ونقصه يعرف بِكَمَال آثاره وأفعاله ونقصها، وَنحن نشاهد قطعا تفَاوت آثَار الْعُقُول فِي الآراء وَالْحكم والحيل وَغَيرهَا، وَذَلِكَ يدل على تفَاوت الْعُقُول فِي نَفسهَا، وَأجْمع الْعُقَلَاء على صِحَة قَول الْقَائِل: فلَان أَعقل من فلَان، أَو أكمل عقلا، وَذَلِكَ يدل على مَا قُلْنَا. وَلِحَدِيث أبي سعيد أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ للنِّسَاء: " أَلَيْسَ شَهَادَة إحداكن مثل [نصف شَهَادَة] الرجل؟ " قُلْنَ: بلَى، قَالَ: " فَذَلِك من نُقْصَان عقلهَا ". { [وَخَالف ابْن] عقيل، والأشعرية، والمعتزلة، [وَقَالَهُ] الْمَاوَرْدِيّ فِي الغريزي لَا التجربي، وَحمل الطوفي الْخلاف على ذَلِك} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 قَالَ ابْن عقيل، والأشاعرة، والمعتزلة: الْعقل لَا يخْتَلف؛ لِأَن الْعقل حجَّة عَامَّة يرجع إِلَيْهَا النَّاس عِنْد اخْتلَافهمْ، وَلَو تفاوتت الْعُقُول لما كَانَ كَذَلِك. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ من أَصْحَاب الشَّافِعِي: (الغريزي لَا يخْتَلف والتجربي يخْتَلف) . وَحمل الطوفي فِي " شرح مُخْتَصره " الْخلاف على ذَلِك فَقَالَ بعد أَن ذكر دَلِيل الْقَوْلَيْنِ: (وَهَذَا يَقْتَضِي أَن النزاع [لَيْسَ مورده وَاحِدًا] ، وَوجه الْجمع بَين الْقَوْلَيْنِ: أَن الْعقل على ضَرْبَيْنِ: طبيعي وَهُوَ الَّذِي لَا يتَفَاوَت [عِنْد] الْعُقَلَاء، وكسبي تجربي وَهُوَ الَّذِي يتفاوتون / فِيهِ، وَقد جَاءَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: (أَن الْعقل الطبيعي يتناهى إِلَى سبع وَعشْرين سنة، والتجربي لَا يتناهى إِلَّا بِالْمَوْتِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وَقيل: ضعفه وقوته بِحَسب شكله ومزاجه. قَوْله: {فَائِدَة: قَالَ القَاضِي: الإحساس وَمَا يدْرك بالحواس لَا يخْتَلف، [بِخِلَاف مَا يدْرك بِالْعقلِ] ، وَقَالَ الشَّيْخ: يخْتَلف} . قَالَ القَاضِي (الإحساس وَمَا يدْرك بالحواس لَا يخْتَلف، بِخِلَاف مَا يدْرك بِالْعقلِ، فَإِنَّهُ يخْتَلف مَا يدْرك بِهِ وَهُوَ التَّمْيِيز والفكر، فَلهَذَا يخْتَلف) . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (يلْزم مِنْهُ: أَن الْعلم الْحسي لَيْسَ من الْعقل) . قَالَ: وَلنَا فِي الْمعرفَة الإيمانية فِي الْقلب هَل تزيد وتنقص؟ رِوَايَتَانِ، فَإِذا قيل: (إِن النظري لَا يخْتَلف) ، فالضروري أولى. وَهَذِه الْمَسْأَلَة من جنس مَسْأَلَة الْإِيمَان، وَأَن الأصوب: أَن القوى الَّتِي هِيَ الإحساس وَسَائِر الْعُلُوم والقوى تخْتَلف) انْتهى. وَتقدم هَل يتَفَاوَت الْعلم أَو لَا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 قَوْله: {فصل} {الْحَد لُغَة: الْمَنْع، وَاصْطِلَاحا: الْوَصْف الْمُحِيط بِمَعْنَاهُ الْمُمَيز لَهُ عَن غَيره} . الْحَد لَهُ مَعْنيانِ: معنى فِي اللُّغَة، وَمعنى فِي الِاصْطِلَاح. فَمَعْنَاه فِي اللُّغَة: الْمَنْع، وَلذَلِك سمي البواب حداداً؛ لِأَنَّهُ يمْنَع من دُخُول الدَّار، وَسمي السجان حداداً؛ لمَنعه المعتقل من الْخُرُوج من السجْن، وَسميت الْحُدُود حدوداً، لِأَنَّهَا تمنع من الْعود، وَمِنْه: إحداد الْمَرْأَة فِي عدتهَا لِأَنَّهَا مَمْنُوعَة من الطّيب والزينة، وَسمي الْحَدِيد حديداً؛ لما فِيهِ من الْمَنْع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 لِامْتِنَاع حامله، ولابسه، وَسمي التَّعْرِيف حدا؛ لمَنعه الدَّاخِل من الْخُرُوج، وَالْخَارِج من الدُّخُول. وَمَعْنَاهُ فِي الِاصْطِلَاح - أَي: حَده فِي الِاصْطِلَاح -: (الْوَصْف الْمُحِيط بِمَعْنَاهُ، الْمُمَيز لَهُ عَن غَيره) . قَالَه العسقالني سارح الطوفي. قَالَ القَاضِي عضد الدّين فِي " شرح الْمُخْتَصر ": (الْحَد عَن الْأُصُولِيِّينَ مَا يمييز الشَّيْء عَن غَيره) قَالَ الْغَزالِيّ: (قيل: حد الشَّيْء نَفسه وذاته، وَقيل: هُوَ اللَّفْظ الْمُفَسّر لمعناه على وَجه يجمع وَيمْنَع) انْتهى. وَقيل: (هُوَ شرح مَا دلّ عَلَيْهِ اللَّفْظ بطرِيق الْإِجْمَال) . وَقدم فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (أَنه قَول يكْشف حَقِيقَة الْمَحْدُود) وَذكر ثَمَانِيَة / أَقْوَال فِيهِ. قَوْله: {وَهُوَ أصل كل علم، قَالَه الْفَخر} . قَالَ الْفَخر إِسْمَاعِيل أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ - من أَصْحَابنَا -: (الْحَد على الْحَقِيقَة أصل كل علم، فَمن لَا يُحِيط بِهِ علما لَا ثِقَة لَهُ بِمَا عِنْده) . انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وَقَالَهُ غَيره، وَهُوَ صَحِيح. قَوْله: {شَرطه: أَن يكون مطرداً، وَهُوَ الْمَانِع: كلما وجد الْحَد وجد الْمَحْدُود، منعكساً، وَهُوَ الْجَامِع: كلما وجد الْمَحْدُود وجد الْحَد، وَيلْزمهُ: كلما انْتَفَى الْحَد انْتَفَى الْمَحْدُود} . وَحَقِيقَة الانعكاس هُنَا: كلما وجد الْمَحْدُود وجد الْحَد، فَإِنَّهُ عكس الاطراد، وَهُوَ: كلما وجد الْحَد وجد الْمَحْدُود، وَيلْزمهُ: كلما انْتَفَى الْحَد انْتَفَى الْمَحْدُود، فَإِنَّهُ إِذا وجد الْمَحْدُود وجد الْحَد، فَإِذا انْتَفَى انْتَفَى، صرح بِهِ القَاضِي عضد الدّين، وَغَيره، وَهُوَ وَاضح. وَفَسرهُ ابْن الْحَاجِب وَغَيره بلازمه، فَقَالَ: (المنعكس كلما انْتَفَى الْحَد انْتَفَى الْمَحْدُود) ، وَالتَّحْقِيق الأول. وَتجب مُسَاوَاة الْحَد للمحدود، لِأَنَّهُ إِن كَانَ أَعم فَلَا دلَالَة لَهُ على الْأَخَص، وَلَا يُفِيد التَّمْيِيز، وَإِن كَانَ أخص، فَلِأَنَّهُ أخْفى، لِأَنَّهُ أقل وجودا مِنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وَكَون الْمَانِع تَفْسِيرا للمطرد، وَالْجَامِع تَفْسِيرا للمنعكس - كَمَا قُلْنَا - هُوَ الصَّحِيح عِنْدهم، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر من أَصْحَابنَا. {وَعكس الْقَرَافِيّ، وَغَيره} . وَهُوَ: أَبُو عَليّ التَّمِيمِي فِي " التَّذْكِرَة " فِي أصُول الدّين، والطوفي فِي " شَرحه "، فَقَالُوا: (كَونه مطرداً هُوَ الْجَامِع، وَكَونه منعكساً هُوَ الْمَانِع) . قَوْله: {وَقيل: وَلَو مجَازًا ومشتركاً بِقَرِينَة} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 قَالَ الْأَكْثَر: لَا يجوز أَن يدْخل لفظ الْحَد الْمجَاز، وَقَالَ الْغَزالِيّ: يجوز إِذا عرف بالقرائن؛ لحُصُول الْبَيَان بهَا. وَكَذَا لَا يجوز أَن يدْخل لفظ الْحَد الْمُشْتَرك عِنْد الْأَكْثَر، وَاخْتَارَ الْقَرَافِيّ الْجَوَاز إِذا وجدت قَرَائِن تدل عَلَيْهِ، وَمَا هما بِبَعِيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 قَوْله: { [وَهُوَ حَقِيقِيّ تَامّ] : إِن أنبأ عَن ذاتيات الْمَحْدُود الْكُلية المركبة / لَهُ حد وَاحِد، وناقص: إِن كَانَ بفصل [قريب] أَو مَعَه جنس بعيد، [ورسمي: إِن أنبأ عَنهُ بِلَازِم لَهُ، تَامّ، وناقص، [ولفظي: إِن أنبأ عَنهُ بمرادف أظهر] } . الْحَد يَنْقَسِم إِلَى خَمْسَة أَقسَام: أَحدهَا: حَقِيقِيّ تَامّ - وَهُوَ الأَصْل - وَذَلِكَ إِن أنبأ عَن ذاتيات الْمَحْدُود الْكُلية المركبة، كَقَوْلِنَا: مَا الْإِنْسَان؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 فَيُقَال: حَيَوَان نَاطِق، وَهَذَا وَشبهه لَيْسَ لَهُ إِلَّا حد وَاحِد؛ لِأَن ذَات الشَّيْء لَا يكون لَهُ حدان. لَا يُقَال: جَمِيع ذاتيات الشَّيْء عين الشَّيْء، وَالشَّيْء لَا يُفَسر نَفسه؟ لأَنا نقُول: دلَالَة الْمَحْدُود من حَيْثُ الْإِجْمَال، وَدلَالَة الْحَد من حَيْثُ التَّفْصِيل، فَلَيْسَ عينه من كل وَجه، فصح تَعْرِيفه بِهِ، وَلذَلِك لم يَجْعَل اللفظان مترادفين - على الْمُرَجح، على مَا يَأْتِي - إِلَّا إِذا كَانَ الْحَد لفظياً. الثَّانِي: حَقِيقِيّ نَاقص لَهُ صُورَتَانِ: الأولى: أَن يكون بفصل قريب فَقَط، كَقَوْلِنَا: مَا الْإِنْسَان؟ فَيُقَال: النَّاطِق. الثَّانِيَة: أَن يكون بفصل قريب مَعَ جنس بعيد، كَقَوْلِنَا فِي جَوَاب مَا الْإِنْسَان؟ جسم نَاطِق. الثَّالِث: رسمي تَامّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 الرَّابِع: رسمي نَاقص. وَذَلِكَ إِن أنبأ بِلَازِم مُخْتَصّ بِهِ؟ فالتام مِنْهُ: أَن يُؤْتى بذلك اللَّازِم مَعَ الْجِنْس الْقَرِيب، ك (الْإِنْسَان حَيَوَان ضَاحِك) . والناقص مِنْهُ: أَن يُؤْتِي بِتِلْكَ الْخَاصَّة وَحدهَا، أَو مَعَ الْجِنْس الْبعيد، وَله صُورَتَانِ أَيْضا، كالإنسان ضَاحِك، أَو جسم ضَاحِك. الْخَامِس: اللَّفْظِيّ: أَن يُؤْتى بِلَفْظ مرادف لَكِن هُوَ أشهر عِنْد السَّامع من الْمَحْدُود، كَقَوْلِه: مَا الخندريس؟ فَيُقَال: الْخمر أَو نَحْو ذَلِك. قَوْله: {وَيرد عَلَيْهِ: النَّقْض، والمعارضة} . يرد على الْحَد: النَّقْض، والمعارضة، عِنْد الْأَكْثَر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 قَالَ الْقَرَافِيّ فِي " شرح التَّنْقِيح ": (فَإِن قلت: إِذا لم يُطَالب على صِحَة الْحَد بِالدَّلِيلِ وَنحن نعتقد بُطْلَانه، فَكيف الْحِيلَة فِي ذَلِك؟ قلت: الطَّرِيق فِي ذَلِك أَمْرَانِ، أَحدهمَا: النقيض، كَمَا لَو قَالَ: الْإِنْسَان عبارَة عَن الْحَيَوَان، فَيُقَال: ينْتَقض عَلَيْك بالفرس، فَإِنَّهُ حَيَوَان مَعَ أَنه لَيْسَ بِإِنْسَان. وَثَانِيهمَا: الْمُعَارضَة كَمَا لَو قَالَ: الْغَاصِب من الْغَاصِب / يضمن لِأَنَّهُ غَاصِب، أَو ولد الْمَغْصُوب مَضْمُون لِأَنَّهُ مَغْصُوب، لِأَن حد الْغَاصِب: من وضع يَده بِغَيْر حق، وَهَذَا وضع يَده بِغَيْر حق، فَيكون غَاصبا. فَيَقُول الْخصم: أعارض هَذَا الْحَد بِحَدّ آخر، وَهُوَ: أَن حد الْغَاصِب من رفع الْيَد المحقة وَوضع الْيَد المبطلة، وَهَذَا لم يرفع الْيَد المحقة فَلَا يكون غَاصبا) انْتهى. فقد ورد عَلَيْهِ النَّقْض والمعارضة. وَقيل: لَا تقبل الْمُعَارضَة فِيهِ؛ لشعورها بِصِحَّة الْمعَارض، وَلَيْسَ لوَاحِد حدان، فأحدهما حق، وَلم يبْق سوى النَّقْض. قَوْله: {لَا الْمَنْع فِي الْأَصَح} . يَعْنِي: أَن الْمَنْع هَل يرد على الْحَد أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 أَحدهمَا: يرد، لِأَن الْحَد دَعْوَى فَيمْنَع كَغَيْرِهِ، وَالأَصَح عدم الْوُرُود، وَمَا قيل بِالْجَوَازِ فخطأ، لعدم الْفَائِدَة غَالِبا، وَلِهَذَا لَا يجوز منع النَّقْل لتكذيب النَّاقِل وَبعده من الْفَائِدَة، وَلِأَنَّهُ لَا يُمكن إثْبَاته إِلَّا بالبرهان، وهما [مقدمتان] كل مِنْهُمَا مفردان، فطالب الْحَد يطْلب تصور كل مُفْرد، فَإِذا أَتَى المسؤول بحده وَمنع، احْتَاجَ فِي إثْبَاته إِلَى مثل الأول، وتسلسل، ثمَّ الجدل اصْطِلَاح يجب الرُّجُوع إِلَى أربابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 قَوْله: {فصل} أَي: فِي اللُّغَة، قد سبق أَن أصُول الْفِقْه يستمد من اللُّغَة، وَذَلِكَ لما كَانَ الِاسْتِدْلَال من الْكتاب وَالسّنة اللَّذين هما أصل الْإِجْمَاع بل وأصل الْقيَاس مُحْتَاجا إِلَى معرفَة اللُّغَة - الَّتِي لَا تعرف دلالتهما إِلَّا بمعرفتها؛ لِأَنَّهُمَا عربيان، وَفهم معانيهما مُتَوَقف على معرفَة لُغَة الْعَرَب، بل هما أفْصح الْكَلَام الْعَرَبِيّ - احْتِيجَ إِلَى مَعْرفَتهَا. قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قرءاناً عَرَبيا} [يُوسُف: 2] ، {وَهَذَا لِسَان عَرَبِيّ مُبين} [النَّحْل: 103] ، {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه} [إِبْرَاهِيم: 4] ، وَغير ذَلِك من الْآيَات. فَإِن قيل: من سبق نَبينَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْأَنْبِيَاء الْمُرْسلين، / إِنَّمَا كَانَ مَبْعُوثًا لِقَوْمِهِ خَاصَّة، فَهُوَ مَبْعُوث بلسانهم، وَمُحَمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَبْعُوث لجَمِيع الْخلق، فَلم لم يبْعَث بِجَمِيعِ الْأَلْسِنَة، وَلم يبْعَث إِلَّا بِلِسَان بَعضهم وهم الْعَرَب؟ فَالْجَوَاب: أَنه لَو بعث بِلِسَان جَمِيعهم كَانَ كَلَامه خَارِجا عَن الْمَعْهُود، وَيبعد بل يَسْتَحِيل أَن ترد كل كلمة من الْقُرْآن مكررة بِكُل الْأَلْسِنَة، فَتعين الْبَعْض، وَكَانَ لِسَان الْعَرَب أَحَق؛ لِأَنَّهُ أوسع وأفصح، وَلِأَنَّهُ لِسَان المخاطبين وَإِن كَانَ الحكم عَلَيْهِم وعَلى غَيرهم، كَذَا قرر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 ابْن السَّمْعَانِيّ السُّؤَال وَالْجَوَاب، وَهُوَ حسن. قَوْله: {سَبَب اللُّغَة حَاجَة النَّاس [إِلَيْهَا] ، ولخفتها، وَكَثْرَة فائدتها} . وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى لما خلق النَّوْع الإنساني وَجعله مُحْتَاجا لأمور لَا يسْتَقلّ بهَا، بل يحْتَاج فِيهَا إِلَى المعاونة، ولابد للمعاون من الإطلاع على مَا فِي [نفس] الْمُحْتَاج بِشَيْء يدل، وَذَلِكَ إِمَّا لفظ أَو إِشَارَة أَو كِتَابَة أَو مِثَال أَو نَحوه، وَكَانَ اللَّفْظ أَكثر إِفَادَة وأيسر. فَأَما كَونه أَكثر إِفَادَة؛ فَلِأَن اللَّفْظ يَقع على الْمَعْدُوم وَالْمَوْجُود وَالْغَائِب والحاضر الْحسي والمعنوي، وَلَا شَيْء من [الْبَاقِي] يستوعب ذَلِك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وَأما كَونه أيسر؛ فَلِأَنَّهُ مُوَافق لِلْأَمْرِ الطبيعي؛ لِأَن الْحُرُوف كيفيات تعرض للنَّفس الضَّرُورِيّ؟ قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: (وَإِنَّمَا كَانَ نوع الْإِنْسَان أَكثر حَاجَة من جَمِيع الْحَيَوَانَات، لِأَن غَيره قد يسْتَقلّ بِنَفسِهِ عَن جنسه، وَأما الْإِنْسَان فمطبوع على الافتقار إِلَى جنسه فِي الِاسْتِعَانَة، فَهُوَ صفة لَازِمَة لطبعه، وخلقة قَائِمَة فِي جوهره) . قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: (سَبَب وجودهَا: حَاجَة الْإِنْسَان، ليعرف بَعضهم مُرَاد بعض، للتساعد والتعاضد بِمَا لَا مُؤنَة فِيهِ، لخفتها وَكَثْرَة فائدتها، وَلَا مَحْذُور) . وَهَذِه من نعم الله تَعَالَى / على عباده، فَمن تَمام نعمه علينا أَن جعل ذَلِك بالنطق دون غَيره. قَوْله: {وَهِي: أَلْفَاظ وضعت لمعان} . أَي: اللُّغَة أَلْفَاظ، وَقَوله: (أَلْفَاظ) يَشْمَل الْمَوْضُوع والمهمل. وَقَوله (وضعت لمعان) ليخرج المهمل؛ لِأَنَّهُ لم يوضع لِمَعْنى، وَيَأْتِي قَرِيبا أَنه مَوْجُود، وَلَكِن لم تضعه الْعَرَب قطعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 قَوْله: {فَمَا احتاجه [الْإِنْسَان] لم تخل من لفظ لَهُ} . قد تقرر الِاحْتِيَاج إِلَى الْوَضع، فَكلما اشتدت الْحَاجة إِلَيْهِ افْتقر إِلَى مَا يوضع لَهُ، فَلَا بُد لَهُم من وَضعه. قَوْله: {وَالظَّاهِر عدم خلوها مِمَّا كثرت حَاجته، وَعَكسه [فيهمَا] يجوز [خلوها] } . الظَّاهِر من اسْتِعْمَال الْعَرَب: عدم خلو اللُّغَة مِمَّا كثرت الْحَاجة إِلَيْهِ، قَالَه الْعلمَاء، وَهُوَ وَاضح، لَا سِيمَا وَهِي أوسع اللُّغَات وأفصحها. وَعَكسه فيهمَا، يجوز خلوها عَنهُ، يَعْنِي: أَن مَا لَا يحْتَاج أَلْبَتَّة، أَو يحْتَاج إِلَيْهِ فِي النَّادِر، يجوز خلوها مِنْهُ، وَلَيْسَ بممتنع. قَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": (مَا احْتَاجَ النَّاس إِلَيْهِ لم تخل اللُّغَة من لفظ يفِيدهُ، وَمَا لم يحتاجوا إِلَيْهِ يجوز خلوها عَمَّا يدل عَلَيْهِ، وَمَا دعت الْحَاجة إِلَيْهِ غَالِبا فَالظَّاهِر عدم خلوها عَنهُ، وَعَكسه بعكسه) انْتهى. وَحَاصِله: أَن مَعنا أَرْبَعَة أَقسَام: أَحدهَا: احتاجه النَّاس واضطروا إِلَيْهِ، فَلَا بُد لَهُم من وَضعه. الثَّانِي: عَكسه، مَا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ أَلْبَتَّة، يجوز خلوها، وخلوها - وَالله أعلم - أَكثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 الثَّالِث: مَا كثرت الْحَاجة إِلَيْهِ الظَّاهِر عدم خلوها، بل هُوَ كالمقطوع بِهِ. الرَّابِع: عَكسه، مَا قلت الْحَاجة [إِلَيْهِ] ، يجوز خلوها مِنْهُ، وَلَيْسَ بممتنع. قَوْله: {فالصوت: عرض مسموع} . شرعنا فِي تَبْيِين الملفوظ بِهِ، فَأول مَا يلفظ بِهِ الصَّوْت، ورسمه: عرض مسموع يحصل عِنْد اصطكاك الأجرام، وَسَببه: انضغاط / الْهَوَاء بَين الجرمين، فيتموج تموجاً شَدِيدا، فَيخرج، فيقرع صماخ الآذان، فَتُدْرِكهُ قُوَّة السّمع، وَلِهَذَا تخْتَلف الْأَصْوَات فِي الظُّهُور والخفاء؛ لاخْتِلَاف الْأَجْسَام المتصاككة فِي الصلابة والرخاوة، فصوت الْمُتَكَلّم: عرض حَاصِل عَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 اصطكاك أجرام الْفَم - وَهِي مخارج الْحُرُوف - وَرفع النَّفس للهواء حَتَّى أذن السَّامع متكيفاً بِصُورَة كَلَام الْمُتَكَلّم. وَقَوْلنَا: (الصَّوْت عرض) ، هُوَ جنس يتَنَاوَل جَمِيع الْأَعْرَاض الحيوانية وَغَيرهَا، كالحركات، والألوان والطعوم. وَقَوْلنَا: (مسموع) ، خرج جَمِيعهَا إِلَّا الْعرض الَّذِي يدْرك بِالسَّمْعِ وَهُوَ الصَّوْت، وَإِنَّمَا بدأنا بالصوت؛ لِأَنَّهُ الْجِنْس الْأَعْلَى للْكَلَام الَّذِي نَحن بصدد الْكَلَام عَلَيْهِ. قَوْله: {وَاللَّفْظ: صَوت مُعْتَمد على بعض مخارج الْحُرُوف} . اللَّفْظ لُغَة: الرَّمْي، يُقَال: لفظت النواة: إِذا رميتها، ولفظت النخامة: إِذا نفثتها من فِيك، ثمَّ سمي بِهِ الصَّوْت الْمُعْتَمد على مخرج الْحُرُوف؛ لِأَن الصَّوْت لِخُرُوجِهِ من الْفَم صَار كالجوهر الملفوظ الْملقى، فَهُوَ ملفوظ حَقِيقَة أَو مجَازًا فإطلاق اللَّفْظ عَلَيْهِ من بَاب تَسْمِيَة الْمَفْعُول باسم الْمصدر، كَقَوْلِهِم: نسج الْيمن، وَهَذَا الدِّرْهَم ضرب الْأَمِير، أَي: منسوج الْيمن، ومضروب الْأَمِير. إِذا عرفت ذَلِك؛ فاللفظ الاصطلاحي نوع للصوت؛ لِأَنَّهُ صَوت مَخْصُوص؛ وَلِهَذَا أَخذ الصَّوْت فِي حد اللَّفْظ؛ وَإِنَّمَا يُؤْخَذ فِي الشَّيْء جنس ذَلِك الشَّيْء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وَالْمرَاد بالمخرج: الْقدر الْمُشْتَرك بَين الْمخْرج الْوَاحِد وَجَمِيع المخارج، وَهُوَ بعض المخارج. فَلَو قيل: (اللَّفْظ صَوت مُعْتَمد على بعض مخارج الْحُرُوف) كَانَ أَجود وَأبين، قَالَه الطوفي فِي " شَرحه "؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْمَتْن: (اللَّفْظ صَوت مُعْتَمد على مخرج من مخارج الْحُرُوف) . / فَلهَذَا قُلْنَا ذَلِك فِي الْمَتْن. قَوْله: { [وَالْقَوْل: لفظ] وضع لِمَعْنى [ذهني، وَقَالَ الشِّيرَازِيّ، وَابْن مَالك: لخارجي] ، والسبكي: للمعنى من حَيْثُ هُوَ} . تقدم الْكَلَام على الصَّوْت، وَهُوَ أَعم من اللَّفْظ، وعَلى اللَّفْظ، وَهُوَ أَعم من القَوْل. وَالْقَوْل فِي اللُّغَة: مصدر قَالَ يَقُول قولا، إِذا نطق، ثمَّ نقل اصْطِلَاحا إِلَى الْمَقُول من اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل. فَالْقَوْل فِي الِاصْطِلَاح: هُوَ اللَّفْظ الْمَوْضُوع لِمَعْنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وَإِنَّمَا قُلْنَا: (لِمَعْنى) ليخرج اللَّفْظ المهمل، فاللفظ أَعم من القَوْل - كَمَا تقدم - مُطلقًا عِنْد الْأَكْثَر، وَقطع بِهِ أَكثر الْأُصُولِيِّينَ. وَذهب بعض النُّحَاة إِلَى أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ، ذكره الْمرَادِي فِي " شرح ألفية ابْن مَالك "، فيستعمل القَوْل فِي المهمل - أَيْضا - على هَذَا. ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي القَوْل إِذا وضع لِمَعْنى، هَل هُوَ مَوْضُوع للمعنى الذهْنِي - وَهُوَ مَا يتصوره الْعقل - سَوَاء طابق فِي الْخَارِج أَو لَا، أَو للمعنى الْخَارِجِي، أَي: الْمَوْجُود فِي الْخَارِج، أَو للمعنى من حَيْثُ هُوَ من غير مُلَاحظَة كَونه فِي الذِّهْن أَو فِي الْخَارِج؟ على ثَلَاثَة أَقْوَال، أولاها القَوْل الأول، وَهُوَ: كَونه مَوْضُوعا للمعنى الذهْنِي، اخْتَارَهُ الرَّازِيّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وَأَتْبَاعه، وَابْن حمدَان، وَابْن قَاضِي الْجَبَل من أَصْحَابنَا؛ لدوران الْأَلْفَاظ مَعَ الْمعَانِي الذهنية وجودا وعدماً، فَإِن الْإِنْسَان إِذا رأى شخصا من بعيد تخيله طللاً سَمَّاهُ بذلك، فَإِذا قرب مِنْهُ وظنه شَجرا سَمَّاهُ بِهِ، فَإِذا دنا مِنْهُ وَرَآهُ رجلا سَمَّاهُ بِهِ. ورد: بِأَن ذَلِك إِنَّمَا هُوَ لاعتقاد مُطَابقَة الذهْنِي للخارجي، فالمدار على الْخَارِجِي. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (لَكِن الْأُمُور الذهنية إِن طابقت الخارجية دلّت الْأَلْفَاظ عَلَيْهَا بِوَاسِطَة تِلْكَ الْمُطَابقَة) . وَالْقَوْل الثَّانِي: كَونه مَوْضُوعا للمعنى الْخَارِجِي، وَبِه قطع أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " شرح اللمع "؛ لِأَنَّهُ بِهِ تَسْتَقِر الْأَحْكَام، / وَنَصره ابْن مَالك فِي كتاب " الفيصل "، وَاخْتَارَهُ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وَالْقَوْل الثَّالِث: اخْتَارَهُ السُّبْكِيّ الْكَبِير، وأفرد الْمَسْأَلَة بالتصنيف، وَاخْتَارَهُ - أَيْضا - الْإِسْنَوِيّ فِي " شرح منهاج الْبَيْضَاوِيّ "، والجاربردي فِي " شَرحه ". تنيبه: مَحل الْخلاف فِي الِاسْم النكرَة لَا الْمعرفَة. قَوْله: {والوضع خَاص، وَهُوَ: جعل اللَّفْظ دَلِيلا على الْمَعْنى [وَلَو مجَازًا، وعام، وَهُوَ: تَخْصِيص شَيْء بِشَيْء يدل عَلَيْهِ كالمقادير} . ذكرنَا ثَلَاثَة أَشْيَاء تشتبه على السَّامع، وَهِي: الْوَضع، والاستعمال، وَالْحمل، فَمن المهم معرفَة الْفرق بَينهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 إِذا علم ذَلِك؛ فللوضع إطلاقان: خَاص: وَهُوَ جعل اللَّفْظ دَلِيلا على الْمَعْنى مُطلقًا، وَالْمرَاد جعله متهيئاً لِأَن يُفِيد ذَلِك الْمَعْنى عِنْد اسْتِعْمَال الْمُتَكَلّم لَهُ على وَجه مَخْصُوص. وَقَوْلنَا: (وَلَو مجَازًا) ليشْمل الْمَنْقُول من شَرْعِي وعرفي، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، أَعنِي: أَن الْمجَاز مَوْضُوع. وعام: وَهُوَ تَخْصِيص شَيْء بِشَيْء بِحَيْثُ يدل عَلَيْهِ، كجعل الْمَقَادِير دَالَّة على مقدارتها من مَكِيل وموزون ومزروع ومعدود وَغَيرهَا. وَفِي كلا الْقسمَيْنِ الْوَضع أَمر مُتَعَلق بالواضع. قَوْله: {والاستعمال: إِطْلَاق اللَّفْظ وَإِرَادَة الْمَعْنى، وَالْحمل: اعْتِقَاد السَّامع مُرَاد الْمُتَكَلّم من لَفظه} . تقدم الْكَلَام على الْوَضع، وَالْكَلَام الْآن على الِاسْتِعْمَال وَالْحمل، وَذكرنَا أَن الْوَضع: جعل اللَّفْظ دَلِيلا على الْمَعْنى مُطلقًا. وَإِن شِئْت قلت: الْوَضع: اخْتِصَاص شَيْء بِشَيْء، بِحَيْثُ إِذا أطلق الشَّيْء الأول فهم مِنْهُ الشَّيْء الثَّانِي، كتسمية الْوَلَد زيدا، وَهَذَا أَمر مُتَعَلق بالواضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وَيُقَال - أَيْضا - على: غَلَبَة اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي الْمَعْنى حَتَّى يصير أشهر فِيهِ من غَيره، وَهَذَا هُوَ وضع المنقولات الثَّلَاثَة: الشَّرْعِيّ، والعرفي الْعَام، والعرفي الْخَاص. والاستعمال: إِطْلَاق اللَّفْظ وَإِرَادَة مُسَمَّاهُ بالحكم / وَهُوَ الْحَقِيقَة، أَو غير مُسَمَّاهُ لعلاقة بَينهمَا وَهُوَ الْمجَاز، وَهُوَ من صِفَات الْمُتَكَلّم. وَالْحمل: اعْتِقَاد السَّامع مُرَاد الْمُتَكَلّم من لَفظه، أَو مَا اشْتَمَل على مُرَاده. فَالْمُرَاد كاعتقاد الْحَنْبَلِيّ والحنفي: أَن الله تَعَالَى أَرَادَ بِلَفْظ الْقُرْء الْحيض، والمالكي وَالشَّافِعِيّ: أَن الله تَعَالَى أَرَادَ الطُّهْر، وَهَذَا من صِفَات السَّامع. فالوضع سَابق، وَالْحمل لَاحق، والاستعمال متوسط. قَوْله: {وَهِي: مُفْرد ومركب، فالمفرد: كلمة وَاحِدَة، وَقيل: مَا وضع لِمَعْنى وَلَا جُزْء لَهُ، [أَوله وَلَا يدل فِيهِ] } . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 أَي: اللُّغَة: مُفْرد ومركب. أما الْمُفْرد، فَلَا نزاع فِي وضع الْعَرَب لَهُ. وَأما الْمركب، فَالصَّحِيح أَنه فِي اللُّغَة وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، وَيَأْتِي ذكر الْخلاف فِيهِ قَرِيبا، وَالْكَلَام هُنَا فِي حد الْمُفْرد والمركب. فالمفرد عِنْد النُّحَاة: كلمة وَاحِدَة. [و] عِنْد المناطقة وَغَيرهم من الْأُصُولِيِّينَ: لفظ وضع لِمَعْنى وَلَا جُزْء لذَلِك اللَّفْظ يدل على الْمَعْنى الْمَوْضُوع لَهُ. وَقَوْلنَا: (وَلَا جُزْء لَهُ أَوله وَلَا يدل فِيهِ) شَمل أَرْبَعَة أَقسَام: الأول: مَا لَا جُزْء لَهُ أَلْبَتَّة، كباء الْجَرّ وَنَحْوهَا، فَإِنَّهَا مُفْرد وَإِن لم يسْتَقلّ بالنطق. الثَّانِي: مَا لَهُ جُزْء وَلَكِن لَا يدل مُطلقًا، كزاي زيد مثلا، فَإِن الزَّاي مِنْهُ لَا تدل على شَيْء مِنْهُ. الثَّالِث: مَا لَهُ جُزْء وَيدل لَكَانَ لَا على جُزْء الْمَعْنى كإنسان، فَإِن (إِن) فِي أَوله لَا تدل على بعض الْإِنْسَان، وَإِن كَانَت بانفرادها تدل على الشَّرْط أَو النَّفْي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 الرَّابِع: مَا لَهُ جُزْء وَيدل على جُزْء الْمَعْنى لَكِن فِي وضع آخر لَا فِي ذَلِك الْوَضع، كَقَوْلِنَا: حَيَوَان نَاطِق علما على شخص. وَقَوْلنَا: (فِيهِ) أَي: يدل على شَيْء حِين هُوَ جزؤه وداخل فِيهِ، فالجار وَالْمَجْرُور وَهُوَ (فِيهِ) مُتَعَلق بِمَحْذُوف كَمَا قدرناه، ذكره فِي الْعَضُد على كَلَام ابْن الْحَاجِب، وَذكر غَيره مَعْنَاهُ. قَوْله: {والمركب بِخِلَافِهِ فيهمَا، / فعبد الله - علما - مركب على الأول لَا الثَّانِي، و " يضْرب " عَكسه} . عِنْد النُّحَاة الْمركب: مَا كَانَ أَكثر من كلمة، فَيشْمَل تركيب المزج كبعلبك وسيبويه وَخَمْسَة عشر وَنَحْوهَا، والمضاف - وَلَو علما وَنَحْوه - كَعبد الله وَغُلَام زيد. وَعند المناطقة والأصوليين الْمركب: مَا دلّ جزؤه على جُزْء مَعْنَاهُ الَّذِي وضع لَهُ، سَوَاء كَانَ تركيبه إسنادياً كقام زيد وَزيد قَائِم، أَو إضافياً كغلام زيد، أَو تقييدياً كزيد الْعَالم، أَو مُضَافا إِذا كَانَ علما كَعبد الله، بِخِلَاف (يضْرب) فَإِن الْيَاء - وَهُوَ جزؤه - يدل على جُزْء مَعْنَاهُ، لِأَنَّهَا تدل على المضارعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 فَائِدَة: الْمُؤلف والمركب مُتَرَادِفَانِ، فالمؤلف بِمَعْنى الْمركب، وَعَكسه. وَبَعض النُّحَاة وَغَيرهم فرق بَينهمَا: بِأَن الْمُؤلف يكون بَين جزئيه ألفة، بِخِلَاف الْمركب. ورد: بِأَن المُرَاد بالتركيب إِنَّمَا هُوَ على الْوَجْه الْمُعْتَبر فِي كَلَام الْعَرَب، لَا مُطلق انضمام لفظ إِلَى آخر، فَحِينَئِذٍ لَا يُوجد مركب إِلَّا وَبَين جزئيه ألفة. قَوْله: {ثمَّ الْمُفْرد [مهمل ومستعمل، فَإِن] اسْتَقل بِمَعْنَاهُ وَدلّ بهيئته على أحد الْأَزْمِنَة الثَّلَاثَة [فَهُوَ الْفِعْل] ، وَهُوَ مَاض، كقام، ويعرض لَهُ الِاسْتِقْبَال بِالشّرطِ، وَلم يضْرب عَكسه، ومضارع كيقوم، وَأمر [كقم] } . الْمُفْرد يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ: مهمل، ومستعمل. فالمهمل كأسماء حُرُوف الهجاء، أَي: كمدلولاتها، فَإِن مَدْلُول الْألف أَو مَدْلُول [الْبَاء] وَهَذِه المدلولات لم تُوضَع بِإِزَاءِ شَيْء. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره: (أَلا ترى أَن الصَّاد مَوْضُوع لهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 الْحَرْف، وَهُوَ مهمل لَا معنى لَهُ، وَإِنَّمَا يتعلمه الصغار فِي الِابْتِدَاء للتوصل بِهِ إِلَى معرفَة غَيره) . والمستعمل يَنْقَسِم إِلَى: اسْم، وَفعل، وحرف، وَوجه الْحصْر فِي ذَلِك أَن يُقَال: إِن اسْتَقل الْمُفْرد بِمَعْنَاهُ / وَدلّ بهيئته على أحد الْأَزْمِنَة الثَّلَاثَة، وَهِي: الْمَاضِي، وَالْحَال، والمستقبل، فَهُوَ الْفِعْل، وَهُوَ ثَلَاثَة أَنْوَاع: أَحدهَا: ماضي، كقام وَنَحْوه، ويعرض لَهُ الِاسْتِقْبَال بِالشّرطِ، نَحْو: إِن قَامَ زيد قُمْت، فَأصل وَضعه للماضي، وَقد يخرج عَن أَصله لعَارض، وَعَكسه (يضْرب) ، فَأصل (يضْرب) للْحَال أَو للاستقبال، ويصرفه إِلَى الْمَاضِي دُخُول حرف (لم) فيخرجه عَن أَصله وَيبقى للماضي، وَأحسن مِنْهُ مِثَالا (لَو) فَإِنَّهَا شَرط للماضي، وَإِن دخلت على الْمُضَارع صرفته إِلَيْهِ، كَمَا يَأْتِي بَيَانه فِي معنى (لَو) . وَالثَّانِي: مضارع كيقوم وَنَحْوه، وَفِيه مَذَاهِب: أَحدهَا: أَنه للْحَال. وَالثَّانِي: للاستقبال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وَالثَّالِث - وَهُوَ الْأَشْهر هُوَ ظَاهر كَلَامه فِي " التسهيل " -: أَنه حَقِيقَة فيهمَا، فَيكون مُشْتَركا، فَمَتَى اسْتعْمل فِي الْمَاضِي كَانَ مجَازًا قطعا، وَكَذَا لَو اسْتعْمل فِي غير مَا وضع لَهُ عِنْد الْقَائِل بِهِ. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": (فِي الْمُضَارع خَمْسَة مَذَاهِب: كَونه للْحَال لَا للاستقبال، عَكسه، كَونه حَقِيقَة فِي الْحَال مجَازًا فِي الِاسْتِقْبَال، عَكسه، حَقِيقَة فيهمَا) انْتهى. وأفصح بهَا أَبُو حَيَّان فَقَالَ: (الْمَشْهُور أَنه مُشْتَرك بَين الْحَال والاستقبال، قَالَ ابْن مَالك: إِلَّا أَن الْحَال يتَرَجَّح عِنْد التجرد، وَفِيه نظر، وَقيل: حَقِيقَة فِي الْحَال مجَاز فِي الِاسْتِقْبَال، وَقيل عَكسه، وَقيل: حَقِيقَة فِي الْحَال وَلَا يسْتَعْمل فِي الِاسْتِقْبَال أصلا، لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا، وَقيل عَكسه) انْتهى. وَالثَّالِث: أَمر ك (قُم) ، وَهُوَ وَاضح، وَأما ل (يقم) فَإِنَّهُ مضارع دخلت لَام الْأَمر عَلَيْهِ. وَقَوله: {وتجرده عَن الزَّمَان عَارض للإنشاء، وَقد يلْزمه ك (عَسى) ، وَقد لَا [يلْزمه] ك (نعم) وَبئسَ} . الأَصْل فِي الْأَفْعَال: أَن يكون لأحد الْأَزْمِنَة الثَّلَاثَة، وَقد يتجرد عَن الزَّمَان، فَيكون للإنشاء بِوَضْع الْعرف، وَقد يلْزم التجرد عَن الزَّمَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ك (عَسى) ، فَإِنَّهُ وضع أَولا للماضي، وَلم يسْتَعْمل / فِيهِ قطّ، بل فِي الْإِنْشَاء. قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (وَكَذَا حبذا، فَإِنَّهُ لَا معنى لَهَا فِي الْأَزْمِنَة) . وَقد لَا يلْزم التجرد فيستعمل فِي الأَصْل وَهُوَ الْمَاضِي، ويتجرد عَن الزَّمَان - أَيْضا - للإنشاء ك (نعم) و (بئس) ، فَيُقَال: نعم زيد أمس، وَبئسَ زيد أمس، وَنعم زيد، وَبئسَ، من غير نظر إِلَى زمَان. قَوْله: {وَإِلَّا فالاسم} . يَعْنِي: أَن الْمُفْرد إِن اسْتَقل بِمَعْنَاهُ لم يدل على أحد الْأَزْمِنَة الثَّلَاثَة فَهُوَ الِاسْم، فصبوح أمس، وغبوق غَد، وضارب أمس، وَنَحْوه يدل بِنَفسِهِ، لَكِن لم يدل وضعا، بل لعَارض كاللفظ بِالِاسْمِ ومدلوله؛ فَإِنَّهَا لَازم كالمكان. وَنَحْو: (صه) دلّ على اسْكُتْ، وبواسطته على سكُوت مقترن بالاستقبال. والمضارع إِن قيل: مُشْتَرك بَين الْحَال والاستقبال، فَوَضعه لأَحَدهمَا، واللبس عِنْد السَّامع. قَوْله: {وَإِن لم يسْتَقلّ فالحرف، وَهُوَ: مَا دلّ على معنى فِي غَيره: وَقيل: لَا يحْتَاج إِلَى حد، وَسكت [جمع] عَن حَده} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 يَعْنِي: أَن الْمُفْرد إِذا لم يسْتَقلّ بِنَفسِهِ بِالْمَعْنَى فَهُوَ الْحَرْف، وَالصَّحِيح أَنه يحد، وَحده: مَا دلّ على معنى فِي غَيره؛ ليخرج الِاسْم وَالْفِعْل. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ لفظ لَا يدل على معنى فِي نَفسه. وَقَالَ بَعضهم: لفظ لَا يسْتَقلّ بِالْمَعْنَى، ومعانيها مُتَقَارِبَة. وَقيل: لَا يحْتَاج إِلَى حد لَهُ؛ لِأَن ترك الْعَلامَة لَهُ عَلامَة، وَهَذَا اخْتَارَهُ جمَاعَة مِنْهُم الحريري. ورد: بِأَنَّهُ لتعريف حَقِيقَة الْمَحْدُود. وَسكت جمَاعَة عَن حَده، فَيحْتَمل أَن لَهُ حدا عِنْدهم وَلَكِن لم يذكروه، وَيحْتَمل أَنه كالقول الثَّانِي. قَوْله: {والمركب: مهمل مَوْجُود، خلافًا للرازي وَغَيره} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 الصَّحِيح: أَن الْمركب يَنْقَسِم إِلَى: مهمل، ومستعمل، وَأَن المهمل مَوْجُود، اخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيّ، والتاج السُّبْكِيّ، ومثلوه بالهذيان، فَإِنَّهُ لفظ مدوله لفظ مركب مهمل. / قَالَ الكوراني: (وَهُوَ بعيد؛ لِأَن وجود مركب إسنادي لَا يكون لَهُ معنى، فِي غَايَة الْبعد) . وَقَالَ الرَّازِيّ وَصَاحب " التَّحْصِيل " و " الْحَاصِل ": (الْأَشْبَه أَنه غير مَوْجُود؛ لِأَن الْغَرَض من التراكيب للإفادة) ، وَهَذَا إِنَّمَا يدل على أَن المهمل غير مَوْضُوع، لَا على أَنه لم يوضع لَهُ اسْم. قَوْله: {وَلم تضعه الْعَرَب قطعا} . قَالَ شرَّاح " جمع الْجَوَامِع ": (نفس ذَلِك اللَّفْظ المهمل لم تضعه الْعَرَب، وَلَا تجوز نسبته إِلَيْهَا لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ) . قَوْله: {ومستعمل وَضعته الْعَرَب، خلافًا للرازي، وَابْن مَالك، [وَجمع] } . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 تقدم أَن الْمُفْردَات وَضَعتهَا الْعَرَب بِلَا نزاع، وَأَن الْمركب قِسْمَانِ: مهمل تقدم حكمه. ومستعمل اخْتلف الْعلمَاء: هَل وَضعته الْعَرَب كالمفرد، أم لَا، واستغنوا بالمفردات؟ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: لم يضعوه، فَلَيْسَ بموضوع، وَلِهَذَا لم يتَكَلَّم أهل اللُّغَة فِيهِ وَلَا فِي أَنْوَاع تأليفه؛ لكَون الْأَمر موكولاً إِلَى الْمُتَكَلّم، وَاخْتَارَ هَذَا الْفَخر الرَّازِيّ، وَهُوَ ظَاهر كَلَام ابْن مَالك حَيْثُ قَالَ: (إِن دلَالَة الْكَلَام عقلية) ، وَاحْتج لَهُ فِي الفيصل على الْمفصل: (بِأَن من يعرف لفظين لَا يفْتَقر عِنْد سماعهما مَعَ إِسْنَاد إِلَى معرف لِمَعْنى الِاسْتِنَاد، بل يُدْرِكهُ ضَرُورَة؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ الْمركب مَوْضُوعا لافتقر كل مركب إِلَى سَماع من الْعَرَب كالمفردات) . وَحكى ابْن إياز عَن ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 شَيْخه نَحوه. وَالصَّحِيح: أَنه مَوْضُوع، بِدَلِيل أَن لَهُ قوانين فِي الْعَرَبيَّة لَا يجوز تغييرها، وَمَتى غيرت حكم عَلَيْهَا بِأَنَّهَا لَيست عَرَبِيَّة، كتقديم الْمُضَاف إِلَيْهِ على الْمُضَاف، وَإِن قدم فِي غير لُغَة الْعَرَب، وكتقديم الصِّلَة أَو معمولها على الْمَوْصُول، وَغير ذَلِك مِمَّا لَا ينْحَصر، فحجروا فِي التَّرْكِيب كَمَا فِي الْمُفْردَات، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب وَغَيره / حَيْثُ قَالَ: (وأقسامها مُفْرد ومركب) ، وَكَذَا ابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيرهمَا من أَصْحَابنَا. قَالَ الْقَرَافِيّ: (وَهُوَ الصَّحِيح) ، وَعَزاهُ غَيره إِلَى الْجُمْهُور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَالتَّحْقِيق أَن يُقَال: إِن أُرِيد أَنْوَاع المركبات فَالْحق أَنَّهَا مَوْضُوعَة، أَو جزيئات النَّوْع فَالْحق الْمَنْع، وَيَنْبَغِي أَن ينزل المذهبان على ذَلِك) . وَمِمَّا يتَفَرَّع على الْخلاف مَا سَيَأْتِي أَن الْمجَاز، هَل يكون فِي التَّرْكِيب، وَأَن العلاقة هَل تشْتَرط فِي آحاده؟ وَنَحْو ذَلِك. قَوْله: {وَمثله: الْمثنى وَالْجمع} . الْمثنى وَالْجمع، هَل هما من قبيل الْمُفْرد فيكونان مَوْضُوعَيْنِ، أَو من قبيل الْمركب لشبههما بِهِ فَلَا يكونَانِ مَوْضُوعَيْنِ؟ على الْخلاف السَّابِق فِيهِ وَظَاهر كَلَام ابْن مَالك فِي " التسهيل " الثَّانِي، حَيْثُ قَالَ: (التَّثْنِيَة: جعل الِاسْم الْقَابِل دَلِيل اثْنَيْنِ متفقين) إِلَى آخِره. وَقَالَ فِي " الْجمع ": (جعله دَلِيل مَا فَوق اثْنَيْنِ) إِلَى آخِره. وَبَعْضهمْ يَقُول: الْمثنى: مَا وضع لاثْنَيْنِ، وَالْجمع: مَا وضع لأكْثر، فَيَقْتَضِي أَنه مَوْضُوع؛ لِأَنَّهُ [مُقَرر] على قوانين لَا يجوز الْإِخْلَال بهَا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وَيَنْبَغِي أَن يجْرِي فِيهِ مَا سبق فِي المركبات، وَهُوَ الْوَضع فِي الْأَنْوَاع لَا فِي الجزئيات، وَيحمل كَلَام الْفَرِيقَيْنِ على ذَلِك، وَيَأْتِي هَل الْمجَاز الْمركب مَوْضُوع فِي الْكَلَام على اشْتِرَاط النَّقْل فِي الْآحَاد؟ قَوْله: {وَهُوَ جملَة: وَهِي مَا وضع لإِفَادَة نِسْبَة، وَهُوَ الْكَلَام} . يَعْنِي: أَن الْمركب يكون جملَة وَغير جملَة، وَالْجُمْلَة [إِن أَفَادَ نِسْبَة فَهُوَ الْكَلَام] ، وَإِلَّا فَلَا، وَلذَلِك قُلْنَا: وَهِي مَا وضع لإِفَادَة نِسْبَة، أَي: لفظ وضع لإِفَادَة نِسْبَة، أَي: إِسْنَاد إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى لإِفَادَة الْمُخَاطب معنى يَصح سُكُوته عَلَيْهِ، مثل: زيد قَائِم، وَقَامَ زيد، فَيخرج الْمركب الإضافي كغلام زيد وَنَحْوه؛ لِأَنَّهُ لم يفد الْمُخَاطب معنى يَصح السُّكُوت عَلَيْهِ. وَاخْتَارَ أَبُو حَيَّان وَغَيره: أَن الْجُمْلَة وَالْكَلَام مُتَرَادِفَانِ، وَالصَّوَاب: أَن الْجُمْلَة أَعم؛ لصدقها على [مَا لَا يُفِيد] أَو لَا يُفِيد فَائِدَة / يحسن السُّكُوت عَلَيْهَا، كجملة الصِّلَة، وَجُمْلَة الشَّرْط، وَجُمْلَة الْجَزَاء وَنَحْوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 قَوْله: {وَلَا يتألف إِلَّا من اسْمَيْنِ، أَو اسْم وَفعل} . وَذَلِكَ لِأَن الْجُمْلَة تَتَضَمَّن الْإِسْنَاد، والإسناد يَقْتَضِي مُسْندًا وَمُسْندًا إِلَيْهِ، وَالِاسْم يصلح لَهما، وَالْفِعْل يصلح أَن يكون مُسْندًا وَلَا يصلح أَن يكون مُسْندًا إِلَيْهِ، والحرف لَا يصلح لشَيْء مِنْهُمَا. والتركيب الْعقلِيّ من كَلِمَتَيْنِ يَشْمَل سِتّ صور: اسْم مَعَ اسْم، وَاسم مَعَ فعل، وَاسم مَعَ حرف، وَفعل مَعَ فعل، وَفعل مَعَ حرف، وحرف مَعَ حرف. فالأربعة الْأَخِيرَة لَا تتأتى مِنْهَا الْجُمْلَة، إِمَّا لعدم الْمسند، أَو لعدم الْمسند إِلَيْهِ، أَو [لعدمهما] . لَكِن خَالف الْجِرْجَانِيّ وَغَيره فِي حرف اسْم ك " يَا زيد "، وَقَالَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " وَغَيره، وَحَكَاهُ ابْن مُفْلِح عَن الْكُوفِيّين. ورد: بِأَنَّهُ مفعول لفعل مَحْذُوف دلّ عَلَيْهِ حرف النداء، وَالتَّقْدِير: أَدْعُو، أَو أنادي زيدا. قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": (وَيَا زيد، والشرطية نَحْو: إِن تقم أقِم، فعليتان) . فَلذَلِك لم أعرج على ذَلِك فِي الْمَتْن. وَقَالَ ابْن الباقلاني وَأَبُو الْمَعَالِي: يتركب من حرف وَفعل وتعلقا بإفادة نَحْو: قد قَامَ. ورد: بِأَن فِيهِ ضميراً مستتراً. ولضعف ذَلِك تَرَكْنَاهُ. قَوْله: {من مُتَكَلم وَاحِد، قَالَه الباقلاني، وَالْغَزالِيّ، وَابْن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 مُفْلِح، وَغَيرهم، وَخَالف [جمع] } . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " - لما قَالَ: (وَلَا يتألف عِنْد النُّحَاة إِلَّا من اسْمَيْنِ أَو فعل وَاسم) -: (وَالْمرَاد من شخص وَاحِد، لِأَنَّهُ لابد من مُسْند ومسند إِلَيْهِ) . وَقَالَ جمع: يجوز أَن يكون من متكلمين فَأكْثر بِأَن يصطلح اثْنَان بِأَن يذكر هَذَا الْفِعْل وَهَذَا الْفَاعِل، أَو أحدهماالمبتدأ وَالْآخر الْخَبَر وَقَالَهُ ابْن مَالك، ورد الأول: (بِأَن الْخط لَا يَتَعَدَّد بِتَعَدُّد الْكَاتِب مَعَ كَونه كِتَابَة فَكَذَلِك هُنَا) ، وَكَذَلِكَ أَبُو حَيَّان فِي " الارتشاف ". وَأجَاب ابْن مَالك بِجَوَاب آخر وَهُوَ التَّحْقِيق: (أَن الْكَلَام لَا بُد لَهُ من إِسْنَاد، وَهُوَ لَا يكون إِلَّا من وَاحِد، فَإِن وجد من كل وَاحِد مِنْهُمَا / إِسْنَاد بالإرادة، فَكل وَاحِد مِنْهُمَا مُتَكَلم بِكَلَام مركب، وَلَكِن حذف بعضه لدلَالَة الآخر عَلَيْهِ، فَلم يُوجد كَلَام من متكلمين، بل كلامان من اثْنَيْنِ) انْتهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 قلت: قَالَ أَبُو حَيَّان فِي " الارتشاف ": (لَا يشْتَرط فثي كَلَام أَن يكون من نَاطِق وَاحِد على الصَّحِيح) انْتهى. وَذكر أَصْحَابنَا فرعا مترتبا على ذَلِك وَهُوَ مَا إِذا قَالَ رجل: امْرَأَة فلَان طَالِق، فَقَالَ الزَّوْج: ثَلَاثًا وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (هِيَ تشبه مَا لَو قَالَ: لي عَلَيْك ألف، فَقَالَ: صِحَاح، وفيهَا وَجْهَان، - قَالَ -: وَهَذَا أصل فِي الْكَلَام من اثْنَيْنِ إِن أَتَى الثَّانِي بِالصّفةِ وَنَحْوهَا هَل يكون متمماً [للْأولِ] أم لَا؟ انْتهى. قَوْله: {وحيوان نَاطِق، و " كَاتب " فِي زيد كَاتب، [لم يفد] نِسْبَة} . هَذَا جَوَاب عَن سُؤال مُقَدّر تَقْدِيره: إِن الْحَد الْمَذْكُور للجملة غير مطرد، ضَرُورَة صدقه على الْمركب التقييدي، وعَلى نَحْو (كَاتب) فِي قَوْله: زيد كَاتب، وَالْمرَاد بالمركب التقييدي: الْمركب من اسْمَيْنِ، أَو اسْم وَفعل، يكون الثَّانِي قيدا فِي الأول، وَيقوم مقامهما لفظ مُفْرد مثل: حَيَوَان نَاطِق، وَالَّذِي يكْتب، فَإِنَّهُ يقوم مقَام الأول الْإِنْسَان، ومقام الثَّانِي الْكَاتِب. وَإِنَّمَا قُلْنَا: (الْحَد يصدق عَلَيْهِمَا) ؛ لِأَن الأول لفظ وضع لإِفَادَة نِسْبَة تقييدية، وَالثَّانِي وضع لإِفَادَة نِسْبَة اسْم الْفَاعِل إِلَى الضَّمِير الَّذِي هُوَ فَاعله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وَالْجَوَاب أَن يُقَال: لَا نسلم أَن الْحَد يصدق عَلَيْهِمَا؛ لِأَن المُرَاد بإفادة النِّسْبَة: إِفَادَة نِسْبَة يحسن السُّكُوت عَلَيْهَا، وهما لم يوضعا لإِفَادَة نِسْبَة كَذَلِك. قَوْله: {وَغير جملَة بخلافة} . أَي: الْمركب يَنْقَسِم إِلَى جملَة، وَغير جملَة، فَتقدم الْكَلَام على الْجُمْلَة: وَهُوَ مَا وضع لإِفَادَة نِسْبَة، وَالَّذِي لم يوضع [لإِفَادَة] نِسْبَة هُوَ غير جملَة، فيندرج فِيهِ المركبات التقييدية، و (كَاتب) فِي زيد كَاتب، وَنَحْوهمَا كغلام زيد وَنَحْوه. قَوْله: {وَيُسمى مُفردا أَيْضا} . وَإِنَّمَا قُلْنَا: (أَيْضا) ؛ لِأَن الْمُفْرد يصدق وَيُطلق على مُقَابل الْجُمْلَة، / وعَلى مُقَابل الْمثنى وَالْجمع، وعَلى مُقَابل الْمركب. فَيُقَال: مُفْرد وَجُمْلَة، ومفرد ومثنى ومجموع، ومفرد ومركب، إطلاقاً متعارفاً. قَوْله: {وَيُرَاد بِالْكَلِمَةِ: الْكَلَام، [و] بالْكلَام: الْكَلِمَة، والكلم الَّذِي لم يفد} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 ورد تَسْمِيَة الْكَلَام بِكَلِمَة فِي الْكتاب، وَالسّنة، وَكَلَام الْعَرَب. قَالَ تَعَالَى: {قَالَ رب ارْجِعُونِ لعَلي أعمل صلحا فِيمَا تركت كلا أَنَّهَا كلمة هُوَ قَائِلهَا} [الْمُؤْمِنُونَ: 99 - 100] ، فَسمى ذَلِك كُله كلمة. وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أصدق كلمة قَالَهَا [شَاعِر] كلمة لبيد أَلا كل شَيْء مَا خلا الله بَاطِل "، فَسمى ذَلِك كُله كلمة. وَهُوَ مجَاز مهمل فِي عرف النُّحَاة، فَقيل: هُوَ من تَسْمِيَة الشَّيْء باسم بعضه، وَقيل: لما ارْتبط أَجزَاء الْكَلَام بَعْضهَا بِبَعْض حصل لَهُ بذلك وحدة، فشابه بهَا الْكَلِمَة، فَأطلق عَلَيْهِ كلمة. وَقَوله: (وبالكلام الْكَلِمَة) ، أَي: يُرَاد بالْكلَام الْكَلِمَة، عكس الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 فَيُقَال: تكلم بِكَلَام، ومرادهم بِكَلِمَة. قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَقَالَ بَعضهم: يُرَاد بالْكلَام الْكَلِمَة، قَالَ سِيبَوَيْهٍ فِي قَوْلهم: من أَنْت زيد؟ : " مَعْنَاهُ: من أَنْت كلامك زيد؟ " وَقَالَهُ أَبُو الْحُسَيْن وَغَيره) . وَيُرَاد بالْكلَام - أَيْضا - الْكَلم الَّذِي لم يفد، فَلَو أَفَادَ سمي كلَاما وَكلما، وَحَكَاهُ ابْن مُفْلِح قولا. وَاعْلَم أَن للْكَلَام فِي اللُّغَة إطلاقات، أَحدهَا: إِطْلَاق الْكَلَام على مُطلق التَّلَفُّظ وَلَو بِكَلِمَة وَاحِدَة، وَمِنْه حَدِيث الْبَراء بن عَازِب - رَضِي الله عَنهُ -: (أمرنَا بِالسُّكُوتِ ونهينا عَن الْكَلَام) ، فَيشْمَل الْكَلِمَة الْوَاحِدَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وَحَدِيث ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ -: " وَإِن مِمَّا أحدث أَن لَا تكلمُوا فِي الصَّلَاة ". وَتقول: تكلم الصَّبِي، تُرِيدُ أصل التَّلَفُّظ وَإِن لم يفد. وَلَو حلف أَن لَا يتَكَلَّم، حنث بِمُطلق اللَّفْظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وَهَذَا المُرَاد بقولنَا: (وبالكلام الْكَلِمَة والكلم الَّذِي لم يفد) . الثَّانِي: الْخط، وَمِنْه: قَوْلهم: مَا بَين دفتي الْمُصحف / كَلَام الله. الثَّالِث: الرَّمْز، وَمِنْه: قَوْله تَعَالَى: {ءايتك أَلا تكلم النَّاس ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا رمزاً} [آل عمرَان: 41] ، فاستثنى الرَّمْز من الْكَلَام، قَالَه الْبرمَاوِيّ. قلت: الْجُمْهُور قَالُوا: إِن الاستثاء مُنْقَطع، فَلَا يكون مِمَّا نَحن فِيهِ. الرَّابِع: مَا يفهم من حَال الشَّيْء كَقَوْل الشَّاعِر: (امْتَلَأَ الْحَوْض وَقَالَ قطني ... ) (مهلا رويداً قد مَلَأت بَطْني ... ) قَوْله: {قَالَ الشَّيْخ: [مُسَمّى] الْكَلَام وَالْقَوْل عِنْد الْإِطْلَاق يتَنَاوَل اللَّفْظ وَالْمعْنَى جَمِيعًا، [كتناول] الْإِنْسَان الرّوح وَالْبدن، عِنْد السّلف والفققهاء، وَالْأَكْثَر، وَقَالَ كثير من أهل الْكَلَام: مُسَمَّاهُ اللَّفْظ، وَالْمعْنَى [لَيْسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 جزءه بل مَدْلُوله، وَقَالَهُ] النُّحَاة؛ لتَعلق صناعتهم بِاللَّفْظِ، وَقَالَ ابْن كلاب وَأَتْبَاعه: مُسَمَّاهُ الْمَعْنى، وَبَعض أَصْحَابه: مُشْتَرك بَينهمَا، وَعَن الْأَشْعَرِيّ وَغَيره، مجَاز فِي كَلَام الله تَعَالَى} . ذكر الشَّيْخ تَقِيّ الدّين كَلَامه هَذَا فِي أَمَاكِن كَثِيرَة من تصانيفه، كالرد على الرافضي، وَغَيره، وَقَالَ فِي مَوضِع: (كَمَا أَن لفظ الْإِنْسَان قيل: هُوَ حَقِيقَة فِي الْبدن فَقَط، وَقيل: فِي الرّوح فَقَط، وَالصَّوَاب: أَنه حَقِيقَة فِي الْمَجْمُوع فالنزاع فِي النَّاطِق كالنزاع فِي منْطقَة) انْتهى. وَقَالَ كثير من أهل الْكَلَام: مُسَمّى الْكَلَام هُوَ اللَّفْظ، وَأما الْمَعْنى فَلَيْسَ جزءه بل مَدْلُوله، وَقَالَهُ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 النحاه وَغَيرهم وَذَلِكَ لتَعلق صناعتهم بِاللَّفْظِ فَقَط. وَعكس عبد الله بن كلاب وَأَتْبَاعه ذَلِك، فَقَالُوا: مُسَمّى الْكَلَام الْمَعْنى فَقَط لَا اللَّفْظ. وَقَالَ بعض أَصْحَاب ابْن كلاب: مُشْتَرك بَين اللَّفْظ وَالْمعْنَى، فيسمى اللَّفْظ كلَاما حَقِيقَة، وَيُسمى الْمَعْنى كلَاما حَقِيقَة. وَرُوِيَ عَن الْأَشْعَرِيّ وَبَعض الْكلابِيَّة: مجَاز فِي كَلَام الله تَعَالَى؛ لِأَن الْكَلَام الْعَرَبِيّ عِنْدهم لَا يقوم بِهِ تَعَالَى، وَهُوَ حَقِيقَة فِي كَلَام الْآدَمِيّين؛ لِأَن حُرُوف الْآدَمِيّين تقوم بهم. قَالَ / الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (اتّفق الْمُسلمُونَ على أَن الْقُرْآن كَلَام الله، فَإِن كَانَ كَلَامه هُوَ الْمَعْنى فَقَط [وَالنّظم الْعَرَبِيّ الَّذِي] يدل على الْمَعْنى لَيْسَ كَلَام الله، كَانَ مخلوقاً خلقه الله تَعَالَى فِي غَيره، فَيكون كلَاما لذَلِك الْغَيْر، لِأَن الْكَلَام إِذا خلق فِي مَحل كَانَ كلَاما لذَلِك الْمحل، فَيكون الْكَلَام الْعَرَبِيّ لَيْسَ كَلَام الله بل كَلَام غَيره، وَمن الْمَعْلُوم بالاضطرار من دين الْمُسلمين أَن الْكَلَام الْعَرَبِيّ الَّذِي بلغه مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الله تَعَالَى أعلم أمته أَنه كَلَام الله تَعَالَى لَا كَلَام غَيره، وَهَذَا يبطل قَول من قَالَ من الْمُتَأَخِّرين: إِن الْكَلَام يُقَال بالاشتراك على اللَّفْظ وَالْمعْنَى، فَيُقَال لَهُم: إِذا كَانَ كل مِنْهُمَا يُسمى كلَاما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 حَقِيقَة امْتنع أَن يكون وَاحِد مِنْهُمَا مخلوقاً، إِذْ لَو كَانَ مخلوقاً لَكَانَ كلَاما للمحل الَّذِي خلق فِيهِ، وَلِهَذَا لم يكن قدماء الْكلابِيَّة يَقُولُونَ بالاشتراك، لِأَنَّهُ يبطل حجتهم على الْمُعْتَزلَة وَيُوجب عَلَيْهِم القَوْل بِأَن كَلَام الله مَخْلُوق، لَكِن يَقُولُونَ: إِن إِطْلَاق الْكَلَام على اللَّفْظ بطرِيق الْمجَاز، وعَلى الْمَعْنى بطرِيق الْحَقِيقَة، فَعلم متأخرهم أَن هَذَا فَاسد بِالضَّرُورَةِ، وَأَن اسْم الْكَلَام يتَنَاوَل اللَّفْظ حَقِيقَة فجعلوه مُشْتَركا، فلزمهم أَن يكون كَلَام الله مخلوقاً، فهم بَين محذورين: إِمَّا القَوْل بِأَن كَلَام [الله] مَخْلُوق، وَإِمَّا القَوْل بِأَن الْقُرْآن الْعَرَبِيّ لَيْسَ [كَلَام] الله، وكلا الْأَمريْنِ مَعْلُوم الْفساد. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بعد ذَلِك: (لَا نمْنَع الْمَعْنى وَحده أَن يُسمى كلَاما كَمَا يُسمى اللَّفْظ وَحده كلَاما، لَكِن الْكَلَام فِي الْقُرْآن الَّذِي هُوَ لفظ وَمعنى، هَل جَمِيعه كَلَام الله؟ أَو لَفظه كَلَام الله دون مَعْنَاهُ؟ أَو مَعْنَاهُ كَلَام الله دون لَفظه؟ وَمن الْمَعْلُوم بالاضطرار من دين الْإِسْلَام أَن الْجَمِيع كَلَام الله) انْتهى. وَيَأْتِي الْكَلَام / على هَذَا وَغَيره فِي أَوَائِل الْكَلَام على الْكتاب بأتم من هَذَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 قَوْله: {فصل} {الدّلَالَة: مصدر دلّ، وَهِي [مَا] يلْزم من فهمه فهم شَيْء آخر [بِلَفْظ] أَو غَيره] ، [فاللفظية] : طبعية، وعقلية، ووضعية، [وَهِي - أَي الوضعية -: كَون اللَّفْظ إِذا أطلق فهم الْمَعْنى الَّذِي لَهُ بِالْوَضْعِ] ، فدلالته -[أَي اللَّفْظ]- الوضعية على مُسَمَّاهُ: [مُطَابقَة] ، وعَلى جزئه: تضمن، [وعَلى لَازمه الْخَارِج، وَقيل: الذهْنِي: الْتِزَام] } . لَا شكّ أَن الدّلَالَة مصدر دلّ، إِذْ قد يُقَال: دلّ يدل دلَالَة بِفَتْح الدَّال على الْأَفْصَح وبكسرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وَقيل: بِالْفَتْح فِي الْأَعْيَان، وبالكسر فِي الْمعَانِي، كَمَا تقدم. وَمعنى الدّلَالَة: الْإِرْشَاد إِلَى الشَّيْء، وَتقدم مَعْنَاهُ فِي الدَّلِيل، فَإِنَّهُ من الْمَادَّة. وَهِي هُنَا: كَون الشَّيْء بِحَيْثُ يلْزم من فهمه فهم شَيْء آخر، فالشيء الأول هُوَ الدَّال، وَالثَّانِي هُوَ الْمَدْلُول. وَقَالَ بَعضهم: هِيَ كَون الشَّيْء بِحَالَة يلْزم من الْعلم بِهِ الْعلم بِشَيْء آخر، وَسَوَاء كَانَ ذَلِك بِلَفْظ أَو غَيره؛ لِأَن الدّلَالَة تَارَة تكون لفظية، وَتارَة تكون غير لفظية. فاللفظية: هِيَ [المستندة] لوُجُود اللَّفْظ، إِذا ذكر وجدت، وتنقسم ثَلَاثَة أَقسَام: طبعية، وعقلية، ووضعية. فالطبعية: كدلالة (أح أح) على وجع فِي الصَّدْر. والعقلية: كدلالة الصَّوْت على حَيَاة صَاحبه. والوضعية: وَهِي كَون اللَّفْظ إِذا أطلق فهم الْمَعْنى الَّذِي هُوَ لَهُ بِالْوَضْعِ، سَوَاء كَانَ بِوَضْع اللُّغَة، أَو الشَّرْع، أَو الْعرف، لذَلِك اللَّفْظ، فَهِيَ غير الوضعية الَّتِي هِيَ [قسيم] اللفظية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 فالوضعية هُنَا من الدلالات اللفظية، وَهِي المرادة، وَهِي ثَلَاثَة أَقسَام، وَلذَلِك قُلْنَا: (ودلالته الوضعية) ، أَي: وَدلَالَة اللَّفْظ الوضعية على مُسَمَّاهُ: مُطَابقَة، أَي: دلَالَة مُطَابقَة، كدلالة الْإِنْسَان على الْحَيَوَان النَّاطِق، وَيَقَع فِي عبارَة [كثير] من الْعلمَاء كالرازي، والبيضاوي، وَابْن / الْحَاجِب، والهندي، والأبهري، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم: على تَمام مُسَمَّاهُ، وَهِي قَاصِرَة لخُرُوج مَا لَا جُزْء لَهُ كاسم الله، والجوهر الْفَرد، وَسَائِر البسائط، فَلَا يُقَال فِيهِ: تَمام، فَإِنَّهُ لَا جُزْء لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وَإِنَّمَا سميت هَذِه الدّلَالَة مُطَابقَة؛ لِأَن اللَّفْظ مُوَافق لتَمام مَا وضع لَهُ، من قَوْلهم: طابق النَّعْل النَّعْل: إِذا توافقتا، فاللفظ مُوَافق للمعنى لكَونه مَوْضُوعا بإزائه. وَدلَالَة اللَّفْظ على جُزْء مُسَمَّاهُ: دلَالَة تضمن، كدلالة الْإِنْسَان على حَيَوَان فَقَط، أَو نَاطِق فَقَط، سمي بذلك لتَضَمّنه إِيَّاه؛ لِأَنَّهُ يدل على الْجُزْء الَّذِي فِي ضمنه، فَيكون دَالا على مَا فِي ضمنه. وَدلَالَة اللَّفْظ على لَازمه الْخَارِج - كدلالة الْإِنْسَان على كَونه ضَاحِكا أَو قَابلا صَنْعَة الْكِتَابَة -: دلَالَة الْتِزَام؛ لِأَنَّهَا دلّت على مَا هُوَ خَارج عَن الْمُسَمّى لكنه لَازم لَهُ، كَمَا مثلناه، لِأَن اللَّفْظ لَا يدل على كل أَمر خَارج عَنهُ بل على الْأَمر الْخَارِج اللَّازِم لَهُ. وَقَوله: (وَقيل الذهْنِي) ، لم يشْتَرط أَكثر الْأُصُولِيِّينَ وأرباب الْبَيَان اللُّزُوم الذهْنِي فِي دلَالَة الِالْتِزَام؛ بل قَالُوا باللزوم مُطلقًا أَعم أَن يكون ذهنياً أَو خارجياً، وَسَوَاء كَانَ الذهْنِي فِي ذهن كل أحد كَمَا فِي الْعَدَم والملكة، أَو عِنْد الْعَالم بِالْوَضْعِ، أَو غير ذَلِك، وَلِهَذَا يجْرِي فِيهَا الوضوح والخفاء بِحَسب اخْتِلَاف الْأَشْخَاص وَالْأَحْوَال، وَذَلِكَ كدلالة الْقَرِينَة على الْمَعْنى الْمجَازِي. وَلَكِن عِنْد التَّحْقِيق؛ ترى أَرْبَاب هَذَا القَوْل يرجعُونَ إِلَى لُزُوم ذهني وَلَو بِقَرِينَة تدل عَلَيْهِ وَأَصله خارجي، وَذَلِكَ [ينْقل] الذِّهْن، وفَاقا لمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 قَالَه وهم المناطقة، فَإِنَّهُم هم وَقوم من الْأُصُولِيِّينَ اشترطوا اللُّزُوم الذهْنِي ليحصل الْفَهم، لَا الْخَارِجِي، فَقَوْلهم أخص، وَذَلِكَ لِأَن اللَّفْظ غير مَوْضُوع للازم، فَلَو لم يكن كَانَ اللَّازِم بِحَيْثُ يلْزم من تصور مُسَمّى اللَّفْظ تصَوره لما فهم. / تَنْبِيه: اسْتشْكل انحصار الدّلَالَة فِي الثَّلَاثَة بِدلَالَة الْعَام على جزئي مِنْهُ، كدلالة الْمُشْركين على زيد مِنْهُم، فَإِنَّهُ لَيْسَ مُطَابقَة إِذْ لَيْسَ هُوَ جَمِيع الْمُشْركين، وَلَا تضمناً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ جُزْءا مِنْهُم بل جزئياً - وَسَيَأْتِي الْفرق بَينهمَا - وَلَا التزاماً؛ لِأَنَّهُ دخل فِي لفظ الْمُشْركين [بِوَصْف] الشّرك. وَقد يُجَاب: بادعاء كَونه من الْمُطَابقَة: بِاعْتِبَار صدق الْمُشرك عَلَيْهِ من حَيْثُ هُوَ، وَهُوَ مَوْضُوع اللَّفْظ، والكمية فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ والجزئية خَارِجَة عَمَّا وضع لَهُ اللَّفْظ الَّذِي هُوَ كلي. وبادعاء كَونه من الِالْتِزَام: لِأَن لَازم هَذِه الْمَاهِيّة الْمَوْضُوع لَهَا الْعُمُوم كل فَرد فَرد، فالفرد لَازم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 قَوْله: {وَهِي [- دلَالَة الِالْتِزَام -] عقلية، وَقَالَ الرَّازِيّ وَغَيره: والتضمن أَيْضا، وَقيل: الثَّلَاثَة لفظية} . هَذَا إِشَارَة إِلَى تَحْقِيق الْخلاف الْمَشْهُور فِي الدلالات الثَّلَاث، هَل هِيَ كلهَا لفظية، أَو الْمُطَابقَة فَقَط والأخريان عقليتان، أَو الْمُطَابقَة والتضمن لفظيتان والالتزام عقلية؟ ثَلَاثَة مَذَاهِب: الْمَذْهَب الأول - وَهُوَ أَنَّهَا كلهَا لفظية - قَول الْأَكْثَر، لِأَن الِاسْتِنَاد للفظ فِي كل من الثَّلَاث، إِذْ هُوَ وَاسِطَة فِي الدّلَالَة على الْجُزْء وَاللَّازِم، فَكَانَ كالمطابقة. الْمَذْهَب الثَّانِي - وَهُوَ أَن الْمُطَابقَة فَقَط لفظية والتضمن والالتزام عقليتان - قَول الرَّازِيّ، والتلمساني، والهندي، وَغَيرهم، لِأَن اللَّفْظ الْمَوْضُوع للْكُلّ لم يوضع للجزء وَلَا للازم، فَمَا دلّ إِلَّا بِوَاسِطَة تضمنه لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 عقلا ولازميته لَهُ عقلا، فَلذَلِك ينْتَقل الذِّهْن من الْمُسَمّى إِلَيْهِمَا انتقالاً من الْمَلْزُوم إِلَى اللَّازِم، فهما عقليتان تابعتان للوضع، وَلَا يعْتَبر اللُّزُوم الْعقلِيّ، إِذْ يَصح إِطْلَاق الْمُطلق على الْمُقَيد والجزء على الْكل، والأعم لَا يسْتَلْزم الْأَخَص والجزء لَا يسْتَلْزم الْكل. وَالْمذهب الثَّالِث / - وَهُوَ كَون الْمُطَابقَة والتضمن لفظيتين والالتزام عقلية - قَول الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ فِي الْمَتْن؛ لِأَن الْجُزْء دَاخل فِيمَا وضع لَهُ اللَّفْظ بِخِلَاف اللَّازِم فَإِنَّهُ خَارج عَنهُ. وَقَالَ بَعضهم: (الْخلاف لَفْظِي وَإنَّهُ لَا خلاف فِي الْمَعْنى، وَلأَجل ذَلِك كَانَ تَقْسِيم الدّلَالَة اللفظية إِلَى الثَّلَاثَة، فاللفظ مُعْتَبر فِيهَا قطعا وَإِلَّا فَكَانَ يلْزم أَن يدْخل فِي الْمقسم مَا لَيْسَ مِنْهُ) . قَوْله: { [والمطابقة أَعم، وَيُوجد مَعهَا تضمن بِلَا الْتِزَام، وَعَكسه، وَقَالَ الرَّازِيّ: الِالْتِزَام لَازم لَهَا] ، وهما أَعم من التضمن} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 دلَالَة الْمُطَابقَة أَعم من دلَالَة التضمن والالتزام، لجَوَاز كَون الْمُطَابقَة بسيطة لَا تضمن فِيهَا وَلَا لَازم لَهَا ذهني، وَدلَالَة التضمن قد تُوجد مَعَ الْمُطَابقَة وَلَا يُوجد الْتِزَام، وَعَكسه، وَهُوَ وجود الْتِزَام مَعهَا وَلَا يُوجد تضمن، وَصرح بِهِ الشريف الْجِرْجَانِيّ فِي مقدمته فِي " الْمنطق " فَقَالَ: (إِذا كَانَ اللَّفْظ مَوْضُوعا لِمَعْنى بسيط وَلَيْسَ لَهُ لَازم ذهني فتوجد الْمُطَابقَة بِدُونِ التضمن والالتزام، فَإِن كَانَ لَهُ لَازم ذهني فتوجد مَعَ الْمُطَابقَة دلَالَة الِالْتِزَام بِدُونِ دلَالَة التضمن، وَإِذا كَانَ اللَّفْظ مَوْضُوعا لِمَعْنى مركب وَلَا يكون لَهُ لَازم ذهني فيوجد مَعَ الْمُطَابقَة دلَالَة التضمن بِدُونِ دلَالَة الِالْتِزَام) انْتهى. وَلم يحضرني الْآن مِثَال للآخرين. قَالَ الْقَرَافِيّ: (بَين الدلالات الثَّلَاث عُمُوم وخصوص، فالمطابقة أعلم مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ كلما وجدت دلَالَة التضمن أَو الِالْتِزَام وجدت دلَالَة الْمُطَابقَة؛ لِأَن ثمَّ مُسَمّى حِينَئِذٍ، فاللفظ يدل عَلَيْهِ مُطَابقَة، وَقد تُوجد دلَالَة الْمُطَابقَة وَلَا يوجدان فِي اللَّفْظ الْمَوْضُوع للبسائط الَّتِي لَيست لَهَا لَوَازِم بَيِّنَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وَأما هما؛ فَكل وَاحِد أعلم من الآخر واخص من وَجه، فيوجد التضمن بِدُونِ الِالْتِزَام فِي اللَّفْظ الْمَوْضُوع للمركبات الَّتِي لَيست لَهَا لَوَازِم / بَيِّنَة، والإلتزام بِدُونِ التضمن فِي اللَّفْظ الْمَوْضُوع للبسائط الَّتِي لَهَا لَوَازِم بَيِّنَة، ويجتمعان فِي اللَّفْظ الْمَوْضُوع للمركبات الَّتِي لَهَا لَوَازِم بَيِّنَة) انْتهى. وَقَالَ الْقَرَافِيّ أَيْضا: (وَقع للْإِمَام وَغَيره: أَن دلَالَة الْمُطَابقَة حَقِيقَة والأخريين مجازان، قَالَ: وَهُوَ غير مُسْتَقِيم) ، وَبَين ذَلِك، ذكره الأسيوطي فِي " شرح منظومة جمع الْجَوَامِع " لَهُ. وَمَا قُلْنَا: (إِن دلَالَة الْمُطَابقَة أَعم من الدلالتين) ، هُوَ الصَّحِيح عِنْدهم، وَنَصره القطب الشِّيرَازِيّ وَغَيره فَقَالَ: (لجَوَاز أَن يكون من الماهيات مَا لَا يسْتَلْزم شَيْئا كَذَلِك، فَإِذا كَانَ لفظا مَوْضُوعا لتِلْك الْمَاهِيّة كَانَ دلَالَته عَلَيْهَا مُطَابقَة وَلَا الْتِزَام لانْتِفَاء شَرطه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وَزعم الرَّازِيّ - وَتَبعهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل، وَحَكَاهُ الْهِنْدِيّ عَن الْأَكْثَر -؛ أَن الْمُطَابقَة مستلزمة للالتزام، لِأَن تصور كل مَاهِيَّة يسْتَلْزم تصور لَازم من لوازمها، وَأقله أَنَّهَا لَيست غَيرهَا، وَاللَّفْظ إِذا دلّ على الْمَلْزُوم بالمطابقة دلّ على اللَّازِم فِي التَّصَوُّر بالالتزام. وَجَوَابه: أَنا لَا نسلم أَن تصور كل مَا هية يسْتَلْزم تصور أَنَّهَا لَيست غَيرهَا، فكثيراً مَا نتصور ماهيات وَلم يخْطر ببالنا غَيرهَا فضلا عَن أَنَّهَا لَيست غَيرهَا، وَمن هُنَا تبين عدم استلزام التضمن الِالْتِزَام؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَا يعلم وجود لَازم ذهني لكل مَا هية لم يعلم [أَيْضا] وجود لَازم ذهني لكل مَاهِيَّة مركبة، فَجَاز أَن يكون فِي الماهيات المركبة مَا لَا يكون لَهُ لَازم ذهني، فاللفظ الْمَوْضُوع بإزائه دَال على أَجْزَائِهِ بالتضمن والالتزام) ، قَالَه القطب. قَالَ ابْن مُفْلِح: (دلَالَة الِالْتِزَام مُسَاوِيَة لدلَالَة الْمُطَابقَة، وهما أَعم من التضمن لجَوَاز كَون الْمَدْلُول وَاللَّازِم بسيطاً لَا جُزْء لَهُ) انْتهى. قَوْله: {وَغير اللفظية [وضعية وعقلية] } . تقدم أَن الدّلَالَة تَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ / إِلَى لفظية، وَإِلَى غير لفظية، وَتقدم الْكَلَام على الدّلَالَة اللفظية وأنواعها وأحكامها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 وَأما الدّلَالَة غير اللفظية فَهِيَ قِسْمَانِ: وضعية، وعقلية. فالوضعية: كدلالة الأقدار على مقدوراتها، وَمِنْه دلَالَة السَّبَب على الْمُسَبّب ك (الدلوك) على وجوب الصَّلَاة، وكدلالة الْمَشْرُوط على وجود الشَّرْط كَالصَّلَاةِ على الطَّهَارَة وَإِلَّا لما صحت. قَالَ القطب الشِّيرَازِيّ فِي " شرح الشمسية ": ( [الدّلَالَة] الوضعية غير اللفظية كدلالة الْخط وَالْعقد وَالْإِشَارَة وَالنّصب) انْتهى. والعقلية: كدلالة الْأَثر على الْمُؤثر، وَمِنْه دلَالَة الْعَالم على موجده وَهُوَ الله تَعَالَى، وَنَحْو ذَلِك. قَوْله: {وَالدّلَالَة بِاللَّفْظِ: اسْتِعْمَاله فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز} . الدّلَالَة اللفظية تَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 أَحدهمَا: دلَالَة اللَّفْظ، وَالثَّانِي: الدّلَالَة بِاللَّفْظِ. قَالَ الخسروشاهي: (وَقد خَفِي على ابْن الْخَطِيب الْفرق بَين دلَالَة اللَّفْظ، وَالدّلَالَة بِاللَّفْظِ) انْتهى. فَمَا تقدم من الدلالات اللفظية هِيَ دلَالَة اللَّفْظ، وَأما الدّلَالَة بِاللَّفْظِ، فَهُوَ: اسْتِعْمَاله إِمَّا فِي مَوْضُوعه وَهُوَ الْحَقِيقَة، أَو فِي غير [مَوْضُوعه] لعلاقة وَهُوَ الْمجَاز. وَالْبَاء فِي قَوْله: (بِاللَّفْظِ) ، للاستعانة والسببية لِأَن الْإِنْسَان يدلنا على مَا فِي بِإِطْلَاق لَفظه، فإطلاق اللَّفْظ آلَة للدلالة، كالقلم للكتابة. إِذا علم ذَلِك؛ فَالْفرق بَين دلَالَة اللَّفْظ وَالدّلَالَة بِاللَّفْظِ من وُجُوه: أَحدهَا: من الْمحل، فَمحل دلَالَة اللَّفْظ الْقلب، وَمحل الدّلَالَة بِاللَّفْظِ وَاللِّسَان وَغَيره من المخارج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 الثَّانِي: من جِهَة الْمَوْصُوف، فدلالة اللَّفْظ صفة السَّامع، وَالدّلَالَة بِاللَّفْظِ صفة الْمُتَكَلّم. الثَّالِث: من جِهَة السَّبَب، فالدلالة بِاللَّفْظِ سَبَب، وَدلَالَة اللَّفْظ مسبب عَنْهَا. الرَّابِع: من جِهَة الْوُجُود، فَكلما وجدت دلَالَة اللَّفْظ وجدت الدّلَالَة بِاللَّفْظِ، بِخِلَاف الْعَكْس. الْخَامِس: من جِهَة / الْأَنْوَاع، فدلالة اللَّفْظ ثَلَاثَة أَنْوَاع: مُطَابقَة وتضمن والتزام، وَالدّلَالَة بِاللَّفْظِ نَوْعَانِ: حَقِيقَة ومجاز. قَالَ الْقَرَافِيّ: (فدلالة اللَّفْظ: فهم السَّامع من كَلَام الْمُتَكَلّم كَمَال الْمُسَمّى أَو جزءه أَو لَازمه، أَو كَونه بِحَيْثُ إِذا أطلق فهم السَّامع مِنْهُ ذَلِك، عبارتان للْمُتَقَدِّمين، وَالدّلَالَة بِاللَّفْظِ، هِيَ اسْتِعْمَاله فِي مَوْضُوعه أَو غَيره لعلاقة. قَالَ: وَالْفرق بَينهمَا وَاقع من خَمْسَة عشر وَجها: فَإِن الأولى صفة للسامع، وَالثَّانيَِة صفة للمتكلم. وَالْأولَى محلهَا الْقلب؛ لِأَنَّهُ موطن الْعلم والظنون، وَالْأُخْرَى محلهَا اللِّسَان وقصبة الرئة. وَالْأولَى علم أَو ظن، وَالْأُخْرَى أصوات مقطعَة. وَالْأولَى مَشْرُوط فِيهَا الْحَيَاة، وَالْأُخْرَى يَصح قِيَامهَا بالجماد، فَإِن الْأَصْوَات لَا تشْتَرط فِيهَا الْحَيَاة. وَالْأولَى تتنوع إِلَى مُطَابقَة وتضمن والتزام، وَلَا تعرض لِلْأُخْرَى. وَالثَّانيَِة إِلَى حَقِيقَة ومجاز، وَلَا يعرضان لتِلْك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وَالثَّانيَِة سَبَب، وَالْأولَى مسببة عَنْهَا. وَكلما وجدت الأولى وجدت الثَّانِيَة، لِأَن فهم مُسَمّى اللَّفْظ مِنْهُ فرع النُّطْق بِهِ وَلَا عكس، فقد يُوجد النُّطْق وَلَا يفهم الْمَدْلُول؛ لمَانع فِي السَّامع من غَفلَة، أَو جهل باللغة، وَنَحْو ذَلِك. وَالْأولَى حَقِيقَة وَاحِدَة لَا تخْتَلف فِي نَفسهَا؛ لِأَنَّهَا علم أَو ظن، وهما أَبَد الدَّهْر على حَالَة، وَالثَّانيَِة تخْتَلف لاخْتِلَاف الِاسْتِعْمَال بِوُجُوب التَّقْدِيم تَارَة وَمنعه أُخْرَى، إِلَى غير ذَلِك من اخْتِلَاف أوضاع اللُّغَات الْعَرَبيَّة وَغَيرهَا. وَالْأولَى لَا تدْرك بالحس، وَالثَّانيَِة تسمع. وَالثَّانيَِة بِاتِّفَاق الْعُقَلَاء من المصادر السيالة الَّتِي لَا تبقى زمانين، وَالْأولَى مُخْتَلف فِيهَا هَل تبقى أَو لَا؟ وَالْأولَى دَائِما مُسَمّى وَاحِد وَهِي علم أَو ظن، وَالثَّانيَِة [لَا تسمع غَالِبا إِلَّا من مسموعات عديدة] ، والنطق بالحرف الْوَاحِد نَحْو (ق) و (ع) نَادِر. وَالْأولَى تَأتي / من [الْأَخْرَس] ، بِخِلَاف الْأُخْرَى. وَالْأولَى يُمكن قِيَامهَا بِغَيْر المتحيز، وَالثَّانيَِة لَا تقوم إِلَّا بالمتحيز، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وَلذَلِك أحلنا الْأَصْوَات على الله، وَله الْعلم الْمُتَعَلّق بِجَمِيعِ المعلومات؟ وَالْأولَى لَا تتَصَوَّر من غير سميع فَإِن فهم معنى اللَّفْظ فرع سَمَاعه، بِخِلَاف الْأُخْرَى. وَالْأولَى لَا تُوصَف بِشَيْء مِمَّا تُوصَف بِهِ الثَّانِيَة من صِفَات الْكَلَام من الفصاحة واللكنة والتمتمة والجهورية وَغير ذَلِك) انْتهى كَلَام الْقَرَافِيّ. قَوْله: {والملازمة: عقلية، وشرعية، وعادية} . فالعقلية: كالزوجية للاثنين، والشرعية: كالوجوب للمكلف، والعادية كالسرير للارتفاع. قَوْله: {وَتَكون قَطْعِيَّة، وضعيفة جدا، وكلية، وجزئية} . فالقطعية: كالزوجية للاثنين أَيْضا، والضعيفة جدا: ككون عَادَة زيد [إِذا أَتَى يَحْجُبهُ عَمْرو] ، والكلية، كالزوجية للعشرة، والجزئية: كملازمة الْمُؤثر للأثر حَال حُدُوثه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 قَوْله {فصل} {إِذا اتَّحد اللَّفْظ ومدلوله} - أَي: مَعْنَاهُ - {واشترك فِي مَفْهُومه كثير} - يحملهُ عَلَيْهِم إِيجَابا لَا سلباً، لِأَن الجزئي يشْتَرك بَين كثيرين بسلبه عَنْهَا فَالْمُعْتَبر الْإِيجَاب - {وَلَو بِالْقُوَّةِ: فكلي، وَهُوَ ذاتي، وعرضي} . اعْلَم أَن معنى اللَّفْظ إِن لم يمْنَع تصَوره من وُقُوع الشّركَة فكلي كإنسان. والكلي لَهُ تقسيمات؛ لِأَنَّهُ: إِمَّا أَن يُوجد مِنْهُ فِي الْخَارِج، أَو لَا يُوجد، فَإِن وجد: فَأَما أَن يُوجد وَاحِد فَقَط، أَو كثير، وَمَا وجد مِنْهُ وَاحِد: إِمَّا أَن يكون غَيره مُمْتَنعا وجوده، أَو جَائِزا، وَمَا وجد مِنْهُ كثير: فإمَّا أَن يكون متناهياً، أَو غير متناه، وَالَّذِي لم يُوجد مِنْهُ شَيْء: إِمَّا أَن يُمكن وجوده، أَو يَسْتَحِيل، فَهَذِهِ سِتَّة أَقسَام. وَبِهَذَا يعلم أَن التَّعْبِير بقولنَا: (إِن لم يمْنَع) إِلَى آخِره /، أولى من نَحْو قَول ابْن الْحَاجِب: (إِن اشْترك فِي مَفْهُومه [كَثِيرُونَ] ) ، لخُرُوج بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 هَذِه الْأَقْسَام عَن تَعْبِيره، إِلَّا أَن يحمل قَوْله (إِن اشْترك) على الْأَعَمّ من الِاشْتِرَاك بِالْفِعْلِ أَو بِالْقُوَّةِ، لذَلِك قُلْنَا فِي الْمَتْن: (وَلَو بِالْقُوَّةِ) ، لأجل مَا يرد عَلَيْهِ. مِثَال مَا وجد مِنْهُ وَاحِد وَامْتنع غَيره: " إِلَه "، فَإِن الله لَا إِلَه غَيره، وَلَا يُمكن وجود إِلَه غَيره، لقَوْله تَعَالَى: {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} [الْأَنْبِيَاء: 22] ، وَمعنى دُخُول " إِلَه " فِي تَعْرِيف الْكُلِّي: أَنه لَا يمْنَع تصور مَعْنَاهُ من الشّركَة فِي مَعْنَاهُ بِاعْتِبَار التَّصَوُّر فِي الذِّهْن، لَا بِاعْتِبَار الْمُمكن فِي الْخَارِج، فَلهَذَا ضل من ضل [بالإشتراك] . وَمِثَال مَا وجد مِنْهُ وَاحِد وَلَا يمْتَنع وجود غَيره: الشَّمْس. وَمِثَال مَا وجد مِنْهُ كثير فِي الْخَارِج وَهُوَ متناه: إِنْسَان، وَغير المتناهي مُتَعَذر على قَول أهل السّنة؛ إِذْ لَا يُوجد فِي الْعَالم شَيْء من الموجودات إِلَّا وَهُوَ متناه. وَمِثَال مَا لَا يُوجد مِنْهُ شَيْء أصلا وَيُمكن وجوده: بَحر من زئبق. وَمِثَال مَا يَسْتَحِيل: شريك الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَإِنَّهُ محَال، وَلَا يخفى مَا فِي التَّمْثِيل بِهِ وَبِمَا قبله من إساءة الْأَدَب، وَهَذَا من اصْطِلَاحَات المناطقة. وَقَوله: وَهُوَ ذاتي، وعرضي، يَعْنِي: أَن الْكُلِّي يَنْقَسِم إِلَى: ذاتي، وعرضي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 فالذاتي: هُوَ الَّذِي لم يخرج عَن حَقِيقَة الشَّيْء، مثل: الْحَيَوَان بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَان، والعرضي: هُوَ الَّذِي يخرج عَن حَقِيقَته، مثل: الضاحك. قَوْله: {فَإِن تفَاوت فمشكك، وَإِلَّا فمتواط} . إِذا تفَاوت أَفْرَاد الْكُلِّي فِي مَدْلُوله بأولوية وَعدمهَا، أَو شدَّة وَضعف، أَو تقدم وَتَأَخر، - كالوجود للخالق والمخلوق، فَإِنَّهُ يتَفَاوَت فيهمَا بالاعتبارات [الثَّلَاثَة؛ فَإِنَّهُ] فِي الْخَالِق أَشد واقدم وَأولى - فمشكك، فأفراد الْكُلِّي تَتَفَاوَت بِاعْتِبَار الْوُجُوب والإمكان، كالوجود للقديم والحادث كَمَا مثلنَا، وَبِاعْتِبَار الِاسْتِغْنَاء والافتقار، كالموجود الْمُمكن للجوهر المستغني عَن مَحل وَالْعرض / المفتقر إِلَى مَحل يقوم بِهِ. وَبِاعْتِبَار الشدَّة والضعف، كبياض الثَّلج وَبَيَاض العاج، وكالنور لضوء الشَّمْس وضوء السراج. وَسمي مشككاً: لما فِيهِ من تشكيك النَّاظر فِي مَعْنَاهُ، هَل هُوَ متواط لوُجُود الْكُلِّي فِي أَفْرَاده، أَو مُشْتَرك لتغاير أَفْرَاده؟ فَهُوَ اسْم فَاعل من (شكك) المضاعف من (شكّ) إِذا تردد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وتمثيلنا بالوجود للخالق والمخلوق للمشكك، ذكره بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم، تبعا للآمدي، وَابْن الْحَاجِب؛ لكَونه حَقِيقَة فيهمَا عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَذكره الْآمِدِيّ إِجْمَاعًا، وَذكر أَصْحَابنَا فِي كتب الْفِقْه أَنه حَقِيقَة فِي الْخَالِق، مجَاز فِي الْمَخْلُوق، وَقَالَهُ النَّاشِئ المعتزلي، وَعَن جهم وَمن تبعه عكس ذَلِك، يَعْنِي: حَقِيقَة فِي الْمَخْلُوق، مجَاز فِي الْخَالِق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وَقَوله: وَإِلَّا فمتواط، يَعْنِي: وَإِن لم تَتَفَاوَت أَفْرَاد الْكُلِّي فمتواط، لِأَنَّهُ الَّذِي يتساوى أَفْرَاده بِاعْتِبَار ذَلِك الْكُلِّي الَّذِي تشاركت فِيهِ، كالإنسان بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَفْرَاده؛ فَإِن الْكُلِّي فِيهَا وَهُوَ الحيوانية والناطقية لَا تَتَفَاوَت فِيهَا بِزِيَادَة وَلَا نقص. وَسمي بذلك من التواطؤ وَهُوَ التوافق، قَالَ الله تَعَالَى: {ليواطئوا عدَّة مَا حرم الله} [التَّوْبَة: 37] ، أَي: ليوافقوا. فإطلاق لفظ (المبدأ) على النقطة - أول خطّ - أَو على آن - أول زمَان - متواط، وَقيل: مُشْتَرك، وَالْمرَاد: إِن أضيف إِلَى الْخط. وَإِطْلَاق لفظ (الخمري) على التَّمْر وَالْعِنَب والدواء لعُمُوم النِّسْبَة إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 الْخمر متواط، وباختلاف النّسَب مُشْتَرك، وَلَفظ (أسود) لقار وزنجي متواط، ولرجل مُسَمّى بأسود وقار مُشْتَرك. تَنْبِيه: اشْتِرَاط عدم التَّفَاوُت فِي المتواطئ كَيفَ يُجَامع قَوْلهم: سمي مشككاً لشك النَّاظر فِي كَونه متواطئاً؟ كَيفَ يَقع الشَّك وَالْفَرْض أَنه متفاوت وَقد شَرط فِي المتواطئ عدم التَّفَاوُت؟ وَيُمكن الْجَواب عَنهُ: بِأَن تقَابل المتواطئ / والمشكك تقَابل الْأَعَمّ والأخص، فالمتواطئ أَعم من المشكك، فَيكون المُرَاد بقَوْلهمْ: (إِن تَسَاوَت أَفْرَاده) أَي: لم يشْتَرط فِيهَا تفَاوت بل سَوَاء اتّفق فِيهَا وُقُوع تفَاوت، [أَو لَا؛ لِأَن] النّظر إِلَى كَونه متواطئاً من حَيْثُ الِاشْتِرَاك. وَبِذَلِك يجمع بَين قَول ابْن الْحَاجِب: (فَإِن تفَاوت كالوجود للخالق والمخلوق فمشكك وَإِلَّا فمتواط) ، وَقَوله فِي مَسْأَلَة وُقُوع الْمُشْتَرك، فِي جَوَاب اسْتِدْلَال لَا يرتضيه: (وَأجِيب بِأَن الْوُجُوب والإمكان لايمنع التواطؤ) فَجعله متواطئاً مرّة، ومشككاً أُخْرَى، فَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا لما ذكرنَا لَا تناقضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وَمن هُنَا يعلم جَوَاب سُؤال ابْن التلمساني الْمَشْهُور: أَنه لَا حَقِيقَة للمشكك، لِأَن مَا حصل بِهِ الِاخْتِلَاف إِن دخل فِي التَّسْمِيَة كَانَ اللَّفْظ مُشْتَركا، وَإِلَّا كَانَ متواطئاً؛ لأَنا نقُول: [هُوَ دَاخل] فِي التَّسْمِيَة، وَلَا يلْزم أَن يكون مُشْتَركا؛ لِأَن الْمُشْتَرك مَا لَيْسَ بَين معنييه قدر مُشْتَرك سمي بذلك الِاسْم، وَلَا يكون خَارِجا من المتواطئ؛ لِأَن [المتواطئ] أَعم مِمَّا تَسَاوَت أَفْرَاده أَو تفاوتت، إِلَّا أَنه إِذا كَانَ فِيهِ تفَاوت فَهُوَ مشكك، وَهَذَا أحسن من جَوَاب الْقَرَافِيّ عَنهُ: بِأَن كلا من المتواطئ والمشترك مَوْضُوع للقدر الْمُشْتَرك، وَلَكِن الِاخْتِلَاف إِن كَانَ بِأُمُور من جنس الْمُسَمّى فمشكك أَو بِأَمْر خَارج فمتواط؛ لِأَن ذَلِك إِنَّمَا يمشي فِيمَا فِيهِ التَّفَاوُت [بالشدة] والضعف فَقَط، لَا فِيمَا هُوَ مُخْتَلف بالإمكان وَالْوُجُوب، أَو بالاستغناء والافتقار، وَنَحْو ذَلِك، وَالله أعلم. قَوْله: {وَإِن لم يشْتَرك فجزئي} . أَي: وَإِن لم يشْتَرك فِي مَفْهُومه كثير فجزئي، مثل: زيد، وَعَمْرو، وَهَذَا الْإِنْسَان. والجزئي يُقَال على المندرج تَحت الْكُلِّي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 {وَيُسمى النَّوْع جزئياً إضافياً} ، مثل: الْإِنْسَان، [جزئي] ، لِأَنَّهُ مندرج تَحت كلي، فَهُوَ كالجنس، فَكل جنس وَنَوع عَال أَو وسط أَو سافل كلي لما تَحْتَهُ جزئي لما فَوْقه، لَكِن لابد فِي الجزئي من مُلَاحظَة قيد الشَّخْص وَالتَّعْيِين / فِي التَّصَوُّر، وَإِلَّا لصدق أَنه لم يمْنَع تصَوره من وُقُوع الشّركَة فِيهِ، إِذْ لابد من اشْتِرَاك وَلَو فِي أخص صِفَات النَّفس. قَوْله: { [كمضمر فِي الْأَصَح] } . اخْتلف فِي مُسَمّى لفظ الْمُضمر حَيْثُ وجد، هَل هُوَ كلي أَو جزئي؟ قَالَ الْقَرَافِيّ: (فَرَأَيْت الْأَكْثَر على أَن مُسَمَّاهُ جزئي، وَاحْتَجُّوا على ذَلِك بِوَجْهَيْنِ. الأول: أَن النُّحَاة أَجمعُوا على أَن الْمُضمر معرفَة، وَالصَّحِيح: أَنه أعرف المعارف، فَلَو كَانَ مُسَمَّاهُ كلياً لَكَانَ نكرَة فَإِن النكرَة إِنَّمَا كَانَت نكرَة؛ لِأَن مسماها كلي مُشْتَرك فِيهِ بَين أَفْرَاد غير متناهية لَا يخْتَص بِهِ وَاحِد مِنْهَا دون الآخر، والمضمر لَيْسَ كَذَلِك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 الثَّانِي: أَن مُسَمّى الْمُضمر إِذا كَانَ كلياً كَانَ دَالا على مَا هُوَ أَعم من الشَّخْص الْمعِين، وَالْقَاعِدَة الْعَقْلِيَّة: أَن الدَّال على الْأَعَمّ غير دَال على الْأَخَص، فَيلْزم أَن لَا يدل الْمُضمر على شخص خَاص أَلْبَتَّة، وَلَيْسَ كَذَلِك. قَالَ: وَالصَّحِيح خلاف هَذَا الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ الأقلون، وَهُوَ الَّذِي أَجْزم بِصِحَّتِهِ، وَهُوَ أَن مُسَمَّاهُ كلي، وَالدَّلِيل [عَلَيْهِ] أَنه لَو كَانَ مُسَمَّاهُ جزئياً لما صدق على شخص آخر إِلَّا بِوَضْع آخر كالأعلام، فَإِنَّهَا لما كَانَ مسماها جزئياً لم تصدق على غير من وضعت لَهُ إِلَّا بِوَضْع ثَان) وَأطَال فِي ذَلِك وَفِي الرَّد على القَوْل الأول. تَنْبِيه: قد قسم الجزئي إِلَى: نكرَة، وَمَعْرِفَة؛ وَاعْترض: إِذا كَانَت النكرَة فِيهَا شيوع كَانَت مِمَّا لَا يمْنَع تصَوره من وُقُوع الشّركَة فِيهِ. وَأجِيب: أَن المُرَاد بِالشّركَةِ فِي الْكُلِّي التَّعَدُّد لمحاله، وَإِذا كَانَت النكرَة فَردا وَاحِدًا، وَاللَّفْظ إِنَّمَا دلّ عَلَيْهِ من حَيْثُ هُوَ فَرد، فقد منع تصَوره من وُقُوع الشّركَة فِيهِ من حَيْثُ فرديته، وَلِهَذَا كَانَ دَاخِلا فِي الْجمع وَنَحْوه، وَفِي الْأَعْدَاد نَحْو ثَلَاثَة وَعشرَة؛ لِأَن الْجمع لَيْسَ قَابلا لِأَن يكون جمعين، وَلَا الْعشْرَة عشرتين، فَتَأمل ذَلِك فَإِنَّهُ دَقِيق / وَالله أعلم. {وَإِن تعددا فمتباينة} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 يَعْنِي: إِن تعدد اللَّفْظ وَالْمعْنَى فأساه متباينة لتباينها، لكَون كل وَاحِد مِنْهَا مبايناً للْآخر فِي مَعْنَاهُ. سَوَاء { [تفاصلت] } . أَي: لَيْسَ لأَحَدهمَا ارتباط بِالْآخرِ، كإنسان وَفرس، وَضرب زيد عمرا. { [أَو تواصلت] } . بِأَن كَانَ بعض الْمعَانِي صفة للْبَعْض الآخر، كالسيف والصارم، فَإِن السَّيْف اسْم للحديدة الْمَعْرُوفَة وَلَو مَعَ كَونهَا كالة، والصارم اسْم للقاطعة، وكالناطق والفصيح والبليغ، وَالْمرَاد: أَنه يُمكن اجْتِمَاعهمَا فِي شَيْء وَاحِد، وَنَحْوه لَو كَانَ أَحدهمَا جُزْءا من الآخر كالإنسان وَالْحَيَوَان. قَوْله: {وَإِن اتَّحد اللَّفْظ وتعدد الْمَعْنى: إِن كَانَ حَقِيقَة [للمتعدد] فمشترك [مُطلقًا] ، وَإِلَّا فحقيقة ومجاز} . إِذا اتَّحد اللَّفْظ وتعدد الْمَعْنى يَنْقَسِم قسمَيْنِ: إِن كَانَ اللَّفْظ حَقِيقَة للمتعدد فَهُوَ مُشْتَرك، سَوَاء تباينت المسميات أَو لَا، على مَا يَأْتِي فِي الْمُشْتَرك: مثل: الْعين والشفق والجون وَنَحْوهَا، وَلِهَذَا قُلْنَا: (مُطلقًا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 وَإِن لم يكن حَقِيقَة للمتعدد، أَي: لَا يكون مَوْضُوعا بِإِزَاءِ كل وَاحِد مِنْهَا وضعا حَقِيقَة أَولا، بل يكون مَوْضُوعا لأحدها ثمَّ نقل للْبَاقِي لمناسبة، فَهُوَ حَقِيقَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَوْضُوع لَهُ، مجَاز بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَنْقُول إِلَيْهِ، كالأسد فَإِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيَوَان المفترس حَقِيقَة، وبالنسبة إِلَى الرجل الشجاع مجَاز. قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (وَهَذَا بِنَاء على أَن الْمجَاز يسْتَلْزم الْحَقِيقَة، وَإِلَّا فقد يكون لَهما مجازين) . قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": (إِذا اتَّحد اللَّفْظ وتعدد الْمَعْنى وَوضع لأَحَدهمَا ثمَّ نقل إِلَى الآخر لعلاقة سمي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الأول مَنْقُولًا عَنهُ، وبالنسبة إِلَى الثَّانِي مَنْقُولًا إِلَيْهِ. وَمُقْتَضى هَذَا: أَنه لَا يُطلق عَلَيْهِ اسْم الْحَقِيقَة وَالْمجَاز، وَهُوَ مُخَالف لقَولهم: إِنَّه قد تكون الْحَقِيقَة مرجوحة وَالْمجَاز راجحاً) . قَوْله: / {وَعَكسه مترادفة} . أَي: عكس الَّذِي قبله، وَالْعَكْس: إِذا تعدد اللَّفْظ واتحد الْمَعْنى، تكون متردافة، كالأسد والغضنفر وَاللَّيْث وَنَحْوه، وَإِن كَانَ كل وَاحِد مِنْهَا وضع للحيوان المفترس. قَوْله: {وَكلهَا: مُشْتَقّ} : إِن دلّ على ذِي صفة مُعينَة، كضارب وعالم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 وَنَحْوهمَا، {وَغير مُشْتَقّ} : إِن لم يكن كَذَلِك كالجسم وَالْإِنْسَان وَالرجل. وَأَيْضًا كل وَاحِد مِنْهَا {صفة} : إِن دلّ على معنى قَائِم بِذَات، كالضحك وَالْعلم وَالْكِتَابَة، وَقَالَ الْعَضُد هُنَا: (الصّفة مَا يدل على ذَات غير مُعينَة بِاعْتِبَار معنى معِين كضارب) . {وَغير صفة} : كالجسم وَالْإِنْسَان وَالرجل وَنَحْوهَا. قَوْله: {وَيكون اللَّفْظ الْوَاحِد: متواطئاً، ومشتركاً، ومتبايناً، ومترادفاً، باعتبارات} . يكون اللَّفْظ الْوَاحِد: متواطئاً، ومشتركاً، باعتبارين، كَمَا تقدم فِي إِطْلَاق لفظ (الْخمر) على التَّمْر وَالْعِنَب والدواء لعُمُوم النِّسْبَة إِلَى الْخمر متواط، وباختلاف النّسَب مُشْتَرك، وَلَفظ (أسود) لقار وزنجي متواط، ولرجل مُسَمّى بأسود وقار مُشْتَرك. وَيكون - أَيْضا -: متبايناً، ومترادفاً، باعتبارين، قَالَه ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله "، وَالظَّاهِر أَن مُرَاده: مَا قَالَه ابْن حمدَان فِي مقنعه "، وَابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَغَيرهمَا، فِي صارم ومهند: (فَإِنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ على الذَّات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 كسيف، ومتباينان صفة، وناطق وفصيح متباينان؛ لاختلافهما معنى، ومترادفان، على موصوفهما من لِسَان أَو إِنْسَان) انْتهى. قَوْله: فَائِدَة: {الْعلم: اسْم يعين مُسَمَّاهُ مُطلقًا} . تقدم أَن الْعلم من أَقسَام الجزئي، فَهُوَ دَاخل فِي أَحْكَام الجزئي، وَإِنَّمَا ذَكرْنَاهُ هُنَا لأحكام تخْتَص بِهِ، قد عَرفْنَاهُ بِأَنَّهُ: اسْم يعين مُسَمَّاهُ مُطلقًا. فقولنا: (اسْم) ، جنس. و (يعين مُسَمَّاهُ) ، فصل مخرج للنكرات. و (مُطلق) ، مخرج لما سوى الْعلم من المعارف، فَإِنَّهُ لَا يُعينهُ إِلَّا بِقَرِينَة: إِمَّا لفظية / ك (أل) ، أَو معنوية كالحضور والغيبة فِي (أَنْت) و (هُوَ) . وَهَذَا الْحَد لِابْنِ مَالك فِي " ألفيته "، وَهُوَ أحسن من حد ابْن الْحَاجِب فِي " الكافية "، وَمن تبعه، لقَوْله: (هُوَ مَا وضع لمُعين لَا يتَنَاوَل غَيره) ، لما عَلَيْهِ من الاعتراضات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره: (وَاعْترض عَلَيْهِ فِي قَوْله: لَا يتَنَاوَل غَيره، بِأَنَّهُ إِذا قصد بذلك إِخْرَاج الضَّمِير كَأَنْت مثلا، فَإِنَّهُ يَصح أَن يُخَاطب بِهِ زيد وَعَمْرو وَغَيرهمَا، يُقَال لَهُ: وَالْعلم كَذَلِك، فَكَمَا أَنه قد يعرض الِاشْتِرَاك فِي لفظ الضَّمِير بِحَسب الْمُخَاطب، قد يعرض للْعلم بِاعْتِبَار تعدد التَّسْمِيَة، لَكِن كل مِنْهُمَا لم يوضع إِلَّا لوحد بِخِلَاف النكرات - قَالَ -: وَلَو تبع فِي " جمع الْجَوَامِع " لِابْنِ مَالك فِي تَعْرِيفه كَانَ أحسن) انْتهى. قَوْله: {فَإِن كَانَ التَّعْيِين خارجياً فَعلم شخص، وَإِلَّا فَعلم جنس، والموضوع للماهية من حَيْثُ هِيَ اسْم جنس} . الْعلم يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ: أَحدهمَا: علم شخص، كزيد وَنَحْوه. الثَّانِي: علم جنس، كأسامة علم على الْأسد وَنَحْوه. وَالْفرق بَينهمَا: بِأَن التَّعْيِين فِي الشخصي خارجي، وَفِي الجنسي ذهني. وَتَقْرِير الْفرق: أَن علم الشَّخْص مَوْضُوع للْحَقِيقَة بِقَيْد الشَّخْص الْخَارِجِي، وَعلم الْجِنْس مَوْضُوع للماهية بِقَيْد الشَّخْص الذهْنِي. وَإِنَّمَا وضع علما لبَعض الْأَجْنَاس الَّتِي لَا تؤلف غَالِبا كالسباع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 والوحوش، وَقد يَأْتِي فِي بعض المألوفات كَأبي المضا لجنس الْفرس. وَعلم الْجِنْس يُسَاوِي علم الشَّخْص فِي أَحْكَامه اللفظية، فَإِنَّهُ لَا يُضَاف، وَلَا يدْخل عَلَيْهِ حرف التَّعْرِيف، وَلَا ينعَت بنكرة، وَلَا يقبح مَجِيئه مُبْتَدأ، وَلَا انتصاب النكرَة بعده على الْحَال، وَلَا يصرف مِنْهُ مَا فِيهِ سَبَب زَائِد على العلمية كأسامة. ويفارقه من جِهَة الْمَعْنى لعمومه، إِذْ لَيْسَ بعض الْأَشْخَاص أولى بِهِ من بعض، أَلا ترى أَن أُسَامَة صَالح لكل أَسد بِخِلَاف الْعلم الشخصي. فَإِن قلت: مَا الْفرق بَينه وَبَين اسْم الْجِنْس النكرَة من جِهَة الْمَعْنى؟ قلت: ذهب ابْن مَالك، وَجمع: إِلَى أَن أُسَامَة / لَا يُخَالف فِي مَعْنَاهُ دلَالَة أَسد، وَإِنَّمَا يُخَالِفهُ فِي أحاكم لفظية، وَإِنَّمَا أطلق عَلَيْهِ أَنه معرفَة مجَازًا. قَالَ ابْن مَالك: (أُسَامَة نكرَة معنى، معرفَة لفظا، وَإنَّهُ فِي [الشياع] كأسد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 قَالَ الْمرَادِي فِي " شرح ألفيته ": (وَأَقُول: تَفْرِقَة الْوَاضِع بَين " أُسَامَة " و " أَسد " فِي الْأَحْكَام اللفظية، يُؤذن بفرق من جِهَة الْمَعْنى. وَمِمَّا قيل فِي ذَلِك: إِن " أسداً " وضع ليدل على شخص معِين، وَذَلِكَ الشَّخْص لَا يمْتَنع أَن يُوجد مِنْهُ أَمْثَاله، فَوضع على [الشياع] فِي جُمْلَتهَا / وَوضع " أُسَامَة " لَا بِالنّظرِ إِلَى شخص، بل على معنى الأَسدِية المعقولة، الَّتِي [لَا يُمكن] أَن تُوجد خَارج الذِّهْن، بل هِيَ مَوْجُودَة فِي النَّفس، وَلَا يُمكن أَن يُوجد مِنْهَا اثْنَان أصلا فِي الذِّهْن، ثمَّ صَار أُسَامَة يَقع على الْأَشْخَاص، لوُجُود مَاهِيَّة ذَلِك الْمَعْنى الْمُفْرد الْكُلِّي فِي الْأَشْخَاص. وَالتَّحْقِيق فِي ذَلِك أَن نقُول: اسْم الْجِنْس: هُوَ الْمَوْضُوع للْحَقِيقَة الذهنية من حَيْثُ هِيَ هِيَ، فاسم أَسد مَوْضُوع للْحَقِيقَة من غير اعْتِبَار قيد مَعهَا أصلا، وَعلم الْجِنْس كأسامة مَوْضُوع للْحَقِيقَة بِاعْتِبَار حُضُورهَا الذهْنِي الَّذِي هُوَ نوع تشخيص لَهَا مَعَ قطع النّظر عَن أفرادها، وَنَظِيره الْمُعَرّف بِاللَّامِ الَّتِي للْحَقِيقَة والماهية. وَبَيَان ذَلِك: أَن الْحَقِيقَة الْحَاضِرَة فِي الذِّهْن وَإِن كَانَت عَامَّة بِالنِّسْبَةِ إِلَى أفرادها فَهِيَ بِاعْتِبَار حُضُورهَا فِيهِ أخص من مُطلق الْحَقِيقَة، فَإِذا استحضر الْوَاضِع صُورَة الْأسد فَإِن هَذِه الصُّورَة وَاقعَة لهَذَا الشَّخْص فِي زمَان، وَمثلهَا يَقع فِي زمَان آخر وَفِي ذهن آخر، والجميع يشْتَرك فِي مُطلق صُورَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 الْأسد، فَإِن وضع لَهَا من حَيْثُ خصوصها، فَهُوَ علم الْجِنْس أَو من حَيْثُ عمومها، فَهُوَ اسْم الْجِنْس) انْتهى. وَالْفرق بَين علم الْجِنْس وَاسم الْجِنْس من أغمض مسَائِل النَّحْو حَتَّى قَالَ الْقَرَافِيّ: (كَانَ الخسروشاهي يقرره، وَلم أسمعهُ من أحد إِلَّا مِنْهُ، وَكَانَ يَقُول: مَا فِي الْبِلَاد المصرية من يعرفهُ) انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 قَوْله: / {فصل} {أَصْحَابنَا، وَالْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة: الْمُشْتَرك وَاقع لُغَة جَوَازًا، تبايناً، أَو تواصلاً، [بِكَوْنِهِ جُزْءا لآخر، أَو لَازمه] } . قد تقدم: أَن الْمُشْتَرك مَا اتَّحد لَفظه وتعدد مَعْنَاهُ، وَله أَنْوَاع: الأول: أَن يوضع لكل وَاحِد من ذَلِك الْمَعْنى المتعدد، فيسمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 الْمُشْتَرك، وَأَصله أَن يُقَال: الْمُشْتَرك فِيهِ، فحذفت لَفْظَة (فِيهِ) توسعاً لِكَثْرَة دوره فِي الْكَلَام، أَو لكَونه صَار لقباً، كَمَا قَالَه ابْن الْحَاجِب فِي " شرح الْمفصل ". إِذا علم ذَلِك؛ فَهُوَ وَاقع لُغَة جَوَازًا، عندنَا، وَعند الْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة، وَالْأَكْثَر من طوائف الْعلمَاء، فَيَقَع فِي الْأَسْمَاء كالقرء: للْحيض، وَالطُّهْر، وَالْعين: للباصرة، وَالْجَارِيَة، وَالذَّهَب، وَعين الشَّمْس، وَعين الْمِيزَان، [والربيئة] وَغير [هَا] ... ... ... ... ... ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 حَتَّى عدهَا ... ... ... ... وَفِي الْأَفْعَال: كعسعس: لأقبل، وَأدبر، وَعَسَى: للترجي، والإشفاق، والمضارع: للْحَال، والاستقبال، على أرجح الْمذَاهب فِيهِ، كَمَا تقدم، وَوُقُوع الْمَاضِي: خَبرا، وَدُعَاء، كغفر الله لنا، وإنشاء كبعت وَنَحْوه. وَفِي الْحُرُوف على طَريقَة الْأَكْثَر، كَمَا يَأْتِي، كالباء: للتَّبْعِيض، وَبَيَان الْجِنْس، والاستعانة، والسببية، وَنَحْوهَا. وَإِذا كَانَ وَاقعا فِي اللُّغَة، لزم مِنْهُ أَنه جَائِز الْوُقُوع؛ لِأَن من لَوَازِم الْوُقُوع الْجَوَاز بِالضَّرُورَةِ. وَاسْتدلَّ للْجُوَاز: بِأَنَّهُ لَا يمْتَنع وضع لفظ وَاحِد لمعنيين مُخْتَلفين على الْبَدَل من وَاضع أَو أَكثر ويشتهر الْوَضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وَلَفْظَة (عرض) فِي الْقُرْآن مُخْتَلفَة الْمَعْنى فِي قَوْله فِي: {وجنة عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض} [آل عمرَان: 133] ، {وعرضنا جَهَنَّم يَوْمئِذٍ للْكَافِرِينَ عرضا} [الْكَهْف: 100] . وَالْعرض وَاحِد الْعرُوض، [و] لِأَن الْمَوْجُود فِي الْقَدِيم والحادث حَقِيقَة، فَإِن كَانَ مَدْلُول الْمَوْجُود الذَّات فَهِيَ مُخَالفَة لما سواهَا من الْحَوَادِث، وَإِلَّا لوَجَبَ الِاشْتِرَاك فِي الْوُجُوب للتساوي فِي مَفْهُوم الذَّات. وَإِن كَانَ مَدْلُوله صفة زَائِدَة، فَإِن اتَّحد الْمَفْهُوم مِنْهَا وَمن / اسْم الْمَوْجُود فِي الْحَادِث، لزم مِنْهُ كَون مُسَمّى الْمَوْجُود فِي الْحَادِث وَاجِبا لذاته، أَو وجود الْقَدِيم مُمكنا. وَإِن اخْتلف المفهومان، وَقع الْمُشْتَرك، احْتج بِهِ الْآمِدِيّ، وَأَتْبَاعه، وَهُوَ معنى كَلَام القَاضِي فِي " الْعدة "، وَأبي الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَغَيرهمَا من أَصْحَابنَا فِي بَيَان الْكَلَام فِي عَالم للقديم والحادث، لاخْتِلَاف مَعْنَاهُمَا. ورد: بِأَن الْوُجُوب والإمكان لَا يمْنَع التواطؤ، وَدَعوى لُزُوم التَّرْكِيب مِمَّا بِهِ الِاشْتِرَاك وَمَا بِهِ الامتياز إِنَّمَا هُوَ فِي الذِّهْن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (مَا وضع لما بِهِ الِاشْتِرَاك فَقَط، وامتاز مَا بِهِ الامتياز بقرينه تَعْرِيف أَو إِضَافَة وَنَحْو ذَلِك، لَا من نفس اللَّفْظ الْمُفْرد، فَهُوَ حَقِيقَة فيهمَا كَمَا قُلْنَا فِي أَسمَاء الله تَعَالَى الَّتِي يُسمى بهَا غَيره) . وَقَالَ أَيْضا: (الْجُمْهُور أَنه متواط، قَالَ: فَقيل بالتواطؤ للتساوي، وَالأَصَح للتفاضل) . وَنقل الرَّازِيّ عَن الْأَشْعَرِيّ، وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ: مُشْتَرك. وَيَأْتِي الْكَلَام فِي آخر الْمَسْأَلَة على قَوْلنَا: تبايناً، أَو تواصلاً. قَوْله: {وَمنع ثَعْلَب، والباقلاني، والأبهري، والبلخي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وردوه إِلَى المتواطئ [أ] والحقيقة وَالْمجَاز} . فَقَالُوا: عسعس: متواط؛ لاختلاط الظلام بالضياء، وَفِي الْعين: مَوْضُوعَة للصفاء وَقَالَ الرَّازِيّ فِي " تَفْسِيره ": (إِنَّه حَقِيقَة فِي الباصرة مجَاز فِي غَيرهَا) ، وَقَالُوا فِي الْقُرْء للطهر وَالْحيض: إنَّهُمَا حَقِيقَة ومجاز، وَاخْتلفُوا فِي أَيهمَا حَقِيقَة، فَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " الِانْتِصَار ": مجَاز فِي الطُّهْر، لمجاورته للْحيض؛ لِأَنَّهُ يَصح نَفْيه. وَقَالَ ثَعْلَب: للْوَقْت. وَقَالَ من منع الْوُقُوع: للانتقال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وَقَالَ ابْن الباقلاني: (لَيْسَ فِي اللُّغَة لفظ مَوْضُوع لحقيقتين على طَرِيق الْبَدَل، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون اللَّفْظ مَوْضُوعا لِمَعْنى وَذَلِكَ الْمَعْنى يتَنَاوَل اسْمَيْنِ على طَرِيق التبع، كاسم الْقُرْء مَوْضُوع للانتقال) . قَالَ وَالِد الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (وَيُسمى المتواطئ) / { [وَقَالَ الْفَخر الرَّازِيّ:] } بَين النقيضين} . يَعْنِي: لَا يحصل الِاشْتِرَاك بَين النقيضين { [فَقَط] } ، لخلوه عَن الْفَائِدَة؛ لِأَن سَمَاعه لَا يُفِيد غير التَّرَدُّد بَين الْأَمريْنِ، وَهُوَ حَاصِل بِالْعقلِ، فالوضع لَهُ عَبث، لَكِن هَذَا إِنَّمَا يكون عِنْد اتِّحَاد الْوَاضِع، أما إِذا تعدد، وَهُوَ السَّبَب الأكثري، وَذَلِكَ كالسدفة، قَالَ فِي " الصِّحَاح ": (هِيَ لُغَة نجد الظلمَة، وَفِي لُغَة غَيرهم الضَّوْء) . وعَلى تَقْدِير أَن يكون الْوَاضِع وَاحِدًا لَا نسلم انْتِفَاء الْفَائِدَة، بل لَهُ فَوَائِد هِيَ لأصل وضع الْمُشْتَرك، مِنْهَا: غَرَض الْإِبْهَام على السَّامع حَيْثُ يكون التَّصْرِيح سَببا لمفسدة، وَمِنْهَا: استعداد الْمُكَلف للْبَيَان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 {و [قَالَ] الْمبرد وَابْن الْقيم من وَاضع وَاحِد} . منع الْمبرد وُقُوعه من وَاضع وَاحِد، وَاخْتَارَهُ ابْن الْقيم فِي " جلاء الأفهام "، فَقَالَ: (لَا يُقَال: " الصَّلَاة لفظ مُشْتَرك يجوز أَن يسْتَعْمل فِي معنييه مَعًا "، لِأَن فِي ذَلِك محاذير مُتعَدِّدَة. أَحدهَا: أَن الِاشْتِرَاك خلاف الأَصْل بل لَا نعلم أَنه وَقع فِي اللُّغَة من وَاضع وَاحِد كَمَا نَص عَلَيْهِ أَئِمَّة اللُّغَة، مِنْهُم: الْمبرد وَغَيره، وَإِنَّمَا يَقع وقوعاً عارضاً اتفاقياً بِسَبَب تعدد الواضعين، ثمَّ تختلط اللُّغَة فَيعرض الإشتراك) انْتهى. {و} قَالَ { [قوم] : فِي الْقُرْآن، و} قَالَ { [قوم: وَفِي الحَدِيث] } . أَي: منع قوم الْمُشْتَرك فِي الْقُرْآن، وَهُوَ ابْن دَاوُد الظَّاهِرِيّ، وَجَمَاعَة، ورد: بِنَحْوِ [الصريم] وعسعس وَغَيرهمَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وَنقل عَن قوم مَنعه فِي الحَدِيث - أَيْضا - ولعلهم المانعون فِي الْقُرْآن؛ لِأَن الشُّبْهَة فِي ذَلِك وَاحِدَة. إِذا علم ذَلِك؛ فالقائلون بالوقوع اخْتلفُوا. {فَقَالَ بَعضهم: وَاجِب الْوُقُوع} ؛ لِأَن الْأَلْفَاظ قَليلَة والمعاني كَثِيرَة، فَإِذا وزعت دخل الِاشْتِرَاك، وَهُوَ ظَاهر الْفساد، بل نمْنَع ذَلِك، ثمَّ الْمَقْصُود بِالْوَضْعِ منتهاه، وَلَا حَاجَة إِلَى الإطالة فِي رده. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَلَا يجب فِي اللُّغَة، وَقيل: بلَى. وَقَوْلنَا على الْمَذْهَب الأول: (تباينا، أَو تواصلاً بِكَوْنِهِ جُزْءا لآخر أَو لَازمه) ، لِأَنَّهُ لابد للمشترك من مفهومين / فَأكْثر، والمفهومان إِمَّا أَن يتباينا، أَو يتواصلا. فَإِن تباينا، لم يصدق أَحدهمَا على الآخر، فَإِن لم يَصح اجْتِمَاعهمَا فهما متضادان، كالقرء الْمَوْضُوع للطهر وَالْحيض عِنْد من يَقُول: إِنَّه مُشْتَرك، وَإِن صَحَّ اجْتِمَاعهمَا فهما متخالفان. قَالَ الْإِسْنَوِيّ: (وَلم يظفر لَهما بمثال) . وَإِن تواصلا، فقد يكون أَحدهمَا جُزْءا من الآخر، وَقد يكون لَازِما لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 مِثَال الأول: لفظ الْمُمكن، فَإِنَّهُ مَوْضُوع للممكن بالإمكان الْعَام، والممكن بالإمكان الْخَاص فالإمكان الْخَاص: هُوَ سلب الضَّرُورَة عَن طرفِي الحكم، أَعنِي: الطّرف الْمُوَافق لَهُ والمخالف. وَمِثَال الثَّانِي: الشَّمْس، وَهُوَ تَمْثِيل للمشترك ولازمه، فَإِنَّهَا تطلق على الْكَوْكَب المضيء، تَقول: طلعت الشَّمْس، وعَلى ضوئه تَقول: جلسنا فِي الشَّمْس، مَعَ أَن الضَّوْء لَازم لَهُ. فَإِن توقف فِي هَذَا الْمِثَال مُتَوَقف، فليمثل بِهِ بالرحيم، فَإِن الْجَوْهَرِي نَص على أَنه تَارَة يكون بِمَعْنى المرحوم، وَتارَة بِمَعْنى الراحم، وكل مِنْهُمَا مُسْتَلْزم للْآخر، قَالَه الْإِسْنَوِيّ، وَفِيه مَا فِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 قَوْله: {فصل} {أَصْحَابنَا، وَالْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة: المترادف وَاقع} . فِي الْأَسْمَاء، وَالْأَفْعَال، والحروف، فَفِي الْأَسْمَاء: كالأسد والسبع وَاللَّيْث والغضنفر [والضرغام] حَتَّى قيل: إِنَّه لَهُ سِتّمائَة وَثَلَاثِينَ اسْما، وَالْجُلُوس [وَالْقعُود] ، وصلهب وسلهب للطويل، وبحتر وحبتر وبهتر للقصير وَغَيرهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 وَفِي الْأَفْعَال: كجلس وَقعد، وَحبس وَمنع، وَمضى وَذهب، فِي الْمعَانِي وَشبههَا. وَفِي الْحُرُوف: كإلى وَحَتَّى لانْتِهَاء الْغَايَة. وَهَذَا أصح الْأَقْوَال فِي الْمَسْأَلَة، وَفِي " سنَن أبي دَاوُد "، وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن مَاجَه، من حَدِيث الْعَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالبطحاء فمرت سَحَابَة، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَتَدْرُونَ مَا هَذِه؟ "، فَقُلْنَا: السَّحَاب، فَقَالَ: " والمزن "، قُلْنَا: والمزن، قَالَ: " والعنان "، قُلْنَا: والعنان ... . الحَدِيث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وَلِأَنَّهُ لَا يمْتَنع من وَاضع، وَلَا من واضعين لَا يشْعر أَحدهمَا بِالْآخرِ ويشتهر ذَلِك. قَالَ ابْن الْقيم فِي " رَوْضَة المحبين ": (الْأَسْمَاء الدَّالَّة على مُسَمّى وَاحِد نَوْعَانِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 أَحدهمَا: أَن يدل / عَلَيْهِ بِاعْتِبَار الذَّات فَقَط، فَهَذَا هُوَ المترادف ترادفاً مَحْضا، كالحنطة وَالْبر والقمح، واللقب إِذا لم يكن فِيهِ مدح وَلَا ذمّ، وَإِنَّمَا أَتَى لمُجَرّد التَّعْرِيف. وَالنَّوْع الثَّانِي: أَن يدل على ذَات وَاحِدَة بِاعْتِبَار تبَاين صفاتها، كأسماء الرب، وَأَسْمَاء كَلَامه، وَنبيه، وَأَسْمَاء الْيَوْم الآخر، فَهَذَا النَّوْع مترادف بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذَّات، متباين بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصِّفَات، فالرب والرحمن والعزيز والقدير وَنَحْوهَا تدل على ذَات وَاحِدَة بِاعْتِبَار صِفَات مُتعَدِّدَة، وَكَذَلِكَ البشير والنذير والحاشر وَالْعَاقِب وَنَحْوهَا، وَكَذَلِكَ يَوْم الْقِيَامَة وَيَوْم الْبَعْث وَيَوْم الْجمع وَيَوْم التغابن وَيَوْم الآزفة وَنَحْوهَا، وَكَذَلِكَ الْقُرْآن وَالْفرْقَان وَالْكتاب وَالْهدى وَنَحْوهَا، وَكَذَلِكَ أَسمَاء السَّيْف فَإِن تعددها بِحَسب [أَوْصَاف] وإضافات مُخْتَلفَة كالمهند والعضب والصارم وَنَحْوهَا. قَالَ: وَقد أنكر كثير من النَّاس الترادف فِي اللُّغَة، وَكَأَنَّهُم أَرَادوا هَذَا الْمَعْنى، وَأَنه مَا من اسْمَيْنِ لمسمى وَاحِد إِلَّا وَبَينهمَا فرق فِي صفة أَو نِسْبَة أَو إِضَافَة، سَوَاء علمت لنا أَو لم تعلم، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ صَحِيح بِاعْتِبَار الْوَاضِع الْوَاحِد، وَلَكِن قد يَقع الترادف بِاعْتِبَار واضعين مُخْتَلفين، يُسَمِّي أَحدهمَا الْمُسَمّى باسم، ويسميه الْوَاضِع الآخر باسم غَيره، ويشتهر الوضعان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 عَن الْقَبِيلَة الْوَاحِدَة، وَهَذَا كثير، وَمن هَذَا يَقع الِاشْتِرَاك أَيْضا، فَالْأَصْل فِي اللُّغَة هُوَ التباين، وَهُوَ أَكثر اللُّغَة) انْتهى كَلَامه، وَهُوَ كَلَام حسن. قَوْله: { [وَمنع مِنْهُ] ثَعْلَب، والمبرد، وَابْن فَارس، والزجاج مُطلقًا} . وصنف فِي رده كتابا سَمَّاهُ الفروق، كجلوس وقعود، فالقعود مَا كَانَ عَن قيام، وَالْجُلُوس مَا كَانَ عَن نوم، وَنَحْوه، لدلَالَة الْمَادَّة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 معنى الِارْتفَاع، قَالَ: (وَذهب إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ) . ورد: بِأَن اللُّغَة طافحة بذلك، لكنه على خلاف الأَصْل، وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل - أَيْضا -[الخويي] فِي الْيَنَابِيع، وَقَالَ: (أَكثر مَا يظنّ أَنه مترادف مُخْتَلف، لَكِن وَجه / الِاخْتِلَاف خَفِي) انْتهى. قَالَ المانعون: لَا فَائِدَة فِي الترادف. أُجِيب: فَائِدَة توسعه تَكْثِير طرق موصلة إِلَى الْغَرَض، حَتَّى نقل عَن وَاصل بن عَطاء المعتزلي - وَكَانَ ألثغ الرَّاء - أَنه كَانَ يجتنبها بالإتيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 بالمترادف الَّذِي لَا رَاء فِيهِ، حَتَّى قيل لَهُ: قل: ارْمِ رمحك عَن فرسك، فَقَالَ: ألق قناتك عَن جوادك، أَو مَا هَذَا مَعْنَاهُ. وتيسير نظم ونثر للزنة والروي، وَهُوَ: الْحَرْف آخر القافية، والقافية: الْكَلِمَة آخر الْبَيْت. وتيسير تجنيس، وَهُوَ: تشابه لفظين، ومطابقة، وَهِي: جمع بَين ضدين، وَالْمرَاد: بِحَيْثُ يوازن أَحدهمَا الآخر. وَقَالُوا - أَيْضا -: لَا يجوز؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيف للمعرف، وَهُوَ بَاطِل. أُجِيب: كل وَاحِد مِنْهُمَا عَلامَة، وتوارد العلامات جَائِز اتِّفَاقًا. {و [قَالَ] } الْفَخر {الرَّازِيّ} : إِنَّه مُمْتَنع {فِي} الْأَسْمَاء {الشَّرْعِيَّة} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وَهُوَ مُخَالف لقَوْله: (إِن الْفَرْض وَالْوَاجِب مُتَرَادِفَانِ) ، وَالْمُعْتَمد مَا قَالَه فِي الْأُصُول فِيمَا يظْهر فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، ثمَّ وجدت الكوراني: قَالَ: (وَمن ذهب إِلَى أَنه لم يَقع فِي الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة إِنَّمَا أخبر عَن وجدانه، يدل على ذَلِك عِبَارَته فِي " الْمَحْصُول " فِي آخر بحث الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة: (الْأَظْهر أَنه لم يُوجد [فَيقدر] بِقَدرِهِ. وَمن رد عَلَيْهِ بِالْفَرْضِ وَالْوَاجِب، فقد اشْتبهَ عَلَيْهِ اصْطِلَاح الْفُقَهَاء بِالْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّة، إِذْ المُرَاد بهَا: مَا وَضعه الشَّارِع كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَالْحج وَنَحْوهَا، على مَا يَأْتِي تَحْقِيقه) انْتهى. تَنْبِيه: من ذهب إِلَى الْمَنْع قَالَ: مَا يظنّ أَنه من المترادف فَهُوَ من اخْتِلَاف الذَّات وَالصّفة كالإنسان والناطق، أَو اخْتِلَاف الصِّفَات كالمنشئ وَالْكَاتِب، أَو الصّفة وَصفَة الصّفة كالمتكلم والفصيح، أَو الذَّات وَصفَة الصّفة كالإنسان والفصيح، وكل هَذَا تكلّف، لَكِن تقدم كَلَام ابْن الْقيم وميله إِلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: (أما مهند - نِسْبَة إِلَى الْهِنْد - وصارم فمترادفان على الذَّات كسيف، ومتباينان صفة، وناطق وفصيح مُتَرَادِفَانِ على موصوفهما من لِسَان / وإنسان متباينان معنى) انْتهى، كَمَا تقدم. {وَقيل: لم يَقع} . ذكره الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته "، زِيَادَة على الْأَقْوَال الْمُتَقَدّمَة، وَلَعَلَّ قَائِل ذَلِك عَنى: أَنه يجوز وُقُوعه فَلَيْسَ بممتنع وَلكنه لم يَقع، وَعلل ذَلِك: بِأَن وضع اللَّفْظَيْنِ لِمَعْنى وَاحِد غش يجل الْوَاضِع عَنهُ، وَيصْلح أَن يكون تعليلاً للْمَنْع مُطلقًا أَيْضا. تَنْبِيه: مَحل الْخلاف فِي الْوُقُوع وَعَدَمه، فِي الْمَنْع إِذا كَانَ من لُغَة وَاحِدَة أما من لغتين فَلَا يُنكره أحد، قَالَه الْأَصْفَهَانِي، والعسكري، مَعَ أَنه مِمَّن يُنكر المترادف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 قلت: هَذَا مِمَّا لَا يشك فِيهِ أحد، بل هُوَ الْوَاقِع قطعا. وَقَالَ الكوراني: (وَعلم أَن الْوَاضِع إِذا كَانَ وَاحِدًا وَقُلْنَا بِالْجَوَازِ فالفائدة مَا ذكر أَولا، وَأما إِذا كَانَ الْوَاضِع مُتَعَددًا فَالْأَمْر فِيهِ وَاضح؛ لِأَنَّهُ رُبمَا كَانَ أحد الواضعين، فِي الشرق وَالْآخر فِي الغرب، وَلَا علم لأَحَدهمَا بِوَضْع الآخر) انْتهى. وَتقدم كَلَام ابْن الْقيم فِي الواضعين، وَهُوَ أولى من هَذَا. قَوْله: {وَالْحَد [غير اللَّفْظِيّ] والمحدود، وَنَحْو شذر مذر، غير متردافة فِي الْأَصَح، [كالتأكيد] } . ذكر هُنَا ثَلَاثَة أَشْيَاء مِمَّا يشبه المترادف وَلَيْسَ مِنْهُ. أَحدهَا: الْحَد والمحدود، كالإنسان حَيَوَان نَاطِق، وَالصَّحِيح: أَنه غير مترادف، لِأَن المترادف من عوارض الْمُفْردَات، لِأَنَّهَا الْمَوْضُوعَة، وَالْحَد مركب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وَلَو سلم أَن الْمركب مَوْضُوع، فالمترادف مَا اتَّحد فِيهِ الْمَعْنى، وَلَا اتِّحَاد فِي الْحَد والمحدود؛ لِأَن دلالتهما باعتبارين: الْحَد يدل على الْأَجْزَاء بالمطابقة، والمحدود يدل عَلَيْهَا بالتضمن. قَالَ الْبرمَاوِيّ: (لِأَن الْمَحْدُود دلّ من حَيْثُ الْجُمْلَة والوحدة المجتمعة، وَالْحَد دلّ من حَيْثُ التَّفْصِيل بِذكر الْمَادَّة وَالصُّورَة من غير وحدة) . وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى " - وَتَبعهُ الْقَرَافِيّ -: (الْحَد غير الْمَحْدُود إِن أُرِيد اللَّفْظ، / وَنَفسه إِن أُرِيد الْمَعْنى) ، وَلَيْسَ ذَلِك خلافًا، بل من نظر إِلَى الْحَقِيقَة فِي الذِّهْن، قَالَ: إِنَّه نَفسه، وَمن نظر إِلَى الْعبارَة عَنْهَا، قَالَ: إِنَّه غَيره. وَقَوْلنَا: (غير اللَّفْظِيّ) ، أَعنِي: أَن الْحَد اللَّفْظِيّ مرادف بِلَا نزاع، كَمَا تقدم فِي أَقسَام الْحَد: (أَن اللَّفْظِيّ إِذا أنبأ عَنهُ بأظهر مرادف) فجعلوه مرادفاً، وَهُوَ وَاضح، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال: إِن اللَّفْظِيّ لَيْسَ بِحَدّ. الثَّانِي مِمَّا يشبه أَنه مترادف وَهُوَ غير مترادف على الصَّحِيح: التَّابِع على زنة متبوعه مثل: شذر مذر وَنَحْوه، فَإِنَّهُ غير مترادف، لِأَن التَّابِع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وَحده لَا يُفِيد شَيْئا، وَلَو كَانَ مترادفا وأفرد التابعى لأفاد، وَهُوَ لَا يُفِيد مَعَ الْإِفْرَاد وَقيل: إِنَّه من المترادف، قَالَه بَعضهم، ورد، وَله أَمْثِلَة كَثِيرَة جدا مثل: شذر مذر كَمَا تقدم، وَهُوَ بِفَتْح الشين وَالْمِيم والذالين، وبكسر أَولهمَا، وَحسن بسن، وعطشان نطشان، وشغر بغر، قَالَ الْجَوْهَرِي: (اسمان جعلا وَاحِدًا وبنيا على الْفَتْح) ، وَشَيْطَان ليطان، وخاز باز، وجائع نائع، وثقف لقف، وحياك الله ... ... ... ... . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وبياك، وأسوان أتوان، أَي: حَزِين، وتافه نافه، وَحل بل، وحقير نقير، وَعين حدرة بدرة أَي: عَظِيمَة، وخضر مُضر، وخراب يباب، وسمج لمج، وسيغ ليغ، وشكس لكس وَيَوْم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 عك [أك] ، إِذا كَانَ حاراً، وعفريت نفريت، وَكثير بثير، [وشقيح لقيح] ، [وَفقه نقه] ، وَهُوَ أشق أمق خبق: للطويل، وَفعلت ذَلِك على رغمه ودغمه، وَغير ذَلِك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وَقد صنف فِيهِ ابْن خالويه كتابا سَمَّاهُ (الإتباع والإلباع) وَكَذَا عبد الْوَاحِد اللّغَوِيّ وَابْن فَارس وَقد ذكر مِنْهُ ابْن الْجَوْزِيّ جانبا كَبِيرا فِي كِتَابه المدهش. وَهُوَ كثير فِي ثَلَاثَة أَلْفَاظ: كحسن بسن قسن، وَلم يسمع فِي أَكثر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 خَمْسَة أَلْفَاظ نَحْو: كثير [بثير] برير بجير بذير، وَقيل: [مجير] . الثَّالِث: / الْمُؤَكّد، وَلَيْسَ من المترادف أَيْضا، وَلم أرهم حكوا فِيهِ خلافًا، لعدم استقلاله كَمَا قُلْنَا فِي الَّذِي قبله، صرح بذلك الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته " وَغَيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 وَيَأْتِي - أَيْضا - فِي خَمْسَة أَلْفَاظ، وَلَا يَأْتِي فِي أَكثر فَتَقول: قَامَ الْقَوْم كلهم أَجْمَعُونَ أكتعون أبصعون أبتعون. قَوْله: {وَأفَاد التَّابِع التقوية، خلافًا للآمدي، وَابْن حمدَان، [وَجمع] } . الْأَظْهر: أَن التَّابِع أَفَادَ التقوية؛ لِأَنَّهُ لم يوضع عَبَثا، وَاخْتَارَهُ التَّاج السُّبْكِيّ، وَجمع كثير. وَذهب الْآمِدِيّ، وَابْن حمدَان، وَجمع: أَنه لَا فَائِدَة للتابع، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْبَيْضَاوِيّ. قَوْله: {وَهُوَ على رنة الْمَتْبُوع} . وَهَذَا مَعْرُوف بالاستقراء، حَتَّى لَو وجد مَا لَيْسَ على زنته، لم يحكم بِأَنَّهُ من هَذَا الْبَاب. قَوْله: {و [الْمُؤَكّد] يُقَوي، وينفي احْتِمَال الْمجَاز} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 التوكيد هُوَ: التقوية بِاللَّفْظِ، وَأما اللَّفْظ: فَهُوَ الْمُؤَكّد، فَلذَلِك قُلْنَا: (الْمُؤَكّد يُفِيد التقوية بِلَا نزاع) ، وَيزِيد على ذَلِك بِكَوْنِهِ يَنْفِي احْتِمَال الْمجَاز، فَإِن قَوْلك: قَامَ الْقَوْم، يحْتَمل أَن بَعضهم قَامَ، أَو أَكْثَرهم، فَإِذا قلت: كلهم، انْتَفَى ذَلِك، وَإِذا قلت: جَاءَ زيد، احْتمل أَنه قد جَاءَ خَبره، أَو كِتَابه، فَإِذا قلت: جَاءَ زيد نَفسه، انْتَفَى ذَلِك، وَهُوَ ظَاهر، وَصرح بذلك ابْن عقيل - على مَا يَأْتِي - وَابْن الْعِرَاقِيّ، وَجمع، وَكَذَلِكَ النُّحَاة، وَكَذَلِكَ الْمثنى وَالْمَجْمُوع. قَوْله: {وأنكرته الْمَلَاحِدَة} . [أنْكرت] الْمَلَاحِدَة التَّأْكِيد، وهم محجوجون بِالْكتاب وَالسّنة وَكَلَام الْعَرَب، لَكِن الْمَلَاحِدَة طعنوا فِي الْقُرْآن بِسَبَب وُقُوع التَّأْكِيد فِيهِ، قَالَه الْهِنْدِيّ. وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: (وُقُوع التَّأْكِيد مَعْلُوم ضَرُورَة، خلافًا للملحدة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وَقَالَ ابْن مُفْلِح: (وَأنْكرت الْمَلَاحِدَة التَّأْكِيد، لعدم فَائِدَته. رد: جَوَازه ضَرُورِيّ، وَمَعْلُوم وُقُوعه) . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَظَاهر / نقل الْخلاف أَنهم أَنْكَرُوا التَّأْكِيد مُطلقًا، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل نازعوا فِي كَون الْقُرْآن كَلَام الله بِسَبَب وُقُوع التَّأْكِيد فِيهِ، لزعمهم الْقُصُور عَن تأدية مَا فِي النَّفس، وَالله تَعَالَى منزه عَن ذَلِك، وجهلوا كَون الله تَعَالَى خَاطب عبَادَة على نهج لُغَة الْعَرَب وَهُوَ فِيهَا) . تَنْبِيهَانِ: أَحدهمَا: الْمَلَاحِدَة هم الإسماعيلية من الرافضة، قَالَه الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد على الرافضي، وهم الباطنية. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: (ملاحدة الشِّيعَة الَّذين يَعْتَقِدُونَ إلهية عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَو نبوته، أَو يَعْتَقِدُونَ: أَن بَاطِن الشَّرِيعَة يُخَالف ظَاهرهَا، كَمَا يَقُوله ملاحدة الإسماعيلية والنصيرية وَغَيرهمَا: من أَنهم تسْقط عَنْهُم أَو عَن خواصهم الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج، وَيُنْكِرُونَ الْمعَاد؛ بل غلاتهم يجحدون الصَّانِع، ويعتقدون فِي مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل أَنه أفضل من مُحَمَّد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 عبد الله، وَأَنه نسخ شَرِيعَته، ويعتقدون فِي أئمتهم أَنهم معصومون) . الثَّانِي: قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (التَّأْكِيد والتوكيد لُغَتَانِ، وَهُوَ: لَفْظِي، ومعنوي، فاللفظي يَجِيء؛ لخوف النسْيَان، وَلَا يكون فِي الْإِنْشَاء قطعا، وَلَا مزِيد على الأَصْل من حَيْثُ هُوَ توكيد، أَو لعدم الإصغاء، أَو للاعتناء، وَتارَة يكون بِإِعَادَة اللَّفْظ، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَالله لأغزون قُريْشًا " وكرره ثَلَاثًا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عِكْرِمَة مُرْسلا، ... ... ... ... ... . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وَتارَة بِمَا يشبه الترادف. والمعنوي يكون لإِطْلَاق اللَّفْظ على أَسبَابه ومقدماته، فَيُقَال: جَاءَ الْبرد: إِذا جَاءَت أَسبَابه، وَجَاء زيد: إِذا جَاءَ كِتَابه، وَيُطلق أَيْضا اسْم الْكل على الْبَعْض، فَيُقَال: قبضت الدَّرَاهِم، وَالْمرَاد: بَعْضهَا) انْتهى. وَمن التَّأْكِيد مَا يكون للجملة ك (إِن) كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي} [الْأَحْزَاب: 56] ، وَالْقسم، وَاللَّام، وَيكون بالحروف الزَّائِدَة فِي الْقُرْآن وَغَيره. قَالَ ابْن جني: (كل حرف زَائِد فِي كَلَام الْعَرَب / فَإِنَّهُ للتَّأْكِيد) . قَوْله: {وَيقوم كل مترادف مقَام الآخر فِي التَّرْكِيب، خلافًا للرازي مُطلقًا، وللبيضاوي، والهندي، [وَجمع] : إِن كَانَا من لغتين} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 الصَّحِيح: أَنه يقوم كل مترادف مقَام الآخر فِي التَّرْكِيب، وَرُبمَا يعبر عَن ذَلِك باللزوم أَو الْوُجُوب، كَمَا قَالَ الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول "، وَأَتْبَاعه، وَابْن الْحَاجِب. وَالْمرَاد: يلْزم أَن يَصح وُقُوع كل من الرديفين مَكَان الآخر؛ لِأَن معنى كل وَاحِد معنى الآخر؛ لِأَن الْمَقْصُود من التَّرْكِيب إِنَّمَا هُوَ الْمَعْنى دون اللَّفْظ، فَإِذا صَحَّ الْمَعْنى مَعَ أحد اللَّفْظَيْنِ وَجب أَن يَصح مَعَ الآخر؛ لِاتِّحَاد مَعْنَاهُمَا. وَمنعه الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " فِي مَوضِع مُطلقًا، وَتَبعهُ صَاحب " الْحَاصِل "، و " التَّحْصِيل ". قَالَ فِي " الْمَحْصُول ": (لِأَن صِحَة الضَّم قد تكون من عوارض الْأَلْفَاظ أَيْضا، فَإِذا عقلنا ذَلِك فِي لغتين فَلم لَا يجوز مثله فِي لُغَة؟) . وَمنع الْهِنْدِيّ، والبيضاوي، وَجمع: إِن كَانَا من لغتين، [لِأَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 اخْتِلَاط اللغتين يسْتَلْزم ضم مهمل إِلَى مُسْتَعْمل، فَإِن إِحْدَى اللغتين] بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللُّغَة الْأُخْرَى بِمَثَابَة المهمل. تَنْبِيه: قيد جمَاعَة الْمَسْأَلَة بقَوْلهمْ: (إِن لم يكن تعبد بِلَفْظِهِ) ، احْتِرَاز من التَّكْبِير وَنَحْوه، فِي أَنه لَا يقوم غَيره مقَامه قطعا. وَفِي هَذَا الْقَيْد نظر؛ لِأَن الْمَنْع هُنَاكَ لعَارض شَرْعِي، والبحث فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِنَّمَا هُوَ من حَيْثُ اللُّغَة، فَلذَلِك لم أذكرهُ فِي الْمَتْن، وَنبهَ عَلَيْهِ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع " وَقَالَ: (وَهَذَا هُوَ الْفرق بَين هَذِه الْمَسْأَلَة وَمَسْأَلَة الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى، فَإِنَّهُمَا متشابهتان، وَالْفرق بَينهمَا: أَن الْمُسْتَند هُنَا فِي الْجَوَاز أَو الْمَنْع اللُّغَة، وَهُنَاكَ الشَّرْع) وَقَالَ: (فِي عبارَة الْبَيْضَاوِيّ إِشَارَة إِلَى [أَن] الْخلاف فِي حَالَة التَّرْكِيب، فَأَما فِي حَالَة الْإِفْرَاد كَمَا فِي تعديد الْأَشْيَاء فَلَا خلاف فِي جَوَازه) انْتهى. قلت: وَهُوَ الَّذِي قطع بِهِ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، تبعا للقطب الشِّيرَازِيّ، والأصفهاني / فِي " شرح مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب "، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 والبيضاوي، والإسنوي، وتابعناهم على ذَلِك، وَكلهمْ تبعوا الْآمِدِيّ فِي " الْمُنْتَهى "، فَإِنَّهُ قَالَ: (يَصح إِطْلَاق كل من المترادفين مَكَان الآخر؛ لِأَنَّهُ لَازم معنى المترادفين) نَقله القطب. وَأما فِي التَّرْكِيب فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَجعل مَحل الْخلاف فِي التَّرْكِيب، وَظَاهر كَلَام كثير من الْعلمَاء الْإِطْلَاق، فَيشْمَل الْإِفْرَاد والتركيب، وَهُوَ بعيد جدا، فالإفراد كَمَا فِي تعديد الْأَشْيَاء من غير عَامل ملفوظ بِهِ وَلَا مُقَدّر، والمركب عَكسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 قَوْله: {فصل} {الْحَقِيقَة: قَول مُسْتَعْمل فِي وضع أول} . لابد قبل [الشُّرُوع] فِي تَبْيِين احترازات الْحَد من تبين مَا هية الْحَقِيقَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 سَيَأْتِي فِي الْمَتْن: أَن إِطْلَاق لفظ الْحَقِيقَة وَالْمجَاز على الْمَعْنى الْمَذْكُور حَقِيقَة عرفية، لِأَنَّهُ من الاصطلاحي لَا من وضع اللُّغَة، نعم، هِيَ منقولة مِنْهَا، وَاخْتلف فِي كَيْفيَّة النَّقْل. فَقَالَ الرَّازِيّ وَجمع: الْحَقِيقَة: فعلية من الْحق، بِمَعْنى: الثَّابِت، أَو الْمُثبت، اسْم فَاعل، أَو اسْم مفعول، نقل إِلَى الِاعْتِقَاد المطابق، ثمَّ إِلَى القَوْل المطابق، ثمَّ إِلَى الْمَعْنى الاصطلاحي. يُرِيدُونَ بذلك: أَن فعيلا مِنْهُ إِن كَانَ بِمَعْنى فَاعل فَمَعْنَاه: الثَّابِت، من حق الشَّيْء يحِق، بِالْكَسْرِ وَالضَّم، بِمَعْنى: ثَبت، وَالتَّاء حِينَئِذٍ على بَابهَا فِي إِفَادَة التَّأْنِيث. أَو بِمَعْنى مفعول: من حققت الشَّيْء أثْبته، فَهَذَا وَإِن كَانَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث كجريح، لَكِن التَّاء فِيهِ لنقل اللَّفْظ من الوصفية إِلَى الاسمية، بِأَن يسْتَعْمل بِدُونِ موصوفه، كَقَوْلِه تَعَالَى: {والنطيحة} [الْمَائِدَة: 3] ، أَي: والبهيمة النطيحة، وَلَوْلَا إخْرَاجهَا للاسمية لقيل: الْبَهِيمَة النطيح، بِلَا تَاء. ثمَّ نقل هَذَا اللَّفْظ - وَهُوَ الْحَقِيقَة سَوَاء كَانَت بِمَعْنى الثَّابِت أَو الْمُثبت - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 إِلَى العقيدة الْحق، ثمَّ نقل إِلَى النِّسْبَة الصادقة، ثمَّ إِلَى الْكَلِمَة الْبَاقِيَة على مدلولها الأول، قَالَه الْبرمَاوِيّ، وَقَالَ: (هَذَا أحسن مَا يُقرر [بِهِ] كَلَامه - يَعْنِي الرَّازِيّ - / وَإِلَّا فالعقيدة، وَالْقَوْل المطابق، وَاللَّفْظ الْمَوْضُوع أَولا، لَا تَأْنِيث فِي شَيْء مِنْهَا، فَكيف أَتَى بِالتَّاءِ وَلَا تَأْنِيث أصلا؟ نعم، تعقب على القَوْل بذلك: بِأَنَّهُ لم احْتِيجَ فِي النَّقْل إِلَى هَذِه الوسائط؟ وَلم لَا يُقَال: إِنَّه نقل إِلَى الاصطلاحي من الأول من غير ضَرُورَة إِلَى وسائط؟ بل مُقْتَضى كَلَام ابْن سَيّده أَنه لَا نقل أصلا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُحكم: (الْحَقِيقَة فِي اللُّغَة: مَا أقرّ فِي الِاسْتِعْمَال على أصل وَضعه، وَالْمجَاز بِخِلَافِهِ) وَحَكَاهُ فِي " الْمَحْصُول " عَن ابْن جني، وَاعْتَرضهُ: بِأَنَّهُ غير جَامع، لخُرُوج الشَّرْعِيَّة والعرفية، ورد: بِأَن المُرَاد أَنه فِي اللُّغَة: مَا بَقِي على وضع أول بِأَيّ وضع كَانَ لَا بِوَضْع اللَّفْظ، وَالله أعلم) انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 إِذا علم ذَلِك؛ فقولنا فِي الْحَد: (قَول) ، أولى من قَول من قَالَ: (لفظ) ؛ لِأَن القَوْل جنس قريب، لكَونه لم يَشْمَل المهمل؛ بِخِلَاف اللَّفْظ. وَخرج بقولنَا: (مُسْتَعْمل) ، اللَّفْظ قبل الِاسْتِعْمَال، فَإِنَّهُ لَا حَقِيقَة وَلَا مجَاز على مَا يَأْتِي، إِذْ الْمجَاز يعْتَبر لَهُ الِاسْتِعْمَال أَيْضا. وَخرج بقولنَا: (فِي وضع أول) ، الْمجَاز؛ فَإِنَّهُ بِوَضْع ثَان، بِنَاء على أَنه مَوْضُوع وَهُوَ الصَّحِيح على مَا يَأْتِي، أما من يَقُول: إِنَّه غير مَوْضُوع، فَيخرج بِقَيْد الْوَضع، وَلَا حَاجَة حِينَئِذٍ إِلَى التَّقْيِيد بِكَوْنِهِ أَولا. وَدخل فِي قَوْلنَا: (فِي وضع أول) مَا وضع لُغَة، أَو شرعا، أَو عرفا، والألفاظ الشَّرْعِيَّة والعرفية، هِيَ بِالْوَضْعِ الأول باصطلاح الشَّرْع وَالْعرْف، وَإِن كَانَت بِالْوَضْعِ الثَّانِي بِاعْتِبَار اللُّغَة، فَإِن الْوَضع الأول أَعم من الْوَضع بِاعْتِبَار اللُّغَة، فَحِينَئِذٍ تكون الْأَلْفَاظ المنقولة شَرْعِيَّة أَو عرفية، بِالْوَضْعِ الأول باصطلاح الشَّرْع وَالْعرْف، وَإِن كَانَت بِالْوَضْعِ الثَّانِي بِاعْتِبَار اللُّغَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 فَإِن قيل: يرد على التَّعْرِيف الْعلم، فَإِنَّهُ يصدق على هَذَا التَّعْرِيف، وَلَيْسَ حَقِيقَة على مَا يَأْتِي. قيل: الَّذِي للْعلم تَعْلِيق اسْم يخص تِلْكَ الْحَقِيقَة بِهِ، لَا من حَيْثُ وضع الْوَاضِع فِي اللُّغَة، / بل كل أحد لَهُ جعل علم على مَا يُريدهُ، وَالَّذِي ذكر من الْوَضع إِنَّمَا هُوَ من جِهَة من يعْتَبر وَضعه للغات، وَلَكِن فِيهِ نظر؛ فَإِن الْأَعْلَام قد تكون بِوَضْع اللُّغَة. تَنْبِيه: قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع " وَجَمَاعَة فِي حد الْحَقِيقَة: (فِيمَا وضع لَهُ ابْتِدَاء) ، وَلم يَقُولُوا: فِي وضع أول. قَالُوا: وَإِنَّمَا عدل عَن ذَلِك، للْخلاف فِي أَن الأول هَل يسْتَلْزم ثَانِيًا؟ فَإِن قُلْنَا: يسْتَلْزم، لزم أَن الْحَقِيقَة تَسْتَلْزِم الْمجَاز. ورد ذَلِك الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر " فَقَالَ: (وَمَا قيل: إِن فِي الْحَد نظرا؛ لِأَن الأول من الْأُمُور الإضافية الَّتِي لَا تعقل إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْئَيْنِ، وَحِينَئِذٍ يكون حد الْحَقِيقَة مستلزماً للمجاز، لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن الأول على تَقْدِير أَن يكون إضافياً لَا يسْتَلْزم إِلَّا الْوَضع الثَّانِي، وَهُوَ جُزْء من مَفْهُوم الْمجَاز إِن اعْتبر الْوَضع الثَّانِي فِي الْمجَاز، وَلَا امْتنَاع فِي ذَلِك، لجَوَاز أَن يعْتَبر فِي حد الشَّيْء جُزْء مُقَابِله) انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 قلت: الصَّحِيح من مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه: أَنه لَو قَالَ: أول مَمْلُوك اشتريه حر، وَلم يشتر غير وَاحِد، أَنه يعْتق عَلَيْهِ، فَسَموهُ: (أول) ، وَلَو لم يشتر غَيره. وَلنَا قَول: إِنَّه لَا يعْتق، بِنَاء على أَنه لَا يُسمى (أول) حَتَّى يُوجد ثَان. {و} قَالَ ابْن حمدَان {فِي " الْمقنع "} ، وَمَعْنَاهُ لِابْنِ عقيل، وَقَالَهُ الْقَرَافِيّ فِي " التَّنْقِيح ": الْحَقِيقَة: {اسْتِعْمَال اللَّفْظ} ورد قَالَ {الْقَرَافِيّ} فِي شرح التَّنْقِيح (الصَّوَاب: اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل، وَفرق بَين اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل، وَبَين اسْتِعْمَال اللَّفْظ، فَالْحق أَنَّهَا مَوْضُوعَة للفظ الْمُسْتَعْمل، لَا لنَفس اسْتِعْمَال اللَّفْظ، إِذْ الْمقْضِي عَلَيْهِ بِأَنَّهُ حَقِيقَة أَو مجَاز: هُوَ اللَّفْظ الْمَوْصُوف بِالِاسْتِعْمَالِ الْمَخْصُوص، لَا نفس الِاسْتِعْمَال) انْتهى. وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِي حدهما أولى من قَول من يَقُول " اسْتِعْمَال اللَّفْظ "، لِأَن مَدْلُول الْحَقِيقَة وَالْمجَاز هِيَ الْأَلْفَاظ / لَا اسْتِعْمَال الْأَلْفَاظ، وَإِنَّمَا [اسْتِعْمَال] اللَّفْظ فِي مَوْضُوعه أَو غَيره يَنْبَغِي أَن يُقَال [لَهُ] : تَحْقِيق وَتجوز، لَا حَقِيقَة ومجاز، تعريفاً للمصادر بالمصادر، وللأسماء بالأسماء) انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 {و} قَالَ القَاضِي {فِي " الْعدة ": لفظ مُسْتَعْمل [فِي] مَوْضُوعه} . وَلَفظه: اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِي مَوْضُوعه، وَهَذَا الْحَد يتمشى على قَول من يَقُول: إِن الْمجَاز غير مَوْضُوع، فيكتفي فِي حَدهَا بقوله: فِي مَوْضُوعه كَمَا تقدم، وَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر أول، وَمن يَقُول: إِنَّه مَوْضُوع، لَا يَكْتَفِي بذلك، وَهُوَ الصَّحِيح. {و} قَالَ أَبُو الْخطاب {فِي " التَّمْهِيد ": اللَّفْظ الْبَاقِي على مَوْضُوعه} ، وَفِيه نظر؛ لدُخُوله الْمجَاز إِذا قُلْنَا: إِنَّه مَوْضُوع. قَوْله: {وَقد تصير مجَازًا وَبِالْعَكْسِ، ذكره أَصْحَابنَا وَغَيرهم} . يَأْتِي فِي الْمَتْن: أَن الدَّابَّة لمُطلق مَا دب، مجَاز عرفا، وَهِي فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 الأَصْل حَقِيقَة، وَأَن الصَّلَاة للدُّعَاء، مجَاز شرعا، وَهِي فِي الأَصْل حَقِيقَة، وَأَن الدَّابَّة لذوات الْأَرْبَع، حَقِيقَة عرفية، وَهِي مجَاز لغَوِيّ، وَأَن الصَّلَاة للأقوال وَالْأَفْعَال الْمَعْلُومَة، حَقِيقَة شَرْعِيَّة، وَهِي مجَاز لغَوِيّ، وَالظَّاهِر أَن هَذَا مُرَادهم هُنَا. قَوْله: {وَهِي لغوية كأسد، وعرفية مَا خص عرفا بِبَعْض مسمياته، عَامَّة كدابة [للْفرس] ، وخاصة كمبتدأ وَنَحْوه، وشرعية، مَا اسْتَعْملهُ الشَّرْع كَصَلَاة للأقوال وَالْأَفْعَال} . الْحَقِيقَة ثَلَاثَة أَنْوَاع: أَحدهَا: اللُّغَوِيَّة، وَهِي الأَصْل، كالأسد على الْحَيَوَان المفترس. الثَّانِي: الْحَقِيقَة الْعُرْفِيَّة، وَحدهَا: مَا خص عرفا بِبَعْض مسمياته، يَعْنِي: أَن أهل الْعرف خصوا أَشْيَاء كَثِيرَة بِبَعْض مسمياتها، وَإِن كَانَ وَضعهَا للْجَمِيع حَقِيقَة، وَهِي قِسْمَانِ: عَامَّة، وخاصة. فالعامة: مَا انْتَقَلت من مسماها اللّغَوِيّ إِلَى غَيره للاستعمال الْعَام بِحَيْثُ هجر الأول، وَذَلِكَ إِمَّا بتخصيص الِاسْم بِبَعْض مسمياته كالدابة / الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَات الْحَافِر، فَإِن الدَّابَّة وضعت فِي أصل اللُّغَة لكل مَا يدب على الأَرْض [فخصصها] أهل الْعرف بِذَات الْحَافِر من الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير. وَفِي " التَّمْهِيد " فِي الْحَقِيقَة الْعُرْفِيَّة: أَن الدَّابَّة اسْم للْفرس عرفا، عِنْد الْإِطْلَاق يصرف إِلَيْهِ، ذكره فِي " الْفُنُون " عَن أصولي يَعْنِي نَفسه، قَالَ: (لِأَن لَهَا نوع قُوَّة من الدبيب، وَلِأَنَّهُ ذُو كروفر) ، وَلِهَذَا مثلنَا بهَا. وَإِمَّا باشتهار الْمجَاز، كإضافتهم الْحُرْمَة إِلَى الْخمر، وَإِنَّمَا الْمحرم الشّرْب، وَكَذَلِكَ مَا يشيع اسْتِعْمَاله فِي غير مَوْضُوعه اللّغَوِيّ، كالغائط، والعذرة، [وَالرِّوَايَة] ، وحقيقتها: المطمئن من الأَرْض، وفناء الدَّار، والجمل الَّذِي يستقى عَلَيْهِ المَاء. والخاصة: مَا لكل طَائِفَة من الْعلمَاء من الاصطلاحات الَّتِي تخصهم، كاصطلاح النُّحَاة، والنظار، والأصوليين، وَغَيرهم على أَسمَاء خصوها بِشَيْء من مصطلحاتهم، كالمبتدأ، وَالْخَبَر، وَالْفَاعِل، وَالْمَفْعُول، والنقض، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وَالْكَسْر، وَالْقلب، وَغير ذَلِك مِمَّا اصْطلحَ عَلَيْهِ أَرْبَاب كل فن. {وَالْمجَاز: قَول مُسْتَعْمل بِوَضْع ثَان لعلاقة} . لابد قبل الشُّرُوع فِي ذكر احترازات الْحَد أَن نحرر مَا هية لفظ الْمجَاز وتصريفه، كَمَا تقدم فِي الْحَقِيقَة. أما لفظ الْمجَاز فِي الأَصْل فمفعل من الْجَوَاز وَهُوَ: العبور والانتقال، وَأَصله مجوز، نقلنا حَرَكَة الْوَاو إِلَى مَا قبلهَا وَهِي الْجِيم، فَبَقيَ الْوَاو سَاكِنا وَمَا قبله مَفْتُوح، قلبناه ألفا، فَبَقيَ مجَاز. والمفعل يكون مصدرا، وَاسم الْمَكَان، وَاسم زمَان، فالمجاز بِالْمَعْنَى الاصطلاحي: إِمَّا مَأْخُوذ من الأول، أَو من الثَّانِي، لَا من الثَّالِث، لعدم العلاقة فِيهِ بخلافهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 فَإِنَّهُ إِن كَانَ من الْمصدر فَهُوَ متجوز بِهِ إِلَى الْفَاعِل للملابسة، كَعدْل بِمَعْنى عَادل، أَو من الْمَكَان لَهُ فَهُوَ من إِطْلَاق الْمحل على الْحَال، وَمَعَ ذَلِك / فَفِيهِ تجوز آخر؛ لِأَن الْجَوَاز حَقِيقَة للجسم لَا للفظ، لِأَنَّهُ عرض لَا يقبل الِانْتِقَال، فَهُوَ مجَاز باعتبارين، لَا أَنه مجَاز مَنْقُول من مجَاز آخر فَيكون بمرتبتين كَمَا زَعمه الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه، فالمجاز هُوَ: اللَّفْظ الْجَائِز من شَيْء إِلَى آخر، تَشْبِيها بالجسم الْمُنْتَقل من مَوضِع إِلَى آخر، فحقق ذَلِك. إِذا علم ذَلِك؛ فقولنا فِي حَده: (قَول) ، جنس قريب، وَهُوَ أحسن من قَول من قَالَ: (لفظ) ، لِأَنَّهُ جنس بعيد كَمَا تقدم. وَقَوْلنَا: (مُسْتَعْمل) ، احْتِرَاز من المهمل، وَمن اللَّفْظ قبل الِاسْتِعْمَال، فَإِنَّهُ لَا حَقِيقَة وَلَا مجَاز، كَمَا تقدم، وَيَأْتِي. وَقَوْلنَا: (بِوَضْع ثَان) ، احْتِرَاز من الْحَقِيقَة، فَإِنَّهَا بِوَضْع أول كَمَا تقدم، وَمن لم ير الْمجَاز مَوْضُوعا يَقُول: فِي غير مَا وضع لَهُ، لَكِن الصَّحِيح: أَنه مَوْضُوع. وَقَوْلنَا: (لعلاقة) ، خرج بهَا الْأَعْلَام المنقولة كبكر وكلب وَنَحْوهمَا، فَلَيْسَ بمجاز وَإِن كَانَ مَنْقُولًا؛ لكَونه لم ينْقل لعلاقة، وَلذَلِك خرج الْغَلَط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 تَنْبِيه: العلاقة هُنَا هِيَ المشابهة الْحَاصِلَة بَين الْمَعْنى الأول وَالْمعْنَى الثَّانِي، بِحَيْثُ ينْتَقل الذِّهْن بواسطتها عَن مَحل الْمجَاز إِلَى الْحَقِيقَة، فَكَانَ الْقيَاس فتح عينهَا؛ لِأَن الْفَتْح فِي الْمعَانِي، كَمَا يُقَال: علقت زَوْجَتي علاقَة، أَي: أحببتها حبا [شَدِيدا] ، وَالْكَسْر فِي الْأَجْسَام، وَمِنْه: علاقَة السَّوْط. وَحِينَئِذٍ إِمَّا أَن تقْرَأ بِالْفَتْح على الأَصْل، أَو بِالْكَسْرِ على التَّشْبِيه بالجسم. قَوْله: {وَلَا يعْتَبر اللُّزُوم الذهْنِي بَين الْمَعْنيين، خلافًا لقوم} . لابد أَن يكون بَين الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ والمجازي علاقَة اعْتبرت فِي اصْطِلَاح التخاطب بِحَسب النَّوْع، وَإِلَّا لجَاز اسْتِعْمَال كل لفظ لكل معنى بالمجاز، وَهُوَ بَاطِل اتِّفَاقًا، وَلِأَنَّهُ لَو لم تكن العلاقة بَينهمَا، لَكَانَ الْوَضع بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْنى الثَّانِي [أَولا] ، فَيكون حَقِيقَة فيهمَا، وَهُوَ بَاطِل / وَقد اشْترط قوم: اللُّزُوم الذهْنِي بَين الْمَعْنيين، وَهُوَ بَاطِل، فَإِن أَكثر المجازات الْمُعْتَبرَة عَارِية عَن اللُّزُوم الذهْنِي. قَوْله: {ويتجوز بِسَبَب قابلي، وصوري، وفاعلي، وغائي، عَن مسبب، وبعلة عَن مَعْلُول، ولازم عَن ملزوم، وَأثر عَن مُؤثر، وَمحل عَن حَال، وَبِمَا بِالْقُوَّةِ على مَا بِالْفِعْلِ، وَبِكُل عَن بعض، [ومتعلق عَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 مُتَعَلق] ، وَبِالْعَكْسِ فِي الْكل، وَبِاعْتِبَار وصف زائل ف {وأورثكم أَرضهم} [الْأَحْزَاب: 27] وَنَحْوه مجَاز خلافًا للشَّيْخ، بِشَرْط أَن لَا يكون متلبساً الْآن بضده، أَو آيل قطعا أَو ظنا بِفعل أَو قُوَّة، وَزِيَادَة، وَنقص، وشكل، وَصفَة ظَاهِرَة، وَاسم ضد، ومجاورة، وَنَحْوه} . ذكرنَا من أَنْوَاع العلاقة أَرْبَعَة وَعشْرين نوعا، وعدها الْآمِدِيّ، وَتَبعهُ ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَجمع: خَمْسَة. قَالَ الْآمِدِيّ: (كل جِهَات التَّجَوُّز لَا تخرج عَن هَذَا) . وَقَالَ فِي " الْمَحْصُول ": (الَّذِي يحضرنا مِنْهَا اثْنَا عشر قسما) . وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل تبعا للقطب الشِّيرَازِيّ: (حصروا العلاقة بِنَاء على الاستقراء فِي خَمْسَة وَعشْرين نوعا) . وأوصلها الصفي الْهِنْدِيّ إِلَى أحد وَثَلَاثِينَ نوعا، وَزَاد غَيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 عَلَيْهِ. قَالَ بَعضهم: (فِيهَا تدَاخل) . وَنحن نذْكر مَا قُلْنَاهُ فِي الْمَتْن، ونزيد مَا قيل فِي ذَلِك. الأول: إِطْلَاق السَّبَب على الْمُسَبّب. قَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شرح الْمِنْهَاج ": (إِطْلَاق السَّبَب على الْمُسَبّب، أَي: الْعلَّة على الْمَعْلُول) ، فجعلهما إِطْلَاق الْعلَّة على الْمَعْلُول، وَسَيَأْتِي أَن إِطْلَاق الْعلَّة على الْمَعْلُول نوع آخر، وَلَعَلَّه آراد إِطْلَاق ذَلِك بِاعْتِبَار، وَإِطْلَاق غَيره بِاعْتِبَار آخر. وَإِطْلَاق السَّبَب على الْمُسَبّب أَرْبَعَة أَقسَام: الأول: القابلي، كتسمية الشَّيْء باسم قابله كَقَوْلِهِم: سَالَ الْوَادي، وَالْأَصْل: سَالَ المَاء فِي الْوَادي، لَكِن لما كَانَ الْوَادي سَببا قَابلا لسيلان المَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 فِيهِ، صَار المَاء من حَيْثُ القابلية كالمسبب لَهُ، فَوضع لفظ وَادي مَوْضِعه، قَالَه / الْبَيْضَاوِيّ والطوفي. قَالَ الْإِسْنَوِيّ: (ويعبر عَنهُ بالمادي) . وَقَالَ - أَيْضا -: (فِي تَسْمِيَة هَذَا سَببا مَوضِع الْمُسَبّب نظر؛ فَإِن المادي فِي اصطلاحهم: جنس مَاهِيَّة الشَّيْء، كالخشب، مَعَ السرير، وَهنا لَيْسَ كَذَلِك، وَيظْهر أَن هَذَا من جنس تَسْمِيَة الْحَال باسم الْمحل، أَو من مجَاز النُّقْصَان، وَتَقْدِيره: سَالَ مَاء الْوَادي) انْتهى. وَهُوَ مُحْتَمل. الثَّانِي: الصُّورِي، كَقَوْلِهِم: هَذِه صُورَة الْأَمر وَالْحَال، أَي: حَقِيقَته. الثَّالِث: الفاعلي، كَقَوْلِهِم: نزل السَّحَاب، أَي: الْمَطَر، لَكِن فاعليته بِاعْتِبَار الْعَادة، كَمَا تَقول: أحرقت النَّار، وَقَوْلهمْ للمطر: سَمَاء، لِأَن السَّمَاء فَاعل مجازي للمطر، بِدَلِيل قَوْلهم: أمْطرت السَّمَاء، وَقَالَ الشَّاعِر: (إِذا نزل السَّمَاء بِأَرْض قوم ... رعيناه وَإِن كَانُوا غضاباً) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 أَي: الْمَطَر. الرَّابِع: الغائي، كتسميتهم الْعصير خمرًا، وَالْحَدِيد خَاتمًا، وَالْعقد نِكَاحا، لِأَنَّهُ غَايَته، وَبَعْضهمْ يردهُ إِلَى مجَاز مَا يؤول، لَكِن شَرط ذَلِك أَن يكون بِقطع أَو غَلَبَة لَا بِاحْتِمَال، نعم، يشبه مَا سَيَأْتِي من إِطْلَاق مَا بِالْفِعْلِ على مَا بِالْقُوَّةِ، على أَن فِيهِ نظرا من حَيْثُ أَن الْعلَّة الغائية إِنَّمَا هِيَ فِي الذِّهْن وَهِي معلولة فِي الْخَارِج، فَإِن روعي الْخَارِج فَهُوَ من إِطْلَاق الْمَعْلُول على الْعلَّة كتسمية الْخشب سريراً، أَو الذِّهْن فَهُوَ من إِطْلَاق الْعلَّة على الْمَعْلُول؛ لِأَن الْعلَّة حِينَئِذٍ إِرَادَة خمريته بالعصير، أَو إِرَادَة كَونه سريراً قبل عمله، لَكِن الْعلَّة فِي الْحَقِيقَة هِيَ إِرَادَة ذَلِك. الثَّانِي: إِطْلَاق الْمُسَبّب على السَّبَب، عكس الَّذِي قبله، كإطلاق الْمَوْت على الْمَرَض الشَّديد، وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} [الْبَقَرَة: 188] ، أَي: لَا تأخذوها، وَالْأكل مسبب عَن الْأَخْذ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 وكقول الشَّاعِر: (شربت الْإِثْم حَتَّى ضل عَقْلِي ... كَذَاك الْإِثْم يذهب بالقعول) سمي الْخمر إِثْمًا؛ لكَون الْإِثْم مسبباً عَنهُ. الثَّالِث: إِطْلَاق الْعلَّة على الْمَعْلُول، / كَقَوْلِهِم: رَأَيْت الله فِي كل شَيْء، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ موجد كل شَيْء وعلته فَأطلق لَفظه عَلَيْهِ، وَمَعْنَاهُ: رَأَيْت كل شَيْء فاستدللت بِهِ على الله. الرَّابِع: عَكسه، وَهُوَ: إِطْلَاق الْمَعْلُول على الْعلَّة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِذا قضى أمرا} [آل عمرَان: 47] ، أَي: إِذا أَرَادَ أَن يقْضِي أمرا، فالقضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 مَعْلُول الْإِرَادَة، وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِن حكمت فاحكم} [الْمَائِدَة: 42] ، أَي: إِذا أردْت أَن تحكم. الْخَامِس: إِطْلَاق اللَّازِم على الْمَلْزُوم، كتسمية السّقف جداراً، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (قوم إِذا حَاربُوا شدو مآزرهم ... دون النِّسَاء وَلَو باتت بأظهار) يُرِيد بشد الْإِزَار: الاعتزال عَن النِّسَاء، وَمِنْه: إِطْلَاق الْمس على الْجِمَاع غَالِبا، وَإِلَّا فقد يكون الْجِمَاع بِحَائِل. السَّادِس: عَكسه، وَهُوَ: إِطْلَاق الْمَلْزُوم على اللَّازِم، كتسمية الْعلم حَيَاة، وَمِنْه: {أم أنزلنَا عَلَيْهِم سُلْطَانا فَهُوَ يتَكَلَّم} [الرّوم: 35] ، أَي: برهاناً فَهُوَ يدلهم، سميت الدّلَالَة كلَاما؛ لِأَنَّهَا من لوازمه، وَمِنْه قَول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 الْحُكَمَاء: كل صَامت نَاطِق بموجده، أَي: الصَّنْعَة فِيهِ تدل على محدثه فَكَأَنَّهُ ينْطق. السَّابِع: إِطْلَاق الْأَثر على الْمُؤثر، كتسمية ملك الْمَوْت موتا، وكقول الشَّاعِر يصف ظَبْيَة: (فَإِنَّمَا هِيَ أقبال وإدبار ... . لِأَن الإقبال والإدبار من فعلهَا. الثَّامِن: عَكسه، وَهُوَ: إِطْلَاق الْمُؤثر على الْأَثر، كَقَوْل الْقَائِل: رَأَيْت الله، أَو مَا أرى فِي الْوُجُود إِلَّا الله، يُرِيد آثاره [الدَّالَّة] عَلَيْهِ فِي الْعَالم، وكقولهم فِي الْأُمُور المهمة: هَذِه إِرَادَة الله، أَي: مُرَاده النَّاشِئ عَن إِرَادَته. التَّاسِع: إِطْلَاق الْمحل على الْحَال، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للْعَبَّاس: " لَا يفضض الله فَاك "، أَي: أسنانك؛ إِذْ الْفَم مَحل ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 الْأَسْنَان، وكتسمية المَال كيساً، كَقَوْلِهِم: هَات الْكيس، وَالْمرَاد: المَال الَّذِي فِيهِ، وكتسمية الْعصير كأساً. الْعَاشِر: / عَكسه، وَهُوَ: إِطْلَاق الْحَال على الْمحل، كتسمية الْكيس مَالا، والكأس خمرًا، وَمِنْه: {وَأما الَّذين ابْيَضَّتْ وُجُوههم فَفِي رَحْمَة الله هم فِيهَا خَالدُونَ} [آل عمرَان: 107] ، أَي: فِي الْجنَّة؛ لِأَنَّهَا مَحل الرَّحْمَة. الْحَادِي عشر: إِطْلَاق مَا بِالْقُوَّةِ على مَا بِالْفِعْلِ، كتسمية الْخمر فِي الدن مُسكرا، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كل مُسكر خمر "، لِأَن فِيهِ قُوَّة الْإِسْكَار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 الثَّانِي عشر: عَكسه، إطلاقاً مَا بِالْفِعْلِ على مَا بِالْقُوَّةِ. كتسمية الْإِنْسَان الْحَقِيقِيّ نُطْفَة، وَهَذَا الْمِثَال من نوع التَّسْمِيَة بِوَصْف زائل. الثَّالِث عشر: إِطْلَاق الْكل على الْبَعْض، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يجْعَلُونَ أَصَابِعهم فِي ءاذانهم} [الْبَقَرَة: 19] ، أَي: أناملهم. الرَّابِع عشر: عَكسه إِطْلَاق الْبَعْض الْكل، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَتَحْرِير رَقَبَة} [النِّسَاء: 92، والمجادلة: 3] ، وَالْعِتْق إِنَّمَا هُوَ للْكُلّ لَا للرقبة، وَمِنْه: قَوْله: " [على] الْيَد مَا أخذت حَتَّى تُؤَدِّيه "، وَالْمرَاد: صَاحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 الْيَد بِكَمَالِهِ، وَقَوله تَعَالَى: {كل شَيْء هَالك إِلَّا وَجهه] } [الْقَصَص: 88] ، أَي: ذَاته. الْخَامِس عشر: إِطْلَاق الْمُتَعَلّق - بِكَسْر اللَّام - على الْمُتَعَلّق - بِفَتْحِهَا -، وَالْمرَاد: التَّعَلُّق الْحَاصِل بَين الْمصدر وَاسم الْفَاعِل وَاسم الْمَفْعُول، فَشَمَلَ سِتَّة أَقسَام: أَحدهَا: إِطْلَاق الْمصدر على اسْم الْمَفْعُول، كَقَوْلِه تَعَالَى: {هَذَا خلق الله} [لُقْمَان: 11] ، أَي: مخلوقه. الثَّانِي: عَكسه، وَهُوَ: إِطْلَاق اسْم الْمَفْعُول على الْمصدر كَقَوْلِه تَعَالَى {بأييكم المتقون} {الْقَلَم: 6} أَي الْفِتْنَة. الثَّالِث: إِطْلَاق الْمصدر على اسْم الْفَاعِل، كَقَوْلِهِم: رجل عدل أَي عَادل. الرَّابِع: عَكسه، وَهُوَ إِطْلَاق اسْم الْفَاعِل على الْمصدر، كَقَوْلِهِم: قُم قَائِما، أَي: قيَاما، وكقولهم: يخْشَى اللائمة، يَعْنِي: اللوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 الْخَامِس: إِطْلَاق اسْم الْفَاعِل على الْمَفْعُول، كَقَوْلِه تَعَالَى: {من مَاء دافق} [الطارق: 6] ، أَي: مدفوق، و: {عيشة راضية} [الحاقة: 21، وَالْقَارِعَة: 7] ، أَي: مرضية. السَّادِس: عَكسه، إِطْلَاق اسْم الْمَفْعُول على الْفَاعِل، كَقَوْلِه تَعَالَى: {حِجَابا مَسْتُورا} [الْإِسْرَاء: 45] ، أَي: ساتراً، وَجعله ابْن هُبَيْرَة على بَابه. السَّادِس عشر: عَكسه، إِطْلَاق الْمُتَعَلّق / - بِفَتْح اللَّام - على الْمُتَعَلّق - بِالْكَسْرِ - كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تحيضي - فِي علم الله - سِتا أَو سبعا "، فَإِن التَّقْدِير: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 تحيضي سِتا أَو سبعا، وَهُوَ مَعْلُوم الله تَعَالَى. السَّابِع عشر: اعْتِبَار وصف زائل، كإطلاق العَبْد على الْعَتِيق. تَنْبِيه: قَوْله تَعَالَى: {وأورثكم أَرضهم وديارهم وَأَمْوَالهمْ} [الْأَحْزَاب: 27] ، من هَذَا الْقَبِيل عِنْد الْأَكْثَر، فَإِنَّهَا قبل إرثنا لَهَا كَانَت أَرضهم وديارهم وَأَمْوَالهمْ، خلافًا للشَّيْخ تَقِيّ الدّين. وَمثله قَوْله تَعَالَى: {وَلكم نصف مَا ترك أزواجكم} [النِّسَاء: 12] ، فَإِنَّهَا زَوْجَة بِاعْتِبَار مَا كَانَ. وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيّمَا رجل وجد مَاله عِنْد رجل قد أفلس فَصَاحب الْمَتَاع أَحَق بمتاعه "، قَالَ القَاضِي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وَغَيره: (أَي: الَّذِي كَانَ صَاحب الْمَتَاع، [وَالَّتِي كَانَت] أَرضهم، واللاتي كن أَزْوَاجًا، وَهُوَ مجَاز مُسْتَعْمل يجْرِي مجْرى الْحَقِيقَة، وَمِنْه قَوْلهم: درب فلَان، وَقَطِيعَة فلَان، ونهر فلَان) انْتهى. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (وَالصَّوَاب أَن هَذَا حَقِيقَة؛ لِأَن الْإِضَافَة يَكْفِي فِيهَا أدنى مُلَابسَة، لَكِن قد يكون عِنْد الْإِطْلَاق لَهُ معنى، وَعند الاقتران بِلَفْظ آخر لَهُ معنى، فَيرجع [إِلَى أَن] الْقَرِينَة اللفظية الدَّالَّة بِالْوَضْعِ، هَل يكون مَا اقْترن بهَا دَالا بِالْحَقِيقَةِ أَو الْمجَاز؟ وَالصَّوَاب الْمَقْطُوع بِهِ: أَنه حَقِيقَة، وَإِن كَانَ طَائِفَة من أَصْحَابنَا وَغَيرهم قَالُوا: إِنَّه مجَاز) انْتهى. قَوْله: بِشَرْط أَن لَا يكون متلبساً الْآن بضده. فَلَا يُقَال للشَّيْخ: طِفْل بِاعْتِبَار مَا كَانَ، وَلَا [للثوب] الْمَصْبُوغ: أَبيض بِاعْتِبَار مَا كَانَ، وَلَا لمن أسلم: كَافِر بِاعْتِبَار مَا كَانَ، وَكَأَنَّهُم يُرِيدُونَ بذلك: أَنه لَا يطْرَأ وصف وجودي محسوس قَائِم بِهِ، وَإِلَّا فَمَا الْفرق بَين ذَلِك وَبَين تَسْمِيَة الْعَتِيق عبدا بِاعْتِبَار مَا كَانَ؟ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَخْلُو ذَلِك كُله من نظر قَالَه الْبرمَاوِيّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 الثَّامِن عشر: إِطْلَاقه بِاعْتِبَار مَا يؤول بِنَفسِهِ، ليخرج: أَن العَبْد لَا يُطلق عَلَيْهِ حر بِاعْتِبَار مَا يؤول إِلَيْهِ. وَقَوله: قطعا [أَو ظنا] . إِشَارَة: إِلَى اعْتِبَار كَون الْمَآل مَقْطُوعًا بِوُجُودِهِ، نَحْو: {إِنَّك ميت وَإِنَّهُم ميتون} [الزمر: 30] ، / أَو غَالِبا، كتسمية الْعصير خمرًا، فَإِن الْغَالِب إِذا بَقِي أَن يَنْقَلِب خمرًا إِلَّا مَا كَانَ نَادرا، أَو مُحْتملا على السوَاء، فَلذَلِك ضعف أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة حمل الْحَنَفِيَّة " فنكاحها بَاطِل "، على أَن المُرَاد: يؤول إِلَى إِلَى الْبطلَان، لكَون الْوَلِيّ قد يردهُ ويفسخه، فَإِن ذَلِك لَيْسَ قَطْعِيا وَلَا غَالِبا، وَيَأْتِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 وَقَوله: بِفعل أَو قُوَّة، فالفعل: كإطلاق الْخمر على الْعِنَب، وَالْقُوَّة: كإطلاق الْمُسكر على الْخمر. التَّاسِع عشر: الزِّيَادَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَيْسَ كمثله شَيْء} [الشورى: 11] ، فالكاف زَائِدَة: أَي: لَيْسَ مثله شَيْء، وَقيل: الزَّائِد مثل، أَي: لَيْسَ كَهُوَ شَيْء، وَإِنَّمَا حكم بِزِيَادَة أَحدهمَا؛ لِئَلَّا يلْزم أَن يكون لله تَعَالَى مثل وَهُوَ منزه عَن ذَلِك، لِأَن نفي مثل الْمثل يَقْتَضِي ثُبُوت مثل، وَهُوَ محَال، أَو يلْزم نفي الذَّات، لِأَن مثل مثل الشَّيْء هُوَ ذَلِك الشَّيْء، وثبوته وَاجِب، فَتعين أَن [المُرَاد نفي الْمثل] وَذَلِكَ: إِمَّا بِزِيَادَة الْكَاف، أَو مثل. وَقَالَ ابْن جني: (كل حرف زيد فِي الْكَلَام الْعَرَبِيّ، فَهُوَ قَائِم مقَام إِعَادَة الْجُمْلَة مرّة أُخْرَى) . فَيكون معنى الْآيَة: (لَيْسَ مثله شَيْء) مرَّتَيْنِ للتَّأْكِيد. وَقد ادّعى كثير من الْعلمَاء عدم الزِّيَادَة، والتخلص من الْمَحْذُور بِغَيْر ذَلِك، وَلَا سِيمَا على القَوْل بِأَنَّهُ لَا يُطلق فِي الْقرَان وَلَا فِي السّنة زَائِد، وَذَلِكَ من وُجُوه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 أَحدهَا: أَن سلب الْمَعْنى عَن الْمَعْدُوم جَائِز، كسلب الْكِتَابَة عَن ابْن فلَان الَّذِي هُوَ مَعْدُوم، وَلَا يلْزم من نفي الْمثل عَن الْمثل ثُبُوت الْمثل. الثَّانِي: أَن المُرَاد هُنَا بِلَفْظ الْمثل: الصّفة، كالمثل - بِفتْحَتَيْنِ - كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مثل الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون} [الرَّعْد: 35، وَمُحَمّد: 15] ، فالتقدير: لَيْسَ كصفته. قَالَ الرَّاغِب: (الْمثل هُنَا بِمَعْنى الصّفة، وَمَعْنَاهُ: لَيْسَ كصفته صفة) . قَالَ فِي " الْبَدْر الْمُنِير ": (مثل يُوصف بِهِ الْمُذكر والمؤنث وَالْجمع، وَخرج بَعضهم على هَذَا قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ كمثله شَيْء} [الشورى: 11] ، أَي: لَيْسَ كوصفه، وَقَالَ: هُوَ أولى من القَوْل بزيادتها، لِأَنَّهَا / على خلاف الأَصْل) انْتهى. الثَّالِث: أَن المُرَاد بِمثل: ذَات، كَقَوْلِك: مثلك لَا يبخل، أَي: أَنْت لَا تبخل، قَالَ الشَّاعِر: (وَلم أقل مثلك أَعنِي بِهِ ... غَيْرك يَا فَردا بِلَا مشبه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وَقَوله: (أَيهَا العاذل دَعْنِي من عذلك ... مثلي لَا يصغى إِلَى مثلك} وَقد قَالَ تَعَالَى: {فَإِن ءامنوا بِمثل مَا ءامنتم بِهِ فقد اهتدوا} [الْبَقَرَة: 137] ، أَي: بِالَّذِي آمنتم بِهِ، لِأَن إِيمَانهم لَا مثل لَهُ، وَهَذَا اخْتَارَهُ ابْن عبد السَّلَام، فالتقدير فِي الْآيَة: لَيْسَ كذاته شَيْء، بل هَذَا النَّوْع من الْكِنَايَة أبلغ من الصَّرِيح: لتَضَمّنه إِثْبَات الشَّيْء بدليله. قَالَ فِي " الْبَدْر الْمُنِير ": (وَقيل: الْمَعْنى لَيْسَ كذاته شَيْء، كَمَا يُقَال: مثلك من يعرف الْجَمِيل، وَمثلك لَا يفعل كَذَا، أَي: أَنْت تكون كَذَا، وَعَلِيهِ قَوْله تَعَالَى: {كمن مثله فِي الظُّلُمَات} [الْأَنْعَام: 122] ) . الرَّابِع: أَنه لَو فرض لشَيْء مثل، وَلذَلِك الْمثل مثل، كَانَ كِلَاهُمَا مثلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 للْأَصْل، فَيلْزم من نفي مثل الْمثل، نفيهما مَعًا، وَيبقى الْمَسْكُوت عَنهُ، وَذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ، لِأَنَّهُ الْمَوْضُوع، وكل مِنْهُمَا مُقَدّر مثليته، وَقد نفيا عَنهُ. قَالَ شرف الدّين ابْن أبي الْفضل: (اجْعَل الْكَاف أَصْلِيَّة وَلَا يلْزم مَحْذُور، قَالَ: لِأَن نفي الْمثل لَهُ طَرِيقَانِ: إِمَّا بِنَفْي الشَّيْء، أَو بِنَفْي لَازمه، وَيلْزم من نفي اللَّازِم نفي الْمَلْزُوم، وَمن لَوَازِم الْمثل أَن لَهُ مثلا، فَإِذا نَفينَا مثل الْمثل انْتَفَى لَازم الْمثل، فَيَنْتَفِي الْمثل لنفي لَازمه) . الْخَامِس: قَالَه يحيى بن إِبْرَاهِيم [السلماسي] فِي كتاب " الْعدْل فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 منَازِل الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة ": (إِن الْكَاف لتسبيه الصِّفَات، وَمثل لتشبيه الذوات، فنفى الشبيهين كليهمَا عَن نَفسه تَعَالَى، فَقَالَ " {لَيْسَ كمثله شَيْء} [الشورى: 11] ، أَي: لَيْسَ لَهُ مثل، وَلَا كَهُوَ شَيْء) انْتهى. وَقَالَ ابْن هُبَيْرَة من أَصْحَابنَا: (آلتا التَّشْبِيه فِي كَلَام الْعَرَب: الْكَاف وَمثل، تَقول: هَذَا مثل هَذَا، وَهَذَا كَهَذا، فَجمع الْحق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى / آلتي التَّشْبِيه، وَنفى عَنهُ بهما الشّبَه) . تَنْبِيه: قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي: (قَالَ الْجُمْهُور: الْكَلَام يصير بِالزِّيَادَةِ مجَازًا، وَقيل: إِن نفس الزِّيَادَة هِيَ الْمجَاز دون سَائِر الْكَلِمَات؛ لِأَن الْكَاف - مثلا - مستعملة فِي غير موضوعها، وَأما الْمثل فمستعمل فِي مَوْضُوعه، وَالصَّحِيح الأول) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 الْعشْرُونَ: علاقَة النُّقْصَان، أَن ينقص لفظ من الْمركب وَيكون كالموجود للافتقار، سَوَاء كَانَ مُفردا أَو مركبا، جملَة أَو غَيرهَا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّمَا جزاؤا الَّذين يُحَاربُونَ الله} [الْمَائِدَة: 33] ، أَي: يُحَاربُونَ عباد الله وَأهل دينه، وَمثله: {فقبضت قَبْضَة من أثر الرَّسُول} طه: 96] ، أَي: من أثر حافر فرس الرَّسُول، وَبِه قرئَ شاذاً، وَمثله: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} [الْبَقَرَة: 184] ، أَي: فَأفْطر، وَمثل: {وَسُئِلَ الْقرْيَة} [يُوسُف: 82] ، واسأل العير، و {وَاشْرَبُوا فِي قُلُوبهم الْعجل} [الْبَقَرَة: 93] ، أَي: حبه. فاسأل الْقرْيَة من مجَاز النُّقْصَان عِنْد الْأَكْثَر، هَذَا إِذا لم نجْعَل الْقرْيَة اسْما للنَّاس المجتمعين بهَا، من قَرَأت الشَّيْء: جمعته، أَو الْقرْيَة مُشْتَركَة بَين الْأَبْنِيَة والمجتمعين بهَا وَأُرِيد الثَّانِي، أَو أَن نجْعَل الْمجَاز فِيهِ من إِطْلَاق الْمحل على الْحَال، أَو المُرَاد سُؤال الْأَبْنِيَة لتجيب وَيكون ذَلِك معْجزَة، والأرجح الأول، وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 الْحَادِي وَالْعشْرُونَ: علاقَة المشابهة بالشكل، كالأسد على مَا هُوَ بشكله من مجسد أَو منقوش، وَرُبمَا وجدت العلاقتان، {فَأخْرج لَهُم عجلاً جسداً لَهُ خوار} [طه: 88] . الثَّانِي وَالْعشْرُونَ: علاقَة المشابهة فِي معنى، كالأسد للشجاع، بِشَرْط أَن يكون صفة ظَاهِرَة لَا خُفْيَة، ليخرج إِطْلَاق الْأسد على الأبخر، لِأَن البخر فِيهِ خَفِي. الثَّالِث وَالْعشْرُونَ: علاقَة المضادة، بِأَن يُطلق اسْم الضِّدّ على الضِّدّ، كإطلاق الْبَصِير على الْأَعْمَى، وَأكْثر مَا تقع هَذِه العلاقة عِنْد التقابل، نَحْو: {وجزاؤا سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} [الشورى: 40] ، {فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم} [الْبَقَرَة: 194] ، {ومكروا ومكر الله} [آل عمرَان: 54] ، " لَا يمل الله حَتَّى تملوا ". قَالَ الْإِسْنَوِيّ: (الأولى: التَّمْثِيل بالمفازة / للبرية الْمهْلكَة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: (كإطلاقهم السَّلِيم على اللديغ، والمفازة على الْمهْلكَة) . الرَّابِع وَالْعشْرُونَ: علاقَة الْمُجَاورَة، وَهِي تَسْمِيَة الشَّيْء بِمَا جاوره، كإطلاق لفظ الرِّوَايَة على ظرف المَاء، وَإِنَّمَا هِيَ فِي الأَصْل للبعير، وَمِنْه: جرى النَّهر، وسال الْمِيزَاب، و {تجرى من تحتهَا الْأَنْهَار} [الْبَقَرَة: 25، وَالْبَيِّنَة: 8] ، إِذا لم يَجْعَل من مجَاز الْحَذف، أَي: مَاء الْمِيزَاب، أَو مَاء النَّهر. قَوْله: (وَنَحْوه) . أَي: وَنَحْو مَا ذكرنَا من العلاقة مِمَّا لم نذكرهُ، وَقد ذكر غير ذَلِك أَشْيَاء كَثِيرَة، نَحن ذاكروا بَعْضهَا. مِنْهَا: إِطْلَاق الْمُنكر وَإِرَادَة الْمُعَرّف، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة} [الْبَقَرَة: 67] ، إِن كَانَ المُرَاد بهَا مُعينَة، وَقد يُقَال: إِن الْمُعَرّف جزئي للْمُنكر، وَإِطْلَاق الْكُلِّي على الجزئي حَقِيقَة لَا مجَاز. وَمِنْهَا: عَكسه، وَهُوَ إِطْلَاق الْمُعَرّف وَإِرَادَة الْمُنكر، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ادخُلُوا الْبَاب سجدا} [النِّسَاء: 154] ، إِن قُلْنَا: الْمَأْمُور دُخُول أَي بَاب كَانَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 وَقد يُقَال: إِذا كَانَت اللَّام فِيهِ للْجِنْس، كَانَ المُرَاد ذَلِك، وَكَون اللَّام للْجِنْس حَقِيقَة. وَمِنْهَا: إِطْلَاق الِاسْم الْمُقَيد على الْمُطلق، كَقَوْل القَاضِي شُرَيْح: (أَصبَحت وَنصف النَّاس عَليّ غَضْبَان) ، المُرَاد: مُطلق الْبَعْض، لَا خُصُوص النّصْف، لِأَن النَّاس بَين مَحْكُوم عَلَيْهِ ومحكوم لَهُ، وَنَحْوه قَول الشَّاعِر: (إِذا مت كَانَ النَّاس صنفان ... ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 وَمِنْهَا: عَكسه، وَهُوَ: إِطْلَاق الْمُطلق على الْمُقَيد، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَتَحْرِير رَقَبَة} [المجادلة: 3] ، عِنْد من يرى أَن المُرَاد بهَا مُؤمنَة، وَقد يُقَال: إِن التَّقْدِير: رَقَبَة مُؤمنَة، فحذفت الصّفة، فَيكون من مجَاز الْحَذف. وَمِنْهَا: تَسْمِيَة الْبَدَل باسم الْمُبدل، كتسمية الدِّيَة دَمًا، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أتحلفون وتستحقون دم صَاحبكُم "، وَقد يُقَال: إِنَّه من مجَاز الْحَذف، أَي: بدل دَمه. وَمِنْهَا: الْمَدْح فِي صُورَة / الذَّم، وَعَكسه، نَحْو: (مَا أشعره قَاتله الله) ، وَنَحْو قَوْله تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم} [الدُّخان: 49] ، وَيُمكن دخولهما تَحت مجَاز المضادة تمليحاً أَو تهكماً. وَمِنْهَا: الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع من غير الْجِنْس، وَقد يُقَال: إِنَّه بتأويله بِدُخُولِهِ تَحت الْجِنْس يكون من مجَاز المشابهة أَو نَحوه، وَيَأْتِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 وَمِنْهَا: وُرُود الْأَمر بِصُورَة الْخَبَر، وَعَكسه، نَحْو: {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ} [الْبَقَرَة: 233] ، وَقَوله تَعَالَى: {أسمع بهم وَأبْصر} [مَرْيَم: 38] ، وَقد يُقَال: إِن ذَلِك من الْمُبَالغَة والمضادة، بتنزيله منزلَة الَّذِي اسْتعْمل فِيهِ حَقِيقَة بِسَبَب اعْتِقَاده. وَمِنْهَا: وُرُود الْوَاجِب أَو الْمحَال فِي صُورَة الْمُمكن، كَقَوْلِه تَعَالَى: {عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما مَحْمُودًا} [الْإِسْرَاء: 79] ، وَقد يُقَال: إِنَّه لَا يخرج عَن إِطْلَاق الْمَلْزُوم [على] اللَّام لتعذر الْحَقِيقَة. وَمِنْهَا: التَّقَدُّم والتأخر، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَالَّذِي أخرج المرعى فَجعله غثاء أحوى} [الْأَعْلَى: 4 - 5] ، والغثاء: مَا احتمله السَّيْل من الْحَشِيش، والأحوى: الشَّديد الخضرة، وَذَلِكَ سَابق فِي الْوُجُود، ويكمن أَن يدعى أَنه من التَّجَوُّز بِمَا كَانَ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: إِضَافَة الشَّيْء إِلَى مَا لَيْسَ لَهُ، نَحْو: {بل مكر اللَّيْل وَالنَّهَار} [سبأ: 33] ، وَقد يدعى أَن الْإِضَافَة أدنى مُلَابسَة، فَلم تخرج عَن كَونهَا حَقِيقَة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 وَقد يُقَال: إِن هَذَا من بَاب التشكيك على الْمُخَاطب، فَلم يخرج عَن كَونه حَقِيقَة. وَمِنْهَا: إِيرَاد الْمَعْلُوم مساق الْمَجْهُول، وَرُبمَا عبر عَنهُ: بتجاهل الْعَارِف، إِذا كَانَ فِي غير كَلَام الله، ومثلوا بِنَحْوِ: {وَإِنَّا أَو إيَّاكُمْ لعلى هدى أَو فِي ضلال مُبين} [سبأ: 24] . فَهَذِهِ اثْنَتَا عشرَة صُورَة ادعِي فِيهَا أَنَّهَا من الْمجَاز، وفيهَا مِمَّا تقدم. فَائِدَة: يتَفَاوَت الْمجَاز قُوَّة وضعفاً بِحَسب تفَاوت ربط العلاقة بَين مَحل الْمجَاز والحقيقة، وَفِي ذَلِك فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهمَا: أَن الْمجَاز بالمجاورة قد / يكون بِدَرَجَة وَاحِدَة، كالرواية بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجمل، وَالْغَائِط بِالنِّسْبَةِ إِلَى المطمئن من الأَرْض، وَقد يكون بِأَكْثَرَ من دَرَجَة، كتسميتهم الْغَيْث سَمَاء فِي قَول الشَّاعِر: (إِذا نزل السَّمَاء بِأَرْض قوم ... رعيناه وَإِن كَانُوا غضاباً) أَي: إِذا نزل الْغَيْث، وَفِيه مجازان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 أَحدهمَا: إفرادي بِأَكْثَرَ من دَرَجَة، من جِهَة أَنه سمى الْغَيْث سَمَاء؛ لحصوله عَن المَاء النَّازِل من السَّحَاب المجاور للسماء. وَالثَّانِي: إسنادي، وَهُوَ وَصفه الْغَيْث بالنزول؛ لحصوله عَن المَاء المتصف بالنزول من الْغَمَام. الْفَائِدَة الثَّانِيَة: الْمجَاز السببي يكون - أَيْضا - بمراتب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يَا بني ءادم قد أنزلنَا عَلَيْكُم لباساً يواري سوءتكم} [الْأَعْرَاف: 26] ، وَنَفس اللبَاس لم ينزل من السَّمَاء، وَإِنَّمَا أنزل المَاء الَّذِي يكون عَنهُ اللبَاس بوسائط. مِثَاله: ثِيَاب الْكَتَّان، حَاصِلَة عَن الْكَتَّان، الْحَاصِل عَن بذره النَّابِت فِي الأَرْض، بِالْمَاءِ النَّازِل من السَّمَاء، وَنَحْوه. وَمن هَذَا قَول الراجز: (الْحَمد لله المليك الديَّان ... [صَار] الثَّرِيد فِي رُؤُوس العيدان) يُرِيد بالثريد: السنبل الَّذِي فِي رُؤُوس الزَّرْع، وَهُوَ مَادَّة الثَّرِيد؛ لِأَن النسبلة يحصد، ثمَّ يدرس، ثمَّ يذرا، ويصفى، ثمَّ يطحن، ثمَّ يخبز، ثمَّ يطْبخ فَيصير ثريداً، فَهَذَا مجَاز بست مَرَاتِب، فَهَذَا وَأَمْثَاله من محَاسِن لُغَة الْعَرَب، وَيَنْبَغِي لمن حاول علم الشَّرِيعَة النّظر والارتياض فِيهِ؛ ليعرف مواقع أَلْفَاظ الْكتاب وَالسّنة وَكَلَام أهل الْعلم، وَالله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 قَوْله: {وَلَا يشْتَرط النَّقْل فِي الْآحَاد، بل فِي النَّوْع فِي الْأَصَح} . هَل يَكْتَفِي بِوُجُود العلاقة مُطلقًا، أم لَا بُد من اعْتِبَار الْعَرَب لَهَا، أَي: بِأَن تستعملها فِيهِ؟ مذهبان، حَكَاهُمَا الْآمِدِيّ من غير تَرْجِيح، ويعبر عَنْهَا: بِأَن الْمجَاز هَل هُوَ مَوْضُوع أم لَا؟ أصَحهمَا عِنْد ابْن الْحَاجِب وَغَيره: أَنه لَا يشْتَرط؛ / لِأَن أهل الْعَرَبيَّة لَا يتوقفون على ذَلِك، بل يستعملون مجازات متجددة لم تسمع من أهل اللُّغَة وَلَا يخطئون صَاحبهَا، وَلذَلِك لم يدونوا المجازات تدوينهم الْحَقَائِق. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (الْعَرَب وضعت الْمجَاز فِي الْمُفْردَات، وَهل وضعت المركبات؟ على قَوْلَيْنِ: الْجُمْهُور على الْوَضع) انْتهى. وَاخْتَارَ الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعه، وَأَبُو الْمَعَالِي فِي " التَّلْخِيص ": أَنه يشْتَرط؛ لِأَن الْأسد لَهُ صِفَات، وَهِي: الشجَاعَة، والحمى، والبخر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 والجذام، وَمَعَ ذَلِك لَا يجوز إِطْلَاقه لغير الشجَاعَة، وَلَو كَانَت المشابهة كَافِيَة من غير نقل لما امْتنع. وللخصم أَن يَقُول: المشابهة كَافِيَة فِي صفة ظَاهِرَة، وَهَذِه لَا يتَبَادَر الذِّهْن إِلَيْهَا. قَالَ الْقَرَافِيّ: (وَالْخلاف إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَنْوَاع، لَا فِي جزيئات النَّوْع الْوَاحِد، فالقائل بالاشتراط يَقُول: لابد أَن تضع الْعَرَب نوع التَّجَوُّز) . وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (هَل يشْتَرط أَن يكون بَين الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ والمجازي علاقَة اعتبرتها الْعَرَب؟ اجْمَعُوا على أَنه لَا يعْتَبر شخص العلاقة وَأَنه لَا بُد من جِنْسهَا، وَاخْتلفُوا فِي النَّوْع، اخْتَار جمَاعَة اشْتِرَاطه، وَجَمَاعَة [مُقَابلَة] ، فعلى الأول لَا يحْتَاج إِلَى اسْتِعْمَال الْعَرَب) انْتهى. قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (أَقُول: بعد الِاتِّفَاق على وجوب العلاقة فِي الْمجَاز، هَل [يشْتَرط] فِي آحَاد المجازات أَن تنقل بِأَعْيَانِهَا عَن أهل اللُّغَة أم لَا؟ بل يَكْتَفِي بالعلاقة، قد اخْتلف فِيهِ) . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (إِطْلَاق اسْم على مُسَمَّاهُ الْمجَازِي لَا يفْتَقر فِي الْآحَاد إِلَى النَّقْل عَن الْعَرَب، بل الْمُعْتَبر ظُهُور العلاقة على الْأَصَح، وَأما فِي الْأَنْوَاع فمعتبر وفَاقا) انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 وَقَالَ القطب: (هَل يفْتَقر فِي كل صُورَة إِلَى كَونه مَنْقُولًا عَن الْعَرَب، أَو يَكْفِي فِيهِ ظُهُور / العلاقة الْمُعْتَبرَة فِي التَّجَوُّز؟ - حكى الْخلاف - قَالَ: وَإِنَّمَا قَالَ فِي " التَّلْخِيص ": فِي الْآحَاد، لِأَن النَّقْل فِي غير آحَاد الصُّور، كنقل جَوَاز إِطْلَاق اسْم الْمَلْزُوم على اللَّازِم مثلا، وَغَيره من الْأَنْوَاع الْمَذْكُورَة، مُعْتَبر وفَاقا) وَعلله. وَقَالَ ابْن الْحَاجِب: (وَلَا يشْتَرط النَّقْل فِي الْآحَاد على الْأَصَح) . قَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شَرحه ": (الْمَطْلُوب: أَنه لَا يشْتَرط فِي اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي كل وَاحِدَة من الصُّور الَّتِي يُوجد فِيهَا أحد أَنْوَاع العلاقة الْمُعْتَبرَة، النَّقْل عَن أهل اللُّغَة باستعمالهم فِيهَا، بل يَكْفِي فِي اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي كل صُورَة ظُهُور نوع من العلاقة الْمُعْتَبرَة) انْتهى. فتلخص أَن الْمُحَقق أَن مَحل الْخلاف فِي النَّوْع، وَإِن كَانَ ظَاهر كَلَام بَعضهم أَن مَحَله فِي الْآحَاد، وَأَن النَّوْع لَا خلاف فِيهِ كالجنس، وَصرح بِهِ بَعضهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 قَوْله: {وَهُوَ لغَوِيّ: كأسد لشجاع، {وعرفي عَام: كدابة] لمُطلق مَا دب، وخاص: كجوهر لنفيس، وشرعي: كَصَلَاة لدعاء} . يَنْقَسِم الْمجَاز بِحَسب جِهَة وَضعه إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام: لغَوِيّ، وعرفي، وشرعي، كَمَا انقسمت الْحَقِيقَة إِلَى ذَلِك. فاللغوي: كالأسد للشجاع، لعلاقة الْوَصْف الَّذِي هُوَ الجرأة، فَكَأَن أهل اللُّغَة باعتبارهم النَّقْل لهَذِهِ الْمُنَاسبَة، وضعُوا الِاسْم ثَانِيًا للمجاز. والعرفي قِسْمَانِ: عَام، وخاص، فالعام: كالدابة لمُطلق مَا دب، فَهُوَ حَقِيقَة لُغَة، مجَاز عرفا، لِأَن حَقِيقَة الدَّابَّة فِي الْعرف لذات الْحَافِر، ولمطلق مَا دب مجَاز عِنْدهم، وَالْخَاص: كالجوهر للنفيس، انتقالاً فِي الْعرف من ذَات الْحَافِر للمعنى المضمن لَهَا من الدب فِي الأَرْض، وَكَذَا فِي الْخَاص. والشرعي: كَالصَّلَاةِ لمُطلق الدُّعَاء، انتقالاً من ذَات الْأَركان للمعنى المضمن لَهَا من الخضوع وَالسُّؤَال بِالْفِعْلِ أَو الْقُوَّة، فَكَأَن الشَّارِع بِهَذَا الِاعْتِبَار وضع الِاسْم ثَانِيًا، لما كَانَ بَينه وَبَين اللّغَوِيّ هَذِه الْمُنَاسبَة. / فَكل معنى حَقِيقِيّ فِي وضع، هُوَ مجَاز بِالنِّسْبَةِ إِلَى وضع آخر، فَيكون حَقِيقَة ومجازاً باعتبارين، كَمَا تقدم، أَن الْحَقِيقَة قد تصير مجَازًا، وَأَن الْمجَاز قد يصير حَقِيقَة، عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 قَوْله: {وَيعرف بِصِحَّة النَّفْي، وَقيل: دور، وبتبادر غَيره لَوْلَا الْقَرِينَة، وَعدم وجوب اطراده، [قيل] : وَجمعه على خلاف جمع الْحَقِيقَة، وَقيل: لَا يجمع، وبالتزام تَقْيِيده ك " جنَاح الذل " وَنَحْوه، وتوقفه على مُقَابِله، وإضافته إِلَى غير قَابل، ك " اسْأَل الْقرْيَة "، وَعدم الِاشْتِقَاق مِنْهُ بِلَا منع، عِنْد الباقلاني، وَالْغَزالِيّ، والموفق، والطوفي، وَابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، [وَأَجَازَهُ] الْأَكْثَر، [و] فِي " الْفُنُون " [وَغَيره] : الْمجَاز لَا يُؤَكد} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 ذكرُوا أَشْيَاء يعرف بهَا الْمجَاز من الْحَقِيقَة، وَالْمجَاز تَارَة يعرف بتصريح أهل اللُّغَة بِهِ، وَهُوَ قَلِيل جدا، أَو بحده، أَو بِخَاصَّة من خواصه، وَتارَة يعرف بالاستدلال، فتركوا الْأَقْسَام الأول؛ لوضوحها، وَذكروا للأخير وُجُوهًا. مِنْهَا: صِحَة النَّفْي، كَقَوْلِك للبليد: لَيْسَ بِحِمَار، وللجد: لَيْسَ بأب، بِخِلَاف الْحَقِيقَة فَإِنَّهَا لَا تنفى، فَلَا يُقَال للحمار: لَيْسَ بِحِمَار، وَلَا للبليد: لَيْسَ بِإِنْسَان، وَلَا للْأَب: لَيْسَ بأب. زَاد بَعضهم: فِي نفس الْأَمر، احْتِرَازًا عَمَّا إِذا كَانَ ذَلِك لظن ظان، فَإِنَّهُ لَا يدل عَلَيْهِ. قَالَ الْعَضُد: (ليندفع: مَا أَنْت بِإِنْسَان، لصِحَّته لُغَة) . وَقيل: دور؛ لِأَنَّهُ يلْزم سبق الْعلم بالمجاز، قَالَه ابْن الْحَاجِب وَغَيره. قَالَ الْأَصْفَهَانِي: (وَذَلِكَ لِأَن صِحَة النَّفْي وامتناعه تتَوَقَّف على معرفَة الْحَقِيقَة وَالْمجَاز، فَلَو عرفناهما بِصِحَّة النَّفْي وامتناعه لزم الدّور) ، وَإِنَّمَا يلْزم الدّور إِن أُرِيد نفي الْمُسْتَعْمل لَا نفي الْوَاضِع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وَقيل: هُوَ حكم نَقله ابْن مُفْلِح. وَمِنْهَا: تبادر غَيره لَوْلَا الْقَرِينَة الْحَاضِرَة هُنَاكَ، بِخِلَاف الْحَقِيقَة فَإِنَّهَا المتبادرة إِذا كَانَت وَاحِدَة. فَإِن قيل: الْمجَاز الرَّاجِع يتَبَادَر أَيْضا. قيل: إِن رجح قرينَة، فَالْكَلَام حَيْثُ لَا قرينَة، أَو رجح باشتهاره فقد صَار حَقِيقَة بِحَسب مَا اشْتهر فِيهِ من عرف أَو شرع، فَمَا تبادر إِلَّا لكَونه حَقِيقَة، وَإِن كَانَ مجَازًا بِاعْتِبَار / وضع آخر، فَلم يتَبَادَر من كَونه مجَازًا. وَأورد على (الْحَقِيقَة تتبادر عِنْد الْإِطْلَاق) : بِأَن اللَّفْظ الْمُشْتَرك بِالنِّسْبَةِ إِلَى كل وَاحِد من معنييه حَقِيقَة، مَعَ أَنه إِذا أطلق على أَحدهمَا بِدُونِ الْقَرِينَة لم تتبادر الْحَقِيقَة إِلَى الذِّهْن. وَأجِيب: بِأَن اللَّفْظ الْمُشْتَرك حَقِيقَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى أحد معنييه، لَا على التَّعْيِين، وَقد يتَبَادَر أَحدهمَا لَا على التَّعْيِين عِنْد إِطْلَاق اللَّفْظ بِدُونِ الْقَرِينَة، فَلم يلْزم عدم انعكاس التَّعْرِيف، وَلزِمَ حِينَئِذٍ أَن يكون اللَّفْظ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كل وَاحِد من معنييه على التَّعْيِين مجَازًا؛ لِأَن غَيره تبادر إِلَى الذِّهْن عِنْد إِطْلَاق اللَّفْظ بِدُونِ الْقَرِينَة، و - أَيْضا - لزم أَن يكون إِطْلَاق اللَّفْظ الْمُشْتَرك فِي كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وَاحِد من معنييه بالتواطؤ، ضَرُورَة كَون اللَّفْظ مَوْضُوعا للقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا، وَهُوَ أَحدهمَا لَا على التَّعْيِين. وَلقَائِل أَن يُجيب عَن أصل الْإِيرَاد: بِأَن مَا ذكرنَا عَلامَة الْحَقِيقِيَّة لَا تَعْرِيفهَا الْحَقِيقِيّ، والعلامة جَازَ أَن تكون خَاصَّة مُفَارقَة، فَلَا يجب الْعَكْس فِيهَا، وَفِيه نظر. وَمِنْهَا: عدم وجوب اضطراده، بل قد يطرد تَارَة كالأسد للشجاع، وَلَا يطرد تَارَة أُخْرَى، نَحْو: {وَسُئِلَ الْقرْيَة} [يُوسُف: 82] ، أَي: أَهلهَا، فَلَا يُقَال: اسْأَل الْبسَاط، أَي: أَهله، بِخِلَاف الْحَقِيقَة، فَإِنَّهَا وَاجِبَة الاطراد. وَقَول ابْن الْحَاجِب: الاطراد لَيْسَ دَلِيل الْحَقِيقَة؛ لِأَن الْمجَاز قد يطرد، فَمُسلم، لَكِن الَّذِي هُوَ عَلامَة الْحَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ وجوب الاطراد، عكس الْمجَاز، فَإِنَّهُ لَا يجب، وَقد يطرد. فَإِن قيل: فالحقيقة قد لَا تطرد، كالقارورة للزجاج مَعَ كَونهَا من الْقَرار، والدبران لمنزلة الْقَمَر مَعَ كَونهَا من الدبور، فَلَا يُسمى كل مَا فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 قَرَار قَارُورَة / وَلَا مَا فِيهِ دبور [دبرانا] ، وَكَذَلِكَ السخي حَقِيقَة فِي الْكَرِيم، والفاضل فِي الْعَالم، وهما موجودان فِي الله تَعَالَى، مَعَ عدم إطلاقهما عَلَيْهِ. قيل: عدم اطراده لكَون الْمحل الْمعِين قد اعْتبر فِي وضع الِاسْم، فَلَا يُسمى مَا وجد أصل الْمَعْنى فِيهِ - غير هَذَا - بذلك الِاسْم، لفقدان تَمام مُوجب التَّسْمِيَة. وَالْحَاصِل: الْفرق بَين تَسْمِيَة غير ذَلِك، لوُجُود الْمَعْنى، أَو بِوُجُود الْمَعْنى فِيهِ، وَالْمرَاد الثَّانِي، فَلَا يتَعَدَّى. وَنَظِيره: لَو علل فِي بَاب الْقيَاس بِالْمحل، أَو جزئه، أَو لَازمه، لم يقس غَيره عَلَيْهِ، كجوهرة النقدية الْغَالِبَة فِي الرِّبَا فِي الذَّهَب أَو الْفضة، وَإِنَّمَا لم تطرد، وَلم تعد إِلَى شَيْء آخر؛ لتعذر وجود الْعلَّة فِيهِ. وأَيْضا - أَسمَاء الله تَعَالَى توقيفية. وَمِنْهَا على قَول: جمعه على خلاف جمع الْحَقِيقَة، كالأمر يجمع إِذا كَانَ بِمَعْنى القَوْل الَّذِي هُوَ حَقِيقِيَّة، على (أوَامِر) ، وَإِذا كَانَ بِمَعْنى الْفِعْل، على (أُمُور) ، وَهَذَا قَول الْجَوْهَرِي، وَلَا يعرف ذَلِك لغيره، وَتَابعه على ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 كثير من الْأُصُولِيِّينَ تقليداً لَهُ، وَالْمَعْرُوف فِي اللُّغَة خلاف ذَلِك. قَالَ الْأَزْهَرِي فِي " التَّهْذِيب ": (الْأَمر ضد النَّهْي وَاحِد الْأُمُور) . وَقَالَ ابْن سَيّده فِي " الْمُحكم ": (الْأَمر لَا يكسر على غير الْأُمُور) . وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الْأَمر ضد النَّهْي، جمعه أُمُور) . وَأما أَئِمَّة النَّحْو فَلم يقل أحد مِنْهُم: أَن " فعلا " يجمع على " فواعل "، مَعَ ذكرهم الصِّيَغ الشاذة، وَمَعَ ذَلِك لم يذكروه مِنْهَا. وَمِمَّنْ نبه على أَن قَول الْجَوْهَرِي شَاذ، الأبياري فِي " شرح الْبُرْهَان "، ثمَّ حكى عَن بَعضهم: أَن " أوَامِر " جمع " آمُر " بِوَزْن فَاعل، قَالَ: (وَفِيه تجوز؛ لِأَن الْآمِر هُوَ الْمُتَكَلّم، فإطلاقه على الْمصدر أَو الصِّيغَة مجَاز، وَإِن كَانَت صِيغَة " فَاعل " أَو " فاعلة " تجمع على " فواعل "، اسْما كَانَ كفواطم، أَو صفة ككواتب) انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 [وَتعقب على ابْن جني] فِي كتاب " التَّعَاقُب " / ذكر مَا يَقْتَضِي أَن جمع " أَمر " و " نهي " على " أوَامِر " و " نواهي " [سَائِغ] ، وَذكر لَهُ نظيراً. وَأما جعل " أوَامِر " جمعا ل " آمُر " بِوَزْن فَاعل، وَإِن كَانَ فِيهِ تجوز، إِلَّا أَنه عرف شَائِع، وَلِهَذَا يُقَال فِي صِيغ الْقُرْآن وَالسّنة: إِنَّهَا آمرة بِكَذَا، أَو ناهية عَن كَذَا. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي: (قَالَ بَعضهم: إِن " أوَامِر " جمع الْجمع، فَجمع أَولا جمع قلَّة على " أفعل "، ثمَّ جمع " أفعل " على " أفَاعِل "، كَمَا فعل فِي كلب وأكلب وأكالب) ، وَضعف: بِأَن " أوَامِر " فواعل لَا أفَاعِل، فَلَيْسَ مثله، وَلَكِن فِيهِ نظر؛ فقد يدعى أَنه أفَاعِل لَا فواعل، وَأما إِذا قُلْنَا: إِنَّه جمع " آمُر "، فَهُوَ أفَاعِل والهمزة الَّتِي هِيَ فَاء " آمُر "، هِيَ المبدلة واواً من " أوَامِر "، فَهُوَ وزن أكالب سَوَاء، لَكِن هَذَا وَإِن كَانَ مُحْتملا فَجعله على فواعل كضوارب أوضح. انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وَقَالَ فِي " الْبَدْر الْمُنِير ": (أَمر بِكَذَا أمرا، وَجمع الْأَمر " أوَامِر "، هَكَذَا يتَكَلَّم بِهِ النَّاس، وَمن الْأَئِمَّة من يُصَحِّحهُ، وَيَقُول فِي تَأْوِيله: إِن الْأَمر مَأْمُور بِهِ، ثمَّ حول الْمَفْعُول إِلَى فَاعل، كَمَا قيل: أَمر عَارِف، وَأَصله: مَعْرُوف، وعيشة راضية، وَالْأَصْل: مرضية، إِلَى غير ذَلِك، ثمَّ جمع فَاعل على فواعل فأوامر جمع مَأْمُور، وَبَعْضهمْ يَقُول: جمع على " أوَامِر " فرقا بَينه وَبَين الْأَمر بِمَعْنى الْحَال، فَإِنَّهُ يجمع على فعول) انْتهى. قَوْله: وَقيل: لَا يجمع. قَالَ بعض الْعلمَاء: إِن الْمجَاز لَا يجمع، وأبطله الْآمِدِيّ، بِأَن لفظ الْحمار للبليد يثنى وَيجمع إِجْمَاعًا. وَمِنْهَا: الْتِزَام تَقْيِيده ك " جنَاح الذل "، ونار الْحَرْب، فَإِن الْجنَاح وَالنَّار يستعملان فِي مدلولهما الْحَقِيقِيّ من غير قيد، وَإِنَّمَا قيل: بِالْتِزَام تَقْيِيده، وَلم يقل: بتقييده، لِأَن الْمُشْتَرك قد يُقيد فِي بعض الصُّور، كَقَوْلِك: عين جَارِيَة، لكنه لم يلْزم التَّقْيِيد فِيهِ. وَمِنْهَا: توقفه على مُقَابِله، يَعْنِي: توقف اسْتِعْمَاله على الْمُسَمّى الآخر الْحَقِيقِيّ، سَوَاء كَانَ ملفوظاً / بِهِ كَقَوْلِه تَعَالَى: (ومكروا ومكر الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 وَالله} [آل عمرَان: 54] ، فَلَا يُقَال: مكر الله ابْتِدَاء، أَو مُقَدرا كَقَوْلِه تَعَالَى: {قل الله أسْرع مكراً} [يُونُس: 21] ، وَلم يتَقَدَّم لمكرهم ذكر فِي اللَّفْظ، لَكِن تضمنه الْمَعْنى، والعلاقة: المصاحبة فِي الذّكر. وَزعم بَعضهم: أَنه لابد من سبق الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ كَمَا مثلنَا، وَهُوَ مَرْدُود بِنَحْوِ مَا فِي الحَدِيث: " فَإِن الله لَا يمل حَتَّى تملوا " فَإِن الْمجَازِي فِيهِ مُتَقَدم لمقابلة الْحَقِيقِيّ الْمُتَأَخر. وَمِنْهَا: إِضَافَته إِلَى غير قَابل، ك " اسْأَل الْقرْيَة "، واسأل العير، وَبَعْضهمْ يعبر عَنهُ بِالْإِطْلَاقِ على المستحيل، فَإِن الإستحالة تَقْتَضِي أَنه غير مَوْضُوع لَهُ، فَيكون مجَازًا. وَأورد: أَن الْمجَاز الْعقلِيّ كَذَلِك، مَعَ أَنه حَقِيقَة لغوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 وَأجِيب: بِأَن المُرَاد معرفَة اسْتِحَالَة ذَلِك بهديهية، والامتناع فِي الْمجَاز الْعقلِيّ نَظَرِي. وَمِنْهَا: عدم الِاشْتِقَاق مِنْهُ، بِلَا منع عِنْد القَاضِي أبي بكر ابْن الباقلاني، وَالْغَزالِيّ، وَالشَّيْخ الْمُوفق، والطوفي، وَابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَغَيرهم، وَقَالَ أَكثر الْعلمَاء: يجوز الِاشْتِقَاق من الْمجَاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 هَذَا الْمَسْأَلَة مِمَّا اخْتلف فِيهَا الْعلمَاء، وَهِي أَن الْمجَاز هَل يشتق مِنْهُ، أَو لَا يكون الِاشْتِقَاق إِلَّا من حَقِيقَة؟ فنحو: الصَّلَاة، إِذْ قُلْنَا: حَقِيقَتهَا الدُّعَاء، ومجازها ذَات الرُّكُوع وَالسُّجُود، فَهَل يُقَال من الثَّانِي: صلى وَيُصلي ومصل من حَيْثُ كَونه مجَازًا قبل أَن يصير حَقِيقَة شَرْعِيَّة، أَو يقدر: أَن هَذَا أَخذ من الصَّلَاة بِمَعْنى الدُّعَاء، ثمَّ تجوز بِهِ كَمَا تجوز بِأَصْلِهِ؟ الْجُمْهُور على الأول، وَخَالف جمَاعَة مِنْهُم القَاضِي ابْن الباقلاني، وَغَيره، فمنعوا الِاشْتِقَاق من المجازات، وَأَنه لَا اشتقاق إِلَّا من الْحَقَائِق. قَالَ الْغَزالِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَمر فِرْعَوْن برشيد} [هود: 97] : بِمَعْنى الشَّأْن مجَازًا، فَلَا يشتق مِنْهُ آمُر وَلَا مَأْمُور وَلَا غَيرهمَا. وَيدل لِلْجُمْهُورِ: إِجْمَاع البيانيين على صِحَة الِاسْتِعَارَة بالتبعية، وَهِي مُشْتَقَّة من الْمجَاز، لِأَن الِاسْتِعَارَة تكون فِي الْمصدر، ثمَّ يشتق مِنْهُ. قَالَ الكوراني: (وَالدَّلِيل على الِاشْتِقَاق / من الْمجَاز قَوْلهم: نطقت الْحَال بِكَذَا، أَي: دلّت، لِأَن النُّطْق مُسْتَعْمل فِي الدّلَالَة أَولا، ثمَّ اشتق مِنْهُ اسْم الْفَاعِل على مَا هُوَ الْقَاعِدَة فِي الِاسْتِعَارَة [التّبعِيَّة] فِي المشتقات) انْتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 وَمِنْهَا: مَا ذكره ابْن عقيل فِي " الْفُنُون " وَغَيره: أَن الْمجَاز لَا يُؤَكد، وَرَأَيْت ذَلِك فِي كَلَام ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع "، وَالظَّاهِر أَنه تَابع أَصله وَهُوَ " شرح الزَّرْكَشِيّ ". قلت: ثمَّ رَأَيْت ذَلِك فِي كَلَام ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": أَن أهل اللُّغَة ذَكرُوهُ، مِنْهُم: ابْن قُتَيْبَة، وَغَيره، وَتقدم ذَلِك فِي قَوْله: (التوكيد يُقَوي وينفي احْتِمَال الْمجَاز) . قَوْله: {تَنْبِيه: إِنَّمَا صير إِلَيْهِ: لبلاغته، أَو ثقلهَا، [وَنَحْوهمَا] } . قَالَ الْعلمَاء: إِنَّمَا عدل عَن الْحَقِيقَة إِلَى الْمجَاز لفوائد كَثِيرَة حَسَنَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 مِنْهَا: بلاغة لفظ الْمجَاز، لصلاحيته للسجع والتجنيس، وَسَائِر أَنْوَاع البديع، دون الْحَقِيقَة، وَفِيه نظر. وَمِنْهَا: ثقل لفظ الْحَقِيقَة على اللِّسَان، كالخنفقيق - بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَفتح الْفَاء وَكسر الْقَاف وَإِسْكَان الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَآخره قَاف - اسْم للداهية، يعدل عَنهُ إِلَى النائبة، أَو الْحَادِثَة، وَنَحْوهمَا. وَمِنْهَا: بشاعة اللَّفْظ، كالتعبير بالغائط عَن الْخَارِج. وَمِنْهَا: جهل الْمُتَكَلّم والمخاطب لفظ الْحَقِيقَة. وَمِنْهَا: كَون الْمجَاز أشهر من الْحَقِيقَة. وَمِنْهَا: أَن يكون مَعْلُوما عِنْد المتخاطبين، ويقصدان إخفاءه عَن غَيرهمَا. وَمِنْهَا: عظم مَعْنَاهُ، كَقَوْلِه: سَلام الله على الْمجْلس العالي، فَهُوَ أرفع فِي الْمَعْنى من قَوْله: سَلام عَلَيْك. وَمِنْهَا: كَونه أَدخل فِي التحقير , وَمِنْهَا: [أَلا] يكون للمعنى الَّذِي عبر عَنهُ [بالمجاز] لفظ حَقِيقِيّ. فَهَذِهِ تسع فَوَائِد فِي الْعُدُول عَن الْحَقِيقَة إِلَى الْمجَاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 قَوْله: {فصل} {الْأَرْبَعَة، وَغَيرهم: الْحَقِيقَة لَا تَسْتَلْزِم الْمجَاز، وَالْمجَاز يستلزمها، [خلافًا للآمدي، وَجمع] } . ذهب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وأتباعهم، إِلَى أَن الْحَقِيقَة / لَا تَسْتَلْزِم الْمجَاز، وَحكي إِجْمَاعًا، فتوجد الْحَقِيقَة وَلَا يُوجد لَهَا مجَاز. وَحكى القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني عَن بعض الْقَدَرِيَّة أَنَّهَا تستلزمه، وَأَنه مَا لَا مجَاز لَهُ لَا يُقَال لَهُ: حَقِيقَة، وَهُوَ مَرْدُود بالواقع، واللغة طافحة بحقائق لَا مجازات لَهَا. وَأما الْعَكْس، وَهُوَ أَن الْمجَاز هَل يسْتَلْزم الْحَقِيقَة أم لَا؟ اخْتلف فِي ذَلِك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 فَذهب أَكثر الْعلمَاء إِلَى أَنه يستلزمها، وَأَنه مَتى وجد الْمجَاز وجدت الْحَقِيقَة، اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، والموفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي فِي " مختصرها "، وَأَبُو الحيسن الْبَصْرِيّ، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَالْفَخْر الرَّازِيّ فِي مَوضِع، وَغَيرهم. وَاحْتَجُّوا على ذَلِك: بِأَن الْمجَاز فرع، والحقيقة أصل، وَمَتى وجد الْفَرْع وجد الأَصْل. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَو لم يسْتَلْزم لعري الْوَضع عَن الْفَائِدَة. وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ: أَنه لَا يستلزمها، وَنَقله صَاحب " البديع " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 عَن الْمُحَقِّقين، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ فِي مَوضِع آخر من " الْمَحْصُول "، نظرا إِلَى أَنه لَو استلزم الْمجَاز الْحَقِيقَة لَكَانَ لنَحْو: قَامَت الْحَرْب على سَاق، وشابت لمة اللَّيْل، من المجازات الإسنادية حَقِيقَة، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ لِأَنَّهَا لَيست مَوْضُوعَة أَولا لمعان أخر، حَتَّى يدعى أَنَّهَا منقولة عَنْهَا. ورد: بِأَنَّهُ مُشْتَرك الْإِلْزَام للُزُوم الْوَضع لَهما، وَبِأَنَّهُ لَا مجَاز فِي التَّرْكِيب. وَقَوْلهمْ: لَو لم يسْتَلْزم لعري الْوَضع عَن فَائِدَة، غير مُسلم؛ فَإِن الْفَائِدَة لَا تَنْحَصِر فِي اسْتِعْمَاله فِيمَا وضع لَهُ أَولا، وَقد يتجوز فَتحصل الْفَائِدَة بالمجاز. قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَقد يسْتَعْمل بعد الْمجَاز) . وَقد حكى ابْن الْعِرَاقِيّ فِيهَا ثَلَاثَة أَقْوَال، الثَّالِث: أَن الْمجَاز لَا يستلزمها فِي غير الْمصدر، قَالَ: (اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ والتاج السُّبْكِيّ) . ورد ذَلِك الكوراني ردا بليغاً، وَقَالَ: (هَذَا لَا يساعده عَلَيْهِ عقل وَلَا نقل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 قَوْله: { [وَلَفْظهمَا] حقيقتان / عرفا، مجازان لُغَة} . لَا شكّ أَن لَفْظهمَا حقيقتان عرفيتان، لِأَن استعمالهما فِي ذَلِك باصطلاح أهل الْعرف، لَا من مَوضِع اللُّغَة، وهما مجازان لُغَة؛ لِأَن الْحَقِيقَة الْعُرْفِيَّة مجَاز لُغَة، وَقد تقدم أَنَّهُمَا منقولتان، وَذكرنَا كَيْفيَّة نقلهما وتصريفهما، فليعاود أول الْحَقِيقَة، وَأول الْمجَاز. قَوْله: { [وهما] من عوارض الْأَلْفَاظ فِي الْأَشْهر} . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين لما تكلم على أَن الْمجَاز هَل هُوَ وَاقع أم لَا؟ : (الْمَشْهُور أَن الْحَقِيقَة وَالْمجَاز من عوارض الْأَلْفَاظ، وَهَذَا التَّقْسِيم حَادث بعد الْقُرُون الثَّلَاثَة) . يَعْنِي: تَقْسِيم اللَّفْظ إِلَى: حَقِيقَة، ومجاز، وَيَأْتِي هَذَا هُنَاكَ. قَوْله: {وَاللَّفْظ قبل اسْتِعْمَاله لَيْسَ حَقِيقَة وَلَا مجَازًا} . إِذا وضع اللَّفْظ لِمَعْنى، وَلم يتَّفق اسْتِعْمَاله لَا فِيمَا وضع لَهُ أَولا وَلَا فِي غَيره، لم يكن حَقِيقَة وَلَا مجَازًا، لعدم ركن تعريفهما وَهُوَ الِاسْتِعْمَال؛ لِأَن الِاسْتِعْمَال جُزْء من مَفْهُوم كل مِنْهُمَا، وَانْتِفَاء الْجُزْء يُوجب انْتِفَاء الْكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 {زَاد ابْن حمدَان، وَالشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {إِن قُلْنَا: اللُّغَة اصْطِلَاح} ، كأسماء الْأَعْلَام وَالصِّفَات. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَيْضا: (إِنَّمَا يَصح إِن كَانَت اللُّغَة اصطلاحية، وَإِن الْمَعْرُوف بالتواتر اسْتِعْمَال هَذِه الْأَلْفَاظ فِيمَا عنوه بهَا من الْمعَانِي، فَإِن ادّعى مُدع أَنه يعلم وضعا يتَقَدَّم ذَلِك فَهُوَ مُبْطل، فَإِنَّهُ لم يَنْقُلهُ أحد) . وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ: (لَو قَالَ الْوَاضِع: سميت هَذَا حَائِطا، أَو قَالَ: سموا هَذَا حَائِطا، لَا يكون قَوْله فِي تِلْكَ الْحَال حَقِيقَة وَلَا مجَازًا؛ لِأَنَّهُ لم يتَقَدَّم ذَلِك مواضعة واصطلاح) . قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": (وَهَذَا خطأ، لِأَن الْكَلَام إِذا خلا عَن حَقِيقَة ومجاز مهمل، وَهَذَا كَلَام مَفْهُوم غير مهمل) . قَوْله: {وَكَذَا الْعلم المتجدد، وَقَالَ ابْن عقيل: [حَقِيقَة] ، وَقيل: فِيهِ مجَاز، وَالْغَزالِيّ: فِي متلمح الصّفة} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 الْعلم تَارَة يكون من وضع اللُّغَة، وَتارَة يكون متجدداً. فَإِن كَانَ من وضع اللُّغَة فحقيقة، صرح بِهِ بَعضهم، واستثناء من عُمُوم / كَلَامهم. وَإِن كَانَ الْعلم متجدداً، فَالْأَصَحّ لَيْسَ بِحَقِيقَة وَلَا مجَاز، اخْتَارَهُ الْأَكْثَر، لَا بِالْأَصَالَةِ وَلَا بالتبعية، لِأَن الْأَعْلَام وضعت للْفرق بَين ذَات وَذَات، فَلَو تجوز فِيهَا لبطل هَذَا الْغَرَض، و - أَيْضا - فتقلها إِلَى مُسَمّى آخر إِنَّمَا هُوَ بِوَضْع مُسْتَقل، لَا لعلاقة، وَشرط الْمجَاز العلاقة. وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد ": (أَسمَاء الألقاب لَا يدخلهَا حَقِيقَة وَلَا مجَاز، لِأَنَّهَا لم تقع على [مسمياتها] الْمعينَة بِوَضْع لغَوِيّ أَو شَرْعِي، فَلم يقل: إِن مستعملها اتبع حَقِيقَتهَا أَو مجازها) . وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": (أَسمَاء الْأَعْلَام حَقِيقَة لَا مجَاز فِيهَا، وضعت للْفرق بَين الْأَشْخَاص لَا فِي الصِّفَات، وإفادة معنى فِي الْمُسَمّى، حَتَّى إِذا [أجري] على من لَيست لَهُ تِلْكَ الصّفة قيل: مجَاز) انْتهى. وَقيل: يجْرِي فِيهَا الْمجَاز مُطلقًا، حَكَاهُ الأبياري، كَمَا يُقَال قَرَأت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 سِيبَوَيْهٍ: إِذا نقلت علم صَاحبه إِلَيْهِ مجَازًا. ورد: بِأَنَّهُ على حذف مُضَاف، فَهُوَ من مجَاز الْإِضْمَار. وَقَالَ ابْن عقيل - أَيْضا -: (وَقد يجوز فِي مَوضِع أَن يتجوز بِالِاسْمِ لمعناه [وَحَقِيقَته] ، كَقَوْلِك للنحوي: هَذَا سِيبَوَيْهٍ زَمَانه، وللجواد: هَذَا حَاتِم، وللشجاع: هَذَا عَليّ، وَهَذَا قِيَاس على الْوَضع اللّغَوِيّ بِالْمَعْنَى الَّذِي سلكه أهل اللُّغَة) انْتهى. وَحكى الْقَوْلَيْنِ فِيهِ عبد الْوَهَّاب فِي " الملخص "، وَصَاحب " الْمِيزَان " من الْحَنَفِيَّة، وَقَالَ: (الْأَكْثَر على دُخُول الْمجَاز فِيهِ) ، لَكِن قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 الْهِنْدِيّ: (إِن الْخلاف جَار فِي الْأَعْلَام المنقولة) ، وَقَالَ غَيره: (الصَّوَاب جَرَيَانه فِي الْأَعَمّ من الْمَنْقُول والمرتجل) ، وَنقل بعض أَصْحَابنَا أَن الْآمِدِيّ قَالَ: (أَسمَاء الألقاب قد تصير حَقِيقَة ومجازاً) . قَالَ بعض أَصْحَابنَا: (وَهُوَ غَرِيب بعيد) . وَقيل: بِالْفرقِ بَين مَا تلمح فِيهِ الصّفة، فَيجوز، كأسود وحارث وَنَحْوهمَا، دون الْعلم الَّذِي وضع للْفرق الْمَحْض بَين الذوات، كزيد وَعَمْرو / وَبِه قَالَ الْغَزالِيّ. قَالَ الكوراني لما قدم التَّاج السُّبْكِيّ: أَن الْمجَاز لَا يكون فِي الْأَعْلَام مُطلقًا: (مَا ذهب إِلَيْهِ المُصَنّف خلاف مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ. إِذْ قَالُوا: إِذا قلت: رَأَيْت حاتماً، وَأَرَدْت شخصا معينا، وَإِنَّمَا أطلقت عَلَيْهِ لفظ حَاتِم بعد التَّشْبِيه بِهِ فِي الْجُود مجَاز؛ لكَونه اسْتِعَارَة تصريحية، وَهِي مجَاز لغَوِيّ عِنْد الْمُحَقِّقين، وَكَذَلِكَ إِذا قلت: رَأَيْت الْيَوْم أَبَا لَهب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 وَأَرَدْت شخصا معينا، وقصدت كَافِرًا مثله، يكون اسْتِعَارَة، فَمَا ذكره الْغَزالِيّ هُوَ كَلَام فِي غَايَة الْحسن والدقة، فَلَا وَجه لعدم قبُوله) انْتهى. قَوْله: {وَيكون فِي مُفْرد} . بِلَا نزاع عِنْد الْقَائِل بالمجاز، كإطلاق لفظ الْأسد على الشجاع، وَالْحمار على البليد، وَالْبَحْر على الْعَالم والجواد، وَالْفرس [الشَّديد] الجري، فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي فرس أبي طَلْحَة لماركبه: " وَجَدْنَاهُ بحراً "، وَنَحْوه. قَوْله: { [وَفِي] إِسْنَاد، خلافًا لقوم} . يكون الْمجَاز فِي الْإِسْنَاد على الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْمُعظم، وَكثير من أَصْحَابنَا فَيجْرِي فِيهِ وَإِن لم يكن فِي لَفْظِي الْمسند والمسند إِلَيْهِ تجوز، وَذَلِكَ بِأَن يسند الشَّيْء إِلَى غير من هُوَ لَهُ بِضَرْب من التَّأْوِيل بِلَا وَاسِطَة وضع، كَقَوْلِه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 (أشاب الصَّغِير وأفنى الْكَبِير ... كرّ الْغَدَاة وَمر الْعشي) فَلفظ الإشابة حَقِيقَة فِي مَدْلُوله وَهُوَ تبييض الشّعْر، وَلَفظ الزَّمَان الَّذِي هُوَ مُرُور اللَّيْل وَالنَّهَار حَقِيقَة فِي مَدْلُوله أَيْضا، لَكِن إِسْنَاد الإشابة إِلَى الزَّمَان مجَاز، إِذْ المشيب للنَّاس فِي الْحَقِيقَة هُوَ الله تَعَالَى، فَهَذَا مجَاز فِي التَّرْكِيب، أَي: فِي إِسْنَاد [الْأَلْفَاظ] بَعْضهَا إِلَى بعض، لَا فِي نفس مدلولات الْأَلْفَاظ، وَهَكَذَا كل لفظ كَانَ مَوْضُوعا فِي اللُّغَة ليسند إِلَى لفظ آخر، فأسند إِلَى غير ذَلِك اللَّفْظ، فإسناده مجَاز تركيبي، وَمِنْه: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا تليت [عَلَيْهِم] ءايته زادتهم إِيمَانًا} [الْأَنْفَال: 2] ، {رب إنَّهُنَّ أضللن كثيرا من النَّاس} [إِبْرَاهِيم: 36] ، فَكل من طرفِي الْإِسْنَاد حَقِيقَة، وَإِنَّمَا الْمجَاز / فِي الْإِسْنَاد الزِّيَادَة إِلَى الْآيَات، والإضلال إِلَى الْأَصْنَام، وَكَذَلِكَ نَحْو: {ينْزع عَنْهُمَا لباسهما} [الْأَعْرَاف: 27] ، وَالْفَاعِل لذَلِك فِي الْكل هُوَ الله تَعَالَى. وَيُسمى الْمجَاز الْعقلِيّ، والحكمي، ومجاز التَّرْكِيب؛ لِأَن النِّسْبَة إِلَى الْمركب أَمر عَقْلِي، بِخِلَاف الْمجَاز فِي الْمُفْردَات فَإِنَّهُ وضعي فِي اللُّغَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وَأنكر السكاكي الْمجَاز الْعقلِيّ، ورده إِلَى الِاسْتِعَارَة بِالْكِنَايَةِ، فنحو: أنبت الرّبيع البقل، اسْتِعَارَة عَن الْفَاعِل الْحَقِيقِيّ بِوَاسِطَة الْمُبَالغَة فِي التَّشْبِيه على قَاعِدَة الِاسْتِعَارَة، وَنسبَة الإنبات إِلَيْهِ قرينَة الِاسْتِعَارَة، وَهَكَذَا تصنع فِي بَقِيَّة الْأَمْثِلَة، [وَقَالَهُ] ابْن الْحَاجِب فِي " أَمَالِيهِ "، وَفِي مُخْتَصره الْكَبِير فِي أصُول الْفِقْه، واستبعده فِي الصَّغِير. وعَلى الْمَنْع فَقيل: الْمجَاز فِي الْمسند، فنحو: أنبت الرّبيع البقل، (أنبت) فِيهِ بِمَعْنى: (تسبب) ، وَالْمرَاد: التَّسَبُّب العادي، وَهُوَ رَأْي ابْن الْحَاجِب. وَقيل: فِي الْمسند إِلَيْهِ، فَهُوَ فِي الرّبيع من الْمِثَال، فَأطلق على الْفَاعِل الْحَقِيقِيّ مجَازًا، ثمَّ وَقع الْإِسْنَاد، وَهُوَ رَأْي السكاكي إِذْ جعله من الِاسْتِعَارَة بِالْكِنَايَةِ. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: الْمجَاز فِي التَّرْكِيب عَقْلِي، نَحْو: {وأخرجت الأَرْض أثقالها} [الزلزلة: 2] ، أسْند الْإِخْرَاج إِلَى الأَرْض، فَهُوَ فِي حكم الْعقل مُسْند إِلَى الله تَعَالَى، فالنقل عَن ذَلِك نقل لحكم عَقْلِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وَقيل: بل لَفْظِي؛ لِأَن (أخرج) مَوْضُوع لصدور الْخُرُوج عَن قَادر، فاستعماله فِي الأَرْض مجَاز. قَالَ بَعضهم: هَل الْمُسَمّى بالمجاز فِي الْعقلِيّ، نفس الْإِسْنَاد أَو الْكَلَام الْمُشْتَمل عَلَيْهِ. قَالَ صَاحب " الْكَشَّاف " بِالْأولِ، وَنَقله ابْن الْحَاجِب عَن عبد القاهر، لَكِن الْمَوْجُود فِي " دَلَائِل الإعجاز " لَهُ: أَن الْمُسَمّى بالمجاز الْكَلَام لَا الْإِسْنَاد، وَعَلِيهِ جرى السكاكي فِي " الْمِفْتَاح "، وَاخْتَارَ الرَّازِيّ فِي " نِهَايَة الإيجاز " مذهبا رَابِعا: (أَن هَذَا وَنَحْوه من بَاب التَّمْثِيل، فَلَا مجَاز فِيهِ وَلَا فِي الْمُفْرد وَلَا فِي الْإِسْنَاد، بل هُوَ كَلَام أورد ليتصور مَعْنَاهُ، فَينْتَقل الذِّهْن مِنْهُ / إِلَى إنبات الله تَعَالَى فِي الْمِثَال الْمَذْكُور، وَيُقَاس عَلَيْهِ غَيره) . وَقَالَ القَاضِي عضد الدّين: (وَالْحق أَنَّهَا تَصَرُّفَات عقلية، وَلَا حجر فِيهَا، وَالْكل مُمكن، وَالنَّظَر إِلَى قصد الْمُتَكَلّم) . قَوْله: {وَفِيهِمَا مَعًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 أَي: يكون الْمجَاز فِي الْمُفْردَات وَفِي الْإِسْنَاد مَعًا، كَقَوْلِهِم: أحياني اكتحالي بطلعتك، إِذْ حَقِيقَته: سرتني رؤيتك، لَكِن أطلق لفظ الْأَحْيَاء على السرُور مجَازًا إفرادياً، لِأَن الْحَيَاة شَرط صِحَة السرُور، وَهُوَ من آثارها، وَكَذَا لفظ الاكتحال على [الرُّؤْيَة] مجَاز إفرادي، لِأَن الاكتحال جعل الْعين مُشْتَمِلَة على الْكحل، كَمَا أَن الرُّؤْيَة جعل الْعين مُشْتَمِلَة على صُورَة المرئي، فَلفظ الْإِحْيَاء والاكتحال حَقِيقَة فِي مدلولهما، وَهُوَ سلوك الرّوح فِي الْجَسَد وَوضع الْكحل فِي الْعين، واستعماله - أَي: لفظ الْإِحْيَاء والاكتحال - فِي السرُور والرؤية مجَاز إفرادي، وَإسْنَاد الْإِحْيَاء إِلَى الاكتحال مجَاز تركيبي، لِأَن لفظ الْإِحْيَاء لم يوضع ليسند إِلَى الاكتحال، بل إِلَى الله تَعَالَى، لِأَن الْإِحْيَاء والإماتة الحقيقيين من خَواص قدرته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. قَوْله: {وَفِي فعل، ومشتق، وحرف، وفَاقا للنقشواني، وَابْن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 عبد السَّلَام، وَمَعَ الرَّازِيّ الْحَرْف بِالْأَصَالَةِ، وَالْفِعْل والمشتق إِلَّا بالتبع} . الصَّحِيح: أَن الْمجَاز يجْرِي فِي الْأَفْعَال وَمَا فِي مَعْنَاهَا من المشتقات، كاسم الْفَاعِل، وَالْمَفْعُول، وَالصّفة المشبهة، وَنَحْوهَا مِمَّا اشتق من الْمصدر، كَمَا يجْرِي فِي الجوامد. وَسَوَاء كَانَ الْمجَاز فِي الْأَفْعَال والمشتقات بطرِيق التّبعِيَّة للمصدر، كَمَا يُقَال: صلى بِمَعْنى: دَعَا، فَهُوَ مصل، بِمَعْنى: دَاع، تبعا لإِطْلَاق الصَّلَاة، وَقس على ذَلِك، أَو لَا بطرِيق التّبعِيَّة، كإطلاق الْفِعْل الْمَاضِي بِمَعْنى الِاسْتِقْبَال، نَحْو: {وَنفخ فِي الصُّور} ، و {أَتَى أَمر الله} [النَّحْل: 1] ، {ونادى أَصْحَاب / الْجنَّة} [الْأَعْرَاف: 44] ، أَي: وينفخ، وَيَأْتِي، وينادي، وَإِطْلَاق الْمُضَارع بِمَعْنى الْمَاضِي، نَحْو: {وَاتبعُوا مَا تتلوا الشَّيَاطِين} [الْبَقَرَة: 102] ، {فَلم تقتلون أَنْبيَاء الله} [الْبَقَرَة: 91] ، أَي: مَا تلته، وَلم قَتَلْتُمُوهُمْ؟ وَالتَّعْبِير بالْخبر عَن الْأَمر، نَحْو: {والوالدات يرضعن} [الْبَقَرَة: 233] ، وَعَكسه: {فليمدد لَهُ الرَّحْمَن مدا} [مَرْيَم: 75] ، " فَليَتَبَوَّأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 مَقْعَده من النَّار "، " وَإِذا لم تَسْتَحي فَاصْنَعْ مَا شِئْت " على أحد الْأَقْوَال، وَالتَّعْبِير بالْخبر عَن النَّهْي: {لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} [الْوَاقِعَة: 79] . قَالَ عُلَمَاء الْبَيَان: هُوَ أبلغ من صَرِيح الْأَمر وَالنَّهْي؛ لِأَن الْمُتَكَلّم لشدَّة تَأَكد طلبه نزل الْمَطْلُوب منزلَة الْوَاقِع لَا محَالة. وكإطلاق اسْم الْفَاعِل بِمَعْنى الِاسْتِقْبَال، أَو الْمَاضِي، على الرَّاجِح، كَمَا سَيَأْتِي فِي مسَائِل الِاشْتِقَاق. وَمنع الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول ": دُخُول الْمجَاز فِي الْأَفْعَال والمشتقات إِلَّا بالتبع للمصدر الَّذِي هِيَ مُشْتَقَّة مِنْهُ، قَالَ: (لِأَن الْمصدر فِي ضمن الْفِعْل وكل مُشْتَقّ، فَيمْتَنع دُخُول الْمجَاز فِي ذَلِك إِلَّا بعد دُخُوله فِيمَا هُوَ فِي ضمنه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 وَضعف بِمَا سبق من التَّجَوُّز فِي الْفِعْل بالاستقبال والمضي، وَكَذَا فِي الْأَوْصَاف، إِذْ لَا مدْخل للمصدر فِي التَّجَوُّز بذلك. وَقَوله: وَفِي حرف. أَي: يجْرِي الْمجَاز فِي الْحُرُوف كَمَا يجْرِي فِي الْأَفْعَال، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح كَمَا فِي (هَل) تجوزوا بهَا عَن الْأَمر فِي قَوْله تَعَالَى: {فَهَل أَنْتُم مُسلمُونَ} [هود: 14، والأنبياء: 108] ، {فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ} [الْمَائِدَة: 91] ، أَي: فأسلموا وفانتهوا، وَعَن النَّفْي، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَهَل ترى لَهُم من بَاقِيَة} [الحاقة: 8] ، أَي: مَا ترى لَهُم من بَاقِيَة، وَعَن التَّقْرِير، كَقَوْلِه تَعَالَى: {هَل لكم من مَا ملكت أَيْمَانكُم من شُرَكَاء فِي مارزقناكم} [الرّوم: 28] ، وَشبه ذَلِك، لَا سِيمَا على القَوْل بِأَن كل حرف لَيْسَ لَهُ إِلَّا معنى وَاحِد، وَإِذا اسْتعْمل فِي غَيره كَانَ مجَازًا، وَخَالف فِي ذَلِك الرَّازِيّ - أَيْضا - فِي " الْمَحْصُول "، وَقَالَ: لَا يجْرِي فِي الْحُرُوف إِلَّا بالتبع، كوقوع الْمجَاز فِي مُتَعَلقَة، قَالَ: (لِأَن مَفْهُوم الْحَرْف غير مُسْتَقل، فَإِن ضم إِلَى مَا يَنْبَغِي ضمه إِلَيْهِ كَانَ حَقِيقَة، وَإِلَّا كَانَ / من مجَاز التَّرْكِيب، لَا من مجَاز الْإِفْرَاد) . قَوْله: {ويحتج بِهِ، ذكره القَاضِي، وَابْن عقيل، وَابْن الزَّاغُونِيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 وَحكي إِجْمَاعًا} . حَكَاهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره إِجْمَاعًا، والناقل عَن هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة بِأَنَّهُ يحْتَج بِهِ: الْمجد، وحفيده فِي " المسودة "، وَقطع بِهِ ابْن عقيل. قَالَ القَاضِي: (وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَن الْمجَاز يُفِيد معنى من طَرِيق الْوَضع، كَمَا أَن الْحَقِيقَة تفِيد معنى من طَرِيق الْوَضع، أَلا ترى إِلَى قَوْله: {أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط} [النِّسَاء: 43، والمائدة: 6] ، فَإِنَّهُ يُفِيد الْمَعْنى وَإِن كَانَ مجَازًا، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وجوهٌ يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة} [الْقِيَامَة: 22 - 23] ، وَمَعْلُوم أَنه أَرَادَ: أعين الْوُجُوه ناظرة، لِأَن الْوُجُوه لَا تنظر، وَقد احْتج الإِمَام أَحْمد بِهَذِهِ الْآيَة على وجوب النّظر يَوْم الْقِيَامَة. وَأَيْضًا فَإِن الْمجَاز قد يكون أسبق إِلَى الْقلب، كَقَوْل الرجل: لزيد عَليّ دِرْهَم، فَإِنَّهُ مجَاز، وَهُوَ أسبق إِلَى الْفَهم من قَوْله: يلْزَمنِي لزيد دِرْهَم، وَإِذا كَانَ يَقع الْمجَاز أَكثر مِمَّا يَقع بِالْحَقِيقَةِ، صَحَّ الِاحْتِجَاج بِهِ) انْتهى. قَوْله: {وَلَا يُقَاس عَلَيْهِ، فَلَا يُقَال: سل الْبسَاط وَنَحْوه، ذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 ابْن عقيل، وَابْن الزَّاغُونِيّ، وَحكي إِجْمَاعًا، وَلنَا وَجه: يجوز} . قَالَ أَبُو بكر الطرطوشي الْمَالِكِي: (أجمع الْعلمَاء أَن الْمجَاز لَا يُقَاس عَلَيْهِ فِي مَوضِع الْقيَاس) ، وَكَذَا قَالَ الْآمِدِيّ: (نسخت الْكتاب لَا يشبه الْإِزَالَة، فَهُوَ من النَّقْل، فَهُوَ حَقِيقَة فِي النَّقْل، لِأَن الْمجَاز لَا يتجوز بِهِ فِي غَيره بِإِجْمَاع أهل اللُّغَة) . وَقَالَ القَاضِي فِي مَسْأَلَة ثُبُوت الْأَسْمَاء قِيَاسا: (أهل اللُّغَة أجروا اسْم الشَّيْء على الشَّيْء؛ لوُجُود بعض مَعْنَاهُ فِيهِ، كالشجاع سبعا، وَلما لم تُوجد كل مَعَانِيه كَانَ مجَازًا، وَأما النَّبِيذ فتوجد فِي مَعَاني الْخمر كلهَا، وَكَذَا النباش، فَلهَذَا كَانَ حَقِيقَة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 قَالَ بعض أَصْحَابنَا: (هَذَا تَصْرِيح بِثُبُوت الْأَسْمَاء حقائقها ومجازاتها قِيَاسا، لَكِن فِيهِ قِيَاس الْمجَاز بِالْحَقِيقَةِ، وَقِيَاس الْمجَاز بالمجاز مُقْتَضى كَلَامه إِن وجد فِيهِ مَعَاني الْمجَاز / المقاس عَلَيْهِ كلهَا جَازَ) . وَفِي " جمع الْجَوَامِع " وَغَيره: (هَل تثبت اللُّغَة قِيَاسا؟ أَقْوَال، ثَالِثهَا: تثبت الْحَقِيقَة لَا الْمجَاز) انْتهى. وَحكى ابْن الزَّاغُونِيّ وَجها لنا بِثُبُوتِهِ، بِنَاء على الثُّبُوت الْأَسْمَاء قِيَاسا. احْتج من مَنعه بِلُزُوم جَوَاز نَخْلَة لطويل غير إِنْسَان، وشبكة للصَّيْد، وَابْن للْأَب، وَبِالْعَكْسِ. [أُجِيب] : لوُجُود مَانع هُنَا، وَأَيْضًا: هِيَ دَعْوَى بِلَا دَلِيل. قَوْله: لَو جَازَ لَكَانَ قِيَاسا لُغَة - وَفِيه خلاف -، أَو اختراعاً، وَلَيْسَ بلغَة. أُجِيب: بِأَن العلاقة مصححة كرفع الْفَاعِل، وَسبق كَلَام أَصْحَابنَا , وَاحْتج من أجَازه بِعَدَمِ توقف أهل الْعَرَبيَّة، وَبِأَنَّهُ لَو كَانَ نقلياً لما احْتِيجَ إِلَى النّظر فِي علاقَة. أُجِيب: بِنَظَر الْوَاضِع، وَإِن نظر الْمُسْتَعْمل فليعرف الْحِكْمَة.،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 فصل {الْأَرْبَعَة وَغَيرهم: الْمجَاز وَاقع، وَخَالف الإستاذ، وَالشَّيْخ [وَجمع] ، وردوه إِلَى المتواطئ} . الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِير الْعلمَاء: أَن الْمجَاز وَاقع فِي اللُّغَة، وَمِمَّنْ نقل أَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة قَالُوا بِأَن الْمجَاز وَاقع: ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَاحْتج لذَلِك، بالأسد للشجاع، وَالْحمار للبليد، وَقَامَت الْحَرْب على سَاق، وشابت لمة اللَّيْل، وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى وَلَا يحصر. قَالَ فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: (كتب اللُّغَة مَمْلُوءَة بهما) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 قَالَ الْآمِدِيّ: (لم تزل أهل الْأَعْصَار تنقل عَن أهل الْوَضع تَسْمِيَة هَذَا حَقِيقَة وَهَذَا مجَازًا) . وَخَالف فِي ذَلِك الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الأسفراييني، وَأَتْبَاعه، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وردوه إِلَى المتواطئ) . وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين كَمَا تقدم عَنهُ: (الْمَشْهُور أَن الْحَقِيقَة وَالْمجَاز من عوراض الْأَلْفَاظ، وَهَذَا التَّقْسِيم اصْطِلَاح حَادث بعد الْقُرُون الثَّلَاثَة، وَأول من عرف أَنه تكلم بالمجاز [أَبُو عُبَيْدَة] ، وَلم يعن بالمجاز: مَا هُوَ قسيم الْحَقِيقَة، وَإِنَّمَا عَنى بمجاز الْآيَة: مَا يعبر بِهِ عَنْهَا، وَلم يتَكَلَّم الشَّافِعِي، وَمُحَمّد بن الْحسن. . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 / بِلَفْظ الْحَقِيقَة وَالْمجَاز) . وَقَالَت هَذِه الطَّائِفَة: هَذَا الْمُدعى أَنه مجَاز حقائق. رد: يلْزم الِاشْتِرَاك، وَلَو كَانَت مُشْتَركَة لم يسْبق مِنْهَا مَا يسْبق عِنْد إِطْلَاقهَا، ضَرُورَة التَّسَاوِي. قَوْلهم: هِيَ مَعَ الْقَرِينَة حَقِيقَة. رد: فالنزاع لَفْظِي، زَاد بعض أَصْحَابنَا والآمدي: (كَيفَ والحقيقة وَالْمجَاز صفتا اللَّفْظ دون الْقَرَائِن المعنوية، فَلَا تكون الْحَقِيقَة صفة للمجموع) . قَوْلهم: فِيهِ عدُول عَن الْحَقِيقَة بِلَا حَاجَة. رد: لفوائد فِي علم الْبَيَان، سبق ذكرهَا. قَوْلهم: يخل بالتفاهم. مَمْنُوع، ثمَّ استبعاد لوُقُوعه. قَوْله: {وعَلى الأول: لَيْسَ الْمجَاز بأغلب فِي الْأَصَح} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 أَكثر الْعلمَاء ذَهَبُوا إِلَى أَن الْمجَاز لَيْسَ بأغلب فِي اللُّغَة من الْحَقِيقَة. وَذهب ابْن جني: أَنه أغلب، وَنَقله السَّمْعَانِيّ عَن أبي زيد الدبوسي الْحَنَفِيّ، وَظَاهر كَلَام ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَجمع: تَرْجِيح كَلَام ابْن جني فِي بحثهم فِي اللَّفْظ إِذا دَار بَين الْمجَاز والاشتراك. قَوْله: {وَهُوَ فِي الْقُرْآن عِنْد أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَالْأَكْثَر، وَعنهُ: لَا؛ [اخْتَارَهُ ابْن حَامِد] ، والتميمي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 والخرزي، [وَجمع] ، وَقيل: وَلَا فِي الحَدِيث أَيْضا} . قَالَ القَاضِي: (نَص الإِمَام أَحْمد على أَن الْمجَاز فِي الْقُرْآن، فَقَالَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 قَوْله: {إِنَّا نَحن نحي ونميت} [ق: 43] ، و " نعلم "، و " منتقمون ": هَذَا من مجَاز اللُّغَة، يَقُول الرجل: إِنَّا سنجري عَلَيْك رزقك) . وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (مَقْصُوده: مَعْنَاهُ: أَنه يجوز فِي اللُّغَة) . احْتج الْقَائِلُونَ بِوُقُوعِهِ فِي الْقُرْآن بقوله تَعَالَى: {تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} ، {الْحَج أشهر مَعْلُومَات} [الْبَقَرَة: 197] ، {واخفض لَهما جنَاح الذل} [الْإِسْرَاء: 24] ، {واشتعل الرَّأْس شيباً} [مَرْيَم: 4] ، {وجزاؤا سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} [الشورى: 40] ، {الله يستهزئ بهم} [الْبَقَرَة: 15] ، وَغير ذَلِك كثير. وَأما قَوْله تَعَالَى: {وَسُئِلَ الْقرْيَة} [يُوسُف: 82] ، {يُرِيد أَن ينْقض} [الْكَهْف: 77] . فَقيل: الْقرْيَة: مجمع النَّاس كَمَا تقدم، ثمَّ إنطاق الْجِدَار وَخلق الْإِرَادَة فِيهِ مُمكن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 رد: بِأَن الْقرْيَة مَكَان الِاجْتِمَاع، لَا نفس المجتمعين. وَعَن الثَّانِي: / بِأَنَّهُ معْجزَة يسْتَلْزم التحدي؛ وَفِيه نظر. وَقَوله: {لَيْسَ كمثله شَيْء} [الشورى: 11] ، تقدم الْكَلَام فِيهِ فِي مجَاز الزِّيَادَة. وَعَن أَحْمد: لَيْسَ فِي الْقُرْآن مِنْهُ شَيْء، حَكَاهَا الْفَخر إِسْمَاعِيل، وَاخْتَارَهُ ابْن حَامِد. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَمنع ابْن حَامِد، والتميمي، والخرزي) . وَحَكَاهُ أَبُو الْفضل بن أبي الْحسن التَّمِيمِي عَن أَصْحَابنَا. اخْتَارَهُ ابْن الْقَاص من الشَّافِعِيَّة على مَا يَأْتِي، وَمن الْمَالِكِيَّة مُحَمَّد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 ابْن خويز منداد وَغَيره، وَحَكَاهُ ابْن برهَان عَن الظَّاهِرِيَّة، والإمامية، وَأبي بكر الْأَصْفَهَانِي. قَالَ ابْن مُفْلِح: (وللتابعين قَولَانِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 وَقَالَ ابْن الْحَاجِب فِي الْإِضَافَة من " شرح الْمفصل ": (ذهب القَاضِي إِلَى أَنه لَا مجَاز فِي الْقُرْآن) . وَقيل: (إِنَّمَا أنْكرت الظَّاهِرِيَّة مجَاز الِاسْتِعَارَة، لِأَنَّهَا لَا تكون إِلَّا فِي الضّيق، وَهُوَ منزه عَن ذَلِك) . وَقيل: وَلَا فِي الحَدِيث أَيْضا -، وَحكي عَن ابْن دَاوُد الظَّاهِرِيّ. وَفِي " الْمَحْصُول ": (منعت الظَّاهِرِيَّة من وُقُوعه فِي الْكتاب وَالسّنة) . وَفِي " الإحكام " لِابْنِ حزم: (عَن قوم مَنعه فِي الْقُرْآن وَالسّنة) . وَفِي " طَبَقَات الْعَبَّادِيّ ": (عَن أبي الْعَبَّاس ابْن الْقَاص مَنعه فِي الْقُرْآن والْحَدِيث) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 قَالَ المانعون: لَو جَوَّزنَا لزم تَسْمِيَته متجوزاً. رد: بِأَن أسماءه توقيفية، وَلِهَذَا لم يسم [مُحَقّق] ، ويوهم التسمح فِي الْقَبِيح، وَالْتَزَمَهُ بعض أَصْحَابنَا. قَوْله: {وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا عَرَبِيّ، [عِنْد الْأَكْثَر من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم] ، وَعَن ابْن عَبَّاس وَغَيره: فِيهِ من غَيره، قَالَ ابْن الزَّاغُونِيّ، والموفق، وَابْن برهَان: فِيهِ المعرب، وَهُوَ: مَا استعملته الْعَرَب فِي معنى [وضع] لَهُ فِي غير لغتهم، [وَمحل الْخلاف فِي مُفْرد] غير علم} . الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر: أَنه لَيْسَ فِيهِ إِلَّا عَرَبِيّ، اخْتَارَهُ من أَصْحَابنَا أَبُو بكر عبد الْعَزِيز، وَالْقَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 وَالْمجد، وَأكْثر الْعلمَاء، مِنْهُم: الشَّافِعِي، [وَأَبُو عُبَيْدَة] ، وَابْن جرير، والباقلاني، وَابْن فَارس، / وَغَيرهم، للآيات الْكَثِيرَة الْوَارِدَة فِي الْقُرْآن مِمَّا يدل على ذَلِك، وَذكره القَاضِي، وَابْن عقيل، قَول عَامَّة الْفُقَهَاء والمتكلمين. وَذهب ابْن عَبَّاس، وَعِكْرِمَة، وَمُجاهد، وَسَعِيد بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 جُبَير، وَعَطَاء، وَغَيرهم: إِلَى أَن فِيهِ ألفاظاً بِغَيْر الْعَرَبيَّة. قَالَ أَبُو ميسرَة: (فِي الْقُرْآن من كل لِسَان) ، وَمثله عَن سعيد بن جُبَير ووهب بن مُنَبّه. قَالَ ابْن الزَّاغُونِيّ، والموفق: (فِيهِ المعرب) ، وَنَصره ابْن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 برهَان، وَجَمَاعَة، وَذكره أَبُو عبيد قَول أهل الْعلم من الْفُقَهَاء، وَأَن الأول قَول أهل الْعَرَبيَّة، وَجمع بَينهمَا بتعريب لَهَا فَصَارَت عَرَبِيَّة فَقَالَ: (وَالصَّوَاب عِنْدِي مَذْهَب فِيهِ تَصْدِيق الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، وَذَلِكَ أَن هَذِه أُصُولهَا أَعْجَمِيَّة كَمَا قَالَ الْفُقَهَاء، لَكِنَّهَا وَقعت للْعَرَب فعربت بألسنتها، وحولتها عَن أَلْفَاظ الْعَجم إِلَى ألفاظها، فَصَارَت عَرَبِيَّة، ثمَّ نزل الْقُرْآن وَقد اخْتلطت هَذِه الْحُرُوف بِكَلَام الْعَرَب، فَمن قَالَ: إِنَّهَا عَرَبِيَّة، فَهُوَ صَادِق) . وَمَال إِلَى هَذَا القَوْل الجواليقي، وَابْن الْجَوْزِيّ، وَآخَرُونَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 اسْتدلَّ الْمُثبت على أَن فِيهِ غير الْعَرَبِيّ: بِأَن مشكاة هندية، وقسطاساً رُومِية واستبرقاً وسجيلاً فارسية. رد ذَلِك: بِأَنَّهُ مِمَّا اتّفق فِيهِ اللغتان، كالدواة والمنارة والصابون والتنور. رد ذَلِك: بِأَنَّهُ بعيد، وَالْأَصْل عَدمه؛ وَفِيه نظر. وَاسْتدلَّ الْمَانِع بِمَا سبق فِي الشَّرْعِيَّة، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ءأعجمي وعربي} [فصلت: 44] ، فنفى تنوعه. رد: بِمَنْع نَفْيه، فَإِن الْمَفْهُوم إِنْكَار كَون الْقُرْآن أعجمياً مَعَ كَون الْمُخَاطب بِهِ عَرَبيا لَا يفهمهُ، وَإِن كَانَ الأعجمي والعربي صِفَتي الْكَلَام لم يلْزم نَفْيه مُطلقًا، لجَوَاز كَون بعضه أعجمياً يفهم. قَالُوا: لَا يتحداهم بِغَيْر لسانهم كَغَيْرِهِ. رد: بالمتشابه. رد: هَذَا مجَاز لصرفه عَن ظَاهره، فَهُوَ عَرَبِيّ. وَبِأَنَّهُ إِنَّمَا تحداهم بلغتهم، وَصَارَ لَهَا حكم الْعَرَبيَّة بتعريبها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 تَنْبِيهَانِ: أَحدهمَا: / على القَوْل بِأَن فِيهِ المعرب، تتبع التَّاج السُّبْكِيّ مَا وَقع فِي الْقُرْآن من ذَلِك، فَوَجَدَهَا سبعا وَعشْرين لَفْظَة، ذكرهَا فِي " شرح مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب " ونظمها، وَزَاد عَلَيْهَا الْحَافِظ شهَاب الدّين ابْن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ ": أَرْبعا وَعشْرين لَفْظَة، ونظمها على زنة نظمه، فَذكر أَولا بَيْتا لنَفسِهِ تَوْطِئَة، ثمَّ ثنى بِأَبْيَات السُّبْكِيّ وَهِي خَمْسَة، ثمَّ كملها بأبياته، فَقَالَ: (من المعرب عد التَّاج (كز) وَقد ... ألحقت (كد) وضمتها الأساطير) (السلسبيل وطه كورت بيع ... استبرق صلوَات سندس طور) (الزنجبيل ومشكاة سرادق مَعَ ... روم وطوبى وسجيل وكافور) (كَذَا قَرَاطِيس ربانيهم [وغساق] ... ثمَّ دِينَار القسطاس مَشْهُور) (كَذَاك قسورة واليم ناشئة ... وَيُؤْت كِفْلَيْنِ مَذْكُور [ومنظور] ) (لَهُ مقاليد فردوس [فعد] كَذَا ... فِيمَا حكى ابْن دُرَيْد مِنْهُ تنور) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 (وزدت حرم ومهل والسجل كَذَا ... السّري وَالْأَب ثمَّ الجبت مَذْكُور) (وقطنا وإناه ثمَّ متكأ ... دارست يصهر مِنْهُ فَهُوَ مصهور) (وهيت وَالسكر والأواه مَعَ حصب ... وأوبي مَعَه والطاغوت مَنْظُور) (صرهن إصري غيض المَاء مَعَ وزر ... ثمَّ الرقيم مناص والسنا النُّور) وَالْمرَاد بقوله: (كز) بالجمل سَبْعَة وَعِشْرُونَ موضعا، و (كد) بالجمل أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ موضعا؛ لِأَن الْكَاف بِعشْرين وَالزَّاي بسبعة، وَالدَّال فِي الثَّانِي بأَرْبعَة، وَلَا اعْتِبَار هُنَا بالتضعيف فِي الزَّاي وَالدَّال، فيكمل أحدا وَخمسين موضعا. قَالَ الْحَافِظ: (وَأَنا معترف أَنِّي مَا استوعبت مَا يسْتَدرك عَلَيْهِ، فقد ظَفرت بعد نظمي بأَشْيَاء، مِنْهَا: الرَّحْمَن، وراعنا، وَقد عزمت على أَنِّي إِذا أتيت على آخر شرح التَّفْسِير ألحق مَا وقفت عَلَيْهِ من / الزِّيَادَة فِي ذَلِك منظوماً) انْتهى. وَلم يفعل بعد ذَلِك شَيْئا، إِمَّا نِسْيَانا، وَإِمَّا مَا ظفر بِشَيْء، فيكمل مَا ذكره ثَلَاثَة وَخَمْسُونَ موضعا. قلت: وَقد ظَفرت بِبَعْض زِيَادَة عَلَيْهِمَا، مِنْهَا: مرجان، ذكره الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ". وَمِنْهَا: السراط، ذكره الطوفي فِي شرح مُخْتَصره فِي الْأُصُول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 وَمِنْهَا: الِاسْم الْجَلِيل - وَهُوَ الله - على أحد الْوَجْهَيْنِ للشَّافِعِيَّة، فقد ذكر ابْن الملقن فِي [الإشارات] أَنهم اخْتلفُوا فِيهِ، (هَل هُوَ اسْم عَرَبِيّ ابتدأت بِهِ الْعَرَب، أَو عبراني نقلته الْعَرَب إِلَى لغتها؟ على وَجْهَيْن) انْتهى. وَقد تقدم ذَلِك فِي الْخطْبَة. وَمِنْهَا: يَأْجُوج وَمَأْجُوج، فَإِن الْأَصَح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء: أَنه غير عَرَبِيّ، [ذكره] الْحَافِظ شهَاب الدّين ابْن حجر فِي " الشَّرْح "، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال: إِن الِاسْم الْجَلِيل كإبراهيم وَغَيره من الْأَسْمَاء الأعجمية الْأَعْلَام، وَقد تقدم ذَلِك وَأَن الصَّحِيح: أَنه علم فِي أثْنَاء الْكَلَام على الْخطْبَة، فيكمل الْأَسْمَاء ثَمَانِيَة وَخمسين اسْما، وَلَيْسَ كل هَذِه الْأَسْمَاء على الصَّحِيح مِنْهَا، فَإِن فِيهَا خلافًا، وَرُبمَا كَانَ الصَّحِيح فِي بَعْضهَا: أَنَّهَا عَرَبِيَّة. وَقَول الْحَافِظ فِي الْبَيْت الَّذِي قبل الْأَخير: وَالسكر، هُوَ مَا فِي سُورَة النَّحْل فِي قَوْله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سكرا وَرِزْقًا حسنا} [النَّحْل: 67] فِيمَا يظْهر لَا قَوْله {اعْمَلُوا ءال دَاوُد شكرا} [سبأ: 13] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 قلت: ثمَّ ظَفرت بتصنيف لعلامة زَمَانه، الشَّيْخ جلال الدّين عبد الرَّحْمَن بن السُّيُوطِيّ، ناظم " جمع الْجَوَامِع "، فَإِنَّهُ شَرحه، وَذكر كَلَام السُّبْكِيّ، وَابْن حجر، ثمَّ زَاد على ذَلِك تِسْعَة وَعشْرين لفظا، أَو ثَلَاثِينَ، ونظمه على زنة النظمين، فَقَالَ: (وزدت [يس] والرحمن مَعَ ملكوت ... ثمَّ سينين شطر الْبَيْت مَشْهُور) (ثمَّ الصِّرَاط ودري يحور ومرجان ... [اليم] مَعَ القنطار مَذْكُور) (وراعنا طفقا [هدنا] أبلعي وورا ... والأرائك والأكواب مأثور) (هود وقسط وَكفر زمرة سقر ... هونا يصدون والمنساة مسطور) (شهر مجوس / وأقفال يهود حواريون ... وكنز وسجين وتتبير) (بعير آزر حوب وردة عرم ... إل وَمن تحتهَا عبدت والصور) (ولينة فومها [رهو] وأخلد مزجاة ... وسيدها القيوم موفور) (وقمل ثمَّ أسفار عني كتابا ... وَسجدا ثمَّ ربيون [تَكْثِير] ) (وحطة وطوى والرس نون كَذَا ... عدن ومنفطر الأسباط مَذْكُور) (مسك أَبَارِيق ياقوت رووا فَهُنَا ... مَا فَاتَ عَن عدد الْأَلْفَاظ مَحْصُور) (وَبَعْضهمْ عد الأولى مَعَ بطائنها ... وَالْآخِرَة لمعاني الضِّدّ مَقْصُور) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 ثمَّ صنف كتابا سَمَّاهُ " الإتقان فِي عُلُوم الْقُرْآن "، وَزَاد على الأبيات، وأوصلها إِلَى ربعين، أَو أَزِيد، وَهِي الَّتِي ذَكرنَاهَا هُنَا آخرا، وَنسب فِيهِ كل قَول إِلَى قَائِله، وَمن نَقله عَنهُ، وَلَقَد أَجَاد وَأفَاد وروى الأكباد بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ، وَالله أعلم. الثَّانِي: قد عني جمَاعَة بِجمع مَا فِي لُغَة الْعَرَب مُطلقًا، من ذَلِك ابْن الجواليقي. رُبمَا جعل بعض اللغويين وَغَيرهم لكثير من المعرب ضوابط، كَقَوْل ابْن جني، وَغَيره من النُّحَاة: (مَتى خلا اسْم رباعي الْأُصُول أَو خماسيها عَن بعض حُرُوف الذلاقة السِّتَّة الْمَجْمُوعَة فِي: " فر من لب "، يكون أعجمياً) . وَقَالَ الْجَوْهَرِي وَغَيره: (مَتى اجْتمع جِيم وقاف فِي كلمة فَهِيَ أَعْجَمِيَّة كنجنيق وجردق وَنَحْوهمَا) ، إِلَى غير ذَلِك من الضوابط. وَقَوله: المعرب مَا استعملته الْعَرَب فِي معنى وضع لَهُ فِي غير لغتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 وَقَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": (لفظ غير علم. .) إِلَى آخِره، فانتقد عَلَيْهِ: بِأَنَّهُ إِنَّمَا يخرج من الْخلاف فِي وُقُوعه، لَا من تَسْمِيَته معرباً، لِأَنَّهُ أعجمي استعملته الْعَرَب، وَهَذَا معنى التعريب. قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَعِنْدِي أَنَّهَا خَارِجَة من المعرب، وَذَلِكَ [أَنه] حِكَايَة أَلْفَاظ الْأَعْلَام كَمَا هِيَ، [كَمَا] أَن الْعَجم إِذا / حكت أعلاماً، عندنَا كمحمد وَأحمد لَا يصير بذلك وضعا أعجمياً؛ إِذْ لَا سَبِيل إِلَى أَن [يعبر] فِي الْأَعْلَام عَن مدلولها إِلَّا بهَا، بِخِلَاف أَسمَاء الْأَجْنَاس، لكَون الْعلم وضع لِمَعْنى لَا يتَنَاوَل غَيره) . وَقَوله: وَمحل الْخلاف فِي مُفْرد غير علم. اتّفق الْعلمَاء على أَنه لَيْسَ فِي الْقُرْآن كَلَام مركب على أساليب غير الْعَرَبيَّة، وَأَن فِيهِ أعلاماً بِغَيْر الْعَرَبيَّة، وَإِنَّمَا مَحل الْخلاف فِي أَلْفَاظ مُفْردَة غير أَعْلَام، وَهِي أَسمَاء الْأَجْنَاس، كاللجام، والفرند، والفيروزج، والياقوت، والسمور، والسنجاب، والإبريق، والطست، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 والخوان، والفلفل، والقرفة، والخولنجان، والياسمين، والكافور، وَنَحْوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 قَوْله: {فصل} أَبُو يُوسُف، والقرافي، وَابْن حمدَان، وَابْن قَاضِي الْجَبَل: مجَاز رَاجع أولى من حَقِيقَة مرجوحة، وَأَبُو حنيفَة، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح: هِيَ مَا لم تهجر، والرازي، والبيضاوي: مُجمل، والأصفهاني: مَحَله إِن منع حمله على حَقِيقَته ومجازه مَعًا، وَابْن الرّفْعَة: مَحَله فِي إِثْبَات، وَفِي نفي يعْمل بالمجاز قطعا} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 إِذا تَعَارَضَت الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فالحقيقة أولى فِي الْجُمْلَة؛ لِأَنَّهَا الأَصْل، وَإِنَّمَا مَحل الْخلاف: إِذا ترجح الْمجَاز حَتَّى يصير معادلاً للْحَقِيقَة لاشتهاره، فَيصير حَقِيقَة شَرْعِيَّة أَو عرفية، أَو تدل قَرَائِن على ضعف الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة بِحَيْثُ لَا تمات أصلا وَإِنَّمَا تتساوى مَعَ الْمجَاز، وَهِي الْمَسْأَلَة الْمَذْكُورَة هُنَا، وفيهَا مَذَاهِب: أَحدهَا: تقدم الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة المرجوحة لِأَنَّهَا الأَصْل، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمن تبعه، وَذَلِكَ كَمَا لَو حلف ليشربن من هَذَا النَّهر، فَإِن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 حَقِيقَته: أَن يكرع مِنْهُ، ومجازه الرَّاجِح المعادل للْحَقِيقَة: أَن يغترف بِإِنَاء مِنْهُ وَيشْرب، فالحقيقة لَيست مماتة أصلا، لِأَن كثيرا من الرُّعَاة وَغَيرهم يكرع بِفِيهِ. وَالْمذهب الثَّانِي: يقدم الْمجَاز؛ لغلبته، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمن تبعه، لِأَنَّهُ الظَّاهِر، والتكليف إِنَّمَا هُوَ بالظهور، وَهُوَ قَول أبي / الْخطاب فِي الْحلف على أكل الرؤوس وَالْبيض، ذكره ابْن حمدَان فِي " مقنعه "، وَنسبه صَاحب " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة " إِلَى الْأَصْحَاب، فِيمَا إِذا حلف لَا يشرب من دجلة أَو من الْفُرَات، فَقَالَ: (من قدم الْمجَاز الرَّاجِح يَقُول: يَحْنَث باغترافه مِنْهُ بِإِنَاء وَنَحْوه وشربه مِنْهُ) . - قَالَ وَهَذَا قَول أَصْحَابنَا، وَقَول أبي يُوسُف. وَمن قَالَ: تقدم الْحَقِيقَة المرجوحة، قَالَ: لَا يَحْنَث إِلَّا بِأَن يكرع مِنْهُ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة) انْتهى. وَالْمذهب الثَّالِث: أَنه مُجمل، اخْتَارَهُ الرَّازِيّ فِي المعالم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 والبيضاوي وَجمع وعزي إِلَى الشَّافِعِي، للتعارض؛ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا رَاجِح من وَجه. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي: (مَحل الْخلاف إِذا لم يحمل اللَّفْظ على حَقِيقَته ومجازه عِنْد عدم الْقَرِينَة، أما إِذا جَوَّزنَا الْحمل حمل عَلَيْهِمَا مَعًا وَهُوَ الظَّاهِر والأقوى "، وَحَكَاهُ الْبرمَاوِيّ قولا فِي الْمَسْأَلَة: وَالْأولَى: أَن يكون ذَلِك مُقَيّدا لمحل الْخلاف. وَقيل: مَحل الْخلاف فِي الْإِثْبَات، أما فِي النَّفْي فَيعْمل بالمجاز الرَّاجِح قطعا، قَالَه ابْن الرّفْعَة الشَّافِعِي فِي الْمطلب، فِي بَاب الْإِيلَاء. فَائِدَة: حرر الْحَنَفِيَّة فِي كتبهمْ مَحل النزاع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، فَإِن مرجعها إِلَيْهِم، فَقَالُوا: الْمجَاز أَقسَام: أَحدهَا: أَن يكون الْمجَاز مرجوحاً لَا يفهم إِلَّا بِقَرِينَة، كالأسد للشجاع، فَتقدم الْحَقِيقَة. الثَّانِي: أَن يغلب اسْتِعْمَاله حَتَّى يُسَاوِي الْحَقِيقَة، فاتفق أَبُو حنيفَة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 وَأَبُو يُوسُف على تَقْدِيم الْحَقِيقَة، وَجعل ابْن التلمساني فِي " شرح المعالم " هَذِه الصُّورَة مَحل الْخلاف. الثَّالِث: أَن يكون راجحاً والحقيقة مماتة لَا ترَاد فِي الْعرف، فقد اتفقَا على تَقْدِيم الْمجَاز؛ لِأَنَّهُ إِمَّا حَقِيقَة شَرْعِيَّة كَالصَّلَاةِ، أَو عرفية كالدابة، وَلَا خلاف فِي تَقْدِيمهَا على الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة. مِثَاله: لَو حلف لَا يَأْكُل من هَذِه النَّخْلَة فَأكل من ثَمَرهَا، حنث، وَإِن أكل من خشبها لم يَحْنَث، وَإِن كَانَ / الْخشب هُوَ الْحَقِيقَة؛ لِأَنَّهَا قد أميتت. الرَّابِع: أَن يكون راجحاً والحقيقة تتعاهد فِي بعض الْأَوْقَات، فَهَذِهِ مَحل الْخلاف عِنْد الْأَكْثَر، كَمَا لَو حلف ليشربن من هَذَا النَّهر، فَهُوَ حَقِيقَة فِي الكرع مِنْهُ بِفِيهِ، وَلَو اغترف بكوز وَشرب فَهُوَ مجَاز، لِأَنَّهُ شرب من الْكوز لَا من النَّهر، لكنه مجَاز رَاجِح متبادر إِلَى الْفَهم، والحقيقة قد ترَاد، لِأَن كثيرا من الرعاء وَغَيرهم يكرع [بِفِيهِ] . وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمَحْصُول ": (مَحل الْخلاف: أَن يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 الْمجَاز راجحاً على الْحَقِيقَة، بِحَيْثُ يكون هُوَ الْمُتَبَادر إِلَى الذِّهْن عِنْد الْإِطْلَاق، كالمنقول الشَّرْعِيّ والعرفي، وَورد اللَّفْظ من غير الشَّرْع وَالْعرْف، أما إِن ورد من أَحدهمَا فَإِنَّهُ يحمل على مَا وضع [لَهُ] انْتهى؛ وَهُوَ أظهر، وَالظَّاهِر أَنه مُرَادهم، وَلذَلِك يَقُولُونَ: اللَّفْظ يحمل على عرف الْمُتَكَلّم بِهِ، وَيَأْتِي فِي التَّرْجِيح تَقْدِيم الْمجَاز على الْمُشْتَرك فِي الْأَصَح. قَوْله: {وَلَو لم يَنْتَظِم الْكَلَام إِلَّا بارتكاب [مجَاز] زِيَادَة أَو نُقْصَان، فالنقصان أولى} . وَذَلِكَ؛ لِأَن الْحَذف فِي كَلَام الْعَرَب أَكثر من الزِّيَادَة، قَالَه كثير من الْعلمَاء. وَيتَفَرَّع على ذَلِك: إِذا قَالَ لزوجتيه: إِن حضتما حَيْضَة فأنتما طالقتان، إِذْ لَا شكّ فِي اسْتِحَالَة اشتراكهما فِي حَيْضَة، وَتَصْحِيح الْكَلَام، هُنَا، إِمَّا بِدَعْوَى الزِّيَادَة وَهُوَ قَوْله: حَيْضَة، وَإِمَّا بِدَعْوَى الْإِضْمَار وَتَقْدِيره: إِن حَاضَت كل وَاحِدَة مِنْكُمَا حَيْضَة. وَفِي الْمَسْأَلَة لِأَصْحَابِنَا أَرْبَعَة أوجه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 أَحدهَا: سلوك الزِّيَادَة، وَيصير التَّقْدِير: إِن حضتما فأنتما طالقتان، فَإِذا طعنتا فِي الْحيض طلقتا، وَهُوَ قَول القَاضِي أبي يعلى وَغَيره، وَهُوَ الْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب. وَالْوَجْه الثَّانِي: سلوك النَّقْص - وَهُوَ الْإِضْمَار - فَلَا تطلق وَاحِدَة مِنْهُمَا، حَتَّى تحيض كل وَاحِدَة حَيْضَة، وَيكون التَّقْدِير كَمَا تقدم: إِن حَاضَت كل وَاحِدَة مِنْكُمَا / حَيْضَة فأنتما طالقتان نَظِيره قَوْله تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة} [النُّور: 4] ، أَي: اجلدوا كل [وَاحِد] مِنْهُم ثَمَانِينَ جلدَة، وَهُوَ قَول الْمُوفق، وَالْمجد، وَالشَّارِح، وَابْن حمدَان، وَغَيرهم، وَهُوَ مُوَافق للقاعدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 وَالْوَجْه الثَّالِث: تطلقان بِحَيْضَة من إِحْدَاهمَا؛ لِأَنَّهُ لما تعذر وجود الْفِعْل مِنْهُمَا، وَجب إِضَافَته إِلَى إِحْدَاهمَا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يخرج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ والمرجان} [الرَّحْمَن: 22] ، وَإِنَّمَا يخرج من أَحدهمَا. وَالْوَجْه الرَّابِع: لَا يطلقان بِحَال، بِنَاء على أَنه لَا يَقع الطَّلَاق الْمُعَلق على الْمحَال. قَوْله: {فَائِدَة: الْكِنَايَة حَقِيقَة إِن اسْتعْمل اللَّفْظ فِي مَعْنَاهُ وَأُرِيد لَازم الْمَعْنى، ومجاز إِن لم يرد الْمَعْنى وَإِنَّمَا عبر بالملزوم عَن اللَّازِم، و [عِنْد الْأَكْثَر:] حَقِيقَة مُطلقًا، وَقيل: عَكسه، وَقيل: بنفيهما} . الْكَلَام على الْكِنَايَة والتعريض من وَظِيفَة عُلَمَاء الْمعَانِي وَالْبَيَان لَا عُلَمَاء الْأُصُول، لَكِن لما كَانَت مُخْتَلفا فِيهَا هَل هِيَ حَقِيقَة أَو مجَاز؟ ذكر [ا] اسْتِطْرَادًا، وَأَيْضًا فقد يلتبسان على السَّامع، وَلذَلِك لم يذكرهما إِلَّا الْقَلِيل من الْأُصُولِيِّينَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 فَقَالَ عُلَمَاء هَذَا الْفَنّ: اللَّفْظ يَنْقَسِم إِلَى: تَصْرِيح، وكناية، وتعريض، وَاخْتلف فِي الْكِنَايَة هَل هِيَ حَقِيقِيَّة أم مجَاز، أَو لَا وَاحِد مِنْهُمَا، أَو [فِيهَا] حَقِيقَة ومجاز؟ على أَقْوَال. أَحدهَا: أَنَّهَا تَنْقَسِم إِلَى حَقِيقَة ومجاز، اخْتَارَهُ السُّبْكِيّ، وَولده التَّاج، والبرماوي، وقبلهم جمَاعَة. فالكناية: القَوْل الْمُسْتَعْمل فِي مَعْنَاهُ الْمَوْضُوع لَهُ حَقِيقَة، وَلَكِن أُرِيد بِإِطْلَاقِهِ لَازم الْمَعْنى، كَقَوْلِهِم: كثير الرماد، يكنون عَن كرمه، فكثرة الرماد مُسْتَعْمل فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ، وَلَكِن أُرِيد بِهِ لَازمه وَهُوَ الْكَرم، وَإِن كَانَ بِوَاسِطَة لَازم آخر؛ لِأَن لَازم كَثْرَة الرماد كَثْرَة الطَّبْخ، ولازم كَثْرَة الطَّبْخ كَثْرَة الضيفان، ولازم كَثْرَة الضيفان / الْكَرم، فَكل ذَلِك عَادَة، فالدلالة على الْمَعْنى الْأَصْلِيّ بِالْوَضْعِ، وعَلى اللَّازِم بانتقال الذِّهْن من الْمَلْزُوم إِلَيْهِ. وَمثله قَوْلهم: طَوِيل النجاد، كِنَايَة عَن طول الْقَامَة؛ لِأَن نجاد الطَّوِيل يكون طَويلا بِحَسب الْعَادة، وعَلى هَذَا فَهُوَ حَقِيقَة؛ لِأَنَّهُ اسْتعْمل فِي مَعْنَاهُ وَإِن أُرِيد بِهِ اللَّازِم، فَلَا تنَافِي بَينهمَا. وَإِن لم يرد الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ، وَإِنَّمَا عبر بالملزوم عَن اللَّازِم، بِأَن يُطلق الْمُتَكَلّم كَثْرَة الرماد على اللَّازِم وَهُوَ الْكَرم، وَطول النجاد على اللَّازِم وَهُوَ طول الْقَامَة، من غير مُلَاحظَة الْحَقِيقَة أصلا، فَهُوَ مجَاز؛ لِأَنَّهُ اسْتعْمل فِي غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 مَعْنَاهُ، والعلاقة فِيهِ إِطْلَاق الْمَلْزُوم على اللَّازِم. ورده: الكوراني من وُجُوه: مِنْهَا: (أَن الْمَشْهُور: أَن الْفرق بَين الْمجَاز وَالْكِنَايَة: إِنَّمَا هُوَ بِأَن الِانْتِقَال فِي الْمجَاز من الْمَلْزُوم إِلَى اللَّازِم، وَفِي الْكِنَايَة من اللَّازِم إِلَى الْمَلْزُوم، أطبق عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ، وَكَلَام المُصَنّف يُخَالِفهُ صَرِيحًا) . وَالْقَوْل الثَّانِي: - وَهُوَ الْأَصَح -: أَنه حَقِيقَة فِيهَا، وَإِلَيْهِ جنح كثير من البيانيين، بل قَالَ الكوراني: (الْجُمْهُور أَنَّهَا من الْحَقِيقَة) ، وتبعهم ابْن عبد السَّلَام فِي كتاب " الْمجَاز " فَقَالَ: (الظَّاهِر أَن الْكِنَايَة لَيست من الْمجَاز، لِأَنَّهَا وَإِن اسْتعْملت فِيمَا وضع لَهُ لَكِن أُرِيد بهَا الدّلَالَة على غَيره، [كدليل الْخطاب] فِي قَوْله: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} [الْإِسْرَاء: 23] ، وَكَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 نَهْيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن التَّضْحِيَة بالعوراء والعرجاء) انْتهى. وَنَحْوه: النَّهْي عَن الدُّبَّاء، والحنتم، والمقير، فَإِنَّهُ ينصب إِلَى مَا يلْزم مِنْهُ، وَهُوَ النَّبِيذ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه مجَاز مُطلقًا، نظرا إِلَى المُرَاد مِنْهُ، وَهُوَ مُقْتَضى قَول صَاحب " الْكَشَّاف " عِنْد قَوْله: {وَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيمَا عرضتم بِهِ من خطْبَة النِّسَاء أَو أكننتم فِي أَنفسكُم} [الْبَقَرَة: 235] ، حَيْثُ فسر الْكِنَايَة: (بِأَن يذكر الشَّيْء بِغَيْر لَفظه الْمَوْضُوع لَهُ) . وَالْقَوْل الرَّابِع: أَنَّهَا لَيست بِحَقِيقَة وَلَا مجَاز، وَهُوَ قَول السكاكي، / وَتَبعهُ فِي " التَّلْخِيص ". قَوْله: {والتعريض حَقِيقَة وَهُوَ: لفظ مُسْتَعْمل فِي مَعْنَاهُ مَعَ التَّلْوِيح بِغَيْرِهِ} . قَالَ الكوراني: (التَّعْرِيض: اللَّفْظ الدَّال على معنى لَا من جِهَة الْوَضع الْحَقِيقِيّ وَلَا الْمجَازِي، بل يفهم الْمَعْنى من جَانب اللَّفْظ. و" الْعرض " بِالضَّمِّ - الْجَانِب، فَلَمَّا لم يسْتَعْمل اللَّفْظ فِي الْمَعْنى المعرض بِهِ كَأَنَّهُ وَقع اللَّفْظ منحرفاً عَنهُ، فَكل مِنْهُمَا فِي جَانب، بِخِلَاف مَا إِذا اسْتعْمل فِيهِ حَقِيقَة أَو مجَازًا) وَهُوَ الْمَقْصُود، كَقَوْل إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام: {بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا} [الْأَنْبِيَاء: 63] ، غضب أَن عبدت هَذِه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 الْأَصْنَام مَعَه فَكَسرهَا، وَإِنَّمَا الْقَصْد: التَّلْوِيح بِأَن الله تَعَالَى يغْضب لعبادة غَيره مِمَّن لَيْسَ بإله من طَرِيق الأولى مِمَّا ذكر. وَبِذَلِك يعلم: أَن اللَّفْظ إِذا لم يُطَابق فِي الْخَارِج مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ لَا يكون كذبا، إِذا كَانَ المُرَاد بِهِ التَّوَصُّل إِلَى غَيره بكناية - كَمَا سبق - أَو تَعْرِيض كَمَا هُنَا -، وَإِن سمي كذبا فمجاز بِاعْتِبَار الصُّورَة، كَمَا جَاءَ: " لم يكذب إِبْرَاهِيم إِلَّا ثَلَاث كذبات " المُرَاد: صُورَة ذَلِك، وَهُوَ نَفسه حق وَصدق، وَقد علم من تَفْسِير التَّعْرِيض بذلك أَنه حَقِيقَة لَا مجَاز، لِأَنَّهُ مُسْتَعْمل فِيمَا وضع لَهُ أَولا. وَالْفرق بَين التَّعْرِيض وَأحد قسمي الْكِنَايَة: أَن الْمُلَازمَة هُنَاكَ وَاضِحَة بانتقال الذِّهْن إِلَيْهَا سَرِيعا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 قَوْله: {فصل} {الْأَرْبَعَة، وَالْأَكْثَر: الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة وَاقعَة منقولة، [والمعتزلة: وَاقعَة بِلَا نقل، والدينية عِنْدهم: مَا تعلق بأصول الدّين فِي الْأَصَح، وَقوم: وَقعت إِلَّا الدِّينِيَّة، وَقيل: إِلَّا الْإِيمَان] وَالْقَاضِي، وَأَبُو الْفرج، وَالْمجد، والباقلاني: اللُّغَوِيَّة بَاقِيَة وزيدت شُرُوطًا، فَهِيَ حَقِيقَة لغوية ومجاز شَرْعِي، [والآمدي وقف] ، [و] الشَّيْخ، وَغَيره: لم تنقل وَلم يزدْ فِيهَا، بل الشَّارِع استعملها على وَجه اخْتصَّ بمراده} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 اعْلَم أَن اللَّفْظ إِذا وضع لِمَعْنى، ثمَّ نقل / فِي الشَّرْع إِلَى معنى ثَان لمناسبة بَينهمَا، وَغلب اسْتِعْمَاله فِي الْمَعْنى الثَّانِي، يُسمى: مَنْقُولًا شَرْعِيًّا. إِذا علم ذَلِك؛ فَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة، هَل هِيَ وَاقعَة منقولة أم لَا؟ على أَقْوَال. وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وَأكْثر الْعلمَاء، - حَتَّى قَالَ ابْن برهَان: (قَالَ بِهِ الْفُقَهَاء قاطبة) -: أَنَّهَا وَاقعَة، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع وضع الشَّارِع اسْما لِمَعْنى، لِأَن دلَالَته لَيست ذاتية، وَلَا يجب اسْم لمسمى؛ لجَوَاز إِبْدَاله أول الْوَضع وانتفائه قبل التَّسْمِيَة، وَالْقطع أَن الصَّلَاة لُغَة: الدُّعَاء أَو الِاتِّبَاع، وَالزَّكَاة: النَّمَاء، وَالصَّوْم: إمْسَاك مُطلق، وَالْحج: قصد مُطلق، وَشرعا لأمور مَعْرُوفَة. قَالَ فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: (تَارَة يُسَمِّي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام اسْما لمعاني لَا تعرفها الْعَرَب، وَتارَة لشبه من معنى الِاسْم لُغَة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: وَقعت مُطلقًا، يعنون: الشَّرْعِيَّة والدينية مَوْضُوعَات مبتدآت، ابتدأها الشَّارِع وَلم ينقلها عَن الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة، فَلَيْسَتْ حقائق لغوية وَلَا مجازات عَنْهَا. قَالَ الْبرمَاوِيّ: (أثبتهما الْمُعْتَزلَة [مَعًا] ، لَكِن على معنى أَن الشَّارِع اخترع أَسمَاء خَارِجَة عَن اللُّغَة لمعان أثبتها شرعا، فمخالفتهم فِي إِثْبَات الشَّرْع للأمرين على الْوَجْه الْمَذْكُور، وَإِن أوهمت عبارَة ابْن الْحَاجِب بعض شراحه: أَنهم يثبتون الدِّينِيَّة ومخالفون فِي الشَّرْعِيَّة؛ فَالصَّوَاب: أَن خلافهم فِي الدِّينِيَّة، وَإِنَّمَا لم يُصَرح ابْن الْحَاجِب فِي نصب الْأَدِلَّة بذلك؛ لِأَنَّهُ مَحل وفَاق) . قَوْله: (وَهِي مَا تعلق بأصول الدّين فِي الْأَصَح) . اخْتلف النَّقْل عَن الْمُعْتَزلَة فِي تَفْسِير الدِّينِيَّة، وَالأَصَح: أَنه مَا تعلق بأصول الدّين، كالإيمان، وَالْكفْر، وَالْفِسْق، وَنَحْوهَا، بِخِلَاف نَحْو: الصَّلَاة، وَالزَّكَاة، وَالصَّوْم، وَالْحج، وَنَحْوهَا، وَهُوَ الَّذِي نَقله عَنْهُم ابْن الباقلاني فِي " التَّقْرِيب "، وَأَبُو الْمَعَالِي فِي " التَّلْخِيص "، و " الْبُرْهَان "، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 والقشيري، وَالْغَزالِيّ، وَغَيرهم. وَنقل / الرَّازِيّ وَجمع عَنْهُم: أَن الديني: أَسمَاء الفاعلين، كالمؤمن، وَالْفَاسِق، وَالْمُصَلي، والصائم، بِخِلَاف الْإِيمَان، وَالْفِسْق، وَالصَّلَاة، وَالصَّوْم، فَإِن ذَلِك شَرْعِي لَا ديني. ورد: بِأَنَّهُ يلْزم تَسْمِيَة اللَّفْظ باسم لَا يجْرِي فِي الْمُشْتَقّ مِنْهُ. وَقيل: وَقعت إِلَّا الدِّينِيَّة، فالشرعية وَقعت، وَلم تقع الدِّينِيَّة. قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": (وَالْمُخْتَار وفَاقا للشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَابْن الصّباغ، وَأكْثر أَصْحَابنَا: أَن النَّقْل إِنَّمَا وَقع فِي الشَّرْعِيَّة لَا فِي الدِّينِيَّة، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب وَغَيره، وَمِنْهُم من يَجْعَل الْخلاف فِي الْإِيمَان فَقَط، لَا فِي كل ديني) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 وَقَالَ الباقلاني، وَالْقَاضِي أَبُو يعلى، وَأَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي، وَالْمجد ابْن تَيْمِية، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَغَيرهم: اللُّغَوِيَّة بَاقِيَة وزيدت شُرُوطًا، فَهِيَ حَقِيقَة لغوية مجَاز شَرْعِي، حَكَاهُ فِي " التَّمْهِيد " عَن الأشعرية، وَأَن للشَّافِعِيّ قَوْلَيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى فِي " الْجَامِع ": (الْإِيمَان لُغَة: التَّصْدِيق وَأقرهُ الشَّارِع وَزَاد عَلَيْهِ الطَّاعَات الظَّاهِرَة، كَصَلَاة وَغَيرهَا) . وَنقل ابْن مَنْصُور عَن الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل أَنه قَالَ: (كَانَ بَدْء الْإِيمَان نَاقِصا فَجعل يزِيد) ، وَظَاهره: أَنه زيد عَلَيْهِ وَلم ينْقل عَنهُ. قَالَ: ويفيد هَذَا: إِن ثَبت نَقله، زَالَ الِاسْم بِوُجُود ضِدّه وَهُوَ الْمعاصِي، وَإِن لم ينْقل، لم يزل الِاسْم، لِأَنَّهُ لم يُوجد ضِدّه، بل ينْقل اسْم الْكَمَال) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 ووقف الْآمِدِيّ فِي " الْمُنْتَهى ". وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَجمع من الْعلمَاء: لم تنقل وَلم يزدْ فِيهَا، بل الشَّارِع استعملها على وَجه اخْتصَّ بمراده. اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول بِمَا تقدم، وَبِأَنَّهُ لَا يلْزم من ذَلِك محَال لذاته، وَالْقطع بالاستقراء، لِأَن الْعِبَادَات الْمُتَقَدّمَة للمعلوم شرعا، وَهِي لُغَة لغير ذَلِك. فَإِن قيل: هِيَ بَاقِيَة، والزيادات شُرُوط. قيل: إِطْلَاق الصَّلَوَات على الرَّكْعَات / يمنعهُ. فَإِن قيل: إِطْلَاق هَذِه الْمعَانِي عَلَيْهَا مجَاز، لكَون الدُّعَاء جُزْء مُسَمّى الصَّلَاة، وَالزَّكَاة سَبَب النَّمَاء. أُجِيب: إِن أردتم: أَن الشَّارِع استعملها فِي غير موضوعاتها اللُّغَوِيَّة فَهِيَ الْمُدعى، وَإِن أردتم: أَن أهل اللُّغَة استعملوها فِيهَا، فخلاف الظَّاهِر، لِأَن اسْتِعْمَالهَا فرع تعقلها، وَلم يتعقلوها وَلَا عرفوها؛ وَلِأَن هَذِه الْمعَانِي تفهم من هَذِه الْأَسْمَاء بِغَيْر قرينَة. لَا يُقَال: الْفَهم بِغَيْر قرينَة لكَونه مجَازًا راجحاً، لِأَن الْمجَاز الرَّاجِح لَا يَخْلُو عَن قرينَة عرفية، وَهِي ممتنعة هُنَا، أَو شَرْعِيَّة، وَهُوَ الْمُدعى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 وَاسْتدلَّ للْمَنْع بِوُجُوه: أَحدهَا: لَو وَقع ذَلِك لَكَانَ مُخَاطبا لَهُم بِغَيْر لغتهم، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه} [إِبْرَاهِيم: 4] . الثَّانِي: لَو وَضعهَا الشَّارِع لزمَه تَعْرِيفهَا، لِئَلَّا يلْزم مَا لَا يُطَاق، وَلَو عرفهَا لَكَانَ ذَلِك بالتواتر، لعدم قيام الْحجَّة بالآحاد هُنَا، وَلَا تَوَاتر. قيل: بعد تَسْلِيم مَا لَا يُطَاق، إِنَّهَا فهمت بالقرائن كتعليم الْأَطْفَال اللُّغَات من غير أَن يُصَرح مَعَهم بِوَضْع اللَّفْظ للمعنى، لامتناعه بِالنِّسْبَةِ إِلَى من لَا يعلم شَيْئا من الْأَلْفَاظ. قَالَ الْعَضُد: (وَهُوَ طَرِيق قَطْعِيّ لَا يُنكر) ، وَبَينهَا عَاما وَنقل خَاصّا كالأذان. الثَّالِث: لَو كَانَت لكَانَتْ غير عَرَبِيَّة لعدم وَضعهَا لُغَة، فَيلْزم: كَون الْقُرْآن غير عَرَبِيّ. أُجِيب: عَرَبِيَّة بِوَضْع الشَّارِع لَهَا مجَازًا، و (أَنزَلْنَاهُ) فِي قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة يُوسُف: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قرءاناً عَرَبيا} [الْآيَة: 2] يجوز عود الضَّمِير إِلَى السُّورَة، لِأَن الْقُرْآن يَصح إِطْلَاقه على السُّورَة وَالْآيَة. لَو حلف لَا يقْرَأ الْقُرْآن حنث بِقِرَاءَة آيَة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 وَصِحَّة الْإِطْلَاق لاشْتِرَاكهمَا فِي الْمَعْنى، لِأَن جُزْء الشَّيْء إِذا شَارك كُله معنى صَحَّ أَن يُقَال: هُوَ كَذَا، وَهُوَ بعضه، كَالْمَاءِ [وَالْعَسَل] ، وَاللَّحم، وَاللَّبن، وَنَحْوهَا. وَإِن لم يُشَارك لم يَصح، كالمائة، والرغيف، وَنَحْوهمَا، لعدم تَسْمِيَة الْأَجْزَاء بِالْمِائَةِ، والرغيف. / قلت: عوده إِلَى السُّورَة ضَعِيف، مَعَ توارد الْأُصُولِيِّينَ عَلَيْهِ، لكِنهمْ لَا يجزمون بِهِ إِنَّمَا يَقُولُونَ: يجوز أَن يعود، وَقد اخْتَار هَذِه الزّجاج، وَابْن الْقَاسِم، لَكِن مُعظم الْعلمَاء على أَنه عَائِد إِلَى الْكتاب، حكى الْخلاف ابْن الْجَوْزِيّ فِي " زَاد الْمسير ". [وَلَو] سلم عوده إِلَى الْقُرْآن لجَاز تَسْمِيَته عَرَبيا اعْتِبَارا بالغالب، كشعر عَرَبِيّ فِيهِ فارسية. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: (لكنه مجَاز لصِحَّة الِاسْتِثْنَاء) انْتهى. وَلما تَعَارَضَت الْأَدِلَّة عِنْد الْآمِدِيّ وقف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَجمع من الْعلمَاء: (لم تنقل وَلم يزدْ فِيهَا، بل الشَّارِع استعملها على وَجه اخْتصَّ بمراده) ، وَهُوَ أظهر وَأولى. قَوْله: {فَائِدَة: الْإِيمَان: [التَّصْدِيق بِمَا غَابَ، لُغَة] ، وَشرعا: عقد بالجنان ونطق بِاللِّسَانِ وَعمل بالأركان، عِنْد [الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة] ، وَالسَّلَف، فَدخل كل الطَّاعَات، وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ، وَأكْثر أَصْحَابه، وَهُوَ لُغَة وَشرعا: التَّصْدِيق، وَالْأَفْعَال من شرائعه، وَلَا يدْخل فِيهِ عمل الْقلب، وَيجوز الِاسْتِثْنَاء، وَأَبُو حنيفَة، والمرجئة، وَابْن كلاب، وَغَيرهم: تَصْدِيق بِالْقَلْبِ وَعمل بِاللِّسَانِ، وَيدخل بعض المرجئة عمل الْقلب فِيهِ، والجهمية وَغَيرهم: الْمعرفَة، والكرامية، قَول بِاللِّسَانِ فَقَط، والمعتزلة: فعل الْوَاجِبَات، [وَعند أبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَغَيرهم، لَا يزِيد وَلَا ينقص] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 وَلَا اسْتثِْنَاء فِيهِ، [وَقَالَهُ] [أَبُو الْمَعَالِي فِي الأولى] } . إِنَّمَا ذكرت هَذِه الْمَسْأَلَة اسْتِطْرَادًا؛ لكَون لَهَا مدْخل فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا، وَأَن بعض الْعلمَاء قَالَ: وَقعت إِلَّا الْإِيمَان، فَإِنَّهُ بَاقٍ على مَدْلُوله لُغَة. إِذا علم ذَلِك؛ فَفِي ضمن هَذَا الْكَلَام أَربع مسَائِل، مَسْأَلَة فِي معنى الْإِيمَان، وَمَسْأَلَة فِي زِيَادَته ونقصانه، وَمَسْأَلَة فِي جَوَاز الِاسْتِثْنَاء فِيهِ، وَمَسْأَلَة فِي الْخلاف فِي تباينه لِلْإِسْلَامِ وترادفه. أما الْمَسْأَلَة الأولى وَهُوَ مَعْنَاهُ فالإيمان لَهُ مَعْنيانِ: معنى فِي اللُّغَة، وَمعنى فِي الشَّرْع. فَمَعْنَاه فِي اللُّغَة: التَّصْدِيق بِمَا غَابَ، قولا كَانَ أَو فعلا، قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا أَنْت بِمُؤْمِن لنا وَلَو كُنَّا / صَادِقين} [يُوسُف: 17] . [وَأما] مَعْنَاهُ فِي الشَّرْع [فَاخْتلف] الْعلمَاء فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا. فَذهب الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة وهم الإِمَام أَحْمد، وَالْإِمَام مَالك، وَالْإِمَام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 الشَّافِعِي -، وَالسَّلَف، وجماهير الْعلمَاء، وَأهل الحَدِيث، والقلانسي، وَابْن مُجَاهِد، من الْمُتَكَلِّمين، وَغَيرهم، حَتَّى حَكَاهُ الإِمَام الشَّافِعِي إِجْمَاع الصَّحَابَة، وَالتَّابِعِينَ، وَمن بعدهمْ مِمَّن أدركهم، نَقله عَنهُ ابْن رَجَب. وَنقل حَرْب قَالَ: سُئِلَ الإِمَام أَحْمد عَن الْإِيمَان فَقَالَ: (قَول وَعمل، وَيزِيد وَينْقص) ، قيل: وَيسْتَثْنى مِنْهُ؟ قَالَ: (نعم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفضل ابْن حجر: (السّلف قَالُوا: هُوَ اعْتِقَاد بِالْقَلْبِ، ونطق بِاللِّسَانِ، وَعمل بالأركان، وَأَرَادُوا بذلك: أَن الْأَعْمَال شَرط فِي كَمَاله، وَمن هُنَا نَشأ لَهُم القَوْل بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَان) . قَالَ ابْن رَجَب: (وَأنكر السّلف على من أخرج الْأَعْمَال عَن الْإِيمَان إنكاراً شَدِيدا، وَمِمَّنْ أنكرهُ على قَائِله وَجعله قولا مُحدثا: سعيد بن جُبَير، وَمَيْمُون بن مهْرَان، وَقَتَادَة وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ، وَإِبْرَاهِيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 النَّخعِيّ، وَالزهْرِيّ، وَيحيى بن أبي كثير وَغَيرهم. قَالَ الثَّوْريّ: (هُوَ رَأْي مُحدث) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 وَكتاب عمر بن عبد الْعَزِيز فِي البُخَارِيّ، فَإِنَّهُ كتب إِلَى أهل الْأَمْصَار: (أما بعد، فَإِن الْإِيمَان فَرَائض وَشَرَائِع فَمن استكملها اسْتكْمل الْإِيمَان، وَمن لم يستكملها لم يستكمل الْإِيمَان) . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: (كَانَ من مضى مِمَّن سلف لَا يفرقون بَين الْإِيمَان وَالْعَمَل) . وَقد دلّ على دُخُول الْأَعْمَال فِي الْإِيمَان قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم وَإِذا تليت عَلَيْهِم ءاياته زادتهم إِيمَانًا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا} [الْأَنْفَال: 2 - 4] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لوفد عبد الْقَيْس: " آمركُم بِأَرْبَع: الْإِيمَان بِاللَّه، وَهل تَدْرُونَ مَا الْإِيمَان بِاللَّه؟ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وإقام الصَّلَاة، وإيتاء الزَّكَاة، وَصَوْم رَمَضَان، وَأَن تعطوا من الْمَغَانِم الْخمس) . وَفِيهِمَا / عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْإِيمَان بضع وَسِتُّونَ شُعْبَة، فأفضلها قَول لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَدْنَاهَا إمَاطَة الْأَذَى عَن الطَّرِيق، وَالْحيَاء شُعْبَة من الْإِيمَان ". وَفِيهِمَا عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن ... " الحَدِيث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 فلولا أَن ترك هَذِه الْكَبَائِر من مُسَمّى الْإِيمَان لما انْتَفَى اسْم الْإِيمَان عَن مرتكب شَيْء مِنْهَا؛ لِأَن الِاسْم لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِانْتِفَاء بعض أَرْكَان الْمُسَمّى أَو واجباته) انْتهى. وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ وَأكْثر أَصْحَابه: هُوَ لُغَة وَشرعا: التَّصْدِيق، وَالْأَفْعَال من شرائعه لَا من نَفسه، ونصروا مَعَ ذَلِك أَنه يسْتَثْنى مِنْهُ، وَلَا تدخل أَعمال الْقُلُوب عِنْدهم فِي الْإِيمَان. وَاسْتَدَلُّوا على أَن الْأَعْمَال غير دَاخِلَة فِي الْإِيمَان بِوُجُوه: أَحدهَا: أَنه اسْم للتصديق، وَلَا دَلِيل على النَّقْل إِلَى غَيره. الثَّانِي: النَّص وَالْإِجْمَاع على أَنه لَا ينفع عِنْد مُعَاينَة الْعَذَاب، وَيُسمى إِيمَان الْيَأْس، وَلَا خَفَاء أَن ذَلِك التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار، [إِذْ لَا مجَال للأعمال] . الثَّالِث: النُّصُوص الدَّالَّة على الْأَوَامِر والنواهي بعد إِثْبَات الْإِيمَان، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الصّيام} [الْبَقَرَة: 183] . الرَّابِع: النُّصُوص الدَّالَّة على أَن الْإِيمَان والأعمال أَمْرَانِ يتفارقان، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} [الْبَقَرَة: 277، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 وَالْبَيِّنَة: 7] ، {وَمن يُؤمن بِاللَّه وَيعْمل صَالحا} [التغابن: 9، وَالطَّلَاق: 11] ، {وَمن يَأْته مُؤمنا قد عمل الصَّالِحَات} [طه: 75] ، {وَمن يعْمل من الصَّالِحَات وَهُوَ مُؤمن} [طه: 112] . الْخَامِس: الْآيَات الدَّالَّة على أَن الْإِيمَان والمعاصي قد يَجْتَمِعَانِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم} [الْأَنْعَام: 82] ، {وَالَّذين أمنُوا وَلم يهاجروا} [الْأَنْفَال: 72] ، {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] . السَّادِس: الْإِجْمَاع على أَن الْإِيمَان شَرط لصِحَّة الْعِبَادَات. وَخبر جِبْرِيل الَّذِي فِي مُسلم يدل على الْفرق، فَإِنَّهُ قَالَ: يَا مُحَمَّد أَخْبرنِي عَن الْإِسْلَام، فَقَالَ: " أَن تشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، / وتقيم الصَّلَاة، وتؤتي الزَّكَاة، وتصوم رَمَضَان، وتحج الْبَيْت إِن اسْتَطَعْت إِلَيْهِ سَبِيلا) ، قَالَ: صدقت، قَالَ: فَأَخْبرنِي عَن الْإِيمَان، قَالَ: " أَن تؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر وتؤمن بِالْقدرِ خَيره وشره "، قَالَ: " صدقت ... " الحَدِيث. فَفرق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَين الْإِسْلَام وَالْإِيمَان، وَأدْخل الْأَعْمَال فِي مُسَمّى الْإِسْلَام، دون مُسَمّى الْإِيمَان. قَالَ الْعَلامَة ابْن رَجَب فِي " شرح النووية ": (وَجه الْجمع بَين النُّصُوص الْمُتَقَدّمَة، وَبَين حَدِيث سُؤال جِبْرِيل، يَتَّضِح بتقرير أصل، وَهُوَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 أَن من الْأَسْمَاء مَا يكون شَامِلًا لمسميات مُتعَدِّدَة عِنْد إِفْرَاده وإطلاقه، فَإِذا قرن ذَلِك الِاسْم بِغَيْرِهِ صَار دَالا على بعض تِلْكَ المسميات، وَالِاسْم المقرون بِهِ دَالا على بَاقِيهَا، وَهَذَا كاسم الْفَقِير والمسكين، فَإِذا أفرد أَحدهمَا دخل فِيهِ كل من هُوَ مُحْتَاج، فَإِذا قرن أَحدهمَا بِالْآخرِ، دلّ أحد الاسمين على بعض أَنْوَاع ذَوي الْحَاجَات، وَالْآخر على بَاقِيه، فَهَكَذَا اسْم الْإِسْلَام وَالْإِيمَان، إِذا أفرد أَحدهمَا دخل فِيهِ الآخر، وَدلّ بِانْفِرَادِهِ على مَا يدل عَلَيْهِ الآخر بِانْفِرَادِهِ، فَإِذا قرن بَينهمَا، دلّ أَحدهمَا على بعض مَا يدل عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ، وَدلّ الآخر على الْبَاقِي. وَقد صرح بِهَذَا الْمَعْنى جمَاعَة من الْأَئِمَّة، مِنْهُم أَبُو بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي رسَالَته إِلَى أهل الْجَبَل، وَمِنْهُم الْخطابِيّ فِي كِتَابه " معالم السّنَن " - وَذكر ابْن رَجَب لَفْظهمَا وتبعهما عَلَيْهِ جمَاعَة من الْعلمَاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 وَيدل على صِحَة ذَلِك: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فسر الْإِيمَان عِنْد ذكره مُفردا فِي حَدِيث وَفد عبد الْقَيْس، بِمَا فسر بِهِ الْإِسْلَام المقرون بِالْإِيمَان، فِي حَدِيث جِبْرِيل، وَفسّر فِي حَدِيث آخر الْإِسْلَام بِمَا فسر بِهِ الْإِيمَان، كَمَا فِي " الْمسند " عَن عَمْرو بن عبسة، قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُول الله مَا الْإِسْلَام؟ قَالَ: " أَن تسلم قَلْبك لله، وَأَن يسلم الْمُسلمُونَ من لسَانك ويدك "، قَالَ: فَأَي الْإِسْلَام أفضل؟ قَالَ: " الْإِيمَان "، قَالَ: وَمَا الْإِيمَان؟ قَالَ: أَن تؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله والبعث بعد الْمَوْت "، قَالَ: فَأَي الْإِيمَان أفضل؟ قَالَ: " الْهِجْرَة "، قَالَ: فَمَا الْهِجْرَة؟ قَالَ: " أَن تهجر / السوء " قَالَ: فَأَي الْهِجْرَة أفضل؟ قَالَ: " الْجِهَاد ". فَجعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْإِيمَان أفضل الْإِسْلَام وَأدْخل فِيهِ الْأَعْمَال. - قَالَ ابْن رَجَب وَبِهَذَا التَّفْصِيل يظْهر تَحْقِيق القَوْل فِي مَسْأَلَة الْإِيمَان وَالْإِسْلَام، هَل هما وَاحِد، أَو مُخْتَلِفَانِ؟) . وَيَأْتِي ذَلِك فِي الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 وَقَالَ أَبُو حنيفَة، وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان، والمرجئة، وَابْن كلاب، وَغَيرهم: هُوَ تَصْدِيق بِالْقَلْبِ وَعمل بِاللِّسَانِ. وَتبع أَبَا حنيفَة كثير من أَصْحَابه، وَعَزاهُ فِي " شرح الْمَقَاصِد " إِلَى كثير من الْمُحَقِّقين. وَمِنْهُم من يَقُول: الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ ركن زَائِد لَيْسَ بأصلي، وَذهب إِلَيْهِ أَبُو مَنْصُور الماتريدي من الْحَنَفِيَّة، ويروى عَن أبي حنيفَة، نَقله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 ابْن الْعِزّ فِي " شرح عقيدة الطَّحَاوِيّ "، وَقَالَ: (الِاخْتِلَاف بَين الْأَئِمَّة وَبَين أبي حنيفَة وَأَصْحَابه اخْتِلَاف صوري، فَإِن كَون أَعمال الْجَوَارِح لَازِمَة لإيمان الْقلب أَو جُزْءا من الْإِيمَان، مَعَ الِاتِّفَاق على أَن مرتكب الْكَبِيرَة لَا يخرج عَن الْإِيمَان، بل هُوَ فِي مَشِيئَة الله تَعَالَى، إِن شَاءَ عذبه، وَإِن شَاءَ عَفا عَنهُ، نزاع لَفْظِي، لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ فَسَاد اعْتِقَاد) انْتهى. وَيدخل أَكثر فرق المرجئة أَعمال الْقُلُوب فِي الْإِيمَان، حَكَاهُ الْأَشْعَرِيّ عَنْهُم. قَالَ بعض المرجئة: كَمَا لَا ينفع مَعَ الْكفْر طَاعَة، لَا يضر مَعَ الْإِيمَان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 مَعْصِيّة، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي " تَارِيخه " عَن أبي حنيفَة، وَأبي يُوسُف. وَقَالَ بَعضهم: لَا يضر مَعَه صَغِيرَة. قَالَ الإِمَام عبد الله بن الْمُبَارك:. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 (المرجئة تَقول: حَسَنَاتنَا متقبلة وسيئاتنا مغفورة) . وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (مَذْهَب المرجئة: تَصْدِيق النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي كل أَمر ديني علم مَجِيئه بِهِ ضَرُورَة، فَيكون من الْحَقَائِق الشَّرْعِيَّة نَظِير الصَّوْم وَالصَّلَاة وَالْحج؛ لِأَنَّهُ تَصْدِيق خَاص) انْتهى. وَقَالَت الْجَهْمِية، والشيعة، أَبُو الْحُسَيْن الصَّالِحِي / من الْقَدَرِيَّة، وَغَيرهم: الْإِيمَان: الْمعرفَة، وَذكره بعض أَصْحَابنَا عَن الْأَشْعَرِيّ وَأكْثر أَصْحَابه، نَقله ابْن مُفْلِح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 قَالَ فِي " شرح الْمَقَاصِد ": (وَقد يمِيل إِلَيْهِ الْأَشْعَرِيّ) وَبَعْضهمْ فرق بَينهمَا، وَفِيه نظر. قَالَ ابْن الْعِزّ فِي " شرح عقيدة الطَّحَاوِيّ " وَغَيره: (قَول الْجَهْمِية بَاطِل، فَإِن لَازمه: أَن فِرْعَوْن وَقَومه كَانُوا مُؤمنين، فَإِنَّهُم عرفُوا صدق مُوسَى وَهَارُون صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِمَا -، وَلم يُؤمنُوا بهما، وَلِهَذَا قَالَ مُوسَى لفرعون: {قَالَ لقد علمت مَا أنزل هَؤُلَاءِ إِلَّا رب السَّمَوَات وَالْأَرْض بصائر} [الْإِسْرَاء: 102] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وجحدوا بهَا واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين} [النَّمْل: 14] . وَأهل الْكتاب كَانُوا يعْرفُونَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم، قَالَ الله تَعَالَى: {الَّذين أتيناهم الْكتاب يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم وَإِن فريقاً مِنْهُم ليكتمون الْحق وهم يعلمُونَ} [الْبَقَرَة: 146] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِن الَّذين أُوتُوا الْكتاب ليعلمون أَنه الْحق من رَبهم} [الْبَقَرَة: 144] ، وَلم يَكُونُوا مُؤمنين، بل كَانُوا كَافِرين معاندين لَهُ. وَكَذَلِكَ أَبُو طَالب يكون مُؤمنا عِنْدهم، فَإِنَّهُ قَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 (وَلَقَد علمت بِأَن دين مُحَمَّد ... من خير أَدْيَان الْبَريَّة دينا) (لَوْلَا الْمَلَامَة أَو حذار مسَبَّة ... لَوَجَدْتنِي سَمحا بِذَاكَ مُبينًا) بل إِبْلِيس يكون عِنْد جهم مُؤمنا كَامِل الْإِيمَان، فَإِنَّهُ لم يجهل ربه بل هُوَ عَارِف، {قَالَ رب فأنظرني إِلَى يَوْم يبعثون} [الْحجر: 36، ص: 79] ، {قَالَ رب بِمَا أغويتني} [الْحجر: 39] ، {قَالَ فبعزتك لأغوينهم} [ص: 82] . وَالْكفْر عِنْد الجهم وشيعته هُوَ: الْجَهْل بالرب، وَلَا أحد أَجْهَل مِنْهُ بربه، فَإِنَّهُ جعله الْوُجُود الْمُطلق، وسلب عَنهُ جَمِيع صِفَاته، وَلَا جهل أَكثر من هَذَا، فَيكون كَافِرًا بِشَهَادَتِهِ على نَفسه. وَقَالَت الكرامية: الْإِيمَان هُوَ: القَوْل بِاللِّسَانِ فَقَط، لتنَاوله الْمُنَافِقين فِي أَحْكَام الدُّنْيَا، فهم عِنْدهم مُؤمنُونَ كاملو الْإِيمَان، ويستحقون الْوَعيد الَّذِي وعدهم الله بِهِ. قَالَ فِي " شرح الْمَقَاصِد ": / (فَمن أضمر الْكفْر وَأظْهر الْإِيمَان يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 مُؤمنا، إِلَّا أَنه يسْتَحق الخلود فِي النَّار عِنْدهم، وَمن أضمر الْإِيمَان وَأظْهر الْكفْر لَا يكون مُؤمنا، وَمن أضمر الْإِيمَان وَلم يتَّفق مِنْهُ الْإِظْهَار وَالْإِقْرَار لم يسْتَحق الْجنَّة) . فَائِدَة: يمتاز التَّصْدِيق عَن الْمعرفَة وَالْعلم بربط الْقلب على الْمُؤمن بِهِ، وَلذَلِك يُثَاب عَلَيْهِ، وَحَاصِله: أَنه لَا يُجَامع الْإِنْكَار، بِخِلَاف الْمعرفَة وَالْعلم، قَالَ تَعَالَى: {يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم} [الْبَقَرَة: 146، والأنعام: 20] ، وَقَالَ مُوسَى لفرعون: {لقد علمت مَا أنزل هَؤُلَاءِ إِلَّا رب السَّمَوَات وَالْأَرْض} [الْإِسْرَاء: 102] ، فَمن صدق بِقَلْبِه وَلم يتَمَكَّن من التَّلَفُّظ فإيمانه منج عِنْد الله، وَكَذَا الَّذِي بِهِ آفَة كالخرس، وَأما غَيرهمَا من الْقَادِر المتمكن فَلَا يشْتَرط التَّلَفُّظ فِي حَقه إِلَّا لإجراء أَحْكَام الْمُسلمين عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، من الصَّلَاة عَلَيْهِ، وَدَفنه فِي مَقَابِر الْمُسلمين؛ قَالَه فِي " شرح الْمَقَاصِد ". وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: الْإِيمَان هُوَ فعل الْوَاجِبَات. قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفضل ابْن حجر: (قَالَت الْمُعْتَزلَة: هُوَ الْعَمَل والنطق والاعتقاد) انْتهى. وبسببه؛ ذَهَبُوا إِلَى إِثْبَات مرتبَة لِلْفَاسِقِ الملي، بَين مرتبَة الْكفْر وَالْإِيمَان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَالْفرق بَين مَذْهَبهم وَمذهب السّلف من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن السّلف لَا يخرجُون الْفَاسِق عَن مُطلق الْإِيمَان. وَالثَّانِي: اندراج المندوبات فِي مُسَمّى الْإِيمَان) انْتهى. قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفضل: (والفارق بَينهم وَبَين السّلف: أَنهم جعلُوا الْأَعْمَال شرطا فِي صِحَّته، وَالسَّلَف جعلوها شرطا فِي كَمَاله. - قَالَ -: وَهَذَا كُله كَمَا قُلْنَا بِالنّظرِ إِلَى مَا عِنْد الله، أما بِالنّظرِ إِلَى مَا عندنَا، فالإيمان هُوَ: الْإِقْرَار فَقَط، فَمن أقرّ أجريت عَلَيْهِ الْأَحْكَام فِي الدُّنْيَا، وَلم يحكم عَلَيْهِ بِكفْر إِلَّا أَن اقْترن بِهِ فعل يدل على كفره / كالسجود للصنم، فَإِن كَانَ الْفِعْل لَا يدل على الْكفْر كالفسق، فَمن أطلق عَلَيْهِ الْإِيمَان فبالنظر إِلَى إِقْرَاره، وَمن نفى عَنهُ الْإِيمَان فبالنظر إِلَى كَمَاله، وَمن أطلق عَلَيْهِ الْكفْر فبالنظر إِلَى فعل الْكَافِر، وَمن نَفَاهُ عَنهُ فبالنظر إِلَى حَقِيقَته، وأثبتت الْمُعْتَزلَة الْوَاسِطَة فَقَالُوا: (الْفَاسِق لَا مُؤمن وَلَا كَافِر) انْتهى. قَوْله: وَعند أبي حنيفَة، وَأَصْحَابه، وَغَيرهم الْجَهْمِية، والمرجئة، والكرامية -: إِيمَان النَّاس كلهم سَوَاء، لَا يزِيد وَلَا ينقص، وَلَا اسْتثِْنَاء فِيهِ، وَقَالَهُ أَبُو الْمَعَالِي فِي الأولى. فِي ضمن هَذَا الْكَلَام مَسْأَلَتَانِ: مَسْأَلَة زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه، وَمَسْأَلَة الِاسْتِثْنَاء فِيهِ، فَالْكَلَام الْمُتَقَدّم على معنى الْإِيمَان وَهِي الْمَسْأَلَة الأولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة من الْأَرْبَع، وَهِي: مَسْأَلَة زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه: وَمذهب السّلف قاطبة أَنه يزِيد وَينْقص، وَنَقله ابْن أبي حَاتِم، واللالكائي، بِالْأَسَانِيدِ عَن جمع من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَحَكَاهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 الفضيل بن عِيَاض، ووركيع بن الْجراح، عَن أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وَنَقله عبد الرَّزَّاق عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَمَالك بن أنس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن جريج وَمعمر وَغَيرهم، وَهَؤُلَاء فُقَهَاء الْأَمْصَار فِي عصرهم. وَنَقله اللالكائي عَن الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 وَأبي عبيد وَغَيرهم من الْأَئِمَّة. وروى بِسَنَدِهِ الصَّحِيح عَن البُخَارِيّ قَالَ: (لقِيت أَكثر من ألف رجل من الْعلمَاء بالأمصار، فَمَا رَأَيْت أحدا مِنْهُم يخْتَلف فِي أَن الْإِيمَان قَول وَعمل يزِيد وَينْقص) . قَالَ النَّوَوِيّ: (وَالْأَظْهَر الْمُخْتَار: أَن التَّصْدِيق يزِيد وَينْقص بِكَثْرَة النّظر ووضوح الْأَدِلَّة، وَلِهَذَا كَانَ إِيمَان الصديقين أقوى من إِيمَان غَيرهم، بِحَيْثُ لَا يَعْتَرِيه شُبْهَة، وَيُؤَيِّدهُ: أَن كل أحد يعلم أَن مَا فِي قلبه [يتفاضل] حَتَّى إِنَّه يكون فِي بعض الأحيان أعظم يَقِينا وإخلاصاً وتوكلاً مِنْهُ فِي بَعْضهَا، وَكَذَلِكَ فِي التَّصْدِيق / والمعرفة بِحَسب ظُهُور الْبَرَاهِين وَكَثْرَتهَا. وَقد نقل مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي عَن جمَاعَة من الْأَئِمَّة نَحْو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 ذَلِك، قَالَه الْحَافِظ أَبُو الْفضل. وَقَالَ فِي " شرح الْمَقَاصِد ": (هُوَ مَذْهَب الأشاعرة والمعتزلة؛ لِأَن الْيَقِين يقبل التَّفَاوُت؛ لِأَنَّهُ مَرَاتِب من أجلى البديهيات إِلَى خَفِي النظريات، وَكَون التَّفَاوُت رَاجعا إِلَى مُجَرّد الْجلاء والخفاء غير مُسلم، بل عِنْد الْحُضُور وَزَوَال التَّرَدُّد، التَّفَاوُت [بِحَالهِ] ، وَكَفاك قَول الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مَعَ مَا كَانَ لَهُ من التَّصْدِيق: {وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي} [الْبَقَرَة: 260] . وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: (لَو كشف الغطاء مَا ازدت يَقِينا) . [وَلَو لم] يتَفَاوَت لَكَانَ إِيمَان آحَاد الْأمة، بل المنهمكين فِي الْفسق، مُسَاوِيا لتصديق الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة، وَاللَّازِم بَاطِل قطعا) . وَقد وَردت النُّصُوص الْكَثِيرَة جدا بِزِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه، وَمَا قيل من الْأَجْوِبَة عَن ذَلِك فمردود، والأدلة على ذَلِك كَثِيرَة، وَقد تقدم النَّقْل عَمَّن قَالَ بهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 وَذهب أَبُو حنيفَة، وَأَصْحَابه، وَكثير من الْعلمَاء، وَاخْتَارَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: أَنه لَا يزِيد وَلَا ينقص؛ لِأَنَّهُ اسْم للتصديق الْبَالِغ حد الْجَزْم والإذعان، وَلَا تتَصَوَّر فِيهِ الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان، والمصدق إِذا ضم الطَّاعَات إِلَيْهِ، أَو ارْتكب الْمعاصِي، فتصديقه بِحَالهِ لم يتَغَيَّر أصلا، وَإِنَّمَا يتَفَاوَت إِذا كَانَ اسْما للطاعات المتفاوتة قلَّة وَكَثْرَة، وَلِهَذَا قَالَ الرَّازِيّ وَغَيره: (هَذَا الْخلاف فرع تَفْسِير الْإِيمَان، فَإِن قُلْنَا: هُوَ التَّصْدِيق فَلَا تفَاوت، وَإِن قُلْنَا: هُوَ الْأَعْمَال فمتفاوت) . وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: (إِذا حملنَا الْإِيمَان على التَّصْدِيق فَلَا يفضل تَصْدِيق تَصْدِيقًا، كَمَا لَا يفضل علم علما، وَمن حمله على الطَّاعَة سرا وعلنا - وَقد مَال إِلَيْهِ / القلانسي فَلَا يبعد إِطْلَاق القَوْل بِأَنَّهُ يزِيد بِالطَّاعَةِ وَينْقص بالمعصية، وَنحن لَا نؤثر هَذَا) . وَقَالَ الرَّازِيّ: (وَجه التَّوْفِيق: أَن مَا يدل على أَن الْإِيمَان لَا يتَفَاوَت مَصْرُوف إِلَى أَصله، وَمَا يدل على أَنه يتَفَاوَت مَصْرُوف إِلَى الْكَامِل مِنْهُ) . فَائِدَة: قَالَ الإِمَام أَحْمد: (وَمن قَالَ: الْإِيمَان مَخْلُوق، فقد كفر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 وَمن قَالَ: غير مَخْلُوق، ابتدع) . وَقيل: بِالْوَقْفِ مُطلقًا، وَقيل: فِي الْأَفْعَال، وَقيل: أَقْوَاله قديمَة وأفعاله مخلوقة، وَهُوَ أصح، ذكر ذَلِك كُله ابْن أبي مُوسَى وَغَيره. وَقيل: الْإِيمَان غير مَخْلُوق، وَفِي أَفعاله الْخلق، وَعَدَمه، وَالْوَقْف عَنْهَا. وَقيل: الْوَقْف فِي فعله، وتصديق الله نَفسه وَالْمُؤمنِينَ بِكَلَام غير مَخْلُوق، وَكَذَا تِلَاوَة الْقُرْآن وَذكر الله بِالتَّوْحِيدِ وَالثنَاء عَلَيْهِ غير مَخْلُوق، وَالْأَفْعَال مخلوقة. وَقيل: الْإِيمَان قديم من غير تَفْصِيل، وَلَيْسَ المُرَاد الْعَمَل، نَقله ابْن حمدَان. الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة: فِي الِاسْتِثْنَاء فِيهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 وَالصَّحِيح: أَنه يدْخلهُ الِاسْتِثْنَاء، فَتَقول: أَنا مُؤمن إِن شَاءَ الله. وَقد نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَغَيره من الْأَئِمَّة، كَالْإِمَامِ الشَّافِعِي، وَغَيره. وَحكي عَن ابْن مَسْعُود: أَنه يدْخلهُ الِاسْتِثْنَاء، فَيُقَال: أَنا مُؤمن إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَالَ ابْن عقيل: (يسْتَحبّ أَن يَقُول: أَنا مُؤمن إِن شَاءَ الله، وَلَا يقطع لنَفسِهِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 وَمنعه كثير من الْعلمَاء، وَعَلِيهِ أَبُو حنيفَة، وَأَصْحَابه. قَالَ فِي " شرح الْمَقَاصِد ": (وَعَلِيهِ الْأَكْثَر؛ لِأَن التَّصْدِيق أَمر مَعْلُوم لَا يتَرَدَّد فِيهِ عِنْد تحَققه، وَمن تردد فِي تحَققه لم يكن مُؤمنا قطعا، وَإِذا لم يكن الشَّك والتردد فَالْأولى أَن يتْرك، بل يَقُول: أَنا مُؤمن حقاًدفعا للإيهام. قَالَ ابْن حمدَان: (وَلَا يكفر من قَالَ: أَنا مُؤمن حَقًا، نَص عَلَيْهِ أَحْمد) . وَقيل: يكره قَوْله ذَلِك. وللقائلين بِالْأولِ وُجُوه. الأول: أَنه للتبرك / بِذكر الله تَعَالَى، والتأدب بإحالة الْأُمُور إِلَى مَشِيئَة الله تَعَالَى، والتبري من تَزْكِيَة النَّفس والإعجاب بِحَالِهَا، والتردد فِي الْعَاقِبَة والمآل، وَهَذَا يُفِيد مُجَرّد الصِّحَّة، لَا إِيثَار قَوْلهم: أَنا مُؤمن إِن شَاءَ الله على أَنا مُؤمن حَقًا، وَلَا يدْفع مَا ذكر من دفع الْإِيهَام، وَلَا يبين وَجه اخْتِصَاص التأدب والتبرك بِالْإِيمَان دون غَيره من الطَّاعَات. الْوَجْه الثَّانِي: أَن التَّصْدِيق الإيماني المنوط بِهِ النجَاة أَمر قلبِي خَفِي، لَهُ معارضات خُفْيَة كَثِيرَة من الْهوى والشيطان والخذلان، فالمرء وَإِن كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 جَازِمًا بحصوله، لَكِن لَا يُؤمن أَن يشوبه شَيْء من منافيات النجَاة، وَلَا سِيمَا عِنْد تفاصيل الْأَوَامِر والنواهي الصعبة، الْمُخَالفَة للهوى والمستلذات، من غير علم لَهُ بذلك، فَلذَلِك يُفَوض حُصُوله إِلَى مَشِيئَة الله. وَهَذَا قريب، لَوْلَا مُخَالفَته لما يَدعِيهِ الْقَوْم من الْإِجْمَاع، قَالَه فِي " شرح الْمَقَاصِد ". الْوَجْه الثَّالِث: - مَا قَالَه إِمَام الْحَرَمَيْنِ -: (أَن الْإِيمَان ثَابت فِي الْحَال قطعا من غير شكّ فِيهِ، لَكِن الْإِيمَان الَّذِي هُوَ علم الْفَوْز وَآيَة النجَاة: إِيمَان الموافاة، فاعتنى السّلف بِهِ وقرنوه بِالْمَشِيئَةِ، وَلم يقصدوا الشَّك فِي الْإِيمَان الناجز) . وَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين: (النَّاس فِي هَذِه الْمَسْأَلَة على ثَلَاثَة أَقْوَال، طرفان ووسط: مِنْهُم من يُوجِبهُ، وَمِنْهُم من يحرمه، وَمِنْهُم من يُجِيزهُ بِاعْتِبَار ويمنعه بِاعْتِبَار، وَهَذَا أصح الْأَقْوَال. أما من يُوجِبهُ فَلهم مأخذان: أَحدهمَا: أَن الْإِيمَان هُوَ مَا مَاتَ عَلَيْهِ الْإِنْسَان، وَالْإِنْسَان إِنَّمَا يكون عِنْد الله مُؤمنا أَو كَافِرًا بِاعْتِبَار الموافاة، وَمَا سبق فِي علم الله أَن يكون عَلَيْهِ، وَمَا قبل ذَلِك لَا عِبْرَة بِهِ، وَالْإِيمَان الَّذِي يتعقبه الْكفْر فَيَمُوت صَاحبه كَافِرًا لَيْسَ بِالْإِيمَان، كَالصَّلَاةِ الَّتِي أفسدها صَاحبهَا قبل الْكَمَال، وَالصِّيَام الَّذِي يفْطر صَاحبه قبل الْغُرُوب، وَهَذَا مَأْخَذ كثير من الْكلابِيَّة وَغَيرهم، وَعند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 هَؤُلَاءِ أَن الله يحب فِي الْأَزَل من كَانَ كَافِرًا إِذا علم مِنْهُ أَن يَمُوت مُؤمنا، فالصحابة / مازالوا محبوبين قبل إسْلَامهمْ، وإبليس وَمن ارْتَدَّ عَن دينه مَا زَالَ الله يبغضه وَإِن كَانَ لم يكفر بعد. [ورد] ذَلِك: بِأَن هَذَا لَيْسَ مُرَاد السّلف فِي الِاسْتِثْنَاء. ثمَّ صَار إِلَى هَذَا طَائِفَة غلوا فِيهِ، حَتَّى صَار الرجل مِنْهُم يَسْتَثْنِي فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة يَقُول: صليت إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَنَحْوه، يَعْنِي: الْقبُول، ثمَّ صَار كثير يستثنون فِي كل شَيْء، فَيَقُول أحدهم: هَذَا ثوب إِن شَاءَ الله تَعَالَى، هَذَا حَبل إِن شَاءَ الله، فَإِذا قيل لَهُم: هَذَا لَا شكّ فِيهِ، يَقُولُونَ: نعم، لَكِن إِذا شَاءَ الله أَن يُغَيِّرهُ غَيره. المأخذ الثَّانِي: أَن الْإِيمَان الْمُطلق يتَضَمَّن فعل مَا أَمر الله بِهِ عَبده كُله، وَترك مَا نَهَاهُ عَنهُ كُله، فَإِذا قَالَ الرجل: أَنا مُؤمن بِهَذَا الإعتبار فقد شهد لنَفسِهِ أَنه من الْأَبْرَار الْمُتَّقِينَ، القائمين بِجَمِيعِ مَا أَمر بِهِ وَترك مَا نهى الله عَنهُ، فَيكون من أَوْلِيَاء الله المقربين، وَهَذَا من تَزْكِيَة الْإِنْسَان لنَفسِهِ وَلَو كَانَت هَذِه الشَّهَادَة صَحِيحَة؛ لَكَانَ يَنْبَغِي أَن يشْهد لنَفسِهِ بِالْجنَّةِ إِن مَاتَ على هَذَا الْحَال، وَهَذَا مَأْخَذ عَامَّة السّلف الَّذين كَانُوا يستثنون، وَإِن جوزوا ترك الِاسْتِثْنَاء بِمَعْنى آخر. ويحتجون أَيْضا -: بِجَوَاز الِاسْتِثْنَاء فِيمَا لَا شكّ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام إِن شَاءَ الله} [الْفَتْح: 27] ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين وقف على الْمَقَابِر: " وَإِنَّا إِن شَاءَ الله بكم لاحقون ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 وَأما من يحرمه فَكل من جعل الْإِيمَان شَيْئا وَاحِدًا، فَيَقُول: أَنا أعلم أَنِّي مُؤمن، كَمَا أعلم أَنِّي تَكَلَّمت بِالشَّهَادَتَيْنِ، [فَقولِي: أَنا مُؤمن] [كَقَوْلي] : أَنا مُسلم، فَمن اسْتثْنى فِي إيمَانه فَهُوَ شَاك، فِيهِ، وَسموا الذيت يستثنون فِي إِيمَانهم: الشكاكة. وَأَجَابُوا عَن الِاسْتِثْنَاء الَّذِي فِي قَوْله تَعَالَى: {لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام إِن شَاءَ الله آمِنين} [الْفَتْح: 27] ، بِأَنَّهُ يعود إِلَى الْأَمْن وَالْخَوْف، فَأَما الدُّخُول فَلَا شكّ فِيهِ، وَقيل: لتدخلن جميعكم أَو بَعْضكُم؛ لِأَنَّهُ علم أَنه يَمُوت بَعضهم. وَفِي الْجَواب نظر: فَإِنَّهُم وَقَعُوا فِيمَا فروا مِنْهُ، فَأَما الْأَمْن وَالْخَوْف فقد أخبر أَنهم يدْخلُونَ آمِنين، مَعَ علمه بذلك، فَلَا شكّ فِي الدُّخُول، وَلَا فِي الْأَمْن، وَلَا فِي دُخُول الْجَمِيع أَو الْبَعْض، فَإِن الله تَعَالَى قد علم من يدْخل، فَلَا شكّ فِيهِ أَيْضا، فَكَانَ قَول (إِن شَاءَ الله) هُنَا / تَحْقِيقا للدخول، كَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 يَقُول الرجل فِيمَا عزم على أَن يَفْعَله لَا محَالة: وَالله لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إِن شَاءَ الله، لَا يَقُولهَا لشك فِي إِرَادَته وعزمه. وَأجِيب بِجَوَاب آخر لَا بَأْس بِهِ وَهُوَ: أَنه قَالَ ذَلِك تَعْلِيما لنا كَيفَ نستثني إِذا أخبرنَا عَن مُسْتَقْبل، وَكَون هَذَا مرَادا من النَّص فِيهِ نظر. وَأما من يجوز الِاسْتِثْنَاء وَتَركه باعتبارين، فَهُوَ أسعد بِالدَّلِيلِ من الْفَرِيقَيْنِ. فَإِنَّهُ يَقُول: إِن أَرَادَ المستثني الشَّك فِي أصل إيمَانه منع من الِاسْتِثْنَاء، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ، وَإِن أَرَادَ أَنه مُؤمن من الْمُؤمنِينَ الَّذين وَصفهم الله فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا} [الْأَنْفَال: 2 - 4] ، وَفِي قَوْله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم يرتابوا وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله أُولَئِكَ هم الصادقون} [الحجرات: 15] ، فالاستثناء حِينَئِذٍ جَائِز، وَكَذَلِكَ من اسْتثْنى وَأَرَادَ عدم علمه بالعاقبة، وَكَذَلِكَ من اسْتثْنى تَعْلِيقا لِلْأَمْرِ بِمَشِيئَة الله تَعَالَى، لَا شكا فِي إيمَانه) انْتهى. قَالَ: وَهَذَا غَايَة مَا يكون من التَّحْقِيق. تَنْبِيه: لَا يجوز الِاسْتِثْنَاء فِي الْإِسْلَام، فَيَقُول: أَنا مُسلم إِن شَاءَ الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 تَعَالَى، بل يجْزم بِهِ؛ قَالَه ابْن حمدَان فِي " نِهَايَة الْمُبْتَدِئ ". قَالَ: (وَقيل: يجوز إِن شرطنا فِيهِ الْعَمَل) انْتهى. الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة: الْإِيمَان هَل هُوَ مرادف لِلْإِسْلَامِ، أَو مباين لَهُ، أَو بَينهمَا عُمُوم وخصوص من وَجه؟ فِيهِ خلاف مَشْهُور، وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر السّلف وَغَيرهم أَن بَينهمَا فرقا، وليسا بمتحدين، على مَا يَأْتِي بَيَانه، وَيَأْتِي جمع ابْن رَجَب لذَلِك. فَقَالَت الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم: هما مُتَرَادِفَانِ، وَقد تقدم أَنهم قَالُوا: الْإِيمَان: فعل الْوَاجِبَات، لِأَنَّهَا الدّين، لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} [الْبَيِّنَة: 5] ، وَالدّين: الْإِسْلَام، لقَوْله تَعَالَى: {إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام} [آل عمرَان: 19] ، وَالْإِسْلَام: الْإِيمَان، لقبُول الْإِيمَان من مبتغيه، وَإِلَّا لم يقبل، لقَوْله الله تَعَالَى: (وَمن يبتغ غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ} [آل عمرَان: 85] ، ولصحة اسْتثِْنَاء الْمُسلم من الْمُؤمن فِي قَوْله تَعَالَى: {فأخرجنا من كَانَ فِيهَا من الْمُؤمنِينَ فَمَا وجدنَا فِيهَا غير بَيت من الْمُسلمين} [الذاريات: 35 - 36] . وَأجِيب عَن ذَلِك: بالمعارضة بسلب الْإِيمَان وَإِثْبَات الْإِسْلَام، فِي قَوْله تَعَالَى: {قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا} [الحجرات: 14] ، وَقيل: كَانُوا منافقين، وَالْإِسْلَام وَالدّين: الانقياد وَالْعَمَل الظَّاهِر، وَالْإِيمَان شرعا: تَصْدِيق خَاص، وَبِأَن ذَلِك دين الْقيمَة لَا يعود إِلَى مَا سبق، لِأَنَّهُ مُذَكّر وَمَا سبق كثير مؤنث، وَالَّذِي ذَكرُوهُ فِي التَّفْسِير: وَذَلِكَ الَّذِي أمروا بِهِ، أَو الدّين، وَبِأَنَّهُ لَا يلْزم من صدق الْمُؤمن على الْمُسلم أَن الْإِسْلَام الْإِيمَان، وَإِنَّمَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاء؛ لِأَن الْبَيْت وَهُوَ لوط وابنتاه كَانُوا مُؤمنين مُسلمين. قَالَت الْمُعْتَزلَة: من دخل النَّار مخزى، لقَوْله تَعَالَى: {إِنَّك من تدخل النَّار فقد أخزيته} [آل عمرَان: 192] ، وَالْمُؤمن لَا يخزى لقَوْل الله تَعَالَى: {يَوْم لَا يخزي الله النَّبِي وَالَّذين آمنُوا مَعَه} [التَّحْرِيم: 8] . رد: الخزي: [للمخلد] ، ثمَّ عَدمه للصحابة، أَو مُسْتَأْنف. وَمن الدَّلِيل على أَن الْإِسْلَام غير الْإِيمَان سُؤال جِبْرِيل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَالْإِحْسَان، وَتَفْسِير كل وَاحِد بِغَيْر مَا فسر بِهِ الآخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 وَقد قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اللَّهُمَّ لَك أسلمت وَبِك آمَنت ". وَقد قَالُوا فِيمَا تقدم: إِن الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ، ثمَّ قَالُوا: الْإِيمَان وَالْإِسْلَام شَيْء وَاحِد، فَيكون الْإِسْلَام هُوَ التَّصْدِيق، وَهَذَا لم يقلهُ أحد من أهل اللُّغَة، وَإِنَّمَا هُوَ الانقياد وَالطَّاعَة، وَفسّر الْإِسْلَام بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَة، وَالْإِيمَان بالأصول الْخَمْسَة، فَلَيْسَ لنا إِذا جَمعنَا بَينهمَا أَن نجيب بِغَيْر مَا أجَاب بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأما إِذا أفرد الْإِيمَان فَإِنَّهُ يتَضَمَّن الْإِسْلَام، وَإِذا أفرد الْإِسْلَام فَيكون مَعَ الْإِسْلَام مُؤمنا بِلَا نزاع، وَهل يكون مُسلما وَلَا يُقَال لَهُ مُؤمن؟ فِيهِ خلاف. قَالَ فِي: " نِهَايَة الْمُبْتَدِئ ": (كل مُؤمن مُسلم، وَلَيْسَ كل مُسلم مُؤمنا) . قَالَ الإِمَام أَحْمد: (الْإِيمَان غير الْإِسْلَام) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 وَقَالَ ابْن حَامِد: (عِنْدِي أَيْضا أَن الْإِسْلَام شَرط القَوْل وَالْعَمَل وَالنِّيَّة، وَلَا يكون بالْقَوْل دون الْعَمَل مُسلما) . فَيكون كل مُسلم مُؤمنا عِنْده، وَأَقل الْعَمَل كَونه مُصَليا. انْتهى. وَقَالَ الشَّيْخ الْعَلامَة ابْن رَجَب كَمَا تقدم عَنهُ لما ذكر التَّفْصِيل وَوجه الْجمع / بَين النُّصُوص الْوَارِدَة فِي الْإِيمَان وَالْإِسْلَام، وَأَن السّلف قَالُوا: الْإِيمَان عقد بالجنان ونطق بِاللِّسَانِ وَعمل بالأركان، وَأَن أَحدهَا إِذا أطلق شَمل الآخر، وَإِذا قرن دلّ أَحدهمَا على شَيْء من ذَلِك وَالْآخر على الْبَاقِي كَمَا تقدم قَالَ: (وَبِهَذَا التَّفْصِيل يظْهر تَحْقِيق القَوْل فِي مَسْأَلَة الْإِيمَان وَالْإِسْلَام، هَل هما وَاحِد أَو مُخْتَلِفَانِ؟ فَإِن أهل السّنة والْحَدِيث مُخْتَلفُونَ فِي ذَلِك وصنفوا فِيهِ. فَمنهمْ من يَدعِي أَن جُمْهُور أهل السّنة على أَنَّهُمَا شَيْء وَاحِد، مِنْهُم مُحَمَّد ابْن نصر الْمروزِي، وَابْن عبد الْبر، وَرُوِيَ عَن سُفْيَان الثَّوْريّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 وَمِنْهُم من يَحْكِي عَن أهل السّنة التَّفْرِيق بَينهمَا كَأبي بكر ابْن السَّمْعَانِيّ، وَغَيره. وَنقل التَّفْرِيق بَينهمَا [عَن] كثير من السّلف مِنْهُم: قَتَادَة، وَدَاوُد بن أبي هِنْد، وَأَبُو جَعْفَر الباقر، وَالزهْرِيّ، وَحَمَّاد بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 زيد، وَابْن مهْدي، وَشريك، وَابْن أبي ذِئْب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 وَأحمد بن حَنْبَل، وَأَبُو خَيْثَمَة، وَيحيى بن معِين، على اخْتِلَاف بَينهم فِي صفة التَّفْرِيق. قَالَ: وَبِهَذَا التَّفْصِيل الَّذِي ذَكرْنَاهُ يَزُول الِاخْتِلَاف، فَيُقَال: إِذا أفرد كل مِنْهُمَا بِالذكر فَلَا فرق بَينهمَا حِينَئِذٍ، وَإِن قرن بَين الإسمين فرق. قَالَ: وَالتَّحْقِيق فِي الْفرق بَينهمَا: أَن الْإِيمَان: هُوَ تَصْدِيق الْقلب وَإِقْرَاره ومعرفته، وَالْإِسْلَام: هُوَ استسلام العَبْد لله وخضوعه وانقياده لَهُ، وَذَلِكَ يكون بِالْعَمَلِ، وَهُوَ الدّين كَمَا سمى ذَلِك فِي كِتَابه " الْإِسْلَام دينا "، وَفِي حَدِيث جِبْرِيل سمى الْإِسْلَام وَالْإِيمَان وَالْإِحْسَان دينا، وَهَذَا أَيْضا مِمَّا يدل على أَن الاسمين إِذا أفرد [أَحدهمَا] دخل فِيهِ الآخر، وَإِنَّمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 يفرق بَينهمَا حَيْثُ قرن أَحدهمَا بِالْآخرِ. فَيكون حِينَئِذٍ المُرَاد بِالْإِيمَان: جنس تَصْدِيق الْقلب، وَبِالْإِسْلَامِ: جنس الْعَمَل، وَمن هُنَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: كل مُؤمن مُسلم، فَإِن من حقق الْإِيمَان ورسخ فِي قلبه قَامَ بأعمال الْإِسْلَام، كَمَا قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " [أَلا وَإِن] فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله، وَإِذا فَسدتْ فسد الْجَسَد كُله أَلا وَهِي الْقلب "، فَلَا يتَحَقَّق الْقلب / بِالْإِيمَان إِلَّا وسعت الْجَوَارِح فِي أَعمال الْإِسْلَام، وَلَيْسَ كل مُسلم مُؤمنا، فَإِنَّهُ قد يكون الْإِيمَان ضَعِيفا فَلَا يتَحَقَّق الْقلب بِهِ تحققاً تَاما مَعَ عمل جوارحه بأعمال الْإِسْلَام، فَيكون مُسلما، وَلَيْسَ بِمُؤْمِن الْإِيمَان التَّام، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَن الْأَعْرَاب. وَكَذَلِكَ قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لسعد بن أبي وَقاص لما قَالَ لَهُ: لم تعط فلَانا وَهُوَ مُؤمن، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَو مُسلم ". انْتهى كَلَام ابْن رَجَب، وَقد أَجَاد وأشفى الغصة، وَقد أطلنا الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَهِي أهل لذَلِك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 قَوْله: {فصل} {الِاشْتِقَاق} قَالَ أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن: (الِاشْتِقَاق من أشرف عُلُوم الْعَرَبيَّة، وأدقها وأنفعها، وأكثرها ردا إِلَى أَبْوَابهَا، أَلا ترى أَن مدَار علم التصريف فِي معرفَة الزَّائِد من الْأَصْلِيّ عَلَيْهِ) . قَالَ السراج: (لَو [جمدت] المصادر وارتفع الِاشْتِقَاق من كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 كَلَام، لم تُوجد صفة لموصوف وَلَا فعل لفاعل. قَالَ: وَجَمِيع النُّحَاة إِذا أَرَادوا أَن يعلمُوا الزَّائِد من الْأَصْلِيّ فِي الْكَلَام، نظرُوا فِي الِاشْتِقَاق) انْتهى. وَهُوَ مَأْخُوذ من الشق، وَهُوَ الْقطع، وَهُوَ افتعال من قَوْلك: اشتققت كَذَا من كَذَا، أَي: اقتطعته مِنْهُ، وَمِنْه قَول الفرزدق: (مُشْتَقَّة من رَسُول الله نبعته ... ) وَحكى ابْن الخشاب من أَصْحَابنَا وَغَيره فِي جَوَاز الِاشْتِقَاق فِي اللُّغَة ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن اللَّفْظ يَنْقَسِم إِلَى جامد ومشتق، وَهَذَا الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر مِنْهُم: الْخَلِيل، وسيبويه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 والأصمعي، وَأَبُو عبيد، وقطرب، وَغَيرهم، وَالْعَمَل عَلَيْهِ. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْأَلْفَاظ كلهَا جامدة، وَلَيْسَ [شَيْء] مِنْهَا مشتقاً من شَيْء، بل كلهَا مَوْضُوعَات، وَبِه قَالَ نفطويه، واسْمه مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 لِأَنَّهُ كَانَ ظاهرياً من أَصْحَاب دَاوُد، فَلذَلِك جنح إِلَيْهِ وَاخْتَارَهُ، وَأَبُو بكر بن مقسم، نَقله عَنهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل، لكَون فِيهِ زَعَمُوا عُمُوما، فيشتق مَا يجوز اشتقاقه ويتجاوز إِلَى أَشْيَاء يبعد اشتقاقها أَو يَسْتَحِيل، فعلى هَذَا / التَّعْلِيل كَأَنَّهُمْ إِنَّمَا [منعُوا] من ذَلِك لِئَلَّا يتَجَاوَز الْحَد، حسماً للمادة، مَعَ جَوَازه وَعدم امْتِنَاعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْكل مُشْتَقّ، وتكلفوا للجامد اشتقاقاً، وَإِلَيْهِ ذهب ابْن درسْتوَيْه والزجاج، وصنف كتاب ذكر فِيهِ اشتقاق جَمِيع الْأَشْيَاء، حَتَّى قَالَ ابْن جني: (الِاشْتِقَاق يَقع فِي الْحُرُوف، فَإِن نعم حرف جَوَاب، وَنعم وَالنَّعِيم والنعماء وَنَحْوهَا مُشْتَقَّة مِنْهُ) . إِذا علم ذَلِك؛ فالاشتقاق ثَلَاثَة أَنْوَاع: أَصْغَر، وأوسط، وأكبر، وسمى القَاضِي عضد الدّين الِاشْتِقَاق الْأَوْسَط مِنْهَا بالصغير، وَسَماهُ الكوراني بالكبير، وَلَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح، وَيَأْتِي تفصيلها وأحكامها قَرِيبا. قَوْله: {رد فرع إِلَى أصل لِمَعْنى جَمعهمَا خَاص فِي أصل الْوَضع بِالْأَصْلِ، قَالَه ابْن الخشاب، وَأولى مِنْهُ: رد لفظ إِلَى آخر لموافقته لَهُ [فِي] الْحُرُوف الْأَصْلِيَّة، ومناسبته فِي الْمَعْنى} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 اخْتلفت عباراتهم فِي حد الِاشْتِقَاق الْأَصْغَر فَإِنَّهُ هُوَ الْمَحْدُود على مَا يَأْتِي. فَقَالَ ابْن الخشاب من أَصْحَابنَا: (هُوَ رد فرع إِلَى أصل لِمَعْنى جَمعهمَا، هُوَ خَاص فِي أصل الْوَضع بِالْأَصْلِ) . وَقَالَ الرماني: (هُوَ اقتطاع فرع من أصل يَدُور مَعَه فِي تصاريفه) . وَقَالَ الميداني: (هُوَ أَن تَجِد بَين اللَّفْظَيْنِ تنَاسبا فِي الْمَعْنى والتركيب، فَترد أَحدهمَا إِلَى الآخر) ، وَنَقله الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعه، وارتضوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 وَلَا شكّ أَن معنى الثَّلَاثَة [مُتَقَارب] ، لَكِن حد الميداني أولى لما سَنذكرُهُ، وَقد نقحه الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره، وَهُوَ الَّذِي ارتضيناه بعد تنقيحه. قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (الِاشْتِقَاق يحد تَارَة بِاعْتِبَار الْعلم كَحَد الميداني، وَتارَة بِاعْتِبَار الْعَمَل، بِأَن نَأْخُذ من اللَّفْظ مَا يُنَاسِبه فِي التَّرْكِيب فنجعله دَالا على معنى يُنَاسب مَعْنَاهُ) انْتهى. فَإِن قيل: إِطْلَاق اللَّفْظ يدْخل فِيهِ الْحَرْف، وَلَيْسَ بمشتق وَلَا مُشْتَقّ مِنْهُ. قيل: لم يرد كل لفظ بل مُطلق لفظين، فَيحمل على الْمُمكن، فَهُوَ مُطلق لَا عَام، وَفِيه نظر؛ فَإِن مقَام الشَّرْح والتعريف يُنَافِي الْإِبْهَام. وَالْمرَاد بالتناسب فِي التَّرْكِيب: الْمُوَافقَة فِي الْحُرُوف الْأَصْلِيَّة، احْتِرَاز من الزَّوَائِد، فَإِن التخالف فِيهَا لَا / يضر كنصر وناصر، وَخرج بِهَذَا الْقَيْد: اللفظان المترادفان، فَإِن أَحدهمَا وَإِن وَافق الآخر فِي الْمَعْنى، لكنه لم يُوَافقهُ فِي الْحُرُوف الْأَصْلِيَّة، كالبر والقمح، وَسَوَاء كَانَت الْأُصُول مَوْجُودَة لفظا أَو تَقْديرا، ليدْخل نَحْو: خف، من الْخَوْف، وكل، من الْأكل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 فقولنا: (رد لفظ إِلَى آخر) ، دخل فِيهِ الِاسْم وَالْفِعْل على كل مَذْهَب، فَإِن النُّحَاة اخْتلفُوا فِي الأَصْل، هَل هُوَ الْمصدر، أَو الْفِعْل، أَو كل وَاحِد مِنْهُمَا أصل بِنَفسِهِ؟ فَذهب البصريون: إِلَى أَن الْفِعْل وَالْوَصْف مُشْتَقّ من الْمصدر. وَذهب الْكُوفِيُّونَ: إِلَى أَن الْمصدر وَالْوَصْف مُشْتَقّ من الْفِعْل. وَذهب [ابْن] طَلْحَة: إِلَى أَن كلا من الْمصدر وَالْفِعْل أصل بِنَفسِهِ. وَقيل غير ذَلِك، فقولنا: (رد لفظ إِلَى آخر) يَشْمَل كل مَذْهَب. وَقَوْلنَا: (ومناسبته فِي الْمَعْنى) ، احْتِرَاز عَن مثل: اللَّحْم وَالْملح والحلم، فَإِن كلا [مِنْهَا] يُوَافق الآخر فِي حُرُوفه الْأَصْلِيَّة، وَمَعَ ذَلِك فَلَا اشتقاق [بَينهَا] ، لانْتِفَاء الْمُنَاسبَة فِي الْمَعْنى لقياس مدلولاتها. وَأورد على هَذَا الْحَد أموراً: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 أَحدهَا: المعدول والمصغر ليسَا مشتقين من المعدول عَنهُ والمكبر مَعَ صدق التَّعْرِيف عَلَيْهِمَا، فَلَا يكون الْحَد مَانِعا. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَنقض بتصغير المصادر وتثنيتها) انْتهى. وَيرد هَذَا أَيْضا على الحدين الآخرين. وَجَوَابه: أَن التناسب فِي الْمَعْنى يَقْتَضِي أَن مَعْنَاهُمَا لَيْسَ متحداً من كل وَجه، وَهَذَانِ متحدان فِي الْمَعْنى من كل وَجه. الثَّانِي: أَن الْحَد يَقْتَضِي أَن الِاشْتِقَاق فعل الْمُتَكَلّم، لِأَنَّهُ قَالَ: رد أَحدهمَا إِلَى الآخر، وَلَكِن هَذَا إِنَّمَا هُوَ لواضع اللُّغَة، وَنحن إِنَّمَا نستدل بأمارات استقرائية على وُقُوع ذَلِك مِنْهُ. وَيرد - أَيْضا ذَلِك على الحَدِيث. وَجَوَابه يُؤْخَذ مِمَّا يَأْتِي فِي جَوَاب الَّذِي يعده. الثَّالِث: أَن قَول الميداني: (أَن تَجِد) ، يَقْتَضِي أَن الِاشْتِقَاق هُوَ الوجدان، وَلَيْسَ كَذَلِك إِنَّمَا الِاشْتِقَاق الرَّد عِنْد الوجدان، لَا نفس الوجدان، وَبِهَذَا الِاعْتِبَار فحد الآخرين أولى لسلامتهما من ذَلِك. / وَجَوَابه مُتَوَقف على معرفَة المُرَاد بِالرَّدِّ فِي قَوْله: (فَيرد) ، فَإِن أَرَادَ: اقتطاع لفظ من لفظ، فَالثَّانِي هُوَ الْمَرْدُود إِلَيْهِ، وَالْمعْنَى: أَنه حول من الأول إِلَى الثَّانِي حَتَّى صَار كَذَلِك، فالرد حِينَئِذٍ عَمَلي، وَحِينَئِذٍ فالإيراد مُتَوَجّه. وَإِن أَرَادَ بِالرَّدِّ: الِاعْتِبَار وَالْعلم، فَيكون الثَّانِي مردوداً للْأولِ، بِمَعْنى اعْتِبَار أَنه قد أَخذ مِنْهُ، فالرد حِينَئِذٍ علمي لَا عَمَلي، وَلَا إِيرَاد حِينَئِذٍ عَلَيْهِ لَا بِهَذَا وَلَا بِالَّذِي قبله فِي الْإِيرَاد الثَّانِي، فَإِن وجدان التناسب الْمَذْكُور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 وَهُوَ الِاشْتِقَاق، أَي: معرفَة أَن الثَّانِي مَأْخُوذ من الأول، لمعْرِفَة مَا بَينهمَا من التناسب المشروح. وَيرد على حد ابْن الخشاب: كَون فِيهِ إِبْهَام فِي قَوْله: (رد فرع إِلَى أصل) ، وَكَذَا حد الرماني، لَكِن فِيهِ إِشَارَة إِلَى الْمَقْصُود فِي قَوْله: (فِي تصاريفه) ، وحد الميداني سَالم من ذَلِك من هَذِه الْحَيْثِيَّة. إِذا علم ذَلِك؛ فللاشتقاق أَرْبَعَة أَرْكَان: الأول: الْمُشْتَقّ، وَالثَّانِي: الْمُشْتَقّ مِنْهُ، وَالثَّالِث: الْمُوَافقَة فِي الْحُرُوف الْأَصْلِيَّة، وَتقدم الِاحْتِرَاز بِهِ، وَالرَّابِع: يُؤْخَذ من التناسب وَمن الْمُشْتَقّ مِنْهُ. قَالَ الْإِسْنَوِيّ: (قَوْله: ومناسبة الْمَعْنى، هُوَ من تَتِمَّة الرُّكْن الرَّابِع) . وَقَالَ التَّاج السُّبْكِيّ: (يُؤْخَذ الرُّكْن الرَّابِع من الرُّكْن الثَّانِي وَهُوَ الْمُشْتَقّ مِنْهُ وَهُوَ " التَّغْيِير "، لِأَنَّهُ لَو انْتَفَى التَّغْيِير بَينهمَا لم يصدق أَنه لفظ آخر بل هُوَ هُوَ، فعدوا الْأَركان: الْمُشْتَقّ، والمشتق مِنْهُ، والموافقة فِي الْحُرُوف الْأَصْلِيَّة، والمناسبة فِي الْمَعْنى، والتغيير) انْتهى. لَكِن ذكر التَّغْيِير بعد تَمام الْحَد يدل على أَنه لَيْسَ مِنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 الْعَضُد: (وَلذَلِك لم يَجعله من ذكره قيدا فِي الْحَد بل قَالَ بعد تَمَامه: وَلَا بُد من تَغْيِير) انْتهى. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا وَأَظنهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين -: (إِذا قيل: هَذَا مُشْتَقّ من هَذَا، فَلهُ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَن بَينهمَا تنَاسبا لفظا وَمعنى، تكلم أهل اللُّغَة بِهَذَا بعد هَذَا وَقَبله فَكل / مِنْهُمَا مُشْتَقّ من الآخر، وَالْفِعْل مُشْتَقّ من الْمصدر وَعَكسه. وَالْمعْنَى الثَّانِي: كَون أَحدهمَا أصلا للْآخر. فَإِن عني بِهِ التَّكَلُّم بِأَحَدِهِمَا قبل الآخر، لم يقم على هَذَا دَلِيل فِي أَكثر الْمَوَاضِع، وَإِن عني بِهِ سبق أَحدهمَا عقلا لكَونه مُفردا وَهَذَا مركبا فالفعل مُشْتَقّ من الْمصدر) انْتهى. قَوْله: {وَلَا بُد من تَغْيِير} . هَذَا هُوَ الرُّكْن الرَّابِع على مَا قيل كَمَا تقدم، والتغيير خَمْسَة عشر نوعا، وَذَلِكَ إِمَّا بِزِيَادَة حرف، أَو حَرَكَة، أَو هما مَعًا، أَو نُقْصَان حرف، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 أَو حَرَكَة، أَو هما مَعًا، أَو زِيَادَة حرف ونقصانه، أَو زِيَادَة حَرَكَة ونقصانها، أَو زِيَادَة حرف ونقصان حَرَكَة، أَو زِيَادَة حَرَكَة ونقصان حرف، عكس الَّذِي قبله، أَو زِيَادَة حرف مَعَ زِيَادَة حَرَكَة ونقصانها، أَو زِيَادَة حَرَكَة مَعَ زِيَادَة حرف ونقصانه، عكس الَّذِي قبله، أَو نُقْصَان حرف مَعَ زِيَادَة حَرَكَة ونقصانها، أَو نُقْصَان حَرَكَة مَعَ زِيَادَة حرف ونقصانه، أَو زِيَادَة حرف ونقصانه وَزِيَادَة حَرَكَة ونقصانها. لِأَن التَّغْيِير؛ إِمَّا تَغْيِير وَاحِد، أَو تغييران، أَو ثَلَاثَة، أَو أَرْبَعَة. فالتغيير الْوَاحِد فِي أَرْبَعَة أَمَاكِن: فَالْأول: زِيَادَة حرف، نَحْو: كَاذِب، من الْكَذِب، زيدت الْألف بعد الْكَاف. وَالثَّانِي: زِيَادَة حَرَكَة، نَحْو: نصر، مَاض من النَّصْر. وَالثَّالِث: نُقْصَان حرف، كصهل من الصهيل، نقصت الْيَاء. الرَّابِع: نُقْصَان الْحَرَكَة، كسفر بِسُكُون الْفَاء، جمع سَافر اسْم فَاعل من سفر. وَفَسرهُ بَعضهم بِضَرْب مصدر. قلت: يبْقى كالثاني بِاعْتِبَار. وَأما التغييران فستة أَنْوَاع: الأول: زِيَادَة حرف ونقصانه، كصاهل من الصهيل، زيدت الْألف وَنقص الْيَاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 الثَّانِي: زِيَادَة الْحَرَكَة والحرف، كضارب من الضَّرْب، زيدت الْألف وحركة الرَّاء. الثَّالِث: نُقْصَان الْحَرَكَة والحرف، كغلى من الغليان، نقصت الْألف وَالنُّون، ونقصت فَتْحة الْيَاء / وَفِي الِاعْتِدَاد بِسُكُون الْيَاء نظر، ومثلوه - أَيْضا بصب، من الصبابة. الرَّابِع: زِيَادَة الْحَرَكَة ونقصانها، نَحْو: حذر، اسْم فَاعل من الحذر - بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة حذفت فَتْحة الذَّال وزيدت كسرتها. الْخَامِس: زِيَادَة الْحَرْف ونقصان الْحَرَكَة، كعاد بتَشْديد الدَّال اسْم فَاعل من الْعدَد، زيدت الْألف، ونقصت حَرَكَة الدَّال. السَّادِس: زِيَادَة حَرَكَة ونقصان حرف، كثبت من الثَّبَات، نقصت الْألف، وزيدت حَرَكَة وَهِي الْفَتْح على [التَّاء] ، وَلَا يَسْتَقِيم إِلَّا إِذا جعل الْبناء الطَّارِئ من سُكُون أَو حَرَكَة كزيادة على مَا كَانَ من الْمصدر، وَالْأولَى التَّمْثِيل برجع من الرَّجْعِيّ. وَأما التغييرات [الثَّلَاثَة] فَفِي أَرْبَعَة أَنْوَاع: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 الأول: زِيَادَة الْحَرْف مَعَ زِيَادَة الْحَرَكَة ونقصانها، كموعد من الْوَعْد زيدت الْمِيم وكسرة الْعين، وَنقص مِنْهُ فَتْحة الْوَاو. الثَّانِي: زِيَادَة الْحَرَكَة مَعَ زِيَادَة الْحَرْف ونقصانه، كمكمل اسْم فَاعل أَو مفعول من الْكَمَال، زيدت فِيهِ الْمِيم [وضمتها] ونقصت الْألف. الثَّالِث: نُقْصَان حرف مَعَ زِيَادَة حَرَكَة ونقصانها، كقنط اسْم فَاعل من الْقنُوط. الرَّابِع: نُقْصَان الْحَرَكَة مَعَ زِيَادَة الْحَرْف ونقصانه، ك (كال) بتَشْديد اللَّام اسْم فَاعل من الكلال، نقصت حَرَكَة اللَّام الأولى للإدغام، ونقصت الْألف الَّتِي بَين اللامين، وزيدت الْألف قبل يَوْمَيْنِ. وَأما التغييرات [الْأَرْبَعَة] فَفِي مَوضِع وَاحِد، وَهُوَ زِيَادَة الْحَرْف وَالْحَرَكَة مَعًا، [ونقصانهما] مَعًا، ككامل من الْكَمَال، ومثلوه أَيْضا بارم، أَمر من الرَّمْي وَالله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 قَوْله: {وَلَو تَقْديرا} . التَّغْيِير تَارَة يكون ظَاهرا، وَتارَة يكون مُقَدرا لَا يظْهر، فَالظَّاهِر / تقدّمت أمثلته، والمقدر كفلك وجنب، مُفردا وجمعاً، فَإِذا أُرِيد الْجمع فِي الْفلك يؤنث، وَفِي الْوَاحِد يذكر. فالواحد كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِذْ أبق إِلَى الْفلك المشحون} [الصافات: 140] ، وَالْجمع كَقَوْلِه تَعَالَى: {حَتَّى إِذا كُنْتُم فِي الْفلك وجرين بهم} [يُونُس: 22] ، {والفلك الَّتِي تجْرِي فِي الْبَحْر} [الْبَقَرَة: 164] ، وَطلب طلبا، وهرب هرباً، وجلب جلباً، وَنَحْوهَا، فالتغيير حَاصِل، وَلكنه تَقْديرا، فَيقدر حذف الفتحة الَّتِي فِي آخر الْمصدر والإتيان بفتحة أُخْرَى فِي آخر الْفِعْل، والفتحة غير الفتحة، وَيدل على التغاير: أَن أَحدهمَا لعامل، وَالْأُخْرَى لغير عَامل. وَقد ذكر سِيبَوَيْهٍ ذَلِك فِي جنب، فَإِنَّهُ قدر زَوَال النُّون الَّتِي هِيَ حَال إِطْلَاقه على الْمُفْرد، كَقَوْلِك: رجل جنب، والإتيان بغَيْرهَا حَال [إِطْلَاقه] على الْجمع، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم جنبا} [الْمَائِدَة: 6] ، وَأَن ضمة النُّون فِي الْمُفْرد، غير ضمة النُّون فِي الْجمع تَقْديرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 قَوْله: { [و] الْمُشْتَقّ: فرع وَافق أصلا بِحُرُوفِهِ الْأُصُول وَمَعْنَاهُ} . حد جمَاعَة الْمُشْتَقّ فَقَط، وَهُوَ يدل على الِاشْتِقَاق، وحد جمَاعَة الِاشْتِقَاق، وَهُوَ الأَصْل، وَيدل على الْمُشْتَقّ والمشتق مِنْهُ، وَحدهمَا جمَاعَة مِنْهُم: ابْن قَاضِي الْجَبَل، والبرماوي، وَغَيرهمَا، وتبعتهم؛ لِأَن الِاشْتِقَاق غير الْمُشْتَقّ والمشتق مِنْهُ؛ لِأَن الِاشْتِقَاق فعل يُوجد من فَاعله، والمشتق اسْم مفعول فَلَا بُد لَهُ من فَاعل، لكنه يدل عَلَيْهِ وجمعهما أوضح. فالمشتق: هُوَ الْمُوَافق لكلمة أُخْرَى بحروف الأَصْل وَالْمعْنَى. وَقَوْلنَا: (بِحُرُوفِهِ الْأُصُول) ، لتخرج الْكَلِمَات الَّتِي توَافق أصلا بِمَعْنَاهُ لَا بِحُرُوفِهِ الْأُصُول، كالحبس وَالْمَنْع. وَقَوْلنَا: (وَمَعْنَاهُ) ، ليحترز بِهِ عَن مثل (الذَّهَب) فَإِنَّهُ يُوَافق أصلا وَهُوَ الذّهاب فِي حُرُوفه الْأُصُول، وَلَكِن غير مُوَافق فِي مَعْنَاهُ، وَتقدم ذَلِك فِي قيود الِاشْتِقَاق، وَتقدم أَيْضا أَن اشْتِرَاط اتِّحَاد الْمَعْنى يخرج نَحْو: لحم وملح وحلم، فَلَيْسَ بَعْضهَا مشتقاً من بعض أصلا. قَوْله: {والأصغر مِنْهُ: اتِّفَاق / اللَّفْظَيْنِ فِي الْحُرُوف وَالتَّرْتِيب، كنصر من النَّصْر [مَعَ وجود الْمَعْنى كَمَا تقدم] وَهُوَ الْمَحْدُود} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 وَهَذَا المُرَاد حَيْثُ أطْلقُوا الِاشْتِقَاق فِي الْغَالِب، وَإِذا أَرَادوا غَيره قيدوه بالأوسط أَو غَيره على قدر مَا اصْطَلحُوا عَلَيْهِ. قَوْله: {والأوسط: فِي الْحُرُوف فَقَط [مَعَ وجود الْمَعْنى] كجبذ من الجذب} . وَسَماهُ القَاضِي عضد الدّين: الصَّغِير، وَسَماهُ الكوراني: الْكَبِير. وَهُوَ: اتِّفَاق اللَّفْظَيْنِ فِي الْحُرُوف فَقَط، أَعنِي: دون ترتيبها كَمَا مثلنَا فَإِن حُرُوف (جبذ) و (جذب) متفقة الْحُرُوف وَالْمعْنَى، لَكِنَّهَا غير مرتبَة لتقديم الْبَاء على الذَّال فِي الأول، وَتَقْدِيم الذَّال على الْبَاء فِي الثَّانِي. وَقَالَ الْعَضُد وَغَيره: (يعْتَبر فِي الْأَصْغَر مُوَافَقَته فِي الْمَعْنى، وَفِي الآخرين مناسبته) . قَوْله: {والأكبر: فِي [الْمخْرج] كحروف الْحلق والشفة، [كنعق] وثلم، من النهيق والثلب، وَلم يُثبتهُ الْأَكْثَر} . الِاشْتِقَاق الْأَكْبَر علامته: اتِّفَاق اللَّفْظَيْنِ فِي الْمخْرج، لَا فِي التَّرْتِيب بل فِي النَّوْع، كاتفاقهما فِي حُرُوف الْحلق أَو حُرُوف الشّفة، كنهق من النعيق، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 أَو عَكسه، وثلم وثلب، فَإِن الْهَاء وَالْعين من حُرُوف الْحلق، وَالْمِيم وَالْبَاء من حُرُوف الشّفة. وَبَعْضهمْ يَقُول: (اتِّفَاق اللَّفْظَيْنِ فِي بعض الْحُرُوف) . وَبَعْضهمْ يَقُول: (الْمُسَاوَاة فِي أَكثر الْأُصُول) . وَمن هَذَا قَول الْفُقَهَاء: الضَّمَان مُشْتَقّ من الضَّم؛ لِأَنَّهُ ضم ذمَّة إِلَى أُخْرَى، فَلَا يعْتَرض بِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي بعض الْأُصُول؛ لِأَن النُّون لَيست فِي الضَّم، وَالضَّمان لَيْسَ مُتحد الْعين وَاللَّام بِخِلَاف الضَّم، وَهَذَا عَلَيْهِ أَكثر الْأَصْحَاب؛ أَعنِي: أَنه مُشْتَقّ من الضَّم والانضمام. قَالَ أَبُو حَيَّان: (وَلم يقل بِهِ يَعْنِي: بالاشتقاق الْأَكْبَر من النُّحَاة إِلَّا أَبُو الْفَتْح، وَالصَّحِيح أَنه غير معول عَلَيْهِ لعدم اطراده) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 وَلذَلِك قُلْنَا: (وَلم يُثبتهُ الْأَكْثَر) . قيل: (وَقَالَ بِهِ ابْن فَارس، وَبنى عَلَيْهِ / كِتَابه المقاييس فِي اللُّغَة) . قلت: الصَّحِيح أَن الضَّمَان مُشْتَقّ من التضمن؛ لِأَن ذمَّة الضَّامِن تَتَضَمَّن الْحق، قَالَه القَاضِي أَبُو يعلى، وَاخْتَارَهُ ابْن أبي الْفَتْح وَغَيره، وَقَالَ ابْن عقيل: (مَأْخُوذ من الضمن، فَتَصِير ذمَّة الضَّامِن فِي ضمن ذمَّة الْمَضْمُون عَنهُ) . قَوْله: {ويطرد كاسم فَاعل وَنَحْوه، وَقد يخْتَص كالقارورة} . الْمُشْتَقّ يطرد إِطْلَاقه كثيرا على جَمِيع مدلولاته، كاسم الْفَاعِل، وَاسم الْمَفْعُول، وَالصّفة المشبهة، وأفعل التَّفْضِيل، وَاسم الْمَكَان، وَالزَّمَان، والآلة، فَإِن الضَّارِب يُطلق على كل من ثَبت لَهُ الضَّرْب، وَكَذَلِكَ الْمَضْرُوب، وَالْحسن الْوَجْه، وَغَيرهَا، وَقد لَا يطرد كالقارورة، فَإِنَّهَا مُخْتَصَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 بالزجاجة، وَإِن كَانَت مَأْخُوذَة من القر فِي الشَّيْء، وَلم يعدوها إِلَى كل مَا يقر فِيهِ الشَّيْء من خشب أَو خزف أَو غير ذَلِك، وكالدبران منزلَة الْقَمَر، وَإِن كَانَ من الدبور، فَلَا يُطلق على كل مَا هُوَ مَوْصُوف بالدبور، بل يخْتَص بِمَجْمُوع خَمْسَة كواكب من الثور، يُقَال: إِنَّه سنامه، وَهُوَ الْمنزل الرَّابِع من منَازِل الْقَمَر المعاقب للثريا، وَكَذَلِكَ العيوق، والسماك، قَالَه الْعَضُد. وَكَانَ عدم الاطراد لكَون التَّسْمِيَة لَا بِهَذَا الْمَعْنى فَقَط، بل لمصاحبته لَهُ، وَفرق بَين تَسْمِيَة الْعين لوُجُود الْمُشْتَقّ مِنْهُ فِيهِ وَهُوَ الاطرادي، أَو بِوُجُودِهِ فِيهِ وَهُوَ مَا لَا يطرد. قَوْله: {وإطلاقه قبل وجود الصّفة الْمُشْتَقّ مِنْهَا مجَاز، وَحكي إِجْمَاعًا إِن أُرِيد الْفِعْل، [وَإِن أُرِيد] الصّفة كسيف قطوع وَنَحْوه فحقيقة، قَالَه القَاضِي وَغَيره، وَقيل: مجَاز} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 إِطْلَاق الْمُشْتَقّ قبل وجود الصّفة الْمُشْتَقّ مِنْهَا مجَاز، وَذكره جمَاعَة إِجْمَاعًا، وَحَكَاهُ ابْن الْحَاجِب وَجَمَاعَة اتِّفَاقًا، لَكِن قَالَ ابْن مُفْلِح فِي أُصُوله: (وَلَعَلَّ المُرَاد: إِذا أُرِيد الْفِعْل، كَقَوْلِنَا مثلا: زيد ضَارب، قبل وجود الضَّرْب مِنْهُ. فَإِن أُرِيد الصّفة المشبهة باسم الْفَاعِل، كَقَوْلِهِم: سيف قطوع، وخبز مشبع، وَمَاء مرو، وخمر مُسكر، فَقَالَ القَاضِي وَغَيره: هُوَ حَقِيقَة / لعدم صِحَة النَّفْي. وَقيل: مجَاز) ، كَغَيْرِهِ، وَهُوَ ظَاهر كَلَام من لم يُقيد الْمَسْأَلَة. وحكاية الْإِجْمَاع فِي أصل الْمَسْأَلَة قَالَ بَعضهم: (فِيهِ نظر؛ فَإِن أَبَا حنيفَة قَالَ فِي حَدِيث: " المتابعين بِالْخِيَارِ ": إنَّهُمَا المتساومان، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 سميا متبايعين لأخذهما فِي مبادئ البيع، وسيصيران متبايعين. فَرده الشَّافِعِي: بِأَنَّهُ يَصح نَفْيه، وَهُوَ دَلِيل الْمجَاز، فَلَا يحمل الحَدِيث عَلَيْهِ) . قَوْله: {فَأَما [صِفَات الله تَعَالَى] فقديمة، وَهِي حَقِيقَة عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه وَأكْثر أهل السّنة، وَمذهب الْمُعْتَزلَة [حدوثها] ، والأشعرية حُدُوث صِفَات الْفِعْل} . قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفضل ابْن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ ": (اخْتلفُوا هَل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 صفة الْفِعْل قديمَة أَو حَادِثَة؟ فَقَالَ جمَاعَة من السّلف مِنْهُم أَبُو حنيفَة: هِيَ قديمَة. - قلت: وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد وَأَصْحَابه وَأكْثر السّلف، كَمَا نَقله ابْن مُفْلِح. قَالَ -: وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُم: ابْن كلاب، والأشعري: هِيَ حَادِثَة لِئَلَّا يكون الْمَخْلُوق قَدِيما. وَأجَاب الأول: بِأَنَّهُ يُوجد فِي الْأَزَل صفة الْخلق وَلَا مَخْلُوق. فَأجَاب الْأَشْعَرِيّ: بِأَنَّهُ لَا يكون خلق وَلَا مَخْلُوق، كَمَا لَا يكون ضَارب وَلَا مَضْرُوب. فألزموه بحدوث صِفَاته، فَيلْزم حُلُول الحوداث بِاللَّه. فَأجَاب: بِأَن هَذِه الصِّفَات لَا تحدث فِي الذَّات شَيْئا جَدِيدا. فتعقب: بِأَنَّهُ يلْزم أَن لَا يُسمى فِي الْأَزَل خَالِقًا وَلَا رازقاً، وَكَلَام الله قديم، وَقد ثَبت فِيهِ أَنه الْخَالِق الرازق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 فانفصل بعض الأشعرية: بِأَن إِطْلَاق ذَلِك إِنَّمَا هُوَ بطرِيق الْمجَاز، وَلَيْسَ المُرَاد بِعَدَمِ التَّسْمِيَة عدمهَا بطرِيق الْحَقِيقَة. وَلم يرتضه بَعضهم بل قَالَ وَهُوَ الْمَنْقُول عَن الْأَشْعَرِيّ نَفسه -: إِن الْأَسَامِي جَارِيَة مجْرى الْأَعْلَام، وَالْعلم لَيْسَ بِحَقِيقَة وَلَا مجَاز فِي اللُّغَة، وَأما فِي الشَّرْع؛ فَلفظ الْخَالِق والرازق صَادِق عَلَيْهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّة، والبحث إِنَّمَا هُوَ فِيهَا، لَا فِي الْحَقِيقَة / اللُّغَوِيَّة، فألزموه بتجويز إِطْلَاق اسْم الْفَاعِل على من لم يقم بِهِ الْفِعْل. فَأجَاب: بِأَن الْإِطْلَاق هُنَا شَرْعِي لَا لغَوِيّ) انْتهى كَلَام الْحَافِظ. وَقَالَ: (تصرف البُخَارِيّ فِي هَذَا الْموضع يَقْتَضِي مُوَافقَة القَوْل الأول، والصائر إِلَيْهِ يسلم من الْوُقُوع فِي مَسْأَلَة حوداث لَا أول لَهَا) . وَأما الْمُعْتَزلَة فَقَالُوا: صِفَات الله الذاتية والفعلية حَادِثَة، وَلم يثبتوا لَهُ تَعَالَى صفة من الصِّفَات، بل أولُوا كل مَا ورد، فَقَالُوا: هَذِه الصِّفَات إِمَّا أَن تكون حَادِثَة، فَيلْزم قيام الْحَوَادِث بِذَاتِهِ، وخلوه فِي الْأَزَل عَن الْعلم وَالْقُدْرَة والحياة وَغَيرهَا من الكمالات، وصدورها عَنهُ بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَار، أَو بشرائط حَادِثَة لَا بداية لَهَا، وَالْكل بَاطِل بالِاتِّفَاقِ. وَإِمَّا أَن تكون قديمَة، فَيلْزم تعدد القدماء، وَهُوَ كفر بِإِجْمَاع الْمُسلمين، وَقد كفرت النَّصَارَى بِزِيَادَة قديمين، فَكيف بِالْأَكْثَرِ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 هَذَا كَلَامهم؛ وَأجِيب عَن ذَلِك: بِأَنا لَا نسلم تغاير الذَّات مَعَ الصِّفَات، وَلَا الصِّفَات بَعْضهَا مَعَ الْبَعْض ليثبت التَّعَدُّد، فَإِن الغيرين هما اللَّذَان يُمكن انفكاك أَحدهمَا عَن الآخر بمَكَان أَو زمَان، أَو بِوُجُود وَعدم، أَو هما ذاتان لَيست إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى، وتفسيرهما بالشيئين أَو الْمَوْجُودين أَو الِاثْنَيْنِ فَاسد؛ لِأَن الْغَيْر من الْأَسْمَاء الإضافية، وَلَا إِشْعَار فِي هَذَا التَّفْسِير بذلك، قَالَه فِي " شرح الْمَقَاصِد ". وَسَيَأْتِي بذلك إِلْمَام فِي شرح قَوْلنَا: (شَرط الْمُشْتَقّ صدق أَصله) . قَوْله: {وَحَال وجود الصّفة حَقِيقَة إِجْمَاعًا} . كَقَوْلِنَا: لمن يضْرب فِي تِلْكَ الْحَال: ضَارب، فَهَذَا حَقِيقَة إِجْمَاعًا، وَسَيَأْتِي مَتى تكون حَقِيقَة فِي الْكَلَام على المصادر السيالة. لَكِن قَالَ أَبُو الْحسن البعلي الْحَنْبَلِيّ فِي كِتَابه فِي " الْأُصُول " وَهُوَ من الْمُتَأَخِّرين -: (وَالْمرَاد حَال التَّلَبُّس، لَا حَال النُّطْق، قَالَه القَاضِي أَبُو يعلى، وَالْقَاضِي أَبُو الطّيب، / وَغَيرهمَا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 قلت: وَفِيه نظر؛ لِأَن مَحل الْإِجْمَاع فِي كَونه حَقِيقَة حَال وجود الصّفة، وَهُوَ الضَّرْب مثلا، فَقَوله: المُرَاد حَال التَّلَبُّس لَا النُّطْق، غير سديد؛ لِأَن [حَال] النُّطْق غير دَاخل فِي الْمَسْأَلَة حَتَّى يبين المُرَاد، بل وَلَا يُوجد صفة لمُجَرّد النُّطْق، فَالصَّوَاب حذف ذَلِك، وَلِهَذَا لم أذكرهُ فِي الْمَتْن، وَلَا رَأَيْت من ذكره غَيره، وَالَّذِي يظْهر أَنه تَابع التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع " فَإِنَّهُ قَالَ: (وَمن ثمَّ كَانَ اسْم الْفَاعِل حَقِيقَة فِي الْحَال، أَي حَال التَّلَبُّس لَا النُّطْق خلافًا للقرافي) . وَسَيَأْتِي الْكَلَام على مَسْأَلَة الْقَرَافِيّ وَالرَّدّ عَلَيْهِ قَرِيبا. وَقد قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (مُقْتَضى عبارَة المُصَنّف: أَن الْقَرَافِيّ اعْتبر حَال النُّطْق، وَلَيْسَ ذَلِك وافياً بقوله) ، وَذكر كَلَام الْقَرَافِيّ. قَوْله: {وَبعد انْقِضَائِهَا [مجَاز عِنْد القَاضِي وَابْن عقيل وَالْحَنَفِيَّة والرازي وَأَتْبَاعه، وَعند ابْن حمدَان وَغَيره، وَحكي عَن الْأَكْثَر: حَقِيقَة: وَاخْتَارَهُ أَبُو الطّيب عقب الْفِعْل] ، وَقَالَ [القَاضِي] أَيْضا - وَأَبُو الْخطاب [وَجمع] : إِن لم يكن بَقَاء الْمَعْنى كالمصادر السيالة كَالْكَلَامِ وَنَحْوه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 فحقيقة، وَإِلَّا فمجاز، كالقيام وَنَحْوه} . اخْتلف الْعلمَاء فِي إِطْلَاق الِاسْم الْمُشْتَقّ بعد انْقِضَاء الصّفة، هَل هُوَ حَقِيقَة أم لَا؟ فَذهب القَاضِي أَبُو يعلى من أَئِمَّة أَصْحَابنَا وَابْن عقيل، وَالْحَنَفِيَّة، والرازي، وَأَتْبَاعه: أَنه مجَاز بِاعْتِبَار مَا كَانَ، ويعبر عَنهُ بِاشْتِرَاط بَقَاء الْمُشْتَقّ مِنْهُ فِي صدق الْمُشْتَقّ حَقِيقَة، سَوَاء كَانَ الْمُشْتَقّ مِمَّا يُمكن حُصُوله بِتَمَامِهِ وَقت الْإِطْلَاق، كالقيام وَالْقعُود وَنَحْوهمَا، فَيُقَال: قَائِم وقاعد، أَو لَا يُمكن، كَمَا لَو كَانَ فِي الْأَعْرَاض السيالة كَالْكَلَامِ والتحرك، فَيُقَال: مُتَكَلم ومتحرك، مِمَّا لَا يكون وَيُوجد دفْعَة وَاحِدَة، وَإِنَّمَا يَأْتِي شَيْئا فَشَيْئًا. فَذهب هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة إِلَى أَن إِطْلَاقه / عَلَيْهِ على سَبِيل الْمجَاز مُطلقًا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 وَذكره ابْن عقيل إِجْمَاعًا بَينه وَبَين الْمُعْتَزلَة، فِي أَنه لَا يعْتَبر لِلْأَمْرِ إِرَادَة. وَذهب ابْن حمدَان وَغَيره من أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَحَكَاهُ بعض أَصْحَابنَا عَن أَكثر الْعلمَاء: إِلَى أَنه حَقِيقَة، وَاخْتَارَهُ القَاضِي أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ لَكِن عقب الْفِعْل، نَقله عَنهُ القَاضِي أَبُو يعلى، فَلَو تَأَخّر كثيرا لم يكن حَقِيقَة. وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي مَسْأَلَة خيال الْمجْلس وَغَيره: إِن لم يُمكن بَقَاء الْمَعْنى كالمصادر السيالة كَالْكَلَامِ والتحرك وَنَحْوهمَا فحقيقة، لوُجُود الْفِعْل وَتعذر بَقَائِهِ، وَإِلَّا فمجاز كالضرب وَالْقِيَام وَالْقعُود وَنَحْوهَا. قَالَ أَبُو الْخطاب: (الْفرق بَين مَا يعْدم عقب وجود مُسَمَّاهُ كَالْبيع وَالنِّكَاح والاغتسال والتوضئ فحقيقة، وَمَا يَدُوم بعد وجود الْمُسَمّى كالقيام وَالْقعُود، فَإِذا عدما فمجاز) انْتهى. وَكَذَا قَالَ القَاضِي وَغَيره فِي التبايع: إِنَّه حَقِيقَة بعده وَإِلَّا فَلَا، فَأَما حَال التبايع فمجاز عِنْدهم. وَقَالَهُ أَبُو الطّيب خلافًا للحنفية لعدم وجود الْفِعْل، نَقله ابْن مُفْلِح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 تَنْبِيه: هَذَا نقل ابْن مُفْلِح وَغَيره فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع " وَغَيره: (فِيهَا ثَلَاثَة مَذَاهِب: أَحدهَا: أَنه مجَاز وَإِنَّمَا يكون حَقِيقَة إِذا أطلق مَعَ قيام الْمُشْتَقّ مِنْهُ، ثمَّ إِن أمكن حُصُوله دفْعَة وَاحِدَة كالقيام وَالْقعُود فَلَا إِشْكَال فِيهِ، وَإِن لم يُمكن كالأعراض السيالة الَّتِي لَا يُمكن اجْتِمَاع أَجْزَائِهَا دفْعَة وَاحِدَة كَالْكَلَامِ وَنَحْوه، اكْتفي فِي كَون الْإِطْلَاق حَقِيقِيًّا بِأَن يقْتَرن ذَلِك بآخر جُزْء، وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُور) انْتهى. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (الْمُشْتَقّ تَارَة مِمَّا يُمكن حُصُوله بِتَمَامِهِ وَقت الْإِطْلَاق كالقيام وَالْقعُود، وَتارَة لَا يُمكن كَمَا لَو كَانَ من الْأَعْرَاض السيالة كَالْكَلَامِ، وَإِنَّمَا الْإِطْلَاق الْحَقِيقِيّ فِي هَذَا وَنَحْوه أَن يكون / عِنْد آخر جُزْء، فَلَا يُطلق على من قَالَ: زيد قَائِم، أَنه مُتَكَلم أَو مخبر أَو مُحدث إِلَّا عِنْد نطقه بِالْمِيم من (قَائِم) ؛ لِأَن الْكَلَام اسْم لمجموع الْحُرُوف، ويستحيل اجْتِمَاع تِلْكَ الْحُرُوف فِي وَقت وَاحِد، لِأَنَّهَا أَعْرَاض سيالة، لَا يُوجد مِنْهَا حرف إِلَّا بعد انْفِصَال الآخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 هَذَا مَا بَحثه فِي " الْمَحْصُول "، وَهُوَ حسن، ينزل عَلَيْهِ إِطْلَاق الْجُمْهُور، وَإِن كَانَ ظَاهر كَلَام الْهِنْدِيّ، وَوَافَقَهُ فِي " جمع الْجَوَامِع " أَن الْجُمْهُور صَرَّحُوا بذلك، وَلَيْسَ كَذَلِك) انْتهى. قَالَ الكوراني: (قَوْلهم: الْجُمْهُور على اشْتِرَاط بَقَاء الْمُشْتَقّ مِنْهُ فِي كَون الْمُشْتَقّ حَقِيقَة، وَإِلَّا فآخر جُزْء، يشْعر بِأَن هَذَا مَذْهَب رَابِع [غير الثَّلَاثَة] ، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ بل هُوَ مَذْهَب من يشْتَرط بَقَاء الْمَعْنى) انْتهى. وَحَاصِل ذَلِك: أَنهم حرروا مَتى يحكم بِأَنَّهُ حَقِيقَة مَعَ وجود الصّفة، وَأما بعد انْقِضَائِهَا فالأقوال الثَّلَاثَة الْمُتَقَدّمَة. احْتج الْقَائِل بالمجاز بِأَنَّهُ يَصح نَفْيه، فَيصدق: لَيْسَ بضارب فِي الْحَال، وَالسَّلب الْمُطلق جُزْء الْمُقَيد. رد: إِن أُرِيد سلب أخص لم يصدق: لَيْسَ بضارب مُطلقًا؛ لِأَن الضَّارِب فِي الْحَال أخص مِنْهُ، وَنفي الْأَخَص لَا يسْتَلْزم نفي الْأَعَمّ؛ لِأَن نقيضه أَعم من نقيضه. قَالُوا: لَا يُقَال: كَافِر، لكفر سبق. رد: لمَنعه شرعا تَعْظِيمًا للصحابة وللمسلم بعدهمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 وَاحْتج الْآمِدِيّ: بِأَنَّهُ يلْزم أَن يُطلق على الْقَائِم قَاعد وَبِالْعَكْسِ، وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع. وَلقَائِل أَن يُجيب بِالْمَنْعِ. وَاحْتج الْقَائِل بِالْحَقِيقَةِ: أَنه يَصح الْإِطْلَاق، وَالْأَصْل الْحَقِيقَة. رد: بالمستقبل فَإِنَّهُ مجَاز اتِّفَاقًا كَمَا تقدم. ورد: إِذا كَانَ الْقَائِل من ثَبت لَهُ التَّعَلُّق لم يلْزم. قَالُوا: صَحَّ مُؤمن وَنَحْوه لنائم وميت. أُجِيب: مجَاز. وَقَالَهُ القَاضِي فِي مَسْأَلَة الْإِجْمَاع. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَغَيره: (هَذَا غلط؛ لِأَن الْإِيمَان لَا يُفَارِقهُ بِالْمَوْتِ، بل هُوَ مُؤمن بعد مَوته، وَهَذِه فِي مَسْأَلَة (النُّبُوَّة لَا تَزُول بِالْمَوْتِ) ، وبسببها جرت المحنة على الأشعرية فِي زمن / ملك خُرَاسَان مَحْمُود ابْن سبكتكين، وَالْقَاضِي وَسَائِر أهل السّنة أَنْكَرُوا هَذَا عَلَيْهِم، حَتَّى صنف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 الْبَيْهَقِيّ " حَيَاة الانبياء فِي قُبُورهم "، وَلِأَن الْآيَة دلّت على وجوب اتِّبَاع الماضين فَلَا تردد، فَإِن الْعَصْر الثَّانِي محجوجون بالعصر الأول وَإِن كَانُوا قد مَاتُوا) انْتهى. وَمن فروع الْمَسْأَلَة: لَو قَالَ: أَنا مقرّ، فَإِن زَاد: بدعواك، وَنَحْوهَا، كَانَ إِقْرَارا، وَإِن لم يزدْ، فَفِي كَونه إِقْرَارا وَجْهَيْن لأَصْحَاب الإِمَام أَحْمد وَالصَّحِيح أَنه إِقْرَار، وَالله تَعَالَى أعلم. {تَنْبِيه: يسْتَثْنى من [مَحل الْخلاف] } ثَلَاث مسَائِل: الأولى: {لَو طَرَأَ على الْمحل وصف وجودي يُنَاقض الأول، فمجاز إِجْمَاعًا} . مِثَاله: تَسْمِيَة الْيَقظَان نَائِما، بِاعْتِبَار النّوم السَّابِق، فَهُوَ مجَاز قطعا، وَكَذَا تَسْمِيَة الْقَائِم قَاعِدا، وَعَكسه، بِاعْتِبَار الْقعُود وَالْقِيَام السَّابِقين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 وَذَلِكَ لِأَنَّهُ من بَاب إِطْلَاق أحد الضدين على الآخر، هَذَا مُقْتَضى كَلَام الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه، وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ إِجْمَاع الْمُسلمين وَأهل اللِّسَان. الثَّانِيَة: { [لَو] منع مَانع من [خَارج] من إِطْلَاقه، فَلَا حَقِيقَة وَلَا مجَاز} . مِثَاله: إِطْلَاق الْكَافِر على من أسلم لتضاد الوصفين، فَلَا يكون حَقِيقَة، وَلما فِيهِ من إهانة الْمُسلم والإخلال بتعظيمه، وَلذَلِك يُسمى مُؤمنا فِي حَال نَومه وَنَحْوه، إطلاقاً مُتَعَيّنا شَائِعا، وَلَا مجَاز، بل لَو قيل: إِنَّه حَقِيقَة شَرْعِيَّة، أَو مُسْتَثْنى من الْقَوَاعِد اللُّغَوِيَّة لذَلِك، لم يكن بَعيدا، وَحِينَئِذٍ فإسناد منع ذَلِك إِلَى الْمَانِع، أولى من القَوْل بِإِسْنَادِهِ إِلَى عدم الْمُقْتَضِي، لكَون الأَصْل عدم الْمُقْتَضِي وَعدم الْمَانِع، لأَنا نقُول: إِنَّمَا ذَلِك عِنْد الِاحْتِمَال، وَهنا قد تحقق وجود مَانع، وَيَأْتِي فِي الْقيَاس لنا خلاف فِي أَن الْمَانِع يَسْتَدْعِي وجود الْمُقْتَضى أَو لَا؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة: قَالَ الْقَرَافِيّ: (مَحل الْخلاف إِذا كَانَ الْمُشْتَقّ مَحْكُومًا بِهِ كزيد مُشْرك أَو زَان أَو سَارِق، أما إِذا كَانَ مُتَعَلق الحكم وَهُوَ الْمَحْكُوم عَلَيْهِ ك {اقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] ، {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا} [النُّور: 2] ، {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا} [الْمَائِدَة: 38] ، فَهُوَ حَقِيقَة مُطلقًا فِيمَن اتّصف بِهِ / فِي الْمَاضِي وَالْحَال والإستقبال، إِذْ لَو كَانَ مجَازًا لَكَانَ من أشرك أَو زنا أَو سرق بعد زمَان نزُول الْآيَة وَالْخطاب بهَا يكون مجَازًا فَلَا يدْخل فِيهَا، لِأَن الأَصْل عدم الْمجَاز، وَلَا قَائِل بذلك، أَي: وَإِذا قُلْنَا: بِاعْتِبَار الِانْقِضَاء فِي الْمَاضِي فيقيد بذلك أَيْضا وَلَا مخلص من الْإِشْكَال إِلَّا بِمَا قَرَّرْنَاهُ، لِأَن الله تَعَالَى لم يحكم فِي تِلْكَ الْآيَات بشرك أحد وَلَا بزناه وَلَا بسرقته، وَإِنَّمَا حكم بِالْقَتْلِ وَالْجَلد وَالْقطع على الْمَوْصُوف بِهَذِهِ الصِّفَات؛ نعم هُوَ مُتَعَلق هَذِه الْأَحْكَام) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 وَقد خُولِفَ فِي زَمَانه، واضطربوا فِي جَوَابه، وَإِن كَانَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمَحْصُول " قد ذكر نَحوه. فَأجَاب بَعضهم عَن ذَلِك: بِأَن الْمجَاز وَإِن كَانَ الأَصْل عَدمه، إِلَّا أَن الْإِجْمَاع انْعَقَد على أَن المتصفين بِهَذِهِ الصِّفَات بعد وُرُود النُّصُوص يتناولهم وَتثبت تِلْكَ الْأَحْكَام فيهم. وَلَكِن الْجَواب الصَّحِيح: أَن هُنَا شَيْئَيْنِ: إِطْلَاق اللَّفْظ وَإِرَادَة الْمَعْنى من غير تعرض لزمان، كَقَوْلِنَا: الْخمر حرَام، فَإِنَّهُ صَادِق، سَوَاء كَانَت الخمرية مَوْجُودَة أَو لَا، فإطلاق الْخمر فِي هَذِه الْحَالة حَقِيقَة، لِأَن المُرَاد بِالْحَال حَال التَّلَبُّس لَا التَّلَفُّظ، وَكَذَلِكَ نَحْو: {اقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] ، و {الزَّانِيَة وَالزَّانِي} [النُّور: 2] ، {وَالسَّارِق والسارقة} [الْمَائِدَة: 38] ، لم يقْصد إِلَّا من اتّصف بالشرك وبالزنا، وبالسرقة وَقت تلبسه، وَذَلِكَ حَقِيقَة، وَمثله: إِطْلَاق ذَلِك بعد الِانْقِضَاء، فَإِنَّهُ لم يخرج عَن ذَلِك الَّذِي أطلق حَقِيقَة وَاسْتمرّ، وَإِنَّمَا يَقع التَّجَوُّز، عِنْد إِرَادَة الْمُتَكَلّم إِطْلَاق الْوَصْف بِاعْتِبَار مَا كَانَ عَلَيْهِ، أَو مَا يؤول إِلَيْهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 قَالَ السُّبْكِيّ: (وَإِنَّمَا سرى الْوَهم للقرافي من اعْتِقَاده أَن الْمَاضِي وَالْحَال والمستقبل بِحَسب زمَان إِطْلَاق اللَّفْظ، وَالْقَاعِدَة صَحِيحَة فِي نَفسهَا، وَلَكِن لم يفهمها حق فهمها، فالمدار على حَال التَّلَبُّس لَا حَال النُّطْق. على أَنه قد نُوقِشَ الْقَرَافِيّ فِي مَوَاضِع مِنْهَا: قَوْله: إِن مُتَعَلق الحكم لَيْسَ مرَادا. يرد / عَلَيْهِ: قَوْلك: الْقَاتِل يقتل، أَو الْكَافِر يقتل، تُرِيدُ بِهِ معهوداً حَاضرا، فَإِنَّهُ لَا يكون حَقِيقَة حَتَّى يكون الْقَتْل قَائِما بِهِ من حَيْثُ الْخطاب، وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {اقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] ، ينْحل إِلَى الَّذين هم مشركون فهم مَحْكُوم عَلَيْهِم. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا فرق بَين أَن يكون الْمُشْتَقّ مَحْكُومًا عَلَيْهِ، أَو مُتَعَلق الحكم، أَو غير ذَلِك، فالمدار على مَا قَرَّرْنَاهُ) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 قَوْله: {فصل} {شَرط الْمُشْتَقّ صدق أَصله، خلافًا للجبائية، لإطلاقهم الْعَالم على الله، وإنكار حُصُول الْعلم لَهُ} . اعْلَم أَن شَرط الْمُشْتَقّ سَوَاء كَانَ اسْما أَو فعلا صدق أَصله، وَهُوَ الْمُشْتَقّ مِنْهُ، فَلَا يصدق ضَارب مثلا على ذَات إِلَّا إِذا صدق الضَّرْب على تِلْكَ الذَّات، وَسَوَاء كَانَ الصدْق فِي الْمَاضِي أَو فِي الْحَال أَو فِي الِاسْتِقْبَال، كَقَوْلِه تَعَالَى فِي الِاسْتِقْبَال: {إِنَّك ميت} [الزمر: 30] ، لكنه هَل يكون حَقِيقَة أَو مجَاز؟ فِيهِ تَفْصِيل تقدم. ولصدق شُمُول الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة قُلْنَا: صدق أَصله. وَهَذِه المسالة ذكرهَا الأصوليون ليردوا على الْمُعْتَزلَة، فَإِنَّهُم ذَهَبُوا إِلَى مَسْأَلَة خَالَفت هَذِه الْقَاعِدَة، فَإِن أَبَا عَليّ الجبائي وَابْنه أَبَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 هَاشم ذَهَبُوا إِلَى نفي الْعلم عَنهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ الصِّفَات [الَّتِي] أثبتها أَئِمَّة الْإِسْلَام، أَي: بِكَوْنِهِ عَالما، والعالم مُشْتَقّ من الْعلم، فأطلقوا الْعَالم وَغَيره من المشتقات على الله تَعَالَى، وَمَعَ ذَلِك قَالُوا بعالمية الله تَعَالَى وأنكروا حُصُول الْمُشْتَقّ مِنْهُ، فَقَالُوا: الله عَالم بِلَا علم قَائِم بِهِ، بل بِالذَّاتِ، حَيّ بِلَا حَيَاة، قَادر بِلَا قدرَة، مُرِيد بِلَا إِرَادَة، سميع بِلَا سمع، بَصِير بِلَا بصر، مُتَكَلم بِلَا كَلَام، بَاقٍ بِلَا بَقَاء، فيثبتون العالمية والمريدية وَغَيرهمَا بِدُونِ الْعلم والإرادة. قَالَ الْبرمَاوِيّ: (نعم تَحْرِير النَّقْل عَن أبي عَليّ وَابْنه كَمَا صرحا بِهِ فِي كتبهما الْأُصُولِيَّة، أَنَّهُمَا يَقُولَانِ: إِن العالمية بِعلم لَكِن علم الله عين ذَاته، لَا أَنه عَالم بِدُونِ علم كَمَا اشْتهر فِي النَّقْل عَنْهُمَا فِي كَلَام الرَّازِيّ / الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 والبيضاوي وَغَيرهمَا، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي بَقِيَّة الصِّفَات. وَأما أهل السّنة فيعللون الْعَالم بِوُجُود علم قديم قَائِم بِذَاتِهِ، وَكَذَا فِي الْبَاقِي. [وشبهة] الْمُعْتَزلَة: أَن هَذِه الصِّفَات إِن كَانَت حَادِثَة لزم قيام الْحَوَادِث بالقديم، أَو قديمَة لزم تعدد الْقَدِيم، وَالنَّصَارَى كفرُوا بالتثليث، فَكيف بادعاء تَسْمِيَة الذَّات وثمان صِفَات؟ وَأجَاب الرَّازِيّ وَغَيره: أَن النَّصَارَى عددوا ذَوَات قديمَة لذاتها، وَنحن نقُول: الْقَدِيم وَاحِد وَهَذِه صِفَاته، هِيَ مُمكنَة فِي نَفسهَا، وَلَكِن وَجَبت للذات لَا بِالذَّاتِ، فَلَا تعدد فِي قديم لذاته، فَلَا قديم لذاته إِلَّا الذَّات الشَّرِيفَة) انْتهى، وَتقدم هَذَا الْجَواب فِي قَوْلنَا: (وَأما صِفَات الله تَعَالَى فقديمة) . قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (وَالْقَصْد الرَّد على الْمُعْتَزلَة فِي أَنهم لم يثبتوا للباري الصِّفَات، مَعَ اعترافهم بِثُبُوت الْأَسْمَاء لَهُ، فاشتقوا الِاسْم لمن لم يقم بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 الْوَصْف، وهم لم يطردوا هَذَا فِي جَمِيع الْأُمُور، فغايته: أَن هَذَا لَازم لمذهبهم، وَالصَّحِيح: أَن لَازم الْمَذْهَب لَيْسَ بِمذهب) انْتهى. قَوْله: {وكل اسْم معنى قَائِم بِمحل، يجب أَن يشتق لمحله مِنْهُ اسْم فَاعل، خلافًا للمعتزلة، فسموا الله تَعَالَى متكلماً بِكَلَام خلقه فِي جسم، وَلم يسموا الْجِسْم متكلماً} . وَعبارَة ابْن مُفْلِح: (الِاسْم يشتق لمحله مِنْهُ اسْم فَاعل، لَا لغيره مِنْهُ، خلافًا للمعتزلة) . وَفرض جمَاعَة الْمَسْأَلَة: (لَا يشتق اسْم فَاعل لشَيْء، وَالْفِعْل قَائِم بِغَيْرِهِ) . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي مَسْأَلَة لَهُ فِي الْكَلَام: (الْقُرْآن صفة لله تَعَالَى، كَالْعلمِ وَالْقُدْرَة وَالرَّحْمَة وَالْغَضَب والإرادة وَالْبَصَر والسمع وَنَحْو ذَلِك، وَذَلِكَ لَا يقوم إِلَّا بموصوف، وكل معنى لَهُ اسْم وَهُوَ قَائِم بِمحل وَجب أَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 يشتق لمحله مِنْهُ اسْم، وَأَن لَا يشتق لغير مَحَله مِنْهُ اسْم، فَكَمَا أَن الْحَيَاة وَالْعلم وَالْقُدْرَة إِذا قَامَ بموصوف وَجب أَن يشتق لَهُ مِنْهُ اسْم الْحَيّ والعالم والقادر، وَلَا يشتق الْحَيّ والعالم والقادر لغير من قَامَ بِهِ الْعلم وَالْقُدْرَة والحياة، فَكَذَلِك القَوْل وَالْكَلَام وَالْحب والبغض والرضى وَالرَّحْمَة / وَالْغَضَب والإرادة والمشيئة [إِذا] قَامَ بِمحل وَجب أَن يشتق لذَلِك الْمَوْصُوف مِنْهُ الِاسْم وَالْفِعْل، فَيُقَال: هُوَ الصَّادِق والشهيد [والحكيم] والودود والرحيم والآمر، وَلَا يشتق لغيره مِنْهُ اسْم) انْتهى. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: (وَهَذِه الْحجَّة من أصُول حجج السّلف وَالْأَئِمَّة فَإِنَّهُ من الْمَعْلُوم فِي فطر الْخلق: أَن الصّفة إِذا قَامَت بِمحل اتّصف بهَا ذَلِك الْمحل لَا غَيره، فَإِذا قَامَ الْعلم بِمحل كَانَ هُوَ الْعَالم بِهِ لَا غَيره، وَكَذَلِكَ إِذا قَامَت الْقُدْرَة أَو الْحَرَكَة أَو الْحَيَاة أَو غير ذَلِك من الصِّفَات كَانَ لذَلِك الْمحل، كالقدير والحي والمتحرك والمتكلم والمريد وَسَائِر الصِّفَات، وَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ بَين أهل السّنة، وَخَالف فِي ذَلِك الْمُعْتَزلَة فسموا الله تَعَالَى متكلماً بِكَلَام خلقه فِي جسم، وَلم يسموا ذَلِك الِاسْم متكلماً) . قَالَ أهل السّنة: لنا على ذَلِك الاستقراء، أَي: استقراء لُغَة الْعَرَب دلنا على أَن اسْم الْفَاعِل لَا يُطلق على شَيْء إِلَّا وَيكون الْمَعْنى الْمُشْتَقّ مِنْهُ قَائِما بِهِ، وَهُوَ يُفِيد الْقطع بذلك. وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: ثَبت (قَاتل) و (ضَارب) ، وهما أثران قاما بالمفعول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 رد: بِأَنَّهُمَا للتأثير وَهُوَ للْفَاعِل، والتأثر للْمَفْعُول. قَالُوا: التَّأْثِير الْأَثر، وَإِلَّا فَإِن كَانَ حَادِثا افْتقر إِلَى نِسْبَة أُخْرَى وتسلسل، أَو قَدِيما فَيلْزم قدم الْأَثر وَتقدم النِّسْبَة على المنتسبين. رد: الْعلم بِأَنَّهُ غَيره ضَرُورِيّ، ثمَّ لَا دَلِيل على وجوب الِانْتِهَاء إِلَى أثر آخر، بل إِلَى مُؤثر أول، ثمَّ يمْنَع التسلسل فِي الثَّانِي، وَتقدم النِّسْبَة فِي محلهَا مُمْتَنع دون الْمَنْسُوب إِلَيْهِ. وَلما قَالَ الْأَشْعَرِيّ وَأَصْحَابه كالمعتزلة: الْخلق: الْمَخْلُوق، أجابوا بِأَنَّهُ لَيْسَ فعلا قَائِما بِغَيْرِهِ بل ذَاته، أَو لِأَنَّهُ للتعلق الَّذِي بَين الْمَخْلُوق وَالْقُدْرَة حَال الْإِيجَاب، فَلَمَّا نسب إِلَى الله صَحَّ الِاشْتِقَاق، لقِيَامه بِالْقُدْرَةِ الْقَائِمَة بِهِ. تَنْبِيه: قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (النزاع مُخْتَصّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة، فَإِن الْإِنْسَان لَا يُسمى أَبيض ببياض قَامَ بِغَيْرِهِ، وَلَا أسود وَلَا متحركاً / وَنَحْوه، بل النزاع مَقْصُور على هَذِه) انْتهى. وَمِمَّا اخْتلف فِيهِ وَبني على أصل الْمَسْأَلَة: مَا قَالَه بَعضهم: (على أَنهم اتَّفقُوا على أَن إِسْمَاعِيل لَيْسَ بمذبوح، وَاخْتلفُوا فِي أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام هَل هُوَ ذابح أم لَا؟ فَقَالَ قوم: هُوَ ذابح للْقطع، وَالْولد غير مَذْبُوح للالتئام، وَأنْكرهُ قوم وَقَالُوا: ذابح وَلَا مَذْبُوح محَال) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 وَفِي عبارَة بَعضهم: (الِاتِّفَاق على أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ذابح مَعَ أَنه لم يقم بِهِ فعل الذّبْح، فَإِنَّهُ لَا بُد فِيهِ من ثُبُوت مَذْبُوح تزهق روحه، وَاخْتلفُوا مَعَ ذَلِك فِي أَن إِسْمَاعِيل مَذْبُوح أم لَا) . قَالَ الزَّرْكَشِيّ الشَّافِعِي: (والعبارة الأولى أولى من الثَّانِيَة) . تَنْبِيه آخر: لَا يدْخل فِي مَحل النزاع مَا لم يكن لَهُ اسْم، كأنواع الروائح والآلام، بل النزاع إِذا كَانَ لَهُ اسْم، فَأهل السّنة إِنَّمَا ادعوا ذَلِك فِي المشتقات من المصادر الَّتِي هِيَ أَسمَاء الْمعَانِي لَا من الذوات وَأَسْمَاء الْأَعْيَان؛ قَرَّرَهُ الْقَرَافِيّ تبعا للرازي فِي " الْمَحْصُول ". قَوْله: {والمشتق كأبيض وَنَحْوه يدل على ذَات متصفة بالبياض، لَا على خصوصيتها} . مَفْهُوم الْأَبْيَض وَنَحْوه من المشتقات كالأسود والضارب والمضروب، يدل كل [مِنْهَا] على ذَات مَا متصفة بِتِلْكَ الصّفة، فَإِن الْأسود مثلا يدل على ذَات مَا متصفة بِالسَّوَادِ، وَلَا يدل على خُصُوص تِلْكَ الذَّات من جسم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 وَغَيره، فَإِن علم مِنْهُ شَيْء من ذَلِك فَهُوَ على طَرِيق الِالْتِزَام لَا بِاعْتِبَار كَونه جُزْءا من مُسَمَّاهُ. وَالَّذِي يدل على ذَلِك: أَن قَوْلنَا: إِن الْأَبْيَض جسم، مُسْتَقِيم، وَلَو دلّ الْأسود على خُصُوص الِاسْم لَكَانَ غير مُسْتَقِيم، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون مَعْنَاهُ: الْجِسْم ذُو السوَاد جسم، وَهُوَ غير مُسْتَقِيم، للُزُوم التّكْرَار بِلَا فَائِدَة. وَمَا أحسن مَا قَرَّرَهُ بَعضهم بقوله: (الْمُشْتَقّ لَا إِشْعَار لَهُ بخصوصية الذَّات، فالأسود مثلا ذَات / لَهَا سَواد، وَلَا يدل على حَيَوَان وَلَا غَيره، وَالْحَيَوَان ذَات لَهَا حَيَاة، لَا خُصُوص إِنْسَان وَلَا غَيره. قَالَ الْهِنْدِيّ: (لَا بالمطابقة وَلَا بالتضمن) ، وَمَفْهُومه: أَنه يدل بالالتزام، فَإِن أَرَادَ مُطلق الْجِسْم فَمُسلم، أَو نوعا معينا فَلَا) . قَوْله: {فَائِدَة: أَكثر أَصْحَابنَا، وَالْقَاضِي أخيراً، وَالْحَنَفِيَّة، وأئمة الشَّافِعِيَّة، [وَالسَّلَف: الْخلق غير الْمَخْلُوق، وَهُوَ فعل الرب تَعَالَى الْقَائِم بِهِ، مُغَاير لصفة الْقُدْرَة [وَالْقَاضِي، وَابْن عقيل، وَابْن الزاغواني، والأشعرية، وَأكْثر الْمُعْتَزلَة] : [هُوَ هُوَ] } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (ذهب هَؤُلَاءِ إِلَى أَن الله تَعَالَى لَيْسَ لَهُ صفة ذاتية من أَفعاله، وَإِنَّمَا الْخلق هُوَ الْمَخْلُوق، أَو مُجَرّد نِسْبَة وَإِضَافَة، وَعند هَؤُلَاءِ حَال الذَّات الَّتِي تخلق وترزق وَلَا تخلق وَلَا ترزق سَوَاء) انْتهى. وَقَالَ أَيْضا: (هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إِن أَفعَال [الْعباد] هِيَ فعل الله، وَقد تقدم كَلَامهم قبل التَّشْبِيه) . وَقَالَ أَيْضا: (وَيَقُولُونَ: الْفِعْل هُوَ الْمَفْعُول، وَقد جعلُوا أَفعَال الْعباد فعلا لله، وَالْفِعْل عِنْدهم الْمَفْعُول، فَامْتنعَ مَعَ هَذَا أَن يكون فعلا للْعَبد، لِئَلَّا يكون فعل وَاحِد لَهُ فاعلان) انْتهى. وَعند أَكثر أَصْحَابنَا، وَالْقَاضِي أخيراً، وَالْحَنَفِيَّة، وأئمة الشَّافِعِيَّة، وَأهل الْأَثر: أَنه غَيره، بل هُوَ قدر زَائِد مَعَ قدمه، مُغَاير لصفة الْقُدْرَة. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (الْخلق فعل الله تَعَالَى الْقَائِم بِهِ، والمخلوق هُوَ الْمَخْلُوقَات الْمُنْفَصِلَة عَنهُ، وَحَكَاهُ الْبَغَوِيّ عَن أهل السّنة، وَنَقله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 البُخَارِيّ عَن الْعلمَاء مُطلقًا فَقَالَ: قَالَ عُلَمَاء السّلف: إِن خلق الرب للْعَالم لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوق، بل فعله الْقَائِم بِهِ غير مَخْلُوق) انْتهى. ذكره فِي كتاب خلق أَفعَال الْعباد، وَهُوَ قَول الكرامية، وَكثير من الْمُعْتَزلَة. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد على الرافضي فِي الْجُزْء الثَّالِث: (وَأما جُمْهُور أهل السّنة المتبعون للسلف وَالْأَئِمَّة [فَيَقُولُونَ] : إِن فعل العَبْد فعل لَهُ حَقِيقَة، وَلكنه مَخْلُوق ومفعول لله، لَا يَقُولُونَ: هُوَ نفس فعل الله، ويفرقون بَين الْخلق والمخلوق، وَالْفِعْل / وَالْمَفْعُول، وَهَذَا الْفرق حَكَاهُ البُخَارِيّ فِي كتاب " خلق أَفعَال الْعباد " عَن الْعلمَاء قاطبة، وَهُوَ الَّذِي ذكره غَيره من السّلف وَالْأَئِمَّة، وَهُوَ قَول الْحَنَفِيَّة، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، والحنبلية، وَحَكَاهُ الْبَغَوِيّ عَن أهل السّنة قاطبة، وَحَكَاهُ الكلاباذي صَاحب " التعرف لمَذْهَب التصوف " عَن جَمِيع الصُّوفِيَّة، وَهُوَ قَول أَكثر طوائف الْكَلَام من الهشامية، وَكثير من الْمُعْتَزلَة، والكرامية، وَهُوَ قَول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 الْكلابِيَّة أَيْضا أَئِمَّة الأشعرية فِيمَا ذكره أَبُو عَليّ الثَّقَفِيّ وَغَيره على قَول الكرامية: (وأثبتوا لله تَعَالَى فعلا قَائِما بِذَاتِهِ غير الْمَفْعُول، كَمَا أثبتوا لَهُ إِرَادَة قديمَة قَائِمَة بِذَاتِهِ) انْتهى. وَحَكَاهُ فِي مَوْضُوع آخر: (عَن طوائف من المرجئة والشيعة، وسمى من أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد: أَبُو بكر عبد الْعَزِيز، وَابْن شاقلا، وَابْن حَامِد، وَالْقَاضِي فِي آخر قوليه) انْتهى. وَقَالَ أَيْضا: (الرب لَا يُوصف بِمَا هُوَ مَخْلُوق لَهُ، وَإِنَّمَا يُوصف بِمَا هُوَ قَائِم بِهِ) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 قَوْله {فصل} {أَكثر أَصْحَابنَا، وَابْن سُرَيج، والشيرازي، والرازي، وَغَيرهم: [تثبت اللُّغَة قِيَاسا، فِيمَا وضع لِمَعْنى دَار مَعَه وجودا وعدماً، كخمر لنبيذ وَنَحْوه] ، [والسمعاني: فِي الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة، ونفاه أَبُو الْخطاب، والصيرفي، والباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ، والآمدي، وَأكْثر الْحَنَفِيَّة، وَغَيرهم، وللنحاة قَولَانِ: اجْتِهَادًا فَلَا حجَّة، وَقيل: لم يَقع، وَالْإِجْمَاع على مَنعه فِي علم ولقب وَصفَة، قَالَه ابْن عقيل وَغَيره، وَكَذَا مثل: إِنْسَان وَرجل، وَرفع فَاعل} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 اخْتلف الْعلمَاء: هَل تثبت اللُّغَة قِيَاسا، أم لَا، أَو فِيهِ تَفْصِيل؟ على أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا تثبت قِيَاسا فِيمَا وضع لمسمى مُسْتَلْزم لِمَعْنى فِي مَحَله وجودا وعدماً، كَالْخمرِ للنبيذ لتخمير الْعقل، وَالسَّارِق للنباش للأخذ خُفْيَة، وَالزَّانِي للائط للْوَطْء الْمحرم. قَالَ ابْن الْحَاجِب: (وَلَيْسَ الْخلاف فِي نَحْو: رجل وَرفع الْفَاعِل، أَي: لَا يُسمى مسكون عَنهُ، إِلْحَاقًا بِتَسْمِيَة الْمعِين لِمَعْنى يستلزمه وجودا وعدماً، كَالْخمرِ للنبيذ وَنَحْوه [إِلَّا] بِنَقْل أَو استقراء لتعميم) . وَذكر فِي " جمع الْجَوَامِع ": أَن لفظ الْقيَاس يُغني عَن ذَلِك، أَي: فَإِن اطراد ذَلِك فِي كل مَا أسْند إِلَيْهِ فعل قد علم بِالنَّصِّ، فَلَا يحْتَاج [فِيهِ] لقياس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 فالسبكي نبه على ذَلِك، وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَلهَذَا تركت ذَلِك وأتيت بِالْمَقْصُودِ. إِذا / علم ذَلِك؛ فَالصَّحِيح: أَن اللُّغَة تثبت قِيَاسا وَعَلِيهِ أَكثر أَصْحَابنَا، وَابْن سُرَيج، وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَالْفَخْر الرَّازِيّ، وَغَيرهم، وَنَقله الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور عَن نَص الشَّافِعِي، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الشُّفْعَة: (إِن الشَّرِيك جَار، قِيَاسا على تَسْمِيَة امْرَأَة الرجل جَارة) وَكَذَا قَالَ ابْن فورك: إِنَّه الظَّاهِر من مَذْهَب الشَّافِعِي، إِنَّه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 قَالَ: (الشَّرِيك جَار) . وَالْقَوْل الثَّانِي: لَا تثبت قِيَاسا مُطلقًا، اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، والصيرفي، وَأَبُو بكر الباقلاني فِي " التَّقْرِيب "، وَمَا نَقله ابْن الْحَاجِب عَنهُ من الْجَوَاز مَرْدُود، وَابْن الْقطَّان، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزالِيّ، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، وَأكْثر الْحَنَفِيَّة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 وَغَيرهم، وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن [مُعظم أَكثر] أَصْحَابهم، وَحَكَاهُ القَاضِي أَبُو يعلى عَن أَكثر الْمُتَكَلِّمين، وللنحاة قَولَانِ: اجْتِهَادًا فَلَا حجَّة، أَي: فَلَا يحسن أَن يُقَال: قَول من أثبت مقدم على من نفى. قَالَ الْمبرد وَغَيره: (مَا قيس على كَلَامهم فَمن كَلَامهم) . وَقَالَ الْأَخْفَش وَغَيره: (الْأَسْمَاء تُؤْخَذ توقيفاً) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 وَفِي " الخصائص " لِابْنِ جني: (أَن الْجَوَاز قَول أَكثر عُلَمَاء الْعَرَبيَّة كالمازني، وَأبي عَليّ الْفَارِسِي) . وَحكى ابْن فَارس فِي فقه الْعَرَبيَّة إِجْمَاع أهل اللُّغَة عَلَيْهِ. وَاخْتَارَهُ ابْن درسْتوَيْه. وَالْقَوْل الثَّالِث: تثبت فِي الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة دون غَيرهَا، اخْتَارَهُ ابْن السَّمْعَانِيّ، فَقَالَ بعد أَن ذكر أَدِلَّة المانعين: (وَهَذِه الْأَدِلَّة قَوِيَّة جدا، وَالْأولَى أَن نقُول: يجوز إِثْبَات الْأَسَامِي شرعا، وَلَا يجوز لُغَة، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْن سُرَيج. وَالدَّلِيل: أَنا نعلم أَن الشَّرِيعَة إِنَّمَا سمت الصَّلَاة صَلَاة لصفة مَتى انْتَفَت عَنْهَا لم تسم صَلَاة، فَنعم أَن مَا شاركها فِي تِلْكَ الصّفة يكون صَلَاة، فَبَان بِهَذَا ثُبُوت الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة بالعلل) انْتهى. فَابْن السَّمْعَانِيّ نقل ثُبُوتهَا فِي الشَّرْعِيَّة عَن ابْن سُرَيج، وَنقل الْبرمَاوِيّ عَنهُ كَمَا قُلْنَا فِي الْمَتْن، فَلَعَلَّ لَهُ قَوْلَيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 وَفِي الْمَسْأَلَة قَول رَابِع: لِأَنَّهُ يجوز ثُبُوتهَا وَلم يَقع، حَكَاهُ ابْن فورك. وَقَول خَامِس: ثُبُوتهَا فِي الْحَقِيقَة دون الْمجَاز، وَإِنَّمَا لم نذكرهُ هُنَا؛ أَنه قد تقدم: أَن الْمجَاز / لَا يُقَاس عَلَيْهِ [عِنْد] الْأَكْثَر، وَحكي إِجْمَاعًا، وحكينا قولا بِالْجَوَازِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكرُوهُ هُنَا فِيمَا يظْهر، وعللوه: بِأَن الْمجَاز أنقص رُتْبَة من الْحَقِيقَة فتميز عَلَيْهِ. وَهَذَا مخرج من كَلَام القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي، لَكِن يبقي ظَاهر الأول: أَن الْمُقدم أَنَّهَا تثبت فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز، وَقد نقلنا هُنَاكَ: (أَن الصَّحِيح: أَنه لَا يُقَاس على الْمجَاز، وَحكي إِجْمَاعًا) . وَقَول سادس حَكَاهُ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور من إِجْمَاع أَصْحَابهم: أَن أَسمَاء الله لَا يجوز [إِطْلَاق] شَيْء مِنْهَا بِالْقِيَاسِ، وَيَأْتِي حكم هَذِه الْمَسْأَلَة وَهَذَا القَوْل، وَهِي أَن أَسمَاء الله هَل هِيَ توقيفية أَو تثبت بِالْقِيَاسِ؟ قبيل الْأَحْكَام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 احْتج الْمُثبت: أَن الْمُعْتَمد فِي ذَلِك فهم الْجَامِع كالتخمير فِي النَّبِيذ كالشرعي، فَيصح حَيْثُ فهم. قَالُوا: إِن نصوا على أَن الْجَامِع التخمير فالنبيذ خمر بِالْوَضْعِ، وَإِلَّا فإلحاق مَا لَيْسَ من لغتهم بهَا. قُلْنَا: لَيْسَ النَّص من شَرط الْجَامِع، بل ثَبت بالاستقراء. وَاحْتج النَّافِي: بِأَنَّهُ مَا من شَيْء إِلَّا وَله اسْم فِي اللُّغَة وَلَو بطرِيق الشُّمُول لَهُ وَلغيره، فَلَا يثبت لَهُ آخر قِيَاسا كَمَا فِي الْأَحْكَام، لَا يكون للشَّيْء حكم بِالنَّصِّ وَحكم آخر بِالْقِيَاسِ مُخَالف لَهُ. وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا يلْزم أَن يكون كل معنى لَهُ لفظ يدل عَلَيْهِ، بل كل معنى مُحْتَاج إِلَى لفظ، وَهَذَا يُوجد بطرِيق الْعُمُوم. وَاحْتج أَيْضا النَّافِي " بِأَن الْقيَاس إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُشْتَقّ حَتَّى يكون مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاق هُوَ الْعلَّة، وَالْعرب قد لَا تطرد الِاشْتِقَاق كَمَا سبق. أُجِيب: بِأَنَّهُ قد تكون الْعلَّة غير مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاق، بل تناسب الِاسْم كَمَا فِي تَسْمِيَة اللائط زَانيا، فَإِن الْعلَّة لَيست مِمَّا اشتق مِنْهُ لفظ الزَّانِي وَهُوَ الزِّنَا، وَنَحْو ذَلِك. وَأَيْضًا: التَّجَوُّز إِذا قدر بِأَنَّهُ فِي الْمصدر كاللواط وكالنبش، فَأَيْنَ الِاشْتِقَاق على القَوْل الْمُرَجح: أَن الْمصدر أصل الْفِعْل وَالْوَصْف؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 وَاحْتج النَّافِي أَيْضا كَمَا تقدم: إِن كَانَ وضع كَالْخمرِ لكل / مُسكر فالتعميم باللغة، أَو لعصير الْعِنَب فَقَط فَلَا تَعْمِيم، أَو لم ينْقل فِيهِ شَيْء فَلَا لُغَة بِالِاحْتِمَالِ. واستدله بقول: {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا} [الْبَقَرَة: 31] . رد: بَعْضهَا نصا وَبَعضهَا استنباطاً، ثمَّ هُوَ نصا وَنحن قِيَاسا، وَلَا يمْتَنع ثبوتهما مَعَ اخْتِلَافهمَا للشَّيْء. قَالُوا: كَونه دَلِيلا أظهر، لدوران [الِاسْم مَعَ الْوَصْف] . رد: بِأَنَّهُ دَار - أَيْضا - ً مَعَ كَونه من عِنَب، وَمَال حَيّ، وقبلا، ومنقوض بقَوْلهمْ للطويل: نَخْلَة، وللفرس الْأسود: أدهم، وَنَحْوهمَا وَلم يطرد. رد: بِأَنَّهُم جعلُوا الْعلَّة ذَات وصفين: الْجِنْس وَالصّفة. رد: بِمثلِهِ فِي كل مَحل. قَالُوا: ثَبت شرعا للمعنى، فَهَذَا مثله. رد: للْإِجْمَاع وَلَا إِجْمَاع هُنَا، أَو لدَلِيل شَرْعِي أَو عَقْلِي. قَالُوا: (فاعتبروا) . رد: لَيْسَ بعام، وَهُوَ مَحل النزاع، ثمَّ مَحل النزاع غير مُرَاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 فَائِدَة: تظهر فَائِدَة الْخلاف: أَن الْمُثبت للْقِيَاس فِي اللُّغَة يَسْتَغْنِي عَن الْقيَاس الشَّرْعِيّ، فإيجاب الْحَد على شَارِب النَّبِيذ، وَالْقطع على النباش، بِالنَّصِّ. وَمن أنكر الْقيَاس فِي اللُّغَة جعل ثُبُوت ذَلِك بِالشَّرْعِ. قَوْله: (وَالْإِجْمَاع على مَنعه فِي علم ولقب وَصفَة، قَالَه ابْن عقيل وَغَيره) . لَا شكّ أَن مَحل الْخلاف: إِذا اشْتَمَل الِاسْم على وصف، واعتقدنا أَن التَّسْمِيَة لذَلِك الْوَصْف، فَهَل يجوز تَعديَة الِاسْم إِلَى مَحل آخر مسكوت عَنهُ؟ كَالْخمرِ إِذا اعتقدنا أَن تَسْمِيَتهَا بذلك بِاعْتِبَار تخمير الْعقل، فعديناه إِلَى النَّبِيذ وَنَحْوه. وَأما الْأَعْلَام فَلَا يجْرِي فِيهَا الْقيَاس اتِّفَاقًا، لِأَنَّهَا غير معقولة الْمَعْنى؛ وَالْقِيَاس فرع الْمَعْنى، وَكَذَلِكَ الصِّفَات كاسم الْفَاعِل وَالْمَفْعُول وَنَحْوهمَا، لِأَنَّهُ لابد للْقِيَاس من أصل، وَهُوَ غير مُتَحَقق فِيهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ جعل الْبَعْض فرعا بِأولى من الْعَكْس، واضطرادها فِي محالها مُسْتَفَاد من الْوَضع، لوضعهم الْقَائِم - مثلا - ً لكل من قَامَ. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (الْإِجْمَاع على مَنعه فِي الْأَعْلَام والألقاب، وَذكره جمَاعَة مِنْهُم ابْن عقيل، لوضعهما لغير معنى جَامع، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 وَالْقِيَاس فَرعه، وَمثل هَذَا: (سِيبَوَيْهٍ زَمَانه) ، مجَاز عَن حَافظ كِتَابه، وَالْإِجْمَاع على مَنعه / فِي الصِّفَات، لِأَن الْعَالم من قَامَ بِهِ الْعلم، فَيجب طرده، فإطلاقه بِوَضْع اللُّغَة، وَكَذَا مثل: (إِنْسَان) ، و (رجل) و (رفع الْفَاعِل) فَلَا وَجه لجعله دَلِيلا من أَصْحَابنَا وَغَيرهم) انْتهى، وَتقدم كَلَام ابْن الْحَاجِب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 قَوْله: {فصل} {الْحُرُوف} . قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (قد قَالَ النُّحَاة: إِن الْحَرْف لَا يسْتَقلّ بِالْمَعْنَى، وَعَلِيهِ إِشْكَال، فنقرر المُرَاد أَولا، وَالْإِشَارَة إِلَى الْإِشْكَال ثَانِيًا، وحله ثَالِثا. أما تَقْرِيره: فَهُوَ أَن نَحْو: " من " و " إِلَى "، مَشْرُوط فِي وَضعهَا دَالَّة على مَعْنَاهَا الإفرادي، وَهُوَ الِابْتِدَاء والانتهاء ذكر متعلقها من دَار أَو سوق أَو غَيرهمَا مِمَّا يدْخل عَلَيْهِ الْحَرْف وَمِنْه الِابْتِدَاء وَإِلَيْهِ الإنتهاء، وَالِاسْم نَحْو: الِابْتِدَاء والانتهاء، وَالْفِعْل نَحْو: ابْتَدَأَ وانْتهى، غير مَشْرُوط فِيهِ ذَلِك. وَأما الْإِشْكَال: فَهُوَ أَن نَحْو: " ذُو " و " أولو " و " أولات " و " قيد " و " [قيس] " و " قاب " و " أَي " و " بعض " و " كل " و " فَوق " و " تَحت " و " أَمَام " و " قُدَّام " و " خلف " و " وَرَاء " مِمَّا لَا يُحْصى، كَذَلِك إِذْ لم يجوز الْوَاضِع اسْتِعْمَالهَا إِلَّا بمتعلقاتها، فَكَانَ يجب كَونهَا حروفاً، وَإِنَّهَا أَسمَاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 وَأما الْحل: فَهُوَ أَنَّهَا وَإِن لم يتَّفق اسْتِعْمَالهَا إِلَّا كَذَلِك لأمر مَا عرض، فَغير مَشْرُوط فِي وَضعهَا دَالَّة ذَلِك، لما علم أَن " ذُو " بِمَعْنى صَاحب، وَيفهم مِنْهُ عِنْد الْإِفْرَاد ذَلِك، لَكِن وَضعه لَهُ لغَرَض مَا، وَهُوَ التواصل بِهِ إِلَى الْوَصْف بأسماء الْأَجْنَاس فِي نَحْو: زيد ذُو مَال، وَذُو فرس، فَوَضعه ليتوصل بِهِ إِلَى ذَلِك، هُوَ الَّذِي اقْتضى ذكر الْمُضَاف إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَو ذكر دونه لم يدل على مَعْنَاهُ. نعم لم يحصل الْغَرَض من وَضعه، وَالْفرق بَين عدم فهم الْمَعْنى، وَبَين عدم فَائِدَة الْوَضع مَعَ فهم الْمَعْنى ظَاهر. وَكَذَلِكَ " فَوق "، وضع لمَكَان لَهُ علو، وَيفهم مِنْهُ عِنْد الِانْفِرَاد ذَلِك، لَكِن وَضعه لَهُ ليتوصل إِلَى علو خَاص اقْتضى ذكر الْمُضَاف إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ بَاقِي الْأَلْفَاظ. وَإِذ قد تحقق ذَلِك؛ فَنَقُول: الْحَرْف مَا وضع بِاعْتِبَار معنى عَام، وَهُوَ نوع من النِّسْبَة: كالابتداء والانتهاء، لكل ابْتِدَاء وانتهاء معِين بِخُصُوصِهِ. وَالنِّسْبَة لَا تتَعَيَّن إِلَّا بالمنسوب إِلَيْهِ، فالابتداء الَّذِي لِلْبَصْرَةِ يتَعَيَّن بِالْبَصْرَةِ، والانتهاء الَّذِي للكوفة يتَعَيَّن بِالْكُوفَةِ، فَمَا لم يذكر مُتَعَلّقه لَا يتَحَصَّل فَرد من ذَلِك النَّوْع [الَّذِي] هُوَ مَدْلُول الْحَرْف لَا فِي الْعقل وَلَا فِي الْخَارِج، وَإِنَّمَا يتَحَصَّل بالمنسوب إِلَيْهِ، فيتعقل بتعقله، بِخِلَاف مَا وضع للنوع بِعَيْنِه: كالابتداء والانتهاء، وَبِخِلَاف مَا وضع لذات مَا بِاعْتِبَار نِسْبَة نَحْو: " ذُو " و " فَوق "، و " على " و " عَن " و " الْكَاف " إِذا أُرِيد بهَا علو وَتجَاوز وَشبه مُطلقًا، فَهُوَ كالابتداء والانتهاء) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 تَنْبِيه: المُرَاد بالحروف هُنَا: مَا يحْتَاج الْفَقِيه إِلَى مَعْرفَتهَا، وَلَيْسَ المُرَاد هُنَا قسيم الِاسْم وَالْفِعْل والحرف بِخُصُوصِهِ، لِأَنَّهُ قد ذكر مَعهَا أَسمَاء ك " إِذا " و " إِذْ "، وَأطلق عَلَيْهَا حروفاً تَغْلِيبًا بِاعْتِبَار الْأَكْثَر، وَقَالَ الصفار: (الْحَرْف يُطلقهُ سِيبَوَيْهٍ على الِاسْم وَالْفِعْل) . قَوْله: {الْوَاو العاطفة لمُطلق الْجمع} . أَي: للقدر الْمُشْتَرك بَين التَّرْتِيب والمعية، {عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} ، وَعَلِيهِ أَكثر النُّحَاة، وَذكره الْفَارِسِي، والسيرافي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 والسهيلي، إِجْمَاع نحاة الْبَصْرَة والكوفة. فَلَا تدل على تَرْتِيب وَلَا معية، وَهِي تَارَة تعطف الشَّيْء على مصاحبه كَقَوْلِه تَعَالَى: {فأنجيناه وَأَصْحَاب السَّفِينَة} [العنكبوت: 15] ، وعَلى سابقه: {وَلَقَد أرسلنَا نوحًا وَإِبْرَاهِيم} [الْحَدِيد: 26] وعَلى لاحقه: {كَذَلِك يُوحى إِلَيْك وَإِلَى الَّذين من قبلك} [الشورى: 3] ، وَقد اجْتمعَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ أَخذنَا من النبين ميثاقهم ومنك وَمن نوح وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى ابْن مَرْيَم} [الْأَحْزَاب: 7] . وعَلى هَذَا إِذا قيل: قَامَ زيد وَعَمْرو، احْتمل ثَلَاثَة معَان: الْمَعِيَّة، وَالتَّرْتِيب، وَعَدَمه. قَالَ ابْن مَالك: (وَكَونهَا للمعية رَاجِح، وللترتيب كثير، ولعكسه قَلِيل) . وَيجوز أَن يكون [بَين] متعاطفيها تفَاوت أَو تراخ، نَحْو: {إِنَّا رادوه إِلَيْك وجاعلوه من الْمُرْسلين} [الْقَصَص: 7] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 تَنْبِيه: التَّعْبِير بِكَوْنِهَا لمُطلق الْجمع هُوَ الصَّحِيح فِي الْعبارَة، وَلَا يَصح التَّعْبِير عَنْهَا بِأَنَّهَا للْجمع الْمُطلق، لِأَنَّهُ لَا يَفِي بالمراد، [وَإِن] / كَانَ قد عبر بذلك ابْن الْحَاجِب، والبيضاوي، وَجمع؛ لِأَن الْمُطلق هُوَ الَّذِي لم يُقيد بِشَيْء، فَيدْخل فِيهِ صُورَة وَاحِدَة وَهُوَ قَوْلنَا مثلا: قَامَ زيد وَعَمْرو، وَلَا يدْخل فِيهِ الْقَيْد بالمعية، وَلَا بالتقديم، وَلَا بِالتَّأْخِيرِ، لخروجها بالتقييد عَن الْإِطْلَاق، وَأما مُطلق الْجمع فَمَعْنَاه: أَي جمع كَانَ، فَحِينَئِذٍ تدخل فِيهِ الصُّور كلهَا. وَقد قَالَ ابْن الْقيم فِي " بَدَائِع الْفَوَائِد ": (الْأَمر الْمُطلق، وَالْجرْح الْمُطلق، وَالْعلم الْمُطلق، وَالتَّرْتِيب الْمُطلق، وَالْبيع الْمُطلق، وَالْمَاء الْمُطلق، وَالْملك الْمُطلق؛ غير مُطلق الْأَمر، وَالْجرْح، وَالْعلم، إِلَى آخرهَا. وَالْفرق بَينهمَا من وُجُوه: أَحدهَا: أَن الْأَمر الْمُطلق لَا يَنْقَسِم إِلَى أَمر إِيجَاب وَندب وَنَحْوهمَا، فَلَا يكون [مورداً للتقسيم] ، وَمُطلق الْأَمر يَنْقَسِم إِلَى أَمر إِيجَاب وَأمر ندب، فمطلق الْأَمر يَنْقَسِم، وَالْأَمر الْمُطلق غير منقسم. الثَّانِي: أَن الْأَمر الْمُطلق فَرد من أَفْرَاد مُطلق الْأَمر، وَلَا ينعكس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 الثَّالِث: أَن نفي مُطلق الْأَمر يسْتَلْزم نفي الْأَمر الْمُطلق، دون الْعَكْس. الرَّابِع: أَن ثُبُوت مُطلق الْأَمر لَا يسْتَلْزم ثُبُوت الْأَمر الْمُطلق، دون الْعَكْس. الْخَامِس: أَن الْأَمر الْمُطلق نوع لمُطلق الْأَمر، وَمُطلق [الْأَمر] جنس [لِلْأَمْرِ] الْمُطلق. السَّادِس: أَن الْأَمر الْمُطلق مُقَيّد بِقَيْد الْإِطْلَاق لفظا، مُجَرّد عَن التَّقْيِيد معنى، وَمُطلق الْأَمر مُجَرّد عَن التَّقْيِيد لفظا، مُسْتَعْمل فِي الْمُقَيد وَغَيره معنى. السَّابِع: أَن الْأَمر الْمُطلق لَا يصلح للمقيد، وَمُطلق الْأَمر يصلح للمطلق والمقيد. الثَّامِن: أَن الْأَمر الْمُطلق هُوَ الْمُقَيد بِقَيْد الْإِطْلَاق، فَهُوَ مُتَضَمّن للإطلاق وَالتَّقْيِيد، وَمُطلق الْأَمر غير مُقَيّد وَإِن كَانَ بعض أَفْرَاده مُقَيّدا. التَّاسِع: أَن من بعض أَمْثِلَة هَذِه الْقَاعِدَة: الْإِيمَان الْمُطلق وَمُطلق الْإِيمَان، فالإيمان الْمُطلق لَا يُطلق إِلَّا على الْكَامِل الْكَمَال / الْمَأْمُور بِهِ، وَمُطلق الْإِيمَان يُطلق على النَّاقِص والكامل وَلِهَذَا نفى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْإِيمَان الْمُطلق عَن الزَّانِي وشارب الْخمر وَالسَّارِق، وَلم ينف عَنهُ مُطلق الْإِيمَان، فَلَا يدْخل فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالله ولي الْمُؤمنِينَ} [آل عمرَان: 68] ، وَلَا فِي قَوْله تَعَالَى: {قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 1] ، وَلَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم} [الْأَنْفَال: 2] ، وَنَحْوهَا، وَيدخل فِي قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} [النِّسَاء: 92] ، وَفِي قَوْله تَعَالَى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] ، وَفِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر " وأمثال ذَلِك. فَلهَذَا كَانَ قَوْله تَعَالَى: {قَالَت الْأَعْرَاب ءامنا قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا} [الحجرات: 14] ، نفيا للْإيمَان الْمُطلق، لَا لمُطلق الْإِيمَان لوُجُوده - وعددها ثمَّ قَالَ -: وَالْمَقْصُود: الْفرق بَين الْإِيمَان الْمُطلق وَمُطلق الْإِيمَان، فالإيمان الْمُطلق يمْنَع دُخُول النَّار، وَمُطلق الْإِيمَان يمْنَع الخلود فِيهَا. الْعَاشِر: أَنَّك إِذا قلت: الْأَمر الْمُطلق، فقد أدخلت اللَّام على الْأَمر، وَهِي تفِيد الْعُمُوم والشمول، ثمَّ وَصفته بعد ذَلِك بِالْإِطْلَاقِ، بِمَعْنى أَن لم يُقيد بِقَيْد يُوجب تَخْصِيصه من شَرط أَو صفة أَو غَيرهمَا، فَهُوَ عَام فِي كل فَرد من الْأَفْرَاد الَّتِي هَذَا شَأْنهَا. وَأما مُطلق الْأَمر فالإضافة فِيهِ لَيست للْعُمُوم، بل للتمييز، فَهُوَ قدر مُشْتَرك، [مُطلق] لَا عَام، فَيصدق بفرد من أَفْرَاده، وعَلى هَذَا [فمطلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 البيع يَنْقَسِم إِلَى: جَائِز وَغَيره، وَالْبيع الْمُطلق للجائز فَقَط] . وَالْأَمر الْمُطلق للْوُجُوب، وَمُطلق الْأَمر يَنْقَسِم إِلَى: وَاجِب، ومندوب، كَمَا تقدم. وَالْمَاء الْمُطلق طهُور، وَمُطلق المَاء يَنْقَسِم إِلَى: طهُور وَغَيره. وَالْملك الْمُطلق هُوَ الَّذِي يثبت للْحرّ، وَمُطلق الْملك يثبت للْحرّ وَالْعَبْد، فَإِذا قيل: العَبْد هَل يملك أَو لَا يملك؟ كَانَ الصَّوَاب إِثْبَات مُطلق الْملك لَهُ دون الْملك الْمُطلق. وَإِذا قيل: الْفَاسِق مُؤمن أَو غير مُؤمن؟ فَهُوَ على هَذَا التَّفْصِيل. وَبِهَذَا / التَّحْقِيق يَزُول الْإِشْكَال فِي مَسْأَلَة: الْمَنْدُوب هَل هُوَ مَأْمُور بِهِ أم لَا؟ وَفِي مَسْأَلَة: الْفَاسِق الملي هَل هُوَ مُؤمن أم لَا؟) انْتهى. وَهِي قَاعِدَة عَظِيمَة، نافعة جدا فِي أَبْوَاب كَثِيرَة، وَإِنَّمَا ذكرتها كلهَا لعظم نَفعهَا. {القَوْل الثَّانِي} : أَو الْوَاو تدل على {الْمَعِيَّة} ، نَقله أَبُو الْمَعَالِي عَن الْحَنَفِيَّة. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": ( {وَكَلَام أَصْحَابنَا يدل [على أَن الْجمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 للمعية] ، [وَذكر] } أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: مَا يدل على أَنه {إِجْمَاع أهل اللُّغَة} ، لإجماعهم أَنَّهَا فِي الْأَسْمَاء الْمُخْتَلفَة ك " وَاو " الْجمع، و " يَاء " التَّثْنِيَة فِي المتماثلة، وَاحْتج بِهِ ابْن عقيل وَغَيره، وَفِيه نظر، لجَوَاز ذَلِك مَعَ كَونهَا للتَّرْتِيب) . القَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا تدل على التَّرْتِيب، وَنَقله ابْن أبي مُوسَى، والحلواني، وَغَيرهمَا، عَن أَحْمد، حَتَّى أَن الْحلْوانِي لم يحك خلافًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 عَن أَصْحَابنَا، إِلَّا أَنه قَالَ: " مُقْتَضى أصولهم أَنَّهَا للْجمع ". وَحكي عَن بعض الشَّافِعِيَّة، وَبَالغ الْمَاوَرْدِيّ فِي الْوضُوء من الْحَاوِي، فنقله عَن الْأَخْفَش، وَجُمْهُور الشَّافِعِيَّة، وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاق فِي " التَّبْصِرَة، وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: (صَار إِلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا) ، وَفِي " الْبُرْهَان ": (هُوَ الَّذِي اشْتهر عَن أَصْحَاب الشَّافِعِي) ، وَجزم بِهِ ابْن سُرَيج، وَقَالَ: " لَا خلاف فِيهِ بَين أهل اللُّغَة) . وَحكي عَن جمع من النُّحَاة، مِنْهُم: ثَعْلَب، وَأَبُو عَمْرو الزَّاهِد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 وَابْن درسْتوَيْه، وَابْن جني [وَابْن برهَان، والربعي] ، وقطرب، وَهِشَام، وَأَبُو جَعْفَر الدينَوَرِي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 وَأنكر ابْن الْأَنْبَارِي الْمُتَأَخر هَذَا النَّقْل عَن جَمِيع هَؤُلَاءِ، وَزعم أَن كتبهمْ تنطق بِخِلَاف ذَلِك. القَوْل الرَّابِع: اخْتَارَهُ أَبُو بكر عبد الْعَزِيز من أَئِمَّة أَصْحَابنَا: إِن كَانَ كل وَاحِد من معطوفاتها مرتبطاً بِالْآخرِ، وتتوقف صِحَّته على صِحَّته فللترتيب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ارْكَعُوا واسجدوا} [الْحَج: 77] ، {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله فَمن حج الْبَيْت أَو اعْتَمر فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن يطوف بهما} [الْبَقَرَة: 158] ، وكآية الْوضُوء، وَإِن لم تتَوَقَّف صِحَة بعض معطوفاتها على بعض لم تدل على التَّرْتِيب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {أقِيمُوا الصَّلَاة وءاتوا الزَّكَاة} ، {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} [الْبَقَرَة: 196] ، وَقد أَوْمَأ أَحْمد / إِلَى هَذَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 القَوْل الْخَامِس: أَنَّهَا للتَّرْتِيب إِن تعذر الْجمع، وَنقل عَن الْفراء. القَوْل السَّادِس: أَنَّهَا للتَّرْتِيب فِي الْمُفْردَات دون الْجمل، حَكَاهُ ابْن الخباز عَن شَيْخه. تَنْبِيه: يَبْنِي الْأَصْحَاب على ذَلِك من الْفِقْه مسَائِل كَثِيرَة يعرفهَا الفطن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 قَوْله: { [وَتَكون] [يَعْنِي الْوَاو] بِمَعْنى: " مَعَ "، و " أَو " [و " رب "، وَالْقسم] ، والاستئناف، وَالْحَال} . للواو معَان أخر غير مَا تقدم. أَحدهَا: أَن تكون بِمَعْنى: " مَعَ "، كَقَوْلِهِم: جَاءَ الْبرد والطيالسة، وَنَحْوه من الْمَفْعُول مَعَه. الثَّانِي: تكون بِمَعْنى: " أَو "، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع} [النِّسَاء: 3] ، {أولي أَجْنِحَة مثنى وَثَلَاث وَربَاع} [فاطر: 1] . الثَّالِث: تكون للقسم؛ بل هِيَ حرف الْقسم، كَقَوْلِه: {وَالْفَجْر وليال عشر وَالشَّفْع وَالْوتر} [الْفجْر: 1 - 3] ، {وَالشَّمْس وَضُحَاهَا} [الشَّمْس: 1] ، فِي آي كَثِيرَة فِي الْقُرْآن، وَفِي كَلَام الْعَرَب. الرَّابِع: تكون لرب كَقَوْل الشَّاعِر: (وبلدة لَيْسَ بهَا أنيس ... ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 وَقَوله: (ونار لَو نفخت بهَا أَضَاءَت ... وَلَكِن أَنْت تنفخ فِي رماد) أَي: وَرب بَلْدَة ونار، لَكِن هَذِه الْوَاو تسمى: وَاو " رب "، فَرُبمَا ظَهرت " رب " مَعهَا، وَرُبمَا أضمرت وَبقيت " الْوَاو ". الْخَامِس: تكون للاستئناف، وَهُوَ كثير. السَّادِس: تكون بِمَعْنى الْحَال، نَحْو: جَاءَ زيد وَالشَّمْس طالعة، جَاءَ زيد وَهُوَ يضْحك. قَوْله: {وَالْفَاء العاطفة للتَّرْتِيب والتعقيب، عِنْد الْأَرْبَعَة [وأتباعهم] وَغَيرهم} من النُّحَاة وَغَيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 وَهِي نَوْعَانِ. أَحدهمَا: يكون ترتيبها معنوياً، كقام زيد فعمرو. وَالثَّانِي: يكون زَكَرِيَّا، وَهُوَ عطف مفصل على مُجمل هُوَ هُوَ فِي الْمَعْنى، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فأزلهما الشَّيْطَان عَنْهَا فأخرجهما مِمَّا كَانَا فِيهِ} [الْبَقَرَة: 36] ، {فتوبوا إِلَى بارئكم فَاقْتُلُوا أَنفسكُم} [الْبَقَرَة: 54] ، {فانتقمنا مِنْهُم فأغرقناهم فِي اليم} [الْأَعْرَاف: 136] ، {فقد سَأَلُوا مُوسَى أكبر من ذَلِك فَقَالُوا أرنا الله جهرة} [النِّسَاء: 153] ، {ونادى نوح ربه فَقَالَ رب إِن ابْني من أَهلِي} [هود: 45] . وَتقول: تَوَضَّأ فَغسل وَجهه ... إِلَى آخِره، وَتقول: قَالَ فَأحْسن، / وخطب فأوجز، وَأعْطى فأجزل، فَهَذَا يبين كَيْفيَّة وُقُوعه. وَالْمَشْهُور أَن معنى التعقيب: كَون الثَّانِي بعد الأول بِغَيْر مهلة، كَأَن الثَّانِي أَخذ بعقب الأول، يَعْنِي: فِي الْجُمْلَة. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: تعقيب كل شَيْء بِحَسبِهِ، فَيُقَال: تزوج فلَان فولد لَهُ، إِذا لم يكن بَينهمَا إِلَّا مُدَّة الْحمل وَإِن طَالَتْ، وَقطع بِهِ ابْن هِشَام فِي " مُغنِي اللبيب ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 وَنقل الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه: الْإِجْمَاع أَنه للتَّرْتِيب والتعقيب، لَكِن قَالَ الْفراء: إِنَّهَا لَا تدل على التَّرْتِيب، بل تسْتَعْمل فِي انتفائه، كَقَوْلِه تَعَالَى {وَكم من قَرْيَة أهلكناها فَجَاءَهَا بأسنا} [الْأَعْرَاف: 4] ، مَعَ أَن مَجِيء الْبَأْس مُتَقَدم على الإهلاك. وَأجِيب: بِأَنَّهَا للتَّرْتِيب الذكري، أَو فِيهِ حذف تَقْدِيره: أردنَا إهلاكها فَجَاءَهَا بأسنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 وَمثله: {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه} [النَّحْل: 98] . وَقَول الْفراء: إِنَّهَا لَا تفِيد التَّرْتِيب، وتفيد " الْوَاو " التَّرْتِيب غَرِيب. وَمِمَّا يدل على أَنَّهَا تَأتي لغير التَّرْتِيب، بل تكون كالواو [قَوْله] : (بَين الدُّخُول فحومل ... ) وَزعم الْأَصْمَعِي: أَن الصَّوَاب رِوَايَته بِالْوَاو، لِأَنَّهُ لَا يجوز جَلَست بَين زيد فعمرو. وَأجِيب: بِأَن التَّقْدِير: بَين مَوَاضِع الدُّخُول فمواضع حومل، كَمَا يجوز: جَلَست بَين الْعلمَاء فالزهاد. وَقَالَ بعض البغداديين: الأَصْل " مَا بَين "، فَحذف " مَا " دون " بَين ". وَقَالَ الْجرْمِي: لَا تدل على التَّرْتِيب إِن دخلت على الْأَمَاكِن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 نَحْو: نزلنَا نجداً فتهامة، وَنزل الْمَطَر نجداً فتهامة، وَإِن كَانَت تهَامَة فِي هَذَا سَابِقَة، وَلم يعلم مِنْهُ تقدم وَلَا تَأَخّر. وَقَالَ ابْن مَالك: تَأتي للتَّرْتِيب بمهلة ك " ثمَّ "، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فَتُصْبِح الأَرْض مخضرة} [الْحَج: 63] . وَقَالَ غَيره: (هَذَا من تَرْتِيب كل شَيْء بِحَسبِهِ) . {و} قَالَ ابْن عقيل {فِي " الْوَاضِح ": لَا تعقيب فِي} قَوْله تَعَالَى: { {كن فَيكون} } . وَهُوَ كَمَا قَالَ. قَالَ ابْن هِشَام: (قيل: تكون الْفَاء للاستئناف، وَمِنْه {كن فَيكون} بِالرَّفْع، أَي: فَهُوَ يكون حِينَئِذٍ. قَالَ: وَالتَّحْقِيق أَنَّهَا للْعَطْف، وَأَن الْمُعْتَمد بالْعَطْف الْجُمْلَة لَا الْفِعْل) . وَيتَفَرَّع على ذَلِك مسَائِل فقهية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 قَوْله: {وَتَأْتِي سَبَبِيَّة، / ورابطة، وَقيل: وزائدة} . تَأتي الْفَاء سَبَبِيَّة، وَذَلِكَ كثير فِي العاطفة جملَة أَو صفة. فَالْأول كَقَوْلِه تَعَالَى: {فوكزه مُوسَى فَقضى عَلَيْهِ} [الْقَصَص: 15] ، {فَتلقى ءادم من ربه كَلِمَات فَتَابَ عَلَيْهِ} [الْبَقَرَة: 37] . وَالثَّانِي: كَقَوْلِه تَعَالَى: {لآكلون من شجر من زقوم فمالئون مِنْهَا الْبُطُون فشاربون عَلَيْهِ من الْحَمِيم} [الْوَاقِعَة: 52 - 54] . وَقد تَجِيء فِي ذَلِك لمُجَرّد التَّرْتِيب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فرَاغ إِلَى أَهله فجَاء بعجل سمين فقربه إِلَيْهِم} [الذاريات: 26 - 27] ، وَقَوله تَعَالَى: {لقد كنت فِي غَفلَة من هَذَا فكشفنا عَنْك غطاءك} [ق: 22] ، وَقَوله تَعَالَى: {فَأَقْبَلت امْرَأَته فِي صرة فصكت وَجههَا} [الذاريات: 29] ، وَقَوله تَعَالَى: {فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا} [الصافات: 2 - 3] . ورد السُّهيْلي ذَلِك إِلَى التعقيب، بل رد كل مَعَانِيهَا إِلَى التعقيب. وَتَأْتِي - أَيْضا " الْفَاء " رابطة للجواب، صَرَّحُوا بذلك، مِنْهُم ابْن الباقلاني، وَقَالَ: (لَا تَقْتَضِي التعقيب) . وَجعلُوا علامتها: حَيْثُ لَا تصلح لِأَن تكون شرطا، وَذَلِكَ فِي سِتّ مسَائِل. إِحْدَاهَا: أَن يكون الْجَواب جملَة اسمية، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِن يمسسك بِخَير فَهُوَ على كل شَيْء قدير} [الْأَنْعَام: 17] ، {إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} [الْمَائِدَة: 118] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 الثَّانِيَة: أَن تكون فعلية [كالاسمية] ، وَهِي الَّتِي يكون فعلهَا جَامِدا، نَحْو: {إِن ترن أَنا أقل مِنْك مَالا وَولدا فَعَسَى رَبِّي إِن يؤتين} [الْكَهْف: 39 40] ، {إِن تبدوا الصَّدقَات فَنعما هِيَ} [الْبَقَرَة: 271] ، {وَمن يكن الشَّيْطَان لَهُ قرينا فسَاء قريناً} [النِّسَاء: 38] ، {وَمن يفعل ذَلِك فَلَيْسَ من الله فِي شَيْء} [آل عمرَان: 28] . الثَّالِثَة: أَن يكون فعلهَا إنْشَاء، نَحْو: {إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني} [آل عمرَان: 31] ، {فَإِن شهدُوا فَلَا تشهد مَعَهم} [الْأَنْعَام: 150] ، {قل أَرَأَيْتُم إِن أصبح ماؤكم غورا فَمن يأتيكم بِمَاء معِين} [الْملك: 30] ، فِيهِ أَمْرَانِ: الاسمية والإنشاء. الرَّابِعَة: أَن يكون فعلهَا مَاضِيا لفظا وَمعنى، إِمَّا حَقِيقَة نَحْو: {إِن يسرق فقد سرق أَخ لَهُ من قبل} [يُوسُف: 77] ، {إِن كَانَ قَمِيصه قد من قبل فصدقت} الْآيَة [يُوسُف: 26] ، وَإِمَّا مجَازًا نَحْو: {وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فكبت وُجُوههم فِي النَّار} [النَّمْل: 90] ، نزل هَذَا الْفِعْل لتحَقّق / وُقُوعه منزلَة مَا وَقع. الْخَامِسَة: أَن تقترن بِحرف اسْتِقْبَال، نَحْو: {من يرْتَد مِنْكُم عَن دينه فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم} [الْمَائِدَة: 54] ، {وَمَا تَفعلُوا من خير فَلَنْ تكفروه} . . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 [آل عمرَان: 115] . السَّادِسَة: أَن تقترن بِحرف لَهُ الصَّدْر، كَقَوْلِه: (فَإِن أهلك خذي لَهب لظاه ... عَليّ يكَاد يلتهب التهابا) لما عرف من أَن رب مقدرَة، وَأَن لَهَا الصَّدْر. وَأما إتيانها زَائِدَة، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ. فَذهب سِيبَوَيْهٍ وَمن تبعه: أَنَّهَا لَا تكون زَائِدَة. وَأَجَازَهُ الْأَخْفَش فِي الْخَبَر مُطلقًا، وَحكى: (أَخُوك فَوجدَ) ، وَقيد الْفراء، والأعلم، وَجَمَاعَة، الْجَوَاز بِكَوْن الْخَبَر أمرا ونهياً، فَالْأَمْر كَقَوْلِه: (وقائلة خولان فانكح فَتَاتهمْ ... ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 وَحمل الزّجاج عَلَيْهِ {هَذَا فليذوقوه} . وَالنَّهْي نَحْو: فَلَا تضربه. وَقَالَ ابْن برهَان: (تزاد الْفَاء عِنْد أَصْحَابنَا يَعْنِي الْبَصرِيين جَمِيعًا، كَقَوْلِه: (وَإِذا هَلَكت فَعِنْدَ ذَلِك فاجزعي ... ) انْتهى. وَتَأَول المانعون قَوْله: فانكح فَتَاتهمْ، على أَن التَّقْدِير: هَذِه خولان، وأولو الْبَاقِي، وَمن أَرَادَ تفاصيل ذَلِك فَعَلَيهِ ب " الْمُغنِي " لِابْنِ هِشَام. قَوْله: {و " ثمَّ " للتشريك فِي الْأَصَح، وللترتيب بِمُهْملَة عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، وَقيل: كالواو، وَفِي " التَّمْهِيد ": تَأتي كالواو، وَقيل: كالفاء} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 اعْلَم أَن " ثمَّ " حرف عطف للتشريك بَين مَا قبلهَا وَمَا بعْدهَا فِي الحكم، وَخَالف الكوفييون فجوزوا أَن تقع زَائِدَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وظنوا أَن لَا ملْجأ من الله إِلَّا إِلَيْهِ ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم} [التَّوْبَة: 118] ، فَلَيْسَتْ عاطفة هُنَا الْبَتَّةَ حَتَّى يكون فِيهَا تشريك. قَوْله: (وللترتيب) . هَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر، وَقَطعُوا بِهِ، وَخَالف فِيهِ الْعَبَّادِيّ. قَالَ الزَّرْكَشِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": (إِنَّمَا قَالَه الْعَبَّادِيّ فِي بعض التراكيب، ورد غَيره) . وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (الْمُخَالف فِي التَّرْتِيب الْفراء، فِيمَا حَكَاهُ السيرافي، وَعَزاهُ غَيره للأخفش، محتجاً بقوله تَعَالَى: {خَلقكُم من نفس وَاحِدَة ثمَّ جعل مِنْهَا زَوجهَا} [الزمر: 6] ، وَمَعْلُوم أَن هَذَا الْجعل كَانَ قبل خلقنَا، وتأوله الْجُمْهُور على التَّرْتِيب الإخباري. وفيهَا مَذْهَب ثَالِث: أَن التَّرْتِيب فِي الْمُفْردَات دون الْجمل، كَقَوْلِه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 تَعَالَى: {فإلينا مرجعهم ثمَّ الله شَهِيد على مَا يَفْعَلُونَ} [يُونُس: 46] ، إِذْ شَهَادَة الله مُتَقَدّمَة على الْمرجع، قَالَه ابْن [الدهان] ، وَجرى عَلَيْهِ ابْن السَّمْعَانِيّ فِي " القواطع ". وَالصَّحِيح هُوَ الأول مُطلقًا، لكنه فِي الْمُفْردَات معنوي، وَفِي الْجمل ذكري، نَحْو: (إِن من سَاد ثمَّ سَاد أَبوهُ ... ثمَّ [قد] سَاد قبل ذَلِك جده) فَهُوَ تَرْتِيب فِي الْإِخْبَار، لَا فِي الْوُجُود) . قَوْله: (بمهلة) . أَي: بتراخ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْجُمْهُور، وَقَطعُوا بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 وَخَالف الْفراء أَيْضا -، فَقَالَ: قد يتَخَلَّف بِدَلِيل: أعجبني مَا صَنعته الْيَوْم ثمَّ مَا صنعت أمس أعجب، " ثمَّ " فِي ذَلِك كُله لترتيب الْإِخْبَار، وَلَا تراخي فِي الإخبارين. وَوَافَقَهُ على ذَلِك ابْن مَالك، فَقَالَ: (قد تقع " ثمَّ " فِي عطف الْمُتَقَدّم بِالزَّمَانِ، اكْتِفَاء بترتيب اللَّفْظ) ، وَجعل مِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب تَمامًا} [الْأَنْعَام: 154] . قَالَ الرَّاغِب: والعبارة الجامعة أَن يُقَال فِي " ثمَّ ": (إِنَّهَا حرف عطف يَقْتَضِي تَأَخّر مَا بعده عَمَّا قبله، إِمَّا تأخراً بِالذَّاتِ، أَو بالمرتبة، أَو بِالْوَضْعِ) . وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (وَآيَة " الْحَج " [و " الْمُؤْمِنُونَ "] فِي النُّطْفَة والعلقة، قيل: " الْفَاء " لآخر النُّطْفَة وَأول الْعلقَة، و " ثمَّ " لأولهما، وَقيل: يتعاقبان، وَقيل: قد يستقرب لعظم الْأَمر فَيُؤتى ب " الْفَاء "، وَقد يستبعد لطول الزَّمَان فيوتى ب " ثمَّ "، وَأما {ثمَّ الله شَهِيد} [يُونُس " 46] {ثمَّ كَانَ من الَّذين آمنُوا} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 فَقيل: لترتيب الْأَخْبَار بَعْضهَا على بعض، نَحْو: زيد عَالم ثمَّ كريم، لَا الْمخبر عَنهُ، وَقيل: بِمَعْنى الْوَاو) . وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد ": تَأتي " ثمَّ " كالواو. قَوْله: {و " حَتَّى " العاطفة للغاية} . كَقَوْلِه تَعَالَى: {حَتَّى مطلع الْفجْر} [الْقدر: 5] ، فَلَا يكون الْمَعْطُوف بهَا إِلَّا غَايَة لما قبلهَا من زِيَادَة أَو نقص، نَحْو: مَاتَ النَّاس حَتَّى الْأَنْبِيَاء، وَقدم الْحَاج حَتَّى المشاة. قَوْله: {لَا تَرْتِيب فِيهَا، وَقيل: ك " الْفَاء "، وَقيل: ك " ثمَّ "، وَقيل " بَينهمَا} . " حَتَّى " العاطفة لَا تَرْتِيب [فِيهَا] . قَالَ ابْن مَالك فِي " شرح الْعُمْدَة " تبعا لطائفة: (هِيَ الْوَاو) ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 - وَأنكر على الْقَائِل بِأَنَّهَا للتَّرْتِيب -، (فَإنَّك تَقول: / حفظت الْقُرْآن حَتَّى سُورَة الْبَقَرَة، وَإِن كَانَت أول مَا حفظت، أَو متوسطاً) . وَقيل: هِيَ كالفاء، اخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، فَإِنَّهُ قَالَ فِي ذَلِك: (مثل الْفَاء) . وَقيل: ك " ثمَّ "، قَالَه طَائِفَة مِنْهُم: الصفي الْهِنْدِيّ، قطع بِهِ، وَمِنْهُم: الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ". وَقيل: بَينهمَا، قَالَ القواس: (تفِيد المهلة، إِلَّا أَن المهلة فِيهَا أقل من " ثمَّ ") . قَالَ ابْن إياز: (لَيْسَ ترتيبها ك " الْفَاء " و " ثمَّ "، فَإِنَّهُمَا يرتبان أحد الْفِعْلَيْنِ على الآخر فِي الْوُجُود، وَهِي ترَتّب تَرْتِيب الْغَايَة، وَيشْتَرط أَن يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 مَا بعْدهَا من جنس مَا قبلهَا، وَلَا يحصل ذَلِك إِلَّا بِذكر الْكل قبل الْجُزْء) . قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: (هِيَ للتَّرْتِيب) . قَوْله: {وَيشْتَرط كَون معطوفها جُزْءا من متبوعه} . نَحْو: قدم الْحجَّاج حَتَّى المشاة. {أَو كجزئه} . كَقَوْلِك: أعجبتني الْجَارِيَة حَتَّى حَدِيثهَا، فَإِن حَدِيثهَا لَيْسَ بَعْضًا، وَلكنه كالبعض، لِأَنَّهُ معنى من مَعَانِيهَا. وَقد يكوم الْمَعْطُوف ب " حَتَّى " مبايناً، فتقدر بعضيته، كَقَوْلِه: (ألْقى الصَّحِيفَة كي يُخَفف رَحْله ... والزاد حَتَّى نَعله أَلْقَاهَا) فعطف النَّعْل، وَلَيْسَت بَعْضًا لما قبلهَا صَرِيحَة، لَكِنَّهَا بالتأويل؛ لِأَن الْمَعْنى: ألْقى مَا يثقله حَتَّى نَعله. قَوْله: {وَتَأْتِي [للتَّعْلِيل] } . كَقَوْلِه: كَلمته حَتَّى يَأْمر لي بِشَيْء، وعلامتها: أَن يصلح موضعهَا " كي " / وَمِنْه أسلم حَتَّى يدْخل الْجنَّة. قَوْله: {وَقل [لاستثناء مُنْقَطع] } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 إتيانها للاستثناء الْمُنْقَطع نَادِر، ذكره ابْن مَالك فِي " التسهيل "، وَهُوَ مُرَاد من أطلق الِاسْتِثْنَاء، أَي: الْمُنْقَطع، كَقَوْلِه: (لَيْسَ الْعَطاء من الفضول سماحة ... حَتَّى تجود وَمَا لديك قَلِيل) قَالَ ابْن هِشَام فِي " الْمُغنِي ": (" حَتَّى " تَأتي لأحد ثَلَاثَة معَان: انْتِهَاء الْغَايَة، وَهُوَ الْغَالِب، وَالتَّعْلِيل، وَبِمَعْنى " إِلَّا " فِي الِاسْتِثْنَاء، وَهُوَ أقلهَا. وتستعمل على ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن تكون حرف جر، بِمَنْزِلَة " إِلَى " فِي الْمَعْنى وَالْعَمَل، لَكِن تخَالفه فِي ثَلَاثَة أُمُور وَذكرهَا -. الثَّانِي: أَن تكون عاطفة بِمَنْزِلَة " الْوَاو "، إِلَّا أَن بَينهمَا فرقا من ثَلَاثَة أوجه وَذكرهَا -. الثَّالِث: أَن تكون حرف ابْتِدَاء، أَي: حرف تبتدأ بعده الْجمل، أَي: تسْتَأْنف الْجمل، سَوَاء كَانَت اسمية أَو فعلية) انْتهى. وحرر أَحْكَامهَا. قَوْله: {و " من " لابتداء الْغَايَة} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 هَذَا غَالب مَعَانِيهَا، فَفِي الْمَكَان اتِّفَاقًا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا من الْمَسْجِد الْحَرَام} [الْإِسْرَاء: 1] ، وَفِي الزَّمَان عِنْد الْكُوفِيّين، والمبرد، وَابْن درسْتوَيْه، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لمَسْجِد أسس على التَّقْوَى من أول يَوْم} [التَّوْبَة: 108] ، {وَمن اللَّيْل فتجهد بِهِ} [الْإِسْرَاء: 79] ، و {لله الْأَمر من قبل وَمن بعد} [الرّوم: 4] . وَصَححهُ ابْن مَالك، وَأَبُو حَيَّان، لِكَثْرَة شواهده. وَقد رد بَعضهم سَائِر مَعَانِيهَا إِلَى ابْتِدَاء الْغَايَة، فَإِذا قلت: أخذت من الدَّرَاهِم، فقد جعلت الدَّرَاهِم ابْتِدَاء غَايَة الْأَخْذ. قَوْله: {حَقِيقَة} . يَعْنِي أَن " من " لابتداء الْغَايَة حَقِيقَة، وَفِي غَيره من الْمعَانِي مجَاز، { [عِنْد] أَصْحَابنَا وَأكْثر النُّحَاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 وَقيل: [حَقِيقَة] فِي التَّبْعِيض} ، مجَاز فِي غَيره، { [وَقَالَهُ] ابْن عقيل} فِي مَسْأَلَة الْوَاو. {وَقيل} : حَقِيقَة {فِي التَّبْيِين} ، مجَاز فِي غَيره / اخْتَارَهُ الطوفي، وَالْمرَاد: بَيَان الْجِنْس. قَوْله: {وَلها معَان} . كَثِيرَة لَا بَأْس بذكرها تكميلاً للفائدة. أَحدهَا: لابتداء الْغَايَة، مَكَانا، أَو زَمَانا، على خلاف تقدم، وعلامتها: أَن يذكر بعْدهَا " إِلَى " فيستقيم الْكَلَام، نَحْو: سرت من الْبَصْرَة، فَإِنَّهُ يَصح أَن تَقول: إِلَى الْكُوفَة، وَقد يحذف انْتِهَاء الْغَايَة بعْدهَا للْعلم بِهِ، وَقد لَا يقْصد فِيهِ انْتِهَاء الْغَايَة أصلا، نَحْو: أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم، وَزيد أفضل من عَمْرو. وَالثَّانِي: التَّبْعِيض، وعلامتها: صِحَة وضع " بعض " فِي محلهَا، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {مِنْهُم من كلم الله} [الْبَقَرَة: 253] . فَائِدَة: الْبَعْض؛ هَل يصدق على النّصْف، أَو مَا دونه؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 فِيهِ قَولَانِ لأهل اللُّغَة، قِيَاس ذَلِك: يجْرِي فِي الْبَعْض الْمُسْتَفَاد من " من "، الْقَوْلَانِ. قَالَه الْبرمَاوِيّ. وَيشْهد للثَّانِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْهُم الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرهم الْفَاسِقُونَ} [آل عمرَان: 110] ، وَفِي " النِّهَايَة " فِي / الْوكَالَة: (لَو قَالَ: بِعْ من عَبِيدِي من شِئْت، فَلَيْسَ للْوَكِيل أَن يَبِيع جَمِيعهم، بل لَهُ أَن يبيعهم إِلَّا وَاحِدًا بِاتِّفَاق الْأَصْحَاب، وَإِن كَانَ التَّبْعِيض فِي النّظم الْمَعْرُوف إِنَّمَا يُورد على النّصْف فَمَا دونه) انْتهى. قلت: استدلاله واستشهاده بِالْآيَةِ لَا يُنَافِي أَنه يصدق على النّصْف، وَأَيْضًا فقد قَالَ ابْن أم قَاسم الْمرَادِي، فِي " شرح الألفية "، فِي بَاب الْبَدَل: (إِن الْبَعْض عِنْد الْبَصرِيين يَقع على الشَّيْء وعَلى نصفه وعَلى أَقَله، وَعَن الْكسَائي وَهِشَام: أَن بعض الشَّيْء لَا يَقع إِلَّا على مَا دون النّصْف، وَلذَلِك منعا أَن يُقَال: بعض الرجلَيْن لَك، أَي: أَحدهمَا) انْتهى. فَخَالف نقل الْبرمَاوِيّ، وَهُوَ الأولى، وَالْقَوْل الأول مُوَافق لكَلَام الْفُقَهَاء. الثَّالِث: التَّبْيِين، أَي: بَيَان الْجِنْس، وعلامتها: أَن يَصح وضع " الَّذِي " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 مَوضِع " من "، نَحْو: {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان} [الْحَج: 30] ، أَي: الَّذِي هُوَ الْأَوْثَان، وَمثله: قَوْله تَعَالَى: {يحلونَ فِيهَا من أساور من ذهب وَيلبسُونَ ثيابًا خضرًا من سندس} [الْكَهْف: 31] . الرَّابِع: التَّعْلِيل، نَحْو: {يجْعَلُونَ أَصَابِعهم فِي آذانهم من الصَّوَاعِق} [الْبَقَرَة: 19] . الْخَامِس: الْبَدَل، نَحْو: {أرضيتم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا من الْآخِرَة} [التَّوْبَة: 38] ، {وَلَو [نشَاء] لجعلنا مِنْكُم مَلَائِكَة} [الزخرف: 60] ، أَي: بدلكم. السَّادِس: الْغَايَة إِلَى انْتِهَاء الْغَايَة، مثل: " إِلَى "، فَتكون لابتداء الْغَايَة من الْفَاعِل، ولانتهاء غَايَة الْفِعْل من الْمَفْعُول، نَحْو: رَأَيْت الْهلَال من دَاري من خلل السَّحَاب، أَي: من مَكَاني إِلَى خلل السَّحَاب، فابتداء الرُّؤْيَة وَقع من الدَّار، وانتهاؤها فِي خلل السَّحَاب. ذكر ابْن مَالك أَن سِيبَوَيْهٍ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنى، وَأنْكرهُ جمَاعَة، [وَقَالُوا] : هِيَ لابتداء الْغَايَة لَكِن فِي حق الْمَفْعُول. وَمِنْهُم من جعلهَا فِي هَذَا الْمِثَال لابتداء الْغَايَة فِي حق الْفَاعِل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 بِتَقْدِير: رَأَيْت الْهلَال من دَاري ظَاهرا من خلل السَّحَاب، وَيحْتَمل أَن ترَاد الْغَايَة كلهَا ابْتِدَاء / وانتهاء، حُكيَ عَن قوم فِيمَا إِذا دخلت " من " على فعل لَيْسَ لَهُ امتداد فَيكون الْمُبْتَدَأ والمنتهى وَاحِدًا. السَّابِع: تنصيص الْعُمُوم، وَهِي الدَّاخِلَة على نكرَة لَا تخْتَص بِالنَّفْيِ، نَحْو: مَا جَاءَنِي من رجل، فَإِنَّهُ كَانَ قبل دُخُولهَا مُحْتملا لنفي الْجِنْس، ولنفي الْوحدَة، وَلِهَذَا يَصح أَن تَقول: بل رجلَانِ، وَيمْتَنع ذَلِك بعد دُخُول " من "، وَيَأْتِي محرراً فِي صِيغ الْعُمُوم، أما الْوَاقِعَة بعد " مَا " فَلَا تسْتَعْمل إِلَّا فِي النَّفْي والتأكيد نَحْو: مَا جَاءَنِي من أحد، وَزعم الْكُوفِيُّونَ أَنَّهَا تزاد فِي الْإِثْبَات نَحْو: {يغْفر لكم من ذنوبكم} [الْأَحْقَاف: 31، ونوح: 4] بِدَلِيل: {إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا} [الزمر: 53] . وَأجِيب: بِأَن " من " للتَّبْعِيض، لِأَن من الذُّنُوب حُقُوق الْعباد، وَالله تَعَالَى لَا يغفرها، بل يستوهبها إِذا شَاءَ. وَقَوله: {يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا} إِنَّمَا هُوَ فِي هَذِه [الْأمة] ، وَقَوله فِي الْآيَة الْأُخْرَى: {من ذنوبكم} هُوَ فِي قوم نوح، فَلم يتواردا على مَحل، وَلَو سلم أَيْضا أَنَّهَا فِي هَذِه الْأمة، فَلَا يبعد أَن يغْفر بعض الذُّنُوب لقوم وجميعها لآخرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 الثَّامِن: الْفَصْل كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَالله يعلم الْمُفْسد من المصلح} [الْبَقَرَة: 220] ، وتعرف بِدُخُولِهَا على ثَانِي المتضادين. التَّاسِع: مجيئها بِمَعْنى " الْبَاء " كَقَوْلِه تَعَالَى: {ينظرُونَ من طرف خَفِي} [الشورى: 45] ، قَالَ يُونُس: أَي: بِطرف، وَيحْتَمل أَنه من ابْتِدَاء الْغَايَة. الْعَاشِر: بِمَعْنى " فِي " كَقَوْلِه تَعَالَى: {أروني مَاذَا خلقُوا من الأَرْض} [فاطر: 40، والأحقاف: 4] ، أَي: فِي الأَرْض، كَذَا مثلت، وَالظَّاهِر أَنَّهَا على بَابهَا، لصِحَّة الْمَعْنى بذلك، وَالْأَحْسَن أَن يمثل بِمَا جَاءَ عَن الشَّافِعِي فِي قَوْله: {فَإِن كَانَ من قوم عَدو لكم} أَنَّهَا بِمَعْنى " فِي " بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ مُؤمن} . الْحَادِي عشر: بِمَعْنى " عِنْد " كَقَوْلِه تَعَالَى: {لن تغني عَنْهُم أَمْوَالهم وَلَا أَوْلَادهم من الله شَيْئا} [آل عمرَان: 10] ، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة، وَمثله: " وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 الثَّانِي عشر: بِمَعْنى " على "، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ونصرناه من الْقَوْم الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُم كَانُوا قوم سوء فأغرقناهم أَجْمَعِينَ} [الْأَنْبِيَاء: 77] ، وَقيل: بل هُوَ على التَّضْمِين / أَي: منعناه، وَهُوَ أولى من التَّجَوُّز فِي الْحُرُوف، كَمَا سبق ذكر الْخلاف فِيهِ. الثَّالِث عشر: بِمَعْنى " عَن "، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فويل للقاسية قُلُوبهم من ذكر الله} [الزمر: 22] ، أَي: عَن ذكر الله. قَوْله: {و " إِلَى " لانْتِهَاء الْغَايَة} . عِنْد الْفُقَهَاء والنحاة وَغَيرهم. { [قَالَ] أَبُو الْخطاب} فِي " التَّمْهِيد "، {وَابْن عقيل} فِي " الْوَاضِح ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 {والموفق} فِي " الْكَافِي "، وَغَيرهم، {والكوفيون وَغَيرهم} : {و} تَأتي {بِمَعْنى " مَعَ "} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {من أَنْصَارِي إِلَى الله} [آل عمرَان: 52، والصف: 14] ، أَي: مَعَ الله، وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهم إِلَى أَمْوَالكُم} [النِّسَاء: 2] ، أَي: مَعَ أَمْوَالكُم، تَقول الْعَرَب: الذود إِلَى الذود إبل، أَي: مَعَ الذود. ورده الشَّيْخ تَقِيّ الدّين. قَالَ الْحسن وَأَبُو عُبَيْدَة: " إِلَى " فِي قَوْله تَعَالَى: {من أنصارى إِلَى الله} [آل عمرَان: 52، والصف: 14] بِمَعْنى " فِي "، أَي: من أعواني فِي الله، أَي: فِي ذَات الله وسبيله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 وَقيل: " إِلَى " فِي مَوْضِعه، مَعْنَاهُ: من يضم نصرته إِلَى نصْرَة الله. قَوْله: {وَابْتِدَاء الْغَايَة دَاخل عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} . وَهُوَ الصَّحِيح فِي الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْأَصْحَاب. وَلنَا قَول لَا يدْخل، ذكره الْأَصْحَاب فِي الْإِقْرَار، مثل: أَن يَقُول: لَهُ عِنْدِي من دِرْهَم إِلَى عشرَة، فلنا قَول: أَنه يلْزمه ثَمَانِيَة لَا غير، لعدم دُخُول ابْتِدَاء الْغَايَة وانتهائها، وَجزم بِهِ ابْن شهَاب من أَصْحَابنَا وكما لَو قَالَ: من هَذَا الْحَائِط إِلَى هَذَا الْحَائِط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 وَأجَاب القَاضِي عَن مَسْأَلَة الْحَائِط: أَن ذكرهمَا فِي الْإِقْرَار على جِهَة التَّحْدِيد: وَالْحَد لَا يدْخل فِي الْمَحْدُود، أَلا ترى لَو قَالَ فِي الْمَبِيع: حَده الأول إِلَى الطَّرِيق، لم يدْخل الطَّرِيق فِي الْحَد. قَوْله: {لَا انتهاؤها فِي الْأَصَح} . يَعْنِي: أَن انْتِهَاء الْغَايَة لَا يدْخل على الْأَصَح { [من مَذْهَبنَا وَمذهب الْمَالِكِيَّة] وَالشَّافِعِيَّة} وَغَيرهم، فَلَو قَالَ: لَهُ من دِرْهَم إِلَى عشرَة، لزمَه تِسْعَة، على الصَّحِيح، وعَلى القَوْل الآخر، يلْزمه عشرَة، وعَلى القَوْل الْمَاضِي بِأَن ابْتِدَاء الْغَايَة وانتهاءها لَا يدْخل، يلْزمه ثَمَانِيَة، كَمَا تقدم. القَوْل الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَة: أَن الْغَايَة المحصورة تدخل، وَعَن أَحْمد مَا يدل عَلَيْهِ، وَهَذَا القَوْل يحْتَمل أَن يكون الْمُقَابل للأصح / فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي ذكرنَا فِي الْمَتْن، وَيحْتَمل أَن يكون القَوْل بِعَدَمِ الدُّخُول مُطلقًا، / وَهُوَ الظَّاهِر. فعلى هَذَا يكون هَذَا القَوْل الثَّانِي الْمُقَيد للمسألة زَائِدا على مَا فِي الْمَتْن من الْأَقْوَال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 {و} القَوْل الثَّالِث: {إِن كَانَت الْغَايَة من جنس الْمَحْدُود، كالمرافق} فِي آيَة الْوضُوء، {دخلت، وَإِلَّا فَلَا} ، كَقَوْلِه: {ثن أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} [الْبَقَرَة: 187] ، وَكَذَا: إِلَى الْغَد، اخْتَارَهُ أَبُو بكر عبد الْعَزِيز من كبار أَصْحَابنَا، { [وَحَكَاهُ القَاضِي] عَن أهل اللُّغَة} . {و} القَوْل الرَّابِع: {إِن قَامَت الْغَايَة بِنَفسِهَا لم تدخل} فِي الحكم، {كبعتك من هُنَا إِلَى هُنَا، وَإِن تنَاوله صدر الْكَلَام، فالغاية لإِخْرَاج مَا وَرَاءه، كالمرافق والغاية فِي الْخِيَار، [قَالَه الحنيفة] ، وَمنع أَبُو حنيفَة دُخُول الْعَاشِر، فِي [إِقْرَاره] : من دِرْهَم إِلَى عشرَة} ، لعدم التَّنَاوُل، { [وَعند صَاحِبيهِ يدْخل] } ، لعدم الْقيام بِنَفسِهِ، وَكَذَا فِي الطَّلَاق عِنْدهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 وَالْقَوْل الْخَامِس وَرجحه الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " و " الْمُنْتَخب " -: (إِن كَانَ مُنْفَصِلا عَمَّا قبله بمنفصل مَعْلُوم بالحس كَقَوْلِه تَعَالَى: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} [الْبَقَرَة: 187] فَلَا يدْخل، وَإِلَّا دخل كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} [الْمَائِدَة: 6] ، فَوَجَبَ الحكم بِالدُّخُولِ) . القَوْل السَّادِس وَهُوَ مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ، قَالَه فِي [الْبُرْهَان]-: أَنَّهَا إِن اقترنت ب " من " لم تدخل، وَإِلَّا احْتمل الْأَمريْنِ. القَوْل السَّابِع اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ -: أَنَّهَا لَا تدل على شَيْء. وَلم يصحح ابْن الْحَاجِب شَيْئا، وَتَأْتِي هَذِه الْأَقْوَال فِي التَّخْصِيص بغاية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 قَوْله: { [على] للاستعلاء} . هَذَا أشهر مَعَانِيهَا، سَوَاء كَانَ ذاتياً، نَحْو: {واستوت على الجودي} [هود: 44] ، و {كل من عَلَيْهَا فان} [الرَّحْمَن: 26] ، أَو معنوياً كَقَوْلِه تَعَالَى: {وكتبنا عَلَيْهِم} [الْمَائِدَة: 45] ، {ولعلا بَعضهم} . قَوْله: {وَهِي للْإِيجَاب عِنْد الْأَصْحَاب وَغَيرهم} . قَالَ القَاضِي فِي " الْعدة "، وَأَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد، و " الْهِدَايَة " فِي بَاب الْعَقِيقَة: (على للْإِيجَاب) . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (وَهِي للْإِيجَاب) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 وَقَالَ فِي " الْفُرُوع "، فِي بَاب إِخْرَاج الزَّكَاة: (و " على " ظَاهِرَة فِي الْوُجُوب، وأوجبه الظَّاهِرِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَقد ذكره صَاحب " الْمُحَرر " فِي قَوْله: وعَلى الْغَاسِل ستر مَا رَآهُ) . قَوْله: {وَلها معَان} . لَا بَأْس بذكرها تكميلاً للفائدة: أَحدهَا: أَنَّهَا للاستعلاء، وَهِي أشهر مَعَانِيهَا كَمَا تقدم، حسياً كَانَ أَو معنوياً. فَائِدَة: قَوْله تَعَالَى: {وتوكل على الله} [النِّسَاء: 81، والأنفال: 61، والأحزاب: 3، 48] ، لَا استعلاء فِيهِ، لَا حَقِيقَة، وَلَا مجَازًا، وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنى الْإِضَافَة، أَي: أضفت توكلي إِلَى الله. قَالَ أَبُو حَيَّان فِي " النَّهر " فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمرَان: 159] ، (إِذا عقدت قَلْبك على أَمر بعد الاستشارة فَاجْعَلْ تفويضك فِيهِ إِلَى الله) . الْمَعْنى الثَّانِي من مَعَاني " على ": المصاحبة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {واتى المَال على حبه} [الْبَقَرَة: 177] . الثَّالِث: الْمُجَاوزَة، بِمَعْنى " عَن "، كَقَوْل الشَّاعِر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 (إِذا رضيت عَليّ بَنو قُشَيْر ... لعمر الله أعجبني رِضَاهَا) أَي رضيت عني. الرَّابِع: التَّعْلِيل، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ولتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ} [الْبَقَرَة: 185] ، أَي: لهدايتكم. الْخَامِس: الظَّرْفِيَّة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَاتبعُوا مَا تتلوا الشَّيَاطِين على ملك سُلَيْمَان} [الْبَقَرَة: 102] . السَّادِس: الِاسْتِدْرَاك، كَقَوْلِك: فلَان لَا يدْخل الْجنَّة لسوء صَنِيعه، على أَنه لَا ييأس من رَحْمَة الله، أَي: لَكِن لَا ييأس. السَّابِع: الزِّيَادَة، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من حلف على يَمِين "، أَي: يَمِينا. وَأنكر سِيبَوَيْهٍ وُقُوع زيادتها. فَائِدَة: اخْتلف فِي " على "، هَل تكون اسْما أم لَا؟ على مَذَاهِب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 [أَحدهَا] : أَنَّهَا اسْم دَائِما، [قَالَه] ابْن طَاهِر، وَابْن خروف، وَابْن الطراوة، والشلوبين، والآمدي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 وَحكي عَن سِيبَوَيْهٍ. وَالْمذهب الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تكون اسْما إِلَّا إِذا دخل عَلَيْهَا حرف جر، كَقَوْل الشَّاعِر: (غَدَتْ من عَلَيْهِ بعد مَا تمّ ظمؤها ... ) وَهُوَ الْمَشْهُور عِنْد الْبَصرِيين. قلت: وَفِي " صَحِيح مُسلم " دُخُول " من " على " على ". وَالْمذهب الثَّالِث: - وَبِه قَالَ الْأَخْفَش أَنَّهَا تكون اسْما فِي مَوضِع آخر، وَهُوَ: أَن يكون مجرورها وفاعل متعلقها ضميرين لمسمى وَاحِد، كَقَوْلِه تَعَالَى: {أمسك عَلَيْك زَوجك} [الْأَحْزَاب: 37] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 وَالْمذهب الرَّابِع: - وَبِه قَالَ السيرافي أَنَّهَا لَا تكون اسْما أبدا، عكس الْمَذْهَب الأول، وَلَو دخل عَلَيْهَا حرف جر، بل يقدر لذَلِك الْحَرْف مجرور مَحْذُوف. فَائِدَة أُخْرَى: تكون " على " فعلا، فَتَقول: علا يَعْلُو علوا، قَالَ الله تَعَالَى: {ولعلا بَعضهم على بعض} [الْمُؤْمِنُونَ: 91] ، الأولى: فعل مَاض، وَالثَّانيَِة: حرف جر. قَوْله: {و " فِي " [للظرف] } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 ل " فِي " معَان: أَحدهَا: أَن تكون ظرفا، زَمَانا، ومكاناً، مثالهما قَوْله تَعَالَى: {الم غلبت الرّوم فِي أدنى الأَرْض وهم من بعد غلبهم سيغلبون فِي بضع سِنِين} [الرّوم: 1 - 4] فَالْأولى: للمكان، وَالثَّانيَِة: للزمان. وَقد يكون مجَازًا، كَقَوْلِك: نظر زيد فِي الْكتاب، لِأَنَّهُ قد صَار وعَاء لنظره. وَيَأْتِي الظّرْف ومظروفه جسمين، كَقَوْلِك: زيد فِي الدَّار، ومعنيين، كَقَوْلِك: الْبركَة فِي القناعة، والظرف جسماً والمظروف معنى، كَقَوْلِك: الْإِيمَان فِي الْقلب، وَعَكسه، كَقَوْلِه تَعَالَى: {بل الَّذين كفرُوا فِي تَكْذِيب} [البروج: 19] . قَوْله: {قَالَ [أَبُو الْبَقَاء] حَتَّى فِي: {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} [طه: 71] كأكثر الْبَصرِيين} . اخْتلفُوا فِي معنى " فِي " فِي قَوْله تَعَالَى: {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} . فَذهب أَكثر الْبَصرِيين وَغَيرهم إِلَى أَنَّهَا للظروف على بَابهَا. وَجعلهَا الزَّمَخْشَرِيّ والبيضاوي للظرف مجَازًا، كَانَ الْجذع ظرفا للمصلوب، لما تمكن عَلَيْهِ تمكن المظروف من الظّرْف. قَالَ أَبُو حَيَّان فِي " النَّهر ": (وَلما كَانَ الْجذع مقرا للمصلوب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 واشتمل عَلَيْهِ اشْتِمَال الظّرْف على المظروف، [عدي] الْفِعْل ب " فِي " الَّتِي للوعاء. قَالَ أَبُو الْبَقَاء من أَصْحَابنَا -: ( {فِي جُذُوع النّخل} ، " فِي " هُنَا على بَابهَا، لِأَن الْجذع مَكَان المصلوب ومحتو عَلَيْهِ. وَقيل: هِيَ بِمَعْنى " على ".) انْتهى. {و} قَالَ {أَكثر الْأَصْحَاب} : هِيَ {بِمَعْنى " على "، [كَقَوْل الْكُوفِيّين] } ، وَابْن مَالك، كَقَوْلِه تَعَالَى: {أم لَهُم سلم يَسْتَمِعُون فِيهِ} [الطّور: 38] ، أَي: عَلَيْهِ، وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {قل سِيرُوا فِي الأَرْض} [الْأَنْعَام: 11، وَالروم: 42] ، أَي: عَلَيْهَا، وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {ءأمنتم من فِي السَّمَاء} [الْملك: 16] ، أَي: على السَّمَاء. قَوْله: {فتأتي [لاستعلاء] } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 اعْلَم أَن ل [فِي] معَان: أَحدهَا: الظّرْف، كَمَا تقدم. وَالثَّانِي: الاستعلاء، كَمَا تقدم أَيْضا تمثيله. الثَّالِث: التَّعْلِيل، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فذلكن الَّذِي لمتنني فِيهِ} [يُوسُف: 32] ، أَي: لأَجله، وَمِنْه " {لمسكم فِي مَا / فِيهِ عَذَاب عَظِيم} [النُّور: 14] ، أثْبته ابْن مَالك وَغَيره، وَأنْكرهُ الرَّازِيّ، والبيضاوي. وَالرَّابِع: السَّبَبِيَّة، كَقَوْلِه: " فِي النَّفس المؤمنة مائَة "، و " دخلت امْرَأَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 النَّار فِي هرة "، أَي: بِسَبَب هرة، وَضَعفه بَعضهم، لعدم ذكره لُغَة. الْخَامِس: المصاحبة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَخرج على قومه فِي زينته} [الْقَصَص: 79] ، {ادخُلُوا فِي أُمَم} [الْأَعْرَاف: 38] ، أَي: مَعَهم مصاحبين لَهُم. السَّادِس: التوكيد، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا} [هود: 41] ، إِذْ الرّكُوب يسْتَعْمل بِدُونِ " فِي "، فَهِيَ مزيدة توكيداً. السَّابِع: التعويض، وَهِي الزَّائِدَة عوضا عَن أُخْرَى محذوفة، كَقَوْلِه: زغبت فِيمَن رغبت، أَي: فِيهِ. الثَّامِن: بِمَعْنى " الْبَاء "، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يذرؤكم فِيهِ} [الشورى: 11] ، أَي: يكثركم بِهِ. التَّاسِع: بِمَعْنى " إِلَى " كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَردُّوا أَيْديهم فِي أَفْوَاههم} [إِبْرَاهِيم: 9] ، أَي: إِلَيْهَا غيظاً. الْعَاشِر: بِمَعْنى " من " كَقَوْل امْرِئ الْقَيْس: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 (وَهل يعمن من كَانَ أحدث عَهده ... ثَلَاثِينَ شهرا فِي ثَلَاثَة أَحْوَال) أَي: من ثَلَاثَة أَحْوَال. قَوْله: {وَاللَّام لَهَا معَان} . للام معَان كَثِيرَة، تزيد على الثَّلَاثِينَ، وأفردها الْهَرَوِيّ بِكِتَاب اللامات، نذْكر المهم مِنْهَا هُنَا لتعرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 أَحدهَا: التَّعْلِيل، نَحْو: زرتك لشرفك، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {لتَحكم بَين النَّاس} [النِّسَاء: 105] ، وَقَوله: أَنْت طَالِق لرضى زيد، فَتطلق فِي الْحَال، رَضِي زيد أَو لَا، لِأَنَّهُ تَعْلِيل لَا تَعْلِيق. الثَّانِي: الِاسْتِحْقَاق، نَحْو النَّار للْكَافِرِينَ. الثَّالِث: الِاخْتِصَاص، نَحْو: الْجنَّة للْمُؤْمِنين. وَفرق الْقَرَافِيّ بَين الِاسْتِحْقَاق والاختصاص: (بِأَن [الِاسْتِحْقَاق] أخص، فَإِن ضابطه مَا شهِدت بِهِ الْعَادة، كَمَا شهِدت للْفرس بالسرج، وللدار بِالْبَابِ، وَقد يخْتَص الشَّيْء بالشَّيْء من غير شَهَادَة عَادَة، نَحْو: هَذَا ابْن لزيد، فَإِنَّهُ لَيْسَ من لَوَازِم الْإِنْسَان أَن يكون لَهُ ولد) . الرَّابِع: الْملك، نَحْو: {وَللَّه ملك السَّمَاوَات وَالْأَرْض} [آل عمرَان: 189، وَالْفَتْح: 14] ، وَمِنْهُم من يَجعله دَاخِلا فِي الِاسْتِحْقَاق، وَهُوَ أقوى أَنْوَاعه، وَكَذَلِكَ الِاسْتِحْقَاق نوع من الِاخْتِصَاص، وَلِهَذَا اقْتصر الزَّمَخْشَرِيّ فِي " الْمفصل " على الِاخْتِصَاص. وَقيل: إِن اللَّام لَا تفِيد الْملك بِنَفسِهَا، بل استفادته من أَمر خارجي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 الْخَامِس: لَام الْعَاقِبَة، ويعبر عَنْهَا بلام الصيرورة، وبلام الْمَآل، نَحْو: {فالتقطه أل فِرْعَوْن ليَكُون لَهُم عدوا وحزنا} [الْقَصَص: 8] . ويعزى للبصريين إِنْكَار لَام الْعَاقِبَة. وَقَالَ ابْن خالويه: (اللَّام فِي الْآيَة لَام " كي " عِنْد الْكُوفِيّين، وَلَام الصيرورة عِنْد الْبَصرِيين) . قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: (هَذَا على طَرِيق التَّوَسُّع وَالْمجَاز) . وَلِهَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: (لَا يتَحَقَّق. - قَالَ -: وَاللَّام مستعارة لما يشبه التَّعْلِيل) . السَّادِس: التَّمْلِيك، نَحْو: وهبت لزيد دِينَارا، وَمِنْه: {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء} [التَّوْبَة: 60] . السَّابِع: شبه الْملك، نَحْو: {وَالله جعل لكم من أَنفسكُم أَزْوَاجًا} [النَّحْل: 72] . الثَّامِن: توكيد النَّفْي، أَي نفي كَانَ، نَحْو: {وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم} [الْأَنْفَال: 33] ، ويعبر عَنْهَا بلام الْجُحُود، لمجيئها بعد نفي، لِأَن الْجحْد هُوَ نفي مَا سبق ذكره. التَّاسِع: لمُطلق التوكيد، وَهِي الدَّاخِلَة لتقوية عَامل ضَعِيف بِالتَّأْخِيرِ: {إِن كُنْتُم للرءيا تعبرون} [يُوسُف: 43] ، الأَصْل: تعبرون الرُّؤْيَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 ولكونه فرعا فِي الْعَمَل: {فعال لما يُرِيد} [هود: 107، والبروج: 16] ، وَهَذَانِ مقيسان. وَرُبمَا أكد بهَا بِدُخُولِهَا على الْمَفْعُول نَحْو: {ردف لكم} [النَّمْل: 72] . وَلم يذكر سِيبَوَيْهٍ زِيَادَة اللَّام، وَتَابعه الْفَارِسِي. الْعَاشِر: أَن تكون بِمَعْنى " إِلَى "، نَحْو: {سقناه لبلد ميت} ، {بِأَن رَبك أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] . الْحَادِي عشر: التَّعْدِيَة، نَحْو: مَا أضْرب زيدا لعَمْرو، وَجعل مِنْهُ ابْن مَالك: {فَهَب لي من لَدُنْك وليا} [مَرْيَم: 5] ، وَقيل: إِنَّهَا لشبه الْملك. الثَّانِي عشر: بِمَعْنى " على "، نَحْو {يخرون للأذقان} [الْإِسْرَاء: 107] . وَحكى الْبَيْهَقِيّ عَن حَرْمَلَة عَن الشَّافِعِي فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " واشترطي لَهُم الْوَلَاء "، أَن المُرَاد: عَلَيْهِم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 الثَّالِث عشر: بِمَعْنى " فِي "، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَنَضَع الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة} [الْأَنْبِيَاء: 47] . الرَّابِع عشر: بِمَعْنى " عِنْد "، أَي: الوقتية وَمَا يجْرِي مجْراهَا، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته "، وَمِنْه قَوْلك: كتبته لخمس لَيَال من كَذَا، أَي: عِنْد انْقِضَائِهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: (وَمِنْه: {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} [الْإِسْرَاء: 78] ، {يَا لَيْتَني قدمت لحياتي} [الْفجْر: 24] . الْخَامِس عشر: بِمَعْنى " من "، نَحْو: سَمِعت لَهُ صراخاً، أَي: مِنْهُ. السَّادِس عشر: بِمَعْنى " عَن "، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا لَو كَانَ خيرا مَا سبقُونَا إِلَيْهِ} [الْأَحْقَاف: 11] ، أَي: قَالُوا عَنْهُم ذَلِك، وضابطها: أَن تجر اسْم من غَابَ حَقِيقَة أَو حكما عَن قَول قَائِل يتَعَلَّق بِهِ، وَلم يَخُصُّهُ بَعضهم بِمَا بعد القَوْل. فَائِدَة: قَالَ الزَّرْكَشِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": (وَاعْلَم أَن مجيئها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 لهَذِهِ الْمعَانِي مَذْهَب كُوفِي، وَأما حذاق الْبَصرِيين فَهِيَ عِنْدهم على بَابهَا، ثمَّ يضمنُون الْفِعْل مَا يصلح مَعهَا، ويرون التَّجَوُّز فِي الْفِعْل، أسهل من التَّجَوُّز فِي الْحَرْف) انْتهى. {و} لهَذَا وَالله أعلم قَالَ أَبُو الْخطاب من أَصْحَابنَا {فِي " التَّمْهِيد "} : هِيَ {حَقِيقَة فِي الْملك، لَا يعدل عَنهُ إِلَّا بِدَلِيل} ) . وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (دلَالَة حرف على معنى حرف هُوَ طَرِيق الْكُوفِيّين، وَأما البصريون فَهُوَ عِنْدهم على تضمين الْفِعْل الْمُتَعَلّق بِهِ ذَلِك الْحَرْف مَا يصلح مَعَه معنى ذَلِك الْحَرْف على الْحَقِيقَة، ويرون التَّجَوُّز فِي الْفِعْل، أسهل من التَّجَوُّز فِي الْحَرْف) ، وَهُوَ معنى مَا تقدم. قَوْله: {و " بل " لعطف، وإضراب، إِن وَليهَا مُفْرد فِي إِثْبَات، [فتقرر] حكم مَا قبلهَا لما بعْدهَا، وَنفي، فتقرر مَا قبلهَا وضده لما بعْدهَا فِي الْأَصَح، ولابتداء فِي الْأَصَح وإضراب إِن وَليهَا جملَة لإبطال أَو انْتِقَال} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 اعْلَم أَن " بل " من حُرُوف الْعَطف [مشارك] مَا بعْدهَا لما قبلهَا فِي الْإِعْرَاب إِذا كَانَا مفردين، سَوَاء فِي الْإِثْبَات وَمَا فِي حكمه، أَو فِي النَّفْي وَمَا فِي حكمه، إِلَّا أَنَّهَا فِي الْقسم الأول لسلب الحكم - قطعا عَمَّا قبلهَا وتجعله لما بعْدهَا، أَي: يصير الأول كالمسكوت عَنهُ، وَيثبت الحكم للثَّانِي، نَحْو: جَاءَ زيد بل عَمْرو، وَأكْرم زيدا بل عمرا. وَاخْتلف فِي الْقسم الثَّانِي، نَحْو: مَا قَامَ زيد بل عَمْرو، وَلَا تضرب زيدا بل عمرا. فَقَالَ الْجُمْهُور: إِنَّهَا لتقرير حكم مَا قبلهَا، وَجعل ضِدّه لما [بعْدهَا] ، فتقرر نفي الْقيام أَو النَّهْي لزيد، وضده لعمر. وَأَجَازَ الْمبرد [وَابْن عبد الْوَارِث] ، وتلميذه الْجِرْجَانِيّ مَعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 ذَلِك أَن تكون ناقلة للْحكم الأول لما بعْدهَا، كَمَا فِي الْإِثْبَات وَمَا فِي حكمه، فَيحْتَمل عِنْدهم فِي نَحْو: مَا قَامَ زيد بل عَمْرو، أَن يكون المُرَاد: بل مَا قَامَ عَمْرو، وَفِي: لَا تضرب زيدا بل عمرا، أَن يكون التَّقْدِير: لَا تضرب عمرا أَيْضا -، حَتَّى لَو قَالَ: مَاله عَليّ دِرْهَم بل دِرْهَمَانِ، لَا يلْزمه شَيْء إِذا التَّقْدِير: بل مَاله عَليّ دِرْهَمَانِ - أَيْضا -، فَيكون النَّفْي للأمرين. بل قَالَ القواس فِي " شرح ألفية معطي ": (إِنَّهُم أوجبوا تَقْدِير حرف النَّفْي بعْدهَا، فتحقق الْمُطَابقَة فِي الإضراب عَن منفي إِلَى منفي، كَمَا تتَحَقَّق من مُوجب إِلَى مُوجب) . أما إِذا وَقع [بعد بل] جملَة، نَحْو: مَا قَامَ زيد بل عَمْرو قَائِم، فَلَا تكون عاطفة عِنْد الْجُمْهُور، بل حرف ابْتِدَاء تفِيد الإضراب، وَهُوَ ضَرْبَان: إضراب [إبِْطَال] للْحكم السَّابِق: كَقَوْلِه تَعَالَى: {أم يَقُولُونَ بِهِ جنَّة بل جَاءَهُم بِالْحَقِّ} [الْمُؤْمِنُونَ: 70] ، {وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا سُبْحَانَهُ بل عباد مكرمون} ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 فَفِي ذَلِك كُله رد على ابْن العلج فِي " الْبَسِيط "، وَتَبعهُ ابْن مَالك فِي " شرح الكافية ": أَن هَذَا الْقسم لم يَقع فِي الْقُرْآن، بل قَالَ فِي " الْبَسِيط ": وَلَا فِي كَلَام فصيح، وَإِنَّمَا يَقع الثَّانِي، وَهُوَ: إضراب الِانْتِقَال من حكم إِلَى حكم من غير إبِْطَال الأول، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ولدينا كتاب ينْطق بِالْحَقِّ وهم لَا يظْلمُونَ بل قُلُوبهم فِي غمرة} [الْمُؤْمِنُونَ: [62 - 63] ، وَقَوله تَعَالَى: {بل أدْرك علمهمْ فِي الْآخِرَة بل هم فِي شكّ مِنْهَا بل هم مِنْهَا عمون} ، لم يبطل شَيْئا مِمَّا سبق، إِنَّمَا فِيهِ انْتِقَال من خبر عَنْهُم إِلَى خبر آخر. فَالْحَاصِل: أَن الإضراب الانتقالي: قطع للْخَبَر لَا للمخبر عَنهُ، وَظَاهر كَلَام ابْن مَالك أَن هَذِه عاطفة أَيْضا -، لَكِن جملَة على جملَة، وَصرح بِهِ وَلَده فِي " شرح الألفية ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 قَوْله: {و " أَو " [للشَّكّ، والإبهام] ، وَالْإِبَاحَة، والتخيير، وَمُطلق الْجمع، والتقسيم، وَبِمَعْنى " إِلَى "، و " إِلَّا "، والإضراب ك " بل "، وَقيل: وللتقريب} . مِثَال الشَّك: قَامَ زيد أَو عَمْرو، إِذا لم تعلم: أَيهمَا قَامَ؟ وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {لبثنا يَوْمًا أَو بعض يَوْم} [الْكَهْف: 19، والمؤمنون: 113] . وَالْفرق وَبَينهَا وَبَين " إِمَّا " الَّتِي للشَّكّ: أَن الْكَلَام مَعَ " إِمَّا " لَا يكون إِلَّا [مُبينًا] على الشَّك، بِخِلَاف " أَو " فقد يَبْنِي الْمُتَكَلّم كَلَامه على الْيَقِين، ثمَّ يُدْرِكهُ الشَّك فَيَأْتِي بهَا. وَمِثَال الْإِبْهَام، وَيُقَال: التشكيك: قَامَ زيد أَو عَمْرو، إِذا علمت الْقَائِم مِنْهُمَا، وَلَكِن قصدت الْإِبْهَام على الْمُخَاطب، فالشك من جِهَة الْمُتَكَلّم، والإبهام على السَّامع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 وَمِثَال الْإِبَاحَة: جَالس الْحسن [أَو] ابْن سِيرِين. وَمِثَال التَّخْيِير: خُذ دِينَارا أَو درهما، تزوج زَيْنَب أَو أُخْتهَا، وَمِنْه: {إطْعَام عشرَة مَسَاكِين من أَوسط مَا تطْعمُونَ أهليكم أَو كسوتهم أَو تَحْرِير رَقَبَة} ، وَحَدِيث الْجبرَان فِي الْمَاشِيَة: " شَاتَان أَو عشرُون درهما ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 وَالْفرق بَينهمَا: امْتنَاع الْجمع فِي التَّخْيِير، وجوازه فِي الْإِبَاحَة. قَالَ بَعضهم: (وَالظَّاهِر أَنَّهَا قسم وَاحِد، لِأَن حَقِيقَة الْإِبَاحَة هِيَ التَّخْيِير، وَإِنَّمَا امْتنع: خُذ دِينَارا أَو درهما، للقرينة الْعُرْفِيَّة، لَا من مَدْلُول اللَّفْظ، كَمَا أَن الْجمع بَين صُحْبَة الْعلمَاء والزهاد، وصف كَمَال لَا ينقص فِيهِ) انْتهى، وَهُوَ كَمَا قَالَ. قَالَ: والتخيير [و] الْإِبَاحَة لَا يكونَانِ إِلَّا فِي الطّلب، بِخِلَاف الشَّك والإبهام فيكونان فِي الْخَبَر. وَمِثَال مُطلق الْجمع ك " الْوَاو ": قَوْله تَعَالَى: {وأرسلناه إِلَى مائَة ألف أَو يزِيدُونَ} [الصافات: 147] على قَول الْكُوفِيّين، وفيهَا غير ذَلِك يَأْتِي. وَمِثَال التَّقْسِيم: الْكَلِمَة: اسْم أَو فعل أَو حرف، وَعبر عَنهُ ابْن مَالك بِالتَّفْرِيقِ الْمُجَرّد، أَي: من الْمعَانِي السَّابِقَة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا كونُوا هوداً أَو نَصَارَى} [الْبَقَرَة: 135] ، قَالَ: (وَالتَّعْبِير عَنهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 بِالتَّفْرِيقِ أولى من التَّقْسِيم؛ لِأَن اسْتِعْمَال " الْوَاو " فِيمَا هُوَ تَقْسِيم أَجود من اسْتِعْمَال " أَو ") . وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن اسْتِعْمَال " الْوَاو " فِي التَّقْسِيم أَكثر، لَا يَقْتَضِي أَن " أَو " لَا تَأتي لَهُ، بل يَقْتَضِي ثُبُوت ذَلِك غير أَكثر. وَمِثَال كَونهَا بِمَعْنى " إِلَى ": لألزمنك أَو تقضي حَقي، وَقيل: وَمِنْه: {أَو تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة} [الْبَقَرَة: 236] إِذا قدر " تفرضوا " مَنْصُوبًا بِأَن مقدرَة. وَمِثَال كَونهَا بِمَعْنى " إِلَّا ": لأقتلن الْكَافِر أَو يسلم، أَي: إِلَّا أَن يسلم فَلَا أَقتلهُ، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (وَكنت إِذا غمزت قناة قوم ... كسرت كعوبها أَو تستقيما) أَي: إِلَّا أَن تستقيم، فَلَا أكسرها. وَمِثَال الإضراب: قَوْله تَعَالَى: {أَو يزِيدُونَ} ، على قَول الْفراء وَغَيره مِمَّن لَا يَجْعَلهَا لمُطلق الْجمع فِي الْآيَة، ثمَّ قيل: إِنَّهَا تَأتي للإضراب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 مُطلقًا، وَعَن سِيبَوَيْهٍ: لَا تَجِيء إِلَّا بِشَرْطَيْنِ: تقدم نفي أَو نهي، [و] إِعَادَة الْعَامِل، نَحْو: مَا قَامَ زيد أَو قَامَ عَمْرو، وَلَا يقم زيد أَو لَا يقم عَمْرو. وَمِثَال التَّقْرِيب وَقَالَهُ الحريري [وَمِنْه] قَوْله: (مَا أَدْرِي أسلم أَو ودع) ، لسرعته، وَإِن كَانَ يعلم أَنه سلم أَولا، وَذكره أَبُو الْبَقَاء أَيْضا، وَجعل مِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَمر السَّاعَة إِلَّا كلمح الْبَصَر أَو هُوَ أقرب} [النَّحْل: 77] . وَذهب بَعضهم فِي " أَو ": أَنَّهَا مَوْضُوعَة للقدر الْمُشْتَرك بَين الْمعَانِي السَّابِقَة، وَهُوَ لأحد الشَّيْئَيْنِ أَو الْأَشْيَاء، وَإِنَّمَا فهمت هَذِه الْمعَانِي من الْقَرَائِن. قَوْله: {و " لَكِن " لعطف، واستدراك إِن وَليهَا مُفْرد فِي نفي وَنهي، ولابتداء فِي الْأَصَح إِن وَليهَا جملَة مُطلقًا} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 " لَكِن " حرف عطف واستدراك، وَتَأْتِي ابتدائية لمُجَرّد إِفَادَة الِاسْتِدْرَاك فَإِن وَليهَا مُفْرد فَهِيَ العاطفة بِشَرْطَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يتقدمها نفي أَو نهي، نَحْو: [مَا قَامَ] زيد لَكِن عَمْرو، وَلَا يقم زيد لَكِن عَمْرو. الشَّرْط الثَّانِي: أَن لَا تقترن بِالْوَاو، [قَالَه] الْفَارِسِي وَأكْثر النُّحَاة. وَقَالَ قوم: لَا تسْتَعْمل مَعَ الْمُفْرد إِلَّا بِالْوَاو. وَفِي نَحْو: مَا قَامَ زيد [وَلَكِن] عَمْرو، أَرْبَعَة أَقْوَال، ذكرهَا ابْن هِشَام فِي " الْمُغنِي ". وَفهم من الشَّرْط الأول: أَنَّهَا لَا تقع فِي الْإِيجَاب، وَهُوَ مَذْهَب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 الْبَصرِيين، وَأَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ، نَحْو: أَتَانِي زيد لَكِن عَمْرو. وَأما إِذا وَليهَا جملَة، فَتكون حِينَئِذٍ بعد إِيجَاب، أَو نفي، أَو نهي، أَو أَمر، لَا اسْتِفْهَام، وَهِي بعد الْجُمْلَة ابتدائية، لَا حرف عطف عِنْد أَكثر المغاربة، وَقيل: عاطفة. تَنْبِيه: معنى الِاسْتِدْرَاك: أَن تنْسب لما بعْدهَا حكما مُخَالفا لحكم مَا قبلهَا، وَلذَلِك لابد أَن يتقدمها كَلَام مُنَاقض لما بعْدهَا. قَوْله: {وَالْبَاء [للإلصاق] حَقِيقَة ومجازاً، وَلها معَان كَثِيرَة، وَقيل: [وللتبعيض] } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 للباء معَان كَثِيرَة، لَا بَأْس بذكرها تكميلاً للفائدة: أَحدهَا: أَن تكون للإلصاق، وَهُوَ: أَن يُضَاف الْفِعْل إِلَى الِاسْم فيلصق بِهِ، بعد مَا كَانَ لَا يُضَاف إِلَيْهِ لَوْلَا دُخُولهَا، نَحْو: خضت المَاء برجلي، ومسحت برأسي، [وَهُوَ] أصل مَعَانِيهَا، وَلم يذكر لَهَا سِيبَوَيْهٍ غَيره، وَلِهَذَا قَالَت المغاربة: لَا تنفك عَنهُ، إِلَّا أَنَّهَا قد تتجرد لَهُ، وَقد يدخلهَا مَعَ ذَلِك معنى آخر. ثمَّ قد يكون حَقِيقَة، نَحْو: أَمْسَكت الْحَبل بيَدي، وَقد يكون مجَازًا، نَحْو: مَرَرْت بزيد، فَإِن الْمُرُور لم يلصق بزيد، وَإِنَّمَا ألصق بمَكَان يقرب مِنْهُ. وَالصَّحِيح: أَن لَهَا مَعَاني غير الإلصاق. الثَّانِي من مَعَانِيهَا: التَّعْدِيَة، وَتسَمى بَاء النَّقْل أَيْضا -، وَهِي الْقَائِمَة مقَام الْهمزَة فِي تصيير الْفَاعِل مَفْعُولا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ذهب الله بنورهم} [الْبَقَرَة: 17] ، وَأَصله: ذهب نورهم. الثَّالِث: الِاسْتِعَانَة، وَهِي الدَّاخِلَة على آلَة الْفِعْل وَنَحْوهَا، نَحْو: كتبت بالقلم، وَقطعت بالسكين، وَمِنْه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة} [الْبَقَرَة: 45] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 الرَّابِع: السَّبَبِيَّة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فكلا أَخذنَا بِذَنبِهِ} [العنكبوت: 40] ، وَلم يذكر فِي " التسهيل " " بَاء " الِاسْتِعَانَة، وأدرجها فِي " بَاء " السَّبَبِيَّة. وَقَالَ فِي " شَرحه ": (النُّحَاة يعبرون عَن هَذِه بالاستعانة، وآثرت التَّعْبِير بالسببية، من أجل الْأَفْعَال المنسوبة إِلَى الله تَعَالَى، فَإِن اسْتِعْمَال السَّبَب فِيهَا يجوز، وَاسْتِعْمَال الِاسْتِعَانَة فِيهَا لَا يجوز) انْتهى. الْخَامِس: التعليلية، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فبظلم من الَّذين هادوا} [النِّسَاء: 160] . وَالْفرق بَينهمَا: أَن الْعلَّة مُوجبَة لمعلولها، بِخِلَاف السَّبَب لمسببه، فَهُوَ كالأمارة عَلَيْهَا. السَّادِس: المصاحبة، وَهُوَ الَّذِي يصلح فِي موضعهَا " مَعَ "، أَو يُغني عَنْهَا وَعَن مصحوبها الْحَال، كَقَوْلِه تَعَالَى: {قد جَاءَكُم الرَّسُول بِالْحَقِّ} ، أَي: مَعَ الْحق، أَو: محقاً. السَّابِع: الظَّرْفِيَّة، بِمَعْنى " فِي "، للزمان، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّكُم لتمرون عَلَيْهِم مصبحين وباليل} [الصافات: 137 - 138] ، وللمكان، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَقَد نصركم الله ببدر} [آل عمرَان: 123] . وَرُبمَا كَانَت الظَّرْفِيَّة مجازية، نَحْو: بكلامك بهجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 الثَّامِن: الْبَدَل، بِأَن يَجِيء موضعهَا بدل، كَقَوْلِه فِي الحَدِيث: " مَا يسرني بهَا حمر النعم "، أَي: بدلهَا. التَّاسِع: الْمُقَابلَة، وَهِي الدَّاخِلَة على الْأَثْمَان والأعواض، نَحْو: اشْتريت الْفرس بِأَلف، ودخولها غَالِبا / على الثّمن، وَرُبمَا دخلت على الْمُثمن كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا تشتروا بآياتي ثمنا قَلِيلا} [الْبَقَرَة: 41، والمائدة: 44] ، وَلم يقل: وَلَا تشتروا آياتي بِثمن قَلِيل. قلت: قَالَ فِي " التَّلْخِيص " و " الرِّعَايَة " والآدمي: (يتَمَيَّز الثّمن عَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 الْمُثمن بِدُخُول " بَاء " الْبَدَلِيَّة "، وَقيل: إِن كَانَ فِيهَا أحد النَّقْدَيْنِ فَهُوَ الثّمن، وَإِلَّا مَا دَخلته " الْبَاء ") . الْعَاشِر: الْمُجَاوزَة، بِمَعْنى " عَن "، وَيكثر بعد السُّؤَال: {فَسئلَ بِهِ خَبِيرا} [الْفرْقَان: 59] ، وَنقل بعد غَيره، نَحْو: {وَيَوْم تشقق السَّمَاء بالغمام} [الْفرْقَان: 25] ، وَهُوَ مَذْهَب كُوفِي، وتأوله الشلوبين على أَنَّهَا " بَاء " السَّبَبِيَّة، أَي: فاسأل بِسَبَبِهِ، أَو تضمين " اسْأَل " معنى اطلب، لِأَن السُّؤَال طلب فِي الْمَعْنى. الْحَادِي عشر: الاستعلاء، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَمِنْهُم من إِن تأمنه بِدِينَار} [آل عمرَان: 75] أَي: على دِينَار، وَحَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان " عَن الشَّافِعِي. الثَّانِي عشر: الْقسم، وَهِي أصل حُرُوفه، نَحْو: بِاللَّه لَأَفْعَلَنَّ. الثَّالِث عشر: الْغَايَة، نَحْو: {وَقد أحسن بِي} [يُوسُف: 100] ، أَي: إِلَيّ. الرَّابِع عشر: التوكيد، وَهِي الزَّائِد، إِمَّا مَعَ الْفِعْل، نَحْو: أحسن بزيد، على قَول الْبَصرِيين: إِنَّه فَاعل، أَو [مَعَ] الْمَفْعُول، نَحْو: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 {وهزي إِلَيْك بجذع النَّخْلَة} [مَرْيَم: 25] ، أَو مَعَ الْمُبْتَدَأ، نَحْو: بحسبك دِرْهَم، أَو الْخَبَر، نَحْو: {أَلَيْسَ الله بكاف عَبده} [الزمر: 36] . الْخَامِس عشر: التَّبْعِيض، قَالَ بِهِ الْكُوفِيُّونَ، والأصمعي، والفارسي، وَابْن مَالك، نَحْو: {عينا يشرب بهَا عباد الله} [الْإِنْسَان: 6] ، أَي: مِنْهَا، وَخرج قَوْله تَعَالَى: {وامسحوا برءوسكم} [الْمَائِدَة: 6] ، والمثبتون قصروها على وُرُودهَا مَعَ الْفِعْل الْمُتَعَدِّي، وَأنْكرهُ ابْن جني، وَابْن برهَان فَقَالَ: (من قَالَ: إِن " الْبَاء " للتَّبْعِيض فقد أَتَى أهل اللُّغَة بِمَا لَا يعرفونه) ، نَقله عَنهُ فِي " الْكَافِي ". وَأولُوا مَا اسْتدلَّ بِهِ على التَّضْمِين، أَو أَن التَّبْعِيض إِنَّمَا اسْتُفِيدَ من الْقَرَائِن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 قَالَ الشَّيْخ موفق الدّين فِي " الْكَافِي ": (فَهُوَ كَقَوْلِه: {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ} و " الْبَاء " زَائِدَة) . ورد الرَّازِيّ قَول ابْن جني: (بِأَنَّهَا شَهَادَة نفي فَلَا تقبل) . وَأجَاب عَنهُ ابْن دَقِيق الْعِيد: (بِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَهَادَة نفي، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَار عَن ظن غَالب، يسْتَند إِلَى الاستقراء مِمَّن هُوَ أهل لذَلِك مطلع على لِسَان الْعَرَب، كَمَا فِي سَائِر الاستقراءات، لَا يُقَال فِيهَا، شَهَادَة نفي، وَحِينَئِذٍ فَيتَوَقَّف مُقَابِله على ثُبُوت ذَلِك من كَلَامهم) . وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: (إِنَّمَا يُفِيد فَائِدَة غير التَّبْعِيض، وَهُوَ الدّلَالَة على مَمْسُوح بِهِ. - قَالَ -: وَالْأَصْل فِيهِ، امسحوا برؤوسكم المَاء، فَيكون من بَاب الْقلب، وَالْأَصْل رؤوسكم بِالْمَاءِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 قَوْله: {وَإِذا لمفاجأة حرفا، وَقَالَ جمع: ظرف مَكَان، وَجمع: ظرف زمَان، ولمستقبل ظرفا متضمنة معنى الشَّرْط غَالِبا، وَمنع الْأَكْثَر مجيئها لماض وَحَال} . لإذا معَان: أَحدهَا: أَن تكون للمفاجأة، وَهِي الَّتِي يَقع بعْدهَا الْمُبْتَدَأ، فرقا بَينهَا وَبَين الشّرطِيَّة، فَإِن الْوَاقِع بعْدهَا الْفِعْل، وَقد اجْتمعَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِذا دعَاكُمْ دَعْوَة من الأَرْض إِذا أَنْتُم تخرجُونَ} [الرّوم: 25] ، وَتقول فِي الْمِثَال الأول: خرجت فَإِذا الْأسد، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا هِيَ حَيَّة تسْعَى} [طه: 20] ، وَلَا تحْتَاج إِلَى جَوَاب، وَمَعْنَاهَا الْحَال. قَالَ ابْن الْحَاجِب: (وَمعنى المفاجأة: حُضُور الشَّيْء مَعَك فِي وصف من أوصافك الفعلية. وتصويره فِي هَذَا الْمِثَال: حُضُور الْأسد مَعَك فِي زمن وصفك بِالْخرُوجِ، أَو فِي مَكَان خُرُوجك، [وحضوره مَعَك فِي مَكَان خُرُوجك، ألصق بك من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 حُضُوره فِي زمن خُرُوجك، لِأَن ذَلِك الْمَكَان يخصك دون من أشبهك، وَذَلِكَ الزَّمَان لَا [يخصك] دون من أشبهك، وَكلما كَانَ ألصق، كَانَت المفاجأة فِيهِ أقوى. وَاخْتلف فِيهَا على ثَلَاثَة مَذَاهِب. أَحدهَا: - وَهُوَ أَصَحهَا أَنَّهَا حرف، وَبِه قَالَ الْأَخْفَش، وَابْن مَالك. وَالثَّانِي: أَنَّهَا ظرف مَكَان، وَبِه قَالَ الْمبرد، وَابْن عُصْفُور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 وَالثَّالِث: ظرف زمَان، وَبِه قَالَ الزّجاج، والزمخشري. وَنسب الْقَوْلَانِ / الأخيران لسيبويه؟ وَتظهر فَائِدَة الْخلاف: فِي أَنه لَا يَصح إعرابها خَبرا فِي قَوْلك: خرجت فَإِذا الْأسد، لَا على الحرفية، وَلَا على ظرفية الزَّمَان؛ لِأَن الزَّمَان لَا يخبر بِهِ عَن الجثة، وَيصِح على ظرفية الْمَكَان، أَي: فبالحضرة الْأسد. الْمَعْنى الثَّانِي: أَن تكون ظرفا للمستقبل متضمنة معنى الشَّرْط غَالِبا، وَلذَلِك تجاب بِمَا تجاب بِهِ أدوات الشَّرْط، نَحْو: إِذا جَاءَ زيد فَقُمْ إِلَيْهِ، فَهِيَ بَاقِيَة على ظرفيتها إِلَّا أَنَّهَا ضمنت معنى الشَّرْط، وَلذَلِك لم تثبت لَهَا سَائِر أَحْكَام الشَّرْط، فَلم يجْزم بهَا الْمُضَارع، وَلَا تكون إِلَّا فِي الْمُحَقق، وَمِنْه: {وَإِذا مسكم الضّر فِي الْبَحْر} [الْإِسْرَاء: 67] ؛ لِأَن مس الضّر فِي الْبَحْر مُحَقّق، وَلما لم يُقيد بالبحر أَتَى ب " إِن " الَّتِي تسْتَعْمل فِي الْمَشْكُوك فِيهِ، نَحْو: {وَإِذا مَسّه الشَّرّ فذو دُعَاء عريض} ، وتختص بِالدُّخُولِ على الْجُمْلَة الفعلية. الْمَعْنى الثَّالِث: أَن تكون ظرفا للماضي، مثل " إِذْ "، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا على الَّذين إِذا مَا أتوك} [التَّوْبَة: 92] ، {وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة} [الْجُمُعَة: 11] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 قَالَه ابْن مَالك، وَأنْكرهُ الْجُمْهُور، وتأولوا مَا أوهم ذَلِك. الْمَعْنى الرَّابِع: أَن تكون ظرفا للْحَال، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَاللَّيْل إِذا يغشى} [اللَّيْل: 1] ، {والنجم إِذا هوى} [النَّجْم: 1] ، قَالَه ابْن الْحَاجِب، وَقَالَ غَيره: كَمَا جردت هُنَا عَن الشَّرْط جردت عَن الظّرْف، وَهِي هُنَا لمُجَرّد الْوَقْت من غير أَن يكون ظرفا، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي هذَيْن الْمَعْنيين: (وَمنع الْأَكْثَر مجيئها للماضي وَالْحَال) . قَوْله: {و " إِذْ " اسْم لماض ظرفا، [ومفعولاً] بِهِ، بَدَلا من مفعول، ومضافاً إِلَيْهَا اسْم زمَان، ولمستقبل، وَمنعه الْأَكْثَر، ولتعليل حرفا، وَقيل: ظرفا، ولمفاجأة} . " إِذا " اسْم بِالْإِجْمَاع، لتنوينها فِي نَحْو: {يَوْمئِذٍ} ، وَالْإِضَافَة فِي نَحْو: {بعد إِذْ هديتنا} [آل عمرَان: 8] وَلها معَان: أَحدهَا وَهُوَ الْأَغْلَب -: أَن تكون ظرفا للزمان الْمَاضِي، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فقد نَصره الله إِذْ أخرجه الَّذين كفرُوا} [التَّوْبَة: 40] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 الْمَعْنى الثَّانِي: أَن تكون مَفْعُولا، نَحْو: {واذْكُرُوا إِذْ كُنْتُم قَلِيلا فكثركم} [الْأَعْرَاف: 86] . الْمَعْنى الثَّالِث: أَن تكون بَدَلا من الْمَفْعُول، نَحْو: {وَاذْكُر فِي الْكتاب مَرْيَم إِذْ انتبذت} [مَرْيَم: 16] ، ف " إِذْ " بدل اشْتِمَال من مَرْيَم. الْمَعْنى الرَّابِع: أَن يُضَاف إِلَيْهَا اسْم زمَان، سَوَاء صلح الِاسْتِغْنَاء عَنهُ، نَحْو " يَوْمئِذٍ " أَو لَا، نَحْو: {بعد إِذْ هديتنا} [آل عمرَان: 8] . الْمَعْنى الْخَامِس: أَن تكون ظرفا للزمان الْمُسْتَقْبل، مثل " إِذا "، صَححهُ ابْن مَالك وَطَائِفَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَسَوف يعلمُونَ إِذْ الأغلال فِي أَعْنَاقهم} [غَافِر: 70 - 71] ، وَمنع الْأَكْثَر، وَأَجَابُوا عَن الْآيَة وَنَحْوهَا: بِأَن ذَلِك نزل منزلَة الْمَاضِي لتحَقّق وُقُوعه، مثل: {أَتَى أَمر الله} [النَّحْل: 1] . الْمَعْنى السَّادِس: أَن تكون للتَّعْلِيل، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلنْ ينفعكم الْيَوْم إِذْ ظلمتم} [الزخرف: 39] ، {وَإِذ لم يهتدوا بِهِ فسيقولون} [الْأَحْقَاف: 11] . ثمَّ اخْتلف فِي أَنَّهَا حِينَئِذٍ تكون حرفا بِمَنْزِلَة " لَام " الْعلَّة، وَنسب لسيبويه، وَصرح بِهِ ابْن مَالك فِي بعض نسخ " التسهيل "، أَو ظرفا وَالتَّعْلِيل مُسْتَفَاد من قُوَّة الْكَلَام لَا من اللَّفْظ. السَّابِع: أَن تكون للمفاجأة الْوَاقِعَة بعد [" بَينا "] و " بَيْنَمَا "، نَحْو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 قَوْلك: بَينا أَنا كَذَا إِذْ جَاءَ زيد، نَص عَلَيْهِ سِيبَوَيْهٍ، وَيعود هُنَا الْخلاف - أَيْضا فِي أَنَّهَا حِينَئِذٍ حرف، أَو بَاقِيَة على ظرفيتها الزمانية. وَهنا قَول ثَالِث: أَنَّهَا ظرف مَكَان، كَمَا قيل بِهِ فِي " إِذا " الفجائية، وَالله أعلم. قَوْله: {و " لَو " حرف شَرط فِي الْأَصَح لماض، فتصرف الْمُضَارع إِلَيْهِ عكس " إِن "} . " لَو " حرف شَرط فِي الْمَاضِي، وَإِن دخلت على الْمُضَارع صرفته للمضي، عكس " إِن " الشّرطِيَّة، فَإِنَّهَا تصرف الْمَاضِي إِلَى الِاسْتِقْبَال، قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ، وَابْن مَالك، وَغَيرهمَا. وَأنكر قوم كَونهَا حرف شَرط؛ لِأَن الشَّرْط فِي الِاسْتِقْبَال، و " لَو " للتعليق فِي الْمَاضِي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 وَقَالَ بَعضهم: النزاع لَفْظِي، فَإِن أُرِيد بِالشّرطِ: الرَّبْط الْمَعْنَوِيّ الْحكمِي، فَهُوَ شَرط، وَإِن أُرِيد بِهِ مَا يعْمل فِي الجزئين فَلَا. قَوْله: {وَتَأْتِي لمستقبل فِي الْأَصَح قَلِيلا فتصرف الْمَاضِي إِلَيْهِ} . قد ترد " لَو " للمستقبل، مثل " إِن "، فتصرف الْمَاضِي إِلَى الِاسْتِقْبَال، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَمَا أَنْت بِمُؤْمِن لنا وَلَو كُنَّا صَادِقين} [يُوسُف: 17] ، قَالَه جمَاعَة، وخطأهم ابْن الْحَاج: بأنك لَا تَقول: لَو يقوم زيد فعمرو منطلق، كَمَا تَقول إِلَّا يقم [زيد] فعمرو منطلق. وَكَذَا قَالَ بدر الدّين ابْن مَالك: (عِنْدِي أَنَّهَا لَا تكون لغير الشَّرْط فِي الْمَاضِي، وَلَا حجَّة فِيمَا تمسكوا بِهِ لصِحَّة حمله على الْمُضِيّ) . قَوْله: {وَأما مَعْنَاهَا، فَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: حرف لما كَانَ سيقع لوُقُوع غَيره، وَقَالَ الْأَكْثَر: حرف امْتنَاع لِامْتِنَاع، [والشلوبين] لمُجَرّد الرَّبْط، وَفِي " التسهيل " وَغَيره: امْتنَاع مَا يَلِيهِ واستلزامه لتاليه، [قلت: فِي الْمَاضِي] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 فَيَنْتَفِي الْجَواب إِن ناسب وَلم يخلف الأول غَيره، وَإِن ناسب وَخَلفه غَيره ثَبت الْجَواب، كَمَا لَو لم يُنَاسب بِالْأولَى، أَو [المساويٍ] ، أَو الأدون} . اخْتلف فِي معنى " لَو " على أَقْوَال: أَحدهَا وَبِه قَالَ سِيبَوَيْهٍ -: (إِنَّهَا حرف لما كَانَ سيقع لوُقُوع غَيره) ، أَي: أَنَّهَا تَقْتَضِي فعلا مَاضِيا كَانَ يتَوَقَّع ثُبُوته لثُبُوت غَيره، والمتوقع غير وَاقع، فَكَأَنَّهُ قَالَ: حرف يَقْتَضِي فعلا امْتنع لِامْتِنَاع مَا كَانَ [يثبت] لثُبُوته. الثَّانِي وَبِه قَالَ الْأَكْثَر -: أَنَّهَا حرف امْتنَاع لِامْتِنَاع، أَي: يدل على امْتنَاع الثَّانِي لِامْتِنَاع الأول، فقولك: لَو جئتني لأكرمتك، دَال على انْتِفَاء الْمَجِيء وَالْإِكْرَام. وَاعْترض عَلَيْهِ: بِأَن جوابها قد لَا يكون مُمْتَنعا بل يثبت، كَقَوْلِك لطائر: لَو كَانَ هَذَا إنْسَانا لَكَانَ حَيَوَانا، فإنسانيته منتفية وحيوانيته ثَابِتَة، وكما قَول عمر فِي صُهَيْب رَضِي الله عَنْهُمَا -: " لَو لم يخف الله لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 يَعْصِهِ "، فَعدم الْمعْصِيَة مَحْكُوم بِثُبُوتِهِ، لِأَنَّهُ إِذا ثَبت مَعَ عدم الْخَوْف فثبوته مَعَ الْخَوْف أولى. وَأَصَح مِنْهُ مَا روى عَن سَالم مولى أبي حُذَيْفَة. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (لَا أعلم لكَلَام عمر لِصُهَيْب إِسْنَادًا، ويغني عَنهُ مَا رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي " الْحِلْية ": أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي سَالم مولى أبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 حُذَيْفَة: " إِنَّه شَدِيد الْحبّ لله، لَو كَانَ لَا يخَاف الله مَا عَصَاهُ "، أَي: أَن لانْتِفَاء الْمعْصِيَة شَيْئَيْنِ: الْمحبَّة وَالْخَوْف، فَلَو انْتَفَى الْخَوْف لم تُوجد الْمعْصِيَة، لوُجُود الآخر وَهُوَ الْمحبَّة. قَالَ الْبرمَاوِيّ: (قَالَ بعض الْحفاظ: كثيرا مَا نسْأَل عَنهُ، وَلم نجد لَهُ أصلا) . الثَّالِث وَبِه قَالَ الشلوبين -: أَنَّهَا لمُجَرّد الرَّبْط؛ أَي: إِنَّمَا تدل على التَّعْلِيق فِي الْمَاضِي، كَمَا تدل " إِن " على التَّعْلِيق فِي الْمُسْتَقْبل، وَلَا تدل على امْتنَاع شَرط وَلَا جَوَاب. وَضعف: بِأَنَّهُ جحد للضروريات، إِذْ كل من سمع: " لَو فعل "، فهم عدم وُقُوع الْفِعْل، وَلِهَذَا جَازَ استدراكه، فَتَقول: لَو جَاءَ زيد لأكرمته لكنه لم يجِئ. الرَّابِع: أَنَّهَا تَقْتَضِي امْتنَاع مَا يَلِيهِ واستلزامه لتاليه، أَي: تَقْتَضِي أَمريْن: أَحدهمَا: امْتنَاع مَا يَلِيهِ، وَهُوَ شَرطه. وَالثَّانِي: كَون مَا يَلِيهِ مستلزماً لتاليه، وَهُوَ جَوَابه، وَلَا يدل على امْتنَاع الْجَواب فِي نفس الْأَمر وَلَا ثُبُوته. فَإِذا قلت: لَو قَامَ زيد لقام عَمْرو، فقيام زيد مَحْكُوم بانتفائه فِيمَا مضى، وَيكون ثُبُوته مستلزماً لثُبُوت قيام عَمْرو. وَهل لعَمْرو قيام أَولا؟ لَيْسَ فِي الْكَلَام تعرض لَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 وَصحح هَذِه الْعبارَة السُّبْكِيّ، وَولده التَّاج، وَهِي فِي بعض نسخ " التسهيل ". قَالَ الْمرَادِي فِي " شرح الألفية ": (قَالَ ابْن مَالك فِي " شرح الكافية ": " الْعبارَة الجيدة فِي " لَو " أَن يُقَال: حرف يدل على امْتنَاع [تال] يلْزم لثُبُوته ثُبُوت تاليه، فقيام زيد، من قَوْلك: لَو قَامَ زيد لقام [عَمْرو] ، مَحْكُوم بانتفائه فِيمَا مضى وَكَونه مستلزماً ثُبُوته لثُبُوت قيام عَمْرو، وَهل [لعَمْرو] قيام آخر غير اللَّازِم عَن قيام زيد أَو لَيْسَ لَهُ؟ لَا تعرض لذَلِك، بل الْأَكْثَر كَون الأول وَالثَّانِي غير واقعين) . وَقَالَ فِي " التسهيل ": " لَو: حرف شَرط يَقْتَضِي امْتنَاع مَا يَلِيهِ واستلزامه لتاليه "، وَفِي بعض النّسخ: " لَو: حرف يَقْتَضِي نفي مَا يلْزم لثُبُوته ثُبُوت غَيره ".) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 قَالَ الْمرَادِي: [عباراته الثَّلَاث] بِمَعْنى وَاحِد. لَكِن قَالَ ابْن هِشَام فِي " الْمُغنِي ": (فِي عبارَة ابْن مَالك نقص، فَإِنَّهَا لَا تفِيد أَن اقتضاءها للامتناع فِي الْمَاضِي، فَإِذا قيل: " لَو " حرف يَقْتَضِي فِي الْمَاضِي امْتنَاع مَا يَلِيهِ واستلزامه لتاليه كَانَ ذَلِك أَجود الْعبارَات) انْتهى. فَلذَلِك ألحقتها فِي الْمَتْن. ثمَّ قسم صَاحب هَذِه الْمقَالة الْجَواب وَهُوَ مُرَاده بالتالي _ إِلَى أَقسَام: أَحدهَا: أَن يكون منتفياً، وَذَلِكَ فِيمَا إِذا كَانَ التَّرْتِيب بَينه وَبَين الأول مناسباُ، وَلم يخلف الأول غَيره، نَحْو: {لَو كَانَ فيهمَا ألهة إِلَّا الله لفسدتا} [الْأَنْبِيَاء: 22] . الثَّانِي: أَن يكون مَعَ مناسبته خَلفه غَيره، كَقَوْلِك: الطَّائِر لَو كَانَ إنْسَانا لَكَانَ حَيَوَانا، فَإِنَّهُ خلف الإنسانية شَيْء آخر يدل على الحيوانية فثبتت. الثَّالِث: أَن لَا يكون التَّرْتِيب بَين الأول وَالثَّانِي مناسباً، فَيثبت التَّالِي. ثمَّ قسم ثُبُوته إِلَى أَقسَام: أَحدهَا: أَن يكون أولى بالثبوت من الأول، نَحْو: " لَو لم يخف الله لم يَعْصِهِ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 الثَّانِي: أَن يكون مُسَاوِيا، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بنت أم سَلمَة: " لَو لم تكن ربيبتي فِي حجري مَا حلت لي، إِنَّهَا لابنَة أخي من الرضَاعَة "، فَإِن لتحريمها سببين: كَونهَا ربيبته، وَكَونهَا ابْنة أَخِيه من الرضَاعَة. الثَّالِث: أَن يكون أدون مِنْهُ، وَلَكِن يلْحق بِهِ لمشاركته فِي الْمَعْنى، كَقَوْلِك فِي أُخْت النّسَب وَالرّضَاع: لَو انْتَفَت أخوة النّسَب لما كَانَت حَلَالا، لِأَنَّهَا أُخْت من الرضَاعَة، فتحريم أُخْت الرَّضَاع دون تَحْرِيم أُخْت النّسَب، لكنه مُسْتَقل بِالتَّعْلِيلِ لصلاحيته لَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 قلت: رد الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع " هَذِه الْمقَالة من أَرْبَعَة أوجه، وَبَينهَا وحررها، وَقَالَ: (إِن " لَو " حرف مَوْضُوع لتعليق حُصُول أَمر فِي الْمَاضِي بِحُصُول أَمر آخر مُقَدّر فِيهِ، هَذَا أصل وَضعه، ثمَّ حُصُول الْمُقدر فِي الْمَاضِي مَقْطُوع بِعَدَمِهِ، فَيَنْتَفِي الْحُصُول الْمُعَلق عَلَيْهِ لانْتِفَاء الشَّرْط. فَمن عرف بِأَن " لَو " لانْتِفَاء الثَّانِي لانْتِفَاء الأول، أَي: انْتِفَاء الْجَزَاء مُعَلل بِانْتِفَاء الشَّرْط، وَقَالَ مَعْنَاهُ: امْتنَاع الْجَزَاء لِامْتِنَاع الشَّرْط، كَمَا قَالَه صَاحب " الْمِفْتَاح "، أَخذ بالحاصل، وَعبر عَنهُ معنى اللَّفْظ بلازمه) انْتهى. وَذكر اعْتِرَاض ابْن الْحَاجِب وتنقيحه للرضي، وَجَوَابه لَهُ، وَغَيره، فليعاوده من أَرَادَهُ فَإِنَّهُ أَطَالَ فِيهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 قَوْله: {وَتَأْتِي لتمن، وَعرض، [وتحضيض، وتقليل] ، ومصدري} . ل " لَو " معَان أخر غير مَا تقدم: أَحدهَا: التَّمَنِّي، نَحْو: {فَلَو أَن لنا كرة} [الشُّعَرَاء " 102] ، أَي: فليت لنا كرة، وَلِهَذَا نصب {فنكون} فِي جوابها. وَهل هِيَ الامتناعية أشربت معنى التَّمَنِّي؟ أَو قسم بِرَأْسِهِ؟ أَو هِيَ المصدرية أغنت عَن التَّمَنِّي؟ فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال. الثَّانِي: الْعرض، نَحْو: لَو تنزل عندنَا فتصيب خيرا. الثَّالِث: التحضيض، نَحْو [لَو] فعلت كَذَا، أَي: افْعَل كَذَا، وَالْفرق بَينهمَا: أَن الْعرض طلب بلين، والتحضيض طلب بحث. الرَّابِع: التقليل، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ردوا السَّائِل وَلَو بظلف محرق "، و " التمس وَلَو خَاتمًا من حَدِيد "، " اتَّقوا النَّار وَلَو بشق تَمْرَة "، أثْبته ابْن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 هِشَام الخضراوي، وَابْن السَّمْعَانِيّ فِي " القواطع ". قَالَ ابْن هِشَام: (وَفِيه نظر) . قَالَ الزَّرْكَشِيّ شَارِح " جمع الْجَوَامِع " -: (وَالْحق أَنه مُسْتَفَاد مِمَّا بعْدهَا، لَا من الصِّيغَة) . قلت: قَالَ الزَّرْكَشِيّ من أَصْحَابنَا فِي " شرح الْخرقِيّ ": فِي قَول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف لما قَالَ: تزوجت: " أولم وَلَو بِشَاة ": (المُرَاد بِالشَّاة هُنَا وَالله أعلم للتقليل، أَي: وَلَو بِشَيْء قَلِيل كشاة) انْتهى. قلت: فِيهِ شَيْء، لدلَالَة الْحَال، فَإِن عبد الرَّحْمَن رَضِي الله عَنهُ لما قدم الْمَدِينَة وَتزَوج هَذِه الْأَنْصَارِيَّة، كَانَ فَقِيرا جدا، بِحَيْثُ أَنه كَانَ لَا يملك شَيْئا، إِلَّا أَنه حصل شَيْئا بالمبايعة فَتزَوج بِهِ. الْخَامِس: المصدري، أثبتها الْفراء، والفارسي، والتبريزي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 وَأَبُو الْبَقَاء، وَابْن مَالك، وَغَيرهم. وعلامتها: أَن يصلح فِي موضعهَا " أَن "، وَأكْثر وُقُوعهَا، بعد مَا يدل على تمن، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يود أحدهم لَو يعمر ألف سنة} [الْبَقَرَة: 96] . وأنكرها الْأَكْثَر، وَقَالُوا: الْآيَة وَنَحْوهَا على حذف مفعول " يود " وَجَوَاب " لَو "، أَي: يود أحدهم طول الْعُمر، لَو يعمر ألف سنة لسر بذلك. قَوْله: {و " لَوْلَا " حرف يَقْتَضِي فِي [الْجُمْلَة الاسمية] امْتنَاع جَوَابه لوُجُود شَرطه، وَفِي [المضارعة] التحضيض، وَفِي [الْمَاضِيَة] التوبيخ وَالْعرض، وَقيل: [ولنفي] } . ل " لَوْلَا " معَان وأحوال: أَحدهَا: أَن يدْخل على الْجُمْلَة الاسمية فَيكون مَعْنَاهُ: امْتنَاع جَوَابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 لوُجُود شَرطه، نَحْو: لَوْلَا زيد لأكرمتك، أَي: لَوْلَا زيد مَوْجُود، فامتناع الْإِكْرَام لوُجُود زيد. الثَّانِي: أَن يدْخل على جملَة فعلية مصدرة بِفعل مضارع، نَحْو: {لَوْلَا تستغفرون الله} [النَّمْل: 46] ، فَهِيَ للتحضيض، وَهُوَ طلب بحث كَمَا تقدم. وَفِي مَعْنَاهُ: الْعرض، لَكِن تكون مصدرة بماض، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {لَوْلَا أخرتني إِلَى أجل قريب} [المُنَافِقُونَ: 10] ، وَتقدم الْفرق بَينهمَا. وَتَأْتِي أَيْضا مصدرة بماض للتوبيخ، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {لَوْلَا جاءو عَلَيْهِ بأَرْبعَة شُهَدَاء} [النُّور: 13] . وَذكر الْهَرَوِيّ أَنَّهَا ترد للنَّفْي، مثل " لم "، وَجعل مِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فلولا كَانَت قَرْيَة أمنت} [يُونُس: 98] . وَقَالَ الْأَكْثَر: هِيَ أَيْضا هُنَا للتوبيخ، أَي: فَهَلا كَانَت قَرْيَة من الْقرى الْمهْلكَة آمَنت قبل حُلُول الْعَذَاب فنفعها ذَلِك. تَنْبِيه: ذكرنَا فِي الْمَتْن من الْحُرُوف وَإِن كَانَ فِيهَا أَسمَاء سَبْعَة عشر، وَذكرنَا مَعَانِيهَا، محررة، وَللَّه الْحَمد. والمصنفون فِي الْأُصُول مِنْهُم المكثر مِنْهَا، كالتاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 الْجَوَامِع "، فَإِنَّهُ ذكر فِيهِ سِتَّة وَعشْرين حرفا، وَمِنْهُم الْمقل كالرازي وَابْن الْحَاجِب وَجمع، وَمِنْهُم الْمُتَوَسّط كالبرماوي وَنحن هُنَا. وَالَّذِي يَنْبَغِي ذكره فِي الْأُصُول: مَا لَهَا تعلق بالفقه وتذكر فِيهِ، فَمِنْهَا: حُرُوف الشَّرْط السِّتَّة، فَإِن لَهَا تَعْلِيقا فِيهِ، وَهِي: " إِن "، و " إِذا "، و " مَتى "، و " من "، و " أَي "، و " كلما "، وَمن الْمَذْكُور فِي الْأُصُول: " لَو "، و " من "، و " إِلَى "، و " حَتَّى "، و " بل "، و " لَكِن "، فَإِن لَهَا أحكاماً كَثِيرَة فِي الطَّلَاق والأقارير وَالْوَقْف وَغَيرهَا، وَكَذَلِكَ " الْوَاو "، و " الْفَاء "، و " ثمَّ "، و " الْبَاء "، و " فِي "، وَغَيرهَا. وَيَأْتِي فِي الْمَتْن أدوات الِاسْتِثْنَاء، وَفِي الْعَام أَسمَاء الشَّرْط، والاستفهام، والموصول، و " كل "، وَجَمِيع، وَغَيرهَا، وَفِي الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم " إِنَّمَا " بِالْكَسْرِ وَالْفَتْح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 قَوْله: {فصل} {لَا مُنَاسبَة ذاتية بَين اللَّفْظ ومدلوله، وَخَالف عباد المعتزلي} . ذهب أهل الْعلم من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم: إِلَى أَنه لَا مُنَاسبَة طبيعية بَين اللَّفْظ ومدلوله، لما تقدم من الْمُشْتَرك للشَّيْء وضده، كالقرء والجون وَنَحْوهمَا، وللشيء ونقيضه، ولاختلاف الِاسْم لاخْتِلَاف الْأُمَم مَعَ اتِّحَاد الْمُسَمّى، وَإِنَّمَا اخْتصَّ كل اسْم بِمَعْنى بِإِرَادَة الْفَاعِل الْمُخْتَار. وَخَالف فِي ذَلِك عباد بن سُلَيْمَان [الصَّيْمَرِيّ] المعتزلي، أَبُو سهل، من معتزلة الْبَصْرَة، من أَصْحَاب هِشَام بن عَمْرو، وَكَانَ الجبائي يصفه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 بالحذق فِي الْكَلَام. و [صيمرة] : كورة من كور الْجبَال الْمُسَمّى بعراق الْعَجم، وَالنِّسْبَة " صيمري " بِفَتْح الصَّاد وَالْمِيم. قَالَ المطرزي: (وَضم الْمِيم خطأ) . [وصميرة] أَيْضا بلد صَغِير من تِلْكَ الْبِلَاد. وَوَافَقَ عباداً أَرْبَاب علم الْكسر وَهُوَ الرياضي، وَاتَّفَقُوا على أَن وضع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 الْأَعْلَام يَكْتَفِي فِيهِ بالإرادة، قَالَه ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله ". وَاخْتلف النَّقْل عَن عباد حَيْثُ أثبتها. {فَقيل: أَرَادَ: أَن الْمُنَاسبَة حاملة للوضع} ، وَهُوَ مُقْتَضى نقل الْآمِدِيّ عَنهُ. {وَقيل: أَرَادَ: أَنَّهَا كَافِيَة فِي دلَالَة اللَّفْظ على الْمَعْنى} من غير وضع، وَهُوَ مُقْتَضى نقل الرَّازِيّ عَنهُ، وَهُوَ الَّذِي صَححهُ الْأَصْفَهَانِي، وَالْأول أقرب مِنْهُ، وَحَكَاهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عَن الْمُحَقِّقين، نَقله عَن الزَّرْكَشِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 قلت: وَإِلَيْهِ ميل الشَّيْخ شمس الدّين ابْن الْقيم الجوزية فِي كتبه كالهدي، وَغَيره. وَاحْتج لعباد: بِأَن الْمُنَاسبَة لَو لم تعْتَبر لَكَانَ اخْتِصَاص اللَّفْظ بذلك الْمَعْنى تَرْجِيحا من غير مُرَجّح. جَوَابه على نقل الرَّازِيّ -: أَنه ترجح بِإِرَادَة الْوَاضِع، وَلَو كَانَت ذاتية لما اخْتلفت باخْتلَاف النواحي، ولاهتدى كل أحد إِلَى معرفَة كل اللُّغَة، ولكان الْوَضع للضدين إِذا قُلْنَا: يجوز الِاشْتِرَاك، محالاً. وعَلى نقل الْآمِدِيّ: يكون الْمُرَجح لَيْسَ الْبَاعِث الْعقلِيّ، وَإِلَّا لما اخْتلف الْعَرَب والعجم فِيهِ، لَكِن إِرَادَة الْوَاضِع، أَو إلهام الله تَعَالَى إِيَّاه، إِن قُلْنَا: الْوَاضِع الْبشر، أَو حُضُوره ببالهم. قَوْله: {فَائِدَة: يجب حمل اللَّفْظ على حَقِيقَته دون مجازه ... إِلَى آخِره} . يَأْتِي أَلْفَاظ لَهَا مَعْنيانِ أَو أَكثر، وَلَكِن الأَصْل فِيهَا معنى، وَالْمعْنَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 الآخر طَار، فَيقدم مَا كَانَ هُوَ الأَصْل عِنْد احْتِمَال التَّعَارُض، فَإِن احتفت قَرَائِن بِإِرَادَة غير ذَلِك اتبع، وَقد ذكر ذَلِك الْعلمَاء من أهل الْأُصُول وَغَيرهم، وَلكنه مفرقاً، كل مَسْأَلَة فِي محلهَا، وَرَأَيْت الْقَرَافِيّ تبعه ابْن قَاضِي الْجَبَل جمعهَا فِي مَوضِع وَاحِد، فتبعتهما، وزدت بعض مسَائِل. فَمن ذَلِك: إِذا دَار اللَّفْظ بَين كَونه حَقِيقَة أَو مجَازًا مَعَ الِاحْتِمَال، كالأسد مثلا للحيوان المفترس حَقِيقَة، وللرجل الشجاع مجَاز، فَإِذا أطلق وَلَا قرينَة كَانَ للحيوان المفترس، لِأَن الأَصْل الْحَقِيقَة، وَالْمجَاز خلاف الأَصْل. فَإِن أُرِيد بِالْأَصْلِ الْغَالِب، فالمخالف فِيهِ ابْن جني كَمَا تقدم، وَإِن أُرِيد بِهِ الدَّلِيل، فَالْمُرَاد: أَن الْمجَاز على خلاف الدَّلِيل، وَتقدم حكم الْمجَاز الرَّاجِح والحقيقة المرجوحة وَالْخلاف فِي ذَلِك. وَكَذَلِكَ إِذا دَار الْأَمر فِي اللَّفْظ بَين جَرَيَانه على عُمُومه أَو تَخْصِيصه، فَالْأَصْل بَقَاء الْعُمُوم، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ} [النِّسَاء: 23] ، يدْخل فِي عُمُومه: الحرتين، والأمتين، وَإِذا كَانَت إِحْدَاهمَا أمة وَالْأُخْرَى حرَّة، فَيحمل على عُمُومه وَلَا يخصص بالحرتين. وَكَذَلِكَ الْمسَائِل الْبَاقِيَة تحمل على مَا قُلْنَا، وَيعرف ذَلِك بِأَدْنَى تَأمل لمن عِنْده أدنى تَمْيِيز. وَقد مثل الْقَرَافِيّ لكل مَسْأَلَة مِثَالا فِي " شرح التَّنْقِيح ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 قَوْله: {وَيحمل اللَّفْظ على عرف الْمُتَكَلّم مُطلقًا، وَتَأْتِي تتمته} . وَقد تقدم فِي الْمَسْأَلَة: إِذا احْتمل اللَّفْظ مَعْنيين فَأكْثر وَلَا قرينَة حمل على الأَصْل، فَإِن وجد قرينَة وَدَلِيل رَاجِح ترك الأَصْل وَعمل بذلك فِي الْجُمْلَة، فَإِذا كَانَ للمتكلم بذلك عرف رَجَعَ فِي ذَلِك إِلَى عرفه، كالفقيه مثلا يرجع إِلَى عرفه فِي كَلَامه ومصطلحاته، وَكَذَلِكَ الأصولي، والمحدث، والمفسر، واللغوي، وَنَحْوهم من أَرْبَاب الْعُلُوم، وَكَذَلِكَ إِذا سمع من الشَّارِع شَيْئا، حمله على عرفه من مَدْلُول اللَّفْظ. قَوْله: (وَتَأْتِي تتمته) . يَأْتِي اللَّفْظ اللّغَوِيّ والشرعي فِي آخر الْمُجْمل، فِيمَا إِذا كَانَ للفظ حَقِيقَة لغوية وَحَقِيقَة شَرْعِيَّة أَو عرفية، كَالصَّلَاةِ مثلا وَالدَّابَّة، هَل هُوَ الشَّرْعِيّ، أَو غَيره، أَو مُجمل؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 قَوْله: {فصل} {مبدأ اللُّغَات تَوْقِيف من الله تَعَالَى، بإلهام، أَو وَحي، أَو كَلَام، عِنْد أبي الْفرج، والموفق والطوفي، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، والظاهرية، والأشعرية، قَالَ فِي " الْمقنع ": (وَهُوَ الظَّاهِر عندنَا) . أَبُو هَاشم وَجمع: اصطلاحية، وَضعهَا وَاحِد أَو جمَاعَة، وَعرف الْبَاقُونَ بِإِشَارَة وتكرار. الْأُسْتَاذ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ توقيفي، وَغَيره [مُحْتَمل أَو اصْطِلَاح] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 وَقيل: عَكسه. ابْن عقيل [وَجمع] : بَعْضهَا تَوْقِيف، وَبَعضهَا اصْطِلَاح، وَعِنْده: الِاصْطِلَاح بعد خطابه تَعَالَى. القَاضِي، وأبوالخطاب، والباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَابْن برهَان، وَجمع: الْكل مُمكن. ووقف قوم} . هَذَا نقل الْعلمَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. فَأَبُو هَاشم وَجَمَاعَة قَالُوا: هِيَ اصطلاحية، وَضعهَا وَاحِد أَو جمَاعَة / وَعرف الْبَاقُونَ بِإِشَارَة وتكرار، كالطفل، والأخرس، والجارح للاصطياد. وَمَا قدمْنَاهُ عَن الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق الأسفراييني هُوَ الَّذِي حَكَاهُ عَنهُ ابْن برهَان، والآمدي، وَغَيرهمَا، وَهُوَ الصَّحِيح فِي النَّقْل عَنهُ، الْمَوْجُود فِي كِتَابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 وَنقل ابْن الْقشيرِي والرازي والبيضاوي عَنهُ: أَن مَا لم يحْتَج إِلَيْهِ اصْطِلَاح، وَفِي الْمَسْأَلَة قَول عكس قَول الْأُسْتَاذ، وَهُوَ: أَن يكون الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ مُحْتملا أَو مصطلحاً، على الرأيين، وَالْبَاقِي توقيفاً، وَرُبمَا عبر عَن هذَيْن الْقَوْلَيْنِ: بِأَن مبدأ اللُّغَة توقيفي وَالْبَاقِي مصطلح، وَبِالْعَكْسِ. وَتقدم قَول ابْن عقيل: وَغَيره وَحَكَاهُ عَن الْمُحَقِّقين، وَعِنْده: الِاصْطِلَاح بعد خطابه تَعَالَى، وأبطل القَوْل بسبقه لَهُ. وَتقدم قَول الباقلاني وَمن مَعَه: أَن الْكل مُمكن، فمذهب هَؤُلَاءِ لَا يقْضى فِيهَا بتوقيف وَلَا اصْطِلَاح، لَا فِي الْكل وَلَا فِي الْبَعْض، لتعارض الْأَدِلَّة، فَلم يرجحوا شَيْئا. وَذهب ابْن الْحَاجِب، وَابْن دَقِيق الْعِيد، والتاج السُّبْكِيّ: إِلَى الْوَقْف عَن الْقطع بِوَاحِد من الِاحْتِمَالَات، وَلَكِن التَّوْقِيف مُطلقًا هُوَ الْأَغْلَب على الظَّن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 وَفِي كَلَام أبي الْخطاب: (أَيْضا لَا يجوز أَن يكون شَيْء مِنْهَا توقيفاً) ، وَحكي عَن الْمُعْتَزلَة، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا أَظُنهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، أَو جده الْمجد -: (قطع قوم بِأحد مَا ذكرنَا عينا، وظنه قوم، وَتوقف الْأَكْثَر) . فَائِدَة: اخْتلف: هَل لهَذَا الْخلاف فَائِدَة أم لَا؟ ذهب كثير إِلَى أَنه لَا فَائِدَة لَهُ. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا وضعت لتكميل الْعلم بِهَذِهِ الصِّنَاعَة، أَو جَوَاز قلب مَا لَا يُطلق لَهُ بِالشَّرْعِ، كتسمية الْفرس ثوراً، وَعَكسه. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّهَا جرت فِي الْأُصُول مجْرى الرياضيات: كمسائل الْجَبْر، والمقابلة. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: (فَائِدَة الْخلاف، وَمن قَالَ بالتوقيف جعل التَّكْلِيف مُقَارنًا لكَمَال الْعقل، وَمن جعله اصْطِلَاحا جعله مُتَأَخِّرًا مُدَّة الِاصْطِلَاح) . وَزعم بعض الْحَنَفِيَّة أَنهم يَقُولُونَ بالتوقيف، وَعزا الِاصْطِلَاح للشَّافِعِيَّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 ثمَّ قَالَ: (وَفَائِدَة الْخلاف: أَنه يجوز التَّعَلُّق باللغة عِنْد الْحَنَفِيَّة لإِثْبَات حكم الشَّرْع من غير رُجُوع إِلَى الشَّرْع) . اسْتدلَّ الْقَائِل بالتوقيف بقوله تَعَالَى: {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا} [الْبَقَرَة: 31] . قَالُوا: ألهمه، أَو علمه بَعْضهَا، أَو اصْطِلَاحا سَابِقًا، أَو حَقِيقَة الشَّيْء وَصفته، لقَوْله تَعَالَى: {ثمَّ عرضهمْ على الْمَلَائِكَة} [الْبَقَرَة: 31] . رد: الأَصْل اتِّحَاد الْعلم، وَعدم اصْطِلَاح سَابق، وَحَقِيقَة اللَّفْظ، وَقد أكده ب (كلهَا) ، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " فِي حَدِيث الشَّفَاعَة: " وعلمك أَسمَاء كل شَيْء "، وَفِي الرَّابِع: إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه فِي قَوْله: {بأسماء هَؤُلَاءِ} ، فالتعليم للأسماء، وَضمير {عرضهمْ} للمسميات، ولظاهر قَوْله تَعَالَى: {مَا فرطنا فِي الْكتب من شَيْء} [الْأَنْعَام: 38] ، وَلقَوْله تَعَالَى: {علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} [العلق: 5] ، قَوْله تَعَالَى: {وَاخْتِلَاف أَلْسِنَتكُم} [الرّوم: 22] ، وَحمله على اللُّغَة أبلغ من الْجَارِحَة، وعَلى اخْتِلَاف اللُّغَات أولى من الإقدار عَلَيْهَا، لقلَّة الْإِضْمَار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 وَاسْتدلَّ الْقَائِل بالاصطلاح بقوله تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه} [إِبْرَاهِيم: 4] ، فاللغة سَابِقَة لِئَلَّا يلْزم الدّور. رد: لَا ينْحَصر التَّوْقِيف فِي الرسَالَة، وَيجوز تَعْلِيم آدم قبل بعثته. قَالُوا: التَّوْقِيف يتَوَقَّف على معرفَة أَن ذَلِك اللَّفْظ لذَلِك الْمَعْنى، وَلَا يعرف إِلَّا بِأَمْر خَارج، فَإِن كَانَ توقيفاً تسلسل، فَتعين الِاصْطِلَاح. رد: بِقطع التسلسل بِخلق علم ضَرُورِيّ لمن سمع [اللَّفْظ] أَنه لذَلِك الْمَعْنى، وَيلْزم مثله فِي الِاصْطِلَاح؛ لِأَن مَا يتخاطب بِهِ إِن كَانَ باصطلاح تسلسل، فَتعين التَّوْقِيف. قَوْله: {فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهمَا: يجوز تَسْمِيَة الشَّيْء بِغَيْر التَّوْقِيف، مَا لم يحرمه الله تَعَالَى، فَيبقى لَهُ اسمان: [توقيفي، واصطلاحي] ، ذكره القَاضِي [أَبُو يعلى] ، وَالشَّيْخ [تَقِيّ الدّين] ، [تبعا لِابْنِ الباقلاني] ، [وَصَاحبه] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 وَغَيرهم، وَخَالف [فِي ذَلِك] الظَّاهِرِيَّة وَغَيرهم} . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (ذهب بعض أَصْحَاب التَّوْقِيف إِلَى أَنه لَا يجوز، وَهُوَ قَول دَاوُد وَأَصْحَابه، ذكره ابْن حَامِد) انْتهى. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: يجوز أَن تسمى الْأَشْيَاء بِغَيْر الْأَسْمَاء الَّتِي وَضعهَا الله تَعَالَى علما لَهَا، إِذا لم يَقع حظر) . قَوْله: {الثَّانِيَة: أَحْمد، وَالْأَكْثَر؛ أَسمَاء الله تَعَالَى توقيفية لَا تثبت بِقِيَاس، وَعنهُ، وَقَالَهُ القَاضِي، وَغَيره، والمعتزلة، والكرامية: بلَى، والباقلاني، وَالْغَزالِيّ، والرازي: فِي الصِّفَات لَا الْأَسْمَاء} . قَالَ الْحَافِظ شهَاب الدّين ابْن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ ": (اخْتلف فِي الْأَسْمَاء الْحسنى، هَل هِيَ توقيفية؟ بِمَعْنى: أَنه لَا يجوز لأحد أَن يشتق من الْأَفْعَال الثَّابِتَة لله تَعَالَى أَسمَاء، إِلَّا إِذا ورد نَص فِي الْكتاب أَو السّنة. فَقَالَ الْفَخر الرَّازِيّ: " الْمَشْهُور عَن أَصْحَابنَا: أَنَّهَا توقيفية. وَقَالَت الْمُعْتَزلَة، والكرامية: إِذا دلّ الْعقل على أَن معنى اللَّفْظ ثَابت فِي حق الله تَعَالَى، جَازَ إِطْلَاقه على الله تَعَالَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 وَقَالَ القَاضِي، وَالْغَزالِيّ: الْأَسْمَاء توقيفية دون الصِّفَات. قَالَ: وَهَذَا الْمُخْتَار ". وَاحْتج الْغَزالِيّ: " بالِاتِّفَاقِ على أَنه لَا يجوز أَن يُسَمِّي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - باسم لم يسمه بِهِ أَبوهُ، وَلَا يُسمى بِهِ نَفسه، وَكَذَا كل كَبِير من الْخلق ". قَالَ: " فَإِذا امْتنع فِي حق المخلوقين، فامتناعه فِي حق الله تَعَالَى أولى ". وَاتَّفَقُوا على أَنه لَا يجوز أَن يُطلق عَلَيْهِ اسْم وَلَا صفة توهم نقصا، وَلَو ورد ذَلِك نصا، فَلَا يُقَال: ماهد، وَلَا زارع، وَلَا فالق، وَلَا نَحْو ذَلِك، وَإِن ثَبت فِي قَوْله تَعَالَى: {فَنعم الماهدون} [الذاريات: 48] ، {أم نَحن الزارعون} [الْوَاقِعَة: 64] ، {فالق الْحبّ والنوى} [الْأَنْعَام: 95] ، وَنَحْوهَا. وَلَا يُقَال لَهُ: ماكر وَلَا بِنَاء، وَإِن ورد: {ومكر الله} [آل عمرَان: 54] ، {وَالسَّمَاء بنيناها} [الذاريات: 47] . وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي: " الْأَسْمَاء تُؤْخَذ توقيفاً من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع "، فَكل اسْم ورد فِيهَا وَجب إِطْلَاقه فِي وَصفه، وَمَا لم يرد لَا يجوز وَلَو صَحَّ مَعْنَاهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الزّجاج: (لَا يجوز لأحد أَن يَدْعُو الله تَعَالَى بِمَا لم يصف بِهِ نَفسه) . وَالضَّابِط: أَن كلما أذن الشَّارِع أَن يدعى بِهِ سَوَاء كَانَ مشتقاً أَو غير مُشْتَقّ فَهُوَ من أَسْمَائِهِ، وَكلما جَازَ أَن ينْسب إِلَيْهِ سَوَاء كَانَ مِمَّا يدْخلهُ التَّأْوِيل أَو لَا فَهُوَ من صِفَاته، وَيُطلق عَلَيْهِ اسْما أَيْضا -) انْتهى كَلَام الْحَافِظ. وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور فِي " التَّحْصِيل ": (أجمع أَصْحَابنَا على أَن أَسمَاء الله توقيفية، وَلَا يجوز إِطْلَاق شَيْء مِنْهَا بِالْقِيَاسِ، وَإِن كَانَ فِي معنى الْمَنْصُوص، وَجوزهُ معتزلة الْبَصْرَة. وَقَالَ: وَأما أَسمَاء غَيره، فَالصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي: جَوَاز الْقيَاس فِيهَا، وَقَالَ بعض أَصْحَابه مَعَ أَكثر أهل الرَّأْي بامتناع الْقيَاس، وَأَجْمعُوا: أَنه لَو حدث فِي الْعَالم شَيْء بِخِلَاف الحوداث كلهَا جَازَ أَن يوضع لَهُ اسْم) انْتهى. وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى من أَئِمَّة أَصْحَابنَا فِي " الْمُعْتَمد ": (يجوز أَن يُسمى الله تَعَالَى بِكُل اسْم ثَبت لَهُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَة، وَدلّ الْعقل والتوقيف عَلَيْهِ، إِلَّا أَن يمْنَع من ذَلِك سمع وتوقيف، وَلَا نقف على جَوَاز تَسْمِيَته " دَلِيلا "، وَأَن يدعى بِهِ على مَا بَينه فِيمَا بعد، وَإِن لم يرد بذلك نَص كتاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 وَلَا سنة وَلَا إِجْمَاع، فَإِن جمَاعَة الْمُتَكَلِّمين يمْنَعُونَ من ذَلِك، وَقد أجَاز أَحْمد تَسْمِيَته بذلك، وَفِي الدُّعَاء " يَا دَلِيل المتحيرين ") . قَالَ فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (وَيجوز أَن يُقَال: يَا قديم الْإِحْسَان، وَيَا دَلِيل الحيارى دلَّنِي على طَرِيق الصَّالِحين، نَص عَلَيْهِ أَحْمد، فَإِنَّهُ كالخالق والرازق والرب فِي الْقدَم) انْتهى. وَسَماهُ: دَالا، فَقَالَ: الدَّال الله، على مَا تقدم، لِأَن معنى الدَّلِيل وَالدَّال: المرشد. قلت: وَكَذَا قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " اللمع " لَهُ: (الدَّال: الناصب للدليل، وهوالله عز وَجل) انْتهى. وَنقل الْمَرْوذِيّ عَن أَحْمد أَنه قَالَ: (لَا يُوصف الله تَعَالَى بِأَكْثَرَ مِمَّا وصف بِهِ نَفسه، وَلَا نتعدى الْقُرْآن والْحَدِيث) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 وَظَاهر هَذَا: أَنه لَا يجوز تَسْمِيَته إِلَّا بِمَا سمى بِهِ نَفسه، أَو سَمَّاهُ رَسُوله. وَهَذَا مَحْمُول على أَنه لَا يجوز تَسْمِيَته بِغَيْر ذَلِك مِمَّا لَا يثبت لَهُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَة وَقد منع مِنْهُ السّمع. وَقد ورد الشَّرْع بِإِطْلَاق أَسمَاء وصفات عَلَيْهِ يحِيل الْعقل مَعَانِيهَا فِي اللُّغَة، وَردت على طَرِيق الْجَزَاء. وَمن ذَلِك: أَنه وصف نَفسه بِأَنَّهُ يُؤْذى بقوله تَعَالَى: {يُؤْذونَ الله وَرَسُوله} [الْأَحْزَاب: 57] ، وبمحارب بقوله تَعَالَى: {إِنَّمَا جزاؤا الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله} [الْمَائِدَة: 33] ، ومحارب بقوله تَعَالَى: {فأذنوا بِحَرب من الله وَرَسُوله} [الْبَقَرَة: 279] ، وساخر بقوله: {سخر الله مِنْهُم} [التَّوْبَة: 79] ، وماكر بقوله: {ومكروا ومكر الله} [آل عمرَان: 54] ، ومستهزئ بقوله تَعَالَى: {الله يستهزئ بهم} [الْبَقَرَة: 15] ، وَكَاتب بقوله: {وَلَقَد كتبنَا فِي الزبُور} [الْأَنْبِيَاء: 105] ، {وكتبنا لَهُ فِي الألواح} [الْأَعْرَاف: 145] ، وباني بقوله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء بنيناها بأييد} [الذاريات: 47] . [فَهَذِهِ] تستحيل مَعَانِيهَا فِي اللُّغَة، وَإِنَّمَا وَردت على طَرِيق الْجَزَاء) . انْتهى كَلَام القَاضِي فِي " الْمُعْتَمد ". فَالَّذِي قدمْنَاهُ: هُوَ ظَاهر رِوَايَة الْمَرْوذِيّ، وَهُوَ ظَاهر اخْتِيَار أبي الْبَقَاء فِي " إعرابه "، وَقطع بِهِ فِي " نِهَايَة المبتدئين " عَن الإِمَام أَحْمد، وَإِنَّمَا حكى الثَّانِي وَجها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 708 قَوْله: {خَاتِمَة: [طَرِيق] معرفَة اللُّغَة: النَّقْل، تواتراً فِيمَا لَا يقبل تشكيكاً، وآحاداً [فِي غَيره] ، والمركب مِنْهُ وَمن الْعقل، [وَقَالَ] ابْن جني: والقرائن أَيْضا} . لمعْرِفَة اللُّغَة طرق: أَحدهَا: النَّقْل، وَهُوَ قِسْمَانِ: تَوَاتر، وآحاد. فالتواتر: مَا لَا يقبل تشكيكاً كالسماء، وَالْأَرْض، وَالْجِبَال، وَنَحْوهَا، ولغات الْقُرْآن وَالْأَحَادِيث من هَذَا الْقسم. والآحاد: غير ذَلِك، وَهُوَ أَكثر اللُّغَة، فيتمسك بِهِ فِي الْمسَائِل الظنية دون القطعية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 وَالثَّانِي: الْمركب مِنْهُ وَمن الْعقل، وَهُوَ استنباط الْعقل من النَّقْل، مِثَاله: كَون الْجمع الْمُعَرّف ب " أل " للْعُمُوم، فَإِنَّهُ مُسْتَفَاد من مقدمتين نقليتين، حكم الْعقل بواسطتهما. إِحْدَاهمَا: أَنه يدْخلهُ الِاسْتِثْنَاء. وَالثَّانيَِة: أَن الِاسْتِثْنَاء إِخْرَاج [بعض] مَا تنَاوله اللَّفْظ. فَحكم الْعقل عِنْد وجود هَاتين المقدمتين بِأَنَّهُ للْعُمُوم. وَلَا اعْتِبَار بِمَا يُخَالف ذَلِك، مِمَّن يَقُول: إِذا كَانَت المقدمتان نقليتين، كَانَت النتيجة أَيْضا نقلية، وَإِنَّمَا الْعقل تفطن لنتيجتها. لأَنا نقُول: لَيْسَ هَذَا الدَّلِيل مركبا من نقليتين، لعدم تكَرر الْحَد الْأَوْسَط فيهمَا، وَإِنَّمَا هُوَ مركب من مُقَدّمَة نقلية، وَهِي: الِاسْتِثْنَاء إِخْرَاج بعض مَا تنَاوله اللَّفْظ، ومقدمة عقلية لَازِمَة لمقدمة أُخْرَى نقلية، وَهِي: أَن كل مَا دخله الِاسْتِثْنَاء عَام، لِأَنَّهُ لَو لم يكن عَاما لم يدْخل الِاسْتِثْنَاء فِيهِ، ثمَّ جعلت هَذِه الْقَضِيَّة كبرى للمقدمة الْأُخْرَى النقلية، فَصَارَ صُورَة الدَّلِيل هَكَذَا: الْجمع الْمحلى ب " أل " يدْخلهُ الِاسْتِثْنَاء، وَكلما يدْخلهُ الِاسْتِثْنَاء عَام، ينْتج: أَن الْمحلى ب " أل " عَام. الثَّالِث: الْقَرَائِن، قَالَه [ابْن جني] ، فَقَالَ فِي " الخصائص ": (من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 710 قَالَ: إِن اللُّغَة لَا تعرف إِلَّا نقلا، فقد أَخطَأ؛ فَإِنَّهَا تعرف بالقرآئن أَيْضا، فَإِن الرجل إِذا سمع قَول الشَّاعِر: ( [قوم] إِذا الشَّرّ أبدى ناجذيه لَهُم ... طاروا إِلَيْهِ زرافات ووحدانا) علم أَن زرافات بِمَعْنى: جماعات) انْتهى. قَوْله: {قَالَ الشَّيْخ وَغَيره: [والأدلة] القولية قد تفِيد الْيَقِين} . يَعْنِي: تفِيد الْقطع بالمراد، وَهَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّة السّلف وَغَيرهم. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: ( { [عِنْد] السّلف لَا يُعَارض الْقُرْآن [غَيره] بِحَال، وَحدث مَا قيل: أُمُور قَطْعِيَّة عقلية تخَالف الْقُرْآن) } انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 711 وَقد حكوا فِي ذَلِك ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا تفيده مُطلقًا. وَالثَّانِي: لَا تفيده مُطلقًا، قَالُوا: لتوقف الْيَقِين فِيهَا على أُمُور لَا طَرِيق إِلَى الْقطع بهَا، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ فِي " الْأَبْكَار "، والرازي فِي " الْمَحْصُول "، و " الْأَرْبَعين ". [وَالثَّالِث] : أَنَّهَا قد تفِيد إِذا انْضَمَّ إِلَيْهَا تَوَاتر [أَو غَيره] من الْقَرَائِن الحالية، وَلَا عِبْرَة بِالِاحْتِمَالِ، فَإِنَّهُ إِذا لم ينشأ عَن دَلِيل لم يعْتَبر، وَإِلَّا لم يوثق بمحسوس. انْتهى. قَالَ الكوراني: (الْأَدِلَّة اللفظية النقلية بِدُونِ قرينَة لَا تفِيد الْقطع بالحكم، لاحْتِمَال مجَاز، أَو اشْتِرَاك، أَو غير ذَلِك مِمَّا يخل بالتفاهم، وَأما مَعَ انضمام قرينَة قَطْعِيَّة كالتواتر على أَن المُرَاد ذَلِك قطعا، وَلذَلِك لَا يجوز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712 للمجتهد أَن يُخَالف مَا أجمع عَلَيْهِ، لِأَن الْمجمع عَلَيْهِ لَا يُمكن أَن يكون خلاف حكم الله تَعَالَى، فإفادة الْيَقِين بِمثل هَذِه الْقَرِينَة مُسلم، وَلَكِن الْمَتْن الْقطعِي إِذا خلا عَن هَذِه الْقَرِينَة لَا يُفِيد قطعا، وَيظْهر ذَلِك فِي {أقِيمُوا الصَّلَاة} [الْأَنْعَام: 72] ، وَفِي {ثَلَاثَة قُرُوء} [الْبَقَرَة: 228] ، فَإِن الْمَتْن فِي الْكل سَوَاء، مَعَ أَن المُرَاد من الأول قَطْعِيّ دون الثَّانِي، وَذَلِكَ وَاضح. وَالْحق: أَن النَّفْي والإيجاب لم يردا على شَيْء وَاحِد، فَإِن الَّذِي يَقُول: لَا دلَالَة قَطْعِيَّة فِي النقليات، يُرِيد بذلك نظرا إِلَى الدَّلِيل مَعَ قطع النّظر عَن الْقَرَائِن، وَالَّذِي يَقُول بِهِ، يضم إِلَيْهِ الْقَرِينَة، وَمن قَالَ: " إِن اللَّفْظ بعد الْقَرِينَة لَا يُفِيد فَهُوَ مكابر) انْتهى. وَهُوَ حسن. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (يُقَال: مَا المعني بِالدَّلِيلِ اللَّفْظِيّ؟ الظَّوَاهِر مَعَ النُّصُوص، أَو الظَّوَاهِر بمفردها؟ وَيُقَال أَيْضا -: الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَين مُرَاده فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَلنَا أَلْفَاظ نقطع بمدلولها بمفردها، وَتارَة بانضمام قَرَائِن، أَو شَهَادَة الْعَادَات، ثمَّ يمْنَع مُعَارضَة الدَّلِيل الْعقلِيّ الْقطعِي للدليل الشَّرْعِيّ. وَقَوْلهمْ: الْمَوْقُوف على المظنون مظنون، بَاطِل، لِأَن الْمَوْقُوف على الْمُقدمَات الظنية قد يكون قَطْعِيا، بل الْمَوْقُوف على الشَّك قد يكون قَطْعِيا، فضلا عَن الظَّن، وَيعرف بِوُجُوه: أَحدهَا: الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة قَطْعِيَّة. الثَّانِي: أَن الشَّك فِي الرَّكْعَات يُوجب الْإِتْيَان بِرَكْعَة أُخْرَى، فَيقطع بِالْوُجُوب عِنْد الشَّك، وَكَذَا لَو شككنا فِي عين الْحَلَال كاشتباه ميتَة بمذكاة، وأجنبية بأخته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 713 الثَّالِث: إِقَامَة الْبَيِّنَة عِنْد الْحَاكِم، وَانْتِفَاء الريب يقطع بِوُجُوب الحكم، حَتَّى لَو جحد وُجُوبه كفر. فَفِي هَذِه الصُّورَة؛ الْقطع مُتَوَقف على غير قَطْعِيّ) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 714 قَوْله: {فصل فِي الْأَحْكَام} {الْحسن والقبح بِمَعْنى: ملاءمة الطَّبْع ومنافرته، وَكَونه صفة كَمَال وَنقص، عَقْلِي، وَبِمَعْنى: الْمَدْح وَالثَّوَاب، والذم وَالْعِقَاب، شَرْعِي، فَلَا حَاكم إِلَّا الله تَعَالَى، فالعقل لَا يحسن وَلَا يقبح، وَلَا يُوجب وَلَا يحرم، عِنْد أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، والأشعرية، قَالَ ابْن عقيل: وَأهل السّنة، وَالْفُقَهَاء، وَخَالف التَّمِيمِي، وَأَبُو الْخطاب، وَالشَّيْخ، وَابْن الْقيم، وَالْحَنَفِيَّة والمعتزلة، والكرامية، وللمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَأهل الحَدِيث، قَولَانِ، فقدماء الْمُعْتَزلَة: لذاته، وَقيل: بِصفة لَازِمَة، وَقيل بِهِ فِي الْقَبِيح، والجبائية بِصفة عارضة} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 715 لما فَرغْنَا من ذكر مَا يستمد مِنْهُ من اللُّغَة، شرعنا فِي ذكر مَا يستمد مِنْهُ من الْأَحْكَام. إِذْ لَا بُد من حَاكم، وَحكم، ومحكوم فِيهِ، ومحكوم عَلَيْهِ، وَالْكَلَام الْآن فِي الحكم. فالحسن والقبح يُطلق لثلاث اعتبارات: أَحدهَا: مَا يلائم الطَّبْع وينافره، كَقَوْلِنَا: إنقاذ الغريق حسن، واتهام البريء قَبِيح، وَالصَّوْت الطّيب حسن بِهَذَا الْمَعْنى، وَالصَّوْت الكريه قَبِيح. الثَّانِي: صفة الْكَمَال والمقص، كَقَوْلِنَا: الْعلم حسن، وَالْجهل قَبِيح. [فالحسن والقبح] بِهَذَيْنِ الاعتبارين عقليان بِلَا نزاع، أَي: أَن الْعقل يسْتَقلّ بإدراكهما من غير توقف على الشَّرْع. الثَّالِث: بِمَعْنى: الْمَدْح وَالثَّوَاب، والذم وَالْعِقَاب، شَرْعِي، فَلَا حَاكم إِلَّا الله، فالعقل لَا يحسن وَلَا يقبح، وَلَا يُوجب وَلَا يحرم، عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، والأشعرية، وَبَعض الْجَهْمِية. قَالَ أَبُو الْخطاب وَابْن عقيل: (هُوَ مَذْهَب أَكثر أَصْحَابنَا) . زَاد ابْن عقيل: (هُوَ مَذْهَب أَحْمد، وَأهل السّنة، وَالْفُقَهَاء، وَالْقَاضِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 716 أبي يعلى، وَتعلق بقول أَحْمد: (لَيْسَ فِي السّنة قِيَاس، وَلَا تضرب لَهَا أَمْثَال، وَلَا تدْرك بِالْعقلِ، وَإِنَّمَا هُوَ الِاتِّبَاع) ورده أَبُو الْخطاب. قَالَ الْآمِدِيّ: (وَهُوَ قَول أَكثر الْعُقَلَاء وَأَن عِنْدهم يطلقان بِاعْتِبَار مُوَافقَة الْغَرَض ومخالفته، وَبِاعْتِبَار أَمر الشَّارِع بالثناء على فَاعله فَيعم الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب، أَو ذمه فَيخْتَص الْحَرَام. وَبِاعْتِبَار مَا لفَاعِله مَعَ الْعلم وَالْقُدْرَة فعله بِمَعْنى نفي الْحَرج، فَيعم الْمُبَاح زَاد بَعضهم: وَالْمَكْرُوه والقبيح مَا قابله. وَهَذِه الاعتبارات إضافية لَا ذاتية، لاختلافها باخْتلَاف الْأَغْرَاض، وَأمر الشَّارِع، وأحوال الفاعلين. أما فعل الله تَعَالَى فَحسن بعد الشَّرْع بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي وَالثَّالِث، وَقَبله بالثالث. وَفعل الْعَاقِل قبل الشَّرْع حسن بِالْأولِ / وَالثَّالِث وَبعده بِالْجَمِيعِ) . وَفعل الله تَعَالَى الِاعْتِبَار الأول، هِيَ مَسْأَلَة: فعله وَأمره لعِلَّة أَو حِكْمَة، أَولهمَا، على مَا يَأْتِي قَرِيبا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 717 وَقَالَ أَبُو الْحسن التَّمِيمِي من أَصْحَابنَا -، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَابْن الْقيم: (الْعقل يحسن ويقبح، وَيُوجب وَيحرم) . وَقَالَهُ أَبُو الْخطاب، وَقَالَ: (هُوَ قَول عَامَّة الْعلمَاء من الْفُقَهَاء والمتكلمين وَعَامة الفلاسفة) ، وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة. [وللمالكية] ، وَالشَّافِعِيَّة، وَأهل الحَدِيث، قَولَانِ وَنَصره [أَبُو إِسْحَاق السجْزِي] وَأَبُو الْقَاسِم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 718 الزنجاني وَقَالَ: الأول أحدثه الْأَشْعَرِيّ. وقالته أَيْضا الْمُعْتَزلَة، والكرامية، والرافضة أَيْضا -. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَقَالَ شَيخنَا يَعْنِي بِهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَغَيره: الْحسن والقبح ثابتان، والإيجاب وَالتَّحْرِيم بِالْخِطَابِ، والتعذيب مُتَوَقف على الْإِرْسَال، ورد الْحسن والقبح الشرعيين إِلَى الملائمة والمنافرة، لِأَن الْحسن الشَّرْعِيّ تضمن الْمَدْح وَالثَّوَاب الملائمين، والقبح الشَّرْعِيّ تضمن الذَّم وَالْعِقَاب المنافرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 719 وَاخْتَارَ ابْن الْخَطِيب فِي آخر كتبه: أَن الْحسن والقبح العقليين ثابتان فِي أَفعَال الْعباد) انْتهى. قَالَ قدماء الْمُعْتَزلَة: بِغَيْر صفة فِي الْفِعْل بل لذاته. فَقَالُوا: الْعقل هُوَ المحسن والمقبح والموجب وَالْمحرم لذوات الْأَفْعَال، فَلَيْسَ فِي الْفِعْل صفة تَقْتَضِي حسنه أَو قبحه، بل الْفِعْل يَقْتَضِي لذاته أَحدهمَا. وَقَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين مِنْهُم: إِن حسن الْفِعْل وقبحه لأجل صفة زَائِدَة على الْفِعْل لَازمه لَهُ، تَقْتَضِي تِلْكَ الصّفة اللَّازِمَة حسن الْفِعْل أَو قبحه، مثل: الزِّنَا قَبِيح، لِأَنَّهُ مُشْتَمل على مفْسدَة، لاختلاط النّسَب، المفضي إِلَى ترك تعهد الْأَوْلَاد. وَالصَّوْم حسن، لِأَنَّهُ يكسر الشَّهْوَة الباعثة على الْمفْسدَة. وَقَالَ بَعضهم: إِن الْفِعْل الْقَبِيح متصف بِصفة توجب قبحه، دون الْفِعْل الْحسن، فَإِنَّهُ لذاته يَقْتَضِي الْحسن، لِأَن الْفِعْل إِن كَانَ فِيهِ مَا يكون مُؤديا إِلَى الْمفْسدَة يكون قبيحاً، وَإِلَّا فحسناً. وَقَالَت الجبائية: يحصلان فيهمَا بِصفة عارضة توجبهما، لَكِن الصّفة لَيست حَقِيقَة، يل فِي وُجُوه واعتبارات، فَإِن كَانَت بِالْقِيَاسِ إِلَى شَيْء آخر، فَهِيَ اعْتِبَار لملاحظة الْعقل الْمحل المجاوز عَنهُ إِلَى غَيره، وَإِلَّا فَهُوَ وَجه، تَشْبِيها بِوَجْه الْإِنْسَان لامتيازه بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 720 كَالْقَتْلِ قَبِيح بِاعْتِبَار أَنه وَاقع لَا عَن سَبَب سَابق، وَلَا عوض لَاحق، وَيحسن بِاعْتِبَار سبق سَببه كَالْقصاصِ، أَو عوض لَاحق كَالشَّهَادَةِ. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (لم يقل أحد إِن الْحسن والقبيح لَازم لذات الْفِعْل كَمَا تظن طَائِفَة نقلت قَوْلهم) . وَقَالَ: - أَيْضا -: (كَون الْفِعْل سَببا للثَّواب وَالْعِقَاب مِمَّا يلائم الْفَاعِل وينافره، وكل ملائمة ومنافرة للْإنْسَان إِنَّمَا تعود إِلَى الملائمة الطبيعية والمنافرة الطبيعية، لَكِن قد يكون الْفِعْل ملائماً من وَجه، منافراً من وَجه، وعقله يَأْمُرهُ بأنفعهما لَهُ، فَمن ادّعى حسنا أَو قبحاً عقلياً أَو شَرْعِيًّا بِغَيْر ملاءمة ومنافرة فقد قَالَ مَا لَا يعرف، وَلم يتَصَوَّر مَا يَقُول، وَلَا دَلِيل لمن نَفَاهُ، كَمَا لَا دَلِيل لمن أثْبته بِغَيْر ملاءمة الْفَاعِل ومنافرته) انْتهى. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (لَيْسَ مُرَاد الْمُعْتَزلَة بِأَن الْأَحْكَام عقلية: أَن الْأَوْصَاف مُسْتَقلَّة بِالْأَحْكَامِ، [وَلَا أَن] الْعقل هُوَ الْمُوجب أَو الْمحرم، بل مَعْنَاهُ عِنْدهم: أَن الْعقل أدْرك أَن الله تَعَالَى بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَة كلف بترك الْمَفَاسِد وَتَحْصِيل الْمصَالح، فالعقل أدْرك الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم، لَا أَنه أوجب وَحرم، فالنزاع مَعَهم فِي أَن الْعقل أدْرك ذَلِك أم لَا؟ فخصومهم تَقول: ذَلِك جَائِز على الله، وَلَا يلْزم من الْجَوَاز الْوُقُوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 721 وهم يَقُولُونَ: بل هَذَا عِنْد الْعقل من قبل الْوَاجِبَات، فَكَمَا يُوجب الْعقل أَنه يجب أَن يكون الله عليماً قَدِيرًا متصفاً بِصِفَات الْكَمَال، كَذَلِك أدْرك وجوب مُرَاعَاة الله تَعَالَى للْمصَالح والمفاسد. فَهَذَا مَحل النزاع، وَبَعْضهمْ لَا يفهم عَنْهُم إِلَّا أَن الْعقل هُوَ الْمُوجب) انْتهى. وَقَالَ أَيْضا -: (إِذا أَمر الله بِفعل فَهُوَ حسن بالِاتِّفَاقِ، وَإِذا نهى عَن فعل فقبيح بالِاتِّفَاقِ، لَكِن حسنه وقبحه إِمَّا أَن ينشأ عَن نفس الْفِعْل وَالْأَمر وَالنَّهْي كَمَا يُقَال، أَو ينشأ عَن تعلق الْأَمر وَالنَّهْي، أَو من الْمَجْمُوع. فَالْأول قَول الْمُعْتَزلَة، وَلِهَذَا لَا يجوزون نسخ الْعِبَادَة قبل دُخُول وَقتهَا. وَالثَّانِي: قَول الْأَشْعَرِيّ وَمن وَافقه من الطوائف. وَالثَّالِث: أَن ذَلِك قد ينشأ عَن الْأَمريْنِ، فَتَارَة يَأْمر بِالْفِعْلِ لحكمة تنشأ من نفس الْأَمر دون الْمَأْمُور بِهِ، وَهَذَا الَّذِي يجوز نسخه قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل، كنسخ الصَّلَاة لَيْلَة الْمِعْرَاج إِلَى خمس، وكما نسخ أَمر إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام بِذبح وَلَده، وَتارَة لحكمة تنشأ من الْفِعْل نَفسه، وَتارَة لحكمة من الْفِعْل حصلت بِالْأَمر) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 722 وَقَالَ أَيْضا هُوَ وَغَيره: (عِنْد الْمُعْتَزلَة: الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة مُؤَكدَة لما علم بِالْعقلِ، وَعند غَيرهم: أَن السمعية منشأة للْحكم) انْتهى. اسْتدلَّ لِلْقَوْلِ الأول: بقوله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} [الْإِسْرَاء: 15] ، وَقَوله تَعَالَى: {لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} [النِّسَاء: 165] ، وَيلْزم من ترك الْوَاجِب وَفعل الْمحرم عدم الْأَمْن من الْعَذَاب، لعدم تحققهما دونه، وَاللَّازِم مُنْتَفٍ قبل الشَّرْع بِالْآيَةِ، فَلَا ملزوم، وَاعْتمد عَلَيْهِ الْآمِدِيّ وَغَيره. وَاعْترض: بِأَن هَذَا فِيمَا طَرِيقه الشَّرْع لَا الْعقل، بِدَلِيل أدلتنا، قَالَه أَبُو الْخطاب، وَلَا يلْزم من الْوُجُوب وَالتَّحْرِيم اسْتِحْقَاق الْعَذَاب، كَمَا سبق من أَنه الطّلب الْجَازِم فَقَط، ثمَّ لَا يلْزم من اسْتِحْقَاق الْعَذَاب وُقُوعه، لجَوَاز الْعَفو، أَو لِأَن السّمع شَرط فِيهِ، وإرسال الرُّسُل أقطع للْعُذْر، ودلالتها مَفْهُوم. رد: بِعُمُوم الْآيَة، وَتَأْتِي أدلتهم، وَاللَّازِم يلْزم الْمُعْتَزلَة على أصلهم، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: (لَا يسْتَحق الْعَذَاب إِلَّا بإرسال الرُّسُل فيهم، وَهُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 723 شَرط حُصُوله، فالأمن مِنْهُ حَاصِل، وَلِأَنَّهُ لَا تَكْلِيف قبل الْبلُوغ كَمَا قيل) ، قَالَ ابْن مُفْلِح: وَفِيه نظر. وَمنعه أَبُو الْخطاب والمعتزلة فِيمَا يُسْتَفَاد بِالْعقلِ إِن عقل الْحسن والقبح، وَأَنه لَو قبح الْكَذِب لذاته أَو صفة لَازِمَة اجْتمع النقيضان فِي صدق من قَالَ لأكذبن غَدا، [وَكَذَا] فِي كذبه، وَلما حسن إِذا تعين لمنع مَعْصُوم من قتل. ورد هَذَا بِمَنْع تَعْيِينه، ثمَّ بِمَنْع حسنه. وَقد أَطَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَغَيره، من كَلَام الْفَرِيقَيْنِ فِي الْأَدِلَّة والردود. وَمن قَوَاعِد الْقَائِلين بِأَنَّهُ لَا حَاكم إِلَّا الله: أَن حسن الْفِعْل وقبحه ليسَا لذات الْفِعْل، وَلَا لأمر دَاخل فِي ذَاته، وَلَا لخارج لَازم لذاته، حَتَّى يحكم الْعقل بِحسن الْفِعْل أَو قبحه، بِنَاء على تحقق مَا بِهِ الْحسن والقبح. وَالْحَنَفِيَّة وَإِن لم يجْعَلُوا الْعقل حَاكما صَرِيحًا، وَلَكِن قَالُوا حسن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 724 بعض الْأَشْيَاء وقبحها لَا يتَوَقَّف على الشَّرْع، بِمَعْنى: أَن الْعقل يحكم فِي بعض الْأَشْيَاء بِأَنَّهَا منَاط للثَّواب وَالْعِقَاب، وَإِن لم يَأْتِ نَبِي وَلَا كتاب. وَبَعض تِلْكَ الْأَحْكَام بديهي، وَبَعضهَا كسبي. قَوْله: {فَائِدَة: قَالَ ابْن عقيل: لَا يرد الشَّرْع بِمَا يُخَالف الْعقل اتِّفَاقًا، وَقَالَهُ التَّمِيمِي، إِلَّا بِشَرْط مَنْفَعَة تزيد فِي الْعقل على ذَلِك الحكم، وَقَالَهُ القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، والحلواني، فِيمَا يعرف ببدائه الْعُقُول وضروراتها، وَإِلَّا فَلَا يمْتَنع أَن يرد بذلك، وَقيل: يرد بِمَا [يُجِيزهُ لَا بِمَا] يحيله} . هَذِه الْمَسْأَلَة نقلتها من " مسودة بني تَيْمِية "، [و] من " أصُول ابْن مُفْلِح " ملفقة، وَهِي من تَوَابِع الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " لما ذكر بحوث الأشعرية فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 725 قبل هَذِه من الإيرادات والجوابات قَالَ: وَأما أَصْحَابنَا: فَقَالَ أَبُو الْحسن التَّمِيمِي: لَا يجوز أَن يرد الشَّرْع بِمَا يُخَالف حكم الْعقل إِلَّا بِشَرْط مَنْفَعَة تزيد فِي الْعقل على ذَلِك الحكم: كذبح الْحَيَوَان، والبط، والفصد) . وَقَالَ أَيْضا -: (لَا يجوز أَن يرد بحظر مُوجبَات الْعقل: كشكر الْمُنعم، وَالْعدْل والإنصاف، وَأَدَاء الْأَمَانَة، وَنَحْوه، أَو إِبَاحَة محظوراته نَحْو: الظُّلم، وَالْكذب، وَكفر النِّعْمَة، وَالْجِنَايَة) . قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": (وَإِلَى هَذَا ذهب عَامَّة أهل الْعلم من الْفُقَهَاء والمتكلمين وَعَامة الفلاسفة) . قلت: وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن أهل الْكتاب. وَقَالَ القَاضِي، والحلواني، وَغَيرهمَا: (مَا يعرف ببدائه الْعُقُول وضروراتها: كالتوحيد، وشكر الْمُنعم، وقبح الظُّلم، لَا يجوز أَن يرد الشَّرْع بِخِلَافِهِ، وَمَا يعرف بتوليد الْعقل استنباطاً واستدلالاً فَلَا يمْتَنع أَن يرد بِخِلَافِهِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 726 وَمَعْنَاهُ لأبي الْخطاب فَإِنَّهُ قَالَ: (مَا يثبت بِالْعقلِ يَنْقَسِم قسمَيْنِ: فَمَا كَانَ مِنْهُ وَاجِبا لعَينه: كشكر الْمُنعم، والإنصاف، وقبح الظُّلم، فَلَا يَصح أَن يرد الشَّرْع بِخِلَاف ذَلِك. وَمَا كَانَ وَجب لعِلَّة أَو دَلِيل مثل: الْأَعْيَان المنتفع بهَا الَّتِي فِيهَا الْخلاف، فَيصح أَن يرْتَفع الدَّلِيل وَالْعلَّة، فيرتفع ذَلِك الحكم، وَهَذَا غير مُمْتَنع، كفروع الدّين كلهَا تثبت بأدلة، ثمَّ تنسخ الْأَدِلَّة فيرتفع الحكم) . وَقَالَ: (وَقد قيل: إِن الشَّرْع يرد بِمَا لَا يَقْتَضِيهِ الْعقل، إِذا كَانَ الْعقل لَا يحيله: كتكليف مَا لَا يُطَاق، وَأَن الله سُبْحَانَهُ يُرِيد جَمِيع أَفعَال الْعباد حسنها وقبيحها، ويعاقبهم على الْقَبِيح، وَغير ذَلِك) انْتهى. قَالَ القَاضِي وَغَيره [فِيمَا] لَا يجوز أَن يرد الشَّرْع بِخِلَاف الْعقل: لَا يَقع فِيهِ الْخلاف الْآتِي فِي مَسْأَلَة الْأَعْيَان، بل هُوَ على صفة وَاحِدَة لَا تَتَغَيَّر: كمعرفة الله تَعَالَى، وَمَعْرِفَة وحدانيته، وَمَا لَا يجوز عَلَيْهِ الْإِبَاحَة: كالكفر بِاللَّه، وَجحد التَّوْحِيد، وَغَيره. وطرد ابْن عقيل قَول الْوَقْف فِيهَا فِي الْجَمِيع، وأبطل قَول الْحَظْر وَالْإِبَاحَة قبل السّمع، بِاتِّفَاق الْعلمَاء أَنه لَا يجوز وُرُوده قبله إِلَّا بِمَا يُجِيزهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 727 الْعقل لَا بِمَا يُخَالِفهُ، فَلَمَّا ورد بِإِبَاحَة بَعْضهَا، وحظر بَعْضهَا، علم بُطْلَانه، والواقف المنتظر للشَّرْع لَا يلْزمه شَيْء، وَهُوَ يَأْتِي بالعجائب مِمَّا لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ عقل: كإباحة كلمة الْكفْر للإكراه، وَوُجُوب الثَّبَات للْمَوْت فِي صف الْمُشْركين لإعلاء كلمة التَّوْحِيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 728 قَوْله: {فصل شكر الْمُنعم} {من قَالَ بِالْأولِ: أوجبه شرعا، وَبِالثَّانِي: أوجبه عقلا، [وَقيل: لَا] } . شكر الْمُنعم وَاجِب على كلا الطَّرِيقَيْنِ، وَقد تقدم فِي " شرح الْخطْبَة ": أَن شكر الْمُنعم والمنعم هُوَ الله سُبْحَانَهُ -: عبارَة عَن اسْتِعْمَال جَمِيع مَا أنعم الله بِهِ على العَبْد من القوى والأعضاء: الظَّاهِرَة والباطنة، المدركة والمحركة - فِيمَا خلقه الله تَعَالَى لأَجله: كاستعمال النّظر فِي مُشَاهدَة مصنوعاته، وآثار رَحمته ليستدل على صانعها، وَكَذَا السّمع وَغَيره. إِذا علمت ذَلِك؛ فَمن قَالَ بِالْأولِ وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمذهب الْأَكْثَر من أَن الْحَاكِم هُوَ الله، وَأَن الْعقل لَا يحسن وَلَا يقبح، وَلَا يُوجب وَلَا يحرم قَالَ: وَجب شكره شرعا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 729 وَمن قَالَ بِالثَّانِي وَهُوَ مَذْهَب الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم كَمَا تقدم [قَالَ] : وَجب شكره عقلا. بنى ذَلِك أَبُو الْخطاب، والآمدي، وَغَيرهمَا، وَمَعْنَاهُ لِابْنِ عقيل، وَغَيره. وَقَالَ الْمجد فِي " المسودة ": (شكر الْمُنعم وَاجِب بِالشَّرْعِ فِي قَوْلنَا، وَقَول أهل الْأَثر، والأشعرية. وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: يجب عقلا) . وَاحْتج أَبُو الْخطاب، وَغَيره: (بِأَن الْإِحْسَان " التَّبَرُّع " يستهجن الشُّكْر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 730 عَلَيْهِ، وَمَعَ وُجُوبه لَا يعد محسناً بل تَاجِرًا، وَلِهَذَا لَو طلبه المحسن عِنْد الْحُكَّام، وأعدى عَلَيْهِ، استهجن عِنْد الْعُقَلَاء، بِحكم الْعقل وَالشَّرْع) . وَقَالَ أَيْضا -: (لَا يَهْتَدِي الْعقل إِلَى شكر الله، فضلا عَن إِيجَابه) . وفرضها ابْن الْحَاجِب، والبيضاوي، وَغَيرهمَا، على سَبِيل التنزل، وَهُوَ معنى قَوْلنَا: (وَقيل: لَا) ، أَي: لَا يجب عقلا، وَلَو قُلْنَا: الْعقل حَاكم، وَهُوَ قَول الأشعرية، حَكَاهُ الْعَضُد؛ لِأَنَّهُ لما بَطل حكم الْعقل مُطلقًا، كَانَ شكر الْمُنعم غير وَاجِب عقلا، لَكِن ذكرُوا هَذِه الْمَسْأَلَة على التنزل، أَي: وَلَو سلمنَا أَن الْعقل حَاكم كَمَا زعمتم، لَكِن لَا يَسْتَقِيم حكمه فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَو وَجب لوَجَبَ لفائدة، إِمَّا للْعَبد، وَإِمَّا لله، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ، أما انْتِفَاء الثَّانِيَة: فلكونه تَعَالَى متعالياً عَن الْفَائِدَة، وَأما انْتِفَاء الأولى: فَلِأَن تِلْكَ الْفَائِدَة إِمَّا فِي الدُّنْيَا، فَلَا يتَصَوَّر ذَلِك [إِذْ] من تِلْكَ الْأَفْعَال الَّتِي تَتَضَمَّن شكر الْمُنعم وَاجِبَات ومحرمات، وَلَا شكّ أَنَّهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 731 مشاق وتكاليف لَا حَظّ للنَّفس فِيهَا، وَإِمَّا فِي الْآخِرَة، فَلَا يُمكن ذَلِك - أَيْضا؛ لِأَن أَمر الْآخِرَة غيب لَا اطلَاع لأحد عَلَيْهِ، حَتَّى يحكم الْعقل فِيهِ. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (لَا دَلِيل لمن نفى الْحسن والقبح على أَن الْفَاعِل الْمُخْتَار يَفْعَله بِلَا دَاع، كَمَا أَنه لَا دَلِيل لمن أثْبته على أَنه يفعل بداع لَا يعود إِلَى غَيره. وَلِهَذَا لما عَاد مَعْنَاهُ إِلَى هَذَا، أثْبته طَائِفَة فِي فعل العَبْد لَا فعل الله، وَاخْتَارَهُ صَاحب " الْمَحْصُول " فِي آخر عمْرَة، وَهَذَا مَبْنِيّ على أَن مَشِيئَة الله هَل هِيَ محبته؟) الْآتِيَة قَرِيبا. قَوْله: {وَيتَعَلَّق بهَا مَسْأَلَتَانِ: الأولى: معرفَة الله تَعَالَى} . وَوجه التَّعَلُّق بهَا: أَنه لَا يتَصَوَّر الشُّكْر إِلَّا مِمَّن يعرفهُ سُبْحَانَهُ، على مَا يَأْتِي الْخلاف فِيهِ. {وَمذهب أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَأهل الْأَثر، و [حُكيَ عَن] الأشعرية: أَنَّهَا وَجَبت شرعا، فَلَا تجب قبله مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهَا بِالدَّلِيلِ، [وَقَالَ جمع] عقلا، وَقيل: بهما} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 732 قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: (معرفَة الله تَعَالَى لَا تجب قبل السّمع، مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهَا بِالدَّلِيلِ) . وَقَالَ: (هَذَا الْمَذْهَب) ، وَتعلق بِكَلَام الإِمَام أَحْمد: إِن معرفَة الله كسبية، وَأَن جمَاعَة من أَصْحَابنَا وَغَيرهم قَالُوا: (تقع ضَرُورَة، وَلَا يتَوَصَّل إِلَيْهَا بأدلة الْعقل) . وَقطع الْمجد بِوُجُوبِهِ شرعا، وَقَالَ: (عندنَا، وَعند أهل الْأَثر) ، وَذكره جمَاعَة من الأشعرية عَن أَصْحَابهم. وَذكر الْآمِدِيّ أَنه ذكرهَا لبحث يَخُصهَا. قَالَ فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (تجب معرفَة الله تَعَالَى بِالنّظرِ شرعا فِي الْوُجُود وَالْمَوْجُود على كل مُكَلّف قَادر، وَالْمرَاد: معرفَة وجود ذَاته بِصِفَات الْكَمَال مِمَّا لم يزل وَلَا يزَال، دون معرفَة حَقِيقَة ذَاته وَصِفَاته لِاسْتِحَالَة ذَلِك عقلا عِنْد الْأَكْثَرين) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 733 قَالَ أَبُو الْفرج الشِّيرَازِيّ فِي كِتَابه " جَامع الْأَنْوَار لتوحيد الْملك الْجَبَّار ": (قَالَ أهل السّنة جَمِيعًا: وَجَبت معرفَة الْبَارِي بِالشَّرْعِ دون الْعقل، وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: وَجَبت بِالْعقلِ دون الشَّرْع، وَقَالَت الأشعرية: بِالْعقلِ وَالشَّرْع) انْتهى. قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} [الْإِسْرَاء: 15] : (فِي هَذَا دَلِيل على أَن معرفَة الله تَعَالَى لَا تجب عقلا، وَإِنَّمَا تجب بِالشَّرْعِ، وَهُوَ بعثة الرُّسُل) . وَاحْتج أَيْضا بقول أَحْمد: (لَيْسَ فِي السّنة قِيَاس، وَلَا تضرب لَهَا الْأَمْثَال، وَلَا تدْرك بالعقول، وَإِنَّمَا هُوَ الِاتِّبَاع) . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (لَيْسَ فِي هَذَا الْكَلَام مَا يَنْفِي وجوب الْمعرفَة وَلَا التفكر قبل الرسَالَة، وَإِنَّمَا فِيهِ: أَن مخبرات الرَّسُول لَا تقف على الْعُقُول، خلافًا للمعتزلة) انْتهى. وَقَالَ أَبُو الْخطاب: (إِن صحت هَذِه الرِّوَايَة، فَالْمُرَاد بهَا: الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الَّتِي سنّهَا الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وشرعها) . وَقَالَ: (وعَلى هَذَا يخرج وجوب معرفَة الله تَعَالَى، هَل هِيَ وَاجِبَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 734 بِالشَّرْعِ، حَتَّى لَو لم ترد لم يلْزم أحدا أَن يُؤمن بِاللَّه، وَلَا يعْتَرف بوحدانيته، وبوجوب شكره، أم لَا؟ فَمن قَالَ: تجب بِالشَّرْعِ، يَقُول: لَا يلْزم شَيْء من ذَلِك لَو لم يرد الشَّرْع. وَمن قَالَ [بِالْأولِ] ، قَالَ: يجب على كل حَال الْإِيمَان بِاللَّه وَالشُّكْر لَهُ) انْتهى. وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: تجب معرفَة الله بِالْعقلِ، نَقله الشِّيرَازِيّ عَنْهُم فِي " التَّبْصِرَة "، وَغَيره، وَتقدم كَلَام أبي الْخطاب قبل هَذَا. قَالَ فِي " شرح الْمَقَاصِد ": (عِنْد الْمُعْتَزلَة: تجب معرفَة الله بِالْعقلِ؛ لِأَنَّهَا دافعة للضَّرَر المظنون، وَهُوَ خوف الْعقَاب فِي الْآخِرَة، حَيْثُ أخبر جمع كثير بذلك، وكل مَا يدْفع الضَّرَر المظنون، بل الْمَشْكُوك وَاجِب عقلا. واحتجت أَيْضا على أَن وجوب النّظر فِي المعجزة، والمعرفة، وَسَائِر مَا يُؤَدِّي إِلَى ثُبُوت الشَّرْع عَقْلِي: بِأَنَّهُ لَو لم يجب إِلَّا بِالشَّرْعِ لزم إفحام الْأَنْبِيَاء، فَلم يكن للبعثة فَائِدَة، وبطلانه ظَاهر، وَوجه اللُّزُوم: أَن النَّبِي إِذا قَالَ للمكلف: انْظُر فِي معجزتي حَتَّى يظْهر لَك صدق دعواي، فَلهُ أَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 735 يَقُول: لَا أنظر مَا لم يجب عَليّ، فَلَا يكون للنَّبِي إِلْزَامه النّظر، لِأَنَّهُ إِلْزَام على غير الْوَاجِب، وَهُوَ المعني بالإفحام. وَأجِيب: بِأَنَّهُ مُشْتَرك الْإِلْزَام، وَحَقِيقَته: إلجاء الْخصم إِلَى الِاعْتِرَاف بنقيض دَلِيله إِجْمَالا، حَيْثُ دلّ على نفي مَا هُوَ الْحق عِنْده على صُورَة النزاع. وَتَقْرِيره: أَن للمكلف أَن يَقُول: لَا أنظر مَا لم يجب عقلا، وَلَا يجب عقلا مَا لم أنظر، لِأَن وُجُوبه نَظَرِي يفْتَقر إِلَى تَرْتِيب الْمُقدمَات وَتَحْقِيق أَن النّظر يُفِيد الْعلم) . وَقيل: يجب بهما مَعًا، ذكره أَبُو الْفرج الشِّيرَازِيّ فِي " التَّبْصِرَة " جمعا بَين الْأَدِلَّة، وَحَكَاهُ فِي كِتَابه " جَامع الْأَنْوَار " عَن الْأَشْعَرِيّ. قَوْله: {وَهِي أول وَاجِب لنَفسِهِ عِنْد الْأَكْثَر، وَقَالَ الْأُسْتَاذ، وَالْقَاضِي، وَابْن حمدَان، وَابْن مُفْلِح، وَجمع: يجب قبلهَا النّظر، فَهُوَ أول وَاجِب لغيره، وَابْن عبد السَّلَام: [إِن شكّ] ، وَأَبُو هَاشم: الشَّك، والباقلاني: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 736 أول النّظر، والتميمي، وَابْن فورك، وَأَبُو الْمَعَالِي: قَصده} . حَيْثُ قُلْنَا بِوُجُوب الْمعرفَة، فَهِيَ أول وَاجِب على الْمُكَلف عِنْد الْأَشْعَرِيّ، وَمن تَابعه من أَصْحَابه، لكَونهَا مبدأ الْوَاجِبَات. وَقَالَ الْأُسْتَاذ وَالْجَمَاعَة مَعَه: إِن أول وَاجِب: النّظر فِي معرفَة الله تَعَالَى، لكَونه الْمُقدمَة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 737 وَقَالَ ابْن عبد السَّلَام: إِنَّمَا يجب النّظر إِذا حصل شكّ، وَإِلَّا الْمعرفَة. وَقَالَ أَبُو هَاشم: أول الْوَاجِبَات الشَّك، لتوقف الْقَصْد إِلَى النّظر عَلَيْهِ، إِذْ لابد من فهم الطَّرفَيْنِ وَالنِّسْبَة، مَعَ عدم اعْتِقَاد الْمَطْلُوب أَو نقيضه. ورد بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن الشَّك لَيْسَ بمقدور لكَونه من الكيفيات: كَالْعلمِ، وَإِنَّمَا الْمَقْدُور تَحْصِيله أَو استدامته، بِأَن يحصل تصور الطَّرفَيْنِ، وَينزل النّظر فِي النِّسْبَة، وَلَا شَيْء مِنْهَا بمقدمة. وَثَانِيهمَا: أَن وجوب النّظر والمعرفة مُقَيّد بِالشَّكِّ، لِأَنَّهُ لَا إِمْكَان للنَّظَر بِدُونِهِ، فضلا عَن الْوُجُوب، فَهُوَ لَا يكون مُقَدّمَة للْوَاجِب الْمُطلق بل للمقيد بِهِ: كالنصاب لِلزَّكَاةِ والاستطاعة لِلْحَجِّ، فَلَا يجب تَحْصِيله. وَقَول التَّمِيمِي وَغَيره: يجب قصد النّظر، وَذَلِكَ لتوقف النّظر عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي " شرح الْمَقَاصِد ": (وَالْحق أَنه إِن أُرِيد أول الْوَاجِبَات الْمَقْصُودَة بِالذَّاتِ فَهُوَ الْمعرفَة، وَإِن أُرِيد الْأَعَمّ فَهُوَ الْقَصْد إِلَى النّظر، لَكِن مبناه على وجوب مُقَدّمَة الْوَاجِب الْمُطلق، وَفِيه مَا فِيهِ) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 738 قَوْله: {وَلَا يقعان ضَرُورَة} . أَي: النّظر والمعرفة، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَقدمه ابْن مُفْلِح فِي " فروعه "، فِي بَاب الْمُرْتَد، وَابْن حمدَان فِي " نِهَايَة الْمُبْتَدِئ "، وَغَيرهمَا، وَقَالَهُ القَاضِي وَغَيره، بل هما كسبيان، وَتعلق القَاضِي وَغَيره بقول أَحْمد: (معرفَة الله تَعَالَى كسبية) . قَالَ فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (وَالنَّظَر والمعرفة اكْتِسَاب، وَقد يوهبان لمن أَرَادَ الله تَعَالَى هداه، وَلَا يقعان ضَرُورَة) . {وَقيل: بلَى} . أَي: يقعان ضَرُورَة، قَالَه جمع من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم، فَلَا يتَوَصَّل إِلَيْهِمَا بأدلة الْعقل. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (أَرَادوا الْمعرفَة الفطرية) كمعرفة إِبْلِيس، لَا الْمعرفَة الإيمانية) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 739 قَالَ ابْن عقيل: (قَالَ أهل التَّحْقِيق: لَا يَتَأَتَّى أَنه مُطِيع فِي نظره، لِأَنَّهُ لَا تصح طَاعَة من لَا يعرف، وَلَا معرفَة لمن لم ينظر) . قَوْله: {تَنْبِيه: قَالَ الرَّازِيّ لَا فرق بَين الشُّكْر وَمَعْرِفَة الله تَعَالَى عقلا، والأرموي: متلازمان، والمعتزلة: هُوَ فرعها} . قَالَ الرَّازِيّ: (لَا فرق بَين الشُّكْر وَمَعْرِفَة الله عقلا، فَمن أوجب الشُّكْر عقلا أوجب الْمعرفَة، وَمن لَا فَلَا) . قَالَ الجوبني: (هُوَ عِنْدهم من النظريات لَا من الضروريات) . وَقَالَ الأرموي فِي " الْحَاصِل ": (هما متلازمان) . وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: الشُّكْر فرع الْمعرفَة، فعندهم: لَيْسَ الشُّكْر معرفَة الله تَعَالَى؛ لِأَن الشُّكْر فرعها، بل: إتعاب النَّفس بِفعل المستحبات الْعَقْلِيَّة الصرفة: كالنظر إِلَى مصنوعاته، والسمع إِلَى الْآيَات، والذهن إِلَى فهم مَعَانِيهَا، [والمآل] إِلَى أَسبَاب الْبَقَاء مُدَّة الْعُمر، وعَلى هَذَا الْقيَاس. فَعِنْدَ الْمُعْتَزلَة وَمن وافقهم: مدرك وجوب هَذَا الشُّكْر عَقْلِي، للبرهان الْعقلِيّ، ومخالفوهم يَقُولُونَ: مدركه السّمع لَا الْعقل، كَمَا تقدم فِي الشُّكْر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 740 قَوْله: [الثَّانِيَة: مَشِيئَته وإرادته تَعَالَى، هَل هِيَ محبته وَرضَاهُ، وَسخطه وبغضه، أم لَا؟ فالمعتزلة، والقدرية، والأشعري، وَأكْثر أَصْحَابه، وَغَيرهم: الْكل بِمَعْنى وَاحِد، [وَمذهب] السّلف، و [عَامَّة] [الْأَئِمَّة، من الْفُقَهَاء] ، والمحدثين، والصوفية، والنظار: يحب مَا أَمر بِهِ فَقَط، وَخلق كل شَيْء بمشيئته لحكمة، فَتجب تِلْكَ الْحِكْمَة، وَإِن كَانَ قد لَا يُحِبهُ} . ذهب الْمُعْتَزلَة، والقدرية، والأشعري، وَأكْثر أَصْحَابه، وَمن وَافقه من الْمَالِكِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة، وأصحابنا، كَابْن حمدَان فِي " نِهَايَة الْمُبْتَدِئ "، وَغَيرهم، إِلَى أَن الْكل بِمَعْنى وَاحِد، وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن الْجُمْهُور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 741 قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي كتاب الْحُدُود: (والإرادة والمشيئة وَالرِّضَا والمحبة بِمَعْنى وَاحِد) . وَأَجَابُوا عَن قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} [الزمر: 7] بجوابين: أَحدهمَا: لَا يرضاه دينا وَشرعا، بل يُعَاقب عَلَيْهِ. ثَانِيهمَا: أَن المُرَاد من الْعباد: من وفْق للْإيمَان، وَلِهَذَا شرفهم بِالْإِضَافَة إِلَيْهِ بقوله تَعَالَى: {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان} [الْحجر: 42، والإسراء: 65] ، وَقَوله تَعَالَى: {عينا يشرب بهَا عباد الله} [الْإِنْسَان: 6] . والجوابان ضعيفان. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ: (أول من خَالف من السّلف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَلم يفرق بَين الْمحبَّة وَالرِّضَا أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ) . وَقَالَ أَيْضا -: (أول من قَالَ: إِن الله تَعَالَى يحب الْكفْر والفسوق والعصيان، شَيخنَا أَبُو الْحسن) . وَقَالَ ابْن عقيل: (لم يقل أحد: إِن الله تَعَالَى يحب ذَلِك إِلَّا الْأَشْعَرِيّ وَمن وَافقه) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 742 وَالَّذِي عَلَيْهِ السّلف، وَعَامة الْأَئِمَّة من الْفُقَهَاء، وَمن أَصْحَاب الْأَئِمَّة، كالحنفية، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وأصحابنا، والمحدثين، والصوفية، والنظار، وَابْن كلاب، وَغَيرهم: الْفرق، فَيجب مَا أَمر بِهِ فَقَط، وَخلق كل شَيْء لحكمة، فَتجب تِلْكَ الْحِكْمَة، وَإِن كَانَ لَا يُحِبهُ، فَلم يفعل قبيحاً مُطلقًا. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " الرَّد على الرافضي ": (جُمْهُور أهل السّنة يَقُولُونَ: إِن الله لَا يحب الْكفْر والفسوق والعصيان وَلَا يرضاه، وَإِن كَانَ دَاخِلا فِي مُرَاده، كَمَا دخلت سَائِر الْمَخْلُوقَات، لما فِي ذَلِك من الْحِكْمَة، وَهُوَ وَإِن كَانَ شرا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَاعِل فَلَيْسَ كلما كَانَ شرا بِالنِّسْبَةِ إِلَى شخص يكون عديم الْحِكْمَة، بل لله فِي الْمَخْلُوقَات حِكْمَة، قد يعلمهَا بعض النَّاس، وَقد لَا يعلمونها) انْتهى. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: (وَهُوَ قَول الْحَنَفِيَّة كلهم، والكرامية) . [- هَذَا وجد فِي فرخة لَا مَوضِع لَهَا، واللائق بهَا هُنَا -] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 743 وَقَالَ أَيْضا فِي مَسْأَلَة سئلها فِي الْقدر نظماً فِي أَثْنَائِهَا -: (وجهم وَمن وَافقه من الْمُعْتَزلَة اشْتَركُوا فِي أَن مَشِيئَة الله ومحبته وَرضَاهُ بِمَعْنى وَاحِد، ثمَّ قَالَت الْمُعْتَزلَة: وَهُوَ لَا يحب الْكفْر والفسوق والعصيان فَلَا يشاؤه، فَقَالُوا: إِنَّه يكون بِلَا مَشِيئَة. وَقَالَت الْجَهْمِية: بل هُوَ يَشَاء ذَلِك، فَهُوَ يُحِبهُ ويرضاه. وَأَبُو الْحسن وَأكْثر أَصْحَابه وافقوا هَؤُلَاءِ، وَذكر أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ: أَن أَبَا الْحسن أول من خَالف السّلف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. وَأما سلف الْأمة، وأئمتها، وأكابر أهل الْفِقْه، والْحَدِيث، والتصوف، وَكثير من طوائف النظار كالكلابية، والكرامية، وَغَيرهم، فيفرقون بَين هَذَا وَهَذَا، وَيَقُولُونَ: إِن الله يحب الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح، ويرضى بِهِ، كَمَا يَأْمر بِهِ، وَلَا يرضى بالْكفْر والفسوق والعصيان، وَلَا يُحِبهُ، كَمَا لَا يَأْمر بِهِ، وَإِن كَانَ قد شاءه، وَلِهَذَا كَانَ حَملَة الشَّرِيعَة من السّلف وَالْخلف متفقين على أَنه لَو حلف: ليفعلن وَاجِبا أَو مُسْتَحبا: كقضاء دين تضيق وقته، أَو عبَادَة تضيق وَقتهَا، وَقَالَ: إِن شَاءَ الله، ثمَّ لم يَفْعَله، لم يَحْنَث، وَهَذَا يبطل قَول الْقَدَرِيَّة، وَلَو قَالَ: إِن كَانَ الله يُحِبهُ ويرضاه، فَإِنَّهُ يَحْنَث، كَمَا لَو قَالَ: إِن كَانَ ينْدب إِلَى ذَلِك ويرغب فِيهِ، أَو يَأْمر بِهِ أَمر إِيجَاب أَو اسْتِحْبَاب، وَهَذَا يرد على الْجَهْمِية وَمن اتبعهم كَأبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ وَمن وَافقه من الْمُتَأَخِّرين. وَهَذِه الاستشكالات إِنَّمَا ترد على قَول جهم وَمن وَافقه من الْمُتَأَخِّرين من أَصْحَاب أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ وَغَيرهم، وَطَائِفَة من متأخري أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 744 وَأما أَئِمَّة أَصْحَاب مَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد، وَعَامة أَصْحَاب أبي حنيفَة فَإِنَّهُم لَا يَقُولُونَ بقول هَؤُلَاءِ؛ بل يَقُولُونَ بِمَا اتّفق عَلَيْهِ السّلف من أَنه سُبْحَانَهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لم يَشَأْ لم يكن، وَمن الْفرق بَين محبته ومشئيته وَرضَاهُ، فَيَقُولُونَ: إِن الْكفْر والفسوق والعصيان وَإِن وَقع بمشيئته، فَهُوَ لَا يُحِبهُ وَلَا يرضاه، بل يسخطه ويبغضه. وَيَقُولُونَ: إِن إِرَادَة الله تَعَالَى فِي كِتَابه نَوْعَانِ: نوع بِمَعْنى الْمَشِيئَة لما خلق، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء} [الْأَنْعَام: 125] . وَنَوع بِمَعْنى محبته وَرضَاهُ لما أَمر بِهِ، وَإِن لم يخلقه، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر} [الْبَقَرَة: 185] ، {مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج وَلَكِن يُرِيد ليطهركم وليتم نعْمَته عَلَيْكُم لَعَلَّكُمْ تشكرون} [الْمَائِدَة: 6] ، فِي آي كَثِيرَة. وَبِهَذَا يفصل النزاع فِي مَسْأَلَة الْأَمر، هَل هُوَ مُسْتَلْزم للإرادة أم لَا؟ فَإِن الْقَدَرِيَّة تزْعم أَنه مُسْتَلْزم للمشيئة، فَيكون قد شَاءَ الْمَأْمُور بِهِ وَلم يكن. والجهمية قَالُوا: إِنَّه غير مُسْتَلْزم لشَيْء من الْإِرَادَة، وَلَا [لحبه] لَهُ، وَلَا رِضَاهُ بِهِ، إِلَّا إِذا وَقع، فَإِنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 745 وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: (وَأما الَّذين سووا بَين الْمَشِيئَة والمحبة والإرادة كالمعتزلة، وَأكْثر الأشعرية، فَقَالُوا: هُوَ مُرِيد لكل مَا وجد، فَهُوَ محب لَهُ، فَهُوَ محب للكفر والفسوق والعصيان كَمَا هُوَ مُرِيد لَهُ، وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: " أول من قَالَ: إِن الله يحب ذَلِك، شَيخنَا أَبُو الْحسن "، وَقَالَ أَبُو الْوَفَاء ابْن عقيل: " لم يقل أحد: إِن الله يحب الْكفْر والفسوق والعصيان إِلَّا الْأَشْعَرِيّ وَمن وَافقه ".) انْتهى. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي أثْنَاء مَسْأَلَة -: (والعباد الَّذين علم الله أَنهم يطيعونه بإرادتهم ومشيئتهم وقدرتهم، وَإِن كَانَ خَالِقًا لذَلِك، فخلقه لذَلِك أبلغ فِي علمه بِهِ قبل أَن يكون، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلا يعلم من خلق وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير} [الْملك: 14] ، وَمَا لم يفعلوه مِمَّا [أَمرهم] بِهِ يعلم أَنه لَا يكون، لعدم إرادتهم لَهُ، لَا لعدم [قدرتهم] عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْأَمر بِهِ أمرا بِمَا يعجزون عَنهُ، بل هُوَ أَمر بِمَا لَو أرادوه لقدروا على فعله، لكِنهمْ لَا يَفْعَلُونَهُ لعدم إرادتهم لَهُ. وجهم وَمن وَافقه من الْمُعْتَزلَة، اشْتَركُوا فِي أَن مَشِيئَة الله ومحبته وَرضَاهُ بِمَعْنى وَاحِد، ثمَّ قَالَت الْمُعْتَزلَة: وَهُوَ لَا يحب الْكفْر والفسوق والعصيان فَلَا يشاؤه، فَقَالُوا: إِنَّه يكون بِلَا مَشِيئَة. وَقَالَت الْجَهْمِية: بل هُوَ يَشَاء ذَلِك) إِلَى آخِره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 746 وَقَالَ فِي مَسْأَلَة الْإِرَادَة: (أهل السّنة يثبتون قدرته، وعزته، وحكمته، وَرَحمته، وَيَقُولُونَ لَا يسْأَل عَمَّا يفعل لقدرته، وعزته، وحكمته، وَرَحمته، وَعلمه، وعدله. والجبري القدري يَقُول: لَا يسْأَل عَمَّا يفعل لقهره، وَقدرته. والمعتزلة تَقول: لَا يسْأَل عَمَّا يفعل: لِأَنَّهُ لَا يقدر على غير مَا فعل، بل لَا يسْأَل عَمَّا يفعل لِأَنَّهُ فعل مَا وَجب عَلَيْهِ، وَلَا يقدر على غير ذَلِك) . قَالَ فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (على هَذَا القَوْل لَا يحب الْفساد، وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر، لَا يحب ذَلِك مُطلقًا، وَلَكِن يُرِيد وجوده، ومحبة الله إِنَّمَا هِيَ إِرَادَته لما يفعل بِنَا من الْمَنَافِع وَالنعَم، وبغضه لخلقه إِرَادَته عقابهم وضررهم، قَالَه القَاضِي، وَيجوز الرضى بِبَعْض أَفعَال العَبْد، مَعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 747 السخط والبغض وَالْكَرَاهَة لبعضها) انْتهى. وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره "، فِي سُورَة الْأَنْعَام، بعد قَوْله: {لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من شَيْء} الْآيَة [الْأَنْعَام: 148] : (وَالرَّدّ عَلَيْهِم فِي ذَلِك: أَن أَمر الله تَعَالَى بمعزل عَن مَشِيئَته وإرادته، فَإِنَّهُ مُرِيد لجَمِيع الكائنات، غير آمن بِجَمِيعِ مَا يُرِيد، وعَلى العَبْد أَن يتبع أمره، وَلَيْسَ لَهُ أَن يتَعَلَّق بمشيئته، فَإِن مَشِيئَته لَا تكون عذرا لأحد) انْتهى. وَقَالَ فِي سُورَة الزمر، عِنْد قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} [الزمر: 7] : (هَذَا قَول السّلف) . وَقَالَ فِي سُورَة التغابن عِنْد قَوْله: {هُوَ الَّذِي خَلقكُم فمنكم كَافِر ومنكم مُؤمن} [التغابن: 2] : (من جملَة القَوْل فِيهِ، أَن الله تَعَالَى خلق الْكَافِر وكفره [فعل لَهُ وَكسب] ، وَخلق الْمُؤمن وإيمانه [فعل لَهُ وَكسب] ، فَلِكُل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ كسب وَاخْتِيَار، وَكَسبه واختياره بِتَقْدِير الله تَعَالَى ومشيئته، [فالمؤمن] بعد خلق الله تَعَالَى إِيَّاه يخْتَار الْإِيمَان، لِأَن الله تَعَالَى أَرَادَ ذَلِك مِنْهُ، وَقدره عَلَيْهِ، وَعلمه مِنْهُ، وَالْكَافِر بعد خلق الله إِيَّاه اخْتَار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 748 الْكفْر، لِأَن الله تَعَالَى قدر ذَلِك عَلَيْهِ، وَعلمه مِنْهُ، وَهَذَا طَرِيق أهل السّنة، من سلكه أصَاب الْحق، وَسلم من الْجَبْر وَالْقدر) انْتهى. وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا تشاؤن إِلَّا أَن يَشَاء الله} [الْإِنْسَان: 30، والتكوير: 29] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} [الزمر: 7] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالله لَا يحب الْفساد} [الْبَقَرَة: 205] ، فِي آيَات كَثِيرَة. قَوْله: {فَوَائِد: الأولى: فعله تَعَالَى وَأمره لعِلَّة [وَحِكْمَة] [أَو بهما] ، [يُنكره كثير من أَصْحَابنَا، مِنْهُم: القَاضِي، وَابْن الزَّاغُونِيّ، وَغَيرهمَا، وَبَعض الْمَالِكِيَّة وَالشَّافِعِيَّة] } ، مِنْهُم: أَبُو بكر الْقفال، وَابْن أبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 749 هُرَيْرَة، وَغَيرهمَا، وَقَالَهُ الظَّاهِرِيَّة، والأشعرية، والجهمية، وَغَيرهم، { [وأثبته] الْمُعْتَزلَة، والكرامية،. . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 750 وَالشَّيْخ، والطوفي، [وَابْن الْقيم] ، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَحكي إِجْمَاع السّلف، [وجوزت طَائِفَة] الْأَمريْنِ} ، وأثبته أَيْضا الشِّيعَة. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل عَمَّن أثْبته: (هَذَا يحْكى عَن جُمْهُور الْعلمَاء، وأئمة النظار) . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد على الرافضي: (أَكثر أهل السّنة على إِثْبَات الْحِكْمَة وَالتَّعْلِيل) انْتهى. وَهُوَ قَول الْمُعْتَزلَة، لَكِن الْمُعْتَزلَة [تَقول] بِوُجُوب الصّلاح، وَلَهُم فِي الْأَصْلَح قَولَانِ، والمخالفون لَهُم يَقُولُونَ بِالتَّعْلِيلِ لَا على مَنْهَج الْمُعْتَزلَة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 751 وَحَكَاهُ ابْن الْخَطِيب عَن أَكثر الْمُتَأَخِّرين من الْفُقَهَاء، وَذَلِكَ للنصوص، وَلِئَلَّا يكون أَمر الشَّارِع بِأحد المتماثلين تَرْجِيحا بِلَا مُرَجّح. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (لأهل السّنة فِي تَعْلِيل أَفعَال الله تَعَالَى وَأَحْكَامه قَولَانِ، وَالْأَكْثَرُونَ على التَّعْلِيل. وَالْحكمَة هَل هِيَ مُنْفَصِلَة عَن الرب لَا تقوم، أَو قَائِمَة مَعَ ثُبُوت الحكم الْمُنْفَصِل؟ أَيْضا لَهُم فِيهِ قَولَانِ. وَهل يتسلسل الحكم، أَو لَا يتسلسل، أَو يتسلسل فِي الْمُسْتَقْبل دون الْمَاضِي؟ فِيهِ أَقْوَال لَهُم) انْتهى. احْتج الْمُثبت للحكمة وَالْعلَّة بقوله تَعَالَى: {من أجل ذَلِك كتبنَا على بني إِسْرَائِيل} [الْمَائِدَة: 32] ، وَقَوله تَعَالَى: {كي لَا يكون دولة} [الْحَشْر: 7] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا الْقبْلَة الَّتِي كنت عَلَيْهَا إِلَّا لنعلم} [الْبَقَرَة: 143] ، ونظائرها، وَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكِيم، شرع الْأَحْكَام لحكمة ومصلحة، لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة للْعَالمين} [الْأَنْبِيَاء: 107] ، وَالْإِجْمَاع وَاقع على اشْتِمَال الْأَفْعَال على الحكم والمصالح، إِمَّا وجوبا كَقَوْل الْمُعْتَزلَة، وَإِمَّا [جَوَازًا] كَقَوْل أهل السّنة، فيفعل مَا يَفْعَله لحكمة، ويخلق مَا يخلقه لحكمة. وَاحْتج النَّافِي بِوُجُوه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 752 أَحدهَا: قَالَ الرَّازِيّ: لَو كَانَت معللة بعلة، فَإِن كَانَت قديمَة لزم من قدمهَا قدم الْفِعْل، وَهُوَ محَال، وَإِن كَانَت محدثة، افْتَقَرت إِلَى عِلّة أُخْرَى، وَلزِمَ التسلسل، وَهُوَ مُرَاد الْمَشَايِخ بقَوْلهمْ: كل شَيْء صنعه، وَلَا عِلّة لصنعه. أُجِيب قَوْلهم: لَو كَانَت قديمَة لزم قدم الْفِعْل. غير مُسلم، إِذْ لَا يلْزم من قدمهَا قدم الْمَعْلُول، كالإرادة قديمَة ومتعلقها حَادث. وَلَو كَانَت حَادِثَة لم تفْتَقر إِلَى عِلّة أُخْرَى، وَإِنَّمَا يلْزم لَو قَالَ: كل حَادث مفتقر إِلَى عِلّة، وهم لم يَقُولُوا ذَلِك، بل قَالُوا: يفعل لحكمة، فَإِنَّهُ لَا يلْزم من كَون الأول مرَادا لغيره كَون الثَّانِي كَذَلِك، وَإِذا كَانَ الثَّانِي [محبوباً] لم يجب أَن يكون الأول كَذَلِك، فَلَا يتسلسل، وَأَيْضًا المنازعون يَقُولُونَ: كل مَخْلُوق مُرَاد لنَفسِهِ، فَلَا يجوز فِي بَعْضهَا أَن يكون مرَادا أولى، والتسلسل إِنَّمَا يلْزم للاستقبالي، فَإِن الْحِكْمَة قد تكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 753 حَاصِلَة بعده، وَهِي مستلزمة لحكمة أُخْرَى، وهلم جرا. الْوَجْه الثَّانِي من أوجه النفاة: أَن كل من فعل فعلا لأجل تَحْصِيل مصلحَة، أَو دفع مفْسدَة، فَإِن كَانَ تَحْصِيل تِلْكَ الْمصلحَة أولى لَهُ من عدم تَحْصِيلهَا، كَانَ ذَلِك الْفَاعِل قد اسْتَفَادَ بذلك الْفِعْل تَحْصِيل تِلْكَ الأولية، وكل من كَانَ كَذَلِك كَانَ نَاقِصا بِذَاتِهِ، مستكملاً بِغَيْرِهِ، وَهُوَ فِي حق الله تَعَالَى محَال. وَإِن كَانَ تَحْصِيلهَا وَعَدَمه سَوَاء بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَمَعَ الاسْتوَاء لَا يحصل الرجحان، فَامْتنعَ التَّرْجِيح. أُجِيب: بِمَنْع الْحصْر، وبالنقض بالأفعال المتعدية: كإيجاد الْعَالم، فَإِن قَالُوا بخلوه عَن نقص، قيل: كَذَا فِي التَّعْلِيل نمْنَع كَونه نَاقِصا فِي ذَاته، ومستكملاً بِغَيْرِهِ فِي ذَاته أَو صِفَات ذَاته، بل اللَّازِم حُصُول كمالات ناشئة من جِهَة الْفِعْل، وَلَا امْتنَاع فِيهِ، فَإِن كَونه محسناً إِلَى الممكنات من جملَة صِفَات الْكَمَال، وَكَذَا الْكَمَال فِي كَونه خَالِقًا ورازقاً على مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ. الْوَجْه الثَّالِث: لَو فعل فعلا لغَرَض، فَإِن كَانَ قَادِرًا على تَحْصِيله بِدُونِ ذَلِك الْفِعْل كَانَ توسطه عَبَثا، وَإِلَّا لزم الْعَجز، وَهُوَ مُمْتَنع، وَلِأَن ذَلِك الْغَرَض مَشْرُوط بِتِلْكَ الْوَسِيلَة لكنه بَاطِل، لِأَن أَكثر الْأَغْرَاض إِنَّمَا تحصل بعد انْقِضَاء تِلْكَ الْوَسَائِل، فَيمْتَنع اشْتِرَاطه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 754 أُجِيب: بِأَن إِطْلَاق الْغَرَض لَا يجوز، لما يُوهِمهُ عرفا، وليعدل عَنهُ إِلَى لفظ الْعلَّة، فَيُقَال: لَا نسلم لُزُوم الْعَبَث، لِأَن الْعَبَث: الْخَالِي عَن الْفَائِدَة، وَالْقُدْرَة على الْفِعْل بِدُونِ توَسط السَّبَب لَا يَقْتَضِي عَبث الْفِعْل، وَإِلَّا لزم أَن تكون الشرعيات عَبَثا، لِأَن الله تَعَالَى قَادر على إِيصَال مَا حصلت لأَجله، من إِيصَال الثَّوَاب بِدُونِ توسطها. وَقَوْلهمْ: إِن لم يقدر على تَحْصِيله لزم الْعَجز، مَمْنُوع؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يلْزم لَو أمكن تَحْصِيل مَا لأَجله بِدُونِ الْفِعْل، وَبِأَن إِمْكَان تَحْصِيله بِدُونِ الْعَجز دور. الْوَجْه الرَّابِع: أَنه لَا يُوجد إِلَّا الله، وَإِذا ظهر ذَلِك كَانَ الْخَيْر وَالشَّر وَالْكفْر وَالْإِيمَان حَاصِلا بإيجاده، وَمنعه مُمْتَنع لوقف كَونه خَالِقًا على تَعْلِيل الْأَفْعَال. أُجِيب: بِمَنْع التلازم، بل جَمِيع مَا خلقه الله فلحكمة باعتبارها كَانَ إيجاده. الْوَجْه الْخَامِس: أَن أَفعاله تَعَالَى [إماتة] الْأَنْبِيَاء، وإنظار إِبْلِيس، وتمكنه من أَن يجْرِي مجْرى الدَّم من الْإِنْسَان بالوساوس وَالْإِلْقَاء فِي الْقُلُوب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 755 وَأَيْضًا قد خلد الْكفَّار فِي النَّار أَبَد الأبدين. أُجِيب: نمْنَع خلو ذَلِك عَن حِكْمَة اقْتَضَت فعله. تَنْبِيه: قَوْلهم عَن جَوَاب الْوَجْه الثَّالِث: بِأَن إِطْلَاق الْغَرَض لَا يجوز على الله تَعَالَى لما يُوهِمهُ عرفا. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (من أهل السّنة من يُسَمِّي الْحِكْمَة " غَرضا "، حَتَّى من الْمُفَسّرين كَالثَّعْلَبِيِّ كَقَوْل الْمُعْتَزلَة، وَمِنْهُم من لَا يُطلقهُ لِأَنَّهُ يُوهم الْمَقْصُود الْفَاسِد) انْتهى. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (لفظ " الْغَرَض " يُطلقهُ طَائِفَة من أهل الْكَلَام كالقدرية، وَطَائِفَة من المثبتين للقدر أَيْضا وَيَقُولُونَ: " يفعل لغَرَض "، لَكِن الْغَالِب على الْفُقَهَاء وَغَيرهم المثبتين للقدر لَا يطلقون لَفْظَة " الْغَرَض "، وَإِن أطْلقُوا لَفْظَة " الْحِكْمَة "، لما فِيهِ من إِيهَام الظُّلم وَالْحَاجة، فَإِن النَّاس إِذا قَالُوا: فعل فلَان هَذَا لغَرَض، وَفُلَان لَهُ غَرَض فِي كَذَا، كثيرا مَا يعنون بذلك المُرَاد المذموم، من الظُّلم أَو الْفَاحِشَة أَو غَيرهمَا، وَالله منزه عَن ذَلِك) . انْتهى. قَوْله: {فعلى الأول [ترجح] بِمُجَرَّد الْمَشِيئَة} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 756 يَعْنِي: عِنْد الْقَائِلين بإنكار فعله وَأمره لعِلَّة وَحِكْمَة، أَو بعلة وَحِكْمَة، ترجح بِمُجَرَّد الْمَشِيئَة، فَإِذا شَاءَ سُبْحَانَهُ شَيْئا من الْأَشْيَاء، ترجح بِمُجَرَّد تِلْكَ الإشاءة. { [وَيَقُولُونَ] : علل الشَّرْع أَمَارَات مَحْضَة} . { [وَبَعْضهمْ] } يَقُولُونَ: {بالمناسبة ثَبت الحكم عِنْدهَا لَا بهَا. و [قَالَ] أَبُو الْخطاب وَابْن المنى،. . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 757 و [الشَّيْخ] الْمُوفق [وَالْغَزالِيّ] : بقول الشَّارِع جعل الْوَصْف الْمُنَاسب مُوجبا لحسن الْفِعْل وقبحه} ، لَا أَنه كَانَ حسنا وقبيحاً قبله كَمَا يَقُوله المثبتون. قَوْله: {الثَّانِيَة: الْحسن شرعا: مَا أَمر بِهِ، وَقيل: مالم ينْه عَنهُ، والقبيح: مَا نهي عَنهُ} . يَنْقَسِم الْفِعْل الَّذِي هُوَ مُتَعَلق الحكم إِلَى: حسن، وقبيح، بِاعْتِبَار إِذن الشَّارِع وَعدم إِذْنه، لَا بِالْعقلِ كَمَا يَدعِيهِ الْمُعْتَزلَة. ولأصحابنا وَغَيرهم فِي حد الْحسن الشَّرْعِيّ عبارتان: إِحْدَاهمَا: مَا أَمر الشَّارِع بِهِ، فَشَمَلَ الْوَاجِب وَالْمُسْتَحب. قَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ": (الْحسن شرعا مَا أَمر الشَّارِع بِهِ) . وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل كَمَا تقدم: (إِذا أَمر الله تَعَالَى بِفعل فَهُوَ حسن بِاتِّفَاق، وَإِذا نهى عَن فعل فقبيح بِاتِّفَاق) . قَالَ الطوفي فِي " شرح مُخْتَصره ": (وَقيل: الْحسن مَا ورد الشَّرْع بتعظيم فَاعله وَالثنَاء عَلَيْهِ، والقبيح يُقَابله، وَهَذَا تَعْرِيف سني جمهوري، وَهُوَ يَشْمَل الْوَاجِب وَالْمُسْتَحب) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 758 والعبارة الثَّانِيَة: الْحسن شرعا: مَا لم ينْه عَنهُ، فَشَمَلَ الْوَاجِب، وَالْمُسْتَحب، والمباح. قَالَ الْبَيْضَاوِيّ: (مَا نهي عَنهُ شرعا فقبيح، وَإِلَّا فَحسن: كالواجب، وَالْمَنْدُوب، والمبارح، وَفعل غير الْمُكَلف) انْتهى. وَصَححهُ السُّبْكِيّ الْكَبِير فِي " شرح منهاج الْبَيْضَاوِيّ "، فَإِنَّهُ شرح مِنْهُ قِطْعَة صَغِيرَة، وكمله وَلَده التَّاج. وَقَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع " وَتَبعهُ الْبرمَاوِيّ -: (الْحسن الْمَأْذُون) . وَقَالا: (يَشْمَل الْمُبَاح لارْتِفَاع شَأْنه بِالْإِذْنِ فِيهِ) . قَوْله: (والقبيح مَا نهي عَنهُ) . قَالَه ابْن حمدَان وَغَيره، فَيشْمَل الْحَرَام، وَظَاهره: إِنَّه يَشْمَل الْمَكْرُوه؛ لِأَن الْمَكْرُوه مَنْهِيّ عَنهُ نهي تَنْزِيه، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح. وَأما خلاف الأولى، فَأدْخلهُ التَّاج السُّبْكِيّ فِي الْقَبِيح، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ شَبيه بالمكروه فِي كَونه مَنْهِيّا عَنهُ نهي تَنْزِيه، وَإِن كَانَ النَّهْي غير مَقْصُود. وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: (الْمَكْرُوه لَيْسَ حسنا وَلَا قبيحاً، فَإِن الْقَبِيح: مَا يذم عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يذم عَلَيْهِ، وَالْحسن: مَا يشرع الثَّنَاء عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يشرع الثَّنَاء عَلَيْهِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 759 قَالَ السُّبْكِيّ الْكَبِير فِي " شرح منهاج الْبَيْضَاوِيّ ": (وَلم أر أحدا يعْتَمد خَالف إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِيمَا قَالَ، إِلَّا نَاسا أدركناهم، قَالُوا: إِنَّه قَبِيح؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيّ عَنهُ، وَالنَّهْي أَعم من نهي تَحْرِيم وتنزيه، وَعبارَة الْبَيْضَاوِيّ بإطلاقها تَقْتَضِي ذَلِك، وَلَيْسَ أَخذ الحكم الْمَذْكُور من [هَذَا] الْإِطْلَاق بِأولى من رد هَذَا الْإِطْلَاق بقول إِمَام الْحَرَمَيْنِ) انْتهى. وَاخْتَارَ هَذَا الْبرمَاوِيّ وَقَالَ: (قيل: وَيَنْبَغِي على قَول الإِمَام ذَلِك فِي الْمَكْرُوه، أَن خلاف الأولى كَذَلِك بل أولى بِأَن ينفى الْقبْح عَنهُ من حَيْثُ أَن النَّهْي فِيهِ غير مَقْصُود) . قَالَ: (وَكَذَا الْمُبَاح يَنْبَغِي أَن يكون كَذَلِك، فَلَا يكون حسنا؛ لِأَن الْحسن عِنْده مَا يشرع الثَّنَاء عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يشرع الثَّنَاء عَلَيْهِ، وَلَا قبيحاً، لِأَن الْقَبِيح مَا يذم عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يذم عَلَيْهِ) . قَالَ: (كَون الْمَكْرُوه وَخلاف الأولى من الْقَبِيح، فِيهِ نظر وَإِن صرح بِهِ التَّاج السُّبْكِيّ) . قَالَ الزَّرْكَشِيّ: (وَلم [أره] لغيره، وَكَأَنَّهُ أَخذه من إِطْلَاق كثير: أَن الْقَبِيح: مَا نهي عَنهُ، قَالَ: وَيُمكن أَن يُرِيدُوا النَّهْي الْمَخْصُوص، - أَي: نهي التَّحْرِيم -، بل هُوَ الْأَقْرَب لإطلاقهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 760 وَكَانَ الْموقع لَهُ فِي ذَلِك قَول الْهِنْدِيّ: إِن الْقَبِيح عندنَا: مَا يكون مَنْهِيّا عَنهُ، ونعني [بِهِ] : مَا يكون تَركه أولى، وَهُوَ الْقدر الْمُشْتَرك بَين الْمحرم وَالْمَكْرُوه) انْتهى. قَوْله: {وَعرفا: مَا لفَاعِله فعله، أَو مَا مدح فَاعله، أَو مَا وَافق الْغَرَض ولاءم الطَّبْع، والقبيح: عَكسه فِيهِنَّ، أَقْوَال} . هَذِه الْأَقْوَال أَخَذتهَا من " الْمقنع " لِابْنِ حمدَان وَهِي للْعُلَمَاء. فَقَالَ فِي " الْمقنع ": (وَالْحسن عرفا: مَا لفَاعِله فعله، والقبيح: مَا لَيْسَ لفَاعِله فعله. وَقيل: الْحسن: مَا يمدح فَاعله عرفا، والقبيح: مَا يذم فَاعله عرفا. وَقيل: الْحسن مَا وَافق الْغَرَض ولاءم الطَّبْع، والقبيح: مَا خَالف الْغَرَض والطبع ونافره. وَمن الْعرفِيّ: الْعلم حسن، وَالْجهل قَبِيح) انْتهى. والأقوال قريبَة من بَعْضهَا بَعْضًا. قَوْله: {الثَّالِثَة: [لَا يُوصف] فعل غير مُكَلّف [بِحسن] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 761 وَلَا قبح، قَالَه فِي " الْمقنع " وَغَيره} . وَقَطعُوا بِهِ، لِأَن فعل غير الْمُكَلف لَا يتَعَلَّق بِهِ حكم، لِأَن الْأَحْكَام إِنَّمَا تتَعَلَّق بِأَفْعَال الْمُكَلّفين، فَلَا يدْخل تَحت أحد قسميه وَهُوَ الْحسن، وَأَيْضًا فعله لم يُؤذن فِيهِ شرعا، فَلَا ينْدَرج تَحت الْمَأْذُون، وَوَصفه الْبَيْضَاوِيّ بذلك، وَقد تقدم لَفظه. وَالْجمع بَينهمَا: أَن بَين الْفِعْل الَّذِي هُوَ مُتَعَلق الحكم وَبَين الْفِعْل الْحسن عُمُوم وخصوص من وَجه. فَالْأول يَنْقَسِم إِلَى حسن وقبيح، وَالْحسن فِي هَذِه الْقِسْمَة لَا يَشْمَل فعل غير الْمُكَلف ثمَّ قسمنا مُسَمّى الْحسن مُطلقًا إِلَى فعل الْمُكَلف وَغَيره مِمَّا لَيْسَ مُتَعَلقا بالحكم، فَخرج من الْقسمَيْنِ: أَن الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب والمباح من قسم الْحسن الْمَحْكُوم فِيهِ، وان فعل غير الْمُكَلف من قسم الْحسن غير الْمَحْكُوم فِيهِ، وَهَذَا شَأْن الْعَام من وَجه حَيْثُ وَقع، وَيَأْتِي الْأَعَمّ من وَجه وَغَيره فِي الْحَقَائِق الْأَرْبَع فِي أَوَاخِر الْأَمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 762 قلت: الصَّوَاب: أَن فعل الْمُمَيز شرعا يكون مِنْهُ حسن وقبيح، فَإِن عِبَادَته صَحِيحَة، وَله ثَوَابهَا. على كل حَال، من أَرَادَ انقسام الْعَمَل الَّذِي هُوَ مُتَعَلق الحكم قَالَ: لَا يُوصف فعله بذلك، وَمن أَرَادَ بالْحسنِ مَا وَافق الشَّرْع من غير نظر إِلَى مُتَعَلق الحكم قَالَ: يُوصف بذلك، وَالله أعلم. فَوَائِد: الأولى: قَالَ الْعلمَاء: كل عمل جَزَاؤُهُ خير مِنْهُ، إِلَّا التَّوْحِيد فَإِنَّهُ أفضل من جَزَائِهِ، وَقد ذكره الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره " فِي آخر سُورَة النَّمْل. الثَّانِيَة: أطلق الأصوليون مُقَابلَة الْحسن بالقبيح، وَفِيه نظر؛ لِأَن مُقَابِله إِنَّمَا هُوَ السيء، قَالَ الله تَعَالَى: {إِن أَحْسَنْتُم أَحْسَنْتُم لأنفسكم وَإِن أسأتم فلهَا} [الْإِسْرَاء: 7] ، {وَلَا تستوي الْحَسَنَة وَلَا السَّيئَة} [فصلت: 34] . وَأَيْضًا: فالقبيح [أخص] من السيء، كَمَا أَن الْجَمِيل أخص من الْحسن، بِدَلِيل قَوْلهم: الْحسن الْجَمِيل، للترقي من الْأَدْنَى للأعلى، فَيَنْبَغِي مُقَابلَة الْجَمِيل بالقبيح وَالْحسن بالسيء، نبه عَلَيْهِ الشَّيْخ جمال الدّين الأغماتي فِي كتاب " الْمطَالع ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 763 الثَّالِثَة: إناطة الْحسن بِالْإِذْنِ، أخص من إناطته بِعَدَمِ النَّهْي، حَتَّى أَدخل فِيهِ غير الْمُكَلف: كَالصَّبِيِّ، والساهي، والبهيمة، اسْتِطْرَادًا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يتَكَلَّم فِي الْفِعْل الْمُتَعَلّق بِهِ الْخطاب، وَهُوَ فعل الْمُكَلف، وَالله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 764 قَوْله: {فصل] {الْأَعْيَان المنتفع بهَا قبل الشَّرْع مُبَاحَة، عِنْد التَّمِيمِي، وَأبي الْفرج، وَأبي الْخطاب، وَالْحَنَفِيَّة، والظاهرية، وَابْن سُرَيج. وَعند ابْن حَامِد، والحلواني، وَبَعض الشَّافِعِيَّة: مُحرمَة. وللقاضي [قَولَانِ] . فَعَلَيهِ: يُبَاح مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْأَصَح، وَحكي إِجْمَاعًا: كتنفس، وسد رَمق. وَعند الخرزي، وَابْن عقيل، والموفق، وَالْمجد، [والصيرفي] ، وَأبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 765 عَليّ الطَّبَرِيّ، والأشعرية: لَا حكم لَهَا. فَعَلَيهِ: لَا إِثْم بالتناول، وَلَا يُفْتى بِهِ فِي الْأَصَح، اخْتَارَهُ ابْن عقيل، وَابْن حمدَان، [وَجمع] ، وَقيل: لَهَا حكم لَا نعلمهُ} . اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة على أَقْوَال: أَحدهَا وَهُوَ الَّذِي قدمنَا -: أَنَّهَا مُبَاحَة، اخْتَارَهُ أَبُو الْحسن التَّمِيمِي، وَالْقَاضِي أَبُو يعلى فِي مُقَدّمَة " الْمُجَرّد "، وَأَبُو الْفرج الشِّيرَازِيّ الْمَقْدِسِي، وَأَبُو الْخطاب، وَالْحَنَفِيَّة، والظاهرية، وَابْن سُرَيج، وَأَبُو حَامِد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 766 الْمروزِي، وَغَيرهم، لِأَن خلقهَا لَا لحكمة عَبث، وَلَا حِكْمَة إِلَّا انتفاعنا بهَا، إِذْ هُوَ خَال عَن مفْسدَة، كالشاهد، وَقد قَالَ الله: {هُوَ الَّذِي خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا} [الْبَقَرَة: 29] . قَالَ القَاضِي: (وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد، حَيْثُ سُئِلَ عَن قطع النّخل، قَالَ: " لَا بَأْس، لم نسْمع فِي قطعه شَيْئا ") . وَفِي " الرَّوْضَة " مَا يَقْتَضِي أَنه عرف بِالسَّمْعِ إباحتها قبله. وَقَالَ بَعضهم: كَمَا فِي الْآيَات وَالْأَخْبَار. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: (الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة دلّت على الْإِبَاحَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 767 كَقَوْلِه: {خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا} [الْبَقَرَة: 29] ، وَقَوله تَعَالَى: {قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ} [الْأَعْرَاف: 32] ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (من أعظم الْمُسلمين جرما من سَأَلَ عَن شَيْء لم يحرم محرملأجل مَسْأَلته ") ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا سكت عَنهُ فَهُوَ مِمَّا عَفا عَنهُ ". وَعند ابْن حَامِد، وَالْقَاضِي فِي " الْعدة "، والحلواني، وَبَعض الشَّافِعِيَّة وَهُوَ ابْن أبي هُرَيْرَة وَنَقله ابْن قَاضِي الْجَبَل، والأبهري من الْمَالِكِيَّة: مُحرمَة، لِأَنَّهُ تصرف فِي ملك الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه فَحرم: كالشاهد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 768 ثمَّ الْإِقْدَام عَلَيْهِ خطر، فالإمساك أحوط. قَالَ القَاضِي: (وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد بقوله: " لَا يُخَمّس السَّلب مَا سمعنَا ") وَقَالَ فِي الْحلِيّ يُؤْخَذ لقطَة: (إِنَّمَا جَاءَ الحَدِيث فِي الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير) . ونازعه بعض أَصْحَابنَا فِي هَذَا وَفِي الَّذِي قبله فِي الْإِبَاحَة، وَقَالَ (لَا يدل ذَلِك على مَا قَالَ) . فعلى هَذَا القَوْل وَهُوَ التَّحْرِيم -: يُبَاح مَا يحْتَاج إِلَيْهِ، وَيخرج من مَحل الْخلاف على الصَّحِيح عِنْد الْعلمَاء، وَحكي إِجْمَاعًا: كتنفس، وسد رَمق، وَنَحْوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 769 وَخَالف بعض النَّاس فِي ذَلِك وَلم يُخرجهُ من التَّحْرِيم، وَهُوَ سَاقِط وبناه بَعضهم، مِنْهُم ابْن قَاضِي الْجَبَل: على تَكْلِيف الْمحَال. وَعند أبي الْحسن الخرزي، وَابْن عقيل، والموفق، وَالْمجد، والصيرفي، وَأبي عَليّ الطَّبَرِيّ، والأشعرية، وَغَيرهم: لَا حكم لَهَا، أَي: لَا حكم لَهَا بِالْكُلِّيَّةِ. قَالَ ابْن عقيل: (لَا حكم لَهَا قبل السّمع) . قَالَ الْمجد: (هُوَ الصَّحِيح الَّذِي لَا يجوز على الْمَذْهَب غَيره) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 770 قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (وَهَذَا اخْتِيَار أبي مُحَمَّد أَيْضا -، لَكِن أَبُو مُحَمَّد يفسره بِنَفْي الحكم، وبعدم الْحَرج كاختيار الْجد، وَفَسرهُ ابْن برهَان: " بِأَنَّهُ عندنَا لَا يُوصف بحظر وَلَا إِبَاحَة وَلَا وجوب، بل هِيَ كأفعال الْبَهَائِم "، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الطّيب: " لَا يُقَال إِنَّهَا مُبَاحَة أَو محظورة إِلَّا بورود الشَّرْع ") . قَالَ ابْن حمدَان فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (وَلَا حكم لفعل فِي عين قبل وُرُود الشَّرْع) . وَفِي الْمَسْأَلَة قَول رَابِع: أَن لَهَا حكما وَلَكِن لَا نعلمهُ، اخْتَارَهُ ابْن حمدَان فِي " مقنعه "، فَقَالَ: (قَالَ الشَّيْخ [أَبُو] مُحَمَّد الْمَقْدِسِي فِي " الرَّوْضَة ": " الْوَقْف هُوَ الْأَلْيَق بِالْمذهبِ "، فَيحْتَمل قَوْله: أَنه لَا حكم لَهَا، وَيحْتَمل: أَن لَهَا حكما لَا نعلمهُ، قَالَ: وَهُوَ رَاجِح، وَحكم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الله تَعَالَى، لِأَنَّهُ وَحي، وَتَقْرِير لَهُ فِيمَا اجْتهد بِهِ) انْتهى. وَقَالَ ابْن عقيل أَيْضا -: (الْأَلْيَق بمذهبه أَن يُقَال: لَا نَدْرِي مَا الحكم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 771 وَهَذَا قَول الْأَشْعَرِيّ فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ الْبَيْضَاوِيّ، قَالَ: (لِأَن الحكم عِنْده قديم) ، فتفسير الْوَقْف بِعَدَمِ الحكم، يلْزم مِنْهُ حُدُوث الحكم، وَهُوَ خلاف مذْهبه , وَكَذَا فسر فِي " الْمَحْصُول " مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ فِي الْوَقْف بذلك، ورد. فعلى الأول لَا إِثْم بالتناول: كَفعل الْبَهِيمَة، لَكِن لَا يُفْتى بِهِ فِي الْأَصَح، اخْتَارَهُ ابْن عقيل، وَابْن حمدَان. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (وَفِيه خلاف) ، أَي: بالإفتاء. قَوْله: {وَفرض ابْن عقيل الْمَسْأَلَة فِي الْأَفْعَال والأقوال قبل السّمع} . وطرد ابْن عقيل خلاف الْوَقْف فِي كل الْأَشْيَاء حَتَّى فِي التَّثْنِيَة، والتثليث، وَالسُّجُود للصنم، وَصرف الْعِبَادَة وَالشُّكْر إِلَى غير الله تَعَالَى، الْوَاحِد الْقَدِيم الَّذِي قد عرف وحدته وَقدمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 772 قَالَ: (وَيجب القَوْل باستصحاب الْحَال الْعقلِيّ، مثل أَن يدل الدَّلِيل الْعقلِيّ على أَن الْأَشْيَاء على الْحَظْر أَو على الْإِبَاحَة، قبل وُرُود الشَّرْع بذلك، فنستصحب هَذَا الأَصْل حَتَّى يدل دَلِيل الشَّرْع على خِلَافه) انْتهى. وَالصَّحِيح خلاف ذَلِك. قَالَ القَاضِي فِي مَسْأَلَة الْأَعْيَان قبل الشَّرْع: (إِنَّمَا يتَصَوَّر هَذَا الِاخْتِلَاف فِي الْأَحْكَام الشرعيات، من تَحْرِيم الْخمر، وَإِبَاحَة لحم الْأَنْعَام، وَمَا أشبه ذَلِك، مِمَّا قد كَانَ يجوز حظره، وَتجوز إِبَاحَته، فَأَما مَا لَا يجوز فِيهِ الْحَظْر بِحَال: كمعرفة الله تَعَالَى، وَمَعْرِفَة وحدانيته، وَمَا لَا تجوز عَلَيْهِ الْإِبَاحَة: كالكفر بِاللَّه، وَجحد التَّوْحِيد، وَغَيره، فَلَا يَقع فِيهِ خلاف، بل هُوَ على صفة وَاحِدَة لَا تَتَغَيَّر وَلَا تنْقَلب، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَاف فِيمَا ذكرنَا) انْتهى. {وَعند الْمُعْتَزلَة: يُبَاح مَا يحْتَاج إِلَيْهِ} . قسمت الْمُعْتَزلَة الْأَفْعَال غير الاضطرارية كالتنفس مثلا، وَالْحَرَكَة فِي الْجِهَات، فَإِنَّهُ غير مَمْنُوع مِنْهُ، مَعَ عدم نطق الشَّرْع بِهِ إِلَى مَا لَا يقْضِي الْعقل فِيهِ بِحسن وَلَا قبح، [لَا ضَرُورَة وَلَا نظرا] ، وَإِلَى مَا يقْضِي فِيهِ بأحدها ضَرُورَة أَو نظرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 773 فَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ يُبَاح، {وَمَا حكم الْعقل فِيهِ بِشَيْء} ، وينقسم إِلَى الْأَحْكَام الْخَمْسَة، بِحَسب تَرْجِيح فعله على تَركه، وَعَكسه، وذم فَاعله، وَعَدَمه، واستوائه. وَمعنى ذَلِك لأبي الْحسن التَّمِيمِي من أَصْحَابنَا. فَمَا قضى بحسنه إِن لم يتَرَجَّح فعله على تَركه فَهُوَ الْمُبَاح، وَإِن ترجح، فَإِن لحق الذَّم على تَركه فَهُوَ الْوَاجِب، وَإِلَّا فَهُوَ الْمَنْدُوب، وَمَا قضى بقبحه إِن قضى بالذم على فعله [فالحرام] ، وَإِلَّا فالمكروه. وَمَا لم يحكم الْعقل فِيهِ بِشَيْء فَلهم فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: الْحَظْر، وَالثَّانِي: الْإِبَاحَة، وَالثَّالِث: التَّوَقُّف. فَيُقَال للحاظر مِنْهُم: لَو كَانَت محظورة، وفرضنا ضدين: كالحركة والسكون، لزم التَّكْلِيف بالمحال، وَأَنْتُم لَا تَقولُونَ بِهِ. وَيُقَال للمبيح: إِن أردْت لَا حرج فِي هَذَا الْقسم من الْفِعْل، فَمُسلم، وَلَا يجديك نفعا، لِأَن انْتِفَاء الْحَرج، إِنَّمَا يتَصَوَّر بأمرين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 774 عدم الْحَاكِم بالحرج، وسلب الْحَاكِم الْحَرج عَن الْفِعْل، وَالْأول مُسلم، وَالثَّانِي مَمْنُوع اتِّفَاقًا، أما عندنَا فلعدم الشَّرْع، وَأما عنْدكُمْ: فلعدم حكم الْعقل فِي هَذَا الْقسم. وَيُقَال للْوَاقِف: إِن توقفت فِي الحكم لعدم السّمع فَهُوَ مَذْهَب كثير منا، وَإِن توقفت لتعارض الْأَدِلَّة فَلَا تعَارض. فَبَطل حكم الْعقل فِي هَذَا الْمَسْأَلَة وَالله تَعَالَى أعلم. قَالَ ابْن التلمساني: (والقائلون بالحظر لَا يُرِيدُونَ بِاعْتِبَار صفة فِي الْمحل، بل حظر احتياطي، كَمَا يجب اجْتِنَاب الْمَنْكُوحَة إِذا اخْتلطت بأجنبية، والقائلون بِالْوَقْفِ أَرَادوا وقف حيرة) . هَكَذَا حرر الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، مَوضِع الْخلاف، وَأطْلقهُ فِي " الْمَحْصُول ". قَالَ الْقَرَافِيّ: (إِطْلَاقه الْخلاف يُنَافِي قواعدهم، إِذْ الْحَظْر يَقْتَضِي تَحْرِيم إنقاذ الغريق، وَالْإِبَاحَة تَقْتَضِي إِبَاحَة الْقَتْل، أما مَا لَا يطلع الْعقل على مفسدته أَو مصْلحَته فَيمكن أَن يَجِيء فِيهِ الْخلاف، وَحكى أَبُو الْحُسَيْن فِي " الْمُعْتَمد " عَنْهُم الْخلاف من غير تَقْيِيد، وَهُوَ أعلم بمذهبهم، فَرَجَعت إِلَى طَريقَة الرَّازِيّ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 775 قَوْله: {تَنْبِيهَات: الأول: قَالَ الخرزي، وَجمع: لَا فَائِدَة لَهَا [- أَي: لهَذِهِ الْمَسْأَلَة -] لِأَنَّهُ لم يخل وَقت من شرع. قَالَ القَاضِي: وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد} . لِأَنَّهُ أول مَا خلق آدم، قَالَ لَهُ: {اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة [فكلا] من حَيْثُ شئتما وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة} ، أَمرهمَا ونهاهما عقب خلقهما، فَكَذَلِك كل زمَان. قَالَ الخرزي: (لم تخل الْأُمَم من حجَّة) ، وَاحْتج بقوله تَعَالَى: {أيحسب الْإِنْسَان أَن يتْرك سدى} [الْقِيَامَة: 36] والسدى: الَّذِي لَا يُؤمر وَلَا ينْهَى، وَقَوله تَعَالَى: {وَلَقَد بعثنَا فِي كل أمة رَسُولا} [النَّحْل: 36] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير} [فاطر: 24] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 776 قَالَ القَاضِي: (هَذَا ظَاهر رِوَايَة عبد الله فِيمَا خرجه فِي محبسه: " الْحَمد الله الَّذِي جعل فِي [كل] زمَان فَتْرَة من الرُّسُل بقايا من أهل الْعلم "، فَأخْبر أَن كل زمَان فِيهِ قوم من أهل الْعلم) . {قَالَ [القَاضِي] : وتتصور [فائدتها] فِيمَن خلق ببرية [و] لم يعرف شرعا، وَعِنْده فواكه [وأطعمة، وَكَذَا قَالَ] . . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 777 أَبُو الْخطاب. وَقَالَ أَيْضا [أَبُو الْخطاب] : لَو قَدرنَا خلو شرع عَن [حكمهَا] ، مَا حكمهَا؟} . [قَالَ القَاضِي] : (وتفيد فِي الْفِقْه أَن من حرم شَيْئا أَبُو أَو أَبَا [حه، فَقَالَ] : بقيت على حكم الْعقل، هَل يَصح ذَلِك؟ وَهل يلْزم خَصمه احتجاجه بذلك؟ وَهَذَا [مِمَّا يحْتَاج] إِلَيْهِ الْفَقِيه) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 778 وَكَذَا قَالَ فِي " التَّمْهِيد " و " الرَّوْضَة ": [إِن من] حرم شَيْئا أَو أَبَاحَهُ بَقِي] على حكم الأَصْل) . وَكَذَا قَالَ ابْن عقيل: (من شَرط الْمُفْتى: معرفَة الأَصْل [الَّذِي يَنْبَنِي] عَلَيْهِ اسْتِصْحَاب الْحَال، ليتمسك بِهِ عِنْد عدم الْأَدِلَّة) . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بعد كَلَام ابْن عقيل عَن كَلَام أَحْمد وَالْقَاضِي -: (فقد جعل ابْن عقيل مورد الْخلاف [الَّذِي ذكره القَاضِي فِيمَا سكت عَنهُ] السّمع بعد مَجِيئه، فَصَارَ فِي فائدتها ثَلَاثَة أَقْوَال: [أَحدهَا: عِنْد عدم السّمع، وَالثَّانِي] : بعد مَجِيء [السّمع، وَالثَّالِث] : يعمهما جَمِيعًا) . ذكره فِي [المسودة] . وَقَالَ [ابْن مُفْلِح فِي] " أُصُوله ": (وَذكر [بعض أَصْحَابنَا] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 779 فِي فائدتها أقوالا: أَحدهَا: [قبل] السّمع، [وَبعده يُقَاس الْمَسْكُوت] على الْمَنْصُوص، قَالَه الخرزي وَغَيره. وَالثَّانِي: بعده، قَالَه ابْن عقيل، [على عدم التحسين. وَالثَّالِث] : يعمهما، قَالَه القَاضِي، وَغَيره) انْتهى. [وَالَّذِي صرح بِهِ الْبرمَاوِيّ عَن أَصْحَابهم] : (أَن مَحل الْأَقْوَال الثَّلَاثَة بعد [وُرُود الشَّرْع، فِي صُورَة لَا يُوجد فِيهَا حكم فِي الشَّرْع] . أصلا) . قَوْله: {الثَّانِي: قَالَ [الْحلْوانِي وَغَيره] : عرفنَا [الْإِبَاحَة والحظر بالإلهام] ، وَهُوَ مَا يُحَرك الْقلب بِعلم، ويطمئن بِهِ، [وَيَدْعُو إِلَى] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 780 الْعَمَل بِهِ} . بعض [الْعلمَاء قَالَ بِأَن] الْأَعْيَان المنتفع بهَا قبل الشَّرْع على الْحَظْر أَو الْإِبَاحَة، مَعَ القَوْل بِأَن الْعقل لَا يُوجب وَلَا يحرم وَلَا يحسن وَلَا يقبح، فِيمَا إِذا حكمنَا عَلَيْهَا بالحظر أَو الْإِبَاحَة [ ... ] مِمَّا قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله ": قَالَ بعض [الْعلمَاء: من لم يُوَافق الْمُعْتَزلَة فِي] التحسين والتقبيح، وَقَالَ بِالْإِبَاحَةِ أَو [الْحَظْر فقد نَاقض] . وَقَالَ [غَيره: دلّت] الدَّلَائِل على حظره [فِيمَا سلف ... ] غَيره [.] . {وَحكى القَاضِي [أَبُو يعلى] [فِي الإلهام: هَل هُوَ] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 781 [طَرِيق شَرْعِي] ؟ [على قَوْلَيْنِ] } . [وَقَالَ القَاضِي] أَبُو يعلى: (لَا يمْتَنع أَن نقُول قبل وُرُود الشَّرْع: إِن الْعقل يقبح أَو يحسن إِلَى أَن [ورد] الشَّرْع فَمنع ذَلِك؛ إِذْ لَيْسَ قبل وُرُود الشَّرْع مَا يمنعهُ) . قَالَ: (وَقد قيل: علمناه من طَرِيق شَرْعِي، وَهُوَ إلهام من الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ، بحظره وإباحته، كَمَا ألهم أَبَا بكر، وَعمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 782 أَشْيَاء ورد الشَّرْع [بموافقتها] . كَمَا ألهم أَبَا بكر أَن قَالَ: " فِي بطن أم عبد جَارِيَة ") . وَكَذَلِكَ قَالَ الْحلْوانِي وَغَيره، وضعفها الشَّيْخ تَقِيّ الدّين على هَذَا الأَصْل. وَحكى فِي " جمع الْجَوَامِع " أَن بعض الصُّوفِيَّة قَالَ بِهِ. وَقَالَهُ ابْن السَّمْعَانِيّ نقلا عَن أبي زيد الدبوسي فَإِنَّهُ ذكره عقب ذكره إبِْطَال التَّقْلِيد فِي جملَة الِاسْتِدْلَال. قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَكَانَ الْحَنَفِيَّة لما توسعوا فِي الِاسْتِحْسَان وحدوه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 783 بِأَنَّهُ: دَلِيل ينقدح فِي نفس الْمُجْتَهد تقصر عَنهُ عِبَارَته، فَهُوَ قريب من معنى الإلهام، فاستطرد إِلَى ذكره. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو زيد: " الإلهام: مَا حرك الْقلب بِعلم يَدْعُوك إِلَى الْعَمَل بِهِ، من غير اسْتِدْلَال [بِآيَة] وَلَا نظر فِي حجَّة ".) . وَقَالَ: (الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور الْعلمَاء: أَنه خيال، لَا يجوز الْعَمَل بِهِ إِلَّا عِنْد فقد الْحجَج كلهَا، من بَاب مَا أُبِيح [عمله] بِغَيْر علم. وَقَالَ بعض [الْجَهْمِية] : هُوَ حجَّة بِمَنْزِلَة الْوَحْي المسموع من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَاحْتَجُّوا لَهُ بحجج مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {وَنَفس وَمَا سواهَا فألهمها فجورها وتقواها} [الشَّمْس: 7 8] ، أَي: عرفهَا بالإيقاع فِي الْقلب، وَقَوله تَعَالَى: (فَمن يرد الله أَن يهديه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 784 يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا} [الْأَنْعَام: 125] ، وَقَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اتَّقوا فراسة الْمُؤمن فَإِنَّهُ ينظر بِنور الله ". وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِثْم مَا حاك فِي الصَّدْر وَإِن أَفْتَاك النَّاس وأفتوك "، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 785 فقد جعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَهَادَة قلبه بِلَا حجَّة أولى من الْفَتْوَى، فَثَبت أَن الإلهام حق، فَإِنَّهُ وَحي بَاطِن، إِلَّا أَن العَبْد إِذا عصى ربه وَعمل بهواه حرم هَذِه الْكَرَامَة. وَلَا حجَّة فِي شَيْء من ذَلِك، لِأَنَّهُ لَيْسَ المُرَاد الْإِيقَاع فِي الْقلب بِلَا دَلِيل، بل الْهِدَايَة إِلَى الْحق بِالدَّلِيلِ، كَمَا قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ -: " إِلَّا أَن يُؤْتِي الله عبدا فهما فِي كِتَابه ". وَكَانَ شيخ الْإِسْلَام البُلْقِينِيّ يَقُول: (الفتوحات الَّتِي يفتح بهَا على الْعلمَاء فِي الاهتداء إِلَى استنباط الْمسَائِل المشكلة من الْأَدِلَّة، أعظم نفعا وَأكْثر فَائِدَة مِمَّا يفتح بِهِ على الْأَوْلِيَاء من الِاطِّلَاع على بعض الغيوب، فَإِن ذَلِك لَا يحصل بِهِ من النَّفْع مثل مَا يحصل بِهَذَا، - وَأَيْضًا هَذَا موثوق بِهِ لرجوعه إِلَى أصل شَرْعِي، وَذَلِكَ قد يضطرب) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 786 قَالَ الزَّرْكَشِيّ شَارِح " جمع الْجَوَامِع " -: (مِمَّن أثْبته الإِمَام شهَاب الدّين السهروردي، قَالَ فِي " أَمَالِيهِ ": (وَهُوَ علم يحدث فِي النَّفس المطمئنة الزكية "، وَفِي الحَدِيث: " إِن من أمتِي محدثين، وَإِن عمر مِنْهُم " انْتهى. {وَقيل: دلنا الدَّلِيل على حظره فِيمَا سلف} . اسْتدلَّ لهَذَا القَوْل بقوله تَعَالَى: {يسئلونك مَاذَا أحل} الْآيَة: [الْمَائِدَة: 4] ، فَدلَّ على أَن التَّحْرِيم كَانَ سَابِقًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 787 قَوْله: {الثَّالِث: الْعُقُود وَنَحْوهَا: كالأعيان، بل دخلت فِي كَلَام الْأَكْثَر} . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله ": (الْعُقُود والمعاملات قبل الشَّرْع حكمهَا حكم الْأَعْيَان، بل قد دخلت فِي كَلَام الْجُمْهُور) انْتهى. فَيكون الْخلاف الَّذِي فِي الْأَعْيَان يَأْتِي فِيهَا، وَقد تقدم كَلَام ابْن عقيل أَنه فرض الْمَسْأَلَة فِي الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال، فَدخل ذَلِك فِي كَلَامه، وَتقدم كَلَام القَاضِي بقوله: (إِنَّمَا الْخلاف فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة) ، والعقود والمعاملات من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 788 قَوْله: {فصل الحكم الشَّرْعِيّ} اعْلَم أَن الحكم مصدر قَوْلك: حكم بَينهم يحكم حكما، إِذا قضى، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَة: الْمَنْع، وَإِلَيْهِ ترجع تراكيب مَادَّة: ح، ك، م، أَو أَكْثَرهَا. فَمن ذَلِك: حكمت الرجل تحكيماً، إِذا منعته مِمَّا أَرَادَ. وحكمت السَّفِيه بِالتَّخْفِيفِ -، وأحكمت، إِذا أخذت على يَده. قَالَ الشَّاعِر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 789 ( [أبني] حنيفَة أحكموا [صِبْيَانكُمْ] ... إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم أَن أغضبا) وَسمي القَاضِي: حَاكما؛ لمَنعه الْخُصُوم من التظالم. وَسميت هَذِه الْمعَانِي نَحْو: الْوُجُوب، والحظر، وَغَيرهمَا: أحكاماً؛ لِأَن معنى الْمَنْع مَوْجُود فِيهَا. إِذا تقرر ذَلِك؛ فقد قَالَ الإِمَام أَحْمد: (الحكم الشَّرْعِيّ: خطاب الشَّرْع وَقَوله) انْتهى. وَمرَاده: مَا وَقع بِهِ الْخطاب، أَي: مَدْلُوله وَهُوَ الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم والإحلال، وَهُوَ صفة الْحَاكِم. فَهُوَ عِنْد الإِمَام أَحْمد: مَدْلُول خطاب [الشَّرْع] ، فَشَمَلَ الْأَحْكَام [الْخَمْسَة] وَغَيرهَا، [وَالظَّاهِر أَن] الإِمَام أَحْمد أَرَادَ بِزِيَادَة: (وَقَوله) ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 790 على خطاب الشَّرْع، التَّأْكِيد، من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص؛ [لِأَن] كل خطاب قَول، وَلَيْسَ كل قَول خطاب. فَائِدَة: الحكم، نفس خطاب الله تَعَالَى، فالإيجاب مثلا: هُوَ نفس قَول الله تَعَالَى: {أقِم الصَّلَاة} [الْإِسْرَاء: 78] ، وَلَيْسَ الْفِعْل صفة من القَوْل، إِذْ القَوْل مُتَعَلق بالمعدوم، وَهُوَ فعل الصَّلَاة فِي الْمِثَال الْمَذْكُور، وَإِذا كَانَ الْفِعْل مَعْدُوما فصفته الْمُتَأَخِّرَة عَنهُ أولى بِالْعدمِ، - فَالْحكم وَهُوَ الْإِيجَاب مثلا لَهُ تعلق بِفعل الْمُكَلف وَإِن كَانَ مَعْدُوما. فبالنظر إِلَى نَفسه الَّتِي هِيَ صفة الله يُسمى إِيجَابا، وبالنظر إِلَى مَا تعلق بِهِ وَهُوَ فعل الْمُكَلف يُسمى وجوبا، فهما متحدان بِالذَّاتِ، مُخْتَلِفَانِ بِالِاعْتِبَارِ، وَلِهَذَا ترى الْمُحَقِّقين تَارَة يعْرفُونَ الْإِيجَاب، وَتارَة يعْرفُونَ الْوُجُوب، نظرا إِلَى الاعتبارين. هَذَا حَاصِل كَلَام القَاضِي عضد الدّين، مَعَ توضيح فِيهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَه إِنَّمَا هُوَ كالجواب عَن الِاعْتِرَاض بقَوْلهمْ: الْمَقْصُود فِي تَعْرِيف الحكم؛ تَعْرِيف المصطلح بَين الْفُقَهَاء، لِأَنَّهُ الْمَأْخُوذ من تَعْرِيف الْفِقْه، وَهُوَ لَيْسَ نفس الْخطاب، بل مَا ثَبت بِالْخِطَابِ، كالوجوب، وَالْحُرْمَة، أَعنِي: صفة فعل الْمُكَلف. وَأجَاب غَيره عَن ذَلِك: (بِأَنَّهُ كَمَا أُرِيد بالحكم مَا حكم بِهِ، أُرِيد بِالْخِطَابِ مَا خُوطِبَ بِهِ، لظُهُور أَن صفة فعل الْمُكَلف، لَيْسَ [نفس] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 791 الْخطاب الَّذِي هُوَ الْكَلَام الأزلي. وَأجِيب أَيْضا: (بِأَن التَّعْرِيف إِنَّمَا هُوَ للْحكم حَقِيقَة، وَإِطْلَاق الحكم على الْوُجُوب وَالْحُرْمَة تسَامح) . وأسدها كَلَام الْعَضُد. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: (لما كَانَ كثير من الْعلمَاء يتسامحون بِإِطْلَاق اسْم نوع الحكم على مُتَعَلّقه من الْفِعْل وَعَكسه، فَيَقُولُونَ: الحكم: إِمَّا وَاجِب، أَو مَنْدُوب إِلَى آخِره، وَيَقُولُونَ فِي الْفِعْل: إِنَّه إِيجَاب، أَو ندب ... إِلَى آخِره، تعرضت للْفرق بَينهمَا بِحَسب الْحَقِيقَة، وَأَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 792 الْوَاجِب: مَا تعلق بِهِ الْإِيجَاب، وَالْمَنْدُوب: مَا تعلق بِهِ النّدب ... إِلَى آخِره، فيصاغ لكل فعل من الحكم الَّذِي تعلق بِهِ، [اسْم] يحصل بِهِ الْإِعْلَام والتمييز عَن بَقِيَّة الْأَفْعَال، فَيُقَال للْفِعْل الَّذِي تعلق بِهِ الْإِيجَاب: مُوجب، اسْم مفعول، وواجب لِأَنَّهُ [مُطَاوع] لأوجب، وَكَذَلِكَ يُقَال فِي الْبَقِيَّة) . قَوْله: {وَقيل: خطابه الْمُتَعَلّق بِفعل [الْمُكَلف] } . [قَالَه] كثير من الْعلمَاء، وَهُوَ قريب من قَول الإِمَام أَحْمد؛ [إِلَّا] أَن هَذَا أصرح وأخص. فَقَوله: (خطابه) ، أَي: خطاب الشَّرْع، فَدخل فِيهِ خطاب الله تَعَالَى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 793 وخطاب مَلَائكَته، وخطاب الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لَكِن خطاب الْمَلَائِكَة، وخطاب الرَّسُول دلّت على خطاب الله تَعَالَى. فخطاب جنس، وَهُوَ مصدر خَاطب، لَكِن المُرَاد بِهِ هُنَا الْمُخَاطب بِهِ، لَا معنى الْمصدر الَّذِي هُوَ تَوْجِيه الْكَلَام لمخاطب، فَهُوَ من إِطْلَاق الْمصدر على اسْم الْمَفْعُول. وَخرج: خطاب غير الشَّارِع؛ إِذْ لَا حكم إِلَّا للشارع. وَخرج بقوله: (الْمُتَعَلّق بِفعل الْمُكَلف) ، خَمْسَة أَشْيَاء. الْخطاب الْمُتَعَلّق بِذَات الله، وَصفته، وَفعله، وبذات الْمُكَلّفين، والجماد. فَالْأول: مَا تعلق بِذَاتِهِ، نَحْو {شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} [آل عمرَان: 18] . وَالثَّانِي: مَا تعلق بِصفتِهِ، نَحْو: {الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم} [الْبَقَرَة: 255، وَآل عمرَان: 2] . الثَّالِث: مَا تعلق بِفِعْلِهِ، نَحْو: {الله خَالق كل شَيْء} [الزمر: 62] . الرَّابِع: مَا تعلق بِذَات الْمُكَلّفين، نَحْو: {وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ ثمَّ صورناكم} [الْأَعْرَاف: 11] ، و {خَلقكُم من نفس وَاحِدَة} [النِّسَاء: 1، والأعراف: 189، وَالزمر: 6] . الْخَامِس: مَا تعلق بالجماد، نَحْو: {وَيَوْم نسير الْجبَال} [الْكَهْف: 47] ، وَنَحْوهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 794 وَالْمرَاد بالمتعلق: الَّذِي من شَأْنه أَن يتَعَلَّق، من بَاب تَسْمِيَة الشَّيْء بِمَا يؤول إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَزِمَ أَنه قبل التَّعَلُّق لَا يكون حكما، إِذْ التَّعَلُّق حَادث عِنْد الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه، فَيكون مجَازًا، وَلَا يضر وُقُوعه فِي التَّعْرِيف، إِذا دلّت عَلَيْهِ الْقَرَائِن عِنْد الْغَزالِيّ، والقرافي، كَمَا تقدم. وَإِن قيل: التَّعَلُّق قديم، وَاخْتَارَهُ / الرَّازِيّ فِي الْقيَاس، والسبكي، أَو قُلْنَا: لَهُ اعتباران، قبل وجوب التَّكْلِيف وَبعده، كَمَا قَالَه جمع مِنْهُم، فَلَا مجَاز فِي التَّعْرِيف. وَالْمرَاد بِفعل الْمُكَلف: الْأَعَمّ من القَوْل [والاعتقاد] ، لتدخل عقائد الدّين والنيات فِي الْعِبَادَات، وَالْمَقْصُود: عِنْد اعْتِبَارهَا، وَنَحْو ذَلِك. وَقُلْنَا: الْمُكَلف بِالْإِفْرَادِ -، ليشْمل مَا تعلق بِفعل الْوَاحِد: كخصائص النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وكالحكم بِشَهَادَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 795 خُزَيْمَة، وإجزاء العناق فِي الْأُضْحِية لأبي بردة، وَقد ثَبت ذَلِك لغيره أَيْضا -، كزيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ، وَعقبَة بن عَامر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 796 الْجُهَنِيّ، ذكره فِي " حَيَاة الْحَيَوَان "، والبرماوي. وَالْمرَاد بالمكلف: الْبَالِغ الْعَاقِل الذاكر غير الملجأ، لَا من تعلق بِهِ التَّكْلِيف، وَإِلَّا لزم الدّور، إِذْ لَا يكون مُكَلّفا حَتَّى يتَعَلَّق بِهِ التَّكْلِيف، وَلَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف إِلَّا بمكلف. قَوْله: {وَقيل: النَّاس} ، أَي: الْمُتَعَلّق بِفعل النَّاس أَو الْعباد. وَقيل: وَهَذَا أولى؛ ليدْخل إِتْلَاف غير الْمُكَلف. وَقيل: أُرِيد وليه. قَالَ الكوراني: (اعْترض أَن الْحَد غير منعكس لخُرُوج الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بِفعل الصَّبِي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 797 وَالْجَوَاب: أَن الْأَحْكَام الَّتِي يتَوَهَّم تعلقهَا بِفعل الصَّبِي إِنَّمَا هِيَ مُتَعَلقَة بِفعل الْوَلِيّ، وَهُوَ الْمَأْمُور، وَهُوَ الآثم بِتَرْكِهَا، المثاب على فعلهَا) انْتهى. قلت: وَكَذَا الْمَجْنُون كالصغير. قَوْله: {باقتضاء أَو تَخْيِير) } . يخرج بهما مَا تعلق بِفعل الْمُكَلف على جِهَة الْإِخْبَار، نَحْو: {وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صلَة الرَّحِم تزيد فِي الْعُمر "؛ فَإِنَّهُ [إِخْبَار بِخلق] الْعَمَل، لَا أنشأ مُتَعَلق بِالْعَمَلِ اقْتِضَاء أَو تخييراً؛ لِأَن الِاقْتِضَاء: هُوَ الطّلب للْفِعْل جزما، أَو غير جزم، أَو التّرْك جزما، أَو غير جزم، بنهي مَقْصُود أَو غَيره، [والتخيير: الْإِبَاحَة] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 798 فَتدخل الْأَحْكَام كلهَا، لَكِن كَون الْإِبَاحَة [حكما شَرْعِيًّا] ، فِيهِ خلاف يَأْتِي محرراً إِن شَاءَ الله. فَإِن قُلْنَا بِالْمَنْعِ، فَلَا حَاجَة إِلَى قَوْلنَا: (أَو تَخْيِير) ، وَإِلَّا فَلَا بُد من الْإِتْيَان بهَا، لِأَنَّهَا حكم شَرْعِي. وَعبر السُّبْكِيّ " الْكَبِير " عَن هَذَا الْقَيْد بقوله: (على جِهَة الْإِنْشَاء) ، ليتخلص / من وُقُوع " أَو " فِي التَّعْرِيف، لِأَنَّهَا لأحد الشَّيْئَيْنِ، وَذَلِكَ منَاف للْبَيَان. لَكِن " أَو " هُنَا إِنَّمَا هِيَ للتقسيم، فَلَا ترديد فِيهَا، بل يتَرَجَّح التَّعْيِين لإفادته تنوع الحكم، وسلامته من إِبْهَام لفظ " الْإِنْشَاء " لِأَن لَهُ مَعَاني لَا يدرى مَا المُرَاد مِنْهَا؟ وَاعْترض: شَرط الْحَد وجوده فِي كل فَرد من [الْمَحْدُود] ، وَلَا يُوجد فِي التَّقْسِيم، لِأَنَّهُ وضع لمعْرِفَة الكليات بِوَاسِطَة الجزيئات، وَسمي استقراء، والتحديد وضع بِالْعَكْسِ، وَسمي برهاناً، وليسا بَابا وَاحِدًا , رد: الترديد فِي أَقسَام الْمَحْدُود لَا فِي الْحَد، فَلَا يضر. وَأورد: خطابه قديم، وَحكمه حَادث، لوصفه بِهِ. رد: لَا يلْزم من يَقُول: يتَكَلَّم إِذا شَاءَ، ثمَّ الْحَادِث [التَّعَلُّق] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 799 وَالْحكم مُتَعَلق بِفعل العَبْد لَا صفته، كالقول بمعدوم، وَالْفِعْل يعرف الحكم، كالعالم للصانع، وَلِهَذَا سمي عَالما. قَالَه ابْن مُفْلِح وَغَيره. قَوْله: {وَقَالَ الرَّازِيّ: أَو [الْوَضع] } . لما لم يكن الْحَد جَامعا لخُرُوج مَا خرج بخطاب الْوَضع، نَحْو: كَون الشَّيْء دَلِيلا على شَيْء، كزوال الشَّمْس على وجوب الصَّلَاة، أَو سَببا: كَالزِّنَا لوُجُوب الْحَد، أَو شرطا: كَالْوضُوءِ لصِحَّة الصَّلَاة، أَو مَانِعا: كالنجاسة لإفساد الصَّلَاة، أَو البيع لكَونه صَحِيحا أَو فَاسِدا وَنَحْوه، زيد: (أَو الْوَضع) ؛ لكَونه حكما شَرْعِيًّا لِأَنَّهُ لَا يعلم إِلَّا بِوَضْع الشَّرْع، فَكَأَن الشَّارِع أنشأه، وعَلى هَذَا لَا يَسْتَقِيم تَعْرِيف الحكم حَتَّى يُزَاد فِيهِ: (أَو الْوَضع) ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْن الْحَاجِب بقوله: (فزيد " أَو الْوَضع " فاستقام) . فَرَأى الْفَخر الرَّازِيّ إِدْخَاله فِي خطاب التَّكْلِيف لِأَن معنى كَون الشَّيْء شرطا: حُرْمَة الْمَشْرُوط بِدُونِ شَرط، نَقله ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع " عَنهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 800 قَالَ الكوراني: (أَحْكَام الْوَضع رَاجِعَة إِلَى التَّكْلِيف، فالتكليفي قِسْمَانِ: صَرِيح، وضمني، فأحكام الْوَضع من قبيل الضمني، إِذْ معنى سَبَبِيَّة الدلوك: وجوب / الصَّلَاة عِنْد الدلوك) انْتهى. وَلذَلِك قيل: (هُوَ دَاخل تَحت الِاقْتِضَاء والتخيير، فَلَا معنى لكَون الدلوك سَببا، إِلَّا وجوب الصَّلَاة، وَلَا لكَون الطَّهَارَة شرطا، إِلَّا إِبَاحَة الْإِقْدَام عِنْد وجودهَا، وَلَا [لصِحَّة] البيع، إِلَّا إِبَاحَة الِانْتِفَاع، وَنَحْو ذَلِك. فَهُوَ دَاخل بالاستلزام، بِاعْتِبَار الْمَعْنى الْمَقْصُود مِنْهُ، لَا أَنه مِنْهُمَا حَقِيقَة وَلَيْسَ تَحت هَذَا الِاخْتِلَاف كَبِير فَائِدَة. وعَلى كل حَال، خطاب الْوَضع يتَعَلَّق بِفعل الْمُكَلف، وَفعل غير الْمُكَلف، وَلِهَذَا تجب الزَّكَاة فِي مَال الصَّغِير وَالْمَجْنُون، وَلَا يكون إِلَّا إِخْبَارًا، وخطاب التَّكْلِيف لَا يتَعَلَّق إِلَّا بِفعل الْمُكَلّفين، وَلَا يكون إِلَّا إنْشَاء) . {وَقَالَ الْآمِدِيّ: خطابه بفائدة شَرْعِيَّة تخْتَص بِهِ، أَي: لَا [تفهم] إِلَّا مِنْهُ} . لِأَنَّهُ إنْشَاء لَا خَارج لَهُ يفهم مِنْهُ، ليخرج مثل: {غلبت الرّوم} [الرّوم: 2] ، لجَوَاز فهمه من خَارج، قَالَه ابْن حمدَان، وَهُوَ دور وتعريف بالأخفى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 801 قَالَ الْعَضُد: (قَالَ الْآمِدِيّ: " الحكم: خطاب الشَّارِع بفائدة شَرْعِيَّة "، فَخرج خطابه بغَيْرهَا، كالإخبار بالمحسوسات والمعقولات. قَالَ فِي " الْمُنْتَهى ": (إِن فسر أَي: الْفَائِدَة الشَّرْعِيَّة بمتعلق الحكم فدور، وَإِن سلم فَلَا دَلِيل عَلَيْهِ أَي: فِي اللَّفْظ وَإِلَّا ورد على [طرده] الْإِخْبَار بِمَا لَا يُحْصى من المغيبات، فزيد: " تخْتَص بِهِ "، أَي: لَا تحصل إِلَّا بالاطلاع عَلَيْهِ، وَلَا دور، لِأَن حُصُول الشَّيْء غير تصَوره، وَهَذَا حكم إنشائي، إِذْ لَيْسَ لَهُ خارجي) . وَاعْلَم أَن لَهُ أَن يُفَسِّرهَا بتحصيل مَا حُصُولهَا بِالشَّرْعِ دون مَا هُوَ حَاصِل، ورد الشَّرْع بِهِ أم لَا، لكنه يعلم بِالشَّرْعِ، وَحِينَئِذٍ يكون كَمَا قَالَ) انْتهى. { [وَقيل] } : الحكم {تعلق الْخطاب بالأفعال} . قَالَ بعض الْأَصْحَاب: يلْزمه: أَنه عدمي، لِأَن التَّعَلُّق أَمر عدمي. قَوْله: {وَالْخطاب: قَول يفهم مِنْهُ من سَمعه شَيْئا مُفِيدا} مُطلقًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 802 فَالْقَوْل؛ احْتَرز بِهِ عَن الإشارات والحركات المفهمة. وَخرج بِقَيْد (الْفَهم) : من لَا يفهم كالصغير وَالْمَجْنُون، إِذْ لَا يتَوَجَّه إِلَيْهِ خطاب. وَقَوله: (من سَمعه) ، ليعم المواجهة بِالْخِطَابِ وَغَيره، وليخرج النَّائِم والمغمى عَلَيْهِ وَنَحْوهمَا. / وَخرج بقوله: (مُفِيدا) : المهمل. وَقَوله: (مُطلقًا) ، ليعم حَالَة قصد إفهام السَّامع وَعدمهَا. {وَقيل} : لابد { [من] قصد إفهامه} ، فَحَيْثُ لم يقْصد إفهامه لَا يُسمى خطابا. {زَاد بَعضهم: من متهيئ للفهم} . قَالَ الكوراني: (الْخطاب: تَوْجِيه الْكَلَام نَحْو الْغَيْر للإفهام، أَو للْغَيْر المتهيء للفهم، عبارتان) . قَوْله: {وَيخرج [على ذَلِك] : هَل يُسمى الْكَلَام فِي الْأَزَل خطابا؟} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 803 قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " لما حكى الْخلاف الْمُتَقَدّم -: (يخرج على ذَلِك: هَل يُسمى الْكَلَام فِي الْأَزَل خطابا؟ وَلقَائِل أَن يَقُول: إِنَّمَا يَصح هَذَا على قدر الْكَلَام الَّذِي هُوَ القَوْل) انْتهى. قلت: وَهَذَا الَّذِي قَالَه يتَوَجَّه. فَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ { [الأشعريٍ] ، والقشيري} : أَنه {يُسمى} فِي الْأَزَل طاباً. {و} الَّذِي ذهب إِلَيْهِ القَاضِي أَبُو بكر {الباقلاني، والآمدي} : أَنه {لَا} يُسمى خطابا، لعدم الْمُخَاطب حِينَئِذٍ، بِخِلَاف تَسْمِيَته فِي الْأَزَل أمرا ونهياً وَنَحْوهمَا، لِأَن مثله يقوم بِذَات الْمُتَكَلّم بِدُونِ من يتَعَلَّق بِهِ، كَمَا يُقَال فِي الْوَصِيّ: أَمر فِي وَصيته وَنهى، وَلَا يُقَال: خَاطب. وَهَذَا جَار على رَأْي الأشعرية فِي الْكَلَام على مَا يَأْتِي تحريره. وعَلى هَذَا التَّعْلِيل يَنْبَغِي التَّعْبِير بالْكلَام لَا بِالْخِطَابِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 804 قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَذهب عبد الله بن سعيد والقلانسي من أَصْحَابنَا إِلَى أَنه لَا يُسمى فِي الْأَزَل أمرا وَلَا نهيا وَلَا خَبرا حَتَّى يُوجد الْمَأْمُور والمنهي والمخبر) انْتهى. قَالَ الكوراني فِي أصل الْمَسْأَلَة -: (اخْتلف فِي أَن الْكَلَام فِي الْأَزَل، أَي: الْمَعْنى الْقَدِيم الْقَائِم بِذَاتِهِ، هَل يُسمى خطابا أم لَا؟ وَهَذَا بحث لَفْظِي، إِذْ هُوَ مَبْنِيّ على تَفْسِير الْخطاب، فَمن فسر الْخطاب بتوجيه الْكَلَام نَحْو الْغَيْر للإفهام، يُسَمِّيه خطابا، وَمن فسره بالْكلَام الموجه نَحْو المتهيئ للإفهام فَلَا، لِأَن حَاصِل الْمَعْنى الأول: أَنه الَّذِي شَأْنه أَن يفهم فِي الْجُمْلَة، وَحَاصِل الثَّانِي: أَنه الَّذِي أفهم بِالْفِعْلِ، إِذْ اسْم الْفَاعِل حَقِيقَة فِي الْحَال، [فَيلْزم] أَن يكون فِي الْأَزَل مفهماً بِالْفِعْلِ، وَهِي محَال) انْتهى. قَوْله: {وَعند الْمُعْتَزلَة: الحكم [الشَّرْعِيّ] : صفة للْفِعْل الْمَحْكُوم بِأَنَّهُ حَلَال أَو حرَام أَو وَاجِب} . وَهُوَ الْوُجُوب وَالْحُرْمَة والحل، الَّذِي هُوَ مُوجب الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم والإحلال وَمُقْتَضَاهُ. / الجزء: 2 ¦ الصفحة: 805 فَالْحكم صفة ثَابِتَة للْفِعْل، وَالشَّرْع كشفه، كَمَا يَقُولُونَ فِي الحكم الْعقلِيّ: إِن الْعقل كشفه، فَعرف مَا هُوَ حسن فِي نَفسه وقبيح فِي نَفسه. {وَقَالَ الشَّيْخ [تَقِيّ الدّين] : (الحكم الشَّرْعِيّ يتَنَاوَل الْخطاب وَصفَة الْفِعْل. قَالَ: وَهُوَ قَول السّلف [وَالْجُمْهُور] فَيتَنَاوَل [وَصفه] الْمَحْكُوم عَلَيْهِ، وَهُوَ الْفِعْل، و [يتَنَاوَل] العَبْد، والأعيان الَّتِي أَمر بتعظيمها أَو إهانتها} . فوصف الْأَعْيَان بِأَنَّهَا رِجْس، وَإِن كَانَ فِيهَا وصف قبح قبل التَّحْرِيم، فَالَّذِي اتّصف بِهِ بِالتَّحْرِيمِ لم يكن ثَابتا قبل ذَلِك) انْتهى. وَالله أعلم. {و} قَالَ ابْن حمدَان {فِي " الْمقنع ": ( [و] اسْتِصْحَاب بَرَاءَة الذِّمَّة [حكم شَرْعِي بِلَا خطاب] ، و [كَذَا] الْعرف وَالْعَادَة) } انْتهى. قلت: بل هُوَ حكم شَرْعِي مَأْخُوذ من خطاب الشَّرْع، إِذْ لَوْلَا خطاب الشَّرْع مَا عرفنَا ذَلِك، وَلَا اهتدينا إِلَيْهِ، وَلَا حكمنَا بِهِ. قَوْله: {ثمَّ الْخطاب ... إِلَى آخِره} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 806 هَذَا تَقْسِيم للْحكم، وكونهم جعلُوا مورد الْقِسْمَة الْخطاب لِأَنَّهُ مَعْنَاهُ، وَقد تقدم فِي أول الحكم الشَّرْعِيّ تَحْرِير ذَلِك. إِذا علم ذَلِك؛ فتقرير ذَلِك: أَن خطاب الشَّرْع إِمَّا أَن يرد باقتضاء الْفِعْل، أَو باقتضاء التّرْك، أَو بالتخيير بَين الْفِعْل وَالتّرْك. فَإِن ورد باقتضاء الْفِعْل فَهُوَ إِمَّا مَعَ الْجَزْم، أَو لَا، فَإِن كَانَ اقتضاؤه الْفِعْل مَعَ الْجَزْم، وَهُوَ الْقطع الْمُقْتَضِي للوعيد على التّرْك، فَهُوَ الْإِيجَاب، نَحْو: {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وءاتوا الزَّكَاة} [الْبَقَرَة: 43، والمزمل: 20] . وَإِن لم يكن اقْتِضَاء الْفِعْل مَعَ الْجَزْم فَهُوَ النّدب، نَحْو {وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم} [الْبَقَرَة: 282] ، {فَإِن ءانستم مِنْهُم رشدا فادفعوا إِلَيْهِم أَمْوَالهم} إِلَى قَوْله {فأشهدوا عَلَيْهِم} [النِّسَاء: 6] ، فالإشهاد عَلَيْهِم مَنْدُوب، وَقَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " استاكوا ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 807 وَإِن وجد الْخطاب باقتضاء التّرْك، فَهُوَ إِمَّا مَعَ الْجَزْم الْمُقْتَضِي للوعيد على الْفِعْل، فَهُوَ التَّحْرِيم، نَحْو: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمرَان: 130] ، {وَلَا تقربُوا الزِّنَى} [الْإِسْرَاء: 32] ، أَو لَا مَعَ الْجَزْم فَهُوَ الْكَرَاهَة، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا تَوَضَّأ أحدكُم فَأحْسن وضوءه، ثمَّ خرج عَامِدًا إِلَى الْمَسْجِد فَلَا يشبك بَين أَصَابِعه فَإِنَّهُ فِي / صَلَاة " رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَابْن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 808 مَاجَه، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يمسك ذكره وَهُوَ يَبُول ". وَإِن ورد الْخطاب بالتخيير فَهُوَ الْإِبَاحَة، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين سُئِلَ عَن الْوضُوء من لُحُوم الْغنم: " إِن شِئْت فَتَوَضَّأ وَإِن شِئْت فَلَا تتوضأ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 809 فَائِدَة: أَدِلَّة الْأَحْكَام لَا تتقيد استفادتها من صَرِيح الْأَمر وَالنَّهْي، بل تكون بِنَصّ، أَو إِجْمَاع، أَو قِيَاس. وَالنَّص إِمَّا أَن يكون أمرا، أَو نهيا، أَو إِذْنا، أَو خَبرا بمعناها، أَو إِخْبَارًا بالحكم، نَحْو: {كتب عَلَيْكُم الصّيام} [الْبَقَرَة: 183] ، {وَإِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا} [النِّسَاء: 58] " إِ ن الله يَنْهَاكُم أَن تحلفُوا بِآبَائِكُمْ "، {أحل لكم صيد الْبَحْر} [الْمَائِدَة: 96] ، أَو بِذكر خَاصَّة لأَحَدهمَا، كوعيد على فعل شَيْء أَو تَركه، أَو وعد على فعل شَيْء أَو تَركه، وَنَحْو ذَلِك. قَوْله: {وَإِلَّا فوضعي} . يَعْنِي: إِذا لم يرد الْخطاب مثل هَذِه الصِّيَغ الْمُتَقَدّمَة فِي الْأَحْكَام الْخَمْسَة، يكون وضعياً، أَي: من خطاب الْوَضع الْآتِي أَحْكَامه، لَا من خطاب التَّكْلِيف، كالصحة، وَالْفساد، وَنصب الشَّيْء سَببا، أَو مَانِعا، أَو شرطا، وَكَون الْفِعْل أَدَاء أَو قَضَاء، ورخصة أَو عَزِيمَة، وَهُوَ وَاضح. فَائِدَة: قد يجْتَمع خطاب الشَّرْع وخطاب الْوَضع فِي شَيْء وَاحِد: كَالزِّنَا فَإِنَّهُ حرَام وَسبب للحد، وَقد ينْفَرد خطاب الْوَضع: كأوقات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 810 الصَّلَوَات، وطلوع الْهلَال، سَبَب وجوب الصَّلَاة، وَوُجُوب صَوْم رَمَضَان وَصَلَاة الْعِيد والنسك، وَالْحيض مَانع من الصَّلَاة وَالصَّوْم وَنَحْوهمَا، وَالْبُلُوغ شَرط لوجوبهما، وحولان الْحول شَرط لوُجُوب الزَّكَاة، وَقد ينْفَرد خطاب التَّكْلِيف كَصَلَاة الظّهْر مثلا. قَالَ الْقَرَافِيّ فِي " الفروق ": (وَهُوَ كأداء الْوَاجِبَات وَاجْتنَاب الْمُحرمَات، وَإِن كَانَ صَاحب الشَّرْع جعلهَا سَببا لبراءة الذِّمَّة وترتيب الثَّوَاب ودرء الْعقَاب) . وَقَالَ فِي " شرح التَّنْقِيح ": (لَا يتَصَوَّر انْفِرَاد خطاب التَّكْلِيف عَن خطاب الْوَضع، إِذْ لَا تَكْلِيف إِلَّا لَهُ سَبَب أَو شَرط أَو مَانع) . قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (وَهُوَ أشبه بِالصَّوَابِ) . وَهُوَ كَمَا قَالَ. قَوْله: {فَائِدَة: الْمَشْكُوك، [قيل] : لَيْسَ بِحكم ... . . إِلَى آخِره} . لما ذكر ابْن عقيل تَفْصِيل الْخطاب وأقسامه زَاد على ذَلِك فَقَالَ: (الْمَشْكُوك، قيل: لَيْسَ بِحكم، وَهُوَ الصَّحِيح، والشاك لَا مَذْهَب لَهُ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 811 وَقيل: حكم، كَمَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد فِي رِوَايَة فِي الْحمار. {وَالْوَقْف} قيل: {مَذْهَب} ، وَهُوَ أصح؛ لِأَنَّهُ يُفْتِي بِهِ وَيَدْعُو إِلَيْهِ. قلت: وَهَذَا الْمَعْمُول بِهِ عِنْد الْعلمَاء. {وَقيل: لَا) } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 812 قَوْله: { [فصل] } {الْوَاجِب ... إِلَى آخر) } . لما انْتهى الْكَلَام فِي تَعْرِيف الحكم وتقسيمه إِلَى خَمْسَة، أَخذنَا نبين تَعْرِيف كل وَاحِد مِنْهَا، وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من الْمسَائِل وَالْأَحْكَام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 813 ونشير قبل ذَلِك إِلَى حُدُودهَا المستفادة من طَرِيق تقسيمها؛ فَنَقُول: الْفِعْل الْوَاجِب: مَا اقْتضى الشَّرْع فعله اقْتِضَاء جَازِمًا. وَالْمَنْدُوب: مَا اقْتضى فعله اقْتِضَاء غير جازم. وَالْحرَام: مَا اقْتضى الشَّرْع تَركه اقْتِضَاء جَازِمًا. وَالْمَكْرُوه: مَا اقْتضى تَركه اقْتِضَاء غير جازم. والمباح: مَا اقْتضى الشَّرْع التَّخْيِير فِيهِ. وَهَذِه الْأَشْيَاء هِيَ محَال الْأَحْكَام ومتعلقاتها، وَأما الْأَحْكَام نَفسهَا فَهِيَ: الْإِيجَاب، وَالتَّحْرِيم، وَالنَّدْب، وَالْكَرَاهَة، وَالْإِبَاحَة، وَقد تقدّمت الْإِشَارَة إِلَى ذَلِك. قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (الْوُجُوب فِي الِاصْطِلَاح: خطاب بِطَلَب فعل ... . إِلَى آخِره، وَالْوَاجِب: هُوَ الْفِعْل الْمُتَعَلّق للْوُجُوب، فَهُوَ فعل يتَعَلَّق بِهِ خطاب بِطَلَب) . إِذا علم ذَلِك؛ فَلهم فِي حد الْوَاجِب حُدُود كَثِيرَة، قل أَن تسلم من خدش، اقتصرنا على أولاها فِيمَا ظهر لنا، فَنَذْكُر غَيره أَولا تكميلاً للفائدة، ثمَّ نذْكر ذَلِك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 814 أَحدهَا: أَن الْوَاجِب {مَا يُعَاقب تَاركه} . ورد ذَلِك: بِجَوَاز الْعَفو. وَجه الرَّد: هُوَ أَن قَوْلهم: الْوَاجِب مَا يُعَاقب تَاركه، يَقْتَضِي [أَن] كل وَاجِب فَإِن تَاركه يُعَاقب، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك؛ لجَوَاز أَن يعْفُو الله تَعَالَى عَنهُ، أَو أَو يسْقط الْعقَاب بتوبة أَو اسْتِغْفَار أَو دُعَاء دَاع، وَبِالْجُمْلَةِ فَترك الْوَاجِب وَفعل الْمَحْظُور سَبَب للعقاب، غير أَن الحكم يجوز تخلفه عَن سَببه لمَانع، أَو انْتِفَاء شَرط، أَو معَارض مقاوم، أَو رَاجِح، وَإِذا جَازَ الْعَفو عَن ترك الْوَاجِب، اقْتضى الْحَد الْمَذْكُور أَن لَا يكون هَذَا الْوَاجِب الْمَتْرُوك وَاجِبا، لِأَن تَاركه لم يُعَاقب، فَانْتقضَ الْحَد. مِثَاله: لَو ترك الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة، ثمَّ تخلف الْعقَاب عَنهُ لسَبَب، لزم بِمُقْتَضى الْحَد أَن لَا تكون الْمَكْتُوبَة وَاجِبَة، وَهُوَ بَاطِل، وَهَذَا النَّقْض من حَيْثُ الْعَكْس، وَهُوَ قَوْلنَا: كل مَا لم يُعَاقب على تَركه فَلَيْسَ بِوَاجِب، فَيبْطل بِمَا ذكرنَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 815 وَيرد عَلَيْهِ من حَيْثُ الطَّرْد ضرب ابْن عشر على ترك الصَّلَاة، [إِذْ] الصَّلَاة فعل عُوقِبَ تَاركه، وَلَيْسَ بِوَاجِب عَلَيْهِ على الْمَذْهَب، وَكَذَلِكَ كل مَا أدب الصَّغِير على تَركه هُوَ معاقب عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِوَاجِب عَلَيْهِ. { [الثَّانِي] } : أَن الْوَاجِب {مَا توعد على تَركه بالعقاب} . وَهُوَ أَعم من الَّذِي قبله، لِأَن كل معاقب على تَركه متوعد عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كل متوعد عَلَيْهِ بالعقاب معاقباً [عَلَيْهِ] لجَوَاز الْعَفو بعد الْوَعيد. وَنقض عَكسه: بِصدق إيعاد الله تَعَالَى. وَمَعْنَاهُ: أَن الْوَعيد من الله تَعَالَى يسْتَلْزم الْعقَاب، لِأَن الْوَعيد خبر، وَخبر الله تَعَالَى صَادِق لابد من وُقُوع مخبره، وَإِذا لزم وُقُوع مُقْتَضى الْوَعيد صَار هَذَا التَّعْرِيف كَالَّذي قبله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 816 لَكِن لَيْسَ هَذَا وارداً على أصل أهل السّنة، لأَنهم يَقُولُونَ: يجوز الْعَفو عَن أهل الْكَبَائِر من هَذِه الْأمة وَإِن لم يتب مِنْهَا لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: لجَوَاز إِيقَاع الْوَعيد بِالْمَشِيئَةِ، مثل أَن يَقُول: صل فَإِن تركت الصَّلَاة عاقبتك إِن شِئْت، فَإِذا تَركهَا بَقِي فِي مَشِيئَة الله، إِن شَاءَ عاقبه بِمُقْتَضى الْوَعيد، وَإِن شَاءَ عفى عَنهُ بِمُقْتَضى الرَّحْمَة والجود وَالْكَرم، دلّ على ذَلِك الْكتاب، وَالسّنة، وَإِذا جَازَ إِيقَاع الْوَعيد بِالْمَشِيئَةِ، لم يلْزم من صدق الإيعاد وُقُوع مُقْتَضَاهُ من الْعقَاب. الثَّانِي: أَن إخلاف الْوَعيد من الْكَرم شَاهدا، أَي: فِيمَا يُشَاهد من أَحْوَال الْعُقَلَاء، فَلَا يقبح غَائِبا، أَي: فِي حق الله تَعَالَى، لِأَنَّهُ غَائِب عَن الْأَبْصَار، وَإِن كَانَ شَاهدا لخلقه. أما أَن إخلاف الْوَعيد من الْكَرم فِي الشَّاهِد فلإجماع الْعُقَلَاء على حسن الْعَفو، وَبِالْجُمْلَةِ، فَترك الْوَعيد إِلَى الْعَفو حسن مجمع عَلَيْهِ فِي عرف النَّاس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 817 وَرَأَيْت كثيرا من الشَّافِعِيَّة كالغزالي وَغَيره يَقُولُونَ: خلف الْوَعيد من الله تَعَالَى محَال، وَعند الْمُعْتَزلَة: أَن الْعَفو عَن فَاعل الْكَبِيرَة مَا لم يتب محَال، وَأَنه مخلد فِي النَّار. { [الثَّالِث] } من الْحُدُود: {مَا يذم تَاركه شرعا} ، قَالَه ابْن الباقلاني، وَبَعض أَصْحَابنَا، وَغَيرهم، {وَزَاد [ابْن] الباقلاني: (بِوَجْه مَا) ، ليدْخل الموسع وَفرض الْكِفَايَة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 818 وَنقض [طرده] } بالنائم، وَالنَّاسِي، وَالْمُسَافر، فَإِنَّهُ يذم بِتَقْدِير ترك الْجَمِيع. قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (المُرَاد بالذم شرعا: نَص الشَّارِع بِهِ أَو بدليله، وَذَلِكَ أَنه لَا وجوب إِلَّا بِالشَّرْعِ. وَقَالَ: (بِوَجْه مَا) ، ليدْخل من الْوَاجِبَات مَا لَا يذم تَاركه كَيْفَمَا تَركه، بل يذم تَاركه بِوَجْه دون وَجه، وَهُوَ الموسع، فَإِنَّهُ يذم تَاركه إِذا تَركه فِي جَمِيع وقته، وَلَو تَركه فِي بعض وَفعله فِي بعض لم يذم، وَكَذَا فرض الْكِفَايَة، فَإِنَّهُ يذم تَاركه إِذا لم يقم بِهِ غَيره فِي ظَنّه. وَبِهَذَا الْقَيْد حَافظ على عَكسه، فَلم يخرج عَن الْحَد مَا هُوَ من الْمَحْدُود، أَعنِي: الموسع والكفاية، لكنه أخل بطرده، فَدخل فِيهِ مَا لَيْسَ من الْمَحْدُود، وَهُوَ صَلَاة النَّائِم وَالنَّاسِي وَصَوْم الْمُسَافِر، فَإِنَّهُ يذم تَاركه بِتَقْدِير انْتِفَاء الْعذر. فَإِن قَالَ: لَا نسلم أَن هَذِه غير وَاجِبَة، وَسقط الْوُجُوب فِيهَا بالعذر. قُلْنَا: وَكَذَلِكَ فِي الْكِفَايَة، [يُقَال] : يذم بِتَرْكِهِ شرعا، أَي: يجب الذَّم، لكنه يسْقط وجوب الذَّم بِفعل الْبَعْض الآخر، وَإِذا اعتددت بِالْوُجُوب السَّاقِط فِي الْفِعْل، فَلم تَعْتَد بِالْوُجُوب السَّاقِط فِي الذَّم، فَلَا يكون إِلَى قَوْله: (بِوَجْه مَا) ، حَاجَة، وَكَذَلِكَ الموسع) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 819 {الرَّابِع} من الْحُدُود {مَا يخَاف الْعقَاب بِتَرْكِهِ} . وَهُوَ مَرْدُود بِمَا يشك فِي وُجُوبه وَلَا يكون وَاجِبا فِي نَفسه، فَإِنَّهُ يخَاف الْعقَاب على تَركه، فَيبْطل تَركه. {الْخَامِس} : - وَهُوَ الَّذِي قُلْنَا: إِنَّه أولى الْحُدُود { [مَا ذمّ شرعا تَاركه] قصدا مُطلقًا} ، وَهُوَ [للبيضاوي] ، وَنَقله فِي " الْمَحْصُول " عَن الباقلاني، وَقَالَ فِي " الْمُنْتَخب ": (إِنَّه الصَّحِيح من الرسوم، لَكِن فِيهِ نقص تَعْبِير، وَتَبعهُ الطوفي فِي " مُخْتَصره " {وَلم يقل: قصدا} . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " بعد حد ابْن الباقلاني -: (فَلَو قيل: مَا ذمّ تَاركه شرعا قصدا مُطلقًا، صَحَّ) . فقولنا: (مَا ذمّ) ، هُوَ خير من قَوْلنَا: (مَا يُعَاقب تَاركه) ، لجَوَاز الْعَفو، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 820 وَمن قَوْلنَا: (مَا يتوعد بالعقاب على تَركه) ، لما فِيهِ كَمَا تقدم، وَمن قَوْلنَا: (مَا يخَاف الْعقَاب على تَركه) ، لأجل الْمَشْكُوك فِي وُجُوبه كَمَا تقدم. واحترزنا بِهِ عَن الْمَنْدُوب وَالْمَكْرُوه والمباح، لِأَنَّهُ لَا ذمّ فِيهَا. وَالْمرَاد بذم تَاركه: أَن يرد فِي كَلَام الله تَعَالَى، [أَو سنة] رَسُوله، أَو إِجْمَاع الْأمة، مَا يدل على الذَّم. وَقَوله: (شرعا) ، لِأَن الذَّم لَا يثبت إِلَّا بِالشَّرْعِ، خلاف مَا قالته الْمُعْتَزلَة. وَقَوله: (تَاركه) ، احْتَرز بِهِ عَن الْحَرَام، فَإِنَّهُ يذم شرعا فَاعله. وَقَوله " (قصدا) ، فِيهِ تقريران موقوفان على مُقَدّمَة، [وَهِي] : أَن هَذَا التَّعْرِيف إِنَّمَا هُوَ بالحيثية، أَي: الَّذِي بِحَيْثُ لَو ترك لذم تَاركه، إِذْ لَو لم يكن بالحيثية، لاقتضى أَن كل وَاجِب لابد من حُصُول الذَّم على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 821 تَركه وَهُوَ بَاطِل. إِذا علم ذَلِك؛ فأحد التقريرين: أَنه إِنَّمَا أَتَى بِالْقَصْدِ لِأَنَّهُ شَرط لصِحَّة هَذِه الْحَيْثِيَّة، إِذْ التارك لَا على سَبِيل الْقَصْد لَا يذم. الثَّانِي: أَنه احْتَرز بِهِ عَمَّا إِذا مضى من الْوَقْت قدر فعل الصَّلَاة ثمَّ تَركهَا بنوم أَو نِسْيَان، وَقد تمكن، وَمَعَ ذَلِك لم يذم شرعا تاركها لِأَنَّهُ مَا تَركهَا قصدا، فَأتى بِهَذَا الْقَيْد لإدخال هَذَا الْوَاجِب فِي الْحَد، وَيصير بِهِ جَامعا. وَلم يذكر فِي " الْمَحْصُول "، و " الْمُنْتَخب "، و " التَّحْصِيل "، و " الْحَاصِل "، والطوفي، هَذَا الْقَيْد. وَقَوله: مُطلقًا، فِيهِ تقريران أَيْضا موقوفان على مُقَدّمَة، وَهِي: أَن الْإِيجَاب بِاعْتِبَار الْفَاعِل قد يكون على الْكِفَايَة، وعَلى الْعين. وَبِاعْتِبَار الْمَفْعُول قد يكون مُخَيّرا، كخصال الْكَفَّارَة، وَقد يكون [محتماً: كَالصَّلَاةِ. وَبِاعْتِبَار الْوَقْت الْمَفْعُول فِيهِ قد يكون موسعاً: كَالصَّلَاةِ، وَقد يكون] مضيقاً: كَالصَّوْمِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 822 فَإِذا ترك الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا صدق أَنه ترك وَاجِبا، إِذْ الصَّلَاة تجب بِأول الْوَقْت، وَمَعَ ذَلِك لَا يذم عَلَيْهَا إِذا أَتَى بهَا فِي أثْنَاء الْوَقْت، ويذم إِذا أخرجهَا عَن جَمِيعه. وَإِذا ترك [إِحْدَى] خِصَال الْكَفَّارَة، [فقد] ترك مَا يصدق عَلَيْهِ [أَنه وَاجِب، مَعَ] أَنه لَا ذمّ فِيهِ إِذا أَتَى بِغَيْرِهِ. وَإِذا ترك صَلَاة جَنَازَة فقد ترك مَا صدق عَلَيْهِ أَنه وَاجِب عَلَيْهِ وَلَا يذم عَلَيْهِ إِذا فعله غَيره. إِذا علم ذَلِك؛ فأحد التقريرين: أَن قَوْله: (مُطلقًا) ، عَائِد إِلَى الذَّم، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قد تلخص أَن الذَّم على الْوَاجِب الموسع والمخير وعَلى الْكِفَايَة من وَجه دون وَجه، والذم على الْوَاجِب الْمضيق والمحتم وَالْوَاجِب على الْعين من كل وَجه، فَلذَلِك قَالَ: (مُطلقًا) ، ليشْمل ذَلِك كُله بِشَرْط، وَلَو لم يذكر ذَلِك لورد عَلَيْهِ من ترك شَيْئا من ذَلِك. والتقرير الثَّانِي: أَن (مُطلقًا) عَائِد إِلَى التّرْك، وَالتَّقْدِير: تركا مُطلقًا، ليدْخل الْمُخَير والموسع وَفرض الْكِفَايَة، فَإِنَّهُ إِذا ترك فرض الْكِفَايَة لَا يَأْثَم، وَإِن صدق أَنه ترك وَاجِبا، وَكَذَلِكَ الْآتِي بِهِ آتٍ بِالْوَاجِبِ، مَعَ أَنه لَو تَركه لم يَأْثَم، وَإِنَّمَا يَأْثَم إِذا حصل التّرْك الْمُطلق مِنْهُ وَمن غَيره، وَهَكَذَا فِي الْوَاجِب الْمُخَير والموسع، وَدخل فِيهِ أَيْضا الْوَاجِب المحتم والمضيق وَفرض الْعين، لِأَن كل مَا ذمّ الشَّخْص عَلَيْهِ إِذا تَركه وَحده، ذمّ عَلَيْهِ أَيْضا إِذا تَركه هُوَ وَغَيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 823 فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْحَد أجمع وَأَمْنَع من غَيره كَمَا ترى قُلْنَا: هُوَ أولى من غَيره. { [السَّادِس: لِابْنِ عقيل] } ، فَإِنَّهُ حَده بِأَنَّهُ: {إِلْزَام الشَّرْع} ، وَقَالَ: (الثَّوَاب وَالْعِقَاب أَحْكَامه ومتعلقاته، فحده بِهِ يأباه الْمُحَقِّقُونَ) ، وَهُوَ حسن. قَوْله: { [فَائِدَة: من الْوَاجِب] مَا لَا يُثَاب على فعله، كَنَفَقَة وَاجِبَة، ورد وَدِيعَة وغصب [وعارية وَدين] إِذا فعله مَعَ غَفلَة، وَمن الْمحرم مَا لَا يُثَاب على تَركه: [كمحرم يخرج من عهدته بِمُجَرَّد التّرْك] ، قَالَه الْقَرَافِيّ، وَابْن حمدَان، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، [وَهُوَ من كَلَام أَصْحَابنَا] } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 824 قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه "، فِي بَاب الْوضُوء: (قَالَ القَاضِي فِي الْخلاف: مَا كَانَ طَاعَة لله فعبادة، قيل لَهُ: فقضاء الدّين ورد الْوَدِيعَة عبَادَة؟ فَقَالَ: كَذَا نقُول، قيل لَهُ: الْعِبَادَة مَا كَانَ من شَرطه النِّيَّة؟ فَقَالَ: إِذا لم يجز أَن يُقَال فِي الطَّاعَة لله والمأمور [بِهِ] هُوَ الَّذِي من شَرطه النِّيَّة، كَذَا لَا يجوز فِي الْعِبَادَة. وَكَذَا قَالَ غَيره، يَعْنِي من الْأَصْحَاب) انْتهى كَلَامه فِي الْفُرُوع. ورد الطوفي فِي " شَرحه " مَا قَالَه الْقَرَافِيّ وَقَالَ: (التَّحْقِيق أَن يُقَال: الْوَاجِب هُوَ الْمَأْمُور بِهِ جزما، [وَشرط] تَرْتِيب الثَّوَاب [عَلَيْهِ] نِيَّة التَّقَرُّب بِفِعْلِهِ، وَالْحرَام الْمنْهِي جزما، وَشرط تَرْتِيب الثَّوَاب على تَركه نِيَّة التَّقَرُّب، فترتيب الثَّوَاب وَعَدَمه فِي فعل الْوَاجِب وَترك الْمحرم وعدمهما رَاجع إِلَى وجود شَرط الثَّوَاب وَعَدَمه وَهُوَ النِّيَّة، لَا إِلَى انقسام الْوَاجِب وَالْحرَام فِي نفسهما) انْتهى. وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (الشَّرِيعَة مَأْمُور، ومنهي، ومباح، فالمنهي والمباح لَا يفتقران إِلَى نِيَّة، لِخُرُوجِهِ من الْعهْدَة بِمُجَرَّد التّرْك وَإِن لم يشْعر، لَكِن يحصل لَهُ ثَوَاب بِقصد الْقرْبَة بِتَرْكِهِ، وَلَا عُهْدَة فِي مُبَاح فَلَا يفْتَقر إِلَى نِيَّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 825 [وَدفع الدُّيُون، ورد الغصوب، ونفقات الزَّوْجَات والأقارب، ورد الودائع، وَنَحْوه، وجود الْفِعْل فِيهِ كَاف فِي تَحْصِيل الْمصلحَة، فَإِذا وَقع بِغَيْر نِيَّة لَا يُقَال لَهُ: أعد الدّفع، لحُصُول الْمصلحَة بِمَا وَقع. - قَالَ -: وَمن ذَلِك: النِّيَّة، فَإِنَّهَا مَأْمُور بهَا، ومقصودها التَّمْيِيز، وَهُوَ حَاصِل لذاتها، لَا يفْتَقر إِلَى نِيَّة] أُخْرَى تصيرها متميزة، لِاسْتِحَالَة وُقُوعهَا غير متميزة، وَلم تفْتَقر إِلَى النِّيَّة. وَمن ذَلِك: النّظر الأول وَاجِب، مَعَ أَنه لَا يُمكن إِيقَاعه طَاعَة مَعَ أَن فَاعله لَا يعرف وُجُوبه عَلَيْهِ إِلَّا بعد إِتْيَانه بِهِ، وَالْعِبَادَة الْمَحْضَة مقصودها تَعْظِيم الله تَعَالَى، وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون مَعَ الْقَصْد، فَلَا جرم لم تحصل مصالحها بِغَيْر نِيَّة. ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك -: تَنْبِيه: التَّصَرُّفَات ثَلَاثَة أَقسَام: مِنْهَا: مَا لَا يُمكن إِلَّا أَن يقْصد بِهِ التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى، كالعبادة الْمَحْضَة. وَمِنْهَا: مَا لَا يُمكن التَّقَرُّب بِهِ إِلَى الله تَعَالَى، وَهُوَ النّظر الأول المفضي إِلَى إِثْبَات الْعلم بالصانع. وَمِنْهَا: مَا يُمكن التَّقَرُّب بِهِ، كرد الْوَدِيعَة وَنَحْوهَا، وَكَذَا الْمُبَاحَات، كَقَوْل معَاذ: " أحتسب نومتي كَمَا أحتسب قومتي ") انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 826 وَهُوَ كَلَام حسن. وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (قيل لأبي الْبَقَاء: الْإِسْلَام وَالنِّيَّة عبادتان وَلَا تفتقران إِلَى نِيَّة؟ فَقَالَ: الْإِسْلَام لَيْسَ بِعبَادة لصدوره من الْكَافِر وَلَيْسَ من أَهلهَا، سلمنَا، لَكِن للضَّرُورَة لِأَنَّهُ لَا يصدر إِلَّا من كَافِر، وَأما النِّيَّة فلقطع التسلسل) انْتهى. قلت: يحْتَمل أَن يُقَال فِي إِسْلَام الْكَافِر: إِنَّه عبَادَة قطعا، لِأَنَّهُ بِقَصْدِهِ الْإِسْلَام قبل التَّلَفُّظ بِهِ قد بَقِي كَالْمُسلمِ، فَمَا حصل الْإِسْلَام إِلَّا وَهُوَ فِي حكم الْمُسلم، وَلِهَذَا وَالله أعلم لَو عزم الْكَافِر على الْإِسْلَام وصمم على التَّلَفُّظ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَمنع من ذَلِك [قدر] أَنه مُسلم من أهل الْجنَّة، وَكَذَلِكَ - مثلا لَو كَانَ قد اعتقل لِسَانه عِنْد الْمَوْت وَنَحْوه، وَهَذَا وَاضح فِيمَا يظْهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 827 قَوْله: { [فصل] } {الْوَاجِب لُغَة: السَّاقِط وَالثَّابِت] } . قَالَ الْجَوْهَرِي: (وَجب الشَّيْء: لزم، يجب وجوبا وأوجبه الله تَعَالَى، واستوجبه أَي: اسْتَحَقَّه. والوجبة: السقطة مَعَ الهدة. وَوَجَب الْمَيِّت: إِذا سقط وَمَات) . وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (وَجب يجب وجبة: سقط، وَالشَّمْس وجباً ووجوباً: غَابَتْ، والوجبة: السقطة مَعَ الهدة، أَو صَوت السَّاقِط، والأكلة فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة، أَو أَكلَة فِي الْيَوْم إِلَى مثلهَا من الْغَد) . وَقَالَ فِي " الْمِصْبَاح ": (وَجب البيع وَالْحق يجب وجوبا [وجبة] : لزم وَثَبت، وَوَجَبَت الشَّمْس وجوبا: غربت، وَوَجَب الْحَائِط وَنَحْوه: سقط، وَوَجَب الْقلب وجباً ووجيباً: رجف، واستوجبه: اسْتَحَقَّه، [وَأوجب البيع بِالْألف يُوجب] ، وأوجبت السّرقَة الْقطع) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 828 وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (التَّحْقِيق فِي الْوُجُوب لُغَة: أَنه بِمَعْنى الثُّبُوت والاستقرار، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى ترجع فروع مادته، فَمَعْنَى: الشَّمْس وَجَبت: ثَبت غُرُوبهَا وَاسْتقر. وَوَجَب الْمَيِّت: ثَبت مَوته وَاسْتقر. وَقَوله تَعَالَى: {فَإِذا وَجَبت جنوبها} [الْحَج: 36] ، أَي: ثبتَتْ [واستقرت] فِي الأَرْض. وَوَجَب الْمهْر [وَالدّين] : ثَبت فِي مَحَله وَاسْتقر، إِلَى غير ذَلِك) انْتهى. وَمِثَال الثُّبُوت: (أَسأَلك مُوجبَات رحمتك) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 829 وَتقدم الْخلاف فِي حَده شرعا. وَقَوله: {وَالْفَرْض لُغَة: التَّقْدِير والتأثير، قَالَ ابْن عقيل: [والإنزال] وَالْإِبَاحَة} . فمثال التَّقْدِير: {فَنصف مَا فرضتم} [الْبَقَرَة: 237] ، أَي قدرتم، وَمِنْه: {لأتخذن من عِبَادك نَصِيبا مَفْرُوضًا} [النِّسَاء: 118] ، أَي: مَعْلُوما، وَمِنْه: {سُورَة أنزلناها وفرضناها} [النُّور: 1] ، أَي: أَوجَبْنَا الْعَمَل بهَا، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن} [الْقَصَص: 85] ، أَي: أوجب عَلَيْك الْعَمَل بِهِ، فهما فِي الْآيَتَيْنِ بِمَعْنى التَّقْدِير على قَول بعض الْمُفَسّرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 830 وَمِثَال التَّأْثِير: فرضة الْقوس والجبل. قَالَ الْجَوْهَرِي: (الْفَرْض: الحز فِي الشَّيْء، وَفرض الْقوس: الحز الَّذِي يَقع فِيهِ الْوتر، والفرائض: السِّهَام الْمَفْرُوضَة، والتفريض: التحزيز) . وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الْفَرْض: التَّوْقِيت، وَمِنْه: {فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج} [الْبَقَرَة: 197] ، و [الحز] فِي الشَّيْء كالتفريض، وَمن الْقوس موقع الْوتر) انْتهى. وَقَالَ فِي " الْمِصْبَاح ": (فرضة الْقوس: مَوضِع حزها للوتر، والفرضة [فِي الْحَائِط] وَنَحْوه كالفرجة، وفرضة النَّهر: الثلمة الَّتِي ينحدر مِنْهَا المَاء، وتصعد مِنْهَا السفن، وفرضت الْخَشَبَة فرضا من بَاب ضرب -: حززتها، وَفرض القَاضِي النَّفَقَة فرضا أَي: قدرهَا وَحكم بهَا، وَالْفَرِيضَة: فعيلة بِمَعْنى مفعولة، وَالْجمع: فَرَائض، قيل اشتقاقها من الْفَرْض هُوَ التَّقْدِير؛ لِأَن الْفَرَائِض مقدرات، وَقيل: من فرض الْقوس، وَفرض الله تَعَالَى الْأَحْكَام) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 831 وَمِثَال الْإِنْزَال على قَول ابْن عقيل وَغَيره -: {إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد} [الْقَصَص: 85] ، أَي: أنزل عَلَيْك الْقُرْآن، وَهُوَ قَول أَكثر الْمُفَسّرين، قَالَه الْبَغَوِيّ. وَمِثَال الْإِبَاحَة على قَوْله -: {مَا كَانَ على النَّبِي من حرج فِيمَا فرض الله لَهُ} [الْأَحْزَاب: 38] ، أَي: فِيمَا أَبَاحَ الله لَهُ. وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره " (وَهُوَ بِمَعْنى الْإِحْلَال، أَي: فِيمَا أحل الله لَهُ) ، وَقطع بِهِ الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره ". قلت: والإحلال يَأْتِي بِمَعْنى الْإِبَاحَة على مَا يَأْتِي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 832 وَقَالَ ابْن الهائم فِي " شرح منظومته ": (أصل الْفَرْض فِي اللُّغَة: الْقطع والحز، وَمِنْه فرض الْقوس بِفَتْح الْفَاء وفرضتها بضَمهَا للحز الَّذِي يَقع فِيهِ الْوتر، وفرضة النَّهر: ثلمته الَّتِي مِنْهَا يستقى، وَيَجِيء لمعان أخر: التَّقْدِير: {فَنصف مَا فرضتم} [الْبَقَرَة: 237] ، وَفرض الْحَاكِم النَّفَقَة، والإنزال: {إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد} [الْقَصَص: 85] ، وَالْبَيَان: {سُورَة أنزلناها وفرضناها} [النُّور: 1]- بِالتَّخْفِيفِ -، والإيجاب والإلزام: {فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج} [الْبَقَرَة: 197] ، أَي: أوجب على نَفسه فِيهِنَّ الْإِحْرَام، والعطية الموسومة: فرضت لَهُ وافترضت، أَي: أَعْطيته، وفرضت لَهُ فِي الدِّيوَان، قَالَه فِي " الصِّحَاح ". فَيجوز أَن تكون الْفَرِيضَة حَقِيقَة فِي الْمعَانِي السِّتَّة، أَو فِي الْقدر الْمُشْتَرك بَينهَا وَهُوَ التَّقْدِير، فَيكون مقولاً بالاشتراك اللَّفْظِيّ، أَو بالتواطؤ، وَيجوز أَن يكون حَقِيقَة فِي الْقطع مجَازًا فِي غَيره، لتصريح كثير من أهل اللُّغَة بِأَصْلِهِ) انْتهى. وَهُوَ كَلَام جَامع. وَلما قَالَ ابْن عقيل: إِنَّه يَأْتِي بِمَعْنى الْإِنْزَال وَالْإِبَاحَة، {قَالَ هُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 833 وَغَيره: (الْوَاجِب آكِد} لاختصاصه وتأثيره أَيْضا) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 834 وَذَلِكَ وَالله أعلم أَن الْفَرْض لما أَتَى عِنْده بِمَنْزِلَة الْإِنْزَال وَالْإِبَاحَة انحط عَن دَرَجَة وَالْوَاجِب، فَكَانَ الْوَاجِب آكِد لِأَنَّهُ الثَّابِت اللَّازِم، وَلم تأت لَهُ هَذِه الْمعَانِي. قَوْله: {الْمُوفق، [وَابْن حمدَان وَغَيرهمَا] : [الْفَرْض آكِد] } . قلت: وَهَذَا الصَّحِيح، وَلذَلِك لنا ولغيرنا خلاف شرعا، فِي أَن الْفَرْض مَا ثَبت بِالْكتاب، وَالْوَاجِب مَا ثَبت بِالسنةِ، أَو الْفَرْض مَا ثَبت بمقطوع بِهِ، وَالْوَاجِب مَا ثَبت بمظنون، وَلم يقل أحد بِالْعَكْسِ، بل قَالَت الْحَنَفِيَّة وَغَيرهَا: إِن الْفَرْض أخص من الْوَاجِب، فَدلَّ ذَلِك على أَن الْفَرْض آكِد فِي الْجُمْلَة. وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِك فِي الشَّرْع تبعا للغة، لِأَن تَعْلِيلهم فِي تَأْكِيد الْفَرْض شرعا لأجل اللُّغَة. قَوْله: {وهما مُتَرَادِفَانِ شرعا} . الْفَرْض وَالْوَاجِب لفظان مُتَرَادِفَانِ، أَي: متحدان مفهوماً، إِذْ الِاتِّحَاد - مفهوماً هُوَ معنى الترادف، لَا المتحدان ذاتاً كالإنسان والناطق فَإِنَّهُمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 835 متحدان ذاتاً، فبينهما عُمُوم وخصوص مُطلق، فَكل متحدين مفهوماً متحدان ذاتاً وَلَا عكس لغوياً. إِذا علم ذَلِك؛ فَالصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَالْأَكْثَر: أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ، لقَوْله تَعَالَى: {فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج} [الْبَقَرَة: 197] ، أَي: أوجبه، وَالْأَصْل تنَاوله حَقِيقَة وَعدم غَيره، نفيا للمجاز والاشتراك. فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: مَا تقرب إِلَيّ عَبدِي بِمثل أَدَاء مَا افترضت عَلَيْهِ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 836 وَإِطْلَاق الْأمة الْفَرْض على الْوَاجِب، وَأَيْضًا دخولهما تَحت الْحَد لِأَن كلا مِنْهُمَا يذم تَاركه، وَلِأَن التزايد لَا يتَحَقَّق فِي الْوَاجِب، لِأَن الاستدعاء لَا يقبل التزايد كجائز، ولازم، وصادق، وكاذب، فَلَا يُقَال: أصدق، وأكذب، وَأعلم، لِأَنَّهُ انتظمه حد وَاحِد وَهُوَ حَقِيقَة وَاحِدَة. فَإِن قيل: اشتقاق الْفَرْض من التَّقْدِير، وَالْوُجُوب من السُّقُوط، فَاقْتضى تَأْكِيد الْفَرْض شرعا ليُوَافق مُقْتَضَاهُ لُغَة. قيل: إِن روعي هَذَا ترجح الْوُجُوب، إِذْ السُّقُوط آكِد من التَّقْدِير، لَكِن نمْنَع أَن تفَاوت الطَّرِيق لُغَة يُوجب التَّأْكِيد شرعا. { [وَعَن أَحْمد] : الْفَرْض آكِد، [و] [اخْتَارَهَا من أَصْحَابنَا] ابْن شاقلا، والحلواني، [وَحَكَاهُ ابْن عقيل عَن أَصْحَابنَا، وَهُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 837 مَذْهَب الْحَنَفِيَّة [و [ابْن] الباقلاني. وللقاضي [من أَصْحَابنَا] : الْقَوْلَانِ} . قَالَ أَصْحَاب هَذَا القَوْل: الْوُجُوب لُغَة: السُّقُوط، وَالْفَرْض: التَّأْثِير، والتأثير أخص من السُّقُوط كَمَا تقدم، فَوَجَبَ اخْتِصَاصه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 838 - لقُوته حكما كَمَا اخْتصَّ لُغَة، حملا للمسميات الشَّرْعِيَّة على مقتضياتها اللُّغَوِيَّة، إِذا الأَصْل عدم التَّغْيِير. قَالُوا: وَلِأَن مَا دَلِيله قَطْعِيّ يُنَاسِبه الْفَرْض، لِأَن التَّقْدِير قد علم أَن الشَّارِع قدره فيناسبه، والمظنون يُنَاسِبه الْوُجُوب لِأَنَّهُ السُّقُوط فَكَأَنَّهُ سَاقِط علينا، وَلم نعلم أَن الله تَعَالَى قدره علينا أم لَا؟ وَالْجَوَاب: أَن الْفَرْض الْمُقدر أَعم أَن يكون علما، وَالْوَاجِب السَّاقِط أَعم مِنْهُمَا، فَلم تظهر مناسبته. بل قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: (لَو عكسوا الِاصْطِلَاح لَكَانَ أولى، لِأَن الْوُجُوب لَا يحْتَمل غَيره بِخِلَاف الْفَرْض) ، وَيُوَافِقهُ كَلَام ابْن عقيل الْمُتَقَدّم. قَالَ الْآمِدِيّ وَمن تبعه: (وَالْمَسْأَلَة لفظية) ، وَهُوَ ظَاهر كَلَامه فِي " الرَّوْضَة "، وَأخذ مَعْنَاهُ الطوفي فَقَالَ: (النزاع لَفْظِي، إِذْ لَا نزاع فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 839 انقسام الْوَاجِب إِلَى ظَنِّي وقطعي، فليسموا هم الْقطعِي مَا شاؤوا، إِذْ لَا حجر فِي الِاصْطِلَاح بعد فهم الْمَعْنى) . قَوْله: { [فعلى الثَّانِي] } اخْتلفُوا. أَي: على القَوْل بِأَن الْفَرْض آكِد. فَروِيَ عَن أَحْمد وَهُوَ قَول الْحَنَفِيَّة: أَن {الْفَرْض مَا ثَبت بِدَلِيل قَطْعِيّ} ، وَالْوَاجِب مَا ثَبت بِدَلِيل ظَنِّي. والانقسام إِلَى مَقْطُوع ومظنون لَا يقبل خلافًا، وَلِهَذَا قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": (لَا خلاف فِيهِ) . ومثلت الْحَنَفِيَّة الْمَقْطُوع: كالصلوات الْخمس، وَصَوْم رَمَضَان، والمظنون: كالوتر، وَزَكَاة الْفطر. {وَقيل} الْفَرْض: {مَا لَا يسْقط فِي عمد وَلَا سَهْو} كأركان الصَّلَاة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 840 وَالْحج، وَالْوَاجِب: مَا يسْقط بالسهو: كواجبات الصَّلَاة، وواجبات الْحَج تجبر بِدَم. وَأما قَول أَصْحَاب الشَّافِعِي فِي بَاب الْحَج: (إِن الْوَاجِب مَا جبر بِدَم، والركن مَا لم يجْبر) ، فتفرقه بَين الْوَاجِب والركن، لَا بَين الْفَرْض وَالْوَاجِب. قَالَه الْبرمَاوِيّ. قلت: فَكَانَ عِنْدهم: أَن الْفَرْض لَا يُسمى ركنا وَلَا عَكسه، وَأما أَصْحَابنَا فَإِنَّهُم سموا مَا لَا يسْقط فِي عمد وَلَا سَهْو فِي الصَّلَاة: ركنا، وَمَا يسْقط سَهوا وَاجِبا، وَفِي الْحَج، مَا يجْبر بِدَم: وَاجِبا، والركن: مَا لَا يَصح الْحَج إِلَّا بِهِ، وَسموا الرُّكْن فرضا أَيْضا. { [وَعَن أَحْمد: الْفَرْض] : مَا لزم بِالْقُرْآنِ} . فَالْوَاجِب مَا لزم بِالسنةِ. قَالَ الإِمَام أَحْمد فِي رِوَايَة الْأَثْرَم:. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 841 (لَا أَقُول فرضا إِلَّا مَا كَانَ فِي كتاب الله) . وَفِي رِوَايَة الْأَثْرَم: قيل لَهُ: (هَل يُقَال: بر الْوَالِدين فرض؟) ، فَقَالَ: (لَا، وَلَكِن أَقُول وَاجِب مَا لم يكن مَعْصِيّة) . قلت: وَلِهَذَا اخْتلفت الرِّوَايَة عَنهُ فِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق، هَل يسميان فرضا أم لَا؟ على الرِّوَايَتَيْنِ عَن الإِمَام أَحْمد، بِنَاء على تنَاول الْقُرْآن لَهَا. وَكَذَا الرِّوَايَتَانِ فِي زَكَاة الْفطر، فَقَالَ فِي رِوَايَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 842 مهنا: " صَدَقَة الْفطر وَاجِبَة، لِأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرضهَا "، فسوى بَينهمَا، وَقَالَ فِي رِوَايَة الْمَرْوذِيّ: (ابْن عمر يَقُول: " فرض رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَدَقَة "، وَأَنا لَا أجترئ أَن أَقُول: إِنَّهَا فرض، وَقيس بن سعد يدْفع أَنَّهَا فرض) ، فَفِي هَذِه الرِّوَايَة فرق بَينهمَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 843 قَوْله: { [وَعَلِيهِ أَيْضا] [- أَي: على القَوْل الثَّانِي أَيْضا -] [يَصح] أَن يُقَال: بعض [الْوَاجِب] آكِد من بعض، ذكره القَاضِي، والحلواني، [وَغَيرهمَا] } وَهُوَ صَحِيح. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَهُوَ قَول الْحَنَفِيَّة) ، وَمَا ثمَّ مَانع من ذَلِك؛ وَأَن فَائِدَته: يُثَاب على أَحدهمَا أَكثر، وَأَن طَرِيق أَحدهمَا مَقْطُوع، وَالْآخر مظنون كَمَا تقدم. وَأما على الأول: فَلَيْسَ بَعْضهَا آكِد من بعض، بل سَوَاء، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَبَعض الْمُتَكَلِّمين، وَابْن عقيل أَيْضا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 844 قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَلَعَلَّ ابْن عقيل أَرَادَ بِمَا قَالَ راداً على من قَالَ: التَّفَاضُل فِي الْعقَاب وَالثَّوَاب يُعْطي التَّفَاضُل فِي حَقِيقَة الْإِيجَاب، الَّذِي هُوَ الاستدعاء، لِأَنَّهُ لَو رفع الْعقَاب وَالثَّوَاب رَأْسا، لما ارْتَفع صِحَة قَوْله: " أوجبت "، وَصَحَّ أَن يقوم الاستدعاء بِنَفسِهِ حَقِيقَة معقولة، وَكَذَا لَا يدل التَّفَاضُل على قُوَّة الاستدعاء) . وَقَالَ ابْن عقيل أَيْضا على هَذَا القَوْل وَهُوَ القَوْل الأول يَصح أَن يكون بَعْضهَا آكِد من بعض، وَأَن فَائِدَته: أَنه يُثَاب على أَحدهمَا أَكثر من الآخر، وَأَن طَرِيق أَحدهمَا مَقْطُوع بِهِ، وَطَرِيق الآخر مظنون، كَمَا قُلْنَا على القَوْل الثَّانِي، وأنهما متباينان. [قلت: وَالنَّفس تميل إِلَى هَذَا سَوَاء قُلْنَا بالتباين أَو الترادف -] أَنه لَا يمْتَنع أَن يكون أَحدهمَا آكِد من الآخر، وَأَنه يُثَاب عَلَيْهِ أَكثر من الآخر. قَوْله: { (فَائِدَة: صِيغَة الْفَرْض وَالْوُجُوب نَص فِي الْوُجُوب} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 845 هَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء] . قَالَ ابْن عقيل: (" أوجبت " صَرِيحَة فِي الْإِيجَاب، بِإِجْمَاع النَّاس) . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": (وَالْأَظْهَر أَن الْفَرْض نَص، وَقَوْلهمْ: فرض القَاضِي النَّفَقَة، وَفرض الصَدَاق، لَا يخرج عَن معنى الْوُجُوب، وَإِن انْضَمَّ إِلَيْهِ التَّقْدِير) انْتهى. وَقَالَ طَائِفَة من الْعلمَاء من أَصْحَابنَا وَغَيرهم مِنْهُم: القَاضِي أَبُو يعلى: (هِيَ ظَاهِرَة فِيهِ) نَقله ابْن عقيل. وَعَن البوشنجي أَنَّهُمَا كنايتان لَا صَرِيحًا، نَقله الْبرمَاوِيّ. وَقَالَ فِي " المسودة ": (قَالَ القَاضِي فِي " اخْتِلَاف الرِّوَايَتَيْنِ " فِي الْبَحْث مَعَ الواقفية: " وَمَا قَالُوهُ من أَن هَذِه اللَّفْظَة ترد مُشْتَركَة فِي الْوُجُوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 846 وَالنَّدْب وَغَيره، فَهَذَا لَا يمْنَع من الصِّيغَة كأسماء الْحَقَائِق: كالأسد، وَالْحمار فَإِنَّهُمَا حقيقتان فِي الْبَهَائِم، وَيُرَاد بهما الرجل بِقَرِينَة، وَمَعَ هَذَا فَلَا يمْتَنع أَن يكون إطلاقهما لحقيقة الْبَهِيمَة. وَيبْطل بقوله: " فرضت "، وَيرد وَالْمرَاد بِهِ الْوُجُوب، وَيُرَاد المُرَاد بِهِ النّدب، كَقَوْلِه: " غسل الْجُمُعَة وَاجِب على كل محتلم "، وَمَعْنَاهُ: وجوب اخْتِيَار، وَكَذَا " فرضت " يحْتَمل الْوُجُوب وَيحْتَمل التَّقْدِير. وَيحْتَمل توكيد الِاسْتِحْبَاب، وَحسن الِاسْتِفْهَام فَتَقول: أوجبته إلزاماً أَو اخْتِيَارا؟ وَذكره ابْن عقيل أَيْضا -، وَحمل على ذَلِك قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " غسل يَوْم الْجُمُعَة وَاجِب على كل محتلم "، كَمَا قَالَ القَاضِي، وَتقول: حَقك عَليّ وَاجِب. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": (وَذهب طَائِفَة من أَصْحَابنَا وَغَيرهم إِلَى أَنَّهَا تحْتَمل توكيد الِاسْتِحْبَاب) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 847 {وَفِي كَلَام أبي الْفرج [الْمَقْدِسِي] وَأبي الْخطاب [فِي " التَّمْهِيد "] الْأَمْرَانِ أَيْضا} . يعنيان: أَنَّهُمَا يأتيان لهَذَا الْمَعْنى وَلِهَذَا الْمَعْنى. قَوْله: {وَإِطْلَاق الْوَعيد نَص فِيهِ} . أَي: نَص فِي الْوُجُوب، وَهَذَا الصَّحِيح، اخْتَارَهُ القَاضِي وَالْأَكْثَر فَلَا يقبل تَأْوِيله لِأَنَّهُ خَاصَّة الْوَاجِب، وَلَا تُوجد خَاصَّة الشَّيْء بِدُونِهِ. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (الْوَعيد نَص فِي الْوُجُوب لَا يقبل التَّأْوِيل، فَإِن خَاصَّة الْوَاجِب: " مَا توعد بالعقاب على تَركه "، وَيمْتَنع وجود خَاصَّة الشَّيْء بِدُونِ ثُبُوته إِلَّا فِي كَلَام مجَاز) . وَذكر القَاضِي - أَيْضا -، وَابْن عقيل: إِطْلَاقه للْوُجُوب، ويعدل عَنهُ لدَلِيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 848 قَالَ فِي " المسودة ": (إِطْلَاق الْوَعيد، يَقْتَضِي الْوُجُوب لفعل مَا توعد عَلَيْهِ، فَإِن عدلنا عَنهُ فِي مَوضِع فلدليل، وَكَلَام ابْن عقيل فِي " الْعُمْدَة " يُوَافق ذَلِك) ، ورده الشَّيْخ تَقِيّ الدّين. وَقَالَ فِي " المسودة " أَيْضا -: قَالَ القَاضِي: (أَلْفَاظ الْوَعيد ترد وَالْمرَاد [بهَا] الْوُجُوب وَالنَّدْب، قَالَ الله تَعَالَى: {فويل للمصلين الَّذين هم عَن صلَاتهم ساهون الَّذين هم يراءون وَيمْنَعُونَ الماعون} [الماعون: 4 - 7] ، وَذَلِكَ مَنْدُوب إِلَيْهِ، وَمَعَ هَذَا إِطْلَاقه يَقْتَضِي الْوُجُوب) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 849 قَوْله: {و {كتب عَلَيْكُم} [الْبَقَرَة: 178] نَص [فِي الْوُجُوب أَيْضا -] ، ذكره القَاضِي} وَغَيره. مَأْخُوذ من: " كتب الشَّيْء " إِذا حتمه وألزم بِهِ، وَتسَمى الصَّلَوَات المكتوبات لذَلِك، وَمِنْه حَدِيث: " خمس صلوَات كتبهن الله على العَبْد فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة "، وَقَوله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم الصّيام} [الْبَقَرَة: 183] ، {كتب عَلَيْكُم الْقِتَال} [الْبَقَرَة: 216] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 850 أما قَوْله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت إِن ترك خيرا الْوَصِيَّة} [الْبَقَرَة: 180] الْآيَة. فَقيل: المُرَاد: وَجب، وَكَانَت الْوَصِيَّة فرضا وَنسخت. وَقيل: المُرَاد بِالْوَصِيَّةِ مَا عَلَيْهِ من الدّين والوديعة وَنَحْوهمَا. وَقيل: المُرَاد فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، فَلَا يكون مِمَّا نَحن فِيهِ. قلت: عَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة بِالْوُجُوب للقريب إِذا كَانَ غير وَارِث، اخْتَارَهَا أَبُو بكر من أَصْحَابنَا. وَنقل فِي " التَّبْصِرَة ": وُجُوبهَا عَن أبي بكر للْمَسَاكِين ووجوه الْبر، لَكِن الْمَذْهَب عدم الْوُجُوب، وَأَجَابُوا عَن الْآيَة: بِأَنَّهَا مَنْسُوخَة، قَالَه الْأَصْحَاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 851 قَوْله: {وَفِي " الْحَاوِي " وَغَيره: حتم ولازم كواجب} . وَهُوَ صَحِيح، فالمحتوم من حتمت الشَّيْء أحتمه حتما إِذا قَضيته وأحكمته، وحتمته أَيْضا: أوجبته، قَالَه الْجَوْهَرِي. قَالَ تَعَالَى: {كَانَ على رَبك حتما مقضياً} [مَرْيَم: 71] ، أَي: وَاجِب الْوُقُوع لوعده الصَّادِق، وَإِلَّا فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يجب عَلَيْهِ شَيْء. فَيُقَال فِي الْوَاجِب: " حتم "، و " محتوم "، و " محتم "، وَنَحْو ذَلِك. قَالَ فِي " الْمِصْبَاح ": (حتم عَلَيْهِ الْأَمر حتما من بَاب ضرب -: أوجبه جزما وانحتم: الْأَمر، وتحتم: وَجب وجوبا لَا يُمكن سُقُوطه) انْتهى. وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الحتم: الْخَالِص، قلب المحت، وَالْقَضَاء، وإيجابه، وإحكام الْأَمر، وَجمعه: حتوم، وَقد حتمه يحتمه، والحاتم: القَاضِي) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 852 وَاللَّازِم بِمَعْنى الْوَاجِب، وَلَا يقبل التَّأْوِيل عِنْد الْأَكْثَر، وَهُوَ من اللُّزُوم، وَهُوَ لُغَة: عدم الانفكاك عَن الشَّيْء، فَيُقَال للْوَاجِب: لَازم، وملزوم بِهِ، وَنَحْو ذَلِك، كَمَا فِي حَدِيث الصَّدَقَة: " وَمن لَزِمته بنت مَخَاض وَلَيْسَت عِنْده، أَخذ مِنْهُ ابْن لبون "، أَي: وَجب عَلَيْهِ ذَلِك، وَهُوَ شَائِع كثير، وَنقل عَن البوشنجي كَمَا تقدم من أَصْحَاب الشَّافِعِي: أَن جَمِيع ذَلِك كنايات إِلَّا [لَازم] لي فَإِنَّهُ صَرِيح عِنْد الْأَكْثَر. فَائِدَة جَامِعَة فِي تَقْسِيم الْوَاجِب: وَهُوَ بِاعْتِبَار مُلَابسَة الْمُكَلف إِيَّاه فِي وقته وخارجاً عَن وقته يَنْقَسِم إِلَى: أَدَاء، وَقَضَاء، وإعادة. وَبِاعْتِبَار سُقُوطه عَن الْمُكَلف بِفعل غَيره وَعدم سُقُوطه عَنهُ إِلَى: وَاجِب عين، وواجب كِفَايَة. وَبِاعْتِبَار كَونه أحد الْأَقْسَام المحصورة وَعَدَمه: إِلَى وَاجِب معِين، وَإِلَى وَاجِب مُخَيّر. وَبِاعْتِبَار كَون وقته الْمُقدر فَاضلا أَو غير فَاضل إِلَى: مضيق، وموسع، فالموسع وَاضح: كأوقات الصَّلَوَات، والمضيق تَارَة يكون مطابقاً: كَالصَّوْمِ، وَتارَة تكون الْعِبَادَة فاضلة: كَمَا لَو أدْرك رَكْعَة من الْمغرب، وَنَحْوهَا، قَالَه ابْن قَاضِي الْجَبَل، وَيَأْتِي ذَلِك مفصلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 853 قَوْله: {فصل} {الْعِبَادَة إِن لم يكن لَهَا وَقت معِين، لم تُوصَف بأَدَاء، وَلَا قَضَاء، وَلَا إِعَادَة} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 854 كالنوافل الْمُطلقَة من صَلَاة وَصَوْم وَصدقَة وَحج وَنَحْوهَا، وَسَوَاء كَانَ لَهَا سَبَب: كتحية الْمَسْجِد وَسُجُود التِّلَاوَة أَو لَا. قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَقد يُوصف مَا لَهُ سَبَب بِالْإِعَادَةِ، كمن أَتَى بِذَات سَبَب مثلا مُخْتَلفَة، فتداركها حَيْثُ يُمكن التَّدَارُك ". قَوْله: {وَإِلَّا فَمَا وَقتهَا غير مَحْدُود: كحج، وَزَكَاة [مَال] ، وَكَفَّارَة، تُوصَف بِالْأَدَاءِ} . مَا وقته غير مَحْدُود الطَّرفَيْنِ: كَالْحَجِّ الْوَاجِب، وَزَكَاة المَال، وَالْكَفَّارَة يُوصف بِالْأَدَاءِ، وَلَو أخر عَن وقته شرعا، لعدم تعْيين وَقت الزَّكَاة وَنَحْوهَا، لوُجُوبهَا عِنْد تَمام الْحول على الْفَوْر، وَهُوَ وَقت وُجُوبهَا، فَلَو أخرت عَنهُ لغير عذر ثمَّ فعلت، لم تسم قَضَاء لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن وَقتهَا غير مَحْدُود الطَّرفَيْنِ، وَنحن قُلْنَا: (الْقَضَاء: هُوَ فعل الْوَاجِب خَارج الْوَقْت الْمُقدر لَهُ شرعا) . وَالثَّانِي: أَن كل وَقت من الْأَوْقَات الَّتِي يُؤَخر أَدَاؤُهَا فِيهَا هُوَ مُخَاطب بإخراجها فِيهِ، وَذَلِكَ وَاجِب عَلَيْهِ، فَلَو قُلْنَا: إِن أداءها فِي الْوَقْت الثَّانِي بعد تَأْخِيرهَا قَضَاء، لزم مثل ذَلِك فِي الثَّالِث وَالرَّابِع وَمَا بعده، وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَة، وَالْحج، فَكَانَ أَدَاء على كل حَال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 855 وَقَوْلنَا: وَزَكَاة المَال، احْتِرَاز من زَكَاة الْفطر، فَإِنَّهَا تُوصَف بِالْأَدَاءِ وبالقضاء إِذا أَخّرهَا. {وَلنَا وَجه} : أَنَّهَا تُوصَف { [بِالْقضَاءِ] } إِذا أَخّرهُ عَن وقته، فَإِنَّهَا وَاجِبَة عندنَا على الْفَوْر. قَوْله: {وَإِطْلَاق الْقَضَاء فِي الْحَج الْفَاسِد، لشبهه بالمقضي} فِي استدراكه. وَذَلِكَ أَنه لما شرع وتلبس بأفعاله تضيق الْوَقْت عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كَمَا لَو تلبس بِأَفْعَال الصَّلَاة، مَعَ أَن الصَّلَاة وَاجِب موسع. وَهَذَا جَوَاب عَن سُؤال مُقَدّر، تَقْدِيره: أَنْتُم قُلْتُمْ: إِن الْحَج لَا يُوصف بِالْقضَاءِ، وَقد وصفتموه هُنَا. قَوْله: {وَفعل الصَّلَاة بعد تَأْخِير قَضَائهَا لَا يُسمى قَضَاء الْقَضَاء} لامتناعه وتسلسله، كَمَا تقدم فِي الزَّكَاة وَغَيرهَا. قَوْله: {وَمَا وقته مَحْدُود يُوصف بذلك [سوى الْجُمُعَة] } يَعْنِي: الَّذِي لَهُ وَقت مَحْدُود يُوصف بِالْأَدَاءِ وَالْقَضَاء والإعادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 856 فَإِن فعل فِي وقته الْمَحْدُود مرّة كَانَ أَدَاء، وَإِلَّا كَانَ قَضَاء، وَإِن فعل ثَانِيًا كَانَ إِعَادَة: كالصلوات الْخمس، وسننها، وَالصَّوْم. وَقَوْلنَا: سوى الْجُمُعَة، فَإِن الْجُمُعَة لَو فَاتَت لَا تقضى، وَإِنَّمَا تصلى ظهرا، فالجمعة لَا تُوصَف بِالْقضَاءِ، فَلَا تسمى الْجُمُعَة بِالثَّلَاثَةِ بِالْأَدَاءِ وَالْقَضَاء والإعادة، أما الْأَدَاء فتسمى بِهِ، وَأما الْقَضَاء فَلَا تقضى، وَأما الْإِعَادَة فَإِن حصل ذَلِك فِي فعلهَا وَأمكن تداركها فِي وَقتهَا فعلت. قَوْله: {فالأداء} . لما علمت أَن مَا وقته مَحْدُود يُوصف بِالْأَدَاءِ وَالْقَضَاء والإعادة، شرعنا نبين الْأَدَاء مَا هُوَ؟ وَكَذَلِكَ الْقَضَاء والإعادة. فالأداء: {مَا فعل فِي وقته الْمُقدر لَهُ أَولا شرعا} . فقولنا: (مَا فعل) جنس للْأَدَاء وَغَيره. وَقَوْلنَا: (فِي وقته الْمُقدر) ، يخرج الْقَضَاء، وَمَا لم يقدر لَهُ وَقت: كإنكار الْمُنكر إِذا ظهر، وإنقاذ الغريق إِذا وجد، وَالْجهَاد إِذا تحرّك الْعَدو، والنوافل الْمُطلقَة، وتحية الْمَسْجِد، وَسُجُود التِّلَاوَة. وَقَوْلنَا: (أَولا) ، ليخرج مَا فعل فِي وقته الْمُقدر لَهُ شرعا، لكنه فِي غير الْوَقْت الَّذِي قدر لَهُ أَولا شرعا: كَالصَّلَاةِ إِذا ذكرهَا بعد خُرُوج وَقتهَا، أَو اسْتَيْقَظَ بعد خُرُوج الْوَقْت، لقَوْله عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَأتم السَّلَام -: " من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا فليصلها إِذا ذكرهَا " فَإِن ذَلِك وَقتهَا، فَإِذا فعلهَا فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 857 ذَلِك الْوَقْت، فَهُوَ وَقت ثَان لَا أول، فَلم يكن أَدَاء، وَيخرج بِهِ أَيْضا قَضَاء الصَّوْم، فَإِن الشَّارِع جعل لَهُ وقتا مُقَدرا لَا يجوز تَأْخِيره عَنهُ، وَهُوَ من حِين الْفَوات إِلَى رَمَضَان السّنة الْآتِيَة، فَإِذا فعله كَانَ قَضَاء، لِأَنَّهُ فعله فِي وقته الْمُقدر لَهُ ثَانِيًا لَا أَولا. وَقَوْلنَا: (شرعا) ، ليخرج مَا قدر لَهُ وَقت لَا بِأَصْل الشَّرْع، كمن ضيق عَلَيْهِ [الْمَوْت] لعَارض ظَنّه الْفَوات إِن لم يُبَادر. وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (الْأَدَاء: إِيقَاع الْعِبَادَة فِي وَقتهَا الْمُقدر شرعا لمصْلحَة اشْتَمَل عَلَيْهَا الْوَقْت. فتقييدها بِالْوَقْتِ، احْتِرَاز من تعين الْوَقْت لمصْلحَة الْمَكَان، كَمَا إِذا قُلْنَا: الْأَمر على الْفَوْر فَإِنَّهُ يتَعَيَّن الزَّمن الأول، وَلَا يُوصف بِكَوْنِهِ أَدَاء فِي وقته وَلَا قَضَاء بعد وقته. وَقَالَ ابْن الزَّاغُونِيّ: (هُوَ بعد وقته قَضَاء، وَالْقَضَاء لُغَة: نفس الْفِعْل، وَاصْطِلَاحا: فعل الْعِبَادَة خَارج وَقتهَا الْمعِين شرعا لمصْلحَة فِيهِ) . - ثمَّ قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل -: للْقَضَاء فِي اصْطِلَاح الْعلمَاء ثَلَاثَة معَان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 858 أَحدهَا: مَا تقدم. وَثَانِيها: مَا وَقع بعد فعله لسببه والشروع فِيهِ. وَثَالِثهَا: مَا فعل على خلاف نظامه: كقضاء الْفَوَائِت) انْتهى. - ثمَّ قَالَ -: تَنْبِيه: قَالَ ابْن الزَّاغُونِيّ: " اخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد، هَل الْقَضَاء بَاقٍ أَو مَنْقُول؟ على رِوَايَتَيْنِ، فعلى الأولى: يَصح الْأَدَاء بنية الْقَضَاء وَعَكسه، وعَلى [الثَّانِيَة] : لَيْسَ كَذَلِك ") انْتهى. قَوْله: {وَالْقَضَاء: مَا فعل بعد وَقت الْأَدَاء} ، وَذَلِكَ كَفعل الصَّلَوَات الْخمس، وسننها، وَالصَّوْم، بعد خُرُوج وَقتهَا، وَهُوَ ظَاهر، وَهَذَا إِذا حصل التَّأْخِير بِغَيْر عذر فِي الْجُمْلَة، فَأَما إِن أخر لعذر، فَتَارَة يُمكن فعله: كَصَوْم الْمُسَافِر وَالْمَرِيض، وَتارَة لَا يُمكن فعله، إِمَّا {لمَانع شَرْعِي: [كالحيض] } ، وَالنّفاس، {أَو} لمَانع [عَقْلِي: [كالنوم] } ، وَالْإِغْمَاء وَالسكر، وَنَحْوهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 859 وعَلى كل حَال فَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور: أَنه بعد ذَلِك إِذا زَالَ الْعذر وَفعل، كَانَ قَضَاء، وَذَلِكَ { [لوُجُوبه عَلَيْهِم] } حَالَة وجود الْعذر {عِنْد الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه [وَغَيرهم] } ، وَحَيْثُ كَانَ وَاجِبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 860 عَلَيْهِم مَعَ وجود الْعذر، كَانَ فعله بعد زَوَاله قَضَاء لخُرُوج وَقت الْأَدَاء. وَكَونه قَضَاء مَبْنِيّ على وُجُوبه عَلَيْهِم حَال الْعذر، وَلنَا فِي وُجُوبه عَلَيْهِم حَالَة الْعذر أَقْوَال، الصَّحِيح: الْوُجُوب، فَيكون قَضَاء بعد ذَلِك. {وَحكي عَن الْفُقَهَاء} . قَالَ ابْن برهَان: (هُوَ قَول الْفُقَهَاء قاطبة) . وَلقَوْل عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا -: كُنَّا نحيض على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فنؤمر بِقَضَاء الصَّوْم " مُتَّفق عَلَيْهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 861 {وَقيل} : يجب {على [الْمُسَافِر وَالْمَرِيض] } دون غَيرهم، فَيكون قَضَاء فِي حَقّهمَا، وَلَا يجب على حَائِض، فَيكون أَدَاء فِي حَقّهَا، وَالْفرق بَينهمَا: إِمْكَان الْفِعْل من الْمُسَافِر وَالْمَرِيض دون الْحَائِض شرعا. {وَقيل} : يجب {على [الْمُسَافِر] [فَقَط] } ، فَلَا يجب على مَرِيض وحائض، وَلَعَلَّ الْفرق الْقُدْرَة على الْفِعْل من الْمُسَافِر، وَعَدَمه من الْمَرِيض قدرا، وَمن الْحَائِض شرعا. {وَقيل: لَا يجب} على الْجَمِيع، { [وَحَكَاهُ] } القَاضِي، وَابْن عقيل {عَن الْحَنَفِيَّة} ، لِأَنَّهُ تَكْلِيف بالممتنع، بل يقضون لتقدم السَّبَب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 862 {وَعَن [الْأَشْعَرِيّ] ، وَأهل الْعرَاق: يلْزمه أحد الشَّهْرَيْنِ} ، يَعْنِي: رَمَضَان، وَالَّذِي يقْضِي فِيهِ، حَكَاهُ ابْن عقيل، والحلواني عَن الأشعرية، وَحَكَاهُ ابْن برهَان عَن أهل الْعرَاق، وَنَقله التَّاج السُّبْكِيّ عَن أبي الْمَعَالِي، وَنَقله ابْن الْعِرَاقِيّ عَن القَاضِي أبي بكر ابْن الباقلاني. قَوْله: {وَهُوَ لَفْظِي فِي الْأَصَح} . قطع جمَاعَة أَن الْخلاف لَفْظِي، مِنْهُم: أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فَقَالَ: (لَا فَائِدَة لَهُ، وَتَأْخِير الصَّوْم حَالَة الْعذر جَائِز بِلَا خلاف، وَالْقَضَاء [بعد زَوَاله] وَاجِب بِلَا خلاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 863 وَحكى ابْن الرّفْعَة من أَصْحَاب الشَّافِعِي عَن بَعضهم:) أَن فَائِدَة الْخلاف تظهر فِيمَا إِذا قُلْنَا: إِنَّه يجب التَّعَرُّض للْأَدَاء وَالْقَضَاء فِي النِّيَّة) انْتهى. وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": (فَائِدَته: فِي أَنه هَل وَجب بِأَمْر جَدِيد أَو بِالْأَمر الأول؟) . وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (وَقد تظهر فَائِدَته فِيمَا إِذا حَاضَت الْمَرْأَة بعد الطّواف، وَقبل أَن تصلي رَكْعَتَيْنِ، هَل تقضيهما؟ وَقد نقل النَّوَوِيّ فِي " شرح الْمُهَذّب " عَن ابْن الْقَاص والجرجاني: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 864 أَنَّهَا تقضيهما وَأَن الشَّيْخ أَبَا عَليّ أنكرهُ، قَالَ: " وَهُوَ الصَّوَاب "، وَلكنه جزم فِي " شرح مُسلم " بمقالة ابْن الْقَاص والجرجاني، وَنَقله عَن الْأَصْحَاب) انْتهى. قلت: قَالَ صَاحب " الْفُرُوع " من أَصْحَابنَا فِي أول بَاب الْحيض من " فروعه ": (يمْنَع الْحيض الصَّلَاة، وَلَا تقضيها إِجْمَاعًا، ثمَّ قَالَ: وَلَعَلَّ المُرَاد إِلَّا رَكْعَتي الطّواف؛ لِأَنَّهَا نسك لَا آخر لوقته، فيعايا بهَا) انْتهى. وَقد رد عَلَيْهِ ابْن نصر الله، وَشَيخنَا البعلي فِي " حواشيهما ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 865 وَالَّذِي يظْهر أَن مُرَاده: أَنَّهَا طافت [وَهِي] حَائِض، فَإِذا طهرت هَل تقضيهما أم لَا؟ أَو أَنَّهَا طافت طَاهِرَة، ثمَّ بعد فراغها مِنْهُ حَاضَت، كَمَا قَالَه جمَاعَة الشَّافِعِيَّة، وَلَعَلَّه أَخذه من كَلَام النَّوَوِيّ فِي " شرح مُسلم "، فَإِنَّهُ كثيرا يَأْخُذ مِنْهُ ليخرج أحكاماً، فَيكون وجود سَبَب الصَّلَاة الطّواف وَهِي طَاهِرَة، وَلم تتمكن من فعلهمَا إِلَّا وَقد حَاضَت، فعلى هَذَا إِذا طهرت، هَل تقضيهما أم لَا؟ وَالله أعلم، وَعِنْده تقضيهما. [قَوْله] : { [وَعبادَة صَغِير لَا تسمى قَضَاء] [إِجْمَاعًا، قَالَ ابْن حمدَان] : وَلَا أَدَاء} . قَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ": (مَا لم ينْعَقد سَبَب وُجُوبه فِي الْأَوْقَات الْمقدرَة، فَإِذا فعل خَارج الْوَقْت لَا يُسمى قَضَاء. قَالَ الْمُؤلف: وَلَا أَدَاة كَظهر صبي) . قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (الْفِعْل الْمُقدر وقته إِن لم ينْعَقد سَبَب وُجُوبه لم يكن فعله بعد الْوَقْت قَضَاء إِجْمَاعًا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 866 قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": (إِذا لم ينْعَقد سَبَب الْأَمر لم يكن فعله بعد [انْقِضَاء] الْوَقْت قَضَاء إِجْمَاعًا، لَا حَقِيقَة، وَلَا مجَازًا، كَمَا لَو صلى الصَّبِي الصَّلَوَات الْفَائِتَة فِي حَالَة الصِّبَا، وَلَيْسَ الصَّبِي مَأْمُورا بذلك شرعا حَتَّى يقْضِي، فثواب الصَّبِي على عِبَادَته من خطاب الْوَضع) انْتهى. وَفِي " فروع ابْن مُفْلِح ": (تصح الصَّلَاة من مُمَيّز نفلا، وَيُقَال لما فعله: صَلَاة كَذَا، وَفِي التَّعْلِيق: مجَاز) انْتهى. تَنْبِيه: الْأَدَاء وَالْقَضَاء إِنَّمَا هُوَ للْفِعْل لَا الْمَفْعُول، كَمَا وَقع ذَلِك فِي عبارتنا، وَعبارَة " مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب "، و " منهاج الْبَيْضَاوِيّ "، وَغَيرهمَا، وَإِنَّمَا الْمَفْعُول هُوَ الْمُؤَدى [والمقضي] ، وَقد فعل ذَلِك التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع " على الأَصْل، فَقَالَ: (الْأَدَاء وَالْقَضَاء الْفِعْل، والمؤدى والمقضي مَا فعل وَهُوَ الْمَفْعُول) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 867 قَالَ بعض الْمُحَقِّقين: (وَهُوَ تَحْقِيق لَا طائل تَحْتَهُ، [فَإِن] الْقَضَاء وَالْأَدَاء فِي عبارَة الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاء يُرَاد بِهِ الْمَفْعُول، من إِطْلَاق الْمصدر على الْمَفْعُول، واشتهر ذَلِك فِي استعمالهم حَتَّى صَار حَقِيقَة عرفية، وَأَيْضًا فالعبادة قبل إيقاعها لَيْسَ لَهَا وجود خارجي يَقع الْفِعْل عَلَيْهِ حَتَّى يكون مَفْعُولا حَقِيقَة، وَيَقَع الْفرق فِيهِ بَين الْفِعْل وَالْمَفْعُول. فَحِينَئِذٍ إِيقَاع الْعِبَادَة ووقوعها وفعلها وذاتها كلهَا وَاحِد، يَصح وصف الْعِبَادَة بِالْأَدَاءِ وبالمؤداة، وبالقضاء والمقضية) . وَالله أعلم. فَائِدَة: الْعِبَادَة قد تُوصَف بِالْأَدَاءِ وَالْقَضَاء: كالخمس، وَالصَّوْم، وَقد لَا تُوصَف بِهَذَا وَلَا بِهَذَا: كالنوافل الْمُطلقَة وَنَحْوهَا، وَقد تُوصَف بِالْأَدَاءِ وَحده: كَالْجُمُعَةِ، وَعدم الْقَضَاء فِيهَا للتوقيف أَو الْإِجْمَاع، [لَا] لامتناعه عقلا لَا شرعا. قَوْله: {والإعادة: مَا فعل فِي وقته الْمُقدر ثَانِيًا، [زَاد] الْبَيْضَاوِيّ، وَابْن الْحَاجِب، والطوفي [وَجمع] : لخلل، وَبَعْضهمْ: لعذر، وَفِي مَذْهَب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 868 مَالك: لَا تخْتَص بِالْوَقْتِ، [وَهُوَ ظَاهر] " الرَّوْضَة "} . ظَاهر [الْعبارَة] الأولى وإطلاقها يَشْمَل: سَوَاء كَانَ الْخلَل فِي الأول، أَو لَا، لعذر، أَو لَا، فَيدْخل فِيهِ لَو صلى الصَّلَاة فِي وَقتهَا صَحِيحَة، ثمَّ أُقِيمَت الصَّلَاة وَهُوَ فِي الْمَسْجِد وصّى، فَإِن هَذِه الصَّلَاة تسمى معادة عِنْد الْأَصْحَاب، إِلَّا أَن يَقُول من يشْتَرط الْعذر: إِن قعوده فِي الْمَسْجِد عذر، وَهُوَ بعيد. قَالَ الشَّيْخ الْمُوفق: (الْإِعَادَة: فعل الشَّيْء مرّة أُخْرَى) . قَالَ الطوفي فِي " شَرحه " بعد حِكَايَة قَول الشَّيْخ -: (وَهَذَا أوفق للغة وَالْمذهب. أما اللُّغَة: فَإِن الْعَرَب على ذَلِك تطلق الْإِعَادَة، يَقُولُونَ: أَعدَدْت الكرة، إِذا كرّ مرّة بعد أُخْرَى، وأعدنا الْحَرْب [جَذَعَة] ، وَرجع عوده على بدئه، أَي: عَاد رَاجعا كَمَا ذهب، وإعادة الله للْعَالم: إنشاؤه مرّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 869 ثَانِيَة، قَالَ الله تَعَالَى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تعودُونَ} [الْأَعْرَاف: 29] ، {كَمَا بدأنا أول خلق نعيده} [الْأَنْبِيَاء: 104] ، {وَهُوَ الَّذِي يبدؤا الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ} [الرّوم: 27] ، وَلَيْسَ فِي ذَلِك كُله تعرض لوُقُوع الْخلَل فِي الْفِعْل الأول. وَأما الْمَذْهَب: فَإِن أَصْحَابنَا وَغَيرهم قَالُوا: من صلى ثمَّ حضر جمَاعَة سنّ لَهُ أَن يُعِيد مَعَهم، سَوَاء صلى الأولى مُنْفَردا أَو فِي جمَاعَة، فقد أثبتوا الْإِعَادَة مَعَ عدم الْخلَل فِي الأولى) انْتهى. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ، وَابْن الْحَاجِب، والطوفي فِي " مُخْتَصره "، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 870 وَجمع: (لخلل فِي الأول) ، فخصوا الْإِعَادَة بذلك. وَقَالَ جمَاعَة من الْعلمَاء: (لعذر) ، فَهُوَ أخص من الَّذِي قبله. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (مَا فعل فِي وقته الْمُقدر مرّة أُخْرَى، زَاد بَعضهم: لخلل، وَبَعْضهمْ: لعذر) انْتهى. وَفِي مَذْهَب مَالك: لَا تخْتَص الْإِعَادَة بِالْوَقْتِ، بل هِيَ فِي الْوَقْت لاستدراك المندوبات، وَبعد الْوَقْت لاستدراك الْوَاجِبَات. وَتقدم كَلَام الشَّيْخ موفق الدّين: أَن الْإِعَادَة فعل الشَّيْء مرّة بعد أُخْرَى، وَظَاهره: وَلَو كَانَ خَارج الْوَقْت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 871 قَوْله: {فصل} {الْعِبَادَة ن طلب فعلهَا من كل وَاحِد بِالذَّاتِ: كالخمس والنوافل، أَو من وَاحِد معِين: كالخصائص، فَفرض عين، وَسنة عين، وَإِن طلب الْفِعْل فَقَط، فَفرض كِفَايَة [وَسنة كِفَايَة، قَالَه أَصْحَابنَا وَغَيرهم، كالسلام وَنَحْوه] } . هَذَا الْفَصْل فِيهِ تَقْسِيم الْوُجُوب وَالنَّدْب بِاعْتِبَار من يجب عَلَيْهِ وَمن ينْدب فِي حَقه. وَحَاصِله: أَن الْوُجُوب وَالنَّدْب يَنْقَسِم إِلَى: فرض عين، وَفرض كِفَايَة، وَسنة عين، وَسنة كِفَايَة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 872 فَفرض الْعين وَسنة الْعين: مَا تنَاول كل وَاحِد من الْمُكَلّفين فرضا ونفلاً: كَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْم، وَنَحْوهمَا. وَقد يتناولان وَاحِدًا معينا: كخصائص النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد اخْتصَّ بفرائض وَسنَن. قَالَ الإِمَام أَحْمد: (خص النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بواجبات، ومحظورات، ومباحات، وكرامات) . وَفرض الْكِفَايَة: كالجهاد وَنَحْوه، وَهُوَ كثير، وَقد حصره وعده جمَاعَة من الْعلمَاء. وَسنة الْكِفَايَة: كابتداء السَّلَام، وتشميت الْعَاطِس على قَول، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 873 وَالْأُضْحِيَّة فِي حق أهل الْبَيْت، وَتَسْمِيَة أحد الآكلين عَن بَقِيَّتهمْ، نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي. وَقد ذكر النَّاظِم، وَابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَغَيرهم: سنة الْكِفَايَة. وَسمي فرض الْكِفَايَة؛ لِأَن فعل الْبَعْض فِيهِ يَكْفِي فِي سُقُوط الْإِثْم. وَالْفرق بَينه وَبَين فرض الْعين: أَن فرض الْعين: مَا تَكَرَّرت مصْلحَته بتكرره كالصلوات الْخمس وَغَيرهَا، فَإِن مصلحتها الخضوع لله، وتعظيمه، ومناجاته، والتذلل والمثول بَين يَدَيْهِ، وَهَذِه الْآدَاب تكْثر كلما كررت الصَّلَاة. وَفرض الْكِفَايَة: مَا لَا تَتَكَرَّر مصْلحَته بتكرره: كإنجاء الغريق، وَغسل الْمَيِّت، وَدَفنه، وَنَحْوهَا. فهما متباينان تبَاين النَّوْعَيْنِ، خلافًا للمعتزلة فِي قَوْلهم: تبَاين الجنسين، إِذْ الْوَاجِب أَو الْمَنْدُوب صَادِق على الْأَمريْنِ بالتواطؤ، من حَيْثُ أَن كلا مِنْهُمَا لابد من وُقُوعه، أَو وُقُوعه مُحَصل لما يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الثَّوَاب، فَلَيْسَ لفظ الْفَرْض وَالسّنة مُشْتَركا بَينهمَا اشتراكاً لفظياً كَمَا يَزْعمُونَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 874 قَوْله: { [وهما] : مُهِمّ يقْصد حُصُوله من غير نظر بِالذَّاتِ إِلَى فَاعله} . وأصل هَذَا الْحَد للغزالي، إِلَّا أَنه قَالَ: (كل مُهِمّ ديني يقْصد الشَّرْع حُصُوله من غير نظر إِلَى فَاعله) ، حَكَاهُ عَنهُ الرَّافِعِيّ فِي كتاب " السّير "، وَمَعْنَاهُ: أَن فروض الْكِفَايَة أُمُور كُلية تتَعَلَّق بهَا مصَالح دينية ودنيوية لَا يَنْتَظِم الْأَمر إِلَّا بحصولها، فيقصد الشَّرْع حُصُولهَا، وَلَا يقْصد تَكْلِيف الْوَاحِد وامتحانه فِيهَا، بِخِلَاف فروض الْأَعْيَان فَإِن الْكل مكلفون بهَا ممتحنون بتحصيلها، وَهَذَا الْحَد " يَشْمَل سنة الْكِفَايَة، [فَإِنَّهُ] لم يقل: يقْصد الشَّارِع حُصُوله لُزُوما. والمهم قِسْمَانِ: مُهِمّ لابد من حُصُوله، ومهم الشَّرْع حُصُوله. وأسقطت من الْحَد لفظ: (كل) ؛ لِأَنَّهَا للأفراد، والتعريف للماهية. وأسقطت لَفْظَة: (ديني) ؛ ليدْخل نَحْو الْحَرْف والصناعات. وزدنا: (بِالذَّاتِ) من قَوْلنَا: (من غير نظر بِالذَّاتِ إِلَى فَاعله) ؛ لِأَن مَا من فعل يتَعَلَّق بِهِ الحكم إِلَّا وَينظر فِيهِ للْفَاعِل، حَتَّى يُثَاب على واجبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 875 ومندوبه، ويعاقب على ترك الْوَاجِب، وَإِنَّمَا يفترقان فِي كَون الْمَطْلُوب عينا يختبر فِيهِ الْفِعْل ويمتحن ليثاب أَو يُعَاقب، وَالْمَطْلُوب كِفَايَة يقْصد حُصُوله قصدا ذاتياً، وَقصد الْفَاعِل فِيهِ تبع لَا ذاتي. قَوْله: { [وَالْأول] وَاجِب على الْجَمِيع عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} . هَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِير الْعلمَاء، مِنْهُم الْأَرْبَعَة، نَقله عَنْهُم ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " وَغَيره. قَالَ الإِمَام أَحْمد: (الْغَزْو وَاجِب على النَّاس كلهم، فَإِذا غزا بَعضهم أَجْزَأَ عَنْهُم) ، وَقَالَهُ أَصْحَابه. وَقَالَ الإِمَام الشَّافِعِي فِي " الْأُم ": (حق على النَّاس غسيل الْمَيِّت، وَالصَّلَاة عَلَيْهِ، وَدَفنه، لَا يسع عامتهم تَركه، وَإِذا قَامَ بِهِ من فِيهِ كِفَايَة أَجْزَأَ عَنْهُم إِن شَاءَ الله تَعَالَى) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 876 وَقَالَ مَعْنَاهُ فِي بَاب السّلف، وَجرى عَلَيْهِ أَصْحَابه. وَمن الْأُصُولِيِّينَ: الصَّيْرَفِي، والباقلاني، والشيرازي، وَالْغَزالِيّ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَنَقله عَن أَصْحَابهم، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهم. فَائِدَة: إِذا قُلْنَا: إِنَّه تعلق بِالْجَمِيعِ، فَهَل مَعْنَاهُ: أَنه يتَعَلَّق بِكُل وَاحِد، أَو بِالْجَمِيعِ من حَيْثُ هُوَ جَمِيع؟ مُقْتَضى كَلَام الباقلاني الأول، وَظَاهر كَلَام الْأَكْثَرين الثَّانِي. فَمَعْنَى الأول: أَن كل مُكَلّف مُخَاطب بِهِ، فَإِذا قَامَ بِهِ بعض سقط عَن غَيرهم رخصَة وتخفيفاً لحُصُول الْمَقْصُود. وَمعنى الثَّانِي: أَن الْجَمِيع مخاطبون بإيقاعه مِنْهُم، من أَي فَاعل فعله، وَلَا يلْزم على هَذَا أَن يكون الشَّخْص مُخَاطبا بِفعل غَيره. لأَنا نقُول: كلفوا بِمَا هُوَ أَعم من فعلهم وَفعل غَيرهم، وَذَلِكَ مَقْدُور تَحْصِيله مِنْهُم، لِأَن كلا قَادر عَلَيْهِ، وَلَو لم يَفْعَله غَيره، وَفرض الْعين الْمَقْصُود مِنْهُ امتحان كل وَاحِد بِمَا خُوطِبَ بِهِ لحُصُول ذَلِك الْفِعْل مِنْهُ بِنَفسِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 877 وَقَالَ طَائِفَة من الْأُصُولِيِّينَ: يلْزم طَائِفَة مُبْهمَة، وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول "، وَحكي عَن الْمُعْتَزلَة. [قَالَ] الْبرمَاوِيّ: (اخْتَار الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه: أَنه على الْبَعْض، وَاخْتَارَهُ التَّاج السُّبْكِيّ. ورد هَذَا القَوْل: بإثم الْجَمِيع بِتَرْكِهِ إِجْمَاعًا، وإثم وَاحِد مِنْهُم لَا يعقل، لِأَنَّهُ لَا يُمكن عِقَابه، وَسُقُوط الْإِثْم بِفعل بَعضهم لَيْسَ مَانِعا. وَأما قَوْله تَعَالَى: {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم} [التَّوْبَة: 122] ، فَالْمُرَاد بالطائفة: المسقطة للْوَاجِب. وَقيل: يجب على طَائِفَة مُعينَة عِنْد الله تَعَالَى دون النَّاس. وَقيل: مَا قَامَ بِهِ فَهُوَ الْوَاجِب عَلَيْهِ. وَهُوَ نَظِير الْخلاف فِي الْوَاجِب الْمُخَير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 878 قَوْله: {قَالَ أَصْحَابنَا [وَغَيرهم] : وَمن ظن أَن غَيره لَا يقوم بِهِ وَجب عَلَيْهِ} . وَذَلِكَ لِأَن الظَّن منَاط التَّعَبُّد. قَوْله: { [وَإِن] فعله الْجَمِيع مَعًا كَانَ فرضا إِجْمَاعًا} . لعدم التَّمْيِيز، لَكِن رَأَيْت لإِمَام الْحَرَمَيْنِ احْتِمَالا أَن يَجْعَل كمسح الرَّأْس فِي الْوضُوء دفْعَة، هَل الْفَرْض الْكل، أَو مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم؟ ثمَّ قَالَ: (وَقد يَقُول الفطن: رُتْبَة الْفَرْضِيَّة فَوق السّنيَّة، وكل مصل من الْجَمِيع يَنْبَغِي أَن لَا يحرم الْفَرْضِيَّة، وَقد قَامَ بِمَا أَمر بِهِ، وَهَذَا لطيف لَا يَصح مثله فِي الْمسْح) انْتهى. قلت: وَقَرِيب مِمَّا قَالَ، لَو وَجب عَلَيْهِ سبع بَدَنَة فأخرجها كَامِلَة، هَل يُوصف الْكل بِالْوُجُوب، أَو السَّبع وَالْبَاقِي سنة؟ لنا فِيهِ وَجْهَان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 879 قَوْله: {وَيسْقط [الطّلب الْجَازِم] بِفعل من يَكْفِي كسقوط الْإِثْم إِجْمَاعًا} . وَذَلِكَ لِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ الْفِعْل، وَقد وجد، وَيَكْفِي فِي سُقُوطه غَلَبَة الظَّن، فَإِذا غلب على ظن طَائِفَة أَن غَيرهَا قَامَ بِهِ سقط، قَالَه القَاضِي، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، والطوفي، وَغَيرهم. قَالَ الطوفي: (لَو غلب على ظن طَائِفَة أَن غَيرهَا قَامَ بِهِ سقط عَنْهَا، وَإِن غلب على ظن كل من الطَّائِفَتَيْنِ أَو الطوائف أَن الْأُخْرَى قَامَت بِهِ سقط عَن الْجَمِيع، عملا بِمُوجب الظَّن؛ لِأَنَّهُ كَمَا يصلح مثبتاً للتكاليف يَصح مسْقطًا لَهَا) انْتهى. وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شرح منهاج الْبَيْضَاوِيّ ": (وَإِن ظنت طَائِفَة قيام غَيرهَا بِهِ، وظنت أُخْرَى عَكسه، سقط عَن الأولى، وَوَجَب على الثَّانِيَة. وَقَالَ: فلك أَن تَقول: هَذَا يشكل بِالِاجْتِهَادِ؛ فَإِنَّهُ من فروض الْكِفَايَة، وَلَا إِثْم فِي تَركه، وَإِلَّا لزم تأثيم أهل الدُّنْيَا. فَإِن قيل: إِنَّمَا انْتَفَى الْإِثْم لعدم الْقُدْرَة. قلتنا: فَيلْزم أَن لَا يكون فرضا) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 880 { [قيل] : الثَّانِي فرض أَيْضا، [وَجزم بِهِ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "] ، فَلَا يُجزئ بنية [النَّفْل] [وفَاقا للشَّافِعِيَّة] } ، وذكروه أَيْضا فِي صَلَاة الْجِنَازَة مرّة أُخْرَى، [لتعيينها] بشروعه، لِأَنَّهَا شرعت لمصْلحَة، وَهِي قبُول الشَّفَاعَة، وَلم يعلم. ورد: يَكْفِي الظَّن بِدَلِيل سُقُوط الْإِثْم. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (إِذا بَاشر الْجِهَاد وَقد سقط الْفَرْض، فَهَل يَقع فرضا أَو نفلا؟ علىوجهين كالوجهين فِي صَلَاة الْجِنَازَة إِذا أَعَادَهَا بعد أَن صلاهَا غَيره، وانبنى على الْوَجْهَيْنِ جَوَاز فعلهَا بعد الْعَصْر وَالْفَجْر مرّة ثَانِيَة، وَالصَّحِيح: أَن ذَلِك يَقع فرضا، وَأَنه يجوز فعلهَا بعد الْعَصْر وَالْفَجْر، وَإِن كَانَ ابْتِدَاء الدُّخُول فِيهِ تَطَوّعا كَمَا فِي التَّطَوُّع الَّذِي يلْزم بِالشُّرُوعِ، فَإِنَّهُ كَانَ نفلا ثمَّ يصير إِتْمَامه وَاجِبا) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 881 فَائِدَة: من شُرُوط سُقُوط فرض الْكِفَايَة: أَن يكون فَاعله مُكَلّفا من الْآدَمِيّين، فَلَا يسْقط بِفعل مُمَيّز إِلَّا فِيمَا الْمَقْصُود حُصُوله فَقَط، كحمل الْمَيِّت وَدَفنه وَنَحْوهمَا، وَلنَا خلاف فِي الْأَذَان، وَغسل الْمَيِّت، وَغَيرهمَا، لَكِن الْمَشْهُور من الْمَذْهَب صِحَة الْأَذَان وَغسل الْمَيِّت من الْمُمَيز. وَلنَا أَيْضا فِي غسل الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ للْمَيت خلاف ضَعِيف فِي الْإِجْزَاء. قَوْله: {وَلَا فرق بَينه وَبَين فرض الْعين ابْتِدَاء، قَالَه الْمُوفق وَغَيره} . يَعْنِي: على القَوْل بِأَنَّهُ وَاجِب على الْجَمِيع، قَالَه الْمُوفق وَغَيره، وَإِنَّمَا يتفرقان فِي ثَانِي الْحَال، وَهُوَ 0 فرق حكمي. قَوْله: {وَفرض الْعين أفضل مِنْهُ، وَيلْزم بِالشُّرُوعِ فِي الْأَظْهر فيهمَا} . ذكرنَا مَسْأَلَتَيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 882 إِحْدَاهمَا: هَل فرض الْعين أفضل، أم فرض الْكِفَايَة؟ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: - وَهُوَ الصَّحِيح أَن فرض الْعين أفضل، لِأَن فَرْضه أهم وَلذَلِك وَجب على الْأَعْيَان، وَهَذَا قَول الْأَكْثَر. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن فرض الْكِفَايَة أفضل، اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ فِي كتاب " التَّرْتِيب "، وَأَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ فِي كِتَابه " الْمُحِيط "، وَولده أَبُو الْمَعَالِي، وَحَكَاهُ الشَّيْخ أَبُو عَليّ فِي أول " شرح التَّلْخِيص " عَن الْمُحَقِّقين؛ لِأَن فَاعله ساع فِي صِيَانة الْأمة كلهَا عَن الْإِثْم، وَلَا شكّ فِي رُجْحَان من حل مَحل الْمُسلمين أَجْمَعِينَ فِي الْقيام بمهمات الدّين، قَالَه أَبُو الْمَعَالِي. قلت: لَو قيل: إنَّهُمَا سَوَاء فِي الْفَضِيلَة لَكَانَ متجهاً، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا اخْتصَّ بمزية لَا تُوجد فِي الآخر، فَكَانَا سَوَاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 883 وفاعل فرض الْكِفَايَة أفضل من غير فَاعله، ضَرُورَة أَنه حصل الْمصلحَة دون غَيره، نعم؛ هما سيان فِي الْخُرُوج من الْعهْدَة. الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: هَل يلْزم فرض الْكِفَايَة بِالشُّرُوعِ أم لَا؟ قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": (قَالَ بعض أَصْحَابنَا: فِي الْمَسْأَلَة قَولَانِ أخذا من احْتِمَالَيْنِ فِي " التَّلْخِيص " للشَّيْخ فَخر الدّين ابْن تَيْمِية فِي اللَّقِيط إِذا أَرَادَ الْمُلْتَقط رده إِلَى الْحَاكِم مَعَ قدرته، وَعلل احْتِمَال الْمَنْع بِأَنَّهُ فرض كِفَايَة وَقد شرع فِيهِ وَقدر عَلَيْهِ فَصَارَ مُتَعَيّنا. وَيُؤْخَذ أَيْضا من أحد الْقَوْلَيْنِ من مَسْأَلَة حفظ الْقُرْآن، إِنَّه فرض كِفَايَة إِجْمَاعًا، فَإِذا حفظه وَأخر تِلَاوَته حَتَّى نَسيَه وَلَا عذر، حرم على الصَّحِيح من الْمَذْهَب. قَالَ الإِمَام أَحْمد: (مَا أَشد مَا جَاءَ فِيمَن حفظه ثمَّ نَسيَه) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 884 وَفِيه وَجه: يكره، وَقدمه بعض الْأَصْحَاب) ، وللشافعية قَولَانِ، وَلم يرجح الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ شَيْئا، وَاخْتَارَ ابْن الرّفْعَة، أَنه لَا يلْزم. وَقَالَ ابْن الْبَارِزِيّ فِي " التَّمْيِيز ": (لَا يلْزم فرض الْكِفَايَة بِالشُّرُوعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 885 - فِي الْأَصَح إِلَّا فِي الْجِهَاد وَصَلَاة الْجِنَازَة) انْتهى. وَخُرُوج الْجِهَاد وَصَلَاة الْجِنَازَة لما فِي الأول من تخذيل الْمُسلمين وَكسر الْقُلُوب، وَلما فِي الثَّانِي من هتك حُرْمَة الْمَيِّت، فَيكون هَذَا وَجها ثَالِثا فِي الْمَسْأَلَة. قَوْله: { [كفرض عين وَلَو موسعاً: كَصَلَاة، وَقَضَاء رَمَضَان عِنْد الْأَرْبَعَة] } . يَعْنِي: أَن فرض الْعين يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يكون وقته مضيقاً: كَصَوْم رَمَضَان، وَصَلَاة فِي آخر وَقتهَا، وَنَحْوهمَا، فَهَذَا يلْزم بِالشُّرُوعِ، وَتلْزم الْمُبَادرَة إِلَيْهِ بِلَا نزاع. وَالثَّانِي: أَن يكون وقته موسعاً: كَالصَّلَاةِ فِي أول وَقتهَا، وَقَضَاء رَمَضَان، إِذا كَانَ الْوَقْت متسعاً، وَالنّذر الْمُطلق، وَالْكَفَّارَة، فَهَذَا أَيْضا يلْزم بِالشُّرُوعِ، وَيحرم خُرُوجه مِنْهُ بِلَا عذر عَنهُ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 886 قَالَ الشَّيْخ موفق الدّين: (هَذَا بِغَيْر خلاف) . وَقَالَ الشَّيْخ مجد الدّين: (لَا نعلم فِيهِ خلافًا، لِأَن الْخُرُوج من عُهْدَة الْوَاجِب مُتَعَيّن، وَدخلت التَّوسعَة فِي وقته وَقفا ومظنة الْحَاجة، فَإِذا شرع تعيّنت الْمصلحَة فِي إِتْمَامه، وَجَاز للصَّائِم فِي السّفر الْفطر لقِيَام الْمُبِيح وَهُوَ السّفر، كالمرض) . وَخَالف جمَاعَة من الشَّافِعِيَّة فِي الصَّوْم، ووافقوا على الْمَكْتُوبَة أول وَقتهَا، نقل ذَلِك ابْن مُفْلِح فِي أَوَاخِر الصَّوْم. وَقَالَ ولد الْمجد فِي " المسودة ": (الْعِبَادَة الموسعة: كَالصَّلَاةِ، وَقَضَاء الصَّوْم، لَا يصير فعلهَا بعد التَّلَبُّس بهَا وَاجِبا، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تلْزم بِالشُّرُوعِ) ، وَأقرهُ وَلَده الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَلم يتعقبه بِشَيْء، فَدلَّ أَنه مُوَافق عَلَيْهِ، لَكِن الَّذِي يظْهر أَن فِي هَذَا النَّقْل نظرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 887 فَائِدَة: قَالَ الْمحلي: (سنة الْكِفَايَة كفرضها فِي الْأُمُور الْمُتَقَدّمَة وَهِي أَرْبَعَة: أَحدهَا: من حَيْثُ التَّمْيِيز عَن سنة الْعين: مُهِمّ يقْصد حُصُوله من غير نظر إِلَى فَاعله. ثَانِيهَا: أَنَّهَا أفضل من سنة الْعين، عِنْد الْأُسْتَاذ وَمن مَعَه، لسُقُوط الطّلب [بِقِيَام الْبَعْض] بهَا عَن كل المطلوبين بهَا. ثَالِثهَا: أَنَّهَا مَطْلُوبَة من الْكل عِنْد الْجُمْهُور، وَقيل: الْبَعْض، وَعَلِيهِ فِيهِ الثَّلَاثَة أَقْوَال. [رَابِعهَا] : أَنَّهَا [تتَعَيَّن] بِالشُّرُوعِ، أَي: تصير بِهِ سنة عين، يَعْنِي: مثلهَا فِي تَأَكد طلب الْإِتْمَام) انْتهى. قَوْله: { [فَإِن] طلب وَاحِد من الْأَشْيَاء كخصال الْكَفَّارَة وَنَحْوهَا، فَالْوَاجِب وَاحِد لَا بِعَيْنِه} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 888 التَّعْبِير بالمطلوب أولى، لِأَنَّهُ أَعم من أَن يكون وَاجِبا أَو مُسْتَحبا، وَإِن كَانَ الْمَشْهُور التَّعْبِير بِالْوَاجِبِ الْمُخَير. وتصوير الْمَنْدُوب فِي الْمَطْلُوب الْمُخَير حَيْثُ تسْتَحب الْكَفَّارَة. وَالْمرَاد بِالْكَفَّارَةِ: كَفَّارَة الْيَمين فِي قَوْله تَعَالَى: {فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين من أَوسط مَا تطْعمُونَ أهليكم أَو كسوتهم أَو تَحْرِير رَقَبَة} [الْمَائِدَة: 89] ، وَنَحْوهَا، كجزاء الصَّيْد فِي قَوْله تَعَالَى: {فجزاء مثل مَا قتل من النعم يحكم بِهِ ذَوا عدل مِنْكُم هَديا بَالغ الْكَعْبَة أَو كَفَّارَة طَعَام مَسَاكِين أَو عدل ذَلِك صياما} [الْمَائِدَة: 95] ، وكفدية الْأَذَى فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو بِهِ أَذَى من رَأسه ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} [الْبَقَرَة: 196] ، وكالجبران فِي الزَّكَاة فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " شَاتين أَو عشْرين درهما "، وَمثل الْوَاجِب فِي الْمِائَتَيْنِ من الْإِبِل: " أَربع حقاق أَو خمس بَنَات لبون "، وكالتخيير بَين غسل الرجلَيْن فِي الْوضُوء للابس الْخُف أَو الْمسْح عَلَيْهِ، وَنَحْوهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 889 إِذا علم ذَلِك؛ فَالْوَاجِب وَاحِد لَا بِعَيْنِه {عِنْد [أَكثر الْعلمَاء] } ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ موفق [الدّين] ، وَغَيره من الْأَصْحَاب، وَذكره أَبُو مُحَمَّد التَّمِيمِي عَن الإِمَام أَحْمد، وَقَالَهُ عَامَّة الْفُقَهَاء، والأشعرية، وَنقل ابْن الباقلاني [أَن] إِجْمَاع السّلف وأئمة الْفِقْه عَلَيْهِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذ: (هُوَ مَذْهَب الْفُقَهَاء كَافَّة) . فعلى هَذَا قَالَ { [القَاضِي] ، وَابْن عقيل: يتَعَيَّن} ذَلِك الْوَاحِد {بِالْفِعْلِ} ، وَذكره ابْن عقيل {عَن الْفُقَهَاء والأشعرية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 890 وَقيل: [يتَعَيَّن بِتَعْيِين الَّذِي وَجب عَلَيْهِ قبل فعله] } . [قَالَ] الْبرمَاوِيّ: (ثمَّ على القَوْل الأول، بِمَاذَا يتَعَيَّن الْوَاجِب؟ أباختيار الْمُكَلف أَو بِالْفِعْلِ؟ قَولَانِ. وَحكى الأول ابْن دَقِيق الْعِيد فِي " شرح الْإِلْمَام ") انْتهى. {وَقَالَ أَبُو الْخطاب} وَغَيره: (هُوَ {معِين عِنْد الله تَعَالَى، علم أَنه لَا يفعل غَيره) } . فَحِينَئِذٍ يخْتَلف الْوَاجِب بِحَسب الفاعلين. ورده ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": (بِأَنَّهُ لَو مَاتَ قبل أَن يفعل شَيْئا، وَلم [يغْفل] عَنهُ، بَان أَنه لَا وجوب، وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع) انْتهى. وَقَالَ الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول ": (أَصْحَابنَا ينسبون هَذَا القَوْل إِلَى الْمُعْتَزلَة، والمعتزلة تنسبه إِلَى أَصْحَابنَا، وَاتفقَ الْفَرِيقَانِ على فَسَاده) ، وَيُسمى قَول التراجم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 891 لذَلِك قَالَ السُّبْكِيّ: (وَعِنْدِي أَنه لم يقل بِهِ أحد) . قلت: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، فقد اخْتَارَهُ الإِمَام أَبُو الْخطاب من أَئِمَّة أَصْحَابنَا، وَحَكَاهُ [الْقطَّان] من الشَّافِعِيَّة عَن بعض الْأُصُولِيِّينَ، فَلَا وَجه لإنكاره بحثا. قلت: وَيحْتَمل أَن يكون لكل من الْمُعْتَزلَة والأشعرية، وَلكنه ضَعِيف شَاذ عِنْد كل من الطَّائِفَتَيْنِ لم يشْتَهر، وَهُوَ أولى من النَّفْي، فَإِن النَّاقِل من الطَّائِفَتَيْنِ قد يكون ثِقَة من الْأَئِمَّة، فَهُوَ مقدم على النَّافِي فِيمَا يظْهر، وَلَا يُقَال: هَذَا نفي مَحْصُور، أَو تتبعنا فَلم نجد نقلا بِهِ، وَالله أعلم. {وَقيل: بِالْوَقْفِ} لتعارض الْأَدِلَّة. {وَعَن الْمُعْتَزلَة كَالْقَاضِي} أبي يعلى. يَعْنِي: أَنهم قَالُوا: الْوَاجِب وَاحِد يتَعَيَّن بِالْفِعْلِ. { [وَقَالَ بعض الْمُعْتَزلَة] } : الْوَاجِب وَاحِد {معِين} عِنْد الله، {وَيسْقط بِغَيْرِهِ} إِذا فعله الْمُكَلف، وَيكون نفلا أسقط فرضا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 892 ورد: بالِاتِّفَاقِ على أَنه فعل الْوَاجِب لَا بدله. { [وَقَالَ بعض الْمُعْتَزلَة] } أَيْضا {كلهَا وَاجِب على التَّخْيِير} ، وَهُوَ مَنْقُول عَن الجبائي وَابْنه، وَنسبه قوم إِلَى كل الْمُعْتَزلَة، وتبعهم قوم من الْفُقَهَاء كَمَا نَقله ابْن الباقلاني. { [وَمعنى ذَلِك] : أَن كل وَاحِد مُرَاد} لَا على معنى أَنه يجب الْإِتْيَان بِكُل وَاحِد، بل على أَنه لَا يجوز الْإِخْلَال بِالْجَمِيعِ، فعلى هَذَا لَا خلاف فِي " الْمَعْنى "، بل فِي الْعبارَة، وَإِنَّمَا مَأْخَذ الْمُعْتَزلَة: أَن الحكم عِنْدهم يتبع الْحسن والقبح العقليين، فَلَو كَانَ أحد الْخِصَال وَاجِبا، لزم خلو الْبَاقِي عَن الْحسن الْمُقْتَضِي للْإِيجَاب، فيرتفع الْمُقْتَضِي فِي كل وَاحِد وَاحِد. كَذَا قرر أَن الْخلاف لَفْظِي: ابْن الباقلاني، وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 893 وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَابْن الْقشيرِي، وَابْن برهَان، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وسليم الرَّازِيّ، والرازي، وَأَتْبَاعه. وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: (بل الْخلاف معنوي، لأَنا نخطئهم فِي إِطْلَاق اسْم الْوُجُوب على الْجَمِيع، لإِجْمَاع الْمُسلمين على أَن الْوَاجِب فِي الْكَفَّارَة المخيرة أحد الْأُمُور) . وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي: (الَّذِي يظْهر من كَلَام الْغَزالِيّ، وَابْن فورك: أَنه معنوي) . وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن التلمساني وَغَيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 894 وَقيل: (تظهر فَائِدَته فِي الثَّوَاب وَالْعِقَاب، إِذا فعل الْجَمِيع، أَو أخل بِالْكُلِّ) وَهُوَ ضَعِيف. دَلِيل أَرْبَاب القَوْل الأول وَهُوَ الصَّحِيح -: أَنه يجوز التَّكْلِيف بِهِ عقلا: كتكليف السَّيِّد عَبده بِفعل هَذَا الشَّيْء أَو ذَاك، على أَن يثيبه على أَيهمَا فعل، ويعاقبه بترك الْجَمِيع، وَلَو أطلق لم يفهم وجوبهما، وَالنَّص دلّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لم يرد الْجَمِيع وَلَا وَاحِدًا بِعَيْنِه، لِأَنَّهُ خَيره، وَلَو أوجب التَّخْيِير الْجَمِيع، لَوَجَبَتْ عتق الْجَمِيع إِذا وَكله فِي إِعْتَاق أحد عبديه، وتزويج موليته بالخطابين، إِذا وكلته فِي التَّزْوِيج بِأَحَدِهِمَا. قَالُوا: غير الْمعِين مَجْهُول فَلَا يشْعر بِهِ، ويستحيل وُقُوعه فَلَا يُكَلف بِهِ. ورد: بتعيينه من حَيْثُ هُوَ وَاجِب، وَهُوَ وَاحِد من الثَّلَاثَة، فَيَنْتَفِي الشخصي، فصح إطلاقهما عَلَيْهِ باعتبارين. قَالُوا: لَو لم يجب الْجَمِيع لوَجَبَ وَاحِد، فَإِن تعين فَلَا تَخْيِير، أَو وَقع التَّخْيِير بَين وَاجِب وَغَيره، وَإِن لمة يتعسن فواحد غير وَاجِب، فَإِن تعدد لزم التَّخْيِير بَين وَاجِب وَغَيره، وَإِن اتَّحد اجْتمع الْوُجُوب وَعَدَمه. رد: يلْزم فِي الْإِعْتَاق وَالتَّزْوِيج، ثمَّ الْوَاجِب لم يُخَيّر فِيهِ لإبهامه، والمخير فِيهِ لم يجب لتعيينه، وَهِي الْأَفْرَاد الثَّلَاثَة، وَلِأَنَّهُ يَتَعَدَّد الْوُجُوب والتخيير، فتعدد متعلقاهما: الْوَاجِب والمخير، كَمَا لَو حرم الشَّارِع وَاحِدًا وَأوجب وَاحِدًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 895 قَالُوا: يجب أَن يعلم الْآمِر مَا أوجبه، لِاسْتِحَالَة طلب غير مُتَصَوّر. رد: يُعلمهُ حسب مَا أوجبه، وَإِذا أوجبه غير معِين علمه كَذَلِك. قَالُوا: علم مَا يَفْعَله الْمُكَلف، فَكَانَ الْوَاجِب، لِأَنَّهُ يمْتَنع إِيجَابه مَا علم عدم وُقُوعه. رد: بِمَنْعه، ثمَّ لم يجب بخصوصة للْقطع بتساوي النَّاس فِي الْوَاجِب إِجْمَاعًا. فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهمَا: حرر ابْن الْحَاجِب معنى الْإِبْهَام فِيهِ، فَقَالَ: (مُتَعَلق الْوُجُوب هُوَ الْقدر الْمُشْتَرك بَين الْخِصَال، وَلَا تَخْيِير فِيهِ لِأَنَّهُ وَاحِد، وَلَا يجوز تَركه، ومتعلق التَّخْيِير خصوصيات الْخِصَال الَّتِي فِيهَا التَّعَدُّد، وَلَا وجوب فِيهَا ". قَالَ السُّبْكِيّ الْكَبِير: (وَعِنْدِي زِيَادَة أُخْرَى فِي التَّحْرِير، وَهِي: أَن الْقدر الْمُشْتَرك يُقَال على المتواطي كَالرّجلِ، وَلَا إِبْهَام فِيهِ، فَإِن حَقِيقَته مَعْلُومَة متميزة [عَن غَيرهَا] من الْحَقَائِق، وَيُقَال على الْمُبْهم من شَيْئَيْنِ أَو أَشْيَاء كَأحد الرجلَيْن. وَالْفرق بَينهمَا: أَن الأول لم يقْصد فِيهِ إِلَّا الْحَقِيقَة، وَالثَّانِي قصد فِيهِ ذَلِك مَعَ أحد الشخصين بِعَيْنِه، أَي: لَا بِاعْتِبَار معنى مُشْتَرك بَينهمَا، وَإِن لم يعين، وَلذَلِك سمي مُبْهما، لِأَنَّهُ أبهم علينا أمره، فَلَا يُقَال فِي الأول الَّذِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 896 هُوَ نَحْو: أعتق رَقَبَة -: إِنَّه وَاجِب مُخَيّر، لِأَنَّهُ لم يقل أحد فِيهِ: بتعلق الحكم [بخصوصياته] ، بِخِلَاف الثَّانِي، فَإِنَّهُم أَجمعُوا على تَسْمِيَته مُخَيّرا، وَمن الأول أَكثر أوَامِر الشَّرِيعَة. فَيتَعَيَّن أَن الْقدر الْمُشْتَرك فِي الثَّانِي أخص من الْقدر الْمُشْتَرك فِي الأول، وَإِلَيْهِ يرشد قَوْلهم: من أُمُور مُعينَة. وَالْمعْنَى: أَن النّظر إِلَيْهَا من حَيْثُ تعينها وتميزها مَعَ الْإِبْهَام احْتِرَاز من الْقسم الأول) انْتهى. الثَّانِيَة: مَحل الْخلاف فِي صِيغَة وَردت يُرَاد بهَا التَّخْيِير، أَو مَا فِي معنى وُرُود ذَلِك، كَمَا سبق التَّمْثِيل بِهِ. فَأَما نَحْو تَخْيِير المستنجئ بَين المَاء وَالْحجر، والناسك بَين الْإِفْرَاد والتمتع وَالْقرَان، وَنَحْو ذَلِك، فَلَيْسَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لم يرد تَخْيِير بِلَفْظ وَلَا بِمَعْنَاهُ، بِخِلَاف مَا تقدم. قَوْله: {تَنْبِيه: لَا يجب أَكثر من وَاحِدَة إِجْمَاعًا} . وَهُوَ وَاضح، لِأَنَّهُ قد خَيره فِي ذَلِك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 897 { [وَإِن] كفر بهَا مرتبَة فَالْوَاجِب الأول إِجْمَاعًا} . لِأَنَّهُ الَّذِي أسقط الْفَرْض، وَالَّذِي بعده لم يُصَادف وجوبا فِي الذِّمَّة. {أَو مَعًا} . يَعْنِي: إِذا كفر بهَا مَعًا فِي وَقت وَاحِد، وَيتَصَوَّر ذَلِك، وصورها أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " شرح اللمع ": بِأَن يكون قد بَقِي عَلَيْهِ من الصَّوْم يَوْم ووكل فِي الْإِطْعَام وَالْعِتْق. قلت: وَأولى مِنْهَا من كَفَّارَة الْيَمين، بِأَن يُوكل شخصا يطعم وشخصاً يكسو أَو يعْتق، وَهُوَ فِي آن وَاحِد، أَو يُوكل فِي الْكل، وَيفْعل فِي وَقت وَاحِد. إِذا علم ذَلِك؛ { [فَلَا] يُثَاب ثَوَاب الْوَاجِب على كل وَاحِد إِجْمَاعًا، بل على أَعْلَاهَا} ، لِأَنَّهُ لَا ينقصهُ مَا انْضَمَّ إِلَيْهِ، وترجيح الْأَعْلَى لكَون الزِّيَادَة فِيهِ لَا يَلِيق بكرم الله تَعَالَى تضييعها على الْفَاعِل، مَعَ الْإِمْكَان وقصدها بِالْوُجُوب وَإِن اقْترن بِهِ آخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 898 {وَإِن ترك الْكل لم يَأْثَم عَلَيْهِ} . أَي: على الْكل {إِجْمَاعًا} ، لِأَن الْكل لَيْسَ بِوَاجِب عَلَيْهِ حَتَّى يَأْثَم عَلَيْهِ إِذا تَركه. { [بل قَالَ] القَاضِي} أَبُو يعلى، {و} القَاضِي { [أَبُو الطّيب] } - محققين لذَلِك -: ( { [يَأْثَم] بِقدر عِقَاب أدناها، [لَا أَنه] [نفس عِقَاب أدناها] } ) . وَغَيرهمَا قَالَ: (يُعَاقب على الْأَدْنَى، لِأَن الْوُجُوب يسْقط بِهِ) . {وَقَالَ أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل: (يُثَاب على وَاحِد وَيَأْثَم بِهِ) } وَقيل: (يَأْثَم على وَاحِد لَا بِعَيْنِه كَمَا هُوَ وَاجِب عَلَيْهِ) ، وَلَعَلَّه قَول أبي الْخطاب، وَابْن عقيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 899 وَقيل: (يُثَاب على فعل الْكل على مَجْمُوع أُمُور، لَا يجوز ترك كلهَا، وَلَا يجب فعلهَا. أَي: ثَوَاب وَاجِبَات مخيرة، وَهُوَ أَزِيد من ثَوَاب بَعْضهَا، وَكَذَلِكَ الْعقَاب، يُعَاقب على ترك مَجْمُوع أُمُور، كَانَ الْمُكَلف مُخَيّرا بَين ترك أَي وَاحِد مِنْهَا شَاءَ بِشَرْط فعل الآخر) ، وَاخْتَارَ هَذَا الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه، وَلَا يخفى مَا فِيهِ من الغموض والإبهام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 900 وَقَوله: {فصل} {وَقت الْعِبَادَة إِمَّا بِقدر فعلهَا، وَهُوَ الْمضيق: كَالصَّوْمِ، أَو أقل فَمن الْمحَال} . أَي: التَّكْلِيف بِهِ من الْمحَال، مثل: أَن يُوجب عَلَيْهِ صَلَاة أَربع رَكْعَات كاملات فِي وَقت لَا يَسعهَا: كطرفة عين، وَنَحْوه. {أَو أَكثر} . أَي: وَقت الْعِبَادَة أَكثر من وَقت فعلهَا. {وَهُوَ الموسع [كالصلوات] المؤقتة، فَيتَعَلَّق} الْوُجُوب {بِجَمِيعِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 901 موسعاً، أَدَاء، [عِنْد أَصْحَابنَا] ، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَالْأَكْثَر} من الْمُتَكَلِّمين، والأشاعرة، وَغَيرهم، وَمن أهل الرَّأْي: مُحَمَّد بن شُجَاع الثَّلْجِي، وَأَبُو زيد الدبوسي. { [فعلى هَذَا القَوْل: أوجب] أَكثر أَصْحَابنَا والمالكية الْعَزْم [بدل الْفِعْل أول الْوَقْت] [إِذا أخر] ، وَيتَعَيَّن} الْفِعْل {آخِره} ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 902 وَذكره الرَّازِيّ عَن أَكثر الْمُتَكَلِّمين، وَنَقله الْمجد فِي " المسودة " عَن أَصْحَابنَا، وَنَقله الرَّازِيّ عَن أَكثر [الشَّافِعِيَّة] ، والمعتزلة، وَنَصره الباقلاني، والآمدي، وَصَححهُ النَّوَوِيّ فِي " شرح الْمُهَذّب ". {وَلم [يُوجِبهُ] أَبُو الْخطاب وَالْمجد} ابْن تَيْمِية، و {مَال إِلَيْهِ} القَاضِي أَبُو يعلى {فِي " الْكِفَايَة "} . وَادّعى التَّاج السُّبْكِيّ: (أَنه لَا يعرف الأول إِلَّا عَن ابْن الباقلاني وَمن تبعه، وَأَنه مَعْدُود من هفواته، وَمن العظائم فِي الدّين، فَإِنَّهُ إِيجَاب بِلَا دَلِيل) انْتهى. وَلم يمعن النّظر فِي النَّقْل وتحريره عَن أربابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 903 {وَقَالَ قوم: [يتَعَلَّق الْوُجُوب بِأول الْوَقْت، فَإِن أَخّرهَا عَنهُ] فقضاء} لحَدِيث: " الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت رضوَان الله، وَفِي آخِره عَفْو الله "، وَلَيْسَ الْمُقْتَضِي للعفو هُنَا إِلَّا الْعِصْيَان بِخُرُوج الصَّلَاة عَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 904 وَقتهَا مَعَ أَن هَذَا الحَدِيث ضَعِيف، ذكره ابْن مُفْلِح فِي " الْآدَاب " فِي مَسْأَلَة الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف. {وَقَالَ أَكثر الْحَنَفِيَّة: [يتَعَلَّق الْوُجُوب بآخر الْوَقْت] ، زَاد الْكَرْخِي: (أَو بِالدُّخُولِ فِيهَا) } . فَعنده: أَن الْوُجُوب يتَعَلَّق بآخر الْوَقْت، أَو بِالدُّخُولِ فِيهَا، فَيكون وَقتهَا أَيْضا -، فلهَا عِنْده وقتان يتَعَلَّق الْوُجُوب بهما بِالدُّخُولِ فِيهَا، وَإِلَّا بِالْآخرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 905 فعلى قَول أَكثر الْحَنَفِيَّة لَهُم قَولَانِ. أَحدهمَا: { [إِن] قدم} وَصلى قبل آخر الْوَقْت {فتعجيل} ، ويكن أَوله سَببا للْجُوَاز، فَإِذا أَتَى بهَا فِيهِ فتعجل لوُجُود السَّبَب: كإخراج الزَّكَاة قبل الْحول إِذا كمل النّصاب. وَهُوَ ظَاهر اخْتِيَار أبي الْمَعَالِي. ورد: بِأَن التَّقْدِيم لَا تصح فِيهِ نِيَّة التَّعْجِيل إِجْمَاعًا. نعم؛ هُوَ مَنْقُول عَن الْحَنَفِيَّة أَو أَكْثَرهم كَمَا نَقله أَبُو بكر الرَّازِيّ. وَكَذَلِكَ شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ نقل عَن [الثَّلْجِي] وَأكْثر مشايخهم الْعِرَاقِيّين ذَلِك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 906 وَلَكِن الدبوسي قَالَ فِي تَقْوِيم الْأَدِلَّة بِالْوُجُوب الموسع كَمَا تقدم، وأبطل القَوْل بتعليقه بالأخير. { [وَالْقَوْل الثَّانِي: نفل] يسْقط الْفَرْض} ، نَقله الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهمَا عَن الْحَنَفِيَّة. وَلَكِن بعض شارحي " الْهِدَايَة " قَالَ: (إِن هَذَا قَول ضَعِيف لبَعض أَصْحَابنَا وَلَيْسَ هَذَا مَنْقُولًا عَن أبي حنيفَة) انْتهى. وَضعف هَذَا القَوْل: بِأَن النَّفْل لَا يقوم مقَام الْفَرْض أبدا، حَتَّى لَو صلى ألف رَكْعَة بَدَلا عَن صَلَاة الصُّبْح مَا سَقَطت عَنهُ بذلك. قَوْله: {وَأَكْثَرهم} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 907 أَي: وَقَالَ أَكْثَرهم: {إِن بَقِي مُكَلّفا، فَمَا قدمه وَاجِب، [وَإِلَّا فَلَا وجوب] } . يَعْنِي: إِذا لم يبْق مُكَلّفا، وَكَانَ قد صلى فِي أول الْوَقْت. قَالَ ابْن مُفْلِح بعد نَقله عَن الْحَنَفِيَّة (أَنه يتَعَلَّق بِآخِرهِ) ، وَزِيَادَة الْكَرْخِي بِالدُّخُولِ -: (فَإِن قدمه فنفل يسْقط الْفَرْض، وَأَكْثَرهم: إِن بَقِي مُكَلّفا، فَمَا قدمه وَاجِب، وَعِنْدهم: [إِن] طَرَأَ مَا يمْنَع الْوُجُوب فَلَا وجوب) انْتهى. وَنقل غَيره عَن الْكَرْخِي: (أَن الْآتِي بِالْعبَادَة أول الْوَقْت إِن بَقِي بِصفة الْوُجُوب إِلَى آخر الْوَقْت أَي: بِصفة تَقْتَضِي تعلق الْوُجُوب بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 908 فَيكون مَا فعله حِينَئِذٍ وَاجِبا، وَإِن طَرَأَ مَا يمْنَع الْوُجُوب: كموت وجنون وحيض، تبين أَن فعله [فِي الْوَاجِب نفل] ) . وَنقل عَنهُ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " شرح اللمع ": (أَن الْوَاجِب يتَعَيَّن بِالْفِعْلِ فِي أَي وَقت كَانَ) ، وَحكى الْآمِدِيّ الْقَوْلَيْنِ عَنهُ كَمَا قُلْنَا قبل ذَلِك. قَوْله: {وَقيل: يتَعَلَّق بِوَقْت غير معِين، [ويتأدى بالمعين] كخصال الْكَفَّارَة، { [اخْتَارَهُ] ابْن عقيل [فِي " الْفُصُول "] ، وَابْن حمدَان} ، وَبَعض الْمُتَكَلِّمين نَقله عَنْهُم ابْن مُفْلِح {والرازي} نَقله عَنهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل {وَالْمجد} ابْن تَيْمِية، {وَقَالَ: يجب حمل مُرَاد أَصْحَابنَا عَلَيْهِ} ، [وَذكره] ابْن عقيل عَن الْكَرْخِي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 909 {ورد} بعض أَصْحَابنَا مَا قَالَ الْمجد، وَقد صرح القَاضِي وَابْن عقيل وَغَيرهمَا بِالْفرقِ لظَاهِر النَّص، وَالْكَفَّارَة هِيَ الدَّلِيل لوُجُوبهَا بِالْحِنْثِ، فَمَا أَدَّاهُ سبق وُجُوبه، كَذَا هُنَا. وَقَالَ ابْن عقيل: (التَّعْمِيم يزِيل معنى توسعة التَّخْيِير فِي التَّكْفِير، وتوسعة قيام شخص مقَام آخر فِي الْكِفَايَة بِالْبَعْضِ، وَهنا لم تزل الرُّخْصَة، وَفِيه فَائِدَة هِيَ: تعلق المأثم بِالتّرْكِ فِي كل الْوَقْت لَا يخْتَص بالأخير) . لنا على الْمَذْهَب الأول وَهُوَ الصَّحِيح قَول الله تَعَالَى: {أقِم الصَّلَوَات} الْآيَة، قيد بِجَمِيعِ وَقتهَا. وَصلى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوله وَآخره وَقَالَ: " الْوَقْت مَا بَينهمَا "، وَقَالَهُ لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 910 جِبْرِيل - أَيْضا عَلَيْهِ السَّلَام. وَلِأَنَّهُ لَو تعين جُزْء لم يَصح قبله، وَبعده قَضَاء فيعصي، وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع كَمَا تقدم. وَلِأَن وجوب الْعَزْم، والتخيير بَينه وَبَين الْفِعْل، وَتَعْيِين وَقت، تحكم لَا دَلِيل عَلَيْهِ. وَمن دَلِيل المنكرين للموسع: أَنه لَو وَجب لم يجز تَأْخِيره، إِذْ التَّأْخِير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 911 ترك، وَالْوَاجِب لَا يتْرك، كَمَا سبق نَظِيره فِي خِصَال الْكَفَّارَة. وَيُجَاب عَن هَذَا كَمَا هُنَاكَ -: أَن كل فَرد من الْمُخَير وكل جُزْء من الْوَقْت لَهُ جِهَة عُمُوم، وَهِي كَونه أحد أَشْيَاء، وجهة خُصُوص، وَهُوَ الشَّخْص الَّذِي يتَمَيَّز بِهِ عَن غَيره، ومتعلق الْوُجُوب: جِهَة الْعُمُوم، وَلَا تَخْيِير فِيهِ، وَلَا يجوز تَركه، أَي: بِأَن يخلي جَمِيع الْوَقْت مِنْهُ، أَو يتْرك جَمِيع الْخِصَال، وَمحل التَّخْيِير: جِهَة الْخُصُوص، وبتركه لَا يكون تَارِكًا للْوَاجِب. الْقَائِل بالعزم: كخصال الْكَفَّارَة. رد: بِأَنَّهُ ممتثل، لِأَنَّهُ مصل، لَا لأحد الْأَمريْنِ، وَبِأَنَّهُ يلْزم سُقُوط الْمُبدل إِذا أَتَى بِالْبَدَلِ كَسَائِر الأبدال، وَأَن يعم الْعَزْم جَمِيع الْوَقْت كمبدله، وَبِأَن فِي وُجُوبه فِي جُزْء ثَان يَقْتَضِي تعدده، والمبدل وَاحِد، وَبِأَن وجوب الْعَزْم لَا يدل على التَّخْيِير لوُجُوبه فِي كل أَمر ديني إِجْمَاعًا، وَبِأَنَّهُ يجب قبل دُخُول وَقت الْمُبدل. وَبَعْضهمْ منع هَذَا، وَبَعْضهمْ أوجب الْعِبَادَة قبل وَقتهَا. وَقَول الشَّيْخ فِي " الرَّوْضَة ": لَا يتْرك الْعَزْم على الْفِعْل إِلَّا عَازِمًا على التّرْك مُطلقًا) ، مَمْنُوع، فَلهَذَا أثمه بالتردد مَبْنِيّ على وجوب الْعَزْم، وَإِنَّمَا لم يعْص بِتَأْخِيرِهِ أول الْوَقْت لِأَنَّهُ كقضاء رَمَضَان وخصال الْكَفَّارَة. فَائِدَة: قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (الْخطاب الموسع والمخير وَفرض الْكِفَايَة جَمِيعًا مُتَعَلق بِالْقدرِ الْمُشْتَرك، فَيجب تَحْصِيله وَيحرم تعطيله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 912 فالمشترك فِي الموسع: مَفْهُوم الزَّمَان ومطلقه من الْوَقْت الْمُقدر الْمَحْدُود شرعا، بِمَعْنى: أَن الْوَاجِب إِيقَاعه [فِيمَا] يصدق عَلَيْهِ اسْم زمن من أزمنة الْوَقْت الشَّرْعِيّ، فَمَتَى أوقعهَا فِي هَذَا الزَّمَان الْمُطلق كَانَ آتِيَا بالمشترك فَيخرج عَن عُهْدَة الْوَاجِب [إداء] . والمشترك فِي الْمُخَير: هُوَ مَفْهُوم أحد الْخِصَال، فَهُوَ مُتَعَلق الْوُجُوب، وَأما مُتَعَلق التَّخْيِير، فَهُوَ خصوصيات الْخِصَال من إطْعَام أَو كسْوَة أَو عتق كَمَا تقدم، فَالْوَاجِب الْإِتْيَان بِإِحْدَى الْخِصَال وَهُوَ الْمُشْتَرك بَين جَمِيعهَا، وَلَا يتْرك الْجَمِيع لِئَلَّا يتعطل الْمُشْتَرك، لِأَن الْجَمِيع أَعم من الْمُشْتَرك، وتارك الْأَعَمّ تَارِك الْأَخَص ومعطل لَهُ، وَله الْخِيَار بَين خصوصيات الْخِصَال، فَالْوَاجِب وَهُوَ الْمُشْتَرك لَا تَخْيِير فِيهِ، إِذْ لَا قَائِل: بِأَنَّهُ إِن شَاءَ فعل إِحْدَى الْخِصَال، وَإِن شَاءَ ترك، والمخير فِيهِ وَهُوَ خصوصيات الْخِصَال لَا وجوب فِيهِ، إِذْ لَا قَائِل بِأَن الْوَاجِب عَلَيْهِ جَمِيع الْخِصَال على الْجمع. والمشترك فِي فرض الْكِفَايَة: مَفْهُوم أَي طوائف الْمُكَلّفين كَانَ، كإحدى الْخِصَال. وَالْفرق بَين الْأَبْوَاب الثَّلَاثَة: أَن الْمُشْتَرك فِي فرض الْكِفَايَة: هُوَ الْوَاجِب عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُكَلف، وَفِي الْمُخَير: هُوَ الْوَاجِب نَفسه، وَهُوَ إِحْدَى الْخِصَال، وَفِي الموسع هُوَ الْوَاجِب فِيهِ، وَهُوَ الزَّمَان) انْتهى مُلَخصا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 913 قَوْله: {فَائِدَة: يسْتَقرّ الْوُجُوب عندنَا بِأول الْوَقْت، وَعنهُ: بِإِمْكَان الْأَدَاء [كَقَوْل الشَّافِعِي] ، وَقَالَ مَالك وَالشَّيْخ: بضيقه} . الصَّحِيح من الْمَذْهَب: أَن الْوُجُوب يسْتَقرّ بِأول الْوَقْت، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، وَقَالَهُ بعض الشَّافِعِيَّة. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (وَإِن دخل الْوَقْت بِقدر تَكْبِيرَة وَأطْلقهُ أَحْمد، فَلهَذَا قيل: بِجُزْء) انْتهى. لِأَن دُخُول الْوَقْت سَبَب للْوُجُوب فترتب عَلَيْهِ حكمه عِنْد وجوده؛ لِأَنَّهَا صَلَاة وَجَبت عَلَيْهِ فَوَجَبَ قَضَاؤُهَا إِذا فَاتَتْهُ كَالَّتِي أمكن أَدَاؤُهَا. وَعنهُ " لَا يسْتَقرّ الْوُجُوب إِلَّا بِإِمْكَان الْأَدَاء من الْوَقْت، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأكْثر أَصْحَابه، وَاخْتَارَهُ جمَاعَة من أَصْحَابنَا مِنْهُم: ابْن بطة، وَابْن أبي مُوسَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم يدْرك من الْوَقْت مَا يُمكنهُ الصَّلَاة فِيهِ، أشبه مَا لَو لم يدْرك شَيْئا. ورد الْقيَاس، لِأَن قِيَاس الْوَاجِب على مَا لم يجب لَا يَصح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 914 وَعند الشَّافِعِيَّة وَجه آخر: أَنه لَا يسْتَقرّ حَتَّى يدْرك مَعَ الْوَقْت أَدَاء جُزْء، وَهُوَ قَول لِابْنِ سُرَيج، قَالَ: (وَإِلَّا لما جَازَ أَن يقصرها إِذا سَافر آخر وَقتهَا لاستقرار فَرضهَا) . ورد: بِأَن الْقصر من صِفَات الْأَدَاء. وَقَالَ الإِمَام مَالك وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين: لَا يسْتَقرّ الْوُجُوب إِلَّا بِضيق الْوَقْت، نَقله ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ". وَتظهر فَائِدَة الْمَسْأَلَة: إِذا طَرَأَ جُنُون أَو حيض، هَل تقضي أم لَا؟ على الْخلاف الْمُتَقَدّم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 915 قَوْله: {فصل} {من أخر الْوَاجِب الموسع مَعَ ظن مَانع، موت أَو غَيره، أَثم إِجْمَاعًا} . لتضيقه عَلَيْهِ بظنه. وَقَوله: (أَو غَيره) ، مِثْلَمَا إِذا ظنت حيضا فِي أثْنَاء الْوَقْت وَكَانَ لَهَا عَادَة بذلك، أَو أعير ستْرَة أول الْوَقْت فَقَط، أَو متوضئ عدم المَاء فِي السّفر وطهارته لَا تبقى إِلَى آخر الْوَقْت، وَلَا يَرْجُو وجوده، ومستحاضة لَهَا عَادَة بِانْقِطَاع دَمهَا فِي وَقت [يَتَّسِع] لفعلها. قَالَ الْأَصْحَاب: (فَيتَعَيَّن فعل الصَّلَاة فِي ذَلِك الْوَقْت فِي هَذِه الصُّور، وَلَا يجوز لَهُ التَّأْخِير) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 916 { [قَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه "] : يَأْثَم مَعَ عدم ظن الْبَقَاء إِجْمَاعًا} . وَهَذِه الطَّرِيقَة فِي حِكَايَة الْإِجْمَاع أَعم من الَّتِي قبلهَا، فَإِنَّهُ يدْخل فِي هَذَا الْإِجْمَاع: مَا إِذا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ، وَمَا إِذا ظن الْمَوْت، وَهُوَ ضَعِيف فِي الْمَسْأَلَة الأولى، فَفِي حِكَايَة الْإِجْمَاع على هَذِه الصّفة نظر فِيمَا يظْهر. وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي: (لَا يُؤَخر إِلَّا إِلَى وَقت يظنّ بَقَاءَهُ إِلَيْهِ) . قَوْله: {ثمَّ إِن بَقِي فَفعله فِي وقته فأداء} . هَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء، مِنْهُم: الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وأتباعهم، وَغَيرهم، لبَقَاء الْوَقْت، وَلَا عِبْرَة بِالظَّنِّ الْبَين خَطؤُهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 917 5 - {وَخَالف [القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني، وَالْقَاضِي الْحُسَيْن الشَّافِعِي] } ، وَقَالا: (يكون قَضَاء لضيق وقته بظنه) . وألزمهما بَعضهم: (أَن يوجبا نِيَّة الْقَضَاء، وَأَن يَأْثَم بِالتَّأْخِيرِ من اعْتقد قبل الْوَقْت انقضاؤه) . قَالَ الطوفي: (لَهُ الْتِزَامه، وَمنع وَقت الْأَدَاء فِي الأول، وعصيانه فِي الثَّانِي، لعدوله عَن منَاط التَّعَبُّد وَهُوَ مَا ظَنّه حَقًا) . قَالَ ابْن مُفْلِح: (كَذَا قَالَ) . وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: (لَا يعرف هَذَا القَوْل عَن القَاضِي الْحُسَيْن، إِلَّا أَن يكون أَخذ ذَلِك من إِفْسَاد الصَّلَاة ثمَّ فعلهَا فِي الْقُوت، فَإِنَّهُ من الْقَائِلين بِأَنَّهَا قَضَاء، على مَا يَأْتِي) . قَوْله: {وَمن لَهُ [تَأْخِيرهَا] وَمَات، لم يعْص فِي الْأَصَح [كالأربعة] } وَغَيرهم. الحديث: 5 ¦ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 918 وَحَكَاهُ بعض أَصْحَابنَا إِجْمَاعًا، لِأَنَّهُ فعل مَا لَهُ فعله، وَاعْتِبَار سَلامَة الْعَاقِبَة مَمْنُوع، لِأَنَّهُ غيب فَلَيْسَ [إِلَيْنَا] . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (وَمن لَهُ التَّأْخِير فَمَاتَ قبل الْفِعْل لم يَأْثَم فِي الْأَصَح، وفَاقا للأئمة الْأَرْبَعَة، [وَلنَا وَجه: يَأْثَم، كَقَوْل بعض الشَّافِعِيَّة] . قَالَ القَاضِي من أَصْحَابنَا وَغَيره بعد أَن ذكر مَا تقدم -: وعَلى أَنه [لَا يمْتَنع أَنه لَا يَأْثَم] ، وَالْحق فِي الذِّمَّة، كَدين مُعسر لَا يسْقط بِمَوْتِهِ، وَلَا يَأْثَم بِالتَّأْخِيرِ، لدُخُول النِّيَابَة، لجَوَاز الْإِبْرَاء، وَقَضَاء الْغَيْر عَنهُ. وَقيل للْقَاضِي: لَو وَجَبت الزَّكَاة لطولب بهَا فِي الْآخِرَة، ولحقه المأثم كَمَا لَو أمكنه؟ فَقَالَ: هَذَا لَا يمْنَع من ثيوت الْحق فِي الذِّمَّة، بِدَلِيل الْمُؤَجّر والمعسر بِالدّينِ) انْتهى. وَلابْن عقيل معنى ذَلِك فِي " الْفُنُون ". قَوْله: { [وَيسْقط] بِمَوْتِهِ عِنْدهم} . أَي: عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 919 قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه " كَمَا تقدم -: (وَمن لَهُ التَّأْخِير فَمَاتَ قبل الْفِعْل لم يَأْثَم فِي الْأَصَح وفَاقا، وَيسْقط إِذن بِمَوْتِهِ وفَاقا. قَالَ القَاضِي وَغَيره: لِأَنَّهَا لَا تدْخلهَا النِّيَابَة، فَلَا فَائِدَة فِي بَقَائِهَا فِي الذِّمَّة، بِخِلَاف الزَّكَاة وَالْحج) انْتهى. قَوْله: { [وَيَأْثَم بِالْحَجِّ] } . أَي: بِتَأْخِير إِلَى الْمَوْت، {فِي الْأَصَح للشَّافِعِيَّة} . { [وَقَالَ] الْغَزالِيّ [وَحكي عَن الشَّافِعِي]-: [يَعْصِي الشَّيْخ] } دون غَيره. للشَّافِعِيَّة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا وَهُوَ الصَّحِيح من مَذْهَبهم -: يَأْثَم لتأخيره عَن وقته وَهُوَ الْعُمر فَيَمُوت عَاصِيا، لِأَنَّهُ [لما لم] يعلم الآخر، كَانَ جَوَاز التَّأْخِير لَهُ مَشْرُوط بسلامة الْعَاقِبَة، بِخِلَاف الموسع، وَهُوَ الْمَعْلُوم الطَّرفَيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 920 وَحكى ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " التأثيم فِي الْحَج عَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة. وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: (لَا يَأْثَم بِمَوْتِهِ، لِئَلَّا تبطل رخصَة التَّأْخِير) ، ثمَّ ألزم بالموسع. وَحكى بَعضهم عَن الشَّافِعِي: (أَن الشَّيْخ يَأْثَم وَلَا يَأْثَم الشَّاب الصَّحِيح) ، وَاخْتَارَهُ الْغَزالِيّ. وَفرقُوا أَيْضا على الأول بَينه وَبَين الموسع: بِأَن بِالْمَوْتِ فِي الْحَج خرج وقته، وبالموت فِي أثْنَاء وَقت الصَّلَاة لم يخرج وَقتهَا، وَنَظِير الْحَج: أَن يَمُوت آخر وَقت الصَّلَاة، أَو قبله بِمَا لَا يَسعهَا، فَإِنَّهُ يَعْصِي حِينَئِذٍ. وَحكى الْجَوْزِيّ وَالظَّاهِر أَنه من الشَّافِعِيَّة تَقْدِير التَّأْخِير المستنكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 921 بِبُلُوغِهِ نَحوا من خمسين سنة، وَالأَصَح: من استمداد الْعِصْيَان وَإِلَى آخر سني الْإِمْكَان، بِجَوَاز التَّأْخِير إِلَيْهَا، وَقيل: إِلَى أَولهَا لاستقرار الْوُجُوب حِينَئِذٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 922 قَوْله: {فصل} {مَا لَا يتم [الْوُجُوب] إِلَّا بِهِ لَيْسَ بِوَاجِب مُطلقًا إِجْمَاعًا} . سَوَاء قدر عَلَيْهِ الْمُكَلف: كاكتساب المَال لِلْحَجِّ، وَالْكَفَّارَات، وَنَحْوهمَا. قَالَ ابْن عقيل وَغَيره: (وإرغاب العَبْد سَيّده فِي كِتَابَته بِمَال كثير) . أَو لم يقدر عَلَيْهِ: كَالْيَدِ فِي الْكِتَابَة، وَحُضُور الإِمَام وَالْعدَد الْمُشْتَرط فِي الْجُمُعَة، فَإِنَّهُ لَا صنع للمكلف فِيهِ. قَوْله: {وَمَا لَا يتم الْوَاجِب الْمُطلق إِلَّا بِهِ وَهُوَ مَقْدُور للمكلف، فَوَاجِب عندنَا، وَعند الشَّافِعِيَّة، وَالْأَكْثَر} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 923 مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ لَا يَخْلُو، إِمَّا أَن يكون جُزْءا للْوَاجِب، أَو خَارِجا عَنهُ: كالشرط، وَالسَّبَب. فَإِن كَانَ الأول فَهُوَ وَاجِب اتِّفَاقًا، لِأَن الْأَمر بالماهية المركبة، أَمر بِكُل وَاحِد من أَجْزَائِهَا ضمنا، فَالْأَمْر بِالصَّلَاةِ مثلا، أَمر بِمَا فِيهَا من رُكُوع وَسُجُود وَتشهد وَغير ذَلِك. وَإِن كَانَ الثَّانِي، فَهُوَ مَحل الْخلاف. فأقسام مَا لَا يتم الْوَاجِب الْخَارِج إِلَّا بِهِ وَهُوَ الْمُسَمّى بالمقدمة المتوقف عَلَيْهَا سِتَّة، مَحل الْخلاف فِيهَا لَا غير، وَهِي: السَّبَب، وَالشّرط، وكل وَاحِد مِنْهُمَا إِمَّا شَرْعِي، أَو عَقْلِي، أَو عادي، فَهَذِهِ سِتَّة أَقسَام. مِثَال السَّبَب الشَّرْعِيّ: صِيغَة الْعتْق فِي الْوَاجِب من كَفَّارَة أَو نذر، وَكَذَا صِيغَة الطَّلَاق حَيْثُ وَجب. وَمِثَال السَّبَب الْعقلِيّ: النّظر الْموصل إِلَى الْعلم. وَمِثَال السَّبَب العادي: السّفر إِلَى الْحَج. وَمِثَال الشَّرْط الشَّرْعِيّ: الطَّهَارَة للصَّلَاة وَنَحْوهَا. وَمِثَال الشَّرْط الْعقلِيّ: ترك أضداد الْمَأْمُور بِهِ. وَمِثَال الشَّرْط العادي: غسل الزَّائِد على حد الْوَجْه فِي غسل الْوَجْه، ليتَحَقَّق غسل جَمِيعه. فَالشَّرْط الشَّرْعِيّ: مَا جعله الشَّارِع شرطا، وَإِن أمكن وجود الْفِعْل بِدُونِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 924 وَالشّرط الْعقلِيّ: مَا لَا يُمكن وجود الْفِعْل بِدُونِهِ عقلا. وَالشّرط العادي: مَا لَا يُمكن عَادَة. إِذا علم ذَلِك؛ فَالصَّحِيح من مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيَّة وَالْأَكْثَر، وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن الْمُعْتَزلَة: أَن مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ وَاجِب، إِذا كَانَ مَقْدُورًا للمكلف، ثمَّ اخْتلف فِي كَون وجوب الْمُقدمَة متلقى من نفس صِيغَة الْأَمر بِالْأَصْلِ، أَو من دلَالَة الصِّيغَة، قَولَانِ لَهُم، الثَّانِي قَول الْجُمْهُور. قَالَ ابْن برهَان: (لِأَن المتلقى من الصِّيغَة، مَا كَانَ مسموعاً مِنْهَا) . وينحل ذَلِك إِلَى أَن الدّلَالَة عَلَيْهِ بالتضمن أَو بالإلتزام، وَصرح بِالْأولِ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان "، و " التَّلْخِيص ". وَتَقْرِيره: أَنه إِذا تقرر التَّوَقُّف ثمَّ جَاءَ الْأَمر، كَانَ كَأَنَّهُ مُصَرح بِوُجُوب الْمَجْمُوع بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 925 وَاخْتلف أَيْضا فِي الْإِيجَاب، هَل هُوَ شَرْعِي أَو عَقْلِي؟ فِيهِ خلاف، وَلَعَلَّ مأخذه مَا سبق فِي كَونه مأخوذاً من الْأَمر، أَو من دلَالَة الْأَمر، وَهل هُوَ بالتضمن أَو بالالتزام؟ {وَقيل: إِن كَانَ سَببا} بأقسامه وَجب، وَإِلَّا فَلَا: كالنار للإحراق فِيمَا إِذا وَجب إحراق شخص، فَإِنَّهُ يتَوَقَّف على وجود النَّار، الَّتِي هِيَ سَبَب للإحراق، بِخِلَاف الشَّرْط فَإِنَّهُ لَا يجب، ويعزى هَذَا القَوْل للشريف المرتضى، وَصَاحب المصادر من الْمُعْتَزلَة. بِخِلَاف الشَّرْط: كَالْوضُوءِ للصَّلَاة، فَلَا يجب لوُجُوب مشروطه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 926 وَالْفرق: أَن السَّبَب لاستناد الْمُسَبّب إِلَيْهِ، أَشد ارتباطاً من الشَّرْط بالمشروط. {وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي، وَابْن برهَان، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن حمدَان، والطوفي: أَو شرطا شَرْعِيًّا} . يَعْنِي: أَن هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة، أوجبوا مَا كَانَ سَببا بأقسامه كالقول الَّذِي قبله وَزَادُوا، فأوجبوا أَيْضا من الشُّرُوط الشَّرْط الشَّرْعِيّ: كالطهارة للصَّلَاة وَنَحْوه، وَلم يوجبوا الشَّرْط الْعقلِيّ وَلَا العادي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 927 {و} حُكيَ {عَن الْمُعْتَزلَة: [أَنه] لَيْسَ بِوَاجِب} ، سَوَاء كَانَ سَببا بأقسامه، أَو شرطا بأقسامه. {قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: ( [لَا يجب] إمْسَاك جُزْء من اللَّيْل} فِي الصَّوْم، {فِي [أصح الْوَجْهَيْنِ] ) } . لَكِن كَلَامه مَا يَشْمَل إِلَّا عدم اشْتِرَاط الشَّرْط العادي، وَقد يكون قَائِلا بِوُجُوب الشَّرْط الشَّرْعِيّ. قلت: قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (لَا يجب إمْسَاك جُزْء من اللَّيْل فِي أَوله وَآخره، فِي ظَاهر كَلَام جمَاعَة، وَصرح بِهِ كثير، وَذكر ابْن الْجَوْزِيّ أَنه أصح الْوَجْهَيْنِ، خلافًا لمَالِك فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ، وَقطع جمَاعَة بِوُجُوبِهِ فِي أصُول الْفِقْه وفروعه، وَأَنه مِمَّا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ، وَذكره فِي " الْفُنُون "، وَأَبُو يعلى " الصَّغِير "، وفَاقا فِي صَوْم يَوْم لَيْلَة الْغَيْم، وَهُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 928 يُنَاقض مَا ذَكرُوهُ هُنَا، وَذكره القَاضِي فِي الْخلاف فِي النِّيَّة من اللَّيْل ظَاهر كَلَام أَحْمد، وَأَنه مَذْهَبنَا؛ لِئَلَّا يفوت بعض النَّهَار عَن النِّيَّة، وَالصَّوْم يدْخل فِيهِ بِغَيْر فعله فَلَا يُمكنهُ مُقَارنَة النِّيَّة حَال الدُّخُول، بِخِلَاف الصَّلَاة، [كَذَا قَالَ] ، وَسبق فِي النِّيَّة من اللَّيْل) انْتهى. وَحكى ابْن الْحَاجِب: أَنه لَا خلاف فِي السَّبَب بأقسامه. وَحكى شَيْخه الأبياري: أَنه لَا خلاف فِي الشَّرْط الشَّرْعِيّ. ويردهما حِكَايَة الْخلاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 929 اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول وَهُوَ الصَّحِيح بِمَا اعْتمد عَلَيْهِ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَغَيره: أَن الْأَمر بالشَّيْء مُطلقًا، يسْتَلْزم وُجُوبه فِي كل أَحْوَاله الممكنة، فَيَقْتَضِي وجوب لَازمه، وَإِلَّا كَانَ وَاجِبا حَال عَدمه، وَهُوَ محَال. وتقييده بِوَقْت وجود لَازمه خلاف ظَاهر الْأَمر، لِأَنَّهُ مُطلق، وَاللَّازِم لَا يَنْفِيه اللَّفْظ، لعدم دلَالَته عَلَيْهِ، فَلَا مُخَالفَة لظاهره. وَقَالَ ابْن عقيل: مَا عرف من اطراد الْعَادة كالملفوظ، وَلِأَنَّهُ لَو لم يجب الشَّرْط لم يكن شرطا لجَوَاز [تَركه] . وَاسْتدلَّ أَيْضا -: لَو لم يجب صَحَّ الْفِعْل دونه، وَإِلَّا لزمَه تَكْلِيف الْمحَال بِتَقْدِير عَدمه، وَلما وَجب التَّوَصُّل إِلَى الْوَاجِب. ورد: إِن أُرِيد بِالصِّحَّةِ وَالْوُجُوب: مَا لَا بُد مِنْهُ، فَمُسلم، [وَلَا] يلْزم أَنه مَأْمُور بِهِ، وَإِن أُرِيد، مَأْمُور بِهِ، فَأَيْنَ دَلِيله؟ وَإِن سلم أَن التَّوَصُّل وَاجِب فَفِي الْأَسْبَاب المستلزمة لمسبباتها، لَا لنَفس الْأَمر بِالْفِعْلِ. قَالُوا: {لَو وَجب لزم تعقل] الْمُوجب لَهُ، وَلم يكن تعلق الْوُجُوب لنَفسِهِ لتوقف تعلقه على تعلقه بملزومه، والطلب لَا يتَعَلَّق بِغَيْر الْمَطْلُوب، ولامتنع التَّصْرِيح بِغَيْر وُجُوبه، ولأثم بِتَرْكِهِ، ولانتفى الْمُبَاح، ولوجبت نِيَّته. رد الأول: إِنَّمَا يلْزم لَو وَجب أصلا لَا تبعا، ثمَّ ينْتَقض بِالشُّرُوطِ. ورد الثَّانِي: بِأَنَّهُ أَرَادَ التَّعَلُّق بِالْأَصَالَةِ مَعَ انْتِفَاء التَّالِي، فَإِن تعلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 930 الْوُجُوب باللازم فرع تعلقه بملزومه، وَإِلَّا فَتعلق الْوُجُوب النَّاشِئ من وجوب الأول يتَعَلَّق باللازم لذاته، ثمَّ ينْتَقض بِالشّرطِ. ورد الثَّالِث: بِمَنْع الْمُلَازمَة فِي الْقَادِر على غسل الْوَجْه دون غسل جُزْء من الرَّأْس، وَنفي التَّالِي فِي الْعَاجِز. وَبِه يُجَاب عَن الرَّابِع. ثمَّ تَركه يُوجب ترك الْوَاجِب أصلا، ثمَّ ينْتَقض بِالشّرطِ. ورد الْخَامِس: بِأَنَّهُ يلْزم نفي الْمُبَاح لَو تعين ترك الْحَرَام بِهِ. ورد السَّادِس: يلْزم لَو وَجب أصلا لَا تبعا، وَتسقط الْوَسِيلَة تبعا. تَنْبِيه: هَذِه الْمَسْأَلَة هِيَ الْمعبر عَنْهَا فِي الْأُصُول: بِمَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ وَاجِب، وَرُبمَا قيل: مَا لَا يتم الْمَأْمُور إِلَّا بِهِ يكون مَأْمُورا بِهِ، وَهُوَ أَجود وأشمل من حَيْثُ إِن الْأَمر قد يكون للنَّدْب، فَتكون مقدمته مَنْدُوبَة، وَرُبمَا كَانَت وَاجِبَة: كالشروط فِي صَلَاة التَّطَوُّع، إِلَّا أَنه لما وَجب الْكَفّ عَن فَاسد الصَّلَاة عِنْد إِرَادَة التَّلَبُّس بِالصَّلَاةِ مثلا وَجب مَا لَا يتم الْكَفّ مَعَ التَّلَبُّس إِلَّا بِهِ، فَلم يخرج عَمَّا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب. وَإِذا اتَّضَح الْأَمر فِي مُقَدّمَة الْوَاجِب عدي إِلَى الْمَنْدُوب بِمَا يَلِيق بِهِ من الْأَمريْنِ. تَنْبِيه آخر: تقدم أَن مَا لَا يتم بِهِ الْوَاجِب تَارَة يكون جُزْءا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 931 للْوَاجِب، وَتارَة يكون خَارِجا عَنهُ كالشرط وَالسَّبَب، وَأَن الأول وَاجِب اتِّفَاقًا؛ لِأَن الْأَمر بالماهية المركبة، أَمر بِكُل وَاحِد من أَجْزَائِهَا ضمنا، لَكِن يشْتَرط أَن يكون مَقْدُورًا لَهُ، قطعا، للْحَدِيث: " إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم "، فَلَو سقط وجوب الْبَعْض المعجوز هَل يبْقى وجوب الْبَاقِي [الْمَقْدُور] عَلَيْهِ؟ قَاعِدَة الْمذَاهب فِي الأَصْل الْبَقَاء، للْحَدِيث الْمُوَافق لقَوْله تَعَالَى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} [التغابن: 16] ، وَقد ذكر أَصْحَابنَا: أَن من سقط عَنهُ النُّطْق فِي الصَّلَاة لعذر لم يلْزمه تَحْرِيك لِسَانه، خلافًا للْقَاضِي من أَصْحَابنَا، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، لوُجُوبه ضَرُورَة: كجزء من اللَّيْل فِي الصَّوْم، وشروط الصَّلَاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 932 قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَيتَوَجَّهُ الْخلاف، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يسْتَحبّ فِي قَول من اسْتحبَّ غسل مَوضِع الْقطع فِي الطَّهَارَة، وَكَذَا إمرار الموسى فِيمَن لَا شعر لَهُ، ورد. وَقَالَ ابْن عقيل فِي " عمد الْأَدِلَّة ": (يمر الموسى وَلَا يجب، ذكره شَيخنَا، وَأما كَلَام الإِمَام أَحْمد فخارج مخرج الْأَمر، لكنه حمله شَيخنَا على النّدب) انْتهى. وَقَالَ القَاضِي فِي " التَّعْلِيق "، وَغَيره - فِي وَطْء الْمظَاهر -: (إِن الْأَمر بِالصَّلَاةِ مُتَضَمّن لِلْأَمْرِ بِالطَّهَارَةِ، وَإِن التَّابِع يسْقط بِفَوَات الْمَتْبُوع: كالطهارة للصَّلَاة) انْتهى. وَلنَا فروع كَثِيرَة شَبيهَة بذلك: كوجوب الْقيام على من عجز عَن الرُّكُوع وَالسُّجُود لعِلَّة فِي ظَهره، وواجد بعض مَا يَكْفِيهِ لطهارته من المَاء، وَبَعض صَاع فِي الْفطْرَة. وَرُبمَا خرج عَن الْقَاعِدَة فروع، الرَّاجِح خلاف ذَلِك، لمدارك فقهية محلهَا الْفِقْه. تَنْبِيه آخر: قَوْله: (وَمَا لَا يتم الْوَاجِب الْمُطلق) . قَالَ الْقَرَافِيّ: (فَمَعْنَى قَوْلنَا: " مُطلقًا "، أَي: أطلق الْوُجُوب فِيهِ، فَيصير معنى الْكَلَام: الْوَاجِب الْمُطلق إِيجَابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 933 فَفرق بَين قَول السَّيِّد لعَبْدِهِ: اصْعَدْ السَّطْح، وَبَين قَوْله: إِذا نصب السّلم اصْعَدْ السَّطْح، فَالْأول مُطلق فِي إِيجَابه، فَهُوَ مَوضِع الْخلاف، وَالثَّانِي مُقَيّد فِي إِيجَابه، فَلَا يجب تَحْصِيل الشَّرْط فِيهِ إِجْمَاعًا) انْتهى. وَقَالَ الكوراني: (قد فسر الْوَاجِب الْمُطلق بِمَا يجب فِي كل وَقت وعَلى كل حَال، فَانْتقضَ بِالصَّلَاةِ، فَإِن صَلَاة الظّهْر مثلا [لَا تجب] فِي كل وَقت، فزيد: فِي كل وَقت قدره الشَّارِع، فنقض بِصَلَاة الْحَائِض فزيد: لَا لمَانع، وَهَذَا لَا يَشْمَل غير المؤقتات، وَلَا مثل الْحَج وَالزَّكَاة فِي إِيجَاب مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ من الشُّرُوط. فَالْوَاجِب الْمُطلق: هُوَ الَّذِي لَا يكون بِالنّظرِ إِلَى تِلْكَ الْمُقدمَة الَّتِي [يتَوَقَّف] عَلَيْهَا مُقَيّدا، وَإِن كَانَ مُقَيّدا بقيود أخر فَإِنَّهُ لَا يُخرجهُ عَن الْإِطْلَاق، كَقَوْلِه تَعَالَى: {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} [الْإِسْرَاء: 78] ، فَإِن وجوب الصَّلَاة فِي هَذَا النَّص [مُقَيّد] بالدلوك، وَغير مُقَيّد بِالْوضُوءِ والاستقبال) انْتهى. قَوْله: {وَغير الْمَقْدُور من الْمحَال} . لِأَنَّهُ فَرد من أَفْرَاده: كالقدرة وَالْيَد فِي الْكِتَابَة، لِأَنَّهُمَا مخلوقتان لله تَعَالَى، فَلَيْسَ ذَلِك فِي وسع الْمُكَلف [وطاقته] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 934 {تَنْبِيه: ظَاهر من أوجبه يُعَاقب بِتَرْكِهِ، وَقَالَهُ القَاضِي، والآمدي، [وَجمع] } . صرح بِهِ القَاضِي أَبُو يعلى فِي الْحَج عَن الْمَيِّت من الْمِيقَات؛ لِأَن الْوَاجِب هُوَ الَّذِي يُعَاقب على تَركه كَمَا يُثَاب على فعله. {و} قَالَ الشَّيْخ موفق الدّين {فِي " الرَّوْضَة ": لَا يُعَاقب، [وَقَالَهُ] الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين. قَالَ: (إِلَّا أَن يُقَال: قد تكون عُقُوبَة من كثرت واجباته أَكثر) . {وَقَالَ أَيْضا -: (وُجُوبه عقلا وَعَادَة لَا يُنكر، [وَالْوُجُوب] العقابي لَا يَقُوله فَقِيه، و [الْوُجُوب] [الطلبي] مَحل النزاع} . قَالَ ابْن مُفْلِح وَابْن قَاضِي الْجَبَل: {وَفِيه نظر} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 935 قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَيْضا -: (وَإِذا نسخ الْأَمر بالملزوم، أَو تبين عدم وُجُوبه اسْتدلَّ بِهِ على اللوازم، فَعِنْدَ أَصْحَابنَا اللوازم كالأجزاء، وصرحوا بِأَنَّهُ كالعموم إِذا خص مِنْهُ صُورَة، وَأَن الْكَلَام فِي قُوَّة أَمريْن، وَأَن اللَّازِم مَأْمُور بِهِ أمرا مُطلقًا، ويشبهها الْأَمر بهئية أَو صفة [لفعل] يحْتَج بِهِ على وُجُوبه، ذكره أَصْحَابنَا، وَنَصّ أَحْمد عَلَيْهِ لتمسكه لوُجُوب الِاسْتِنْشَاق بِالْأَمر بالمبالغة، وَهُوَ يشبه: نسخ اللَّفْظ نسخ لفحواه. قَالَ: وَقَول الْمُخَالف مُتَوَجّه، وسرها، هَل هُوَ كأمرين أَو أَمر بفعلين، أَو بِفعل ولوازمه ضَرُورَة؟) انْتهى كَلَام الشَّيْخ تَقِيّ الدّين. قَوْله: {فَائِدَة: يجوز النَّهْي عَن وَاحِد لَا بِعَيْنِه كملكه أُخْتَيْنِ [و] وطئهما} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 936 بِمَعْنى: كوطئه وَاحِدَة بعد وَاحِدَة قبل تَحْرِيم الأولى، فَإِنَّهُ يحرم وَطْء إِحْدَاهمَا قبل تَحْرِيم الْأُخْرَى، فَهُوَ مَمْنُوع من [إِحْدَاهمَا] لَا بِعَينهَا. قَالَ ابْن حمدَان: (وكما لَو أسلم على أَكثر من أَربع نسْوَة، وأسلمن مَعَه، أَو كن كتابيات) . وَهُوَ صَحِيح؛ فَإِنَّهُ مَمْنُوع من الزَّائِد على الْأَرْبَع لَا بِعَيْنِه. إِذا علم ذَلِك؛ فقد قَالَ أهل السّنة: يجوز تَحْرِيم وَاحِد لَا بِعَيْنِه، وَيكون النَّهْي عَن وَاحِد على التَّخْيِير. قَوْله: {وَله فعل أَحدهَا عِنْد [أَصْحَابنَا] وَالْأَكْثَر} . قَالَ ابْن برهَان: (وَهُوَ قَول الْفُقَهَاء والمتكلمين) ؛ لِأَن هَذِه الْمَسْأَلَة كَمَسْأَلَة الْوَاجِب الْمُخَير، إِلَّا أَن التَّخْيِير هُنَا فِي التّرْك، وَهُنَاكَ فِي الْفِعْل، فَكَمَا أَن للمكلف أَن يَأْتِي بِالْجَمِيعِ، وَأَن يَأْتِي بِالْبَعْضِ وَيتْرك الْبَعْض البقي فِي الْوَاجِب الْمُخَير، لَهُ أَن يتْرك الْجَمِيع، وَأَن يتْرك الْبَعْض دون الْبَعْض هُنَا، عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، وكما لَا يجوز الْإِخْلَال بجميعها، بل عَلَيْهِ فعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 937 شَيْء مِنْهَا فِي الْوَاجِب الْمُخَير، لَا يجوز لَهُ الْإِخْلَال بِالتّرْكِ جَمِيعًا هُنَا، بل يجب عَلَيْهِ ترك شَيْء مِنْهَا. وَلِأَنَّهُ الْيَقِين وَالْأَصْل، وَتقدم التَّخْيِير فِي الْمَأْمُور بِهِ، وَيَأْتِي التَّخْيِير فِي المنهى عَنهُ. فَأهل السّنة جوزوا النَّهْي عَن وَاحِد لَا بِعَيْنِه، وجوزوا فعل أَحدهمَا على التَّخْيِير، وَمَا دَامَ لم يعين، لَا يجوز لَهُ الْإِقْدَام على شَيْء مِنْهَا. وبماذا يكون التَّعْيِين؟ يَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ. وعَلى هَذَا يَأْتِي الْخلاف السَّابِق فِي كَون الْمحرم [وَاحِدًا] لَا بِعَيْنِه، أَو الْكل، أَو معينا عِنْد الله تَعَالَى، أَو غير ذَلِك كَمَا تقدم. وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: لَا يُمكن ذَلِك فِي النَّهْي، يل يجب اجْتِنَاب كل وَاحِد، وَبَنوهُ على أصلهم: أَن النَّهْي عَن قَبِيح، فَإِذا نهي عَن أَحدهمَا لَا بِعَيْنِه ثَبت الْقبْح لكل مِنْهُمَا، فيمتنعان جَمِيعًا، وَلَو ورد ذَلِك بِصِيغَة التَّخْيِير، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُطِع مِنْهُم ءاثماً أَو كفوراً} [الْإِنْسَان: 24] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 938 وَمن أمثلتها: لَو ملك أُخْتَيْنِ ووطئهما حرمت إِحْدَاهمَا لَا بِعَينهَا حَتَّى تخرج الْأُخْرَى عَن ملكه كَمَا تقدم. وَتقدم تَمْثِيل ابْن حمدَان. وَمثله بعض الشَّافِعِيَّة: بِتَحْرِيم الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ أَو بَين الْأُم وبنتها فِي النِّكَاح، وَنَحْو ذَلِك، وَلَيْسَ بجيد، لِأَن التَّحْرِيم مُنْتَفٍ حَتَّى ينْكح إِحْدَاهمَا، بِخِلَاف مَا مثلنَا بِهِ، فَإِن التَّحْرِيم وَقع فَتَأَمّله. { [وَقَالَ الْجِرْجَانِيّ وَأَبُو الْبَقَاء من أَصْحَابنَا -] والقرافي [وَمَال إِلَيْهِ ابْن قَاضِي الْجَبَل] } كالمعتزلة { [فَيمْنَع] من الْجَمِيع} لِلْآيَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 939 وَقَالَ أبوالبقاء فِي " إعرابه " فِي قَوْله تَعَالَى: {أَو كفوراً} -: (" أَو " هُنَا على بَابهَا عِنْد سِيبَوَيْهٍ، وتفيد فِي النَّهْي الْمَنْع من الْجَمِيع، لِأَنَّك إِذا قلت فِي الْإِبَاحَة -: جَالس الْحسن أَو ابْن سِيرِين، كَانَ التَّقْدِير: جَالس أَحدهمَا فَإِذا نهى فَقَالَ: لَا تكلم زيدا أَو عمرا، فالتقدير: لَا تكلم أَحدهمَا، فَأَيّهمَا كَلمه كَانَ أَحدهمَا، فَيكون مَمْنُوعًا مِنْهُ) انْتهى. ورد ذَلِك: بِأَن الآثم والكفور يأمران بالمعصية، فَلَا طَاعَة. قَالُوا: لَا تُطِع زيدا أَو عمرا، للْجَمِيع بِإِجْمَاع أهل اللُّغَة. رد: بِالْمَنْعِ. قَالُوا: لتساويهما فِي الْقبْح. رد: مَبْنِيّ على أصلهم كَمَا تقدم عَنْهُم -، ثمَّ إِنَّمَا خَيره لعلمه بِتَرْكِهِ الْقَبِيح وَفعله الْحسن. قَالُوا: فِيهِ احْتِيَاط. فألزمهم القَاضِي بِالْوَاجِبِ الْمُخَير. وَقَالَ ابْن عقيل: ( [إِنَّمَا نمْنَع] من اعْتِقَاد ذَلِك، وَلَا احْتِيَاط فِيهِ) ، ورد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 940 تَنْبِيه: الْجِرْجَانِيّ وَأَبُو الْبَقَاء والقرافي، وَإِن كَانُوا قد وافقوا الْمُعْتَزلَة على الْمَنْع، لَكِن لَا من حَيْثُ [التقبيح] الْعقلِيّ، بل من حَيْثُ إِن تَحْرِيم أَحدهمَا يلْزم مِنْهُ تَحْرِيم الْكل، كَمَا تقدم عَن أبي الْبَقَاء. وَفرق الْقَرَافِيّ بَينه وَبَين الْوَاجِب الْمُخَير: (بِأَن الْأَمر بِمَفْهُوم أَحدهمَا قدر مُشْتَرك، وَمحل التَّخْيِير الخصوصيات، فَلَا يلْزم من إِيجَاب الْمُشْتَرك إِيجَاب الخصوصيات، كَمَا فِي إِيجَاب رَقَبَة مُطلقَة فِي الْعتْق، لَا يلْزم مِنْهُ إِيجَاب رَقَبَة مُعينَة) . قَالَ الْقَرَافِيّ: (أما النَّهْي، فَيلْزم من تَحْرِيم أَحدهمَا الَّذِي هُوَ قدر مُشْتَرك تَحْرِيم الخصوصيات) . ثمَّ أجَاب عَن الْمِثَال السَّابِق وَنَحْوه: (بِأَن التَّحْرِيم إِنَّمَا يتَعَلَّق بِمَجْمُوع الموطوءتين بعد أَن وطئهما لَا بالمشترك بَينهمَا، [فالمقصود] : أَن لَا يدْخل مَاهِيَّة مَجْمُوع الوطأين فِي الْوُجُود، والماهية المركبة تنعدم بانعدام جزئها) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 941 قَالَ العلائي: (وَالظَّاهِر أَن هَذَا مُرَاد أهل السّنة بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة، لَا الْمَعْنى الَّذِي رده الْقَرَافِيّ، وَهُوَ الْكُلِّي الْمُشْتَرك، لِأَن من الْمحَال عقلا أَن يُوجد الجزئي وَلَا يُوجد الْكُلِّي فِيهِ لِأَن الكلى ينْدَرج فِي الجزئي بِالضَّرُورَةِ قَالَ: لَكِن يشكل على هَذَا، إلحاقهم الْمَسْأَلَة بِالْأَمر الْمُخَير) انْتهى. وَلأبي الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " فِي هَذِه الْمَسْأَلَة كلامان. فَقَالَ فِي بَاب النَّهْي: (مَسْأَلَة: إِذا نهي عَن شَيْء بِلَفْظ التَّخْيِير مثل أَن يَقُول: لَا تكلم زيدا أَو عمرا، اقْتضى الْمَنْع من كَلَام أَحدهمَا لَا بِعَيْنِه، خلافًا للمعتزلة فِي قَوْلهم: يَقْتَضِي الْمَنْع من كَلَام الْجَمِيع) ، ثمَّ نصب الْخلاف مَعَهم. وَقَالَ فِي بَاب الْحُرُوف، فِي حرف " أَو "، - وَذكر لَهَا معَان ثمَّ قَالَ -: (الثَّالِث: يدْخل فِي النَّهْي تَارَة للْجمع، وَتارَة للتَّخْيِير، فالتخيير: لَا تدخل إِلَّا هَذِه الدَّار [أَو هَذِه الدَّار] ، وَأما الْجمع كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تُطِع مِنْهُم ءاثماً أَو كفوراً} [الْإِنْسَان: 24] ، مَعْنَاهُ: آثِما وكفوراً) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 942 وَكَذَا لِابْنِ حمدَان فِيهَا كلامان، فَقَالَ فِي بَاب النَّهْي: (الْفَصْل الْخَامِس: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُطِع مِنْهُم ءاثماً أَو كفوراً} [الْإِنْسَان: 24] يَقْتَضِي مَنعه من طَاعَة أَحدهمَا لَا بِعَيْنِه، وَقيل: بل طاعتهما) انْتهى. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: يجوز أَن يكون الْمحرم أحد أَمريْن غير معِين، لَكِن التَّخْيِير بقتضي منع الْجَمِيع) انْتهى. قَوْله: {وَلَو اشْتبهَ محرم بمباح وَجب الْكَفّ، وَلَا يحرم الْمُبَاح} . وَهُوَ مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه، لِأَن الْمُبَاح لم يحرم، أَكثر مَا فِيهِ: أَنه اشْتبهَ فمنعنا لأجل الِاشْتِبَاه، لَا أَنه محرم، فَإِذا تبين زَالَ ذَلِك، فوجوب الْكَفّ ظَاهرا لَا يدل على شُمُول التَّحْرِيم، وَلِهَذَا لَو أكلهما لم يُعَاقب إِلَّا على أكل ميتَة وَاحِدَة. {وَقَالَ الْمُوفق} فِي " الرَّوْضَة "، {والطوفي} فِي " مُخْتَصره، { [تبعا للغزالي] } فِي " الْمُسْتَصْفى "، وَغَيرهم: { [حرمتا] } ، إِحْدَاهمَا بِالْأَصَالَةِ، وَالْأُخْرَى بِعَارِض الِاشْتِبَاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 943 ثمَّ قَالَ الطوفي: (وَلَعَلَّ الْقَائِل بِعَدَمِ التَّحْرِيم [يَعْنِي] : أَن التَّحْرِيم أَحدهمَا عرضي، وَتَحْرِيم الآخر أُصَلِّي، فَالْخِلَاف إِذن لَفْظِي) ، وَهُوَ وَالله أعلم كَذَلِك، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي التَّسْمِيَة. قَوْله: { [وَلَو طلق إِحْدَى امرأتيه مُبْهمَة أَو مُعينَة وأنسيها وَجب الْكَفّ إِلَى الْقرعَة] } . نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه. {وَقَالَ الْمُوفق} وَجمع: {حرمتا إِلَى التبين} ، وَهِي كَالَّتِي قبلهَا، وَالَّذِي يظْهر أَن الْخلاف فِي الْعبارَة لَا فِي الْمَعْنى، كَمَا تقدم فِي الَّتِي قبلهَا. تَنْبِيه: وَجه تَفْرِيع هَذَا الْفَرْع وَالَّذِي قبله على هَذَا الأَصْل السَّابِق: أَن الْكَفّ عَن الْمحرم وَاجِب، وَلَا يحصل الْعلم بِهِ إِلَّا بالكف عَن الْمُبَاح فِي الأَصْل، وَترك مَا لَا يتم ترك الْحَرَام إِلَّا بِتَرْكِهِ وَاجِب، [فهما] من تعلقات الْمَسْأَلَة الْمُتَقَدّمَة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 944 قَوْله: {فصل} لَو كنى الشَّارِع عَن عبَادَة بِبَعْض مَا فِيهَا، نَحْو: {وَقُرْآن الْفجْر} [الْإِسْرَاء: 78] ، و {مُحَلِّقِينَ رءوسكم} [الْفَتْح: 27] دلّ على فَرْضه، قطع بِهِ القَاضِي، وَابْن عقيل} . فَدلَّ قَوْله: {وَقُرْآن الْفجْر} على فَرضِيَّة الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة. وَدلّ: قَوْله: {مُحَلِّقِينَ رءوسكم} على فَرضِيَّة الْحلق فِي الْحَج، لِأَن الْعَرَب لَا تكني إِلَّا بالأخص بالشَّيْء. قَالَ الْمجد: (إِذا عبر عَن الْعِبَادَة بمشروع فِيهَا دلّ ذَلِك على وُجُوبه، مثل: تَسْمِيَة الصَّلَاة قُرْآنًا بقوله: {وَقُرْآن الْفجْر} [الْإِسْرَاء: 78] ، وتسبيحاً بقوله: {وَسبح بِحَمْد رَبك قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل الْغُرُوب} [سُورَة ق: 39] ، وكالتعبير عَن الْإِحْرَام والنسك بِأخذ الشّعْر بقوله: {مُحَلِّقِينَ رءوسكم وَمُقَصِّرِينَ} [الْفَتْح: 27] ، ذكره القَاضِي، وَابْن عقيل وَلم يحك خلافًا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 945 قَوْله: {فصل} {الْحَرَام: ضد الْوَاجِب} . إِنَّمَا كَانَ ضِدّه بِاعْتِبَار تَقْسِيم أَحْكَام التَّكْلِيف، وَإِلَّا الْحَرَام فِي الْحَقِيقَة ضد الْحَلَال، إِذْ يُقَال: هَذَا حَلَال، وَهَذَا حرَام، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة يُونُس: {هَذَا حَلَال وَهَذَا حرَام} . إِذا علم ذَلِك؛ لما فَرغْنَا من أَحْكَام الْوَاجِب ومسائله وَمَا يتَعَلَّق بِهِ، شرعنا نتكلم على ضِدّه وَهُوَ الْحَرَام لِأَنَّهُ قد تقدم: أَن الْخطاب إِن ورد بِطَلَب فعل طلبا جَازِمًا فَهُوَ الْوَاجِب، وَإِن ورد بِطَلَب ترك طلبا جَازِمًا فَهُوَ الْحَرَام. { [وَحده] : مَا ذمّ فَاعله وَلَو قولا وَعمل قلب - شرعا} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 946 احترزنا بالذم عَن الْمَكْرُوه وَالْمَنْدُوب والمباح، إِذْ لَا ذمّ فِيهَا. واحترزنا بقولنَا: (فَاعله) عَن الْوَاجِب، فَإِنَّهُ يذم تَاركه لَا فَاعله. وَالْمرَاد: الَّذِي من شَأْنه أَن يذم فَاعله وَلَو تخلف، كمن وطئ أَجْنَبِيَّة يَظُنهَا زَوجته. وَقَوْلنَا: (وَلَو قولا) ، أَعنِي: أَن من الْحَرَام مَا يكون قولا: كالغيبة، والنميمة، وَنَحْوهمَا. وَمن الْحَرَام مَا يكون عملا بِالْقَلْبِ: كالحسد، والحقد، والنفاق وَنَحْوهَا. وَلَفْظَة (شرعا) مُتَعَلقَة بذم، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن الذَّم لَا يكون إِلَّا من الشَّرْع. وَكثير من الْأُصُولِيِّينَ لم يذكرُوا: (وَلَو قولا) و (عمل الْقلب) اكْتِفَاء بقَوْلهمْ: فَاعله، لِأَن المُرَاد بِالْفِعْلِ: مَا يصدر عَن الْمُكَلف، فَيعم: الْأَقْوَال، وَالْأَفْعَال، وَعمل الْقلب، وَإِنَّمَا أبرزنا ذَلِك للإيضاح. وَيرد على الْحَد: فعل الْمُبَاح، لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ ترك وَاجِب، وَأَنه يذم فَاعله، لَكِن لَا من جِهَة فعله، بل لما لزمَه من ترك الْوَاجِب، وَلَو زيد فِي الْحَد: بِوَجْه مَا، أَو: من حَيْثُ فعله، سلم من الْإِيرَاد. قَوْله: {وَيُسمى: مَحْظُورًا، وممنوعاً، ومزجوراً، ومعصية، وذنباً وقبيحاً، وسيئة، وفاحشة، وإثماً} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 947 لِلْحَرَامِ عشرَة أَسمَاء، وَزيد عَلَيْهَا: (زجرا) ، و (محرما) ، لَكِن يشملهما لفظ: (الْحَرَام) و (المزجور) لِأَنَّهُمَا من مادتهما. وَزيد أَيْضا -: (حرجاً) و (تحريجاً) و (عُقُوبَة) ، وَإِنَّمَا سميت بذلك؛ لِأَنَّهَا تترتب على فعله، [فَبِهَذَا] التَّقْرِير يَصح تَسْمِيَته بذلك. فَسُمي مَحْظُورًا من الْحَظْر، وَهُوَ الْمَنْع، فَسُمي الْفِعْل بالحكم الْمُتَعَلّق بِهِ. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَالْمَعْصِيَة: فعل مَا نهى الله تَعَالَى عَنهُ، وَعند الْمُعْتَزلَة: فعل مَا كرهه الله، وَهُوَ مَبْنِيّ على خلق الْأَعْمَال، وَإِرَادَة الكائنات) انْتهى. وَسمي مَعْصِيّة لنَهْيه تَعَالَى عَنهُ، وَسمي ذَنبا لتوقع الْمُؤَاخَذَة عَلَيْهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 948 قَوْله: [فصل فِي الشَّخْص الْوَاحِد ثَوَاب وعقاب} . كنوع الْآدَمِيّ، وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة قاطبة، لِأَنَّهُ يعْمل الْحَسَنَات والسيئات، فتكتب لَهُ الْحَسَنَات، وَأما السَّيِّئَات فَإِن تَابَ مِنْهَا غفرت، وَكَذَا إِن اجْتنبت الْكَبَائِر على الصَّحِيح، على مَا يَأْتِي بَيَانه عَلَيْهِ فِي السّنة، وَإِلَّا فَهُوَ تَحت الْمَشِيئَة لحَدِيث عبَادَة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 949 وَخَالف الْمُعْتَزلَة فخلدوا أهل الْكَبَائِر فِي النَّار، وَلَو عمِلُوا [حَسَنَات] كَثِيرَة. وَهُوَ مصادم لِلْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة الْوَارِدَة عَن الْمَعْصُوم الَّذِي لَا ينْطق عَن الْهوى فِي الشَّفَاعَة فِي أهل الْكَبَائِر وخروجهم من النَّار ودخولهم الْجنَّة. وَالْأَحَادِيث فِي ذَلِك كَثِيرَة جدا تبلغ بهَا حد التَّوَاتُر الْمَعْنَوِيّ. قَوْله: {وَالْفِعْل الْوَاحِد بالنوع؛ مِنْهُ وَاجِب [وَمِنْه حرَام بِاعْتِبَار أشخاصه، كسجوده لله تَعَالَى وللصنم] } ، لتغايرهما بالشخصية، فَلَا استلزام بَينهمَا، وَهُوَ مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَعْلَام من أَرْبَاب الْمذَاهب وَغَيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 950 فَإِن السُّجُود نوع من الْأَفْعَال ذُو أشخاص كَثِيرَة، فَيجوز أَن يَنْقَسِم إِلَى وَاجِب وَحرَام، فَيكون بعض أفرادها وَاجِبا: كالسجود لله، وَبَعضهَا حَرَامًا: كالسجود للصنم مثلا، وَلَا امْتنَاع من ذَلِك. قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": (السُّجُود بَين يَدي الصَّنَم مَعَ قصد التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى محرم على مَذَاهِب عُلَمَاء الشَّرِيعَة. [وَقيل] عَن أبي هَاشم -: إِنَّه لَا يرى تَحْرِيم السُّجُود، وَيَقُول: إِنَّمَا الْمحرم الْقَصْد) . قَالَ الْجُوَيْنِيّ: (وَلم أره لَهُ، وَإِنَّمَا مذْهبه: أَن السُّجُود لَا تخْتَلف صفته، وَإِنَّمَا الْمَحْظُور الْقَصْد. - قَالَ -: وَهَذَا [يجب] أَن لَا يَقع السُّجُود طَاعَة بِحَال، ومساق ذَلِك يخرج الْأَفْعَال الظَّاهِرَة عَن كَونهَا قربات، وَهُوَ خُرُوج عَن دين الْأمة، لَا يمْتَنع أَن يكون الْفِعْل مَأْمُورا بِهِ مَعَ قصد، مَنْهِيّا عَنهُ مَعَ قصد. هَذَا زبدة كَلَامه) انْتهى. وَقَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: (خَالف بعض الْمُعْتَزلَة وَمرَاده: أَبُو هَاشم، حَكَاهُ عَنهُ أَبُو الْمَعَالِي، قَالَ: - لِأَن السُّجُود مَأْمُور بِهِ لله تَعَالَى، فَلَو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 951 حرم للصنم، لاجتمع أَمر وَنهي فِي نوع وَاحِد، والمنهي قصد تَعْظِيمه. رد: بِأَن الْمَأْمُور بِهِ السُّجُود الْمُقَيد بِقصد تَعْظِيم الله تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ: {لَا تسجدوا للشمس وَلَا للقمر واسجدوا لله} [فصلت: 37] ، والمنهي عَنهُ هُنَا: هُوَ الْمَأْمُور بِهِ) . وَعِنْده: أَن النَّوْع لَا يخْتَلف بالْحسنِ والقبح، وَهِي قَاعِدَة فَاسِدَة كَمَا تقدم، لِأَن الْمحرم الْقَصْد وَالسُّجُود مَعًا، وَأما فِي فَرد من النَّوْع فَلَا. قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: (والمخالف فِي ذَلِك الْحَنَفِيَّة، نَقله ابْن السَّمْعَانِيّ فِي " القواطع "، وَهُوَ أعرف بمذهبهم لِأَنَّهُ كَانَ حنفياً ثمَّ صَار شافعياً، وَمثل لذَلِك بِالصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة، وَصَوْم يَوْم الْعِيد والتشريق وَنَحْوه) . قَوْله: {و [الْوَاحِد] } . أَي: الْفِعْل الْوَاحِد {بالشخص لَهُ جِهَة وَاحِدَة، فيستحيل كَونه وَاجِبا حَرَامًا، [إِلَّا عِنْد بعض من] [يجوز تَكْلِيف الْمحَال] } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 952 قَالَ الْأَصْفَهَانِي: (إِذا كَانَ الْفِعْل ذَا جِهَة وَاحِدَة، اسْتَحَالَ كَونه وَاجِبا حَرَامًا لتنافيهما، إِلَّا عِنْد بعض من يجوز تَكْلِيف الْمحَال عقلا وَشرعا. وَأما الْقَائِلُونَ بامتناعه شرعا لَا عقلا فَلَا يجوزونه، تمسكاً بقوله تَعَالَى: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} [الْبَقَرَة: 286] ) . وَقَالَ عضد الدّين: (فَلَو اتَّحد الْوَاحِد بالشخص؛ بِأَن يكون الشَّيْء الْوَاحِد من الْجِهَة الْوَاحِدَة وَاجِبا حَرَامًا مَعًا، فَذَلِك مُسْتَحِيل قطعا، إِلَّا عِنْد من يجوز تَكْلِيف الْمحَال، وَقد مَنعه بعض من يجوز ذَلِك، نظرا إِلَى أَن الْوُجُوب يتَضَمَّن جَوَاز الْفِعْل، وَهُوَ يُنَاقض التَّحْرِيم) . قَوْله: { [وَله] جهتان كَالصَّلَاةِ فِي مَغْصُوب} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 953 يَعْنِي: أَن الْفِعْل الْوَاحِد تَارَة يكون لَهُ جِهَة، وَتارَة يكون لَهُ جهتان، فَتقدم الْكَلَام على مَا لَهُ جِهَة وَاحِدَة، وَالْكَلَام الْآن على مَا لَهُ جهتان: كَالصَّلَاةِ فِي بقْعَة مَغْصُوبَة، { [مَذْهَب الإِمَام أَحْمد] ، وَأكْثر أَصْحَابه، والظاهرية والزيدية، والجبائية: لَا تصح} الصَّلَاة، {وَلَا يسْقط الطّلب بهَا} ، وَقَالَهُ أَبُو شمر الْحَنَفِيّ، وَحَكَاهُ [الْمَازرِيّ] عَن إصبغ الْمَالِكِي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 954 قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَهُوَ رِوَايَة عَن مَالك، وَاخْتَارَهُ ابْن الْمَاجشون. وَهُوَ وَجه لأَصْحَاب الشَّافِعِي، حَكَاهُ القَاضِي حُسَيْن، وَابْن الصّباغ. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني، وَالْفَخْر الرَّازِيّ: (يسْقط الْفَرْض عِنْدهَا [لَا بهَا] ) . قَالَ فِي " الْمَحْصُول ": (لِأَن السّلف أَجمعُوا على أَن الظلمَة لَا يؤمرون بِقَضَاء الصَّلَاة المؤداة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة، وَلَا طَرِيق إِلَى التَّوْفِيق بَينهمَا إِلَّا بِمَا ذَكرْنَاهُ. قَالَ: وَهُوَ مَذْهَب القَاضِي أبي بكر) انْتهى. قَالَ الصفي الْهِنْدِيّ: (الصَّحِيح: أَن القَاضِي إِنَّمَا يَقُول بذلك لَو ثَبت القَوْل بِصِحَّة الْإِجْمَاع على سُقُوط الْقَضَاء، فَإِذا لم يثبت ذَلِك فَلَا يَقُول بِسُقُوط الطّلب بهَا وَلَا عِنْدهَا) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 955 وَقد منع الْإِجْمَاع أَبُو الْمَعَالِي وَابْن السَّمْعَانِيّ وَغَيرهمَا. وَقد رد الطوفي مَا قَالَه الباقلاني فَقَالَ: (لِأَنَّهُ لما قَامَ الدَّلِيل عِنْد الباقلاني على عدم الصِّحَّة، ثمَّ ألزمهُ الْخصم بِإِجْمَاع السّلف على أَنهم لم يأمروا الظلمَة بِإِعَادَة الصَّلَوَات، مَعَ كَثْرَة وُقُوعهَا مِنْهُم فِي أَمَاكِن الْغَصْب، فأشكل عَلَيْهِ، فحاول الْخَلَاص بِهَذَا التَّوَسُّط، فَقَالَ: يسْقط الْفَرْض عِنْد هَذِه الصَّلَاة للْإِجْمَاع الْمَذْكُور، لَا بهَا لقِيَام الدَّلِيل على عدم صِحَّتهَا. - قَالَ الطوفي -: قلت: فَكَأَنَّهُ جعلهَا سَببا لسُقُوط الْفَرْض أَو أَمارَة عَلَيْهِ، على نَحْو خطاب الْوَضع، لَا [عِلّة] لسقوطه، لِأَن ذَلِك يستدعى صِحَّتهَا. قلت: وَهَذَا مَسْلَك ظَاهر الضعْف؛ لِأَن سُقُوط الْفَرْض بِدُونِ أَدَائِهِ شرعا غير مَعْهُود، بل لَو منع الْإِجْمَاع الْمَذْكُور لَكَانَ أيسر عَلَيْهِ. - ورد الْإِجْمَاع بِكَلَام صَحِيح متين إِلَى الْغَايَة ثمَّ قَالَ -: وأحسب أَن هَؤُلَاءِ الَّذين ادعوا الْإِجْمَاع بنوه على مقدمتين: إِحْدَاهمَا: أَن مَعَ كَثْرَة الظلمَة فِي تِلْكَ الْأَعْصَار عَادَة لَا يَخْلُو من إِيقَاع الصَّلَاة فِي مَكَان غصب من بَعضهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 956 الثَّانِيَة: أَن السّلف يمْتَنع عَادَة وَشرعا تواطؤهم على ترك الْإِنْكَار. وَالْأَمر بِالْإِعَادَةِ [بِنَاء من هَؤُلَاءِ] على مَا ظنوه من دَلِيل الْبطلَان، وَإِلَّا فَلَا إِجْمَاع فِي ذَلِك مَنْقُول تواتراً وَلَا آحاداً. والمقدمتان المذكورتان فِي غَايَة الضعْف والوهن) انْتهى. قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَادّعى ابْن الباقلاني الْإِجْمَاع، وَهِي دَعْوَى لَا دَلِيل عَلَيْهَا، وَلَا إِجْمَاع. ثمَّ لَا وَجه لسُقُوط الْعِبَادَة عِنْد فعل بَاطِل، وَمَعَ أَنه لَا يعرف عَن أحد قبله، وَلَا يبعد أَنه خلاف الْإِجْمَاع) انْتهى. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (قَالَ الباقلاني: لَو لم تصح لما سقط التَّكْلِيف، وَقد سقط بِالْإِجْمَاع، لأَنهم لم يؤمروا بِقَضَاء الصَّلَوَات. قيل: [لَا إِجْمَاع] فِي ذَلِك لعدم ذكره وَنَقله، كَيفَ وَقد خَالف الإِمَام أَحْمد وَمن تبعه؟ وَهُوَ إِمَام النَّقْل وَأعلم بأحوال السّلف) . وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل أَيْضا -: (قَول ابْن الباقلاني: يسْقط الْفَرْض عِنْدهَا لَا بهَا، بَاطِل، لِأَن مسقطات الْفَرْض محصورة: من نسخ، أَو عجز، أَو فعل غير كالكفاية، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 957 { [وَعَن أَحْمد] : [يحرم] } فعل الصَّلَاة {وَتَصِح، [وَهُوَ قَول مَالك] ، وَالشَّافِعِيّ، و} اخْتَارَهُ من أَصْحَابنَا: {الْخلال، وَابْن عقيل، والطوفي، [وَأكْثر الْعلمَاء] } . فَهَذِهِ الصَّلَاة وَاجِبَة، حرَام، باعتبارين، فَتكون صَحِيحَة، لِأَن مُتَعَلق الطّلب ومتعلق النَّهْي فِي ذَلِك متغايران، فَكَانَا كاختلاف المحلين، لِأَن كل وَاحِدَة من الْجِهَتَيْنِ مُسْتَقلَّة عَن الْأُخْرَى، واجتماعهما إِنَّمَا هُوَ بِاخْتِيَار الْمُكَلف، فليسا متلازمين، فَلَا تنَاقض. قَوْله: {فَلَا ثَوَاب، وَقيل: بلَى} . يَعْنِي: إِذا فعل الْعِبَادَة على وَجه محرم، وَقُلْنَا: تصح، فَهَل يُثَاب عَلَيْهَا أم لَا؟ فِيهِ للْعُلَمَاء قَولَانِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 958 أَحدهمَا: لَا ثَوَاب فِيهَا، وَقَالَهُ القَاضِي أَبُو يعلى، وَأَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَجمع من أَصْحَابنَا، ذكره فِي فروع ابْن مُفْلِح فِي بَاب ستر الْعَوْرَة. قَالَ الْمجد: (تصح صَلَاة من شرب الْخمر وَلَا ثَوَاب فِيهَا) ، وَنقل ابْن الْقَاسِم عَن أَحْمد: (لَا أجر لمن غزا على فرس غصب) ، وَقَالَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَغَيره فِي حج. وَقدمه التَّاج السُّبْكِيّ، وَقد نقل النَّوَوِيّ فِي " شرح الْمُهَذّب " عَن القَاضِي أبي مَنْصُور ابْن أخي ابْن الصّباغ -: (أَن الْمَحْفُوظ من كَلَام أَصْحَابنَا بالعراق أَنَّهَا تصح وَلَا ثَوَاب فِيهَا، وَنقل عَن شَيْخه ابْن الصّباغ فِي " الْكَامِل ": أَنه يَنْبَغِي حُصُول الثَّوَاب عِنْد من صححها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 959 قَالَ القَاضِي أَبُو مَنْصُور: وَهُوَ الْقيَاس) انْتهى. وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": (قلت: يَنْبَغِي أَن يُقَابل بَين ثَوَاب الْعِبَادَة وإثم الْمكْث فِي الْمَغْصُوب، فَإِن تكافأا أحبط الْعَمَل الثَّوَاب، وَإِن زَاد ثَوَاب الصَّلَاة بَقِي لَهُ قدر من الثَّوَاب لَا يضيع، وَحِينَئِذٍ فَلَا يُطلق انْتِفَاء الثَّوَاب لحُصُول بعضه فِي بعض الْأَحْوَال) ، وَهُوَ حسن. قلت: وَأحسن مِنْهُ أَن يُقَال: إِن عَلَيْهِ بِالْغَصْبِ إِثْمًا، وَله بِالصَّلَاةِ ثَوابًا، فَلَو زَاد إِثْم الْغَصْب على ثَوَاب الْعِبَادَة، بَقِي عَلَيْهِ شَيْء من الْإِثْم، كَمَا لَو زَاد ثَوَاب الْعِبَادَة بَقِي لَهُ شَيْء من الثَّوَاب، وَإِن تَسَاويا كَانَ لَهُ ثَوَاب الْعِبَادَة وَعَلِيهِ إِثْم الْغَصْب، فالثواب يُضَاف إِلَى حَسَنَاته، وَالْإِثْم يُضَاف إِلَى سيئاته، وَكَذَا لَو زَاد أَحدهمَا. { [وَقيل] : تكره، [وفَاقا للحنفية] } . وَهُوَ ظَاهر كَلَام السامري فِي " الْمُسْتَوْعب ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 960 قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " الْفُرُوع ": (وَفِيه نظر) . وَعنهُ: إِن علم التَّحْرِيم لم تصح، وَإِلَّا صحت. دَلِيل الْمَذْهَب الأول وَهُوَ الصَّحِيح من الْمَذْهَب -: تعلق الْوُجُوب وَالْحُرْمَة بِفعل الْمُكَلف، وهما متلازمان فِي هَذِه الصَّلَاة، فَالْوَاجِب مُتَوَقف على الْحَرَام، وَمَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ وَاجِب، فالحرام وَاجِب، وَهُوَ تَكْلِيف بالمحال. وَلِأَن شغل الحيز حرَام، وَهُوَ دَاخل فِي مفهومي الْحَرَكَة والسكون، الداخلين فِي مفهومها، فَدخل فِي مفهومها لِأَنَّهُ جزؤها فَالصَّلَاة الَّتِي جزؤها حرَام، غير وَاجِبَة، لوُجُوب الْجُزْء الْحَرَام إِن استلزم وُجُوبهَا وجوب أَجْزَائِهَا، وَإِلَّا كَانَ الْوَاجِب بعض أَجزَاء الصَّلَاة لَا نَفسهَا، لتغاير الْكل والجزء. وَاعْترض الْآمِدِيّ وَغَيره: بِأَن العَبْد إِذا أَمر بخياطة ثوب، وَنهي عَن مَكَان مَخْصُوص، فَجمع بَينهمَا، كَانَ طَائِعا عَاصِيا للجهتين، إِجْمَاعًا، وَمَا سبق جَار فِيهِ، الْجَواب وَاحِد. وَلقَائِل أَن يَقُول: صُورَة الْإِلْزَام لَازِمَة فِي الصَّلَاة فِي الْمَكَان النَّجس، وَالْجَوَاب وَاحِد. ثمَّ فِي كَلَام أَصْحَابنَا مَا يَقْتَضِي الْفرق؛ فَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 961 - بعد أَن احْتج للصِّحَّة بِالْأَمر بالخياطة -: (قَالَ من منع: مَتى أخل مرتكب النَّهْي بِشَرْط الْعِبَادَة أفسدها، وَنِيَّة التَّقَرُّب بِالصَّلَاةِ شَرط، والتقرب بالمعصية محَال) . وَهَذَا معنى قَول أبي الْخطاب: (من شَرط الصَّلَاة الطَّاعَة، وَنِيَّته أَدَاء الْوَاجِب، وحركته مَعْصِيّة، وَنِيَّة أَدَاء الْوَاجِب بِمَا يُعلمهُ غير وَاجِب بل مَعْصِيّة محَال) . وَقَالَ أَيْضا وَمَعْنَاهُ كَلَام القَاضِي وَغَيره -: (من شَرط الْعِبَادَة إِبَاحَة الْموضع، وَهُوَ محرم، فَهُوَ كالنجس) . وَلِأَن الْأَمر بِالصَّلَاةِ لم يتَنَاوَل هَذِه الْمنْهِي عَنْهَا، وَهِي غصب، لشغل ملك غَيره [بِغَيْر حق] ، فَلَا يجوز كَونهَا وَاجِبَة من جِهَة أُخْرَى. قَالَ المصححون: الْغَصْب للدَّار، وَالصَّلَاة غَيرهَا. رد: بِمَا سبق. وَقَالَ ابْن عقيل: (لَا يملك الْآدَمِيّ عين شَيْء عِنْد الْفُقَهَاء أجمع، بل إِنَّمَا يملك التَّصَرُّف، فالمصلي غَاصِب بِصَلَاتِهِ، وَالله يملك الْعين، وَعند الْمُعْتَزلَة: لَا، لِأَن الْملك: الْقُدْرَة، وَلَا تقع على مَوْجُود) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 962 وَأما صَوْم يَوْم الْعِيد، فَيحرم إِجْمَاعًا، وَلَا يَصح عِنْد أَحْمد، وَمَالك، وَالشَّافِعِيّ. وَعَن أَحْمد: يَصح فرضا. وَعنهُ: عَن نَذره الْمعِين، وفَاقا لأبي حنيفَة وَأَصْحَابه. وَزَاد أَبُو حنيفَة: ونفلاً. فَنَقُول: لَو صحت بالجهتين لصَحَّ بهما. وَفرق: بِأَن صَوْمه لَا يَنْفَكّ عَن الصَّوْم بِوَجْه، فَلَا جهتان، وَبِأَن اعْتِبَار تعدد الْجِهَة فِي نهي التَّحْرِيم بِدَلِيل، وَهُوَ الْأَمر بِالصَّلَاةِ، وَالنَّهْي عَن الْغَصْب. رد الأول: بِأَن هَذِه الصَّلَاة إِن تنَاولهَا الْأَمر فَهِيَ مُحرمَة. وَالثَّانِي: بِأَن الْأَمر بِالصَّوْمِ، وَالنَّهْي عَن صَوْم يَوْم الْعِيد. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (احْتج الْمُخَالف بِطَاعَة العَبْد وعصيانه، بأَمْره بالخياطة وَنَهْيه عَن مَكَان مَخْصُوص، فَالصَّلَاة مَأْمُور بهَا وَالْغَصْب مَنْهِيّ عَنهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 963 قُلْنَا: النزاع لم يَقع إِلَّا فِي الصَّلَاة مُقَيّدَة بِقَيْد الْغَصْب، وَهِي مُخْتَصَّة، فَلَا نسلم الْأَمر بهَا مَقْرُونا بِالنَّهْي، لِأَن النزاع فِي الصَّلَاة الشخصية، وَالْوَاحد بالشخص لَا تعدد فِيهِ بِاعْتِبَار عينه، بِأَن يُؤمر بِهِ وَينْهى عَنهُ، فَيُقَال بِمُوجب الدَّلِيل، لِأَنَّهُ إِنَّمَا اقْتضى الْأَمر بِالصَّلَاةِ من حَيْثُ هِيَ صَلَاة، والنزاع وَقع فِي الْمُقَيد بِقَيْد الْغَصْب، لِأَن الْعَام فِي الْأَشْخَاص مُطلق فِي الْأَحْوَال، فَتَنَاول لفظ الصَّلَاة بِعُمُومِهِ كل فَرد من أَفْرَاد الصَّلَاة، بِوَصْف مُطلق الْمَكَان، وَمُطلق الزَّمَان، وَمُطلق الْحَال، فخصوص الدَّار الْمَغْصُوبَة لَا يَتَنَاوَلهَا عُمُوم الْأَمر، وَهَذَا أصح مِمَّا ذكره ابْن الْخَطِيب، لِأَنَّهُ سلم الْعُمُوم وَادّعى التَّخْصِيص بِدَلِيل الْعقل) انْتهى كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل. وَقَالَ أَيْضا -: (وَأما أَمر العَبْد بالخياطة فَلَيْسَ مطابقاً، لِأَن الْفِعْل [الَّذِي هُوَ مُتَعَلق] الْأَمر، غير الْفِعْل الَّذِي هُوَ مُتَعَلق النَّهْي، وَلَيْسَ بَينهمَا مُلَازمَة، فَلَا جرم صَحَّ الْأَمر بِأَحَدِهِمَا وَالنَّهْي عَن الآخر، إِنَّمَا النزاع فِي صِحَة تعلق الْأَمر وَالنَّهْي بالشَّيْء الْوَاحِد، فَأَيْنَ أَحدهمَا من الآخر؟) . قَالَ الْقَرَافِيّ: (الْمِثَال مُطَابق فِي العَبْد، لِأَن الشَّيْء الْوَاحِد إِذا كَانَ لَهُ جهتان صَحَّ فِيهِ مَا ذكر) . قُلْنَا: قد بَينا أَن الصَّلَاة الْمَخْصُوصَة لَيْسَ لَهَا جهتان، والتمثيل بالخياطة غير صَحِيح، لِأَن الْخياطَة وَالدُّخُول أَمْرَانِ متغايران، يجوز انفكاك أَحدهمَا عَن الآخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 964 تَنْبِيه: قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (زعم [الْغَزالِيّ: أَن] الْمَسْأَلَة قَطْعِيَّة فِي الصِّحَّة، لَا اجتهادية، مُسْتَندا إِلَى الْإِجْمَاع على عدم الْأَمر بِالْقضَاءِ، وَنسب من أبطلها إِلَى خرق الْإِجْمَاع، وَلَو طُولِبَ بتحقيق هَذَا الْإِجْمَاع [لعجز عَنهُ. وَأَيْضًا: الْإِجْمَاع] إِن كَانَ لفظياً، فَأَيْنَ نَقله؟ وَإِن كَانَ سكوتياً فَكَذَلِك. وَلَا يُمكنهُ النَّقْل عَن أحد من أهل الْفَتْوَى أَنه أفتى بِالصِّحَّةِ. وَأَيْضًا فالسكوتي عُمْدَة وَلَيْسَ بِحجَّة) . وَقَالَ الْغَزالِيّ أَيْضا -: (يلْزم أَحْمد بن حَنْبَل الْقَائِل بِأَن الصَّلَاة بَاطِلَة جَمِيع الْعُقُود، من البيع وَقت النداء، وَأَن لَا تحل امْرَأَة تزَوجهَا وَفِي ذمَّته دانق ظلم، وَلَا صلَاته، وَلَا جَمِيع تَصَرُّفَاته، وَلَا يحصل التَّحْلِيل بِوَطْء من هَذَا شَأْنه، لِأَنَّهُ عَاص بترك رد الْمظْلمَة، فَيلْزمهُ تَحْرِيم أَكثر النِّسَاء، وَبطلَان أَكثر الْأَمْلَاك، وَهُوَ خرق للْإِجْمَاع) . قلت: وَهَذِه مُبَالغَة وجرأة على الإِمَام أَحْمد، [وَمَالك على رِوَايَة] ، وَغَيرهمَا مِمَّا ذكرنَا من الظَّاهِرِيَّة والزيدية والجبائية، وَقَول فِي مذْهبه قبل أَن يُوجد، وَقَول فِي مَذْهَب مَالك كإصبغ وَابْن الْمَاجشون الإمامان الكبيران، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 965 وَرِوَايَة عَن مَالك، وَقَول فِي مَذْهَب أبي حنيفَة، وَاخْتَارَهُ أَبُو شمر، كَمَا تقدم ذَلِك كُله. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (قلت: لَا يلْزمه شَيْء من ذَلِك قطعا. أما البيع وَقت النداء، وَسَائِر الْعُقُود الْمُحرمَة الَّتِي لَا يُمكن جبرها بالرضى، فالإمام أَحْمد يُبْطِلهَا، لِأَن الشَّارِع عزل أَرْبَابهَا عَن التَّصَرُّف بِالنَّهْي. وَأما عدم حل من تزَوجهَا مَعَ تلبسه بالدانق، فَإِنَّهُ أَمر برده، وَمن لَوَازِم الْأَمر النَّهْي عَمَّا سواهُ، وَمَا سواهُ أضداد كَثِيرَة لم ينْه [عَنْهَا] بخصوصها، وَمن جملَة الأضداد التَّلَبُّس بِالْعقدِ العاري عَن النَّهْي بطرِيق الْخُصُوص، وَإِنَّمَا هُوَ فَرد من تِلْكَ الْأَفْرَاد، والمنهي عَنهُ الْقدر الْمُشْتَرك، وَمَا امتاز كل فَرد من الأضداد فَلَا نهي فِيهِ. وَأما الصَّلَاة فِي الْمحل الْمَغْصُوب فمنهي عَنْهَا لذاتها، لَا لكَونهَا ضداً، وَلَا النَّهْي استلزاماً، فَظهر انفكاك مَحل النزاع. قَالَ الْغَزالِيّ: (إِن قيل: مَا هَذِه الصَّلَاة، قَطْعِيَّة أَو اجتهادية؟ قيل: قَطْعِيَّة، والمصيب فِيهَا وَاحِد، لِأَن من صحّح أَخذ من الْإِجْمَاع، وَهُوَ قَطْعِيّ، وَمن منع أَخذ من التضاد الَّذِي بَين الْقرْبَة وَالْمَعْصِيَة، وَيَدعِي كَون ذَلِك محالاً بِدَلِيل الْعقل. قلت: الْمَسْأَلَة اجتهادية، وَنقل الْإِجْمَاع بَاطِل، والتضاد ظَنِّي لَا قَطْعِيّ فِي خُصُوص الْمَسْأَلَة) انْتهى كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 966 قَوْله: {فَائِدَة: تصح تَوْبَة خَارج مِنْهُ فِيهِ، وَلم يعْص بِخُرُوجِهِ عِنْد ابْن عقيل، وَغَيره [من أَصْحَابنَا] ، [والمعظم] } ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيَّة والأشعرية. قَالَ ابْن عقيل: (لم يَخْتَلِفُوا أَنه لَا يعد واطئاً بنزعه فِي الْإِثْم، بل فِي التَّكْفِير، وكأزالة محرم طيبا بِيَدِهِ، أَو غصب عينا ثمَّ نَدم، وَشرع فِي حملهَا على رَأسه إِلَى صَاحبهَا، أَو أرسل صيدا صَاده محرم، أَو فِي حرم من شرك والرامي بِالسَّهْمِ إِذا خرج السهْم عَن مَحل قدرته فندم، وَإِذا جرح ثمَّ تَابَ وَالْجرْح مَا زَالَ إِلَى السَّرَايَة، فَفِي هَذِه الْمَوَاضِع ارْتَفع الْإِثْم بِالتَّوْبَةِ، وَالضَّمان بَاقٍ، بِخِلَاف مَا لَو كَانَ ابْتِدَاء الْفِعْل غير محرم، كخروج مستعير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 967 من دَار انْتَقَلت عَن الْمُعير، وَخُرُوج من أجنب بِمَسْجِد، فَإِنَّهُ غير آثم اتِّفَاقًا) . وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (ذكر ابْن عقيل: إِن نَام على سطحه فهوى سقفه من تَحْتَهُ على قوم، لزمَه الْمكْث، كَمَا قَالَه الْمُحَقِّقُونَ فِيمَن ألقِي فِي مركبه نَار، وَلَا يضمن مَا تلف بسقوطه؛ لِأَنَّهُ ملْجأ لم يتسبب، وَإِن تلف شَيْء بدوام مكثه أَو بانتقاله ضمنه. وَاخْتَارَ فِي التائب الْعَاجِز عَن مُفَارقَة [الْغَصْب] فِي الْحَال، وَالْعَاجِز عَن إِزَالَة أَثَرهَا كمتوسط مَكَان غصبه، ومتوسط الْجَرْحى تصح تَوْبَته مَعَ الْعَزْم والندم، وَأَنه لَيْسَ عَاصِيا بِخُرُوجِهِ من الْغَصْب) انْتهى. وَالْمَالِك فِي الْحَقِيقَة هُوَ الله، والآدمي مستخلف. قَالَ ابْن برهَان: (قَالَه الْفُقَهَاء و [المتكلمون] كَافَّة) . قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَقد نقل أَبُو مُحَمَّد فِي " الفروق " فِي كتاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 968 الصَّوْم: أَن الشَّافِعِي نَص على تأثيم من دخل أَرضًا [غَاصبا] ، قَالَ: فَإِذا قصد الْخُرُوج مِنْهَا لم يكن عَاصِيا بِخُرُوجِهِ، لِأَنَّهُ تَارِك للغصب) انْتهى. وَمَا نَقله مَوْجُود فِي " الْأُم " فِي كتاب الْحَج فِي الْمحرم إِذا تطيب، فَقَالَ: (وَلَو دخل دَار رجل بِغَيْر إِذْنه لم يكن جَائِزا لَهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ الْخُرُوج مِنْهَا، وَلم أزعم أَنه يحرج بِالْخرُوجِ، وَإِن كَانَ يمشي مَا لم يُؤذن لَهُ، لِأَن مَشْيه لِلْخُرُوجِ من الذَّنب لَا لزِيَادَة مِنْهُ، فَهَكَذَا هَذَا الْبَاب) انْتهى. قَالَ: وَهُوَ من النفائس. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (من توَسط أَرضًا مَغْصُوبَة اسْتَحَالَ تعلق الْأَمر وَالنَّهْي لَهُ بِالْخرُوجِ، إِذْ لَو تعلقا بِهِ لزم التَّكْلِيف بسلب الْحَرَكَة والسكون، لِأَن الْأَمر بالحركة يسْتَلْزم سلب السّكُون، وَالنَّهْي عَنهُ يسْتَلْزم سلب الْحَرَكَة. وَقَالَ الْجُمْهُور: خُرُوجه عَن حرَام بِشَرْط تَوْبَته) انْتهى. {وَخَالف} فِي ذَلِك {أَبُو هَاشم، [وَأَبُو شمر المرجئ} ، وَأَبُو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 969 الْخطاب} من أَصْحَابنَا، {وَقَالَ: لدفع [أكبر المعصيتين بأقلهما] } ، وَلِهَذَا الْكَذِب مَعْصِيّة يجوز فعله لدفع قتل مُؤمن ظلما لذَلِك. وَضعف: بِأَنَّهُ تَكْلِيف بالمحال لتَعلق الْأَمر وَالنَّهْي بِالْخرُوجِ. قَالَ أَبُو الْخطاب: (لَا نسلم أَن حركات الْغَاصِب لِلْخُرُوجِ طَاعَة ومأمور بهَا، وَإِنَّمَا هِيَ مَعْصِيّة يَفْعَلهَا لدفع أَكثر المعصيتين بأقلهما) . {وَقَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {حق الله تَعَالَى يَزُول بِالتَّوْبَةِ، وَحقّ الْآدَمِيّ يَزُول [بِزَوَال أثر] الظُّلم} ، وَهُوَ حسن. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (التَّحْقِيق: أَن هَذِه الْأَفْعَال يتَعَلَّق بهَا حق الله تَعَالَى وَحقّ الْآدَمِيّ، فَأَما حق الله فيزول بِمُجَرَّد النَّدَم، وَأما حُقُوق الْعباد فَلَا تسْقط إِلَّا بعد أَدَائِهَا إِلَيْهِم، وعجزه عَن إيفائها حِين التَّوْبَة لَا يُسْقِطهَا، بل لَهُ أَن يَأْخُذ من حَسَنَات هَذَا الظَّالِم فِي الْآخِرَة إِلَى حِين زَوَال الظُّلم وأثره) انْتهى. { [واستصحب أَبُو] الْمَعَالِي حكم الْمعْصِيَة [مَعَ الْخُرُوج، مَعَ أَنه] غير مَنْهِيّ عَنهُ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 970 قَالَ ابْن مُفْلِح: (كَذَا قيل عَنهُ، {و} قيل {عَنهُ: [إِنَّه] طَاعَة} لأَخذه فِي ترك الْمعْصِيَة، {مَعْصِيّة} لِأَنَّهُ فِي ملك غَيره، ومستند إِلَى فعل متعدي فِيهِ كَالصَّلَاةِ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: (لَو خرج من مَغْصُوب بِقصد التَّوْبَة والإقلاع كَانَ آتِيَا بِوَاجِب، وَإِن كَانَ النَّهْي منسحباً [عَلَيْهِ] حَتَّى يتم خُرُوجه، فَلذَلِك قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: (إِنَّه [مرتبك] فِي الْمعْصِيَة) ، أَي: مشتبك فِيهَا، قَالَ: (لَكِن مَعَ انْقِطَاع تَكْلِيف النَّهْي) ، أَي: لِأَن التَّكْلِيف بترك الْإِقَامَة، أَمر بتحصيل الْحَاصِل، فالمعصية فِيهِ استصحابية، فتضعيف الْغَزالِيّ ذَلِك بِأَن التَّكْلِيف إِذا انْقَطع [فَإلَى مَاذَا تستند] الْمعْصِيَة، واستبعاد ابْن الْحَاجِب لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 971 لأجل ذَلِك، فِيهِ نظر، فَإِنَّهُ لم يقل: انْقَطع النَّهْي بل التَّكْلِيف بِهِ، أَي: انْقَطع إِلْزَامه بالكف عَن الْإِقَامَة، لَا اسْتِصْحَاب ذَلِك النَّهْي، وَلذَلِك قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": " إِن مَا قَالَه الإِمَام دَقِيق ") انْتهى. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: (وَمِمَّا أخرجه على ذَلِك: مَا لَو أولج فِي آخر جُزْء من اللَّيْل عَالما بِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر مِنْهُ النزع إِلَّا فِي جُزْء من النَّهَار، وفرضنا تصور ذَلِك، وَفعل ذَلِك، فسد صَوْمه بالنزع، لِأَنَّهُ تسبب إِلَى المخالطة مَعَ مُقَارنَة الْفجْر، بِخِلَاف من ظن بَقَاء اللَّيْل، وَفعل ذَلِك، فَإِنَّهُ مَعْذُور) انْتهى. وَقَالَ الْمجد فِي " المسودة ": قلت: (وَأحسن من تَصْوِير أبي الْمَعَالِي مَسْأَلَة عَن أَحْمد فِيهَا رِوَايَتَانِ: لَو قَالَ لزوجته إِذا وَطئتك فَأَنت طَالِق ثَلَاثًا، أَو إِذا وَطئتك فَأَنت عَليّ كَظهر أُمِّي، فروايتان فِي إقدامه، فَإِن حل، وَجب على قِيَاسه: أَن الْخَارِج من الْغَصْب ممتثل، وَإِن حرم توجه كَقَوْل أبي هَاشم أَو أبي الْمَعَالِي) . قَالَ ابْن مُفْلِح: (كَذَا قَالَ، وَهَذَا تَكْلِيف بممكن، بِخِلَاف ذَلِك) . وَلم يتعقبه فِي " فروعه ". وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (نَظِير الْمَسْأَلَة تَوْبَة المبتدع الدَّاعِي إِلَى بدعته، وفيهَا رِوَايَتَانِ، أصَحهمَا: الْجَوَاز، وَالْأُخْرَى اخْتِيَار ابْن شاقلا، لإضلال غَيره) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 972 قَوْله: {تَتِمَّة: الْوَاقِع على جريح إِن بَقِي قَتله، وَمثله إِن انْتقل، يضمن وَتَصِح تَوْبَته إِذن فِي الْأَصَح، [قَالَ ابْن عقيل وَغَيره: وَيحرم انْتِقَاله، وَابْن الْمُنِير: ينْتَقل، وَابْن عبد السَّلَام] : إِلَى كَافِر مَعْصُوم، وَأَبُو الْمَعَالِي: لَا حكم، وَقَالَهُ الْغَزالِيّ مرّة، وخيره أُخْرَى} . قَالَ ابْن عقيل: (إِن وَقع على الْجَرْحى بِغَيْر اخْتِيَاره، لزمَه الْمكْث، وَلَا يضمن مَا تلف بسقوطه، وَإِن تلف شَيْء بإستمراره، أَو بانتقاله لزمَه ضَمَانه) ، وَاخْتَارَ: أَن تَوْبَته تصح حِينَئِذٍ، وَلَا تقف صِحَّتهَا على الْمُفَارقَة، بل هُوَ مَعَ الْعَزْم والندم تَارِك مقلع، كَمَا تقدم عَنهُ. وَعند الْمُخَالف: هُوَ عَاص إِلَى أَن يَنْقَضِي أثر الْمعْصِيَة، بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ ابْتَدَأَ الْفِعْل غير محرم كَمَا تقدّمت صورته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 973 وَقَالَ ابْن عقيل أَيْضا -: (لَا يجوز أَن ينْتَقل إِلَى آخر قولا وَاحِدًا، [لِأَنَّهُ يحصل مبتدئ] بِالْجِنَايَةِ، كَمَا لَو سقط من غير اخْتِيَاره فَحصل سُقُوطه على وَاحِد، لم يجز لَهُ عندنَا جَمِيعًا أَن ينْتَقل، فيقف متندماً متمنياً أَن يخلق لَهُ جَنَاحَانِ يطير بهما، أَو يتدلى إِلَيْهِ حَبل يتشبث بِهِ، فَإِذا علم تَعَالَى ذَلِك مِنْهُ، كَانَ ذَلِك غَايَة جهده، وَصَارَ بعد [ندمه] كحجر أوقعه الله تَعَالَى على ذَلِك الجريح) انْتهى. وَهَذِه الْمَسْأَلَة أَلْقَاهَا أَبُو هَاشم فحارت فِيهَا عقول الْفُقَهَاء. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: (لم أَقف فِيهَا من قَول الْفُقَهَاء على ثَبت، وَالْوَجْه الْقطع بِسُقُوط التَّكْلِيف عَنهُ، مَعَ اسْتِمْرَار حكم سخط الله عَلَيْهِ وغضبه) . وَقد سَأَلَهُ الْغَزالِيّ عَن هَذَا فَقَالَ: كَيفَ تَقول لَا حكم، وَأَنت ترى أَنه لَا تَخْلُو وَاقعَة من حكم؟ فَقَالَ: حكم الله: أَن لَا حكم، قَالَ الْغَزالِيّ: فَقلت لَهُ: لم أفهم هَذَا. وَقَالَ فِي " المنخول " فِي مَوضِع كَقَوْل أبي الْمَعَالِي شَيْخه: (لَا حكم فِيهَا أصلا، وَلَا يُؤمر بمكث وَلَا انْتِقَال) ، وَنَقله عَن شَيْخه آخر الْكتاب، ثمَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 974 قَالَ: وَلم أفهمهُ بعد، وَجوز مَعَه فِي غير هَذَا الْكتاب أَن يُقَال: يتَخَيَّر، وَهُوَ قَوْلنَا: (وَخير أُخْرَى) . قَالَ بعض أَصْحَابنَا: (لَعَلَّ أَبَا الْمَعَالِي أَرَادَ: أَنه لَا حكم متجدد غير الحكم الْأَصْلِيّ الَّذِي هُوَ الْبَرَاءَة، فَإِن ذَلِك لَا تَخْلُو مِنْهُ وَاقعَة) . وَرجح ابْن الْمُنِير: أَنه ينْتَقل عَن الَّذِي سقط عَلَيْهِ، لجَوَاز أَن يَمُوت الْمُنْتَقل إِلَيْهِ قبل أَن يصير إِلَيْهِ، فَيسلم من الْمعْصِيَة، فَإِن بَقَاءَهُ على الأول مَعْصِيّة مُحَققَة، فإقلاعه عَنْهَا وَاجِب، كالخروج من الدَّار الْمَغْصُوبَة. وَلَا يَخْلُو قَوْله من نظر. وَفرق ابْن عبد السَّلَام فَقَالَ بعد فَرضهَا فِي صغيرين -: (الْأَظْهر عِنْدِي: لُزُوم الِانْتِقَال فِيمَا إِذا كَانَ الَّذِي سقط عَلَيْهِ مُسلما والمنتقل إِلَيْهِ كَافِرًا، لكنه مَعْصُوم لصِغَر أَو أَمَان، لِأَنَّهُ أخف مفْسدَة. قَالَ: لِأَن قتل أَوْلَاد الْكفَّار جَائِز عِنْد التترس بهم، حَيْثُ لَا يجوز ذَلِك فِي أَطْفَال الْمُسلمين) . أما الْكَافِر غير الْمَعْصُوم فَينْتَقل إِلَيْهِ قطعا، أَو يلْزمه، وَهُوَ قَوْلنَا: {وَيلْزم الْأَدْنَى قطعا} ، إِن كَانَ هُوَ الْوَاقِع عَلَيْهِ لزمَه الِاسْتِمْرَار عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ الآخر لزم الِانْتِقَال إِلَيْهِ قطعا، وَهَذَا مِمَّا لَا خلاف فِيهِ، وعَلى قِيَاسه الزَّانِي الْمُحصن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 975 قَوْله " { [فصل} {الْمَنْدُوب لُغَة: الْمَدْعُو لمهم، [من النّدب وَهُوَ: الدُّعَاء] } . قَالَ الشَّاعِر: (لَا يسْأَلُون أَخَاهُم حِين يندبهم ... فِي النائبات على مَا قَالَ برهاناً) وَهُوَ الطّلب، وَمِنْه الحَدِيث " " انتدب الله لمن يخرج فِي سَبيله "، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 976 أَي: أجَاب لَهُ طلب مغْفرَة ذنُوبه. يُقَال: ندبته فَانْتدبَ. وَيُطلق أَيْضا على التَّأْثِير، وَمِنْه حَدِيث مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام -: " وَإِن بِالْحجرِ ندبا بِفَتْح الدَّال سِتَّة أَو سَبْعَة ضرب مُوسَى " وَأَصله: الْجرْح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 977 قَالَ فِي " الْمِصْبَاح الْمُنِير ": (ندبته إِلَى الْأَمر ندبا من بَاب قتل -: دَعوته، وَالْفَاعِل نادب، وَالْمَفْعُول مَنْدُوب، وَالْأَمر مَنْدُوب إِلَيْهِ، وَالِاسْم الندبة، مثل غرفَة، وَمِنْه الْمَنْدُوب فِي الشَّرْع، وَالْأَصْل الْمَنْدُوب إِلَيْهِ، لَكِن حذفت الصِّلَة مِنْهُ لفهم الْمَعْنى. وانتدبته لِلْأَمْرِ فَانْتدبَ، يسْتَعْمل لَازِما ومتعدياً، وندبت الْمَرْأَة الْمَيِّت ندبا من بَاب قتل أَيْضا وَهِي نادبة، وَالْجمع نوادب، لِأَنَّهُ كالدعاء، فَإِنَّهَا تقبل على تعديد محاسنه كَأَنَّهُ يسْمعهَا) انْتهى. وَقَالَ الْآمِدِيّ: (النّدب فِي اللُّغَة: هُوَ الدُّعَاء إِلَى أَمر مُهِمّ "، وَهُوَ أخص مِمَّا ذَكرْنَاهُ. قَالَ الطوفي: (وَهُوَ أنسب وَأشهر فِي لِسَان الْعَرَب وأغلب، وَعَلِيهِ يحمل كَلَام غَيره، - ثمَّ قَالَ -: النّدب فِي الأَصْل مصدر ندبته ندبا، وَالْمَفْعُول مَنْدُوب، وَهُوَ المُرَاد؛ لِأَنَّهُ الْمُقَابل للْوَاجِب، وَيُقَال لَهُ: ندب، إطلاقاً للمصدر على الْمَفْعُول مجَازًا) انْتهى. وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (نَدبه إِلَى الْأَمر، كنصره: دَعَاهُ وحثه، وَالْمَيِّت: بكاه وَعدد محاسنه) انْتهى. قَوْله: {وَشرعا: مَا [أثبت] فَاعله وَلَو قولا [وَعمل قلب] ، وَلم يُعَاقب تَاركه مُطلقًا} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 978 فَخرج بِقَيْد الثَّوَاب: الْحَرَام، وَالْمَكْرُوه، وَخلاف الأولى، والمباح. وَقَوْلنَا: (وَلَو قولا وَعمل قلب) ، أَعنِي: أَن من الْمَنْدُوب مَا يكون فعلا، وَمَا يكون عملاَ بِالْقَلْبِ. فالفعل: كسنن الْأَفْعَال فِي الصَّلَاة وَالْحج وَغَيرهمَا. وَالْقَوْل أَيْضا -: كسنن الْأَقْوَال فِي الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالْحج وَالِاعْتِكَاف وَغَيرهَا. وَعمل الْقلب: كالخشوع فِي الصَّلَاة، وَالنِّيَّة لفعل الْخَيْر وَالذكر. وَهُوَ كثير من الْأَقْسَام الثَّلَاثَة، حَتَّى قيل فِي النِّيَّة: (يُمكن أَن لَا يزَال فِي طَاعَة مَا دَامَ نَاوِيا للخير) . وَخرج بقوله: (وَلم يُعَاقب تَاركه) ، الْوَاجِب الْمعِين. وب (مُطلقًا) ، الْوَاجِب الْمُخَير وَفرض الْكِفَايَة. قَوْله: {وَيُسمى: سنة ومستحباً} . فَهُوَ مرادف لَهما، أَي: يساويهما فِي الْحَد والحقيقة، وَإِنَّمَا اخْتلفت الْأَلْفَاظ وَالْمعْنَى وَاحِد. والمترادف: هُوَ اللَّفْظ المتعدد لمسمى وَاحِد، كَمَا تقدم بَيَانه. وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": ( {و} يُسمى النّدب: {تَطَوّعا، وَطَاعَة، ونفلاً، وقربة، أجماعاً) } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 979 و {قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل} فِي " أُصُوله ": (وَمن أَسْمَائِهِ: النَّفْل، والتطوع، و { [والمرغب فِيهِ] } ، وَالْمُسْتَحب، { [وَالْإِحْسَان] } ) انْتهى. وَرَأَيْت بَعضهم قيد قَوْله: إحساناً، إِن كَانَ نفعا للْغَيْر مَقْصُودا. وَرَأَيْت فِي كَلَام الشَّافِعِيَّة: أَن من أَسْمَائِهِ: الأولى. وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو طَالب مدرس المستنصرية من أَئِمَّة أَصْحَابنَا فِي " حاويه الْكَبِير ": (إِن الْمَنْدُوب يَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام: أَحدهَا: مَا يعظم أجره يُسمى سنة. وَالثَّانِي: مَا يقل أجره يُسمى نَافِلَة. وَالثَّالِث: مَا يتوسط فِي الْأجر بَين هذَيْن، فيسمى فَضِيلَة ورغيبة. وَمَا واظب على فعله غير مظهر لَهُ، فَفِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا: تَسْمِيَته سنة، نظرا إِلَى الْمُوَاظبَة. وَالثَّانِي: تَسْمِيَة فَضِيلَة، نظرا إِلَى ترك إِظْهَاره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 980 وَهَذَا كركعتي الْفجْر) انْتهى. قلت: رَكعَتَا الْفجْر يسميان سنة بِلَا نزاع، وهما من أَعلَى السّنَن لعظم أجرهما، وَقد قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رَكعَتَا الْفجْر خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا "، وهما آكِد السّنَن، فَذكر الْوَجْهَيْنِ فِي ذَلِك، كَونهَا سنة أَو فَضِيلَة، وَأَن الْفَضِيلَة أحط رُتْبَة من السّنة غير صَحِيح. فَإِن الْأَصْحَاب نصوا على أَنَّهَا أفضل السّنَن الرَّوَاتِب. {و} قَالَ {فِي " الْمُسْتَوْعب "} بعد أَن قَالَ: (قَالَ القَاضِي فِي الغسلات الثَّلَاث فِي الْوضُوء: الأولى: فَرِيضَة، وَالثَّانيَِة: فَضِيلَة، وَالثَّالِثَة: سنة) -: (إِذا قيل لَك: أَي مَوضِع تقدم فِيهِ الْفَضِيلَة على السّنة؟ فَقل: هُنَا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 981 فَظَاهره: أَن {السّنة أَعلَى من الْفَضِيلَة} . وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن من الشَّافِعِيَّة وَالْبَغوِيّ، والخوارزمي: (السّنة: مَا واظب عَلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْمُسْتَحب: مَا فعله مرّة أَو مرَّتَيْنِ. - وَألْحق بذلك بَعضهم: مَا أَمر بِهِ، وَلم ينْقل أَنه فعله والتطوع: مَا لم يرد فِيهِ بِخُصُوصِهِ نقل) . ورده أَبُو الطّيب فِي " منهاجه ": (بِأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حج مرّة وَفِي أَفعاله فِيهِ مَا هُوَ سنة، وَكَذَا لم يصل الاسْتِسْقَاء ويخطب إِلَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 982 مرّة، وهما سنة) . وَقَالَ الْحَلِيمِيّ: (السّنة مَا اسْتحبَّ فعله، وَكره تَركه، وَالْمُسْتَحب: مَا لم يكره تَركه) . وَقيل: (النَّفْل والتطوع وَاحِد، وَهُوَ مَا سوى الْفَرْض وَالسّنة، وَالْمُسْتَحب: من أنواعهما) . وَقيل: (السّنة: مَا فعله النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْمُسْتَحب: مَا أَمر بِهِ، سَوَاء فعله، أَو لَا، أَو فعله وَلم يداوم عَلَيْهِ) . وَقيل: (السّنة: مَا ترتبت، كالراتبة مَعَ الْفَرِيضَة، وَالنَّفْل وَالنَّدْب: مَا زَاد على ذَلِك) . وَقَالَت الْمَالِكِيَّة: (مَا أَمر الشَّرْع بِهِ وَبَالغ فِيهِ سنة، وَأول الْمَرَاتِب تطوع ونافلة، وَبَينهمَا فَضِيلَة ومرغب فِيهِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 983 فَائِدَة: قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: (أخبرنَا الشَّيْخ أَبُو تَمام بِمَكَّة: أَنه سَأَلَ الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق بِبَغْدَاد عَن قَول الْفُقَهَاء: سنة وفضيلة وَنفل وهيئة، فَقَالَ: [هَذِه عامية] فِي الْفِقْه، وَلَا يُقَال إِلَّا فرض وَسنة لَا غير. - قَالَ -: وَأما أَنا فَسَأَلت أَبَا الْعَبَّاس الْجِرْجَانِيّ بِالْبَصْرَةِ فَقَالَ: هَذِه ألقاب لَا أصل لَهَا، وَلَا نعرفها فِي الشَّرْع) . وَالله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 984 قَوْله: {وَهُوَ مَأْمُور بِهِ حَقِيقَة عِنْد أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أصحابهما} . وَحَكَاهُ ابْن عقيل عَن عُلَمَاء الْأُصُول وَالْفُقَهَاء. وَحكى ابْن الصّباغ فِي الْعدة: أَنه مَأْمُور حَقِيقَة عِنْد أَكثر أَصْحَابهم أَبُو الطّيب عَن نَص الشَّافِعِي. {وَعند أبي الْخطاب، والحلواني، وَالْحَنَفِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 985 - مِنْهُم: أَبُو حَامِد وَغَيره -: أَنه {مجَاز} . { [وَذكر] الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: (أَن المرغب فِيهِ من غير أَمر، هَل يُسمى طَاعَة وأمراً حَقِيقَة؟} فِيهِ أَقْوَال لنا، {ثَالِثهَا: طَاعَة} [لَا] مَأْمُورا بِهِ) انْتهى. دَلِيل القَوْل الأول: دُخُوله فِي حد الْأَمر، وانقسام الْأَمر إِلَيْهِمَا، وَهُوَ مستدعى ومطلوب. قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان} [النَّحْل: 90] ، وَإِطْلَاق الْأَمر عَلَيْهِ فِي الْكتاب وَالسّنة، وَالْأَصْل الْحَقِيقَة، وَلِأَنَّهُ طَاعَة لامتثال الْأَمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 986 قَالَ ابْن عقيل: (لَا يجوز غَيره عِنْد أهل اللُّغَة) . رد: بِالْمَنْعِ. ثمَّ: للثَّواب عَلَيْهِ. رد: فَيكون مَأْمُورا بِهِ للثَّواب، كالواجب. رد: بِأَنَّهُ يَعْصِي بِتَرْكِهِ. رد: نعقل الْأَمر وَمُقْتَضَاهُ، وَإِن لم يتَضَمَّن ثَوابًا وعقاباً، وَبِأَن الثَّوَاب بعضه. دَلِيل القَوْل الثَّانِي: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة " مُتَّفق عَلَيْهِ، ولعصى بِتَرْكِهِ. رد: المُرَاد بهَا أَمر الْإِيجَاب، وَلِهَذَا قَيده بالمشقة، وَكَذَا خبر بَرِيرَة الْآتِي فِي أَن الْأَمر للْوُجُوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 987 ثمَّ يُسمى عَاصِيا. قَالَ ابْن عقيل: (هَذَا قِيَاس الْمَذْهَب، لقَوْل أَحْمد فِي تَارِك الْوتر: (رجل سوء) ، وَهُوَ مُقْتَضى اللُّغَة، لِأَن كل مَا أطَاع بِفِعْلِهِ عصى بِتَرْكِهِ) . وَقَالَ: (يُقَال: خَالف أَمر الله: إِذا أهمله، أَو دوَام عَلَيْهِ) . وَلِأَنَّهُ يَصح نفي الْأَمر عَنهُ. رد: بِالْمَنْعِ. وَقَالَ ابْن عقيل: (لابد من تَقْيِيد فِي نَفْيه، فَيُقَال: خَالف أَمر الله فِي النَّفْل، كإثباته، فَيُقَال: أَمر ندب) ، وَلِأَن الْأَمر حَقِيقَة للْإِيجَاب. رد: بِأَن النّدب بعض الْوُجُوب، فَهُوَ كاستعمال الْعَام فِي بعضه، قَالَه فِي " الْعدة "، و " التَّمْهِيد "، وَغَيرهمَا. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بعد حِكَايَة الْخلاف -: (التَّحْقِيق فِي مَسْأَلَة النّدب مَعَ قَوْلنَا: الْأَمر الْمُطلق يُفِيد الْإِيجَاب أَن يُقَال: الْأَمر الْمُطلق لَا يكون إِلَّا إِيجَابا، وَأما الْمَنْدُوب إِلَيْهِ فَهُوَ مَأْمُور بِهِ أمرا مُقَيّدا لَا مُطلقًا، فَيدْخل فِي مُطلق الْأَمر لَا فِي الْأَمر الْمُطلق. يبْقى أَن يُقَال: فَهَل يكون حَقِيقَة أَو مجَازًا؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 988 أجَاب أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ: بِأَنَّهُ مشكك، كالوجود وَالْبَيَاض. وَأجَاب القَاضِي: بِأَن النّدب بعض الْوُجُوب، فَهُوَ كدلالة الْعَام على بعضه، وَهُوَ عِنْده لَيْسَ بمجاز، إِنَّمَا الْمجَاز دلَالَته على غَيره) . وَهَذَا مِنْهُ يَقْتَضِي: أَن الْأَمر إِذا أُرِيد بِهِ الْإِبَاحَة يكون مجَازًا، وَهُوَ خلاف مَا نقل عَنهُ، فَيكون لَهُ قَولَانِ [ثابتان] . قَوْله: {فعلى الأول يكون للفور، قَالَه القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب} . قَالَا: قِيَاسا على الْوَاجِب، لَكِن لَو لم يَفْعَله على الْفَوْر، مَاذَا يكون؟ يحْتَمل: مَا أَتَى بِهِ على وَجهه. { [و] قَالَ ابْن عقيل: تكراره [كالواجب] } . يَعْنِي: كالأمر المُرَاد الْوُجُوب، فَعِنْدَ ابْن عقيل: أَن أَمر النّدب هَل يتَكَرَّر؟ قَالَ: حكمه حكم الْأَمر الَّذِي أُرِيد بِهِ الْوُجُوب، على مَا يَأْتِي فِي مسَائِل الْأَمر، وَيَأْتِي هُنَاكَ أَيْضا: أَن أَمر النّدب كالإيجاب عِنْد القَاضِي وَغَيره، وَيَأْتِي الْخلاف فِيهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 989 قَوْله: {وَهُوَ تَكْلِيف} . يَعْنِي: أَن الْمَنْدُوب تَكْلِيف، {قَالَه الْأُسْتَاذ} أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ، {و} القَاضِي أَبُو بكر ابْن {الباقلاني، وَابْن عقيل، والموفق} ابْن قدامَة، {والطوفي} ، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَغَيرهم. إِذْ مَعْنَاهُ: طلب مَا فِيهِ كلفة، وَقد يكون أشق من الْوَاجِب، وَلَيْسَت الْمَشَقَّة منحصرة فِي الْمَمْنُوع عَن نقيضه حَتَّى يلْزم أَن يكون مِنْهُ. {وَمنعه ابْن حمدَان} من أَصْحَابنَا { [وَأكْثر الْعلمَاء] } ، قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " وَغَيره، فَلَيْسَ بتكليف، وَلَا يُكَلف بِهِ، فَإِن التَّكْلِيف يشْعر بتطويق الْمُخَاطب الكلفة من غير خيرة، وَالنَّدْب فِيهِ تَخْيِير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 990 قَوْله: {وَهِي لفظية} . يَعْنِي: أَن الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة لَفْظِي، وَذَلِكَ مَبْنِيّ على تَفْسِير لفظ التَّكْلِيف، فَإِن أُرِيد بالتكليف: مَا يتَرَجَّح فعله على تَركه، فالمندوب تَكْلِيف، وَإِن أُرِيد بِهِ: أَنه مَطْلُوب طلبا يمْنَع النقيض، فَهُوَ لَيْسَ بتكليف. قَوْله: {وَلَا يلْزم غير حج وَعمرَة بِالشُّرُوعِ، خلافًا لأبي حنيفَة، [و] مَالك} . ذهب أَكثر الْعلمَاء: أَن غير الْحَج وَالْعمْرَة من التطوعات لَا يلْزم بِالشُّرُوعِ فِيهِ، بل هُوَ مُخَيّر فِيهِ بَين إِتْمَامه وقطعه، وَالْأَفْضَل إِتْمَامه بِلَا نزاع، لِلْخُرُوجِ من الْخلاف. وَذَلِكَ " لِأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَنْوِي صَوْم التَّطَوُّع ثمَّ يفْطر "، رَوَاهُ مُسلم وَغَيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 991 وَأما قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} [مُحَمَّد: 33] ، فَيحمل على التَّنْزِيه جمعا بَين الدَّلِيلَيْنِ، هَذَا إِن لم يُفَسر بُطْلَانهَا بِالرّدَّةِ، بِدَلِيل الْآيَة الَّتِي قبلهَا، أَو أَن المُرَاد: فَلَا تبطلوها بالرياء، نَقله ابْن عبد الْبر عَن أهل السّنة، وَنقل عَن الْمُعْتَزلَة تَفْسِيرهَا بِمَعْنى: لَا تبطلوها بالكبائر، لَكِن الظَّاهِر تَفْسِيرهَا بِمَا تقدم. وَاحْتج الْمُخَالف: بِحَدِيث الْأَعرَابِي: هَل عَليّ غَيرهمَا؟ قَالَ: " لَا إِلَّا أَن تطوع "، أَي: فيلزمك التَّطَوُّع إِن تَطَوَّعت، وَإِن كَانَ تَطَوّعا فِي أَصله. وَعِنْدنَا: أَن الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطع، بِدَلِيل أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد أبطل تطوعه كَمَا سبق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 992 وَمِمَّا اسْتشْكل على أبي حنيفَة: تجويزه للمتنفل بعد أَن يشرع فِي الصَّلَاة قَائِما، الصَّلَاة قَاعِدا، فَلذَلِك حالفه صَاحِبَاه، فمنعا الْقعُود طرداً للقاعدة. مَعَ أَنه نقل أَبُو نصر الْعِرَاقِيّ عَن أبي حنيفَة فِي كتاب الصَدَاق: (أَن لَهُ الْخُرُوج من صَوْم التَّطَوُّع، إِلَّا أَنه يجب الْقَضَاء) . وَأما الْحَج وَالْعمْرَة فَيلْزم إِتْمَامهمَا فِي التَّطَوُّع لمن شرع فيهمَا. وَفرق بَينهمَا وَبَين سَائِر التطوعات بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن نفلهما مسَاوٍ لفرضهما، نِيَّة، وَكَفَّارَة، وَغَيرهمَا، فَوَجَبَ أَن يتساويا فِي الْإِتْمَام واللزوم. وَالثَّانِي: - وَهُوَ أَجود، وَبِه أجَاب الإِمَام الشَّافِعِي فِي " الْأُم " أَنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 993 يجب الْمُضِيّ فِي فَاسد التَّطَوُّع مِنْهُمَا كواجبه، فإتمام صَحِيح التَّطَوُّع أولى، قَالَه الْبرمَاوِيّ. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (لِأَن نفل [الْحَج] كفرضه فِي الْكَفَّارَة، وَتَقْرِير الْمهْر بالخلوة مَعَه، بِخِلَاف الصَّوْم) . وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: (لانعقاد الْإِحْرَام لَازِما) . وَقَالَ فِي " الْمُغنِي " و " الشَّرْح ": (لتأكد إحرامهما، وَلَا يخرج مِنْهُمَا بإفسادهما) . قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": (على أَن هَذَا السُّؤَال قد أفسد من أَصله، بِأَن الْحَج لَا يُمكن وُقُوعه تَطَوّعا، [فَإِنَّهُ إِقَامَة شعار الْبَيْت، وَمن فروض] الكفايات، وَهِي تلْزم بِالشُّرُوعِ على الْأَصَح) انْتهى. وَتبع فِي ذَلِك الزَّرْكَشِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ". قلت: وَفِيه نظر، وَذَلِكَ أَنه لَو حج حجَّة الْإِسْلَام مَعَ من حج حجَّة ثَانِيَة: هَل يُقَال: إِن الَّذِي حج ثَانِيًا مَعَ الَّذِي وَجب عَلَيْهِ حجَّة الْإِسْلَام، يكون حجَّة من فروض الكفايات وَالْحَالة هَذِه؟ فِيهِ نظر ظَاهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 994 وَقد قَالَ أَصْحَابنَا: (إِن الْحَج فرض كِفَايَة فِي كل عَام) ، ومرادهم - وَالله أعلم -: إِذا خلا عَام من أَن يُوجد من وَجب عَلَيْهِ حجَّة الْإِسْلَام، فَإِنَّهُ يلْزم الْحَج وَيكون فرض كِفَايَة، لَا أَن كل من حج ثَانِيًا يكون حجَّة ذَلِك من فروض الْكِفَايَة، هَذَا مَا ظهر. وينتفض أَيْضا بِحَجّ الْمُرَاهق، فَإِن حجه نفل، لِأَنَّهُ غير مُخَاطب، إِذْ الْخطاب لَا يتَوَجَّه إِلَيْهِ. وَعَن أَحْمد رِوَايَة بِوُجُوب إتْمَام الصَّوْم، وَلُزُوم الْقَضَاء إِن أفطر، وفَاقا لأبي حنيفَة، وَمَالك، كَمَا تقدم. وَعَن أَحْمد تلْزم صَلَاة التَّطَوُّع بِخِلَاف الصَّوْم، وَمَال إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاق الْجوزجَاني، وَقَالَ: (الصَّلَاة ذَات إِحْرَام وإحلال كَالْحَجِّ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 995 قَالَ الْمجد: (وَرِوَايَة إتْمَام الصَّوْم عكس هَذِه الرِّوَايَة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عبَادَة تجب بإفسادها الْكَفَّارَة الْعُظْمَى كَالْحَجِّ) . وَالْمذهب التَّسْوِيَة، وَقيل: الِاعْتِكَاف كَالصَّوْمِ. وَذكر القَاضِي وَجَمَاعَة من الْأَصْحَاب: (أَن الطّواف كَالصَّلَاةِ فِي الْأَحْكَام، إِلَّا مَا خصّه الدَّلِيل) ، فَظَاهره: أَنه كَالصَّلَاةِ هُنَا، وفَاقا لمَالِك. وَلَا تلْزم الصَّدَقَة، وَالْقِرَاءَة، والأذكار، بِالشُّرُوعِ، وفَاقا للأئمة الْأَرْبَعَة. قَوْله: {فرع: الزَّائِد على قدر [الْوَاجِب] فِي قيام وَنَحْوه} - كركوع وَسُجُود {نفل عِنْد الْأَرْبَعَة، وَغَيرهم} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 996 مِنْهُم: أَكثر أَصْحَابنَا، لجَوَاز تَركه مُطلقًا، وَهَذَا شَأْن النَّفْل. قَالَ ابْن برهَان: (على هَذَا أجمع الْفُقَهَاء والمتكلمون) ، وَلم يحك فِيهِ خلافًا إِلَّا عَن الْكَرْخِي. {وواجب عِنْد بعض الشَّافِعِيَّة، والكرخي} ، لتناول الْأَمر مِنْهُمَا. قَالَ القَاضِي: (وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد) ، وَأَخذه من نَصه على أَن الإِمَام إِذا أَطَالَ الرُّكُوع فأدركه فِيهِ مَسْبُوق أدْرك الرَّكْعَة، وَلَو لم يكن الْكل وَاجِبا لما صَحَّ لَهُ ذَلِك، لِأَنَّهُ يكون اقْتِدَاء مفترض بمنتفل. ورده ابْن عقيل وَأَبُو الْخطاب بِمَا يَأْتِي فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي بعد هَذِه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 997 { [وللقاضي من أَصْحَابنَا كالقول الأول وَالثَّانِي] } . قَوْله: { [وَعند الثَّلَاثَة: إِن أدْرك الرُّكُوع أدْركهَا] } . أَي: ذهبت الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة: أَبُو حنيفَة، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد: أَنه لَو أدْرك الإِمَام رَاكِعا و [لَو] بعد الطُّمَأْنِينَة مِنْهُ أدْرك الرَّكْعَة. قَالُوا: لِأَن الِاتِّبَاع يسْقط الْوَاجِب: كمسبوق، وَصَلَاة امْرَأَة الْجُمُعَة، وَيُوجب الِاتِّبَاع مَا كَانَ غير وَاجِب: كمسافر ائتم بمقيم، فَيلْزمهُ إتْمَام الصَّلَاة. قَالَ ابْن عقيل: (نَص أَحْمد، - يَعْنِي: [الَّذِي] تقدم فِي الَّتِي قبلهَا لَا يدل عِنْدِي على هَذَا الْمَذْهَب، بل يُعْطي أحد أَمريْن: إِمَّا جَوَاز ائتمام المفترض بالمتنفل، وَيحْتَمل أَن يجرى مجْرى الْوَاجِب فِي بَاب الِاتِّبَاع خَاصَّة، إِذا الِاتِّبَاع قد يسْقط الْوَاجِب، كَمَا فِي الْمَسْبُوق، ومصلي الْجُمُعَة من امْرَأَة، وَعبد، ومسافر، وَقد يُوجب مَا لَيْسَ بِوَاجِب: كالمسافر الْمُؤْتَم بمقيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 998 وَقِيَاس الزِّيَادَة الْمُنْفَصِلَة، وَهُوَ فعل الْمثل على الزِّيَادَة الْمُتَّصِلَة) انْتهى. { [و] } قَالَ الإِمَام { [مَالك] } : لَا يدْرك الرُّكُوع إِلَّا إِن أدْرك { [مَعَه الطُّمَأْنِينَة] } . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (من أدْرك الإِمَام رَاكِعا فَرَكَعَ مَعَه أدْرك الرَّكْعَة، وفَاقا لأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ. وَقيل: إِن أدْرك مَعَه الطُّمَأْنِينَة وفَاقا لمَالِك) انْتهى. قَوْله: {فَائِدَة: أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة: الْعِبَادَة [الطَّاعَة] ، وَالْحَنَفِيَّة: بِشَرْط النِّيَّة} . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي آخر " المسودة ": (كل مَا كَانَ طَاعَة ومأموراً بِهِ فَهُوَ عبَادَة عِنْد أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَعند الْحَنَفِيَّة: الْعِبَادَة مَا كَانَ من شَرط النِّيَّة) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 999 فَدخل فِي كَلَام أَصْحَابنَا وَغَيرهم: الْأَفْعَال والتروك: كَتَرْكِ الْمعاصِي، [والنجاسة] ، وَالزِّنَا، والربا، وكل محرم، وَالْأَفْعَال: كَالْوضُوءِ، وَالْغسْل، وَالزَّكَاة، وَقَضَاء الدّين، وَغَيرهَا. وَيدخل فِيهِ: رد الغصوب، والعواري، والودائع، وَالنَّفقَة الْوَاجِبَة، وَالدّين، وَنَحْوهَا، مَعَ الْغَفْلَة عَن النِّيَّة. وَمِنْهَا: الْإِسْلَام على قَول يَأْتِي، وَتقدم. وَلما اشْترطت الْحَنَفِيَّة النِّيَّة، لم يدْخل فِي حَدهمْ التروك كلهَا، وَلَيْسَ الْوضُوء عِنْدهم بِعبَادة، لصِحَّته عِنْدهم بِلَا نِيَّة. قَالَ الْمجد فِي " المسودة " فِي أوائلها: (قَالَ القَاضِي: الْعِبَادَة كل مَا كَانَ طَاعَة لله، أَو قربَة إِلَيْهِ، أَو امتثالاً لأَمره، وَلَا فرق بَين أَن يكون فعلا أَو تركا، فالفعل: كَالْوضُوءِ، وَالْغسْل، وَالزَّكَاة، وَقَضَاء الدّين، وَالتّرْك: كَتَرْكِ الزِّنَا والربا، وَترك أكل الْمُحرمَات وشربها. فَأَما التّرْك؛ فَلَا يحْتَاج إِلَى نِيَّة بِمَنْزِلَة رد الغصوب، وَإِطْلَاق الْمحرم الصَّيْد، وَغسل الطّيب عَن بدنه وثوبه؛ لِأَن ذَلِك كُله طَريقَة التّرْك، فَإِن الْعِبَادَة فِي تجنبه، فَإِذا أَصَابَهُ، لم يُمكن تَركه إِلَّا بِالْفِعْلِ، كَانَ طَرِيقه التّرْك، فيخالف الْوضُوء، لِأَنَّهُ فعل مُجَرّد لَيْسَ فِيهِ ترك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1000 وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة: لَيْسَ بِعبَادة؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ من شَرطهَا النِّيَّة. [وأفسده] وَقَالَ: سُقُوط النِّيَّة فِي صِحَة الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ، لَا يدل على أَنه لَيْسَ بِعبَادة، كَمَا لَا يدل على أَنه لَيْسَ بِطَاعَة وقربة) انْتهى. وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (مَا لم يعلم إِلَّا من الشَّارِع فَهُوَ عبَادَة: كَصَلَاة، وَغَيرهَا. وَهُوَ معنى قَول الْفَخر إِسْمَاعِيل، وَأبي الْبَقَاء، وَغَيرهمَا: (الْعِبَادَة مَا أَمر بِهِ الشَّارِع من غير اطراد عرفي و [لَا اقْتِضَاء] عَقْلِي) . قيل لأبي الْبَقَاء: الْإِسْلَام وَالنِّيَّة عبادتان، وَلَا يفتقران إِلَى النِّيَّة؟ فَقَالَ: (الْإِسْلَام لَيْسَ بِعبَادة لصدوره من الْكَافِر، وَلَيْسَ من أَهلهَا، سلمنَا، لَكِن للضَّرُورَة، لِأَنَّهُ لَا يصدر إِلَّا من كَافِر. وَأما النِّيَّة فلقطع التسلسل) . وَقَالَ القَاضِي فِي " الْخلاف ": (مَا كَانَ طَاعَة لله تَعَالَى فعبادة) ، - وَتقدم -. ثمَّ قَالَ ابْن مُفْلِح: وَذكر بعض أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة: أَنه لَيْسَ من شَرط الْعِبَادَة النِّيَّة، خلافًا للحنفية، وَنِيَّة الصَّلَاة تَضَمَّنت الستْرَة واستقبال الْقبْلَة لوجودهما فِيهَا حَقِيقَة، وَلِهَذَا يَحْنَث بالاستدامة) انْتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1001 فَهَذَا الَّذِي ذكره عَن بعض الْأَصْحَاب، هُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْمَتْن، وَهُوَ الَّذِي ذكره الْمجد وحفيده. لَكِن يبْقى نِسْبَة ذَلِك إِلَى بَقِيَّة الْمذَاهب، يَنْبَغِي أَن يجْرِي من أَرْبَابهَا، وَالله أعلم. قَوْله: {وَالطَّاعَة: مُوَافقَة الْأَمر، وَالْمَعْصِيَة: مُخَالفَته، عِنْد الْفُقَهَاء، وَعند الْمُعْتَزلَة: مُخَالفَة الْإِرَادَة} . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي آخر " المسودة ": (الطَّاعَة: مُوَافقَة الْأَمر عندنَا، وَبِه قَالَ الْفُقَهَاء، والأشعرية، وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: [هِيَ] مُوَافقَة الْإِرَادَة) . وَقَالَ فِي أول " المسودة ": (فصل: قَالَ القَاضِي فِي الْحُدُود، وَفِي مَسْأَلَة الْمَأْمُور بِهِ أَمر ندب: [إِن كل طَاعَة فَهُوَ مَأْمُور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1002 بِهِ] ، الطَّاعَة: مُوَافقَة الْأَمر، وَالْمَعْصِيَة: مُخَالفَة الْأَمر. وَقَالَ على ظهر الْجُزْء: حد الْأَمر: مَا كَانَ الْمَأْمُور بِفِعْلِهِ ممتثلاً، وَلَيْسَ حَده: مَا كَانَ طَاعَة، لِأَن الْفِعْل يكون طَاعَة بالترغيب فِي الْفِعْل وَإِن لم يَأْمر بِهِ، كَقَوْلِه: من صلى غفرت لَهُ، وَمن صَامَ فقد أَطَاعَنِي، وَلَا يكون ذَلِك أمرا) انْتهى. وَقَالَ فِي " الْوَاضِح ": (الطَّاعَة: الْمُوَافقَة لِلْأَمْرِ على مَذْهَب أهل السّنة، والموافقة للإرادة على مَذْهَب الْمُعْتَزلَة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1003 (قَوْله: {فصل} ) {الْمَكْرُوه: ضد الْمَنْدُوب} . الْمَكْرُوه لُغَة: من الكريهة والشدة فِي الكرب، وأصل الْكَرَاهَة لُغَة: خلاف الْإِرَادَة. فَمَعْنَى كَرَاهَة الشَّرْع لشَيْء: إِمَّا عدم إِرَادَته، أَو إِرَادَة ضِدّه، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِن كره الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ} [التَّوْبَة: 46] . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (الْمَكْرُوه لُغَة: ضد المحبوب، أخذا من الْكَرَاهَة، وَقيل: من الكريهة وَهِي الشدَّة فِي الْحَرْب) انْتهى وكرهته أكرهه من بَاب تَعب كرها، ضد أحببته، فَهُوَ مَكْرُوه. والكره، بِالْفَتْح، الْمَشَقَّة، وبالضم: الْقَهْر. وَقيل: بِالْفَتْح: الْإِكْرَاه، وبالضم: الْمَشَقَّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1004 وأكرهته على الْأَمر: حَملته عَلَيْهِ قهرا، يُقَال: فعلته كرها، أَي: إِكْرَاها، وَعَلِيهِ قَوْله تَعَالَى: {طَوْعًا أَو كرها} [التَّوْبَة: 53، وفصلت: 11] ، فقابل بَين الضدين. قَالَ الزّجاج: (كل مَا فِي الْقُرْآن من الكره - بِالضَّمِّ - فالفتح فِيهِ جَائِز، إِلَّا قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْبَقَرَة: {كتب عَلَيْكُم الْقِتَال وَهُوَ كره لكم} [الْبَقَرَة: 216] . والكريهة: الشدَّة فِي الْحَرْب) ، ذكر ذَلِك فِي " الْبَدْر الْمُنِير ". قَوْله: {وَهُوَ: مَا مدح تَاركه، وَلم يذم فَاعله} . فَخرج ب (مَا مدح) : الْمُبَاح؛ فَإِنَّهُ لَا مدح فِيهِ وَلَا ذمّ. وَخرج بقوله: (تَاركه) : الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب؛ فَإِن فاعلهما يمدح، لَا تاركهما. وَخرج بقوله: (وَلم يذم فَاعله) : الْحَرَام، فَإِنَّهُ يذم فَاعله، لِأَنَّهُ وَإِن شَارك الْمَكْرُوه فِي الْمَدْح بِالتّرْكِ، فَإِنَّهُ يُفَارِقهُ فِي ذمّ فَاعله. قَوْله: {وَهل يُثَاب بِفِعْلِهِ؟ ثَالِثهَا: لَا؛ إِن كره لذاته} . فِي هَذِه الْمَسْأَلَة؛ أَعنِي: فِي حُصُول الثَّوَاب بِفعل الْمَكْرُوه، وَعدم ثَوَابه أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه لَا يُثَاب عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهر كَلَام كثير من الْعلمَاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1005 قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (قَالُوا فِي الْأُصُول: الْمَكْرُوه لَا ثَوَاب فِي فعله، قَالَ: وَقد يكون المُرَاد مِنْهُم: مَا كره بِالذَّاتِ لَا بِالْعرضِ، قَالَ: وَقد يحمل قَوْلهم على ظَاهره، وَلِهَذَا لما احْتج من كره صَلَاة الْجِنَازَة فِي الْمَسْجِد بالْخبر الضَّعِيف الَّذِي رَوَاهُ أَحْمد وَغَيره: " من صلى على جَنَازَة فِي الْمَسْجِد فَلَيْسَ لَهُ من الْأجر شَيْء "، لم يقل أحد بِالْأَجْرِ مَعَ الْكَرَاهَة، لَا اعتقادا وَلَا بحثا. - وَقَالَ أَيْضا -: وَقد يتَوَجَّه من صِحَة نفل من صلى فِي غصب إثابته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1006 عَلَيْهِ، فيثاب على فَرْضه من الْوَجْه الَّذِي صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا فَائِدَة فِي صِحَة نفله، وَلَا ثَوَاب لبراءة ذمَّته، وَيلْزم مِنْهُ: يُثَاب على كل عبَادَة كرهت) انْتهى. وَهَذِه الْأَقْوَال الَّتِي ذكرتها فِي الأَصْل، أَخَذتهَا من كَلَام ابْن مُفْلِح فِي " فروعه " فِي بَاب ستر الْعَوْرَة، وَلم أرها فِي غَيره. وَمحل ذَلِك إِذا قُلْنَا: إِنَّه لَا يُثَاب على فعل عبَادَة على وَجه محرم كَمَا تقدم، وَأما إِذا قُلْنَا: إِنَّه يُثَاب عَلَيْهَا، فيثاب هُنَا قطعا. قَوْله: {وَفِي كَونه مَنْهِيّا عَنهُ حَقِيقَة، وتكليفا، كالمندوب} . إِن قُلْنَا: الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ حَقِيقَة - وَهُوَ الصَّحِيح كَمَا تقدم - فالمكروه مَنْهِيّ عَنهُ حَقِيقَة على الصَّحِيح، وَإِن قُلْنَا: الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ مجَازًا، فالمكروه مَنْهِيّ مجَازًا. وَإِن قُلْنَا: الْمَنْدُوب تَكْلِيف - وَهُوَ الْأَصَح دَلِيلا كَمَا تقدم - فالمكروه تَكْلِيف على الْأَصَح، وَإِن قُلْنَا: الْمَنْدُوب غير تَكْلِيف - وَعَلِيهِ الْأَكْثَر كَمَا تقدم - فالمكروه غير تَكْلِيف. فَهُوَ على وزانه سَوَاء، لِأَنَّهُ مُقَابِله، ذكره الْعلمَاء. قَوْله: {وَيُطلق على الْحَرَام} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1007 يُطلق الْمَكْرُوه وَيُرَاد بِهِ الْحَرَام، وَهُوَ كثير فِي كَلَام الإِمَام أَحْمد، وَغَيره من الْمُتَقَدِّمين. قَالَ الإِمَام أَحْمد: (أكره الْمُتْعَة) ، (وَالصَّلَاة فِي الْمَقَابِر) ، وهما محرمان. لَكِن لَو ورد عَن الإِمَام أَحْمد الْكَرَاهَة فِي شَيْء، من غير أَن يدل دَلِيل من خَارج على التَّحْرِيم، وَلَا على التَّنْزِيه، فللأصحاب فِيهَا وَجْهَان، هَل المُرَاد التَّحْرِيم أَو التَّنْزِيه؟ أَحدهمَا: المُرَاد: التَّحْرِيم، اخْتَارَهُ الْخلال، وَصَاحبه أَبُو بكر عبد الْعَزِيز، وَابْن حَامِد، وَغَيرهم، بِدَلِيل مَا تقدم. وَقد قَالَ الْخرقِيّ: (وَيكرهُ أَن يتَوَضَّأ فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة) ، وَهُوَ محرم، لَكِن قَالُوا عَن كَلَامه، إِنَّمَا كَانَ محرما بِدَلِيل، وَهُوَ قَوْله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1008 (والمتخذ آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة عَاص، وَعَلِيهِ الزَّكَاة) ، فَهَذِهِ قرينَة تدل على التَّحْرِيم. وَالْوَجْه الثَّانِي: المُرَاد: التَّنْزِيه، اخْتَارَهُ جمَاعَة من الْأَصْحَاب. وَفِيه وَجه ثَالِث: يرجع إِلَى الْقَرَائِن، وَهُوَ أظهر الْأَوْجه. وَقد قَالَ الإِمَام أَحْمد: (أكره النفخ فِي الطَّعَام، وإدمان اللَّحْم، وَالْخبْز الْكِبَار) ، وَمرَاده: كَرَاهَة التَّنْزِيه هُنَا، وَالله أعلم. وَقد ورد الْمَكْرُوه بِمَعْنى الْحَرَام فِي الْقُرْآن، فِي قَوْله تَعَالَى: {كل ذَلِك كَانَ سيئه عِنْد رَبك مَكْرُوها} [الْإِسْرَاء: 38] . وَقد قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: (أكره آنِية العاج) ، وَقَالَ فِي السّلم: (أكره اشْتِرَاط الأعجف والمشوي والمطبوخ) . قَوْله: {وعَلى ترك الأولى} . يُطلق الْمَكْرُوه على ترك الأولى، {وَهُوَ: ترك مَا فعله رَاجِح، [أَو: فعل مَا تَركه رَاجِح، وَلَو لم يكن مَنْهِيّا عَنهُ، كَتَرْكِ المندوبات] } . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1009 قَالَ الْعَسْقَلَانِي - شَارِح الطوفي - فِي ترك الأولى: (مَا مصْلحَته راجحة، وَإِن لم يكن مَنْهِيّا عَنهُ، كَتَرْكِ المندوبات) . وَمِنْه قَول الْخرقِيّ: (وَمن صلى بِلَا أَذَان وَلَا إِقَامَة كرهنا لَهُ ذَلِك، وَلَا يُعِيد) . أَي: الأولى أَن يُصَلِّي بِأَذَان وَإِقَامَة أَو بِأَحَدِهِمَا، وَإِن أخل بهما ترك الأولى. فَترك الأولى مشارك للمكروه فِي حَده، إِلَّا أَنه مَنْهِيّ غير مَقْصُود، وَالْمَنْع من الْمَكْرُوه أقوى من الْمَنْع من خلاف الأولى. قَالَ بَعضهم: (إِنَّمَا يُقَال: ترك الأولى مَكْرُوه، إِذا كَانَ منضبطا، كالضحى وَقيام اللَّيْل، وَمَا لَا تَحْدِيد لَهُ وَلَا ضَابِط من المندوبات لَا يُسمى تَركه مَكْرُوها، وَإِلَّا لَكَانَ الْإِنْسَان فِي كل وَقت ملابسا للمكروهات الْكَثِيرَة، من حَيْثُ أَنه لم يقم ليُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، أَو يعود مَرِيضا، وَنَحْوه) . وَقَالَ بَعضهم: (يُطلق - أَيْضا - الْمَكْرُوه على مَا وَقعت الشُّبْهَة فِي تَحْرِيمه، كلحم السَّبع: ويسير النَّبِيذ، وَنَحْو ذَلِك من الْمسَائِل الْمُخْتَلف فِي تَحْرِيمهَا) ، وَذكره الْغَزالِيّ، والآمدي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1010 قَوْله: {وَلنَا وَجه: أَنه حرَام} . ذكره ابْن حمدَان فِي " مقنعه " وَغَيره. { [وَهُوَ مَذْهَب مُحَمَّد] بن الْحسن} . يَعْنِي: أَنه مرادف لِلْحَرَامِ، فَلَا يُطلق على غَيره إِلَّا بِقَرِينَة فِيمَا يظْهر. {وَعَن أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف: هُوَ إِلَى الْحَرَام أقرب} . لَا شكّ أَن الْمَكْرُوه وَاسِطَة بَين الْمُبَاح وَالْحرَام، فَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف قَالَا: هُوَ إِلَى الْحَرَام أقرب مِنْهُ إِلَى الْمُبَاح. وَرَأَيْت الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع " قَالَ: (النَّقْل عَن مُحَمَّد بن الْحسن: أَن كل مَكْرُوه حرَام، وَعَن صَاحِبيهِ: أَن الْمَكْرُوه كَرَاهَة تَنْزِيه إِلَى الْحل أقرب) انْتهى. فَهَذَا النَّقْل عَنْهُمَا مُخَالف للْأولِ عَنْهُمَا، وَقد يكون لَهما قَولَانِ، فَليُحرر من أَصْحَابهم. قَوْله: {وَهُوَ فِي عرف الْمُتَأَخِّرين للتنزيه} . يَعْنِي: أَن الْمُتَأَخِّرين اصْطَلحُوا على أَنهم إِذا أطْلقُوا الْكَرَاهَة فمرادهم التَّنْزِيه، لَا التَّحْرِيم، وَإِن كَانَ عِنْدهم لَا يمْتَنع أَن يُطلق على الْحَرَام، لَكِن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1011 قد جرت عَادَتهم وعرفهم أَنهم إِذا أَطْلقُوهُ أَرَادوا التَّنْزِيه، وَهَذَا مصطلح لَا مشاحة فِيهِ. فَائِدَة: اعْلَم أَن فِي إِطْلَاق الْكَرَاهَة على هَذِه الْأَرْبَعَة خلافًا، فِي أَنه حَقِيقَة فِي التَّنْزِيه، مجَاز فِي غَيره، أَو مُشْتَرك فِيهِ، قَولَانِ للْعُلَمَاء. وَفِي " الْمُسْتَصْفى ": إِطْلَاق اشْتِرَاك بَين الْأَرْبَعَة، ونازعه بَعضهم. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَيُطلق فِي الشَّرْع بالاشتراك، على الْحَرَام، وعَلى ترك الأولى، وعَلى كَرَاهَة التَّنْزِيه، وَقد يُرَاد مَا فِيهِ شُبْهَة وَتردد) انْتهى. قَوْله: {وَيُقَال لفَاعِله: مُخَالف، وَغير ممتثل، ومسيء، نصا} . مَعَ أَنه لَا يذم فَاعله، وَلَا يَأْثَم على الْأَصَح. قَالَ الإِمَام أَحْمد - فِيمَن زَاد على التَّشَهُّد -: (أَسَاءَ) . وَقَالَ ابْن عقيل - فِيمَن أَمر بِحَجّ أَو عمْرَة فِي شهر فَفعله فِي غَيره -: (أَسَاءَ لمُخَالفَته) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1012 وَذكر غَيره فِي مَأْمُوم وَافق إِمَامًا فِي أَفعاله -: (أَسَاءَ) . { [وَظَاهر كَلَام بَعضهم] : ( [تخْتَص الْإِسَاءَة بالحرام] ) } . فَلَا يُقَال: (أَسَاءَ) ، إِلَّا لفعل محرم. {و [ذكر] القَاضِي، وَابْن عقيل: يَأْثَم بترك السّنَن أَكثر عمره) } ، لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: (من رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني) مُتَّفق عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ مُتَّهم أَن يَعْتَقِدهُ غير سنة. {واحتجا بقول أَحْمد - فِيمَن ترك الْوتر -: (رجل سوء) } ، مَعَ أَنه سنة، وَأخذ بَعضهم من هَذَا وُجُوبه عِنْده. وَقَالَ القَاضِي فِي " الْعدة "، وَأَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": (ذمه، مَعَ قَوْله: الْوتر سنة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1013 وَنقل أَبُو طَالب: (الْوتر سنة، سنه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَمن ترك سنة من سنَنه فَرجل سوء) انْتهى. وَالَّذِي يظْهر: أَن إِطْلَاق الإِمَام أَحْمد أَنه رجل سوء، إِنَّمَا مُرَاده من اعْتقد أَنه غير سنة، وَتَركه لذَلِك، فَيبقى كَأَنَّهُ اعْتقد السّنة الَّتِي سنّهَا الرَّسُول غير سنة، فَهُوَ مُخَالف للرسول، ومعاند لما سنه. أَو أَنه تَركه بِالْكُلِّيَّةِ، وَتَركه لَهُ كَذَلِك، يدل على أَن فِي قلبه مَا لَا يُريدهُ الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قَوْله: {فَائِدَة: الْأَرْبَعَة وَغَيرهم: مُطلق الْأَمر لَا يتَنَاوَل الْمَكْرُوه، وَخَالف أَبُو بكر الرَّازِيّ} الْحَنَفِيّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1014 قَالَ أَبُو مُحَمَّد التَّمِيمِي - من أَصْحَابنَا -: (هُوَ قَول بعض أَصْحَابنَا) وَنَقله السَّمْعَانِيّ وَغَيره عَن الْحَنَفِيَّة. استدلوا للْأولِ: بِأَن الْمَكْرُوه مَطْلُوب التّرْك، والمأمور مَطْلُوب الْفِعْل، فيتنافيان. وَلَا يَصح الِاسْتِدْلَال لصِحَّة طواف الْمُحدث بقوله تَعَالَى: {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} [الْحَج: 29] ، وَلَا لعدم التَّرْتِيب والموالاة بقوله تَعَالَى فِي آيَة الْوضُوء: {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [الْمَائِدَة: 6] . قَالَ ابْن عقيل: (وَكَذَا وَطْء الزَّوْج الثَّانِي فِي حيض لَا يحلهَا للْأولِ) . (ومرادهم مَا ذَكرُوهُ فِي الْمَسْأَلَة [من] الصّفة الْمَشْرُوطَة) ، قَالَه ابْن مُفْلِح. وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: (تظهر فَائِدَة الْخلاف فِي قَوْله تَعَالَى: {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} [الْحَج: 29] ، فعندنا لَا يتَنَاوَل الطّواف بِغَيْر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1015 طَهَارَة، وَلَا منكوسا، وَعِنْدهم يتَنَاوَلهُ، فَإِنَّهُم وَإِن اعتقدوا كَرَاهَته قَالُوا فِيهِ: يجزيء لدُخُوله تَحت الْأَمر، وَعِنْدنَا لَا يدْخل، لِأَنَّهُ لَا يجوز أصلا، فَلَا طواف بِدُونِ شَرطه، وَهُوَ الطَّهَارَة، ووقوعه على الْهَيْئَة الْمَخْصُوصَة. - قَالَ -: وَحجَّتنَا: أَن الْأَمر للْوُجُوب حَقِيقَة، وللندب وَالْإِبَاحَة مجَازًا، وَلَيْسَ الْمَكْرُوه من الثَّلَاثَة) انْتهى. تَنْبِيه: لم يذكر ابْن الْحَاجِب هَذِه الْمَسْأَلَة، بل ذكر مَسْأَلَة: يَسْتَحِيل كَون الشَّيْء وَاجِبا حَرَامًا من جِهَة وَاحِدَة. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": (هَذِه الْمَسْأَلَة الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي الْمَتْن: الْفِعْل إِمَّا مَطْلُوب الإيجاد أَو التّرْك، فَأَما أَن يكون مطلوبهما مَعًا، فَفِيهِ تَفْصِيل. فَإِن كَانَ من جِهَة وَاحِدَة فممتنع؛ لِأَنَّهُ جمع بَين الضدين، فَلذَلِك صدر ابْن الْحَاجِب كَلَامه فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بقوله: (يَسْتَحِيل كَون الشَّيْء وَاجِبا حَرَامًا من جِهَة وَاحِدَة، إِلَّا عِنْد من يجوز تَكْلِيف الْمحَال) . وَأما ابْن السَّمْعَانِيّ فَعبر عَن ذَلِك بقوله: (الْأَمر الْمُطلق لَا يتَنَاوَلهُ الْمَكْرُوه، وَذهب أَصْحَاب أبي حنيفَة إِلَى أَنه يتَنَاوَلهُ) ، وَذكر مَا تقدم عَنهُ -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1016 قَالَ: (وإطلاقه الْمَكْرُوه شَامِل للمكروه تَحْرِيمًا وتنزيها، لِأَن النَّهْي اقْتضى تَركه) . فَجعل الْبرمَاوِيّ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَاحِدَة - فِيمَا يظْهر -، وَهُوَ ظَاهر كَلَام ابْن الْحَاجِب، وَنحن جعلناهما مَسْأَلَتَيْنِ، تبعا لِابْنِ مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَكَذَلِكَ التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع ". لَكِن قَالَ الكوراني - شَارِحه، لما قَالَ فِيهِ: (مُطلق الْأَمر لَا يتَنَاوَل الْمَكْرُوه خلافًا للحنفية) -: (التَّعْبِير عَن هَذِه الْمَسْأَلَة بِمَا عبر بِهِ الشَّيْخ ابْن الْحَاجِب هُوَ اللَّائِق، إِذْ قَالَ: (الْمَكْرُوه مَنْهِيّ عَنهُ، غير مُكَلّف بِهِ) . وَإِنَّمَا كَانَ لائقا إِذا الْمنْهِي عَنهُ كَيفَ يكون مَأْمُورا بِهِ؟ إِذْ الْمَكْرُوه يمدح تَاركه، فَلَا يتَصَوَّر الْأَمر بِهِ شرعا. وَعبارَة المُصَنّف قَاصِرَة عَن هَذَا المرام، إِذْ عدم التَّنَاوُل يشْعر بصلاح الْمحل وَلَكِن لم يَقع فِي الْخَارِج، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل عدم التَّنَاوُل لعدم قابلية الْمحل بعد تعلق الْكَرَاهَة بِهِ. وَقَوله: (خلافًا للحنفية) ، صَرِيح فِي أَن الْحَنَفِيَّة قَائِلُونَ بِأَن الْأَمر يتَنَاوَل الْمَكْرُوه، وَهَذَا أَمر لَا يعقل، لِأَن الْمُبَاح عِنْدهم غير مَأْمُور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1017 بِهِ، مَعَ [كَون] طَرفَيْهِ على حد الْجَوَاز، فَكيف يتَصَوَّر أَن يكون الْمَكْرُوه من جزئيات الْمَأْمُور بِهِ فِي شَيْء من الصُّور، وكتبهم أصولا وفروعا مصرحة بِأَن الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة فَاسِدَة، حَتَّى الَّتِي لَهَا سَبَب، مُطلقًا) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1018 (قَوْله: {فصل} ) {الْمُبَاح لُغَة: الْمُعْلن والمأذون} . وَالْإِبَاحَة مَأْخُوذَة من مَادَّة (الاتساع) ، وَمِنْه: باحة الدَّار، أَي: ساحتها. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (الْمُبَاح لُغَة: المعن والمأذون، أخذا من الْإِبَاحَة، وَهِي الْإِظْهَار والإعلان، وَمِنْه: باح بسره) انْتهى. وَمِنْه: أبحت لَهُ الشَّيْء، أَي: [أطلقهُ] لَهُ. وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (هُوَ مُشْتَقّ من الْإِبَاحَة، وَهِي: الْإِظْهَار، وَقيل: من باحة الدَّار، وَهِي: ساحتها، وَفِيه معنى السعَة وَانْتِفَاء العائق) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1019 وَفِي " الْقَامُوس ": (أبحتك الشَّيْء: أحللته لَك، وباح: ظهر بسره، كأباحه) انْتهى. وَقَالَ فِي " الْبَدْر الْمُنِير ": (باح الشَّيْء بوحا - من بَاب قَالَ -: ظهر، وَيَتَعَدَّى بالحرف فَيُقَال: باح بِهِ صَاحبه، وبالهمزة - أَيْضا - فَيُقَال: أَبَاحَهُ، وأباح الرجل مَاله: أذن فِي الْأَخْذ وَالتّرْك، وَجعله مُطلق الطَّرفَيْنِ، واستباحه النَّاس: أقدموا عَلَيْهِ) انْتهى. قَوْله: {وَشرعا: مَا خلا من مدح [وذم] لذاته} . فقولنا: (مَا خلا من مدح وذم) ، أخرج بِهِ الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب وَالْحرَام وَالْمَكْرُوه، وخروجها بذلك وَاضح، لِأَن كلا من الْأَرْبَعَة لَا يَخْلُو من مدح أَو ذمّ، إِمَّا فِي الْفِعْل، وَإِمَّا فِي التّرْك. وَلَا يبطل طرد [خِصَال] الْكَفَّارَة، وَلَا الصَّلَاة أول الْوَقْت، لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْء من الْخِصَال على التَّعْيِين، وَلَا من الْأَوْقَات وَاجِبا. لَكِن لَا بُد فِيهِ من الْإِذْن، لِأَنَّهُ مُتَعَلق الْإِبَاحَة، فَيخرج حكم الْأَشْيَاء قبل وجود الشَّرْع، وَفعل غير الْمُكَلف، وَلذَلِك قُلْنَا: { [وَلَيْسَ مِنْهُ فعل غير الْمُكَلف، قَالَه القَاضِي وَغَيره] } ، فَإِنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1020 قَالَ: (الْمُبَاح هُوَ كل فعل مَأْذُون فِيهِ لفَاعِله، لَا ثَوَاب لَهُ على فعله، وَلَا عِقَاب فِي تَركه) . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (فِيهِ احْتِرَاز من فعل الصّبيان والمجانين والبهائم) . وَسَيَأْتِي كَلَام جده. نعم؛ المُرَاد بِكَوْنِهِ لَا مدح فِيهِ وَلَا ذمّ: الَّذِي شَأْنه ذَلِك، أَو يُقَال: لذاته، كَمَا قُلْنَا فِي الْمَتْن، ليخرج مَا ترك بِهِ حَرَامًا؛ فَإِنَّهُ يُثَاب عَلَيْهِ من تِلْكَ الْجِهَة، وَيكون وَاجِبا على رَأْي الكعبي وَأَتْبَاعه كَمَا يَأْتِي، فَإِن ذَلِك لَا يخْتَص بالمباح، وَمَا لَو ترك بِهِ وَاجِبا، فَإِنَّهُ - أَيْضا - يذم من تِلْكَ الْجِهَة. وَالْمرَاد بالمدح والذم: أَن يرد مَا يدل على ذَلِك بطرِيق من الطّرق، كمدح الْفَاعِل أَو ذمه، أَو وعده أَو وعيده، أَو غير ذَلِك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1021 قَوْله: {وَيُسمى: طلقا وحلالا} . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَمن أَسْمَائِهِ: الْمُطلق والحلال) . قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي نظمه وَشَرحه: (يُسمى: مُطلقًا وحلالا) انْتهى. وَالَّذِي رَأَيْته فِي " الْمُنْتَخب " للرازي، وَغَيره: (أَنه يُسمى حَلَالا وطلقا) ، بِلَا مِيم فِي طلقا. وَفِي بعض نسخ " الْمُنْتَخب ": (حَلَالا طلقا) بِلَا وَاو. وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الطلق: الْحَلَال) . وَقَالَ فِي " الْمِصْبَاح الْمُنِير ": (وَشَيْء طلق - وزان حمل - أَي: حَلَال، وَافْعل هَذَا طلقا لَك، أَي: حَلَالا، وَيُقَال: الطلق: الْمُطلق الَّذِي يتَمَكَّن صَاحبه [فِيهِ] من جَمِيع التَّصَرُّفَات، فَيكون " فعل " بِمَعْنى: مفعول، مثل: الذّبْح، بِمَعْنى: الْمَذْبُوح، وأعطيته من طلق مَالِي، أَي: من حلّه، أَو من مطلقه) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1022 فيتبين بِهَذَا أَن قَول من قَالَ: مُطلقًا، تَصْحِيف. أما مَا قَالَه ابْن قَاضِي الْجَبَل، فَيمكن أَن يكون من الْكَاتِب، وَهُوَ الظَّاهِر، وَيحْتَمل أَن يكون تصحف عَلَيْهِ. وَأما مَا قَالَه الْبرمَاوِيّ فَلَا يحْتَمل إِلَّا الِاشْتِبَاه عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي " منظومته ": (وَذُو الْإِبَاحَة مُبَاح جَائِز ... موسع وَمُطلق وَجَائِز) فَلَا يُمكن هُنَا التَّصْحِيف من الْكَاتِب؛ لِأَن النّظم لَا يَسْتَقِيم إِلَّا بإتيان الْمِيم، فَعلمنَا أَنه قصد ذَلِك، وَصرح بذلك فِي شَرحه، وَالله أعلم. وَأما قَوْلهم: يُقَال للطلق مُطلق، فإطلاق مِنْهُم الْمُطلق على الطلق، لَا أَنهم سموا الْمُبَاح مُطلقًا، إِلَّا إِذا ارتكبوا الْمجَاز بدرجتين، وَمَا الَّذِي اضْطر إِلَى ذَلِك، خُصُوصا للمصنفين، ولعلهم أَرَادوا: الْمُطلق من كل قيد، فَتخرج الْأَحْكَام الْأَرْبَعَة وَيبقى الْمُبَاح، وَهُوَ بعيد، وَالْأولَى اتِّبَاع اللُّغَة فِي ذَلِك. قَوْله: {وَيُطلق هُوَ والحلال على [غير] الْحَرَام} . { [فَيعم] } الْأَحْكَام { [الْأَرْبَعَة] } ، وَهِي: الْوَاجِب، وَالْمَنْدُوب، وَالْمَكْرُوه، والمباح، لَكِن الْمُبَاح يُطلق على الثَّلَاثَة، والحلال على الْأَرْبَعَة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1023 فَيُقَال للْوَاجِب وَالْمَنْدُوب وَالْمَكْرُوه: مُبَاح. وَيُقَال لهَذِهِ الثَّلَاثَة وللمباح: حَلَال. لَكِن إِطْلَاق الْمُبَاح على مَا اسْتَوَى طرفاه هُوَ الأَصْل، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {فجعلتم مِنْهُ حَرَامًا وحلالا} [يُونُس: 59] . قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وسلك بعض الْعلمَاء ذَلِك فِي تَقْسِيم الحكم، فَقَالَ: الحكم قِسْمَانِ: تَحْرِيم، وَإِبَاحَة. وَفِي " تَعْلِيقه " الشَّيْخ أبي حَامِد فِي كتاب النِّكَاح: (إِنَّهَا ثَلَاثَة: إِيجَاب، وحظر، وَإِبَاحَة) انْتهى، وَيَأْتِي حكم الْجَائِز. قَوْله: {وَلَيْسَ جِنْسا للْوَاجِب - فِي الْأَصَح - بل هما نَوْعَانِ للْحكم} . اخْتلفُوا فِي الْمُبَاح: هَل هُوَ جنس للْوَاجِب، أم نَوْعَانِ للْحكم؟ فَذهب طَائِفَة إِلَى الأول، وَذهب طَائِفَة أُخْرَى إِلَى الثَّانِي، وَهُوَ الصَّحِيح. فَالْوَاجِب والمباح نَوْعَانِ مندرجان تَحت جنس، وَهُوَ فعل الْمُكَلف الَّذِي تعلق بِهِ الحكم الشَّرْعِيّ، وتسميته بالحكم مجَازًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1024 وَدَلِيله: أَنه لَو كَانَ الْمُبَاح جِنْسا للْوَاجِب؛ لاستلزام النَّوْع - أَعنِي: الْوَاجِب - التَّخْيِير بَين فعله وَتَركه، والتالي ظَاهر الْفساد، فالمقدم مثله. بَيَان الْمُلَازمَة: أَن الْمُبَاح مُسْتَلْزم للتَّخْيِير، وَإِذا كَانَ الْجِنْس مستلزما للتَّخْيِير، فَيكون الْوَاجِب - وَهُوَ نَوعه - مستلزما للتَّخْيِير. الْقَائِلُونَ بِكَوْن الْمُبَاح جِنْسا للْوَاجِب قَالُوا: الْمُبَاح وَالْوَاجِب مَأْذُون فيهمَا، واختص بفصل: الْمَنْع من التّرْك، والمأذون الَّذِي هُوَ حَقِيقَة الْمُبَاح مُشْتَرك بَين الْوَاجِب وَغَيره، فَيكون جِنْسا لَهُ. أُجِيب: بأنكم تركْتُم فصل الْمُبَاح، لِأَن الْمُبَاح لَيْسَ هُوَ الْمَأْذُون فَقَط، بل الْمَأْذُون مَعَ عدم الْمَنْع من التّرْك، والمأذون بِهَذَا الْقَيْد، لَا يكون مُشْتَركا بَين الْوَاجِب وَغَيره، بل يكون مباينا للْوَاجِب. قَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر ": (وَالْحق أَن النزاع لَفْظِي؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِن أُرِيد بالمباح الْمَأْذُون فَقَط، فَلَا شكّ أَنه مُشْتَرك بَين الْوَاجِب وَغَيره، فَيكون جِنْسا، وَإِن أُرِيد بالمباح الْمَأْذُون مَعَ عدم الْمَنْع من التّرْك، فَلَا شكّ أَنه يكون نوعا مباينا للْوَاجِب، فَلم يكن جِنْسا) انْتهى. وَأَخذه من كَلَام الْآمِدِيّ، فَإِنَّهُ اخْتَار: (أَن الْمُبَاح لَيْسَ دَاخِلا فِي مُسَمّى الْوَاجِب، وَأَنَّهَا لفظية، فَإِن أُرِيد مَا أذن فِيهِ مُطلقًا فجنس للْوَاجِب وَالْمَنْدُوب والمباح بِالْمَعْنَى الْأَخَص، وَإِن أُرِيد مَا أذن فِيهِ وَلَا ذمّ فَلَيْسَ بِجِنْس) انْتهى. وَظَاهر كَلَام كثير من الْعلمَاء: أَن الْخلاف معنوي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1025 وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (هِيَ لفظية، لِأَن من قَالَ: الْمُبَاح مَا خير فِيهِ بَين فعله وَتَركه من غير تَرْجِيح، قَالَ: لَيْسَ جِنْسا وَإِلَّا لاستلزم النَّوْع لاستلزام الْخَاص الْعَام، وَهُوَ منَاف للْوُجُوب. وَمن قَالَ: الْمُبَاح: مَا أذن فِيهِ، قَالَ: هُوَ جنس للْوَاجِب لاشْتِرَاكهمَا وَغَيرهمَا كالمندوب وَالْمَكْرُوه فِي الْمَعْنى، واختصاص الْوَاجِب بامتناع التّرْك، وَالْمَنْدُوب بمرجوحيته، وَالْمَكْرُوه برجحانه) انْتهى. قَوْله: {وَلَا مَأْمُورا بِهِ عِنْد الْأَرْبَعَة [وَغَيرهم] ، وَخَالف الكعبي وَأَصْحَابه} . وَنقل الباقلاني وَالْغَزالِيّ عَنهُ: (أَنه مَأْمُور بِهِ دون الْمَنْدُوب، كمرتبة الْمَنْدُوب إِلَى الْوَاجِب) . دَلِيل الأول - وَهُوَ قَول الْأَئِمَّة -: الْأَمر يسْتَلْزم تَرْجِيح الْفِعْل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1026 وَلَا تَرْجِيح فِي الْمُبَاح، وَلِأَن فِي الشَّرِيعَة مُبَاحا غير مَأْمُور بِهِ إِجْمَاعًا. قَالَ الكعبي: كل مُبَاح ترك حرَام، وَترك الْحَرَام وَاجِب، وَلَا يتم إِلَّا بِأحد أضداده، وَمَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ وَاجِب. وَتَأَول الْإِجْمَاع بِالنّظرِ إِلَى ذَات الْفِعْل دون تعلق الْأَمر بِهِ، بِسَبَب توقف ترك الْحَرَام عَلَيْهِ، جمعا بَين الْأَدِلَّة. ورد: بِأَن الْمُبَاح لَيْسَ ترك الْحَرَام، بل شَيْء يتْرك بِهِ الْحَرَام مَعَ إِمْكَان تَركه بِغَيْرِهِ، فَلَا يجب. ورد: بِأَن فِيهِ تَسْلِيم وجوب أحد مَا يتْرك بِهِ الْحَرَام، غَايَته أَنه غير معِين، وَيتَعَيَّن بِفِعْلِهِ. وألزم الكعبي - أَيْضا - بِوُجُوب الْمحرم، إِذا ترك بِهِ محرم، وَتَحْرِيم الْوَاجِب إِذا ترك بِهِ وَاجِب. فَأجَاب: لَا مَانع من اتصاف الْفِعْل بهما: كَالصَّلَاةِ فِي الْغَضَب. وَلنَا: مَنعه على أصلنَا. وَذكر ابْن عقيل الْمَسْأَلَة فِي النّسخ، وَأجَاب: (بِأَن الْعَمَل الشاغل لأذوات الْمُكَلف وأبعاضه يمْتَنع مَعَه فعل آخر للتضاد والتنافي، فَلَا يُسمى متروكا وَلَا تَارِكًا حَقِيقَة، وَلَا قَادِرًا عَلَيْهِ، فَمن هُنَا دهي الكعبي، لم يفصل بَين التّرْك وتعدد الْفِعْل للتنافي) . وَذكر الْآمِدِيّ أَن قَوْله غَايَة الغوص والإشكال، وَأَنه لَا ملخص إِلَّا بِمَنْع وجوب مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1027 وجنح - أَيْضا - إِلَى هَذَا ابْن برهَان. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (وَمن الْعجب مَا حَكَاهُ عَنهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَابْن برهَان، والآمدي من إِنْكَار الْمُبَاح فِي الشَّرِيعَة، وَأَنه [لَا] وجود لَهُ أصلا، وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع) . قَوْله: {وَالْخلف فيهمَا لَفْظِي} . أَي: فِي كَونه لَيْسَ جِنْسا الْخلف فِيهِ لَفْظِي، كَمَا تقدم فِي كَلَام الْأَصْفَهَانِي، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَكَذَلِكَ الْآمِدِيّ. وَفِي كَونه مَأْمُورا بِهِ أم لَا، الْخلف فِيهِ لَفْظِي، نَص عَلَيْهِ التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع ". قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شَرحه ": (لما نفى المُصَنّف أَنه مَأْمُور بِهِ قيد ذَلِك بقوله: من حَيْثُ هُوَ، أَي: بِالنّظرِ إِلَى ذَاته، أَي: أما بِالنّظرِ إِلَى غَيره، وَهُوَ أَنه يحصل بِهِ ترك الْحَرَام كَمَا يحصل [بِغَيْرِهِ] فَهُوَ مَأْمُور بِهِ أَو بِغَيْرِهِ، فَمن الْوَاجِب الْمُخَير، وَلذَلِك قَالَ: إِن الْخلاف فِي ذَلِك لَفْظِي) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1028 قَوْله: {وعَلى الأول، إِن أُرِيد بِالْأَمر الْإِبَاحَة، فمجاز عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} . وَاخْتَارَهُ أَكثر أَصْحَابنَا، لِأَن الْحَقِيقَة تَرْجِيح، وَلَا تَرْجِيح فِي الْمُبَاح، [والعلاقة] المشابهة المعنوية، لِأَن كلا مِنْهُمَا مَأْذُون فِيهِ. {وَقَالَ أَبُو الْفرج} الْمَقْدِسِي - من أَئِمَّة أَصْحَابنَا - {وَبَعض الشَّافِعِيَّة: حَقِيقَة، وللقاضي [قَولَانِ] } . أَعنِي: أَنه قَالَ مرّة: إِنَّه مجَاز، وَمرَّة قَالَ: حَقِيقَة. قَوْله: { [وَالْإِبَاحَة] شَرْعِيَّة إِن أُرِيد بهَا خطاب الشَّرْع، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1029 وَإِلَّا عقلية} . لتحققها قبل الشَّرْع، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء. وَخَالف بعض الْمُعْتَزلَة فَقَالُوا: الْمُبَاح: مَا انْتَفَى الْحَرج فِي فعله وَتَركه، وَذَلِكَ ثَابت قبل الشَّرْع وَبعده. وَنحن ننكر أَن ذَلِك إِبَاحَة شَرْعِيَّة، بل الْإِبَاحَة خطاب الشَّرْع بذلك فَافْتَرقَا. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (اخْتلف فِي أَن الْإِبَاحَة حكم شَرْعِي أَو لَا؟ فَقَالَ بعض الْمُعْتَزلَة بِالثَّانِي، لتفسيره بِنَفْي الْحَرج، وَالْخلاف إِذن لَفْظِي) انْتهى. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي: (وَالْحق أَن النزاع فِيهِ لَفْظِي، فَإِن أُرِيد بِالْإِبَاحَةِ: عدم الْحَرج عَن الْفِعْل فَلَيْسَ حكما شَرْعِيًّا، لِأَنَّهُ قبل الشَّرْع مُتَحَقق، وَلَا حكم قبل، وَإِن أُرِيد بهَا الْخطاب الْوَارِد من الشَّرْع بِانْتِفَاء [الْحَرج] من الطَّرفَيْنِ، فَهِيَ من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1030 قَوْله: {وَتسَمى شَرْعِيَّة، بِمَعْنى: [التَّقْرِير] } . قَالَ ابْن مُفْلِح: (تسمى شَرْعِيَّة، بِمَعْنى: التَّقْرِير. {و} الْإِبَاحَة - {بِمَعْنى الْإِذْن} - شَرْعِيَّة {إِلَّا أَن نقُول: الْعقل [يُبِيح] } ) . {و} قَالَ الْمُوفق {فِي " الرَّوْضَة "} - لما قسم الْأَفْعَال -: {وَقسم لم يتَعَرَّض الشَّرْع لَهُ بِدَلِيل من أَدِلَّة السّمع، فَيحْتَمل أَن يُقَال: قد دلّ السّمع على أَن مَا لم يردهُ [فِيهِ] طلب فعل وَلَا ترك فالمكلف [فِيهِ] مُخَيّر، وَيحْتَمل أَن يُقَال: لَا حكم لَهُ} . انْتهى. قَوْله: {وَلَيْسَت بتكليف عِنْد الْأَرْبَعَة [وَغَيرهم] ، وَخَالف الْأُسْتَاذ} أَبُو إِسْحَاق ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1031 الأسفراييني. قَالَ الطوفي فِي " شَرحه " وَغَيره: (وَالْخلاف لَفْظِي، إِذْ من قَالَ: لَيست تكليفا، [نظر] إِلَى أَنه لَيْسَ فِيهَا مشقة جازمة، كمشقة الْوَاجِب والمحظور، وَلَا غير جازمة كَمَا بَينا فِي مشقة الْمَنْدُوب وَالْمَكْرُوه، وَهِي مشقة فَوَات الْفَضِيلَة، إِذْ لَا فَضِيلَة فِي الْمُبَاح لذاته يشق على الْمُكَلف [فَوَاتهَا] بِتَرْكِهِ. وَمن قَالَ: هِيَ تَكْلِيف، أَرَادَ أَنه يجب اعْتِقَاد كَونه مُبَاحا، وَهَذَا لَا يمنعهُ الأول، والأستاذ لَا يمْنَع أَن لَا مشقة فِي الْمُبَاح، فَتبين أَن النزاع لَفْظِي لعدم وُرُوده على مَحل وَاحِد، إِذْ الأول يَقُول: الْإِبَاحَة لَا مشقة [فِيهَا] ، والأستاذ يَقُول: يجب اعْتِقَاد أَن الْمُبَاح لَيْسَ وَاجِبا وَلَا مَحْظُورًا وَلَا مَنْدُوبًا وَلَا مَكْرُوها) . انْتهى. {و} ذكر الْمُوفق {فِي " الرَّوْضَة " كَالْأولِ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1032 يَعْنِي: أَنَّهَا لَيست بتكليف، {وعدها} - أَيْضا - { [من] أَحْكَام التَّكْلِيف} ، وَقَالَ: (من قَالَ: التَّكْلِيف مَا كلف اعْتِقَاد كَونه من الشَّرْع، فَهِيَ تَكْلِيف) ، وَضَعفه بِلُزُوم جَمِيع الْأَحْكَام. {وَقَالَ الْمجد} فِي " المسودة ": { (وَالتَّحْقِيق فِي ذَلِك عِنْدِي: أَن الْمُبَاح من أَحْكَام التَّكْلِيف، بِمَعْنى: أَنه يخْتَص بالمكلفين} ، أَي: أَن الْإِبَاحَة والتخيير لَا يَصح إِلَّا لمن يَصح إِلْزَامه الْفِعْل أَو التّرْك، فَأَما النَّاسِي والنائم وَالْمَجْنُون، فَلَا إِبَاحَة فِي حَقهم كَمَا لَا حظر وَلَا إِيجَاب، فَهَذَا معنى جعلهَا من أَحْكَام التَّكْلِيف، لَا بِمَعْنى: أَن الْمُبَاح مُكَلّف بِهِ) . قَوْله: {فَائِدَتَانِ: الأولى: الْجَائِز لُغَة العابر} . قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الْجَائِز: الْمَار) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1033 وَقَالَ فِي " الْبَدْر الْمُنِير ": (جَازَ الْمَكَان يجوزه جوزا وجوازا: سَار فِيهِ، وَأَجَازَهُ - بِالْألف -: قطعه، وَأَجَازَهُ: أنفذه، [قَالَه] ابْن فَارس، وَجَاز العقد وَغَيره: نفذ وَمضى على الصِّحَّة، وأجزت العقد: أمضيته، وَجَعَلته جَائِزا نَافِذا) . انْتهى. قَوْله: {وَاصْطِلَاحا} : مَا وَافق الشَّرِيعَة، قَالَه الشَّيْخ تَقِيّ الدّين. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " وَغَيره: ( {يُطلق} الْجَائِز اصْطِلَاحا {على الْمُبَاح، وعَلى مَا لَا يمْتَنع شرعا، [وَمَا لَا يمْتَنع] عقلا - فَيعم الْوَاجِب [والممكن الْخَاص - وعَلى مَا لَا يمْتَنع وجوده وَعَدَمه - وَهُوَ مُمكن خَاص، أخص مِمَّا قبله - شرعا وعقلا على مَا يشك أَنه لَا يمْتَنع، وعَلى مَا يشك أَنه اسْتَوَى وجوده وَعَدَمه] } ) . انْتهى. قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (هَذِه الْمسَائِل تتَعَلَّق بالمباح، وَمن أَسْمَائِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1034 الْجَائِز، وَأَنه [كَمَا] يُطلق على الْمُبَاح، يُطلق على مَا لَا يمْتَنع شرعا، مُبَاحا كَانَ أَو وَاجِبا أَو مَنْدُوبًا أَو مَكْرُوها، وعَلى مَا لَا يمْتَنع عقلا، وَاجِبا كَانَ، أَو راجحا، أَو [متساوي] الطَّرفَيْنِ، أَو مرجوحا، وعَلى مَا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فِيهِ، سَوَاء اسْتَويَا شرعا كالمباح، أَو عقلا [كَفعل] الصَّبِي، وعَلى الْمَشْكُوك فِيهِ فِي الشَّرْع أَو الْعقل [بالاعتبارين [وهما] : اسْتِوَاء الطَّرفَيْنِ، وَعدم الِامْتِنَاع. يَعْنِي: أَنه كَمَا يُقَال الْمَشْكُوك فِيهِ لما يستوى طرفاه فِي النَّفس، يُقَال لما لَا يمْتَنع فِي النَّفس، أَي: لَا يجْزم بِعَدَمِهِ، كَمَا يُقَال فِي] النقليات وَإِن غلبت على الظَّن بعد فِيهِ شكّ، أَي: احْتِمَال، وَلَا يُرَاد بِهِ تَسَاوِي الطَّرفَيْنِ، كَذَلِك يُقَال: هُوَ جَائِز، وَالْمرَاد أَحدهمَا) انْتهى. وتابعناه على ذَلِك فِي الأَصْل. وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (يُطلق الْجَائِز على الْمُبَاح، وعَلى مَا لَا يمْتَنع شرعا أَو عقلا، أَي: على مَا لَا يحرم، وَيدخل فِيهِ غير الْحَرَام من الْأَحْكَام، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1035 وَيُطلق فِي عرف المنطقيين: على مَا لَا يمْتَنع عقلا، وَهُوَ الْمُسَمّى بالممكن الْعَام. قلت: وَهَذَا اصْطِلَاح بَاطِل، عقلا، وَشرعا. وَيدخل فِيهِ الْوَاجِب والممكن الْخَاص، وَقد يحد بِحَدّ الْمُمكن الْعَام، وَهُوَ: (سلب مَا فِيهِ الضَّرُورَة من الْجَانِب الْمُخَالف للْحكم) ، وعَلى مَا اسْتَوَى فِي الْأَمْرَانِ، أَي: وجوده وَعَدَمه عقلا، وَهُوَ الْمُسَمّى بالممكن الْخَاص فِي عرفهم، وَيُطلق على مَا اسْتَوَى فِيهِ الْأَمْرَانِ، وعَلى الْمَشْكُوك فِيهِ شرعا أَو عقلا. وَالْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الْخَمْسَة لَهَا نَظَائِر من الْأَحْكَام الْعَقْلِيَّة. فنظير الْوَاجِب الشَّرْعِيّ: ضَرُورِيّ الْوُجُود، وَهُوَ الْوَاجِب عقلا. وَنَظِير الْمحرم: الْمُمْتَنع. وَنَظِير الْمَنْدُوب: الْمُمكن الأكثري. وَنَظِير الْمَكْرُوه: الْمُمكن الأقلي. وَنَظِير الْمُبَاح: الْمُمكن المتساوي الطَّرفَيْنِ) . انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1036 قَوْله: {الثَّانِيَة: الْمُمكن: مَا جَازَ وُقُوعه حسا، أَو وهما، أَو شرعا} . إِذا قلت: هَذَا مُمكن، صَحَّ حَيْثُ أمكن وُقُوعه فِي الْحس، أَو الْوَهم، أَو فِي الشَّرْع، فَمَتَى أمكن وُقُوعه فِي الْوُجُود قيل لَهُ: مُمكن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1037 (قَوْله: {فصل} ) {لَو نسخ الْوُجُوب بَقِي الْجَوَاز، [فالمجد، و] الْأَكْثَر، وَحكي عَن الْأَصْحَاب: [مُشْتَرك بَين النّدب وَالْإِبَاحَة، وَالْقَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَابْن حمدَان: النّدب] ، وَمنع فِي " الرَّوْضَة ": أَن الْوُجُوب ندب وَزِيَادَة، وَقيل: الْإِبَاحَة، وَعنهُ: يعود إِلَى مَا كَانَ، [كأكثر الْحَنَفِيَّة، والتميمي، وَالْغَزالِيّ] } . الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر: أَن الْوُجُوب إِذا نسخ بَقِي الْجَوَاز فِي الْجُمْلَة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1038 قَالَ الْفَخر ابْن تَيْمِية فِي " التَّلْخِيص " فِي بَاب الْحِوَالَة: (الْأَصَح عِنْد أَصْحَابنَا بَقَاؤُهُ) . وَذهب أَكثر الْحَنَفِيَّة، والتميمي من أَصْحَابنَا، وَالْغَزالِيّ، وَهُوَ رِوَايَة عَن الإِمَام أَحْمد: أَن الْأَمر يعود إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة، أَو الْإِبَاحَة، أَو التَّحْرِيم، فَكَأَن الْوُجُوب بعد نسخه لم يكن، وَحَكَاهُ الزَّرْكَشِيّ - شَارِح " جمع الْجَوَامِع " - عَن أَكثر الشَّافِعِيَّة الأقدمين. فعلى القَوْل الأول - الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر - اخْتلفُوا: مَا المُرَاد بِالْجَوَازِ؟ فَقيل: هُوَ الْجَوَاز الْمُشْتَرك بَين الْإِبَاحَة وَالنَّدْب، فَيبقى الْفِعْل، إِمَّا مُبَاحا أَو مَنْدُوبًا؛ لِأَن الْمَاهِيّة الْحَاصِلَة بعد النّسخ مركبة من قيدين: أَحدهمَا: زَوَال الْحَرج عَن الْفِعْل، وَهُوَ مُسْتَفَاد من الْأَمر. وَالثَّانِي: زَوَال الْحَرج عَن التّرْك، وَهُوَ مُسْتَفَاد من النَّاسِخ، وَهَذِه الْمَاهِيّة صَادِقَة على الْمَنْدُوب والمباح، فَلَا يتَعَيَّن أَحدهمَا بِخُصُوصِهِ. وَهَذَا القَوْل اخْتَارَهُ الْأَكْثَر، مِنْهُم: الْمجد وَغَيره، وَرجحه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1039 الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعه، والمتأخرون، وَحكي عَن الْأَكْثَر. وَقَالَ القَاضِي فِي " الْعدة "، وَأَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، وَابْن حمدَان فِي " الْمقنع ": (يبْقى النّدب) ؛ لِأَن النّدب عِنْدهم بعض الْوُجُوب، فَإِذا زَالَ الْوُجُوب، بَقِي النّدب، لِأَن الْمُرْتَفع التحتم بِالطَّلَبِ، فَإِذا زَالَ التحتم بَقِي أصل الطّلب، وَهُوَ النّدب، فَيبقى الْفِعْل مَنْدُوبًا. قَالَ أَبُو الْخطاب، وَغَيره من أَصْحَابنَا: (هِيَ من فَوَائِد الْأَمر هَل هُوَ حَقِيقَة فِي النّدب؟) ، فَيُؤْخَذ مِنْهُ بَقَاء النّدب لَا الْإِبَاحَة، على مَا سبق، لِأَن الصُّورَة: أَنه رفع الْوُجُوب وَحده، بِأَن يَقُول الشَّارِع: نسخت الْوُجُوب، أَو حُرْمَة التّرْك، أَو رفعت الْوُجُوب، كَانَ مركبا من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1040 جزئين: أَحدهمَا: هَذَا، وَالثَّانِي: جَوَاز الْفِعْل، فَإِذا رفع أَحدهمَا بَقِي الآخر. انْتهى. وَمنع الشَّيْخ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " - فِي مَسْأَلَة الْأَمر الْمُطلق للْوُجُوب - أَن الْوُجُوب ندب وَزِيَادَة، لدُخُول جَوَاز التّرْك فِي حد النّدب. وَقَالَهُ الْغَزالِيّ - قبله - فَإِنَّهُ قَالَ: (هَذَا بِمَنْزِلَة قَول الْقَائِل: كل وَاجِب فَهُوَ مَنْدُوب وَزِيَادَة، فَإِذا نسخ الْوُجُوب بَقِي النّدب، وَلَا قَائِل بِهِ) انْتهى. وَقَالَهُ - أَيْضا - ابْن الْقشيرِي. وَقيل: تبقى الْإِبَاحَة فَقَط. قَالَ الْبرمَاوِيّ: (قيل المُرَاد بِالْجَوَازِ: التَّخْيِير بَين الْأَمريْنِ. وَصرح بِهِ الْغَزالِيّ، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه، [لِأَنَّهُ] بِهَذَا الْمَعْنى وَإِن لم يكن جِنْسا للْوَاجِب، لَكِن يخلف عِنْد النّسخ قيد الْمَنْع من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1041 التّرْك - الَّذِي هُوَ فصل الْإِيجَاب - فصل رفع الْحَرج عَن التّرْك، فَيكون كالجنس الَّذِي هُوَ قدر مُشْتَرك بَين الْإِيجَاب وَالْإِبَاحَة، وَلَو سلما أَنه لَا بُد من فصل يتقوم بِهِ وَلَا يتقوم بِنَفسِهِ) . قَالَ الْبرمَاوِيّ - أَيْضا -: (وَقيل: هُوَ رفع الْحَرج عَن الْفِعْل، لَا الْإِبَاحَة الَّتِي هِيَ رفع الْحَرج عَن الْفِعْل وَعَن التّرْك مَعًا، لِأَن هَذِه لَيست هِيَ جنس الْوُجُوب، إِنَّمَا جنسه الْجَوَاز [بِمَعْنى] رفع الْحَرج عَن الْفِعْل) انْتهى. وَلَعَلَّه يَعْنِي بِهَذِهِ الْمقَالة: أَنه يبْقى النّدب كَمَا تقدم عَن جمَاعَة. تَنْبِيهَات: الأول: ذهب طَائِفَة إِلَى أَن الْخلاف الْمَذْكُور لَفْظِي، مِنْهُم: ابْن التلمساني، والهندي، لأَنا إِن فسرنا الْجَوَاز بِنَفْي الْحَرج فَلَا شكّ أَنه جنس للْوَاجِب، وَإِذا رفع الْوُجُوب وَحده فَلَا يلْزم ارتفاعه، وَإِن فسرناه بِالْإِبَاحَةِ، أَو بالأعم، أَو بالندب، [فخاصيتها تنَافِي خاصية] الْوُجُوب، فَلَيْسَ شَيْء مِنْهَا جِنْسا للْوُجُوب، فَإِذا رفع الْوُجُوب لَا تُوجد إِلَّا بِدَلِيل يَخُصهَا، فَلَا نزاع؛ لِأَن الْأَقْوَال لم تتوارد على مَحل وَاحِد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1042 وَأجِيب عَن ذَلِك: بِأَن الَّذِي يُعِيد الْحَال إِلَى مَا كَانَ قبل الْإِيجَاب من إِبَاحَة أَو تَحْرِيم أَو كَرَاهَة، غير الَّذِي يَأْخُذ من حُدُوث الْإِيجَاب بعد ذَلِك أَن تبقى إِبَاحَة شَرْعِيَّة أَو ندب كَمَا قرر، حَتَّى يسْتَدلّ أَنه مُبَاح أَو مَنْدُوب بذلك الْأَمر الَّذِي نسخت خَاصَّة التحتم [مِنْهُ] ، وَبَقِيَّة مَا تضمنه بَاقِيَة، فَلَا يكون الْخلاف لفظيا، بل معنويا، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ قبل مَجِيء أَمر الْإِيجَاب حَرَامًا، وأعيد الْحَال إِلَى ذَلِك كَانَ حَرَامًا، وَمن يَقُول: يبْقى الْجَوَاز، لَا يكون حَرَامًا. الثَّانِي: إِذا كَانَ أَمر الْإِيجَاب متضمنا لشيئين: أَعم، وأخص، فَإِذا رفع الْأَخَص وَبَقِي الْأَعَمّ، كَيفَ يكون نسخا وَلم يرفع الْكل وَإِنَّمَا خصصه؟ وَجَوَابه: أَن رفع أحد الجزئين من الْمركب لَا يكون تَخْصِيصًا، إِنَّمَا التَّخْصِيص: إِخْرَاج جزئي من كلي. الثَّالِث: اخْتِلَاف أهل الْأُصُول فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، نَظِير اخْتِلَاف الْفُقَهَاء فِي قَوْلهم: إِذا بَطل الْخُصُوص هَل يبْقى الْعُمُوم؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1043 وَلنَا مسَائِل كَثِيرَة فروعية من هَذَا الْقَبِيل، ذكرهَا القَاضِي عَلَاء الدّين البعلي فِي قَوَاعِده الْأُصُولِيَّة فِي الْقَاعِدَة الثَّالِثَة وَالسِّتِّينَ، فليعاودها من أرادها. لَكِن نذْكر هُنَا مِنْهَا بعض مسَائِل لِئَلَّا يَخْلُو كتَابنَا مِنْهَا. فَمِنْهَا: لَو انْتقل فِي أثْنَاء فرض الصَّلَاة إِلَى فرض صَلَاة أُخْرَى، بطلت الأولى، وانقلبت الثَّانِيَة نفلا فِي الْأَصَح. وَمِنْهَا: أَن كل مَا يفْسد الْفَرْض فَقَط إِذا وجد فِيهِ، كَذَلِك، كَمَا لَو نوى صَلَاة مَفْرُوضَة، وصلاها وَهُوَ قَاعد، قَادِرًا على الْقيام، فَإِن الْفَرِيضَة لَا تصح، تصح نفلا على الْأَصَح. وَكَذَا لَو صلى الْفَرِيضَة فِي الْكَعْبَة، صحت نفلا فِي الْأَصَح. وَكَذَا لَو ائتم بمنتفل أَو بصبي فِي فَرِيضَة، إِن اعْتقد جَوَازه فِيهِنَّ، صَحَّ نفلا على الْمَذْهَب. وَمِنْهَا: لَو أحرم بفائتة فَلم تكن عَلَيْهِ، أَو أحرم بِفَرْض فَبَان أَن الْوَقْت لم يدْخل، انْقَلب نفلا لبَقَاء أصل النِّيَّة، وَهَذَا أصح الرِّوَايَتَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1044 وَمِنْهَا: لَو ظن رب المَال أَن عَلَيْهِ زَكَاة فأخرجها، ثمَّ بَان أَنه لَا شَيْء عَلَيْهِ، لم يرجع بهَا على الْمَسَاكِين لوقوعها نفلا، قَالَه القَاضِي، وَذكره الْمجد مَحل وفَاق. وَمِنْهَا: حَيْثُ قُلْنَا: تبطل الْجُمُعَة بِخُرُوج الْوَقْت، أَو نُقْصَان الْعدَد وَنَحْوه، فَهَل تنْقَلب ظهرا، أَو يستأنفونها ظهرا؟ فِيهِ وَجْهَان، وَإِذا قُلْنَا: يستأنفونها، فَإِنَّهَا تنْقَلب نفلا، ذكره صَاحب " التَّلْخِيص " فِي المزحوم. قَوْله: {وَلَو صرف النَّهْي عَن التَّحْرِيم [بقيت] الْكَرَاهَة حَقِيقَة، [عِنْد] ابْن عقيل، وَغَيره} . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": (إِذا قَامَ دَلِيل على أَن النَّهْي لَيْسَ للْفَسَاد، لم يكن مجَازًا؛ لِأَنَّهُ لم ينْتَقل عَن جَمِيع مُوجبه، وَإِنَّمَا انْتقل عَن بعض مُوجبه: كالعموم الَّذِي خرج بعضه، بَقِي حَقِيقَة فِيمَا بَقِي، قَالَه ابْن عقيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1045 قَالَ: وَكَذَا إِذا قَامَت الدّلَالَة على نَقله عَن التَّحْرِيم، فَإِنَّهُ يبْقى نهيا حَقِيقَة على التَّنْزِيه، كَمَا إِذا قَامَت دلَالَة الْأَمر على أَن الْأَمر لَيْسَ على الْوُجُوب. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين - بعد كَلَامه هَذَا - قلت: الأول مَبْنِيّ على أَن الْفساد مَدْلُول عَلَيْهِ بِلَفْظ النَّهْي، وَإِلَّا فَإِن كَانَ مَعْلُوما بِالْعقلِ أَو بِالشَّرْعِ لم يكن انتفاؤه مجَازًا، وَلَا إِخْرَاج [بعض مَدْلُول] اللَّفْظ، وَهَكَذَا كل دلَالَة لزومية، فَإِن [تخلفها] هَل يَجْعَل اللَّفْظ مجَازًا؟ وَهل يكون بِمَنْزِلَة التَّخْصِيص) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1046 (قَوْله: {فصل} ) {خطاب الْوَضع: مَا اسْتُفِيدَ من نصب الشَّارِع علما مُعَرفا لحكمه} . لما فَرغْنَا من أَحْكَام خطاب التَّكْلِيف، ويعبر عَنهُ - أَيْضا - بخطاب الشَّرْع، وبخطاب اللَّفْظ، شرعنا فِي الْكَلَام على أَحْكَام خطاب الْوَضع والإخبار، وحدِّه، وَالْفرق بَينه وَبَين [خطاب التَّكْلِيف] . فحده: مَا اسْتُفِيدَ بِوَاسِطَة نصب الشَّارِع عَلما مُعَرفا لحكمه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1047 وَإِنَّمَا قيل ذَلِك، لتعذر معرفَة خطابه فِي كل حَال، وَفِي كل وَاقعَة، بعد انْقِطَاع الْوَحْي، حذارا من تَعْطِيل أَكثر الوقائع عَن الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة. سمي بذلك؛ لِأَنَّهُ شَيْء وَضعه فِي شرائعه، أَي: جعله دَلِيلا، وسببا، وشرطا، لَا أَنه أَمر بِهِ عباده، وَلَا أناطه بأفعالهم، من حَيْثُ هُوَ خطاب وضع، وَلذَلِك لَا يشْتَرط فِيهِ الْعلم وَالْقُدْرَة، فِي أَكثر خطاب الْوَضع كالتوريث وَنَحْوه، على مَا يَأْتِي قَرِيبا. قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (وَيُسمى هَذَا النَّوْع: خطاب الْوَضع والإخبار. أما معنى الْوَضع فَهُوَ: أَن الشَّرْع وضع - أَي: شرع - أمورا سميت أسبابا وشروطا وموانع تعرف عِنْد وجودهَا أَحْكَام الشَّرْع من إِثْبَات أَو نفي، فالأحكام تُوجد بِوُجُود الْأَسْبَاب والشروط، وتنتفي لوُجُود الْمَانِع وَانْتِفَاء الْأَسْبَاب والشروط. وَأما معنى الْإِخْبَار فَهُوَ: أَن الشَّرْع بِوَضْع هَذِه الْأُمُور أخبرنَا بِوُجُود أَحْكَامه [أَو انتفائها] ، عِنْد وجود تِلْكَ الْأُمُور أَو انتفائها، كَأَنَّهُ قَالَ مثلا: إِذا وجد النّصاب الَّذِي هُوَ سَبَب وجوب الزَّكَاة، والحول الَّذِي هُوَ شَرطه، فاعلموا أَنِّي قد أوجب عَلَيْكُم أَدَاء الزَّكَاة، وَإِن وجد الدّين الَّذِي هُوَ مَانع من وُجُوبهَا، أَو انْتَفَى السّوم الَّذِي هُوَ شَرط لوُجُوبهَا فِي السَّائِمَة، فاعلموا أَنِّي لم أوجب عَلَيْكُم الزَّكَاة. وَكَذَا الْكَلَام فِي الْقصاص، وَالسَّرِقَة، وَالزِّنَا، وَغَيرهَا، بِالنّظرِ إِلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1048 وجود أَسبَابهَا وشروطها، وَانْتِفَاء موانعها، وَعَكسه) انْتهى. وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره: (وَالْفرق بَين خطاب الْوَضع وخطاب التَّكْلِيف من حَيْثُ الْحَقِيقَة: أَن الحكم فِي خطاب الْوَضع هُوَ قَضَاء الشَّرْع على الْوَصْف بِكَوْنِهِ سَببا أَو شرطا أَو مَانِعا، وخطاب التَّكْلِيف لطلب أَدَاء مَا تقرر بالأسباب والشروط والموانع) انْتهى. قَالَ الطوفي: (خطاب الْوَضع يسْتَلْزم خطاب التَّكْلِيف، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يعلم بِهِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] ، و {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا} [النُّور: 2] ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ "، وَنَحْو ذَلِك من الْأَلْفَاظ المفيدة للْأَحْكَام الوضعية، بِخِلَاف خطاب التَّكْلِيف؛ فَإِنَّهُ لَا يسْتَلْزم خطاب الْوَضع، كَمَا لَو قَالَ الشَّارِع: توضؤوا لَا عَن حدث، فَإِن هَذَا خطاب تكليفي بِفعل مُجَرّد عَن سَبَب مَوْضُوع أَو غَيره) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1049 وَقَالَ - أَيْضا -: (الصَّوَاب فِي الْقِسْمَة أَن يُقَال: خطاب الشَّرْع إِمَّا لَفْظِي أَو وضعي، أَي: إِمَّا ثَابت بالألفاظ نَحْو: {أقِيمُوا الصَّلَاة} [الْأَنْعَام: 72] ، أَو عِنْد الْأَسْبَاب وَنَحْوهَا، كَقَوْلِه: إِذا زَالَت الشَّمْس وَجَبت عَلَيْكُم الظّهْر، فاللفظ أثبت وجوب الصَّلَاة، والوضع عين وَقت وُجُوبهَا) . قلت: تقدّمت هَذِه الْمَسْأَلَة وَالْخلاف فِيهَا، فِي أول خطاب التَّكْلِيف - بعد قَوْلنَا: (ثمَّ الْخطاب إِمَّا أَن يرد) ، بعد قَوْله: (وَإِلَّا فوضعي) - وَذكرنَا كَلَام الْقَرَافِيّ هُنَاكَ محررا فليعاود. قَوْله: { [وَهُوَ] خبر} . تقدم أَن خطاب التَّكْلِيف إنْشَاء، وخطاب الْوَضع خبر، وَقدمنَا قَرِيبا [أَن] الْفرق بَين خطاب الْوَضع وخطاب التَّكْلِيف من حَيْثُ الْحَد والحقيقة، وَالْفرق بَينهمَا الْآن من حَيْثُ الحكم: أَن خطاب الشَّرْع يشْتَرط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1050 فِيهِ: علم الْمُكَلف، وَقدرته على الْفِعْل، وَكَونه من كَسبه: كَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْم، وَالْحج، وَنَحْوهَا، على مَا سبق فِي شُرُوط التَّكْلِيف. وَأما خطاب الْوَضع فَلَا يشْتَرط فِيهِ شَيْء من ذَلِك إِلَّا مَا اسْتثْنِي. أما عدم اشْتِرَاط الْعلم: فكالنائم يتْلف شَيْئا حَال نَومه، والرامي إِلَى صيد فِي ظلمَة، أَو من وَرَاء حَائِل، فَيقْتل إنْسَانا، فَإِنَّهُمَا يضمنَانِ وَإِن لم يعلمَا، وكالمرأة تحل بِعقد وَليهَا عَلَيْهَا، وَتحرم بِطَلَاق زَوجهَا، وَإِن كَانَت غَائِبَة لَا تعلم ذَلِك. وَأما عدم اشْتِرَاط الْقُدْرَة وَالْكَسْب: فكالدابة تتْلف شَيْئا، وَالصَّبِيّ أَو الْبَالِغ يقتل خطأ، فَيضمن صَاحب الدَّابَّة، والعاقلة، وَإِن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1051 لم يكن الْقَتْل والإتلاف مَقْدُورًا وَلَا [مكتسبا] لَهُم، وَطَلَاق الْمُكْره عِنْد من يوقعه، وَهُوَ غير مَقْدُور لَهُ بِمُطلق الْإِكْرَاه، أَو مَعَ الإلجاء. وَأما الْمُسْتَثْنى من عدم اشْتِرَاط الْعلم وَالْقُدْرَة، فقاعدتان: إِحْدَاهمَا: أَسبَاب الْعُقُوبَات: كَالْقصاصِ لَا يجب على مخطيء فِي الْقَتْل، لعدم الْعلم، وحد الزِّنَا لَا يجب على من وطيء أَجْنَبِيَّة يَظُنهَا زَوجته، لعدم الْعلم أَيْضا، وَلَا على من أكره على الزِّنَا، لعدم الْقُدْرَة على الِامْتِنَاع، إِذا الْعُقُوبَات تستدعي وجود الْجِنَايَات الَّتِي تنتهك بهَا حُرْمَة الشَّرْع، زجرا عَنْهَا وردعا، والانتهاك إِنَّمَا يتَحَقَّق مَعَ الْعلم، وَالْقُدْرَة، وَالِاخْتِيَار، و [الْقَادِر] الْمُخْتَار هُوَ: الَّذِي إِن شَاءَ فعل، وَإِن شَاءَ ترك، وَالْجَاهِل وَالْمكْره قد انْتَفَى ذَلِك فِيهِ - وَهُوَ شَرط تحقق الانتهاك - لانْتِفَاء شَرطه، فتنتفي الْعقُوبَة، لانْتِفَاء سَببهَا. الْقَاعِدَة الثَّانِيَة: [الْأَسْبَاب] الناقلة للأملاك: كَالْبيع، وَالْهِبَة، وَالْوَصِيَّة، وَنَحْوهَا يشْتَرط فِيهَا الْعلم وَالْقُدْرَة، فَلَو تلفظ بِلَفْظ ناقل للْملك وَهُوَ لَا يعلم مُقْتَضَاهُ، لكَونه أعجميا بَين الْعَرَب، أَو عَرَبيا بَين الْعَجم، أَو أكره على ذَلِك، لم يلْزمه مُقْتَضَاهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1052 وَالْحكمَة فِي اسْتثِْنَاء هَاتين القاعدتين: الْتِزَام الشَّرْع قانون الْعدْل فِي الْخلق، والرفق بهم، [وإعفاؤه] عَن تَكْلِيف المشاق، أَو التَّكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق، وَهُوَ [حَكِيم] . قَوْله: {وَهُوَ أَقسَام} . أَي: خطاب الْوَضع أَقسَام. {أَحدهَا} . أَي: أحد الْأَقْسَام. {الْعلَّة} . وَقد اخْتلف فِيهَا، هَل هِيَ من خطاب الْوَضع، أم لَا؟ على مَا يَأْتِي آخر أَحْكَام الْوَضع محررا. فَنحْن تابعنا بذكرها هُنَا: الشَّيْخ فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي، وَابْن قَاضِي الْجَبَل. قَوْله: {وَهِي [فِي] الأَصْل: الْعرض الْمُوجب لخُرُوج الْبدن الحيواني عَن الِاعْتِدَال الطبيعي} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1053 أَي: الْعلَّة فِي أصل الْوَضع اللّغَوِيّ أَو الاصطلاحي هِيَ: الْعرض الْمُوجب لخُرُوج الْبدن الحيواني عَن الِاعْتِدَال الطبيعي. وَذَلِكَ لِأَن الْعلَّة فِي اللُّغَة: هِيَ الْمَرَض، وَالْمَرَض: هُوَ هَذَا الْعرض الْمَذْكُور، وَهُوَ فِي اللُّغَة: الظَّاهِر بعد أَن لم يكن. قَالَ الْجَوْهَرِي: (عرض لَهُ كَذَا يعرض، أَي: ظهر) . وَفِي اصْطِلَاح الْمُتَكَلِّمين: مَا لَا يقوم بِنَفسِهِ: كالألوان، والطعوم، والحركات، والأصوات. وَهُوَ كَذَلِك عِنْد الْأَطِبَّاء؛ لِأَنَّهُ عِنْدهم: عبارَة عَن حَادث مَا، إِذا قَامَ بِالْبدنِ أخرجه عَن الِاعْتِدَال. وَقَوْلنَا: (الْمُوجب لخُرُوج [الْبدن] ) ، هُوَ إِيجَاب حسي: كإيجاب الْكسر للانكسار، والتسويد للاسوداد، فَكَذَلِك الْأَمْرَاض الْبَدَنِيَّة مُوجبَة لاضطراب الْبدن إِيجَابا محسوسا. قَوْلنَا: (الْبدن الحيواني) ، احْتِرَاز عَن النباتي والجمادي، فَإِن الْأَعْرَاض المخرجة لَهَا عَن حَال [اعْتِدَال] مَا من شَأْنه الِاعْتِدَال مِنْهَا، لَا يُسمى فِي الِاصْطِلَاح [عللا] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1054 وَقَوْلنَا: (عَن الِاعْتِدَال الطبيعي) ، هُوَ إِشَارَة إِلَى حَقِيقَة المزاج، وَهُوَ: الْحَال المتوسطة الْحَاصِلَة عَن تفَاعل كيفيات العناصر بَعْضهَا فِي بعض، فَتلك الْحَال هِيَ الِاعْتِدَال الطبيعي، فَإِذا انحرفت عَن التَّوَسُّط [بِغَلَبَة] الْحَرَارَة أَو غَيرهَا، كَانَ ذَلِك هُوَ انحراف المزاج، وَهُوَ الْعلَّة، وَالْمَرَض، والسقم. قَوْله: {ثمَّ استعيرت عقلا لما أوجب الحكم الْعقلِيّ لذاته، كالكسر للانكسار} . استعيرت الْعلَّة من الْوَضع اللّغَوِيّ، فَجعلت فِي التَّصَرُّفَات الْعَقْلِيَّة لما أوجب الحكم الْعقلِيّ لذاته، كالكسر للانكسار، والتسويد الْمُوجب - أَي الْمُؤثر - للسواد. لذاته، أَي: لكَونه كسرا أَو تسويدا، لَا لأمر خَارج من وضعي أَو اصطلاحي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1055 وَهَكَذَا الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، هِيَ مُؤثرَة لذواتها، بِهَذَا الْمَعْنى: كالتحرك الْمُوجب للحركة، والتسكين الْمُوجب للسكون. قَوْله: {ثمَّ شرعا} . أَي: ثمَّ استعيرت شرعا، أَي: استعيرت الْعلَّة من التَّصَرُّف الْعقلِيّ إِلَى التَّصَرُّف الشَّرْعِيّ، فَجعلت فِيهِ {لمعان} ثَلَاثَة. {أَحدهَا: مَا أوجب الحكم الشَّرْعِيّ} . أَي: مَا وجد عِنْده {لَا محَالة} ، أَي: يُوجد عِنْده قطعا، {وَهُوَ الْمَجْمُوع الْمركب من مقتضي الحكم، وَشَرطه، وَمحله، وَأَهله} ، تَشْبِيها بأجزاء الْعلَّة الْعَقْلِيَّة. وَذَلِكَ لِأَن الْمُتَكَلِّمين وَغَيرهم قَالُوا: كل حَادث لَا بُد لَهُ من عِلّة، لَكِن الْعلَّة، إِمَّا مادية: كالفضة للخاتم، والخشب للسرير، أَو صورية: كاستدارة الْخَاتم، وتربيع السرير، أَو فاعلية: كالصائغ، أَو النجار، أَو غائية: كالتحلي بالخاتم، وَالنَّوْم على السرير. فَهَذِهِ أَجزَاء الْعلَّة الْعَقْلِيَّة، مجموعها الْمركب من أَجْزَائِهَا هُوَ الْعلَّة التَّامَّة، فَلذَلِك اسْتعْمل الْفُقَهَاء لَفْظَة (الْعلَّة) بِإِزَاءِ الْمُوجب للْحكم الشَّرْعِيّ، والموجب - لَا محَالة - ومقتضية، وَشَرطه، وَمحله، وَأَهله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1056 مِثَاله: وجوب الصَّلَاة، حكم شَرْعِي، ومقتضيه: أَمر الشَّارِع بِالصَّلَاةِ، وَشَرطه: أَهْلِيَّة الْمُصَلِّي لتوجه الْخطاب إِلَيْهِ، بِأَن يكون عَاقِلا، بَالغا، وَمحله: الصَّلَاة، وَأَهله: الْمُصَلِّي. وَكَذَلِكَ حُصُول الْملك فِي البيع وَالنِّكَاح، حكم شَرْعِي، ومقتضيه: حكم الْحَاجة إِلَيْهِمَا، والإيجاب وَالْقَبُول فيهمَا، وَشَرطه: مَا ذكر من شُرُوط صِحَة البيع وَالنِّكَاح فِي كتب الْفِقْه، وَمحله: هُوَ الْعين الْمَبِيعَة، وَالْمَرْأَة الْمَعْقُود عَلَيْهَا، وَأَهله: كَون الْعَاقِد صَحِيح الْعبارَة وَالتَّصَرُّف. وافرض ذَلِك فِي غَيره. قَالَ الشَّيْخ الْمُوفق: (لَا فرق بَين الْمُقْتَضِي، وَالشّرط، وَالْمحل، والأهل، بل الْعلَّة الْمَجْمُوع، والأهل وَالْمحل وصفان من أوصافها) . قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (قلت: الأولى أَن يُقَال: هما ركنان من أَرْكَانهَا، لِأَنَّهُ قد ثَبت أَنَّهُمَا جزءان من أَجْزَائِهَا، وركن الشَّيْء هُوَ: جزؤه الدَّاخِل فِي حَقِيقَته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1057 وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة مجموعها يُسمى: عِلّة، ومقتضي الحكم هُوَ: الْمَعْنى الطَّالِب لَهُ، وَشَرطه يَأْتِي، وَأَهله هُوَ: الْمُخَاطب بِهِ، وَمحله: مَا تعلق بِهِ، وَقد ظهر بالمثال) . قَوْله: {الثَّانِي مقتضي الحكم، وَإِن تخلف لفَوَات شَرط، أَو وجود مَانع} . أَي: وَإِن تخلف عَنهُ الحكم لفَوَات شَرطه، أَو وجود مانعه. مِثَاله: الْيَمين، هِيَ الْمُقْتَضِي لوُجُوب الْكَفَّارَة، فتسمى عِلّة لَهُ، وَإِن كَانَ وجوب الْكَفَّارَة إِنَّمَا يتَحَقَّق بِوُجُود أَمريْن: الْحلف الَّذِي هُوَ الْيَمين، والحنث فِيهَا، لَكِن الْحِنْث شَرط فِي الْوُجُوب، وَالْحلف هُوَ السَّبَب الْمُقْتَضِي لَهُ، فَقَالُوا: عِلّة. فَإِذا حلف الْإِنْسَان على فعل شَيْء، أَو تَركه، قيل: قد وجدت مِنْهُ عِلّة وجوب الْكَفَّارَة، وَإِن كَانَ الْوُجُوب لَا يُوجد حَتَّى يَحْنَث، وَإِنَّمَا هُوَ بِمُجَرَّد [الْحلف] انْعَقَد سَببه. وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي مُجَرّد ملك النّصاب وَنَحْوه، وَلِهَذَا لما انْعَقَدت أَسبَاب الْوُجُوب بِمُجَرَّد هَذِه المقتضيات، جَازَ فعل الْوَاجِب بعد وجودهَا، وَقبل وجود شَرطهَا عندنَا، كالتكفير قبل الْحِنْث، وَإِخْرَاج الزَّكَاة قبل الْحول. وَقَوله: (وَإِن تخلف لفَوَات شَرط) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1058 كَالْقَتْلِ الْعمد الْعدوان، يُسمى عِلّة لوُجُوب الْقصاص، وَإِن تخلف وُجُوبه لفَوَات الْمُكَافَأَة، وَهِي شَرط لَهُ، بِأَن يكون الْمَقْتُول عبدا، أَو كَافِرًا. أَو لوُجُود مَانع، مثل: أَن يكون الْقَاتِل أَبَا، فَإِن الإيلاد مَانع من [وجوب] الْقصاص. وَكَذَا النّصاب يُسمى عِلّة لوُجُوب الزَّكَاة، وَإِن تخلف الْوُجُوب لفَوَات شَرط كحولان الْحول، أَو لوُجُود مَانع كَالدّين. قَوْله: {الثَّالِث: الْحِكْمَة، [وَهِي] : الْمَعْنى الْمُنَاسب الَّذِي ينشأ عَنهُ الحكم} . الْحِكْمَة، أَي: حِكْمَة الحكم. وَالْحكمَة هِيَ: الْمَعْنى الْمُنَاسب الَّذِي نَشأ عَنهُ الحكم: {كمشقة السّفر للقصر وَالْفطر، وَالدّين لمنع الزَّكَاة، والأبوة لمنع الْقصاص} . وَبَيَان الْمُنَاسبَة فِي هَذِه الْأَمْثِلَة: أَن حُصُول الْمَشَقَّة على الْمُسَافِر معنى مُنَاسِب لتخفيف الصَّلَاة عَنهُ بقصرها، وَالتَّخْفِيف عِنْد بِالْفطرِ، وافتقاره مَالك النّصاب بِالدّينِ الَّذِي عَلَيْهِ، معنى مُنَاسِب لإِسْقَاط وجوب الزَّكَاة عَنهُ، وَكَون الْأَب سَببا لوُجُود الابْن، معنى مُنَاسِب لسُقُوط الْقصاص عَنهُ، لِأَنَّهُ لما كَانَ سَببا لإيجاده لم تقتض الْحِكْمَة أَن يكون الْوَلَد سَببا لإعدامه وهلاكه، لمحض حَقه. واحترزنا بِهَذَا عَن وجوب رجمه إِذا زنى بابنته، فَهِيَ إِذن سَبَب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1059 إعدامه، مَعَ كَونه سَبَب إيجادها، لَكِن ذَلِك لمحض حق الله تَعَالَى، حَتَّى لَو قَتلهَا لم يجب قَتله بهَا لِأَن [الْحق] لَهَا. وَسَيَأْتِي فِي الْقيَاس حد الْعلَّة، وَهل هِيَ معرفَة، أَو مُؤثرَة؟ قَوْله: {الْقسم الثَّانِي: السَّبَب، وَهُوَ لُغَة: مَا توصل بِهِ إِلَى غَيره} . كالطريق وَنَحْوهَا. قَالَ الْجَوْهَرِي: (السَّبَب: الْحَبل، وكل شَيْء يتَوَصَّل بِهِ إِلَى غَيره) . قَالَ فِي " الْمِصْبَاح ": (السَّبَب: الْحَبل، وَهُوَ: مَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الاستعلاء، ثمَّ استعير لكل شَيْء يتَوَصَّل بِهِ إِلَى أَمر من الْأُمُور، فَقيل: هَذَا سَبَب، وَهَذَا مسبب عَن هَذَا. قَوْله: {وَشرعا: مَا يلْزم من وجود الْوُجُود، وَمن عَدمه الْعَدَم لذاته، فيوجد الحكم عِنْده، لَا بِهِ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1060 اشْتهر هَذَا الْحَد فِي كتب كثير من الْأُصُولِيِّينَ. فَالْأول: احْتِرَاز من الشَّرْط، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من وجود الْوُجُود. وَالثَّانِي: احْتِرَاز من الْمَانِع، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من عَدمه وجود وَلَا عدم. وَالثَّالِث: احْتِرَاز مِمَّا لَو قَارن السَّبَب فقدان الشَّرْط، أَو وجود الْمَانِع: كالنصاب قبل تَمام الْحول، أَو مَعَ وجود الدّين، فَإِنَّهُ لَا يلْزم من وجوده الْوُجُود، لَكِن لَا لذاته، بل لأمر خَارج عَنهُ، وَهُوَ انْتِفَاء الشَّرْط، وَوُجُود الْمَانِع. فالتقييد بِكَوْن ذَلِك لذاته، للاستظهار على مَا لَو تخلف وجود الْمُسَبّب مَعَ وجدان السَّبَب لفقد شَرط، أَو مَانع: كالنصاب قبل الْحول كَمَا تقدم، وَمن فِيهِ سَبَب الْإِرْث وَلكنه قَاتل، أَو رَقِيق، أَو نَحْوهمَا. وعَلى مَا لَو وجد الْمُسَبّب مَعَ فقدان السَّبَب، لَكِن لوُجُود سَبَب آخر: كالردة الْمُقْتَضِيَة للْقَتْل، إِذا فقدت وَوجد قتل يُوجب الْقصاص، أَو زنى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1061 مُحصن، فَتخلف هَذَا التَّرْتِيب عَن السَّبَب لَا لذاته، بل لِمَعْنى خَارج كَمَا تقدم. إِذا علم ذَلِك؛ فالسبب هُوَ: الَّذِي يُضَاف إِلَيْهِ الحكم، كَقَوْلِه تَعَالَى: {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} [الْإِسْرَاء: 78] ، و {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا} [النُّور: 2] . إِذْ لله تَعَالَى فِي دلوك الشَّمْس حكمان: أَحدهمَا: كَون الدلوك سَببا. وَالْآخر: وجوب الصَّلَاة عِنْده. وَكَذَلِكَ لله تَعَالَى فِي الزَّانِي حكمان: أَحدهمَا: وجوب الرَّجْم. وَالثَّانِي: كَون الزِّنَى سَببا. وَلَا شكّ أَن الْأَسْبَاب معرفات، إِذْ الممكنات مستندة إِلَى الله تَعَالَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1062 ابْتِدَاء عِنْد أهل الْحق، وَبَين الْمُعَرّف الَّذِي هُوَ السَّبَب، وَالْحكم الَّذِي نيط بِهِ ارتباط ظَاهر، فالإضافة إِلَيْهِ وَاضِحَة. وَأما عِنْد من يَجْعَل الْوَصْف مؤثرا بِذَاتِهِ فَلَا خَفَاء عِنْده؛ إِذْ الْأَثر يُضَاف إِلَى الْمُؤثر قطعا. قَوْله: { [واستعير شرعا لمعان] : أَحدهَا: مَا يُقَابل الْمُبَاشرَة، كحفر الْبِئْر مَعَ التردية، فَالْأول سَبَب، وَالثَّانِي عِلّة} . فَإِذا حفر شخص بِئْرا، وَدفع آخر إنْسَانا فتردى فِيهَا فَهَلَك، فَالْأول - وَهُوَ الْحَافِر - متسبب إِلَى هَلَاكه، وَالثَّانِي - وَهُوَ الدَّافِع - مبَاشر، فَأطلق الْفُقَهَاء السَّبَب على مَا يُقَابل الْمُبَاشرَة، فَقَالُوا: إِذا اجْتمع المتسبب والمباشر، غلبت الْمُبَاشرَة، وَوَجَب الضَّمَان على الْمُبَاشر، وَانْقطع حكم التَّسَبُّب. وَمن أمثلته: لَو أَلْقَاهُ من شَاهِق، فَتَلقاهُ آخر بِسيف فَقده، فَالضَّمَان على المتلقي بِالسَّيْفِ، وَلَو أَلْقَاهُ فِي مَاء مغرق، فَتَلقاهُ حوت فابتلعه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1063 فَالضَّمَان على الملقي، لعدم قبُول الْحُوت الضَّمَان، وَكَذَا لَو أَلْقَاهُ فِي زبية أَسد فَقتله. قَوْله: {الثَّانِي: عِلّة الْعلَّة: كالرمي هُوَ سَبَب الْقَتْل، وَهُوَ} - أَعنِي: الرَّمْي - {عِلّة الْإِصَابَة، [والإصابة] عِلّة [لزهوق النَّفس] } الَّذِي هُوَ الْقَتْل، فالرمي هُوَ عِلّة عِلّة الْقَتْل، وَقد سموهُ سَببا لَهُ. قَوْله: {الثَّالِث: الْعلَّة بِدُونِ شَرطهَا: كالنصاب بِدُونِ الْحول} ، أَعنِي: الثَّالِث من الْمعَانِي الَّتِي استعير لَهَا لفظ السَّبَب: الْعلَّة بِدُونِ شَرطهَا: كالنصاب بِدُونِ حولان الْحول، يُسمى سَببا لوُجُوب الزَّكَاة كَمَا تقدم فِي تَسْمِيَته عِلّة، فاستعيرت الْعلَّة وَسميت سَببا. قَوْله: {الرَّابِع: الْعلَّة الشَّرْعِيَّة كَامِلَة} . وَهِي الْمَجْمُوع الْمركب من: مُقْتَضى الحكم، وَشَرطه، وَانْتِفَاء الْمَانِع، وَوُجُود الْأَهْل وَالْمحل. سمي سَببا - أَيْضا - اسْتِعَارَة؛ لِأَنَّهُ لم يتَخَلَّف عَنهُ فِي حَال من الْأَحْوَال: كالكسر للانكسار. وَسميت الْعلَّة الشَّرْعِيَّة الْكَامِلَة سَببا؛ لِأَن عليتها لَيست لذاتها، بل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1064 بِنصب الشَّارِع لَهَا أَمارَة على الحكم بِهِ، بِدَلِيل وجودهَا دونه: كالإسكار قبل التَّحْرِيم، وَلَو كَانَ الْإِسْكَار عِلّة للتَّحْرِيم لذاته لم يتَخَلَّف عَنهُ فِي حَال، كالكسر للانكسار فِي الْعَقْلِيَّة، فَأَشْبَهت لذَلِك السَّبَب، وَهُوَ مَا يحصل الحكم عِنْده لَا بِهِ، فَهُوَ معرف للْحكم، لَا مُوجب لَهُ لذاته، وَإِلَّا لوَجَبَ قبل الشَّرْع. قَوْله: {وَهُوَ وقتي: كالزوال لِلظهْرِ، ومعنوي يسْتَلْزم حِكْمَة باعثة: كالإسكار للتَّحْرِيم، [وَالْملك لإباحة الِانْتِفَاع] وَنَحْوه} . السَّبَب قِسْمَانِ: أَحدهمَا: وقتي، وَالْآخر: معنوي. والوقتي: هُوَ مَا لَا يسْتَلْزم فِي تَعْرِيفه للْحكم حِكْمَة باعثة: كزوال الشَّمْس، فَإِنَّهُ يعرف وَقت وجوب الظّهْر، وَلَا يكون مستلزما لحكمة باعثة. والمعنوي: مَا يسْتَلْزم حِكْمَة باعثة فِي تَعْرِيفه للْحكم الشَّرْعِيّ: كالإسكار، فَإِنَّهُ أَمر معنوي جعل عِلّة للتَّحْرِيم، وَالْملك، فَإِنَّهُ جعل سَببا لإباحة الِانْتِفَاع، وَالضَّمان، فَإِنَّهُ جعل سَببا لمطالبة الضَّامِن بِالدّينِ، والعقوبات، فَإِنَّهَا جعلت سَببا لوُجُوب الْقصاص أَو الدِّيَة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1065 قَالَ الْآمِدِيّ: (السَّبَب عبارَة عَن وصف ظَاهر منضبط، دلّ الدَّلِيل الشَّرْعِيّ على كَونه مُعَرفا لثُبُوت حكم شَرْعِي) ، طرديا كَانَ: كجعل زَوَال الشَّمْس سَببا للصَّلَاة، أَو غير طردي: كالشدة المطربة، سَوَاء اطرد الحكم مَعَه أَو لم يطرد؛ لِأَن السَّبَب الشَّرْعِيّ يجوز تَخْصِيصه، وَهُوَ الْمُسَمّى تَخْصِيص الْعلَّة، إِذْ لَا معنى لتخصيص الْعلَّة، إِلَّا وجود حكمهَا فِي بعض صور وجودهَا دون بعض، وَهُوَ عدم الاطراد. قَوْله: {الْقسم الثَّالِث: الشَّرْط، وَهُوَ لُغَة: الْعَلامَة} ، لِأَنَّهُ عَلامَة على الْمَشْرُوط، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَهَل ينظرُونَ إِلَّا السَّاعَة أَن تأتيهم بَغْتَة فقد جَاءَ أشراطها} [مُحَمَّد: 18] ، أَي: علامتها، قَالَه الْمُوفق وَغَيره. قَالَ الْجَوْهَرِي: (بِالسُّكُونِ، مَعْرُوف، وبالتحريك: الْعَلامَة، وأشراط السَّاعَة: علاماتها) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1066 وَقَالَ فِي " الْمِصْبَاح ": (الشَّرْط - مخفف من الشَّرْط بِفَتْح الرَّاء - هُوَ: الْعَلامَة، وَجمعه: أَشْرَاط، وَجمع الشَّرْط - بِالسُّكُونِ -: شُرُوط، وَيُقَال لَهُ: شريطة، وَجمعه: شَرَائِط) . وَقَالَ فِي " المطلع ": (الشَّرْط - بِسُكُون الرَّاء - يجمع على شُرُوط وعَلى شَرَائِط، والأشراط وَاحِدهَا شَرط - بِفَتْح الرَّاء والشين -) انْتهى. وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الشَّرْط - بِالتَّحْرِيكِ -: الْعَلامَة، جمعه: أَشْرَاط، وَالشّرط: إِلْزَام الشَّيْء والتزامه فِي البيع وَنَحْوه، كالشريطة، وَجمعه شُرُوط) انْتهى. قَوْله: {وَشرعا: مَا يلْزم من عَدمه الْعَدَم، وَلَا يلْزم من وجوده وجود وَلَا عدم لذاته} . فَالْأول: احْتِرَاز من الْمَانِع؛ لِأَنَّهُ لَا يلْزم من عَدمه وجود وَلَا عدم. وَالثَّانِي: احْتِرَاز من السَّبَب، وَالْمَانِع أَيْضا. أما من السَّبَب؛ فَلِأَنَّهُ يلْزم من وجوده الْوُجُود لذاته كَمَا سبق. وَأما من الْمَانِع؛ فَلِأَنَّهُ يلْزم من وجوده الْعَدَم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1067 وَالثَّالِث: احْتِرَاز من مُقَارنَة الشَّرْط وجود السَّبَب، فَيلْزم الْوُجُود، أَو قيام الْمَانِع، فَيلْزم الْعَدَم، لَكِن [لَا] لذاته - وَهُوَ كَونه شرطا - بل لأمر خَارج، وَهُوَ مُقَارنَة السَّبَب، أَو قيام الْمَانِع. إِذا علم ذَلِك؛ فللشرط [ثَلَاثَة] إطلاقات. الأول: مَا يذكر فِي الْأُصُول هُنَا، مُقَابلا للسبب وَالْمَانِع، وَفِي نَحْو قَول الْمُتَكَلِّمين: شَرط الْعلم [الْحَيَاة] ، وَقَول الْفُقَهَاء: شَرط الصَّلَاة الطَّهَارَة، شَرط صِحَة البيع كَذَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يذكر هُنَا تَعْرِيفه. الثَّانِي: الشَّرْط اللّغَوِيّ، وَالْمرَاد بِهِ: صِيغ التَّعْلِيق ب " إِن " وَنَحْوهَا من أدوات الشَّرْط، وَهُوَ مَا يذكر فِي أصُول الْفِقْه فِي المخصصات للْعُمُوم، نَحْو: {وَإِن كن أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ} [الطَّلَاق: 6] ، وَمِنْه قَوْلهم فِي الْفِقْه: الطَّلَاق وَالْعِتْق الْمُعَلق بِشَرْط، وَنَحْوهمَا، نَحْو: إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق، أَو حرَّة، وَقَوْلهمْ: لَا يجوز تَعْلِيق البيع على شَرط وَنَحْوه، فَإِن دُخُول الدَّار لَيْسَ شرطا لوُقُوع الطَّلَاق شرعا وَلَا عقلا، بل من الشُّرُوط الَّتِي وَضعهَا أهل اللُّغَة. وَهَذَا - كَمَا قَالَ الْقَرَافِيّ وَغَيره -: (يرجع إِلَى كَونه سَببا يوضع للمعلق، حَتَّى يلْزم من وجوده الْوُجُود، وَمن عَدمه الْعَدَم لذاته) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1068 وَوهم من فسره - هُنَاكَ تَفْسِير الشَّرْط الْمُقَابل للسبب وَالْمَانِع، كَمَا وَقع لكثير من الْأُصُولِيِّينَ، وَسَيَأْتِي - هُنَاكَ - بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الثَّالِث: جعل شَيْء قيدا فِي شَيْء: كَشِرَاء الدَّابَّة بِشَرْط كَونهَا حَامِلا، وَبيع العَبْد بِشَرْط الْعتْق، وَهُوَ المُرَاد بِحَدِيث: " نهى عَن بيع وَشرط "، و " مَا بَال رجال يشترطون شُرُوطًا لَيست فِي كتاب الله "، وَنَحْو ذَلِك. وَهَذَا الثَّالِث يحْتَمل أَن يُعَاد إِلَى الأول، بِسَبَب مواضعة الْمُتَعَاقدين، كَأَنَّهُمَا قَالَا: جَعَلْنَاهُ مُعْتَبرا فِي عَقدنَا، يعْدم بِعَدَمِهِ، وَإِن ألغاه الشَّرْع لغى العقد، وَإِن اعْتَبرهُ لَا يلغى العقد، بل يثبت الْخِيَار إِن أخلف، كَمَا نقل ذَلِك فِي الْفِقْه. وَيحْتَمل أَن يُعَاد إِلَى الثَّانِي، كَأَنَّهُمَا قَالَا: إِن كَانَ كَذَا فَالْعقد صَحِيح، وَإِلَّا فَلَا. إِذا عرفت ذَلِك؛ فالمقصود هُنَا هُوَ الْقسم الأول، وَقد اشْتهر تَعْرِيفه بِمَا ذَكرْنَاهُ أَولا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1069 قَوْله: {فَإِن أخل عَدمه بحكمة السَّبَب فَشرط السَّبَب: كالقدرة على تَسْلِيم الْمَبِيع، وَإِن استلزم عَدمه حِكْمَة تَقْتَضِي نقيض الحكم، فَشرط الحكم: كالطهارة للصَّلَاة} . هَذَا الشَّرْط على ضَرْبَيْنِ: أَحدهمَا: مَا يُسمى شَرط السَّبَب، وَالثَّانِي: يُسمى شَرط الحكم. فَالْأول: مَا يكون عَدمه مخلا بحكمة السَّبَب: كالقدرة على تَسْلِيم الْمَبِيع وَنَحْوه، فَإِنَّهَا شَرط البيع، الَّذِي هُوَ سَبَب ثُبُوت الْملك، الْمُشْتَمل على مصلحَة، وَهُوَ حَاجَة الِانْتِفَاع بِالْمَبِيعِ، وَهِي متوقفة على الْقُدْرَة على التَّسْلِيم، فَكَانَ عَدمه مخلا بحكمة الْمصلحَة الَّتِي شرع لَهَا البيع. وَالثَّانِي: مَا اشْتَمَل عَدمه على [حِكْمَة] تَقْتَضِي نقيض حِكْمَة السَّبَب، مَا بَقَاء حِكْمَة السَّبَب: كالطهارة فِي بَاب الصَّلَاة، فَإِن عدم الطَّهَارَة حَال الْقُدْرَة عَلَيْهَا مَعَ الْإِتْيَان بِالصَّلَاةِ يَقْتَضِي نقيض حِكْمَة الصَّلَاة، وَهُوَ الْعقَاب، فَإِنَّهُ نقيض وُصُول الثَّوَاب. قَوْله: {وَهُوَ عَقْلِي: كالحياة للْعلم} . تقدم لنا أَن للشّرط إطلاقات مِنْهَا مَا هُوَ للمتكلمين، وَهُوَ قَوْلنَا: عَقْلِي: كالحياة للْعلم؛ لِأَن من شَرط الْعلم الْحَيَاة، فَإِذا انْتَفَت الْحَيَاة، انْتَفَى الْعلم، وَلَا يلْزم من وجود الْحَيَاة الْعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1070 {ولغوي: كَأَنْت طَالِق إِن [دخلت الدَّار] } وَنَحْوه، كَمَا تقدم. { [وشرعي: كالطهارة للصَّلَاة] } وَنَحْوه. وَزَادُوا رَابِعا {و} هُوَ { [العادي] : كالغذاء للحيوان} ، إِذْ الْغَالِب فِيهِ أَنه يلْزم من انْتِفَاء الْغذَاء انْتِفَاء الْحَيَاة، وَمن وجوده وجودهَا، إِذْ لَا يتغذى إِلَّا حَيّ، وكالسلم للصعود. فعلى هَذَا يكون الشَّرْط العادي كالشرط اللّغَوِيّ فِي أَنه مطرد منعكس، ويكونان من قبيل الْأَسْبَاب لَا من قبيل الشُّرُوط، كَمَا تقدم فِي الشَّرْط اللّغَوِيّ، بِخِلَاف الشُّرُوط الْعَقْلِيَّة. وَقَوله: { [وَمَا جعل قيدا فِي شَيْء لِمَعْنى كَشَرط فِي عقد فكالشرعي لَا اللّغَوِيّ فِي الْأَصَح] } . تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ، وَهُوَ الْإِطْلَاق الثَّالِث فِي إطلاقات الشَّرْط فليعاود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1071 قَوْله: {واللغوي} - أَي: وَالشّرط اللّغَوِيّ - {أغلب اسْتِعْمَاله فِي السَّبَبِيَّة الْعَقْلِيَّة} ، نَحْو: إِذا طلعت الشَّمْس فالعالم مضيء، { [و] الشَّرْعِيَّة} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} [الْمَائِدَة: 6] وَنَحْوه. فَإِن طُلُوع الشَّمْس سَبَب ضوء الْعَالم عقلا، والجنابة سَبَب لوُجُود التَّطْهِير شرعا، {وَاسْتعْمل لُغَة فِي شَرط لم يبْق للمسبب سواهُ [أَي] } يسْتَعْمل { [فِي الشَّرْط الْأَخير] } ، وَذَلِكَ مثل قَوْلك: إِن تأتني أكرمك، فَإِن الْإِتْيَان شَرط لم يبْق للإكرام سواهُ، لِأَنَّهُ إِذا أَدخل الشَّرْط اللّغَوِيّ عَلَيْهِ، علم أَن أَسبَاب الْإِكْرَام حَاصِلَة، لَكِن متوقفة على حُصُول الْإِتْيَان. قَوْله: {الْقسم الرَّابِع: الْمَانِع، وَهُوَ: مَا يلْزم من وجوده الْعَدَم، وَلَا يلْزم من عَدمه وجود وَلَا عدم لذاته} . الْمَانِع اسْم فَاعل من الْمَنْع، وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاح مَا ذكرنَا. فَالْأول: احْتِرَاز من السَّبَب؛ لِأَنَّهُ يلْزم من وجوده الْوُجُود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1072 وَالثَّانِي: احْتِرَاز من الشَّرْط؛ لِأَنَّهُ يلْزم من عَدمه الْعَدَم. وَالثَّالِث: - وَهُوَ قَوْلنَا: لذاته -: احْتِرَاز من مُقَارنَة الْمَانِع لوُجُود سَبَب آخر، فَإِنَّهُ يلْزم الْوُجُود لَا لعدم الْمَانِع، بل لوُجُود السَّبَب: كَالْأَبِ الْقَاتِل فِي الْمِثَال الْآتِي [إِذا ارْتَدَّ زمن] قَتله وَلَده، فَإِنَّهُ يقتل بِالرّدَّةِ وَإِن لم يقتل قصاصا؛ لِأَن الْمَانِع إِنَّمَا هُوَ لأحد السببين. { [وَالْمَنْع] إِمَّا للْحكم} ، وَهُوَ وصف وجودي ظَاهر منضبط مُسْتَلْزم لحكمة تَقْتَضِي نقيض حكم السَّبَب، مَعَ بَقَاء [حِكْمَة السَّبَب] : {كالأبوة فِي الْقصاص مَعَ الْقَتْل الْعمد} الْعدوان، وَهُوَ كَون الْأَب سَببا لوُجُود الْوَلَد، فَلَا يحسن كَونه سَببا لعدمه، فَيَنْتَفِي الحكم مَعَ وجود مقتضيه وَهُوَ الْقَتْل. { [وَإِمَّا] لسَبَب الحكم} ، وَهُوَ وصف يخل وجوده بحكمة السَّبَب: {كَالدّين فِي الزَّكَاة مَعَ ملك [النّصاب] } ، وَوجه ذَلِك: أَن حِكْمَة وجوب الزَّكَاة فِي النّصاب - الَّذِي هُوَ السَّبَب - كثرته كَثْرَة تحْتَمل الْمُوَاسَاة مِنْهُ، شكرا على نعْمَة ذَلِك، لَكِن لما كَانَ الْمَدِين مطالبا بِصَرْف الَّذِي يملكهُ فِي الدّين، صَار كَالْعدمِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1073 وَسمي الأول: مَانع الحكم؛ لِأَن سَببه مَعَ بَقَاء حكمته [لَا] يُؤثر. وَالثَّانِي: مَانع السَّبَب؛ لِأَن حكمته فقدت مَعَ وجود صورته فَقَط. فالمانع يَنْتَفِي الحكم لوُجُوده، وَالشّرط يَنْتَفِي الحكم لانتفائه. فَوَائِد: إِحْدَاهَا: قد يلتبس السَّبَب بِالشّرطِ، من حَيْثُ إِن الحكم يتَوَقَّف وجوده على وجودهما، وينتفي بانتفائها، وَإِن كَانَ السَّبَب؛ يلْزم من وجوده وجوده بِخِلَاف الشَّرْط، فَإِذا شكّ فِي وصف، أهوَ سَبَب أَو شَرط؟ نظر، إِن كَانَت كلهَا مُنَاسبَة للْحكم فَالْكل سَبَب، أَو كل مِنْهَا مُنَاسِب فَكل وَاحِد سَبَب. فَالْأول: كَالْقَتْلِ الْعمد الْمَحْض الْعدوان. وَالثَّانِي: كأسباب الْحَدث. وَإِن ناسب الْبَعْض فِي ذَاته، وَالْبَعْض فِي غَيره، فَالْأول سَبَب، وَالثَّانِي شَرط: كالنصاب والحول فالنصاب يحمل على الْغنى ونعمة الْملك فِي نَفسه، فَهُوَ السَّبَب والحول مكمل لنعمة الْملك بالتمكن من التنمية فِي مدَّته فَهُوَ شَرط، قَالَه الْقَرَافِيّ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَلَكِن هَذَا لَا يكون إِلَّا فِي السَّبَب الْمَعْنَوِيّ الَّذِي يكون عِلّة، لَا فِي السَّبَب الزماني وَنَحْوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1074 فَالصَّوَاب أَن يُقَال: إِن كَانَ الْوَصْف هُوَ المتوقف عَلَيْهِ الشَّيْء فِي تَعْرِيفه، أَو تَأْثِيره - على الْخلاف - فالسبب، وَإِلَّا فَالشَّرْط) انْتهى. الثَّانِيَة: الشَّرْط وَعدم الْمَانِع كِلَاهُمَا يعْتَبر فِي [ترَتّب] الحكم، فقد يلتبسان، حَتَّى أَن بعض الْفُقَهَاء جعله إِيَّاه، كَمَا عد الفوراني وَالْغَزالِيّ من شَرَائِط الصَّلَاة ترك المناهي، من الْأَفْعَال، وَالْكَلَام، وَالْأكل، وَنَحْوه، وتبعهما الرَّافِعِيّ فِي " شرح الْوَجِيز "، وَفِي " الْمُحَرر "، وَالنَّوَوِيّ فِي " الرَّوْضَة "، وَلَكِن قَالَ فِي " شرح الْمُهَذّب ": (الصَّوَاب أَنَّهَا لَيست شُرُوطًا، وَإِن سميت بذلك فمجاز، وَإِنَّمَا هِيَ مبطلات) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1075 وَقَالَ فِي " التَّحْقِيق ": (غلط من عدهَا شُرُوطًا) انْتهى. وَالْفرق بَينهمَا - على تَقْدِير التغاير -: أَن الشَّرْط لَا بُد أَن يكون وَصفا وجوديا، وَأما عدم الْمَانِع فعدمي. وَيظْهر أثر ذَلِك فِي أَن عدم الْمَانِع يكْتَفى فِيهِ بِالْأَصْلِ، وَالشّرط لَا بُد من تحَققه، فَإِذا شكّ فِي شَيْء يرجع لهَذَا الأَصْل. وَلذَلِك عدت الطَّهَارَة شرطا؛ لِأَن الشَّك فِيهَا مَعَ تَيَقّن ضدها المستصحب يمْنَع انْعِقَاد الصَّلَاة. قَالُوا: وَيلْزم من ادّعى اتحادهما اجْتِمَاع النقيضين، فِيمَا إِذا شككنا فِي طريان الْمَانِع؛ لأَنا - حِينَئِذٍ - نشك فِي عَدمه، وَالْفَرْض أَن عَدمه شَرط، فَمن حَيْثُ إِنَّه شَرط لَا يُوجد الْمَشْرُوط، وَمن حَيْثُ إِن الشَّك فِي طريان الْمَانِع لَا أثر لَهُ، فيوجد الْمَشْرُوط وَهُوَ تنَاقض. الثَّالِثَة: سَبَب السَّبَب ينزل منزلَة السَّبَب، لِأَن مَا توقف على المتوقف عَلَيْهِ مُتَوَقف عَلَيْهِ: كالإعتاق فِي الْكَفَّارَة سَبَب للسقوط عَن الذِّمَّة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1076 وَالْإِعْتَاق يتَوَقَّف على اللَّفْظ المحصل لَهُ. وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (الشَّرْط، وجزؤه، وجزء الْعلَّة، كل مِنْهَا يلْزم من عَدمه الْعَدَم وَلَا يلْزم من وجوده وجود وَلَا عدم فَهِيَ تَلْتَبِس. وَالْفرق: أَن مُنَاسبَة الشَّرْط وجزئه فِي غَيره، ومناسبة جُزْء الْعلَّة فِي نَفسه. مِثَاله: الْحول، مناسبته فِي السَّبَب الَّذِي هُوَ النّصاب، لتكملته الْغنى الْحَاصِل بِهِ التنمية، وجزء الْعلَّة الَّذِي هُوَ النّصاب مناسبته من نَفسه، من حَيْثُ إِنَّه مُشْتَمل على بعض الْغنى، فالعلة وجزؤها مؤثران، وَالشّرط مكمل لتأثير الْعلَّة. وَمن ثمَّ عرف بَعضهم الشَّرْط: بِمَا توقف عَلَيْهِ تَأْثِير الْمُؤثر. قَالَ: وَمِنْهَا: الحكم، كَمَا يتَوَقَّف على وجود سَببه، يتَوَقَّف على وجود شَرطه، فَمَا الْفرق؟ وَالْجَوَاب: بِمَا سبق، من كَون السَّبَب مؤثرا مناسبا فِي نَفسه، وَالشّرط مكمل مُنَاسِب فِي غَيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1077 قَالَ: وَمِنْهَا: أَن أَجزَاء الْعلَّة يَتَرَتَّب عَلَيْهَا الحكم، والعلل المتعددة إِذا وجدت ترَتّب الحكم، فَمَا الْفرق؟ وَالْجَوَاب: أَن جُزْء الْعلَّة إِذا انْفَرد لَا يَتَرَتَّب [عَلَيْهِ] الحكم، بل لَا بُد من وجود بَقِيَّة أَجْزَائِهَا: كأوصاف الْقَتْل الْعمد الْعدوان، إِذا اجْتمعت وَجب الْقود، وَلَو انْفَرد بَعْضهَا كَالْقَتْلِ خطأ أَو عمدا فِي حد أَو قصاص، أَو قتل الْعَادِل الْبَاغِي، لم يجب الْقود، بِخِلَاف الْعِلَل المتعددة، فَإِن بَعْضهَا إِذا انْفَرد اسْتَقل بالحكم: كمن لمس ونام وبال، وَجب الْوضُوء بجميعها، وَبِكُل وَاحِد مِنْهَا. نعم، إِذا اجْتمعت كَانَ حكما ثَابتا بعلل كَمَا يَأْتِي) انْتهى. وَهُوَ معنى مَا تقدم من كَلَام الْقَرَافِيّ، وَلكنه نقحه. وَيَأْتِي فِي الْعلَّة الْفرق بَين الْعلَّة وَالسَّبَب. الرَّابِعَة: الْمَوَانِع الشَّرْعِيَّة، مِنْهَا: مَا يمْنَع ابْتِدَاء الحكم واستمراره: كالرضاع يمْنَع ابْتِدَاء النِّكَاح واستمراره إِذا طَرَأَ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: مَا يمْنَع ابتداءه فَقَط: كالعدة تمنع ابْتِدَاء النِّكَاح، وَلَا تبطل استمراره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1078 وَمِنْهَا: مَا اخْتلف فِيهِ: كالإحرام، يمْنَع ابْتِدَاء الصَّيْد، فَإِن طَرَأَ على الصَّيْد إِحْرَام، فَهَل تجب إِزَالَة الْيَد عَنهُ؟ وَالصَّحِيح: أَنه يجب. وكالطول، يمْنَع ابْتِدَاء نِكَاح الْأمة، فَإِن طَرَأَ عَلَيْهِ فَهَل يُبطلهُ؟ وَالصَّحِيح: أَنه لَا يُبطلهُ. وكوجود المَاء، يمْنَع ابْتِدَاء التَّيَمُّم فَلَو طَرَأَ وجود المَاء عَلَيْهِ فِي الصَّلَاة، هَل يبطل؟ وَالصَّحِيح: أَنه يُبطلهُ، وَمَا ذَاك إِلَّا لتردد هَذَا الْقسم بَين الْقسمَيْنِ قبله، وَالله أعلم. قَوْله: {وَنصب هَذِه الْأَشْيَاء مفيدة مقتضياتها، حكم شَرْعِي} . هَذِه الْأَشْيَاء، إِشَارَة إِلَى مَا سبق من أَصْنَاف الْعلم الْمَنْصُوب لتعريف الحكم الشَّرْعِيّ الوضعي، وَهِي: الْعلَّة، وَالسَّبَب، وَالشّرط، وَالْمَانِع. وَقَوله: (مفيدة) ، مَنْصُوب على الْحَال، أَي: نصبها حَال إفادتها، أَو معدة لإفادتها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1079 وَمعنى الْكَلَام: أَن نصب هَذِه الْأَشْيَاء لتفيد مَا اقتضته من الْأَحْكَام هُوَ حكم شَرْعِي، أَي: قَضَاء من الشَّارِع بذلك، ومقتضاها - أَيْضا - حكم شَرْعِي، فَجعل الزِّنَى سَببا لوُجُوب الْحَد حكم شَرْعِي، وَوُجُوب الْحَد حكم آخر. وَذَلِكَ أَن لله تَعَالَى فِي الزَّانِي حكمين: وجوب الْحَد، وَهُوَ حكم لَفْظِي، وسببية الزِّنَى، أَي: كَون الزِّنَى سَببا لوُجُوب الْحَد حكم آخر. وَكَذَلِكَ وجوب حد الْقَذْف، مَعَ جعل الْقَذْف سَببا لَهُ، وَوُجُوب الْقطع، مَعَ نصب السّرقَة سَببا لَهُ، وَوُجُوب الْقَتْل بِالرّدَّةِ وَالْقصاص، مَعَ نصب الرِّدَّة وَالْقَتْل سَببا لَهما، ونظائره كَثِيرَة. وَتقدم أَن خطاب الْوَضع وخطاب التَّكْلِيف مجتمعان، وَهل يتَصَوَّر انفكاك أَحدهمَا عَن الآخر؟ عِنْد تَقْسِيم الْخطاب. قَوْله: {وَالصِّحَّة وَالْفساد مِنْهُ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1080 أَي: من خطاب الْوَضع، هَذَا الصَّحِيح، وَاخْتَارَهُ أَصْحَابنَا وَغَيرهم، لِأَنَّهُمَا من الْأَحْكَام، وليسا داخلين فِي الِاقْتِضَاء والتخيير، لِأَن الحكم بِصِحَّة الْعِبَادَة وبطلانها، وبصحة الْمُعَامَلَة وبطلانها، لَا يفهم مِنْهُ اقْتِضَاء وَلَا تَخْيِير، فَكَانَا من خطاب الْوَضع. { [وَقَالَ جمَاعَة] : معنى الصِّحَّة: الْإِبَاحَة، و} معنى {الْبطلَان: الْحُرْمَة و [ذهب] ابْن الْحَاجِب وَجمع: [إِلَى أَن الصِّحَّة والبطلان] أَمر عَقْلِي} ، غير مُسْتَفَاد من الشَّرْع، فَلَا يكون دَاخِلا فِي الحكم الشَّرْعِيّ. وَإِنَّمَا قَالُوا إنَّهُمَا أَمر عَقْلِي، لِأَن الصِّحَّة فِي الْعِبَادَة، إِمَّا لكَون الْفِعْل مسْقطًا للْقَضَاء، كَمَا هُوَ مَذْهَب الْفُقَهَاء، أَو لموافقة الْأَمر الشَّرِيعَة، كَمَا هُوَ مَذْهَب الْمُتَكَلِّمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1081 فَصَلَاة من ظن الطَّهَارَة ثمَّ تبين خَطؤُهُ، غير [صَحِيحَة] على الأول، لعدم سُقُوط الْقَضَاء، وصحيحة على الثَّانِي، لكَونهَا مُوَافقَة لأمر الشَّارِع. وَلَا شكّ أَن الْعِبَادَة إِذا اشْتَمَلت على أَرْكَانهَا وشرائطها حكم الْعقل بِصِحَّتِهَا بِكُل من التفسيرين، سَوَاء حكم الشَّارِع بهَا، أَو لَا. قَالَ الْآمِدِيّ: (يبعد أَن يكون الحكم بهما شَرْعِيًّا، لِأَن كَون الْفِعْل مُوَافقا للشَّرْع، أَو غير مُوَافق، مدرك بِالْعقلِ) . وَلَكِن رد: بِأَن الشَّرْع إِذا كَانَ لَهُ فِي ذَلِك مدْخل، كَيفَ يكون عقليا؟ وَزعم القطب الشِّيرَازِيّ: إِنَّمَا ذَلِك فِي الْعِبَادَات فَقَط، وَأما ترَتّب آثَار الْعُقُود عَلَيْهَا فشرعي قطعا. وَهُوَ مَرْدُود بِعَدَمِ الْفرق؛ لِأَن التَّرْتِيب فيهمَا مَعًا مدرك بِالْعقلِ، وَإِنَّمَا حكم بالْقَوْل الرَّاجِح بِأَنَّهُ شَرْعِي لكَون الشَّرْع لَهُ فِيهِ مدْخل، وَلذَلِك يحكم القَاضِي فِي الْعُقُود بِالصِّحَّةِ وَالْفساد، وَهُوَ لَا يحكم إِلَّا بِأَمْر شَرْعِي لَا عَقْلِي. قَوْله: {فالصحة فِي الْعِبَادَة: سُقُوط الْقَضَاء بِالْفِعْلِ، عِنْد الْفُقَهَاء، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1082 وَعند الْمُتَكَلِّمين وَغَيرهم: مُوَافقَة الْأَمر} ، وَجب الْقَضَاء أم لَا. ورد ذَلِك: بِأَن وجوب الْقَضَاء إِنَّمَا يتَحَقَّق بعد خُرُوج الْوَقْت، لَا سِيمَا إِذا قُلْنَا: بِأَمْر جَدِيد لَا بِالْأَمر الأول، وَإِذا لم يجب فَكيف يسْقط؟ ثمَّ إِن هَذَا قَاصِر على مُؤَقّت يدْخلهُ الْقَضَاء، والبحث فِي صِحَة الْعِبَادَة مُطلقًا. قولهن: {فَصَلَاة من ظن الطَّهَارَة صَحِيحَة على الثَّانِي فَقَط} . يَعْنِي: وعَلى الأول غير صَحِيحَة، كَأَن الْمُتَكَلِّمين نظرُوا لظن الْمُكَلف، وَالْفُقَهَاء لما فِي نفس الْأَمر. لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: (اللَّائِق بقواعد الْفَرِيقَيْنِ الْعَكْس. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: " هَذَا الْبناء فِيهِ نظر، لِأَن من قَالَ: مُوَافقَة الْأَمر، إِن أَرَادَ الْأَمر الْأَصْلِيّ فَلم يسْقط، أَو الْأَمر بِالْعَمَلِ بِالظَّنِّ، فقد تبين فَسَاد الظَّن، فَيلْزم أَن لَا يكون صَحِيحا، من حَيْثُ عدم مُوَافقَة الْأَمر الْأَصْلِيّ، وَلَا الْأَمر بِالْعَمَلِ بِالظَّنِّ ". وَمَا قَالَه ظَاهر) . وَقَالَ بَعضهم: (النَّقْل عَن الْفُقَهَاء فِيهِ نظر؛ لأَنهم لَهُم فروعا تدل على خلاف ذَلِك) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1083 قَوْله: {وَالْقَضَاء وَاجِب، عَلَيْهِمَا} - أَي: على الْقَوْلَيْنِ: قَول الْفُقَهَاء وَقَول الْمُتَكَلِّمين - {عِنْد الْأَكْثَر} ، وَقَطعُوا بِهِ، وَهُوَ الصَّحِيح، { [وَيكون الْخلاف بَين الْفَرِيقَيْنِ لفظيا] } . وَقد صرح الْغَزالِيّ والقرافي: أَن الْخلاف الْمَذْكُور فِي الْغَايَة للصِّحَّة لَفْظِي، لِاتِّفَاق الْفَرِيقَيْنِ على أَنه إِن لم يتَبَيَّن الْحَدث فقد أدّى مَا عَلَيْهِ، ويثاب، وَإِلَّا فَيجب الْقَضَاء. قَالَ الْبرمَاوِيّ: (لَكِن دَعْوَى الِاتِّفَاق فِي الْحَالة الثَّانِيَة على الْقَضَاء مَرْدُود، فقد حكى ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره " فِي مَسْأَلَة الْإِجْزَاء: أَنه لَا قَضَاء) . قَالَه تبعا للآمدي، ورده ابْن مُفْلِح على مَا يَأْتِي. قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَكَأن المُرَاد: أَن الْمُتَكَلِّمين إِنَّمَا لم يوجبوا الْقَضَاء، على تَقْدِير اسْتِمْرَار الْحَال لَو لم يرد نَص بِلُزُوم الْقَضَاء، لكنه ورد بِأَمْر جَدِيد، كَمَا حَكَاهُ الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى " عَنْهُم) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1084 قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَعِنْدنَا قَول مثله، فِيمَا إِذا صلى بِنَجس لم يُعلمهُ، أَو مَكْشُوف الْعَوْرَة سَاهِيا، أَنَّهَا صَحِيحَة، وَلَا قَضَاء، نظرا لموافقة الْأَمر حَال التَّلَبُّس) . قلت: وَهُوَ قَول لنا قوي، فِيمَا إِذا صلى بِنَجس سَاهِيا أَو جَاهِلا. قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيص ": (إِنَّمَا صَار الْفُقَهَاء إِلَى هَذَا فِي أصل، وَهُوَ أَن الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة صَحِيحَة، مَعَ كَونهَا على خلاف مُقْتَضى الشَّرْع، يدل على أَن الصَّحِيح: مَا لم يجب قَضَاؤُهُ، وَلَو خَالف مُقْتَضى الشَّرْع) . وَقَالَ الْغَزالِيّ: (يتَخَرَّج على الْخلاف فِيمَا قطع صلَاته لأجل غريق، فَهِيَ صَحِيحَة عِنْد الْمُتَكَلِّمين، بَاطِلَة عِنْد الْفُقَهَاء) . قَوْله: {وَفِي الْمُعَامَلَة: ترَتّب أَحْكَامهَا الْمَقْصُودَة بهَا عَلَيْهَا} . وَذَلِكَ لِأَن العقد لم يوضع إِلَّا لإِفَادَة مَقْصُود كَمَال النَّفْع فِي البيع، وَملك الْبضْع فِي النِّكَاح، فَإِذا أَفَادَ مَقْصُوده فَهُوَ صَحِيح، وَحُصُول مَقْصُوده: هُوَ ترَتّب حكمه عَلَيْهِ، لِأَن العقد مُؤثر لحكمه وَمُوجب لَهُ. قَالَ الْآمِدِيّ: (وَلَا بَأْس بتفسير الصِّحَّة فِي الْعِبَادَات بِهَذَا) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1085 قَالَ الطوفي: (لِأَن مَقْصُود الْعِبَادَة، رسم التَّعَبُّد، وَبَرَاءَة ذمَّة العَبْد مِنْهَا، فَإِذا أفادت ذَلِك، كَانَ هُوَ معنى قَوْلنَا: إِنَّهَا كَافِيَة فِي سُقُوط الْقَضَاء، فَتكون صَحِيحَة) انْتهى. قَوْله: { [ويجمعهما: ترَتّب الْأَثر الْمَطْلُوب من الْفِعْل عَلَيْهِ] } . أَكثر الْأُصُولِيِّينَ يفرد كل وَاحِد من الصِّحَّة فِي الْعِبَادَات، وَالصِّحَّة فِي الْمُعَامَلَات بِحَدّ، لِأَن جمع الْحَقَائِق الْمُخْتَلفَة فِي حد وَاحِد لَا يُمكن. صرح بِهِ ابْن الْحَاجِب فِي تَقْسِيم الِاسْتِثْنَاء إِلَى مُنْقَطع ومتصل، لَكِن ذَلِك مَخْصُوص بِمَا إِذا أُرِيد تَمْيِيز الْحَقِيقَة عَن الْأُخْرَى بالذاتيات، وَأما غَيره فَيجوز، فَلذَلِك جَمعنَا بَينهمَا فِي تَعْرِيف وَاحِد، لصدقه عَلَيْهِمَا، تبعا للكوراني فِي ذَلِك لما يَأْتِي فِي كَلَامه، وجمعهما فِي " جمع الْجَوَامِع "، والبرماوي وَغَيرهمَا بِحَدّ وَاحِد فَقَالُوا: (رسم الصِّحَّة: مُوَافقَة ذِي الْوَجْهَيْنِ الشَّرْع سَوَاء كَانَ ذَلِك الْمُوَافق عبَادَة أَو مُعَاملَة. فَمَا لَيْسَ لَهُ وَجْهَان لَا يُوصف بِصِحَّة وَلَا فَسَاد: كمعرفة الله تَعَالَى، ورد الْوَدِيعَة، فَإِنَّهُ إِمَّا أَن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1086 يعرف الله تَعَالَى، أَو لَا يعرفهُ، وَإِمَّا أَن يرد الْوَدِيعَة، أَو لَا يردهَا، بِخِلَاف نَحْو الصَّلَاة، وَالصَّوْم، وَالْبيع، وَالْإِجَارَة، وَنَحْوهَا، فَإِن صورته تقع على وَجْهَيْن: مَا اجْتمعت فِيهِ الشُّرُوط، وانتفت عَنهُ الْمَوَانِع يكون صَحِيحا. وَمَا اخْتَلَّ فِيهِ شَيْء من ذَلِك يكون فَاسِدا. وَإِنَّمَا قُلْنَا: صورته كَذَلِك؛ لِأَن الْإِطْلَاق الشَّرْعِيّ على المختل بِرُكْن أَو شَرط منفي بِالْحَقِيقَةِ، لِأَن الْمركب يَنْتَفِي بِانْتِفَاء جزئه، وَلذَلِك قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للمسيء فِي صلَاته: " ارْجع فصل فَإنَّك لم تصل ".) قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَهُوَ أحسن مَا حمل عَلَيْهِ نَحْو: " الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ "، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1087 و " لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب "، أَي: لَا عمل شَرْعِيًّا، وَلَا صَلَاة شَرْعِيَّة، [فنفيه] نفي حَقِيقِيّ، حَيْثُ كَانَ خَالِيا مِمَّا ذكر، حَتَّى لَا يحْتَاج لتقدير مَحْذُوف) انْتهى. وَقد حكى الْأَصْفَهَانِي فِي تنَاول الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة الْفَاسِد من صَلَاة وَبيع وَنِكَاح وَغَيرهَا، ثَلَاثَة أَقْوَال: (ثَالِثهَا: تَشْمَل مَا كَانَ من أَسمَاء الْأَفْعَال والأعيان من غسل وَوَطْء، وَلَا تَشْمَل مَا كَانَ من أَسمَاء الْأَحْكَام: كتسمية الْغسْل طَهَارَة) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1088 ولأصحابنا قَولَانِ فِي الْأَيْمَان وَغَيرهَا فِي الْعُقُود، أصَحهمَا: اخْتِصَاصه بِالصَّحِيحِ مِنْهَا، وَلِهَذَا لَو حلف لَا يَبِيع، وَنَحْوه، لَا يَحْنَث بالفاسد مِنْهَا على الْأَصَح بِخِلَاف الْعِبَادَات فَلَا يَشْمَل إِلَّا الصَّحِيح فَقَط، قولا وَاحِدًا، واستثنوا من ذَلِك الْحَج فَيحنث بِالْحَجِّ الْفَاسِد. ورد الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع " تَعْرِيفه فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَغَيره، وَقَالَ: (رد الْوَدِيعَة مِنْهَا صَحِيح، وَمِنْهَا فَاسد: كَمَا لَو ردهَا إِلَى صَاحبهَا بعد جُنُونه، وَكَذَلِكَ الْمعرفَة بِاللَّه؛ لِأَن الْمعرفَة - أَيْضا - إِن لم تكن على الْوَجْه الْمُوَافق للشَّرْع، تكون معرفَة بَاطِلَة؛ لانْتِفَاء مُوجب صِحَّتهَا، وَهُوَ مُطَابقَة الْوَاقِع، وَلَا يضرنا كَونهَا جهلا، إِذْ لَا تنَافِي بَين كَونه جهلا، وَمَعْرِفَة بَاطِلَة. وَيدل على مَا قُلْنَا: مَا قَالَه عضد الْملَّة وَالدّين، والعلامة التَّفْتَازَانِيّ فِي كِتَابَيْهِمَا المواقف، والمقاصد، فِي بحث النّظر فِي معرفَة الله تَعَالَى ردا على الْمُعْتَزلَة، حَيْثُ استدلوا: بِأَن النّظر فِي معرفَة الله تَعَالَى وَاجِب عقلا، إِذْ الَّذِي حصل الْمعرفَة أحسن حَالا من غَيره. قُلْنَا: نعم إِذا حصل الْمعرفَة على وَجههَا، والعرفان على وَجه الصَّوَاب، فَإِن التَّقْيِيد بِالْوَجْهِ صَرِيح فِيمَا ذكرنَا) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1089 وَقَالَ: (لَو قيل: الصِّحَّة مُطلقًا: عبارَة عَن ترَتّب الْأَثر الْمَطْلُوب من الْفِعْل عَلَيْهِ، ليشْمل الْعِبَادَات من غير تَطْوِيل، [لَكَانَ] أولى. غَايَته: أَن ذَلِك الْأَثر عِنْد الْمُتَكَلِّمين: مُوَافقَة الشَّرْع، وَعند الْفُقَهَاء إِسْقَاط الْقَضَاء. وعَلى هَذَا يكون الْخلاف رَاجعا إِلَى تعْيين الْأَثر الْمَطْلُوب، لَا إِلَى تَفْسِير الصِّحَّة) انْتهى. وَلذَلِك تابعناه على هَذَا الْحَد، وَالله أعلم. وَقد قَالَ القطب الشِّيرَازِيّ: (لَو قيل: الْمُعَامَلَات ترَتّب ثَمَرَة الْمَطْلُوب مِنْهُ عَلَيْهِ شرعا، اطرد. وَلَو قيل: الْعِبَادَة صَحِيحَة بِهَذَا التَّفْسِير، فَلَا حرج) انْتهى. قَوْله: {فبصحة العقد [ترَتّب] أَثَره من ملك وَغَيره} . آثَار الْعُقُود: هُوَ التَّمَكُّن من التَّصَرُّف فِيمَا هُوَ لَهُ: كَالْبيع إِذا صَحَّ العقد ترَتّب أَثَره من ملك وَجَوَاز التَّصَرُّف فِيهِ، من هبة، ووقف، وَأكل، وَلبس، وانتفاع، وَغير ذَلِك، وَكَذَلِكَ إِذا صَحَّ عقد النِّكَاح، وَالْإِجَارَة، وَالْوَقْف، وَغَيرهَا من الْعُقُود، ترَتّب عَلَيْهَا أَثَرهَا مِمَّا أَبَاحَهُ الشَّارِع لَهُ بِهِ، فينشأ ذَلِك عَن العقد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1090 تَنْبِيه: يرد على قَوْلنَا: (فبصحة العقد ترَتّب أَثَره) ، الْكِتَابَة الْفَاسِدَة، وَنَحْوهَا، فَإِنَّهُ يَتَرَتَّب عَلَيْهَا أَثَرهَا من الْعتْق مَعَ أَنَّهَا غير صَحِيحَة. وَيُجَاب عَنهُ: بِأَن ترَتّب الْأَثر فِيهَا لَيْسَ من جِهَة العقد، بل للتعليق، وَهُوَ صَحِيح لَا خلل فِيهِ. وَنَظِير ذَلِك: الْمُضَاربَة وَالْوكَالَة الفاسدتان، يَصح فيهمَا التَّصَرُّف لوُجُود الْإِذْن، وَإِن لم يَصح العقد. قَوْله: {وبصحة الْعِبَادَة يَتَرَتَّب إجزاؤها} . [أَي] إِجْزَاء الْعِبَادَة ينشأ عَن صِحَّتهَا، فَيُقَال: صحت الْعِبَادَة وأجزأت. {و} قد قيل فِي معنى الْإِجْزَاء ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1091 فَقيل: {هُوَ الْكِفَايَة فِي إِسْقَاط التَّعَبُّد، [وَهُوَ الْأَظْهر] } ، فَإِذا صحت الْعِبَادَة ترَتّب الْإِجْزَاء، وَهُوَ إِسْقَاط التَّعَبُّد، وينقل عَن الْمُتَكَلِّمين. وَقيل: الْإِجْزَاء: هُوَ الْكِفَايَة فِي إِسْقَاط الْقَضَاء، وينقل عَن الْفُقَهَاء على مَا سبق تَقْرِير فِي الْغَايَة فِي الصِّحَّة، لِأَنَّهُ قريب من معنى الصِّحَّة، وَلَكِن الْفرق بَينهمَا من وَجْهَيْن. أَحدهمَا: أَن مَحل الصِّحَّة أَعم من مَحل الْإِجْزَاء، فَإِن الصِّحَّة موردها الْعِبَادَة وَغَيرهَا، ومورد الْإِجْزَاء الْعِبَادَة فَقَط، بل زعم بَعضهم: اخْتِصَاصه بِالْوَاجِبِ، على مَا يَأْتِي قَرِيبا بَيَانه. الثَّانِي: أَن معنى الْإِجْزَاء عدمي، وَمعنى الصِّحَّة وجودي، وَذَلِكَ لِأَن الْعِبَادَة المأتي بهَا على وَجه الشَّرْع لازمها وصفان: وجودي: وَهُوَ مُوَافقَة الشَّرْع، وَهَذَا هُوَ الصِّحَّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1092 [وَالْآخر عدمي] : وَهُوَ سُقُوط التَّعَبُّد بِهِ، أَو سُقُوط الْقَضَاء - على الْخلاف فِيهِ - وَهَذَا هُوَ الْإِجْزَاء. قَالَ الْبرمَاوِيّ: (قلت: وَفرق ثَالِث: أَن الْإِجْزَاء مُرَتّب على الصِّحَّة. فالإجزاء - حِينَئِذٍ - كَون الْفِعْل على وَجه يسْقط التَّعَبُّد، لَا نفس السُّقُوط، وَلَا الْإِسْقَاط، كَمَا وَقع لبَعض الْأُصُولِيِّينَ) . قَوْله: { [فَفعل الْمَأْمُور بِهِ] بِشُرُوطِهِ يستلزمه إِجْمَاعًا} . أَي: يسْتَلْزم الْإِجْزَاء، إِذا فسرنا الْإِجْزَاء بِإِسْقَاط التَّعَبُّد، فالامتثال مُحَصل للإجزاء بِلَا خلاف، وَلذَلِك أَتَيْنَا بِالْفَاءِ، فَإِنَّهُ مُرَتّب على قَوْلنَا: (وَهُوَ الْكِفَايَة فِي إِسْقَاط التَّعَبُّد) . قَالَ ابْن مُفْلِح: (الْإِجْزَاء: امْتِثَال الْأَمر. فَفعل الْمَأْمُور بِهِ بِشُرُوطِهِ يحققه إِجْمَاعًا) . قَوْله: {وَقيل: فِي إِسْقَاط الْقَضَاء} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1093 تقدم أَن الْإِجْزَاء: هُوَ الْكِفَايَة فِي إِسْقَاط التَّعَبُّد، وَهُوَ الصَّحِيح كَمَا تقدم. وَقيل: هُوَ الْكِفَايَة فِي إِسْقَاط الْقَضَاء، فعلى هَذَا القَوْل يسْتَلْزم الْإِتْيَان بالمأمور الْإِجْزَاء - أَيْضا - عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر. قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَكَذَا إِن فسر الْإِجْزَاء بِسُقُوط الْقَضَاء، عندنَا وَعند عَامَّة الْفُقَهَاء والمتكلمين) . وَإِلَّا لَكَانَ الْأَمر بعد الِامْتِثَال مقتضيا، إِمَّا لما فعل، وَهُوَ تَحْصِيل الْحَاصِل، وَإِمَّا لغيره، فالمجموع مَأْمُور بِهِ، فَلم يفعل إِلَّا بعضه، وَالْفَرْض خِلَافه. والمخالف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة: أَبُو هَاشم، وَعبد الْجَبَّار، فَإِنَّهُمَا قَالَا: لَا يسْتَلْزم الْإِتْيَان بالمأمور بِهِ الْإِجْزَاء، كَمَا لَا يسْتَلْزم النَّهْي الْفساد، وَنَقله ابْن مُفْلِح عَن ابْن الباقلاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1094 وَتَقْرِير الْجَامِع بَين الْأَمر وَالنَّهْي: أَن كلا مِنْهُمَا طلب جازم لَا إِشْعَار لَهُ بذلك، وَأَيْضًا: الْأَمر ضد النَّهْي، وَالنَّهْي لَا يدل على الْفساد، فَلَا يدل الْأَمر على الْإِجْزَاء، لِأَن الشَّيْء يحمل على ضِدّه، كَمَا يحمل على مثله، وَالْفرق: أَن الْأَمر هُوَ: اقْتِضَاء الْفِعْل، فَإِذا أُدي مرّة فقد انْتهى الِاقْتِضَاء، وَأما النَّهْي فمدلوله الْمَنْع من الْفِعْل، فَإِن خَالف وأتى بِهِ، فَلَيْسَ فِي اللَّفْظ مَا يَقْتَضِي التَّعَرُّض لحكمه، وَلَا مُنَافَاة بَين النَّهْي عَنهُ، وَبَين أَن يَقُول: فَإِن أتيت بِهِ جعلته سَببا لحكم آخر، مَعَ كَونه مَمْنُوعًا مِنْهُ، قَالَ ذَلِك جمع. قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: (وَجه الأول: لَو لم يسْتَلْزم لم يعلم امْتِثَال. رد: بِصَلَاة من عدم مَاء وترابا، امتثل مَعَ بَقَاء التَّكْلِيف، كَذَا قيل. وَلِأَن الْقَضَاء اسْتِدْرَاك مَا فَاتَ من الْأَدَاء، وَقد أَتَى بِجَمِيعِ الْمَأْمُور بِهِ، فَيكون تحصيلا للحاصل. ورد: بِأَن الْأَدَاء الْمُسْتَدْرك بِالْقضَاءِ، غير الْأَدَاء الْحَاصِل، كَذَا قيل. وَلِأَنَّهُ لَو لم يسْقط بِالْأَمر قيل فِي الْقَضَاء مثله، لِأَنَّهُ مَأْمُور بِهِ، فَلَا يتَصَوَّر إِجْزَاء بِفعل مَأْمُور بِهِ. وَاحْتج ابْن عقيل وَغَيره: (بِأَن الذِّمَّة إِنَّمَا اشتغلت بِهِ وبالنهي) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1095 وَاحْتج أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": (بِأَنَّهُ لَا يجوز قَوْله لعَبْدِهِ: افْعَل كَذَا، فَإِذا فعلته كَمَا أَمرتك لم يجزئك، وَعَلَيْك الْقَضَاء، للتناقض) . قَالُوا: لَو استلزم، لزم أَن لَا يُعِيد، أَو يَأْثَم إِذا علم الْحَدث بَعْدَمَا صلى بِظَنّ الطَّهَارَة، لِأَنَّهُ إِمَّا مَأْمُور بِالصَّلَاةِ بِظَنّ الطَّهَارَة، أَو بيقينها. قَالَ الْآمِدِيّ: (لَا نسلم وجوب الْقَضَاء على قَول لنا) ، كَذَا قَالَ. وَتَبعهُ ابْن الْحَاجِب فِي ذكر الْخلاف - كَمَا تقدم عَنهُ - وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع، لَكِن لَيْسَ قَضَاء لما أَتَى بِهِ، بل لما أَمر بِهِ أَولا من الصَّلَاة بشرطها. وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن - من أَصْحَابنَا -: (لَو صلى بِظَنّ الطَّهَارَة وَمَات عَقبهَا، سقط الْقَضَاء، وَلَا إِجْزَاء) . وأبطله الْآمِدِيّ: (بِأَن الْأَجْزَاء لَيْسَ بِسُقُوط الْقَضَاء مُطلقًا، بل فِي حق من يتَصَوَّر فِي حَقه قَضَاء) . قَالَ: وَقيل: الْإِجْزَاء: مَا كفى لسُقُوط التَّعَبُّد بِهِ، لِأَن سُقُوط الْقَضَاء يُعلل بالأجزاء، وَالْعلَّة غير الْمَعْلُول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1096 وَلِأَن الْقَضَاء لم يجب لانْتِفَاء مُوجبه، فَكيف سقط؟ قَالُوا: يُؤمر من أفسد حجه بِالْأَدَاءِ، وَلَا إِجْزَاء. رد: أَمر بِحَجّ صَحِيح، وَلم يَأْتِ بِهِ، وَهَذَا غَيره، وَهُوَ مجز فِي إِسْقَاط الْأَمر بِهِ) انْتهى. قَوْله: {فالإجزاء [مُخْتَصّ] بِالْعبَادَة} مُطلقًا. يَعْنِي: سَوَاء كَانَت الْعِبَادَة وَاجِبَة، أَو مُسْتَحبَّة، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَنَقله السُّبْكِيّ عَن الْفُقَهَاء، وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (هَذَا الْمَشْهُور) . فَيُقَال: قِرَاءَة الْفَاتِحَة فَقَط تجزيء فِي النَّافِلَة، كَمَا يُقَال ذَلِك فِي الْوَاجِب. وَلَا يُقَال لغير الْعِبَادَة، فَلَا يُقَال فِي الْمُعَامَلَات تجزيء، بل موردها الْعِبَادَة فَقَط، بِخِلَاف الصِّحَّة كَمَا تقدم. وَقَالَ الْقَرَافِيّ والأصفهاني فِي شرحيهما ل " الْمَحْصُول "، و " شرح التَّنْقِيح " للقرافي وَغَيرهمَا: (يخْتَص الْإِجْزَاء بِالْوَاجِبِ من الْعِبَادَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1097 فَقَط، فَلَا يجْرِي فِي كل مَطْلُوب، حَتَّى أَن من أوجب الْأُضْحِية اسْتدلَّ بِحَدِيث: " أَرْبَعَة لَا تجزيء فِي الْأَضَاحِي "، فَلَو لم تكن وَاجِبَة لما عبر بالإجزاء. وَكَذَا قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأبي بردة: " وَلنْ تجزيء عَن أحد بعْدك " على أحد الْوَجْهَيْنِ فِي ضَبطه، وَهُوَ ضم التَّاء والهمزة، لَا على فتح التَّاء بِلَا همزَة، بِمَعْنى: تقضي وتغني. لَكِن نَحن نمْنَع ذَلِك، ونقول: بِأَن الدَّلِيل دلّ على أَنَّهَا سنة. وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على اسْتِعْمَال الْإِجْزَاء فِي السّنة، وَنقل عَن الْفُقَهَاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1098 وَاعْترض: بِأَن أَصْحَاب الشَّافِعِي استدلوا على وجوب قِرَاءَة الْفَاتِحَة بِرِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ: " لَا تجزيء صَلَاة لَا يقْرَأ فِيهَا بِأم الْقُرْآن "، وَاسْتدلَّ على وجوب الِاسْتِنْجَاء بِحَدِيث: " إِذا ذهب أحدكُم إِلَى الْغَائِط فليذهب مَعَه بِثَلَاثَة أَحْجَار، فَإِنَّهَا تجزيء عَنهُ "، والإجزاء لَا يُقَال إِلَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1099 على الْوَاجِب. وَقد يُجَاب عَن ذَلِك: بِأَنَّهُم إِنَّمَا أوردوه ردا على مخالفهم، لاعْتِقَاده أَن الْإِجْزَاء لَا يُقَال إِلَّا فِي الْوَاجِب، وَالرَّدّ يَقع بِمَا يَعْتَقِدهُ الْخصم، وَإِن لم يَعْتَقِدهُ الرَّاد. وَفِي هَذَا الْجَواب نظر. قَوْله: {وَالْقَبُول كالصحة [مُطلقًا] ، وَقيل [الْقبُول أخص] ، [فتوجد] صِحَة بِلَا قبُول} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1100 وَحَاصِل ذَلِك: أَن الْقبُول هَل هُوَ مثل الصِّحَّة، أَو تُوجد صِحَة بِلَا قبُول، فَتكون الصِّحَّة أَعم، فَكلما وجد الْقبُول وجدت الصِّحَّة وَلَا عكس؟ فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء. أَحدهمَا: أَن الصِّحَّة وَالْقَبُول متلازمان، فَإِذا نفي أَحدهمَا انْتَفَى الآخر، وَإِذا وجد أَحدهمَا وجد الآخر، وَهُوَ قَوْلنَا: (مُطلقًا) ، أَي: فِي الْإِثْبَات وَالنَّفْي، وَهَذَا الَّذِي قدمْنَاهُ فِي الْمَتْن، وَهُوَ الَّذِي رَجحه ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " - على مَا يَأْتِي - وَغَيره. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الصِّحَّة تنفك عَن الْقبُول؛ لِأَن الْقبُول أخص من الصِّحَّة، إِذْ كل مَقْبُول صَحِيح، وَلَيْسَ كل صَحِيح مَقْبُولًا. وَاسْتدلَّ لذَلِك بقول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أَتَى عرافا لم تقبل لَهُ صَلَاة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1101 " إِذا أبق العَبْد لم تقبل لَهُ صَلَاة حَتَّى يرجع إِلَى موَالِيه "، و " من شرب الْخمر لم تقبل لَهُ صَلَاة أَرْبَعِينَ صباحا "، وَنَحْو ذَلِك. فَيكون الْقبُول هُوَ الَّذِي يحصل بِهِ الثَّوَاب وَنَحْوه، وَالصِّحَّة قد تُوجد فِي الْفِعْل وَلَا ثَوَاب فِيهِ: كَالصَّلَاةِ فِي مَوضِع مَغْصُوب عِنْد الْقَائِل بِالصِّحَّةِ، كَمَا تقدم فِي الصَّلَاة فِي مَوضِع مَغْصُوب، فَلَا يلْزم - حِينَئِذٍ - من نفي الْقبُول نفي الصِّحَّة، لَكِن قد أَتَى نفي الْقبُول فِي الشَّرْع تَارَة بِمَعْنى نفي الصِّحَّة، كَمَا فِي حَدِيث: " لَا تقبل صَلَاة بِغَيْر طهُور وَلَا صَدَقَة من غلُول "، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1102 و " لَا تقبل صَلَاة حَائِض إِلَّا بخمار "، و " لَا تقبل صَلَاة أحدكُم إِذا أحدث حَتَّى يتَوَضَّأ "، وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {فَلَنْ يقبل من أحدهم ملْء الأَرْض ذَهَبا وَلَو افتدى بِهِ} [آل عمرَان: 91] ، {أَن تقبل مِنْهُم نفقاتهم} [التَّوْبَة: 54] . وَتارَة تَأتي بِنَفْي الْقبُول مَعَ وجود الصِّحَّة، كَمَا فِي الْأَحَادِيث السَّابِقَة فِي الْآبِق، وشارب الْخمر، و " من أَتَى عرافا ". وَقد حُكيَ الْقَوْلَيْنِ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، وَرجح أَن الصَّحِيح لَا يكون إِلَّا مَقْبُولًا، وَلَا يكون مردودا إِلَّا وَهُوَ بَاطِل. وَيرد عَلَيْهِ مَجِيء الْأَمريْنِ من الشَّاعِر كَمَا تقدم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1103 وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (ظهر لي فِي الْأَحَادِيث الَّتِي نفي فِيهَا الْقبُول، وَلم تنتف مَعَه الصِّحَّة - كَصَلَاة شَارِب الْخمر وَنَحْوه - أَنا نَنْظُر فِيمَا نفي فِيهِ الْقبُول، فَإِن قارنت ذَلِك الْفِعْل مَعْصِيّة - كَحَدِيث شَارِب الْخمر وَنَحْوه - أَجْزَأَ، فانتفاء الْقبُول، أَي: الثَّوَاب؛ لِأَن إِثْم الْمعْصِيَة أحبطه، وَإِن لم يقارنه مَعْصِيّة - كَحَدِيث " لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور " وَنَحْوه - فانتفاء الْقبُول سَببه انْتِفَاء الشَّرْط، وَهُوَ الطَّهَارَة وَنَحْوهَا، وَيلْزم من عدم الشَّرْط عدم الْمَشْرُوط) انْتهى. قَوْله: {فأثر الْقبُول: الثَّوَاب، وَأثر الصِّحَّة: عدم الْقَضَاء} . هَذَا مَبْنِيّ على القَوْل الثَّانِي، وَهُوَ أَن الْقبُول أخص من الصِّحَّة، فَيكون الْقبُول لَازمه الثَّوَاب، فَلَا يُوجد قبُول إِلَّا بِثَوَاب، وَالثَّوَاب لَا يلْزم الصِّحَّة، فقد تُوجد صِحَة بِلَا ثَوَاب، كَمَا قُلْنَا فِي الْمُصَلِّي فِي مَغْصُوب إِذا قُلْنَا بِالصِّحَّةِ، فَإِنَّهَا لَا ثَوَاب فِيهَا على الصَّحِيح كَمَا تقدم ذَلِك محررا. وَقد تُوجد صِحَة بِثَوَاب إِذا كَانَ مَقْبُولًا. وَأما إِذا قُلْنَا بِالصِّحَّةِ الَّتِي لَا ثَوَاب فِيهَا، فَإِن الْقَضَاء يَنْتَفِي بهَا، ففائدة الصِّحَّة الَّتِي لَا ثَوَاب فِيهَا عدم الْقَضَاء قطعا. وَأما حُصُول ثَوَاب مَعَ الصِّحَّة، فَإِن قارنها قبُول حصل، وَإِلَّا فَلَا. قَوْله: { [وَنفي الْإِجْزَاء كنفي الْقبُول] ، وَقيل: [نفي الْإِجْزَاء] أولى بِالْفَسَادِ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1104 وَمعنى ذَلِك: أَن نفي الْإِجْزَاء كنفي الْقبُول فِيمَا ذكر، فَيُقَال: لَا يجزيء، كَمَا يُقَال: لَا يقبل، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تجزيء صَلَاة لَا يقْرَأ فِيهَا بِأم الْقُرْآن " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَربع لَا تجزيء فِي الضَّحَايَا " وَنَحْوه، وَاخْتلف فِي كَيْفيَّة الْخلاف على طَرِيقين: أَحدهمَا: الْقطع بِأَن نفي الْإِجْزَاء كنفي الْقبُول، فَكلما لَا يقبل يُقَال فِيهِ: لَا يجزيء، وَكلما يُقَال فِيهِ: يقبل، يُقَال فِيهِ: يجزيء. وَالطَّرِيق الثَّانِيَة: أَن فِيهِ الْخلاف السَّابِق فِي نفي الْقبُول، وَأولى باقتضائه الْفساد، لِأَن الصِّحَّة قد تُوجد حَيْثُ لَا قبُول، بِخِلَاف الْإِجْزَاء مَعَ الصِّحَّة، وَسبق الْفرق بَين الصِّحَّة والإجزاء بِمَا يخدش مَا ذكرنَا هُنَا. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (أما نفي الْإِجْزَاء فَالْمَشْهُور أَنه كنفي الصِّحَّة، فَيَعُود فِيهِ مَا سبق. وَالثَّانِي: أَنه أولى بِالْفَسَادِ، فَيَعُود فِيهِ الْخلاف بالترتيب؛ لِأَن الصِّحَّة قد تُوجد حَيْثُ لَا قبُول، بِخِلَاف الْإِجْزَاء مَعَ الصِّحَّة) انْتهى. قَوْله: {فَائِدَتَانِ: [إِحْدَاهمَا] : الصِّحَّة عقلية: كإمكان الشَّيْء وجودا وعدما، وعادية: كالمشي وَنَحْوه، وشرعية: [كالمذكورة] هُنَا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1105 للصِّحَّة [ثَلَاثَة] معَان: أَحدهَا: كَونهَا عقلية، وَهِي إِمْكَان الشَّيْء، وقبوله للوجود والعدم. وَالثَّانِي: كَونهَا عَادِية: كالمشي يَمِينا، وَشمَالًا، وأماما، وخلفا، دون الصعُود فِي الْهَوَاء. الثَّالِث: كَونهَا شَرْعِيَّة، وَهِي الْإِذْن الشَّرْعِيّ فِي جَوَاز الْإِقْدَام على الْفِعْل، وَهُوَ يَشْمَل الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إِلَّا التَّحْرِيم فَلَا إِذن فِيهِ، وَالْأَرْبَعَة الْبَاقِيَة فِيهَا الْإِذْن فِي جَوَاز الْإِقْدَام، وَقد اتّفق النَّاس على أَنه لَيْسَ فِي الشَّرِيعَة مَنْهِيّ عَنهُ، وَلَا مَأْمُور بِهِ، وَلَا مَشْرُوع على الْإِطْلَاق، إِلَّا وَفِيه الصِّحَّة العادية، وَلذَلِك حصل الِاتِّفَاق - أَيْضا - على أَن اللُّغَة لم يَقع فِيهَا طلب وجود وَلَا عدم إِلَّا فِيمَا يَصح عَادَة، وَإِن جَوَّزنَا تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق فَذَلِك بِحَسب مَا يجوز على الله، لَا بِحَسب مَا يجوز فِي اللُّغَات، فاللغات مَوضِع إِجْمَاع. قَوْله: {الثَّانِيَة: النّفُوذ: تصرف لَا يقدر فَاعله على رَفعه، وَقيل: كالصحة} . لم أعلم الْآن من أَيْن نقلت هَذِه الْمَسْأَلَة. وَقَوْلنَا: (تصرف لَا يقدر فَاعله على رَفعه) ، هُوَ كالعقود اللَّازِمَة من البيع وَالْإِجَارَة وَالْوَقْف وَالنِّكَاح وَنَحْوهَا، إِذا اجْتمعت شُرُوطهَا، وانتفت موانعها، وَكَذَلِكَ الْعتْق وَالطَّلَاق وَالْفَسْخ وَنَحْوهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1106 قَالَ فِي " الْبَدْر الْمُنِير ": (نفذ السهْم نفوذا - كقعد - ونفاذا خرق الرَّمية وَخرج مِنْهَا، وأنفذته بِالْألف، وَنفذ فِي الْأَمر ينفذ نفاذا: مهر فِيهِ، وَنفذ - قولا - نفوذا: قبل وَمضى، وَنفذ الْعتْق، كَأَنَّهُ مستعار من نُفُوذ السهْم، فَإِنَّهُ لَا مرد لَهُ، وَنفذ الْمنزل إِلَى الطَّرِيق: اتَّصل بِهِ، وَنفذ الطَّرِيق: عَم مسلكه لكل أحد، فَهُوَ نَافِذ، أَي: عَام، والمنفذ - مثل مَسْجِد -: مَوضِع النّفُوذ، وَالْجمع منافذ) انْتهى. فَقَوله: (نفذ الْعتْق، كَأَنَّهُ مستعار من نُفُوذ السهْم) ، هُوَ مَسْأَلَتنَا، فَكَأَن الْعُقُود اللَّازِمَة الْمُتَقَدّمَة مستعار لَهَا النّفُوذ من نُفُوذ السهْم كَمَا قَالَ. وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (النَّفاذ: جَوَاز الشَّيْء عَن الشَّيْء والخلوص، كالنفوذ، [ومخالطة] السهْم جَوف الرَّمية، وَخُرُوج طرفه من الشق الآخر، وسائره فِيهِ، كالنفذ، وأنفذ الْأَمر: قَضَاهُ) انْتهى. قَوْله: (وَقيل: كالصحة) . يَعْنِي - على هَذَا القَوْل - أَنه إِذا قيل: نفذ البيع وَنَحْوه، أَي: صَحَّ، لَكِن على هَذَا يكون أَعم من القَوْل الْمُقدم، فَإِنَّهُ على هَذَا يُقَال على الْعُقُود الْجَائِزَة، إِذا اجْتمعت شُرُوطًا، وانتفعت موانعها: نفذ العقد، أَي: صَحَّ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1107 فَيُقَال فِي صَحِيح الشّركَة وَغَيرهَا: نفذ، أَي: صَحَّ، بِخِلَاف القَوْل الأول، فَإِنَّهُ لَا يُقَال إِلَّا فِي الْعُقُود اللَّازِمَة كَمَا مثلنَا أَولا، وَالله أعلم. قَالَ ابْن الفركاح فِي " شرح الورقات ": (نُفُوذ العقد أَصله من نُفُوذ السهْم، وَهُوَ بُلُوغ الْمَقْصُود من الرَّمْي، وَكَذَلِكَ العقد إِذا أَفَادَ الْمَقْصُود الْمَطْلُوب مِنْهُ سمي بذلك نفوذا، فَإِذا ترَتّب على العقد مَا يقْصد مِنْهُ - مثل البيع إِذا أَفَادَ الْملك وَنَحْوه - قيل لَهُ: صَحِيح، ويعتد بِهِ، فالاعتداد بِالْعقدِ هُوَ المُرَاد بوصفه [بِالصِّحَّةِ] وبكونه نَافِذا) ، فَجعل الصِّحَّة والنفوذ وَاحِدًا. وَقَالَ فِي " الورقات ": (وَالصَّحِيح مَا يتَعَلَّق بِهِ النّفُوذ) . قَوْله: {والبطلان وَالْفساد مُتَرَادِفَانِ، يقابلان الصِّحَّة} على الْقَوْلَيْنِ فِيهَا. وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وأصحابهما، وَغَيرهم، سَوَاء كَانَ فِي الْعِبَادَات أَو فِي الْمُعَامَلَات، فَهُوَ فِي الْعِبَادَة: عبارَة عَن عدم ترَتّب الْأَثر عَلَيْهَا، أَو عدم سُقُوط الْقَضَاء، أَو عدم مُوَافقَة الْأَمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1108 وَفِي الْمُعَامَلَات: عبارَة عَن عدم ترَتّب الْأَثر عَلَيْهَا. وَفرق أَبُو حنيفَة بَينهمَا. وتحرير مذْهبه فِي ذَلِك: أَن الْعِوَضَيْنِ إِن كَانَا غير قابلين للْبيع كالملاقيح بِالدَّمِ، فَهُوَ بَاطِل قطعا؛ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا لَا يقبل البيع الْبَتَّةَ، وَإِن كَانَا بأصلهما قابلين للْبيع، وَلَكِن اشتملا على وصف يَقْتَضِي عدم الصِّحَّة: كالربا فِي الْمُعَامَلَات، فَإِن الدَّرَاهِم بأصلها قَابِلَة للْبيع، وَإِنَّمَا جَاءَ الْبطلَان من الزِّيَادَة فِي أَحدهمَا، أَو النَّسِيئَة، ففاسد قطعا. وَمثله فِي الْعِبَادَة: صَوْم يَوْم الْعِيد، فَإِن الْيَوْم بِأَصْلِهِ قَابل للصَّوْم الصَّحِيح فِيهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْبطلَان من الصّفة، وَهِي الْعِيد. وَإِن كَانَ الْمَبِيع غير قَابل للْبيع دون الثّمن: كَبيع الملاقيح بِالدَّرَاهِمِ، أَو بِالْعَكْسِ: كَبيع ثوب مثلا بِدَم أَو خِنْزِير، فَفِي كل مِنْهُمَا خلاف، وَالصَّحِيح عِنْدهم: إِلْحَاق الأول بِالْأولِ، وَالثَّانِي بِالثَّانِي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1109 وَفَائِدَة التَّفْصِيل عِنْدهم: أَن الْفَاسِد يُفِيد الْملك إِذا اتَّصل بِهِ الْقَبْض، دون الْبَاطِل، وَالله أعلم. وَالأَصَح - دَلِيلا -: أَن الْبطلَان يرادف الْفساد، وهما يقابلان الصِّحَّة، كَمَا هُوَ مَذْهَبنَا وَمذهب الشَّافِعِي. حَتَّى قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (لم يَقع فِي الْكتاب وَالسّنة إِلَّا لفظ الْبَاطِل فِي مُقَابلَة الْحق، وَأما لفظ الصِّحَّة وَالْفساد فَمن اصْطِلَاح الْفُقَهَاء) . واستدرك بَعضهم عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى: {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} [الْأَنْبِيَاء: 22] ، أَي: لاختل نظامهما. قَوْله: {مَعَ تفريقهما فِي الْفِقْه بَينهمَا فِي مسَائِل} كَثِيرَة. قد فرق أَصْحَابنَا وَأَصْحَاب الشَّافِعِي بَين الْفَاسِد وَالْبَاطِل فِي مسَائِل كَثِيرَة. قَالَ بعض أَصْحَابنَا: (قد ذكر أَصْحَابنَا مسَائِل فرقوا فِيهَا بَين الْفَاسِد وَالْبَاطِل، ظن بعض الْمُتَأَخِّرين أَنَّهَا مُخَالفَة للقاعدة. وَالَّذِي يظْهر - وَالله أعلم - أَن ذَلِك لَيْسَ بمخالف للقاعدة. وَبَيَانه: أَن الْأَصْحَاب إِنَّمَا قَالُوا: الْبطلَان وَالْفساد مُتَرَادِفَانِ، فِي مُقَابلَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1110 قَول أبي حنيفَة، حَيْثُ قَالَ: مَا لم يشرع بِالْكُلِّيَّةِ هُوَ الْبَاطِل، وَمَا شرع أَصله وَامْتنع لاشْتِمَاله على وصف محرم هُوَ الْفَاسِد، فعندنا كل مَا كَانَ مَنْهِيّا إِمَّا لعَينه أَو لوصفه ففاسد وباطل، وَلم يفرق الْأَصْحَاب فِي صُورَة من الصُّور بَين الْفَاسِد وَالْبَاطِل فِي الْمنْهِي عَنهُ، وَإِنَّمَا فرقوا بَينهمَا فِي مسَائِل لدَلِيل) انْتهى. قلت: غَالب الْمسَائِل الَّتِي حكمُوا عَلَيْهَا بِالْفَسَادِ، إِذا كَانَت مُخْتَلفا فِيهَا بَين الْعلمَاء، وَالَّتِي حكمُوا عَلَيْهَا بِالْبُطْلَانِ إِذا كَانَت مجمعا عَلَيْهَا، أَو الْخلاف فِيهَا شَاذ. ثمَّ وجدت بعض أَصْحَابنَا قَالَ: (الْفَاسِد من النِّكَاح: مَا يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد، وَالْبَاطِل: مَا كَانَ مجمعا على بُطْلَانه. وَعبر طَائِفَة من أَصْحَابنَا بِالْبَاطِلِ عَن النِّكَاح الَّذِي يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد أَيْضا) . إِذا علم ذَلِك؛ فقد ذكر أَصْحَابنَا مسَائِل الْفَاسِد غير مسَائِل الْبَاطِل فِي أَبْوَاب مِنْهَا: بَاب الْكِتَابَة، وَالنِّكَاح، وَالْحج، وَغَيرهَا، وَقد ذكر القَاضِي عَلَاء الدّين فِي قَوَاعِده لذَلِك قَاعِدَة وَذكر مسَائِل كَثِيرَة فليعاودها من أرادها. قَوْله: { [الْعَزِيمَة] لُغَة} : من الْعَزْم، وَهُوَ: {الْقَصْد الْمُؤَكّد} ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1111 وَمِنْه: {أولُوا الْعَزْم من الرُّسُل} [الْأَحْقَاف: 35] ، وعزمت عَلَيْك إِلَّا مَا فعلت كَذَا، أَي: عقد الْقلب على إِمْضَاء الْأَمر، أَي: محافظته على مَا أَمر بِهِ، [وعزيمته] على الْقيام بِهِ. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَلم نجد لَهُ عزما} [طه: 115] ، وَقَوله عز وَجل: {فَإِذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمرَان: 159] . قَالَ الْجَوْهَرِي: (عزمت على كَذَا: إِذا أردْت فعله، وَقطعت عَلَيْهِ) وجزمت بِهِ وصممت عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي " الْمِصْبَاح ": (عزم على الشَّيْء، وعزمه، عزما - من بَاب ضرب -: عقد ضَمِيره على فعله، وعزم، عَزِيمَة، وعزمة: اجْتهد وجد فِي أَمر، وعزيمة الله تَعَالَى: فريضته الَّتِي افترضها، وَالْجمع: عزائم، وعزائم السُّجُود: مَا أَمر بِالسُّجُود فِيهَا) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1112 وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (عزم على الْأَمر، يعزم، [عَزمَة] ، وَيضم، ومعزما [وعزما]- بِالضَّمِّ - وعزيما، وعزيمة، وعزمة، واعتزمه، وَعَلِيهِ، وتعزم: أَرَادَ فعله، وَقطع عَلَيْهِ، وجد فِي الْأَمر، وعزم الْأَمر نَفسه: عزم عَلَيْهِ: وعَلى الرجل: أقسم، [والراقي فِي العزائم] ، أَي: الرقى، أَو هِيَ آيَات من الْقُرْآن تقْرَأ على ذَوي الْآفَات رَجَاء الْبُرْء، وأولو الْعَزْم من الرُّسُل: الَّذين عزموا على أَمر الله فِيمَا عهد إِلَيْهِم، [وهم] : نوح، وَإِبْرَاهِيم، ومُوسَى [وَعِيسَى] ، وَمُحَمّد [عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام] . الزَّمَخْشَرِيّ: (أولو الْعَزْم: الْجد والثبات وَالصَّبْر، [وهم] : نوح، وَإِبْرَاهِيم، وَإِسْحَاق، وَيَعْقُوب، [وَأَيوب] ، وَدَاوُد، وَعِيسَى - صلوَات الله عَلَيْهِم وَسَلَامه أَجْمَعِينَ -) انْتهى. قلت: الصَّحِيح: أَن أولي الْعَزْم الْخَمْسَة الَّذين ذكرهم الله تَعَالَى فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1113 الْأَحْزَاب والشورى بقوله: {وَإِذ أَخذنَا من النَّبِيين ميثاقهم ومنك وَمن نوح وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى [وَعِيسَى] ابْن مَرْيَم} [الْأَحْزَاب: 7] ، وَقَوله: {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى أَن أقِيمُوا الدّين} [الشورى: 13] ، وَقد نبه عَلَيْهِ الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره ". قَوْله: {وَشرعا} . [أَي] : الْعَزِيمَة فِي الشَّرْع. {قَالَ الْمُوفق والطوفي و [غَيرهمَا] } وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الْبَيْضَاوِيّ: {الحكم الثَّابِت بِدَلِيل شَرْعِي خَال عَن معَارض، فَيشْمَل الْأَحْكَام الْخَمْسَة} . فالعزيمة على هَذَا القَوْل وَاقعَة فِي جَمِيع الْأَحْكَام لِأَن كل وَاحِد مِنْهَا حكم ثَابت بِدَلِيل شَرْعِي، فَيكون فِي الْحَرَام وَالْمَكْرُوه على معنى التّرْك، فَيَعُود الْمَعْنى فِي ترك الْحَرَام إِلَى الْوُجُوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1114 وَقَوله: (بِدَلِيل شَرْعِي) ، احْتِرَاز من الثَّابِت بِدَلِيل عَقْلِي، فَإِن ذَلِك لَا يسْتَعْمل فِيهِ الْعَزِيمَة والرخصة. وَقَوله: (خَال عَن معَارض) ، احْتِرَاز مِمَّا يثبت بِدَلِيل، لَكِن لذَلِك الدَّلِيل معَارض مسَاوٍ أَو أرجح، لِأَنَّهُ إِن كَانَ الْمعَارض مُسَاوِيا لزم الْوَقْف، وانتفت الْعَزِيمَة، وَوَجَب طلب الْمُرَجح الْخَارِجِي، وَإِن كَانَ راجحا لزم الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ، وانتفت الْعَزِيمَة وَثبتت الرُّخْصَة: كتحريم الْميتَة عِنْد عدم المخمصة، فالتحريم فِيهَا عَزِيمَة، لِأَنَّهُ حكم ثَابت بِدَلِيل شَرْعِي خَال عَن معَارض، فَإِذا وجدت المخمصة، حصل الْمعَارض لدَلِيل التَّحْرِيم، وَهُوَ رَاجِح عَلَيْهِ، حفظا للنَّفس، فَجَاز الْأكل وحصلت الرُّخْصَة. قَوْله: {وَأسْقط الرَّازِيّ الْحَرَام} . فَجَعلهَا منقسمة إِلَى مَا عدا الْحَرَام، فَتكون الْعَزِيمَة عِنْده: الْوَاجِب، وَالْمُسْتَحب، والمباح، وَالْمَكْرُوه، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جعل مورد التَّقْسِيم الْفِعْل الْجَائِز فَقَالَ: (الْفِعْل الَّذِي يجوز للمكلف الْإِتْيَان بِهِ، إِمَّا أَن يكون عَزِيمَة، أَو رخصَة) ، هَذَا لَفظه بِحُرُوفِهِ. قَوْله: {والقرافي} . أَي: وَقَالَ الْقَرَافِيّ: هِيَ {طلب فعل لم يشْتَهر فِيهِ منع شَرْعِي، فَيخْتَص الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب} ، فَإِن الطّلب تَارَة يكون بجزم وَهُوَ الْوَاجِب، وَتارَة يكون بِغَيْر جزم وَهُوَ الْمَنْدُوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1115 وَقَوله (طلب) ، يخرج الْمحرم وَالْمَكْرُوه، وَكَذَا - الْمُبَاح أَيْضا - لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَب. قَالَ الْقَرَافِيّ: (وَلَا يُمكن أَن يكون الْمُبَاح من العزائم، فَإِن الْعَزْم: هُوَ الطّلب الْمُؤَكّد فِيهِ) . قَوْله: {وَالْغَزالِيّ، والآمدي، [وَابْن حمدَان، وَابْن مُفْلِح] } . أَي: قَالُوا: الْعَزِيمَة {مَا لزم} - أَي: الْعباد - {بإلزام الله تَعَالَى من غير مُخَالفَة دَلِيل شَرْعِي، فَيخْتَص الْوَاجِب} . وَقَالَهُ ابْن الْحَاجِب فِي " الْمُخْتَصر الْكَبِير "، وَهُوَ ظَاهر، وَكَأَنَّهُم احترزوا بِإِيجَاب الله تَعَالَى عَن النّدب، فَإِنَّهُ لَا يُسمى عَزِيمَة. قَوْله: {والرخصة لُغَة: السهولة} والتيسير، أَي: خلاف التَّشْدِيد، وَمِنْه: رخص السّعر: إِذا سهل، الرُّخص: الناعم، وَهُوَ رَاجع إِلَى معنى الْيُسْر والسهولة. قَالَ فِي " الْمِصْبَاح ": (يُقَال: رخص الشَّارِع لنا فِي كَذَا ترخيصا، وأرخص إرخاصا: إِذا يسره وسهله، وَفُلَان يترخص فِي الْأَمر: إِذا لم يستقص، وقضيب رخص، أَي: طري لين، وَرخّص الْبدن - بِالضَّمِّ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1116 رخاصة ورخوصة: إِذا نعم ولان ملمسه فَهُوَ رخيص) انْتهى. وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الرُّخص - بِالضَّمِّ -: ضد الغلاء، وَقد رخص ككرم، و - الْفَتْح -: الشَّيْء الناعم، والرخصة - بضمة وبضمتين -: [ترخيص الله للْعَبد] فِيمَا يخففه عَلَيْهِ، والتسهيل) . قَوْله: {وَشرعا: مَا ثَبت على خلاف دَلِيل شَرْعِي لمعارض رَاجِح} . وَهُوَ للطوفي فِي " مُخْتَصره ". فَقَوله: (مَا ثَبت على خلاف دَلِيل شَرْعِي) ، احْتِرَاز مِمَّا ثَبت على وفْق الدَّلِيل، فَإِنَّهُ لَا يكون رخصَة، بل عَزِيمَة: كَالصَّوْمِ فِي الْحَضَر. وَقَوله: (لمعارض رَاجِح) ، احْتِرَاز مِمَّا كَانَ لمعارض غير رَاجِح، بل إِمَّا مسَاوٍ فَيلْزم الْوَقْف على حُصُول الرَّاجِح، أَو قَاصِر عَن مُسَاوَاة الدَّلِيل الشَّرْعِيّ، فَلَا يُؤثر وَتبقى الْعَزِيمَة بِحَالِهَا. { [وَقيل] } : هِيَ {اسْتِبَاحَة الْمَحْظُور مَعَ قيام [السَّبَب] الحاظر} ، وَهَذَا للشَّيْخ موفق الدّين فِي " الرَّوْضَة "، وَهُوَ قريب من الأول، غير أَن الاستباحة قد يكون مستندها الشَّرْع، فَيلْزم أَن يكون لمعارضة دَلِيل رَاجِح: كَأَكْل الْميتَة فِي المخمصة، فَإِنَّهُ اسْتِبَاحَة للميتة الْمُحرمَة شرعا، مَعَ قيام السَّبَب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1117 الْمحرم، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} [الْمَائِدَة: 3] ، لدَلِيل شَرْعِي رَاجِح على هَذَا السَّبَب، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَمن اضْطر فِي مَخْمَصَة غير متجانف لإثم فَإِن الله غَفُور رَحِيم} [الْمَائِدَة: 3] ، فَإِن هَذَا خَاص، وَسبب التَّحْرِيم عَام، وَالْخَاص مقدم، هَذَا مَعَ النُّصُوص وَالْإِجْمَاع الحاض على حفظ النُّفُوس واستبقائها. وَقد لَا تكون الاستباحة مستندة إِلَى الشَّرْع، فَيكون ذَلِك مَعْصِيّة مَحْضَة لَا رخصَة. قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (فَلَو قيل: اسْتِبَاحَة الْمَحْظُور شرعا مَعَ قيام السَّبَب الحاظر صَحَّ، وساوى الأول) . وَقَالَ الْعَسْقَلَانِي فِي " شرح مُخْتَصر الطوفي ": (أَجود مَا يُقَال فِي الرُّخْصَة: ثُبُوت حكم لحالة تَقْتَضِيه مُخَالفَة مُقْتَضى دَلِيل يعمها) . وَهُوَ لِابْنِ حمدَان فِي " الْمقنع "، وفيهَا حُدُود كَثِيرَة مَعَانِيهَا مُتَقَارِبَة يكْتَفى بأحدها. قَوْله: {فَمِنْهَا: وَاجِب: كَأَكْل مُضْطَر ميتَة} . قد يكون فعل الرُّخْصَة وَاجِبا، وَقد يكون مُسْتَحبا، وَقد يكون مُبَاحا، بِاعْتِبَار الْحَال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1118 فَالَّذِي فعله وَاجِب: أكل الْميتَة للْمُضْطَر، فَإِنَّهُ وَاجِب على الصَّحِيح من كَلَام الْعلمَاء، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، لِأَنَّهُ سَبَب لإحياء النَّفس، وَمَا كَانَ كَذَلِك فَهُوَ وَاجِب، وَذَلِكَ لِأَن النُّفُوس حق لله تَعَالَى، وَهِي أَمَانَة عِنْد الْمُكَلّفين، فَيجب حفظهَا ليستوفي الله حَقه مِنْهَا بالعبادات والتكاليف، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} [الْبَقَرَة: 195] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} [النِّسَاء: 29] . وَقيل: أكلهَا جَائِز - أَي: مُبَاح - لَا وَاجِب لِأَن إِبَاحَة الْأكل رخصَة فَلَا يجب عَلَيْهِ كَسَائِر الرُّخص، وَلِأَن لَهُ غَرضا فِي اجْتِنَاب النَّجَاسَة وَالْأَخْذ بالعزيمة، وَرُبمَا لم تطب نَفسه بتناول الْميتَة، وَفَارق الْحَلَال فِي الأَصْل من هَذِه الْوُجُوه، ذكره أَصْحَابنَا. وَقيل: الْأكل مُسْتَحبّ لَا وَاجِب. وَقيل: أكلهَا عَزِيمَة لَا رخصَة. قَالَ إِلْكيَا الطَّبَرِيّ: (هَذَا هُوَ الصَّحِيح عندنَا) . وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": (وَيجوز أَن يُقَال: التَّيَمُّم وَأكل الْميتَة كل مِنْهُمَا رخصَة عَزِيمَة بِاعْتِبَار الْجِهَتَيْنِ) انْتهى. وَقَالَ السُّبْكِيّ: (هِيَ رخصَة عَزِيمَة باعتبارين) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1119 وَلَعَلَّه أَخذه من كَلَام الطوفي. تَنْبِيه: الْحَاصِل من تَقْرِير مجامعة الرُّخْصَة للْوُجُوب وَنَحْوه على القَوْل الْمُقدم: أَن الرُّخْصَة - فِي الْحَقِيقَة -: إحلال الشَّيْء، لِأَنَّهَا التَّيْسِير والتسهيل، ثمَّ قد يعرض لَهُ وصف آخر من الْأَحْكَام غير الْحل لدَلِيل، كحل أكل الْميتَة، نَشأ وُجُوبه من وجوب حفظ النَّفس، فَلذَلِك انقسمت الرُّخْصَة إِلَى هَذِه الْأَقْسَام، وَالصَّحِيح: أَن حكمهَا وَاجِب، فَتغير حكمهَا من صعوبة التَّحْرِيم إِلَى سهولة الْوُجُوب، لموافقته لغَرَض النَّفس، لعذر الِاضْطِرَار، مَعَ قيام سَبَب التَّحْرِيم حَال الْحل، وَهُوَ الْخبث. فَائِدَة: قَالَ الشَّيْخ عبد الْعَزِيز - شَارِح الْبَزْدَوِيّ -: (عَن الْعلمَاء فِي حكم الْميتَة وَنَحْوهَا فِي حَالَة الضَّرُورَة، هَل هِيَ مُبَاحَة، أَو تبقى على حكم التَّحْرِيم ويرتفع الْإِثْم كَمَا فِي الْإِكْرَاه على الْكفْر؟ وَهُوَ رِوَايَة عَن أبي يُوسُف وَأحد قولي الشَّافِعِي. قَالَ: وَذهب أَكثر أَصْحَابنَا إِلَى ارْتِفَاع الْحُرْمَة. وَذكر للْخلاف فائدتين: إِحْدَاهمَا: إِذا جَاع حَتَّى مَاتَ لَا يكون آثِما على الأول، بِخِلَافِهِ على الثَّانِي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1120 الْفَائِدَة الثَّانِيَة: إِذا حلف لَا يَأْكُل حَرَامًا، فتناوله فِي حَالَة الضَّرُورَة، حنث على الأول لَا الثَّانِي) . وَمِمَّا يجب من الرُّخْصَة: إساغة اللُّقْمَة بِالْخمرِ لمن غص بهَا، فَهِيَ كالميتة للْمُضْطَر. قَالَ ابْن حمدَان: (وَيجب فطر الْمَرِيض فِي رَمَضَان إِذا خَافَ الْمَوْت بِعَدَمِهِ) . {و} من الرُّخْصَة مَا هُوَ {مَنْدُوب: كقصر [الْمُسَافِر] } الصَّلَاة عِنْد أَصْحَابنَا وإمامنا، إِذا اجْتمعت الشُّرُوط وانتفت الْمَوَانِع، وَكَذَلِكَ عِنْد الشَّافِعِيَّة. {و} مِنْهَا مَا هُوَ {مُبَاح [كالجمع] } بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي غير عَرَفَة ومزدلفة، وَكَذَا كلمة الْكفْر لمن أكره، وَكَذَلِكَ الْعَرَايَا للْحَدِيث فِي ذَلِك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1121 وَمِنْه: جَوَاز الْمُضَاربَة، وَالْمُسَاقَاة، وَالْإِجَارَة، وَنَحْوهَا؛ لِأَنَّهَا عُقُود على مَعْدُوم لقَوْل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تبع مَا لَيْسَ عنْدك "، وفيهَا غرر، وَقد نهي عَنهُ. تَنْبِيه: فهم [مِمَّا] تقدم: أَن الرُّخْصَة لَا تكون مُحرمَة وَلَا مَكْرُوهَة، وَهُوَ ظَاهر قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن الله يحب أَن تُؤْتى رخصه ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1122 وَظَاهر كَلَام الشَّافِعِيَّة: أَن الرُّخْصَة تَأتي فِي الْحَرَام وَالْمَكْرُوه، ومثلوا الأول بالاستنجاء بِالذَّهَب وَالْفِضَّة، وَالثَّانِي بِالْقصرِ فِي أقل من ثَلَاث مراحل، وَكَذَا اتِّبَاع النِّسَاء الْجَنَائِز، وَأَجَابُوا عَن ذَلِك. قلت: صرح صَاحب " النِّهَايَة " من أَصْحَابنَا: (أَنه لَا يجوز الِاسْتِجْمَار بِالذَّهَب وَالْفِضَّة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1123 قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (وَلَعَلَّه مُرَاد غَيره لتَحْرِيم اسْتِعْمَاله) ، وَحكى أَن الشَّافِعِي منع من ذَلِك. فَائِدَة: مَا لم يُخَالف دَلِيلا - كاستباحة الْمُبَاحَات، وَعدم وجوب صَوْم شَوَّال - لَا يُسمى رخصَة، وَمَا خفف عَنَّا من التَّغْلِيظ على الْأُمَم قبلنَا، بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا رخصَة مجَازًا، بِمَعْنى: أَنه سهل علينا مَا شدد عَلَيْهِم، رفقا من الله تَعَالَى بِنَا، مَعَ جَوَاز إِيجَابه علينا كَمَا أوجبه عَلَيْهِم، لَا على معنى أَنا استحبنا شَيْئا من الْمُحرمَات عَلَيْهِم مَعَ قيام الْمحرم فِي حَقنا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا حرم عَلَيْهِم لَا علينا، فَهَذَا وَجه التَّجَوُّز، وَعدم كَون الأول لَيْسَ بِرُخْصَة؛ لِأَنَّهُ لم يثبت على الْمَنْع من ذَلِك دَلِيل، فالتيمم لمَرض وَنَحْوه، وَزِيَادَة ثمن المَاء: رخصَة، وَمَعَ عدم المَاء وعجزه عَنهُ: لَيْسَ بِرُخْصَة. قَوْله: {وهما} - أَي: الْعَزِيمَة والرخصة - {وصفان للْحكم الوضعي، وَقيل: التكليفي، [وَقَالَ] الرَّازِيّ وَغَيره: للْفِعْل} . اخْتلف الْعلمَاء فِي الرُّخْصَة والعزيمة، هَل هما وصفان للْحكم، أَو وصفان للْفِعْل على قَوْلَيْنِ، وَإِذا قُلْنَا: هما وصفان للْحكم، فَهَل هُوَ الحكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1124 الوضعي أَو الحكم التكليفي؟ على قَوْلَيْنِ أَيْضا. فتلخص فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال، وَالصَّحِيح: أَنَّهُمَا وصفان للْحكم، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْغَزالِيّ، وَصَاحب " الْحَاصِل "، والبيضاوي، والقرافي، وَغَيرهم. فَتكون الرُّخْصَة: بِمَعْنى الترخيص، والعزيمة: بِمَعْنى التَّأْكِيد فِي طلب الشَّيْء وَمِنْه: " فاقبلوا رخصَة الله " وَقَول أم عَطِيَّة: " نهينَا عَن اتِّبَاع الْجَنَائِز وَلم يعزم علينا ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1125 ثمَّ اخْتلف الْقَائِل بِأَنَّهُمَا وصفان للْحكم، فَقَالَ جمع: هما وصفان للْحكم الوضعي، مِنْهُم الْآمِدِيّ، نَقله عَنهُ الْبرمَاوِيّ، وَقطع بِهِ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ". وَقَالَ جمع: وصف للْحكم التكليفي لما فِيهَا من معنى الِاقْتِضَاء، وَلذَلِك قسموها إِلَى وَاجِبَة ومندوبة وَنَحْوهمَا، وَلَكِن ذَلِك لأمر خارجي عَن أصل الترخيص. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر " - بعد أَن تكلم على الرُّخْصَة -: (لَيست من أَقسَام خطاب الْوَضع، بل رَاجِعَة إِلَى الِاقْتِضَاء والتخيير؛ لكَونهَا وَاجِبَة ومندوبة ومباحة) انْتهى. وَقيل: هما وصفان للْفِعْل المرخص فِيهِ، أَو المعزوم عَلَيْهِ، وَلَو كَانَ تركا، أَي: الْمَطْلُوب بالعزم والتأكيد، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ، وَابْن الْحَاجِب، نَقله الْبرمَاوِيّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1126 وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شرح منهاج الْبَيْضَاوِيّ ": (جعل المُصَنّف وَصَاحب الْحَاصِل الرُّخْصَة والعزيمة قسمَيْنِ للْحكم، وَكَذَا الْقَرَافِيّ، وجعلهما غَيرهم من أَقسَام الْفِعْل: كالآمدي، وَابْن الْحَاجِب، وَالْإِمَام) انْتهى. وَأما كَلَام أَصْحَابنَا فِي ذَلِك، فَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " - لما تكلم على الرُّخْصَة والعزيمة -: (ظَاهر ذَلِك: أَن الرُّخْصَة والعزيمة لَيست من خطاب الْوَضع، خلافًا لبَعض أَصْحَابنَا) . وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": (الْقسم السَّادِس: فِي خطاب الْوَضع، وَفِيه خَمْسَة فُصُول، ثمَّ قَالَ: الْفَصْل الْخَامِس: الْعَزِيمَة والرخصة) . فَظَاهره: أَنَّهُمَا من خطاب الْوَضع. تَنْبِيه: قد تقدم خطاب الْوَضع وَحكمه، وَقد اخْتلفُوا فِي مِقْدَاره. فَقيل: هُوَ: السَّبَب، وَالشّرط، وَالْمَانِع، وَالصِّحَّة وَالْفساد، والعزيمة والرخصة، وَجرى على ذَلِك الْآمِدِيّ، وَتَبعهُ جمَاعَة كَثِيرَة. وَزَاد الْمُوفق، والطوفي فِي " مُخْتَصره " و " شَرحه "، وَغَيرهمَا: الْعلَّة، فَقَالُوا: هِيَ من خطاب الْوَضع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1127 وَزَاد الْقَرَافِيّ نَوْعَيْنِ آخَرين وهما: التقديرات الشَّرْعِيَّة، وَالْحجاج. فَالْأول: إِعْطَاء الْمَوْجُود حكم الْمَعْدُوم: كَالْمَاءِ الَّذِي يخَاف الْمَرِيض من اسْتِعْمَاله فَوَات عُضْو وَنَحْوه، فيتمم مَعَ وجوده حسا، وَإِعْطَاء الْمَعْدُوم حكم الْمَوْجُود - عكس الَّذِي قبله -: كالمقتول تورث عَنهُ الدِّيَة، وَإِنَّمَا تجب بِمَوْتِهِ، وَلَا تورث عَنهُ إِلَّا إِذا دخلت فِي ملكه، فَيقدر دُخُولهَا قبل مَوته. وَالثَّانِي: - وَهُوَ الْحجَّاج - مَا تستند إِلَيْهِ الْقُضَاة فِي الْأَحْكَام من بَيِّنَة وَإِقْرَار، وَنَحْو ذَلِك من الْحجَج. قَالَ: وَهِي فِي الْحَقِيقَة رَاجِعَة إِلَى السَّبَب، فَلَيْسَتْ أقساما أُخْرَى) انْتهى. وَقَالَ صَلَاح الدّين العلائي: (أَنْوَاع خطاب الْوَضع الْمَشْهُورَة: السَّبَب، وَالشّرط، وَالْمَانِع) ، وَاقْتصر عَلَيْهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1128 (قَوْله: {فصل} ) {التَّكْلِيف لُغَة: إِلْزَام مَا فِيهِ مشقة} . مَا تقدم من الْأَحْكَام هُوَ الْمَحْكُوم بِهِ، وَمَا يذكر هُنَا هُوَ الْمَحْكُوم فِيهِ، وَهِي الْأَفْعَال. فالتكليف لَهُ مَعْنيانِ: معنى فِي اللُّغَة، وَمعنى فِي اصْطِلَاح عُلَمَاء الشَّرِيعَة. فَمَعْنَاه فِي اللُّغَة: إِلْزَام مَا فِيهِ مشقة، فإلزام الشَّيْء، والإلزام بِهِ هُوَ: تصييره لَازِما لغيره، لَا يَنْفَكّ عَنهُ مُطلقًا، أَو وقتا مَا. قَالَ الْجَوْهَرِي: (والكلفة: مَا يتَكَلَّف من نَائِبه أَو حق، وكلفه تكليفا: إِذا أمره بِمَا يشق، وَالْمَشَقَّة: لُحُوق مَا يستصعب على النَّفس، قَالَ الله تَعَالَى: {لم تَكُونُوا بالغيه إِلَّا بشق الْأَنْفس} [النَّحْل: 7] ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1129 قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (والتكليف: الْأَمر بِمَا يشق، وتكلفه: تجشمه) . وَقَالَ - أَيْضا -: (ألزمهُ إِيَّاه فَالْتَزمهُ: إِذا لزم شَيْئا لَا يُفَارِقهُ) . { [وَمَعْنَاهُ فِي اصْطِلَاح عُلَمَاء الشَّرِيعَة] : إِلْزَام مُقْتَضى خطاب الشَّرْع} . فَيتَنَاوَل الْأَحْكَام الْخَمْسَة: الْوُجُوب، وَالنَّدْب، الحاصلين عَن الْأَمر؛ والحظر، وَالْكَرَاهَة، الحاصلين عَن النَّهْي؛ وَالْإِبَاحَة، الْحَاصِلَة عَن التَّخْيِير، إِذا قُلْنَا: إِنَّهَا من خطاب الشَّرْع، وَيكون مَعْنَاهُ فِي الْمُبَاح: وجوب اعْتِقَاد كَونه مُبَاحا، أَو اخْتِصَاص اتصاف فعل الْمُكَلف بهَا، دون فعل الصَّبِي وَالْمَجْنُون. قَوْله: {والمحكوم فِيهِ: الْأَفْعَال، شَرطهَا: الْإِمْكَان} . أَي: فِي الْجُمْلَة. وَقبل الْكَلَام على ذَلِك نذْكر شَيْئا مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ، لَا بَأْس بالإحاطة بِهِ قبل الشُّرُوع فِي الْمَقْصُود. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (اخْتلف النَّاس فِي تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1130 5 - للمسألة تعلق بالأصلين. أما أصُول الدّين: فَلِأَن الْمُحَقِّقين إِذا حققوا وجوب إِسْنَاد جَمِيع الممكنات إِلَى الله تَعَالَى خلقا وتدبيرا، لَزِمَهُم التَّكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق. أما أصُول الْفِقْه: فَلِأَن الْبَحْث فِي الحكم الشَّرْعِيّ يتَعَلَّق بِالنّظرِ فِي الْحَاكِم - وَهُوَ الله تَعَالَى - والمحكوم عَلَيْهِ -[وَهُوَ] العَبْد - وَالنَّظَر فِي الْمَحْكُوم بِهِ - وَهُوَ الْفِعْل وَالتّرْك - وَشَرطه: أَن يكون فعلا مُمكنا، ويستدعي ذَلِك: أَن الْفِعْل الْغَيْر مَقْدُور عَلَيْهِ هَل يَصح التَّكْلِيف بِهِ أم لَا؟ وَيُسمى أَيْضا: التَّكْلِيف بالمحال. وَهُوَ أَقسَام: أَحدهَا: أَن يكون مُمْتَنعا لذاته: كجمع الضدين، وإيجاد الْقَدِيم وإعدامه، وَنَحْوه مِمَّا يمْتَنع تصَوره، فَإِنَّهُ لَا يتَعَلَّق بِهِ قدرَة مُطلقًا. الثَّانِي: مَا يكون مَقْدُورًا لله تَعَالَى فَقَط: كخلق الْأَجْسَام وَبَعض الْأَعْرَاض. الثَّالِث: مَا لم تجر عَادَة بِخلق الْقُدْرَة على مثله للْعَبد مَعَ جَوَازه: كالمشي على المَاء، والطيران فِي الْهَوَاء. الرَّابِع: [مَا لَا قدرَة] للْعَبد عَلَيْهِ بِحَال توجه الْأَمر، وَله قدرَة عَلَيْهِ عِنْد الِامْتِثَال: كبعض الحركات والسكنات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1131 الْخَامِس: مَا فِي امتثاله مشقة عَظِيمَة: كالتوبة بقتل النَّفس. - ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك -: مَا لَا يُطَاق قد يكون عاديا فَقَط: كالطيران، أَو عقليا فَقَط: كَإِيمَانِ الْكَافِر الَّذِي علم الله تَعَالَى أَنه لَا يُؤمن، أَو عاديا وعقليا: كالجمع بَين الضدين) انْتهى. وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَغَيره: (تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق، وَهُوَ المستحيل، وَيُقَال على مَا تعلق الْعلم وَالْخَبَر والمشيئة بِأَنَّهُ لَا يكون، وعَلى فعل العَبْد لِأَنَّهُ مَخْلُوق لله تَعَالَى، مَوْقُوف على مَشِيئَته، وعَلى مَا يشق فعله وَلَا يتَعَذَّر، وَهُوَ وَاقع إِجْمَاعًا) . قَوْله: {فَيصح التَّكْلِيف بالمحال لغيره إِجْمَاعًا، وَهُوَ خلاف الْمَعْلُوم أَو وَفقه لَا يُطَاق؟ ثَالِثهَا: الْفرق} . الْمحَال لغيره يُكَلف بِهِ الْإِنْسَان إِجْمَاعًا: كَإِيمَانِ من علم الله تَعَالَى [أَنه] لَا يُؤمن؛ وَذَلِكَ لِأَن الله تَعَالَى أنزل الْكتاب، وَبعث الرُّسُل، بِطَلَب الْإِيمَان وَالْإِسْلَام من كل أحد، وكلفهم بذلك، وَعلم أَن بَعضهم لَا يُؤمن. وَقَالَ الْمجد فِي " المسودة " - كَمَا نَقله ابْن مُفْلِح -: (مَا لَا يُطَاق مَا تعلق الْعلم وَالْخَبَر والمشيئة بِأَنَّهُ لَا يكون، وَجَمِيع [أَفعَال] الْعباد؛ لِأَنَّهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1132 مخلوقة لله تَعَالَى، وموقوفة على الْمَشِيئَة، وَمَا يتعسر فعله. فَهَذِهِ الثَّلَاثَة وَاقعَة جَائِزَة بِلَا شكّ، لَكِن هَل يُطلق على خلاف الْمَعْلُوم أَو [وَفقه] أَنه لَا يُطَاق؟ فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال. أَحدهَا: يُطلق عَلَيْهِمَا، وَالثَّانِي: لَا يُطلق عَلَيْهِمَا، وَالثَّالِث: الْفرق. فَالْخِلَاف عِنْد التَّحْقِيق فِي الْجَوَاز الْعقلِيّ وَالِاسْم اللّغَوِيّ، وَأما الشَّرْع فَلَا خلاف فِيهِ الْبَتَّةَ، وَمن هُنَا ظهر التَّخْلِيط) انْتهى. تَنْبِيه: قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (أما تَكْلِيف أبي لَهب وَغَيره بِالْإِيمَان فَهُوَ حق، لَكِن لما أنزل الله: {سيصلى نَارا ذَات لَهب} [المسد: 3] ، لم يسلم لَهُم أَن الله تَعَالَى أَمر نبيه بإسماع هَذَا الْخطاب لأبي لَهب، وَأمر أَبَا لَهب بتصديقه، نعم، بل لَا يقدر أحد أَن ينْقل أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر أَبَا لَهب أَن يصدق بنزول هَذِه السُّورَة. فَقَوله: إِنَّه أَمر أَن يصدق بِأَن لَا يُؤمن، قَول بَاطِل لم يَنْقُلهُ أحد من عُلَمَاء الْمُسلمين، فنقله عَن الرَّسُول قَول بِلَا علم، بل كذب عَلَيْهِ. فَإِن قيل: فقد كَانَ الْإِيمَان وَاجِبا على أبي لَهب، وَمن الْإِيمَان أَن يُؤمن بِهَذَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1133 قيل: لَا نسلم أَنه بعد نزُول هَذِه الْآيَة وَجب على الرَّسُول أَن يبلغهُ إِيَّاهَا وَلَا غَيرهَا، بل حقت عَلَيْهِ كلمة الْعَذَاب، كَمَا حقت على قوم نوح إِذْ قيل لَهُ: {أَنه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن} [هود: 36] ، وَبعد ذَلِك لَا يبْقى الرَّسُول مَأْمُورا بتبليغهم الرسَالَة، فَإِنَّهُ قد بَلغهُمْ فَكَفرُوا حَتَّى حقت عَلَيْهِم كلمة الْعَذَاب بأعيانهم) ، وَالْحَال فِي ذَلِك. قَوْله: {وَأما الْمحَال لذاته: كجمع [بَين] ضدين} - وَهُوَ المستحيل الْعقلِيّ - {أَو عَادَة: كالطيران} وصعود السَّمَاء وَنَحْوهمَا، {فالأكثر على مَنعه} مُطلقًا، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، والأصفهاني وَأكْثر الْمُعْتَزلَة، وَحكي عَن نَص الشَّافِعِي، وَأبي حَامِد، وَأبي الْمَعَالِي، وَابْن حمدَان فِي " نِهَايَة المبتدئين ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1134 {و [قَالَ] أَكثر الأشعرية والطوفي} - من أَصْحَابنَا - { [بِالْجَوَازِ] } . قَالَ الْآمِدِيّ: (وَهُوَ لَازم أصل الْأَشْعَرِيّ فِي وجوب مُقَارنَة الْقُدْرَة للمقدور بهَا، وَأَنه مَخْلُوق لله تَعَالَى) . وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (وَأما جَوَاز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق عقلا فَأكْثر الْأمة نفت جَوَازه مُطلقًا، وَجوزهُ عقلا طَائِفَة من المثبتة للقدر من أَصْحَاب الْأَشْعَرِيّ، وَأَصْحَاب مَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد، كَابْن عقيل، وَابْن الْجَوْزِيّ وَغَيرهمَا) . {و} قَالَ {الْآمِدِيّ وَجمع} من الْعلمَاء بِالْجَوَازِ {فِي الْمحَال عَادَة:} كالطيران وَنَحْوه، دون الْمحَال لذاته، مِنْهُم معتزلة يغداذ، وَصرح بِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1135 5 - الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى "، وَاخْتَارَهُ ابْن دَقِيق الْعِيد فِي " شرح العنوان ". قَالَ ابْن حَامِد: (ذهب بعض أَصْحَابنَا إِلَى إِطْلَاق الِاسْم فِي جَوَاز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق فِي زمِن وأعمى وَغَيرهمَا، وَهُوَ مَذْهَب جهم و [برغوث] ) . وَلنَا خلاف، هَل الْقُدْرَة لَا تكون إِلَّا مَعَ الْفِعْل أَو قبله؟ بِمَعْنى: سَلامَة الْآلَات، كَقَوْل الْمُعْتَزلَة. قَالَ ابْن الزَّاغُونِيّ وَغَيره: (من قَالَ لَا تكون إِلَّا مَعَه، كلف كل أحد مَا لَا يطيقه) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1136 وَقَالَ ابْن شهَاب وَأَبُو الْخطاب: (إِذا قيل: مَا شَيْء فعله محرم، وَتَركه محرم؟ فَصَلَاة السَّكْرَان) . فَكل هَذَا يدل على تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (قَالَ الْأَشْعَرِيّ وَكثير من النظار: لَا يكون العَبْد قَادِرًا إِلَّا حِين الْفِعْل، فعلى قَوْلهم، كل مُكَلّف فَهُوَ حِين التَّكْلِيف قد كلف مَا لَا يطيقه حِينَئِذٍ، وَإِن كَانَ قد يطيقه حِين الْفِعْل، [بقدرة] يخلقها الله تَعَالَى لَهُ وَقت الْفِعْل، وَلَكِن هَذَا لَا يطيقه لاشتغاله بضده وَعدم الْقُدْرَة الْمُقَارنَة للْفِعْل، لَا لكَونه عَاجِزا عَنهُ. وَأما الْعَاجِز عَن الْفِعْل كالزّمِن وَالْأَعْمَى وَنَحْوهمَا فَهَؤُلَاءِ لم يكلفوا بِمَا يعجزون عَنهُ، [وَمثل] هَذَا التَّكْلِيف لَيْسَ وَاقعا فِي الشَّرِيعَة بِاتِّفَاق طوائف الْمُسلمين، إِلَّا شرذمة قَليلَة من الْمُتَأَخِّرين، ادعوا وُقُوع مثل هَذَا التَّكْلِيف فِي الشَّرِيعَة، ونقلوا ذَلِك عَن الْأَشْعَرِيّ وَأكْثر أَصْحَابه، وَهُوَ خطأ عَلَيْهِم) . وَجه الْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الْمَنْع -: قَوْله تَعَالَى: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} [الْبَقَرَة: 286] ، وروى مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَنه لما نزل: {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ} الْآيَة [الْبَقَرَة: 284] ، اشْتَدَّ ذَلِك على الصَّحَابَة وَقَالُوا: (لَا نطيقها) ، وَفِيه: أَن الله تَعَالَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1137 نسخهَا، فَأنْزل الله تَعَالَى: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} إِلَى آخر السُّورَة، وَفِيه: عقب كل دَعْوَة، قَالَ: " نعم "، وَفِي رِوَايَة: " قَالَ: قد فعلت ". قَالَ بعض أَصْحَابنَا: (قيل المُرَاد بِهِ: مَا يثقل ويشق، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمَمْلُوك: " لَا يُكَلف من الْعَمَل مَا لَا يُطيق " رَوَاهُ مُسلم، وَكَقَوْلِه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1138 " لَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبهُمْ، فَإِن كلفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ " مُتَّفق عَلَيْهِ) . واحتجب الأشعرية: بسؤال رَفعه، على جَوَاز التَّكْلِيف بالمستحيل لغيره. وَاحْتج بعض أَصْحَابنَا، والآمدي، وَغَيرهمَا: (بِأَنَّهُ لَو صَحَّ التَّكْلِيف بالمستحيل لَكَانَ مَطْلُوب الْحُصُول، لِأَنَّهُ مَعْنَاهُ، وَهُوَ محَال، لعدم تصور وُقُوعه، لِأَنَّهُ يلْزم تصور الشَّيْء على خلاف ماهيته، واستدعاء حُصُوله فرع تصور وُقُوعه. فَإِن قيل: لَو لم يتَصَوَّر لم يحكم بِكَوْنِهِ محالا، لِأَن الحكم بِصفة الشَّيْء فرع تصَوره. قيل: الْجمع المتصور الْمَحْكُوم بنفيه عَن الضدين هُوَ جمع المختلفات الَّتِي لَيست بمتضادة، وَلَا يلْزم من تصَوره منفيا عَن الضدين تصَوره ثَابتا لَهما، لاستلزامه التَّصَوُّر على خلاف الْمَاهِيّة) . وَاعْترض على الدَّلِيل: بِمَا علم الله أَنه لَا يَقع، فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر وُقُوعه. وعَلى الْجَواب: بِمَا سبق فِي تَقْسِيم الْعلم: أَن تصور النَّفْي فرع تصور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1139 الْإِيجَاب، لِأَن النَّفْي الْمُطلق غير مَعْقُول، لهَذَا قيل: الْإِيجَاب أبسط مِنْهُ. قَالُوا: لَو لم يَصح لم يَقع، ثمَّ ذكرُوا مَا سبق من تعلق الْعلم وَالْخَبَر والمشيئة بِمَا لَا يكون، وَفعل العَبْد، وَقدرته. ورد: بِأَن الْخلاف فِي الْمُمْتَنع لذاته، وَهَذَا لغيره، وَهُوَ لَا يمْنَع تصور الْوُقُوع مِنْهُ، لجَوَاز إمكانها بِالذَّاتِ. وَبِأَن ذَلِك يسْتَلْزم: أَن التكاليف كلهَا تكاليف بالمحال، وَهُوَ بَاطِل إِجْمَاعًا. ورد الطوفي الأول: (وانتساخ الْإِمْكَان الذاتي بالاستحالة بِالْغَيْر العرضية، وبالتزام الثَّانِي، وَالْمَسْأَلَة علمية وَالْإِجْمَاع لَا يَصح دَلِيلا فِيهَا) . قَالَ ابْن مُفْلِح: (كَذَا قَالَ) . قَالُوا: {أَنه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن} [هود: 36] ، وكلفوا بتصديقه مُطلقًا، وَمِنْه: تكليفهم تَصْدِيقه فِي عدم تصديقهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1140 وكلف أَبُو لَهب بِتَصْدِيق النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أخباره، وَمِنْه: أَن لَا يصدقهُ، فقد كلف بتصديقه بِعَدَمِ تَصْدِيقه. ورد: كلفوا بتصديقه، وعِلم الله بِعَدَمِهِ، وإخباره بِهِ، لَا يمْنَع الْإِمْكَان الذاتي كَمَا سبق، لَكِن لَو كلفوا بتصديقه بعد علمهمْ بِعَدَمِهِ، لَكَانَ من بَاب مَا علم الْمُكَلف امْتنَاع وُقُوعه، وَمثله غير وَاقع لانْتِفَاء فَائِدَة التَّكْلِيف - وَهِي الِابْتِلَاء - لَا لِأَنَّهُ محَال، وَالله أعلم. قَوْله: {فعلى الْجَوَاز لم يَقع، وَحكي عَن الْأَكْثَر. قَالَ ابْن الزَّاغُونِيّ، وَالْمجد: الْمحَال لذاته مُمْتَنع سمعا إِجْمَاعًا. [وَقَالَ أَبُو بكر، وَابْن شاقلا، وَجمع: بلَى] . [وَقيل: الْمُمْتَنع عَادَة] } . إِذا قُلْنَا: يجوز التَّكْلِيف بالمحال لذاته، فَهَل وَقع أم لَا؟ فِيهِ أَقْوَال. أَحدهَا: أَنه لم يَقع، وَهُوَ الصَّحِيح. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: صَار الْأَكْثَر إِلَى امْتِنَاعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1141 وَاخْتَارَهُ الْغَزالِيّ، والآمدي، وَأكْثر الْمُعْتَزلَة. قَالَ ابْن الزَّاغُونِيّ وَالْمجد ابْن تَيْمِية: (الْمحَال لذاته مُمْتَنع سمعا إِجْمَاعًا، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الْجَوَاز الْعقلِيّ وَالِاسْم اللّغَوِيّ) كَمَا تقدم عَنهُ. وَالْقَوْل الثَّانِي: وَقع ذَلِك مُطلقًا. قَالَ أَبُو بكر عبد الْعَزِيز - من أَصْحَابنَا -: (الله يتعبد خلقه بِمَا يُطِيقُونَ وَبِمَا لَا يُطِيقُونَ) ؛ وَأطلق. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق ابْن شاقلا - من أَصْحَابنَا أَيْضا -: (إِن الله تَعَالَى أَرَادَ تَكْلِيف عباده بِمَا لَيْسَ فِي طاقتهم وَلَا قدرتهم، وَاحْتج بقوله تَعَالَى: {وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [الْقَلَم: 42] ) . وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل الْفَخر الرَّازِيّ، وَغَيره، وَزعم الرَّازِيّ: (أَن جَمِيع التكاليف مِمَّا لَا يُطَاق، قَالَ: لِأَنَّهَا إِمَّا مَعْلُومَة الْوُقُوع، فَتكون وَاجِبَة الْوُقُوع، أَو وَاجِبَة الْعَدَم، فَتكون ممتنعة الْوُقُوع، والتكليف بِالْوَاجِبِ الْوُقُوع، أَو الْمُمْتَنع الْوُقُوع، تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1142 قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَهَذَا إِنَّمَا يَقْتَضِي تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق عقلا، لَا عَادَة، لِأَن امْتنَاع خلاف الْعلم إِنَّمَا هُوَ عقلا، والنزاع لَيْسَ فِيهِ، بل فِي الْمحَال العادي، فَلَا يحصل مَطْلُوبه) انْتهى. وَمن قَالَ: إِن الِاسْتِطَاعَة مَعَ الْفِعْل - وَمن جُمْلَتهمْ: ابْن حمدَان فِي " نِهَايَة المبتدئين " - قَالَ: بِأَن الْمحَال وَاقع قطعا. لَكِن قَالَ ابْن شاقلا: (الِاسْتِطَاعَة تكون مَعَ الْفِعْل أَو قبله) ، وَقد قَالَ بِوُقُوع الْمحَال مُطلقًا. وَقَالَ التَّمِيمِي: (قد يُسمى الْإِنْسَان مستطيعا إِذا كَانَ سليما من الْآفَات) . وَالْقُدْرَة هِيَ: التَّمَكُّن من التَّصَرُّف، وَقيل: سَلامَة البنية. وَالْقَوْل الثَّالِث: وَقع فِي الْمُمْتَنع عَادَة دون غَيره. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَصَارَ الْغَزالِيّ، وَالشَّيْخ، والآمدي، إِلَى جَوَاز الْمُمْتَنع لغيره فِي ذَاته، وَنصر الْغَزالِيّ إِمْكَان الْمُمْتَنع الذاتي دون وُقُوعه) . قَالَ التَّاج السُّبْكِيّ: (وَالْحق وُقُوع الْمُمْتَنع بِالْغَيْر لَا بِالذَّاتِ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1143 (قَوْله: {فصل} ) {الْكفَّار مخاطبون بالفروع، عِنْد أَحْمد وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أصحابهما، والأشعرية، وَأبي بكر الرَّازِيّ، والكرخي} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1144 قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب وَأَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ: (هُوَ ظَاهر مَذْهَب مَالك) . وَذَلِكَ [لوُرُود] الْآيَات الشاملة لَهُم، مثل: {يَا أَيهَا النَّاس اعبدوا ربكُم} [الْبَقَرَة: 21] ، {يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم} [النِّسَاء: 1، وَالْحج: 1، ولقمان: 33] ، {يَا عباد فاتقون} [الزمر: 16] ، {أقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} ، {كتب عَلَيْكُم الصّيام} [الْبَقَرَة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1145 183 - ] ، {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} [آل عمرَان: 97] ، {يَا بني آدم} [الْأَعْرَاف: 26، 27، 31، 35، وَيس: 60] {يَا أولي الْأَبْصَار} [الْحَشْر: 2] ، {يَا أولي الْأَلْبَاب} [الْبَقَرَة: 179، 197، والمائدة: 100، وَالطَّلَاق: 10] وَغير ذَلِك مِمَّا [لَا] يحصر، وَالْكفْر غير مَانع لِإِمْكَان إِزَالَته، كالأمر بِالْكِتَابَةِ والقلم حَاضر يُمكنهُ تنَاوله. وَأَيْضًا فقد ورد الْوَعيد على ذَلِك، أَو يتضمنه نَحْو: {مَا سلككم فِي سقر} [المدثر: 42] الْآيَة، وذم قوم شُعَيْب بِنَقص الْمِكْيَال، وَقوم لوط بإتيان الذُّكُور، وَقوم هود لشدَّة الْبَطْش، مَعَ ذمّ الْكل بالْكفْر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1146 وَقَالَ تَعَالَى - بعد ذكر قتل النَّفس والزنى -: {وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما} [الْفرْقَان: 68] ، وَلذَلِك يحد على الزِّنَى من أحكامنا، وَلَا يحد على الْمُبَاح. وأوضح من ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله زدناهم عذَابا فَوق الْعَذَاب} [النَّحْل: 88] ، أَي: فَوق عَذَاب الْكفْر، وَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ على بَقِيَّة عبادات الشَّرْع. وَاحْتج فِي [الْعدة] و " التَّمْهِيد ": " بِأَنَّهُ مُخَاطب بِالْإِيمَان، وَهُوَ شَرط الْعِبَادَة، وَمن خُوطِبَ بِالشّرطِ كالطهارة، كَانَ مُخَاطبا بِالصَّلَاةِ) . وَكَذَا احْتج ابْن عقيل: (بخطابه بِصدق الرُّسُل، وَهِي مَشْرُوطَة بِمَعْرِِفَة الله تَعَالَى، وَهِي على النّظر. وَإِن هَذَا - لقُوته - مُفسد لكل شُبْهَة للخصم) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1147 فَائِدَة: أَكثر من يَقُول بِأَنَّهُم مخاطبون يَقُولُونَ: الْعَاقِبَة بترك الْفِعْل، وَأَبُو الْمَعَالِي يَقُول: بترك التَّوَصُّل إِلَى الْفِعْل، وَهُوَ خلف لَفْظِي، فَإِذا مضى الزَّمَان الأول يَعْصِي عِنْد أبي الْمَعَالِي بالْكفْر، وَعند الْأَكْثَر بِهِ وبالفروع. فَإِذا جرينا على مَا قَالَه أَبُو الْمَعَالِي: أَن الْمُكَلف بِهِ التَّوَصُّل، استقام مَا يتَكَرَّر فِي الْفِقْه: أَن الْكَافِر فِي الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصِّيَام وَالْحج لم تجب عَلَيْهِ، فينفع فِي الْجمع بَين قَوْلهم فِي الْأُصُول: إِنَّه مُكَلّف، وَفِي الْفِقْه: إِنَّه غير مُكَلّف. وَهُوَ أحسن من جمع الرَّازِيّ، وَالنَّوَوِيّ، وَغَيرهمَا: بِأَن مُرَاد الْفُقَهَاء عدم الْمُطَالبَة فِي الدُّنْيَا، وَمُرَاد الْأُصُولِيِّينَ الْعقَاب عَلَيْهَا فِي الْآخِرَة، وَقد صرح بذلك خلق كثير من الْعلمَاء مِنْهُم أَصْحَابنَا على مَا يَأْتِي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1148 قلت: قَوْله: (إِن جمعه أحسن من جمع الرَّازِيّ وَالنَّوَوِيّ) ، فِيهِ نظر، فَإِن أَكثر الْعلمَاء يَقُول خلاف مَا قَالَه أَبُو الْمَعَالِي، لِأَن الْجمع على قَول الْأَكْثَر، إِلَّا مَا قَالَه هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة. قَالَ النَّوَوِيّ فِي " شرح الْمُهَذّب ": (اتّفق أَصْحَابنَا على أَن الْكَافِر الْأَصْلِيّ لَا تجب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالْحج وَغَيرهَا من فروع الْإِسْلَام، وَالصَّحِيح فِي كتب الْأُصُول: أَنه مُخَاطب بالفروع، كَمَا هُوَ مُخَاطب بِأَصْل الْإِيمَان. قَالَ: وَلَيْسَ مُخَالفا لما تقدم؛ لِأَن المُرَاد هُنَاكَ غير المُرَاد هُنَا، فَالْمُرَاد هُنَاكَ: أَنهم لَا يطالبون بهَا فِي الدُّنْيَا مَعَ كفرهم، وَإِذا أسلم أحدهم لم يلْزمه قَضَاء الْمَاضِي، وَلم يتَعَرَّضُوا لعقاب الْآخِرَة. ومرادهم فِي كتب الْأُصُول: أَنهم يُعَذبُونَ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَة زِيَادَة على عَذَاب الْكفْر، فيعذبون عَلَيْهَا وعَلى الْكفْر جَمِيعًا، لَا على الْكفْر وَحده، وَلم يتَعَرَّضُوا للمطالبة فِي الدُّنْيَا، فَذكرُوا فِي الْأُصُول حكم طرف، وَفِي الْفُرُوع حكم الطّرف الآخر) انْتهى كَلَامه. {وَعنهُ} : مخاطبون {بالنواهي} فَقَط، فَلَا يخاطبون بغَيْرهَا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1149 {اخْتَارَهُ ابْن حَامِد [من أَصْحَابنَا] ، وَالْقَاضِي [أَبُو يعلى] فِي " الْمُجَرّد "، وَبَعض الْحَنَفِيَّة} وَهُوَ الْجِرْجَانِيّ. {قَالَ الْأُسْتَاذ} أَبُو إِسْحَاق الأسفراييني فِي " أُصُوله ": ( { [لَا خلاف] بَين الْمُسلمين} أَن خطاب الزواجر من الزِّنَى وَالْقَذْف [يتَوَجَّه] عَلَيْهِم كالمسلمين) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1150 5 - وَقواهُ السُّبْكِيّ؛ لِأَن الْكَفّ مُمكن حَالَة الْكفْر، بِخِلَاف فعل الطَّاعَات، - وَأَيْضًا - فَإِنَّهُم يعاقبون على ترك الْإِيمَان بِالْقَتْلِ، والسبي، وَأخذ الْجِزْيَة، وَالْحَد فِي الزِّنَى وَالْقَذْف، وَقطع السّرقَة، وَلَا يُؤمر بِقَضَاء شَيْء من الْعِبَادَات. وَقد نقل صَاحب " اللّبَاب " هَذَا القَوْل عَن أبي حنيفَة، وَعَامة أَصْحَابه، وَحكي عَن بعض الشَّافِعِيَّة. {وَقيل} : مخاطبون {بِغَيْر الْجِهَاد} . صرح بِهِ أَبُو الْمَعَالِي فِي " النِّهَايَة "، فَقَالَ: (وَالذِّمِّيّ لَيْسَ مُخَاطبا بِقِتَال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1151 الْكفَّار) ، وَكَذَلِكَ الرَّافِعِيّ فِي كتاب السّير. قَالَ الْقَرَافِيّ: (وَمر بِي فِي بعض الْكتب الَّتِي لَا أستحضرها الْآن: أَنهم مكلفون بِمَا عدا الْجِهَاد) . {وَقيل} : لَا يُخَاطب إِلَّا {الْمُرْتَد فَقَط} . حَكَاهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي فِي " الملخص "، والطرطوشي فِي " الْعمد "، وَيفهم من كَلَام الْفُقَهَاء فِي بعض مسَائِل الْفِقْه. قلت: الْفرق بَينه وَبَين غَيره وَاضح، وَذَلِكَ لِأَن مؤاخذته بسابق الْتِزَامه حكم الْإِسْلَام، وَلِهَذَا قُلْنَا: يلْزمه قَضَاء مَا فَاتَهُ فِي الرِّدَّة من الْعِبَادَات، على تفاصيل فِي الْفِقْه. { [وَعَن أَحْمد] لَا} يخاطبون {مُطلقًا، [اخْتَارَهُ أَكثر] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1152 الْحَنَفِيَّة، و [أَبُو] حَامِد [الإِسْفِرَايِينِيّ] } ، وَعبد الْجَبَّار من الْمُعْتَزلَة. قَالَ ابْن كج فِي كِتَابه فِي " الْأُصُول ": (إِنَّه ظَاهر كَلَام الشَّافِعِي) . وَقَالَ [الأبياري] : (إِنَّه ظَاهر مَذْهَب مَالك) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1153 لِأَنَّهُ لَو كلف بِالْعبَادَة لصحت، ولأمكنه الِامْتِثَال، وَفِي الْكفْر لَا يُمكنهُ، وبإسلامه تسْقط. رد: معنى التَّكْلِيف اسْتِحْقَاق الْعقَاب، وَيصِح بِشَرْطِهِ، وَيسلم ويفعلها كالمحدث. وَلَا مُلَازمَة بَين التَّكْلِيف وَالْقَضَاء، بِدَلِيل الْجُمُعَة، مَعَ أَنه بِأَمْر جَدِيد. وَفِيه تنفير عَن الْإِيمَان. وأبطله فِي " الْوَاضِح " بالمرتد، لَا تصح مِنْهُ وَهُوَ مُخَاطب. فَقيل لَهُ: [لالتزامه] حكم الْإِسْلَام. فَقَالَ: وَهَذَا ألزمهُ الشَّرْع. وَذكر غَيره فِيهِ الْخلاف. قَالُوا: الْمنْهِي عَنهُ يَصح تَركه مَعَ كفره، وَيَتَرَتَّب عَلَيْهِ حكمه وَهُوَ الْحَد وَالتَّعْزِير، وَهُوَ محرم كالكفر. أجَاب ابْن عقيل وَغَيره: وَهُوَ لَا يَصح مِنْهُ إِلَّا على وَجه مكابدة النَّفس لاحترام الناهي، وَالْحَد لالتزامه [حكمنَا] عُقُوبَة، وَلنَا: كَفَّارَة، أَو بلوى، ونمنعه من الْمحرم لَا الْكفْر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1154 وَقَالَ بَعضهم: (لَا يَكْفِي مُجَرّد ترك وَفعل) فِيهِ نظر. وَاسْتدلَّ: لَو اشْترط فِي التَّكْلِيف بمشروط وجود شَرطه، لم تجب صَلَاة على مُحدث، وَلَا قبل نِيَّتهَا. ورد: بِأَن الشَّرْط تَابع يجب بِوُجُوب مشروطه. {وَقيل: بِالْوَقْفِ} . هَذَا قَول - أَيْضا - فِي الْمَسْأَلَة، وَذَلِكَ لتعارض الْأَدِلَّة. {وَحكي عَن الْأَشْعَرِيّ، وَبَعض [أَصْحَابه] } ، حَكَاهُ سليم الرَّازِيّ فِي " التَّقْرِيب " عَن بعض الأشاعرة، وَحَكَاهُ أَبُو حَامِد الإِسْفِرَايِينِيّ عَن الْأَشْعَرِيّ نَفسه. قَوْله: {كالإيمان إِجْمَاعًا} . لَا نزاع أَنهم مخاطبون بِالْإِيمَان، وَالْمرَاد بِهِ العقائد الْأَوَائِل الَّتِي لَا تتَوَقَّف على سبق شَيْء. وَيلْحق بهَا كَمَا قَالَ الباقلاني: (تَصْدِيق الرُّسُل، والكف عَن أذاهم بقتل، أَو قتال، أَو غير ذَلِك، وَإِن كَانَ ذَلِك من الْفُرُوع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1155 وَتردد بعض الْمُتَأَخِّرين فِي كلمتي الشَّهَادَة، هَل هِيَ من الْفُرُوع - فَيجْرِي فِيهَا الْخلاف - أَو لَا، بل هم مكلفون بهَا قطعا؟ وَالَّذِي يَنْبَغِي: الْقطع بِالثَّانِي، بل هِيَ من الْإِيمَان على الْمَذْهَب الصَّحِيح، بل أعظمه، فَإِذا المُرَاد بالفروع: مَا سوى ذَلِك، من صَلَاة، وَزَكَاة، وَصَوْم، وَحج، وَنَحْوهَا. قَوْله: { [وملتزمهم فِي إِتْلَاف] ، وَجِنَايَة، وترتب أثر عقد [كغيرهم، إِجْمَاعًا] } . إِنَّمَا ذكرنَا هَذِه الْمَسْأَلَة لكَون السُّبْكِيّ قَالَ: (لَا يَشْمَل الْخلاف إتلافا، وَلَا جِنَايَة، وَلَا ترَتّب أثر عقد) ، وَقَالُوا [عَن] كَلَامه إِنَّه تَنْقِيح لمحل الْخلاف، وَهُوَ أَن الْخلاف لَا يَشْمَل ذَلِك، بل هم [مؤاخذون] بالإتلافات، والجنايات، وَمَا يَتَرَتَّب على العقد من الْآثَار من غير نزاع، وَهَذَا وَاضح، وَهُوَ فِي كتب الْفُقَهَاء من أَرْبَاب الْمذَاهب، لَكِن هَذِه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1156 الْأَحْكَام من خطاب الْوَضع لَا من خطاب التَّكْلِيف، فَلَا مدْخل لهَذِهِ الْمَسْأَلَة فِيمَا تقدم حَتَّى تخرج، بل هم أولى من الصَّبِي وَالْمَجْنُون فِي الضَّمَان بِالْإِتْلَافِ وَالْجِنَايَة. وَلَا بُد من وجود الشُّرُوط فِي معاملاتهم، وَانْتِفَاء الْمَوَانِع، وَالْحكم بِصِحَّتِهَا وفسادها، وترتب آثَار كل عَلَيْهِ، من بيع وَنِكَاح وَطَلَاق وَغَيرهَا. وَيشْهد لذَلِك: أَن أَبَا حنيفَة قَالَ بِصِحَّة أنكحتهم مَعَ قَوْله بِعَدَمِ تكليفهم بالفروع. وَمحل ذَلِك فِي الْكَافِر الْمُلْتَزم، فَأَما الْحَرْبِيّ فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ فِي الْإِتْلَاف وَالْجِنَايَة وَغَيرهمَا، وَلذَلِك قُلْنَا فِي الْمَتْن: (ملتزمهم) . قَالَ الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع " عَن كَلَام السُّبْكِيّ: (هَذَا كَلَام لَا طائل تَحْتَهُ، وَذَلِكَ لِأَن مَحل النزاع: أَن مَاله شَرط شَرْعِي، هَل يجوز التَّكْلِيف بِهِ قبل وجود الشَّرْط أم لَا؟ وَمَا لَا خطاب تَكْلِيف فِيهِ لَا صَرِيحًا وَلَا ضمنا فَهُوَ خَارج عَن الْبَحْث، ثمَّ مَسْأَلَة تَكْلِيف الْكَافِر بالفروع من جزئيات تِلْكَ الْقَاعِدَة الْمَذْكُورَة، [فِيمَا] كَانَ لَهُ شَرط شَرْعِي: كالإيمان، وَالطَّهَارَة، وَستر الْعَوْرَة للصَّلَاة، وَأما مَا لَا شَرط لَهُ شَرْعِي يتَوَقَّف عَلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1157 كالإتلاف، وَالْجِنَايَة، وترتب آثَار الْعُقُود، فَلَا وَجه للْخلاف فِيهِ، وَالْحَاصِل: أَن مَا ذكره خَارج عَن مَحل النزاع) انْتهى. وَهُوَ كَمَا قَالَ: قَوْله: {تَنْبِيه: [فَائِدَة هَذِه الْمَسْأَلَة] : عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر فِي الْآخِرَة، بِكَثْرَة الْعقَاب} فِي الْآخِرَة. قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": (حسب) يَعْنِي: لَا غير ذَلِك. وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (هُوَ قَول الْجُمْهُور بِنَاء على كَثْرَة الْعقَاب وَخِفته، فَإِنَّهُ إِذا قيل: يخاطبون، وفعلوا تِلْكَ الْأَفْعَال، قد يكون سَببا لتخفيف الْعقَاب، وَإِن كَانَ مُؤْذِيًا. ثمَّ قَالَ: قلت: { [ذكر أَبُو بكر غُلَام الْخلال - من أَصْحَابنَا - وَجْهَيْن] } فِي عمل الْكَافِر، {هَل يجازى [بِهِ] فِي دُنْيَاهُ، أَو يُخَفف عَنهُ فِي عقباه} ) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1158 وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": (إِذا علم أَنه مُكَلّف كَانَ أدعى لَهُ إِلَى الاستجابة، وَينْتَفع بِهِ إِذا آمن) . {وَقَالَ ابْن الصَّيْرَفِي [الْحَرَّانِي] } - من أَصْحَابنَا -: { [يتَفَرَّع عَنهُ مسَائِل] } مِنْهَا: ظِهَار الذِّمِّيّ يَصح عندنَا، لَا عِنْدهم: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1159 لتعقبه كَفَّارَة لَيْسَ من أَهلهَا. وَمِنْهَا: أَن الْكفَّار لَا يملكُونَ أَمْوَالنَا بِالِاسْتِيلَاءِ فِي صَحِيح الْمَذْهَب، لحُرْمَة التَّنَاوُل، وَعِنْدهم: يملكونها؛ لِأَن حُرْمَة التَّنَاوُل من فروع الْإِسْلَام. وَمِنْهَا: وجوب الصَّلَاة على الْمُرْتَد، يَعْنِي: الْقَضَاء. وَاخْتَارَهُ فِي الْمَسْأَلَة الْوُسْطَى الطوفي. قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَهُوَ مُتَوَجّه، لكنه لَيْسَ بِصَحِيح الْمَذْهَب) . وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَقيل: يظْهر أثر ذَلِك فِي الدُّنْيَا من وُجُوه: أَحدهَا: قد يكون سَببا لإسلامه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1160 وَالثَّانِي: وُقُوع الْإِسْلَام فِي صَدره، إِذا علم غفران مَا أوقعه من الْفساد بِإِسْلَامِهِ. وَالثَّالِث: إِقَامَة الْحُدُود عَلَيْهِم، كَمَا هُوَ مَذْهَب أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ. وَالرَّابِع: اسْتِحْبَاب قَضَاء الصَّوْم إِذا أسلم فِي أثْنَاء الشَّهْر، مُلَاحظَة لعدم الْخطاب. وَالْخَامِس: اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي الْكَافِر إِذا طلق أَو أعتق، هَل يلْزمه ذَلِك أم لَا؟ وَالسَّادِس: الْوَقْف وَالصَّدَََقَة، إِذا باعوها بعد صُدُور أَسبَابهَا [لَا نمنعهم] من ذَلِك على القَوْل بِعَدَمِ الْخطاب) انْتهى. وَقَالَ الْقَرَافِيّ فِي " شرح التَّنْقِيح ": (من فوائدها: تيسير الْإِسْلَام عَلَيْهِ، وَالتَّرْغِيب فِيهِ، وَالْحكم بتَخْفِيف الْعَذَاب عَنهُ بِفعل الْخَيْر وَترك الشرور، إِذا علم أَنه مُخَاطب بهَا ويفعلها) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1161 وأحال على فَوَائِد أخر، ذكرهَا فِي " شرح الْمَحْصُول ". وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " الِانْتِصَار " - فِيمَن أسلم على أَكثر من [عشر] نسْوَة -: (قَول الْحَنَفِيَّة: النَّهْي عَن الْجمع قَائِم فِي حَال الشّرك، لَا يَصح، لِأَن عِنْدهم الْكفَّار غير مخاطبين، وَهُوَ رِوَايَة لنا) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1162 (قَوْله: {فصل} ) {لَا تَكْلِيف إِلَّا بِفعل، ومتعلقه فِي النَّهْي: كف النَّفس، عِنْد الْأَكْثَر} . وَهُوَ الْأَصَح عِنْد الْفُقَهَاء من أَصْحَابنَا وَغَيرهم. إِذا كلف بِغَيْر نهي، كالأمر، كَانَ مُكَلّفا بِفعل [بِلَا] نزاع بَين الْعلمَاء، وَإِنَّمَا تَرَكُوهُ لوضوحه، وَعدم الْخلاف فِيهِ، لِأَن مُقْتَضَاهُ: إِيجَاد فعل مَأْمُور بِهِ: كَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْم، وَنَحْوهمَا. وَذكروا مَا هُوَ مَحل الْخلاف، وَهُوَ النَّهْي، فمتعلقه فِيهِ: كف النَّفس، كَالْكَفِّ عَن الزِّنَا وَنَحْوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1163 {وَقيل: ضد الْمنْهِي عَنهُ} - وَنسب إِلَى الْجُمْهُور - أَي ضد من أضداده كَانَ، إِذْ بتلبسه بضده يكون تَارِكًا لَهُ، فَإِذا قَالَ: لَا تتحرك، فَمَعْنَاه: افْعَل مَا يضاد الْحَرَكَة. وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ، والبيضاوي. لَكِن قَالَ الكوراني: (هَذَا عين الأول، إِذْ كف النَّفس من جزئيات فعل الضِّدّ) ، وَهُوَ كَذَلِك. قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": (وَقيل: لَا يَقْتَضِي الْكَفّ، إِلَّا أَن يتلبس بضده فيثاب عَلَيْهِ، لَا على التّرْك) . قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَذكره بعض أَصْحَابنَا: قَول الْأَشْعَرِيّ، والقدرية، وَابْن أبي الْفرج الْمَقْدِسِي، وَغَيرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1164 قَالُوا فِي مَسْأَلَة الْإِيمَان: التّرْك فِي الْحَقِيقَة فعل، لِأَنَّهُ ضد الْحَال الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا) . {وَقيل: [يشْتَرط] قصد التّرْك} ، أَي: يشْتَرط للكف قصد التّرْك، حَتَّى يَأْثَم إِذا لم يقْصد [التّرْك، نَقله] فِي " المسودة ". قَالَ الكوراني: (هَذَا القَوْل خَارج عَن مَحل النزاع؛ لِأَن الْكَلَام فِي مُتَعَلق النَّهْي، وماذا يصلح لَهُ عقلا، وَأما مُقَارنَة الْقَصْد؛ فَإِنَّمَا يعْتد بِهِ لتَحْصِيل الثَّوَاب، فَلَا وَجه لإيراده فِي معرض تَقْسِيم الْمذَاهب، وَلذَلِك ترى الْمُحَقِّقين لم يذكرُوا ذَلِك) انْتهى. قلت: كَأَن النَّاقِل لذَلِك، وَالْقَائِل بِهِ، يلمح أَنا إِذا قُلْنَا: إِنَّه كف النَّفس، هَل يشْتَرط فِي الْكَفّ قصد التّرْك أم لَا؟ فَقدم أَنه لَا يشْتَرط، وَذكر قولا بالاشتراط، فَهَذَا القَوْل شَرط فِي صِحَة التّرْك مَقْصُودا، من غير مُلَاحظَة ضد، فَهُوَ الْمُكَلف: كَالصَّوْمِ، وَلذَلِك وَجَبت فِيهِ النِّيَّة. وَإِن الملاحظ إِيقَاع الضِّدّ فَهُوَ الْمُكَلف بِهِ: كَالزِّنَا وَالشرب. انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1165 {وَعَن أبي هَاشم وَجمع} : أَنه {الْعَدَم الْأَصْلِيّ} . وَهُوَ انْتِفَاء الْفِعْل مَعَ قطع النّظر فِي التَّلَبُّس بضده، أَي: عدم الْحَرَكَة فِي مثالنا. لَكِن الْعَدَم لَا يدْخل تَحت الْقُدْرَة، فَإِن أَرَادَ الإعدام، رَجَعَ إِلَى القَوْل الأول. وَقيل: إِن الْوَاجِب فِي المنهيات إِذا ذكرهَا: اعْتِقَاد تَحْرِيمهَا، وَهُوَ على أول الْحَال من الِاعْتِقَاد، ذكره أَبُو بكر الصَّيْرَفِي فِي كِتَابه " الدَّلَائِل والأعلام ". وَجه القَوْل الأول - وَهُوَ الصَّحِيح عِنْدهم -: أَنه لَو كلف بِنَفْي الْفِعْل لَكَانَ مستدعى حُصُوله مِنْهُ، وَلَا يتَصَوَّر، لِأَنَّهُ غير مَقْدُور لَهُ، لِأَنَّهُ نفي مَحْض. ورده أَبُو هَاشم فَقَالَ: بل هُوَ مَقْدُور، وَلِهَذَا يمدح بترك الزِّنَا. وردوه: بِأَن عدم الْفِعْل مُسْتَمر، فَلم تُؤثر الْقُدْرَة فِيهِ. ورده أَبُو هَاشم: بِأَن الْمُقَارن مِنْهُ للقدرة مَقْدُور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1166 (قَوْله: {فصل} ) أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر: يَصح [التَّكْلِيف] بِالْفِعْلِ قبل حُدُوثه} . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (هُوَ قَول عَامَّة أَصْحَابنَا والمتكلمين، خلافًا لشذوذ) . قَالَ الْآمِدِيّ: (اتّفق النَّاس على جَوَاز التَّكْلِيف بِالْفِعْلِ قبل حُدُوثه، سوى شذوذ من أَصْحَابنَا) . قَالَ [الْقَرَافِيّ فِي] هَذِه الْمَسْأَلَة: (أغمض مَسْأَلَة فِي أصُول الْفِقْه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1167 مَعَ قلَّة جدواها، وَأَنه لَا يظْهر لَهَا أثر فِي الْفُرُوع. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (هِيَ من أشكل مسَائِل أصُول الْفِقْه، لما فِيهَا من اضْطِرَاب الْمَنْقُول، وغموض الْمَعْقُول، وَهِي فِي الْحَقِيقَة دخيلة فِيهِ، وَإِنَّمَا هِيَ من عظائم مسَائِل الْكَلَام، وَهِي قَليلَة الجدوى فِي الْفِقْه) . قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: (الْإِجْمَاع على أَن أَمر الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتناولنا، وَهُوَ مقدم، وَهِي أوَامِر فَالْقَوْل بالإعلام بَاطِل، وَلم يفْتَقر إِلَى أَمر آخر) . وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن: (قد قيل: إِن كَانَ لغير غَرَض لم يجز فِي الْمدَّة الطَّوِيلَة) . قَوْله: {حَقِيقَة عِنْد ابْن عقيل، و [الْأَكْثَر] ، [وَإِن كَانَ فِيهِ إِعْلَام] } . قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي: (الْأَكْثَرُونَ أَنه حَقِيقَة) ، نَقله ابْن قَاضِي الْجَبَل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1168 قَالَ فِي " المسودة ": (قَالَ ابْن عقيل: إِذا تقدم الْأَمر على الْفِعْل كَانَ أمرا عندنَا على الْحَقِيقَة أَيْضا، وَإِن كَانَ فِي [طيه] إيذان وإعلام) . {وَقيل: [أَمر إِعْلَام] } وإيذان، لَا حَقِيقَة، قَالَه جمع مِنْهُم: الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه. وَضَعفه إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَان " بعد أَن نَقله عَن أَصْحَاب الْأَشْعَرِيّ بِمَا مَعْنَاهُ: (أَنه يلْزم تَحْصِيل الْحَاصِل، وَأَنه لَا يرتضيه لنَفسِهِ عَاقل) . وَتقدم كَلَام الْمُحَقِّقين. {وَقيل: عِنْد الْمُبَاشرَة} ، اخْتَارَهُ التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع ". وَنسب قَائِله إِلَى التَّحْقِيق. قَالَ: (وَإِن الملام قبلهَا على التَّلَبُّس بالكف الْمنْهِي) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1169 هَذَا جَوَاب عَن سُؤال مُقَدّر، هَذَا على القَوْل الْأَخير، تَقْدِيره: إِن القَوْل بِهِ يُؤَدِّي إِلَى سلب التكاليف، فَإِنَّهُ [يَقُول] : لَا أفعل حَتَّى أكلف، وَالْفَرْض: أَنه لَا يُكَلف حَتَّى يفعل. وَجَوَابه: إِنَّه قبل الْمُبَاشرَة متلبس بِالتّرْكِ، وَهُوَ فعل، فَإِنَّهُ كف النَّفس عَن الْفِعْل، فقد بَاشر التّرْك، فَتوجه إِلَيْهِ التَّكْلِيف بترك التّرْك حَالَة مُبَاشَرَته للترك، وَذَلِكَ بِالْفِعْلِ، وَصَارَ الملام على ذَلِك. وَهَذَا جَوَاب نَفِيس، أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو الْمَعَالِي فِي مَسْأَلَة تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق. قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَهُوَ عَجِيب، فَإِن النَّهْي عَن الضِّدّ فرع تعلق الْأَمر، فَإِذا لم يتَعَلَّق على قَوْله، فَكيف يلام على التَّلَبُّس بالكف الْمنْهِي) انْتهى. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: (اخْتلفُوا فِي جَوَاز تعلق التَّكْلِيف بِهِ فِي أول زمَان حُدُوثه، فَذهب الْأَكْثَر إِلَى جَوَازه، ذكره الْمجد فِي المسودة) . قَالَ ابْن برهَان: (هَذَا مَذْهَبنَا) ، وَهُوَ قَول الْأَشْعَرِيّ وَأَتْبَاعه، خلافًا للمعتزلة، وَوَافَقَهُمْ الرَّازِيّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1170 قَوْله: {وَيسْتَمر حَال حُدُوث الْفِعْل، عِنْد الْأَشْعَرِيّ، وَالْأَكْثَر} ، كَمَا تقدم قبل هَذَا قَرِيبا؛ لِأَن الْفِعْل فِي هَذِه الْحَالة مَقْدُور، وكل مَقْدُور يجوز التَّكْلِيف بِهِ. أما الأولى؛ فَلِأَن الْقُدْرَة، إِمَّا حَال الْفِعْل، أَو قبله مستمرة إِلَى حِين صُدُور الْفِعْل، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ، فالقدرة عِنْد الْفِعْل حَاصِلَة، فَيصح بِهِ. وَأما الثَّانِيَة: فَلِأَن الْمَقْدُور يَصح إيجاده، والتكليف إِنَّمَا هُوَ الْأَمر بالإيجاد، والتكليف هُنَا تعلق بِمَجْمُوع الْفِعْل من حَيْثُ هُوَ مَجْمُوع، لَا بِأول جُزْء مِنْهُ، فَلَا يَنْقَطِع التَّكْلِيف إِلَّا بِتمَام الْفِعْل، وَيكون التَّكْلِيف بإيجاد مَا لم يُوجد مِنْهُ، لَا بإيجاد مَا قد وجد، فَلَا تَكْلِيف بإيجاد موجوده فَلَا محَال. {وَقَالَت الْمُعْتَزلَة، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ، والرازي، والطوفي، وَغَيرهم: يَنْقَطِع} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1171 احْتج ابْن عقيل للمعتزلة وَمن تَبِعَهُمْ: (بِأَنَّهُ لَيْسَ بمقدور حَال وجوده، وَحَال حُدُوثه، وَإِلَّا كَانَ مَقْدُورًا حَال بَقَائِهِ، لوُجُوده فِي الْحَالين) . وَأجَاب عَنهُ: (بِأَنَّهُ حَال حُدُوثه مفعول مُتَعَلق بفاعل، بِخِلَاف حَال بَقَائِهِ، وكالإرادة يَصح تعلقهَا بِهِ حَال حُدُوثه لَا بَقَائِهِ عِنْد الْجَمِيع) . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (هَذَا ضَعِيف، بل هُوَ مَقْدُور وَمُرَاد فِي الْحَالين) . وألزم الْآمِدِيّ الْمُعْتَزلَة: (أَن لَا يكون الْفِعْل أول زمن حُدُوثه أثرا لقدرة قديمَة، أَو حَادِثَة، على اخْتِلَاف المذهبين، وَلَا [موجدة] لَهُ، لما فِيهِ من [إِيجَاد] الْمَوْجُود، وجوابهم فِي [إِيجَاد] الْقُدْرَة لَهُ، جَوَابنَا فِي تعلق الْأَمر بِهِ) . قَوْله: {وَلَا يَصح أَمر بموجود، عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1172 قَالَ الْمجد فِي " المسودة " - وَتَبعهُ ابْن مُفْلِح -: (لَا يَصح الْأَمر بالموجود عِنْد أَصْحَابنَا وَالْجُمْهُور) . وَقَالَ ابْن عقيل: (يَنْبَنِي على أصل - بَان بِهَذَا أَن أَصْحَابنَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ ودانوا بِهِ - هُوَ: أَن الْأَمر [بالمستحيل] لَا يجوز، خلافًا للأشعري) انْتهى. قَالَ الْمجد: (وَأَجَازَهُ بعض الْمُتَكَلِّمين) . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (وَهَذَا القَوْل أَجود) . قَالَ: (وَهَذِه تشبه إِرَادَة الْمَوْجُود ومحبة الْمَوْجُود، وتشبه مَسْأَلَة افتقار الْمَوْجُود إِلَى الْمُؤثر، وَأَن [عِلّة] الافتقار الْإِمْكَان والحدوث) انْتهى. {وَقَالَ ابْن عقيل: (يَصح أَن يقارن الْأَمر الْفِعْل حَال وجوده} ووقوعه من الْمُكَلف، [و] لَيْسَ من شَرط صِحَة الْأَمر [تقدمه] على الْفِعْل، { [وَبِه قَالَ عَامَّة سلف الْأمة، وَعَامة الْفُقَهَاء] ، خلافًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1173 للمعتزلة} ، فعندهم: لَا بُد أَن يتَقَدَّم الْأَمر الْفِعْل، {فبعضهم: جوزه بِوَقْت، وَأَكْثَرهم: بأوقات) } . وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (اخْتلفت الْمُعْتَزلَة فِي مِقْدَار التَّقَدُّم، بعد اتِّفَاقهم مَعَ الْجُمْهُور على وَقت يحصل للْمَأْمُور بِهِ السماع والفهم، فبعضهم: بأزمنة كَثِيرَة، وَقيل: بِوَقْت وَاحِد) . وَقَالَ الباقلاني: (يجب تقدمه بوقتين، الأول: السماع، وَالثَّانِي: الْفَهم، والتكليف يَقع فِي الثَّالِث) . وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (اخْتلفُوا فِي مِقْدَار زمن التَّقَدُّم، فَقيل: بِوَقْت وَاحِد، وَالْأَكْثَر: بأوقات. ثمَّ اخْتلفُوا من وَجه آخر، هَل يشْتَرط أَن يكون فِيمَا قبل الْفِعْل بأوقات [لطف] ومصلحة زَائِدَة على التَّبْلِيغ من الْمبلغ وَالْقَبُول من الْمُخَاطب أم لَا؟) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1174 وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (الْأَكْثَر قَالَ بأوقات كَثِيرَة، وَبَعْضهمْ: بِوَقْت وَاحِد، وَبَعْضهمْ علق تَقْدِيمه بأوقات على الْمصلحَة، وعلق بَعضهم جَوَاز تقدمه بأوقات: أَن يكون فِي تِلْكَ الْأَوْقَات كلهَا تتكامل شُرُوط التَّكْلِيف من الْعَمَل وَالصِّحَّة والسلامة) انْتهى. تَنْبِيه: هَذِه الْمَسْأَلَة وَالْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا ذكر ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي صفة الْخلاف طَرِيقين فَقَالَ: (يجوز التَّكْلِيف بِالْفِعْلِ قبل حُدُوثه خلافًا لشذوذ، وَيمْتَنع بعد حُدُوثه، وَاخْتلف فِي جَوَاز تعلق التَّكْلِيف بِهِ فِي أول زمَان حُدُوثه، وَقيل: الْخلاف فِي دوَام التَّكْلِيف إِلَى حَال حُدُوثه فَقَط، فيدوم عِنْد الْأَكْثَر، وَعند الْمُعْتَزلَة: يَنْقَطِع تعلق الْأَمر بِالدُّخُولِ فِي الملابسة، لانْتِفَاء الْعَدَم الَّذِي هُوَ زمن التَّعَلُّق، وَعند الْجُمْهُور: يسْتَمر التَّعَلُّق من فرَاغ الملابسة، وَفِي حَال الملابسة، قَولَانِ) . وَذكر قبل ذَلِك: أَن الْأَمر بالموجود بَاطِل، قَالَ: (وَصَححهُ شَيخنَا) . فَذكر الْمَسْأَلَتَيْنِ كَمَا ذكر فِي الْمَتْن، وَكَذَلِكَ ذكرهمَا فِي " المسودة ". قَوْله: {تَنْبِيه: يشْتَرط علم الْمُكَلف [بِكَوْنِهِ مَعْلُوم الْحَقِيقَة، ومأمورا بِهِ، و] من الله تَعَالَى، وَلَا يَكْفِي مُجَرّد الْفِعْل} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1175 يشْتَرط فِي الْمُكَلف بِهِ: أَن يكون مَعْلُوم الْحَقِيقَة للمكلف، فَيعلم حَقِيقَته، وَإِلَّا لم يتَوَجَّه قَصده إِلَيْهِ، لعدم تصور قصد مَا لَا يعلم حَقِيقَته، وَإِذا لم يتَوَجَّه قَصده إِلَيْهِ لم يَصح وجوده مِنْهُ، لِأَن توجه الْقَصْد إِلَى الْفِعْل من لَوَازِم إيجاده، فَإِذا انْتَفَى اللَّازِم - وَهُوَ الْقَصْد - انْتَفَى الْمَلْزُوم، وَهُوَ الإيجاد. وَمن شَرطه - أَيْضا - أَن يعلم الْمُكَلف أَنه مَأْمُور بِهِ، وَإِلَّا لم يتَصَوَّر مِنْهُ قصد الطَّاعَة والامتثال بِفِعْلِهِ، وَلِهَذَا لَا يَكْفِي مُجَرّد الْفِعْل لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ "، وَلِهَذَا قَالَ بَعضهم: (من منع تَكْلِيف الْمحَال، لم يجوز تَكْلِيف غافل. وَنقض: بِوُجُوب الْمعرفَة. ورد: باستثنائه) . قَالَ: (وَفِيه نظر) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1176 5 - (قَوْله: {فصل} ) { [الْمَحْكُوم عَلَيْهِ] : [الْآدَمِيّ] } . تقدم أَحْكَام الْمَحْكُوم بِهِ، وَأَحْكَام الْمَحْكُوم فِيهِ، وَهِي الْأَفْعَال، وَالْكَلَام الْآن على الْمَحْكُوم عَلَيْهِ، وَهُوَ: الْآدَمِيّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1177 { [فَيشْتَرط فِيهِ] : [الْعقل، و] فهم الْخطاب، عِنْد الْعلمَاء} . وَذكره الْآمِدِيّ اتِّفَاق الْعُقَلَاء. فَلَا بُد مِنْهُمَا جَمِيعًا، إِذْ لَا يلْزم من الْعقل الْفَهم، لجَوَاز أَن يكون عَاقِلا لَا يفهم: كَالصَّبِيِّ، وَالنَّاسِي، والسكران، والمغمى عَلَيْهِ، [فَإِنَّهُم] فِي حكم الْعُقَلَاء مُطلقًا، أَو من بعض الْوُجُوه، و [هم لَا يفهمون] ، وَذَلِكَ لِأَن التَّكْلِيف خطاب، وخطاب من لَا عقل لَهُ وَلَا فهم محَال: كالجماد، والبهيمة، وَأَن الْمُكَلف بِهِ مَطْلُوب حُصُوله من الْمُكَلف، طَاعَة وامتثالا، لِأَنَّهُ مَأْمُور، والمأمور يجب أَن يقْصد إِيقَاع الْمَأْمُور بِهِ على سَبِيل الطَّاعَة والامتثال، وَالْقَصْد إِلَى ذَلِك إِنَّمَا يتَصَوَّر بعد الْفَهم، [لِأَن من] لَا يفهم لَا يُقَال لَهُ: افهم، وَلَا يُقَال لمن لَا يسمع: اسْمَع، وَلمن لَا يبصر: أبْصر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1178 وَذكر بعض الْعلمَاء: أَن بعض من جوز المستحيل قَالَ بِهِ، لعدم الِابْتِلَاء، وَهُوَ قَول شَاذ، سَاقِط، لَا يعْتد بِهِ وَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ. { [فعولى الأول: لَا] يُكَلف مراهق} على الصَّحِيح من الْمَذْهَب، لِأَنَّهُ لم يكمل فهمه فِيمَا يتَعَلَّق بِالْمَقْصُودِ، فنصب الشَّارِع لَهُ عَلامَة ظَاهِرَة، وَهُوَ الْبلُوغ، فَجعله أَمارَة لظُهُور الْعقل وكماله لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة: النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَعَن الصَّبِي حَتَّى يكبر "، وَفِي رِوَايَة: " يَحْتَلِم "، وَفِي رِوَايَة: " حَتَّى يبلغ "، " وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يعقل ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1179 وَلِأَن غير الْبَالِغ ضَعِيف الْعقل والبنية، وَلَا بُد من ضَابِط يضْبط الْحَد الَّذِي تتكامل فِيهِ بنيته وعقله، فَإِنَّهُ يتزايد تزايدا خَفِي التدريج، فَلَا يعلم بِنَفسِهِ، وَالْبُلُوغ ضَابِط لذَلِك، وَلِهَذَا يتَعَلَّق بِهِ أَكثر الْأَحْكَام، فَكَذَلِك الصَّلَاة. { [وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة: (يُكَلف الْمُرَاهق] . اخْتَارَهُ ابْن عقيل} فِي " مناظرته "، واختارها أَبُو الْحسن التَّمِيمِي، نَقله عَنهُ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه "، لَكِن فِي الصَّلَاة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1180 وَعنهُ رِوَايَة ثَالِثَة: (يُكَلف ابْن عشر) أَيْضا. اخْتَارَهُ أَبُو بكر، حَكَاهُ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة " عَنهُ، لَكِن فِي الصَّلَاة لَا غير. {وَعنهُ} رِوَايَة رَابِعَة: (يُكَلف { [مُمَيّز] ) } أَيْضا. ذكرهَا الْمُوفق وَغَيره، واختارها أَبُو بكر، وَصَاحب " الْإِرْشَاد "، لَكِن فِي الصَّوْم لَا غير. فَأخذ الْأَصْحَاب رِوَايَة تَكْلِيف الْمُرَاهق من قَول الإِمَام أَحْمد فِي ابْن أَربع عشرَة: (إِذا ترك الصَّلَاة قتل) . وَدَلِيل وُجُوبهَا على ابْن عشر قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مروا الصَّبِي بِالصَّلَاةِ لسبع سِنِين، واضربوه عَلَيْهَا لعشر، وَفرقُوا بَينهم فِي الْمضَاجِع " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، أَمر بالعقوبة، وَلَا تشرع الْعقُوبَة إِلَّا لترك وَاجِب، لِأَن حد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1181 الْوَاجِب مَا عُوقِبَ على تَركه، وَالْأول: الصَّحِيح، للْحَدِيث الْمُتَقَدّم، وَالضَّرْب إِنَّمَا هُوَ للتمرين ليعتادها. قَوْله: {وَوُجُوب زَكَاة، وَنَفَقَة، وَضَمان، من ربط الحكم بِالسَّبَبِ} . أَعنِي: على القَوْل الصَّحِيح: أَنه غير مُكَلّف، فوجوب هَذِه الْأَشْيَاء عَلَيْهِ من ربط الْأَحْكَام بالأسباب، لتعلقها بِمَالِه، أَو ذمَّته الإنسانية الَّتِي بهَا يستعد لقُوَّة الْفَهم فِي ثَانِي الْحَال: كَالْمَجْنُونِ، بِخِلَاف الْبَهِيمَة. قَالَ ابْن مُفْلِح - بعد هَذَا -: (وَبِمَا سبق يُجَاب عَن طَلَاقه إِن صَحَّ، وَهُوَ الْأَشْهر عَن أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه) ، وَكَذَلِكَ ظِهَاره، وَذَلِكَ: أَنه من بَاب ربط الْأَحْكَام بالأسباب، وَيكون من خطاب الْوَضع. قَالَ: (وَظهر أَن تَخْرِيج بَعضهم لَهُ على تَكْلِيفه ضَعِيف، وَمثله نَظَائِره) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1182 وَمرَاده بِالْبَعْضِ: الطوفي فِي " مُخْتَصر الرَّوْضَة "، وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْن مُفْلِح، فَإِن الصَّحِيح: أَنه غير مُكَلّف، وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب: أَنه يَصح طَلَاقه، فَلَيْسَ بمخرج عَلَيْهِ. قَوْله: {ويكلف سَكرَان يُمَيّز قطعا} . إِن ميز السَّكْرَان بَين الْأَعْيَان، فَحكمه حكم سَائِر الْعُقَلَاء، بِلَا نزاع، لِأَنَّهُ عَاقل يفهم، مُكَلّف كَغَيْرِهِ من الْعُقَلَاء. قَوْله: {وَكَذَا من لَا يُمَيّز عِنْد أَحْمد، [وَأكْثر أَصْحَابه، وَأبي حنيفَة، وَالشَّافِعِيّ] } . إِذا كَانَ لَا يُمَيّز بَين الْأَعْيَان، أَو يخلط فِي كَلَامه وقراءته، فَهَذَا مَحل الْخلاف، وَسَيَأْتِي تحريره. وَالصَّحِيح من مَذْهَب الإِمَام أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، القَاضِي، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1183 وَغَيره، وَالشَّافِعِيّ، وَالْحَنَفِيَّة: أَنه مُكَلّف. قَالَ ابْن برهَان: (مَذْهَب الْفُقَهَاء قاطبة أَنه مُخَاطب) . وَقد قَالَ الإِمَام أَحْمد فِي رِوَايَة عبد الله: (السكر لَيْسَ بمرفوع عَنهُ الْقَلَم) . وَفِي رِوَايَة أبي بكر ابْن هاني: (السَّكْرَان لَيْسَ بمرفوع عَنهُ الْقَلَم، فَيسْقط عَنهُ مَا صنع) . وَفِي رِوَايَة حَنْبَل: (لَيْسَ السَّكْرَان بِمَنْزِلَة الْمَجْنُون الْمَرْفُوع عَنهُ الْقَلَم، هَذَا جِنَايَته من نَفسه) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1184 وَحكى الإِمَام أَحْمد عَن الإِمَام الشَّافِعِي أَنه كَانَ يَقُول: (وجدت السَّكْرَان لَيْسَ بمرفوع عَنهُ الْقَلَم) . وَنَصّ عَلَيْهِ فِي " الْأُم " أَيْضا. وَعَن أَحْمد فِي أَقْوَاله وأفعاله رِوَايَات: إِحْدَاهمَا: أَنه كالصاحي، وَهَذَا الصَّحِيح من الْمَذْهَب. وَالثَّانيَِة: أَنه كَالْمَجْنُونِ. وَالثَّالِثَة: كَالْمَجْنُونِ فِي أَقْوَاله، وكالصاحي فِي أَفعاله. وَالرَّابِعَة: فِي الْحُدُود كالصاحي، وَفِي غَيرهَا كَالْمَجْنُونِ. قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة الْمَيْمُونِيّ: (تلْزم الْحُدُود وَلَا تلْزم الْحُقُوق) ، وَاخْتَارَهُ أَبُو بكر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1185 وَالْخَامِسَة: أَنه فِيمَا يسْتَقلّ بِهِ - كقتله، وعتقه، وَنَحْوهمَا - كالصاحي، وَفِيمَا لَا يسْتَقلّ بِهِ - كَبَيْعِهِ، وشرائه، ومعاوضاته - كَالْمَجْنُونِ، حَكَاهَا ابْن حَامِد، وَأَوْمَأَ إِلَيْهَا فِي رِوَايَة البرزاطي، فَقَالَ: (لَا أَقُول فِي طَلَاقه شَيْئا) ، قيل لَهُ: (فبيعه وشراؤه؟) ، فَقَالَ: (أما بَيْعه وشراؤه فَغير جَائِز) . قَالَ الزَّرْكَشِيّ: (قلت: وَنقل عَنهُ ابْن هَانِيء مَا يحْتَمل عكس الرِّوَايَة الْخَامِسَة فَقَالَ: لَا أَقُول فِي طَلَاق السَّكْرَان وعتقه شَيْئا، وَلَكِن بَيْعه وشراؤه جَائِز) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1186 وَعنهُ سابعة: لَا تصح ردته فَقَط. أما الْعِبَادَة؛ فيقضيها إِذا أَفَاق، عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، {وَخَالف} أَبُو ثَوْر، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين. وَقَالَ {ابْن عقيل، والموفق} فِي الرَّوْضَة، {والطوفي، وَأكْثر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1187 الْمُتَكَلِّمين} : لَيْسَ بمكلف، لعدم تحرزه من المضار وقصده للْفِعْل بلطف ومداراة، بِخِلَاف طِفْل، وَمَجْنُون، وبهيمة، فَهُوَ أولى. وَقَالَ ابْن عقيل: (تحصل الغرامة، وَالْقَضَاء بالغرامات، بِأَمْر مُبْتَدأ) . ورده ابْن مُفْلِح، وَقَالَ: (فَيلْزمهُ لَا غرم لَو لم يعقل) . وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة ": (هُوَ غير مُكَلّف) ، وَاخْتلف كَلَامه فِي " الْمُغنِي ". وَخرج بعض أَصْحَابنَا فِي إثمه رِوَايَتَيْنِ. وَجزم الْآمِدِيّ وَغَيره بِعَدَمِ تَكْلِيفه، لِأَن الْإِتْيَان بِالْفِعْلِ الْمعِين، على وَجه الِامْتِثَال، يتَوَقَّف على الْعلم بِالْأَمر بِالْفِعْلِ الْمَأْمُور بِهِ، لِأَن الِامْتِثَال: عبارَة عَن قصد إِيقَاع الْمَأْمُور بِهِ على وَجه الطَّاعَة، وَيلْزم من ذَلِك علم الْمَأْمُور بتوجه الْأَمر نَحوه، وبالفعل، فَهُوَ مُسْتَحِيل عقلا فِيهِ لعدم الْفَهم حَال كَونه كَذَلِك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1188 فَائِدَة: فِي حد السَّكْرَان الَّذِي وَقع فِيهِ الْخلاف: قَالَ القَاضِي وَغَيره: (هُوَ الَّذِي يخلط فِي كَلَامه وقراءته، وَيسْقط تَمْيِيزه بَين الْأَعْيَان، وَلَا يشْتَرط فِيهِ أَن يكون بِحَيْثُ لَا يُمَيّز بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، وَبَين الذّكر وَالْأُنْثَى. وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد فِي رِوَايَة حَنْبَل، قَالَ: (هُوَ إِذا وضع ثِيَابه فِي ثِيَاب غَيره فَلم يعرفهَا، 4 أَو وضع نَعله فِي نعَالهمْ فَلم يعرفهُ، وَإِذا هذى فَأكْثر كَلَامه، وَكَانَ مَعْرُوفا بِغَيْر ذَلِك) . وَضَبطه بَعضهم: (بِأَنَّهُ الَّذِي يخْتل فِي كَلَامه المنظوم، ويبيح بسره المكتوم) انْتهى. اسْتدلَّ لِلْقَوْلِ الأول: بقوله تَعَالَى: {لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى} [النِّسَاء: 43] ، وتأويله بِأَن المُرَاد: مثل: لَا تمت وَأَنت ظَالِم، أَو: مبدأ النشاط والطرب، خلاف الظَّاهِر. قَالَ جمَاعَة: احْتج من قَالَ بتكليف السَّكْرَان بِالْآيَةِ، بِأَن المُرَاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1189 الطافح، بِدَلِيل: {حَتَّى تعلمُوا مَا تَقولُونَ} ، فقد وَجه [إِلَيْهِ] النَّهْي فِي حَال سكره. ونوزعوا فِي الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور بِاحْتِمَال أَن يكون ذَلِك من خطاب الْوَضع، بِمَعْنى أَن صلَاته فِي سكره ممتنعة، أَي: بَاطِلَة، أَو أَن المُرَاد النَّهْي عَن السكر عِنْد إِرَادَة الصَّلَاة، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ} [الْبَقَرَة: 132] ، وكما يُقَال: لَا تمت وَأَنْتُم ظَالِم، أَي: لَا تظلم فيؤول بك الْأَمر إِلَى الْمَوْت فِي حَال الظُّلم، وَأَن المُرَاد بالسكر هُنَا: أَن يكون ثملا حَاضر الوعي. وَقد قَالَ ابْن الْحَاجِب وَغَيره: (إِن الْآيَة يجب تَأْوِيلهَا على أحد هذَيْن الْأَمريْنِ، الْأَخيرينِ) . وَلَكِن الْكل سَاقِط أما الأول؛ فَلِأَنَّهُ لَو كَانَ من خطاب الْوَضع لم يَأْثَم، وَالْفَرْض أَنه آثم. وَالثَّانِي، فَمثل ذَلِك مجَاز لَا يعدل إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد تعذر الْحَقِيقَة، أَو قيام دَلِيل على إِرَادَته وَلَا مَانع من الْحَقِيقَة، فَوَجَبَ الْمصير للْحَمْل عَلَيْهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1190 وَأما الثَّالِث، فَلِأَنَّهُ يلْزم أَن من بِهِ مباديء النشاة وَله تَمْيِيز تحرم عَلَيْهِ الصَّلَاة، وَهُوَ بَاطِل، على أَن لفظ الثمل لَيْسَ هُوَ كَمَا [فهم] من حملهَا على النشوان الَّذِي فِيهِ أَوَائِل الطَّرب، فَإِنَّهُ خلاف قَول أهل اللُّغَة إِن الثمل: هُوَ الطافح، وَلذَلِك جَاءَ فِي حَدِيث حَمْزَة: " فَعرف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه ثمل ". لَكِن فِي تَكْلِيفه إِشْكَال، من حَيْثُ إِنَّه يلْزم أَن يكون مُكَلّفا بالعبادات كلهَا، وَمِنْهَا الصَّلَاة، ومكلفا بِأَن لَا يُصَلِّي لهَذِهِ الْآيَة، وهما متنافيان. وَيُمكن الْجَواب: بِأَنَّهُ مَنْهِيّ عَن قرْبَان الصَّلَاة وَهُوَ سَكرَان، ثمَّ يزِيل السكر وَيُصلي، كَمَا يُؤمر من هُوَ مُحدث بِإِزَالَة الْحَدث وَيُصلي، مَعَ أَنه مَنْهِيّ عَن الصَّلَاة حَال [حَدثهُ] ، فَهُوَ مَأْمُور مَنْهِيّ باعتبارين، فَإِن كَانَ إِزَالَته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1191 لَيست مقدورة لَهُ، فَهُوَ معاقب تَغْلِيظًا عَلَيْهِ، لِأَن التَّفْرِيع على كَونه لَيْسَ عَاقِلا، وَأَنه تعلق بِهِ الْخطاب، غَايَته - هُنَا - أَن يكون مُكَلّفا بِمَا لَا يطيقه، فَهُوَ من جَوَاز التَّكْلِيف بالمحال، وَالله أعلم. وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ على تَكْلِيفه: أَن النَّص لم يذكرهُ فِي جملَة من رفع عَنهُ الْقَلَم. وَقَالَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: (إِذا سكر هذى، وَإِذا هذى افترى، وعَلى المفتري ثَمَانُون جلدَة) إِسْنَاده جيد، رَوَاهُ مَالك وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَجمع عمر أَصْحَابه - رَضِي الله عَنْهُم - فاستشارهم، فَقَالَ عَليّ: (إِذا سكر افترى) رَوَاهُ أَحْمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1192 فارغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1193 وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: (وُقُوع طَلَاقه من بَاب ربط الْأَحْكَام بالأسباب) . قَوْله: {كمعذور بِهِ، [أَو مغمى عَلَيْهِ] وآكل بنج، نصا، ونائم، وناس، وَفِي " الْمقنع ": ومخط، فِي الْأَصَح فِيهِنَّ} . ذكرنَا فِي هَذِه الْجُمْلَة مسَائِل لَا يُكَلف صَاحبهَا على الْأَصَح من الْمَذْهَب. إِحْدَاهَا: الْمَعْذُور بالسكر - كالمكره عَلَيْهِ - هَل يُكَلف أم لَا؟ فِيهِ خلاف، وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب: أَن حكمه حكم الْمغمى عَلَيْهِ وَالْمَجْنُون فِي تَكْلِيفه وَعَدَمه، على مَا يَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ. قَالَ ابْن مُفْلِح: (فَدلَّ: أَن السكر لَا يزِيل الْعقل، لكنه يغطيه: كالنوم وَالْإِغْمَاء، وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة وَغَيرهم، وَفِي كَلَام أَصْحَابنَا مَا يدل على خلاف ذَلِك) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1194 وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى فِي " الْجَامِع الْكَبِير " فِي كتاب الطَّلَاق: (فَأَما إِن أكره على شربهَا، احْتمل أَن يكون حكمه حكم الْمُخْتَار، لما فِيهِ من اللَّذَّة، وَاحْتمل أَن لَا يكون حكمه حكم الْمُخْتَار لسُقُوط المأثم عَنهُ وَالْحَد. قَالَ: وَإِنَّمَا يخرج هَذَا على الرِّوَايَة الَّتِي تَقول: إِن الْإِكْرَاه يُؤثر فِي شربهَا، فَأَما إِن قُلْنَا: إِن الْإِكْرَاه لَا يُؤثر فِي شربهَا فَحكمه حكم الْمُخْتَار) انْتهى. الثَّانِيَة: الْمغمى عَلَيْهِ، وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب: أَنه غير مُكَلّف حَال إغمائه، بل هُوَ أولى من السَّكْرَان الْمُكْره فِي عدم التَّكْلِيف، وَنَصّ عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد. وَقيل: مُكَلّف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1195 فالمغمى عَلَيْهِ فرع مُتَرَدّد بَين النَّائِم وَالْمَجْنُون، فبالنظر إِلَى كَون عقله لم يزل، بل ستره الْإِغْمَاء فَهُوَ كالنائم، وَلِهَذَا قيل: بِأَنَّهُ إِذا شم البنج أَفَاق، وبالنظر إِلَى كَونه إِذا نبه لم ينتبه يشبه الْمَجْنُون، وَلِهَذَا اخْتلف فِي الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بِهِ، وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب: أَنه مُلْحق فِي الْأَحْكَام بالنائم. وَفِيه أَحْكَام كَثِيرَة ذكرهَا فِي " قَوَاعِد الْأُصُول ". الثَّالِثَة: آكل البنج، وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب: إِن أكله لغيره حَاجَة - إِذا زَالَ الْعقل - كَالْمَجْنُونِ، وَلَا يَقع طَلَاق من تنَاوله، وَنَصّ عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، لِأَنَّهُ لَا لَذَّة فِيهِ، وَفرق الإِمَام أَحْمد بَين آكله وَبَين شَارِب الْخمر، فألحقه بالمجنون. وَعنهُ: هُوَ كَالسَّكْرَانِ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1196 قَالَ: (لِأَنَّهُ قصد إِزَالَة الْعقل بِسَبَب محرم) . وَقَالَ القَاضِي فِي " الْجَامِع الْكَبِير ": (إِن زل عقله بالبنج نظرت، فَإِن تداوى بِهِ فَهُوَ مَعْذُور، وَيكون الحكم فِيهِ كَالْمَجْنُونِ، وَإِن تنَاول مَا يزِيل عقله لغير حَاجَة كَانَ حكمه كَالسَّكْرَانِ) . وَالرَّابِعَة، وَالْخَامِسَة: النَّائِم وَالنَّاسِي، وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب: أَنَّهُمَا غير مكلفين حَال النّوم وَالنِّسْيَان؛ [لِأَن] الْإِتْيَان بِالْفِعْلِ الْمعِين على وَجه الِامْتِثَال يتَوَقَّف على الْعلم بِالْفِعْلِ الْمَأْمُور بِهِ، لِأَن الِامْتِثَال: عبارَة عَن قصد إِيقَاع الْمَأْمُور بِهِ على وَجه الطَّاعَة، وَيلْزم من ذَلِك علم الْمَأْمُور بتوجه الْأَمر نَحوه وبالفعل، فَهُوَ مُسْتَحِيل عقلا لعدم الْفَهم، كَمَا تقدم فِي السَّكْرَان، بِدَلِيل عدم تحرزهم من المضار وَقصد الْفِعْل بلطف ومداراة، بِخِلَاف الطِّفْل وَالْمَجْنُون، فَإِنَّهُمَا يفهمان ويقصدان الْفِعْل عِنْد التلطف بهما، ويحترزان من المضار، بل والبهيمة كَذَلِك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1197 ويخص النَّائِم وَالنَّاسِي لقَوْل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رفع الْقَلَم عَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ "، و " رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1198 وَألْحق ابْن حمدَان فِي " مقنعه " المخطيء بهما، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقد نَص عَلَيْهِ صَاحب الشَّرِيعَة - صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ - وَقَوله تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم بِهِ وَلَكِن مَا تَعَمّدت قُلُوبكُمْ} [الْأَحْزَاب: 5] ، وَهُوَ معنى الحَدِيث، والْحَدِيث فِيهِ ضعف. فَقَالَ فِي " الْمقنع ": (المخطيء غير مُكَلّف بِمَا هُوَ مخط فِيهِ. ثمَّ قَالَ: قلت: فالنائم والمغمى عَلَيْهِ أَسْوَأ حَالا من المخطيء، فَلَا يكلفان، وَالْقَضَاء إِن وَجب فبخطاب وضع وإخبار، لوُجُود سَببه فِي حَقّهمَا، وَهُوَ الْأَهْلِيَّة الْقَرِيبَة حصولا، حَقِيقَة، لَا بِأَمْر أول أَو ثَان) . فَائِدَة: المخطيء: اسْم فَاعل من أَخطَأ يخطيء إخطاء خلاف الْعمد، وَاسم الْمصدر: الْخَطَأ - بِفَتْح الْخَاء والطاء -، وَأما خطيء - بِكَسْر الطَّاء - يخطأ بِفَتْحِهَا، بِوَزْن علم يعلم - فَمَعْنَاه: أَثم، والمصدر: الخطء - بِكَسْر الْخَاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1199 وَسُكُون الطَّاء -، قَالَ الله تَعَالَى: {إِن قَتلهمْ كَانَ خطئا كَبِيرا} [الْإِسْرَاء: 31] ، أَي: إِثْمًا، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتغْفر لنا ذنوبها إِنَّا كُنَّا خاطئين} [يُوسُف: 97] ، وَقد يُطلق الخاطيء بِمَعْنى المخطيء. قَوْله: {وَالْمكْره الْمَحْمُول كالآلة غير مُكَلّف، عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر} . وَهُوَ مِمَّا لَا يُطَاق. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (إِذا انْتهى الْإِكْرَاه إِلَى سلب الْقُدْرَة وَالِاخْتِيَار، فَهَذَا غير مُكَلّف إِجْمَاعًا) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1200 وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: مُكَلّف، حَكَاهُ عَنْهُم ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1201 {وَلنَا وَجه: [أَنه إِذا حلف: لَا يفعل كَذَا، فأكره على فعله حَتَّى بَقِي كالآلة، فَإِنَّهُ يَحْنَث] } ، وَحكي رِوَايَة عَن أَحْمد. قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَذكر بعض أَصْحَابنَا وَجها، وَبَعْضهمْ رِوَايَة فِي الْيَمين: يَحْنَث) . وَحكى الطوفي فِي " مُخْتَصره " عَن الْأَصْحَاب: أَنه مُكَلّف مُطلقًا كالحنفية. قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَهُوَ سَهْو) ، وَهُوَ كَمَا قَالَ. وحكاية ابْن قَاضِي الْجَبَل الْإِجْمَاع فِيهِ نظر أَيْضا، إِلَّا أَن يُرِيد أَنه غير مأثوم، فَمُسلم. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (الْمُكْره كالآلة يمْتَنع تَكْلِيفه، قيل: بِاتِّفَاق، لَكِن الْآمِدِيّ أَشَارَ إِلَى أَن تطرقه الْخلاف من التَّكْلِيف بالمحال، لتصور الِابْتِلَاء مِنْهُ، بِخِلَاف الغافل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1202 وَفِي مَذْهَبنَا وَجه أَن الصَّائِم إِذا أوجر مكْرها يفْطر، لَكِن لَيْسَ لكَونه مُكَلّفا، بل لِأَن الْفطر عِنْده: مَا يصل إِلَى الْجوف مُطلقًا، فَيرجع إِلَى خطاب الْوَضع، فَلَا تَكْلِيف بِفعل الملجأ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِب الْوُقُوع، وَلَا بِتَرْكِهِ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَنع) . قَوْله: {وبالتهديد وَالضَّرْب مُكَلّف عندنَا وَعند الْأَكْثَر خلافًا للمعتزلة والطوفي} . وَالْمذهب: الأول - وَهُوَ مَذْهَب أَكثر الْعلمَاء، مِنْهُم: الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم - لصِحَّة الْفِعْل مِنْهُ وَتَركه، وَنسبَة الْفِعْل إِلَيْهِ حَقِيقَة، وَلِهَذَا يَأْثَم الْمُكْره بِالْقَتْلِ بِلَا خلاف، قَالَه الْمُوفق فِي " الْمُغنِي "، مَعَ أَنه علل أحد الْقَوْلَيْنِ لنا وللشافعية فِيمَا إِذا علق طَلَاقا بقدوم زيد، فَقدم مكْرها: لَا يَحْنَث، لزوَال اخْتِيَاره بِالْإِكْرَاهِ. وَذَهَبت الْمُعْتَزلَة والطوفي - من أَصْحَابنَا - إِلَى أَنه غير مُكَلّف. فَقَالَ فِي " مُخْتَصره ": (وَالْعدْل الظَّاهِر الشَّرْعِيّ، يَقْتَضِي عدم تَكْلِيفه) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1203 وَقَالَ قبل ذَلِك فِي بِنَاء الْمَسْأَلَة: (وَالْحق: أَن الْخلاف فِيهِ مَبْنِيّ على خلق الْأَفْعَال، وَمن رَآهَا خلق الله قَالَ بتكليف الْمُكْره، إِذْ جَمِيع الْأَفْعَال وَاجِبَة بِفعل الله تَعَالَى، فالتكليف بإيجاد الْمَأْمُور بِهِ مِنْهَا، وَترك الْمنْهِي، غير مَقْدُور، وَهَذَا أبلغ، وَمن لَا فَلَا) انْتهى. قَالَت الْمُعْتَزلَة: (لَا يجوز تَكْلِيفه بِعبَادة، لِأَن من أصلهم وجوب إثابة الْمُكَلف، والمحمول على الشَّيْء لَا يُثَاب عَلَيْهِ) . وَأطلق جمَاعَة عَنْهُم: لَا يُكَلف، وألزمهم الباقلاني: الْإِكْرَاه على الْقَتْل. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: (وَهِي هفوة عَظِيمَة؛ لأَنهم لم يمنعوا النَّهْي عَن الشَّيْء مَعَ الْإِكْرَاه، بل الِاضْطِرَار إِلَى فعل شَيْء مَعَ الْأَمر بِهِ) . فَمحل الْخلاف فِي التَّكْلِيف بِعَين الْمُكْره عَلَيْهِ، وَتَحْرِيم الْقَتْل تَكْلِيف بِتَرْكِهِ. وَفِي كَلَام أبي الْمَعَالِي نظر، لِأَن القَاضِي إِنَّمَا رد عَلَيْهِم بذلك، لِأَن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1204 الْقُدْرَة عِنْدهم شَرط فِي تَكْلِيفه، وَلَا تتَحَقَّق إِلَّا بِأَن يقدر على الشَّيْء وضده عِنْدهم أَيْضا، فتحريم الْقَتْل الَّذِي أكره عَلَيْهِ دَلِيل على أَنه قَادر، فَلَا وَجه لمنعهم التَّكْلِيف بِعَين الْمُكْره عَلَيْهِ مُطلقًا، هَذَا كُله معنى كَلَام ابْن التلمساني. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَأما الْمُكْره غير الملجأ فَلَا يمْتَنع تَكْلِيفه، وَمُقَابِله ينْقل عَن الْحَنَفِيَّة، وَرُبمَا نقل عَن الْمُعْتَزلَة، لَكِن الأثبت فِي النَّقْل عَنْهُم، كَمَا قَالَ ابْن التلمساني، أَنه يمْتَنع التَّكْلِيف بِفعل الْمُكْره، لاشْتِرَاط كَون الْمَأْمُور بِهِ بِحَيْثُ يُثَاب عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يُثَاب هُنَا، لِأَنَّهُ يَأْتِي بِهِ لداعي الْإِكْرَاه لَا لداعي الشَّرْع، وَلَا يمْتَنع التَّكْلِيف بِتَرْكِهِ، فَإِنَّهُ إِذا ترك كَانَ أبلغ فِي إِجَابَة دَاعِي الشَّرْع) . تَنْبِيه: هَذِه الْمَسْأَلَة مُخْتَلفَة الحكم فِي الْفُرُوع فِي الْمَذْهَب، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَقْوَال، وَالْأَفْعَال، فِي حق الله وَحقّ العَبْد، على مَا لَا يخفى، وَالْأَشْهر عندنَا: نَفْيه فِي حق الله تَعَالَى، وثبوته فِي حق العَبْد. وَضَابِط الْمَذْهَب - أَيْضا -: أَن الْإِكْرَاه لَا يُبِيح [الْأَفْعَال، وَإِنَّمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1205 يُبِيح] الْأَقْوَال، وَإِن اخْتلف فِي بعض الْأَفْعَال، وَاخْتلف التَّرْجِيح. وَلِصَاحِب الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة مسَائِل فِي ذَلِك كَثِيرَة، مُخْتَلفَة الْأَحْكَام. قَوْله: {ويبيح الْإِكْرَاه مَا قبح ابْتِدَاء، خلافًا للمعتزلة} . بِنَاء مِنْهُم على التحسين والتقبيح العقليين، وَقد مضى الْكَلَام فِي ذَلِك بِمَا فِيهِ مقنع. وَاسْتدلَّ الْجَمَاعَة لذَلِك: بِإِبَاحَة كلمة الْكفْر بِالْإِكْرَاهِ بِالْآيَةِ، وبالإجماع، وَفِيهِمَا كِفَايَة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1206 قَوْله: {وَالْمكْره بِحَق مُكَلّف، عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} . وَقد ذكر الْفُقَهَاء فِي الْأَحْكَام من البيع وَغَيره، وَمن ذَلِك إِكْرَاه الْحَرْبِيّ وَالْمُرْتَدّ على الْإِسْلَام، فَإِنَّهُ يَصح مِنْهُمَا، وهما مكلفان بذلك، وإكراه الْحَاكِم الْمَدْيُون بِالْوَفَاءِ مَعَ الْقُدْرَة، وَنَحْو ذَلِك من الْأَحْكَام. {فَائِدَة [تتَعَلَّق بهَا] :} قَالَ الإِمَام {أَحْمد و [أَكثر الْعلمَاء] : (لَا يجب على الله [تَعَالَى] شَيْء) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1207 قَالَ ابْن عقيل [وَغَيره] : (لَا عقلا وَلَا شرعا) . وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وَجمع [من] أَصْحَابنَا وَغَيرهم: (يجب عَلَيْهِ شرعا بفضله وَكَرمه) ، وَحكي عَن أهل السّنة. قَالَ الشَّيْخ [تَقِيّ الدّين] : (أَكثر النَّاس يثبت استحقاقا زَائِدا على مُجَرّد الْوَعْد) . وَعند الْمُعْتَزلَة: يجب عَلَيْهِ رِعَايَة الْأَصْلَح} . وَجه تعلق هَذِه الْمَسْأَلَة بِمَسْأَلَة الْإِكْرَاه: أَن الله تَعَالَى توعد العَاصِي، وتارك الْوَاجِب عَلَيْهِ من الْعِبَادَات وَغَيرهَا بالعقوبة، ووعد الْمُطِيع، وفاعل الْوَاجِب عَلَيْهِ من الْعِبَادَات وَغَيرهَا بالثواب، وَكَذَلِكَ فَاعل المستحبات، فَلَا يُقَال: [إِن من يتوعده] تَعَالَى يكون الْفَاعِل مكْرها كَمَا لَو أكرهه أحد من النَّاس على ذَلِك، هَذَا مَا ظهر لي من ذَلِك، فَإِن ابْن مُفْلِح أَدخل هَذِه الْمَسْأَلَة فِي مَسْأَلَة الْمُكْره. إِذا علم ذَلِك: فَأكْثر أهل السّنة قَالُوا: لَا يجب على الله تَعَالَى شَيْء، مِنْهُم: الإِمَام أَحْمد، وَغَيره من الْأَئِمَّة وأتباعهم، بل يثيب الْمُطِيع بفضله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1208 وَرَحمته وَكَرمه، حَتَّى قَالَ ابْن عقيل وَغَيره من الْعلمَاء: (لَا يجب على الله [شَيْء] لَا عقلا وَلَا شرعا) . قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَمعنى كَلَام جمَاعَة من أَصْحَابنَا: أَنه يجب عَلَيْهِ شرعا بفضله وَكَرمه، وَلِهَذَا أوجبوا إِخْرَاج الْمُوَحِّدين من النَّار بوعده) . قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَ حَقًا علينا نصر الْمُؤمنِينَ} [الرّوم: 47] : (أَي: وَاجِبا أوجبه هُوَ) . وَذكره بعض الشَّافِعِيَّة عَن أهل السّنة. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (أَكثر النَّاس يثبت استحقاقا زَائِدا على مُجَرّد الْوَعْد، لهَذِهِ الْآيَة، وَلِحَدِيث معَاذ: " أَتَدْرِي مَا حق الله على الْعباد، وَمَا حق الْعباد على الله ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1209 وَعند الْمُعْتَزلَة: يجب عَلَيْهِ رِعَايَة الْأَصْلَح، وَهِي قَاعِدَة من قواعدهم، وَلِهَذَا قَالُوا هُنَا: لَا يجوز تَكْلِيف الْمُكْره بِعبَادة، لِأَن من أصلهم: وجوب إثابة الْمُكَلف، والمحمول على الشَّيْء كرها لَا يُثَاب عَلَيْهِ. وَعِنْدنَا وَعند الْأَكْثَر: لَا يقف الْأَمر على الْمصلحَة، بل يجوز أَن يَأْمر بِمَا لَا مصلحَة فِيهِ للْمَأْمُور، وَلَكِن التَّكْلِيف إِنَّمَا وَقع على وَجه الْمصلحَة، بِنَاء على أَنه قد يَأْمر بِمَا لَا يُرِيد كَونه، وَأَنه لَا يجب عَلَيْهِ رِعَايَة الصّلاح والأصلح، وَأَنه سُبْحَانَهُ لَا يقبح مِنْهُ شَيْء، بل يفعل مَا يَشَاء. هَذَا كَلَام القَاضِي، نَقله الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَذكر مَأْخَذ الْمَسْأَلَة وَطوله فِي " المسودة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1210 (قَوْله {فصل} ) {لَا يُكَلف مَعْدُوم حَال عَدمه إِجْمَاعًا، [ويعمه] الْخطاب إِذا كلف كَغَيْرِهِ} - من صَغِير وَمَجْنُون - {عِنْد أَصْحَابنَا، والأشعرية، وَبَعض الشَّافِعِيَّة. وَقَالَت [الْمُعْتَزلَة وَجمع] ، وَحكي عَن أبي الْخطاب: لَا [يعمه] إِلَّا بِدَلِيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1211 وَقيل: يَشْمَلهُ تبعا [لموجود] . وَقيل: إعلاما لَا إلزاما} . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (يجوز تَكْلِيف الْمَعْدُوم، بِمَعْنى: أَن الْخطاب يعمه إِذا وجد أَهلا، وَلَا يحْتَاج إِلَى خطاب آخر عِنْد أَصْحَابنَا، وَحكي عَن الأشعرية، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن طَائِفَة من السّلف وَالْفُقَهَاء. فَلَيْسَ الْخلاف لفظيا كَمَا يَقُوله الْجِرْجَانِيّ الْحَنَفِيّ، وَإِنَّمَا قَول الأشعرية: يجوز تَكْلِيف الْمَعْدُوم، بِمَعْنى: تعلق الطّلب الْقَدِيم بِالْفِعْلِ من الْمَعْدُوم حَال وجوده وفهمه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1212 والمعتزلة قَالُوا هم وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَذكره بعض أَصْحَابنَا عَن أبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1213 الْخطاب: " لَا يعمه الحكم إِلَّا بِدَلِيل، نَص، أَو إِجْمَاع، أَو قِيَاس ". وَلِهَذَا قَالَ الْجِرْجَانِيّ: " الْخلاف لَفْظِي ". وللحنفية فِي عُمُوم الحكم لَهُ بِغَيْر دَلِيل، قَولَانِ. قَالَ الإِمَام أَحْمد: " لم يزل الله تَعَالَى يَأْمر بِمَا يَشَاء وَيحكم ". وَقَالَ - أَيْضا -: " لم يزل الله متكلما إِذا شَاءَ ". وَقَالَ القَاضِي: " إِذا أَرَادَ أَن يسمعنا ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1214 - وَيَأْتِي هَذَا فِي الْكَلَام على الْقُرْآن، هَل هُوَ بِحرف وَصَوت أم لَا؟ . وَقَالَ الْآمِدِيّ: " يجوز تَكْلِيف الْمَعْدُوم عندنَا، خلافًا لباقي الطوائف ". وَحكى غَيره الْمَنْع عَن الْحَنَفِيَّة والمعتزلة. وَفِي كَلَام القَاضِي أبي يعلى وَغَيره: " أَن الْمَعْدُوم مَأْمُور ". وَكَذَا ترْجم ابْن برهَان الْمَسْأَلَة: " بِأَن الْمَعْدُوم مَأْمُور مَنْهِيّ ". وزيفه أَبُو الْمَعَالِي، وَقَالَ: " بل حَقِيقَة الْمَسْأَلَة: هَل يتَصَوَّر أَمر وَلَا مَأْمُور؟ ".) انْتهى نقل ابْن مُفْلِح. وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": (الْأَمر يتَعَلَّق بالمعدوم، وأوامر الشَّرْع قد تناولت الْمَعْدُوم إِلَى قيام السَّاعَة، بِشَرْط وجوده على صفة من يَصح تَكْلِيفه، خلافًا للمعتزلة وَجَمَاعَة من الْحَنَفِيَّة) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1215 وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (الْأَمر يتَنَاوَل الْمَعْدُوم بِشَرْط وجوده، فَإِذا بلغ عَاقِلا، اشْتَمَل عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول الْحَنَابِلَة وَالشَّافِعِيَّة والأشعرية، خلافًا للمعتزلة وَالْحَنَفِيَّة) . وَقَالَت طَائِفَة: (إِن كَانَ هُنَاكَ مَوْجُود يتَنَاوَلهُ الْخطاب، دخل الْمَعْدُوم تبعا، وَإِلَّا فَلَا) . حَكَاهُ أَبُو الْخطاب. ثمَّ اخْتلفُوا، هَل يكون إعلاما أَو إلزاما؟ على قَوْلَيْنِ. وَاحْتج الباقلاني على الْخطاب بِالْإِجْمَاع. وَحكم الصَّبِي وَالْمَجْنُون فِي التَّنَاوُل بِشَرْط كَالْمَعْدُومِ، بل أولى، ذكره ابْن عقيل، والأشاعرة، وَلذَلِك قُلْنَا: (كَغَيْرِهِ) . وعَلى قِيَاسه خرجت الشُّرُوط والموانع، من نوم وسكر وإغماء وَنَحْوهَا. اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - بقوله تَعَالَى: (وأوحي إِلَيّ هَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1216 الْقُرْآن لأنذركم بِهِ وَمن بلغ} [الْأَنْعَام: 19] ، قَالَ السّلف: (من بلغه الْقُرْآن فقد أنذر بإنذار النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) . وَقَول من قَالَ: إِذا امْتنع خطاب الصَّبِي وَالْمَجْنُون، فالمعدوم أَجْدَر، ضَعِيف، لِأَنَّهُ فهم عَن الْحَنَابِلَة تَنْجِيز التَّكْلِيف، وَلم يعلم [التَّعْلِيق] ، وَأَن حكم الصَّبِي وَالْمَجْنُون كَحكم الْمَعْدُوم، وَمن الْأَدِلَّة - أَيْضا - للمسألة: قَوْله تَعَالَى: {فَاتَّبعُوهُ} . وكالأمر بِالْوَصِيَّةِ لمعدوم متأهل، وخيفة الْمُوصي الْفَوْت، لَا أَثَره لَهُ. وَيحسن لوم الْمَأْمُور فِي الْجُمْلَة، بِإِجْمَاع الْعُقَلَاء على تَأَخره عَن الْفِعْل مَعَ قدرته، وَتقدم أمره. وَلِأَنَّهُ أزلي، وتعلقه بِغَيْرِهِ جُزْء من حَقِيقَته، وَالْكل يَنْتَفِي بِانْتِفَاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1217 الْجُزْء، وَكَلَام الْقَدِيم صفته، وَإِنَّمَا تطلب الْفَائِدَة فِي سَماع المخاطبين بِهِ إِذا [وجدوا] . وَلِأَن التَّابِعين وَالْأَئِمَّة لم يزَالُوا يحتجون بالأدلة، وَهُوَ دَلِيل التَّعْمِيم، وَالْأَصْل عدم اعْتِبَار غَيره، وَلَو كَانَ لنقل. قَالُوا: تَكْلِيف وَلَا مُكَلّف؛ محَال. رد: مَبْنِيّ على التقبيح الْعقلِيّ، ثمَّ بِالْمَنْعِ فِي الْمُسْتَقْبل: كالكاتب يُخَاطب من يكاتبه بِشَرْط وُصُوله، ويناديه، وَأمر الْمُوصي والواقف، وَلَيْسَ مجَازًا، لِأَنَّهُ لَا يحسن نَفْيه. قَالَ ابْن عقيل: (وَلَا أقرب إِلَى ذَلِك من أَسمَاء الله المشتقة) . قَالُوا: لَا يُقَال للمعدوم: نَاس. رد: بل يُقَال، بِشَرْط وجوده أَهلا. قَالُوا: الْعَاجِز غير مُكَلّف، فَهُنَا أولى. رد: بِالْمَنْعِ عِنْد كل قَائِل بقولنَا، بل مُكَلّف بِشَرْط قدرته وبلوغه وعقله، وَإِنَّمَا رفع عَنهُ الْقَلَم فِي الْحَال، أَو قلم الْإِثْم بِدَلِيل النَّائِم. قَالُوا: لَو كَانَ، لمدح وذم. ورده أَصْحَابنَا لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: الْمَنْع؛ لِأَن الله تَعَالَى مدح وذم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1218 ثمَّ لعدم الِامْتِثَال والتفريط، وَهُوَ الثَّانِي. قَالُوا: من شَرط الْقُدْرَة: [وجود] الْمَقْدُور. رد: بِالْمَنْعِ؛ فَإِن الْقُدْرَة صفة لله وَلَا مَقْدُور. قَالُوا: يلْزم التَّعَدُّد فِي الْقَدِيم. وَلم يقل بِهِ أَكثر الأشعرية، فَأَجَابُوا: " بِأَن التَّعَدُّد بِحَسب الْوُجُود غير وَاقع فِي الْأَزَل، فَكَلَامه وَاحِد بِحَسب الذَّات، وَإِنَّمَا تعدد بِاعْتِبَار [متعلقاته] ، وَهُوَ لَا يُوجب تعددا وجوديا) . قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالُوا. قلت: تقدم الْكَلَام على ذَلِك عِنْد قَوْله: (أَسمَاء الله وَصِفَاته قديمَة) ، فِي قَوْلنَا: (شَرط الْمُشْتَقّ صدق أَصله) . وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (لَيْسَ النزاع فِي الْكَلَام النَّفْسِيّ، بل هَذِه خَاصَّة بِاللَّفْظِ اللّغَوِيّ؛ لأَنا مأمورون بِأَمْر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1219 (قَوْله: {فصل} ) { [يَصح] [التَّكْلِيف] بِمَا علم الْآمِر انْتِفَاء شَرط وُقُوعه} فِي وقته، {عندنَا وَعند الْأَكْثَر} . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (يَصح التَّكْلِيف بِمَا يعلم الْآمِر انْتِفَاء شَرط وُقُوعه عِنْد وقته) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1220 قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (يجوز التَّكْلِيف بِمَا يعلم الله أَن الْمُكَلف لَا يُمكن مِنْهُ، مَعَ بُلُوغه حَال التَّمَكُّن، عِنْد القَاضِي، وَابْن عقيل، وَأبي الْخطاب، وَقَالَ: " إِنَّه يَقْتَضِيهِ مَذْهَب أَصْحَابنَا "، فَلهَذَا يعلم الْمُكَلف بالتكليف قبل وَقت الْفِعْل وفَاقا للأشعرية وَغَيرهم، وَذكره بعض أَصْحَابنَا إِجْمَاع الْفُقَهَاء) انْتهى. وَقَالَ الْمُوفق وَغَيره: (تنبني على النّسخ قبل التَّمَكُّن) . قَالَ بَعضهم: (تشبهها؛ لِأَن ذَلِك رفع الحكم بخطاب، وَهَذَا بتعجيز، وَنبهَ ابْن عقيل عَلَيْهِ) . { [وَنفى ذَلِك الْمُعْتَزلَة، وَأَبُو الْمَعَالِي] } . وَزعم غلاة الْقَدَرِيَّة - مِنْهُم وَمن غَيرهم -: كمعبد الْجُهَنِيّ، وَعَمْرو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1221 ابْن عبيد: (أَنه لم يعلم أَفعَال الْعباد حَتَّى فَعَلُوهَا) . قلت: هَذَا كفر، فلعنة الله على قَائِله، ثمَّ وجدت الشَّيْخ تَقِيّ الدّين قَالَه - فِي هَذِه عَنْهُم -: (إِنَّهُم كفار) . مِثَال الْمَسْأَلَة: لَو أَمر الله رجلا بِصَوْم يَوْم، وَقد علم - سُبْحَانَهُ - مَوته قبله، وَشرط الصَّوْم الْحَيَاة، فَلَا يُمكن وُقُوعه لانْتِفَاء شَرطه. وَهَذَا مَبْنِيّ على: أَن فَائِدَة الْخلاف قد تكون الِابْتِلَاء، وَيَتَرَتَّب عَلَيْهِ وجوب الْكَفَّارَة فِي تَرِكَة المجامع فِي نَهَار رَمَضَان، إِذا مَاتَ أَو جن فِي أثْنَاء النَّهَار. وَجه الصِّحَّة: لَو لم يجز لم يعْص أحد، لِأَن شَرط الْفِعْل إِرَادَة قديمَة أَو حَادِثَة، على اخْتِلَاف الْقَوْلَيْنِ، لِاسْتِحَالَة تخلف المُرَاد عَن إِرَادَته تَعَالَى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1222 فَإِذا تَركه، علم أَن الله لَا يُريدهُ، وَأَن العَاصِي لَا يُريدهُ. وَأَيْضًا: لم يعلم تَكْلِيف، لعدم الْعلم بِبَقَاء الْمُكَلف قبله - وَهُوَ شَرط -، وَلَا مَعَه، وَلَا بعده، لانْقِطَاع التَّكْلِيف فيهمَا. فَإِن فرض زَمَانه موسعا، كالواجب الموسع - بِحَيْثُ يعلم التَّمَكُّن - نقلنا الْكَلَام إِلَى أَجزَاء [ذَلِك] كالمضيق، والتكليف مَعْلُوم. وَأَيْضًا: لم يعلم إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وجوب الذّبْح. وَاحْتج الْأَصْحَاب وَابْن الباقلاني: بِالْإِجْمَاع على [تحقق] الْوُجُوب وَالتَّحْرِيم قبل التَّمَكُّن. ورده أَبُو الْمَعَالِي: بِنَاء على ظن الْبَقَاء. ورد: بِأَنَّهُ لَا تَكْلِيف مَعَ الشَّك. وَبِأَن احْتِمَال الْخَطَأ قَائِم فِي الظَّن، وَهُوَ مُمْتَنع فِي الْإِجْمَاع. قَالُوا: لَو جَازَ، لم يكن إِمْكَان الْمُكَلف بِهِ شرطا فِي التَّكْلِيف، لِأَن هَذَا الْفِعْل لَا يُمكن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1223 رد: بِأَن الْإِمْكَان الْمَشْرُوط: تَأتي الْفِعْل عَادَة عِنْد اجْتِمَاع شَرَائِطه فِي وقته، وَهُوَ حَاصِل، وَالَّذِي هُوَ شَرط وُقُوع الْفِعْل مَحل النزاع. على أَنه يلْزم فِي جهل الْآمِر، لجَوَاز امْتنَاع الْفِعْل لانْتِفَاء شَرطه. قَالُوا: لَو جَازَ لجَاز مَعَ علم الْمَأْمُور اعْتِبَارا بالآمر، وَالْجَامِع عدم الْحُصُول. رد: بِأَن هَذَا يمْتَنع امتثاله، فَلَا يعزم فَلَا يُطِيع وَلَا يَعْصِي، وَلَا ابتلاء بِخِلَاف مَسْأَلَتنَا. على أَن الْمجد - على مَا يَأْتِي - قَالَ: (يَنْبَغِي أَن نجوزه كَمَا نجوز تَوْبَة مجبوب من زنى، وأقطع من سَرقَة، وَفَائِدَته: الْعَزْم بتقديره الْقُدْرَة) . فَمن جَامع صَحِيحا ثمَّ مرض، أَو جن، أَو حَاضَت أَو نفست، لم تسْقط الْكَفَّارَة عِنْد الإِمَام أَحْمد وَغَيره، خلافًا للحنفية، وَأحد قولي الشَّافِعِي، لأَمره عَلَيْهِ السَّلَام الْأَعرَابِي بِالْكَفَّارَةِ، وَلم يسْأَله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1224 وكما لَو سَافر، وفَاقا للأئمة الْأَرْبَعَة. قَالَ بعض أَصْحَابنَا: (لَا يُقَال 5: تَبينا أَن الصَّوْم غير مُسْتَحقّ؛ لِأَن الصَّادِق لَو أخبرهُ أَنه سيمرض أَو يَمُوت، لم يجز الْفطر، وَالصَّوْم لَا تتجزأ صِحَّته، بل لُزُومه) . وَفِي " الِانْتِصَار " وَجه: (تسْقط بحيض ونفاس، لمنعهما الصِّحَّة، وَمثلهمَا موت، وَكَذَا جُنُون، إِن منع طريانه الصِّحَّة) . وَمن علق طَلَاقا بشروعه فِي صَوْم أَو صَلَاة واجبين، فشرع، وَمَات فِيهِ، طلقت إِجْمَاعًا. قَوْله: {وَيصِح مَعَ جهل الْآمِر اتِّفَاقًا} . كأمر السَّيِّد عَبده بِشَيْء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1225 وَاعْلَم أَن الْآمِر تَارَة يعلم انْتِفَاء شَرط وُقُوع الْمَأْمُور فِي وقته، وَهِي الْمَسْأَلَة الْمُتَقَدّمَة، وَتارَة يجهل ذَلِك، وَهِي هَذِه الْمَسْأَلَة: كأمر السَّيِّد عَبده بخياطة ثوب غَدا، فَهَذَا يَصح اتِّفَاقًا، قَالَه جمع من الْعلمَاء. لَكِن قَالَ الصفي الْهِنْدِيّ: (فِي كَلَام بَعضهم إِشْعَار بِخِلَاف فِيهِ) انْتهى. وَتارَة يعلم الْآمِر والمأمور ذَلِك، فَهَذَا لَا يَصح، قطع بِهِ الأصوليون، لِامْتِنَاع امتثاله، فَلَا يعزم، فَلَا يُطِيع وَلَا يَعْصِي، وَلَا ابتلاء، بِخِلَاف الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا. {وَقَالَ الْمجد} ابْن تَيْمِية فِي " المسودة ": {يَنْبَغِي أَن يَصح} . فَقَالَ - بَعْدَمَا ذكر الْخلاف فِي الْحَالة الأولى -: (وَيَنْبَغِي على مساق هَذَا أَن يجوزوه، وَإِن علم الْمَأْمُور أَنه يَمُوت قبل الْوَقْت، كَمَا تجوز تَوْبَة مجبوب من زنى، وَتَكون فَائِدَته: الْعَزْم على الطَّاعَة بِتَقْدِير الْقُدْرَة) . قَالَ: (وَلَيْسَت هَذِه مَبْنِيَّة على تَكْلِيف خلاف الْمَعْدُوم، وَلَا على تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق، وَإِن كَانَ لَهُ ضرب من التَّعَلُّق، لَكِن تشبه النّسخ قبل التَّمَكُّن، لِأَن ذَلِك رفع للْحكم بخطاب، وَهَذَا رفع للْحكم بتعجيز، {و} قد {نبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1226 [ابْن عقيل على ذَلِك] ، وَيَنْبَنِي على أَنه قد يَأْمر بِمَا لَا يُرِيد، وَكَذَلِكَ القَاضِي نبه فِي الْكِفَايَة على الْفرق بَين هَذَا وتكليف مَا يعجز العَبْد عَنهُ، مثل: الطيران، وَالْمَشْي على المَاء، وقلب الْعَصَا حَيَّة) انْتهى. قَوْله: [ {فَائِدَة: يَصح تَعْلِيق الْأَمر بِاخْتِيَار الْمُكَلف فِي الْوُجُوب وَعَدَمه، ذكره القَاضِي، وَابْن عقيل، وَابْن حمدَان، وَغَيرهم، وَقيل: لَا} . لفظ ابْن عقيل: (يجوز أَن يرد الْأَمر من الله تَعَالَى مُعَلّقا على اخْتِيَار الْمُكَلف، يفعل أَو يتْرك مفوضا إِلَى اخْتِيَاره، بِنَاء على: أَن الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ، مَعَ كَونه مُخَيّرا بَين فعله وَتَركه) . وبناه على أَن الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ، قَالَ: (خلافًا للمعتزلة) . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (تشبه: أَن يُقَال للمجتهد: احكم بِمَا شِئْت، وَبحث أَصْحَابنَا فِي الْمَسْأَلَة يدل على أَنهم أَرَادوا أَمر الْإِيجَاب، فَلَا يَصح الْبناء على مَسْأَلَة: " الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ "، بل لحرف الْمَسْأَلَة شَيْئَانِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1227 أَحدهمَا: جَوَاز عدم التَّكْلِيف. وَالثَّانِي: جَوَاز تَكْلِيف مَا يشاؤه العَبْد ويختاره. فَهِيَ مَسْأَلَتَانِ فِي الْمَعْنى جَمعهمَا ابْن عقيل، وَفِي أثْنَاء الْمَسْأَلَة قد ذكر ابْن عقيل مَا يدل على أَنهم يمْنَعُونَ من أَن يَأْمر الْمُكَلف بِمَا يَشَاء، وَأَن يَأْمُرهُ بِمَا يرَاهُ بعقله، بِخِلَاف مَا يرَاهُ من الْأَدِلَّة السمعية، فَيكون الْخلاف مَعَهم فِي أَن يَأْمُرهُ بِمَا يَعْتَقِدهُ، أَو بِمَا يُريدهُ، وأصحابنا جوزوا الْقسمَيْنِ. وَهَذِه الْمَسْأَلَة إِن قيل فِيهَا بِالْجَوَازِ الْعقلِيّ فقريب، وَأما الْوُقُوع، فَفِيهِ نوع مُخَالفَة لمسألة كل مُجْتَهد مُصِيب، مَعَ إِمْكَان الْجمع) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1228 (قَوْله: {تَنْبِيه الْأَدِلَّة: الْكتاب، وَالسّنة، وَالْإِجْمَاع، وَالْقِيَاس} ) . لما فَرغْنَا - بِحَمْد الله - من أَحْكَام الْمُقدمَة، ومسائلها، وَمَا يتَعَلَّق بهَا، شرعنا فِي بَيَان مَوْضُوع علم أصُول الْفِقْه، وَهُوَ أَدِلَّة الْفِقْه، والمتفق عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَة أَرْبَعَة: الْكتاب، وَالسّنة - وَهَذَا بِلَا نزاع - وَالْإِجْمَاع، وَالْقِيَاس، وَالْمرَاد: اتِّفَاق الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وَمن نحا نحوهم، وَلَا اعْتِبَار بِخِلَاف من لَا يعْتد بقوله كالنظام فِي مُخَالفَته فِي الْإِجْمَاع، على اخْتِلَاف النَّقْل عَنهُ، هَل مذْهبه: أَن الْإِجْمَاع لَا يتَصَوَّر، أَو يتَصَوَّر وَلَكِن يتَعَذَّر نَقله على وَجهه، أَو لَا يتَعَذَّر وَلَكِن لَا حجَّة فِيهِ؟ ، وَهَذَا الثَّالِث هُوَ الْمُحَقق عَنهُ. والنظام اسْمه: إِبْرَاهِيم بن [سيار] الْبَصْرِيّ، شيخ الْمُعْتَزلَة، وَإِلَيْهِ تنْسب النظامية إِحْدَى فرق الْمُعْتَزلَة، ينْسب إِلَيْهِ عظائم مِنْهَا: إِنْكَار الْإِجْمَاع، وَالْقِيَاس، وَالْخَبَر الْمُتَوَاتر، وَنَحْو ذَلِك، مِمَّا جعل بِهِ زنديقا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1229 وَسمي بالنظام؛ لِأَنَّهُ كَانَ ينظم الخرز فِي سوق الْبَصْرَة، وَيَزْعُم بعض الْمُعْتَزلَة: أَن ذَلِك لكَونه ينظم الْكَلَام. يُقَال: إِنَّه سقط وَهُوَ سَكرَان فَمَاتَ سنة بضع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. وَكَذَا خَالف بعض الْخَوَارِج والرافضة فِيهِ، وَيَأْتِي ذَلِك فِي الْإِجْمَاع. قَوْله: {فَهُوَ [مِنْهَا] } - أَي: من الْأُصُول - {خلافًا لأبي [الْمَعَالِي] } . الصَّحِيح الَّذِي ذهب إِلَيْهِ جَمَاهِير الْعلمَاء وَقطع بِهِ كثير مِنْهُم: أَن الْقيَاس من جملَة أصُول الْفِقْه. وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي وَجمع: لَيْسَ الْقيَاس من الْأُصُول، وتعلقوا بِأَنَّهُ لَا يُفِيد إِلَّا الظَّن، وَالْحق هُوَ الأول، وَالثَّانِي ضَعِيف جدا، فَإِن الْقيَاس قد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1230 يُفِيد الْقطع كَمَا سَيَأْتِي، وَإِن قُلْنَا: لَا يُفِيد إِلَّا الظَّن، فخبر الْوَاحِد وَنَحْوه لَا يُفِيد إِلَّا الظَّن. قَوْله: {وَيَأْتِي غَيرهَا} . أَي: يَأْتِي غير هَذِه الْأَرْبَعَة، وَهِي الْأُصُول الَّتِي اشْتهر الْخلاف فِيهَا: كالاستصحاب، وَشرع من قبلنَا، والاستقراء، وَمذهب الصَّحَابِيّ، وَالِاسْتِحْسَان، وَنَحْوهَا، تَأتي أَحْكَامهَا محررة إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: {فَالْأَصْل: الْكتاب} ، وَهُوَ الْقُرْآن. لَا شكّ أَن الْقُرْآن هُوَ أصل الْأَدِلَّة كلهَا، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبيانا لكل شَيْء} [النَّحْل: 89] فَفِيهِ الْبَيَان لجَمِيع الْأَحْكَام. قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة ": (لَيْسَ ينزل بِأحد فِي الدُّنْيَا نازلة إِلَّا وَفِي كتاب الله تَعَالَى الدَّلِيل على سَبِيل الْهدى) . وَأورد بَعضهم مَا ثَبت ابْتِدَاء بِالسنةِ أَو غَيرهَا. فَأجَاب ابْن السَّمْعَانِيّ: (بِأَنَّهُ مَأْخُوذ من كتاب الله تَعَالَى فِي الْحَقِيقَة، لِأَنَّهُ أوجب علينا فِيهِ اتِّبَاع الرَّسُول، وحذرنا من مُخَالفَته) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1231 قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: ( [فَمن قبل] عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَن الله [قبل] ) انْتهى. ثمَّ قيل: (الْقُرْآن: مَأْخُوذ من قَرَأَ: إِذا جمع، سمي بِهِ المقروء، كَمَا سمي الْمَكْتُوب كتابا) . قَالَ [أَبُو عُبَيْدَة] : (سمي بذلك لِأَنَّهُ يجمع السُّور ويضمها) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: (اخْتلف فِي الْقُرْآن: هَل هُوَ مُشْتَقّ أم لَا؟) . قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: (سمى الله تَعَالَى كِتَابه قُرْآنًا) ؛ عَنى بِهِ: اسْم علم لَا يسوغ إجراؤه على مُوجب اشتقاق. قَالَ: وَيجوز أَن يُقَال: سمي قُرْآنًا من حَيْثُ إِنَّه يُتْلَى وَيقْرَأ بِأَصْوَات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1232 تنتظم [وتتوالى] ، وتتعاقب، ثمَّ قَالَ: وَالصَّحِيح: أَنه مُشْتَقّ من قَرَأت الشَّيْء: جمعته) . قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَكَلَام الشَّافِعِي مَحْمُول على أَنه صَار علما، وَلَو كَانَ فِي الأَصْل مشتقا، [لَا نفي] الِاشْتِقَاق أصلا) انْتهى. قَوْله: {وَالسّنة مخبرة عَن حكم الله} تَعَالَى لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا ينْطق عَن الْهوى (3) إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} [النَّجْم 3، 4] . قَوْله: {وَالْإِجْمَاع [مُسْتَند] إِلَيْهِمَا وَإِلَى الْقيَاس} ؛ لِأَن أَصله: إِمَّا الْكتاب، أَو السّنة، على مَا تقدم، وَيَأْتِي: أَن الْإِجْمَاع لَا يكون إِلَّا عَن مُسْتَند، وَأَنه يكون عَن قِيَاس واجتهاد. قَوْله: {وَالْقِيَاس مستنبط مِنْهَا} ، أَي: من الْكتاب، وَالسّنة، وَالْإِجْمَاع، وَهُوَ ظَاهر؛ لِأَن الْقيَاس ينشأ عَن هَذِه الثَّلَاثَة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1233 فارغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1234 فارغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1235 (بَاب الْكتاب) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1236 (قَوْله: {بَاب الْكتاب: الْقُرْآن} ) الْكتاب: هُوَ الْقُرْآن عِنْد الْعلمَاء الْأَعْيَان، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا سمعنَا كتابا أنزل من بعد مُوسَى} [الْأَحْقَاف: 30] بعد قَوْله: {يَسْتَمِعُون الْقُرْآن} [الْأَحْقَاف: 29] ، والمسموع وَاحِد، وَقَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى: {إِنَّا سمعنَا قُرْآنًا عجبا (1) يهدي إِلَى الرشد} [الْجِنّ: 1 - 2] ، وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على اتِّحَاد اللَّفْظَيْنِ، فَلَا عِبْرَة بِمن خَالف، فَإِنَّهُ خطأ، وَالله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1237 تَنْبِيه: الْكتاب فِي الأَصْل جنس، ثمَّ غلب على الْقُرْآن من بَين الْكتب فِي عرف أهل الشَّرْع. قَوْله: {وَهُوَ [كَلَام] منزل على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - معجز متعبد بتلاوته} . وَذكر ابْن الْحَاجِب وَغَيره: أَنه (الْكَلَام الْمنزل للإعجاز بِسُورَة مِنْهُ) ، وَفِيه مَا فِيهِ، على مَا يَأْتِي فِي الاحترازات. فَالْكَلَام - فِي حَده -: جنس لكل مَا تكلم بِهِ من الْكتب وَغَيرهَا. والمنزل: احْتِرَاز عَن كَلَام النَّفس. وَقَوله: للإعجاز، ليخرج سَائِر الْكتب الْمنزلَة، وَالْأَحَادِيث الربانية. وَقَوله: بِسُورَة مِنْهُ، لتدخل السُّورَة الْوَاحِدَة وَإِن قصرت: كسورة الْكَوْثَر، وَتخرج الْآيَة، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي الْآيَة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1238 وَقَالَ الْآمِدِيّ فِي " الْأَبْكَار ": " الْتزم القَاضِي ابْن الباقلاني فِي أحد جوابيه [الإعجاز] فِي سُورَة الْكَوْثَر وأمثالها، تعلقا بقوله تَعَالَى: {فَأتوا بِسُورَة مثله} [يُونُس: 38] ، وَالصَّحِيح مَا ارْتَضَاهُ فِي الْجَواب الآخر، وَهُوَ [اخْتِيَار] الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق وَجَمَاعَة: أَن التحدي إِنَّمَا وَقع بِسُورَة تبلغ فِي الطول مبلغا تبين فِيهِ رتب [ذَوي] البلاغة، فَإِنَّهُ قد يصدر من غير البليغ أَو مِمَّن هُوَ أدنى فِي البلاغة من الْكَلَام البليغ مَا يماثل الْكَلَام البليغ الصَّادِر عَمَّن هُوَ أبلغ مِنْهُ، وَرُبمَا زَاد عَلَيْهِ، فَتعين تَقْيِيد الْإِطْلَاق فِي قَوْله: {فَأتوا بِسُورَة} ؛ لِأَن تَقْيِيد الْمُطلق بِالدَّلِيلِ وَاجِب ". انْتهى. وَزَاد بَعضهم: (المتعبد بتلاوته) ، ليخرج الْآيَات [الْمَنْسُوخ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1239 لَفظهَا، سَوَاء بَقِي الحكم [أم لَا، فَإِنَّهَا] بعد النّسخ صَارَت غير قُرْآن لسُقُوط التَّعَبُّد بتلاوتها، وَلذَلِك لَا تُعْطى حكم الْقُرْآن. وَالَّذِي اخترناه أَنه: (كَلَام منزل على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - معجز متعبد بتلاوته) . فَفِيهِ تَنْقِيح زَائِد على حد ابْن الْحَاجِب وَغَيره. فقولنا: (كَلَام) جنس، وَهُوَ أولى من اللَّفْظ، لِأَن الْكَلَام أخص من اللَّفْظ، فَهُوَ جنس قريب، وَأولى من القَوْل، لموافقته الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله} [التَّوْبَة: 6] ، وَلم نقل (الْكَلَام) بِالْألف وَاللَّام، لِأَن الْحَقِيقَة لَا يُؤْتى فِيهَا بدال على كمية. وَمَا بعده: الْفَصْل الْمخْرج لغيره، فَخرج بقولنَا: (منزل) ، مَا يُقَال من الْكَلَام النَّفْسِيّ. وَخرج بقولنَا: (على مُحَمَّد) ، مَا أنزل على غَيره من الْأَنْبِيَاء: كتوراة مُوسَى، وإنجيل عِيسَى، وزبور دَاوُد، وصحف إِبْرَاهِيم، وشيث، وَفِي حَدِيث أبي ذَر الَّذِي رَوَاهُ ابْن حبَان وَغَيره: " أَن الله تَعَالَى أنزل مائَة وَأَرْبَعَة كتب ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1240 وَخرج بقولنَا: (معجز) ، السّنة، فَإِنَّهَا وَإِن كَانَت منزلَة، وَرُبمَا كَانَت معْجزَة - أَيْضا -، لَكِن لم يقْصد بإنزالها الإعجاز، وَإِنَّمَا قُلْنَا: السّنة منزلَة، لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا ينْطق عَن الْهوى (3) إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} [النَّجْم: 3 - 4] ، وَمِمَّا يخرج بِهَذَا الْقَيْد: مَا فِي السّنة - أَيْضا - من حِكَايَة أَقْوَال الله تَعَالَى، فَإِنَّهُ لَيْسَ بقرآن - أَيْضا - لِأَنَّهُ لم ينزل للإعجاز. وَالْمرَاد بالإعجاز: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر أَن يتحداهم بِمَا جَاءَ بِهِ فَيَقُول: هَل تقدرون أَن تَأْتُوا بِمثل مَا قلته؟ فيعجز عَن ذَلِك، فقد أعجزهم ذَلِك القَوْل، فَهُوَ معجز. وَالسّنة معْجزَة بِالْقُوَّةِ، لكنه لم يطْلب مِنْهُم أَن يَأْتُوا بِمِثْلِهَا، وَالْقُرْآن معجز بِالْفِعْلِ، لكَونه تحداهم أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ، بِأَمْر الله لَهُ بالتحدي بِهِ، وَلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1241 يَأْمُرهُ أَن يتحدى بِالسنةِ، فَهَذَا الْفرق بَين الإعجازين. قلت: وَفِيه نظر. وَقَوْلنَا: (معجز) ، يَشْمَل الْآيَة، وَسَيَأْتِي الْخلاف فِي الإعجاز بهَا، وَالْفَرْض أَنه نزل لبَيَان الْأَحْكَام والمواعظ، وَلكنه مَعَ ذَلِك مَقْصُود بِهِ الإعجاز. وَقَوْلنَا: (معجز) ، أحسن من قَول من قَالَ: (للإعجاز) ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي [انحصار عِلّة الْإِنْزَال فِي الإعجاز] ، وَالْفَرْض: أنزل لبَيَان الْأَحْكَام والمواعظ، وَمَعَ ذَلِك قصد بِهِ الإعجاز - أَيْضا - كَمَا تقدم. فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهمَا: وَقع التحدي بِالْقُرْآنِ كُله، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {قل لَئِن اجْتمعت الْإِنْس وَالْجِنّ على أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن لَا يأْتونَ بِمثلِهِ} [الْإِسْرَاء: 88] ، أَي: فَأتوا بِمثلِهِ إِن ادعيتم الْقُدْرَة، فَلَمَّا عجزوا تحداهم بِعشر سور، بقوله تَعَالَى: {فَأتوا بِعشر سور مثله مفتريات} [هود: 13] ، فَلَمَّا عجزوا تحداهم بِسُورَة بقوله تَعَالَى: {فَأتوا بِسُورَة من مثله} [الْبَقَرَة: 23] ، أَي: من مثل الْقُرْآن، أَو من مثل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَلَمَّا عجزوا، تحداهم بِدُونِ ذَلِك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1242 بقوله تَعَالَى: {فليأتوا بِحَدِيث مثله إِن كَانُوا صَادِقين} [الطّور: 34] . الثَّانِيَة: إِن قيل: هَذَا التَّعْرِيف لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون لمجموع الْقُرْآن، أَو للأعم من ذَلِك وَمن بعضه، فَإِن كَانَ للْأولِ فَيَقْتَضِي: أَن الْبَعْض لَا يُسمى قُرْآنًا، وَأَن لَا يَحْنَث إِذا حلف لَا يقْرَأ قُرْآنًا، فَقَرَأَ شَيْئا مِنْهُ، وَلَا قَائِل بِهِ، وَإِن كَانَ الثَّانِي، فَكل كلمة بل كل حرف من الْقُرْآن قُرْآن، وانقسامه - حِينَئِذٍ - إِلَى هَذِه الْأَقْسَام، انقسام الْكُلِّي إِلَى جزئياته لَا الْكل إِلَى أَجْزَائِهِ، فالحد حِينَئِذٍ للماهية من حَيْثُ هِيَ، فَيصير قيد الإعجاز لَغوا، لِأَن الْكَلِمَة والحرف لَيْسَ فِيهِ إعجاز قطعا. وَالْجَوَاب: الْتِزَام [الْألف] وَاللَّام فِي الْقُرْآن - حِينَئِذٍ - للْعهد فِي جملَته، فالبعض - حِينَئِذٍ - وَإِن كَانَ قُرْآنًا لكنه لم يُطلق على الْقُرْآن بِاللَّامِ العهدية كَمَا قَرَّرْنَاهُ، وَقد قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: (لَو قَالَ لعَبْدِهِ: إِن قَرَأت الْقُرْآن فَأَنت حر، أَنه لَا يعْتق إِلَّا بِقِرَاءَة الْجَمِيع) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1243 وَقَول بَعضهم: لَو حلف لَا يقْرَأ الْقُرْآن يَحْنَث بِبَعْضِه، فَمَحْمُول على اللَّام للْجِنْس، حَتَّى يكون بِمَثَابَة (قُرْآنًا) بالتنكير. وَالْحَاصِل: أَن النّظر إِلَى لفظ الْقُرْآن باعتبارين: أَحدهمَا: بِاعْتِبَار جملَته وهيئته وترتيبه، فَاللَّام فِيهِ - حِينَئِذٍ - للْعهد. وَالثَّانِي: بِاعْتِبَار حَقِيقَته من حَيْثُ هِيَ، لَا بِالنّظرِ إِلَى لَازم كمية وترتيب وَنَحْو ذَلِك، فَاللَّام فِيهِ - حِينَئِذٍ - للْجِنْس، فَإِن قصد مَعهَا استغراق، كَانَ كل حرف وَكلمَة وَجُمْلَة وَآيَة وَسورَة جزئيات لَا أَجزَاء، بِخِلَاف الِاعْتِبَار الأول فَإِنَّهَا فِيهِ أَجزَاء لَا جزئيات، وَلَعَلَّ من يَقُول فِي تَعْرِيفه: الْكَلَام الْمنزل على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للإعجاز بِسُورَة مِنْهُ، إِنَّمَا يقْصد مُرَاعَاة [الِاعْتِبَار] الأول، وَأما من يُرَاعِي الِاعْتِبَار الثَّانِي فَيكون: مَا أنزل للإعجاز، وَلَا حَاجَة أَن يَقُول: بِسُورَة مِنْهُ، أَو يَقُول ذَلِك، وَيُرِيد: أَن " من " فِيهِ لابتداء الْغَايَة، لَا للتَّبْعِيض. وَقَالَ الْآمِدِيّ: (هُوَ الْقَابِل للتنزيل) . وَقَالَ: (هُوَ الْأَقْرَب، واحترزنا بِالْأولِ عَن غَيره من الْكتب، وَعَما أنزل وَلم يتل، وَبِالثَّانِي عَن الْكَلَام النَّفْسِيّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1244 وَلم نقل: الْكَلَام المعجز، لِأَن السُّورَة كَذَلِك، وَإِنَّمَا هِيَ بعض الْكتاب) . تَنْبِيه: قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " - تبعا للغزالي -: (الْقُرْآن: مَا نقل إِلَيْنَا بَين دفتي الْمُصحف نقلا متواترا) ، وَهُوَ حد دوري، فَإِنَّهُ إِن أُرِيد بِهِ دفع مَا يتَوَهَّم أَن الْقُرْآن شَيْء آخر غير الْمَكْتُوب فِي الْمَصَاحِف، فَهَذَا الْقدر يحصل، فَلَا يكون بَاطِلا. وَإِن أُرِيد بِهِ الْحَد الْجَامِع الْمَانِع فَهُوَ تَعْرِيف دوري، وَذَلِكَ لِأَن النَّقْل والتواتر فرع تصَوره، فَهُوَ دور لتوقف تصَوره عَلَيْهِمَا، وتوقفهما عَلَيْهِ. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (وَضعف هَذَا الْحَد: بِأَن عدم نَقله، لَا يُخرجهُ عَن حَقِيقَته، وَبِأَن النَّقْل والتواتر فرع تصَوره، فَهُوَ دور) . وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (حد الشَّيْء بِمَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ، إِذْ وجود الْمُصحف وَنَقله مُتَوَقف على تصور الْقُرْآن) . وَأخذُوا ذَلِك من كَلَام ابْن الْحَاجِب فَإِنَّهُ قَالَ فِي " مُخْتَصره ": (وَقَوْلهمْ: مَا نقل بَين دفتي الْمُصحف تواترا، حد للشَّيْء بِمَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ، لِأَن وجود الْمُصحف وَنَقله فرع تصور الْقُرْآن) انْتهى. قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (وَقد يُقَال: نَحن [بعد] مَا علمنَا أَن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1245 هَاهُنَا مَا نقل بَين الدفتين، وَمَا لم ينْقل: كالمنسوخ وتلاوته، وَمَا نقل وَلم يتواتر نَحْو: (ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات) ، أردنَا تَخْصِيص الِاسْم بالقسم الأول دون الْأَخيرينِ، ليعلم أَن ذَلِك هُوَ الدَّلِيل، وَعَلِيهِ الْأَحْكَام من منع التِّلَاوَة، والمس مُحدثا، وَإِلَّا فَهُوَ اسْم علم شخصي، والتعريف لَا يكون إِلَّا للحقائق الْكُلية قد نبهنا على أَن ضَابِط مَعْرفَته: التَّوَاتُر [من] متون الصُّحُف وصدور الْحفاظ، دون التَّحْدِيد والتعريف، وَهُوَ الْحق) . انْتهى. فنفى الدّور الَّذِي ذَكرُوهُ. قَوْله: {وَالْكَلَام عِنْد الأشعرية: مُشْتَرك بَين [الْحُرُوف] المسموعة وَالْمعْنَى النَّفْسِيّ، وَهُوَ: نِسْبَة بَين مفردين قَائِمَة بالمتكلم، وَعند [الإِمَام] أَحْمد وَأَصْحَابه، وَالْبُخَارِيّ، وَغَيرهم: لَا اشْتِرَاك. قَالَ الإِمَام أَحْمد: [وَالْإِمَام عبد الله بن الْمُبَارك، وَالْإِمَام مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ، وأئمة الحَدِيث] : (لم يزل الله متكلما، [كَيفَ شَاءَ، وَإِذا شَاءَ] ، بِلَا كَيفَ) . قَالَ القَاضِي: (إِذا [أَرَادَ] أَن يسمعنا) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1246 وَقَالَ [الإِمَام] أَحْمد - أَيْضا -: (لم يزل [الله] يَأْمر بِمَا يَشَاء وَيحكم) .} كَمَا تقدم. هَذِه الْمَسْأَلَة من أعظم مسَائِل أصُول الدّين، وَهِي مَسْأَلَة طَوِيلَة الذيل، حَتَّى قيل: إِنَّه لم يسم علم الْكَلَام إِلَّا لأَجلهَا، وَلذَلِك اخْتلف فِيهَا أَئِمَّة الْإِسْلَام المعتبرين والمقتدى بهم اخْتِلَافا كثيرا متباينا، وَنحن نذْكر - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - أَقْوَالهم، وَالْقَائِل بِكُل قَول، وَنَذْكُر دلائلهم ومآخذهم، ونستوعب الْأَقْوَال الَّتِي فِيهَا، فَإِن غَالب المصنفين لم يستوعبها، وَرُبمَا لم يكن اطلع على بعض مَا يَأْتِي، وَإِن حصل منا بعض تكْرَار فِي نقل المقالات وأقوال الْعلمَاء، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو من فَائِدَة، و - أَيْضا - الْقَصْد الْإِتْيَان بِمَا قَالَه النَّاقِل، وَإِن تكَرر بعضه مَعَ غَيره. فَنَقُول - وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، وَعَلِيهِ الِاعْتِمَاد، وَبِه الْعِصْمَة -: قَالَ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن سعيد بن كلاب وَأَتْبَاعه، مِنْهُم: الشَّيْخ الإِمَام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1247 أَبُو الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل الْأَشْعَرِيّ وَأَصْحَابه، وَأَتْبَاعه: الْكَلَام مُشْتَرك بَين الْأَلْفَاظ المسموعة وَبَين الْكَلَام النَّفْسِيّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قد اسْتعْمل لُغَة وَعرفا فيهمَا، وَالْأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة، فَيكون مُشْتَركا. أما اسْتِعْمَاله فِي الْعبارَة فكثير كَقَوْلِه تَعَالَى: {حَتَّى يسمع كَلَام الله} [التَّوْبَة: 6] ، {يسمعُونَ كَلَام الله ثمَّ يحرفونه} [الْبَقَرَة: 75] . وَيُقَال: سَمِعت كَلَام فلَان وفصاحته، يَعْنِي: أَلْفَاظه الفصيحة. وَأما اسْتِعْمَاله فِي الْمَعْنى النَّفْسِيّ، وَهُوَ مَدْلُول الْعبارَة، فكقوله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي أنفسهم لَوْلَا يعذبنا الله بِمَا نقُول} [المجادلة: 8] ، (وأسروا قَوْلكُم أَو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1248 اجهروا بِهِ} [الْملك: 13] ، وَقَول عمر - رَضِي الله عَنهُ - فِي يَوْم السَّقِيفَة: (زورت فِي نَفسِي كلَاما) ، وَقَول الشَّاعِر: (إِن الْكَلَام لفي الْفُؤَاد وَإِنَّمَا ... جعل اللِّسَان على الْفُؤَاد دَلِيلا) وَالْأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة. وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ: (لما كَانَ سَمعه بِلَا انخراق، وَجب أَن يكون كَلَامه بِلَا حرف وَلَا صَوت) . وَذكر الْغَزالِيّ: (أَن قوما جعلُوا الْكَلَام حَقِيقَة فِي الْمَعْنى، مجَازًا فِي الْعبارَة، وقوما عكسوا، وقوما قَالُوا بالاشتراك، فَهِيَ ثَلَاثَة أَقْوَال، ونقلت عَن الْأَشْعَرِيّ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1249 وَقَوْلنَا: (نِسْبَة بَين مفردين) ، نعني بِالنِّسْبَةِ بَين المفردين - أَي: بَين الْمَعْنيين المفردين -: تعلق أَحدهمَا بِالْآخرِ، أَو إِضَافَته إِلَيْهِ، على جِهَة الْإِسْنَاد الإفادي، أَي: بِحَيْثُ إِذا عبر عَن تِلْكَ النِّسْبَة بِلَفْظ يطابقها وَيُؤَدِّي مَعْنَاهَا، كَانَ ذَلِك اللَّفْظ إِسْنَادًا إفاديا. وَمعنى قيام النِّسْبَة بالمتكلم مَا قَالَ الْفَخر الرَّازِيّ، وَهُوَ: أَن الشَّخْص إِذا قَالَ لغيره: [اسْقِنِي] مَاء، فَقبل أَن يتَلَفَّظ بِهَذِهِ الصِّيغَة قَامَ بِنَفسِهِ تصور حَقِيقَة السَّقْي، وَحَقِيقَة المَاء، وَالنِّسْبَة الطلبية بَينهمَا، فَهَذَا هُوَ الْكَلَام النَّفْسِيّ، وَالْمعْنَى الْقَائِم بِالنَّفسِ، وَصِيغَة قَوْله: [اسْقِنِي] مَاء، عبارَة عَنهُ وَدَلِيل عَنهُ) . وَقَالَ الْقَرَافِيّ: (كل عَاقل يجد فِي نَفسه الْأَمر وَالنَّهْي، وَالْخَبَر عَن كَون الْوَاحِد نصف الِاثْنَيْنِ، وَعَن حُدُوث الْعَالم، وَنَحْو ذَلِك، وَهُوَ غير مُخْتَلف فِيهِ، ثمَّ يعبر عَنهُ بعبارات ولغات مُخْتَلفَة، فالمختلف هُوَ الْكَلَام اللساني، وَغير الْمُخْتَلف [هُوَ] الْكَلَام النَّفْسِيّ الْقَائِم بِذَات الله تَعَالَى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1250 وَيُسمى ذَلِك الْعلم الْخَاص: سمعا؛ لِأَن إِدْرَاك الْحَواس إِنَّمَا هِيَ عُلُوم خَاصَّة أخص من مُطلق الْعلم، فَكل إحساس علم، وَلَيْسَ كل علم إحساسا، وَإِذا وجد هَذَا الْعلم الْخَاص فِي نفس مُوسَى، الْمُتَعَلّق بالْكلَام النَّفْسِيّ الْقَائِم بِذَات الله، سمي باسمه الْمَوْضُوع لَهُ فِي اللُّغَة، وَهُوَ السماع) . انْتهى. هَذَا [حَقِيقَة] مَذْهَبهم، لَكِن الْأَشْعَرِيّ وَأَتْبَاعه قَالُوا: الْقُرْآن الْمَوْجُود عندنَا: حِكَايَة كَلَام الله. وَابْن كلاب وَأَتْبَاعه قَالُوا: الْقُرْآن الْمَوْجُود بَين النَّاس: عبارَة عَن كَلَام الله لَا عينه. قَالَ ابْن حجر: (وَرَأَيْت الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عكس عَنْهُمَا، فَجعل الْعبارَة عَن الْأَشْعَرِيّ، والحكاية عَن ابْن كلاب) . وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ: (كَلَام الله الْقَائِم بِذَاتِهِ يسمع عِنْد تِلَاوَة كل تال وَقِرَاءَة كل قاريء) . وَقَالَ الباقلاني: (إِنَّمَا يسمع التِّلَاوَة دون المتلو، وَالْقِرَاءَة دون المقروء) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1251 وَذهب الإِمَام أَحْمد - إِمَام أهل السّنة على الْإِطْلَاق من غير مدافعة - وَأَصْحَابه، وَإِمَام أهل الحَدِيث - بِلَا شكّ - مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1252 فارغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1253 وَجُمْهُور الْعلمَاء، - قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " فِي الْأَمر، وَابْن قَاضِي الْجَبَل: (إِن الْكَلَام لَيْسَ مُشْتَركا بَين الْعبارَة ومدلولها، بل الْكَلَام هُوَ الْحُرُوف المسموعة من الصَّوْت) . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (الْمَعْرُوف عِنْد أهل السّنة والْحَدِيث: أَن الله يتَكَلَّم بِصَوْت، وَهُوَ قَول جَمَاهِير فرق الْأمة، فَإِن جَمَاهِير الطوائف يَقُولُونَ: إِن الله تَعَالَى يتَكَلَّم بِصَوْت، مَعَ تنازعهم فِي أَن كَلَامه هَل هُوَ مَخْلُوق أَو قَائِم بِنَفسِهِ؟ قديم أَو حَادث أَو مازال يتَكَلَّم إِذا شَاءَ؟ فَإِنَّهُ قَول الْمُعْتَزلَة، والكرامية، والشيعة، وَأكْثر المرجئة، والسالمية، وَغير هَؤُلَاءِ من الْحَنَفِيَّة، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، والحنبلية، والصوفية، وَلَيْسَ من طوائف الْمُسلمين من أنكر: أَن الله يتَكَلَّم بِصَوْت إِلَّا ابْن كلاب وَمن اتبعهُ، كَمَا أَن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1254 لَيْسَ فِي طوائف الْمُسلمين من قَالَ: إِن الْكَلَام معنى وَاحِد قَائِم بالمتكلم، إِلَّا هُوَ وَمن اتبعهُ) انْتهى. إِذا علم ذَلِك؛ فَعِنْدَ الإِمَام أَحْمد وَغَيره من أهل السّنة: أَن حَقِيقَة فِي الْعبارَة مجَاز فِي مدلولها، وَقد نَص الإِمَام أَحْمد، وَالْبُخَارِيّ، وَغَيرهمَا: على أَن الله تَعَالَى يتَكَلَّم بِصَوْت، وَقَالُوا: هَذِه الْأَحَادِيث تمر كَمَا جَاءَت، على مَا يَأْتِي، من صَرِيح نصوصهم فِي ذَلِك. قَالَ الطوفي: (إِنَّمَا كَانَ حَقِيقَة فِي الْعبارَة مجَازًا فِي مدلولها لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن [الْمُتَبَادر] إِلَى فهم أهل اللُّغَة من إِطْلَاق الْكَلَام إِنَّمَا هُوَ الْعبارَات، والمبادرة دَلِيل الْحَقِيقَة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1255 الثَّانِي: أَن الْكَلَام مُشْتَقّ من الْكَلم، لتأثيره فِي نفس السَّامع، والمؤثر فِي نفس السَّامع إِنَّمَا هُوَ الْعبارَات، لَا الْمعَانِي النفسية بِالْفِعْلِ، نعم هِيَ مُؤثرَة للفائدة بِالْقُوَّةِ والعبارة مُؤثرَة بِالْفِعْلِ، فَكَانَت أولى بِأَن تكون حَقِيقَة، وَمَا يكون مؤثرا بِالْقُوَّةِ مجَازًا. قَوْلهم: اسْتعْمل لُغَة وَعرفا فيهمَا. قُلْنَا: نعم لَكِن بالاشتراك، أَو بِالْحَقِيقَةِ فِيمَا ذَكرْنَاهُ، وَالْمجَاز فِيمَا ذكرتموه، وَالْأول مَمْنُوع. قَوْلهم: الأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة. قُلْنَا: وَالْأَصْل عدم الِاشْتِرَاك، ثمَّ قد تعَارض الْمجَاز والاشتراك الْمُجَرّد، وَالْمجَاز أولى، ثمَّ إِن لفظ الْكَلَام أَكثر مَا اسْتعْمل فِي الْعبارَات، وَكَثْرَة موارد الِاسْتِعْمَال تدل على الْحَقِيقَة. وَأما قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي أنفسهم} [المجادلة: 8] فمجاز، لِأَنَّهُ إِنَّمَا دلّ على الْمَعْنى النَّفْسِيّ بِالْقَرِينَةِ، وَهِي قَوْله: {فِي أنفسهم} ، وَلَو أطلق لما فهم إِلَّا الْعبارَة، وَكَذَلِكَ كل مَا جَاءَ من هَذَا الْبَاب إِنَّمَا يُفِيد مَعَ الْقَرِينَة، وَمِنْه قَول عمر - رَضِي الله عَنهُ -: (زورت فِي نَفسِي كلَاما) ، إِنَّمَا أَفَادَ ذَلِك بِقَرِينَة قَوْله: (فِي نَفسِي) . وَأما قَوْله تَعَالَى: {وأسروا قَوْلكُم أَو اجهروا بِهِ} [الْملك: 13] ، فَلَا حجَّة فِيهِ، لِأَن الْإِسْرَار نقيض الْجَهْر، وَكِلَاهُمَا عبارَة، إِحْدَاهمَا أرفع صَوتا من الْأُخْرَى. وَأما الشّعْر فَهُوَ للأخطل، وَيُقَال: إِن الْمَشْهُور فِيهِ: إِن الْبَيَان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1256 لفي الْفُؤَاد. وَبِتَقْدِير أَن يكون كَمَا ذكرْتُمْ، فَهُوَ مجَاز عَن مَادَّة الْكَلَام، وَهُوَ التصورات المصححة لَهُ، إِذْ من لَا يتَصَوَّر معنى مَا يَقُول لَا يُوجد مِنْهُ كَلَام، ثمَّ هُوَ مُبَالغَة من هَذَا الشَّاعِر فِي تَرْجِيح الْفُؤَاد على اللِّسَان ". انْتهى كَلَام الطوفي. وَقد نقل ابْن الْقيم فِي " النونية " أَن الشَّيْخ تَقِيّ الدّين رد كَلَام النَّفس من تسعين وَجها. وَقَالَ الْغَزالِيّ: (من أحَال سَماع مُوسَى كلَاما لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت، فليحل يَوْم الْقِيَامَة رُؤْيَة ذَات لَيست بجسم وَلَا عرض) انْتهى. قَالَ الطوفي: (كل هَذَا تكلّف وَخُرُوج عَن الظَّاهِر، بل عَن الْقَاطِع، من غير ضَرُورَة إِلَّا خيالات لاغية، وأوهام متلاشية، وَمَا ذكره معَارض: بِأَن الْمعَانِي لَا تقوم شَاهدا إِلَّا بالأجسام، فَإِن أَجَازُوا معنى قَامَ بِالذَّاتِ الْقَدِيمَة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1257 وَلَيْسَت جسما، فليجيزوا خُرُوج صَوت من الذَّات الْقَدِيمَة وَلَيْسَت جسما، إِذْ كلا الْأَمريْنِ خلاف الشَّاهِد وَمن أحَال كلَاما لفظيا من غير جسم فليحل ذاتا مرئية غير جسم وَلَا فرق) . ثمَّ قَالَ الطوفي: (وَالْعجب من هَؤُلَاءِ الْقَوْم، مَعَ أَنهم عقلاء فضلاء، يجيزون أَن الله تَعَالَى يخلق لمن يَشَاء من عباده علما ضَرُورِيًّا، وسمعا لكَلَامه النَّفْسِيّ من غير توَسط صَوت وَلَا حرف، وَأَن ذَلِك من [خاصية] مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، مَعَ أَن ذَلِك قلب لحقيقة السّمع فِي الشَّاهِد، إِذْ حَقِيقَة السّمع فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1258 فِي الشَّاهِد [اتِّصَال] الْأَصْوَات بحاسته، ثمَّ يُنكرُونَ علينا القَوْل بِأَن الله تَعَالَى يتَكَلَّم بِصَوْت وحرف من فَوق السَّمَاء لكَون ذَلِك مُخَالفا للشَّاهِد، فَإِن جَازَ قلب حَقِيقَة السّمع شَاهدا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَلَامه، فَلم لَا تجوز مُخَالفَة الشَّاهِد بِالنِّسْبَةِ إِلَى استوائه وَكَلَامه على مَا قُلْنَاهُ. فَإِن قَالُوا: لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل وجود حرف وَصَوت لَا من [جسم] ، وَوُجُود فِي جِهَة لَيْسَ بجسم. قُلْنَا: إِن عنيتم استحالته بِالْإِضَافَة إِلَى الشَّاهِد، فسماع كَلَام بِدُونِ توَسط صَوت وحرف كَذَلِك أَيْضا، وَإِن عنيتم استحالته مُطلقًا، فَلَا يسلم، إِذْ الْبَارِي - جلّ جَلَاله - على خلاف الْمُشَاهدَة والمعقول فِي ذَاته وَصِفَاته، وَقد وَردت النُّصُوص بِمَا قُلْنَا، فَوَجَبَ القَوْل بِهِ) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1259 فارغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1260 فارغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1261 فارغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1262 فارغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1263 فارغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1264 قَالَ الْحَافِظ أَبُو نصر عبيد الله بن سعيد بن حَاتِم السجسْتانِي - عَن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1265 قَول الْأَشْعَرِيّ: (لما كَانَ سَمعه بِلَا انخراق، وَجب أَن يكون كَلَامه بِلَا حرف وَلَا صَوت) -: (هَذَا غير مُسلم، وَلَا يَقْتَضِي مَا قَالَه، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي أَن سَمعه لما كَانَ بِلَا انخراق، وَجب أَن يكون كَلَامه من غير لِسَان وشفتين وحنك، وَأَيْضًا لَو كَانَ الْكَلَام غير حرف، وَكَانَت الْحُرُوف عبارَة عَنهُ، لم يكن بُد من أَن يحكم لتِلْك الْعبارَة بِحكم، إِمَّا أَن يكون أحدثها فِي صدر أَو لوح، أَو أنطق بهَا بعض عبيده، فَتكون منسوبة إِلَيْهِ، فَيلْزم من يَقُول ذَلِك أَن يفصح بِمَا عِنْده فِي السُّور والآي والحروف، أَهِي عبارَة جِبْرِيل أَو مُحَمَّد - عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام -؟ وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه أَن نقُول لَهُ كن فَيكون} [النَّحْل: 40] و " كن " حرفان، وَلَا يَخْلُو الْأَمر من أحد وَجْهَيْن: إِمَّا أَن يكون المُرَاد بقوله: " كن "، التكوين كالمعتزلة، أَو أَن يكون المُرَاد بِهِ ظَاهره، وَأَن الله تَعَالَى إِذا أَرَادَ إنجاز شَيْء قَالَ لَهُ: كن - على الْحَقِيقَة - فَيكون. وَقد قَالَ الْأَشْعَرِيّ: (إِنَّه على ظَاهره، لَا بِمَعْنى التكوين) ، فَيكون على ظَاهره، وَهُوَ حرفان، وَهُوَ مُخَالف لمذهبه، وَإِن قَالَ: لَيْسَ بِحرف، صَار بِمَعْنى التكوين كالمعتزلة) انْتهى. قلت: قَالَ الْحَافِظ شهَاب الدّين ابْن حجر فِي شرح البُخَارِيّ فِي بَاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1266 كَلَام الرب مَعَ جِبْرِيل: (وَالْمَنْقُول عَن السّلف اتِّفَاقهم على أَن الْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق، تَلقاهُ جِبْرِيل عَن الله - عز وَجل -، وبلغه جِبْرِيل إِلَى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وبلغه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أمته) انْتهى. وَصَحَّ عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره من السّلف أَنهم قَالُوا عَن الْقُرْآن: (مِنْهُ [خرج] وَإِلَيْهِ يعود) . وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (تنَازع الْعلمَاء فِي أَن الرب تَعَالَى هَل يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته أم لَا؟ على قَوْلَيْنِ: فَابْن كلاب وَمن وَافقه قَالُوا: لَا يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته، بل كَلَامه لَازم لذاته كحياته. ثمَّ من [هَؤُلَاءِ] من عرف أَن الْحُرُوف والأصوات لَا تكون قديمَة الْعين، فَلم يُمكنهُ أَن يَقُول: إِن الْقَدِيم هُوَ الْحُرُوف والأصوات، لِأَنَّهَا لَا تكون إِلَّا متعاقبة، وَالصَّوْت لَا يبْقى زمانين، فضلا عَن أَن يكون قَدِيما، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1267 فَقَالَ: الْقَدِيم معنى وَاحِد، لِامْتِنَاع معَان لَا نِهَايَة لَهَا، وَامْتِنَاع التَّخْصِيص بِعَدَد دون عدد. فَقَالُوا: هُوَ معنى وَاحِد، وَقَالُوا: إِن الله تَعَالَى لَا يتَكَلَّم بالْكلَام الْعَرَبِيّ والعبري، وَقَالُوا: إِن معنى التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن وَسَائِر كَلَام الله معنى وَاحِد، وَمعنى آيَة الْكُرْسِيّ وَآيَة الدّين معنى وَاحِد، إِلَى غير ذَلِك من اللوازم الَّذِي يَقُول جُمْهُور الْعُقَلَاء: إِنَّهَا معلولة الْفساد بضرورة الْعقل. وَمن هَؤُلَاءِ من عرف أَن الله تكلم بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيّ، والتوراة العبرية، وَأَنه نَادَى مُوسَى بِصَوْت، وينادي عباده بِصَوْت، وَأَن الْقُرْآن كَلَام الله حُرُوفه ومعانيه، لَكِن اعتقدوا مَعَ ذَلِك أَنه قديم وَأَن الله تَعَالَى لم يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته، فالتزموا: أَنه حُرُوف وأصوات قديمَة الْأَعْيَان لم تزل وَلَا تزَال، وَقَالُوا: إِن الْبَاء لم تسبق السِّين، وَإِن السِّين لم تسبق الْمِيم، وَإِن جَمِيع الْحُرُوف مقترنة بَعْضهَا بِبَعْض اقترانا [قَدِيما] أزليا، لم يزل وَلَا يزَال، وَقَالُوا: هِيَ مترتبة فِي حَقِيقَتهَا وماهيتها، غير مترتبة فِي وجودهَا، وَقَالَ كثير مِنْهُم، إِنَّهَا مَعَ ذَلِك شَيْء وَاحِد، إِلَى غير ذَلِك من اللوازم الَّتِي يَقُول جُمْهُور الْعُقَلَاء: إِنَّهَا مَعْلُومَة الْفساد بضرورة الْعقل. وَمن هَؤُلَاءِ من يَقُول: هُوَ قديم، وَلَا يفهم معنى الْقَدِيم. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الله تَعَالَى يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته، مَعَ أَنه غير مَخْلُوق، وَهَذَا قَول جَمَاهِير أهل السّنة وَالنَّظَر، وأئمة أهل السّنة والْحَدِيث. لَكِن من هَؤُلَاءِ من اعْتقد: أَن الله لم يُمكنهُ أَن يتَكَلَّم فِي الْأَزَل بمشيئته، كَمَا لم يُمكنهُ - عِنْدهم - أَن يفعل فِي الْأَزَل شَيْئا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1268 فالتزموا: أَنه تكلم بمشيئته بعد أَن لم يكن متكلما، كَمَا أَنه فعل بعد أَن لم يكن فَاعِلا، وَهَذَا قَول كثير من أهل الْكَلَام والْحَدِيث وَالسّنة. وَأما السّلف وَالْأَئِمَّة فَقَالُوا: إِن الله تَعَالَى يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته، وَإِن كَانَ مَعَ ذَلِك قديم النَّوْع، بِمَعْنى أَنه لم يزل متكلما إِذا شَاءَ، فَإِن الْكَلَام صفة كَمَال، وَمن يتَكَلَّم أكمل مِمَّن لَا يتَكَلَّم، وَمن يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته، أكمل مِمَّن لَا يكون متكلما بمشيئته وَقدرته، وَمن لَا يزَال متكلما بمشيئته وَقدرته، أكمل مِمَّن يكون مُمكنا لَهُ بعد أَن يكون مُمْتَنعا مِنْهُ، أَو قدر أَن ذَلِك مُمكن، فيكف إِذا كَانَ مُمْتَنعا، لِامْتِنَاع أَن يصير الرب قَادِرًا بعد أَن لم يكن، وَأَن يكون التَّكَلُّم وَالْفِعْل مُمكنا بعد أَن كَانَ غير مُمكن) انْتهى نقل الشَّيْخ تَقِيّ الدّين. وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله " فِي الْأَمر: (الْأَمر قسم من أَقسَام الْكَلَام، وَالْكَلَام: الْأَلْفَاظ المنتظمة لمعانيها، وَالْإِنْسَان قبل تلفظه يقوم بِقَلْبِه طلب فَيفزع إِلَى اللَّفْظ، كَمَا إِذا قَالَ: " أسقني مَاء "، كَأَنَّهُ يجد طلبا قَائِما بِقَلْبِه، فيقصد اللَّفْظ. وَاخْتلف النَّاس فِي حَقِيقَة ذَلِك الطّلب، فَقَالَت طَائِفَة: هُوَ قسم من أَقسَام الْعلم، وَقَالَت أُخْرَى: إِرَادَة الْفِعْل، وَقَالَت الأشعرية: هُوَ كَلَام النَّفس، وَهُوَ مُغَاير للْعلم والإرادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1269 وَأنْكرت الجماهير والمعتزلة قيام معنى بِالنَّفسِ غير الْعلم والإرادة، وَقَالُوا: الْقَائِم بِالْقَلْبِ هُوَ صُورَة مَا يُرِيد النُّطْق بِهِ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ: (الَّذِي يجده الْإِنْسَان فِي نَفسه قبل أَن يتَكَلَّم هُوَ استحضار صور الْكَلَام، وَالْعلم بِمَا يَقُوله شَيْئا فَشَيْئًا، والعزم على إِيرَاده بِاللِّسَانِ، كَمَا يستحضر صُورَة الْكِتَابَة قبل أَن يكْتب، وَلَا مُقْتَضى لإِثْبَات أَمر غير مَا ذَكرْنَاهُ) . قَالَ: (وَلَو ثَبت لم يكن كلَاما فِي اللُّغَة، وَلَا يُسمى الْإِنْسَان لأَجله متكلما، وَلذَلِك يَقُول أهل اللُّغَة للساكت: (إِنَّه غير مُتَكَلم) ، وَإِن جَازَ أَن يقوم بِهِ ذَلِك الْمَعْنى، وَلَا يَقُولُونَ للساكت: (إِنَّه غير مُرِيد وَلَا عَالم) . قَالَ: وَقَول أهل اللُّغَة: (فِي نَفسِي كَلَام) ، مجَاز، وَالْمرَاد بذلك: عزم على الْكَلَام، كَقَوْلِهِم: (فِي نَفسِي السّفر) . قَالَ: (وَلَو ثَبت فِي النَّفس معنى هُوَ الْكَلَام عَن الاعتقادات والعزم، لَكَانَ مُحدثا، لِأَن الَّذِي يشيرون إِلَيْهِ مُرَتّب يَتَجَدَّد فِي النَّفس بعضه بعد بعض، ومرتب حسب تَرْتِيب الْكَلَام المسموع، فَإِن كَانَ كَلَام الله معنى مَا فِي النَّفس من الْكَلَام فِي الشَّاهِد، اسْتَحَالَ قدمه، وَإِن لم يكن مَعْنَاهُ بَطل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1270 قَوْلهم: إِن مَا أَثْبَتْنَاهُ مَعْقُول فِي الشَّاهِد) . وَقَالَت الأشاعرة: ذَلِك الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ هُوَ الْكَلَام، والحروف والأصوات دلالات عَلَيْهِ ومعرفات، وَإنَّهُ حَقِيقَة وَاحِدَة هِيَ الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستخبار، وَإِنَّهَا صِفَات لَهُ لَا أَنْوَاع، إِن عبر عَنهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ عَرَبيا، أَو السريانية كَانَ سريانيا، وَكَذَلِكَ فِي سَائِر اللُّغَات، وَإنَّهُ لَا يَتَبَعَّض وَلَا يتَجَزَّأ. ثمَّ اخْتلفُوا، فَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَغَيره: (الْكَلَام الْمُطلق حَقِيقَة، هُوَ مَا فِي النَّفس شَاهدا أَو غَائِبا، وَإِطْلَاق الْكَلَام على الْحُرُوف والأصوات مجَاز) . وَقَالَ جمهورهم: يُطلق على كل مِنْهُمَا بالاشتراك اللَّفْظِيّ. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ حَقِيقَة فِي اللساني، مجَاز فِي النَّفْسِيّ، وَلَيْسَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1271 الْخلاف [جَارِيا] فِي نفس الْكَلَام، بل مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والتصديق والتكذيب، وَنَحْو ذَلِك من عوارض الْكَلَام. قَالَ الرَّازِيّ فِي " الْأَرْبَعين ": (مَاهِيَّة ذَلِك الطّلب مُغَايرَة لذَلِك اللَّفْظ، وَيدل عَلَيْهِ وُجُوه: أَحدهَا: أَن مَاهِيَّة هَذَا الْمَعْنى لَا تتبدل باخْتلَاف الْأَمْكِنَة والأزمنة، والألفاظ الدَّالَّة على هَذَا الْمَعْنى تخْتَلف باخْتلَاف الْأَزْمِنَة والأمكنة. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (قيل: عَلَيْهِ وَجْهَان: أَحدهمَا: إِن أردْت اخْتِلَاف أجناسها، فَهَذَا مُسلم وَلَا ينفعك، وَإِن أردْت اخْتِلَاف قدرهَا وصفتها فَمَمْنُوع، لأَنا لَا نسلم أَن الطّلب الْحَاصِل بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيّ الفصيح مَعَ الصَّوْت الجهوري مماثل للطلب بِاللَّفْظِ الأعجمي مَعَ الصَّوْت الضَّعِيف، وَهَذَا لِأَن الْقَائِم بِالنَّفسِ قد يتَفَاوَت، فَيكون طلب أقوى من غَيره وأكمل. الثَّانِي: هَب أَن الْمَدْلُول مُتحد، وَالدَّال مُخْتَلف، لَكِن لم لَا جيوز وجود الْمَدْلُول مَشْرُوطًا بِالدَّلِيلِ، فَهُوَ وَإِن غايره لَكِن لَا يُوجد إِلَّا بِوُجُودِهِ، أَلا ترى أَن كَون الْإِنْسَان مخبرا لغيره لَا بُد فِيهِ من أَمر ظَاهر، يدل على مَا فِي بَاطِنه من الْمَعْنى، وَذَلِكَ الْأَمر الظَّاهِر وَإِن اخْتلف، لَكِن لَا يكون مخبرا إِلَّا بِهِ، وَإِذا لَاحَ لَك ذَلِك، لم يكن مُجَرّد كَون الْمَعْنى مغايرا كَافِيا فِي مَطْلُوبه، وَهَذَا كَمَا أَن الْمَعْنى قَائِم بِالروحِ، وَاللَّفْظ قَائِم بِالْبدنِ، ثمَّ إِن وجود الرّوح فِي هَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1272 الْعَالم لَا يُمكن إِلَّا مَعَ الْبدن، و - أَيْضا - فَكل من المتلازمين دَلِيل على الآخر، لَا يَقْتَضِي ذَلِك وجود الْمَدْلُول بِدُونِ الدَّلِيل: كالأمور المتضايفة كالأبوة والبنوة) . قَالَ الرَّازِيّ: (الْوَجْه الثَّانِي: أَن جَمِيع الْعُقَلَاء يعلمُونَ بِالضَّرُورَةِ أَن قَول الْقَائِل: افْعَل، دَلِيل على ذَلِك الطّلب [الْقَائِم] بِالْقَلْبِ، وَالدَّلِيل مُغَاير للمدلول) . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (هَب أَن الْأَمر كَذَلِك، لَكِن لم يجمعوا على أَنه يُوجد الْمَدْلُول دون دَلِيله) . قَالَ الرَّازِيّ: (الْوَجْه الثَّالِث: أَن جَمِيع الْعُقَلَاء يعلمُونَ بِالضَّرُورَةِ أَن قَول الْقَائِل: افْعَل، لَا يكون طلبا وأمرا إِلَّا عِنْد اصْطِلَاح النَّاس على هَذَا الْوَضع. وَأما كَون ذَلِك الْمَعْنى الْقَائِم بِالْقَلْبِ طلبا، فَإِنَّهُ أَمر ذاتي حَقِيقِيّ لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى الْوَضع والاصطلاح) . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (قيل: مَا ذكرت مَمْنُوع، فَإِن أَكثر النَّاس لَا يجْعَلُونَ اللُّغَات اصطلاحية، بل إِمَّا توقيفية بإلهام أَو بِغَيْر إلهام، والنزاع فِي ذَلِك مَشْهُور. وَلَو سلم، فَلم قلت بِإِمْكَان وجوده بِدُونِ اللَّفْظ) . قَالَ الرَّازِيّ: (الْوَجْه الرَّابِع: هُوَ أَنهم قَالُوا: إِن قَوْلنَا: " ضرب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1273 يضْرب "، إِخْبَار، وَقَوْلنَا: " اضْرِب وَلَا تضرب "، أَمر وَنهي، وَلَو أَن الواضعين قلبوا الْأَمر وَقَالُوا بِالْعَكْسِ، لَكَانَ جَائِزا، أما لَو قَالُوا: إِن حَقِيقَة الطّلب يُمكن أَن تقلب خَبرا، أَو حَقِيقَة الْخَبَر يُمكن أَن تقلب طلبا، لَكَانَ ذَلِك محالا) . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (قيل: لَو سلم، لم يلْزم أَن لَا يكون وجود أَحدهمَا مَشْرُوطًا بِالْآخرِ، و - أَيْضا - أَنْتُم ادعيتم: أَن حَقِيقَة الطّلب وَحَقِيقَة الْخَبَر شَيْء وَاحِد، بل ادّعى الرَّازِيّ: أَن حَقِيقَة الطّلب دَاخِلَة فِي حَقِيقَة الْخَبَر، فَقَالَ فِي كَون كَلَام الله وَاحِدًا أَمر وَنهي وَخبر: إِنَّه يرجع إِلَى حرف وَاحِد، وَهُوَ الْكَلَام كُله خبر؛ لِأَن الْأَمر عبارَة عَن تَعْرِيف [الْغَيْر] أَنه لَو فعله لصار مُسْتَحقّا [للمدح، وَلَو تَركه صَار] مُسْتَحقّا للذم، وَكَذَا القَوْل فِي النَّهْي، وَإِذا كَانَ مرجع الْكل إِلَى شَيْء وَاحِد، وَهُوَ الْخَبَر، صَحَّ أَن كَلَام الله وَاحِد) . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: احْتج الْجُمْهُور بِالْكتاب وَالسّنة واللغة وَالْعرْف. أما الْكتاب: فَقَوله تَعَالَى: {آيتك أَلا تكلم النَّاس ثَلَاث لَيَال سويا (10) فَخرج على قومه من الْمِحْرَاب فَأوحى إِلَيْهِم أَن سبحوا بكرَة وعشيا} [مَرْيَم: 10 - 11] ، فَلم يسم الْإِشَارَة كلَاما. وَقَالَ لِمَرْيَم: {فَقولِي إِنِّي نذرت للرحمن صوما فَلَنْ أكلم الْيَوْم إنسيا} [مَرْيَم: 26] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1274 وَفِي " الصَّحِيح ": أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِن الله تَعَالَى عَفا لأمتي عَن الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا مَا لم تكلم أَو تعْمل بِهِ ". وَقسم أهل اللِّسَان الْكَلَام إِلَى: اسْم، وَفعل، وحرف. وَاتفقَ الْفُقَهَاء كَافَّة: على أَن من حلف لَا يتَكَلَّم، لَا يَحْنَث بِدُونِ النُّطْق، وَإِن حدثته نَفسه. فَإِن قيل: الْأَيْمَان مبناها على الْعرف. قيل: الأَصْل عدم التَّغْيِير، وَأهل الْعرف يسمون النَّاطِق متكلما، وَمن عداهُ ساكتا أَو [أخرسا] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1275 قَالُوا: قَوْله تَعَالَى: {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد إِنَّك لرَسُول الله وَالله يعلم إِنَّك لرَسُوله وَالله يشْهد إِن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ} [المُنَافِقُونَ: 1] ، أكذبهم الله تَعَالَى فِي شَهَادَتهم، وَمَعْلُوم صدقهم فِي النُّطْق اللساني، فَلَا بُد من إِثْبَات كَلَام فِي النَّفس لكَون الْكَذِب عَائِدًا إِلَيْهِ، [فَقَوله] تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي أنفسهم لَوْلَا يعذبنا الله بِمَا نقُول} [المجادلة: 3] ، وَقَوله تَعَالَى: {استكبروا فِي أنفسهم} [الْفرْقَان: 21] ، وَقَوله تَعَالَى: {وأسروا قَوْلكُم أَو اجهروا بِهِ} [الْملك: 13] ، وَقَوله تَعَالَى: {ونعلم مَا [توسوس] بِهِ نَفسه} [ق: 16] . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (أما الأول: فَلِأَن الشَّهَادَة الْإِخْبَار عَن الشَّيْء مَعَ اعْتِقَاده، فَلَمَّا لم يَكُونُوا معتقدين ذَلِك أكذبهم الله تَعَالَى. وَعَن الثَّانِي وَجْهَان: الأول: أَنه قَول بحروف وأصوات خُفْيَة، وَلِهَذَا فسره بِمَا بعده. الثَّانِي: أَنه قَول مُقَيّد، فَهُوَ مجَاز، وَهُوَ الْجَواب عَن الْإِسْرَار والجهر. وَعَن الثَّالِث: أَن الاستكبار رُؤْيَة للنَّفس، وَهُوَ خَارج عَن ذَلِك. قَالُوا: قَول عمر: " زورت فِي نَفسِي كلَاما ". قُلْنَا: زور: صور مَا يُرِيد النُّطْق بِهِ، أَو كَقَوْل الْقَائِل: زورت فِي نَفسِي نبأ أَو سفرا ". قَالُوا: قَول الأخطل: (إِن الْكَلَام لفي الْفُؤَاد ... ... ... ... ... ... ... ) إِلَى آخِره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1276 قُلْنَا: الْبَيْت مَوْضُوع على الأخطل، فَلَيْسَ هُوَ فِي نسخ ديوانه، وَإِنَّمَا هُوَ لِابْنِ ضمضام، وَلَفظه: إِن الْبَيَان، وَسَيَأْتِي فِي كَلَام الشَّيْخ الْمُوفق. وَقَالَ الْآمِدِيّ: " فَإِن قيل: إِذا جعلتم الْحَقَائِق الَّتِي هِيَ الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستخبار شَيْئا وَاحِدًا، لزمكم أَن ترد الصِّفَات إِلَى معنى وَاحِد. قُلْنَا: هُوَ سُؤال وَارِد، وَلَعَلَّ عِنْد غَيرنَا حلّه " انْتهى. وَقَالَ أَبُو نصر السجْزِي: " قَوْلهم: لَا يَتَبَعَّض، يرد عَلَيْهِ أَن مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سمع بعض كَلَام الله، وَلَا يُمكن أَن يُقَال: سمع الْكل) . وَقَالَ ابْن درباس الشَّافِعِي: " وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {ففهمناها سُلَيْمَان} [الْأَنْبِيَاء: 79] ، مَعَ التَّصْرِيح باختصاص مُوسَى بالْكلَام ".) انْتهى كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل وَنَقله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1277 وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي فتيا لَهُ تسمى بالأزهرية: (وَمن قَالَ: إِن الْقُرْآن عبارَة عَن كَلَام الله تَعَالَى، وَقع فِي محذورات: أَحدهَا: قَوْلهم: " إِن هَذَا لَيْسَ هُوَ كَلَام الله "، فَإِن نفي هَذَا الْإِطْلَاق خلاف مَا علم بالاضطرار من دين الْإِسْلَام، وَخلاف مَا دلّ عَلَيْهِ الشَّرْع وَالْعقل. وَالثَّانِي: قَوْلهم: " عبارَة "، إِن أَرَادوا: أَن هَذَا الثَّانِي هُوَ الَّذِي عبر عَن كَلَام الله الْقَائِم بِنَفسِهِ، لزم أَن يكون كل تال معبر عَمَّا فِي نفس الله، والمعبر عَن غَيره هُوَ المنشيء للعبارة، فَيكون كل قاريء هُوَ المنشيء لعبارة الْقُرْآن، وَهَذَا مَعْلُوم الْفساد بِالضَّرُورَةِ. وَإِن أَرَادوا: أَن الْقُرْآن الْعَرَبِيّ عبارَة عَن مَعَانِيه فَهَذَا حق، إِذْ كل كَلَام، فلفظه عبارَة عَن مَعْنَاهُ، لَكِن هَذَا لَا يمْنَع أَن يكون الْكَلَام متناولا للفظ. وَالْمعْنَى الثَّالِث: أَن الْكَلَام قد قيل: إِنَّه حَقِيقَة فِي اللَّفْظ، مجَاز فِي الْمَعْنى، وَقيل: حَقِيقَة فِي الْمَعْنى مجَاز فِي اللَّفْظ، وَقيل: بل حَقِيقَة فِي كل مِنْهُمَا. وَالصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ السّلف وَالْأَئِمَّة: أَنه حَقِيقَة فِي مجموعهما، كَمَا أَن الْإِنْسَان، قيل: هُوَ حَقِيقَة فِي الْبدن فَقَط، وَقيل: بل فِي الرّوح فَقَط، وَالصَّوَاب: أَنه حَقِيقَة فِي الْمَجْمُوع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1278 فالنزاع فِي النَّاطِق، كالنزاع فِي مَنْطِقه. وَإِذا كَانَ كَذَلِك، فالمتكلم إِذا تكلم بِكَلَام لَهُ لفظ وَمعنى، وَبلغ عَنهُ بِلَفْظ وَمَعْنَاهُ، فَإِذا قيل: مَا بلغه الْمبلغ من اللَّفْظ إِن هَذَا عبارَة عَن الْقُرْآن، وَأَرَادَ بِهِ الْمَعْنى الَّذِي للمبلغ عَنهُ، نفى عَنهُ اللَّفْظ الَّذِي للمبلغ عَنهُ، وَالْمعْنَى الَّذِي قَامَ بالمبلغ، فَمن لم يثبت إِلَّا الْقُرْآن المسموع، الَّذِي هُوَ عبارَة عَن الْمَعْنى الْقَائِم بِالذَّاتِ، قيل لَهُ: فَهَذَا الْكَلَام المنظوم الَّذِي كَانَ مَوْجُودا قبل قِرَاءَة الْقُرَّاء، هُوَ مَوْجُود قطعا وثابت، فَهَل هُوَ دَاخل فِي الْعبارَة والمعبر عَنهُ أَو غَيرهمَا؟ فَإِن جعلته غَيرهمَا بَطل اقتصارك على الْعبارَة والمعبر عَنهُ، وَإِن جعلته أَحدهمَا، لزمك إِن لم تثبت إِلَّا هَذِه الْعبارَة وَالْمعْنَى الْقَائِم بِالذَّاتِ أَن تَجْعَلهُ نفس مَا يسمع من الْقُرَّاء، فَيجْعَل عين مَا يبلغهُ المبلغون هُوَ عين مَا يسمعوه، وَهُوَ الَّذِي فَرَرْت مِنْهُ. وَأَيْضًا فَيُقَال لَهُ: القاريء الْمبلغ إِذا قَرَأَ، فَلَا بُد لَهُ فِيمَا يقوم بِهِ من لفظ وَمعنى، وَإِلَّا كَانَ اللَّفْظ الَّذِي قَامَ بِهِ عبارَة عَن الْقُرْآن، فَيجب أَن يكون عبارَة عَن الْمَعْنى الَّذِي قَامَ بِهِ لَا عَن معنى قَامَ بِغَيْرِهِ، فَقَوْلهم: هَذَا هُوَ الْعبارَة عَن الْمَعْنى الْقَائِم بِالذَّاتِ، أخطأوا من وَجْهَيْن. أخطأوا فِي بَيَان مَذْهَبهم فَإِن حَقِيقَة قَوْلهم: إِن اللَّفْظ المسموع من القاريء حِكَايَة اللَّفْظ الَّذِي عبر بِهِ عَن معنى الْقُرْآن مُطلقًا، وَذَلِكَ أَن اللَّفْظ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1279 عبارَة عَن الْمَعْنى الْقَائِم بِالذَّاتِ، وَلَفظه وَمَعْنَاهُ حِكَايَة عَن ذَلِك اللَّفْظ وَالْمعْنَى. ثمَّ إِذا عرف مَذْهَبهم بَقِي خطؤهم فِي أصُول: مِنْهَا: زعمهم: أَن مَعَاني الْقُرْآن معنى وَاحِد، هُوَ الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر، وَأَن معنى التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن معنى وَاحِد، وَمعنى آيَة الْكُرْسِيّ معنى آيَة الدّين، وَفَسَاد هَذَا مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ. وَمِنْهَا: زعمهم أَن الْقُرْآن الْعَرَبِيّ لم يتَكَلَّم الله بِهِ) . وَأطَال فِي ذَلِك وَبرهن عَلَيْهِ بِمَا يطول هُنَا ذكره. وَقَالَ بعد ذَلِك: (وَأول من قَالَ هَذَا فِي الْإِسْلَام عبد الله بن سعيد بن كلاب، وَجعل الْقُرْآن الْمنزل حِكَايَة عَن ذَلِك الْمَعْنى، فَلَمَّا جَاءَ الْأَشْعَرِيّ وَاتبع ابْن كلاب فِي أَكثر مقَالَته، ناقشه على قَوْله: إِن هَذَا حِكَايَة عَن ذَلِك، وَقَالَ: الْحِكَايَة تماثل المحكي، فَهَذَا اللَّفْظ يَصح من الْمُعْتَزلَة، لِأَن ذَلِك الْمَخْلُوق حُرُوف وأصوات عِنْدهم، وحكاية مثله. وَأما على أصل ابْن كلاب فَلَا يَصح أَن يكون حِكَايَة بل يَقُول: إِنَّه عبارَة عَن الْمَعْنى، فَأول من قَالَ بالعبارة الْأَشْعَرِيّ. وَكَانَ الباقلاني - فِيمَا ذكر عَنهُ - إِذا درس مَسْأَلَة الْقُرْآن يَقُول: هَذَا قَول الْأَشْعَرِيّ، وَلم يتَبَيَّن لي صِحَة هَذَا القَوْل، أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1280 وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد الإِسْفِرَايِينِيّ يَقُول: (مَذْهَب الشَّافِعِي وَسَائِر الْأَئِمَّة فِي الْقُرْآن خلاف قَول الْأَشْعَرِيّ، وَقَوْلهمْ هُوَ قَول الإِمَام أَحْمد) . وَكَذَلِكَ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ ذكر أَن الْأَشْعَرِيّ [خَالف] فِي مَسْأَلَة الْكَلَام قَول الشَّافِعِي وَغَيره، وَأَنه أَخطَأ فِي ذَلِك. وَكَذَلِكَ سَائِر أَئِمَّة أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهمَا يذكرُونَ قَوْلهم فِي حد الْكَلَام وأنواعه من الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر الْعَام وَالْخَاص وَغير ذَلِك، ويجعلون الْخلاف فِي ذَلِك مَعَ الْأَشْعَرِيّ، كَمَا هُوَ مُبين فِي أصُول الْفِقْه الَّتِي صنفها أَئِمَّة أَصْحَاب أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهم) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1281 ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك: (وَمن قَالَ من الْمُعْتَزلَة والكلابية: " إِن الْقُرْآن الْمنزل حِكَايَة ذَلِك "، وظنوا أَن الْمبلغ حاك لذَلِك الْكَلَام، وَلَفظ الْحِكَايَة قد يُرَاد بِهِ محاكاة النَّاس فِيمَا يَقُولُونَهُ ويفعلونه اقْتِدَاء بهم وموافقة لَهُم. فَمن قَالَ: " إِن الْقُرْآن حِكَايَة كَلَام الله تَعَالَى " بِهَذَا الْمَعْنى فقد غلط وضل ضلالا مُبينًا، فَإِن الْقُرْآن لَا يقدر النَّاس على أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ، وَلَا يقدر أحد أَن يَأْتِي بِمَا يحكيه، وَقد يُرَاد بِلَفْظ الْحِكَايَة النَّقْل والتبليغ كَمَا يُقَال: فلَان حكى عَن فلَان أَنه قَالَ كَذَا، كَمَا يُقَال عَنهُ: نقل عَنهُ، فَهُنَا بِمَعْنى التَّبْلِيغ للمعنى، وَقد يُقَال: حكى عَنهُ أَنه قَالَ كَذَا وَكَذَا، لما قَالَه بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، فالحكاية هُنَا بِمَعْنى التَّبْلِيغ للفظ وَالْمعْنَى، لَكِن يفرق بَين أَن يَقُول: حكيت كَلَامه، على وَجه الْمُمَاثلَة لَهُ وَبَين أَن يَقُول: حكيت عَنهُ كَلَامه وَبَلغت عَنهُ، أَنه قَالَ مثل قَوْله من غير تَبْلِيغ عَنهُ، وَقد يُرَاد بِهِ الْمَعْنى الآخر، وَهُوَ أَنه بلغ عَنهُ مَا قَالَه، فَإِن أُرِيد الْمَعْنى الأول جَازَ أَن يُقَال: هَذَا حِكَايَة كَلَام فلَان، وَهَذَا مثل كَلَام فلَان، وَلَيْسَ هُوَ مبلغا عَنهُ كَلَامه، وَإِن أُرِيد الْمَعْنى الثَّانِي وَهُوَ مَا إِذا حكى الْإِنْسَان عَن غَيره مَا يَقُوله وبلغه عَنهُ، فَهُنَا يُقَال: هَذَا كَلَام فلَان، وَلَا يُقَال: هَذَا حِكَايَة فلَان، كَمَا لَا يُقَال: هَذَا مثل كَلَام فلَان، بل قد يُقَال: هَذَا كَلَام فلَان بِعَيْنِه، بِمَعْنى: أَنه لم يُغير وَلم يحرف وَلم يزدْ وَلم ينقص) . وَأطَال فِي ذَلِك. قلت: قَالَ الإِمَام أَحْمد: (الْقُرْآن كَيفَ تصرف فَهُوَ غير مَخْلُوق، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1282 وَلَا نرى القَوْل بالحكاية والعبارة) ، وَغلط من قَالَ بهما وجهله. فَقَالَ: (من قَالَ الْقُرْآن عبارَة عَن كَلَام الله تَعَالَى فقد غلط وَجَهل) . وَقَالَ: (النَّاسِخ والمنسوخ فِي كتاب الله دون الْعبارَة والحكاية) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1283 وَقَالَ: (هَذِه بِدعَة لم يقلها السّلف، وَقَوله تَعَالَى: {تكليما} ، يبطل الْحِكَايَة، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يعود) . نَقله ابْن حمدَان فِي " نِهَايَة المبتدئين "، وَفِي ذَلِك كِفَايَة فِي الرَّد على من قَالَ: هُوَ عبارَة أَو حِكَايَة. قلت: وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: (لسنا نشك أَن الْقُرْآن فِي الْمُصحف على الْحَقِيقَة، لَا على الْمجَاز، كَمَا يَقُوله بعض أَصْحَاب الْكَلَام: إِن الَّذِي فِي الْمُصحف دَلِيل على الْقُرْآن) انْتهى. وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام موفق الدّين ابْن قدامَة الْمَقْدِسِي فِي تصنيف مُفْرد لَهُ فِي ذَلِك: (أجمعنا على أَن الْقُرْآن كَلَام الله تَعَالَى، وَقد أخبر الله تَعَالَى بذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1284 بقوله: {فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله} [التَّوْبَة: 6] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَقد كَانَ فريق مِنْهُم يسمعُونَ كَلَام الله} [الْبَقَرَة: 75] ، وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِن قُريْشًا قد مَنَعُونِي أَن أبلغ كَلَام رَبِّي "، وَقَالَ أَبُو بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ -: " مَا هَذَا كَلَامي وَلَا كَلَام صَاحِبي وَلكنه كَلَام الله تَعَالَى ". وَالْكَلَام: هُوَ الْحُرُوف الْمَنْظُومَة، والكلمات المفهومة، والأصوات الْمَعْلُومَة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع. أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى: {آيتك أَلا تكلم النَّاس ثَلَاث لَيَال سويا (10) فَخرج على قومه من الْمِحْرَاب فَأوحى إِلَيْهِم أَن سبحوا بكرَة وعشيا} [مَرْيَم: 10 - 11] . وَقَالَ لِمَرْيَم: {فَقولِي إِنِّي نذرت للرحمن صوما فَلَنْ أكلم الْيَوْم إنسيا} ، إِلَى قَوْله: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيفَ نُكَلِّم من كَانَ فِي المهد صَبيا} [مَرْيَم: 26 - 29] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1285 وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا من أذن لَهُ الرَّحْمَن} [سُورَة النبأ: 38] . وَقَالَ تَعَالَى: {هَذَا يَوْم لَا ينطقون} [المرسلات: 35] ، ومعناهما وَاحِد. وَقَالَ تَعَالَى: {وتكلمنا أَيْديهم وَتشهد أَرجُلهم} [يس: 65] ، يَعْنِي بِهِ: النُّطْق، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لجلودهم لم شهدتم علينا قَالُوا أنطقنا الله الَّذِي أنطق كل شَيْء} [فصلت: 21] . وَقَالَ تَعَالَى: {ويكلم النَّاس فِي المهد وكهلا} [آل عمرَان: 46] يَعْنِي بِهِ: النُّطْق. وَأما السّنة فَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عُفيَ لأمي عَن الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا مَا لم تكلم أَو تعْمل بِهِ "، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن صَلَاتنَا هَذِه لَا يَصح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس "، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لم يتَكَلَّم فِي المهد إِلَّا ثَلَاثَة ... " الحَدِيث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1286 وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كل [كَلَام] ابْن آدم عَلَيْهِ لَا لَهُ ... " الحَدِيث، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من كثر كَلَامه كثر سقطه ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1287 وَأما الْإِجْمَاع: فَإِن النَّاس فِي أشعارهم، ومنثور كَلَامهم، وعرفهم، وأحكامهم، على أَن الْكَلَام: النُّطْق، وَأَجْمعُوا: أَنه إِذا حلف: لَا يتَكَلَّم، لَا يَحْنَث إِلَّا بالنطق. قَالَ: وَاعْترض الْقَائِل بِكَلَام النَّفس على ذَلِك بِوُجُوه: أَحدهَا: قَول الأخطل: (إِن الْكَلَام [لفي] الْفُؤَاد ... ... ... ... ... ... ... ) إِلَى آخِره. الثَّانِي: سلمنَا أَن كَلَام الْآدَمِيّ صَوت وحرف، وَلَكِن كَلَام الله تَعَالَى بِخِلَافِهِ، لِأَنَّهُ صفته، فَلَا يشبه صِفَات الْآدَمِيّين، وَلَا كَلَامه كَلَامهم. الثَّالِث: أَن مذهبكم فِي الصِّفَات أَن لَا تفسر، فَكيف فسرتم كَلَام الله بِمَا ذكرْتُمْ؟ الرَّابِع: أَن الْحُرُوف لَا تخرج إِلَّا من مخارج وأدوات، وَالصَّوْت لَا يكون إِلَّا من جسم، وَالله تَعَالَى يتعالى عَن ذَلِك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1288 الْخَامِس: أَن الْحُرُوف يدخلهَا التَّعَاقُب، فالباء تسبق السِّين، وَالسِّين تسبق الْمِيم، وكل مَسْبُوق مَخْلُوق. السَّادِس: أَن هَذَا يدْخلهُ التجزؤ والتعداد، وَالْقَدِيم لَا يتَجَزَّأ وَلَا يَتَعَدَّد. قَالَ شيخ الْإِسْلَام الْمُوفق: الْجَواب عَن الأول من وُجُوه: الأول: أَن هَذَا شَاعِر نَصْرَانِيّ عَدو لله وَرَسُوله وَدينه، أفيجب اطراح كَلَام الله وَرَسُوله وَسَائِر الْخلق تَصْحِيحا لكَلَامه، وَحمل كَلَامهم على الْمجَاز صِيَانة لكلمته هَذِه عَن الْمجَاز. وَأَيْضًا فتحتاجون إِلَى إِثْبَات هَذَا الشّعْر بِبَيَان إِسْنَاده، وَنقل الثِّقَات لَهُ، وَلَا يقتنع بشهرته، وَقد يشْتَهر الْفَاسِد، وَقد سَمِعت شَيخنَا أَبَا مُحَمَّد بن الخشاب - إِمَام أهل الْعَرَبيَّة فِي زَمَانه - يَقُول: (قد فتشت دواوين الأخطل العتيقة فَلم أجد هَذَا الْبَيْت فِيهَا) . الثَّانِي: لَا نسلم أَن لَفظه هَكَذَا إِنَّمَا قَالَ: (إِن الْبَيَان من الْفُؤَاد ... ... ... ... ... ... ... ) فحرفوه وَقَالُوا: الْكَلَام. الثَّالِث: أَن هَذَا مجَاز أَرَادَ بِهِ: أَن الْكَلَام من عقلاء النَّاس - فِي الْغَالِب - إِنَّمَا يكون بعد التروي فِيهِ، واستحضار مَعَانِيه فِي الْقلب، كَمَا قيل: (لِسَان الْحَكِيم من وَرَاء قلبه، فَإِن كَانَ لَهُ قَالَ، وَإِن لم يكن لَهُ سكت، وَكَلَام الْجَاهِل على طرف لِسَانه) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1289 وَالدَّلِيل على أَن هَذَا مجَاز وُجُوه كَثِيرَة: أَحدهَا: مَا ذكرنَا، وَمَا تَرَكْنَاهُ أَكثر مِمَّا ذكرنَا مِمَّا يدل على أَن الْكَلَام هُوَ النُّطْق، وَحمله على حَقِيقَته بِحمْل كلمة الأخطل على مجازها، أولى من الْعَكْس. الثَّانِي: أَن الْحَقِيقَة يسْتَدلّ عَلَيْهَا بسبقها إِلَى الذِّهْن وتبادر الأفهام إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا يفهم من إِطْلَاق الْكَلَام مَا ذَكرْنَاهُ. الثَّالِث: تَرْتِيب الْأَحْكَام على مَا ذكرنَا دون مَا ذَكرُوهُ. الرَّابِع: قَول أهل الْعَرَبيَّة، الَّذين هم أهل اللِّسَان، وهم أعرف بِهَذَا الشَّأْن. الْخَامِس: الِاشْتِقَاق الَّذِي ذَكرْنَاهُ. السَّادِس: لَا يَصح إِضَافَة مَا ذَكرُوهُ إِلَى الله تَعَالَى، فَإِنَّهُ جعل الْكَلَام فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1290 الْفُؤَاد، وَالله تَعَالَى لَا يُوصف بذلك، وَجعل اللِّسَان دَلِيلا عَلَيْهِ، وَلِأَن الَّذِي عبر عَنهُ الأخطل بالْكلَام هُوَ: التروي والفكر واستحضار الْمعَانِي، وَحَدِيث النَّفس ووسوستها، وَلَا يجوز إِضَافَة شَيْء من ذَلِك إِلَى الله تَعَالَى، بِلَا خلاف بَين الْمُسلمين. قَالَ: وَمن أعجب الْأُمُور: أَن خصومنا ردوا على الله وعَلى رَسُوله، وخالفوا جَمِيع الْخلق من الْمُسلمين وَغَيرهم، فِرَارًا من التَّشْبِيه على زعمهم، ثمَّ صَارُوا إِلَى تَشْبِيه أقبح وأفحش من كل تَشْبِيه، وَهَذَا نوع من التغفيل، وَمن أدل الْأَشْيَاء على فَسَاد قَوْلهم: تَركهم قَول الله تَعَالَى وَقَول رَسُوله، وَمَا لَا يُحْصى من الْأَدِلَّة، وتمسكوا بِكَلِمَة قَالَهَا هَذَا الشَّاعِر النَّصْرَانِي، جعلوها أساس مَذْهَبهم، وَقَاعِدَة عقدهم، وَلَو أَنَّهَا انْفَرَدت عَن مُبْطل وخلت عَن معَارض لما جَازَ أَن يبْنى عَلَيْهَا هَذَا الأَصْل الْعَظِيم، فَكيف وَقد عارضها مَا لَا يُمكن رده، فمثلهم كَمثل رجل بنى قصرا على أَعْوَاد الكبريت فِي مجْرى [النّيل] . وَأما قَوْلهم: عَن كَلَام الله يجب أَن لَا يكون حروفا يشبه كَلَام الْآدَمِيّين، قُلْنَا: جَوَابه من وُجُوه: أَحدهَا: أَن الِاتِّفَاق فِي أصل الْحَقِيقَة لَيْسَ بتشبيه كَمَا أَن اتِّفَاق الْبَصَر فِي أَنه أدْرك المبصرات، والسمع فِي أَنه أدْرك المسموعات، وَالْعلم فِي أَنه أدْرك المعلومات لَيْسَ بتشبيه، كَذَلِك هَذَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1291 الثَّانِي: أَنه لَو كَانَ ذَلِك تَشْبِيها، كَانَ تشبيههم أقبح وأفحش على مَا ذكرنَا. الثَّالِث: أَنهم إِن نفوا هَذِه الصّفة، لكَون هَذَا تَشْبِيها، يَنْبَغِي أَن ينفوا سَائِر الصِّفَات من الْوُجُود والحياة والسمع وَالْبَصَر وَغَيرهَا. الرَّابِع: أَنا - نَحن - لم نفسر هَذَا، إِنَّمَا فسره الْكتاب وَالسّنة. أما قَوْلهم: أَنْتُم فسرتم هَذِه الصّفة. قُلْنَا: إِنَّمَا لَا يجوز تَفْسِير الْمُتَشَابه الَّذِي سكت السّلف عَن تَفْسِيره، وَلَيْسَ كَذَلِك الْكَلَام، فَإِنَّهُ من الْمَعْلُوم بَين الْخلق لَا تَشْبِيه فِيهِ، وَقد فسره الْكتاب وَالسّنة. الثَّانِي: أننا - نَحن - فسرناه بِحمْلِهِ على حَقِيقَته، تَفْسِيرا جَاءَ بِهِ الْكتاب وَالسّنة، وهم فسروه بِمَا لم يرد بِهِ كتاب وَلَا سنة، وَلَا يُوَافق الْحَقِيقَة، وَلَا يجوز نسبته إِلَى الله تَعَالَى. وَأما قَوْلهم: إِن الْحُرُوف تحْتَاج إِلَى مخارج وأدوات. قُلْنَا: احتياجها إِلَى ذَلِك فِي حَقنا، لَا يُوجب ذَلِك فِي كَلَام الله تَعَالَى، تَعَالَى الله عَن ذَلِك. فَإِن قَالُوا: بل يحْتَاج الله كحاجتنا، قِيَاسا لَهُ علينا، أخطأوا من وُجُوه: أَحدهَا: أَنه يلْزمهُم فِي سَائِر الصِّفَات الَّتِي سلموها: كالسمع، وَالْبَصَر، وَالْعلم، والحياة، لَا يكون ذَلِك فِي حَقنا إِلَّا فِي جسم، وَلَا يكون الْبَصَر إِلَّا فِي حدقة، وَلَا السّمع إِلَّا من انخراق، وَالله تَعَالَى بِخِلَاف ذَلِك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1292 الثَّانِي: أَن هَذَا تَشْبِيه لله بِنَا، وَقِيَاس لَهُ علينا، وَهَذَا كفر. الثَّالِث: أَن بعض الْمَخْلُوقَات لم تحتج إِلَى مخارج فِي كَلَامهَا: كالأيدي، والأرجل، والجلود، الَّتِي تَتَكَلَّم يَوْم الْقِيَامَة، وَالْحجر الَّذِي سلم على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، والحصى الَّذِي سبح فِي كفيه، والذراع المسمومة الَّتِي كَلمته. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: " كُنَّا نسْمع تَسْبِيح الطَّعَام وَهُوَ يُؤْكَل ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1293 وَلَا خلاف فِي أَن الله تَعَالَى قَادر على إنطاق الْحجر الْأَصَم بِلَا أدوات، فَكيف عجزوا الله تَعَالَى عَن الْكَلَام بِلَا أدوات. قلت أَنا: الَّذِي يقطع بِهِ عَنْهُم، أَنهم لَا يَقُولُونَ: إِن الله يحْتَاج كحاجتنا، قِيَاسا لَهُ علينا، فَإِنَّهُ عين التَّشْبِيه، وهم لَا يَقُولُونَ ذَلِك ويفرون مِنْهُ، وَالظَّاهِر: أَن الشَّيْخ قَالَ ذَلِك على تَقْدِير قَوْلهم لَهُ. ثمَّ قَالَ: وَقَوْلهمْ: إِن التَّعَاقُب يدْخل فِي الْحُرُوف. قُلْنَا: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك فِي حق من ينْطق بالمخارج والأدوات، وَلَا يُوصف الله بذلك. قَالَ الْحَافِظ أَبُو نصر: (إِنَّمَا يتَعَيَّن التَّعَاقُب فِيمَن يتَكَلَّم بأداة تعجز عَن أَدَاء شَيْء إِلَّا بعد الْفَرَاغ من غَيره، وَأما الْمُتَكَلّم بِلَا جارحة فَلَا يتَعَيَّن فِي كَلَامه التَّعَاقُب، وَقد اتّفقت الْعلمَاء على أَن الله تَعَالَى يتَوَلَّى الْحساب بَين خلقه يَوْم الْقِيَامَة فِي حَالَة وَاحِدَة، وَعند كل وَاحِد مِنْهُم: أَن الْمُخَاطب فِي الْحَال هُوَ وَحده، وَهَذَا خلاف التَّعَاقُب) انْتهى. ثمَّ قَالَ الشَّيْخ الْمُوفق: وَقَوْلهمْ: (إِن الْقَدِيم لَا يتَجَزَّأ وَلَا يَتَعَدَّد) ، غير صَحِيح، فَإِن أَسمَاء الله تَعَالَى مَعْدُودَة: قَالَ الله تَعَالَى: {وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى} [الْأَعْرَاف: 180] ، وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1294 من أحصاها دخل الْجنَّة "، وَهِي قديمَة. وَقد نَص الشَّافِعِي: أَن أَسمَاء الله تَعَالَى غير مخلوقة. وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: (من قَالَ إِن أَسمَاء الله مخلوقة فقد كفر) . وَكَذَلِكَ كتب الله، فَإِن التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور وَالْفرْقَان مُتعَدِّدَة، وَهِي كَلَام الله تَعَالَى غير مخلوقة، وَإِنَّمَا هَذَا شَيْء أَخَذُوهُ من علم الْكَلَام، وَهِي مطرح عِنْد جَمِيع الْأَئِمَّة. قَالَ أَبُو يُوسُف: (من طلب الْعلم بالْكلَام تزندق) . وَقَالَ الشَّافِعِي: (مَا ارتدى بالْكلَام أحد فأفلح) . وَقَالَ أَحْمد: (مَا أحب الْكَلَام أحد فَكَانَ عاقبته إِلَى خير) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1295 وَقَالَ ابْن خويز منداد الْمَالِكِي: (الْبدع عِنْد مَالك وَسَائِر أَصْحَابه هِيَ: كتب الْكَلَام، والتنجيم، وَشبه ذَلِك، لَا تصح إِجَارَتهَا، وَلَا تقبل شَهَادَة أَهله) . قلت أَنا: قَالَ الْحَافِظ أَبُو نصر: (فَإِن قيل: الصَّوْت والحرف إِذا ثبتا فِي الْكَلَام اقتضيا عددا، وَالله تَعَالَى وَاحِد من كل جِهَة. قيل لَهُم: قد بَينا مرَارًا أَن اعْتِمَاد أولي الْحق فِي هَذِه الْأَبْوَاب على السّمع، وَقد ورد السّمع بِأَن الْقُرْآن ذُو عدد، وَأقر الْمُسلمُونَ بِأَنَّهُ كَلَام الله حَقِيقَة لَا مجَازًا، وَهُوَ صفة، وَقد عد الْأَشْعَرِيّ صِفَات الله [سبع عشرَة] صفة، وَبَين أَن مِنْهَا مَا لَا يعلم إِلَّا بِالسَّمْعِ، وَإِذا جَازَ أَن يُوصف بِصِفَات مَعْدُودَة لم يلْزمنَا بِدُخُول الْعدَد فِي الْحُرُوف شَيْء) انْتهى. قَالَ الشَّيْخ الْمُوفق: (الْوَجْه الثَّانِي: أَن الله تَعَالَى كلم مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ويكلم الْمُؤمنِينَ يَوْم الْقِيَامَة، قَالَ الله تَعَالَى: {وكلم الله مُوسَى تكليما} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1296 [النِّسَاء: 164] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَلمه ربه} [الْأَعْرَاف: 143] ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصطفيتك على النَّاس برسالاتي وبكلامي} [الْأَعْرَاف: 144] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وناديناه من جَانب الطّور الْأَيْمن} [مَرْيَم: 52] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ ناداه ربه بالواد الْمُقَدّس طوى} [النازعات: 16] . وأجمعنا على أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام سمع كَلَام الله تَعَالَى من الله، لَا من الشَّجَرَة، وَلَا من حجر، وَلَا غَيره، لِأَنَّهُ لَو سمع من غير الله كَانَ بنوا إِسْرَائِيل أفضل فِي ذَلِك مِنْهُ، لأَنهم سمعُوا من أفضل مِمَّن سمع مِنْهُ مُوسَى، لكَوْنهم سمعُوا من مُوسَى، فَلم سمي إِذا كليم الرَّحْمَن، وَإِذا ثَبت هَذَا؛ لم يجز أَن يكون الْكَلَام الَّذِي سَمعه مُوسَى إِلَّا صَوتا وحرفا، فَإِنَّهُ لَو كَانَ معنى فِي النَّفس وفكرة وروية لم يكن ذَلِك تكليما لمُوسَى، وَلَا هُوَ شَيْء يسمع، وَلَا يتَعَدَّى الْفِكر والرؤى، وَلَا يُسمى مناداة. فَإِن قَالُوا: نَحن لَا نُسَمِّيه صَوتا مَعَ كَونه مسموعا. قُلْنَا: الْجَواب من وُجُوه. أَحدهَا: أَن هَذَا مُخَالفَة فِي اللَّفْظ مَعَ الْمُوَافقَة فِي الْمَعْنى، فإننا لَا نعني بالصوت إِلَّا مَا كَانَ مسموعا. الثَّانِي: أَن لفظ الصَّوْت قد جَاءَت بِهِ الْأَخْبَار والْآثَار، وسأذكرها - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - على حِدة. وَقَالَ الشَّيْخ الْمُوفق بعد ذَلِك: (النزاع فِي أَن الله تَعَالَى تكلم بِحرف وَصَوت أم لَا؟ وَمذهب أهل السّنة اتِّبَاع مَا ورد فِي الْكتاب وَالسّنة، وَقد بَينا - بالأدلة القاطعة - أَن هَذَا الْقُرْآن الَّذِي عندنَا هُوَ كَلَام الله تَعَالَى، فَإِنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1297 مسموع مقروء متلو مَحْفُوظ مَكْتُوب، وكيفما قريء وتلي وَسمع وَحفظ فَهُوَ الْقُرْآن الْقَدِيم، وَذكرنَا الْآيَات وَالْأَخْبَار الدَّالَّة على أَنه مسموع متلو مَكْتُوب مَحْفُوظ) انْتهى كَلَام شيخ الْإِسْلَام موفق الدّين، بِمَا أدخلْنَاهُ فِيهِ من كَلَام أبي نصر مُمَيّزا. وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام الْحَافِظ شهَاب الدّين ابْن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ ": (قَالَ الْبَيْهَقِيّ: " الْكَلَام: مَا ينْطق بِهِ الْمُتَكَلّم، وَهُوَ مُسْتَقر فِي نَفسه كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث عمر " - يَعْنِي: فِي قصَّة السَّقِيفَة - وَفِيه: " وَكنت زورت فِي نَفسِي مقَالَة "، وَفِي رِوَايَة: " كلَاما "، قَالَ: " فَسَماهُ كلَاما قبل التَّكَلُّم بِهِ ". قَالَ: " فَإِن كَانَ الْمُتَكَلّم ذَا مخارج سمع كَلَامه ذَا حُرُوف وأصوات، وَإِن كَانَ غير ذِي مخارج فَهُوَ بِخِلَاف ذَلِك، والباري - عز وَجل - لَيْسَ بِذِي مخارج، فَلَا يكون كَلَامه بحروف وأصوات "، ثمَّ ذكر حَدِيث جَابر عَن عبد الله بن أنيس، وَقَالَ: " اخْتلف الْحفاظ فِي الِاحْتِجَاج بروايات ابْن عقيل لسوء حفظه، وَلم يثبت لفظ الصَّوْت فِي حَدِيث صَحِيح [عَن] النَّبِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1298 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غير حَدِيثه، فَإِن كَانَ ثَابتا فَإِنَّهُ يرجع إِلَى غَيره، كَمَا فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود - يَعْنِي: الَّذِي [قبله]- وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة - يَعْنِي: الَّذِي بعده -: إِن الْمَلَائِكَة يسمعُونَ عِنْد حُضُور الْوَحْي صَوتا، فَيحْتَمل أَن يكون الصَّوْت للسماء، أَو للْملك الْآتِي بِالْوَحْي، أَو لأجنحة الْمَلَائِكَة، وَإِذا احْتمل ذَلِك لم يكن نصا فِي الْمَسْأَلَة ". وَأَشَارَ فِي مَوضِع آخر إِلَى أَن الرَّاوِي أَرَادَ فينادي نِدَاء، فَعبر عَنهُ بالصوت انْتهى. قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر: وَهَذَا حَاصِل كَلَام من نفى الصَّوْت من الْأَئِمَّة، وَيلْزم مِنْهُ: أَن الله تَعَالَى لم يسمع أحدا من مَلَائكَته وَلَا رسله كَلَامه، بل ألهمهم إِيَّاه، وَحَاصِل الِاحْتِجَاج للنَّفْي: الرُّجُوع إِلَى الْقيَاس على أصوات المخلوقين، لِأَنَّهَا الَّتِي عهد أَنَّهَا ذَات مخارج، وَلَا يخفى مَا فِيهِ، إِذْ الصَّوْت قد يكون من غير مخارج، كَمَا أَن الرُّؤْيَة قد تكون من غير اتِّصَال أشعة كَمَا سبق. سلمنَا، لَكِن نمْنَع الْقيَاس الْمَذْكُور، وَصفَة الْخَالِق لَا تقاس على صفة الْمَخْلُوق، وَإِذا ثَبت ذكر الصَّوْت بِهَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَجب الْإِيمَان بِهِ، ثمَّ إِمَّا التَّفْوِيض، وَإِمَّا التَّأْوِيل، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1299 وَلَقَد أَجَاد وأنصف وَاتبع الْحق الَّذِي لَا محيد عَنهُ. وَمَا أحسن مَا قَالَه الشَّيْخ الشهَاب الدّين السهروردي فِي كتاب " العقيدة " لَهُ، نَقله ابْن حجر: (أخبر الله فِي كِتَابه، وَثَبت عَن رَسُوله: الاسْتوَاء، وَالنُّزُول، وَالنَّفس، وَالْيَد، وَالْعين، فَلَا يتَصَرَّف فِيهَا بتشبيه وَلَا تَعْطِيل، إِذْ لَوْلَا إِخْبَار الله وَرَسُوله مَا تجاسر عقل أَن [يحوم] حول ذَلِك الْحمى) . قَالَ الطَّيِّبِيّ: (هَذَا هُوَ الْمَذْهَب الْمُعْتَمد، وَبِه يَقُول السّلف الصَّالح) . انْتهى. والأشعري نَفسه قد أثبت لله تَعَالَى: [سبع عشرَة] صفة - كَمَا تقدم - وَبَين أَن مِنْهَا مَا لَا يعلم إِلَّا بِالسَّمْعِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1300 قلت: وَكَذَا نقُول: إِنَّه قد ثَبت وَصَحَّ عَن الصَّادِق المصدوق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذكر الصَّوْت، وَصَححهُ الْحفاظ المقتدى بهم، فَلَا يتَصَرَّف فِيهِ بتشبيه وَلَا تَعْطِيل، فقد صحت أَحَادِيث كَثِيرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِضَافَة الصَّوْت إِلَى الله تَعَالَى. وَقد خرج ابْن شكر الْمصْرِيّ - وَهُوَ من فضلاء أهل الحَدِيث ونقادهم - فِيهِ أَرْبَعَة عشر حَدِيثا، وَذكر أَنَّهَا ثَابِتَة عِنْد الْمُحدثين. نَقله الطوفي فِي " شَرحه ". قلت: وَكَذَلِكَ الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ الْمَقْدِسِي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1301 وَغَيره، جمع الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي ذكر الصَّوْت الْمُضَاف إِلَى الله تَعَالَى، وسأذكرها - إِن شَاءَ الله - بعد على حِدة. وَالْقُرْآن مَمْلُوء بِنَحْوِ ذَلِك، قَالَ الله تَعَالَى: {فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله} [التَّوْبَة: 6] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَلمه ربه} [الْأَعْرَاف: 143] ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصطفيتك على النَّاس برسالاتي وبكلامي} [الْأَعْرَاف: 144] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وناديناه من جَانب الطّور الْأَيْمن} [مَرْيَم: 52] ، {إِذْ ناداه ربه بالواد الْمُقَدّس طوى} [النازعات: 16] ، {وَإِذ نَادَى رَبك مُوسَى} [الشُّعَرَاء: 10] فِي آي كَثِيرَة، وَقَالَ الله تَعَالَى، وَيَقُول الله تَعَالَى فِي غير مَا آيَة فالقرآن مَمْلُوء بذلك، وَكَذَلِكَ السّنة الصَّحِيحَة، وَمن المستبعد جدا أَن يكون هَذَا الْخطاب كُله مجَازًا، لَا حَقِيقَة فِيهِ وَلَو فِي مَوضِع وَاحِد، وبموضع وَاحِد مِنْهُ يحصل الْمَطْلُوب. قَالَ الطوفي: (فَإِن قيل: هُوَ حَقِيقَة، وَلَكِن - كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْكَلَام النَّفْسِيّ - بالاشتراك، كَمَا قُلْتُمْ: إِن الصِّفَات الْوَارِدَة فِي الشَّرْع لله تَعَالَى حَقِيقَة، لَكِن مُخَالفَة للصفات الْمُشَاهدَة، وَهِي مقولة بالاشتراك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1302 قُلْنَا: نَحن اضطرنا إِلَى القَوْل بالاشتراك فِي الصِّفَات وُرُود نُصُوص الشَّرْع الثَّابِتَة بهَا، فَأنْتم [مَا اضطركم] إِلَى إِثْبَات الْكَلَام النَّفْسِيّ؟ فَإِن قيل: دَلِيل الْعقل الدَّال: أَنه لَا صَوت إِلَّا من جسم. قُلْنَا: فَمَا أفادكم إثْبَاته شَيْئا، لِأَن الْكَلَام النَّفْسِيّ الَّذِي أثبتموه لَا يخرج فِي الْحَقِيقَة عَن أَن يكون علما أَو تصورا - على مَا سبق تَقْرِيره عَن أئمتكم -، فَإِن كَانَ علما، فقد رجعتم معتزلة، ونفيتم الْكَلَام بِالْكُلِّيَّةِ، وموهتم على النَّاس بتسميتكم الْعلم كلَاما، وَإِن كَانَ تصورا، فالتصور فِي الشَّاهِد: حُصُول صُورَة الشَّيْء فِي الْعقل، وَإِنَّمَا يعقل فِي الْأَجْسَام، وَإِن عنيتم تصورا مُخَالفا للتصور فِي الشَّاهِد [لائقا بِجلَال] الله، فأثبتوا كلَاما [هُوَ عبارَة على] خلاف الشَّاهِد، لائقة بِجلَال الله تَعَالَى) انْتهى. وَهُوَ كَلَام متين لَا محيد عَنهُ [للنمصف] . وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام الْحَافِظ ابْن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ ": (قَالَ ابْن حزم فِي " الْملَل والنحل ": " أجمع أهل الْإِسْلَام: على أَن الله تَعَالَى كلم مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام -، وعَلى أَن الْقُرْآن كَلَام الله، وَكَذَا غَيره من الْكتب الْمنزلَة والصحف، ثمَّ اخْتلفُوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1303 فَقَالَت الْمُعْتَزلَة: إِن كَلَام الله تَعَالَى صفة فعل مخلوقة، وَإنَّهُ كلم مُوسَى بِكَلَام أحدثه فِي الشَّجَرَة. وَقَالَ أَحْمد وَمن تبعه: كَلَام الله هُوَ علمه لم يزل، وَلَيْسَ بمخلوق. وَقَالَت الأشعرية: كَلَام الله صفة ذَات لم تزل، وَلَيْسَ بمخلوق، وَهُوَ غير علم الله تَعَالَى، وَلَيْسَ لله إِلَّا كَلَام وَاحِد. وَاحْتج لِأَحْمَد بِأَن الدَّلَائِل القاطعة قَامَت على أَن الله تَعَالَى لَا يُشبههُ شَيْء من خلقه بِوَجْه من الْوُجُوه، فَلَمَّا كَانَ كلامنا غَيرنَا، وَكَانَ مخلوقا، وَجب أَن يكون كَلَام الله لَيْسَ غَيره، وَلَيْسَ مخلوقا، وَأطَال فِي الرَّد على الْمُخَالفين لذَلِك. وَقَالَ [غَيره] : اخْتلفُوا: فَقَالَت الْجَهْمِية، والمعتزلة، وَبَعض الزيدية والإمامية، وَبَعض الْخَوَارِج: كَلَام الله مَخْلُوق، خلقه بمشيئته وَقدرته فِي بعض الْأَجْسَام: كالشجرة حِين كلم مُوسَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1304 وَحَقِيقَة قَوْلهم: أَن الله تَعَالَى لَا يتَكَلَّم، [وَإِن] نسب إِلَيْهِ ذَلِك فبطريق الْمجَاز. وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: يتَكَلَّم حَقِيقَة، لَكِن يخلق ذَلِك الْكَلَام فِي غَيره. وَقَالَت الْكلابِيَّة: الْكَلَام صفة وَاحِدَة، قديمَة الْعين، لَازِمَة لذات الله كالحياة، وَإنَّهُ لَا يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته، وتكليمه من كَلمه إِنَّمَا هُوَ خلق إِدْرَاك لَهُ يسمع بِهِ الْكَلَام، ونداؤه لمُوسَى لم يزل، لكنه أسمعهُ ذَلِك النداء حِين [ناداه] . ويحكى عَن أبي مَنْصُور الماتريدي من الْحَنَفِيَّة نَحوه، لَكِن قَالَ: خلق صَوتا حِين ناداه فأسمعه كَلَامه. وَزعم بَعضهم: أَن هَذَا مُرَاد السّلف الَّذين قَالُوا: إِن الْقُرْآن لَيْسَ بمخلوق. [وَأخذ بقول ابْن كلاب القلانسي، والأشعري، وأتباعهما، وَقَالُوا: إِذا كَانَ الْكَلَام قَدِيما لعَينه، لَازِما لذات الرب، وَثَبت أَنه لَيْسَ بمخلوق] ، فالحروف لَيست قديمَة لِأَنَّهَا متعاقبة، وَمَا كَانَ مَسْبُوقا لغيره لم يكن قَدِيما، وَالْكَلَام الْقَدِيم معنى قَائِم بِالذَّاتِ لَا يَتَعَدَّد وَلَا يتَجَزَّأ، بل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1305 هُوَ معنى وَاحِد، إِن عبر عَنهُ بِالْعَرَبِيَّةِ فقرآن، أَو بالعبرانية فتوراة مثلا. وَذهب بعض الْحَنَابِلَة وَغَيرهم: إِلَى أَن الْقُرْآن الْعَرَبِيّ كَلَام الله، وَكَذَا التَّوْرَاة، وَأَن الله تَعَالَى لم يزل متكلما إِذا شَاءَ، وَأَنه تكلم بحروف الْقُرْآن، وأسمع من شَاءَ من الْمَلَائِكَة والأنبياء صَوته. وَقَالُوا: إِن هَذِه الْحُرُوف والأصوات قديمَة لَازِمَة الذَّات، لَيست متعاقبة، بل لم تزل قَائِمَة بِذَات مقترنة لَا تسبق، والتعاقب إِنَّمَا يكون فِي حق الْمَخْلُوق بِخِلَاف الْخَالِق. وَذهب أَكثر هَؤُلَاءِ: إِلَى أَن الْأَصْوَات والحروف هِيَ المسموعة من القارئين، وأبى ذَلِك كثير مِنْهُم فَقَالُوا: لَيست هِيَ المسموعة من القارئين. وَذهب بَعضهم: إِلَى أَنه مُتَكَلم بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيّ بمشيئته وَقدرته، بالحروف والأصوات الْقَائِمَة بِذَاتِهِ، وَهُوَ غير مَخْلُوق، لكنه فِي الْأَزَل لم يتَكَلَّم؛ لِامْتِنَاع وجود الحادثات فِي الْأَزَل، فَكَلَامه حَادث فِي ذَاته لَا مُحدث. وَذَهَبت الكرامية: إِلَى أَنه حَادث فِي ذَاته ومحدث. وَذكر الْفَخر الرَّازِيّ فِي " المطالب الْعَالِيَة ": (أَن قَول من قَالَ: إِنَّه تَعَالَى مُتَكَلم بِكَلَام يقوم بِذَاتِهِ بمشيئته واختياره هُوَ أصح الْأَقْوَال نقلا وعقلا) ، وَأطَال فِي تَقْرِير ذَلِك. وَالْمَحْفُوظ عَن جُمْهُور السّلف ترك الْخَوْض فِي ذَلِك والتعمق فِيهِ، والاقتصار على القَوْل بِأَن الْقُرْآن كَلَام الله تَعَالَى، وَأَنه غير مَخْلُوق، ثمَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1306 السُّكُوت عَمَّا وَرَاء ذَلِك) ، انْتهى كَلَام الْحَافِظ ابْن حجر. وَقَالَ - أَيْضا - بعد ذَلِك: (وَاخْتلف أهل الْكَلَام فِي أَن كَلَام الله تَعَالَى هَل هُوَ بِحرف وَصَوت أم لَا؟ فَقَالَت الْمُعْتَزلَة: لَا يكون الْكَلَام [إِلَّا بِحرف] وَصَوت، وَالْكَلَام الْمَنْسُوب إِلَى الله تَعَالَى قَائِم بِالشَّجَرَةِ. وَقَالَت الأشاعرة: كَلَام الله لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت، وأثبتت الْكَلَام النَّفْسِيّ، وَحَقِيقَته: معنى قَائِم بِالنَّفسِ، وَإِن اخْتلفت عَنهُ الْعبارَة: كالعربية والعجمية، واختلافها لَا يدل على اخْتِلَاف الْمعبر عَنهُ، وَالْكَلَام النَّفْسِيّ هُوَ ذَلِك الْمعبر عَنهُ. وأثبتت الْحَنَابِلَة: أَنه الله تَعَالَى مُتَكَلم بِحرف وَصَوت، أما الْحُرُوف فللتصريح بهَا فِي ظَاهر الْقُرْآن، وَأما الصَّوْت فَمن منع قَالَ: إِن الصَّوْت هُوَ الْهَوَاء الْمُنْقَطع المسموع من الحنجرة. وَأجَاب من أثْبته: بِأَن الصَّوْت الْمَوْصُوف بذلك هُوَ الْمَعْهُود من الْآدَمِيّين: كالسمع، وَالْبَصَر، وصفات الرب بِخِلَاف ذَلِك، فَلَا يلْزمه الْمَحْذُور الْمَذْكُور مَعَ اعْتِقَاد التَّنْزِيه وَعدم التَّشْبِيه، وَأَنه يجوز أَن يكون من غير الحنجرة فَلَا يلْزم التَّشْبِيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1307 وَقد قَالَ عبد الله بن أَحْمد فِي " كتاب السّنة ": (سَأَلت أبي عَن قوم يَقُولُونَ: لما كلم الله مُوسَى لم يتَكَلَّم بِصَوْت. فَقَالَ لي أبي: [بلَى] تكلم بِصَوْت، هَذِه الْأَحَادِيث تروى كَمَا جَاءَت، وَذكر حَدِيث ابْن مَسْعُود وَغَيره) . وَقَالَ الْحَافِظ ابْن حجر - أَيْضا - فِي مَكَان آخر: (و [مُحَصل] مَا نقل عَن أهل الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة خَمْسَة أَقْوَال: الأول: قَول الْمُعْتَزلَة: أَنه مَخْلُوق. وَالثَّانِي: قَول الْكلابِيَّة: أَنه قديم قَائِم بِذَات الرب، لَيْسَ بحروف وَلَا أصوات، وَالْكَلَام الَّذِي بَين النَّاس عبارَة عَنهُ. وَالثَّالِث: قَول السالمية: أَنه حُرُوف وأصوات قديمَة الْأَعْين، وَهُوَ عين هَذِه الْحُرُوف الْمَكْتُوبَة والأصوات المسموعة. وَالرَّابِع: قَول الكرامية: أَنه مُحدث لَا مَخْلُوق. وَالْخَامِس: أَن كَلَام الله غير مَخْلُوق، وَأَنه لم يزل متكلما إِذا شَاءَ، نَص على ذَلِك أَحْمد فِي كتاب " الرَّد على الْجَهْمِية "، وافترق أَصْحَابه فرْقَتَيْن: مِنْهُم من قَالَ هُوَ لَازم لذاته، والحروف والأصوات مقترنة لَا متعاقبة، وَيسمع كَلَامه من شَاءَ. وَأَكْثَرهم قَالَ: إِنَّه يتَكَلَّم بِمَا شَاءَ، مَتى شَاءَ، وَإنَّهُ نَادَى مُوسَى حِين كَلمه، وَلم يكن ناداه من قبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1308 وَالَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ قَول الأشعرية: أَن الْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق، مَكْتُوب فِي الْمَصَاحِف، مَحْفُوظ فِي الصُّدُور، مقروء بالألسنة، قَالَ الله تَعَالَى: {فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله} [التَّوْبَة: 6] ، وَقَالَ تَعَالَى: {بل هُوَ آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم} [العنكبوت: 49] ، وَفِي " الصَّحِيح ": " لَا تسافروا بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض الْعَدو كَرَاهِيَة أَن يَنَالهُ الْعَدو "، وَلَيْسَ المُرَاد مَا فِي الصُّدُور، بل مَا فِي الْمُصحف. وَأجْمع السّلف على [أَن] الَّذِي بَين الدفتين كَلَام الله. وَقَالَ بَعضهم: الْقُرْآن يُطلق وَيُرَاد بِهِ المقروء، وَهُوَ الصّفة الْقَدِيمَة، وَيُطلق وَيُرَاد بِهِ الْقِرَاءَة، وَهِي الْأَلْفَاظ الدَّالَّة على ذَلِك، وبسبب ذَلِك وَقع الِاخْتِلَاف. وَأما قَوْلهم: إِنَّه منزه عَن الْحُرُوف والأصوات، فمرادهم الْكَلَام النَّفْسِيّ الْقَائِم بِالذَّاتِ المقدسة، فَهُوَ من الصِّفَات الْمَوْجُودَة الْقَدِيمَة، وَأما الْحُرُوف، فَإِن كَانَت حركات أَو أدوات: كاللسان والشفتين فَهِيَ أَعْرَاض، وَإِن كَانَت كِتَابَة فَهِيَ أجسام، وَقيام الْأَجْسَام والأعراض بِذَات الله محَال، وَيلْزم من [أثبت ذَلِك] ، أَن يَقُول بِخلق الْقُرْآن وَهُوَ يَأْبَى ذَلِك ويفر مِنْهُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1309 فألجأ ذَلِك [بَعضهم إِلَى] ادِّعَاء قدم الْحُرُوف كَمَا التزمته السالمية. وَمِنْهُم من الْتزم قيام ذَلِك بِذَاتِهِ، وَمن شدَّة اللّبْس فِي هَذِه الْمَسْأَلَة كثر نهي السّلف عَن الْخَوْض، واكتفوا باعتقاد: أَن الْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق، وَلم يزِيدُوا على ذَلِك شَيْئا وَهُوَ أسلم الْأَقْوَال، وَالله الْمُسْتَعَان) انْتهى. وَقد جمع أَكثر أَقْوَال الْعلمَاء فِي ذَلِك. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية فِي " الرَّد على الرافضي ": (هَذِه الْمَسْأَلَة - وَهِي كَلَام الله تَعَالَى - اضْطربَ النَّاس فِيهَا، وَعَامة الْكتب المصنفة فِي الْكَلَام وأصول الدّين لم يذكر أَصْحَابهَا جَمِيع الْأَقْوَال، بل مِنْهُم من يذكر قَوْلَيْنِ، وَمِنْهُم من يذكر ثَلَاثَة أَقْوَال، وَمِنْهُم من يذكر أَرْبَعَة، وَمِنْهُم من يذكر خَمْسَة، وَأَكْثَرهم لَا يعْرفُونَ قَول السّلف، وَقد بلغت أَقْوَالهم إِلَى تِسْعَة: أَحدهَا: أَن كَلَام الله تَعَالَى: هُوَ مَا يفِيض على النُّفُوس من الْمعَانِي، إِمَّا من الْعقل الفعال عِنْد بَعضهم، أَو من غَيره، وَهُوَ قَول الصابئة والمتفلسفة، وَمِنْهُم: ابْن سينا وَأَمْثَاله. وَالثَّانِي: أَنه مَخْلُوق خلقه الله تَعَالَى مُنْفَصِلا عَنهُ، وَهُوَ قَول الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم. وَالثَّالِث: معنى وَاحِد قَائِم بِذَات الله تَعَالَى، [هُوَ] الْأَمر وَالنَّهْي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1310 وَالْخَبَر والاستخبار، [إِن] عبر عَنهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا، وَإِن عبر عَنهُ بالعبرية كَانَ توراة، وَهُوَ قَول ابْن كلاب وَمن وَافقه كالأشعري وَغَيره. الرَّابِع: أَنه حُرُوف وأصوات أزلية، مجتمعة فِي الْأَزَل: وَهُوَ قَول طَائِفَة من أهل الْكَلَام والْحَدِيث، وَذكره الْأَشْعَرِيّ عَن طَائِفَة، وَهُوَ الَّذِي يذكر عَن السالمية وَنَحْوهم. الْخَامِس: أَنه حُرُوف وأصوات، لَكِن تكلم الله بهَا بعد أَن لم يكن متكلما، وَهُوَ قَول الكرامية وَغَيرهم. السَّادِس: أَن كَلَامه يرجع إِلَى مَا يحدث من علمه، وإرادته الْقَائِم بِذَاتِهِ، وَهُوَ قَول صَاحب " الْمُعْتَبر "، ويميل إِلَيْهِ الرَّازِيّ فِي " المطالب ". السَّابِع: أَن كَلَامه يتَضَمَّن معنى قَائِما بِذَاتِهِ، هُوَ مَا خلقه [فِي] غَيره، وَهُوَ قَول أبي مَنْصُور الماتريدي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1311 الثَّامِن: أَنه مُشْتَرك بَين الْمَعْنى الْقَدِيم الْقَائِم بِالذَّاتِ، وَبَين مَا يخلقه فِي غَيره من الْأَصْوَات، وَهَذَا قَول أبي الْمَعَالِي وَمن تبعه. التَّاسِع: [أَن يُقَال] : لم يزل الله متكلما إِذا شَاءَ، وَمَتى شَاءَ، وَكَيف شَاءَ، بِكَلَام يقوم بِهِ، وَهُوَ يتَكَلَّم بِهِ بِصَوْت يسمع، وَأَن نوع الْكَلَام قديم، وَإِن لم يكن الصَّوْت الْمعِين قَدِيما، وَهَذَا القَوْل هُوَ الْمَأْثُور عَن أَئِمَّة الحَدِيث وَالسّنة) انْتهى مُلَخصا. وَمن أعظم [الْقَائِلين] بِهَذَا القَوْل الْأَخير الإِمَام أَحْمد، فَإِنَّهُ قَالَ: (لم يزل الله تَعَالَى متكلما كَيفَ شَاءَ بِلَا تكييف) ، وَفِي لفظ: (إِذا شَاءَ) . قَالَ القَاضِي: (إِذا شَاءَ أَن يسمعنا) . وَقَالَ الإِمَام أَحْمد - أَيْضا -: (لم يزل الله تَعَالَى يَأْمر بِمَا شَاءَ وَيحكم) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1312 وَقَالَ: (الْقُرْآن كَيفَ تصرف فَهُوَ غير مَخْلُوق، وَلَا نرى القَوْل بالحكاية والعبارة، وَمن قَالَ: الْقُرْآن عبارَة عَن كَلَام الله تَعَالَى، فقد غلط وَجَهل) . وَقَالَ - أَيْضا -: (الْعبارَة والحكاية بِدعَة لم يقلها السّلف، وَقَوله: " تكليما " يبطل الْحِكَايَة، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يعود) . كَمَا تقدم فِي الْكَلَام على الْعبارَة والحكاية. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين - أَيْضا -: (لم يكن فِي كَلَام الإِمَام أَحْمد، وَلَا الْأَئِمَّة: أَن الصَّوْت الَّذِي تكلم بِهِ قديم، بل يَقُولُونَ: لم يزل الله متكلما إِذا شَاءَ بِمَا شَاءَ، كَمَا يَقُوله الإِمَام أَحْمد، وَابْن الْمُبَارك، وَغَيرهمَا) . وَقَالَ فِي " الرَّد على الرافضي ": (من الْعلمَاء من يَقُول لم يزل الله متكلما إِذا شَاءَ وَكَيف شَاءَ، كَمَا يَقُول أَئِمَّة السّنة والْحَدِيث: كَعبد الله بن الْمُبَارك، وَأحمد بن حَنْبَل، وَغَيرهمَا من أَئِمَّة السّنة) . وَقَالَ: (قد تنَازع النَّاس فِي معنى كَون الْقُرْآن غير مَخْلُوق، هَل المُرَاد بِهِ أَن نفس الْكَلَام قديم أزلي كَالْعلمِ، أَو أَن الله تَعَالَى لم يزل مَوْصُوفا بِأَنَّهُ مُتَكَلم يتَكَلَّم إِذا شَاءَ؟ على قَوْلَيْنِ، ذكرهمَا الْحَارِث المحاسبي عَن أهل السّنة، وَأَبُو بكر عبد الْعَزِيز فِي كتاب [الشافي] عَن أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1313 وذكرهما أَبُو عبد الله بن حَامِد فِي كِتَابه الْأُصُول) . انْتهى كَلَام الشَّيْخ تَقِيّ الدّين. وَقَالَ الْحَافِظ زين الدّين ابْن رَجَب الْحَنْبَلِيّ فِي كتاب مَنَاقِب الإِمَام أَحْمد ": (وَمن الْبدع الَّتِي أنكرها الإِمَام أَحْمد فِي الْقُرْآن: قَول من قَالَ: إِن الله تكلم بِغَيْر صَوت، فَأنْكر هَذَا القَوْل وبدع قَائِله. قَالَ: وَقد قيل: إِن الْحَارِث المحاسبي إِنَّمَا هجره الإِمَام أَحْمد لأجل ذَلِك) انْتهى. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (وَهَذَا سَبَب تحذير الإِمَام أَحْمد من الْحَارِث المحاسبي وَنَحْوه من الْكلابِيَّة) . وَقَالَ: (إِنَّمَا أَمر الإِمَام أَحْمد بهجر الْحَارِث المحاسبي وَغَيره من أَصْحَاب ابْن كلاب لما أظهرُوا ذَلِك. كَمَا أَمر السّري السَّقطِي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1314 [الْجُنَيْد] أَن يَتَّقِي بعض كَلَام الْحَارِث، فَذكرُوا أَن الْحَارِث رَحمَه الله تَابَ من ذَلِك، وَكَانَ لَهُ من الْعلم وَالْفضل والزهد وَالْكَلَام فِي الْحَقَائِق مَا هُوَ مَشْهُور عَنهُ. وَحكى عَنهُ أَبُو بكر الكلاباذي صَاحب " مقالات الصُّوفِيَّة ": أَنه كَانَ يَقُول: إِن الله تَعَالَى يتَكَلَّم بِصَوْت، وَهَذَا يُوَافق قَول من قَالَ: إِنَّه رَجَعَ عَن قَول ابْن كلاب. قَالَ أَبُو بكر الكلاباذي: (وَقَالَ طَائِفَة من الصُّوفِيَّة: كَلَام الله حُرُوف وأصوات، وَإنَّهُ لَا يعرف كَلَام إِلَّا كَذَلِك. مَعَ إقرارهم أَنه صفة لله فِي ذَاته، وَأَنه غير مَخْلُوق. - قَالَ: - وَهُوَ الْحَارِث المحاسبي، وَمن الْمُتَأَخِّرين ابْن سَالم) . انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1315 قَالَ ابْن رَجَب فِي " المناقب ": (قَالَ عبد الله بن أَحْمد فِي " كتاب السّنة " لَهُ: فِي بَاب مَا جحدته الْجَهْمِية من كَلَام الله تَعَالَى مَعَ مُوسَى بن عمرَان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (سَأَلت أبي عَن قوم يَقُولُونَ: لما كلم الله مُوسَى، لم يتَكَلَّم بِصَوْت، فَقَالَ أبي: بلَى، تكلم بِصَوْت، هَذِه الْأَحَادِيث يمرونها كَمَا جَاءَت، وَقَالَ أبي: حَدِيث ابْن مَسْعُود: " إِذا تكلم الله سمع لَهُ صَوت كمر سلسلة على الصفوان ". وَقَالَ الْخلال: ثَنَا مُحَمَّد بن عَليّ ثَنَا يَعْقُوب بن بختان قَالَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1316 سُئِلَ أَبُو عبد الله عَمَّن زعم أَن الله لم يتَكَلَّم بِصَوْت، فَقَالَ: " بلَى تكلم بِصَوْت ". هَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ صحتا عَن الإِمَام أَحْمد بِلَا شكّ. وَقَالَ البُخَارِيّ فِي كِتَابه " خلق أَفعَال الْعباد ": (وَيذكر عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه كَانَ يحب أَن يكون الرجل خفيض الصَّوْت، وَأَن الله تَعَالَى يُنَادي بِصَوْت يسمعهُ من بعد كَمَا يسمعهُ من قرب، فَلَيْسَ هَذَا لغير الله تَعَالَى. وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن صَوت الله تَعَالَى لَا يشبه صَوت الْخلق، لِأَن الله تَعَالَى يسمع من بعد كَمَا يسمع من قرب، وَأَن الْمَلَائِكَة يصعقون من صَوته، فَإِذا [تنادى] الْمَلَائِكَة لم يصعقوا، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تجْعَلُوا لله أندادا} [الْبَقَرَة: 22] ، فَلَيْسَ لصفة الله ند وَلَا مثل، وَلَا يُوجد شَيْء من صِفَاته بالمخلوقين) هَذَا لَفظه بِعَيْنِه. ثمَّ ذكر بعده حَدِيث عبد الله بن أنيس، ثمَّ حَدِيث ابْن مَسْعُود، وسيأتيان فِي جملَة الْأَحَادِيث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1317 قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر فِي " شَرحه ": (قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ثمَّ يناديهم بِصَوْت يسمعهُ من بعد كَمَا يسمعهُ من قرب "، حمله بعض الْأَئِمَّة على مجَاز الْحَذف، أَي: يَأْمر من يُنَادي، واستبعده بعض من أثبت الصَّوْت: بِأَن فِي قَوْله: " يسمعهُ من بعد "، إِشَارَة إِلَى أَنه لَيْسَ من الْمَخْلُوقَات، لِأَنَّهُ لم يعْهَد مثل هَذَا فيهم، وَبِأَن الْمَلَائِكَة إِذا سَمِعُوهُ صعقوا، وَإِذا سمع بَعضهم بَعْضًا لم يصعقوا. قَالَ: فعلى هَذَا فصوته صفة من صِفَات ذَاته لَا تشبه صَوت غَيره، إِذْ لَيْسَ يُوجد شَيْء من صِفَاته فِي صِفَات المخلوقين. قَالَ: وَهَكَذَا قَرَّرَهُ المُصَنّف - يَعْنِي بِهِ البُخَارِيّ - فِي كتاب " خلق أَفعَال الْعباد ") انْتهى. وَقَالَ الإِمَام مَالك الصَّغِير، أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أبي زيد القيرواني فِي " عقيدة " لَهُ: (وَأَن الله تَعَالَى كلم مُوسَى بِذَاتِهِ، وأسمعه كَلَامه، لَا كلَاما قَامَ فِي غَيره) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1318 وَقَالَ الطَّحَاوِيّ فِي " عقيدته ": (وَأَن الْقُرْآن كَلَام الله مِنْهُ بَدَأَ - بِلَا كَيْفيَّة - قولا، وأنزله على رَسُوله وَحيا، وَصدقه الْمُؤْمِنُونَ على ذَلِك حَقًا، وأيقنوا أَنه كَلَام الله بِالْحَقِيقَةِ) انْتهى. فَقَالَ: الْقُرْآن كَلَام الله مِنْهُ بَدَأَ - بِلَا كَيْفيَّة - قولا، فَقَالَ: كَلَام الله قَول، وَهُوَ صَرِيح. وَنقل الْحَافِظ ابْن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ ": (أَن الْفَقِيه أَبَا بكر - أحد الْأَئِمَّة من تلامذة إِمَام الْأَئِمَّة ابْن خُزَيْمَة - أمْلى اعْتِقَاده وَفِيه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1319 " لم يزل الله متكلما وَلَا مثل لكَلَامه "، فاستصوبه ابْن خُزَيْمَة) . وَذكر القَاضِي أَبُو حُسَيْن [ابْن] القَاضِي أبي يعلى فِي كِتَابه " المرتضى من الدَّلَائِل ": (أَن الْقَادِر بِاللَّه جمع الْعلمَاء من سَائِر الْفرق، وَكتب رِسَالَة فِي الِاعْتِقَاد، وقرئت على الْعلمَاء كلهم، وأقروا بهَا، وَكَتَبُوا خطوطهم عَلَيْهَا، وَأَنه لَيْسَ لَهُ اعْتِقَاد إِلَّا هَذَا، وقرئت مرَارًا فِي أَمَاكِن كَثِيرَة، وفيهَا: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1320 " أَن الْقُرْآن كَلَام الله، غير مَخْلُوق، تكلم بِهِ تكلما، وأنزله على رَسُوله مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على لِسَان جِبْرِيل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -، بعد مَا سَمعه جِبْرِيل من الله تَعَالَى، فتلاه جِبْرِيل على مُحَمَّد، وتلاه مُحَمَّد على أَصْحَابه، وتلاه أَصْحَابه على الْأمة، وَلم يصر بِتِلَاوَة المخلوقين لَهُ مخلوقا، [لِأَنَّهُ] ذَلِك الْكَلَام بِعَيْنِه الَّذِي تكلم الله بِهِ، وَأطَال فِي ذَلِك) انْتهى. وَقد تقدم أَن الْحَافِظ ابْن حجر حكى إِجْمَاع السّلف على أَن الْقُرْآن كَلَام [الله] غير مَخْلُوق، تَلقاهُ جِبْرِيل عَن الله، وبلغه جِبْرِيل إِلَى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وبلغه مُحَمَّد إِلَى أمته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1321 وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي كتاب " صيد الخاطر ": (نهى الشَّرْع عَن الْخَوْض فِيمَا يثير غُبَار شُبْهَة، وَلَا يقوى على قطع طَرِيقه إقدام الْفَهم، وَإِذا كَانَ قد نهى عَن الْخَوْض فِي الْقدر، فَكيف يُجِيز الْخَوْض فِي صِفَات الْمُقدر؟ وَمَا ذَاك إِلَّا لأحد أَمريْن: إِمَّا لخوف إثارة شُبْهَة تزلزل العقائد. أَو لِأَن قوى الْبشر تعجز عَن إِدْرَاك الْحَقَائِق) . وَاسْتدلَّ لما ذهب إِلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَالْإِمَام عبد الله بن الْمُبَارك، وَالْإِمَام مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ، وَالْإِمَام عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ، وأئمة الحَدِيث وَالسَّلَف، بِالْكتاب، وَالسّنة، والْآثَار، والفطرة، وَالْعقل. أما الْكتاب فقد تقدم فِي غيرما آيَة؛ إِذْ الْقُرْآن مَمْلُوء من المناداة، والمناجاة، وَالْقَوْل بالماضي، والمضارع، وَالْكَلَام بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، والمصدر الْمُؤَكّد الْمُضَاف إِلَى اسْم الله تَعَالَى. قَالَ تَعَالَى: {وكلم الله مُوسَى تكليما (164) } [النِّسَاء: 164] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلما جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلمه ربه} [الْأَعْرَاف: 143] ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصطفيتك على النَّاس برسالاتي وبكلامي} [الْأَعْرَاف: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1322 144 - ] ، وَقَالَ: {يُرِيدُونَ أَن يبدلوا كَلَام الله} [الْفَتْح: 15] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِن حق القَوْل مني} [السَّجْدَة: 13] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وناديناه من جَانب الطّور الْأَيْمن} [مَرْيَم: 52] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذ نَادَى رَبك مُوسَى أَن ائْتِ الْقَوْم الظَّالِمين} [الشُّعَرَاء: 10] ، وَقَالَ تَعَالَى: {هَل أَتَاك حَدِيث مُوسَى (15) إِذْ ناداه ربه بالواد الْمُقَدّس طوى} [النازعات: 15 - 16] ، وَقَالَ تَعَالَى: {فاستمع لما يُوحى} [طه: 13] ، وَكَانَ يكلمهُ من وَرَاء حجاب لَا ترجمان بَينهمَا، واستماع الْبشر فِي الْحَقِيقَة لَا يَقع إِلَّا للصوت، وَمن زعم أَن غير الصَّوْت يجوز فِي الْعقل أَن يسمعهُ من كَانَ على هَذِه الْبَيِّنَة الَّتِي نَحن عَلَيْهَا [احْتَاجَ] إِلَى دَلِيل، وَقد قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي من شاطيء الواد الْأَيْمن فِي الْبقْعَة الْمُبَارَكَة من الشَّجَرَة أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنا الله رب الْعَالمين} [الْقَصَص: 30] ، والنداء عِنْد الْعَرَب: صَوت لَا غير، وَلم يرد عَن الله وَلَا عَن رَسُوله وَلَا أحد من السّلف أَنه من الله غير صَوت، ومُوسَى مُكَلم بِلَا وَاسِطَة إِجْمَاعًا. وَقد قَالَ الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره " فِي قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة طه: {نُودي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنا رَبك} [طه: 11 - 12] : (قَالَ وهب: " نُودي من الشَّجَرَة فَقيل: يَا مُوسَى، فَأجَاب سَرِيعا مَا يدْرِي من دَعَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي أسمع صَوْتك وَلَا أرى مَكَانك؛ فَأَيْنَ أَنْت؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1323 قَالَ: أَنا فَوْقك، ومعك، وأمامك، وخلفك، وَأقرب إِلَيْك من نَفسك، فَعلم أَن ذَلِك لَا يَنْبَغِي إِلَّا لله فأيقن بِهِ) انْتهى. وَذكر أَبُو نصر السجسْتانِي فِي كِتَابه " الرَّد على من أنكر الْحَرْف وَالصَّوْت ": عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر [بن] عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث عَن جرير بن جَابر عَن كَعْب أَنه قَالَ: " لما كلم الله مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَلمه بالألسنة كلهَا قبل لِسَانه، فَطَفِقَ مُوسَى يَقُول: وَالله يَا رب مَا أفقه هَذَا، حَتَّى كَلمه بِلِسَانِهِ آخر الْأَلْسِنَة بِمثل صَوته ". قَالَ: وَهُوَ مَحْفُوظ عَن الزُّهْرِيّ، رَوَاهُ عَنهُ ابْن أبي عَتيق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1324 والزبيدي، وَمعمر، وَيُونُس بن يزِيد، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وهم كلهم أَئِمَّة، وَلم يُنكره وَاحِد مِنْهُم. وَقَوله: " بِمثل صَوته "، مَعْنَاهُ: أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَسبه مثل صَوته فِي تمكنه من سَمَاعه وَبَيَانه عِنْده. ويوضحه قَوْله تَعَالَى: " لَو كلمتك بكلامي لم تَكُ شَيْئا وَلم تستقم لَهُ " انْتهى. وَذكر الشَّيْخ موفق الدّين فِي قصَّة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: (أَنه لما رآى النَّار هالته وفزع مِنْهَا، فناداه ربه: " يَا مُوسَى " فَأجَاب سَرِيعا - استئناسا بالصوت - فَقَالَ: لبيْك لبيْك، أسمع صَوْتك وَلَا أرى مَكَانك فَأَيْنَ أَنْت؟ قَالَ: فَوْقك، وأمام، ووراءك، وَعَن يَمِينك، وَعَن شمالك، فَعلم أَن هَذِه الصّفة لَا تنبغي إِلَّا لله تَعَالَى، قَالَ: فَكَذَلِك أَنْت يَا إلهي، أفكلامك أسمع أم كَلَام رَسُولك؟ قَالَ: بل كَلَامي يَا مُوسَى) . وَقَالَت بَنو إِسْرَائِيل لمُوسَى: (بِمَ شبهت صَوت رَبك؟) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1325 قَالَ: " إِنَّه لَا شبه لَهُ ". وَرُوِيَ: أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لما سمع كَلَام الْآدَمِيّين مقتهم، لما وقر فِي مسامعه من كَلَام الله تَعَالَى. وَأما السّنة: فقد نقل الطوفي فِي " شَرحه " عَن الْحَافِظ ابْن شكر أَنه قَالَ: صَحَّ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْبَعَة عشر حَدِيثا فِي الصَّوْت، كَمَا تقدم ذَلِك. وَقد ذكر البُخَارِيّ فِي " صَحِيحه "، وَفِي " خلق أَفعَال الْعباد " جملَة من ذَلِك. وَكَذَلِكَ الشَّيْخ موفق الدّين فِي " تصنيفه ". وَجمع الْحَافِظ الضياء الْمَقْدِسِي جُزْءا فِي ذَلِك. وَذكرت من ذَلِك فِي هَذَا الْكتاب جملَة صَالِحَة، فَمِنْهَا: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1326 الحَدِيث الأول: مَا روى جَابر بن عبد الله - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: خرجت إِلَى الشَّام إِلَى عبد الله بن أنيس الْأنْصَارِيّ، فَقَالَ عبد الله بن أنيس: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " يحْشر الله الْعباد - أَو قَالَ: يحْشر الله النَّاس - قَالَ: وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّام عُرَاة غرلًا بهما. قَالَ: قلت: مَا بهما؟ قَالَ: لَيْسَ مَعَهم شَيْء، فينادي بِصَوْت يسمعهُ من بعد كَمَا يسمعهُ من قرب: أَنا الْملك [أَنا] الديَّان، لَا يَنْبَغِي لأحد من أهل الْجنَّة أَن يدْخل الْجنَّة وَأحد من أهل النَّار يُطَالِبهُ بمظلمة، وَلَا يَنْبَغِي لأحد من أهل النَّار أَن يدْخل النَّار وَأحد من أهل الْجنَّة يُطَالِبهُ بمظلمة ". قَالُوا: كَيفَ وَإِنَّا نأتي الله غرلًا بهما؟ قَالَ: بِالْحَسَنَاتِ والسيئات ". أخرج أَصله البُخَارِيّ فِي " صَحِيحه " تَعْلِيقا مستشهدا بِهِ، إِلَى قَوْله: " الديَّان "، وَأخرجه بِتَمَامِهِ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1327 [فِي] " الْأَدَب الْمُفْرد "، وَأخرجه الإِمَام أَحْمد، وَأَبُو يعلى، [و] الطَّبَرَانِيّ. وَفِي طَرِيق أُخْرَى ذكرهَا الْحَافِظ الضياء بِسَنَدِهِ إِلَى جَابر، قَالَ جَابر: (بَلغنِي عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَدِيث فِي الْقصاص، وَكَانَ صَاحب الحَدِيث بِمصْر، فاشتريت بَعِيرًا، فشددت عَلَيْهِ رحلا، فسرت عَلَيْهِ حَتَّى وَردت مصر، فقصدت إِلَى بَاب الرجل الَّذِي بَلغنِي عَنهُ الحَدِيث، فقرعت الْبَاب، فَخرج إِلَيّ مَمْلُوك لَهُ، فَنظر فِي وَجْهي وَلم يكلمني، فَدخل على سَيّده فَقَالَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1328 أَعْرَابِي على الْبَاب، فَقَالَ: سل من أَنْت؟ فَقلت: جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، فَخرج إِلَيّ مَوْلَاهُ، فَلَمَّا تراءينا اعتنق أَحَدنَا صَاحبه، فَقَالَ: يَا جَابر مَا جِئْت تعرف؟ فَقلت: حَدِيث بَلغنِي عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْقصاص، وَلَا أَظن أحدا مِمَّن مضى أَو مِمَّن بَقِي أحفظ لَهُ مِنْك، قَالَ: نعم يَا جَابر: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " إِن الله تبَارك وَتَعَالَى يبعثكم يَوْم الْقِيَامَة من قبوركم حُفَاة عُرَاة غرلًا بهما، ثمَّ يُنَادي بِصَوْت رفيع غير فظيع، يسمع من بعد كمن قرب: أَنا الديَّان، لَا تظالم الْيَوْم، أما وَعِزَّتِي لَا يجاوزني الْيَوْم ظَالِم، وَلَو لطمة كف بكف أَو يَد على يَد ". أَلا وَإِن أَشد مَا أَتَخَوَّف على أمتِي من بعدِي عمل قوم لوط، فلترتقب أمتِي الْعَذَاب إِذا تكافأ النِّسَاء بِالنسَاء وَالرِّجَال بِالرِّجَالِ) . الحَدِيث الثَّانِي: مَا روى أَبُو هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذا قضى الله الْأَمر فِي السَّمَاء ضربت الْمَلَائِكَة بأجنحتها تَصْدِيقًا لقَوْله، كَأَنَّهُ سلسلة على صَفْوَان فَإِذا فزع عَن قُلُوبهم قَالُوا: مَاذَا قَالَ ربكُم؟ قَالُوا: الْحق وَهُوَ الْعلي الْكَبِير ... " إِلَى آخِره، رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن ماجة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1329 الحَدِيث الثَّالِث: مَا روى ابْن مَسْعُود، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن الله تَعَالَى إِذا تكلم بِالْوَحْي، سمع أهل السَّمَاء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصَّفَا، فيصعقون، فَلَا يزالون كَذَلِك حَتَّى يَأْتِيهم جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، فَإِذا جَاءَهُم جِبْرِيل فزع عَن قُلُوبهم، فَيَقُولُونَ: يَا جِبْرِيل مَاذَا قَالَ ربكُم؟ قَالَ: يَقُول الْحق، قَالَ: فينادون: الْحق الْحق "، أخرجه أَبُو دَاوُد، وَرِجَاله ثِقَات. الحَدِيث الرَّابِع: مَا رَوَاهُ ابْن مَسْعُود - أَيْضا - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن الله - عز وَجل - إِذا تكلم بِالْوَحْي سمع أهل السَّمَوَات السَّبع صلصلة كصلصلة السلسلة على الصَّفَا، قَالَ: فيفزعون حَتَّى يَأْتِيهم جِبْرِيل، فَإِذا فزع عَن قُلُوبهم يَقُولُونَ: يَا جِبْرِيل مَاذَا قَالَ رَبك؟ قَالَ: فَيَقُول: الْحق، قَالُوا: الْحق الْحق ". رَوَاهُ أَحْمد بن الصَّباح بن أبي سُرَيج، عَن أبي ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1330 مُعَاوِيَة. الحَدِيث الْخَامِس: بِمَعْنى الَّذِي قبله. قَالَ شيخ الْإِسْلَام موفق الدّين فِي " تصنيفه ": روى عبد الله بن أَحْمد قَالَ: سَأَلت أبي فَقلت: يَا أبه، الْجَهْمِية يَزْعمُونَ أَن الله لَا يتَكَلَّم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1331 بِصَوْت، فَقَالَ: كذبُوا، إِنَّمَا يدورون على التعطيل، ثمَّ قَالَ الإِمَام أَحْمد: ثَنَا [عبد الرَّحْمَن] بن مُحَمَّد الْمحَاربي قَالَ حَدثنِي الْأَعْمَش عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: " إِذا تكلم الله بِالْوَحْي سمع صَوته أهل السَّمَاء ". قَالَ السجْزِي: (وَمَا فِي رُوَاة هَذَا الْخَبَر إِلَّا إِمَام مَقْبُول) انْتهى. وتتمة الحَدِيث: " فَيَخِرُّونَ سجدا حَتَّى إِذا فُزّع عَن قُلُوبهم: قَالَ: سكن عَن قُلُوبهم، نَادَى أهل السَّمَاء مَاذَا قَالَ ربكُم؟ قَالُوا: الْحق قَالَ كَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1332 وَكَذَا ". قَالَ القَاضِي أَبُو حُسَيْن وَغَيره: (وَمثل هَذَا لَا يَقُوله ابْن مَسْعُود إِلَّا توقيفا، لِأَنَّهُ إِثْبَات صفة الذَّات) انْتهى، وَهُوَ كَمَا قَالَ. الحَدِيث السَّادِس: مَا روى بهز عَن أَبِيه عَن جده أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1333 قَالَ: " إِذا نزل جِبْرِيل بِالْوَحْي على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فزع أهل السَّمَوَات لانحطاطه، وسمعوا صَوت الْوَحْي كأشد مَا يكون صَوت الْحَدِيد على الصَّفَا، فَكلما مر بِأَهْل سَمَاء فُزّع عَن قُلُوبهم، فَيَقُولُونَ: يَا جِبْرِيل بِمَ أمرت؟ فَيَقُول: نور الْعِزَّة الْعَظِيم، كَلَام الله بِلِسَان عَرَبِيّ ". الحَدِيث السَّابِع: مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا فزع عَن قُلُوبهم قَالُوا مَاذَا قَالَ ربكُم قَالُوا الْحق وَهُوَ الْعلي الْكَبِير} [سبأ: 23] . قَالَ: " لما أوحى الْجَبَّار عز وَجل إِلَى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَعَا الرَّسُول من الْمَلَائِكَة ليَبْعَثهُ بِالْوَحْي، فَسمِعت الْمَلَائِكَة صَوت الْجَبَّار يتَكَلَّم بِالْوَحْي، فَلَمَّا كشف عَن قُلُوبهم، سَأَلُوا عَمَّا قَالَ؟ قَالُوا: الْحق، وَعَلمُوا أَن الله لَا يَقُول إِلَّا حَقًا، وَأَنه منجز مَا وعد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1334 - قَالَ ابْن عَبَّاس -: وَصَوت الْوَحْي كصوت الْحَدِيد على الصَّفَا، فَلَمَّا سَمِعُوهُ خروا سجدا، فَلَمَّا رفعوا رؤوسهم قَالُوا: [مَاذَا قَالَ] ربكُم؟ قَالُوا: الْحق وَهُوَ الْعلي الْكَبِير ". الحَدِيث الثَّامِن: مَا رَوَاهُ أَبُو سعيد، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَقُول الله تَعَالَى: يَا آدم، فَيَقُول: لبيْك وَسَعْديك، فينادي بِصَوْت: إِن الله يَأْمُرك أَن تخرج من ذريتك بعثا إِلَى النَّار " رَوَاهُ البُخَارِيّ وَغَيره. الحَدِيث التَّاسِع: مَا رَوَاهُ النواس بن سمْعَان، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا أَرَادَ الله تَعَالَى أَن يوحي بِأَمْر تكلم بِالْوَحْي، أخذت السَّمَوَات مِنْهُ رَجْفَة شَدِيدَة من خوف الله تَعَالَى، فَإِذا سمع بذلك أهل السَّمَاء صعقوا وخروا سجدا، فَيكون أَوَّلهمْ يرفع رَأسه جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فيكلمه الله من وحيه بِمَا أَرَادَ، فينتهي بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على الْمَلَائِكَة، كلما مر بسماء سَأَلَهُ أَهلهَا: مَاذَا قَالَ رَبنَا يَا جِبْرِيل؟ فَيَقُول جِبْرِيل: قَالَ الْحق وَهُوَ الْعلي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1335 الْكَبِير، فَيَقُولُونَ كلهم مِثْلَمَا قَالَ جِبْرِيل، فينتهي بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ أَمر من السَّمَاء وَالْأَرْض ". رَوَاهُ الْحَافِظ ضِيَاء الدّين بِسَنَدِهِ إِلَى عبد الله بن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن حَيَّان، مُتَّصِلا إِلَى النواس بن سمْعَان. الحَدِيث الْعَاشِر: مَا رَوَاهُ جَابر بن عبد الله - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: كَانَ رَسُول [الله]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعرض نَفسه على النَّاس بالموقف، وَيَقُول: " أَلا رجل يحملني إِلَى قومه؛ فَإِن قُريْشًا قد مَنَعُونِي أَن أبلغ كَلَام رَبِّي " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة. الحَدِيث الْحَادِي عشر: مَا رَوَاهُ جَابر - أَيْضا - قَالَ: لما قتل أبي يَوْم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1336 أحد، قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا جَابر، أَلا أخْبرك بِمَا قَالَ الله تَعَالَى لأَبِيك، قَالَ: بلَى، قَالَ: وَمَا كلم الله أحدا إِلَّا من وَرَاء حجاب إِلَّا أَبَاك، فَكلم الله أَبَاك كفاحا، فَقَالَ: يَا عبد الله تمن عَليّ أعطك، قَالَ: يَا رب تردني فأقتل فِيك ثَانِيَة، فَقَالَ: سبق مني القَوْل: إِنَّهُم إِلَيْهَا لَا يرجعُونَ، فَقَالَ: يَا رب أخبر من ورائي، فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله} الْآيَة [آل عمرَان: 169] " رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَابْن ماجة. الحَدِيث الثَّانِي عشر: مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن الله تَعَالَى قَرَأَ {طه} و {يس} قبل أَن يخلق آدم بِأَلف عَام، فَلَمَّا سَمِعت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1337 الْمَلَائِكَة قَالَت: طُوبَى لأمة ينزل هَذَا عَلَيْهِم، وطوبى لأجواف تحمل هَذَا، وطوبى لألسن تكلم بِهِ " رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1338 الحَدِيث الثَّالِث عشر: مَا رَوَاهُ أَبُو أُمَامَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أذن الله لعبد فِي شَيْء أفضل من رَكْعَتَيْنِ يُصَلِّيهمَا، وَإِن الْبر ليذر على رَأس العَبْد مَا دَامَ فِي صلَاته، وَمَا تقرب الْعباد إِلَى الله بِمثل مَا خرج مِنْهُ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1339 قَالَ أَبُو النَّضر: يَعْنِي الْقُرْآن. رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ - أَيْضا - بِلَفْظ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1340 " مَا أذن الله لعبد "، وَسَاقه - أَيْضا - من غير طَرِيقه. الحَدِيث الرَّابِع عشر: مَا رَوَاهُ عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فضل الْقُرْآن على سَائِر الْكَلَام كفضل الرب تَعَالَى على خلقه، وَذَلِكَ أَنه مِنْهُ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1341 رَوَاهُ الْحَافِظ - أَيْضا - بِسَنَدِهِ. وروى - أَيْضا - بِسَنَدِهِ عَن عِكْرِمَة، قَالَ: " صليت مَعَ ابْن عَبَّاس على جَنَازَة، فَسمع رجلا يَقُول: يَا رب الْقُرْآن اغْفِر لَهُ، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: اسْكُتْ فَإِن الْقُرْآن كَلَام الله لَيْسَ بمربوب، مِنْهُ خرج وَإِلَيْهِ يعود ". الحَدِيث الْخَامِس [عشر] : مَا رَوَاهُ أَبُو شُرَيْح، قَالَ: خرج علينا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " أَبْشِرُوا، أَبْشِرُوا، ألستم تَشْهَدُون أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَنِّي رَسُول الله؟ "، قَالُوا: بلَى، قَالَ: " فَإِن هَذَا الْقُرْآن سَبَب، طرفه بيد الله، وطرفه [بِأَيْدِيكُمْ] ، فَتمسكُوا بِهِ، فَإِنَّكُم لن تضلوا وَلنْ تهلكوا بعده أبدا "، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة "، وروى مَعْنَاهُ أَبُو دَاوُد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1342 الطَّيَالِسِيّ. وَفِي " الصَّحِيح ": " مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا سيكلمه ربه يَوْم الْقِيَامَة لَيْسَ بَينه وَبَينه ترجمان ". هَذَا آخر الْأَحَادِيث الَّتِي نقلناها من جُزْء الْحَافِظ ضِيَاء الدّين وَغَيره، الْمُشْتَمل على الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْحَرْف وَالصَّوْت، وَهِي قريب من ثَلَاثِينَ حَدِيثا، بَعْضهَا صِحَاح، وَبَعضهَا حسان مُحْتَج بهَا، وَقد أخرج غالبها الْحَافِظ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1343 ابْن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ "، وغالبها احْتج بهَا الإِمَام أَحْمد، وَالْإِمَام مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ وَغَيرهمَا من أَئِمَّة الحَدِيث على أَن الله تَعَالَى تكلم بِصَوْت، وهم أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن، والمقتدى بهم فِيهِ، والمرجع إِلَيْهِم، وَقد صححوا هَذِه الْأَحَادِيث واعتمدوا عَلَيْهَا، واعتقدوا مَا فِيهَا، منزهين لله عَمَّا لَا يَلِيق بجلاله من شُبُهَات الْحُدُوث وَغَيرهَا، كَمَا قَالُوا فِي سَائِر الصِّفَات. فَإِذا رَأينَا أحدا من النَّاس مَا يقدر عشر معشار أحد هَؤُلَاءِ يَقُول: لم يَصح عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَدِيث وَاحِد أَنه تكلم بِصَوْت، ورأينا هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة - أَئِمَّة الْإِسْلَام الَّذين اعْتمد أهل الْإِسْلَام على أَقْوَالهم، وَعمِلُوا بهَا، ودونوها، ودانوا الله بهَا - صَرَّحُوا بِأَن الله تَعَالَى تكلم بِصَوْت لَا يُشبههُ صَوت مَخْلُوق بِوَجْه من الْوُجُوه الْبَتَّةَ، معتمدين على مَا صَحَّ عِنْدهم عَن صَاحب الشَّرِيعَة الْمَعْصُوم فِي أَقْوَاله وأفعاله، الَّذِي لَا ينْطق عَن الْهوى، إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى، مَعَ اعْتِقَادهم - الجازمين بِهِ، لَا يَعْتَرِيه شكّ وَلَا وهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1344 وَلَا خيال - نفي التَّشْبِيه والتمثيل والتكييف، وَأَنَّهُمْ قَائِلُونَ فِي صفة الْكَلَام، كَمَا يَقُولُونَ فِي جَمِيع صِفَات الله تَعَالَى، من النُّزُول، والمجيء، والاستواء، والسمع، وَالْبَصَر، وَالْيَد، وَغَيرهَا، كَمَا قَالَه سلف هَذِه الْأمة الصَّالح مَعَ إثباتهم لَهَا، {فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال} [يُونُس: 32] ، {وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور} [النُّور: 40] . قَالَ الشَّيْخ موفق الدّين فِي " تصنيفه ": [وَإِذا] كَانَ حَقِيقَة التَّكَلُّم والمناداة شَيْئا، وتواردت الْأَخْبَار والْآثَار بِهِ، فَمَا إِنْكَاره إِلَّا عناد وَاتِّبَاع للهوى الْمُجَرّد، وصدوف عَن الْحق، وَترك الصِّرَاط الْمُسْتَقيم) انْتهى. وحد الصَّوْت: مَا يتَحَقَّق سَمَاعه، فَكل مُتَحَقق سَمَاعه صَوت، وكل مَا لَا يَتَأَتَّى سَمَاعه الْبَتَّةَ لَيْسَ بِصَوْت، وَحجَّة الْحَد كَونه مطردا منعكسا. وَقَول من قَالَ: إِن الصَّوْت هُوَ الْخَارِج من هَوَاء بَين جرمين، فَغير صَحِيح، لِأَنَّهُ يُوجد سَماع الصَّوْت من غير ذَلِك، كتسليم الْأَحْجَار، وتسبيح الطَّعَام وَالْجِبَال، وَشَهَادَة الْأَيْدِي والأرجل، وحنين الْجذع، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1345 وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ} [الْإِسْرَاء: 44] ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْم نقُول لِجَهَنَّم هَل امْتَلَأت وَتقول هَل من مزِيد} [ق: 30] ، وَمَا لشَيْء من ذَلِك منخرق بَين جرمين. وَقد أقرّ الْأَشْعَرِيّ: أَن السَّمَوَات وَالْأَرْض {قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} [فصلت: 11] ، حَقِيقَة لَا مجَازًا، وَالله أعلم. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (وَلَا نزاع بَين الْعلمَاء أَن كَلَام الله لَا يُفَارق ذَات الله سُبْحَانَهُ، وَأَنه لَا يباينه كَلَامه وَلَا شَيْء من صِفَاته، بل لَيْسَ شَيْء من صفة مَوْصُوف تبَاين موصوفها وتنتقل إِلَى غَيره، فَكيف يتَوَهَّم عَاقل أَن كَلَام الله يباينه وينتقل إِلَى غَيره؟ وَلِهَذَا قَالَ الإِمَام أَحْمد: " كَلَام الله من الله لَيْسَ ببائن مِنْهُ ". وَقد جَاءَ فِي الْأَحَادِيث والْآثَار: " أَنه مِنْهُ بَدَأَ - أَو مِنْهُ خرج - وَإِلَيْهِ يعود " - كَمَا تقدم -، وَنَصّ عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد وَغَيره، وَمعنى ذَلِك: أَنه هُوَ الْمُتَكَلّم بِهِ، [لم يخرج من غَيره] ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِك: أَنه يباينه وانتقل عَنهُ قَالَ: وَمَعْلُوم أَن كَلَام الْمَخْلُوق لَا يباين مَحَله) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1346 قلت: قَالَ ابْن حمدَان فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (قَالَ أَحْمد: " مِنْهُ بَدَأَ [وَإِلَيْهِ] يعود ". وَقَالَ أَيْضا: " مِنْهُ بَدَأَ علمه، وَإِلَيْهِ يعود حكمه ". وَقَالَ تَارَة: " مِنْهُ خرج، وَهُوَ الْمُتَكَلّم بِهِ، وَإِلَيْهِ يعود ". وَقَالَ تَارَة: " الْقُرْآن من علم الله ". قَالَ ابْن جلبة - يَعْنِي: من أَصْحَابنَا -: عوده على حد حَقِيقَة الْعُلُوم، وَهِي رَاجِعَة إِلَى الله تَعَالَى، وارتفاع الْقُرْآن دفْعَة عَن النَّاس، وترفع تِلَاوَته وَأَحْكَامه فَيَعُود إِلَى الله تَعَالَى حَقِيقَة، نَص عَلَيْهِ أَحْمد) انْتهى. وَقَالَ الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ فِي " اعْتِقَاد " [صنفه] : (قَالَ عَليّ بن أبي طَالب، وَعبد الله بن ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1347 مَسْعُود، وَعبد الله بن عَبَّاس: " الْقُرْآن كَلَام الله مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يعود ". وَرُوِيَ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، قَالَ: سَمِعت عَمْرو بن دِينَار يَقُول: " أدْركْت مَشَايِخنَا وَالنَّاس مُنْذُ سبعين سنة يَقُولُونَ: الْقُرْآن كَلَام الله مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يعود " رَوَاهُ ابْن جرير، والحافظ هبة الله بن الْحسن بن مَنْصُور الطبريان. وروى التِّرْمِذِيّ عَن خباب بن الْأَرَت: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّكُم لن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1348 تتقربوا إِلَى الله بِأَفْضَل مِمَّا خرج مِنْهُ "، يَعْنِي: الْقُرْآن) انْتهى نقل الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ. وَذهب الإِمَام أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه: إِلَى أَن الْقِرَاءَة هُوَ المقروء والتلاوة هِيَ المتلو. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: (وَأما مَا نقل عَن الإِمَام أَحْمد أَنه سوى بَينهمَا فَإِنَّمَا أَرَادَ حسم الْمَادَّة لِئَلَّا يتدرج أحد إِلَى القَوْل بِخلق الْقُرْآن، كَمَا نقل عَنهُ أَنه أنكر على من قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق، أَو غير مَخْلُوق، حسما للمادة) انْتهى. وَإِلَّا فَلَا يخفى الْفرق بَينهمَا، وَهُوَ ظَاهر. فَإِن قيل: أَي الْمذَاهب أقرب إِلَى الْحق من هَذِه الْأَقْوَال التِّسْعَة؟ قلت: إِن صحت الْأَحَادِيث بِذكر الصَّوْت فَلَا كَلَام فِي أَنه أولى وَأَحْرَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1349 وَأَصَح من جَمِيع الْمذَاهب، مَعَ الِاعْتِقَاد فِيهِ بِمَا يَلِيق بِجلَال الله وعظمته وكبريائه، من غير تَشْبِيه بِوَجْه من الْوُجُوه الْبَتَّةَ، وَقد صحت الْأَحَادِيث بِحَمْد الله تَعَالَى، وصححها الْأَئِمَّة الْكِبَار الْمُعْتَمد عَلَيْهِم: كَالْإِمَامِ أَحْمد، وَالْإِمَام عبد الله بن الْمُبَارك، وَالْإِمَام مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ، وَالْإِمَام عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ، وَغَيرهم، حَتَّى الْحَافِظ الْعَلامَة ابْن حجر فِي زمننا قَالَ: (قد صحت الْأَحَادِيث فِي ذَلِك) - كَمَا تقدم عَنهُ - وَكَذَلِكَ [صححها غَيره] من الْمُحدثين، وَفِي ذَلِك كِفَايَة وهداية، وَلَوْلَا أَن الصَّادِق المصدوق الْمَعْصُوم قَالَ ذَلِك لما قُلْنَاهُ وَلَا حمنا حوله، كَمَا قَالَ السهروردي ذَلِك فِي " عقيدته " - كَمَا تقدم عَنهُ - فَإِن صِفَات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا تعرف إِلَّا بِالنَّقْلِ الْمَحْض من الْكتاب الْعَزِيز، أَو من صَاحب الشَّرِيعَة - صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ - وَتَصْحِيح هَؤُلَاءِ وإثباتهم للأحاديث بِذكر الصَّوْت، أولى من نفي من نفى أَنه لم يَأْتِ فِي حَدِيث وَاحِد ذكر الصَّوْت، من وُجُوه عديدة مِنْهَا: أَن الْمُثبت مقدم على النَّافِي. وَمِنْهَا: عظم الْمُصَحح وجلالة قدره وَكَثْرَة اطِّلَاعه، لَا سِيمَا فِي إِثْبَات صفة لله تَعَالَى مَعَ الزّهْد الْعَظِيم والورع المتين، أفيليق بِالْإِمَامِ أَحْمد، وَالْإِمَام عبد الله بن الْمُبَارك، أَو البُخَارِيّ، أَو غَيرهم من السّلف الصَّالح، أَن يثبتوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1350 لله تَعَالَى صفة من صِفَاته من غير دَلِيل؟ ويدينون الله بهَا، ويعتقدونها، ويهجرون من يُخَالِفهَا، من غير دَلِيل صَحَّ عِنْدهم، وَهل [يعْتَقد هَذَا مُسلم] يُؤمن بِاللَّه وباليوم الآخر؟ فضلا عَن إِمَام من أَئِمَّة الْإِسْلَام المقتدى بأقواله وأفعاله. ثمَّ بعد هَذَا الْمَذْهَب من الْمذَاهب الْبَاقِيَة مَا ذكره الْحَافِظ ابْن حجر فِي " شَرحه " بقوله: (وَمن شدَّة اللّبْس فِي هَذِه الْمَسْأَلَة كثر نهي السّلف عَن الْخَوْض فِيهَا، واكتفوا باعتقاد: أَن الْقُرْآن كَلَام الله - عز وَجل - غير مَخْلُوق، وَلم يزِيدُوا على ذَلِك شَيْئا، وَهُوَ أسلم الْأَقْوَال وَالله الْمُسْتَعَان) انْتهى. وَالظَّاهِر - وَالله أعلم - إِنَّمَا اكْتفى السّلف بذلك حسما لمادة الْكَلَام فِي ذَلِك، وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من وُقُوع النَّاس فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ فِي هَذِه الْأَزْمِنَة وَالَّتِي قبلهَا بِكَثِير، لإثارة شبه كَثِيرَة توجب الْخبط فِي العقائد، وسد الذريعة، كَمَا سد الإِمَام أَحْمد الْبَاب فِي أَن من قَالَ: (لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق) جهمي، وَمن قَالَ: (لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غير مَخْلُوق " مُبْتَدع. وَإِنَّمَا أطلت الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، ونقلت كَلَام الْعلمَاء المعتبرين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1351 فِيهَا، ليعلم ذَلِك، وَيعلم أَقْوَال الْعلمَاء، وَالْقَائِل بِكُل قَول، وَيعرف قَائِله وَقدره ومكانته فِي الْعلم وَعند الْعلمَاء، إِذْ غَالب النَّاس فِي هَذِه الْأَزْمِنَة يَقُول: (من قَالَ: إِن الله يتَكَلَّم بِصَوْت، يكون كَافِرًا) ، فَهَذَا الإِمَام أَحْمد - رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ - قد صرح فِي غير رِوَايَة بِأَن الله يتَكَلَّم بِصَوْت بقدرته ومشيئته إِذا شَاءَ وَكَيف شَاءَ، وهجر من قَالَ: إِنَّه لَا يتَكَلَّم بِصَوْت وبدعه. وَهَذَا الإِمَام الْكَبِير عبد الله بن الْمُبَارك، إِمَام الدُّنْيَا على الْإِطْلَاق، الَّذِي اجْتمع فِيهِ من خِصَال الْخَيْر مَا لَا يجْتَمع غَالِبا فِي غَيره، قد قَالَ: (إِن الله يتَكَلَّم بقدرته ومشيئته بِصَوْت كَيفَ شَاءَ وَمَتى شَاءَ وَإِذا شَاءَ بِلَا كَيفَ) . وَهَذَا الإِمَام أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ، من أعظم أَئِمَّة الْمُسلمين بِلَا مدافعة فِي ذَلِك، قد قَالَ فِي كِتَابه: " خلق أَفعَال الْعباد ": (إِن الله يتَكَلَّم بِصَوْت، وَإِن صَوته لَا يشابه صَوت المخلوقين، وَإنَّهُ يتَكَلَّم كَيفَ شَاءَ وَمَتى شَاءَ) ، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِحَدِيث أم سَلمَة، ذكره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1352 الْحَافِظ ابْن حجر، وَكَذَلِكَ غَيره من السّلف. وَهَذَا الطَّحَاوِيّ، الْحَافِظ الْجَلِيل، قد قَالَ فِي " عقيدته ": (إِن الْقُرْآن كَلَام الله، مِنْهُ بَدَأَ - بِلَا كَيْفيَّة - قولا، وأنزله على رَسُوله وَحيا) - كَمَا تقدم ذَلِك عَنهُ -. وَقَالَ ابْن أبي زيد فِي " عقيدته ": (إِن الله كلم مُوسَى بِذَاتِهِ، وأسمعه كَلَامه لَا كلَاما قَامَ فِي غَيره) . وَهَؤُلَاء أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد فِي زَمَنه، وَإِلَى يَوْمنَا هَذَا، لم يُغَادر مِنْهُم أحد، قَالُوا كَمَا قَالَ إمَامهمْ، وصنفوا فِي ذَلِك التصانيف الْكَثِيرَة. فَإِذا نظر الْإِنْسَان [الْمنصف] فِي كَلَام الْعلمَاء الْأَئِمَّة الْأَعْلَام المقتدى بهم، واطلع على مَا قَالُوهُ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، علم الْحق، وَعذر الْقَائِل، وأحجم [عَن] المقالات الَّتِي لَا تلِيق بِمُسلم يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر، وَعلم أَن هَذِه الْمَسْأَلَة من جملَة مسَائِل الصِّفَات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1353 وَلِهَذَا قَالَ الْحَافِظ الْعَلامَة ابْن حجر: (قد صحت الْأَحَادِيث بذلك، فَمَا بَقِي إِلَّا التَّسْلِيم أَو التَّأْوِيل) ، كَمَا تقدم عَنهُ. فَلَيْسَ لأحد أَن يدْفع حَدِيث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَيَقُول بعقله هَذِه الْأَحَادِيث مشكلة، وَيلْزم مِنْهَا الْمَحْذُور الْعَظِيم. فَقَوْل من نتبع؟ قَول هَذَا الْقَائِل، أَو قَول من اتبع الْأَحَادِيث على حكم صِفَات الله اللائقة بجلاله وعظمته، وَالله أعلم. ونسأله التَّوْفِيق لما يرضيه عَنَّا من القَوْل وَالْعَمَل وَالنِّيَّة، إِنَّه سميع قريب مُجيب. قَوْله: {وَقَالَ [الإِمَام أَحْمد] : (الْقُرْآن معجز بِنَفسِهِ) } . قَالَ الإِمَام أَحْمد: (من قَالَ: الْقُرْآن مَقْدُور على مثله، وَلَكِن منع الله قدرتهم، كفر، بل هُوَ معجز بِنَفسِهِ، وَالْعجز شَمل الْخلق) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1354 {قَالَ [جمَاعَة من أَصْحَابنَا: (كَلَام أَحْمد يَقْتَضِي] أَنه معجز فِي لَفظه ونظمه وَمَعْنَاهُ) . [وَهُوَ مَذْهَب الْحَنَفِيَّة] وَغَيرهم، وَخَالف القَاضِي فِي الْمَعْنى} ، وَاحْتج لذَلِك: بِأَن الله تَعَالَى تحدى بِمثلِهِ فِي اللَّفْظ وَالنّظم. قيل للْقَاضِي: لَا نسلم أَن الإعجاز فِي اللَّفْظ بل فِي الْمَعْنى. فَقَالَ: (الدّلَالَة على أَن الإعجاز فِي اللَّفْظ وَالنّظم دون الْمَعْنى أَشْيَاء، مِنْهَا: أَن الْمَعْنى يقدر على مثله كل أحد، يبين صِحَة هَذَا: قَوْله تَعَالَى: {قل فَأتوا بِعشر سور مثله مفتريات} [هود: 13] ، وَهَذَا يَقْتَضِي: أَن التحدي بألفاظها، وَلِأَنَّهُ قَالَ: {مثله مفتريات} ، وَالْكذب لَا يكون مثل الصدْق، فَدلَّ أَن المُرَاد مثله فِي اللَّفْظ وَالنّظم) انْتهى. و {قَالَ ابْن حَامِد} : (فَهَل يسْقط الإعجاز فِي الْحُرُوف الْمُقطعَة أم هُوَ بَاقٍ؟ {الْأَظْهر من جَوَاب الإِمَام أَحْمد: أَن الإعجاز [فِيهَا] بَاقٍ، خلافًا للأشعرية) } . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1355 قَوْله: {وَفِي بعض آيَة إعجاز، ذكره القَاضِي وَغَيره} ، لقَوْله تَعَالَى: {فليأتوا بِحَدِيث مثله} [الطّور: 34] ، وَالظَّاهِر: أَنه أَرَادَ مَا فِيهِ الإعجاز، وَإِلَّا فَلَا يَقُول فِي مثل قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ نظر} [المدثر: 21] ، وَنَحْوهَا: إِن فِي بَعْضهَا إعجازا، وفيهَا أَيْضا، وَهُوَ وَاضح. {وَقَالَ أَبُو الْخطاب} - فِي النّسخ وَغَيره - {وَالْحَنَفِيَّة: (لَا} إعجاز فِي بعض آيَة، بل فِي آيَة) . وَهَذَا - أَيْضا - لَيْسَ على إِطْلَاقه، [وَقَالَ] : (بعض الْآيَات الطوَال فِيهَا إعجاز) . { [وَقَالَ] بَعضهم: (وَلَا فِي آيَة) } . وَفِيه كَمَا فِي الَّذِي قبله. وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الشَّامِل " وَغَيره: (إِنَّمَا يتحدى بِالْآيَةِ إِذا كَانَت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1356 مُشْتَمِلَة على مَا بِهِ التَّعْجِيز، لَا فِي نَحْو: {ثمَّ نظر} [المدثر: 21] . فَيكون الْمَعْنى فِي قَوْله تَعَالَى: {فليأتوا بِحَدِيث مثله} [الطّور: 34] ، أَي: مثله فِي الاشتمال على مَا بِهِ يَقع الإعجاز لَا مُطلقًا) . {و} قَالَ ابْن عقيل {فِي " الْوَاضِح ": (لَا إعجاز وَلَا تحدي بآيتين) } . قلت: وَفِيه نظر على إِطْلَاقه - كَمَا تقدم - اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال: مُرَاده وَمُرَاد غَيره فِي الْجُمْلَة، وَهُوَ أولى عِنْدِي. وَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين: (الْقُرْآن كُله معجز، لَكِن مِنْهُ مَا لَو انْفَرد لَكَانَ معجزا بِذَاتِهِ، وَمِنْه مَا إعجازه مَعَ الانضمام) . تَنْبِيه: ظَاهر مَا تقدم: أَن الإعجاز يحصل بِسُورَة، وَلَو قَصِيرَة بطرِيق أولى وَأَحْرَى، ك: {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر} [الْكَوْثَر: 1] ، وَهُوَ ظَاهر قَوْله: {فَأتوا بِسُورَة مثله} [يُونُس: 38] . وَقَالَ الْآمِدِيّ فِي " الْأَبْكَار ": (الْتزم القَاضِي أَبُو بكر بن الباقلاني فِي أحد جوابيه: أَن الإعجاز فِي سُورَة الْكَوْثَر وأمثالها، تمسكا وتعلقا بقوله تَعَالَى: {فَأتوا بِسُورَة من مثله} [الْبَقَرَة: 23] ، وَالصَّحِيح: مَا ارْتَضَاهُ فِي الْجَواب الآخر، وَهُوَ اخْتِيَار الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق الأسفراييني وَجَمَاعَة: أَن التحدي إِنَّمَا وَقع بِسُورَة تبلغ فِي الطول مبلغا تبين فِيهِ رتب [ذَوي] البلاغة، فَإِنَّهُ قد يصدر من غير البليغ، أَو مِمَّن هُوَ أدنى فِي البلاغة، من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1357 الْكَلَام البليغ مَا يماثل الْكَلَام البليغ الصَّادِر عَمَّن هُوَ أبلغ مِنْهُ، وَرُبمَا زَاد عَلَيْهِ. قَالَ: فَيتَعَيَّن تَقْيِيد الْإِطْلَاق فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأتوا بِسُورَة} [الْبَقَرَة: 23، وَيُونُس: 38] ، لِأَن تَقْيِيد الْمُطلق بِالدَّلِيلِ وَاجِب) انْتهى. قَوْله: {قَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل، [وَغَيرهمَا] : (فِي بعضه إعجاز أَكثر من بعض) } . قلت: وَهُوَ صَحِيح، وَقد صرح بِهِ أَئِمَّة عُلَمَاء البلاغة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1358 (قَوْله: {فصل} ) {الْقرَاءَات السَّبع متواترة عِنْد [الْعلمَاء] } ، إِذا تَوَاتَرَتْ عَن قَارِئهَا. واحترزنا بذلك؛ عَمَّا يحْكى عَن بَعضهم آحادا، فَإِن ذَلِك من الشاذ الْآتِي بَيَانه. فالقراءات [السَّبع] متواترة عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم من الْأَئِمَّة من عُلَمَاء السّنة، نَقله [السرُوجِي] من أَصْحَاب الشَّافِعِي فِي كتاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1359 الصَّوْم من الْغَايَة. وَقَالَ: (قَالَت الْمُعْتَزلَة: آحادا) انْتهى. [وَمِمَّنْ] ادّعى أَنَّهَا آحَاد، الأبياري شَارِح " الْبُرْهَان "، قَالَ: (وأسانيدهم تشهد لذَلِك) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1360 وَقَالَ صَاحب " البديع " من الْحَنَفِيَّة: (إِنَّهَا مَشْهُورَة) . وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (وَعِنْدِي فِي [كَونهَا] متواترة نظر، وَالتَّحْقِيق: أَن الْقرَاءَات متواترة عَن الْأَئِمَّة السَّبْعَة، أما تواترها عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْأَئِمَّة فَمحل نظر، فَإِن أَسَانِيد الْأَئِمَّة السَّبْعَة بِهَذِهِ الْقرَاءَات [السَّبع] إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَوْجُودَة فِي كتب الْقِرَاءَة، وَهِي نقل الْوَاحِد عَن الْوَاحِد، لم تستكمل شُرُوط التَّوَاتُر) انْتهى. قلت: لَا يشك أحد أَن الْقرَاءَات [السَّبع] متواترة من الصَّحَابَة إِلَيْهِم، وانه لم يكن مَذْكُورا مِنْهَا إِلَّا طَرِيقين أَو ثَلَاثَة، لَكِن لَو سُئِلَ كل أحد من الْقُرَّاء السَّبْعَة لبين لَهُ طرقا تبلغ التَّوَاتُر. وَأَيْضًا فَالَّذِي نتحققه وَلَا نشك فِيهِ: أَن الجم الْغَفِير أخذت الْقُرْآن عَن الصَّحَابَة، بِحَيْثُ أَنه لَا يُمكن حصر من أَخذ مِنْهُم وَلَا عَنْهُم، وَكَذَلِكَ من بعدهمْ. وَمَا أحسن مَا قَالَ بَعضهم: (انحصار الْأَسَانِيد فِي طَائِفَة لَا يمْنَع مَجِيء الْقرَاءَات عَن غَيرهم، فقد كَانَ يتلقاه من أهل كل بلد بِقِرَاءَة إمَامهمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1361 الجم الْغَفِير عَن مثلهم، وَكَذَلِكَ دَائِما، فالتواتر حَاصِل لَهُم، وَلَكِن الْأَئِمَّة الَّذين قصدُوا ضبط الْحُرُوف، وحفظوا شيوخهم فِيهَا، جَاءَ السَّنَد من جهتهم، وَهَذَا كالأخبار الْوَارِدَة فِي حجَّة الْوَدَاع هِيَ آحَاد، وَلم تزل حجَّة الْوَدَاع منقولة عَمَّن يحصل بهم التَّوَاتُر عَن مثلهم فِي كل عصر، فَيَنْبَغِي أَن يتفطن لذَلِك، وان لَا يغتر بقول الْقُرَّاء فِي ذَلِك) انْتهى. قَوْله: {قَالَ ابْن الْحَاجِب [وَمن تبعه] : (لَا من قبيل صفة الْأَدَاء) ، وَقَالَ أَبُو شامة وَغَيره: (وَلَا صفة الْأَلْفَاظ الْمُخْتَلف فِيهَا بَين الْقُرَّاء) ، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد وَجمع} . وَهَذَا بَيَان وَتَقْيِيد لما أطلقهُ الْجُمْهُور من تَوَاتر الْقرَاءَات [السَّبع] ، فَإِنَّهُ لَيْسَ على إِطْلَاقه، بل يسْتَثْنى مِنْهُ مَا قَالَه ابْن الْحَاجِب وَغَيره، وَهُوَ مَا كَانَ من قبيل صفة الْأَدَاء: كالمد، والإمالة، وَتَخْفِيف الْهمزَة، وَنَحْوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1362 وَمرَاده بالتمثيل بِالْمدِّ، والإمالة: مقادير الْمَدّ، وَكَيْفِيَّة الإمالة، لَا أصل الْمَدّ والإمالة، فَإِن ذَلِك متواتر قطعا. فالمقادير كمد حَمْزَة وورش فَإِنَّهُ قدر سِتّ ألفات، وَقيل: خمس، وَقيل: أَربع، ورجحوه، وَمد عَاصِم قدر ثَلَاث ألفات، وَالْكسَائِيّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1363 قدر أَلفَيْنِ وَنصف، وقالون قدر أَلفَيْنِ، والسوسي قدر ألف وَنصف، وَنَحْو ذَلِك. وَكَذَلِكَ الإمالة، تَنْقَسِم إِلَى مَحْضَة، وَهِي: أَن ينحى بِالْألف إِلَى الْيَاء، وبالفتحة إِلَى الكسرة، وَإِلَى بَين بَين، وَهِي كَذَلِك، إِلَّا أَنَّهَا تكون إِلَى الْألف والفتحة أقرب، وَهِي المختارة عِنْد الْأَئِمَّة، أما أصل الإمالة فمتواتر قطعا. وَكَذَلِكَ التَّخْفِيف فِي [الْهَمْز، وَالتَّشْدِيد فِيهِ] ، مِنْهُم من يسهل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1364 وَمِنْهُم من يُبدلهُ، وَنَحْو ذَلِك، فَهَذِهِ الْكَيْفِيَّة هِيَ الَّتِي لَيست متواترة، وَلِهَذَا كره الإِمَام أَحْمد وَجَمَاعَة من السّلف قِرَاءَة حَمْزَة، لما فِيهَا من طول الْمَدّ وَالْكَسْر والإدغام وَنَحْو ذَلِك، لِأَن الْأمة إِذا اجْتمعت على فعل شَيْء لم يكره فعله. وَهل يظنّ عَاقل: أَن الصّفة الَّتِي فعلهَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وتواترت إِلَيْنَا، يكرهها أحد من الْعلمَاء، أَو من الْمُسلمين. فَعلمنَا بِهَذَا أَن هَذِه الصِّفَات لَيست متواترة، وَهُوَ وَاضح. وَكَذَلِكَ قِرَاءَة الْكسَائي، لِأَنَّهَا كَقِرَاءَة حَمْزَة فِي الإمالة والإدغام كَمَا نَقله [السرُوجِي] فِي الْغَايَة، فَلَو كَانَ ذَلِك متواترا لما كرهه أحد من الْأَئِمَّة. وَزَاد أَبُو شامة: الْأَلْفَاظ الْمُخْتَلف فِيهَا بَين الْقُرَّاء، أَي: اخْتلف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1365 الْقُرَّاء فِي صفة تأديتها، كالحرف المشدد يُبَالغ بَعضهم فِيهِ حَتَّى كَأَنَّهُ يزِيد حرفا، وَبَعْضهمْ لَا يرى ذَلِك، وَبَعْضهمْ يرى التَّوَسُّط بَين الْأَمريْنِ، وَهُوَ ظَاهر، وَيُمكن دُخُوله تَحت قَول ابْن الْحَاجِب فِي الِاحْتِرَاز عَنهُ: (فِيمَا لَيْسَ من قبيل الْأَدَاء) ، على أَن بَعضهم نَازع بِمَا لَا تَحْقِيق فِيهِ. لَكِن قَالَ ابْن الْجَزرِي: (لَا نعلم أحدا تقدم ابْن الْحَاجِب إِلَى ذَلِك، وَقد نَص على ذَلِك كُله أَئِمَّة الْأُصُول، كَالْقَاضِي أبي بكر وَغَيره، وَهُوَ الصَّوَاب، لِأَنَّهُ إِذا ثَبت تَوَاتر اللَّفْظ ثَبت تَوَاتر هَيْئَة أَدَائِهِ؛ لِأَن اللَّفْظ لَا يقوم إِلَّا بِهِ، وَلَا يَصح إِلَّا بِوُجُودِهِ) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1366 ( [ فصل ] ) {وَمَا لم يتواتر فَلَيْسَ بقرآن} . إِذا علم أَن الْقُرْآن لَا يكون إِلَّا متواترا، نَشأ عَنهُ أَن الْقرَاءَات الشاذة لَيست قُرْآنًا، لِأَنَّهَا آحَاد، وَذَلِكَ لِأَن التَّوَاتُر يُفِيد الْقطع، وَثُبُوت الْقُرْآن لَا بُد فِيهِ من التَّوَاتُر، لكَونه مَقْطُوعًا بِهِ، لِأَنَّهُ معجز عَظِيم، فَكَانَ مِمَّا تتوافر الدَّوَاعِي عَادَة على نقل جمله وتفاصيله، لدوران الْإِسْلَام عَلَيْهِ، فَلَا بُد من تواتره وَالْقطع بِهِ، وَمَا لم يتواتر لَا يثبت كَونه قُرْآنًا، وَقطع بِهَذَا كثير من الْعلمَاء، حَتَّى أَنْكَرُوا على من حكى خلافًا. لَكِن الصَّحِيح: أَن من غير الْمُتَوَاتر ظَاهرا مَا يكون قُرْآنًا، كَمَا لَو صَحَّ سَنَده وَلم يتواتر، على مَا يَأْتِي قَرِيبا محررا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1367 وَالله أعلم. {والبسملة بعض آيَة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1368 فارغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1369 [فِي] [سُورَة] [النَّمْل إِجْمَاعًا} ، فَهِيَ قرآ] ن قطعا، وَلَيْسَت فِي أول بَرَاءَة إِجْمَاعًا، إِمَّا لكَونهَا أَمَانًا، وَهَذِه [السُّورَة نزلت] بِالسَّيْفِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1370 كَمَا قَالَه ابْن عَبَّاس، وَقد كشفت أسرار الْمُنَافِقين، وَلذَلِك تسمى الفاضحة. وَإِمَّا لِأَنَّهَا مُتَّصِلَة بالأنفال سُورَة وَاحِدَة. وَإِمَّا لغير ذَلِك، على أَقْوَال. وَأما حكم الْبَسْمَلَة فِي غير ذَلِك، فَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء، مِنْهُم: الإِمَام أَحْمد وَالْإِمَام أَبُو حنيفَة وَالْإِمَام الشَّافِعِي: أَنَّهَا قُرْآن، نَقله ابْن مُفْلِح عَنْهُم فِي " أُصُوله " و " فروعه ". لَكِن النَّقْل عَن الشَّافِعِي: أَنه قطع بِأَنَّهَا آيَة من أول الْفَاتِحَة، وَاخْتلف قَوْله فِيمَا سواهَا. فَفِي قَول: أَنَّهَا آيَة من أول كل سُورَة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1371 وَفِي قَول: بعض آيَة. وَفِي قَول: لَا آيَة، وَلَا بعض آيَة. وَفِي قَول رَابِع: أَنَّهَا آيَة مُفْردَة للفصل بَين السُّور، وَهُوَ غَرِيب لم يَنْقُلهُ أحد من أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَلكنه فِي " الطارقيات " لِابْنِ خالويه عَن الرّبيع، قَالَ: (سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول: أول الْحَمد " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم "، وَأول الْبَقَرَة " الم ") . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1372 قَالَ ابْن الصّلاح: (وَله حسن، وَهُوَ أَنَّهَا لما ثبتَتْ أَولا فِي سُورَة الْفَاتِحَة، كَانَت فِي بَاقِي السُّور إِعَادَة لَهَا وتكرارا، فَلَا تكون فِي تِلْكَ السُّور ضَرُورَة، وَلذَلِك لَا يُقَال: هِيَ آيَة من أول كل سُورَة، بل هِيَ آيَة فِي أول كل سُورَة) . قَالَ بَعضهم: (وَهُوَ أحسن الْأَقْوَال، وَبِه تَجْتَمِع الْأَدِلَّة، فَإِن إِثْبَاتهَا فِي الْمُصحف بَين السُّور، وَقد أجمع الصَّحَابَة أَلا يكون فِي الْمُصحف غير قُرْآن، [وَأَن] مَا بَين دفتي الْمُصحف كَلَام الله، فَإِن فِي ذَلِك دَلِيلا وَاضحا على ثُبُوتهَا) . قَالَ جمَاعَة: (وَهَذَا من أحسن الْأَدِلَّة، وَلم يقم دَلِيل على كَونهَا آيَة من أول كل سُورَة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1373 قَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ الْحَنَفِيّ: (هِيَ آيَة مُفْردَة، أنزلت للفصل بَين السُّور) . قَالَ ابْن رَجَب فِي تَفْسِير الْفَاتِحَة: (وَهُوَ الصَّحِيح عَن أبي حنيفَة) . قلت: وَهَذَا مَنْصُوص الإِمَام أَحْمد، وَعَلِيهِ أَصْحَابه. قَالَ ابْن رَجَب: (هَذَا قَول أَكثر الْعلمَاء مِنْهُم: عَطاء، وَالشعْبِيّ، وَالزهْرِيّ، وَالثَّوْري، وَابْن الْمُبَارك، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1374 وَإِسْحَاق، [وَأَبُو] عبيد، وَدَاوُد، وَمُحَمّد بن الْحسن) . وَهُوَ أَيْضا قَول أَكثر الْقُرَّاء، من السَّبْعَة وَغَيرهم. { [وَذهب] الإِمَام مَالك، وَأَصْحَابه} ، وَالْأَوْزَاعِيّ، وَابْن جرير الطَّبَرِيّ، وَغَيرهم: إِلَى أَنَّهَا لَيست بقرآن بِالْكُلِّيَّةِ، {و} قَالَه {بعض الْحَنَفِيَّة، وَرُوِيَ عَن أَحْمد} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1375 لَكِن قَالَ ابْن رَجَب فِي تَفْسِير الْفَاتِحَة: (فِي ثُبُوت هَذِه الرِّوَايَة عَن أَحْمد نظر، بل هِيَ ذكر كالاستعاذة) . قَوْله: {وَلَيْسَت من الْفَاتِحَة على [أصح الرِّوَايَتَيْنِ] } عَن الإِمَام أَحْمد، وَعَلَيْهَا مُعظم أَصْحَابه. وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة: أَنَّهَا من الْفَاتِحَة، اخْتَارَهَا ابْن بطة، وَأَبُو حَفْص، العكبريان من أَصْحَابنَا. وَهُوَ مَنْصُوص الشَّافِعِي كَمَا تقدم. قَوْله: {وَلَا تَكْفِير [من] الْجَانِبَيْنِ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1376 وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَيست من الْقُرْآن الْقطعِي، بل من الْحكمِي، وَهُوَ الْأَصَح للشَّافِعِيَّة؛ بِنَاء على أَنَّهَا هَل هِيَ قُرْآن على سَبِيل الْقطع كَسَائِر الْقُرْآن، أَو على سَبِيل الحكم لاخْتِلَاف الْعلمَاء فِيهَا؟ وَقد حكى النَّوَوِيّ: (أَنه لَا يكفر النَّافِي بِأَنَّهَا قُرْآن إِجْمَاعًا) ، وَإِن كَانَ العمراني حكى فِي زوائده عَن صَاحب " الْفُرُوع ": (أَنا إِذا قُلْنَا: إِنَّهَا من الْفَاتِحَة قطعا كفرنا نافيها، [وفسقنا] تاركها) ، لَكِن لَا الْتِفَات لذَلِك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1377 وَمن ذَلِك: قَالَ ابْن الْحَاجِب: (وَقُوَّة الشُّبْهَة فِي " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم "، منعت من التَّكْفِير من الْجَانِبَيْنِ) المثبتين لَهَا كالشافعية، والنافين لَهَا كالأئمة الثَّلَاثَة، وَالْقَاضِي أبي بكر، لَكِن هَذَا إِنَّمَا هُوَ إِذا أثبتناها قُرْآنًا قَطْعِيا، أما إِذا أثبتناها حكميا، فَلَيْسَ هُنَا مُقْتَضى للتكفير حَتَّى يدْفع بِالشُّبْهَةِ، وَكَذَا إِذا قُلْنَا: قطع بتواترها عِنْد الْقَائِل بِهِ دون غَيره، أَو أَن الْقطع بالقرائن، على أَن الْقطع لَا يُوجب تَكْفِير النَّافِي، بل لَا بُد أَن يكون الْمَقْطُوع بِهِ مجمعا عَلَيْهِ، مَعْلُوما من الدّين بِالضَّرُورَةِ. ثمَّ قَالَ ابْن الْحَاجِب: (وَالْقطع أَنَّهَا لم تتواتر ... إِلَى آخِره) . وَهُوَ عَجِيب، فَأَي قطع مَعَ قُوَّة الشُّبْهَة على قَوْله؟ وَكَذَلِكَ مُبَالغَة الباقلاني فِي تخطئة القَوْل بِأَنَّهَا من الْقُرْآن، لَا يلاقي مدعي: أَن ذَلِك حكى لَا قَطْعِيّ، أَو بتواتر حصل لَهُ، أَو يقطع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1378 بقرائن، وَكَونه قُرْآنًا حكميا أصح الْأَوْجه الثَّلَاثَة؛ لِأَنَّهُ لَا يحْتَاج إِلَى تَوَاتر، وَبِه تنْدَفع الإشكالات كلهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى) قَالَ ذَلِك الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ". قَوْله: {وَتكره قِرَاءَة مَا صَحَّ مِنْهُ} . أَي: من غير الْمُتَوَاتر، وَهُوَ الشاذ، نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، قدمه ابْن مُفْلِح فِي " فروعه "، وَغَيره، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَاللَّيْل إِذا يغشى (1) وَالنَّهَار إِذا تجلى (2) وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى} [اللَّيْل: 1 - 3] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1379 قَالَ الرَّافِعِيّ: من الشَّافِعِيَّة: (تسوغ الْقِرَاءَة بالسبع، وَكَذَا بِالْقِرَاءَةِ الشاذة، إِن لم يكن فِيهَا تَغْيِير معنى، وَلَا زِيَادَة حرف، وَلَا نقصانه) انْتهى، وَظَاهره مُطلقًا. قَوْله: {وَلَا تصح الصَّلَاة [بِهِ] عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} . لِأَنَّهُ لَيْسَ بقرآن، لِأَن الْقُرْآن لَا يكون إِلَّا متواترا - كَمَا تقدم - وَهَذَا غير متواتر، فَلَا يكون قُرْآنًا، فَلَا تصح الصَّلَاة بِهِ. {وَعنهُ: تصح، [وَرَوَاهُ ابْن وهب] عَن مَالك، وَاخْتَارَهُ ابْن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1380 الْجَوْزِيّ، وَالشَّيْخ} تَقِيّ الدّين، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَقدمه ابْن تَمِيم، وَصَاحب " الْفَائِق " من أَصْحَابنَا، لصَلَاة الصَّحَابَة بَعضهم خلف بعض، وَكَذَلِكَ لم يزل الْمُسلمُونَ يصلونَ خلف أَصْحَاب هَذِه الْقرَاءَات: كالحسن الْبَصْرِيّ، وَطَلْحَة بن مصرف، وَابْن مُحَيْصِن، وَالْأَعْمَش، وَغَيرهم من أضرابهم، وَلم يُنكر ذَلِك أحد عَلَيْهِم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1381 قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (هَذِه الرِّوَايَة أنصهما عَن أَحْمد) انْتهى. وَاخْتَارَ الْمجد - جده - ابْن تَيْمِية: أَنَّهَا لَا تجزيء عَن ركن الْقِرَاءَة. {و [قطع] النَّوَوِيّ فِي " الرَّوْضَة "} بِصِحَّة الصَّلَاة بِالْقِرَاءَةِ الشاذة، إِن لم يكن فِيهَا تَغْيِير معنى، وَلَا زِيَادَة حرف وَلَا نقصانه. وَهُوَ معنى قَوْلنَا: {إِن بَقِي الْمَعْنى وَالصّفة} . فالرافعي جوز الْقِرَاءَة بذلك، وَالنَّوَوِيّ صحّح الصَّلَاة بِهِ. { [وَعَن أَحْمد] تحرم} الْقِرَاءَة بِهِ، ذكرهمَا ابْن مُفْلِح فِي " فروعه "، وَغَيره، {وَحكي إِجْمَاعًا} . [قَالَ ابْن عبد الْبر: (لَا تجوز الْقِرَاءَة بهَا إِجْمَاعًا) ] . قَالَ النَّوَوِيّ فِي " شرح الْمُهَذّب "، و " فَتَاوِيهِ ": ... ... ... ... ... ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1382 (لَا فِي الصَّلَاة وَلَا فِي غَيرهَا) . وَكَذَا قَالَ السخاوي: (لَا تجوز الْقِرَاءَة بهَا لخروجها عَن إِجْمَاع الْمُسلمين) . [وَاخْتَارَهُ] جمَاعَة. {وَقيل: إِن غير الْمَعْنى} حرم، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ معنى مَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ، كَمَا تقدم عَنْهُمَا. قَوْله: {وَهُوَ مَا خَالف مصحف عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ -} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1383 اخْتلف الْعلمَاء فِي الشاذ، فَالصَّحِيح من مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَعَلِيهِ أَصْحَابه: أَن الشاذ مَا خَالف مصحف عُثْمَان بن عَفَّان - رَضِي الله عَنهُ - الَّذِي كتبه وأرسله إِلَى الْآفَاق. {فَتَصِح الصَّلَاة [بِقِرَاءَة مَا وَافقه] ، وَصَحَّ} ، سَنَده {وَإِن لم يكن من الْعشْرَة، [نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد] } . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (تصح بِمَا وَافق عُثْمَان، وفَاقا للأئمة الْأَرْبَعَة، زَاد بَعضهم: على الْأَصَح) . وَقد رَأَيْت فِي كَلَام الإِمَام الْحَافِظ، الإِمَام فِي الْقرَاءَات بِلَا مدافعة، ابْن الْجَزرِي، فِي النشر، أَنه ذكر مَا يُوَافق ذَلِك، فَقَالَ: (كل قِرَاءَة وَافَقت [أحد] الْمَصَاحِف العثمانية وَلَو احْتِمَالا، ووافقت الْعَرَبيَّة وَلَو بِوَجْه وَاحِد، وَصَحَّ سندها، فَهِيَ الْقِرَاءَة الصَّحِيحَة الَّتِي لَا يحل لمُسلم أَن ينكرها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1384 سَوَاء كَانَت عَن السَّبْعَة، أَو عَن الْعشْرَة، أَو عَن غَيرهم من الْأَئِمَّة المقبولين، وَمَتى اخْتَلَّ ركن من هَذِه الْأَركان الثَّلَاثَة، أطلق عَلَيْهَا ضَعِيفَة، أَو شَاذَّة، أَو بَاطِلَة، سَوَاء كَانَت عَن السَّبْعَة، أَو عَمَّن هُوَ أكبر مِنْهُم، هَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد أَئِمَّة التَّحْقِيق من السّلف وَالْخلف، صرح بذلك الداني، ومكي، والمهدوي، وَأَبُو شامة، وَهُوَ مَذْهَب السّلف الَّذِي لَا يعرف عَن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1385 أحد مِنْهُم خِلَافه) انْتهى، وَأطَال فِي ذَلِك وأجاد. {وَقيل} : الشاذ {مَا وَرَاء السَّبْعَة} . اخْتَارَهُ جمَاعَة كَثِيرَة. قَالَ الْبرمَاوِيّ: (الْمَشْهُور أَنَّهَا [مَا] وَرَاء السَّبْعَة الْمَعْرُوفَة، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الرَّافِعِيّ) . {وَقَالَ الْبَغَوِيّ [وَجَمَاعَة كَثِيرَة] } الشاذ: { [مَا وَرَاء الْعشْرَة] } . قلت: {وَهُوَ [أصح] } . فالثلاثة الزَّائِدَة على السَّبْعَة: يَعْقُوب، ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1386 وَخلف، وَأَبُو جَعْفَر يزِيد بن الْقَعْقَاع. وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، والسبكي، وَغَيرهمَا. وَقَالُوا: [الْقرَاءَات الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة، قد تَوَاتَرَتْ كالسبعة] . وَقد حكى الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره " الْإِجْمَاع على جَوَاز الْقِرَاءَة بهَا. قَالَ أَبُو حَيَّان - وَهُوَ من أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن -: (لَا نعلم أحدا من الْمُسلمين حظر الْقِرَاءَة بالقراءات [الثَّلَاث] الزَّائِدَة على السَّبع، بل قرأتها فِي سَائِر الْأَمْصَار) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1387 قَالَ بعض الْعلمَاء: (القَوْل بِأَن الثَّلَاثَة غير متواترة فِي غَايَة السُّقُوط، وَلَا يَصح القَوْل بِهِ عَمَّن يعْتَبر قَوْله فِي الدّين) انْتهى. {قَالَ الشَّيْخ [تَقِيّ الدّين] : (قَالَ أَئِمَّة السّلف: مصحف عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - أحد الْحُرُوف السَّبْعَة} . وَرَأَيْت بعض العصريين اسْتشْكل ذَلِك وَلَيْسَ بمشكل، ثمَّ رَأَيْت الْعَلامَة أَبَا شامة، الْفَقِيه، الْمُحدث، الإِمَام فِي الْقرَاءَات، قَالَ فِي كِتَابه " المرشد ": (إِن الْقرَاءَات الَّتِي بأيدي النَّاس من السَّبْعَة وَالْعشرَة وَغَيرهم، هِيَ حرف من قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أنزل الْقُرْآن على سَبْعَة أحرف ".) انْتهى. وَلم نر وَلم نسْمع أَن أحدا من الْعلمَاء الْقُرَّاء وَغَيرهم اسْتشْكل ذَلِك، وَلَا اعْترض عَلَيْهِ، فصح كَلَام الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَنَقله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1388 قَوْله: {وَهُوَ حجَّة عِنْد أَحْمد، وَأبي حنيفَة، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أَصْحَابهم} . نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ الْبُوَيْطِيّ فِي بَاب الرَّضَاع، وَفِي تَحْرِيم الْجمع، وَعَلِيهِ أَكثر أَصْحَابه، كَالْقَاضِي الْحُسَيْن فِي الصّيام وَفِي الرَّضَاع، وَالْمَاوَرْدِيّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَيْضا وَالْقَاضِي أبي الطّيب فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1389 الصّيام، وَفِي بَاب وجوب الْعمرَة، والمحاملي فِي الْأَيْمَان فِي كِتَابه " عدَّة الْمُسَافِر وكفاية الْحَاضِر "، وَابْن يُونُس شَارِح " التَّنْبِيه فِي كتاب الْفَرَائِض "، فِي الْكَلَام على مِيرَاث الْأَخ من الْأُم، وَالرُّويَانِيّ، وَجزم بِهِ الرَّافِعِيّ فِي بَاب حد السّرقَة، وَغَيرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1390 وَنَقله ابْن الْحَاجِب عَن أبي حنيفَة. وَنَقله ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " عَن الْحَنَفِيَّة. وَذكره ابْن عبد الْبر إِجْمَاع الْعلمَاء، وَاحْتج الْعلمَاء على قطع يمنى السَّارِق بِقِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " والسارقون والسارقات فَاقْطَعُوا أَيْمَانهم ". وَاحْتَجُّوا - أَيْضا - بِمَا نقل عَن مصحف ابْن مَسْعُود: " فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1391 وَقَالُوا: لِأَنَّهُ إِمَّا قُرْآن أَو خبر، وَكِلَاهُمَا مُوجب للْعَمَل. وَقَول الْمُخَالف: (يحْتَمل أَنه مَذْهَب لَهُ ثمَّ نَقله قُرْآنًا خطأ، لوُجُوب تَبْلِيغ الْوَحْي على الرَّسُول إِلَى من يحصل بِخَبَرِهِ الْعلم) مَرْدُود، إِذْ نِسْبَة الصَّحَابِيّ رَأْيه إِلَى الرَّسُول، كذب وافتراء لَا يلق بِهِ، فَالظَّاهِر صدق النِّسْبَة، وَالْخَطَأ الْمَذْكُور إِن سلم لَا يضر، إِذا المطرح كَونه قُرْآنًا لَا خَبرا كَمَا ذكرنَا، وَهُوَ كَاف. قَالَ ابْن مُفْلِح: (قَالَ الْخصم: لم يُصَرح بِكَوْنِهِ قُرْآنًا، ثمَّ لَو صرح بذلك فَعدم شَرط الْقِرَاءَة لَا يمْنَع صِحَة سَمَاعه. فَنَقُول، هُوَ مسموع من الشَّارِع، وكل قَوْله حجَّة، وَهَذَا وَاضح) انْتهى. { [وَعَن أَحْمد: لَيْسَ بِحجَّة] ، ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1392 [اخْتَارَهُ] الْآمِدِيّ [وَجمع] ، وَحكي عَن [الإِمَام مَالك، و] الشَّافِعِي} . وَنسبه ابْن الْحَاجِب إِلَى الشَّافِعِي، وَكَذَا الأبياري شَارِح " الْبُرْهَان "، قَالَ فِيهِ: (إِنَّه الْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ) ، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي " شرح مُسلم ": (إِنَّه مَذْهَب الشَّافِعِي) ، قَالَ: (لِأَن ناقلها لم ينقلها إِلَّا على أَنَّهَا قُرْآن، وَالْقُرْآن لَا يثبت إِلَّا بالتواتر، وَإِذا لم يثبت قُرْآنًا، لم يثبت خَبرا) . وَكَذَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان ": (إِن الشَّافِعِي إِنَّمَا لم يقل بالتتابع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1393 كَأبي حنيفَة، لِأَن عِنْده أَن الشاذ لَا يعْمل بِهِ) ، وَتَبعهُ الْغَزالِيّ فِي " المنخول "، والقشيري، وإلكيا، وَابْن السَّمْعَانِيّ، فَهَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة تابعوا أَبَا الْمَعَالِي. ومستنده فِي ذَلِك: عدم إِيجَاب الشَّافِعِي التَّتَابُع فِي الصّيام فِي كَفَّارَة الْيَمين مَعَ قِرَاءَة ابْن مَسْعُود. قَالَ بَعضهم: (وَهُوَ عَجِيب، فَإِن عدم الْإِيجَاب يجوز أَن يكون لعدم ثُبُوت ذَلِك عِنْد الشَّافِعِي، أَو لقِيَام معَارض، وَالله أعلم) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1394 (قَوْله: {فصل} ) {الْأَصَح: أَن الْمُحكم: مَا اتَّضَح [مَعْنَاهُ، والمتشابه] عَكسه، لاشتراك، أَو إِجْمَال، أَو ظُهُور تَشْبِيه، [كصفات الله تَعَالَى] } . اخْتلف الْعلمَاء - رَحِمهم الله تَعَالَى - فِي الْمُحكم والمتشابه، فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْهُ آيَات محكمات هن أم الْكتاب وَأخر متشابهات} [آل عمرَان: 7] ، على أَقْوَال كَثِيرَة. وَلَفظ الْمُحكم مفعل، من أحكمت الشَّيْء، أحكمه، إحكاما، فَهُوَ مُحكم: إِذا أتقنته فَكَانَ فِي غَايَة مَا يَنْبَغِي من الْحِكْمَة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1395 وَمِنْه: بِنَاء مُحكم، أَي: ثَابت متقن يبعد انهدامه. والمتشابه: متفاعل من الشّبَه، والشبهة، والشبيهة: هُوَ مَا بَينه وَبَين غَيره أَمر مُشْتَرك، يشْتَبه ويلتبس بِهِ. وَأما مَعْنَاهُ: فأجود مَا قيل فِيهِ: أَن الْمُحكم: المتضح الْمَعْنى، كالنصوص والظواهر، لِأَنَّهُ من الْبَيَان فِي غَايَة الإحكام والإتقان. والمتشابه: مُقَابِله، وَهُوَ غير المتضح الْمَعْنى، فتشتبه بعض محتملاته بِبَعْض، للاشتراك وَعدم اتضاح مَعْنَاهُ. فالاشتراك - مثلا - كَالْعَيْنِ، والقرء، وَنَحْوه من المشتركات. والإجمال كإطلاق اللَّفْظ بِدُونِ بَيَان المُرَاد مِنْهُ: كالمتواطيء، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة} [الْبَقَرَة: 67] ، وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} [الْأَنْعَام: 141] ، وَلم يبين مِقْدَار الْحق، وَسَيَأْتِي فِي الْمُجْمل. أَو لظُهُور تَشْبِيه فِي صِفَات الله تَعَالَى، كآيات الصِّفَات وأخبارها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1396 فَاشْتَبَهَ المُرَاد مِنْهُ على النَّاس، فَلذَلِك قَالَ قوم بِظَاهِرِهِ فشبهوا وجسموا، وفر قوم من التَّشْبِيه فتأولوا وحرفوا فعطلوا، وتوسط قوم فَسَلمُوا فأمروه كَمَا جَاءَ مَعَ اعْتِقَاد التَّنْزِيه فَسَلمُوا، وهم أهل السّنة وأئمة السّلف الصَّالح. وَقيل: الْمُحكم: مَا عرف المُرَاد بِهِ، إِمَّا بالظهور، وَإِمَّا بالتأويل. والمتشابه: مَا اسْتَأْثر الله بِعِلْمِهِ: كقيام السَّاعَة، وَخُرُوج الدَّجَّال وَالدَّابَّة، والحروف الْمُقطعَة فِي أَوَائِل السُّور. وَقيل: الْمُحكم: مَا وضح مَعْنَاهُ، والمتشابه: نقيضه. وَقيل: الْمُحكم: مَا لَا يحْتَمل من التَّأْوِيل إِلَّا وَجها وَاحِدًا، والمتشابه: مَا احْتمل أوجها. وَقيل: الْمُحكم: مَا كَانَ مَعْقُول الْمَعْنى، والمتشابه: بِخِلَافِهِ: كأعداد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1397 الصَّلَوَات، واختصاص الصّيام برمضان دون شعْبَان، قَالَه الْمَاوَرْدِيّ. وَقيل: الْمُحكم: مَا اسْتَقل بِنَفسِهِ، والمتشابه: مَا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ إِلَّا برده إِلَى غَيره. وَقيل: الْمُحكم: مَا تَأْوِيله تَنْزِيله، والمتشابه: مَا لَا يدرى إِلَّا بالتأويل. وَقيل: الْمُحكم: مَا لم تَتَكَرَّر أَلْفَاظه، وَمُقَابِله الْمُتَشَابه. وَقيل: الْمُحكم: الْفَرَائِض، والوعد، والوعيد، والمتشابه، الْقَصَص، والأمثال. وَعَن عِكْرِمَة، وَقَتَادَة، وَغَيرهمَا: أَن الْمُحكم: الَّذِي يعْمل بِهِ، والمتشابه: الَّذِي يُؤمن بِهِ وَلَا يعْمل بِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1398 وَقيل غير ذَلِك. قَوْله: {وَلَيْسَ فِيهِ مَا لَا معنى لَهُ} . وَهَذَا مِمَّا يقطع بِهِ كل عَاقل، مِمَّن شم رَائِحَة الْعلم، وَلَا يُخَالف فِي ذَلِك إِلَّا جَاهِل أَو معاند، لِأَن مَا لَا معنى لَهُ هذيان، وَلَا يَلِيق النُّطْق بِهِ من عَاقل، فَكيف بالباري سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ثمَّ رَأَيْت جمَاعَة من الْعلمَاء صَرَّحُوا: بِأَن هَذَا لم يقلهُ أحد من الْأمة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1399 وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الْمَسْأَلَة الْآتِيَة بعد هَذِه، وَلَكِن الرَّازِيّ، وَقَبله عبد الْجَبَّار، وَأَبُو الْحُسَيْن فِي " الْمُعْتَمد "، أثبتوا الْخلاف فِي ذَلِك، وتبعهم كثير من الْمُتَأَخِّرين، ومدرك الْمَانِع: التحسين والتقبيح العقليين. وَقَالُوا: (وَجوزهُ الحشوية، بل قَالُوا بِوُقُوعِهِ فِي الْحُرُوف الْمُقطعَة [فِي أَوَائِل] السُّور، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {كَأَنَّهُ رُؤُوس الشَّيَاطِين} [الصافات: 65] ، وَقَوله تَعَالَى: {تِلْكَ عشرَة كَامِلَة} [الْبَقَرَة: 196] ، وَقَوله: {نفخة وَاحِدَة} [الحاقة: 13] ، {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النَّحْل: 51] وَنَحْوه) . وَأجَاب الْجُمْهُور: بِأَن الْحُرُوف الْمُقطعَة، إِمَّا أَسمَاء السُّور، أَو أَسمَاء الله، أَو سر الله فِي كِتَابه مِمَّا اسْتَأْثر بِعِلْمِهِ، أَو غَيرهَا مِمَّا هُوَ مَذْكُور فِي التفاسير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1400 وَبِأَن رُؤُوس الشَّيَاطِين مثل فِي الاستقباح، على عَادَة الْعَرَب فِي ضرب الْأَمْثَال بِمَا يتخيلونه قبيحا. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (ورؤوس الشَّيَاطِين اسْتَقر قبحها فِي الْأَنْفس، فَشبه بهَا، كَمَا قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: (أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال) فَشبه بأنياب الأغوال لقبحها المستقر، وَإِن لم يكن لَهَا حَقِيقَة) . كَذَلِك ذكره الْمَازرِيّ. وَقَوله: {عشرَة كَامِلَة} [الْبَقَرَة: 196] ، فِيهِ شَيْئَانِ: الْجمع والتأكيد بالكمال. وَجَوَاب الْجمع: رفع الْمجَاز المتوهم فِي الْوَاو العاطفة، إِذْ يجوز اسْتِعْمَالهَا بِمَعْنى (أَو) مجَازًا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {أولي أَجْنِحَة مثنى وَثَلَاث وَربَاع} [فاطر: 1] . والتأكيد أَفَادَ عدم النَّقْص فِي الذَّات، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَوْلَيْنِ كَامِلين} [الْبَقَرَة: 233] ، أوعدم النَّقْص فِي الْأجر، دفعا لتوهم النَّقْص بِسَبَب التَّأْخِير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1401 وَوصف النفخة: إبعاد للمجاز، وَتَقْرِير لوحدتها بِسَبَب الْمُفْرد؛ لِأَن الْوَاحِد قد يكون بِالْجِنْسِ. وَقَوله: {إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النَّحْل: 51] ؛ قَالَ صَاحب " الْمثل السائر ": (التكرير فِي الْمَعْنى يدل على مَعْنيين مُخْتَلفين، كدلالته على الْجِنْس وَالْعدَد، وَهُوَ بَاب من التكرير مُشكل، لِأَنَّهُ يسْبق إِلَى الذِّهْن إِلَى تَكْرِير مَحْض يدل على معنى وَاحِد، وَلَيْسَ كَذَلِك) . فالفائدة - إِذا - فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النَّحْل: 51] ، {إِلَه وَاحِد} [الْبَقَرَة: 163، وفصلت: 6] ، هِيَ: أَن الِاسْم الْحَامِل لِمَعْنى الْإِفْرَاد والتثنية دَال على الجنسية وَالْعدَد الْمَخْصُوص، فَإِذا أريدت الدّلَالَة على أَن الْمَعْنى بِهِ وَاحِد مِنْهُمَا، وَكَانَ الَّذِي تساق إِلَيْهِ هُوَ الْعدَد، شفع بِمَا يؤكده، وَهَذَا دَقِيق المسلك. فَائِدَتَانِ: الأولى: ألحق الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " كَلَام الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِكَلَام الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1402 تَعَالَى، فَقَالَ: (لَا يجوز أَن يتَكَلَّم الله وَرَسُوله بِشَيْء وَلَا يَعْنِي بِهِ شَيْئا، خلافًا للحشوية) ، وَهُوَ كَمَا قَالَ. الثَّانِيَة: الحشوية - بِفَتْح الشين -، وَسموا حشوية؛ لأَنهم كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي حَلقَة الْحسن الْبَصْرِيّ أَمَامه، فَلَمَّا أنكر كَلَامهم قَالَ: ردوهم إِلَى حَشْو الْحلقَة، أَي: جَانبهَا. وَقَالَ ابْن الصّلاح: (فتح الشين غلط، وَإِنَّمَا هُوَ بالإسكان ". وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (الحشوية - بِسُكُون الشين - لِأَنَّهُ إِمَّا من الحشو؛ لأَنهم يَقُولُونَ بِوُجُود الحشو الَّذِي لَا معنى لَهُ فِي كَلَام الْمَعْصُوم، أَو لقَولهم بالتجسيم وَنَحْو ذَلِك، وَيُقَال - أَيْضا - بِالْفَتْح لقصة الْحسن، وَيُقَال فيهم غير ذَلِك) . وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " - فِي آخر تَحْقِيق المناط - عَن أبي الْمَعَالِي: أَنه قَالَ: (لم يُنكر إِلْحَاق معنى النُّصُوص، إِلَّا حشوية لَا يبالى بهم، دَاوُد وَأَصْحَابه، وَأَن ابْن الباقلاني قَالَ: لَا يخرقون الْإِجْمَاع) انْتهى. قلت: وَقد حدث اصْطِلَاح كثير من النَّاس، على أَنهم يسيمون كل من أثبت صِفَات الرب - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مِمَّا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن وَالسّنة - كَمَا قَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1403 السّلف الصَّالح -، وَلم يتأولها كَمَا تأولوها: حشوية، اصْطِلَاحا اخترعوه تشنيعا عَلَيْهِم، فَالله يحكم بَينهم فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. قَوْله: {وَمَا لَا يعْنى [بِهِ] غير ظَاهره إِلَّا بِدَلِيل} . أَعنِي: أَنه لَيْسَ فِي الْقُرْآن مَا يعْنى بِهِ غير ظَاهره إِلَّا بِدَلِيل، وَهَذَا قَول أَئِمَّة الْمذَاهب وأتباعهم وَغَيرهم، لِأَنَّهُ يرجع فِي ذَلِك إِلَى مَدْلُول اللُّغَة فِيمَا اقْتَضَاهُ نظام الْكَلَام، وَلِأَن اللَّفْظ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غير الظَّاهِر كَالْمهْلِ. وَقَوْلنَا: (إِلَّا بِدَلِيل) ، احْتِرَاز من وُرُود الْعَام، وَتَأَخر الْمُخَصّص لَهُ وَنَحْوه. وَقَالَت المرجئة: يجوز ذَلِك، وَنَفَوْا ضَرَر الْعِصْيَان مَعَ مجامعة الْإِيمَان، فَقَالُوا: (لَا يضر مَعَ الْإِيمَان مَعْصِيّة كَمَا لَا ينفع مَعَ الْكفْر طَاعَة) ، زاعمين أَن آيَات الْوَعيد لتخويف الْفُسَّاق وَلَيْسَت على ظَاهرهَا، بل المُرَاد بِلَا خلاف الظَّاهِر، وَإِن لم يبين الشَّرْع ذَلِك. وَاحْتَجُّوا: بقوله تَعَالَى: {وَمَا نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا تخويفا} [الْإِسْرَاء: 59] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1404 وَجَوَابه من وُجُوه: أَحدهَا: [إِنَّمَا كَانَ ذَلِك تخويفا] لنزول الْعَذَاب ووقوعه. الثَّانِي: أَنه بَاطِل بِأَحْكَام الدُّنْيَا من الْقصاص وَقطع السَّارِق وَنَحْوهمَا. الثَّالِث: أَنه إِذا فهم أَنه للتخويف لم يبْق تخويف. قَالَ الْبرمَاوِيّ: (مَحل الْخلاف فِي آيَات الْوَعيد وَأَحَادِيثه، لَا فِي الْأَوَامِر والنواهي) . فَائِدَة: المرجئة - بِالْهَمْز -: طَائِفَة من الْقَدَرِيَّة، لأَنهم يرجئون الْأَعْمَال عَن الْإِيمَان من الإرجاء: وَهُوَ التَّأْخِير، وَرُبمَا قيل: (المرجية) بتَشْديد الْيَاء بِلَا همز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1405 قَوْله: {وَفِيه [مَا لَا يعلم مَعْنَاهُ] إِلَّا الله، عِنْد أَصْحَابنَا [وَجُمْهُور الْعلمَاء] } . قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": (لَيْسَ ببدع أَن يكون فِيهِ مَا يتشابه، لنؤمن بمتشابهه ونقف عِنْده، فَيكون التَّكْلِيف بِهِ هُوَ الْإِيمَان بِهِ جملَة، وَترك الْبَحْث عَن تَفْصِيله، كَمَا كتم الرّوح والساعة والآجال وَغير ذَلِك من الغيوب، وكلفنا التَّصْدِيق بِهِ دون أَن يطلعنا على علمه) انْتهى. وَهَذَا مَذْهَب سلف هَذِه الْأمة، وَقَالَهُ أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ الشَّافِعِي، وَحَكَاهُ عَن الصَّيْرَفِي مِنْهُم. {قَالَ ابْن برهَان: يجوز [ذَلِك] عندنَا} ، وَاخْتَارَهُ صَاحب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1406 " الْمَحْصُول " بِنَاء على تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق، نَقله ابْن مُفْلِح عَن ابْن برهَان. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَحكى ابْن برهَان وَجْهَيْن: فِي أَن كَلَام الله تَعَالَى هَل يشْتَمل على مَا لَا يفهم مَعْنَاهُ؟ ثمَّ قَالَ: وَالْحق التَّفْصِيل بَين الْخطاب الَّذِي [يتَعَلَّق] بِهِ تَكْلِيف، فَلَا يجوز أَن يكون غير مَفْهُوم الْمَعْنى، أَولا يتَعَلَّق بِهِ تَكْلِيف، فَيجوز) . { [قَالَ] أَبُو الْمَعَالِي والقشيري: (مَا فِيهِ تَكْلِيف يمْتَنع د [وام إجماله] ، وَإِلَّا فَلَا) } . قَالَ ابْن مُفْلِح: { (وَهُوَ مُرَاد غَيره) } ، وتابعناه على ذَلِك، وَاخْتَارَهُ - أَيْضا - التَّاج السُّبْكِيّ، والبرماوي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1407 {وَقَالَ الْمجد} ابْن تَيْمِية فِي " المسودة ": (ثمَّ { [بحث] أَصْحَابنَا يَقْتَضِي فهمه إِجْمَالا لَا تَفْصِيلًا) } ، وَعَن ابْن عقيل: (لَا، وَأَنه يتَعَيَّن: " لَا أَدْرِي "، كَقَوْل أَكثر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، أَو تَأْوِيله) . قَالَ ابْن مُفْلِح: (كَذَا قَالَ، مَعَ قَوْله: إِن الْمُحَقِّقين قَالُوا فِي " {سميع بَصِير} [الْحَج: 61، 75، والمجادلة: 1] : يسكت عَمَّا بِهِ يسمع ويبصر، أَو تَأْوِيله بإدراكه، وتأويله بِمَا يُوجب تناقضا أَو تَشْبِيها زيغ) . وَقَوله: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله} [آل عمرَان: 7] ، أَي: كنه ذَلِك) انْتهى. قَوْله: {وَالأَصَح: الْوَقْف على {إِلَّا الله} ، لَا {والراسخون فِي الْعلم} } . وَهُوَ الْمُخْتَار، وَهُوَ قَول السّلف. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (هَذَا قَول عَامَّة السّلف والأعلام) . قَالَ الْخطابِيّ: (هُوَ مَذْهَب أَكثر الْعلمَاء، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَن ابْن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1408 مَسْعُود، وَأبي بن كَعْب، وَابْن عَبَّاس، وَعَائِشَة) . قَالَ الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره ": (هُوَ قَول الْأَكْثَر، مِنْهُم: أبي بن كَعْب، وَعَائِشَة، وَعُرْوَة بن الزبير، وَرِوَايَة طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1409 وَبِه قَالَ الْحسن، وَأكْثر التَّابِعين، وَاخْتَارَهُ الْكسَائي، وَالْفراء، والأخفش، وَقَالُوا: " لَا يعلم تَأْوِيل الْمُتَشَابه إِلَّا الله تَعَالَى ") . وَأطَال فِي ذَلِك. وَخَالف الْآمِدِيّ وَجمع، مِنْهُم: أَبُو الْبَقَاء - من أَصْحَابنَا - فِي " إعرابه "، وَالنَّوَوِيّ فِي " شرح مُسلم ". فَقَالَ: (الراسخون يعلمُونَ تَأْوِيله) . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (هُوَ قَول عَامَّة الْمُتَكَلِّمين) . وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (قَالَ المؤولة - وهم الْمُعْتَزلَة والأشعرية - وَمن وافقهم: الْوَقْف التَّام على قَوْله تَعَالَى: {والراسخون فِي الْعلم} [آل عمرَان: 7] ) . وَقَالَ ابْن مُفْلِح: (لِابْنِ عَبَّاس قَولَانِ) ، وَهَذَا قَول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1410 مُجَاهِد أَيْضا، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: (الأول مُحدث، لم يقلهُ أحد من السّلف، لَا أَحْمد وَلَا غَيره) . وَقيل: (الْخلاف فِي ذَلِك لَفْظِي، فَإِن من قَالَ: إِن الراسخ فِي الْعلم يعلم تَأْوِيله، أَرَادَ: أَنه يعلم ظَاهره لَا حَقِيقَته، وَمن قَالَ: لَا يعلم، أَرَادَ بِهِ: لَا يعلم حَقِيقَته، وَإِنَّمَا ذَلِك إِلَى الله تَعَالَى) . وَالْحكمَة فِي إِنْزَال الْمُتَشَابه ابتلاء الْعُقَلَاء. {وَقَالَ} أَبُو إِسْحَاق {الشِّيرَازِيّ} الشَّافِعِي، {والسهيلي: (الْوَقْف على {إِلَّا الله} ، ويعلمه الراسخون) } . وَإِنَّمَا امْتنع الْعَطف، لمُخَالفَة علم الله تَعَالَى لعلم الراسخين؛ لِأَن علمهمْ ضَرُورِيّ ونظري، بِخِلَاف علم الله تَعَالَى، على مَا تقدم بَيَانه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1411 {وَقيل بِالْوَقْفِ} مُطلقًا، فَلَا يجْزم بِوَاحِد من هَذِه الْأَقْوَال، بل نقف لتعارض الْأَدِلَّة، قَالَه الْقفال الشَّاشِي. فَقَالَ: (الْقَوْلَانِ محتملان، وَلَا ننكر أَن يكون فِي الْمُتَشَابه مَا لَا يعلم) . وَمِنْهُم من جمع بَين الْقَوْلَيْنِ: (بِأَن الله تَعَالَى يعلم ذَلِك على التَّفْصِيل، والراسخون يعلمونه على الْإِجْمَال) . وَهُوَ قريب من القَوْل بِأَن الْخلاف لَفْظِي. الأول: لسياق الْآيَة، من ذمّ مبتغي التَّأْوِيل، وَقَوله: {آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا} [آل عمرَان: 7] ، وَلِأَن (وَاو) ، (والراسخون) للابتداء، و (يَقُولُونَ) خَبره، لِأَنَّهَا لَو كَانَت عاطفة عَاد ضمير (يَقُولُونَ) إِلَى الْمَجْمُوع، ويستحيل على الله، وَكَانَ مَوضِع (يَقُولُونَ) نصبا حَالا، فَفِيهِ اخْتِصَاص الْمَعْطُوف بِالْحَال. قَالُوا: خص ضمير: (يَقُولُونَ) بالراسخين، للدليل الْعقلِيّ، والمعطوف قد يخْتَص بِالْحَال مَعَ عدم اللّبْس، وَنَظِيره: {وَالَّذين تبوؤا الدَّار وَالْإِيمَان [من قبلهم] يحبونَ} [الْحَشْر: 9] فِيهَا الْقَوْلَانِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1412 وَقَوله: {نَافِلَة} ، قيل: حَالا من يَعْقُوب، لِأَنَّهَا الزِّيَادَة. وَقيل: مِنْهُمَا، لِأَنَّهَا الْعَطِيَّة. وَقيل: هِيَ مصدر كالعاقبة مَعًا، وعامله معنى: {وهبنا} . وَلنَا أَن نقُول: الأَصْل عدم ذَلِك، وَالْأَشْهر خِلَافه، وَلِهَذَا فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: {إِن تَأْوِيله إِلَّا عِنْد الله} ، وَفِي قِرَاءَة أبي: {وَيَقُول الراسخون فِي الْعلم آمنا بِهِ} . وَمثله عَن ابْن عَبَّاس، فروى عبد الرَّزَّاق فِي " تَفْسِيره "، وَالْحَاكِم فِي " مُسْتَدْركه "، عَن ابْن عَبَّاس: أَنه كَانَ يقْرَأ {وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله وَيَقُول الراسخون فِي الْعلم آمنا بِهِ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1413 فَهَذَا يدل على أَن الْوَاو للاستئناف؛ لِأَن هَذِه الرِّوَايَة وَإِن لم تثبت بهَا الْقِرَاءَة فَأَقل درجاتها أَن تكون خَبرا بِإِسْنَاد صَحِيح إِلَى ترجمان الْقُرْآن، فَيقدم كَلَامه فِي ذَلِك على من دونه. قَالَه ابْن الأسيوطي. وَقَالَ الْفراء و [أَبُو عُبَيْدَة] : (الله هُوَ الْمُنْفَرد) . قَالَ الْمُوفق: (فِي الْآيَة قَرَائِن تدل على أَن الله سُبْحَانَهُ مُنْفَرد بِعلم تَأْوِيل الْمُتَشَابه) . قَالُوا: فِيهِ إِخْرَاج الْقُرْآن عَن كَونه بَيَانا، وَالْخطاب بِمَا لَا يفهم بعيد. رد ذَلِك: بِالْمَنْعِ، وَفَائِدَته الِابْتِلَاء. قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": (فَإِن قيل: كَيفَ يُخَاطب الله الْخلق بِمَا لَا يعقلونه؟ أم كَيفَ ينزل على رَسُوله مَا لَا يطلع على تَأْوِيله؟ قُلْنَا: يجوز أَن يكلفهم الْإِيمَان بِمَا لَا يطلعون على تَأْوِيله، ليختبر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1414 طاعتهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ولنبلونكم حَتَّى نعلم الْمُجَاهدين مِنْكُم وَالصَّابِرِينَ} [مُحَمَّد: 31] ، {وَمَا جعلنَا الْقبْلَة الَّتِي كنت عَلَيْهَا إِلَّا لنعلم} الْآيَة [الْبَقَرَة: 143] {وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك إِلَّا فتْنَة للنَّاس} [الْإِسْرَاء: 60] ، وكما [اختبرهم] بِالْإِيمَان بالحروف الْمُقطعَة مَعَ أَنه لَا يعلم مَعْنَاهَا، وَالله أعلم) انْتهى. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَاحْتج بعض أهل اللُّغَة: فَقَالَ: مَعْنَاهُ: والراسخون فِي الْعلم يعلمونه قائلين: آمنا بِهِ، وَزعم أَن مَوضِع {يَقُولُونَ} نصب على الْحَال، وَعَامة أهل اللُّغَة ينكرونه ويستبعدونه، لِأَن الْعَرَب لَا تضمر الْفِعْل وَالْمَفْعُول مَعًا وتذكر حَالا إِلَّا مَعَ ظُهُور الْفِعْل، فَإِذا لم يظْهر فعل، فَلَا يكون حَالا) . قَوْله: {وَيحرم تَفْسِيره بِرَأْي واجتهاد بِلَا أصل} . للآثار الْوَارِدَة فِي ذَلِك، وَذكره القَاضِي محتجا بقوله تَعَالَى: {وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} [الْبَقَرَة: 169، والأعراف: 33] ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} [النَّحْل: 44] ، فأضاف التَّبْيِين إِلَيْهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1415 وَعَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " من قَالَ فِي الْقُرْآن بِرَأْيهِ وَبِمَا لَا يعلم فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ. وَعَن جُنْدُب عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من قَالَ فِي الْقُرْآن بِرَأْيهِ فَأصَاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1416 فقد أَخطَأ "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة. قَوْله: {وَيجوز بِمُقْتَضى اللُّغَة} . أَي: يجوز تَفْسِير الْقُرْآن بِمُقْتَضى اللُّغَة، {عِنْد الإِمَام أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه} ، مِنْهُم: القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَالْمجد ابْن تَيْمِية. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (قلت: الْمَنْقُول عَن ابْن عَبَّاس الِاحْتِجَاج فِي التَّفْسِير بِمُقْتَضى اللُّغَة كثيرا) انْتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1417 وَلِأَن الْقُرْآن عَرَبِيّ. { [وَعَن أَحْمد] : لَا} يجوز تَفْسِيره بِمُقْتَضى اللُّغَة من غير دَلِيل، {اخْتَارَهُ القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن} ابْن القَاضِي أبي يعلى، {وَحمله الْمجد على الْكَرَاهَة، أَو صرفه عَن ظَاهره بِقَلِيل من اللُّغَة} . فَائِدَة: قَالَ الإِمَام أَحْمد: (ثَلَاث كتب لَيْسَ فِيهَا أصُول: الْمَغَازِي، والملاحم، وَالتَّفْسِير) لَيْسَ غالبها الصِّحَّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1418 فارغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1419 (بَاب السّنة) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1420 ( {بَاب} [السّنة] ) {السّنة لُغَة: الطَّرِيقَة} ، وَمِنْه قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا " إِلَى آخِره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1421 قَالَ الْخطابِيّ: إِذا أطلقت السّنة فَهِيَ المحمودة، وَإِن أُرِيد بهَا غَيرهَا فمقيدة كَقَوْلِه: " من سنّ سنة سَيِّئَة ". قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (السّنة لُغَة: الطَّرِيقَة وَالْعَادَة) . قَالَ الله تَعَالَى: {قد خلت من قبلكُمْ سنَن فسيروا فِي الأَرْض} [آل عمرَان: 137] ، أَي: طرق. وَقَالَ الطوفي: (الطَّرِيقَة والسيرة) . وَقَالَ فِي " الْبَدْر الْمُنِير ": (السّنة: الطَّرِيقَة، وَالسّنة: السِّيرَة، حميدة كَانَت أَو ذميمة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1422 قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (السّنة: السِّيرَة، وَمن الله حكمه وَأمره وَنَهْيه) انْتهى. قَوْله: {وَشرعا اصْطِلَاحا} . السّنة فِي الِاصْطِلَاح: تطلق على مَا يُقَابل الْقُرْآن كَمَا هُنَا، وَمِنْه أَحَادِيث وَردت كَثِيرَة، مِنْهَا: فِي " صَحِيح مُسلم " حَدِيث: " يؤم الْقَوْم أقرؤهم لكتاب الله، فَإِن كَانُوا فِي الْقِرَاءَة سَوَاء فأعلمهم بِالسنةِ " الحَدِيث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1423 وَتارَة تطلق: على مَا يُقَابل الْفَرْض وَنَحْوه من الْأَحْكَام، كَمَا سبق فِي بَاب الْمَنْدُوب. وَرُبمَا لَا يُرَاد إِلَّا مَا يُقَابل الْفَرْض، كفروض الْوضُوء وسننه، وَكَذَا الصَّلَاة وَالصَّوْم وَغَيرهمَا، فَإِنَّهُ لَا يُقَابل بِهِ الْحَرَام وَلَا الْمَكْرُوه فيهمَا، وَإِن كَانَت الْمُقَابلَة لَازِمَة لَهُ، لَكِنَّهَا لَا تقصد. وَتارَة تطلق: على مَا يُقَابل الْبِدْعَة، فَيُقَال: أهل السّنة، وَأهل الْبِدْعَة. وَالْمَقْصُود هُنَا بَيَان الأول. وَقَوْلنَا: (اصْطِلَاحا) ، احْتِرَاز من السّنة فِي الْعرف الشَّرْعِيّ الْعَام، فَإِنَّهَا تطلق على مَا هُوَ أَعم مِمَّا ذكرنَا، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، قَالَه الطوفي، فَإِن عِبَارَته فِي " مُخْتَصره " كعبارتنا، وَحَاصِله: أَن للسّنة عرفا خَاصّا فِي اصْطِلَاح الْعلمَاء. قَوْله: {قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غير الْقُرْآن وَلَو بِكِتَابَة، وَفعله وَلَو بِإِشَارَة، وَزيد: الْهم [بِالْفِعْلِ] ، وَإِقْرَاره} . أَكثر الْأُصُولِيِّينَ حصروا السّنة فِي الِاصْطِلَاح فِي ثَلَاثَة أَشْيَاء: فِي قَوْله، وَفِي فعله، وَفِي إِقْرَاره، وَزيد: الْهم بِالْفِعْلِ وَلم يفعل، على مَا يَأْتِي. أَحدهَا: القَوْل من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ نَوْعَانِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1424 أَحدهمَا: أَن يكون وَحيا كالقرآن وَالْأَحَادِيث الإلهية، فَإِنَّهُ لَا يُقَال فِيهِ: إِنَّه من السّنة، كَمَا يَأْتِي. وَالثَّانِي: غير ذَلِك، وَلَو كَانَ أمرا بِكِتَابَة، كَمَا أَمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عليا بِالْكِتَابَةِ يَوْم الْحُدَيْبِيَة، وَأمر بِالْكِتَابَةِ إِلَى الْمُلُوك، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اكتبوا لأبي شاه "، يَعْنِي: الْخطْبَة الَّتِي خطبهَا، وَغير ذَلِك. لَكِن الْأُسْتَاذ [أَبُو] مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ، جعله قسما بِرَأْسِهِ غير القَوْل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1425 الثَّانِي: الْفِعْل. وَاعْلَم أَن القَوْل وَإِن كَانَ فعلا لِأَنَّهُ عمل بجارحة اللِّسَان، لَكِن الْغَالِب اسْتِعْمَاله فِي مُقَابلَة الْفِعْل كَمَا هُنَا، حَتَّى وَلَو كَانَ الْفِعْل بِإِشَارَة على الصَّحِيح، لِأَنَّهُ كالأمر بِهِ، كَمَا فِي حَدِيث كَعْب بن مَالك لما تقاضى ابْن أبي حَدْرَد دينا لَهُ عَلَيْهِ فِي مسد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَارْتَفَعت أصواتهما حَتَّى سمعهما النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ فِي بَيته، فَخرج إِلَيْهِمَا حَتَّى كشف [سجف] حجرته، فَنَادَى، فَقَالَ: " يَا كَعْب "، قَالَ: لبيْك يَا رَسُول الله، فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ أَن ضع الشّطْر من دينك، فَقَالَ كَعْب: قد فعلت يَا رَسُول [الله] ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قُم فاقضه "، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم. وَاسم ابْن أبي حَدْرَد: عبد الله، وَاسم أَبِيه: سَلامَة بن عُمَيْر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1426 وَمثله إِشَارَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -[إِلَى] أبي بكر أَن يتَقَدَّم فِي الصَّلَاة، مُتَّفق عَلَيْهِ. وَطَاف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على بعير كلما أَتَى على الرُّكْن أَشَارَ إِلَيْهِ. وَفِي حَدِيث زَيْنَب بنت جحش: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فتح الْيَوْم من ردم يَأْجُوج وَمَأْجُوج مثل هَذِه "، وَعقد تسعين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1427 وَفِي " الصَّحِيح ": " فِي الْجُمُعَة سَاعَة لَا يُوَافِقهَا مُسلم قَائِم يُصَلِّي يسْأَل الله خيرا إِلَّا أعطَاهُ "، وَقَالَ بِيَدِهِ، وَوضع أنملته على بطن الْوُسْطَى والخنصر، قُلْنَا: يزهدها. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": أَشَارَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدِهِ نَحْو الْيمن، فَقَالَ: " أَلا إِن الْإِيمَان هَاهُنَا " الحَدِيث. وَفِي أبي دَاوُد عَن أبي حميد: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُشِير بِأُصْبُعِهِ فِي تشهده ". وَفِي حَدِيث ابْن عمر فِي مُسلم: " قبض أَصَابِعه كلهَا، وَأَشَارَ بالأصبع الَّتِي تلِي الْإِبْهَام ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1428 وَفِي رِوَايَة: " عقد ثَلَاثَة وَخمسين، وَأَشَارَ بالسبابة ". وَفِي أبي دَاوُد عَن الزبير - رَضِي الله عَنهُ -: " كَانَ يُشِير بالسبابة وَلَا يحركها ". وَفِي حَدِيث: " الشَّهْر هَكَذَا وَهَكَذَا "، وَأَشَارَ بأصابعه الْعشْرَة " ثمَّ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا "، وَقبض فِي الثَّالِثَة الْإِبْهَام، إِشَارَة إِلَى أَن الشَّهْر يكون ثَلَاثِينَ، وَيكون تسعا وَعشْرين، إِلَى غير ذَلِك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1429 وَفِي الْقُرْآن: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} الْآيَة [مَرْيَم: 29] . وَقَوله تَعَالَى: {ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا رمزا} [آل عمرَان: 41] ، وَغير ذَلِك. وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك من قسم الْأَقْوَال: لِأَنَّهُ منزل منزلَة القَوْل، وَلِهَذَا فِي رِوَايَة فِي مُسلم فِي حَدِيث ابْن أبي حَدْرَد: " فَأَشَارَ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ يَقُول النّصْف "، وَلذَلِك أجْرى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْإِشَارَة من الْجَارِيَة - فِي حَدِيث الأوضاح - مجْرى قَوْلهَا: إِن الْيَهُودِيّ قَتلهَا. وَمن ذَلِك قَول أَصْحَابنَا وَغَيرهم: إِشَارَة الْأَخْرَس بِمَنْزِلَة قَوْله، فِي الصَّلَاة، وَالْبيع، وَالطَّلَاق، وَغير ذَلِك، كَالْإِقْرَارِ، لَا فِي الشَّهَادَة وَنَحْوهَا. تَنْبِيه: من الْفِعْل - أَيْضا - عمل الْقلب، وَالتّرْك، فَإِنَّهُ كف النَّفس، وَسبق: أَنه لَا تَكْلِيف إِلَّا بِفعل على الصَّحِيح، فَإِذا نقل عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه أَرَادَ ذَلِك، كَانَ من السّنة الفعلية، كَمَا فِي حَدِيث عَائِشَة: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرَادَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1430 أَن ينحي مخاط أُسَامَة، قَالَت عَائِشَة: دَعْنِي يَا رَسُول الله حَتَّى أَنا الَّذِي أفعل، قَالَ: " يَا عَائِشَة أحبيه فَإِنِّي أحبه "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي المناقب. وَحَدِيث أنس: " أَرَادَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يكْتب إِلَى رَهْط أَو أنَاس من الْعَجم، فَقيل: إِنَّهُم لَا يقبلُونَ كتابا إِلَّا بِخَاتم، فَاتخذ خَاتمًا من فضَّة "، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم. وَمثله حَدِيث جَابر: " أَرَادَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن ينْهَى أَن يُسمى بيعلى، أَو ببركة، وافلح، ويسار، وَنَافِع، وَنَحْو ذَلِك، ثمَّ رَأَيْته سكت بعد عَنهُ فَلم يقل شَيْئا، ثمَّ قبض وَلم ينْه عَن ذَلِك " رَوَاهُ مُسلم، وَغير ذَلِك من الْأَحَادِيث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1431 وَإِذا نقل عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه ترك كَذَا، كَانَ - أَيْضا - من السّنة الفعلية، كَمَا ورد " أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما قدم إِلَيْهِ الضَّب فَأمْسك عَنهُ وَترك أكله، أمسك الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - وتركوه، حَتَّى بَين لَهُم: أَنه حَلَال وَلكنه يعافه "، وَلِهَذَا لما صلى التَّرَاوِيح وَتركهَا خشيَة أَن تفرض على الْأمة، وَزَالَ هَذَا الْمَعْنى بِمَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَادوا إِلَى الصَّلَاة، وَنَازع بعض الْعلمَاء فِي ذَلِك. وَلَكِن الْمُفِيد لهَذَا النَّوْع حَتَّى يرْوى عَنهُ، إِمَّا قَوْله: إِنَّه ترك كَذَا، أَو قيام الْقَرَائِن عِنْد الرَّاوِي الَّذِي يروي عَنهُ أَنه ترك كَذَا، إِذا لَا بُد من ذَلِك حَتَّى يعرف. تَنْبِيه آخر: قَوْلنَا: (غير الْوَحْي) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1432 قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (وَالْمرَاد من أَقْوَاله وأفعاله: مَا لم يكن على وَجه الإعجاز) . قَالَ القَاضِي عضد الدّين وَغَيره: (وَالْمرَاد بِالسنةِ هُنَا: مَا صدر عَن الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من فعل أَو قَول غير الْقُرْآن) . وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَالْمرَاد هُنَا: قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِي لم يَأْتِ بِهِ قُرْآنًا) . قَوْله: (وَزيد الْهم) . أَي: بِفعل، رَأَيْت ذَلِك للشَّافِعِيَّة، ومثلوه: بِمَا إِذا هم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِفعل وعاقه عَنهُ عائق، كَانَ ذَلِك الْفِعْل مَطْلُوبا شرعا؛ لِأَنَّهُ لَا يهم إِلَّا بِحَق مَحْبُوب مَطْلُوب شرعا؛ لأ [نه] مَبْعُوث لبَيَان الشرعيات، وَذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيث عبد الله بن زيد بن عَاصِم فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1433 وَالْحَاكِم وَقَالَ: (صَحِيح على شَرط مُسلم) : " استسقى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَلِيهِ خميصة سَوْدَاء، فَأَرَادَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يَأْخُذ بأسفلها فَيَجْعَلهُ أَعْلَاهَا، فَلَمَّا ثقلت قَلبهَا على عَاتِقه ". فَالْمُرَاد: لَوْلَا ثقل الخميصة، فاستحب الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ - لأجل هَذَا الحَدِيث للخطيب فِي الاسْتِسْقَاء مَعَ تَحْويل الرِّدَاء تنكيسه، بِجعْل أَعْلَاهُ أَسْفَله. قلت: مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه لَا يزِيد على التَّحْوِيل. وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (قلت: وَكَذَا همه بمعاقبة [المتخلفين] عَن الْجَمَاعَة، اسْتدلَّ بِهِ على وُجُوبهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1434 وَقد يُقَال: الْهم خَفِي فَلَا يطلع عَلَيْهِ إِلَّا بقول أَو فعل، فَيكون الِاسْتِدْلَال بِأَحَدِهِمَا، فَلَا يحْتَاج حِينَئِذٍ إِلَى زِيَادَة) انْتهى. وعَلى القَوْل الأول: الْفرق بَينه وَبَين مَا تقدم من عمل الْقلب وَالتّرْك: أَن الَّذِي هُنَا أخص؛ لِأَن الْهم عزم على الشَّيْء بتصميم وتأكيد، قَالَه الْبرمَاوِيّ. قَوْله: (وَإِقْرَاره) . أَي: الثَّالِث من السّنة: إِقْرَاره على الشَّيْء يفعل أَو يُقَال، وَيَأْتِي قَرِيبا حكم مَا إِذا سكت - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن إِنْكَار فعل أَو قَول بِحَضْرَتِهِ، أَو زَمَنه وَيعلم [بِهِ] . فإقرار من رَآهُ فعل أَو قَالَ شَيْئا على ذَلِك من السّنة قطعا، وَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِك هُنَاكَ. وَزَاد الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور: الْكِتَابَة، كَمَا تقدم. ورد: بأنما ذَلِك من قبيل القَوْل. وَزَاد - أَيْضا - التَّنْبِيه على الْعلَّة، ورتب الْأَقْسَام: القَوْل، ثمَّ الْفِعْل، ثمَّ الْإِشَارَة، ثمَّ الْكِتَابَة، ثمَّ التَّنْبِيه على الْعلَّة على قَوْله، ورد أَيْضا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1435 قَوْله: { [وَهُوَ حجَّة للعصمة] } . أَعنِي: أَن كل مَا سبق من أَقْوَاله وأفعاله وَإِقْرَاره وهمه من أَنْوَاع السّنة حجَّة؛ لِأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعْصُوم، والعصمة ثَابِتَة لَهُ ولسائر الْأَنْبِيَاء - صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ -. وَتَأْتِي تفاصيل أَفعاله، وَمَعَ أَقْوَاله - أَيْضا - وَمَا يجوز عَلَيْهِ، وَمَا لَا يجوز عَلَيْهِ. قَوْله: {وَهِي: سلب الْقُدْرَة على الْمعْصِيَة} . اخْتلف الْعلمَاء فِي حد الْعِصْمَة: فَقيل: (هِيَ سلب الْقُدْرَة على الْمعْصِيَة) ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1436 فَلَا يُمكنهُ فعلهَا؛ لِأَن الله تَعَالَى سلبه الْقُدْرَة عَلَيْهَا، كَمَا سلبه معرفَة الْكِتَابَة وَالشعر وَغَيرهمَا. قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الْعِصْمَة بِالْكَسْرِ: الْمَنْع، واعتصم بِاللَّه: امْتنع بِلُطْفِهِ من الْمعْصِيَة) . وَقَالَ فِي " الْبَدْر الْمُنِير ": (عصمه الله تَعَالَى من الْمَكْرُوه [يعصمه] ، من بَاب ضرب: حفظه ووقاه، واعتصمت بِاللَّه: امْتنعت بِهِ، وَالِاسْم الْعِصْمَة) انْتهى. {وَقيل: [يُمكن فعلهَا مِنْهُ، وَلَكِن تصرف دواعيه عَنْهَا] } بِمَا يلهمه الله عَنهُ من ترغيب وترهيب. {و} قَالَ التلمساني: (الْعِصْمَة {عِنْد [الأشعرية] } : تهيؤ العَبْد للموافقة مُطلقًا، وَذَلِكَ رَاجع إِلَى خلق الْقُدْرَة على كل طَاعَة، فَإِذن الْعِصْمَة {توفيق عَام} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1437 {و} قَالَت {الْمُعْتَزلَة: خلق ألطاف تقرب إِلَى الطَّاعَة} . وَلم يردوها إِلَى الْقُدْرَة؛ لِأَن الْقُدْرَة عِنْدهم على الشَّيْء صَالِحَة لضده. قَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني: (لَا تطلق الْعِصْمَة فِي غير الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة إِلَّا بِقَرِينَة إِرَادَة مَعْنَاهَا اللّغَوِيّ، وَهُوَ السَّلامَة من الشَّيْء) ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة ": (واسأله الْعِصْمَة) ، وَجرى على ذَلِك كثير من الْعلمَاء. وَالْحَاصِل: أَن السَّلامَة أَعم من وجوب السَّلامَة، فقد تُوجد السَّلامَة فِي غير النَّبِي وَالْملك اتِّفَاقًا لَا وجوبا، قَالَه الْبرمَاوِيّ. { [و] } قَالَ أَبُو مُحَمَّد { [الْجَوْزِيّ] } فِي كِتَابه " الْإِيضَاح " فِي الجدل: (الْعِصْمَة {حفظ الْمحل بالتأثيم [أَو] التَّضْمِين} ) . فَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: أَنه لَا يفعل وَلَا يتْرك شَيْئا يحصل بِهِ إِثْم وَلَا ضَمَان، بل هُوَ مَحْفُوظ من ذَلِك، فَتكون (الْبَاء) بِمَعْنى (من) ، يَعْنِي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1438 حفظ الْمحل من التأثيم أَو التَّضْمِين، فَهُوَ مَعْصُوم من فعل الْمحرم قطعا، وَيَأْتِي حكم الْمَكْرُوه. وَيحْتَمل: أَن تكون (الْبَاء) بَاء السَّبَبِيَّة، وَيكون معنى الْكَلَام: حفظ الْمحل بِسَبَب التأثيم أَو التَّضْمِين، فَإِذا علم أَن الْفِعْل أَو التّرْك يُوجب إِثْمًا أَو تضمينا تَركه، فَكَانَ التأثيم أَو التَّضْمِين حاجزا و [مَانِعا] عَن فعل مَا يُوجب ذَلِك، وَالله أعلم. قَوْله: { [فامتناع الْمعْصِيَة] مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل الْبعْثَة عقلا مَبْنِيّ على التقبيح الْعقلِيّ، فَمن أثْبته كالروافض منعهَا} ؛ للتنفير، فتنافي الْحِكْمَة، { [وقالته] الْمُعْتَزلَة فِي الْكَبَائِر، [وَمن نفى التقبيح الْعقلِيّ لم يمْنَعهَا] } . إِنَّمَا قدمنَا هَذِه الْمَسْأَلَة لأجل مَا بعْدهَا؛ لِأَن الِاسْتِدْلَال بأفعالهم وأقوالهم مُتَوَقف على عصمتهم، وَقد ذهب أَكثر الْعلمَاء: إِلَى أَنه لَا يمْتَنع عقلا أَن يصدر قبل الْبعْثَة من الْأَنْبِيَاء مَعْصِيّة كَبِيرَة أَو صَغِيرَة، وَخَالفهُم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1439 الروافض مُطلقًا، فَقَالُوا: لَا يجوز أَن يصدر مِنْهُم قبل الْبعْثَة صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة وَوَافَقَهُمْ الْمُعْتَزلَة فِي الْكَبَائِر وجوزوا الصَّغَائِر كالأكثر، فَوَافَقُوا الروافض فِي الْكَبَائِر، ووافقوا أَكثر الْعلمَاء فِي الصَّغَائِر. ومعتمد الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِك؛ أَن فِيهِ هضما واحتقارا، فتنفر الطباع عَن اتباعهم، فيخل بالحكمة من بعثتهم، وَذَلِكَ قَبِيح عقلا. وَقد علمت مِمَّا مضى بطلَان قَاعِدَة التقبيح الْعقلِيّ، وَقد رد ذَلِك الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد على الرافضي ردا بليغا كَافِيا شافيا وَأطَال فِي ذَلِك. قَوْله: { [وَبعد الْبعْثَة] } : مَعْصُوم من تعمد مَا يخل بصدقه، فِيمَا دلّت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1440 المعجزة على صدقه [فِيهِ] ، من رِسَالَة وتبليغ إِجْمَاعًا} حَكَاهُ الْآمِدِيّ وَغَيره من الْعلمَاء. فالإجماع مُنْعَقد على عصمتهم من تعمد الْكَذِب فِي الْأَحْكَام وَمَا يتَعَلَّق بهَا؛ لِأَن المعجزة قد دلّت على صدقهم فِيهَا، فَلَو جَازَ كذبهمْ فِيهَا لبطل دلَالَة المعجزة. قَوْله: {وَلَا يَقع [سَهوا وغلطا] عِنْد الْأَكْثَر} . اخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز وُقُوع الْكَذِب مِنْهُم غَلطا وسهوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1441 قَالَ ابْن حمدَان فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (هُوَ مَعْصُوم فِيمَا يُؤَدِّي عَن الله، وَلَيْسَ مَعْصُوما فِي ذَلِك من الْخَطَأ والزلل وَالنِّسْيَان والسهو والصغائر فِي الْأَشْهر فِيهَا، {وَجوزهُ} - أَيْضا - {القَاضِي} أَبُو يعلى من أَصْحَابنَا، {و} القَاضِي أَبُو بكر {الباقلاني، والآمدي} ، وَذكره بعض أَصْحَابنَا قَول الْجُمْهُور، وَأَنه يدل عَلَيْهِ الْقُرْآن. وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة - حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ - لما سلم من رَكْعَتَيْنِ من ربَاعِية فَقَالَ لَهُ، فَقَالَ: " لم أنس وَلم تقصر "، فَقَالَ: بلَى قد نسيت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1442 وَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود: " إِنَّمَا أَنا بشر أنسى كَمَا تنسون، فَإِذا نسيت فذكروني "، مُتَّفق عَلَيْهِمَا. قَالَ الباقلاني: دلَالَة المعجزة على صدقهم فِيمَا صدر عَنْهُم قصدا واعتقادا، وَمَا صدر عَنْهُم غَلطا فالمعجزة لَا تدل على صدقهم فِيهِ) انْتهى. وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ الْأَكْثَر أَنه لَا يَقع مِنْهُم ذَلِك. قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (وَأما الْكَذِب غَلطا، فجوزه القَاضِي - يَعْنِي الباقلاني - وَمنعه الْبَاقُونَ؛ لما مر من دلَالَة المعجزة على الصدْق) . وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (وللعلماء فِي جَوَازه غَلطا ونسيانا قَولَانِ، بِنَاء: على أَن المعجزة هَل دلّت على صدقه فِيهِ؟ وَاخْتلف فِيهِ كَلَام ابْن عقيل) انْتهى. وَحَاصِله: أَن دلَالَة المعجزة، هَل دلّت على صدقهم مُطلقًا فِي الْعمد والسهو؟ أَو مَا دلّت إِلَّا على مَا صدر عَنْهُم عمدا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1443 وَتَأَول من منع الْوُقُوع الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي سَهْو النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَنَّهُ قصد بذلك التشريع، كَمَا فِي حَدِيث: " وَلَكِن أُنسى ". وَمِنْهُم من يعبر فِي هَذَا: بِأَنَّهُ تعتمد ذَلِك ليَقَع النسْيَان فِيهِ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ خطأ: لتصريحه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالنِّسْيَانِ فِي قَوْله: " إِنَّمَا أَنا بشر أنسى كَمَا تنسون، فَإِذا نسيت فذكروني ". وَلِأَن الْأَفْعَال العمدية تبطل الصَّلَاة، وَالْبَيَان كَاف بالْقَوْل فَلَا ضَرُورَة إِلَى الْفِعْل. {وَذكر القَاضِي عِيَاض} وَغَيره: الْخلاف فِي الْأَفْعَال، وَأَنه {لَا [يجوز] فِي الْأَقْوَال البلاغية إِجْمَاعًا، [وَمَعْنَاهُ لِابْنِ عقيل] } فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1444 " الْإِرْشَاد "، فَإِنَّهُ قَالَ: (الْأَنْبِيَاء لم يعصموا من الْأَفْعَال، بل فِي نفس الْأَدَاء، فَلَا يجوز عَلَيْهِم الْكَذِب فِي الْأَقْوَال فِيمَا [يؤدونه] عَن الله، وَلَا فِيمَا شَرعه من الْأَحْكَام، عمدا وَلَا سَهوا وَلَا نِسْيَانا) انْتهى. قَوْله: {ثمَّ لَا يقر عَلَيْهِ إِجْمَاعًا} . يَعْنِي: إِذا قُلْنَا يَقع ذَلِك مِنْهُم غَلطا ونسيانا، فَإِذا وَقع لم يقر عَلَيْهِ إِجْمَاعًا، بل يعلم بِهِ. {قَالَ الْأَكْثَر} : يعلم بِهِ {على الْفَوْر} . { [وَقَالَ طَائِفَة] :} يعلم بِهِ فِي {مُدَّة حَيَاته} ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْمَعَالِي، ورد الأول. قَوْله: {وَمَا لَا يخل بصدقه: فمعصوم من كَبِيرَة عمدا إِجْمَاعًا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1445 مَا تقدم هُوَ فِي حكم مَا يخل بصدقه، فِيمَا دلّت المعجزة على صدقه فِيهِ، من رِسَالَة وتبليغ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحدهمَا: فعله أَو قَوْله عمدا، فَهُوَ مَعْصُوم مِنْهُ إِجْمَاعًا. وَالثَّانِي: قَوْله غَلطا أَو نِسْيَانا، فَهَل هُوَ مَعْصُوم مِنْهُ، أَو يجوز وُقُوعه مِنْهُ؟ فِيهِ الْخلاف الْمُتَقَدّم. وَمَا قيل هُنَا: فِي حكم [مَا لَا يخل بتصديقه] مِمَّا دلّت المعجز على صدقه فِيهِ، نَوْعَانِ - أَيْضا - كَبَائِر وصغائر، والكبائر - أَيْضا - قِسْمَانِ: أَحدهمَا: فعلهَا عمدا، وَالثَّانِي: سَهوا. فَالْأول: وَهُوَ فعل الْكَبِيرَة عمدا، فَهُوَ مَعْصُوم من فعلهَا إِجْمَاعًا، وَلَا عِبْرَة بالحشوية وَبَعض الْخَوَارِج. وَكَذَا هُوَ مَعْصُوم من فعل مَا يُوجب خسة أَو إِسْقَاط مُرُوءَة عمدا. قَالَ جمَاعَة: (إِجْمَاعًا) ، مِنْهُم الْآمِدِيّ وَمن تبعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1446 وَقد قطع بعض أَصْحَابنَا: (بِأَن مَا يسْقط الْعَدَالَة لَا يجوز عَلَيْهِ) . قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَلَعَلَّه مُرَاد غَيره) . قلت: بل يتَعَيَّن أَنه مُرَاد غَيره. وَهل مُسْتَند الْمَنْع: السّمع، أَو الْعقل؟ مَبْنِيّ على التحسين والتقبيح العقليين. وَالْقسم الثَّانِي: فعله سَهوا، فَهَل يجوز وُقُوعه مِنْهُ، أَو هُوَ مَعْصُوم مِنْهُ كالعمد؟ فِيهِ قَولَانِ. فَعِنْدَ القَاضِي - من أَصْحَابنَا - وَالْأَكْثَر يجوز ذَلِك، وَاخْتلف كَلَام ابْن عقيل فِي ذَلِك. وَقَالَ ابْن أبي مُوسَى: (لَا يجوز ذَلِك عَلَيْهِ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1447 [قَالَ] : (وَتجوز الهمة بهَا لَا الْفِعْل) . وَالنَّوْع الثَّانِي الصَّغَائِر، وَهُوَ أَيْضا قِسْمَانِ: أَحدهمَا: فعلهَا عمدا، وَالثَّانِي: سَهوا. فَالْأول: وَهُوَ فعلهَا عمدا، هَل يجوز وُقُوعهَا مِنْهُ أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: الْجَوَاز، وَهُوَ قَول القَاضِي، وَابْن عقيل، والأشعرية، والمعتزلة، وَغَيرهم. وَالْقَوْل الثَّانِي: عدم الْجَوَاز، وَهُوَ قَول فِي مَذْهَبنَا، ذكره ابْن أبي مُوسَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1448 وَعند الْحَنَفِيَّة: (مَعْصُوم من مَعْصِيّة وَهِي مَقْصُودَة، لَا زلَّة، وَهُوَ: فعل لم يقْصد جر إِلَيْهِ مُبَاح) . الْقسم الثَّانِي: فعل الصَّغَائِر سَهوا، فَذهب الْأَكْثَر إِلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1449 الْجَوَاز، وَمنع الشِّيعَة مِنْهَا، وَمنع الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الأسفراييني، وَجمع من أَصْحَابنَا وَغَيرهم من الذَّنب مُطلقًا، أَعنِي: سَوَاء كَانَ كَبِيرا أَو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1450 صَغِيرا، عمدا أَو سَهوا، مَا يخل بصدقه أَو لَا، وَاخْتَارَهُ - أَيْضا - أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْإِرْشَاد "، وَالْقَاضِي عِيَاض، وَأَبُو بكر ابْن مُجَاهِد، وَابْن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1451 فورك، نَقله عَنهُ ابْن حزم فِي " الْملَل والنحل "، وَابْن حزم، وَابْن برهَان فِي " الْأَوْسَط "، وَنَقله فِي " الْوَجِيز " عَن اتِّفَاق الْمُحَقِّقين. وَحَكَاهُ النَّوَوِيّ فِي " زَوَائِد الرَّوْضَة " عَن الْمُحَقِّقين، وَالْقَاضِي حُسَيْن، وَقَالَ: (هُوَ الصَّحِيح من مَذْهَب أَصْحَابنَا) . وَهُوَ قَول أبي الْفَتْح الشهرستاني، وَابْن عَطِيَّة الْمُفَسّر، وَشَيخ الْإِسْلَام البُلْقِينِيّ، والسبكي، وَولده التَّاج. فالعصمة ثَابِتَة لَهُ ولسائر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام من كل ذَنْب، صَغِيرا كَانَ أَو كَبِيرا، عمدا كَانَ أَو سَهوا، فِي الْأَحْكَام وَغَيرهَا، مبرؤون من جَمِيع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1452 ذَلِك، لقِيَام الْحجَّة على ذَلِك، ولأنا أمرنَا باتبَاعهمْ فِي أفعالهم وآثارهم وسيرهم على الْإِطْلَاق، من غير الْتِزَام قرينَة، وَسَوَاء فِي ذَلِك قبل النُّبُوَّة وَبعدهَا، تعاضدت الْأَخْبَار بتنزيههم عَن هَذِه النقيصة مُنْذُ ولدُوا، ونشأتهم على كَمَال أوصافهم فِي توحيدهم وَإِيمَانهمْ عقلا أَو شرعا - على الْخلاف فِي ذَلِك - وَلَا سِيمَا فِيمَا بعد الْبعْثَة فِيمَا يُنَافِي المعجزة. قَالَ ابْن عَطِيَّة: (وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنِّي لأستغفر الله وَأَتُوب إِلَيْهِ فِي الْيَوْم سبعين مرّة "، إِنَّمَا هُوَ [رُجُوعه من حَالَة إِلَى أرفع] مِنْهَا، لتزيد علومه، واطلاعه على أَمر الله، فَهُوَ يَتُوب من الْمنزلَة الأولى إِلَى الْأُخْرَى، وَالتَّوْبَة هُنَا لغوية) انْتهى، وَتقدم تَأْوِيل سَهْوه قَرِيبا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1453 (قَوْله: {فصل} ) {مَا كَانَ من أَفعاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُخْتَصًّا بِهِ فَوَاضِح} . وَله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَصَائِص كَثِيرَة، وَذكرهَا أَصْحَابنَا وَغَيرهم فِي كتاب النِّكَاح، وأفردت بالتصانيف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1454 قَالَ الإِمَام أَحْمد - رَضِي الله عَنهُ -: (خص النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بواجبات، ومحظورات، ومباحات، وكرامات) . قَوْله: {أَو جبليا} . أَعنِي: مَا كَانَ من أَفعاله جبليا وَاضحا: كالقيام وَالْقعُود، والذهاب وَالرُّجُوع، وَالْأكل وَالشرب، وَالنَّوْم والاستيقاظ، وَنَحْوهَا، {فمباح، قطع بِهِ الْأَكْثَر} وَلم يحكوا فِيهِ خلافًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودا بِهِ التشريع، وَلَا تعبدنا بِهِ، وَلذَلِك نسب إِلَى الجبلة، وَهِي: الْخلقَة؛ لَكِن لَو تأسى بِهِ متأس فَلَا بَأْس، كَمَا فعل ابْن عمر، فَإِنَّهُ كَانَ إِذا حج يجر بِخِطَام نَاقَته حَتَّى [يبركها] حَيْثُ بَركت نَاقَته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تبركا بآثاره. وَإِن تَركه لَا رَغْبَة عَنهُ وَلَا استكبارا، فَلَا بَأْس. وَنقل ابْن الباقلاني، وَالْغَزالِيّ فِي " المنخول " قولا: إِنَّه ينْدب التأسي بِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1455 وَنقل [أَبُو] إِسْحَاق الأسفراييني وَجْهَيْن، هَذَا، وَعَزاهُ لأكْثر الْمُحدثين، وَالثَّانِي: لَا يتبع فِيهِ أصلا. فَتَصِير الْأَقْوَال ثَلَاثَة: مُبَاح، ومندوب، وممتنع. ويحكى قَول رَابِع: بِالْوُجُوب فِي الْجبلي وَغَيره. قيل: وَهُوَ زلل. وَحكى ابْن قَاضِي الْجَبَل: النّدب عَن بعض الْحَنَابِلَة والمالكية. وَحَكَاهُ الْقَرَافِيّ فِي " التَّنْقِيح "، وَقطع بِهِ الزَّرْكَشِيّ شَارِح " جمع الْجَوَامِع " فَقَالَ: (أما الْجبلي: فالندب، لاستحباب التأسي بِهِ) . قَوْله: { [فَإِن] احْتمل الْجبلي وَغَيره} ، من حَيْثُ إِنَّه واظب عَلَيْهِ: {كجلسة الاسْتِرَاحَة، وركوبه فِي الْحَج، ودخوله مَكَّة من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1456 كداء، ولبسه السبتي والخاتم، وذهابه ورجوعه فِي الْعِيد، وَنَحْوه} : كتطيبه عِنْد الْإِحْرَام، وَعند تحلله، وغسله بِذِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1457 طوى، والاضطجاع بعد سنة الْفجْر، وَنَحْوهَا، {فمباح [عِنْد] الْأَكْثَر} ، حَكَاهَا إِلْكيَا الهراسي؛ لإِجْمَاع الصَّحَابَة عَلَيْهِ، وَقطع بِهِ ابْن الْقطَّان، وَالْمَاوَرْدِيّ، وَالرُّويَانِيّ، وَغَيرهم. {وَقيل: مَنْدُوب، وَهُوَ أظهر} وَأَصَح، {وَهُوَ ظَاهر فعل} الإِمَام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1458 {أَحْمد، فَإِنَّهُ تسرى، واختفى [ثَلَاثَة أَيَّام] } ، ثمَّ انْتقل إِلَى مَوضِع آخر، اقْتِدَاء بِفعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي التَّسَرِّي، واختفائه فِي الْغَار ثَلَاثًا {وَقَالَ: " مَا بَلغنِي حَدِيث إِلَّا عملت بِهِ، حَتَّى أعطي الْحجام دِينَارا ". وَورد} أَيْضا {عَن} الإِمَام {الشَّافِعِي} ذَلِك، فَإِنَّهُ جَاءَ عَنهُ أَنه قَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1459 لبَعض أَصْحَابه: " اسْقِنِي قَائِما، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شرب قَائِما ". ومنشأ الْخلاف فِي ذَلِك: تعَارض الأَصْل وَالظَّاهِر، فَإِن الأَصْل عدم التشريع، وَالظَّاهِر فِي أَفعاله التشريع؛ لِأَنَّهُ مَبْعُوث لبَيَان الشرعيات. قلت: أَكثر مَا حكيناه من الْأَمْثِلَة مَنْدُوب، نَص عَلَيْهِ إمامنا وَأَصْحَابه: كذهابه من طَرِيق ورجوعه فِي أُخْرَى فِي الْعِيد، حَتَّى نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد فِي الْجُمُعَة أَيْضا، ودخوله مَكَّة من كداء، وتطيبه عِنْد الْإِحْرَام، وغسله بِذِي طوى، والاضطجاع بعد سنة الْفجْر. وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن الإِمَام أَحْمد فِي جلْسَة الاسْتِرَاحَة، هَل هِيَ مُسْتَحبَّة أم لَا؟ وَالْمذهب أَنَّهَا لَيست مُسْتَحبَّة. قَالَ الإِمَام أَحْمد: (أَكثر الْأَحَادِيث على هَذَا) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1460 وَعنهُ رِوَايَة: أَنَّهَا تسْتَحب، لحَدِيث مَالك بن الْحُوَيْرِث: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يجلس إِذا رفع رَأسه من السُّجُود قبل أَن ينْهض " مُتَّفق عَلَيْهِ. وَحمله الْمُوفق وَجَمَاعَة: على أَن جُلُوسه كَانَ فِي آخر عمره حِين ضعف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1461 وَحَاصِل ذَلِك: أَن من رجح فعل ذَلِك والاقتداء بِهِ والتأسي، قَالَ: لَيْسَ من الْجبلي، بل من الشَّرْعِيّ الَّذِي يتأسى بِهِ فِيهِ، وَمن رأى أَن ذَلِك يحْتَمل الْجبلي وَغَيره، فيحمله على الْجبلي، فألحقه بِهِ. قَوْله: {وَمَا كَانَ بَيَانا [بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صلوا] كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، [وَفعله] عِنْد الْحَاجة كَقطع [السَّارِق] من [الْكُوع] } ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1462 وَإِدْخَال الْمرَافِق والكعبين [فِي الْغسْل] ، { [فبيان] } لقَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] ، وَلقَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [الْمَائِدَة: 6] ، وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ عِنْد الْعلمَاء، وواجب عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْإِعْلَام بِهِ، لوُجُوب التَّبْلِيغ عَلَيْهِ. فَإِن قلت: لَا يتَعَيَّن التَّبْلِيغ بِالْفِعْلِ. قلت: لَا يخرج ذَلِك عَن كَونه وَاجِبا، فَإِن الْوَاجِب الْمُخَير تُوصَف كل من خصاله بِالْوُجُوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1463 قَالَ الْعَضُد: (وَمَعْرِفَة كَونه بَيَانا، إِمَّا بقول، وَإِمَّا بِقَرِينَة. فَالْقَوْل نَحْو: " خُذُوا عني مَنَاسِككُم "، و " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ". والقرينة مثل: أَن يَقع الْفِعْل بعد إِجْمَال: كَقطع يَد السَّارِق من الْكُوع دون الْمرْفق والعضد، بَعْدَمَا نزل قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] ، وَالْغسْل إِلَى الْمرَافِق بِإِدْخَال الْمرَافِق [أَو إخْرَاجهَا] بَعْدَمَا نزلت: {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} [الْمَائِدَة: 6] انْتهى. قَوْله: { [وَمَا لم يكن كَذَلِك] } . يَعْنِي: لَا مُخْتَصًّا بِهِ، وَلَا جبليا، وَلَا مترددا، وَلَا بَيَانا، فَهُوَ { [قِسْمَانِ] :} أَحدهمَا: { [مَا] علمت صفته من وجوب [أَو ندب أَو إِبَاحَة] ، [فَقَالَ أَصْحَابنَا وَأكْثر الْعلمَاء] } من الْفُقَهَاء والمتكلمين: كالحنفية، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1464 والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم: {أمته مثله} فِي ذَلِك؛ لِأَن الأَصْل مُشَاركَة أمته لَهُ، حَتَّى يدل دَلِيل على غير ذَلِك. {و} قَالَ {القَاضِي} - من أَصْحَابنَا - وَبَعض الشَّافِعِيَّة {و} أَبُو عَليّ { [ابْن خَلاد] } من الْمُعْتَزلَة: أمته مثله {فِي الْعِبَادَات [فَقَط] } دون الْمُعَامَلَات والمناكحات وَغَيرهمَا. { [ووقف بعض أَصْحَابنَا] } وَالْفَخْر الرَّازِيّ، فَإِن الإِمَام أَحْمد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1465 قَالَ فِي رِوَايَة ابْن إِبْرَاهِيم: (الْأَمر من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سوى الْفِعْل، لِأَنَّهُ يفعل الشَّيْء لجِهَة الْفضل، ويفعله وَهُوَ خَاص بِهِ، وَإِذا أَمر بالشَّيْء فَهُوَ للْمُسلمين) . قَالَ بعض أَصْحَابنَا: (ظَاهره الْوَقْف فِي تعديته إِلَى أمته وَإِن علمت صفته؛ لتعليله بِاحْتِمَال تَخْصِيصه) . وَذكر بعض أَصْحَابنَا أَنه أَقيس، وَقَالَهُ بعض الْأُصُولِيِّينَ. {و} قَالَ القَاضِي أَبُو بكر {الباقلاني: [حكمه حكم مَا لم تعلم] صفته} - على مَا يَأْتِي بعد هَذَا فَيجْرِي فِيهِ قَول بالندب، وَقَول بِالْإِبَاحَةِ، وَقَول بِالْوَقْفِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1466 {و} قَالَ {الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: ( { [من الْمُمكن أَنه يجب علينا وَإِن لم يجب عَلَيْهِ] } ؛ كَمَا تجب مُتَابعَة الإِمَام فِيمَا لَا يجب عَلَيْهِ، وَنبهَ عَلَيْهِ الْقُرْآن بقوله: {مَا كَانَ لأهل الْمَدِينَة وَمن حَولهمْ من الْأَعْرَاب أَن يتخلفوا عَن رَسُول الله} الْآيَة [التَّوْبَة: 120] ، فَأوجب عَلَيْهِم، وَلَو لم يتَعَيَّن ذَلِك الْغَزْو. - قَالَ -: وَقد يُقَال هَذَا فِيمَا صدر مِنْهُ اتِّفَاقًا) . قَوْله: {فَائِدَة: [تعرف] الصّفة} . أَعنِي: صفة فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَل هُوَ وَاجِب، أَو مَنْدُوب، أَو مُبَاح؟ { [بِأُمُور] : [مِنْهَا: النَّص] } مِنْهُ على ذَلِك، بِأَن يَقُول: هَذَا وَاجِب عَليّ، أَو مُسْتَحبّ، أَو مُبَاح، أَو معنى ذَلِك، بِذكر خَاصَّة من خواصه، أَو نَحْو ذَلِك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1467 {و} مِنْهَا: {تسويته بِفعل قد علمت جِهَته} ، بِأَن يَقُول: هَذَا مثله، أَو مسَاوٍ لَهُ وَنَحْوه. { [وَمِنْهَا: الْقَرِينَة: بِأَن] تبين صفة أحد الثَّلَاثَة} ، أما الْوُجُوب، فكالأذان فِي الصَّلَاة، فقد تقرر فِي الشَّرْع: أَن الْأَذَان وَالْإِقَامَة من أَمَارَات الْوُجُوب، وَلِهَذَا لَا يطلبان فِي صَلَاة عيد وكسوف واستسقاء، فيدلان على وجوب الصَّلَاة؛ لِأَنَّهُمَا شعار مُخْتَصّ بالفرائض. قيل: أَو يكون مَمْنُوعًا مِنْهُ [لَو لم] يجب: كالختان، كَمَا نقل عَن ابْن سُرَيج فِيهِ، وَقطع الْيَد فِي السّرقَة، فَإِن الْجرْح والإبانة مَمْنُوع مِنْهُمَا، فجوازهما يدل على وجوبهما، وَقطع بِهِ فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَكَذَا زِيَادَة [رُكُوع وَقيام] فِي رَكْعَتي الْكُسُوف، وَحجَّة بَعضهم من كَونهَا إِذا صليت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1468 كَسَائِر الصَّلَوَات جَازَ، وَنقض ذَلِك: بسجود السَّهْو والتلاوة فِي الصَّلَاة، فَإِنَّهُمَا سنة مَعَ أَنَّهُمَا مبطلان لَو لم يشرعا، وَكَذَا رفع الْيَدَيْنِ على التوالي فِي تَكْبِيرَات الْعِيد وَنَحْوه، وَمثل بَعضهم: بإحداد [زَوْجَة] الْمُتَوفَّى عَنْهَا. فَإِن قيل: قد يُجَاب: بِأَن الدَّلِيل دلّ على [سنية] هَذِه الْأُمُور، وَالْكَلَام حَيْثُ لَا دَلِيل. قيل: الْمَقْصُود إِنَّمَا هُوَ إِثْبَات الْقَاعِدَة باستقراء الشَّرْع، حَتَّى ينزل عَلَيْهَا مَا لم يعرف، فَإِذا انتقضت بِمَا دلّ عَلَيْهِ الدَّلِيل، ارْتَفع مَا ثَبت بالاستقراء. وَمن قَرَائِن الْوُجُوب أَيْضا: أَن يكون قَضَاء لما علم وُجُوبه، أَو نَحْو ذَلِك. وَأما النّدب: فكقصد الْقرْبَة مُجَردا عَن دَلِيل وجوب وقرينته، وَالدَّلِيل على ذَلِك كثير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1469 وَزَاد الْبَيْضَاوِيّ: (أَن يعلم كَونه قَضَاء لفعل مَنْدُوب؛ لِأَن الْقَضَاء يَحْكِي الْأَدَاء) . وَأما الْإِبَاحَة: فكالفعل الَّذِي ظهر بِالْقَرِينَةِ أَنه لم يقْصد بِهِ الْقرْبَة. { [وَمِنْهَا: أَن يكون الْفِعْل امتثالا لأمر علم أَنه أَمر إِيجَاب أَو ندب] } ، فَيكون هَذَا الْفِعْل تَابعا لأصله فِي حكمه، كَالصَّلَاةِ بَيَانا بعد قَوْله: {أقِيمُوا الصَّلَاة} [الْأَنْعَام: 72] وكالقطع من الْكُوع بَيَانا لآيَة السّرقَة، وَنَحْو ذَلِك. نعم، فِي الْوَارِد بَيَانا لفعل أَمر آخر، وَهُوَ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يجب عَلَيْهِ بَيَان الشَّرْع للْأمة بقوله أَو فعله، فَإِذا أَتَى بِالْفِعْلِ بَيَانا أَتَى بِوَاجِب، وَإِن كَانَ الْفِعْل بَيَانا لأمر ندب أَو إِبَاحَة بِالنِّسْبَةِ للْأمة. فللفعل حِينَئِذٍ جهتان: جِهَة التشريع وَصفته الْوُجُوب، وجهة مَا يتَعَلَّق بِفعل الْأمة تَابع لأصله من ندب أَو إِبَاحَة. قَوْله: {وَمَا لَا تعلم صفته} . هَذَا هُوَ الْقسم الثَّانِي: [مِمَّا لم] يكن جبليا، وَلَا مُخْتَصًّا بِهِ، وَلَا مترددا، وَلَا بَيَانا، { [وَهُوَ نَوْعَانِ] } : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1470 أَحدهمَا: { [مَا يقْصد بِهِ] الْقرْبَة، [فَهُوَ وَاجِب] علينا وَعَلِيهِ، عِنْد أَحْمد [وَأكْثر أَصْحَابه] } ، مِنْهُم: ابْن حَامِد، وَالْقَاضِي، وَابْن أبي مُوسَى، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، وَذكره عَن أَصْحَابنَا، والحلواني، قَالَه الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، { [والمالكية] } ، وَابْن سُرَيج، والإصطخري، وَابْن ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1471 خيران، وَابْن أبي هُرَيْرَة، وَبَعض الْحَنَفِيَّة، وَهُوَ الصَّحِيح عَن مَالك، وَاخْتَارَهُ ابْن السَّمْعَانِيّ، وَقَالَ: (هُوَ أشبه بِمذهب الشَّافِعِي) ، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ فِي " المعالم ". { [وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة: أَنه مَنْدُوب] ، وَاخْتَارَهُ التَّمِيمِي، وَالْقَاضِي} أَيْضا فِي مُقَدّمَة " الْمُجَرّد "، وَحَكَاهُ السَّرخسِيّ عَن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1472 الْحَنَفِيَّة، وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل من أَصْحَابنَا، والظاهرية، والمعتزلة، والصيرفي، والقفال الْكَبِير، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَأَبُو شامة، وَحكي عَن الشَّافِعِي، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب. قَالَ الْمجد ابْن تَيْمِية: (نقل هَذِه الرِّوَايَة عَن أَحْمد: إِسْحَاق بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1473 إِبْرَاهِيم، والأثرم، وَجَمَاعَة، بِأَلْفَاظ صَرِيحَة) . {وَقيل} : إِنَّه {مُبَاح، اخْتَارَهُ الْفَخر} إِسْمَاعِيل {فِي جدله، والجصاص، [وَالْفَخْر الرَّازِيّ] } وَأَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان "، {وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ مَذْهَب مَالك] } ، وَاسْتشْكل الْإِبَاحَة فِيمَا يقْصد بِهِ الْقرْبَة. {وَعَن} الإِمَام {أَحْمد} رِوَايَة - أَيْضا - { [بِالْوَقْفِ] } حَتَّى يقوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1474 دَلِيل على حكمه { [اخْتَارَهَا] أَبُو الْخطاب، وَحكي عَن التَّمِيمِي} ، وَأكْثر الْمُتَكَلِّمين، {والأشعرية، و [غَيرهم] } وَصَححهُ القَاضِي أَبُو الطّيب، وَحكي عَن جُمْهُور الْمُحَقِّقين: كالصيرفي، وَالْغَزالِيّ، وأتباعهما، وَقَالَهُ الْكَرْخِي الْحَنَفِيّ. فَقيل: الْوَقْف بَين الْوُجُوب وَالنَّدْب وَالْإِبَاحَة. وَقيل: بَين الْوُجُوب وَالنَّدْب فَقَط. قَوْله: { [وَمَا لم يقْصد بِهِ الْقرْبَة] } . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1475 هَذَا هُوَ النَّوْع الثَّانِي [مِمَّا لم] تعلم صفته، وَهُوَ مَا لم يقْصد بِهِ الْقرْبَة، وَفِيه أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه { [مُبَاح] } ، اخْتَارَهُ الْأَكْثَر، مِنْهُم أَصْحَابنَا، وَحكي عَن مَالك، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب. قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": (فعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُفِيد الْإِبَاحَة، إِذا لم يكن فِيهِ معنى الْقرْبَة، فِي قَول الْجُمْهُور) . { [وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه] وَاجِب} ، اخْتَارَهُ جمَاعَة، وَحكي عَن ابْن سُرَيج، والإصطخري، وَابْن خيران، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَغَيرهم، كَمَا تقدم. قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: (وَلَا وَجه لَهُ) على مَا يَأْتِي. { [وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه] مَنْدُوب} ، اخْتَارَهُ جمَاعَة - أَيْضا - وَحكي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1476 عَن الشَّافِعِي كَمَا تقدم، فَإِن كثيرا من الْعلمَاء حكى الْخلاف فِيمَا لم تعلم صفته، وأطلقوا الْخلاف، سَوَاء قصد بِهِ الْقرْبَة أَو لَا، وَجعلُوا بعض الْأَقْوَال مفصلة بَين مَا يقْصد بِهِ الْقرْبَة وَبَين مَا لم يقْصد بِهِ الْقرْبَة. {و} اخْتَار {الْآمِدِيّ} : أَنه {مُشْتَرك [بَين الْوُجُوب وَالنَّدْب] : فِيمَا قصد فِيهِ الْقرْبَة، [وَمَا لم يقْصد فِيهِ الْقرْبَة مُشْتَرك بَين الثَّلَاثَة] } ، أَعنِي: الْوُجُوب، وَالنَّدْب، وَالْإِبَاحَة، {وَمَا اخْتصَّ بِهِ أَحدهمَا [مَشْكُوك] فِيهِ} ، نَقله عَنهُ ابْن مُفْلِح، وَغَيره. تَنْبِيه: كثير من المصنفين يجمع بَين نَوْعي مَا لم تعلم صفته، مِمَّا قصد بِهِ الْقرْبَة، وَمِمَّا لم يقْصد بِهِ الْقرْبَة، ويحكي الْخلاف مُطلقًا ثمَّ يفصل فِي القَوْل الثَّالِث وَالرَّابِع، وَبَعْضهمْ يفصل بَينهمَا فيذكر كل وَاحِد على حِدة، ويحكي الْخلاف فِيهِ كَمَا حكيناه فِي الْمَتْن. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " - لما حكى الْخلاف عَن أَحْمد وَأَصْحَابه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1477 وَغَيرهم، وعمم ذَلِك -: (وَمُرَاد أَحْمد وَالْأَصْحَاب: مَا فِيهِ قصد قربَة، وَإِلَّا فَلَا وَجه للْوُجُوب فِي غَيره، وَالنَّدْب فِيهِ مُحْتَمل) . قَالَ: (وَكَذَا ذكر بعض أَصْحَابنَا - يَعْنِي بِهِ الْمجد فِي " المسودة " - الْخلاف لنا وَلِلنَّاسِ مَعَ قصد الْقرْبَة، وَإِلَّا فالإباحة، وَأَنه قَول الْجُمْهُور، وَأَن قوما قَالُوا بِالْوُجُوب، وَذكره بَعضهم عَن ابْن سُرَيج. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: (قدره أجل من هَذَا) . وَقَالَ جمَاعَة بالندب هُنَا احْتِيَاطًا، [وَذكر] أَبُو الْفرج الشِّيرَازِيّ عَن أَحْمد: الْوُجُوب، وَالنَّدْب. وَذكر الْآمِدِيّ عَن أَصْحَابنَا وَغَيرهم: الْوُجُوب، قَالَ: (غير أَن الْوُجُوب وَالنَّدْب فِيهِ أبعد) . انْتهى كَلَام الْمجد. وَقَالَ أَيْضا: (فَأَما مَا لم يظْهر فِيهِ معنى الْقرْبَة، فيستبان فِيهِ ارْتِفَاع الْحَرج عَن الْأمة لَا غير، وَهَذَا قَول الْجُمْهُور، وَاخْتَارَهُ الْجُوَيْنِيّ والمحققون من الْقَائِلين بِالْوُجُوب أَو النّدب فِيمَا إِذا قصد الْقرْبَة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1478 ( فصل ) دَلِيل الْقَائِل بِالْوُجُوب: قَوْله تَعَالَى: {واتبعوه} [الْأَعْرَاف: 158] ، وَقَوله تَعَالَى: {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} [النُّور: 63] ، وَالْفِعْل أَمر كَمَا يَأْتِي، وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} [الْحَشْر: 7] ، وَقَوله تَعَالَى: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} [الْأَحْزَاب: 21] ، أَي: تأسوا بِهِ، وَقَوله تَعَالَى: {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني} [آل عمرَان: 31] ومحبته وَاجِبَة، فَيجب لازمها وَهُوَ اتِّبَاعه، وَقَوله تَعَالَى: {فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا} [الْأَحْزَاب: 37] فلولا الْوُجُوب لما رفع تَزْوِيجه الْحَرج عَن الْمُؤمنِينَ فِي أَزوَاج أدعيائهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1479 وَلما خلع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَعله فِي الصَّلَاة خلعوا نعَالهمْ، رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي سعيد، وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة، وَابْن حبَان، وَالْحَاكِم، وَرُوِيَ مُرْسلا. وَلما أَمرهم بالتحلل فِي صلح الْحُدَيْبِيَة - رَوَاهُ البُخَارِيّ - تمسكوا. وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجل عَن الْغسْل بِلَا إِنْزَال، فَأجَاب بِفِعْلِهِ، رَوَاهُ مُسلم. وَلِأَنَّهُ أحوط، كنسيان تعْيين الصَّلَاة، ومطلقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1480 وَلِأَن فعله كَقَوْلِه، فِي بَيَان مُجمل وَتَخْصِيص وَتَقْيِيد، فَكَانَ مطلقه [للْوُجُوب] . وَلِأَن فِي مُخَالفَته تنفيرا وتركا للحق، لِأَن فعله حق. ورد الأول: بِأَنَّهُ كالتأسي، وَهُوَ غير مَعْلُوم، قَالَه أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " [وَغَيره] . وَقَالَ الْآمِدِيّ: (فِي أَقْوَاله، للْإِجْمَاع: أَن الْمُتَابَعَة فِي الْفِعْل إِنَّمَا تجب بِوُجُوبِهِ، وَمُطلق الْفِعْل غير مَعْلُوم) . ورد الثَّانِي: بِأَن المُرَاد: أَمر الله، ثمَّ المُرَاد بِهِ: القَوْل؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَة فِيهِ، وَلذكر الدُّعَاء قبله، التحذير من مُخَالفَة فعله يَسْتَدْعِي وُجُوبه، فَلَو اسْتُفِيدَ وُجُوبه من التحذير كَانَ دورا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1481 وَكَذَلِكَ جَوَاب الثَّالِث: لَا يجب الْأَخْذ حَتَّى يجب الْفِعْل، فَلَو وَجب من الْآيَة دَار، ثمَّ المُرَاد: مَا أَمركُم، لمقابلة: {وَمَا نهاكم} . وَجَوَاب الرَّابِع وَالْخَامِس: مَا سبق فِي التأسي والاتباع. وَفِي السَّادِس: مُسَاوَاة حكمنَا بِحكمِهِ، وَلَا يلْزم وصف أَفعاله كلهَا بِالْوُجُوب ليجب فعلهَا. وَلَيْسَ فِي الْخلْع وجوب. ثمَّ لدَلِيل: إِمَّا: " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، أَو غَيره. والتحلل وَجب بِالْأَمر، لَكِن رجوا نسخه، فَلَمَّا تحلل أيسوا، وَبِقَوْلِهِ: " خُذُوا عني مَنَاسِككُم "، رَوَاهُ مُسلم. وَالْغسْل بِلَا إِنْزَال إِنَّمَا وَجب بالْقَوْل، فَفِي مُسلم عَن أبي مُوسَى: أَنهم ذكرُوا مَا يُوجب الْغسْل؟ فَسَأَلَ أَبُو مُوسَى عَائِشَة: مَا يُوجب الْغسْل؟ فَقَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا جلس بَين شعبها الْأَرْبَع وَمَسّ الْخِتَان الْخِتَان، فقد وَجب الْغسْل "، أَو بِفعل هُوَ بَيَان لقَوْله: {وَإِن كُنْتُم جنبا} [الْمَائِدَة: 6] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1482 وَالِاحْتِيَاط فِيمَا ثَبت وُجُوبه: كَصَلَاة فَائِتَة من يَوْم وَلَيْلَة، أَو الأَصْل ثُبُوته: كالثلاثين من رَمَضَان. فَأَما مَا احْتمل الْوُجُوب وَغَيره فَلَا. وَيمْنَع التنفير. ولحصول الْمُفَارقَة فِي أَشْيَاء. وَلَا يلْزم من كَونه حَقًا وُجُوبه. فَإِن قيل: فعله كتركه. رد: لَا يجب ترك مَا ترك الْأَمر بِهِ، وَيجب بِالْأَمر. وَقَالَ ابْن عقيل: (إِن فعل وَترك، مغايرا بَين شَخْصَيْنِ، أَو مكانين، أَو زمانين، وَجب التّرْك، وَإِلَّا فَلَا. على أَن بَيَانه عِلّة تَركه [أكل] الضَّب، وَفسخ الْحَج، يُعْطي: أَن تَركه يجب الِاقْتِدَاء بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُفَسر وَلَا يخص، وَلم يَجعله الْقَائِل بالندب ندبا) . قَالَ ابْن مُفْلِح: (كَذَا قَالَ) . الْقَائِل بالندب: لِأَنَّهُ الْيَقِين، وغالب فعله. رد: بِالْمَنْعِ، [وَبِمَا] سبق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1483 الْقَائِل بِالْإِبَاحَةِ: لِأَنَّهَا متيقنة. رد: بِمَا سبق. الْقَائِل بِالْوَقْفِ: لاحْتِمَاله الْجَمِيع، وَلَا صِيغَة لَهُ، وَلَا تَرْجِيح. رد: بِمَا سبق، وَبِأَن الْغَالِب [لَا اخْتِصَاص] ، وَلَا عمل بالنادر. وَقَالَ ابْن عقيل: (المتبع لَا يجوز إِمْسَاكه عَن بَيَان مَا يَخُصُّهُ، لَا سِيمَا إِن ضرّ غَيره، لِأَنَّهُ غرور، وَلَو فِي طَرِيق أَو أكل أَو شرب، إِن علم أَنه قد يتبع، فَكيف [بِعِلْمِهِ] باتباعه) . وَقَول التَّمِيمِي وَغَيره: بتجويز سَهْو أَو غَيره - حَتَّى قيل: يتَوَقَّف فِيهِ فِي دلَالَته على حكم حَقه - ضَعِيف، لما سبق، وَلِأَنَّهُ لَا يقر عَلَيْهِ. قَوْله: {فَائِدَتَانِ. الأولى: التأسي: فعلك كَمَا فعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأجل أَنه فعل، وَكَذَا التّرْك} ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1484 فالتأسي فِيهِ: تَركك لَهُ كَمَا ترك لأجل أَنه تَركه. هَذَا فِي الْفِعْل وَتَركه، {و} أما {فِي القَوْل: [فالامتثال] على الْوَجْه الَّذِي اقْتَضَاهُ} . { [وَإِن لم يكن كَذَلِك فِي الْكل، فَهُوَ مُوَافقَة] لَا مُتَابعَة} ، إِذْ الْمُوَافقَة: الْمُشَاركَة فِي الْأَمر وَإِن لم يكن لأَجله، فالموافقة أَعم من التأسي، فَكل تأس مُوَافقَة، وَلَيْسَ كل مُوَافقَة تأس، فقد يُوَافق وَلَا يتأسى، فَلَا بُد من اجْتِمَاعهمَا لحُصُول الْمَقْصُود، وَهُوَ الْمُتَابَعَة. قَوْله: {الثَّانِيَة: لَا يفعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَكْرُوه ليبين بِهِ الْجَوَاز، بل فعله يَنْفِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1485 الْكَرَاهَة، قَالَه القَاضِي وَغَيره} من أَصْحَابنَا وَغَيرهم. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (وَقد قَالَ القَاضِي: لَا يفعل الْمَكْرُوه ليبين بِهِ الْجَوَاز، لِأَنَّهُ يحصل فِيهِ التأسي. قَالَ: { [وَمرَاده] : وَلَا معَارض لَهُ، وَإِلَّا فقد يفعل} غَالِبا {شَيْئا ثمَّ يفعل خِلَافه لبَيَان الْجَوَاز، وَهُوَ كثير عندنَا} وَعند أَرْبَاب الْمذَاهب { [كَقَوْلِهِم فِي ترك] الْوضُوء مَعَ [الْجَنَابَة] لنوم [أَو أكل أَو معاودة] وَطْء} : تَركه لبَيَان الْجَوَاز، وَفعله غَالِبا للفضيلة ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1486 فارغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1487 {وتشبيكه [فِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ فِي الْمَسْجِد] ، لَا يَنْفِي الْكَرَاهَة لِأَنَّهُ نَادِر، و [قد] حمل الْحَنَفِيَّة وضوءه بسؤر الهر [لبَيَان] الْجَوَاز مَعَ الْكَرَاهَة} . ثمَّ التأسي وَالْوُجُوب بِالسَّمْعِ لَا بِالْعقلِ، خلافًا لبَعض الْأُصُولِيِّينَ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1488 وَقَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: (لَا يَقع الْمَكْرُوه من الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم السَّلَام -؛ لِأَن التأسي بهم مَطْلُوب، فَيلْزم أَن يتأسى بهم فِيهِ، فَيكون جَائِزا. وَأَيْضًا فَإِنَّهُم أكمل الْخلق، وَلَهُم أَعلَى الدَّرَجَات، فَلَا يلائم أَن يَقع مِنْهُم مَا نهى الله عَنهُ، وَلَو نهي تَنْزِيه، فَإِن الشَّيْء الحقير من الْكَبِير أَمر عَظِيم. ويقرر ذَلِك بِأَمْر آخر، وَهُوَ: أَنه لَا يتَصَوَّر أَنه يَقع مِنْهُم ذَلِك مَعَ كَونه مَكْرُوها. قَالَ ابْن الرّفْعَة: (الشَّيْء قد يكون مَكْرُوها، ويفعله النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لبَيَان الْجَوَاز، وَيكون أفضل فِي حَقه) . وَخلاف الأولى كالمكروه، وَإِن لم يتَعَرَّضُوا لَهُ. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي وضوء النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مرّة ومرتين: (قَالَ الْعلمَاء: إِن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1489 ذَلِك كَانَ أفضل فِي حَقه من التَّثْلِيث لبَيَان التشريع) . قلت: وَمَا قَرّرته أولى من هَذَا، لِأَنَّهُ لم يتَعَيَّن بَيَان الْجَوَاز فِي الْفِعْل، فَفِي القَوْل مَا يُغني عَنهُ، وَفِي الْتِزَام أَن يكون للْفِعْل جهتان، من جِهَة التشريع يكون فَاضلا، وَمن جِهَة أَنه مَنْهِيّ عَنهُ يكون مَكْرُوها، وَهَذَا أَجود من قَول بَعضهم: إِن الْمَكْرُوه لَا يَقع مِنْهُم لندرته، لِأَن وُقُوعه من آحَاد النَّاس نَادِر، فَكيف من خَواص الْخلق، فَفِيهِ الْتِزَام أَنه يَقع) انْتهى. وَمرَاده بالْكلَام الْأَخير من قَول بَعضهم: التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع " وَجَمَاعَة. تَنْبِيه: تلخص مِمَّا تقدم: أَن أَفعاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - محصورة فِي الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب، وَأما الْمحرم فَلَا يَفْعَله الْبَتَّةَ، وَاخْتلف فِي الْمَكْرُوه، وَالصَّحِيح: أَنه لَا يَفْعَله كَمَا قَالَه من أَصْحَابنَا القَاضِي وَغَيره، أَو يَفْعَله لبَيَان الْجَوَاز للمعارض، كَمَا قَالَه ابْن مُفْلِح وَغَيره، أَو يَفْعَله نَادرا كَمَا قَالَ جمَاعَة، كَمَا تقدم ذَلِك كُله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1490 (قَوْله: {فصل} ) {إِذا سكت - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن إِنْكَار [فعل أَو قَول] ، بِحَضْرَتِهِ، أَو زَمَنه [عَالما بِهِ] ، دلّ على جَوَازه [حَتَّى لغيره فِي الْأَصَح] ، وَإِن سبق تَحْرِيمه فنسخ} ؛ لِئَلَّا يكون سُكُوته محرما، وَلِأَن فِيهِ تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة، لإيهام الْجَوَاز والنسخ، ولاسيما إِن استبشر بِهِ. وَلذَلِك احْتج الإِمَام أَحْمد وَالْإِمَام الشَّافِعِي فِي إِثْبَات النّسَب بالقيافة بِحَدِيث عَائِشَة: " أَن مجزز المدلجي رأى زيد بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1491 حَارِثَة وَابْنه أُسَامَة، فَقَالَ: إِن هَذِه الْأَقْدَام بَعْضهَا من بعض، فسُر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذلك وَأَعْجَبهُ "، مُتَّفق عَلَيْهِ. وَضعف ابْن الباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي هَذِه الْحجَّة، لِأَن ترك إِنْكَاره لموافقته الْحق، وسُر لإلزام من طعن فِي نسب أُسَامَة، لما يلْزم على اعْتِقَاده فِي إِثْبَات النّسَب بالقافة. ورد: بِأَن مُوَافقَة الْحق لَا تجوز ترك إِنْكَار طَرِيق مُنكر، لِئَلَّا يتَوَهَّم أَنه حق، وَلَا يرْتَفع إِلْزَامه بالإنكار، لِأَنَّهُ ألزم باعتقاده وَإِن أنكرهُ ملزمه. تَنْبِيه: لم يُقيد الْمَسْأَلَة بِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَيْهِ، كَمَا ذكره ابْن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1492 الْحَاجِب وَغَيره، إِذْ لَا حَاجَة إِلَيْهِ؛ لِأَن من خَصَائِصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن وجوب إِنْكَاره الْمُنكر لَا يسْقط عَنهُ بالخوف على نَفسه، وَإِن كَانَ ذَلِك إِنَّمَا هُوَ لعدم تحقق خَوفه، بعد إِخْبَار الله تَعَالَى عَنهُ بعصمته من النَّاس. وَقَوْلنَا: (حَتَّى لغيره فِي الْأَصَح) . أَعنِي: أَن الْجَوَاز لَا يخْتَص بالفاعل الَّذِي سكت عَنهُ، بل يتَعَدَّى إِلَى غَيره من النَّاس عِنْد الْمُعظم؛ لِأَن الأَصْل: اسْتِوَاء الْمُكَلّفين فِي الْأَحْكَام. وَخَالف فِي ذَلِك أَبُو بكر الباقلاني، فَقَالَ: (لَا يتَعَدَّى إِلَى غَيره، فَإِن التَّقْرِير لَا صِيغَة لَهُ) انْتهى. وَمحل هَذِه الْأَحْكَام فِي غير الْكَافِر، وَلذَلِك قُلْنَا: (إِلَّا من كَافِر فِيمَا يَعْتَقِدهُ) : كذهابه إِلَى كَنِيسَة وَنَحْوهَا، فَإِنَّهُ لَا أثر لَهُ اتِّفَاقًا، حَكَاهُ ابْن الْحَاجِب وَغَيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1493 وَقيل: (لَا يدل السُّكُوت على الْجَوَاز، فِي حق من يغريه الْإِنْكَار على الْفِعْل، وَلَا يجب الْإِنْكَار عَلَيْهِ) ، وَحَكَاهُ ابْن السَّمْعَانِيّ عَن الْمُعْتَزلَة، وَالأَصَح: وجوب الْإِنْكَار، ليزول توهم الْإِبَاحَة. وَقيل: (لَا يدل السُّكُوت على الْجَوَاز فِي حق الْمُنَافِق) ، قَالَه أَبُو الْمَعَالِي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1494 (قَوْله: {فصل} ) {فعلاه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -[وَلَو اخْتلفَا] ، وَأمكن اجْتِمَاعهمَا كَصَوْم وَصَلَاة، أَو لَا، لَكِن لَا [يتناقض] حكماهما، فَلَا تعَارض، وَكَذَا إِن تنَاقض، كصومه فِي وَقت وَأكله فِي مثله، لَكِن: إِن دلّ دَلِيل على وجوب تكَرر [الأول لَهُ، أَو لأمته] ، أَو أقرّ من أكل فِي مثله، فنسخ} . الصَّادِر مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِمَّا قَول، أَو فعل، أَو هما. فَإِذا انْفَرد أَحدهمَا فَلَا كَلَام. وَرُبمَا تعَارض دليلان من ذَلِك؛ إِمَّا قَولَانِ، أَو فعلان، أَو قَول وَفعل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1495 أما الْقَوْلَانِ فَسَيَأْتِي حكم تعارضهما فِي التعادل والتراجيح. وَأما تعَارض الْفِعْلَيْنِ، أَو الْفِعْل وَالْقَوْل، فمذكوران هُنَا. فَنَقُول: فعلاه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِن تماثلا: كَفعل صَلَاة، ثمَّ فعلهَا مرّة أُخْرَى فِي [وَقت] آخر، أَو اخْتلفَا وَأمكن اجْتِمَاعهمَا: كَفعل صَوْم وَفعل صَلَاة، أَو لَا يُمكن اجْتِمَاعهمَا لَكِن لَا يتناقض حكماهما، فَلَا تعَارض بَينهمَا؛ لِإِمْكَان الْجمع، وَحَيْثُ أمكن الْجمع امْتنع التَّعَارُض، وَكَذَا إِن تنَاقض: كصومه فِي وَقت بِعَيْنِه وَأكله فِي مثله، لِإِمْكَان كَونه وَاجِبا أَو مَنْدُوبًا أَو مُبَاحا فِي ذَلِك الْوَقْت، وَفِي الْوَقْت الآخر بِخِلَافِهِ، من غير أَن يكون أَحدهمَا رَافعا أَو مُبْطلًا لحكم الآخر، إِذْ لَا عُمُوم للْفِعْل. لَكِن إِن دلّ دَلِيل على وجوب تكَرر صَوْمه عَلَيْهِ، أَو وجوب التأسي بِهِ فِي مثل ذَلِك الْوَقْت، فتلبس بضده: كَالْأَكْلِ مَعَ قدرته على الصَّوْم، دلّ أكله على نسخ دَلِيل تكْرَار الصَّوْم فِي حَقه، لَا نسخ حكم الصَّوْم السَّابِق، لعدم اقتضائه للتكرار، وَرفع [حكم] وجد محَال. أَو أقرّ من أكل فِي مثله من الْأمة، فنسخ لدَلِيل تَعْمِيم الصَّوْم على الْأمة فِي حق ذَلِك الشَّخْص، أَو تَخْصِيصه، وَقد يُطلق النّسخ والتخصيص على الْمَعْنى، بِمَعْنى زَوَال التَّعَبُّد، مجَازًا. قَوْله: {وَقيل فِي فَعَلَيهِ الْمُخْتَلِفين: الثَّانِي نَاسخ، وَإِلَّا تَعَارضا، وَمَال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1496 إِلَيْهِ الشَّافِعِي، وَقَالَ الباقلاني وَأَبُو الْمَعَالِي [بجوازهما] مَا لم يتَضَمَّن أَحدهمَا حظرا، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد فِي مسَائِل، [وآخرهما أفضل] } . هَذِه طَريقَة ذكرهَا الْمجد فِي " المسودة "، فَقَالَ: (صَار كثير من الْعلمَاء إِلَى الْعَمَل بآخر الْفِعْلَيْنِ كالقولين، وَجعله نَاسِخا بِمَا يَقْتَضِيهِ لَو انْفَرد، وَجعل الأول مَنْسُوخا بِهِ. قَالَ الْجُوَيْنِيّ: وَللشَّافِعِيّ صغو إِلَى ذَلِك، وَأَشَارَ إِلَى أَنه قدم حَدِيث [ابْن خَوات] ، على حَدِيث ابْن عمر فِي الْخَوْف لذَلِك، وَأَنه على هَذَا: مَتى لم يعلم التَّارِيخ تَعَارضا، وَعدل إِلَى الْقيَاس وَغَيره من الترجيحات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1497 ثمَّ قَالَ الْجُوَيْنِيّ: (وَذهب الباقلاني: إِلَى أَن تعدد الْفِعْل مَعَ التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، يُفِيد جَوَاز الْأَمريْنِ، إِذا لم يكن فِي أَحدهمَا مَا يتَضَمَّن حظرا) . وَرجح الْجُوَيْنِيّ ذَلِك، وَهُوَ ظَاهر كَلَام إمامنا فِي مسَائِل كَثِيرَة. نعم؛ يكون آخر [الْفِعْل] أولى فِي الْفَضِيلَة وَالِاخْتِيَار، وعَلى هَذَا يحمل قَوْلهم: كُنَّا نَأْخُذ بالأحدث فالأحدث من فعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلِهَذَا جَاءَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس فِي الصَّوْم فِي السّفر، مَعَ أَنه قد صَحَّ عَنهُ التَّخْيِير فِي الْأَمريْنِ) ، انْتهى كَلَام الْمجد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1498 (قَوْله: {فصل} ) إِذا تعَارض قَوْله وَفعله ... إِلَى آخِره. مَا تقدم فَهُوَ فِي تعَارض فَعَلَيهِ، وَمَا ذكر هُنَا فَهُوَ فِي تعَارض قَوْله وَفعله، وَيَأْتِي فِي التَّرْجِيح إِذا تعَارض قولاه. [وَاعْلَم أَنه إِذا] صدر مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَول وَفعل كل مِنْهُمَا يَقْتَضِي خلاف مَا يَقْتَضِيهِ الآخر، فَفِيهِ [اثْنَتَانِ] وَسَبْعُونَ مَسْأَلَة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1499 وَوجه الْحصْر فِي ذَلِك: أَنه لَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يدل دَلِيل على التّكْرَار والتأسي، أَو لَا يدل على شَيْء مِنْهُمَا، أَو يدل على الأول - وَهُوَ التكرر - دون الثَّانِي - وَهُوَ التأسي -، أَو بِالْعَكْسِ، فَيدل على التأسي دون التكرر، فَهَذِهِ أَرْبَعَة أَقسَام، كل [مِنْهَا] يتنوع إِلَى ثَمَانِيَة عشر نوعا، فَيصير الْمَجْمُوع اثْنَيْنِ وَسبعين، لِأَن كل وَاحِد من الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة لَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يكون القَوْل [خَاصّا بِهِ، أَو بِنَا، أَو عَاما لَهُ وَلنَا، وعَلى كل تَقْدِير من ذَلِك لَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يكون القَوْل] مقدما على الْفِعْل، أَو مُتَأَخِّرًا عَنهُ، أَو مَجْهُول التَّارِيخ، فَهَذِهِ تِسْعَة أَنْوَاع، من ضرب ثَلَاثَة فِي ثَلَاثَة، وعَلى كل تَقْدِير مِنْهَا لَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يظْهر أَثَره فِي حَقه، أَو حَقنا، صَارَت ثَمَانِيَة عشرَة، مَضْرُوبَة فِي الْأَرْبَعَة الْأَقْسَام، كَمَا تقدم. إِذا عرف ذَلِك؛ فَقَوله: {إِذا تعَارض [قَوْله وَفعله] [وَلم يدل دَلِيل على تكرره فِي حَقه، وَلَا على التأسي] } ، فَهَذَا هُوَ الْقسم الأول، فَإِن كَانَ القَوْل خَاصّا وَتَأَخر عَن الْفِعْل: كَفِعْلِهِ شَيْئا فِي وَقت، ثمَّ يَقُول بعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1500 ذَلِك الْفِعْل على الْفَوْر، أَو متراخيا: لَا يجوز لي مثل هَذَا الْفِعْل فِي مثل هَذَا الْوَقْت، فَلَا تعَارض بَينهمَا أصلا فِي حَقه، وَلَا فِي حق أمته؛ لِإِمْكَان الْجمع، لعدم تكْرَار الْفِعْل، وَلم يكن رَافعا لحكم فِي الْمَاضِي وَلَا الْمُسْتَقْبل. أما فِي حَقه؛ فَلِأَن القَوْل لم يتَنَاوَل الزَّمَان الَّذِي وَقع فِيهِ الْفِعْل، وَالْفِعْل - أَيْضا - لم يتَنَاوَل الزَّمَان الَّذِي تعلق بِهِ القَوْل، فَلَا يكون أَحدهمَا رَافعا لحكم الآخر. وَأما فِي حق الْأمة، فَظَاهر؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لوَاحِد من القَوْل وَالْفِعْل تعلق بالأمة. وَقَوله: {وَإِن تقدم} . أَي: { [القَوْل] على الْفِعْل، كَقَوْلِه: يجب عَليّ كَذَا وَقت كَذَا، { [ويتلبس] [بضده فِيهِ] ، فالفعل نَاسخ} لحكمه، { [عِنْد من جوز النّسخ قبل التَّمَكُّن] } من الْفِعْل، كَمَا هُوَ الصَّحِيح من مَذْهَبنَا، على مَا يَأْتِي فِي النّسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1501 وَمن لم يجوزه كالمعتزلة مَنعه، وَقَالَ: لَا يتَصَوَّر صُدُور مثل هَذَا الْفِعْل بعد القَوْل إِلَّا على سَبِيل الْمعْصِيَة، لِأَن النّسخ قبل التَّمَكُّن [غير جَائِز] عِنْدهم، وَيَأْتِي الْخلاف فِي ذَلِك فِي النّسخ. وَإِن كَانَ الْفِعْل بعد التَّمَكُّن من مُقْتَضى القَوْل، لم يكن نَاسِخا لِلْقَوْلِ، إِلَّا أَن يدل دَلِيل على وجوب تكَرر مُقْتَضى القَوْل، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يكون الْفِعْل نَاسِخا، لتكرر مُقْتَضى القَوْل، ذكره الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر "، وَلم يذكرهُ ابْن الْحَاجِب، وَلَا ابْن مُفْلِح، وتابعتهما على ذَلِك. قَوْله: {وَإِن جهل، [فكالجهل الْآتِي] } . أَي: إِذا لم يعلم هَل القَوْل مقدم على الْفِعْل، أَو عَكسه؟ بل جهلنا ذَلِك، فَحكمه حكم الْجَهْل الْآتِي بعد ذَلِك، وَهُوَ قَوْلنَا: (فَإِن جهل فَلَا تعَارض فِي حَقنا، وَفِي حَقه الْخلاف) . قَالَ الْأَصْفَهَانِي: (وَإِن كَانَ القَوْل خَاصّا وَجَهل التَّارِيخ، فَحكمه حكم الْقسم الَّذِي دلّ على وجوب التّكْرَار والتأسي وَالْقَوْل خَاص بِهِ وَجَهل التَّارِيخ) انْتهى. تَنْبِيه: تقدم ثَلَاث مسَائِل فِيمَا إِذا لم يدل دَلِيل على تكرره فِي حَقه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1502 وَلَا على التأسي بِهِ، وَالْقَوْل خَاص بِهِ: إِذا تقدم القَوْل على الْفِعْل، وَعَكسه، وَالْجهل. قَوْله: {وَإِن اخْتصَّ القَوْل بِنَا، [فَلَا تعَارض مُطلقًا] } . أَعنِي: سَوَاء تقدم الْفِعْل، أَو تَأَخّر، لعدم اجْتِمَاع القَوْل وَالْفِعْل فِي مَحل وَاحِد، لِأَن الْفِعْل خَاص بِهِ، إِذْ لَا دَلِيل على وجوب التأسي بِهِ، وَالْقَوْل خَاص بِنَا، فَلم يتحد مَحلهمَا. قَوْله: { [أَو عَم] } . أَعنِي: عَم القَوْل لنا وَله، فَتَارَة يتَقَدَّم الْفِعْل، وَتارَة يتَقَدَّم القَوْل، وَتارَة يجهل. فَإِن تقدم فَلَا تعَارض فِي حَقه كَمَا سبق، وَلَا فِي حَقنا، لِأَن فعله لم يتَعَلَّق بِنَا. قَوْله: {وَإِن تقدم القَوْل، [فكالقول] الْخَاص بِهِ} . فَهُوَ فِي حَقه كَمَا سبق فِي القَوْل الْخَاص بِهِ، {وَلَا تعَارض فِي حَقنا} ؛ لِأَنَّهُمَا لم يتواردا علينا. قَوْله: {فَإِن كَانَ الْعَام ظَاهرا فِيهِ، فالفعل تَخْصِيص} ، كَمَا سَيَأْتِي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1503 قَوْله: {وَإِن دلّ [عَلَيْهِمَا] } . أَي: دلّ على التكرر فِي حَقه، وعَلى التأسي بِهِ، وَهَذَا هُوَ الْقسم الثَّانِي من الْأَرْبَعَة الْمُتَقَدّمَة، هُوَ عكس الأول. فَإِذا دلّ الدَّلِيل على التكرر فِي حَقه، وعَلى وجوب تأسي الْأمة بِهِ، { [فَإِن كَانَ القَوْل خَاصّا] بِهِ [فَلَا تعَارض فِينَا] ، [سَوَاء تقدم القَوْل، أَو الْفِعْل] } ؛ لِأَن القَوْل لم يتناولهم. { [وَأما فِي حَقه؛ فالمتأخر نَاسخ] } ، لَكِن الْفِعْل ينْسَخ القَوْل الْمُتَقَدّم بعد التَّمَكُّن من الِامْتِثَال، وَقَبله فِيهِ الْخلاف، وَمُوجب للْفِعْل علينا. قَوْله: { [وَإِن] جهل، فَلَا تعَارض [فِي حَقنا] } ؛ لِأَن القَوْل لم يعمنا. { [وَأما فِي حَقه، فَاخْتَارَ] [أَبُو الْخطاب] } فِي " التَّمْهِيد " { [و] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1504 ابْن حمدَان} فِي " الْمقنع " { [وجوب الْعَمَل] بالْقَوْل} ، لِأَن الْفِعْل يحْتَاج إِلَى القَوْل فِي بَيَان وَجه وُقُوعه. قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": (وَأما إِن لم يعلم تقدم أَحدهمَا على الآخر، فالتعلق بالْقَوْل) ، وَذكر الْقَوْلَيْنِ الآخرين وردهما. {وَقيل} : يجب الْعَمَل {بِالْفِعْلِ} ؛ لِأَنَّهُ أقوى فِي الْبَيَان. { [وَاخْتَارَ ابْن الْحَاجِب] } وَجَمَاعَة: {الْوَقْف} فِي الْمَسْأَلَة حَتَّى يتَبَيَّن التَّارِيخ؛ لِأَنَّهُ يحْتَمل تقدم الْفِعْل على القَوْل، وَبِالْعَكْسِ، [وَلَا تَرْجِيح لتقدم أَحدهمَا على الآخر، فالقطع بِوُجُوب الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا على التَّعْيِين تحكم بِلَا دَلِيل، وَهُوَ بَاطِل] . [ {و} قَالَ أَبُو الْخطاب - أَيْضا - {فِي التَّمْهِيد} - فِيمَا يرد بِهِ الْخَبَر: { (إِن ورد] خبر يُخَالف فعله، إِن لم يعمه فَلَا تعَارض، [وَإِن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1505 عَمه] تَعَارضا، [فتعمل بالتخصيص] ، ثمَّ التَّوَاتُر، ثمَّ التَّرْجِيح، ثمَّ الْوَقْف، [وَالله أعلم] ) } . قَوْله: {وَإِن اخْتصَّ القَوْل بِنَا، [فَلَا تعَارض] [فِي حَقه]- عَلَيْهِ السَّلَام - سَوَاء تقدم القَوْل، أَو تَأَخّر، لعدم تنَاول القَوْل لَهُ. [وَأما فِي حق الْأمة، إِن علم] [الْمُتَأَخر] } فَهُوَ {نَاسخ} ، سَوَاء كَانَ القَوْل مُتَقَدما وَالْفِعْل مُتَأَخِّرًا، أَو بِالْعَكْسِ، إِلَّا أَن يتَقَدَّم القَوْل على الْفِعْل، وَالْفِعْل بعد التَّمَكُّن من مُقْتَضى القَوْل، وَالْقَوْل لم يقتض التّكْرَار، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا مُعَارضَة فِي حَقنا - أَيْضا -، قَالَه الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر ". قَوْله: {فَإِن جهل} . أَي: التَّارِيخ من تقدم القَوْل أَو الْفِعْل، { [فَفِيهِ الْأَقْوَال الثَّلَاثَة] } الْمُتَقَدّمَة، وَهِي: الْعَمَل بالْقَوْل، أَو بِالْفِعْلِ، أَو الْوَقْف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1506 { [لَكِن اخْتَار] [ابْن الْحَاجِب و] ابْن قَاضِي الْجَبَل [وَغَيرهمَا] } . [الْعَمَل] } هُنَا {بالْقَوْل} . وَاسْتدلَّ لهَذَا القَوْل بِوُجُوه. أَحدهَا: أَن القَوْل أقوى دلَالَة من الْفِعْل؛ لِأَن القَوْل دلَالَته على الْوُجُوب وَغَيره بِلَا وَاسِطَة، لِأَن القَوْل وضع لذَلِك، بِخِلَاف الْفِعْل، فَإِنَّهُ لم يوضع لذَلِك. الثَّانِي: أَن الْفِعْل مَخْصُوص بالمحسوس؛ لِأَنَّهُ لَا [ينبيء] عَن الْمَعْقُول، وَالْقَوْل يدل على الْمَعْقُول والمحسوس، فَيكون أَعم فَائِدَة، فَهُوَ أولى. الثَّالِث: أَن القَوْل لم يخْتَلف فِي كَونه دَالا، وَالْفِعْل اخْتلف فِيهِ، والمتفق عَلَيْهِ أولى من الْمُخْتَلف فِيهِ. الرَّابِع: أَن الْعَمَل بِالْفِعْلِ يبطل القَوْل بِالْكُلِّيَّةِ، أما فِي حَقه عَلَيْهِ السَّلَام: فلعدم تنَاول القَوْل لَهُ، وَأما فِي حق الْأمة: فلوجوب الْعَمَل بِالْفِعْلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1507 حِينَئِذٍ، وَالْعَمَل بالْقَوْل لَا يبطل الْفِعْل بِالْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّهُ يَنْفِي الْعَمَل بِالْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَو [عَملنَا] بالْقَوْل أمكن الْجمع بَينهمَا من وَجه، وَلَو [عَملنَا] بِالْفِعْلِ لم يُمكن، وَالْجمع بَين الدَّلِيلَيْنِ وَلَو بِوَجْه أولى. وَاسْتدلَّ لوُجُوب الْعَمَل بِالْفِعْلِ: أَن الْفِعْل أقوى دلَالَة من القَوْل؛ لِأَن الْفِعْل يتَبَيَّن بِهِ القَوْل، لِأَن مثل قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، و " خُذُوا عني مَنَاسِككُم "، يدل على أَن فعله فِي الصَّلَاة ومناسك الْحَج مُبين لقَوْله: " صلوا "، و " خُذُوا ". وَكَذَا خطوط الهندسة، تدل على أَن الْفِعْل مُبين لِلْقَوْلِ، فَيكون الْفِعْل أولى، وَلِهَذَا من بَالغ فِي تفهيم، أكد قَوْله بِإِشَارَة وَنَحْوهَا. أُجِيب عَن ذَلِك: بِأَنَّهُ وَإِن كَانَ فِي الْفِعْل بَيَان، لَكِن الْبَيَان بالْقَوْل أَكثر، فَهُوَ أولى. وَإِن سلم تساويهما فِي الْبَيَان، رجح جَانب القَوْل بِمَا ذكر من الْوُجُوه الْأَرْبَعَة. {و} قَالَ { [أَبُو الْخطاب] [فِي التَّمْهِيد] : ( [إِذا تعَارض قَوْله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1508 وَفعله} من كل وَجه، فالمتأخر نَاسخ [فِيهِ وَفينَا] ، فَإِن جهل عمل بالْقَوْل} ) . انْتهى. فَإِن قيل: لم لَا يُصَار إِلَى الْوَقْف هُنَا، كَمَا فِي حَقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا سبق؟ قيل: لِأَن القَوْل بالتوقف ضَعِيف هُنَا، لأَنا متعبدون بِالْعَمَلِ، والتوقف فِيهِ إبِْطَال الْعَمَل، وَنفي للتعبد بِهِ، بِخِلَاف الَّذِي قبله، وَهُوَ التَّوَقُّف فِي حق الرَّسُول، لعدم تعبدنا بِهِ. قَوْله: {وَإِن عَم القَوْل، فالمتأخر نَاسخ [فِي حَقه وحقنا] } ، لوُجُوب تكْرَار الْفِعْل فِي حَقه، ولوجوب التأسي فِي حَقنا، قَالَه الْأَصْفَهَانِي وَغَيره. وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (وَالْمرَاد: إِن اقْتضى القَوْل التّكْرَار، فالفعل نَاسخ للتكرار، إِلَّا فَلَا مُعَارضَة، وَذكره بَعضهم) انْتهى. وَنحن أبرزنا المُرَاد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1509 وَإِن تَأَخّر الْفِعْل، فاشتغل بِهِ قبل التَّمَكُّن من الْإِتْيَان بِمُقْتَضى القَوْل، نسخ [الْفِعْل القَوْل] عندنَا، إِلَّا أَن يتَنَاوَل القَوْل لَهُ ظَاهرا، فالفعل حِينَئِذٍ [مُخَصص] لِلْقَوْلِ. وَعند الْمُعْتَزلَة: لَا يتَصَوَّر هَذَا الْفِعْل إِلَّا على سَبِيل الْمعْصِيَة، كَمَا تقدم عَنْهُم. وَإِن اشْتغل بِالْفِعْلِ [بعد] التَّمَكُّن من الْإِتْيَان، فَإِن لم يقتض القَوْل التّكْرَار، فَلَا مُعَارضَة، لَا فِي حَقه، وَلَا فِي حَقنا، وَإِن اقْتضى القَوْل التّكْرَار، فالفعل نَاسخ للتكرار، قَالَه الْأَصْفَهَانِي، وَلم نذكرهُ فِي الْمَتْن، وتابعنا فِي ذَلِك ابْن مُفْلِح، وَهُوَ تَابع ابْن الْحَاجِب، وَلم يفصل، وَحكم بِأَن الْمُتَأَخر نَاسخ للمتقدم مُطلقًا، ولعلهم اكتفوا بِمَا تقدم فِي أول الْمَسْأَلَة. قَوْله: { [فَإِن] جهل فالثلاثة} . أَي: إِن جهل التَّارِيخ، فَفِيهِ الْأَقْوَال الثَّلَاثَة، وَهِي: الْوَقْف، أَو الْعَمَل بالْقَوْل، أَو الْفِعْل، وَقد علم الْمُرَجح من ذَلِك فِيمَا تقدم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1510 قَوْله: {وَإِن دلّ} أَي: الدَّلِيل {على [تكرره فِي حَقه] ، لَا [على التأسي بِهِ فِيهِ] } ، وَهَذَا الْقسم الثَّالِث. { [فَإِن كَانَ القَوْل خَاصّا بِنَا، فَلَا مُعَارضَة] } أصلا، لَا فِي حَقه، وَلَا فِي حق الْأمة، سَوَاء تقدم الْفِعْل، أَو القَوْل، لعدم تواردهما على مَحل وَاحِد، كَمَا تقدم نَظِيره. قَوْله: {أَو بِهِ، أَو عَم} . أَعنِي: إِذا اخْتصَّ القَوْل بِهِ فَقَط، أَو [عَم] ، فشمله وَشَمل الْأمة، {فَلَا [مُعَارضَة] [فِينَا] } - أَي: فِي الْأمة - تقدم الْفِعْل، أَو تَأَخّر، لعدم تنَاول الْفِعْل لَهُم. {و} أما { [فِي حَقه] } - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - { [فالمتأخر] نَاسخ} ، إِن علم التَّارِيخ. قَوْله: {فَإِن جهل} . أَي: التَّارِيخ، فِي حَقه { [فَفِيهِ الْأَقْوَال الثَّلَاثَة] } الْمُتَقَدّمَة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1511 قَوْله: {وَإِن دلّ على [عَكسه] } . أَي: دلّ الدَّلِيل على التأسي بِهِ، لَا على تكَرر الْفِعْل { [فِي حَقه] } ، وَهَذَا هُوَ الْقسم الرَّابِع. { [فَإِن كَانَ القَوْل خَاصّا بِهِ] ، وَتَأَخر} عَن الْفِعْل {فَلَا [مُعَارضَة] } . أما فِي حَقه: فلعدم وجوب تكَرر الْفِعْل. وَأما فِي حق الْأمة: فلعدم توارد القَوْل وَالْفِعْل على مَحل وَاحِد. قَوْله: {وَإِن تقدم} . أَي: القَوْل على الْفِعْل، {فالفعل نَاسخ فِي حَقه} ، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَابْن الْحَاجِب. قَالَ الْأَصْفَهَانِي: (وَإِن تقدم القَوْل على الْفِعْل، فالفعل نَاسخ لِلْقَوْلِ قبل التَّمَكُّن من الْإِتْيَان بِمُقْتَضى القَوْل، وَفِيه الْخلاف الْمَذْكُور) انْتهى. قَوْله: {فَإِن جهل، فالثلاثة} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1512 أَي: إِن جهل التَّارِيخ، فَفِيهِ الْأَقْوَال الثَّلَاثَة الْمُتَقَدّمَة، وَالْمُخْتَار لِابْنِ الْحَاجِب وَغَيره: الْوَقْف. قَوْله: {وَإِن اخْتصَّ} القَوْل {بِنَا، [فَلَا تعَارض] [فِي حَقه] } ، تقدم القَوْل، أَو تَأَخّر، لعدم [تواردهما] على مَحل وَاحِد. { [وَأما فِي حق الْأمة] ، فالمتأخر نَاسخ} ، سَوَاء كَانَ قولا، أَو فعلا. {فَإِن جهل [التَّارِيخ، فَفِيهِ الْأَقْوَال الثَّلَاثَة] } الْمُتَقَدّمَة، وَالْمُخْتَار: الْعَمَل بالْقَوْل عِنْد ابْن الْحَاجِب، وَمن تَابعه: كَابْن قَاضِي الْجَبَل. قَوْله: {وَإِن عَم، وَتقدم الْفِعْل، فَلَا [مُعَارضَة] [فِي حَقه] } - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعدم وجوب تكَرر الْفِعْل. { [وَأما فِي حق الْأمة، فَالْقَوْل الْمُتَأَخر] نَاسخ} للْفِعْل [قبل] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1513 وُقُوع التأسي بِهِ، وَبعده نَاسخ للتكرار فِي حَقهم، إِن دلّ دَلِيل على وجوب التّكْرَار فِي حَقهم، قَالَه الْأَصْفَهَانِي. قَوْله: { [وَإِن] تقدم القَوْل، فالفعل نَاسخ} لِلْقَوْلِ فِي حَقه قبل التَّمَكُّن من الْإِتْيَان بِمُقْتَضى القَوْل، إِلَّا أَن يتَنَاوَل الْعُمُوم لَهُ ظَاهرا، فَإِنَّهُ يكون الْفِعْل تَخْصِيصًا لِلْقَوْلِ. وَفِي حق الْأمة: إِن كَانَ الدَّلِيل على وجوب التأسي مَخْصُوصًا بذلك الْفِعْل فنسخ، وَإِلَّا فتخصيص. قَوْله: {وَبعد التَّمَكُّن من الْعَمَل [بِمُقْتَضى القَوْل، لَا مُعَارضَة] ، [لَا فِي حَقه، وَلَا فِي حق الْأمة] ، إِلَّا أَن يَقْتَضِي القَوْل التّكْرَار، فالفعل نَاسخ [لَهُ] } ، وَهِي من تَتِمَّة الَّتِي قبلهَا. {فَإِن جهل، [فَفِيهِ الْمذَاهب الثَّلَاثَة] } الْمُتَقَدّمَة. قَالَ الْأَصْفَهَانِي: (وَاعْلَم أَن فِي بعض الْأَقْسَام تَفْصِيلًا، وتختلف فِيهِ الْأَحْكَام، وَابْن الْحَاجِب أهمله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1514 - قَالَ -: وَنحن تعرضنا لبَعض مِنْهَا، وأعرضنا عَن الْبَعْض الآخر، اعْتِمَادًا على اسْتِخْرَاج المحصل الفطن أَحْكَامه بِقُوَّة الْبَاقِي) انْتهى. وَنحن تابعنا على ذَلِك. قَوْله: {فَائِدَة: فعل [الصَّحَابِيّ] مَذْهَب لَهُ فِي الْأَصَح} . إِذا فعل الصَّحَابِيّ فعلا، فَهَل يكون ذَلِك الْفِعْل مذهبا لَهُ؟ فِيهِ وَجْهَان. لهَذِهِ الْمَسْأَلَة تعلق بِمَا قبلهَا من الْأَفْعَال. قتل بعض أَصْحَابنَا: (فعل الصَّحَابِيّ هَل هُوَ مَذْهَب لَهُ؟ فِيهِ وَجْهَان، وَفِي الِاحْتِجَاج بِهِ نظر، وَاحْتج القَاضِي فِي " الْجَامِع الْكَبِير " فِي قَضَاء الْمغمى عَلَيْهِ للصَّلَاة بِفعل عمار وَغَيره، وَقَالَ: (فعل الصَّحَابَة إِذا خرج مخرج الْقرْبَة يَقْتَضِي الْوُجُوب، كَفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَأتم السَّلَام -) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1515 وَقد قَالَ قوم: (لَو تصور اتِّفَاق أهل الْإِجْمَاع على عمل، لَا قَول مِنْهُم فِيهِ، كَانَ كَفعل الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لثُبُوت الْعِصْمَة) . وَاخْتَارَهُ أَبُو الْمَعَالِي، خلافًا لِابْنِ الباقلاني. قَالَ بعض أَصْحَابنَا: (الأول قَول الْجُمْهُور، حَتَّى أحالوا الْخَطَأ مِنْهُم فِيهِ، إِذا لم يشترطوا انْقِرَاض الْعَصْر) انْتهى. قلت: تَأتي هَذِه الْمَسْأَلَة قَرِيبا فِي أول الْإِجْمَاع، وَالله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1516 فارغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1517 بَاب الْإِجْمَاع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1520 قَوْله: {بَاب الْإِجْمَاع} {لُغَة: الْعَزْم والاتفاق} . قَالَ الله تَعَالَى: {فَأَجْمعُوا أَمركُم} [يُونُس: 71] ، أَي: اعزموا. وَيصِح إِطْلَاقه على الْوَاحِد، يُقَال: أجمع فلَان على كَذَا، أَي: عزم عَلَيْهِ، وَيُقَال: أجمع الْقَوْم على كَذَا، أَي: اتَّفقُوا عَلَيْهِ. فَكل أَمر من الْأُمُور اتّفقت عَلَيْهِ طَائِفَة فَهُوَ إِجْمَاع لُغَة. وأجمعت الْمسير وَالْأَمر، وأجمعت عَلَيْهِ يتَعَدَّى بِنَفسِهِ وبالحرف: عزمت عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيث: " من لم يجمع الصّيام قبل الْفجْر فَلَا صِيَام لَهُ "، أَي: من لم يعزم عَلَيْهِ فينويه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1521 قَوْله: {وَاصْطِلَاحا} ، أَي: الْإِجْمَاع فِي اصْطِلَاح عُلَمَاء الشَّرِيعَة: {اتِّفَاق مجتهدي الْأمة فِي عصر على أَمر، وَلَو فعلا، بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -} . فَقَوله: {اتِّفَاق} : احْتِرَاز من الِاخْتِلَاف، فَلَا يكون إِجْمَاعًا مَعَ الِاخْتِلَاف وَسَيَأْتِي الْخلاف فِيمَا إِذا خَالف وَاحِد، أَو اثْنَان، أَو أَكثر محرراً مفصلا. وَالْمرَاد بالِاتِّفَاقِ: اتِّحَاد الِاعْتِقَاد، فَيعم الْأَقْوَال، وَالْأَفْعَال وَالسُّكُوت والتقرير، وَسَيَأْتِي حكم الْإِجْمَاع السكوتي، والفعلي. وَقَوله: {مجتهدي الْأمة} : احْتِرَاز من غير الْمُجْتَهد فَلَا يعْتَبر فِي الْإِجْمَاع على الصَّحِيح، وَتَأْتِي قَرِيبا أَحْكَام الْعَاميّ، وَمن لم يكمل شُرُوط الِاجْتِهَاد، من أصولي، وفروعي، ونحوي، وَغَيرهم فِي الْأَحْكَام. وَقَوله: {الْأمة} : احْتِرَاز من غير هَذِه الْأمة، وَفِي غير هَذِه الْأمة من سَائِر الْأُمَم خلاف فِي إِجْمَاعهم، يَأْتِي محرراً إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1522 وَقَوله: {فِي عصر} : يَشْمَل أَي عصر كَانَ، احْتِرَاز عَن قَول من قَالَ: إِن الْإِجْمَاع مَخْصُوص بالصحابة على مَا يَأْتِي ذكر الْخلاف فِيهِ. وَقَوله: {على أَمر} : يعم جَمِيع الْأُمُور من الْفِعْل، وَالْأَمر الدنيوي، واللغوي، وَغَيرهمَا، وَيَأْتِي لَك علمه فِي موَاضعه مفصلا. وَقَوله: {وَلَو فعلا} إِنَّمَا أبرزته وَإِن كَانَ دَاخِلا فِي قَوْله: {على أَمر} ؛ للإيضاح وَالْبَيَان والتأكيد. وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَا إِذا اتَّفقُوا على فعل فَعَلُوهُ، أَو فعل الْبَعْض، وَسكت الْبَعْض مَعَ علمهمْ، هَل يكون إِجْمَاعًا أم لَا؟ والأرجح أَن ينْعَقد بِهِ الْإِجْمَاع لعصمة الْأمة، فَيكون كالقول الْمجمع عَلَيْهِ، وكفعل الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب من أَصْحَابنَا، وَقطع بِهِ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَاخْتَارَهُ الْغَزالِيّ فِي " المنخول " وَصرح بِهِ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ فِي " الْمُعْتَمد "، وَتَبعهُ فِي " الْمَحْصُول ". قَالَ بعض أَصْحَابنَا: هُوَ قَول الْجُمْهُور، ... ... ... ... ... ... . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1523 حَتَّى أحالوا الْخَطَأ مِنْهُم إِذا لم يشترطوا انْقِرَاض الْعَصْر. وَقيل: لَا ينْعَقد الْإِجْمَاع بِهِ، وَنَقله أَبُو الْمَعَالِي عَن ابْن الباقلاني، بل كَون ذَلِك فِي وَقت وَاحِد رُبمَا لَا يتَصَوَّر. وَيتَفَرَّع على الْمَسْأَلَة إِذا فعلوا فعلا قربَة، وَلَكِن لَا يعلم هَل فَعَلُوهُ وَاجِبا، أَو مَنْدُوبًا؟ فَمُقْتَضى الْقيَاس أَنه كَفعل الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لأَنا أمرنَا باتبَاعهمْ كم أمرنَا باتباعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَقَالَ القَاضِي فِي " الْعدة "، وَأَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": الْإِجْمَاع اتِّفَاق عُلَمَاء الْعَصْر على حكم حَادِثَة. وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد " فِي مَكَان آخر: على أَمر، فعل أَو ترك. وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " كَمَا قَالَا إِلَّا أَنه أبدل عُلَمَاء بفقهاء، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1524 فَقَالَ: هُوَ اتِّفَاق فُقَهَاء الْعَصْر على حكم حَادِثَة. قَالَ: وَقَالَ قوم: عُلَمَاء، وَذَلِكَ حد بالمشترك؛ لِأَن اتِّفَاق النُّحَاة والمفسرين غير حجَّة، وهم عُلَمَاء، وَلَا يعْتد بهم فِي حَادِثَة. وَهَذَا فِيهِ خلاف يَأْتِي قَرِيبا. وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": اتِّفَاق عُلَمَاء الْعَصْر على حكم شَرْعِي. وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي فِي " مختصرها ": على أَمر ديني، فَلَا يَشْمَل الْأَمر الدنيوي، واللغوي وَنَحْوهمَا على مَا يَأْتِي آخر الْإِجْمَاع مفصلا، وَكَذَا قَالَ الْغَزالِيّ. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ مُرَاده بقوله: (أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) ، فَلَا يرد عَلَيْهِ أَنه لَا يُوجد اتِّفَاقهم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَأَنه لَا يطرد بِتَقْدِير عدم مُجْتَهد فِي عصر، اتّفقت عوامه على أَمر ديني، لكنه لَا ينعكس بِتَقْدِير اتِّفَاق الْمُجْتَهدين على أَمر عَقْلِي، أَو عرفي، إِلَّا أَن يكون كَمَا قيل: لَيْسَ إِجْمَاعًا عِنْده. انْتهى. قَوْله: {وَأنكر النظام وَبَعض الرافضة ثُبُوته} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1525 وَرُوِيَ عَن أَحْمد، وَحمل على الْوَرع، أَو على غير عَالم بِالْخِلَافِ، أَو على تعذر معرفَة الْكل، أَو على الْعَام النطقي أَو بعده، أَو غير الصَّحَابَة} . تنوعت أَقْوَال الْأَصْحَاب وَغَيرهم فِي حمل كَلَام الإِمَام أَحْمد فِي كَونه أنكر الْإِجْمَاع. وَأما النظام فَلهُ قَولَانِ فِي ثُبُوته، وَالْأَشْهر عَنهُ إِنْكَاره. وَأما الإِمَام أَحْمد فَقَالَ فِي رِوَايَة عبد الله: من ادّعى الْإِجْمَاع فقد كذب، لَعَلَّ النَّاس اخْتلفُوا. هَذِه دَعْوَى بشر المريسي والأصم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1526 وَفِي رِوَايَة الْمَرْوذِيّ: كَيفَ يجوز أَن يَقُول: أَجمعُوا، إِذا سَمِعْتُمْ يَقُولُونَ: أَجمعُوا فَاتَّهمهُمْ، وَإِنَّمَا وضع هَذَا لوضع الْأَخْبَار، وَقَالُوا: الْأَخْبَار لَا تجب بهَا حجَّة، وَقَالُوا: القَوْل بِالْإِجْمَاع، وَإِن ذَلِك قَول ضرار. وَقَالَ فِي رِوَايَة أبي الْحَارِث: لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يَدعِي الْإِجْمَاع، وَأول من قَالَ: أَجمعُوا، ضرار. هَذَا الْوَارِد عَن الإِمَام أَحْمد فِي ذَلِك. وَقد اخْتلف الْأَصْحَاب فِي صفة حمل هَذِه الرِّوَايَات: فَقَالَ القَاضِي: ظَاهره منع صِحَة الْإِجْمَاع، وَإِنَّمَا هَذَا على الْوَرع، أَو فِيمَن لَيست لَهُ معرفَة بِخِلَاف السّلف لما يَأْتِي. وَكَذَا أجَاب أَبُو الْخطاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1527 وَحمله ابْن عقيل على الْوَرع، أَو لَا يُحِيط علما بِهِ غَالِبا. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: هَذَا نهي عَن [دَعْوَى] الْإِجْمَاع الْعَام النطقي. وَقَالَ أَيْضا: الظَّاهِر إِمْكَان وُقُوعه، وَأما إِمْكَان الْعلم بِهِ فَأنكرهُ غَيره وَاحِد من الْأَئِمَّة، كَمَا يُوجد فِي كَلَام أَحْمد وَغَيره. وَذكر الْآمِدِيّ أَن بَعضهم خَالف فِي تصَوره، وَأَن الْقَائِلين بِهِ خَالف بَعضهم فِي إِمْكَان مَعْرفَته، مِنْهُم: أَحْمد فِي رِوَايَة. وَتبع ابْن حمدَان الْآمِدِيّ، وَقَالَ: مُرَاد أَحْمد تعذر معرفَة كل المجمعين لَا أَكْثَرهم. وَقَالَ ابْن رَجَب فِي آخر " شرح التِّرْمِذِيّ ": وَأما مَا رُوِيَ من قَول الإِمَام أَحْمد: من ادّعى الْإِجْمَاع فقد كذب فَهُوَ إِنَّمَا قَالَه إنكاراً على فُقَهَاء الْمُعْتَزلَة الَّذين يدعونَ إِجْمَاع النَّاس على مَا يَقُولُونَهُ، وَكَانُوا من أقل النَّاس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1528 معرفَة بأقوال الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَحمل ابْن تَيْمِية قَوْله ذَلِك على إِجْمَاع غير الصَّحَابَة؛ لانتشارهم، أما الصَّحَابَة فمعرفون محصورون. انْتهى. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": قلت: الَّذِي أنكرهُ أَحْمد دَعْوَى إِجْمَاع الْمُخَالفين بعد الصَّحَابَة، أَو بعدهمْ وَبعد التَّابِعين، أَو بعد الْقُرُون الثَّلَاثَة المحمودة، وَلَا يكَاد يُوجد فِي كَلَامه احتجاج بِإِجْمَاع بعد عصر التَّابِعين، أَو بعد الْقُرُون الثَّلَاثَة. انْتهى. قَالُوا: إِن كَانَ عَن دَلِيل قَاطع فَعدم نَقله مُسْتَحِيل عَادَة، والظني يمْتَنع اتِّفَاقهم فِيهِ عَادَة لتباين قرائحهم، ودواعيهم الْمُقْتَضِيَة لاختلافهم. رد بمنعها للاستغناء عَن نَقله الْقَاطِع بِالْإِجْمَاع، وَكَون الظني جلياً تتفق فِيهِ القرائح. قَالُوا: تفرقهم فِي أَطْرَاف الأَرْض يمْنَع نقل الحكم إِلَيْهِم عَادَة. رد بِالْمَنْعِ لجدهم فِي الْأَحْكَام، وبحثهم عَنْهَا. قَالُوا: الْعَادة تحيل ثُبُوته عَنْهُم لخفاء بَعضهم أَو كذبه، أَو رُجُوعه قبل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1529 قَول غَيره، ثمَّ لَو جَازَ الْعلم بِثُبُوتِهِ لم يَقع الْعلم بِهِ؛ لِأَن الْعَادة تحيل نَقله لبعد التَّوَاتُر، وَلَا يُفِيد الْآحَاد، وَرُبمَا لَو علم بحصرهم، وَبِأَن تعذره لَا يمْنَع كَونه حجَّة كَقَوْل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَبِأَن الْعلمَاء كالأعلام لَا سِيمَا الصَّحَابَة، وبالقطع بِتَقْدِيم النَّص الْقَاطِع على الظَّن. ورده بعض أَصْحَابنَا والآمدي: بِاتِّفَاق أهل الْكتاب على بَاطِل، وَلم نَعْرِف مستندهم من قَول مُتبع يقلدونه. وَنقض بعض أَصْحَابنَا والآمدي وَغَيرهم بِالْإِجْمَاع على أَرْكَان الْإِسْلَام وَطَرِيق علمهَا لَيْسَ ضَرُورِيًّا، والوقوع دَلِيل التَّصَوُّر وَزِيَادَة. قَوْله: {وَهُوَ حجَّة قَاطِعَة} ، هَذَا مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَعْلَام وأتباعهم، مِنْهُم الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وأتباعهم، وَغَيرهم من الْمُتَكَلِّمين وَغَيرهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1530 وَخَالف النظام، وَبَعض المرجئة، والشيعة، والخوارج، وَغَيرهم. وَقَالَ الْآمِدِيّ، والرازي: هُوَ حجَّة ظنية، لَا قَطْعِيَّة، نَقله عَنْهُمَا الْبرمَاوِيّ. وَقيل: حجَّة ظنية فِي الْإِجْمَاع السكوتي وَنَحْوه. قَالَ الْبرمَاوِيّ: فصل الْمُحَقِّقُونَ بَين الْإِجْمَاع الَّذِي لَا خلاف فِي ثُبُوته فَيكون انْعِقَاده قَطْعِيا، وَبَين الَّذِي فِيهِ خلاف، كالإجماع السكوتي، وَمَا لم ينقرض عصره، وَالْإِجْمَاع [بعد] الِاخْتِلَاف، وَمَا ندر الْمُخَالف فِيهِ عِنْد من يرَاهُ، وَنَحْو ذَلِك، فَلَا يكون قَطْعِيا. انْتهى. اسْتدلَّ لِلْقَوْلِ الأول بقوله تَعَالَى: (وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1531 الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيراً} [النِّسَاء: 115] . احْتج بهَا الإِمَام الشَّافِعِي، وَغَيره؛ لِأَنَّهُ توعد على مُتَابعَة غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ، وَإِنَّمَا يجوز لمفسدة مُتَعَلقَة بِهِ وَلَيْسَت من جِهَة المشاقة، وَإِلَّا كَانَت كَافِيَة. والسبيل: الطَّرِيق، فَلَو خص بِكفْر أَو غَيره كَانَ اللَّفْظ مُبْهما، وَهُوَ خلاف الأَصْل، وَالْمُؤمن حَقِيقَة فِي الْحَيّ المتصف بِهِ. ثمَّ عُمُومه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة يبطل المُرَاد. وَهُوَ الْحَث على مُتَابعَة سبيلهم، وَالْجَاهِل غير مُرَاد. ثمَّ الْمَخْصُوص حجَّة، والسبيل عَام، والتأويل بمتابعة الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو بمتابعتهم فِي الْإِيمَان، أَو الِاجْتِهَاد لَا ضَرُورَة إِلَيْهِ، فَلَا يقبل. وَلَيْسَ تبين الْهدى شرطا للوعيد بالاتباع بل للمشاقة؛ لِأَن إِطْلَاقهَا لمن عرف الْهدى أَولا؛ وَلِأَن تَبْيِين الْأَحْكَام الفروعية لَيْسَ شرطا فِي المشاقة، فَإِن من تبين لَهُ صدق الرَّسُول وَتَركه فقد شاقه وَلَو جهلها. وَقَول الإمامية المُرَاد بِهِ من فيهم مَعْصُوم؛ لِأَن سبيلهم حِينَئِذٍ حق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1532 بِخِلَاف الظَّاهِر، وَتَخْصِيص بِلَا ضَرُورَة، وَلَا دَلِيل لَهُم على الْعِصْمَة. وَمَا قيل من أَن الْآيَة ظَاهِرَة، وَلَا دَلِيل على أَن الظَّاهِر حجَّة إِلَّا الْإِجْمَاع فَيلْزم الدّور، مَمْنُوع لجَوَاز نَص قَاطع على أَنه حجَّة، أَو اسْتِدْلَال قَطْعِيّ؛ لِأَن الظَّاهِر مظنون، وَهُوَ حجَّة؛ لِئَلَّا يلْزم رفع النقيضين، أَو اجْتِمَاعهمَا، أَو الْعَمَل بالمرجوح وَهُوَ خلاف الْعقل. وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ} [النِّسَاء: 59] والمشروط عدم عِنْد عدم شَرطه، فاتفاقهم كَاف. وَاعْترض: عدم الرَّد إِلَى الْكتاب وَالسّنة عِنْد الْإِجْمَاع إِن بني الْإِجْمَاع على أَحدهمَا فَهُوَ كَاف، وَإِلَّا فَفِيهِ تَجْوِيز الْإِجْمَاع بِلَا دَلِيل، ثمَّ لَا نسلم عدم الشَّرْط؛ فَإِن الْكَلَام مَفْرُوض فِي نزاع مجتهدين متأخرين لإِجْمَاع سَابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1533 رد الأول: بِأَن الْإِجْمَاع إِن احْتَاجَ إِلَى مُسْتَند فقد يكون قِيَاسا. وَالثَّانِي: مُشكل جدا، قَالَه الْآمِدِيّ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخطاب أَن مُرَاد الْآيَة: فِيمَا لَا نعلم أَنه خطأ، وَإِن ظنناه رددناه إِلَى الله وَرَسُوله. وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تفَرقُوا} [آل عمرَان: 103] وَخلاف الْإِجْمَاع تفرق، وَالنَّهْي عَن التَّفَرُّق لَيْسَ فِي الِاعْتِصَام للتَّأْكِيد وَمُخَالفَة الظَّاهِر، وتخصيصه بهَا قبل الْإِجْمَاع لَا يمْنَع الِاحْتِجَاج بِهِ، وَلَا يخْتَص الْخطاب بالموجودين زَمَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَن التَّكْلِيف لكل من وجد مُكَلّفا كَمَا سبق. وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُم خير أمة ... .} [آل عمرَان: 110] ، فَلَو اجْتَمعُوا على بَاطِل كَانُوا قد اجْتَمعُوا على مُنكر لم ينهوا عَنهُ، ومعروف لم يؤمروا بِهِ، وَهُوَ خلاف مَا وَصفهم الله بهم؛ وَلِأَنَّهُ جعلهم أمة وسطا، أَي: عُدُولًا، وَرَضي بِشَهَادَتِهِم مُطلقًا. وعَلى ذَلِك اعتراضات وأجوبة يطول الْكتاب بذكرها. وَعَن أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ مَرْفُوعا " إِن الله تَعَالَى أجاركم من ثَلَاث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1534 خلال: أَن لَا يَدْعُو عَلَيْكُم نَبِيكُم فَتَهْلكُوا جَمِيعًا، وَأَن لَا يظْهر أهل الْبَاطِل على أهل الْحق، وَأَن لَا تجتمعوا على ضَلَالَة " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَن ابْن عمر مَرْفُوعا: " لَا تَجْتَمِع هَذِه الْأمة على ضَلَالَة أبدا " رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ. وَعَن أنس مَرْفُوعا: " إِن أمتِي لَا تَجْتَمِع على ضَلَالَة، فَإِذا رَأَيْتُمْ الِاخْتِلَاف فَعَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم الْحق وَأَهله " رَوَاهُ ابْن مَاجَه، وَابْن أبي عَاصِم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1535 وَعَن أبي ذَر مَرْفُوعا: " عَلَيْكُم بِالْجَمَاعَة، فَإِن الله تَعَالَى لم يجمع أمتِي إِلَّا على هدى " رَوَاهُ أَحْمد. وَعَن أبي ذَر مَرْفُوعا: " من فَارق الْجَمَاعَة شبْرًا فقد خلع ربقة الْإِسْلَام من عُنُقه " رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد. وَلَهُمَا عَن مُعَاوِيَة مَرْفُوعا: " أَن هَذِه الْأمة: سَتَفْتَرِقُ على ثَلَاث وَسبعين - يَعْنِي مِلَّة - ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّار وَوَاحِدَة فِي الْجنَّة، وَهِي الْجَمَاعَة ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1536 وَعَن ابْن عمر مَرْفُوعا: " إِن الله لَا يجمع أمتِي - أَو قَالَ - أمة مُحَمَّد على ضَلَالَة، وَيَد الله على الْجَمَاعَة، وَمن شَذَّ شَذَّ فِي النَّار " رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ. وَعَن أبي بصرة الْغِفَارِيّ مَرْفُوعا: سَأَلت الله أَن لَا يجمع أمتِي على ضَلَالَة فَأَعْطَانِيهَا " رَوَاهُ أَحْمد. وَعَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: " من رأى من أميره شَيْئا يكرههُ فليصبر؛ فَإِنَّهُ من فَارق الْجَمَاعَة شبْرًا فَمَاتَ فميتته جَاهِلِيَّة ". وَعَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: " من خرج من الطَّاعَة وَفَارق الْجَمَاعَة فَمَاتَ مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة " مُتَّفق عَلَيْهِ. وَعَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا: " ثَلَاث لَا يغل عَلَيْهِنَّ قلب مُسلم: إخلاص الْعَمَل لله، والنصيحة للْمُسلمين، وَلُزُوم جَمَاعَتهمْ " رَوَاهُ الشَّافِعِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1537 وَلأَحْمَد مثله. وَعَن ثَوْبَان مَرْفُوعا: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق، لَا يضرهم من خذلهم حَتَّى يَأْتِي أَمر الله وهم كَذَلِك ". وَفِي حَدِيث جَابر: " إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ". وَفِي حَدِيث جَابر بن سَمُرَة: " حَتَّى تقوم السَّاعَة " رَوَاهُ مُسلم. وَعَن ابْن عمر مَرْفُوعا: " عَلَيْكُم بِالْجَمَاعَة، وَإِيَّاكُم والفرقة، فَإِن الشَّيْطَان مَعَ الْوَاحِد، وَهُوَ من الِاثْنَيْنِ أبعد، من أَرَادَ بحبوحة الْجنَّة فليلزم الْجَمَاعَة ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1538 رَوَاهُ الشَّافِعِي، وَأحمد، وَعبد بن حميد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَغَيرهم. وَعَن ابْن مَسْعُود: " مَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن، وَمَا رَآهُ الْمُسلمُونَ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْد الله سيئ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ. قَالَ الْآمِدِيّ وَغَيره: السّنة أقرب الطّرق إِلَى كَون الْإِجْمَاع حجَّة قَاطِعَة. فَإِن قيل: آحَاد، سلمنَا التَّوَاتُر، لَكِن يحْتَمل أَنه أَرَادَ عصمتهم عَن الْكفْر بِلَا تَأْوِيل وشبهة، أَو عَن الْخَطَأ فِي الشَّهَادَة فِي الْآخِرَة، أَو فِيمَا يُوَافق الْمُتَوَاتر. وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ كل الْأمة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، ثمَّ لم يلْزم أَنه حجَّة على الْمُجْتَهدين، لَا سِيمَا إِن قيل: كل مُجْتَهد مُصِيب. رد بِالْقطعِ بمجموعها: إِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قصد تَعْظِيم أمته، وَبَيَان عصمتها من الْخَطَأ، كالقطع بجود حَاتِم الطَّائِي، فَهُوَ متواترة معنى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1539 وَفِي كَلَام القَاضِي، وَهُوَ معنى كَلَام الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": لَا بُد لكثرتها من صِحَة بعض لَفظهَا؛ وَلِأَن الْأمة تلقتها بِالْقبُولِ، وَالظَّن يُفِيد فِي مَسْأَلَة علمية لوُجُوب الْعَمَل بِهِ، وَلَو وجد مُنكر لاشتهر عَادَة، والاحتجاج فِي الْأُصُول بِمَا لَا صِحَة لَهُ مُسْتَحِيل عَادَة. وَأجَاب القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل أَيْضا: بِأَن الْإِجْمَاع مَسْأَلَة شَرْعِيَّة، طَرِيقه طَرِيق مسَائِل الْفُرُوع. وَقَالَ الْحلْوانِي من أَصْحَابنَا: مَا ذكره ابْن عقيل وَغَيره: يثبت مسَائِل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1540 أصُول الْفِقْه بِالظَّنِّ، وَلَا يفسق الْمُخَالف، وَبِه قَالَ أَكثر الْفُقَهَاء والمتكلمين. وَخَالف بعض الأشعرية وَهُوَ ابْن اللبان فِي الأولى كبعض الْمُتَكَلِّمين فِي الثَّانِيَة، وَيَأْتِي هَذَا آخر الْإِجْمَاع. وَاسْتدلَّ أَيْضا: أَجمعُوا على الْقطع بتخطئة الْمُخَالف، وَالْعَادَة تحيل إِجْمَاع عدد كثير من الْمُحَقِّقين على قطع فِي شَرْعِي من غير قَاطع، فَوَجَبَ تَقْدِير نَص فِيهِ. وَأَجْمعُوا - أَيْضا - على تَقْدِيمه على الدَّلِيل الْقَاطِع، فَكَانَ قَاطعا وَإِلَّا تعَارض الإجماعان لتقديم الْقَاطِع على غَيره إِجْمَاعًا، وَهَذَانِ الإجماعان لَا يلْزم أَن عددهما عدد التَّوَاتُر وَإِن لزم فيهمَا فَلَا يلْزم فِي كل إِجْمَاع. ورد الْآمِدِيّ، وَبَعضه فِي كَلَام غَيره: بِأَن من قَالَ ذَلِك اعْتبر فِي الْإِجْمَاع عدد التَّوَاتُر، وَأَنه يلْزمه أَن لَا يخْتَص الْإِجْمَاع بِأَهْل الْحل وَالْعقد من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1541 الْمُسلمين، بل عَام فِي كل من بلغ [عَددهمْ] عدد التَّوَاتُر وَإِن لم يَكُونُوا مُسلمين فضلا عَن أهل الْحل وَالْعقد. وَذكر بعض أَصْحَابنَا: أَن أَجود الْأَدِلَّة الْإِجْمَاع الثَّانِي. وَاسْتدلَّ: يمْتَنع عَادَة إِجْمَاعهم على مظنون، فَدلَّ على قَاطع. رد: بِمَنْعه فِي قِيَاس جلي، وأخبار آحَاد بعد علمهمْ بِوُجُوب الْعَمَل بمظنون. قَالُوا: {تبياناً لكل شَيْء} [النَّحْل: 89] ، {فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} [النِّسَاء: 59] ، {فَحكمه إِلَى الله} [الشورى: 10] ،) وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} [الْأَعْرَاف: 33] . رد: لَا يلْزم أَن لَا يكون الْإِجْمَاع تبياناً وَلَا حجَّة عِنْد التوافق. ثمَّ يلْزم عَلَيْهِ السّنة، ثمَّ إِنَّمَا ثَبت حجَّة بِالْكتاب وَالسّنة وَالظَّن لَا يُعَارض الْقطع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1542 قَالُوا: فِي " الصِّحَاح ": " لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا "، وَقَوله: " حَتَّى إِذا لم يبْق عَالما اتخذ النَّاس رؤساً جُهَّالًا ". رد: المُرَاد بعض الْأمة، والعصمة إِنَّمَا تثبت للمجموع. ثمَّ الْجَوَاز عَقْلِي لَا يلْزم مِنْهُ الْوُقُوع، وَيَأْتِي خلو الْعَصْر عَن مُجْتَهد. قَالُوا: روى أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما بعث معَاذًا إِلَى الْيمن قَالَ: " كَيفَ تقضي إِذا عرض لَك قَضَاء؟ " قَالَ: أَقْْضِي بِكِتَاب الله تَعَالَى، قَالَ: " فَإِن لم تَجِد؟ " قَالَ: فبسنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قَالَ: " فَإِن لم تَجِد؟ "، قَالَ: أجتهد رَأْي وَلَا آلو. فَضرب بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي وفْق رَسُول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما يُرْضِي رَسُول الله ". وَفِي إِسْنَاده مَجْهُول، وَلَيْسَ بِمُتَّصِل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1543 وَرَوَاهُ سعيد فِي " سنَنه "، قَالَ: (لما بعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - معَاذًا إِلَى الْيمن) ، وَفِيه بعد الْكتاب: (بِمَا يقْضِي بِهِ نبيه) ثمَّ قَالَ: (أَقْْضِي بِمَا قضى الصالحون) ، ثمَّ قَالَ: (أؤم الْحق جهدي) ، فَقَالَ: " الْحَمد لله الَّذِي جعل رَسُول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقْضِي بِمَا يُرْضِي بِهِ رَسُول الله ". مُرْسل جيد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1544 رد: بِأَن الْإِجْمَاع لم يكن حجَّة فِي زَمَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قَالُوا: كغيرهم من الْأُمَم قبل النّسخ. ورده أَبُو الْخطاب وَغَيره من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم: بِأَنَّهُ لَا دَلِيل عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن عقيل: يحْتَمل أَن نقُوله: وَالْفرق بتطرق النّسخ على الْأُمَم، وتجدد الْأَنْبِيَاء. وَتَأْتِي هَذِه الْمَسْأَلَة قَرِيبا. قَوْله: {بِالشَّرْعِ} ، أَي: دلَالَة كَون الْإِجْمَاع حجَّة قَاطِعَة بِالشَّرْعِ فَقَط، وَذَلِكَ للدلالة الْوَارِدَة من الْكتاب وَالسّنة فِي ذَلِك كَمَا تقدم ذكره، وَبَيَانه فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا. وَهَذَا عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء، وَقطع بِهِ كثير مِنْهُم. وَقيل: وَالْعقل أَيْضا، أَعنِي أَن دلَالَة كَون الْإِجْمَاع حجَّة قَاطِعَة تحصل بِالْعقلِ أَيْضا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1545 قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": دلَالَة كَون الْإِجْمَاع حجَّة هُوَ الشَّرْع، وَقيل: الْعقل أَيْضا. نثبت حجَّته إِمَّا بِالسَّمْعِ، وَإِمَّا بِالْعقلِ، والسمع إِمَّا الْكتاب وَإِمَّا السّنة، وَتثبت السّنة بالتواتر الْمَعْنَوِيّ، وَثُبُوت بَعْضهَا، وَبِأَن الْعَادة وَالدّين يمنعاه من تَصْدِيق مَا لم يثبت، وَمن مُعَارضَة القواطع بِمَا لَيْسَ بقاطع، وَالْعقل إِمَّا الْعَادة الطبيعية وَإِمَّا دين السّلف الشَّرْعِيّ الْمَانِع من الْقطع بِمَا لَيْسَ بِحَق، انْتهى. وَيُؤْخَذ هَذَا من كَلَام ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهمَا، حَيْثُ بحثوا أَنه يَسْتَحِيل عَادَة اجْتِمَاع مثل هَذَا الْعدَد الْكثير من الْعلمَاء الْمُحَقِّقين على قطع فِي حكم شَرْعِي من غير اطلَاع على دَلِيل قَاطع فَوَجَبَ تَقْدِير نَص قَاطع فِيهِ كَمَا تقدم. قَوْله: {وَلَا يعْتَبر فِيهِ قَول مَعْصُوم} عِنْد أَئِمَّة الْإِسْلَام المقتدى بهم، وَخَالف فِي ذَلِك الرافضة فاشترطوه. وخلافهم ملغي لَا اعْتِبَار بِهِ، بل الْمَعْصُوم لَا يُوجد فِي غير الْأَنْبِيَاء، فَعَلَيْهِم لعنة الله وَالْمَلَائِكَة أَجْمَعِينَ، وَذَلِكَ بِنَاء مِنْهُم على زعمهم أَن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1546 لَا يجوز خلو الزَّمَان عَن مَعْصُوم. وَلَو تنزلنا وَسلمنَا ذَلِك فالحجة إِنَّمَا هِيَ فِي قَول الْمَعْصُوم لَا فِي الْإِجْمَاع فَلَا حَاجَة إِلَى الْإِجْمَاع مَعَ قَول الْمَعْصُوم. قَوْله: {لَيْسَ إِجْمَاع الْأُمَم الخالية حجَّة عِنْد الْمجد وَالْأَكْثَر، وَخَالف الْأُسْتَاذ} وَجمع. {وَقَالَهُ أَبُو الْمَعَالِي: إِن كَانَ سندهم قَطْعِيا، وَإِلَّا الْوَقْف} ، والطوفي: إِن كَانَ سَنَد إجماعنا عقلياً، وَإِلَّا الْوَقْف. ووقف الباقلاني مُطلقًا. اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1547 فَذهب الْمجد من أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر: أَن إِجْمَاع الْأُمَم الْمَاضِيَة لَيْسَ بِحجَّة. وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَقَالَ: هَذَا قَول الْأَكْثَرين. وَصرح بِهِ الْآمِدِيّ وَغَيره وَخَالف أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ وَبَعض الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم، وَقَالُوا: كَانُوا حجَّة قبل النّسخ. قَالَ ابْن عقيل: يحْتَمل أَن نقُوله: وَالْفرق لكَون النّسخ يتَطَرَّق على الْأُمَم بتجدد الْأَنْبِيَاء، كَمَا تقدم عَنهُ. وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: إِلَى آخِره، قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: إِن كَانَ سندهم قَطْعِيا فحجة، أَو ظنياً فالوقف. وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: إِن قطع أهل الْإِجْمَاع من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1548 كل أمة بقَوْلهمْ فَهُوَ حجَّة؛ لاستناده إِلَى قَاطع فِي الْعَادة، وَالْعَادَة لَا تخْتَلف باخْتلَاف الْأُمَم، وَإِلَّا كَانَ مُسْتَنده مظنوناً وَالْوَجْه الْوَقْف. قَالَ الطوفي: قَوْله أقرب إِلَى الصَّوَاب، ثمَّ قَالَ: وَالْمُخْتَار فِي الْمَسْأَلَة؛ إِن كَانَ مُسْتَند الْإِجْمَاع فِي هَذِه الْأمة عقلياً فَلَا يخْتَلف، وَإِن كَانَ مُسْتَند هَذِه الْأمة سمعياً فالوقف فِي إِجْمَاع غَيرهَا من الْأُمَم؛ إِذْ لم يبلغنَا الدَّلِيل السمعي على أَن إِجْمَاعهم حجَّة فنثبته، وَلَا يلْزم من عدم بُلُوغ ذَلِك عدم وجوده فننفيه. انْتهى. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني بِالْوَقْفِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لست أَدْرِي كَيفَ الْحَال؟ يَعْنِي: هَل كَانَ إِجْمَاعهم حجَّة أَو لَا؟ تَنْبِيه: لهَذِهِ الْمَسْأَلَة الْتِفَات إِلَى أصلين: أَحدهمَا: شرع من قبلنَا هَل هُوَ شرع لنا أم لَا؟ على مَا يَأْتِي. الثَّانِي: أَن حجية الاجماع ثَابِتَة بِمَاذَا؟ إِن قُلْنَا بِالْقُرْآنِ أَو بِالنِّسْبَةِ فَلَا يدْخل غير هَذِه الْأمة من الْأُمَم فِي ذَلِك. وَإِن قُلْنَا: دَلِيله أَنه يَسْتَحِيل فِي الْعَادة اجْتِمَاع مثل هَذَا الْعدَد الْكثير من الْعلمَاء الْمُحَقِّقين على قطع فِي حكم شَرْعِي من غير اطلَاع على دَلِيل قَاطع فَوَجَبَ فِي كل إِجْمَاع تَقْدِير نَص قَاطع فِيهِ مَحْكُوم بتخطئة مخالفه، كَمَا تقدم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1549 فِي اسْتِدْلَال ابْن الْحَاجِب وَغَيره بذلك، فَلَا يخْتَص ذَلِك بِهَذِهِ الْأمة. ثمَّ لَو سلم أَنه حجَّة فَالْكَلَام فِي الْإِجْمَاع الَّذِي يسْتَدلّ بِهِ فِي شرعنا، وَذَلِكَ إِن وَقع. وَإِن قُلْنَا إِن شرعهم شرع لنا فَمن أَيْن يعرف وينقل إِلَيْنَا؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1550 قَوْله: {فصل} {لَا يعْتَبر قَول الْعَامَّة} فِي الْإِجْمَاع عِنْد الْعلمَاء، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمُعْتَمد عَلَيْهِ سَوَاء كَانَت مسَائِله مَشْهُورَة أَو خُفْيَة، فَلَا اعْتِبَار لمخالفتهم، وَلَا بموافقتهم، وَإِنَّمَا يعْتَبر قَول الْمُجْتَهدين فَقَط. واعتبره قوم مُطلقًا، فَقَالُوا: لابد من موافقتهم حَتَّى يصير إِجْمَاعًا. واعتبره قوم فِي الْمسَائِل الْمَشْهُورَة، كَالْعلمِ بِوُجُود التَّحْرِيم بِالطَّلَاق الثَّلَاث، وَأَن الْحَدث فِي الْجُمْلَة ينْقض الطَّهَارَة، وَأَن الْحيض يمْنَع أَدَاء الصَّلَاة، ووجوبها، وَنَحْوهَا دون الْمسَائِل الْخفية، كدقائق الْفِقْه. إِذا علم ذَلِك فَاخْتَلَفُوا فِي معنى ذَلِك: فَقَالَ الْآمِدِيّ: إِن قيام الْحجَّة يفْتَقر إِلَى وفاقهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1551 وَحَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيره عَن الباقلاني، وغلطوا ناقله. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالْقَوْل بِاعْتِبَارِهِ. حَكَاهُ ابْن الصّباغ، وَابْن برهَان عَن بعض الْمُتَكَلِّمين، وَنَقله الإِمَام، وَابْن السَّمْعَانِيّ، والهندي عَن القَاضِي الباقلاني، وَكَذَا قَالَ ابْن الْحَاجِب: إِن ميل القَاضِي إِلَى اعْتِبَاره، أَي: الْمُقَلّد. لَكِن إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب ": يَقْتَضِي أَن القَاضِي لَا يعْتَبر خلافهم وَلَا وفاقهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1552 وَفَسرهُ فِي " جمع الْجَوَامِع ": أَن مَعْنَاهُ أَن الْأمة أَجمعت لَا افتقار كَلَام الْحجَّة إِلَيْهِم. وَخَالفهُ الْآمِدِيّ وَغَيره كَمَا تقدم قبل. وَالَّذِي فِي " التَّقْرِيب " تَحْرِير الْخلاف على وَجه آخر، فَإِن الْقَائِل بِعَدَمِ اعْتِبَار الْعَامَّة قَالَ لقَوْله تَعَالَى: " فسئلوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} [النَّحْل: 43] ، [الْأَنْبِيَاء: 7] ، وَنَحْوه فَرد الْعَوام إِلَى قَول الْمُجْتَهدين. وَالْقَائِل باعتبارهم قَالَ: إِن قَول الْأمة إِنَّمَا كَانَ حجَّة لعصمتها من الْخَطَأ، فَلَا يمْتَنع أَن تكون الْعِصْمَة للهيئة الاجتماعية من الْكل، فَلَا يلْزم ثُبُوتهَا للْبَعْض. فَقَالَ الباقلاني مَا حَاصله: أَن الْخلاف يرجع إِلَى إِطْلَاق الِاسْم يَعْنِي أَن الْمُجْتَهدين إِذا أَجمعُوا هَل يصدق أَن الْأمة أَجمعت وَيحكم بِدُخُول الْعَوام فيهم تبعا أَو لَا؟ فَعنده لَا يصدق، وَإِن كَانَ ذَلِك [لَا يقْدَح] فِي حجيته، وَهُوَ خلاف لَفْظِي؛ لِأَن مخالفتهم لَا تقدح فِي الْإِجْمَاع قطعا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1553 وَتبع ابْن الباقلاني كثير من الْمُتَأَخِّرين على أَن الْخلاف لَفْظِي رَاجع إِلَى التَّسْمِيَة. لَكِن أَبُو الْحُسَيْن فِي " الْمُعْتَمد " نقل عَن قوم أَن الْإِجْمَاع لَا يحْتَج بِهِ إِلَّا مَعَ وفَاق الْعَامَّة. انْتهى. وَحكى القَاضِي عبد الْوَهَّاب، وَابْن السَّمْعَانِيّ أَنه يعْتَبر فِي الْإِجْمَاع على عَام، وَهُوَ مَا لَيْسَ بمقصور على الْعلمَاء وَأهل النّظر، كالمسائل الْمَشْهُورَة بِخِلَاف دقائق الْفِقْه. قيل: وَبِهَذَا التَّفْصِيل يَزُول الْإِشْكَال، وَيَنْبَغِي تَنْزِيل إِطْلَاق المطلقين عَلَيْهِ. وَخص القَاضِي الباقلاني الْخلاف بالخاص، وَقَالَ: لَا يعْتَبر خلاف الْعَام اتِّفَاقًا وَجرى عَلَيْهِ الرَّوْيَانِيّ فِي " الْبَحْر ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1554 تَنْبِيه: قَوْلنَا: لَا يعْتَبر قَول الْعَامَّة أولى من قَول الْمُقَلّد؛ لِأَن الْعَاميّ أَعم من أَن يكون مُقَلدًا أَو لَا، فالتعبير بِهِ أولى لشُمُوله. قَوْله: {وَلَا من عرف الحَدِيث فَقَط، أَو اللُّغَة، أَو علم الْكَلَام، وَنَحْوه} ، كعلم الْعَرَبيَّة، والمعاني، وَالْبَيَان، والتصريف؛ لِأَنَّهُ من جملَة المقلدين فَلَا تعْتَبر مخالفتهم. قَوْله: {وَكَذَا من عرف الْفِقْه فَقَط} فِي مَسْأَلَة فِي أُصُوله، أَو أصُول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1555 الْفِقْه فِي مَسْأَلَة فِي الْفِقْه. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَأكْثر الْعلمَاء؛ لأَنهم أَيْضا من جملَة المقلدين؛ لِأَن من شَرط الْإِجْمَاع اتِّفَاق الْمُجْتَهدين، فَمن لم يكن من الْمُجْتَهدين فَهُوَ من المقلدين؛ لِأَنَّهُ لَا وَاسِطَة بَينهمَا. فعلى هَذَا لَا يعْتَقد بقوله، وَلَا بِخِلَافِهِ. وَقيل: بِاعْتِبَار كل من الطَّائِفَتَيْنِ: الْفُقَهَاء والأصوليين لما فِي كل مِنْهُمَا من الْأَهْلِيَّة الْمُنَاسبَة للفنين لتلازم العلمين، وَهُوَ قوي. وَقيل: يعْتَبر قَول الأصولي فِي الْفِقْه دون الفروعي فِي الْأُصُول؛ لِأَنَّهُ أقرب إِلَى مَقْصُود الِاجْتِهَاد دون عَكسه، اخْتَارَهُ الباقلاني. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَهُوَ الْحق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1556 وَقيل: عَكسه، فَيعْتَبر قَول الفروعي فِي الْأُصُول دون الأصولي فِي الْفُرُوع؛ لِأَنَّهُ أعرف بمواضع الِاتِّفَاق وَالِاخْتِلَاف. قَوْله: {وَكَذَا من فَاتَهُ بعض شُرُوط الِاجْتِهَاد} ، يَعْنِي: لَا اعْتِبَار بقوله فِي الْإِجْمَاع؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ من الْمُجْتَهدين. وَمعنى هَذَا لِابْنِ عقيل وَغَيره، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْوَاضِح: لم يعْتد بقول من لم يكن مُجْتَهدا كَامِلا. قَالَ الْمجد: من أحكم أَكثر أدوات الِاجْتِهَاد، وَلم يبْق لَهُ إِلَّا خصْلَة أَو خصلتان، اتّفق الْفُقَهَاء والمتكلمون على أَنه لَا يعْتد بِخِلَافِهِ خلافًا للباقلاني. وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": أما قَول الأصولي غير الفروعي وَعَكسه، والنحوي فِي مَسْأَلَة مبناها النَّحْو، كَمَسْأَلَة مسح الرَّأْس المبنية على أَن الْبَاء للإلصاق، أَو للتَّبْعِيض، ومسائل الشَّرْط وَالْجَزَاء، وَالِاسْتِثْنَاء وَنَحْوه، فَفِي اعْتِبَار قَوْلهم الْخلاف فِي تجزيء الِاجْتِهَاد، وَالْأَشْبَه اعْتِبَار قَول الأصولي والنحوي فَقَط لتمكنهما من دَرك الحكم بِالدَّلِيلِ، وَالْمَسْأَلَة اجتهادية. وَالصَّحِيح أَن الِاجْتِهَاد يتَجَزَّأ على مَا يَأْتِي بَيَانه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1557 وَقَالَ الطوفي - أَيْضا -: وَسَبقه إِلَى ذَلِك الْقَرَافِيّ، وَجَمَاعَة من الْعلمَاء، مِنْهُم: ابْن قَاضِي ابْن الْجَبَل، والبيضاوي، وشراحه، بِمَا يَقْتَضِي أَنه وفَاق يعْتَبر فِي إِجْمَاع كل فن قَول أَهله؛ إِذْ غَيرهم بِالْإِضَافَة إِلَيْهِ عَامَّة. انْتهى. وَهُوَ مُتَوَجّه، فعلى هَذَا يعْتَبر فِي إِجْمَاع كل فن، من فقه، وأصول، وَنَحْو، وطب، وَغَيرهَا قَول أَهله، وَهُوَ ظَاهر جدا. قَوْله: {وَلَا كَافِرًا مُطلقًا} ، يَعْنِي: لَا يعْتد بقول الْكَافِر مُطلقًا، سَوَاء كَانَ متأولاً، وَهُوَ الْمُخطئ فِي الْأُصُول، أَو غَيره كالمرتد، وَنَحْوه لخُرُوج الْكل عَن الْملَّة فَلَا يتناولهم مُسَمّى الْأمة الْمَشْهُود لَهُم بالعصمة. أما الْكَافِر الْأَصْلِيّ، وَالْمُرْتَدّ فَلَا نزاع بَين الْأمة أَن قَوْلهم لَا يعْتَبر فِي الْإِجْمَاع، وَلَو انْتهى إِلَى رُتْبَة الِاجْتِهَاد لما علم من اخْتِصَاص الْإِجْمَاع بِأمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. مَحل الْخلاف فِي المبتدع إِذا كفرناه ببدعته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1558 وتحرير القَوْل فِي ذَلِك: أَن عِنْد من كفره ببدعته لَا يعْتد بقوله فِي الْإِجْمَاع، وَمن لَا يكفره فَهُوَ عِنْده من المبتدعة الَّذين يحكم بفسقهم، وَهُوَ الْقسم الْآتِي بعد هَذِه الْمَسْأَلَة. وَقطع بذلك الْعلمَاء مِنْهُم: ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَغَيرهم. قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": لَا يعْتد بقول كَافِر سَوَاء كَانَ بِتَأْوِيل أَو بِغَيْر تَأْوِيل. وَقَالَهُ الطوفي فِي " مُخْتَصره " وَزَاد: وَقيل: المتأول كالكافر عِنْد الْمُكَفّر دون غَيره. وَلَا فَائِدَة فِي هَذَا القَوْل، وَلَا ثَمَرَة؛ إِذْ مَحل الْمَسْأَلَة فِي الْمَحْكُوم بِكُفْرِهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور: قَالَ أهل السّنة: لَا يعْتَبر فِي الْإِجْمَاع وفَاق الْقَدَرِيَّة، والخوارج، والرافضة. وَقَالَ الصَّيْرَفِي: هَل يقْدَح خلاف الْخَوَارِج فِي الْإِجْمَاع؟ فِيهِ قَولَانِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1559 قَوْله: {وَلَا فَاسق مُطلقًا} ، لَا يعْتد بقول الْفَاسِق مُطلقًا، سَوَاء كَانَ من جِهَة الِاعْتِقَاد أَو الْأَفْعَال. فالاعتقاد كالرفض، والاعتزال، وَنَحْوهمَا، وَالْأَفْعَال كشرب الْخمر، وَالزِّنَا، والربا، وَالسَّرِقَة، وَنَحْوهَا. هَذَا هُوَ الصَّحِيح، اخْتَارَهُ القَاضِي، وَابْن عقيل، وَالْأَكْثَر. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي، وَابْن السَّمْعَانِيّ: وَذهب إِلَيْهِ مُعظم الْأُصُولِيِّينَ. وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ من الْحَنَفِيَّة: هَذَا الصَّحِيح عندنَا. قَالَ ابْن برهَان: هُوَ قَول كَافَّة الْفُقَهَاء والمتكلمين؟ وَتقدم قَرِيبا كَلَام الْأُسْتَاذ أبي مَنْصُور، والصيرفي. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يقبل قَوْله، وَلَا يُقَلّد فِي فَتْوَى، كالكافر، وَالصَّبِيّ. وَعند أبي الْخطاب وَأبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَالْغَزالِيّ فِي " المنخول ": الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1560 يعْتد بقوله؛ لِأَن الْمعْصِيَة فِي الْفِعْل دون الِاعْتِقَاد، وَذَلِكَ لَا يزِيل اسْم الْإِيمَان. وَنسب هَذَا القَوْل إِلَى إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَيْضا. وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره "، وَنَصره. وَكَذَا الْهِنْدِيّ، وَابْن الْعِرَاقِيّ، وَغَيرهم؛ لِأَنَّهُ مُجْتَهد من الْأمة فتناولته الْأَدِلَّة بِخِلَاف الْكَافِر، وَالصَّبِيّ قَاصِر، وَلَا يلْزم من اعْتِبَار قَوْله فِي الْإِجْمَاع اعْتِبَار قَوْله مُنْفَردا. {وَقيل: إِن ذكر مُسْتَندا صَالحا اعْتد بقوله} ، وَإِلَّا فَلَا، فَإِذا بَين مأخذه، وَكَانَ صَالحا للأخذ بِهِ اعتبرناه. قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وَلَا بَأْس بِهَذَا القَوْل وَهَذَا كُله فِي الْفَاسِق بِلَا تَأْوِيل، أما الْفَاسِق بِتَأْوِيل فمعتبر فِي الْإِجْمَاع كالعدل، انْتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1561 {وَقيل: يعْتَبر فِي نَفسه، اخْتَارَهُ أبي الْمَعَالِي} ، فَإِذا وَافق الْجَمَاعَة كَانَ الْإِجْمَاع حجَّة على الْكل، وَإِن خالفهم كَانَ الْإِجْمَاع حجَّة عَلَيْهِم، لَا عَلَيْهِ. صرح بِهِ الْآمِدِيّ وَغَيره على هَذِه الصّفة. وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": يَنْبَغِي أَن يكون الْأَمر بِالْعَكْسِ. قلت: وَالَّذِي يظْهر أَن هَذَا خطأ؛ فَإِن الْعَكْس إِذا وَافق كَانَ حجَّة عَلَيْهِ لَا عَلَيْهِم، وَلَا قَائِل بِهِ، وتابع فِي ذَلِك أَصله، وَهُوَ " شرح الزَّرْكَشِيّ "، فَإِنَّهُ قَالَ: وَيَنْبَغِي عَكسه، أَنه ينْعَقد إِجْمَاع غَيره عَلَيْهِ، وَلَا ينْعَقد إجماعه على غَيره. انْتهى. فَقَوله: أخيراً وَلَا ينْعَقد إجماعه على غَيره سَهْو؛ لِأَنَّهُ إِذا انْعَقَد الْإِجْمَاع مَعَ مُوَافَقَته انْعَقَد على غَيره بِلَا نزاع، وَهُوَ وَالله أعلم إِنَّمَا أَرَادَ إِذا انْعَقَد الْإِجْمَاع لغيره، وَلم يُوَافق هُوَ أَنه يكون إِجْمَاعًا فِي حَقه أَيْضا، وَهَذَا مُتَوَجّه؟ وَأما هُوَ إِذا وَافق الْجَمَاعَة لَا ينْعَقد على غَيره، فَهَذَا غير مُسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1562 وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني، وَأَبُو بكر الرَّازِيّ الْحَنَفِيّ: لَا يعْتد فِي الْإِجْمَاع بقول الظَّاهِرِيَّة؛ بجحدهم الْقيَاس، وَعدم معرفتهم للمعاني. وَقَالَ ابْن الصّلاح: ينظر فِيمَا قَالُوهُ، فَإِن لم يسغْ فِيهِ الِاجْتِهَاد لم يعْتد بِهِ، وَإِن سَاغَ فِيهِ الِاجْتِهَاد اعْتد بِهِ. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قلت: وَفِي الِاعْتِدَاد بقول مجتهدي الظَّاهِرِيَّة أَقْوَال: الْمَنْع. اخْتَارَهُ أَبُو بكر الرَّازِيّ الْحَنَفِيّ. وَالثَّانِي: الْجَوَاز، كغيرهم. وَالثَّالِث: الْفرق بَين مَا للِاجْتِهَاد فِيهِ مساغ وَغَيره، كتفريقهم فِي تنجيس المَاء بَين الْبَوْل فِيهِ، وصبه فِيهِ، فَيعْتَبر قَوْله فِي الأول دون الثَّانِي اخْتَارَهُ أَبُو عَمْرو ابْن الصّلاح. قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي: ترك اعْتِقَاده الْعَمَل بِبَعْض الْأَدِلَّة لَا يُخرجهُ عَن كَونه مُجْتَهدا، وَإِلَّا لزم أَن لَا يعْتَبر قَول من خَالف فِي الْمَرَاسِيل، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1563 والعموم، وَأَن الْأَمر على الْوُجُوب، وَغير ذَلِك. انْتهى. وَقَالَ الأبياري فِي " شرح الْبُرْهَان ": إِن كَانَت الْمَسْأَلَة مِمَّا يتَعَلَّق بالآثار، والتوقيف، وَاللَّفْظ اللّغَوِيّ وَلَيْسَ للْقِيَاس فِيهَا مجَال فَلَا يَصح أَن ينْعَقد الْإِجْمَاع دونهم إِلَّا على قَول من يرى أَن الِاجْتِهَاد قَضِيَّة وَاحِدَة لَا تتجزأ، وَإِن قُلْنَا بالتجزيء فَلَا يمْتَنع أَن يَقع النّظر فِي نوع هم فِيهِ محققون. انْتهى. وَقَالَ القَاضِي الباقلاني أَيْضا، وَأَبُو الْمَعَالِي: لَا يعْتد بقول منكري الْقيَاس، فَدخل فِي هَذَا كل من أنكر الْقيَاس من الظَّاهِرِيَّة وَغَيرهم. وَقيل: إِن كَانَ الْقيَاس جلياً، وَإِلَّا اعْتد بهم. وَقَالَ أَيْضا أَبُو بكر الباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ: لَا يعْتد بقول الْأَصَم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1564 وَهَذَا الْأَصَم هُوَ عبد الرَّحْمَن بن كيسَان، قَالَه ابْن الصّلاح وَغَيره. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي رده على الرافضي هُوَ عبد الرَّحْمَن بن كيسَان الْأَصَم المعتزلي من فضلائهم، وَله تَفْسِير، وَمن تلاميذه إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن علية. ولإبراهيم هَذَا مناظرات فِي الْفِقْه وأصوله مَعَ الشَّافِعِي وَغَيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1565 5 - قَوْله: {فصل} {الْأَرْبَعَة وَغَيرهم لَا يخْتَص الْإِجْمَاع بالصحابة} . وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْعلمَاء، وَذَلِكَ للأدلة الَّتِي تقدّمت فِي قبُول الْإِجْمَاع من غير تَفْرِيق بَين عصر وعصر قبلهم للأدلة؛ وَلِأَن مَعْقُول السمعي إِثْبَات الْحجَّة الإجماعية مُدَّة التَّكْلِيف، وَلَيْسَ مُخْتَصًّا بعصر الصَّحَابَة. وَعَن أَحْمد: يخْتَص بهم، وَقَالَهُ الظَّاهِرِيَّة. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: لَا يكَاد يُوجد عَن أَحْمد احتجاج بِإِجْمَاع بعد التَّابِعين أَو بعد الْقُرُون الثَّلَاثَة. انْتهى. قلت: آخر الْقُرُون الثَّلَاثَة إِلَى زَمَنه، فَيكون احْتج بِالْإِجْمَاع إِلَى زَمَنه بِخِلَاف مَا إِذا قُلْنَا بعد التَّابِعين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1566 قَالَ ابْن حزم: ذهب دَاوُد وأصحابنا إِلَى أَن الْإِجْمَاع إِنَّمَا هُوَ إِجْمَاع الصَّحَابَة فَقَط، وَهُوَ قَول لَا يجوز خِلَافه؛ لِأَن الْإِجْمَاع إِنَّمَا يكون عَن تَوْقِيف، وَالصَّحَابَة هم الَّذين شهدُوا التَّوْقِيف. قَالَ: فَإِن قيل: فَمَا تَقولُونَ فِي إِجْمَاع من بعدهمْ، أَيجوزُ أَن يجمعوا على خطأ؟ قُلْنَا: هَذَا لَا يجوز لأمرين: أَحدهمَا: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمننا من ذَلِك بقوله: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق ". الثَّانِي: أَن سَعَة الأقطار بِالْمُسْلِمين، وَكَثْرَة الْعدَد، وَلَا يُمكن أحدا ضبط أَقْوَالهم، وَمن ادّعى هَذَا لم يخف على أحد كذبه. انْتهى. وَمُقْتَضَاهُ أَن الظَّاهِرِيَّة لَا يمْنَعُونَ الِاحْتِجَاج بِإِجْمَاع من بعد الصَّحَابَة وَلَكِن يستبعدون الْعلم بِهِ، كَمَا حمل كَلَام الإِمَام أَحْمد فِي أحد محامله على ذَلِك كَمَا تقدم. وَاحْتج لِلْقَوْلِ الثَّانِي أَيْضا بِظَاهِر الْآثَار السَّابِقَة فَكَانُوا كل الْأمة، وَلَيْسَ من بعدهمْ كلهَا دونهم، وموتهم لم يخرجهم مِنْهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1567 رد: فيقدح موت الْمَوْجُود حِين الْخطاب فِي انْعِقَاد إِجْمَاع البَاقِينَ، وَمن أسلم بعد الْخطاب لَا يعْتد بِخِلَافِهِ، وَيبْطل أَيْضا بِسَائِر خطاب التَّكْلِيف، فَإِنَّهُ عَم وَمَا اخْتصَّ. قَالُوا: مَا لَا قطع فِيهِ سَائِغ فِيهِ الِاجْتِهَاد بِإِجْمَاع الصَّحَابَة، فَلَو اعْتد بِإِجْمَاع غَيرهم تعَارض الإجماعان. رد: لم يجمعوا على أَنَّهَا اجتهادية مُطلقًا، وَإِلَّا لما أجمع من بعدهمْ فِيهَا، لتعارض الإجماعين، وبلزومه فِي الصَّحَابَة قبل إِجْمَاعهم فَكَانَ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الْإِجْمَاع. قَوْله: {فصل: أَحْمد وَأَصْحَابه وَالْأَكْثَر: لَا إِجْمَاع مَعَ مُخَالفَة وَاحِد أَو اثْنَيْنِ} ، كالثلاثة قطع بِهِ فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره. وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم؛ لِأَنَّهُ لَا يُسمى إِجْمَاعًا مَعَ الْمُخَالفَة؛ لِأَن الدَّلِيل لم ينْهض إِلَّا فِي كل الْأمة؛ لِأَن الْمُؤمن لفظ عَام، وَالْأمة مَوْضُوعَة للْكُلّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1568 وَقيل: ينْعَقد الْإِجْمَاع مَعَ مُخَالفَة وَاحِد لَا مُخَالفَة أَكثر؛ لِأَنَّهُ نَادِر لَا اعْتِبَار بِهِ. وَقيل: ينْعَقد مَعَ مُخَالفَة اثْنَيْنِ، اخْتَارَهُ ابْن جرير الطَّبَرِيّ، وَأَبُو بكر الرَّازِيّ الْحَنَفِيّ، وَابْن حمدَان من أَصْحَابنَا فِي " الْمقنع "، وَبَعض الْمَالِكِيَّة، وَبَعض الْمُعْتَزلَة، وَإِلَيْهِ ميل أبي مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ فِي " الْمُحِيط ". وَقيل: ينْعَقد مَعَ مُخَالفَة اثْنَيْنِ فِي غير أصُول الدّين، أما فِي أصُول الدّين فَلَا ينْعَقد بمخالفة أحد. حَكَاهُ الْقَرَافِيّ عَن الأخشيد من الْمُعْتَزلَة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1569 وَقيل: هُوَ حجَّة مَعَ الْمُخَالفَة، لَا إِجْمَاع، اخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، وَغَيره، فَقَالَ: لَو ندر الْمُخَالف مَعَ كَثْرَة المجمعين لم يكن إِجْمَاعًا قطعا، وَالظَّاهِر أَنه حجَّة؛ لتعذر أَن يكون الرَّاجِح متمسك الْمُخَالف؛ لِأَنَّهُ لَا يدل ظَاهرا على وجود رَاجِح، أَو قَاطع؛ لِأَنَّهُ لَو قدر كَون متمسك الْمُخَالف راجحاً والكثيرون لم يطلعوا عَلَيْهِ، أَو اطلعوا وخالفوه غَلطا، أَو عمدا كَانَ فِي غَايَة الْبعد. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ مَبْنِيّ على أَن حجية الْإِجْمَاع لِاسْتِحَالَة الْعَادة، وَقد سبق ضعفه. وَنَحْوه قَول الْهِنْدِيّ: الظَّاهِر أَن من قَالَ إِنَّه إِجْمَاع فَإِنَّمَا يَجعله إِجْمَاعًا ظنياً لَا قَطْعِيا. انْتهى. وَقَالَ الْجِرْجَانِيّ الْحَنَفِيّ: إِن لم يسوغوا اجْتِهَاد الْمُخَالف، كإباحة الْمُتْعَة، وَربا الْفضل انْعَقَد، وَإِلَّا فَلَا، كالعول؛ فَإِن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1570 الْمُتْعَة، وَربا الْفضل، وَعدم الْعَوْل، قَالَ بِهِ ابْن عَبَّاس، لَكِن عدم الْعَوْل يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد؛ فَلهَذَا لم ينكروا عَلَيْهِ فِيهِ، وأنكروا عَلَيْهِ فِي الْمُتْعَة وَربا الفضب؛ فَلهَذَا يُقَال: إِنَّه رَجَعَ عَنْهُمَا. وَحكى هَذَا السَّرخسِيّ عَن أبي بكر الرَّازِيّ. وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، الْآمِدِيّ، والطوفي، وَجمع: الْخلاف فِي الْأَقَل أَيْضا فَشَمَلَ الثَّلَاثَة، وَالْأَرْبَعَة، وَنَحْوهم. قَالَ الْمُوفق: وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1571 قَالَ فِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب ": إِنَّه الَّذِي يَصح عَن ابْن جرير. وَقَالَ بَعضهم: إِن بلغ الْأَقَل عدد التَّوَاتُر منع، وَإِلَّا فَلَا. احْتج للْأَكْثَر: تنَاول الْأَدِلَّة للْجَمِيع حَقِيقَة، والعصمة للْأمة، وَلَا تصدق بِدُونِهِ، وَقد خَالف ابْن مَسْعُود، وَابْن عَبَّاس فِي مسَائِل جُمْهُور الصَّحَابَة فجوز لَهُم. قَالُوا: أنكر عَلَيْهِ الْمُتْعَة، وَحصر الرِّبَا فِي النَّسِيئَة، والعينة على زيد ابْن أَرقم. قُلْنَا: لخلاف مَشْهُور السّنة، ثمَّ قد أنكر على الْمُنكر فَلَا إِجْمَاع، وَأَيْضًا إنكارهم إِنْكَار مناظرة، لَا للْإِجْمَاع فَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ، فَحكمه إِلَى الله، لقَوْله تَعَالَى: {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله} [النِّسَاء: 59] . قَالُوا: يُطلق الْكل على الْأَكْثَر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1572 قُلْنَا: معَارض بِمَا دلّ على قلَّة أهل الْحق من نَحْو: {كم من فِئَة قَليلَة غلبت فِئَة كَثِيرَة} [الْبَقَرَة: 249] ، {وَقَلِيل مَا هم} [ص: 24] ، {وَقَلِيل من عبَادي الشكُور} [سبأ: 13] ، وَعَكسه كَثْرَة أهل الْبَاطِل، نَحْو: {أَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ} [العنكبوت: 63] ، { ... لَا يعلمُونَ} [الْأَنْعَام: 37] ، { ... لَا يشكرون} [الْبَقَرَة: 243] ، {لَا يُؤمنُونَ} [الْبَقَرَة: 100] ، وَإِذا من الْجَائِز إِصَابَة الْأَقَل وخطؤ الْأَكْثَر، كَمَا كشف الْوَحْي عَن إِصَابَة عمر فِي أسرى بدر، وكما انْكَشَفَ الْحَال عَن إِصَابَة أبي بكر فِي أَمر الرِّدَّة. ثمَّ عمدتهم حمل الْكل على الْأَكْثَر وَهُوَ مجَاز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1573 قَوْله: {وَلَا إِجْمَاع للصحابة مَعَ مُخَالفَة تَابِعِيّ مُجْتَهد} عِنْد أَحْمد، وَأبي الْخطاب، وَابْن عقيل، والموفق، وَالْأَكْثَر مِنْهُم: عَامَّة الْفُقَهَاء، والمتكلمين مِنْهُم: أَكثر الْحَنَفِيَّة، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَاخْتَارَهُ أَيْضا القَاضِي أَبُو يعلى. لِأَنَّهُ مُجْتَهد من الْأمة فَلَا ينْهض الدَّلِيل بِدُونِهِ. وَلِأَن الصَّحَابَة سوغوا اجتهادهم وفتواهم مَعَهم فِي الوقائع الْحَادِثَة فِي زمانهم فَكَانَ سعيد بن الْمسيب يُفْتِي فِي الْمَدِينَة وفيهَا خلق من الصَّحَابَة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1574 وَشُرَيْح فِي الْكُوفَة وَبهَا أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -، وَحكم عَلَيْهِ فِي خُصُومَة عرضت لَهُ عِنْده على خلاف رَأْيه وَلم يُنكر عَلَيْهِ، وَكَذَا الْحسن الْبَصْرِيّ، وَغَيرهم كَانُوا يفتون بآرائهم زمن الصَّحَابَة من غير نظر أَنهم أَجمعُوا أَو لَا. وَلَو لم يعْتَبر قَوْلهم فِي الْإِجْمَاع مَعَهم لسألوا قبل إقدامهم على الْفَتْوَى: هَل أَجمعُوا أم لَا؟ لكِنهمْ لم يسْأَلُوا، فَدلَّ على اعْتِبَار قَوْلهم مَعَهم مُطلقًا. وَدَعوى أَنهم إِنَّمَا جوزوا لَهُم الْفَتْوَى مَعَ الِاخْتِلَاف دَلِيل عَلَيْهِ، بل الدَّلِيل على خِلَافه. وَسُئِلَ أنس عَن مَسْأَلَة فَقَالَ: اسألوا مَوْلَانَا الْحسن، فَإِنَّهُ غَابَ وحضرنا، وَحفظ ونسينا. فقد سوغوا اجتهادهم وَلَوْلَا صِحَّته واعتباره لما سوغوه. وَإِذا اعْتبر قَوْلهم فِي الِاجْتِهَاد فليعتبر فِي الْإِجْمَاع؛ إِذْ لَا يجوز مَعَ تسويغ الِاجْتِهَاد ترك الأعتداد بقَوْلهمْ وفَاقا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1575 والأدلة السَّابِقَة تتناولهم، واختصاص الصَّحَابَة بالأوصاف السالفة لَا يمْنَع من الِاعْتِدَاد بذلك، وَإِلَّا لزم أَن لَا يقبل الْأَنْصَار مَعَ خلاف الْمُهَاجِرين، والمهاجرون مَعَ الْعشْرَة، وَلَا قَوْلهم مَعَ الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة، وهلم جرا؛ لظُهُور التَّفَاوُت والتفاضل، وَلم يقل بِهِ أحد. وَعَن أَحْمد: يكون إِجْمَاعًا، اخْتَارَهُ الْخلال والحلواني، وَاخْتَارَهُ القَاضِي أَيْضا، فَلهُ اختياران؛ لأَنهم شاهدوا التَّنْزِيل فهم أعلم بالتأويل، والتابعون مَعَهم كالعامة مَعَ الْعلمَاء؛ وَلذَلِك قدم تفسيرهم. وَأنْكرت عَائِشَة على أبي سَلمَة لما خَالف ابْن عَبَّاس فِي عدَّة الْمُتَوفَّى عَنْهَا، وزجرته بقولِهَا: (أَرَاك كالفروج يَصِيح بَين الديكة) ، وَلَو كَانَ قَوْلهم مُعْتَبرا لما أنكرته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1576 ورد ذَلِك بِأَن كَونهم أعلم لَا يَنْفِي اعْتِبَاره اجْتِهَاد الْمُجْتَهد، وكونهم مَعَهم كالعامة مَعَ الْعلمَاء تهجم مَمْنُوع، والصحبة لَا توجب الِاخْتِصَاص، وإنكار عَائِشَة إِمَّا أَنَّهَا لم تره مُجْتَهدا أَو لتَركه التأدب مَعَ ابْن عَبَّاس حَال المناظرة من رفع صَوت وَنَحْوه، وَقَوْلها، (يَصِيح) يشْعر بِهِ. قَوْله: {وَإِن صَار مُجْتَهدا بعده} ، أَي: بعد الْإِجْمَاع {فعلى انْقِرَاض الْعَصْر} . الْكَلَام كَانَ أَولا فِيمَا إِذا كَانَ مُجْتَهدا حَال الْإِجْمَاع، وَالْكَلَام الْآن فِيمَا إِذا صَار مُجْتَهدا بعد الْإِجْمَاع فَاخْتَلَفُوا: هَل يعْتَبر فِي صِحَة الْإِجْمَاع قَوْله أم لَا؟ . وَالصَّحِيح - وَعَلِيهِ الْأَكْثَر - أَنه مَبْنِيّ على انْقِرَاض الْعَصْر من اشْترط لصِحَّة الْإِجْمَاع انْقِرَاض الْعَصْر قبل الِاخْتِلَاف قَالَ: هَذَا لَيْسَ بِإِجْمَاع إِن خَالف، وَمن قَالَ: لَا يشْتَرط انْقِرَاض الْعَصْر قَالَ: الْإِجْمَاع انْعَقَد، وَلَا اعْتِبَار لمُخَالفَة من صَار من أهل الْإِجْمَاع بعد ذَلِك، وَسَيَأْتِي أصل الْمَسْأَلَة وَالْخلاف فِيهَا. قَوْله: {ونفاه الْمُوفق وَغَيره وَقَالَ: لَا يعْتَبر قَوْله مُطلقًا} ، يَعْنِي: سَوَاء قُلْنَا هُوَ مَبْنِيّ على انْقِرَاض الْعَصْر أم لَا؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1577 وَحَكَاهُ السَّرخسِيّ عَن أَصْحَابهم، وَاخْتَارَهُ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " لسبقه بِالْإِجْمَاع، كإسلامه بعد الْإِجْمَاع. لَكِن قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": إِن هَذَا لم يقلهُ أحد، وَمن نقل مقدم على من نفى. قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": نعم، لَو بلغ رُتْبَة الِاجْتِهَاد بعد إِجْمَاعهم فَهُوَ مَسْبُوق بِالْإِجْمَاع، فَهُوَ كمن أسلم بعد تَمام الْإِجْمَاع. انْتهى. وَقَالَ الْمجد: إِذا أجمع أهل الْعَصْر على حكم فَنَشَأَ قوم مجتهدون قبل انقراضهم فخالفوهم، وَقُلْنَا: انْقِرَاض الْعَصْر شَرط، فَهَل يرْتَفع الْإِجْمَاع على مذهبين؟ وَإِن قُلْنَا: لَا يعْتَبر الانقراض، فَلَا. انْتهى. قَوْله: {وَلَا يعْتَبر مُوَافَقَته} ، يَعْنِي: إِذا انْعَقَد الْإِجْمَاع ثمَّ حدث مُجْتَهد من التَّابِعين، فَإِن وافقهم فَلَا كَلَام، وَإِن سكت لم يقْدَح فِي الْإِجْمَاع؛ لِأَن سُكُوته لَا يدل على الْمُخَالفَة. وَهَذَا ذكره بعض أَصْحَابنَا، وَقدمه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1578 وَخَالف ابْن عقيل، وَأَبُو الْخطاب، والآمدي، فَظَاهره أَنه يعْتَبر مُوَافَقَته. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَلَعَلَّ المُرَاد عدم مُخَالفَته، وَهُوَ كَمَا قَالَ. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَالضَّابِط أَن اللَّاحِق إِمَّا أَن يتأهل قبل الانقراض أَو بعده، وعَلى الأول فإمَّا أَن يُوَافق أَو يُخَالف أَو يسكت. قلت: سر الْمَسْأَلَة أَن الْمدْرك لَا يعْتَبر وفاقه، بل يعْتَبر عدم خِلَافه إِذا قُلْنَا بِهِ. انْتهى. وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " فِي مَسْأَلَة انْقِرَاض الْعَصْر: فَإِن قيل: نسلم ونقول: يعْتَبر انْقِرَاض المجمعين فِي وَقت الْحَادِثَة، لَا من حدث بعْدهَا، قيل: فَمَا اعتبرتم إِذا انْقِرَاض الْعَصْر، وَإِنَّمَا اعتبرتم من وجد وَقت الْحَادِثَة، وَهَذَا لم يقلهُ أحد؛ وَلِأَن من حدث يجوز لَهُ الْمُخَالفَة، فَإِذا مَاتَ غَيره لم أسقطت قَوْله، وَمَا كَانَ يجوز لَهُ؟ ! انْتهى. قَوْله: {فَائِدَة: تَابع التَّابِعِيّ مَعَ التَّابِعِيّ كَهُوَ مَعَ الصَّحَابِيّ ذكره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1579 القَاضِي وَغَيره} ، وَلَا فرق، يَعْنِي: هَذَا مَا قُلْنَا فِي التَّابِعِيّ مَعَ الصَّحَابِيّ قُلْنَاهُ فِي تَابع التَّابِعِيّ مَعَ التَّابِعِيّ. قلت: لَو قيل: بِاعْتِبَار قَول تَابع التَّابِعِيّ مَعَ التَّابِعِيّ، وَإِن لم نعتبره فِي التَّابِعِيّ بِحَال كَانَ لَهُ وَجه وَقُوَّة للْفرق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1580 قَوْله: {فصل:} {إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة لَيْسَ بِحجَّة} عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء للأدلة الْمُتَقَدّمَة فِي ذَلِك؛ وَلِأَنَّهُم بعض الْأمة لَا كلهَا؛ لِأَن الْعِصْمَة من الْخَطَأ إِنَّمَا ينْسب للْأمة كلهَا لَا للْبَعْض، وَلَا مدْخل للمكان فِي الْإِجْمَاع؛ إِذْ لَا أثر لفضيلته فِي عصمَة أَهله بِدَلِيل مَكَّة المشرفة. وَخَالف مَالك فِي ذَلِك. قَالَ المحاسبي فِي كتاب " فهم السّنَن ": قَالَ مَالك: إِذا كَانَ الْأَمر بِالْمَدِينَةِ ظَاهرا مَعْمُولا بِهِ لم أر لأحد خِلَافه، وَلَا يجوز لأحد مُخَالفَته. انْتهى. وَاحْتج بِأَن القَوْل الْبَاطِل خبث والخبث منفي عَن الْمَدِينَة بقول الصَّادِق، وَإِذا انْتَفَى الْبَاطِل بَقِي الْحق فَوَجَبَ اتِّبَاعه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1581 فَقَالَ بعض أَصْحَابه بِظَاهِرِهِ؛ وَلذَلِك أطلق كثير من الْعلمَاء القَوْل بِهِ عَن مَالك، لَكِن قَالَ بَعضهم: ذَلِك فِي زمن الصَّحَابَة، وَالتَّابِعِينَ، وَعَلِيهِ جرى ابْن الْحَاجِب، وَغَيره. وَقَالَ بَعضهم: فِي زمن الصَّحَابَة، وَالتَّابِعِينَ، وَمن يليهم. ذكره الْمجد، وَتَبعهُ ابْن مُفْلِح، وَحَكَاهُ ابْن الباقلاني، وَابْن السَّمْعَانِيّ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَادّعى ابْن تَيْمِية أَنه مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد. وَقَالَ الْبَاجِيّ من أَصْحَاب مَالك: أَرَادَ فِيمَا طَرِيقه النَّقْل المستفيض كالصاع، وَالْمدّ، وَعدم الزَّكَاة فِي الخضروات مِمَّا تَقْتَضِي الْعَادة أَن يكون فِي زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، إِذا لم يُغير عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ لعلمه، فَأَما مسَائِل الِاجْتِهَاد فَهُوَ وَغَيره سَوَاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1582 وَحَكَاهُ القَاضِي فِي " التَّقْرِيب " عَن شَيْخه الْأَبْهَرِيّ، وَجرى عَلَيْهِ الْقَرَافِيّ فِي " شرح الْمُنْتَخب "، وَإِن خَالف فِي مَوضِع آخر، وَاخْتَارَهُ ابْن عقيل فِي كِتَابه " النظريات " الْكِبَار فَقَالَ: عِنْدِي أَن إِجْمَاعهم حجَّة فِيمَا طَرِيقه النَّقْل، وَإِنَّمَا لَا يكون حجَّة فِي بَاب الِاجْتِهَاد، لِأَن مَعنا مثل مَا مَعَهم من الرَّأْي، وَلَيْسَ لنا مثل مَا مَعَهم من الرِّوَايَة، وَلَا سِيمَا نقلهم فِيمَا تعم بِهِ بلواهم، وهم أهل نخيل وثمار، فنقلهم مقدم على كل نقل، لَا سِيمَا فِي هَذَا الْبَاب. انْتهى. وَقيل: أَرَادَ المنقولات المستمرة، كالأذان، وَالْإِقَامَة، نقل هَذَا القَوْل وَالَّذِي قبله ابْن مُفْلِح، وغاير بَينهمَا وتابعناه، وَكثير من الْعلمَاء يَجْعَل الْقَوْلَيْنِ قولا وَاحِدًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1583 قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَقَالَ القَاضِي من أَصْحَاب مَالك: إِنَّمَا أَرَادَ فِيمَا طَرِيقه النَّقْل، كالصاع، وَالْمدّ، وَالْأَذَان، وَالْإِقَامَة، وَعدم الزَّكَاة فِي الخضروات مِمَّا تَقْتَضِي الْعَادة أَن يكون فِي زَمَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا تقدم. انْتهى. احْتج لمَالِك بِحَدِيث: " إِنَّمَا الْمَدِينَة كالكير تَنْفِي خبثها وينصع طيبها "، مُتَّفق عَلَيْهِ عَن جَابر. وَخطأ علمائها خبث، وَهُوَ منفي عَنْهُم فَبَقيَ الْحق فَوَجَبَ اتِّبَاعه، فَيكون حجَّة. وَأما قَوْله: " ينصع طيبها " فبالصاد وَالْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ، وأوله يَاء مثناة من تَحت " وطيبها " بِالتَّشْدِيدِ مَرْفُوع؛ لِأَنَّهُ فَاعل على الْمَشْهُور، ويروى بِالنّصب و " تنصع " بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق، وَالْفَاعِل ضمير الْمَدِينَة. لَكِن قَالَ الْقَزاز: لم أجد لنصع فِي الطّيب وَجها، وَإِنَّمَا وَجه الْكَلَام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1584 يتضوع طيبها، أَي: يفوح، ويروى: وينضخ بمعجمتين. وَالْجَوَاب: أَن فضل الْبِقَاع لَا أثر لَهُ فِي عدم خطأ ساكنيها [إِلَّا] من عصمه الله، كَمَا تقدم. قَالُوا: لَا يجمعُونَ إِلَّا على رَاجِح؛ لأَنهم أفضل وَأكْثر. رد بمنعهما، فَإِن الصَّحَابَة بغَيْرهَا أَكثر، مِنْهُم: عَليّ، وَابْن مَسْعُود، وَابْن عَبَّاس، وَأَبُو عُبَيْدَة، وَأَبُو مُوسَى، ومعاذ، وَغَيرهم، ثمَّ الْمَفْضُول مُعْتَبر مَعَ الْفَاضِل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1585 وَقيل: إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة وَمَكَّة حجَّة، وَهُوَ ضَعِيف أَيْضا؛ لأَنهم لَيْسُوا كل الْأمة الَّذين جعلت الْحجَّة فِي قَوْلهم، وَلَا أثر للبقاع وَإِن شرفت كَمَا تقدم. وَقيل: وَإِجْمَاع أهل الْبَصْرَة مَعَ أهل الْكُوفَة حجَّة، وَهُوَ ضَعِيف - لما تقدم - وَأولى. وَقيل: وَإِجْمَاع أَحدهمَا حجَّة، وَهُوَ أَضْعَف من الَّذِي قبله. قَالَ القَاضِي الباقلاني: وَإِنَّمَا صَار من صَار إِلَى ذَلِك؛ لاعتقادهم تَخْصِيص الْإِجْمَاع بالصحابة، وَكَانَت هَذِه الثَّلَاثَة الْأَمَاكِن موطن الصَّحَابَة، وَمَا خرج عَنْهَا أحد مِنْهُم إِلَّا شذوذاً. انْتهى. فَلَا يظنّ أَن الْقَائِل بذلك يَقُول بِهِ فِي كل عصر، وَبِهَذَا قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1586 ومدرك الْمُخَالف: انتشار الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - فِي هَذِه الْبِلَاد دون غَيرهَا. قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " اللمع ": قيل: إِجْمَاع الْبَصْرَة مَعَ الْكُوفَة هُوَ حجَّة. قيل: كل بلد مِنْهُمَا بمفرده. وَنقل الْغَزالِيّ عَن قوم إِجْمَاع مَكَّة وَالْمَدينَة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1587 قَوْله: {فصل} {أَحْمد وَالْأَكْثَر قَول الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة لَيْسَ بِإِجْمَاع، وَلَا حجَّة مَعَ مُخَالفَة مُجْتَهد} ، وَهُوَ الصَّحِيح الْمُعْتَمد عَلَيْهِ عِنْد الْأَئِمَّة؛ لأَنهم لَيْسُوا كل الْأمة الَّذين جعلت الْحجَّة فِي قَوْلهم. وَعَن أَحْمد رِوَايَة: بِأَن قَوْلهم إِجْمَاع وَحجَّة. اخْتَارَهُ ابْن الْبَنَّا من أَصْحَابنَا، وَأَبُو خازم - بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالزَّاي - حَنَفِيّ الْمَذْهَب، وَكَانَ قَاضِيا، وَحكم بذلك زمن المعتضد فِي تَوْرِيث ذَوي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1588 الْأَرْحَام، فأنفذ حكمه، وَكتب بِهِ إِلَى الْآفَاق، فَلم يعْتَبر خلاف زيد فِي منع تَوْرِيث ذَوي الْأَرْحَام بِنَاء على أَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة يورثونهم، وَلما رد أَبُو سعيد البرذعي عَلَيْهِ باخْتلَاف الصَّحَابَة، قَالَ: الْعَمَل بقول الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة. قَالَ الْبرمَاوِيّ: نعم، لَا يلْزم من احتجاج أبي خازم أَن يكون إِجْمَاعًا، بل حجَّة فَقَط، وَحِينَئِذٍ لَا معنى لتخصيص أبي خازم بذلك، وَلَا كَونه رِوَايَة عَن أَحْمد؛ فَإِنَّهُ مَنْقُول قَول عَن الشَّافِعِي فقد قَالَ ابْن كج فِي كِتَابه: اخْتِلَاف الصَّحَابَة على قَوْلَيْنِ، وَكَانَت الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة مَعَ أحد الْفَرِيقَيْنِ، قَالَ الشَّافِعِي فِي مَوضِع: يُصَار إِلَى قَوْلهم، وَفِي مَوضِع: لَا بل يطْلب دلَالَة سواهُمَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1589 وَاسْتدلَّ كثير من الْأُصُولِيِّينَ من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم لهَذَا الْمَذْهَب بقول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين من بعدِي، تمسكوا بهَا، وعضوا عَلَيْهَا بالنواجذ ". رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه، وَصَححهُ التِّرْمِذِيّ، وَالْحَاكِم فِي " الْمُسْتَدْرك " وَقَالَ: على شَرطهمَا. وَالْمرَاد بالخلفاء هم الْأَرْبَعَة لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْخلَافَة من بعدِي ثَلَاثُونَ سنة ثمَّ يصير ملكا عَضُوضًا ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظ: " خلَافَة النُّبُوَّة ثَلَاثُونَ سنة ثمَّ يُؤْتِي الله الْملك من يَشَاء ". وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1590 وَاسْتدلَّ للْأولِ بِأَن ابْن عَبَّاس خَالف جَمِيع الصَّحَابَة فِي خمس مسَائِل فِي الْفَرَائِض انْفَرد بهَا، وَابْن مَسْعُود فِي أَربع، وَغَيرهمَا فِي غير ذَلِك، وَلم يحْتَج عَلَيْهِم أحد بِإِجْمَاع الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة، وَأَنه لَا حجَّة فِي الحَدِيث السَّابِق لمعارضته لحَدِيث: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ " لكنه ضَعِيف، وَبِتَقْدِير صِحَّته فَلَا مُعَارضَة؛ فَإِن المُرَاد مِنْهُ أَن الْمُقَلّد يتَخَيَّر فيهم، لَا أَن قَول كل حجَّة. وَأما حَدِيث: " عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء ... " فسياقه فِيمَا يكون حجَّة من حجج الشَّرْع. وَإِنَّمَا الْجَواب: أَن المُرَاد أَن لَا يبتدع الْإِنْسَان بِمَا لم يكن فِي السّنة، وَلَا فِيمَا عَلَيْهِ الصَّحَابَة فِي زمن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة لقرب عَهدهم بتلقي الشَّرْع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1591 وَعنهُ: قَوْلهم حجَّة، لَا إِجْمَاع كَمَا تقدم فِي تَأْوِيل قَول أبي خازم. وَعنهُ: وَقَول الشَّيْخَيْنِ - أَعنِي: أَبَا بكر وَعمر - رضوَان الله عَلَيْهِمَا - يَعْنِي حجَّة - لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اقتدوا بالذين من بعدِي أبي بكر وَعمر " رَوَاهُ أَحْمد، وَابْن مَاجَه، وَالتِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حَدِيث حسن. وَابْن حبَان فِي " صَحِيحه ". ورد ابْن مُفْلِح وَغَيره: بِأَن " الْخُلَفَاء " عَام فَأَيْنَ دَلِيل الْحصْر، ثمَّ يدل على أَنه حجَّة أَو يحمل على تقليدهم فِي فتيا أَو إِجْمَاع لم يخالفهم غَيرهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1592 وَعَن أَحْمد رِوَايَة أَنه إِجْمَاع، وَقَالَهُ بعض الْعلمَاء وَهُوَ ضَعِيف. قَالَ الْآمِدِيّ: قَالَ بعض النَّاس: قَول أبي بكر وَعمر إِجْمَاع. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَذكره تعض أَصْحَابنَا عَن أَحْمد، وَعنهُ: يحرم خلاف أحدهم، اخْتَارَهُ الْبَرْمَكِي، وَغَيره من أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، قَالَ ابْن مُفْلِح. قَول أحدهم لَيْسَ بِحجَّة، فَيجوز لبَعْضهِم خِلَافه رِوَايَة وَاحِدَة عِنْد أبي الْخطاب. وَذكر القَاضِي، وَابْن عقيل رِوَايَة: لَا يجوز. قَوْله: وَلَا يلْزم الْأَخْذ بقول أفضلهم، وَعجب أَحْمد من قَائِل ذَلِك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1593 وَقَالَ فِي مُقَدّمَة " رَوْضَة الْفِقْه " لبَعض أَصْحَابنَا إِذا اخْتلف الصَّحَابَة وَفِي أحدهم قَول إِمَام فَفِي تَرْجِيحه على القَوْل الآخر رِوَايَتَانِ، فَإِن كَانَ مَعَ كل مِنْهُمَا إِمَام وَأَحَدهمَا أفضل فَفِي تَرْجِيحه رِوَايَتَانِ. انْتهى. فَذكر رِوَايَة بترجيح أحد الْقَوْلَيْنِ إِذا كَانَ فيهم إِمَام أَو أفضل، وَالله أعلم. قَوْله: {وَمَا عقده أحدهم كصلح بني تغلب، وخراج وجزية لَا يجوز نقضه} عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا نَقله ابْن عقيل عَن الْأَصْحَاب كعقد عمر صلح بني تغلب، وَعقد خراج السوَاد، والجزية، وَمَا جرى مجْرَاه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1594 قَالَ أَبُو حَامِد الشَّافِعِي: لَا ينْقض على أصح قولي الشَّافِعِي، وَسَبقه ابْن الْقَاص واستغره السبخي فِي " شَرحه " قَالَ: يشبه أَن يكون تَفْرِيعا على الْقَدِيم فِي تَقْلِيد الصَّحَابِيّ، وَأما على الْجَدِيد فَلَا فرق. انْتهى. وَقَالَ ابْن عقيل: يجوز نقضه إِذا رأى ذَلِك فَيكون حكمه حكم رَأْيه فِي جَمِيع الْمسَائِل. قَالَ: لِأَن الْمصَالح تخْتَلف باخْتلَاف الْأَزْمِنَة. قَوْله: {وَلَا قَول أهل الْبَيْت عِنْد الْأَرْبَعَة، وَغَيرهم} ، أَعنِي أَنه لَيْسَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1595 بِإِجْمَاع، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة للأدلة السَّابِقَة الْعَامَّة فِي ذَلِك وَغَيره. وَقَالَ القَاضِي فِي " الْمُعْتَمد " وَبَعض الْعلمَاء والشيعة: إِنَّه إِجْمَاع، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، قَالَ: وَمثله إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة زمن الْخُلَفَاء، وَإِجْمَاع السّنة. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": وَقد ذكر القَاضِي فِي " الْمُعْتَمد " هُوَ وَطَائِفَة من الْعلمَاء: أَن العترة لَا تَجْتَمِع على خطأ، كَمَا فِي حَدِيث التِّرْمِذِيّ، فَهَذِهِ ثَلَاث إجماعات: العترة، وَالْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة، وَأهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1596 الْمَدِينَة، وتقترن بهَا أهل السّنة، فَإِن أهل السّنة لَا يجمعُونَ على ضَلَالَة كإجماع أهل بَيته، ومدينته وخلفائه. انْتهى. وَاسْتدلَّ لذَلِك بقوله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت} [الْأَحْزَاب: 33] . لَكِن قيل: الرجس هُوَ الْإِثْم. وَقيل: الشّرك وَالْخَطَأ؛ لِأَنَّهُ لكل مستقذر. وَقيل: المُرَاد بِأَهْل الْبَيْت أَزوَاجه؛ لسياق الْقُرْآن. وَقيل: أَهله، وأزواجه. وَقيل: فَاطِمَة، وَعلي، وَحسن وحسين؛ لرِوَايَة شهر بن حَوْشَب عَن أم سَلمَة: أَن هَذِه الْآيَة لما نزلت جلل عَلَيْهِم بكساء وَقَالَ: " اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أهل بَيْتِي، وخاصتي فَأذْهب عَنْهُم الرجس، وطهرهم تَطْهِيرا "، فَقَالَت أم سَلمَة: وَأَنا مَعكُمْ؟ قَالَ: " إِنَّك إِلَى خير ". رَوَاهُ أَحْمد، وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1597 5 - وَعَن جَابر مَرْفُوعا: " إِنِّي تركت فِيكُم مَا إِن أَخَذْتُم بِهِ لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بَيْتِي ". وَعَن زيد بن أَرقم مَرْفُوعا: " إِنِّي تَارِك فِيكُم مَا إِن تمسكتم بِهِ لن تضلوا بعدِي، أَحدهمَا أعظم من الآخر وَهُوَ كتاب الله تَعَالَى، وعترتي أهل بَيْتِي لن يفترقا حَتَّى يردوا على الْحَوْض " رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيّ. وَفِي مُسلم من حَدِيث زيد بن أَرقم: " إِنِّي تَارِك فِيكُم ثقلين، أَولهمَا: كتاب الله، فِيهِ الْهدى والنور، فَخُذُوا بِكِتَاب الله واستمسكوا بِهِ، ثمَّ قَالَ: وَأهل بَيْتِي، أذكركم الله فِي أهل بَيْتِي ". لَكِن هَذِه الْأَخْبَار آحَاد، وَلَيْسَ بِحجَّة عِنْد الشِّيعَة، وَأجَاب فِي " التَّمْهِيد "، وَغَيره أَنه لَا يثبت بِهِ أصل، وَلِأَن زيدا قَالَ: أهل بَيته من حرم الصَّدَقَة: آل عَليّ، وَآل عقيل، وَآل جَعْفَر، وَآل عَبَّاس. وَهُوَ أعلم بِمَا روى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1598 وَالْخَبَر فِي الْخُلَفَاء أصح وَلم يقل بِهِ الشِّيعَة، ونمنع أَن الْخَطَأ من الرجس. وَفِي " الْوَاضِح ": دلّ سِيَاق الْآيَة أَنه أَرَادَ دفع التُّهْمَة. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: مُفْرد حلي بِاللَّامِ وَلَا يسْتَغْرق، وَلم يحْتَج أهل الْبَيْت بذلك، وَلَا ذَكرُوهُ، وَلَا أَنْكَرُوا على مخالفهم حَتَّى عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - زمن ولَايَته، وَلَو كَانَ ذَلِك حجَّة كَانَ تَركه خطأ، ولوجب ذكره، وَمَعْلُوم لَو ذكره لنقل وَقَبله مِنْهُ أَصْحَابه وَغَيرهم كَمَا فِي غَيره. قَوْله: {وهم عَليّ وَفَاطِمَة ونجلاهما فِي الْأَصَح} ، وَذَلِكَ لما فِي التِّرْمِذِيّ: أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت} [الْأَحْزَاب: 33] أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أدَار عَلَيْهِم الكساء وَقَالَ: " هَؤُلَاءِ أهل بَيْتِي، وخاصتي، اللَّهُمَّ أذهب عَنْهُم الرجس وطهرهم تَطْهِيرا " كَمَا تقدم ذكره. وَرُبمَا قَالَت الشِّيعَة إِن أهل الْبَيْت: عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - وَحده، كَمَا نَقله عَنْهُم أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " شرح اللمع ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1599 فَائِدَة: المُرَاد بالشيعة: من ينْسب إِلَى حب عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -، وَيَزْعُم أَنه من شيعته، وَقد كَانَ فِي الأَصْل لقباً للَّذين ألفوه فِي حَيَاته كسلمان، وَأبي ذَر، والمقداد، وعمار، وَغَيرهم - رَضِي الله عَنْهُم -، ثمَّ صَار لقباً بعد ذَلِك على من يرى تفضيله على كل الصَّحَابَة، وَأُمُور أُخْرَى قَالُوا بهَا، لَا يرضاها عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أبدا، وَلَا أحد من ذُريَّته مِمَّن يقْتَدى بِهِ، ثمَّ تفَرقُوا فرقا كَثِيرَة، وَهَؤُلَاء هم المُرَاد بِإِطْلَاق الْأُصُولِيِّينَ وَغَيرهم الشِّيعَة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1600 قَوْله: {فصل} {أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر لَا يشْتَرط عدد التَّوَاتُر فِيهِ} ، أَي: فِي الْإِجْمَاع، كدليل السّمع، وَنَقله ابْن برهَان عَن مُعظم الْعلمَاء؛ لِأَن الْمَقْصُود اتِّفَاق مجتهدي الْأمة، وَقد حصل الِاتِّفَاق. {وَخَالف أَبُو الْمَعَالِي} ، وَأَبُو بكر الباقلاني، وَطَوَائِف من الْمُتَكَلِّمين فَقَالُوا: لَا ينْعَقد عقلا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1601 وَمعنى قَوْلهم: - عقلا - أَنهم إِذا لم يبلغُوا عدد التَّوَاتُر لَا يمْتَنع عقلا تواطؤهم على الْخَطَأ، لَكِن إِنَّمَا هَذَا تَفْرِيع على أَن عِلّة حجية الْإِجْمَاع ذَلِك، وَالْمُعْتَمد - كَمَا تقدم - إِنَّمَا هُوَ الْقُرْآن وَالسّنة لَا الْعقل. قَوْله: {فَلَو بَقِي وَاحِد فإجماع فِي ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا} ، قَالَه ابْن مُفْلِح وتابعناه، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ، وَابْن سُرَيج، وَابْن عقيل، وَعَزاهُ الْهِنْدِيّ للأكثرين. قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " فِيمَا إِذا خَالف وَاحِد أَو اثْنَان: وَمِنْهَا أَنه لَو قل عدد الِاجْتِهَاد فَلم يبْق إِلَّا الْوَاحِد والاثنان لفتنة أَو غَيرهَا استوعبتهم - وَالْعِيَاذ بِاللَّه - كَمَا قل الْقُرَّاء فِي قتال أهل الرِّدَّة بِكَثْرَة من قتل من الْمُسلمين، كَانَ [من] بَقِي من الْمُجْتَهدين مُسْتقِلّا بِالْإِجْمَاع وَلم ينخرم الْإِجْمَاع؛ لعدم الْكَثْرَة، إِذا كَانَ هَذَا الْعدَد الْقَلِيل يصلح لإِثْبَات أصل الْإِجْمَاع الْمَقْطُوع بِهِ فَأولى أَن يصلح لفك الْإِجْمَاع واختلاله بمخالفته. انْتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1602 وَقَالَ الْغَزالِيّ: إِن وَافقه الْعَوام واعتبرنا قَوْلهم كَانَ إِجْمَاعًا، وَإِلَّا فَلَا. وَقيل: يكون حجَّة، وَلَا نُسَمِّيه إِجْمَاعًا. وَقيل: لَا نُسَمِّيه حجَّة وَلَا إِجْمَاعًا، اخْتَارَهُ كثير من الْعلمَاء، مِنْهُم: التَّاج السُّبْكِيّ، والبرماوي، وَغَيرهمَا لشعور الْإِجْمَاع بِالْإِجْمَاع. وعَلى كل حَال للشَّافِعِيَّة قَولَانِ، الْمُرَجح أَنه لَيْسَ بِإِجْمَاع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1603 قَوْله: {فصل} {أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَأكْثر الْحَنَفِيَّة، والمالكية، وَحكي عَن الشَّافِعِي، وَأكْثر أَصْحَابه: لَو قَالَ مُجْتَهد قولا وانتشر وَلم يُنكر قبل اسْتِقْرَار الْمذَاهب فإجماع} . أَي: ظَنِّي وَذَلِكَ لِأَن الظَّاهِر الْمُوَافقَة لبعد سكوتهم عَادَة؛ وَلذَلِك يَأْتِي فِي قَول الصَّحَابِيّ والتابعي فِي معرض الْحجَّة: كَانُوا يَقُولُونَ أَو يرَوْنَ وَنَحْوه، وَمَعْلُوم أَن كل أحد لم يُصَرح بِهِ، وسكوتهم يشْعر بالموافقة وَإِلَّا لأنكر ذَلِك، وَهُوَ مستمد من سُكُوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على فعل أحد بِلَا دَاع كَمَا تقدم. قَالَ الْبَاجِيّ: هُوَ قَول أَكثر المالكيين، وَالْقَاضِي أبي الطّيب، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1604 وَشَيخنَا أبي إِسْحَاق، وَأكْثر أَصْحَاب الشَّافِعِي. قَالَ ابْن برهَان: إِلَيْهِ ذهب كَافَّة أهل الْعلم. وَنَقله فِي " الْبَحْر " عَن الْأَكْثَرين. وَفِي " شرح الْوَسِيط " للنووي: الصَّوَاب من مَذْهَب الشَّافِعِي أَنه حجَّة، وَإِجْمَاع، وَهُوَ مَوْجُود فِي كتب الْعِرَاقِيّين. انْتهى. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: الْمُرَجح أَنه إِجْمَاع ظَنِّي، لَا قَطْعِيّ؛ لِأَن الْقطع مَعَ قيام الِاحْتِمَال فِي السُّكُوت لَا يُمكن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1605 وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل، والآمدي، والرازي: هُوَ ظَنِّي خلافًا لبَعض الْفُقَهَاء. وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْفُنُون "، وَالْقَاضِي أَبُو بكر بن الباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَحكي عَن الشَّافِعِي أَيْضا، حَكَاهُ الْآمِدِيّ، وَدَاوُد، وَأَبُو هَاشم: لَا يكون إِجْمَاعًا، وَلَا حجَّة؛ لاحْتِمَال توقف السَّاكِت أَو ذَهَابه إِلَى تصويب كل مُجْتَهد. حَكَاهُ الباقلاني عَن الشَّافِعِي، وَاخْتَارَهُ، وَقَالَ: إِنَّه آخر أَقْوَاله. وَاخْتَارَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَقَالَ: إِنَّه ظَاهر الْمَذْهَب حَيْثُ قَالَ: لَا ينْسب إِلَى سَاكِت قَول - وَهِي من عباراته الرشيقة -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1606 وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي " المنخول ": نَص عَلَيْهِ فِي الْجَدِيد. وَاسْتدلَّ - أَيْضا - بِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه لم يجْتَهد، أَو اجْتهد، ووقف، أَو خَالف وكتم للتروي وَالنَّظَر، أَو لِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب، أَو وقر الْقَائِل أَو هابه. ورده أَصْحَاب القَوْل الأول بِأَنَّهُ خلاف الظَّاهِر، لَا سِيمَا فِي حق الصَّحَابَة مَعَ طول بقائهم، واعتقاد الْإِصَابَة لَا يمْنَع النّظر لتعرف الْحق، كالمعروف من حَالهم. وَقَالَ بعض الْحَنَفِيَّة، والصيرفي، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب فِي " الْمُخْتَصر الْكَبِير "، وَتردد فِي " الصَّغِير "، وَحكى عَن الشَّافِعِي أَنه حجَّة لَا إِجْمَاع. وَنَقله فِي " الْمُعْتَمد " عَن أبي هَاشم، وَنَقله ابْن برهَان وَالشَّيْخ فِي " اللمع " عَن الصَّيْرَفِي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1607 وَقَالَ ابْن أبي هُرَيْرَة من الشَّافِعِيَّة: يكون حجَّة فِي الْفتيا لَا الحكم. حَكَاهُ الْمجد فِي " المسودة ". قَالَ الْبرمَاوِيّ: يكون إِجْمَاعًا إِن كَانَ فتيا لَا حكما، حَكَاهُ الْأَكْثَر عَنهُ هَكَذَا. وَفِي " الْمَحْصُول " عَنهُ: أَنه إِن كَانَ من حَاكم وَبَينهمَا فرق لاحْتِمَال أَن يكون فتيا من حَاكم، لَا حكما. وَهُوَ مَا نَقله عَن الرَّوْيَانِيّ فِي " الْبَحْر "، وَابْن برهَان فِي " الْأَوْسَط ". قَالَ ابْن أبي هُرَيْرَة: إِن الْعَادة تقضي بِأَن ترك الْإِنْكَار فِي الْفتيا الْمُوَافقَة ظَاهر، بِخِلَاف ترك الْإِنْكَار فِي حكم الْحَاكِم؛ فَإِنَّهُ قد يحضر الْفُقَهَاء مجَالِس الْحُكَّام، ويشاهدون خطأهم فِي الْأَحْكَام ويتركون الْإِنْكَار عَلَيْهِم؛ لمهابتهم أَو غير ذَلِك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1608 رد: هَذَا لَا يمْنَع من إبداء الْخلاف، كَمَا قيل لعمر وَغَيره فِي قضايا. وَقَالَ الْمروزِي عَكسه، يَعْنِي عكس قَول ابْن أبي هُرَيْرَة، يَعْنِي: أَنه حجَّة، أَو إِجْمَاع فِي الحكم لَا الْفتيا؛ لِأَن الْأَغْلَب فِي الحكم أَن يكون عَن مُشَاورَة. {وَقيل: إِجْمَاع فِيمَا يفوت استدراكه} إِن كَانَ فِي شَيْء يفوت تَدَارُكه، كإراقة دم أَو اسْتِبَاحَة فرج، كَانَ إِجْمَاعًا، وَإِلَّا فَلَا. حَكَاهُ ابْن السَّمْعَانِيّ. {وَقيل: إِجْمَاع فِيمَا يَدُوم ويتكرر وُقُوعه} ، والخوض فِيهِ فالسكوتي فِيهِ إِجْمَاع. اخْتَارَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي آخر الْمَسْأَلَة. وَقيل: إِن كَانَ فِي عصر الصَّحَابَة كَانَ إِجْمَاعًا، وَإِلَّا فَلَا. حَكَاهُ الرَّوْيَانِيّ فِي " الْبَحْر " وَالْمَاوَرْدِيّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1609 {وَقيل: إِن كَانَ السَّاكِت أقل} فإجماع، وَإِلَّا فَلَا. حَكَاهُ السَّرخسِيّ من الْحَنَفِيَّة. {وَقيل: إِن انقرض الْعَصْر} كَانَ إِجْمَاعًا، وَإِلَّا كَانَ حجَّة. اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب؛ لِأَن الِاحْتِمَال يضعف. قَالَ ابْن مُفْلِح: اخْتَار أَبُو الْخطاب، والجبائي، والآمدي، وَغَيرهم اعْتِبَار انْقِرَاض الْعَصْر ليضعف الِاحْتِمَال. انْتهى. وَاخْتَارَهُ الْبَنْدَنِيجِيّ من أَصْحَاب الشَّافِعِي. قَالَ أَبُو إِسْحَاق فِي " اللمع ": إِنَّه الْمَذْهَب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1610 وَقَالَ أَبُو الْخطاب - أَيْضا - فِي " التَّمْهِيد "، وَالشَّيْخ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي: إِن لم يكن القَوْل فِي تَكْلِيف فَلَا إِجْمَاع، وَقَالَهُ الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم، كَقَوْل الْقَائِل مثلا: عمار أفضل من حُذَيْفَة، وَبِالْعَكْسِ، لَا يدل السُّكُوت فِيهِ على شَيْء؛ إِذْ لَا تَكْلِيف على النَّاس فِيهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا حَاجَة إِلَى إِنْكَاره، أَو تصويبه، وَيَأْتِي قَرِيبا فِي تعداد الشُّرُوط، وَلم يفرق كثير من أَصْحَابنَا وَغَيرهم، بل أطْلقُوا. تَنْبِيه: حَيْثُ قُلْنَا: إِنَّه إِجْمَاع، أَو حجَّة لَا بُد يشْتَرط لَهُ شُرُوط، مِنْهَا: كَون ذَلِك فِي الْمسَائِل التكليفية كَمَا تقدم فِي القَوْل الَّذِي قبل هَذَا عَن أبي الْخطاب وَغَيره، وَكَلَام الْبرمَاوِيّ وَغَيره يَقْتَضِي أَنه مَحل وفَاق. وَأَن يكون فِي مَحل الِاجْتِهَاد. وَأَن يطلعوا على ذَلِك. وَأَن لَا يكون هُنَاكَ أَمارَة سخط، وَإِن لم يصرحوا بِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1611 وَأَن يمْضِي قدر مهل النّظر عَادَة فِي تِلْكَ الْحَالة. وَأَن لَا يُنكر ذَلِك مَعَ طول الزَّمَان. فَخرج مَا لَيْسَ من مسَائِل التَّكْلِيف كَمَا تقدم، وَمَا إِذا كَانَ الْقَائِل مُخَالفا للثابت الْقطعِي فالسكوت عَنهُ لَيْسَ دَلِيلا على مُوَافَقَته، وَخرج أَيْضا مَا لم يطلع عَلَيْهِ الساكتون فَإِنَّهُ لَا يكون حجَّة قطعا. وَهل المُرَاد الْقطع باطلاعهم، أَو غَلَبَة الظَّن بذلك؛ لانتشاره وشهرته كَمَا صرح بِهِ الْأُسْتَاذ نقلا عَن مَذْهَب الشَّافِعِي، واختياراً لَهُ، وَأما إِن احْتمل وَاحْتمل فَلَا، كَمَا نَقله ابْن الْحَاجِب عَن الْأَكْثَر، وَمُقَابِله قَول أَنه حجَّة. وَخرج أَيْضا مَا إِذا كَانَ هُنَاكَ أَمارَة سخط فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحجَّة بِلَا خلاف، كَمَا أَنه إِذا كَانَ مَعَه أَمارَة رضى يكون إِجْمَاعًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1612 قَالَه الرَّوْيَانِيّ، وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي، وَفِي كَلَام الرَّازِيّ مَا هُوَ كَالصَّرِيحِ فِي أَن الْخلاف جَار مَعَ أَمارَة سخط. وَخرج أَيْضا بِهِ مَا إِذا لم تمض مُدَّة للنَّظَر؛ لاحْتِمَال أَن يكون السَّاكِت فِي مهلة للنَّظَر. وَمن شَرط مَحل الْخلاف أَيْضا أَن لَا يطول الزَّمَان مَعَ تكَرر الْوَاقِعَة، فَإِن كَانَ كَذَلِك فَهُوَ مَحل الْخلاف السَّابِق، كَمَا هُوَ مُقْتَضى كَلَام أبي الْمَعَالِي، وَصرح بِهِ ابْن التلمساني. وَأَن يكون قبل اسْتِقْرَار الْمذَاهب، فَأَما بعد استقرارها فَلَا أثر للسكوت قطعا، كإفتاء مقلد سكت عَنهُ المخالفون للْعلم بمذهبهم، ومذهبه، كحنبلي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1613 يُفْتِي بِنَقْض الْوضُوء بِمَسّ الذّكر، فَلَا يدل سكُوت من يُخَالِفهُ - كالحنفية - على مُوَافَقَته، وَالله أعلم. تَنْبِيه: يَنْبَغِي أَن يدْخل فِي الْمَسْأَلَة مَا إِذا فعل بعض أهل الْإِجْمَاع فعلا وَلم يصدر مِنْهُم قَول، وَسكت الْبَاقُونَ عَلَيْهِ، أَن يكون هَذَا إِجْمَاعًا سكوتياً بِنَاء على مَا سبق. من الْمُرَجح فِي أصل الْإِجْمَاع أَنه لَا فرق بَين القَوْل وَالْفِعْل، بل يتَوَلَّد من ذَلِك أَن الْفَاعِل لَو كَانَ من غير أهل الِاجْتِهَاد، وإطلع عَلَيْهِ أهل الْإِجْمَاع، وَلم ينكروا عَلَيْهِ، وَلَا دَاعِي لعدم إنكارهم - أَن يكون ذَلِك حجَّة؛ لِأَن تقريرهم كتقرير الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شخصا على فعل كَمَا تقدم. قَوْله: {وَإِن لم ينتشر} فَتَارَة يكون من صَحَابِيّ أَو من تَابِعِيّ، وَتارَة يكون من غَيرهمَا، فَإِن كَانَ أَحدهمَا {فَيَأْتِي ذَلِك فِي مَذْهَب الصَّحَابِيّ} مفصلا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1614 وَلَعَلَّ هَذِه الْمَسْأَلَة غير تِلْكَ، بل يحْتَمل أَن تكون تِلْكَ أَعم من هَذِه؛ لِأَن لهَذِهِ شُرُوطًا لَا تشْتَرط فِي تِلْكَ، وَهُوَ الظَّاهِر وَإِلَّا تنَاقض كَلَامهم، وَإِن كَانَ من غَيرهمَا فَالْأَصَحّ أَنه لَيْسَ بِإِجْمَاع، وَلَا حجَّة لعدم الدَّلِيل على ذَلِك، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر. وَعند بَعضهم أَنه إِجْمَاع وَحجَّة؛ لِئَلَّا يَخْلُو الْعَصْر عَن الْحق. رد بِجَوَازِهِ لعدم علمهمْ، نَقله ابْن مُفْلِح. وَقيل: يكون حجَّة اخْتَارَهُ بَعضهم. وَقَالَ الْفَخر الرَّازِيّ: الْحق أَنه إِن كَانَ فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى - أَي: يَقع النَّاس فِيهِ كثيرا - كنقض الْوضُوء بِمَسّ الذّكر فَهُوَ حجَّة، وَإِلَّا فَلَا. وَجزم بِهِ الْبَيْضَاوِيّ. لَكِن حاكي هَذِه الْأَقْوَال لم يفرق بَين الصَّحَابِيّ وَغَيره فَجعل الْأَقْوَال شَامِلَة لكل مُجْتَهد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1615 وَاعْلَم أَن المُرَاد عدم الانتشار هُنَا والشهرة، لَا الْعلم ببلوغ الْخَبَر للْبَاقِي، وَاشْترط الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب عدم الانتشار، يُريدَان بِهِ نفي الْعلم باطلاعهم وَلم يريدا بِهِ عدم الشُّهْرَة فَلَا خلاف فِي الْمَعْنى، قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ. وَفرض ابْن الْحَاجِب أصل الْمَسْأَلَة فِيمَا إِذا عرف الْبَاقِي قَول الْمُجْتَهد فَقَالَ: إِذا أفتى وَاحِد وَعرفُوا بِهِ وَلم يُنكره أحد. وَقَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: وانتشر، وفسروه بِمَا قَالَه الْقَرَافِيّ وَغَيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1616 قَوْله: {فصل} {أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَابْن فورك، وسليم، وَحكي عَن الْأَشْعَرِيّ، والمعتزلة: يعْتَبر انْقِرَاض الْعَصْر. وَالْأَكْثَر لَا يشْتَرط، مِنْهُم: الطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَأَبُو الْخطاب وَقَالَ: أَوْمَأ إِلَيْهِ أَحْمد، وَحَكَاهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل رِوَايَة. وَقيل: للسكوتي، كالآمدي وَغَيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1617 وَقيل: للقياسي. وَقيل: فِيهِ مهلة. وَقيل: إِن بَقِي عدد التَّوَاتُر. وَقيل: فِي إِجْمَاع الصَّحَابَة} . اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة اخْتِلَافا كثيرا، فَالَّذِي عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَاخْتَارَهُ ابْن فورك، وسليم الرَّازِيّ، وَنَقله ابْن برهَان عَن الْمُعْتَزلَة. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَذكر ابْن برهَان أَنه مَذْهَبهم، وَنَقله الْأُسْتَاذ عَن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1618 الْأَشْعَرِيّ، أَنه يعْتَبر انْقِرَاض الْعَصْر. وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور الْعلمَاء أَنه لَا يعْتَبر ذَلِك، وَقَالَهُ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة. قَالَ الباقلاني: هُوَ قَول الْجُمْهُور. وَقَالَ الْبَاجِيّ: هُوَ قَول أَكثر الْفُقَهَاء والمتكلمين. وَقَالَ أَبُو سُفْيَان: هُوَ قَول أَصْحَاب أبي حنيفَة، وَصَححهُ الدبوسي، وَأَبُو بكر الرَّازِيّ، وَاخْتَارَهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل، وميل ابْن مُفْلِح إِلَيْهِ. وَقيل: يعْتَبر الانقراض للْإِجْمَاع السكوتي؛ لضَعْفه دون غَيره، اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَغَيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1619 وَنقل عَن الْأُسْتَاذ أبي مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ وَقَالَ: إِنَّه قَول الحذاق من أَصْحَاب الشَّافِعِي. وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: هُوَ قَول أَكثر الْأَصْحَاب. وَنَقله أَبُو الْمَعَالِي عَن الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق، وَاخْتَارَهُ الْبَنْدَنِيجِيّ. وَجعل سليم الرَّازِيّ مَحل الْخلاف فِي غير السكوتي، وَأَن الانقراض فِي السكوتي لَا خلاف فِيهِ. وَقيل: يعْتَبر الانقراض للْإِجْمَاع القياسي دون غَيره، نَقله ابْن الْحَاجِب عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَيَأْتِي أَن ابْن الْعِرَاقِيّ خطأه فِي ذَلِك، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1620 لَكِن الْهِنْدِيّ وَغَيره نقل عَنهُ التَّفْصِيل بَين أَن يعلم أَن متمسكهم ظَنِّي فَيعْتَبر طول الزَّمَان، أَو لَا فَلَا. وَقيل: يعْتَبر الانقراض إِن كَانَ فِيهِ مهلة، وَإِلَّا فَلَا. فَينْعَقد قبل الانقراض فِيمَا لَا مهلة فِيهِ مِمَّا لَا يُمكن استدراكه من قتل نفس واستباحة فرج دون غَيره حَكَاهُ ابْن السَّمْعَانِيّ عَن بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَهُوَ نَظِير مَا سبق فِي السكوتي. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ فِي " الْحَاوِي " أَن مَا لَا يتَعَلَّق بِهِ إِتْلَاف يشْتَرط فِيهِ الانقراض قطعا وَمَا لَا يُمكن استدراكه فِيهِ وَجْهَان. وَقيل: لَا يعْتَبر الانقراض إِن بَقِي عدد التَّوَاتُر، وَإِن بَقِي أقل من عدد التَّوَاتُر لم يكترث بِالْبَاقِي، ونحكم بانعقاد الْإِجْمَاع بِخِلَاف مَا إِذا بَقِي أَكثر، حَكَاهُ الباقلاني فِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب "، وَأَشَارَ إِلَيْهِ ابْن برهَان فِي " الْوَجِيز ". قَالَ الْبرمَاوِيّ الْمُشْتَرط أَن لَا يبْقى دون عدد التَّوَاتُر، فَحِينَئِذٍ لَا يكترث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1621 بِالْبَاقِي وَيحكم بانعقاد الْإِجْمَاع بِخِلَاف مَا إِذا بَقِي أَكثر. وَلَعَلَّ " لَا " زَائِدَة فِي قَوْله: أَن لَا يبْقى وَأَنه أَن يبْقى. وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: الْخَامِس: إِن بَقِي مِنْهُم كثير وَضبط بِعَدَد التَّوَاتُر لم يكن إِجْمَاعهم حجَّة، وَإِن كَانَ الْبَاقِي مِنْهُم قَلِيلا وَهُوَ دون عدد التَّوَاتُر انْعَقَد الْإِجْمَاع. انْتهى. وَحَاصِله: أَنه إِذا مَاتَ مِنْهُم جمع وَبَقِي مِنْهُم عدد التَّوَاتُر وَرَجَعُوا أَو بَعضهم لم ينْعَقد الْإِجْمَاع، وَإِن بَقِي مِنْهُم دون عدد التَّوَاتُر وَرَجَعُوا أَو بَعضهم لم يُؤثر فِي الْإِجْمَاع. وَقيل: يعْتَبر انْقِرَاض الْعَصْر فِي إِجْمَاع الصَّحَابَة دون إِجْمَاع غَيرهم، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الطَّبَرِيّ. اسْتدلَّ لِأَحْمَد وَمن تَابعه: بقوله تَعَالَى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} [الْبَقَرَة: 143] ومنعهم من الرُّجُوع بعض كَونهم شُهَدَاء على أنفسهم. أُجِيب: لَا مُنَافَاة، بل هِيَ أولى؛ لانْتِفَاء التُّهْمَة. وَاسْتدلَّ أَيْضا: بِكَوْن عَليّ خَالف عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - بعد مَوته فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1622 بيع أم الْوَلَد، وَأَن حد الْخمر ثَمَانُون، وَعمر خَالف أَبَا بكر - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي قسْمَة الْفَيْء ففضل عمر وَسوى أَبُو بكر. أُجِيب عَن الأول: بِأَنَّهُ لَا يدل على سبق الْإِجْمَاع، وَقَول عُبَيْدَة: (رَأْيك فِي الْجَمَاعَة - أَي: زمن الِاجْتِمَاع والألفة - أحب إِلَيْنَا من رَأْيك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1623 وَحدك) كَيفَ وَقد قَالَ جَابر: بعناهن على زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأبي بكر، وَشطر من ولَايَة عمر) ؟ ! وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس. وَعَن الثَّانِي: أَنه خَالف السكوتي، ثمَّ هُوَ فعل. وَعَن الثَّالِث: بِأَنَّهُ خَالف فِي زَمَنه. وَاسْتدلَّ أَيْضا: بِأَنَّهُ اجْتِهَاد فساغ الرُّجُوع، وَإِلَّا منع الِاجْتِهَاد الِاجْتِهَاد. أُجِيب: لَا يجوز؛ إِذْ صَار الأول قَطْعِيا. وَاسْتدلَّ: بِأَن الْمَنْع يلْزم مِنْهُ إِلْغَاء الْخَبَر الصَّحِيح بِتَقْدِير الِاطِّلَاع عَلَيْهِ إِذا خَالف إِجْمَاعهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1624 أُجِيب: لُزُوم الإلغاء مَمْنُوع لتوقفه على تَقْدِيره، وَهُوَ بعيد، أَو مُمْتَنع؛ لِأَن الْبَارِي تَعَالَى عصمهم عَن الِاتِّفَاق على خلاف الْخَبَر الصَّحِيح، وَلَو سلم فالإجماع قَطْعِيّ يقدم على الْخَبَر الظني. قَالَ ابْن مُفْلِح: رد بِأَنَّهُ بعيد. وَقيل: محَال للعصمة، ثمَّ يلْزم لَو انقرضوا فَلَا أثر لَهُ؛ لِأَن الْإِجْمَاع قَاطع؛ وَلِأَنَّهُ إِن كَانَ عَن نَص لم يتَغَيَّر، وَإِلَّا لم يجز نقض اجْتِهَاد بِمثلِهِ لَا سِيمَا لقِيَام الْإِجْمَاع هُنَا. وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: إِذا عَارضه نَص أول الْقَابِل لَهُ وَإِلَّا تساقطا. وَاسْتدلَّ أَيْضا: بِأَن مَوته عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام شَرط دوَام الحكم فَكَذَا هُنَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1625 أُجِيب: لِإِمْكَان نسخه فيرفع قَطْعِيّ بِمثلِهِ. وَاسْتدلَّ لقَوْل الْأَكْثَر بأدلة الْإِجْمَاع، وَبِأَنَّهُ لَو اعْتبر امْتنع الْإِجْمَاع للتلاحق، احْتج بِهِ أَبُو الْخطاب وَجَمَاعَة. ورده القَاضِي وَجَمَاعَة: بِأَنَّهُ لَا يعْتَبر التَّابِعِيّ مَعَ الصَّحَابَة فِي رِوَايَة، ثمَّ إِن اعْتبر لم يعْتَبر تَابع تَابِعِيّ أدْركهُ مُجْتَهدا؛ لِأَنَّهُ لم يعاصر الصَّحَابَة. زَاد ابْن عقيل: ولندرة إِدْرَاكه مُجْتَهدا. وللأكثر أَن يَقُولُوا: التَّابِعِيّ فِي هَذَا الْإِجْمَاع كالصحابي لاعْتِبَار قَوْله فِيهِ فَلَا فرق. وَاسْتدلَّ للْأَكْثَر أَيْضا: الْحجَّة قَوْلهم فَلم يعْتَبر مَوْتهمْ كالرسول. رد: مَحل النزاع وَقَول الرَّسُول عَن وَحي فَلم يُقَابله غَيره، وَقَوْلهمْ عَن اجْتِهَاد. قَوْله: {حَيْثُ اعْتبر الانقراض} ، وَهُوَ موت من اعْتبر فِيهِ {سَاغَ لَهُم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1626 ولبعضهم الرُّجُوع لدَلِيل، وَلَو عقب الْإِجْمَاع} ؛ لِأَن الْإِجْمَاع لم يسْتَقرّ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يسْتَقرّ بِمَوْت من اعْتبر فِيهِ، وَالْمُعْتَبر فِيهِ هم المجتهدون لَا غير على الصَّحِيح كَمَا تقدم. وَقَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": شرطُوا انْقِرَاض كلهم أَو غالبهم أَو عُلَمَائهمْ، أَقْوَال، اعْتِبَار الْعَاميّ والنادر - يَعْنِي من يَقُول فِي الْإِجْمَاع: نعتبر الْعَامَّة والفرد النَّادِر - يعْتَبر مَوْتهمْ، وَمن يَقُول: لَا يعْتَبر قَول النَّادِر اعْتبر موت الْغَالِب، وَمن يَقُول: لَا يعْتَبر إِلَّا قَول الْعَالم الْمُجْتَهد اعْتبر مَوته فَقَط. هَكَذَا شرح شراحه، لَكِن قَالَ الكوراني: لَيْسَ بسديد؛ لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَن الْمَذْكُورين من أَحْمد، وَابْن فورك، وسليم مُخْتَلفُونَ فِي الْمَسْأَلَة؛ بَعضهم شَرط مُوَافقَة الْعَاميّ، وَبَعْضهمْ لَا يُبَالِي بمخالفة النَّادِر، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك؛ إِذْ لم ينْقل عَن أحد مِنْهُم مَا لزم من هَذَا الْكَلَام، مَعَ أَن الْكَلَام فِي حجية الْإِجْمَاع قبل الانقراض، وَقد تقدم فِي المُصَنّف - يَعْنِي التَّاج - أَن من شَرط وفَاق الْعَاميّ إِنَّمَا شَرط فِي إِطْلَاق الْأمة لَا فِي الحجية، فَتَأمل. انْتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1627 وَلذَلِك عدلنا عَن مثل هَذِه الْعبارَة وَقُلْنَا: وَهُوَ موت من اعْتبر فِيهِ، وَمن يعْتَبر انْقِرَاض الْعَصْر لَا يعْتَبر فِيهِ إِلَّا الْمُجْتَهدين فَيعْتَبر مَوْتهمْ لَا غير، فَسلم مِمَّا يرد عَلَيْهِ. إِذا علم ذَلِك فالمشترطون للانقراض لَا يمْنَعُونَ كَون الْإِجْمَاع حجَّة قبل الانقراض، بل يَقُولُونَ: نحتج بِهِ، لَكِن لَو رَجَعَ رَاجع قدح، أَو حدث مُخَالف قدح. وَنَظِيره: أَن مَا يَقُوله الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو يَفْعَله حجَّة فِي حَيَاته، وَإِن احْتمل أَن يتبدل بنسخ عملا بِالْأَصْلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَإِذا رَجَعَ [بَعضهم] تبين أَنهم كَانُوا على خطأ لَا يقرونَ عَلَيْهِ بِخِلَافِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ فَإِن قَوْله وَفعله حق فِي الْحَالين. قَوْله: {وَحَيْثُ لَا يعْتَبر} - يَعْنِي: انْقِرَاض الْعَصْر - {لَا يعْتَبر تمادي الزَّمن مُطلقًا} ، بل يكون اتِّفَاقهم حجَّة بِمُجَرَّدِهِ، حَتَّى لَو رَجَعَ بَعضهم لَا يعْتد بِهِ، وَيكون خارقاً للْإِجْمَاع، وَلَو نَشأ مخالفه لَا يعْتد بقوله، بل يكون الْإِجْمَاع حجَّة عَلَيْهِ، وَلَو ظهر للْكُلّ مَا يُوجب الرُّجُوع فَرجع كلهم مُجْمِعِينَ لم يجز ذَلِك، بل إِجْمَاعهم الأول حجَّة عَلَيْهِم وعَلى غَيرهم، حَتَّى لَو جَاءَ غَيرهم مُجْمِعِينَ على خلاف ذَلِك لم يجز أَيْضا، وَإِلَّا لتصادم الإجماعان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1628 وَاسْتدلَّ لهَذَا أَبُو الْمَعَالِي فِي " النِّهَايَة "، حَيْثُ اسْتدلَّ لمقابل قَول ابْن عَبَّاس: إِن الْأُم لَا تحجب إِلَى السُّدس إِلَّا بِثَلَاثَة إخْوَة. قَوْله: {وَاشْترط أَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ فِي " المنخول " فِي الظني مَعَ تكْرَار الْوَاقِعَة} . قَالَ الْغَزالِيّ: والمدار فِي طول الزَّمَان على الْعرف. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: إِن كَانَ الحكم ظنياً، لَا إِن قطعُوا بالحكم. وَيرد على نقل التَّاج السُّبْكِيّ عَن أبي الْمَعَالِي قَوْله: واشترطه إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي الظني، إِن إِمَام الْحَرَمَيْنِ لم يقْتَصر على طول الزَّمَان، بل شَرط مَعَ تكْرَار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1629 الْوَاقِعَة، وَعبارَته فِي " الْبُرْهَان ": وَشرط مَا ذَكرْنَاهُ أَن يغلب عَلَيْهِم فِي الزَّمن الطَّوِيل ذكر تِلْكَ الْوَاقِعَة، وترداد الْخَوْض فِيهَا، فَلَو وَقعت الْوَاقِعَة فسبقوا إِلَى حكم فِيهَا، ثمَّ تناسوها إِلَى سواهَا فَلَا أثر للزمان وَالْحَالة هَذِه. ثمَّ بنى على ذَلِك أَنهم لَو قَالُوا عَن ظن، ثمَّ مَاتُوا على الْفَوْر لَا يكون إِجْمَاعًا، ثمَّ أَشَارَ إِلَى ضبط الزَّمن فَقَالَ: الْمُعْتَبر زمن لَا يفْرض فِي مثله اسْتِقْرَار الجم الْغَفِير على رَأْي إِلَّا عَن قَاطع أَو نَازل منزلَة الْقَاطِع. انْتهى. وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَظهر بذلك أَن نقل ابْن الْحَاجِب عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ: إِن كَانَ عَن قِيَاس اشْترط انْقِرَاض الْعَصْر، وَإِلَّا فَلَا - غلط عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَا ينظر إِلَى الانقراض، وَإِنَّمَا يعْتَبر طول الْمدَّة وتكرر الْوَاقِعَة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1630 قَوْله: {فصل} {الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} من الْعلمَاء {لَا إِجْمَاع إِلَّا عَن دَلِيل} ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك؛ لِأَن الْإِجْمَاع لَا يكون إِلَّا من الْمُجْتَهدين، والمجتهد لَا يَقُول فِي الدّين بِغَيْر دَلِيل؛ فَإِن القَوْل بِغَيْر دَلِيل خطأ. وَأَيْضًا فَكَانَ يَقْتَضِي إِثْبَات شرع مُسْتَأْنف بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ بَاطِل؛ وَلِأَنَّهُ محَال عَادَة فكالواحد من الْأمة وَلَا عِبْرَة بمخالفة صَاحب النظام فِيهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1631 وَالدَّلِيل إِمَّا كتاب، كإجماعهم على حد الزِّنَا وَالسَّرِقَة، وَغَيرهمَا مِمَّا لَا ينْحَصر، أَو سنة، كإجماعهم على تَوْرِيث كل من الْجدَّات السُّدس، وَنَحْوه، وَيَأْتِي الْقيَاس بعد ذَلِك. وَخَالف بعض الْمُتَكَلِّمين فِي ذَلِك فَقَالَ: يجوز أَن يحصل بالبخت والمصادفة، وَالْمعْنَى: أَن الْإِجْمَاع قد يكون عَن توفيق من الله تَعَالَى من غير مُسْتَند. وَأَجَابُوا عَمَّا سبق بِأَن الْخَطَأ إِنَّمَا هُوَ من الْوَاحِد من الْأمة، أما فِي كل الْأمة فَلَا. وأفسد ذَلِك بِأَن الْخَطَأ إِذا اجْتمع لَا يَنْقَلِب صَوَابا؛ لِأَن الصَّوَاب فِي قَول الْكل إِنَّمَا هُوَ مُرَاعَاة عدم الْخَطَأ من كل فَرد. وَقَالُوا: لَو كَانَ عَن دَلِيل كَانَ الدَّلِيل هُوَ الْحجَّة فَلَا فَائِدَة فِيهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1632 رد ذَلِك: بِأَن قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حجَّة فِي نَفسه وَهُوَ عَن دَلِيل هُوَ الْوَحْي، ثمَّ فَائِدَته سُقُوط الْبَحْث عَنَّا عَن دَلِيله وَحُرْمَة الْخلاف الْجَائِز قبله، وَبِأَنَّهُ يُوجب عدم انْعِقَاده عَن دَلِيل وَظهر للآمدي ضعف الْأَدِلَّة من الْجَانِبَيْنِ فَقَالَ: يجب أَن يُقَال: إِن أَجمعُوا عَن غير دَلِيل لم يكن إِلَّا حَقًا، فَجعل الْخلاف فِي الْجَوَاز لَا فِي الْوُقُوع. ورد: بِأَن الْخُصُوم استدلوا بصور لَا مُسْتَند فِيهَا على زعمهم، فلولا أَنه مَحل النزاع مَا استدلوا بهَا. قَوْله: {وَيجوز عَن اجْتِهَاد، وَقِيَاس} ، هَذَا الصَّحِيح، وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْعلمَاء {وَوَقع وَتحرم مُخَالفَته عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} . وَخَالف ابْن جرير، والظاهرية، والشيعة فِي الْجَوَاز، وَقوم فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1633 الْقيَاس الْخَفي، وَقوم فِي الْوُقُوع [وَبَعْضهمْ] فِي تَحْرِيم مُخَالفَته. أما الْوُقُوع فَقَالُوا: مثل إِرَاقَة نَحْو الشيرج إِذا وَقعت فِيهِ الْفَأْرَة قِيَاسا على السّمن، وَتَحْرِيم شَحم الْخِنْزِير قِيَاسا على لَحْمه الْمَنْصُوص عَلَيْهِ، وَنَحْوه. قَالَ ابْن مُفْلِح: لنا، وُقُوعه لَا يلْزم مِنْهُ محَال، وأجمعت الصَّحَابَة على خلَافَة أبي بكر، وقتال مانعي الزَّكَاة، وَتَحْرِيم شَحم الْخِنْزِير، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1634 وَالْأَصْل عدم النَّص، ثمَّ لَو كَانَ نَص لظهر وَاحْتج بِهِ. وَخَالف ابْن جرير، والظاهرية والشيعة فِي الْجَوَاز، وَنقل عَن مُحَمَّد بن جرير أَنه مَنعه عقلا لاخْتِلَاف الدَّوَاعِي والأغراض، وتفاوتهم فِي الذكاء والفطنة. قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": وَقَالَ قوم: لَا يتَصَوَّر ذَلِك؛ إِذْ كَيفَ يتَصَوَّر اتِّفَاق أمة مَعَ اخْتِلَاف طبائعها، وتفاوت أفهامها على مظنون؟ أم كَيفَ تَجْتَمِع على قِيَاس مَعَ اخْتلَافهمْ فِي الْقيَاس؟ انْتهى. وَخَالف بَعضهم فِي الْقيَاس الْخَفي فَمَنعه فِيهِ، وَأَجَازَهُ فِي الْقيَاس الْجَلِيّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1635 وَبَعْضهمْ خَالف فِي قِيَاس الشّبَه دون قِيَاس الْمَعْنى. وَبَعْضهمْ خَالف فِي الْوُقُوع فَقَالَ: يجوز أَن يَقع عَن قِيَاس، وَلَكِن لم يَقع. ورد ذَلِك بِإِقَامَة الصّديق وَغَيره. وَبَعْضهمْ خَالف فِي تَحْرِيم مُخَالفَته، وَحكي عَن أبي حنيفَة. قَالَ بَعضهم: وَقع وَلَكِن لَا تحرم مُخَالفَته. قَالَ المخالفون فِي الْجَوَاز: الْخلاف فِي الْقيَاس فِي كل عصر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1636 رد ذَلِك بِمَنْعه فِي الصَّحَابَة، بل حَادث، فَهُوَ كَخَبَر الْوَاحِد، والعموم فيهمَا خلاف، وانعقد عَنْهُمَا بِلَا خلاف. قَالَ: الْقيَاس فرع معرض للخطأ، وَلَا يَصح دَلِيلا لأصل مَعْصُوم عَنهُ. رد: الْقيَاس فرع الْكتاب وَالسّنة لَا للْإِجْمَاع، فَلم يبن الْإِجْمَاع على فَرعه، وَحكم هَذَا الْقيَاس قَطْعِيّ لعصمتهم عَن الْخَطَأ. ورده الْآمِدِيّ بِأَن إِجْمَاعهم عَلَيْهِ يسْبقهُ إِجْمَاعهم على صِحَّته فاستندوا إِلَى قَطْعِيّ، ثمَّ ألزم بِخَبَر الْوَاحِد فَإِنَّهُ ظَنِّي وَالْإِجْمَاع الْمُسْتَند إِلَيْهِ قَطْعِيّ. وَلابْن عقيل: مَعْنَاهُ، قَالُوا: يلْزم تَحْرِيم مُخَالفَة الْمُجْتَهد، وَهِي جَائِزَة إِجْمَاعًا. [رد] الْمجمع عَلَيْهِ مُخَالفَة مُجْتَهد مُنْفَرد لَا الْأمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1637 قَوْله: {فصل} {أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وَالْأَكْثَر، إِذا اخْتلفُوا على قَوْلَيْنِ حرم إِحْدَاث ثَالِث} . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " عِنْد أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَعَامة الْعلمَاء. انْتهى. كَمَا لوأجمعوا على قَول وَاحِد فَإِنَّهُ محرم إِحْدَاث قَول ثَان، وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة ". قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور: هَذَا قَول الْجُمْهُور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1638 {وَقَالَ الْآمِدِيّ، والرازي، والطوفي، وَجمع: إِن رفع} القَوْل الثَّالِث {الْمجمع عَلَيْهِ} حرم إحداثه، وَإِن لم يرفع الْمجمع عَلَيْهِ جَازَ، فَالَّذِي يرفع الْمجمع عَلَيْهِ. إِذا رد بكرا بِعَيْب بعد وَطئهَا مجَّانا، أَو أسقط الْجد بالإخوة، فَهَذَا القَوْل يحرم إحداثه. فَإِنَّهُم اخْتلفُوا فِي الْبكر إِذا وَطئهَا المُشْتَرِي، ثمَّ وجد بهَا عَيْبا. قيل: ترد مَعَ الْأَرْش. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1639 وَقيل: لَا ترد بِوَجْه. فَالْقَوْل إِنَّهَا ترد مجَّانا رَافع لإِجْمَاع الْقَوْلَيْنِ على منع الرَّد قهرا مجَّانا، وَإِنَّمَا قلت: قهرا؛ لِأَنَّهُمَا إِذا تَرَاضيا على الرَّد مَعَ الْأَرْش، أَو على الْإِمْسَاك، وَأخذ أرش الْعَيْب الْقَدِيم، جَازَ. فَإِن تشاحا فَالصَّحِيح إِجَابَة من يَدْعُو إِلَى الْإِمْسَاك، قَالَه الْبرمَاوِيّ. وَلَكِن الصَّحِيح من مَذْهَبنَا أَن المُشْتَرِي مُخَيّر بَين الْإِمْسَاك، وَأخذ الْأَرْش، وَبَين الرَّد وَإِعْطَاء الْأَرْش إِن لم يكن دلّس البَائِع، فَإِن دلّس لم يلْزم المُشْتَرِي أرش. وَكَذَا الْأُخوة مَعَ الْجد، قيل: بالمقاسمة، وَقيل: يسقطهم. فَالْقَوْل بِأَنَّهُم يسقطونه رَافع الْمجمع عَلَيْهِ. فَإِن قلت: فِي " الْمحلى " لِابْنِ حزم قَول بحجب الْجد بهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1640 قلت: يحْتَمل أَن هَذَا إِن ثَبت سَابق، أَجمعُوا بعده على خِلَافه، أَو مُتَأَخّر عَن الْإِجْمَاع فَهُوَ حِينَئِذٍ فَاسد غير مُعْتَد بِهِ. وَمِثَال مَا لَا يرفع مجمعا عَلَيْهِ: الْفَسْخ فِي النِّكَاح بالعيوب الْخَمْسَة: الْجُنُون، والجذام، والبرص، والجب، والعنة، وَنَحْوهَا، إِن كَانَ فِي الزَّوْج والرتق، والقرن، وَنَحْوهمَا إِن كَانَ فِي الزَّوْجَة. فَقيل: لكل مِنْهُمَا أَن يفْسخ بهَا. وَقيل: لَا، كَمَا نقل عَن أبي حنيفَة: أَنه يفْسخ بِبَعْض دون بعض. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: أَن الْمَرْأَة تفسخ دون الرجل لتمكنه من الْخَلَاص بِالطَّلَاق، قَول ثَالِث لكنه لم يرفع مجمعا عَلَيْهِ، بل وَافق فِي كل مَسْأَلَة قولا، وَإِن خَالفه فِي أُخْرَى. وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل كثير من الْعلمَاء؛ وصححوه. نعم، اعْتَرَضَهُ بعض الْحَنَفِيَّة بِأَن هَذَا التَّفْصِيل لَا معنى لَهُ؛ إِذْ لَا نزاع فِي أَن القَوْل الثَّالِث إِن استلزم إبِْطَال مجمع عَلَيْهِ يكون مردوداً، لَكِن الْخصم يَقُول: إِنَّه يسْتَلْزم ذَلِك فِي جَمِيع الصُّور، وَإِن كَانَ فِي بعض لَا يسْتَلْزم فَالْكَلَام فِي الْكل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1641 قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَلَا يخفى ضعف ذَلِك؛ فَإِن الْمحَال المتعددة كل حكم النّظر فِيهِ لمحله لَا لمشاركة غَيره لَهُ فِيهِ، أَو عدم الْمُشَاركَة. انْتهى. {وَقَالَ أَبُو الْخطاب وَبَعض الْحَنَفِيَّة وَغَيرهم، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد: لَا يحرم مُطلقًا} ذكره فِي " التَّمْهِيد " ظَاهر كَلَام أَحْمد؛ لِأَن بعض الصَّحَابَة قَالَ: لَا يقْرَأ الْجنب حرفا. وَقَالَ بَعضهم: يقْرَأ مَا شَاءَ. فَقَالَ الإِمَام أَحْمد: يقْرَأ بعض آيَة. وَفِي تَعْلِيق القَاضِي فِي قِرَاءَة الْجنب: قُلْنَا بِهَذَا مُوَافقَة لكل قَول وَلم يخرج عَنْهُم. انْتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1642 وَلِأَنَّهُ لم يخرق إِجْمَاعًا سَابِقًا فَإِنَّهُ قد لَا يرفع شَيْئا مِمَّا أَجمعُوا عَلَيْهِ، قَالَه الْبرمَاوِيّ، وَحَكَاهُ ابْن الْقطَّان عَن دَاوُد، وَحَكَاهُ الصَّيْرَفِي وَغَيره عَن بعض الْمُتَكَلِّمين. وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: رَأَيْت بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة يختاره وينصره. وَنَقله ابْن برهَان، وَابْن السَّمْعَانِيّ عَن بعض الْحَنَفِيَّة، والظاهرية. نعم، أنكر ابْن حزم على من نسبه إِلَى دَاوُد. قَوْله: {وَإِن اخْتلفُوا فِي مَسْأَلَتَيْنِ على قَوْلَيْنِ إِثْبَاتًا ونفياً فَلِمَنْ بعدهمْ التَّفْصِيل عِنْد القَاضِي وَغَيره، وَحكي عَن الْأَكْثَر} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1643 حَكَاهُ بعض أَصْحَابنَا عَن أَكثر الْعلمَاء، نَقله ابْن مُفْلِح. وَمنع ذَلِك قوم مُطلقًا، وَنَقله الْآمِدِيّ عَن أَكثر الْعلمَاء. وَقَالَ القَاضِي أَيْضا فِي " الْكِفَايَة ": إِن صَرَّحُوا بالتسوية لم يجز، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ: كإيجاب بعض الْأمة النِّيَّة للْوُضُوء، وَلَا يعْتَبر الصَّوْم للاعتكاف، ويعكس آخر. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَبعد بعض أَصْحَابنَا هَذَا التَّمْثِيل. وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: إِن صَرَّحُوا بالتسوية لم يجز لاشْتِرَاكهمَا فِي الْمُقْتَضى للْحكم ظَاهرا، وَإِن لم يصرحوا فَإِن اخْتلف طَرِيق الحكم فِيهَا كالنية فِي الْوضُوء وَالصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف جَازَ، وَإِلَّا يلْزم من وَافق إِمَامًا فِي مَسْأَلَة مُوَافَقَته فِي جَمِيع مذْهبه، وَإِجْمَاع الْأمة خِلَافه. وَإِن اتّفق الطَّرِيق كَزَوج، وأبوين، وَامْرَأَة وأبوين، وكإيجاب نِيَّة فِي وضوء وَتيَمّم، وَعَكسه لم يجز، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1644 وَهَذَا التَّفْصِيل قَالَه القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي، وَذكر ابْن برهَان لأَصْحَابه فِي الْجَوَاز وَعَدَمه وَجْهَيْن. وَقَالَ الْحلْوانِي، وَالشَّيْخ موفق الدّين: إِن صَرَّحُوا بالتسوية لم يجز، وَإِلَّا جَازَ لموافقته كل طَائِفَة. قَالَ أَبُو الطّيب الشَّافِعِي: هُوَ قَول أَكْثَرهم. وَقَالَ الْهِنْدِيّ: إِذا تعدد مَحل الحكم - لَكِن أَجمعُوا على أَن لَا فصل بَينهمَا، بل مَتى حكم بِحكم على أحد المحلين كَانَ الآخر مثله، امْتنع إِحْدَاث قَول بالتفصيل بِلَا خلاف. لَكِن رد عَلَيْهِ: بِأَن الْخلاف مَشْهُور، حَكَاهُ الباقلاني فِي " التَّقْرِيب ". [و] حَكَاهُ فِي " اللمع " احْتِمَالا لأبي الطّيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1645 قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَإِن لم ينصوا على ذَلِك، وَلَكِن علم اتِّحَاد الْجَامِع بَينهمَا فَهُوَ جَار مجْرى النَّص على عدم الْفرق، كالعمة وَالْخَالَة من ورث إِحْدَاهمَا ورث الْأُخْرَى، وَمن منع منع؛ لِأَن المأخذ وَاحِد وَهُوَ الْقَرَابَة الرحمية. انْتهى. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ الشَّافِعِي: إِذا لم يفصل أهل الْعَصْر بَين مَسْأَلَتَيْنِ، بل أجابوا فيهمَا بِجَوَاب وَاحِد، فَلَيْسَ لمن بعدهمْ التَّفْصِيل بَينهمَا، وَجعل حكمهمَا مُخْتَلفا إِن لزم مِنْهُ خرق الْإِجْمَاع، وَذَلِكَ فِي صُورَتَيْنِ: الأولى: أَن يصرحوا بِعَدَمِ الْفرق بَينهمَا. الثَّانِيَة: أَن يتحد الْجَامِع بَينهمَا، كتوريث الْعمة وَالْخَالَة، فَإِن الْعلمَاء بَين مورث لَهما ومانع، وَالْجَامِع بَينهمَا عِنْد الطَّائِفَتَيْنِ كَونهمَا من ذَوي الْأَرْحَام فَلَا يجوز منع وَاحِدَة وتوريث أُخْرَى، فَإِن التَّفْصِيل بَينهمَا خارق لإجماعهم فِي الأولى نصا، وَفِي الثَّانِيَة تضمناً، وَيجوز التَّفْصِيل فِيمَا عدا هَاتين الصُّورَتَيْنِ. وَقيل: بِمَنْع التَّفْصِيل بَينهمَا مُطلقًا، وَإِن ذَلِك خارق للْإِجْمَاع، وَكَلَام الباقلاني، والرازي يدل عَلَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1646 وَقَول الْآمِدِيّ: لَا خلاف هُنَا فِي الْجَوَاز - مَرْدُود. ثمَّ قَالَ: تَنْبِيه: توهم بَعضهم أَنه لَا فرق بَين هَذِه الْمَسْأَلَة، وَالَّتِي قبلهَا؛ لِأَن الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب جمعا بَينهمَا، وَحكما عَلَيْهِمَا بِحكم وَاحِد؛ لِأَن فِي كل مِنْهُمَا إِحْدَاث قَول ثَالِث، لَكِن الْفرق بَينهمَا أَن هَذِه فِيمَا إِذا كَانَ مَحل الحكم مُتَعَددًا، وَتلك فِيمَا إِذا كَانَ متحداً؛ لذا فرق الْقَرَافِيّ وَغَيره. قَالَ: وَيُمكن أَن يُقَال: تِلْكَ مَفْرُوضَة فِي الْأَعَمّ من كَون الْمحل مُتَعَددًا، أَو كَونه متحداً، وَهَذِه فِي كَونه مُتَعَددًا، فَالْأولى أَعم. انْتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1647 قَوْله: {فصل} {أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر يجوز إِحْدَاث دَلِيل آخر، زَاد القَاضِي: من غير أَن يقْصد بَيَان الحكم بِهِ بعد ثُبُوته} ؛ لِأَنَّهُ قَول عَن اجْتِهَاد غير مُخَالف إِجْمَاعًا؛ لأَنهم لم ينصوا على فَسَاد غير مَا ذَكرُوهُ، أَيْضا وَقع كثيرا وَلم يُنكر؛ وَلِأَن الشَّيْء قد يكون عَلَيْهِ أَدِلَّة كَثِيرَة. وَقيل: لَا يجوز؛ لِأَنَّهُ اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ. رد: لَا يخفى فَسَاد ذَلِك؛ لِأَن الْمَطْلُوب من الْأَدِلَّة أَحْكَامهَا، لَا أعيانها فعين الحكم بَاقٍ، وَأَيْضًا المُرَاد مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ وَإِلَّا لزم الْمَنْع فِيمَا حدث بعدهمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1648 قَالُوا: لَو كَانَ مَعْرُوفا لأمروا بِهِ، لقَوْله تَعَالَى: {تأمرون بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمرَان: 110] . رد: لَو كَانَ مُنْكرا لنهوا، لقَوْله: {وتنهون عَن الْمُنكر} [آل عمرَان: 110] . قَالُوا: لَو كَانَ حَقًا كَانَ الْعُدُول عَنهُ خطأ. رد: للاستغناء عَنهُ. وَفصل ابْن حزم وَغَيره بَين أَن يكون الْمُحدث نصا آخر لم يطلع عَلَيْهِ الْأَولونَ فَيمْتَنع، أَو لَا، فَلَا يمْتَنع. وَحكى صَاحب " الكبريت الْأَحْمَر " قولا رَابِعا الْوَقْف. وَذهب ابْن برهَان إِلَى قَول خَامِس بالتفصيل بَين الدَّلِيل الظَّاهِر فَلَا يجوز إِحْدَاث غَيره، وَبَين الْخَفي فَيجوز لجَوَاز اشتباهه على الْأَوَّلين. قَوْله: {وَكَذَا إِحْدَاث عِلّة، ذكره أَبُو الْخطاب، والموفق، والطوفي، وَغَيرهم} ، بل عَلَيْهِ الْأَكْثَر، بِنَاء على جَوَاز تَعْلِيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1649 الحكم الْوَاحِد بعلتين على مَا يَأْتِي - وَهُوَ الصَّحِيح - فِي بَاب الْقيَاس. وَقيل: لَا يجوز أَيْضا بِنَاء - أَيْضا - على منع الحكم بعلتين؛ لِأَن علتهم مَقْطُوع بِصِحَّتِهَا، فَفِيهِ دَلِيل على فَسَاد غَيرهَا. وَقَالَ القَاضِي من أَصْحَابنَا: إِن ثَبت الحكم بعلة، فَهَل يجوز للصحابة تَعْلِيله بِأُخْرَى؟ قيل: يجوز، كالدليل مَعَ عدم تنافيهما. وَمن النَّاس: من منع لإبطال الْفَائِدَة، كالعقلية. قَالَ عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي: الْعلَّة إِن كَانَت بِحكم عَقْلِي لم يجز إِحْدَاث عِلّة أُخْرَى؛ لِأَن الحكم الْعقلِيّ لَا يُعلل بعلتين. قَوْله: {وَكَذَا إِحْدَاث تَأْوِيل} ، يَعْنِي: يجوز إِحْدَاث تَأْوِيل آخر {مَا لم يكن فِيهِ إبِْطَال الأول} ، وَذكر الْآمِدِيّ الْجَوَاز عَن الْجُمْهُور، وَتَبعهُ بعض أَصْحَابنَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1650 قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ. وَقيل: لَا يجوز إحداثه وَاخْتَارَهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي، قَالَ: لِأَن الْآيَة - مثلا - إِذا احتملت مَعَاني، وَأَجْمعُوا على تَأْوِيلهَا بأحدها صَار كالإفتاء فِي حَادِثَة تحْتَمل أحكاماً بِحكم فَلَا يجوز أَن يؤول بِغَيْرِهِ، كَمَا لَا يُفْتى بِغَيْر مَا أفتوا بِهِ. وَقَالَ ابْن مُفْلِح: وَمنعه بَعضهم. {قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: لَا يحْتَمل مَذْهَبنَا غير هَذَا، وَعَلِيهِ الْجُمْهُور} . قَالَ ابْن مُفْلِح: {وَمرَاده دفع تَأْوِيل أهل الْبدع الْمُنكر عِنْد السّلف} . انْتهى. وَذَلِكَ كَمَا أَنه لَا يجوز إِحْدَاث مَذْهَب ثَالِث كَذَلِك لَا يجوز إِحْدَاث تَأْوِيل؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ فِيهَا تأوي لآخر لكلفوا طلبه كَالْأولِ. قَالَه أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَاقْتصر على ذكر الْقَوْلَيْنِ وتعليلهما من غير نصر أَحدهمَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1651 قَوْله: {أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أصحابهما، والأشعري، وَغَيرهم اتِّفَاق الْعَصْر الثَّانِي على أحد قولي الْعلمَاء، وَقد اسْتَقر خلافهم} . لَا يرفع الْخلاف، وَلَا يكون إِجْمَاعًا؛ لِأَن مَوته لَا يكون مسْقطًا لقَوْله فَيبقى. قَالَ أَبُو إِسْحَاق: هُوَ قَول عَامَّة أَصْحَابنَا. قَالَ سليم الرَّازِيّ: هُوَ قَول أَكْثَرهم، وَأكْثر الأشعرية. وَكَذَا قَالَه ابْن السَّمْعَانِيّ، وَنَقله ابْن الْحَاجِب عَن الْأَشْعَرِيّ. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَإِلَيْهِ ميل الشَّافِعِي وَمن عباراته الرشيقة: الْمذَاهب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1652 لَا تَمُوت بِمَوْت أَرْبَابهَا. وَنَقله ابْن الباقلاني عَن جُمْهُور الْمُتَكَلِّمين، وَاخْتَارَهُ. وَقَالَ: {أَبُو الْخطاب، وَأكْثر الْحَنَفِيَّة، وَأَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ، والرازي، وَأَتْبَاعه} ، وَغَيرهم، مِنْهُم: الْحَارِث المحاسبي، والإصطخري، وَابْن خيران، والقفال الْكَبِير، وَابْن الصّباغ. وَنَقله فِي " الْمقنع " عَن أبي حنيفَة، وَنَقله الكيا عَن الجبائي وَابْنه، وَأبي عبد الله الْبَصْرِيّ. وَحَكَاهُ ابْن مُفْلِح عَن الْمُعْتَزلَة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1653 وَحَكَاهُ الباقلاني عَن الْأَشْعَرِيّ: يجوز أَن يكون حجَّة وإجماعاً ويرتفع الْخلاف، وَاخْتَارَهُ الْمُتَأَخّرُونَ. وَقيل: إِجْمَاع ظَنِّي. قَالَ الْبرمَاوِيّ: قيل: وَالْحق فِي الْمَسْأَلَة أَنه إِجْمَاع ظَنِّي، لَا قَطْعِيّ، وَإِلَيْهِ يُشِير كَلَام إِمَام الْحَرَمَيْنِ. وَفِي كتاب " تَقْوِيم الْأَدِلَّة " لأبي زيد الدبوسي عَن الْحَنَفِيَّة: أَنه من أدنى مَرَاتِب الْإِجْمَاع. وَقيل: يكون حجَّة وَلَيْسَ بِإِجْمَاع، نَقله ابْن الْقطَّان عَن قوم، وَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَجه الحجية أَن لهَؤُلَاء مزية على أُولَئِكَ لانفرادهم فِي عصر، فَهُوَ الْمُعْتَبر، قَالَ: وَلَيْسَ بِشَيْء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1654 وَقيل: لَيْسَ بِإِجْمَاع، وَلَا حجَّة، أَعنِي على القَوْل بِالْجَوَازِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ حجَّة لتعارض الإجماعان، وَأَيْضًا لم يحصل اتِّفَاق الْأمة؛ لِأَن فِيهِ قولا مُخَالفا؛ لِأَن القَوْل لَا يَمُوت [بِمَوْت] صَاحبه، وَأَيْضًا لَو كَانَ حجَّة فَإِن موت بعض الصَّحَابَة الْمُخَالفين للباقين الْقَائِلين بقول وَاحِد يُوجب ذَلِك، أَي: إِجْمَاعًا هُوَ حجَّة؛ وَذَلِكَ لِأَن البَاقِينَ كل الْأمة الْأَحْيَاء فِي ذَلِك الْعَصْر، وَهُوَ الْمُعْتَبر؛ إِذْ لَا عِبْرَة بِالْمَيتِ، وَاللَّازِم بَاطِل اتِّفَاقًا. وَأجَاب عَنْهَا كلهَا القَاضِي عضد الدّين فِي " الشَّرْح "، وَغَيره فليعاود. وَعند جمَاعَة من الْعلمَاء: أَن ذَلِك مُمْتَنع، وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن الإِمَام أَحْمد، والأشعري، واختياره يمْتَنع، نَقله ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " بَعْدَمَا ذكر الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين فَدلَّ أَن هَذَا غير القَوْل الأول. وَابْن الْحَاجِب لم يذكر عَن الإِمَام أَحْمد والأشعري وَجَمَاعَة غير الِامْتِنَاع وَعَدَمه تبعا للآمدي، وَالظَّاهِر أَن ابْن مُفْلِح ذكر النَّقْل الثَّانِي طَريقَة أُخْرَى فِي صفة حِكَايَة الْخلاف، وَهُوَ أولى وأوضح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1655 وَوجه ذَلِك: أَن الْقَائِل بالْقَوْل الأول أَجمعُوا على جَوَاز الْأَخْذ بِكُل مِنْهُمَا، وَالْقَائِل بالْقَوْل الثَّانِي يمنعهُ فَامْتنعَ لِئَلَّا يلْزم تخطئة الْأَوَّلين؛ لِأَن كَون الْحق فِي أَخذه، وَتَركه مَعًا محَال. رد بِأَن الْإِجْمَاع الأول مَمْنُوع؛ لِأَن أحد الْقَوْلَيْنِ خطأ، وَلَا إِجْمَاع على خطأ، ثمَّ هُوَ إِجْمَاع بِشَرْط عدم إِجْمَاع ثَان، ثمَّ الأول إِجْمَاع على أَحدهمَا، وَالثَّانِي يُوَافق مُقْتَضَاهُ. رد الأول بِإِصَابَة كل مُجْتَهد، وَالثَّانِي بِإِطْلَاق الْأمة، وَلم يشْتَرط، ثمَّ يلْزم الشَّرْط مَعَ إِجْمَاعهم على قَول وَاحِد، كَمَا يَقُوله أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ المعتزلي، وَالثَّالِث باستلزامه وَامْتِنَاع الْأَخْذ بالْقَوْل الآخر. قَالُوا: يمْتَنع ذَلِك عَادَة. رد بِمَنْعه وَقد عرف وَجه الأول. وَقَالُوا: لَو كَانَ حجَّة لَكَانَ موت فريق وَبَقَاء الآخر أَو بعضه إِجْمَاعًا؛ لأَنهم كل الْأمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1656 أجَاب أَبُو الْخطاب وَغَيره: بالتزامه ثمَّ الْفرق، وَقَالَهُ الْأَكْثَر بمخالفة أهل الْعَصْر بِخِلَاف مَسْأَلَتنَا. وَاحْتج الثَّانِي بأدلة الْإِجْمَاع. رد بِالْمَنْعِ لتحَقّق الْمَاضِي لَا من سيوجد. تَنْبِيه: هَل وَقع مثل ذَلِك أم لَا؟ الظَّاهِر فِي حد الْخمر وُقُوعه. وَقَالَ ابْن الْحَاجِب: الْحق أَنه بعيد إِلَّا فِي الْقَلِيل، أَي: إِذا كَانَ الْمُخَالف فِي الأَصْل قَلِيلا كاختلافهم فِي بيع أم الْوَلَد، ثمَّ زَالَ باتفاقهم على الْمَنْع، وكاختلافهم فِي نِكَاح الْمُتْعَة، ثمَّ أَجمعُوا على الْمَنْع. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهَذَا إِنَّمَا يَصح التَّمْثِيل بِهِ لما سَيَأْتِي فِي الصُّورَة الثَّانِيَة: إِن يَخْتَلِفُوا على قَوْلَيْنِ، ثمَّ يرجع أحد الْفَرِيقَيْنِ إِلَى قَول الآخر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1657 قَوْله: وَقبل: استقراره إِجْمَاع قطعا، أَي: إِذا وَقع الِاتِّفَاق بعد الِاخْتِلَاف وَكَانَ اتِّفَاق أهل عصر بعده على أحد الْقَوْلَيْنِ، وَكَانَ قبل اسْتِقْرَار خلاف الْأَوَّلين، أَي: قبل مُضِيّ مُدَّة على ذَلِك الْخلاف يعلم بهَا إِن كَانَ قَائِل يصمم على قَوْله: لَا ينثني عَنهُ، فَهَذَا اتَّفقُوا على جَوَازه، وَذَلِكَ كخلاف الصَّحَابَة لأبي بكر فِي قتال مانعي الزَّكَاة، وإجماعهم بعد ذَلِك على قِتَالهمْ، وَإِجْمَاع الْعَصْر الثَّانِي عَلَيْهِ أَيْضا، وكخلافهم فِي دَفنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَي: مَكَان: ثمَّ أَجمعُوا على دَفنه فِي بَيت عَائِشَة؛ إِذْ الْخلاف لم يكن اسْتَقر. وَنقل الْهِنْدِيّ عَن الصَّيْرَفِي أَنه لَا يجوز. قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَكِن الَّذِي فِي كتاب الصَّيْرَفِي ظَاهره يشْعر بموافقة الْجَمَاعَة؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " اللمع ": إِن الْمَسْأَلَة تصير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1658 حِينَئِذٍ إجماعية بِلَا خلاف، وَوَقع للقرافي عكس هَذَا فَزعم أَن مَحل الْخلاف الْآتِي فِي الْمَسْأَلَة الْآتِيَة بعد هَذَا: إِذا لم يسْتَقرّ خِلَافه. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ عَجِيب! فَإِن مَحَله إِذا اسْتَقر. تَنْبِيه: قَوْله: {لَو مَاتَ أَرْبَاب أحد الْقَوْلَيْنِ، أَو ارْتَدَّ لم يصر قَول الْبَاقِي إِجْمَاعًا، ذكره القَاضِي أَبُو يعلى مَحل وفَاق وَصَححهُ الباقلاني فِي التَّقْرِيب، لِأَن حكم الْمَيِّت فِي حكم الْبَاقِي الْمَوْجُود. وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى ": إِنَّه الرَّاجِح، وَجزم بِهِ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ، وَهَذَا قَول الْأَكْثَرين، كَمَا حَكَاهُ ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح وَغَيرهمَا فِي بحث الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1659 وَقيل: يصير إِجْمَاعًا وَحجَّة؛ لأَنهم صَارُوا كل الْأمة، اخْتَارَهُ الرَّازِيّ، والهندي، وَغَيرهمَا، وَقدمه الْبرمَاوِيّ، وَغَيره. وَبنى السُّهيْلي الْخلاف على الْخلاف فِي إِجْمَاع التَّابِعين بعد اخْتِلَاف الصَّحَابَة هُوَ بِنَاء ظَاهر. فَائِدَة: لَو مَاتَ بعض أَرْبَاب أحد الْقَوْلَيْنِ، وَرجع من بَقِي مِنْهُم إِلَى قَول الآخرين، قَالَ ابْن كج: فِيهَا وَجْهَان: أَحدهمَا: أَنه إِجْمَاع؛ لأَنهم أهل الْعَصْر. وَالثَّانِي: الْمَنْع؛ لِأَن الصّديق جلد فِي حلد الْخمر أَرْبَعِينَ، وَقد أجمع الصَّحَابَة على ثَمَانِينَ فِي زمن عمر، فَلم يجْعَلُوا الْمَسْأَلَة إِجْمَاعًا؛ لِأَن الْخلاف كَانَ قد تقدم، وَقد مَاتَ مِمَّن قَالَ بذلك بعض، وَرجع بعض إِلَى قَول عمر. قَوْله: {اتِّفَاق مجتهدي عصر بعد اخْتلَافهمْ إِجْمَاع وَحجَّة} ، يَعْنِي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1660 أَن اتِّفَاقهم بعد اخْتلَافهمْ، وَقبل استقراره إِجْمَاع، وَكَذَا هُوَ حجَّة فِي الْأَصَح. ويمثل لَهُ بِمَا وَقع لأبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - فِي قتال أهل الرِّدَّة، وَفِي اخْتلَافهمْ فِي أَي مَوضِع يدْفن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ اتِّفَاقهم سَرِيعا فيهمَا؛ لِأَن التَّمْثِيل بهما فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَاحِد. وَقَالَ قوم: هُوَ إِجْمَاع لَا حجَّة. قَالَ الْبرمَاوِيّ: فَإِن كَانَ ذَلِك قبل اسْتِقْرَار الْخلاف فإجماع، وَكَذَا حجَّة خلافًا لقوم يَقُولُونَ: إِنَّه إِجْمَاع لَا حجَّة؛ وَلِهَذَا جمع ابْن الْحَاجِب بَينهمَا، وَهل ذَلِك وفَاق أَو على خلاف فِيهِ - كَمَا سبق عَن الصَّيْرَفِي وَغَيره -؟ انْتهى. قَوْله: {وَكَذَا بعد اسْتِقْرَار عندنَا وَعند الْأَكْثَر} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1661 وَذكر القَاضِي من أَصْحَابنَا أَنه مَحل وفَاق، يَعْنِي: أَنه يكون إِجْمَاعًا وَحجَّة - كَمَا سبق - بل هُنَا أولى بِأَن يكون إِجْمَاعًا وَحجَّة من مَسْأَلَة اتِّفَاق الْعَصْر الثَّانِي على أحد قولي الأول؛ إِذْ لم يبْق قَائِل بِخِلَافِهِ لَا حَيّ وَلَا ميت. وَقيل: إِن كَانَ الْمُسْتَند قَطْعِيا كَانَ إِجْمَاعًا وَحجَّة، وَإِن الْمُسْتَند ظنياً فَلَا، وَخَالف الباقلاني، والآمدي، وَجمع، وَقَالُوا: لَيْسَ إِجْمَاعًا، بل هُوَ مُمْتَنع؛ لتناقض الإجماعين للِاخْتِلَاف أَولا ثمَّ الِاتِّفَاق ثَانِيًا، كَمَا إِذا كَانُوا على قَول فَرَجَعُوا عَنهُ إِلَى آخر. وَإِلَيْهِ ميل الْغَزالِيّ وَغَيره، وَنَقله ابْن برهَان فِي " الْوَجِيز " عَن الشَّافِعِي، وَجزم بِهِ أَبُو إِسْحَاق فِي " اللمع "، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْمَعَالِي إِن طَال زمن الْخلاف، نَقله عَنهُ ابْن مُفْلِح، وَتَابعه التَّاج السُّبْكِيّ: فَمَعَ طول الزَّمَان يمْتَنع، وَمَعَ الْقرب يجوز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1662 قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَحكي عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَالْفرق أَن اسْتِمْرَار الْخلاف مَعَ طول الزَّمَان يَقْتَضِي الْعرف فِيهِ بِأَنَّهُ لَو كَانَ ثمَّ وَجه لسُقُوط أحد الْوَجْهَيْنِ لظهر، لَكِن لم يذكرهُ فِي اتِّفَاق الْعَصْر الثَّانِي على أحد قولي الْعَصْر الأول. وَحَكَاهُ الْإِسْنَوِيّ كَمَا هُنَا، لَكِن لم يغاير بَينه وَبَين قَول ابْن الباقلاني، والآمدي، وَهُوَ الَّذِي يظْهر. وَقيل يكون حجَّة لَا إِجْمَاعًا - كَمَا سبق -. وَقيل: إِن كَانَ فِي الْفُرُوع لَا يجْزم مَعَه بِتَحْرِيم الذّهاب لِلْقَوْلِ الآخر، بِخِلَاف مَا فِيهِ تأثيم وتضليل. {وَمنع الصَّيْرَفِي الِاتِّفَاق بعد الْخلاف} ، وَهُوَ محجوج بالوقوع كَمَسْأَلَة الْخلَافَة لأبي بكر، وَغَيرهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1663 قَوْله: {وَمن شَرط انْقِرَاض الْعَصْر جوزه قطعا} . قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: لما ذكر الْمَسْأَلَة، وَالْخلاف فِيهَا، وَلَا يخفى أَن مَحل الْخلاف إِذا لم يشْتَرط انْقِرَاض الْعَصْر، فَأَما إِن شرطناه فَإِنَّهُ يجوز قطعا، وَقَالَهُ غَيره، وَهُوَ وَاضح. وَقيل لأبي الْخطاب: من لم يعْتَبر انْقِرَاض الْعَصْر يَقُول: لَيْسَ بِإِجْمَاع، فَقَالَ: لَا يَصح الْمَنْع لِاتِّفَاق الصَّحَابَة على قتال مانعي الزَّكَاة، والخلافة، وَقسم أَرض السوَاد بعد اخْتلَافهمْ. قَالَ ابْن الْحَاجِب، وكل من اشْترط انْقِرَاض الْعَصْر قَالَ: إِجْمَاع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1664 قَوْله: {فصل} إِذا اقْتضى دَلِيل حكما لَا دَلِيل لَهُ غَيره امْتنع عدم علم الْأمة بِهِ} . إِذا كَانَ فِي الْوَاقِعَة دَلِيل أَو خبر يَقْتَضِي حكما على الْمُكَلّفين، وَلَيْسَ لذَلِك الحكم دَلِيل آخر لم يجز عدم علم الْأمة بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِن عمل بذلك الحكم كَانَ عملا بِهِ عَن غير دَلِيل، بل عَن تشه، وَالْعَمَل بالحكم عَن التشهي لَا يجوز، وَإِن لم يعْمل بِهِ كَانَ تركا للْحكم المتوجه على الْمُكَلف. قَالَه الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر ". قَوْله: {وَإِن كَانَ لَهُ دَلِيل رَاجِح عمل على وَفقه جَازَ عدم الْعلم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1665 وَهَذَا ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا} . قَالَه ابْن مُفْلِح؛ لِأَن عدم الْعلم لَيْسَ من فعلهم، وخطأهم من أَوْصَافه، فَلَا يكون خطأ فَلَا إِجْمَاع مِنْهُم، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَغَيره. وَقيل: لَا يجوز. قَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر ": أما إِذا كَانَ فِي الْوَاقِع دَلِيل أَو خبر رَاجِح - أَي بِلَا معَارض - وَقد عمل وفْق ذَلِك الدَّلِيل أَو الْخَبَر بِدَلِيل آخر فَهَل يجوز عدم علم الْأمة بِهِ، أَو لَا؟ فَمنهمْ من جوزه، وَمِنْهُم من نَفَاهُ. وَاحْتج المجوز بِأَن اشْتِرَاك جَمِيعهم فِي عدم الْعلم بذلك الْخَبَر، أَو الدَّلِيل الرَّاجِح لم يُوجب محذوراً؛ إِذْ لَيْسَ اشْتِرَاك جَمِيعهم فِي عدم الْعلم إِجْمَاعًا حَتَّى يجب متابعتهم فِيهِ، بل عدم علمهمْ بذلك الدَّلِيل أَو الْخَبَر كَعَدم حكمهم فِي وَاقعَة لم يحكموا فِيهَا بِشَيْء فَجَاز لغَيرهم أَن يسْعَى فِي طلب ذَلِك الدَّلِيل أَو الْخَبَر ليعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1666 وَاحْتج النَّافِي بِأَنَّهُ لَو جَازَ عدم علمهمْ جَمِيعهم بذلك الدَّلِيل، أَو الْخَبَر لحرم تَحْصِيل الْعلم بِهِ، وَالثَّانِي ظَاهر الْفساد، بَيَان الْمُلَازمَة أَنه حِينَئِذٍ يكون عدم علمهمْ سَبِيل الْمُؤمنِينَ، فَلَو طلبُوا الْعلم لاتبعوا غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ. وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن عدم علمهمْ لَا يكون سَبِيلا لَهُم؛ لِأَن السَّبِيل مَا اخْتَارَهُ الْإِنْسَان من قَول أَو عمل، وَعدم علمهمْ مَا اختاروه فَلَا يكون سَبِيلا لَهُم. انْتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1667 قَوْله: {فصل} {ارتداد الْأمة جَائِز عقلا} قطعا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بمحال، وَلَا يلْزم مِنْهُ محَال. قَالَ الْآمِدِيّ: لَا خلاف فِي تصور ارتداد الْأمة الإسلامية فِي بعض الْأَعْصَار عقلا. قَوْله: {وَلَا يجوز سمعا فِي الْأَصَح، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا} . قَالَه ابْن مُفْلِح وَغَيره، وَصرح بِهِ الطوفي وَغَيره، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَصَححهُ التَّاج السُّبْكِيّ، وَغَيرهم، وَذَلِكَ لأدلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1668 الْإِجْمَاع، وَقَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أمتِي لَا تَجْتَمِع على ضَلَالَة " وانعقد الْإِجْمَاع. وَخَالف ابْن عقيل وَغَيره، وَقَالُوا: الرِّدَّة تخرجهم عَن أمته؛ لأَنهم إِذا ارْتَدُّوا، لم يَكُونُوا مُؤمنين فَلم يتناولهم الْأَدِلَّة. وَأجِيب: بِأَنَّهُ يصدق بعد ارتدادهم أَن أمة مُحَمَّد ارْتَدَّت، وَهُوَ أعظم الْخَطَأ فَيمْتَنع الْأَدِلَّة السمعية. وَقيل: على هَذَا الْجَواب: إِن إِطْلَاق أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَيْهِم بالمجاز، وَالْأمة الْمَذْكُورَة فِي الْأَدِلَّة السمعية لم تتَنَاوَل إِلَّا من هُوَ من الْأمة حَقِيقَة فَانْدفع الْجَواب. وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ: بِأَن ارتدادهم الَّذِي هُوَ أعظم الْخَطَأ هُوَ الْمُوجب لسلب اسْم الْأمة عَنْهُم حَقِيقَة فَزَالَ اسْم الْأمة عَنْهُم بعد الارتداد بِالذَّاتِ؛ لِأَن الْمَعْلُول مُتَأَخّر عَن الْعلَّة بِالذَّاتِ فَعِنْدَ حُصُول ارتدادهم صدق عَلَيْهِم اسْم الْأمة حَقِيقَة فتتناولهم الْأَدِلَّة السمعية، قَالَه الْأَصْفَهَانِي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1669 قَوْله: {وَيجوز اتِّفَاقهم على جهل مَا لم تكلّف بِهِ فِي الْأَصَح} ؛ لعدم الْخَطَأ بِعَدَمِ التَّكْلِيف، كتفضيل عمار على حُذَيْفَة، أَو عَكسه، وَنَحْوه؛ لِأَن ذَلِك لَا يقْدَح فِي أصل من الْأُصُول. وَقيل: لَا يجوز اتفاقها على ذَلِك، وَإِلَّا كَانَ الْجَهْل سَبِيلا لَهَا فَيجب اتباعها فِيهِ وَهُوَ بَاطِل. أُجِيب: بِمَنْع أَنه سَبِيل لَهَا؛ لِأَن سَبِيل الشَّخْص مَا يختاره من قَول أَو فعل، وَعدم الْعلم بالشَّيْء لَيْسَ من ذَلِك، أما مَا كلفوا بِهِ فَيمْتَنع جهل جَمِيعهم بِهِ، ككون الْوتر وَاجِبا أم لَا، وَنَحْوه. قَوْله: {وَلَا يجوز انقسامها فرْقَتَيْن، كل فرقة مخطئة فِي مَسْأَلَة مُخَالفَة لِلْأُخْرَى، عِنْد الْأَكْثَر} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1670 قَالَ الْقَرَافِيّ: اخْتلفُوا هَل يَصح أَن يجمعوا على خطأ فِي مَسْأَلَتَيْنِ؟ كَقَوْل بَعضهم بِمذهب الْخَوَارِج، والبقية بِمذهب الْمُعْتَزلَة، وَفِي الْفُرُوع مثل أَن يَقُول الْبَعْض بِأَن العَبْد يَرث، وَيَقُول الْبَاقِي بِأَن الْقَاتِل عمدا يَرث، فَقيل: لَا يجوز؛ لِأَنَّهُ إِجْمَاع على الْخَطَأ، وَقيل: يجوز؛ لِأَن كل خطأ من هذَيْن الخطأين لم يساعد عَلَيْهِ الْفَرِيق الآخر، وَلم يُوجد فِيهِ إِجْمَاع. ثمَّ قَالَ: تَنْبِيه: الْأَحْوَال ثَلَاثَة: الْحَالة الأولى: اتِّفَاقهم على الْخَطَأ فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة، كإجماعهم على أَن العَبْد يَرث فَلَا يجوز ذَلِك عَلَيْهِم. الثَّانِيَة: أَن يُخطئ كل فريق فِي مَسْأَلَة أَجْنَبِيَّة عَن الْمَسْأَلَة الْأُخْرَى، فَيجوز، فَإنَّا نقطع أَن كل مُجْتَهد يجوز أَن يُخطئ، وَمَا من مَذْهَب من الْمذَاهب إِلَّا وَقد وَقع فِيهِ مَا يُنكر وَإِن قل، فَهَذَا لَا بُد للبشر مِنْهُ. الثَّالِثَة: أَن يخطئوا فِي مَسْأَلَتَيْنِ فِي حكم الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة، مثل هَذِه الْمَسْأَلَة: فَإِن العَبْد وَالْقَاتِل كِلَاهُمَا يرجع إِلَى فرع وَاحِد، وَهُوَ مَانع الْمِيرَاث، فَوَقع الْخَطَأ فِيهِ كُله، فَمن نظر إِلَى اتِّحَاد الأَصْل منع، وَمن نظر إِلَى تعدد الْفَرْع أجَاز، فَهَذَا تَلْخِيص هَذِه الْمَسْأَلَة. انْتهى. ومثلوا ذَلِك أَيْضا بِاتِّفَاق شطر الْأمة على أَن التَّرْتِيب فِي الْوضُوء وَاجِب، وَفِي الصَّلَاة الْفَائِتَة غير وَاجِب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1671 والفرقة الْأُخْرَى على عكس ذَلِك فِي الصُّورَتَيْنِ. فَذهب الْأَكْثَر إِلَى الْمَنْع؛ لِأَن خطأهم فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لَا يخرجهم عَن أَن يَكُونُوا قد اتَّفقُوا على الْخَطَأ، وَلَو فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَهُوَ منفي عَنْهُم، وَجوزهُ الْمُتَأَخّرُونَ؛ لِأَن الْمُخطئ فِي كل مَسْأَلَة بعض الْأمة، ومثار الْخلاف أَن المخطئين فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ مَعًا كل الْأمة أَو بَعضهم. قَوْله: {وَلَا إِجْمَاع يضاد إِجْمَاعًا، خلافًا للبصري} - أَعنِي: أَبَا عبد الله - ذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنه إِذا انْعَقَد الْإِجْمَاع فِي مَسْأَلَة على حكم لَا يجوز أَن ينْعَقد بعده إِجْمَاع يضاده لاستلزامه تعَارض دَلِيلين قطعيين. وَجوزهُ أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ وَقَالَ: لَا امْتنَاع من تَخْصِيص بَقَاء كَون الْإِجْمَاع حجَّة قَطْعِيَّة بِمَا إِذا لم يطْرَأ عَلَيْهِ إِجْمَاع آخر، لَكِن لما أَجمعُوا على وجوب الْعَمَل بالمجمع عَلَيْهِ فِي جَمِيع الْأَعْصَار أمنا من وُقُوع هَذَا الْجَائِز، فاستفيد عدم الْجَوَاز من الْإِجْمَاع الثَّانِي دون الْإِجْمَاع الأول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1672 قَالَ الْقَرَافِيّ: لما قَالَ الْأَولونَ ككون أَحدهمَا خطأ لَا مُخَالفَة - وإجماعهم على الْخَطَأ غير جَائِز - لُزُوم كَون أَحدهمَا خطأ لَا يلْزم لاحْتِمَال أَن ينزل الله تَعَالَى نصوصاً بِتَقْدِيم الإجماعات بَعْضهَا على بعض بالمناسبة للقواعد، وَيكون ذَلِك مدْركا للترجيح فِي الْعَصْر الأول وَالثَّانِي. قيل: هَذَا التجويز لم يَقع. انْتهى. تَنْبِيه: نقل ابْن قَاضِي الْجَبَل أَن ابْن الْخَطِيب وَافق أَبَا عبد الله الْبَصْرِيّ على الْجَوَاز فَقَالَ: هَل يجوز انْعِقَاد الْإِجْمَاع بعد الْإِجْمَاع على خِلَافه؟ جوزه أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ، وَابْن الْخَطِيب خلافًا للأكثرين. انْتهى. قلت: لم نجد من نقل ذَلِك عَن الرَّازِيّ إِلَّا ابْن قَاضِي الْجَبَل، وأرباب مذْهبه أعلم بمقالته؛ إِذْ لَو كَانَ قَالَه لنقلوه وَلما خَفِي عَنْهُم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1673 قَوْله: {فصل} {الْأَخْذ بِأَقَلّ مَا قيل - كدية كتابي الثُّلُث -} لَيْسَ بِإِجْمَاع للْخلاف فِي الزَّائِد خلافًا لمن ظَنّه. اخْتلفُوا فِي ثُبُوت الْأَقَل وَلَا أَكثر فِي مَسْأَلَة، لَا يَصح التَّمَسُّك بِالْإِجْمَاع فِي إِثْبَات مَذْهَب الْقَائِل بِالْأَقَلِّ. مثل قَول الشَّافِعِي: إِن دِيَة الْيَهُودِيّ ثلث دِيَة الْمُسلم؛ فَإِنَّهُ لَا يَصح أَن يتَمَسَّك فِي إثْبَاته بِالْإِجْمَاع، وَيَقُول: إِن الْأمة لَا تخرج عَن الْقَائِل بِالْكُلِّ، وبالنصف، وبالثلث وَالْكل قَائِلُونَ بِالثُّلثِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيح؛ لِأَن قَوْله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1674 يشْتَمل على وجوب الثُّلُث، وَنفي الزَّائِد، وَالْإِجْمَاع لم يدل على نفي الزَّائِد، بل على وجوب الثُّلُث فَقَط، وَهُوَ بعض الْمُدعى، فَالثُّلُث وَإِن كَانَ مجمعا عَلَيْهِ، لَكِن نفي الزِّيَادَة لم يكن مجمعا عَلَيْهِ فالمجموع لَا يكون مجمعا عَلَيْهِ، وَالْقَائِل بِالثُّلثِ مَطْلُوبه مركب من أَمريْن: الثُّلُث وَنفي الزِّيَادَة، فَلَا يكون مذْهبه مُتَّفقا عَلَيْهِ. فَإِن إبداء نفي الزِّيَادَة بِوُجُود الْمَانِع من الزِّيَادَة أَو بِنَفْي شَرط الزِّيَادَة، أَو إبداء نفي الزِّيَادَة بالاستصحاب لم يكن حِينَئِذٍ نفي الزِّيَادَة ثَابتا بِالْإِجْمَاع. وَتمسك الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ -، وَأَتْبَاعه بذلك إِنَّمَا هُوَ للبراءة الْأَصْلِيَّة؛ وَلذَلِك كَانَ فرض الْمَسْأَلَة فِيمَا إِذا كَانَ فِيهِ الأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة؛ فَإِن الأَصْل فِي مَسْأَلَة الدِّيَة - مثلا - بَرَاءَة ذمَّة الْقَاتِل من الزَّائِد على الْأَقَل قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَافق الشَّافِعِي القَاضِي أَبُو بكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1675 وَالْجُمْهُور؛ وَذَلِكَ كدية الْكِتَابِيّ. قيل: إِنَّهَا كدية الْمُسلم، وَقيل: على النّصْف مِنْهَا، وَقيل: على الثُّلُث، فَأخذ الشَّافِعِي بِالثُّلثِ، وَهُوَ مركب من الْإِجْمَاع، والبراءة الْأَصْلِيَّة - كَمَا تقدم - فَإِن إِيجَاب الثُّلُث مجمع عَلَيْهِ، وَوُجُوب الزِّيَادَة عَلَيْهِ مَدْفُوع بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّة. وَالصُّورَة أَنه لم يقم دَلِيل على إِيجَاب الزِّيَادَة؛ وَلذَلِك أدخلوه فِي مسَائِل الْإِجْمَاع. وَقد عرفت أَنه لَيْسَ إِجْمَاعًا مَحْضا، بل مركب من أَمريْن. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني: إِن النَّاقِل عَن الشَّافِعِي أَنه من الْإِجْمَاع لَعَلَّه زل فِي كَلَامه. وَقَالَ الْغَزالِيّ: هُوَ سوء ظن بِهِ، فَإِن الْمجمع عَلَيْهِ وجوب هَذَا الْقدر، وَلَا مُخَالفَة فِيهِ، والمختلف فِيهِ سُقُوط الزِّيَادَة، وَلَا إِجْمَاع فِيهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ تمسكاً بِالْإِجْمَاع، بل بِمَجْمُوع هذَيْن الدَّلِيلَيْنِ. انْتهى. أما إِذا قَامَ دَلِيل على الزِّيَادَة، فَإِن الشَّافِعِي يَأْخُذ بِهِ، كَمَا قَالَ: بالتسبيع فِي غسل ولوغ الْكَلْب لقِيَام الدَّلِيل عَلَيْهِ، وَلم يتَمَسَّك بِأَقَلّ مَا قيل، وَهُوَ الِاقْتِصَار على ثَلَاث غسلات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1676 وَلذَلِك لم يَأْخُذ بِالثَّلَاثَةِ بانعقاد الْجُمُعَة لقِيَام الدَّلِيل على الْأَكْثَر. قَالَ: الْإِسْنَوِيّ: وَقد اعْتمد الشَّافِعِي على هَذَا الدَّلِيل فِي إِثْبَات الْأَحْكَام إِذا كَانَ الْأَقَل جُزْءا من الْأَكْثَر، وَلم يجد دَلِيلا غَيره. انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: هَذِه قَاعِدَة تنْسب إِلَى الشَّافِعِي وَهُوَ الْأَخْذ بِأَقَلّ مَا قيل وَصورتهَا - كَمَا قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ - أَن يخْتَلف الْعلمَاء فِي مُقَدّر بِالِاجْتِهَادِ فَيُؤْخَذ بِأَقَلِّهَا إِذا لم يدل على الزَّائِد دَلِيل، وَرُبمَا قصر على اخْتِلَاف الصَّحَابَة - كَمَا فسره بِهِ ابْن الْقطَّان. وَهُوَ الشَّاشِي: هُوَ أَن يرد فعل من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُبينًا لمجمل، وَيحْتَاج إِلَى تحديده، فيصار إِلَى أقل مَا يُوجد، وَهَذِه كَمَا قَالَ الشَّافِعِي فِي أقل الْجِزْيَة: إِنَّه دِينَار؛ لِأَن الدَّلِيل قَامَ على أَنه لابد من تَوْقِيت، فَصَارَ إِلَى أقل مَا حُكيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه أَخذ فِي الْجِزْيَة، قَالَ: وَهَذَا أصل فِي التَّوْقِيت، قد صَار إِلَيْهِ الشَّافِعِي فِي مسَائِل كَثِيرَة: كتحديده مَسَافَة الْقصر بمرحلتين، وَمَا لَا ينجس بملاقاة النَّجس حَتَّى يتَغَيَّر بقلتين وَأَن دِيَة الْيَهُودِيّ ثلث دِيَة الْمُسلم، وَمثله مَا ذهب إِلَيْهِ فِي الدِّيَة أَنَّهَا أَخْمَاس، وَقيل: أَربَاع - فالأخماس أقل فالأقل دَائِما مجمع عَلَيْهِ؛ لِاجْتِمَاع الْكل فِيهِ. انْتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1677 {وَقيل: يَأْخُذ بِالْأَكْثَرِ} ، نقل ابْن حزم عَن قوم الْأَخْذ بِأَكْثَرَ مَا قيل ليعلم بَرَاءَة الذِّمَّة. ورد ذَلِك بِأَن مَحَله حَيْثُ يعلم شغلها، وَلم يعلم الزَّائِد. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: إِذا اخْتلفت الْبَيِّنَتَانِ فِي قيمَة متْلف، فَهَل يجب الْأَقَل، أَو نسقطهما؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، فَهَذَا يبين أَن فِي إِيجَاب الْأَقَل بِهَذَا المسلك خلافًا، وَهُوَ مُتَوَجّه، كَذَا قَالَ، وَلنَا قَول: يجب الْأَكْثَر. انْتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1678 قَوْله: {فصل} {ابْن حَامِد، وَجمع، يكفر مُنكر حكم إِجْمَاع قَطْعِيّ} ، وَالْقَاضِي [و] أَبُو الْخطاب، وَجمع لَا، ويفسق والطوفي، والآمدي، وَمن تبعه يكفر بِنَحْوِ الْعِبَادَات الْخمس، وَهُوَ معنى كَلَام أَصْحَابنَا فِي الْفِقْه: يكفر بِنَحْوِ الْعِبَادَات الْخمس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1679 قَالَ ابْن مُفْلِح: وَاخْتَارَهُ بعض أَصْحَابنَا - مَعَ أَنه حكى الأول عَن أَكثر الْعلمَاء - وَلَا أَظن أحدا لَا يكفر من جحد هَذَا. انْتهى. وَلِهَذَا وَغَيره قُلْنَا: وَالْحق أَن مُنكر الْمجمع عَلَيْهِ الضَّرُورِيّ، وَالْمَشْهُور الْمَنْصُوص عَلَيْهِ. كَافِر قطعا، وَكَذَا الْمَشْهُور فَقَط، لَا الْخَفي فِي الْأَصَح فيهمَا. فَهُنَا أَرْبَعَة أَقسَام: الأول: الْمجمع عَلَيْهِ الضَّرُورِيّ، وَلَا شكّ فِي تَكْفِير مُنكر ذَلِك، وَقد قطع الإِمَام أَحْمد، وَالْأَصْحَاب: بِكفْر جَاحد الصَّلَاة، وَكَذَا لَو أنكر ركنا من أَرْكَان الْإِسْلَام، لَكِن لَيْسَ كفره من حَيْثُ كَون مَا جَحده مجمعا عَلَيْهِ فَقَط، بل مَعَ كَونه مِمَّا اشْترك النَّاس فِي مَعْرفَته فَإِنَّهُ يصير بذلك كَأَنَّهُ جَاحد لصدق الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَمعنى كَونه مَعْلُوما بِالضَّرُورَةِ أَن يَسْتَوِي خَاصَّة أهل الدّين، وعامتهم فِي مَعْرفَته حَتَّى يصير كالمعلوم بِالْعلمِ الضَّرُورِيّ فِي عدم تطرق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1680 الشَّك إِلَيْهِ، لَا أَنه يسْتَقلّ الْعقل بإدراكه فَيكون علما ضَرُورِيًّا، كأعداد الصَّلَوَات، وركعاتها، وَالزَّكَاة، وَالصِّيَام، وَالْحج، وزمانها، وَتَحْرِيم الزِّنَا، وَالْخمر، وَالسَّرِقَة، وَنَحْوهَا. وَإِن لم يكن مَعْلُوما من الدّين بِالضَّرُورَةِ، وَلَكِن مَنْصُوص عَلَيْهِ مَشْهُور عِنْد الْخَاصَّة والعامة فيشارك الْقسم الَّذِي قبله فِي كَونه مَنْصُوصا، ومشهوراً، وَيُخَالِفهُ من حَيْثُ إِنَّه لم ينْتَه إِلَى كَونه ضَرُورِيًّا فِي الدّين فيكفر بِهِ جاحده أَيْضا. وَإِن لم يكن مَنْصُوصا عَلَيْهِ لكنه بلغ مَعَ كَونه مجمعا عَلَيْهِ فِي الشُّهْرَة مبلغ الْمَنْصُوص بِحَيْثُ تعرفه الْخَاصَّة، والعامة فَهَذَا أَيْضا يكفر منكره فِي أصح قولي الْعلمَاء، حَكَاهَا الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق وَغَيره؛ لِأَنَّهُ يتَضَمَّن تكذيبهم تَكْذِيب الصَّادِق. وَقيل: لَا يكفر لعدم التَّصْرِيح بالتكذيب، وَإِن لم يكن مَنْصُوصا عَلَيْهِ، وَلَا بلغ فِي الشُّهْرَة مبلغ الْمَنْصُوص؛ بل هُوَ خَفِي، لَا يعرفهُ إِلَّا الْخَواص، كإنكار اسْتِحْقَاق بنت الابْن السُّدس مَعَ الْبِنْت، وَتَحْرِيم نِكَاح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا أَو خالاتها، أَو إِفْسَاد الْحَج بِالْوَطْءِ قبل الْوُقُوف بِعَرَفَة، وَنَحْوه، فَهَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1681 لَا يكفر جاحده، وَلَا منكره لعذر الخفاء، خلافًا لبَعض الْفُقَهَاء فِي قَوْله: إِنَّه يكفر؛ لتكذيبه الْأمة. ورد: بِأَنَّهُ لم يكذبهم صَرِيحًا، إِذا فرض أَنه لم يكن مَشْهُورا، فَهُوَ مِمَّا يخفى على مثله، فَهَذَا تَحْقِيق هَذِه الْمَسْأَلَة وتحريرها، وَقد حَرَّره أَئِمَّة الشَّافِعِيَّة، وَأما الْآمِدِيّ فَقَالَ: اخْتلفُوا فِي تَكْفِير جَاحد الْمجمع عَلَيْهِ، فأثبته بعض الْفُقَهَاء، وَأنْكرهُ الْبَاقُونَ مَعَ اتِّفَاقهم على أَن إِنْكَار حكم الْإِجْمَاع الظني غير مُوجب كفرا، وَالْمُخْتَار التَّفْصِيل، وَهُوَ أَن اعْتِقَاد الْإِجْمَاع إِمَّا أَن يكون دَاخِلا فِي مَفْهُوم اسْم الْإِسْلَام كالعبادات الْخمس، وَوُجُوب اعْتِقَاد التَّوْحِيد، والرسالة، أَو لَا يكون كَذَلِك، كَالْحكمِ بِحل البيع وَصِحَّة الْإِجَارَة وَنَحْوه، فَإِن كَانَ الأول فجاحده كَافِر؛ لمزايلة حَقِيقَة الْإِسْلَام لَهُ، وَإِن كَانَ الثَّانِي فَلَا. انْتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1682 وَقَالَ ابْن الْحَاجِب: إِنْكَار حكم الْإِجْمَاع الْقطعِي ثَالِثهَا الْمُخْتَار أَن نَحْو الْعِبَادَات الْخمس يكفر، وَقد اخْتلف فِي مرادهما بالعبادات الْخمس أَرْكَان الْإِسْلَام أَو الصَّلَوَات الْخمس؟ وأيا مَا كَانَ فَيلْزم حِكَايَة قَول إِن منكرها لَا يكفر، وَلَا يعرف هَذَا؛ وَإِن منكري الْخَفي فِيهِ قَول إِنَّه يكفر، وَقد أنكرهُ كثير، وَسبق أَن بَعضهم قَالَ بِهِ. وَمن يؤول كَلَام ابْن الْحَاجِب يَقُول: مُرَاده أَن الْقَائِل بِأَنَّهُ لَا يكفر لمُخَالفَة مُجَرّد الْإِجْمَاع، وَإِن كَانَ يكفر من حَيْثُ إِنَّه ضَرُورِيّ فِي الدّين فَيكون مُكَذبا لصَاحب الشَّرْع. ويزداد الْآمِدِيّ إشْكَالًا فِي قَوْله: إِنَّه لَا يكفر إِلَّا بِمَا يكون دَاخِلا تَحت حَقِيقَة الْإِسْلَام فَيخرج إِنْكَار حل البيع مَعَ أَنه يكفر؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوص مجمع عَلَيْهِ، لَكِن لَيْسَ فِي كَلَام الْآمِدِيّ التَّصْرِيح بِأَن الْمذَاهب ثَلَاثَة كَابْن الْحَاجِب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1683 وَذكر ابْن مُفْلِح عَن أَصْحَابنَا التَّكْفِير وَعَدَمه، وَذكر قَول الْآمِدِيّ، وَقَالَ: هُوَ معنى كَلَام أَصْحَابنَا فِي كتب الْفِقْه، يكفر بجحد حكم ظَاهر مجمع عَلَيْهِ، كالعبادات الْخمس، وَاخْتَارَهُ بعض أَصْحَابنَا. مَعَ أَنه حكى الأول عَن الْأَكْثَر، وَلَا أَظن أحدا لَا يكفر من جحد هَذَا، وَذكر الْمجد فِي " المسودة ": أَن على قَول بعض الْمُتَكَلِّمين الْإِجْمَاع حجَّة ظنية لَا يكفر، وَلَا يفسق. انْتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1684 قَوْله: {فصل} {لَا يَصح التَّمَسُّك بِالْإِجْمَاع فِيمَا يتَوَقَّف صِحَة الْإِجْمَاع عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، كوجود الْبَارِي، وَصِحَّة الرسَالَة وَدلَالَة المعجزة} ؛ لاستلزامه عَلَيْهِ، لُزُوم الدّور. قَوْله: {وَيصِح فِيمَا لَا يتَوَقَّف وَهُوَ ديني كالرؤية وَنفي الشَّرِيك، وَوُجُوب الْعِبَادَات، وَنَحْوهَا} . فَإِن الْإِجْمَاع لَا يتَوَقَّف على ذَلِك لِإِمْكَان تَأَخّر مَعْرفَتهَا عَن الْإِجْمَاع بِخِلَاف الأول، وَسَوَاء كَانَ الديني عقلياً كرؤية الْبَارِي وَنفي الشَّرِيك، أَو شَرْعِيًّا كوجوب الصَّلَاة، وَالزَّكَاة، وَالصِّيَام، وَغَيرهَا. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: لَا خلاف فِيهِ. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: صَحَّ اتِّفَاقًا، وَقطع بِهِ فِي " الْمقنع "، وَغَيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1685 قَوْله: {أَو عَقْلِي، كحدوث الْعَالم} ، وَهَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر. وَقَالَ فِي " الْمَحْصُول ": وَأما حُدُوث الْعَالم فَيمكن إثْبَاته [بِهِ] ؛ لِأَنَّهُ يمكننا إِثْبَات الصَّانِع بحدوث الْأَعْرَاض، ثمَّ نَعْرِف صِحَة النُّبُوَّة بِهِ، ثمَّ نَعْرِف بِهِ الْإِجْمَاع، ثمَّ نَعْرِف بِهِ حُدُوث الْأَجْسَام. انْتهى. وَخَالف فِي هَذِه إِمَام الْحَرَمَيْنِ مُطلقًا، وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي كليات أصُول الدّين، قَالَ: كحدوث الْعَالم، وَإِثْبَات النُّبُوَّة دون جزئياته كجواز الرُّؤْيَة. انْتهى. قَالَ الكوراني: لَا معنى للْإِجْمَاع فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إِن كَانَ قَطْعِيا بالاستدلال فَمَا فَائِدَة الْإِجْمَاع فِيهِ إِلَّا تعاضد الْأَدِلَّة، لَا إِثْبَات الحكم ابْتِدَاء. قَالَ الإِمَام فِي " الْبُرْهَان ": أما مَا ينْعَقد الْإِجْمَاع فِيهِ، فالسمعيات وَلَا اثر للوفاق فِي المعقولات؛ فَإِن المتبع فِي العقليات الْأَدِلَّة القاطعة، فَإِذا أنتصبت لم يعارضها شقَاق، وَلم يعضدها وفَاق، هَذَا كَلَامه. ثمَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1686 نقُول: أَي فَائِدَة فِي الْإِجْمَاع فِي العقليات مَعَ أَنه لَا يجوز التَّقْلِيد فِيهَا، وَلَو كَانَ الْإِجْمَاع حجَّة فِيهَا كَسَائِر الْأَحْكَام لم يجز إِلَّا التَّقْلِيد فِيهَا، وَعدم الْمُخَالفَة. انْتهى. قَوْله: {أَو دُنْيَوِيّ، كرأي فِي حَرْب وَنَحْوه} ، كتدبير أَمر الرّعية والجيوش. قَالَ الْبرمَاوِيّ: فِيهِ مذهبان مشهوران، الْمُرَجح مِنْهُمَا: وجوب الْعَمَل فِيهِ بِالْإِجْمَاع، وَهُوَ ظَاهر كَلَام القَاضِي، وَأبي الْخطاب، وَابْن عقيل، وَغَيرهم فِي حد الْإِجْمَاع، وَاخْتَارَهُ ابْن حمدَان، والآمدي، وَأَتْبَاعه، وَهُوَ أظهر؛ لِأَن الدَّلِيل السمعي دلّ على التَّمَسُّك بِهِ مُطلقًا من غير تَقْيِيد فَوَجَبَ الْمصير إِلَيْهِ؛ لِأَن الأَصْل عدم التَّقْيِيد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1687 قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: هَذَا قَول الْجُمْهُور، وللقاضي عبد الْجَبَّار المعتزلي فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: الْمَنْع، وَوَجهه اخْتِلَاف الْمصَالح بِحَسب الْأَحْوَال، فَلَو كَانَ حجَّة لزم ترك الْمصلحَة وَإِثْبَات الْمفْسدَة، وَقطع بِهِ الْغَزالِيّ، وَصَححهُ السَّمْعَانِيّ، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " فِي حد الْإِجْمَاع. والطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَابْن حمدَان فِي " مقنعه "، وَغَيرهم. قَالَ الكوراني: لَا معنى للْإِجْمَاع فِي ذَلِك؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أقوى من قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهُوَ لَيْسَ دَلِيلا لَا يُخَالف فِيهِ، يدل عَلَيْهِ قصَّة التلقيح حَيْثُ قَالَ: " أَنْتُم أعلم بِأُمُور دنياكم " وَالْمجْمَع عَلَيْهِ لَا يجوز خِلَافه، وَمَا ذَكرُوهُ من أُمُور الْحَرْب وَنَحْوهَا، إِن أَثم مُخَالف ذَلِك فلكونه شَرْعِيًّا وَإِلَّا فَلَا معنى لوُجُوب اتِّبَاعه. انْتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1688 {وَقيل: هُوَ حجَّة بعد اسْتِقْرَار الرَّأْي} ، لَا قبله، ذكره ابْن قَاضِي الْجَبَل. قَوْله: {أَو لغَوِيّ} ، يعْتد بِالْإِجْمَاع فِي أَمر لغَوِيّ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَا خلاف فِي ذَلِك ككون الْفَاء للتعقيب. فَقطع بِهِ. وَقيل: يعْتد بِالْإِجْمَاع فِيهِ إِن تعلق بِالدّينِ، وَإِلَّا فَلَا. ذكره الْقُرْطُبِيّ، نَقله عَنهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل. قَوْله: {تَنْبِيه} : قَالَ أَصْحَابنَا وَأكْثر الْعلمَاء: يثبت الْإِجْمَاع بِخَبَر الْوَاحِد. قَالَ ابْن عقيل: هُوَ قَول أَكثر الْفُقَهَاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1689 وَقَالَ أَبُو سُفْيَان: هُوَ مَذْهَب شُيُوخنَا الْحَنَفِيَّة. انْتهى. وَنَقله ابْن مُفْلِح عَن أَكثر الْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة، وَنَقله الْأَصْفَهَانِي عَن أَكثر الشَّافِعِيَّة، وَنَقله الْقَرَافِيّ عَن مَالك، وَنَقله الْإِسْنَوِيّ عَن الْآمِدِيّ، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، والتاج السُّبْكِيّ فِي " مختصريهما "، وَنَقله الْبرمَاوِيّ عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ، والآمدي. وَذَلِكَ أَن نقل الْوَاحِد للْخَبَر الظني مُوجب للْعَمَل بِهِ قطعا، فَنقل الْوَاحِد للدليل الْقطعِي الَّذِي هُوَ الْإِجْمَاع أولى بِوُجُوب الْعَمَل؛ لِأَن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1690 احْتِمَال الضَّرَر فِي مُخَالفَة الْمَقْطُوع أَكثر من احْتِمَاله فِي مُخَالفَة المظنون، وَاحْتِمَال الْغَلَط لَا يقْدَح فِي وجوب الْعَمَل قطعا كَخَبَر الْوَاحِد. قَالَ ابْن عقيل: هَذَا نزاع عبارَة؛ إِذْ تحتهَا اتِّفَاق فَإِن خبر الْوَاحِد لَا يُعْطي علما وَلَكِن يُفِيد ظنا، وَنحن إِذا قُلْنَا: إِنَّه يثبت بِهِ الْإِجْمَاع فلسنا قاطعين بِالْإِجْمَاع، وَلَا بحصوله بِخَبَر الْوَاحِد، بل هُوَ بِمَنْزِلَة ثُبُوت قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، والمنازع قَالَ: الْإِجْمَاع دَلِيل قَطْعِيّ، وَخبر الْوَاحِد دَلِيل ظَنِّي، فَلَا يثبت قَطْعِيا. انْتهى. وَقَالَ أَبُو الْخطاب، وَالْغَزالِيّ، وَبَعض الْحَنَفِيَّة، وَغَيرهم: لَا يثبت بِخَبَر الْوَاحِد؛ وَذَلِكَ لِأَن الْإِجْمَاع أصل فَلَا يثبت بِالظَّاهِرِ. ورد ذَلِك بِالْمَنْعِ. قَالُوا: الْإِجْمَاع دَلِيل قَطْعِيّ فَلَا يثبت بِخَبَر الْوَاحِد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1691 قَالَ أَبُو الْخطاب وَغَيره: الْعلم لَا يحصل إِلَّا بالتواتر. قَالَ الكوراني: هَذَا قَول الْأَكْثَرين، وَحَكَاهُ الإِمَام أَيْضا عَن الْأَكْثَرين، وَحَكَاهُ الْقَرَافِيّ عَن الْأَكْثَرين أَيْضا. وَقَالَ الْآمِدِيّ وَغَيره: سَنَده وَمَتنه قَطْعِيّ. قَالَ الْإِسْنَوِيّ: قَالَ الْآمِدِيّ: وَالْخلاف يَنْبَنِي على أَن دَلِيل أصل الْإِجْمَاع هَل هُوَ مَقْطُوع بِهِ أَو مظنون؟ قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَمِنْهُم من نَازع الْمَنْع على كَون الْإِجْمَاع حجَّة قَطْعِيَّة، وَنقل ذَلِك عَن الْجُمْهُور. وَقَالَ الباقلاني فِي " التَّقْرِيب ": إِنَّه الصَّحِيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1692 قَوْله: {فصل} {يشْتَرك الْكتاب، وَالسّنة، وَالْإِجْمَاع فِي السَّنَد - وَيُقَال: الْإِسْنَاد، والمتن} - لما فَرغْنَا من الأبحاث الْمَخْصُوصَة بِكُل وَاحِد من الْأَدِلَّة الثَّلَاثَة، وَهِي: الْكتاب، وَالسّنة، وَالْإِجْمَاع، شرعنا فِي الأبحاث الْمُشْتَركَة بَين الثَّلَاثَة؛ فَلذَلِك قُلْنَا: ويشترك الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع فِي السَّنَد، وَالْمرَاد هُنَا مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الِاسْتِدْلَال بالأدلة، وَهِي: الْكتاب، وَالسّنة، وَالْإِجْمَاع، وَالْقِيَاس، وَالَّذِي تثبت [بِهِ] الثَّلَاثَة الأول السَّنَد. وَاعْلَم أَن الْكَلَام فِي الشَّيْء إِنَّمَا يكون بعد ثُبُوته، ثمَّ يتلوه مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ من حَيْثُ دلَالَة الْأَلْفَاظ؛ لِأَنَّهُ بعد الصِّحَّة يتَوَجَّه النّظر إِلَى مَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1693 دلّ عَلَيْهِ ذَلِك الثَّابِت، ثمَّ يتلوه مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ من حَيْثُ اسْتِمْرَار الحكم وبقاؤه، فَلم ينْسَخ، ثمَّ يتلوه مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الدَّلِيل الرَّابِع وَهُوَ الْقيَاس من بَيَان أَرْكَانه، وشروطه، وَأَحْكَامه؛ لِأَنَّهُ فرع على الثَّلَاثَة الأول. قَالَ الْعَضُد: وَلَا شكّ أَن الطَّرِيق إِلَى الشَّيْء مقدم عَلَيْهِ وضعا، وَقَوْلنَا: يشْتَرك كَذَا فِي السَّنَد إِشَارَة إِلَى أَن المُرَاد بالثبوت صِحَة وصولها إِلَيْنَا لَا ثُبُوتهَا فِي نَفسهَا وَكَونهَا حَقًا. إِذا علم ذَلِك فَالسَّنَد - وَيُقَال لَهُ أَيْضا: الْإِسْنَاد - هُوَ: الْإِخْبَار عَن طَرِيق الْمَتْن قولا أَو فعلا تواتراً أَو آحاداً، وَلَو كَانَ الْإِخْبَار بِوَاسِطَة مخبر آخر فَأكْثر عَمَّن ينْسب الْمَتْن إِلَيْهِ والمتن: هُوَ الْمخبر بِهِ. وأصل السَّنَد فِي اللُّغَة: مَا يسند إِلَيْهِ، أَو مَا ارْتَفع من الأَرْض، وَأخذ الْمَعْنى الاصطلاحي من الثَّانِي أَكثر مُنَاسبَة؛ فَلذَلِك قَالَ ابْن طريف: أسندت الحَدِيث رفعته إِلَى الْمُحدث، فَيحْتَمل أَنه اسْم مصدر من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1694 اسند يسند، أطلق على الْمسند إِلَيْهِ، وَأَن يكون مَوْضُوعا لما يسند إِلَيْهِ. والمسند - بِكَسْر النُّون -: من يروي الحَدِيث بِإِسْنَادِهِ، سَوَاء كَانَ عِنْده علم بِهِ، أَو لَيْسَ لَهُ إِلَّا مُجَرّد رِوَايَة. وَأما مَادَّة الْمَتْن فَإِنَّهَا فِي الأَصْل رَاجِعَة إِلَى معنى الصلابة، وَيُقَال: لما صلب من الأَرْض متن، وَالْجمع متان، وَيُسمى أَسْفَل الظّهْر من الْإِنْسَان، والبهيمة متْنا وَالْجمع متون. فالمتن هُنَا: مَا تضمنه الثَّلَاثَة من أَمر، وَنهي، وعام، وخاص، ومجمل، ومبين، ومنطوق، وَمَفْهُوم، وَنَحْوهَا. قَوْله: {وَالْخَبَر يُطلق مجَازًا} ، من جِهَة اللُّغَة {على الدّلَالَة المعنوية، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1695 وَالْإِشَارَة الحالية} ، كَقَوْلِهِم: عَيْنَاك تُخبرنِي بِكَذَا، والغراب يخبر بِكَذَا. وَقَالَ أَبُو الطّيب: (وَكم لظلام اللَّيْل عنْدك من يَد ... تخبر أَن المانوية تكذب) قَوْله: {وَحَقِيقَة} ، أَي: يُطلق حَقِيقَة على الصِّيغَة. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَيُطلق حَقِيقَة على قَول مَخْصُوص؛ وَذَلِكَ لتبادر الْفَهم عِنْد الْإِطْلَاق إِلَى ذَلِك. قَوْله: {وَهِي تدل بمجردها عَلَيْهِ} أَعنِي الصِّيغَة، تدل على كَونه خَبرا عِنْد القَاضِي أبي يعلى وَغَيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1696 وناقش ابْن عقيل القَاضِي فِي ذَلِك كَمَا يَأْتِي فِي الْأَمر والعموم، وَقَالَ: الصِّيغَة هِيَ الْخَبَر فَلَا يُقَال لَهُ صِيغَة، وَلَا هِيَ دَالَّة عَلَيْهِ. وَاخْتَارَ كثير من أَصْحَابنَا مَا قَالَه القَاضِي وَقَالُوا: لِأَن الْخَبَر هُوَ اللَّفْظ وَالْمعْنَى، لَا اللَّفْظ فَقَط، فتقديره لهَذَا الْمركب جُزْء يدل بِنَفسِهِ على الْمركب، وَإِذا قيل: الْخَبَر الصِّيغَة فَقَط بَقِي الدَّلِيل هُوَ الْمَدْلُول عَلَيْهِ. انْتهى. وَاخْتَارَهُ أَيْضا ابْن قَاضِي الْجَبَل، وَقَالَ: لِأَن الْأَمر وَالنَّهْي والعموم هُوَ اللَّفْظ وَالْمعْنَى جَمِيعًا، لَيْسَ هُوَ اللَّفْظ فَقَط، فتقديره لهَذَا الْمركب خبر يدل بِنَفسِهِ على الْمركب كَمَا تقدم. وَقَالَت: {الْمُعْتَزلَة: لَا صِيغَة لَهُ، وَيدل اللَّفْظ عَلَيْهِ بِقَرِينَة} هِيَ قصد الْمخبر إِلَى الْإِخْبَار، كالأمر عِنْدهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1697 وَقَالَت {الأشعرية: هُوَ الْمَعْنى النَّفْسِيّ} . وَقَالَ {الْآمِدِيّ: يُطلق على الصِّيغَة وعَلى الْمَعْنى، وَالْأَشْبَه لُغَة حَقِيقَة فِي الصِّيغَة} لتبادرها عِنْد الْإِطْلَاق. قَوْله: {وَيحد عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر} ، اخْتلف الْعلمَاء - رَحِمهم الله - فِي الْخَبَر هَل يحد أم لَا؟ على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه يحد، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، وَلَهُم فِيهِ حُدُود كَثِيرَة، قل أَن يسلم مِنْهَا حد من خدش: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1698 أَحدهَا: مَا قَالَه أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَابْن عقيل، وَابْن الْبَنَّا، وَأكْثر الْمُعْتَزلَة كالجبائية، وَأبي عبد الله الْبَصْرِيّ، وَعبد الْجَبَّار، وَغَيرهم أَنه فِي اللُّغَة: {كَلَام يدْخلهُ الصدْق وَالْكذب} . وَنقض بِمثل: مُحَمَّد ومسيلمة صادقان. وَبقول من يكذب دَائِما: كل أخباري كذب. فخبره لَا يدْخلهُ صدق، وَإِلَّا كذبت أخباره وَهُوَ مِنْهَا. وَلَا كذب، وَإِلَّا كذبت أخباره مَعَ هَذَا وَصدق فِي قَوْله: كل أخباري كذب فيتناقض، وَيلْزم الدّور لتوقف معرفتهما على معرفَة الْخَبَر؛ لِأَن الصدْق: الْخَبَر المطابق، وَالْكذب: ضِدّه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1699 وبأنهما متقابلان فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي خبر وَاحِد، فَيلْزم امْتنَاع الْخَبَر، أَو وجوده مَعَ عدم صدق الْحَد، وبخبر الْبَارِي. وَأجِيب عَن الأول: بِأَنَّهُ فِي معنى خبرين؛ لإفادته حكما لشخصين، لَا يوصفان بهما، بل يُوصف بهما الْخَبَر الْوَاحِد من حَيْثُ هُوَ خبر. ورد: لَا يمْنَع ذَلِك من وَصفه بهما بِدَلِيل الْكَذِب فِي قَول الْقَائِل: كل مَوْجُود حَادث، وَإِن أَفَادَ حكما لأشخاص. وَأجِيب: بِأَنَّهُ كذب؛ لِأَنَّهُ أضَاف الْكَذِب إِلَيْهِمَا مَعًا وَهُوَ لأَحَدهمَا، وَسلمهُ بَعضهم، وَلَكِن لم يدْخلهُ الصدْق. وَأجِيب: بِأَن معنى الْحَد بِأَن اللُّغَة لَا تمنع القَوْل الْمُتَكَلّم بِهِ صدقت أَو كذبت. ورد: بِرُجُوعِهِ إِلَى التَّصْدِيق والتكذيب وَهُوَ غير الصدْق وَالْكذب فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1700 الْخَبَر، وَقَوله: كل أخباري كذب إِن طابق فَصدق وَإِلَّا فكذب، وَلَا يَخْلُو عَنْهُمَا. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يتَنَاوَل قَوْله مَا سوى هَذَا الْخَبَر؛ إِذْ الْخَبَر لَا يكون بعض الْمخبر. قَالَ: وَنَصّ أَحْمد على مثله، وَلَا جَوَاب على الدّور، وَقد قيل: لَا تتَوَقَّف معرفَة الصدْق وَالْكذب على الْخَبَر لعلمهما ضَرُورَة. وَأجِيب عَن الْأَخير وَمَا قبله: بِأَن الْمَحْدُود جنس الْخَبَر وَهُوَ قَابل لَهما كالسواد وَالْبَيَاض فِي جنس اللَّوْن. ورد: لابد من وجود الْحَد فِي كل خبر، وَإِلَّا لزم وجود الْخَبَر دون حَده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1701 وَأجِيب: الْوَاو وَإِن كَانَت للْجمع لَكِن المُرَاد الترديد بَين الْقسمَيْنِ تجوزاً، لَكِن يصان الْحَد عَن مثله. وَالْحَد الثَّانِي: قَالَه القَاضِي فِي " الْعدة "، وَغَيره: إِن الْخَبَر كلما دخله الصدْق أَو الْكَذِب. وَالْحَد الثَّالِث: قَالَه الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " غَيره: مَا يدْخلهُ {التَّصْدِيق أَو التَّكْذِيب} . فَيرد عَلَيْهِمَا الدّور الْمُتَقَدّم، وَمَا قبل الدّور أَيْضا، وبمنافاة " أَو " للتعريف؛ لِأَنَّهَا للترديد؛ فَلهَذَا أَتَى الطوفي فِي " مُخْتَصره " وَغَيره بِالْوَاو وَهُوَ الْحَد الرَّابِع. وَأجِيب: المُرَاد قبُوله فِي أَحدهمَا وَلَا تردد فِيهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1702 قَالَ الْغَزالِيّ وَغَيره: التَّعْبِير بالتصديق والتكذيب أحسن من الصدْق وَالْكذب؛ لِأَن من الْخَبَر مَا لَا يحْتَمل الْكَذِب، كَقَوْلِنَا: مُحَمَّد رَسُول الله، وَمِنْه مَا لَا يحْتَمل الصدْق، كَقَوْلِنَا: مُسَيْلمَة صَادِق، مَعَ أَن كلا من المثالين يحْتَمل التَّصْدِيق والتكذيب؛ وَلذَلِك كذب بعض الْكفَّار الأول، وَصدق الثَّانِي. وَفِيه نظر؛ فَإِن الْخَبَر من حَيْثُ هُوَ مُحْتَمل الصدْق وَالْكذب، وَفِي سُقُوط أحد الِاحْتِمَالَيْنِ فِي بعض الصُّور لعَارض لَا يُخرجهُ على ماهيته لذَلِك، وَأَيْضًا لِأَن التَّصْدِيق والتكذيب كَون الْخَبَر صدقا أَو كذبا، فتعريفه بِهِ دور. قَالَه الرَّازِيّ. الْحَد الْخَامِس: قَالَه أَبُو الْحُسَيْن المعتزلي: إِن الْخَبَر {كَلَام يُفِيد بِنَفسِهِ نِسْبَة} ، والكلمة عِنْده كَلَام؛ لِأَنَّهُ حَده بِمَا انتظم من حُرُوف مسموعة متميزة، فَقَالَ: بِنَفسِهِ؛ ليخرج نَحْو: قَائِم، فَإِنَّهُ يُفِيد نِسْبَة إِلَى الضَّمِير بِوَاسِطَة الْمَوْضُوع، وَيرد النّسَب التقييدية: كحيوان نَاطِق، وَمثل: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1703 مَا أحسن زيدا. قَالَ ابْن الْحَاجِب: وَمثل: قُم، وَنَحْوه؛ فَإِنَّهُ يُفِيد بِنَفسِهِ نِسْبَة الْقيام إِلَى الْمَأْمُور، أَو الطّلب إِلَى الْآمِر مَعَ أَنه قَالَ: هُوَ أقربها. وَقَالَ الْآمِدِيّ: أخرجه بِنَفسِهِ، فَإِن الْمَأْمُور بِهِ وَجب بواسطتها استدعاء الْأَمر بِنَفسِهِ من طلب الْفِعْل. الْحَد السَّادِس: قَالَه ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره "، وَجَمَاعَة: هُوَ الْكَلَام الْمَحْكُوم فِيهِ بِنِسْبَة خارجية. قَالَ: وَيَعْنِي الْخَارِج عَن كَلَام النَّفس، فنحو: طلبت الْقيام، حكم بِنِسْبَة لَهَا خارجي بِخِلَاف " قُم ". قَالَ الْأَصْفَهَانِي: وَيَعْنِي بالْكلَام مَا تضمن كَلِمَتَيْنِ بِالْإِسْنَادِ، فَيخرج عَنهُ الْكَلِمَة، والمركب الإضافي والمركب التقييدي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَاحِد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1704 مِنْهَا بِكَلَام، وَالْمرَاد بِالنِّسْبَةِ الخارجية الْأَمر الْخَارِج عَن كَلَام النَّفس الَّذِي تعلق بِهِ كَلَام النَّفس بالمطابقة واللامطابقة، وَيُسمى ذَلِك الْأَمر النِّسْبَة الخارجية، فَيدْخل فِي هَذَا التَّعْرِيف مثل: طلبت الْقيام فَإِنَّهُ قد حكم بِنِسْبَة لَهَا خارجي، وَهُوَ نِسْبَة طلب الْقيام إِلَى الْمُتَكَلّم فِي الزَّمَان الْمَاضِي، وَهَذِه النِّسْبَة خارجية عَن الحكم النَّفْسِيّ تعلق بهَا الحكم النَّفْسِيّ بالمطابقة واللامطابقة بِخِلَاف قُم، فَإِنَّهُ مُتَعَلق بالحكم النَّفْسِيّ وَلَيْسَ لَهُ تعلق خارجي. انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: الْخَبَر مَا لَهُ من الْكَلَام خَارج، أَي: لنسبته وجود خارجي فِي زمن غير زمن الحكم بِالنِّسْبَةِ. انْتهى. وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ": هُوَ قَول يدل على نِسْبَة مَعْلُوم إِلَى مَعْلُوم، أَو سلبها عَنهُ، وَيحسن السُّكُوت عَلَيْهِ. القَوْل الثَّانِي: إِن الْخَبَر لَا يحد، كالوجود والعدم. وَلَهُم فِي تَعْلِيل عدم حَده مأخذان: أَحدهمَا: أَن كَونه لَا يحد لعسره كَمَا تقدم فِي الْعلم فليعاود، فَإِنَّهُ مثله فِي ذَلِك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1705 المأخذ الثَّانِي: قَالَه الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول "، والسكاكي: إِن تصَوره ضَرُورِيّ؛ لِأَن كل أحد يعلم بِالضَّرُورَةِ أَنه مَوْجُود. أَي: يعلم معنى قَوْله: (أَنه مَوْجُود) من حَيْثُ وُقُوع النِّسْبَة فِيهِ على وَجه يحْتَمل الصدْق وَالْكذب، وَهُوَ خبر خَاص، فمطلق الْخَبَر الَّذِي هُوَ جُزْء هَذَا الْخَبَر الْخَاص أولى أَن يكون ضَرُورِيًّا؛ وَلِأَن كل أحد يجد تَفْرِقَة بَين الْخَبَر وَالْأَمر وَغَيرهمَا ضَرُورَة، والتفرقة بَين شَيْئَيْنِ مسبوقة بتصورهما. لَا يُقَال: الِاسْتِدْلَال دَلِيل أَنه غير ضَرُورِيّ؛ لِأَنَّهُ لَا يسْتَدلّ على ضَرُورِيّ؛ وَلِأَن كَون الْعلم ضَرُورِيًّا أَو نظرياً قَابل للاستدلال بِخِلَاف الِاسْتِدْلَال على حُصُول الْخَبَر ضَرُورَة؛ فَإِنَّهُ منَاف لضَرُورَة الْخَبَر. ورد الدَّلِيل الأول: بِأَن الْمُطلق لَو كَانَ جُزْءا لزم انحصار الْأَعَمّ فِي الْأَخَص وَهُوَ محَال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1706 فَإِن قيل: مُشْتَركَة فِيهِ بَين جزئياته - أَي: أَنه مَوْجُود فِيمَا تَحْتَهُ - فَكَانَ جُزْءا من مَعْنَاهَا [رد] لَيْسَ معنى كَونه مُشْتَركَة فِيهِ هَذَا، بل بِمَعْنى أَن حد الطبيعة الَّتِي عرض لَهَا أَنَّهَا كُلية مُطلقَة مُطَابقَة لحد مَا تحتهَا من الطبائع الْخَاصَّة. وَلِأَنَّهُ لَيْسَ كل عَام جُزْءا من معنى الْخَاص؛ لِأَن الْأَعْرَاض الْعَامَّة خَارِجَة عَن مَفْهُوم مَعْنَاهُ، كالأبيض وَالْأسود بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَحْتَهُ من معنى الْإِنْسَان أَو نَحوه. ورد الدَّلِيل الأول أَيْضا: بِأَنَّهُ لَا يلْزم من حُصُول الْعلم بالْخبر تصَوره، أَو تقدم تصَوره؛ لِأَن الْعلم الضَّرُورِيّ بالثبوت لَا يسْتَلْزم الْعلم بالتصور؛ لتغاير التَّصَوُّر والثبوت، وَمَعَ عدم تلازم تصور الْخَاص وثبوته لم يلْزم تصور الْمُطلق مِنْهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1707 ورد هَذَا: بِأَنَّهُ لم يدع أَن حُصُول الْخَبَر تصَوره، بل الْعلم بِحُصُول تصَوره وَلَا يُمكن مَنعه. ورد الدَّلِيل الثَّانِي: بِأَنَّهُ لَا يلْزم سبق تصور أَحدهمَا بطرِيق الْحَقِيقَة، فَلم تعلم حقيقتهما، ثمَّ يلْزم أَن لَا يحد الْمُخَالف الْأَمر وَقد حَده؛ وَلِأَن حقائق أَنْوَاع اللَّفْظ من خبر وَأمر وَغَيرهمَا مَبْنِيَّة على الْوَضع والاصطلاح؛ وَلِهَذَا لَو أطلقت الْعَرَب الْأَمر على الْمَفْهُوم من الْخَبَر الْآن أَو عَكسه لم يمْتَنع، فَلم تكن ضَرُورِيَّة. قَالَ الْمحلي: كل من الْعلم وَالْخَبَر والوجود والعدم قيل: ضَرُورِيّ فَلَا حَاجَة إِلَى تَعْرِيفه، وَقيل: لعسر تَعْرِيفه. انْتهى. وَيَأْتِي فِي الْأَمر: هَل يشْتَرط فِي الْخَبَر الْإِرَادَة كالأمر أم لَا؟ قَوْله: {وَغير الْخَبَر إنْشَاء وتنبيه} قد علم أَن للْكَلَام أنواعاً فلابد من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1708 من بَيَانهَا، وَالْفرق بَينهَا ليحصل الِاسْتِدْلَال بهَا على المُرَاد، وَلِلنَّاسِ فِي تقسيمه طرق، فَمنهمْ من يقسمهُ إِلَى: خبر، وإنشاء، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قدمنَا؛ لِأَنَّهُ إِن احْتمل الصدْق وَالْكذب فَهُوَ الْخَبَر، وَإِلَّا فَهُوَ الْإِنْشَاء. وَذَلِكَ الْإِنْشَاء إِمَّا طلب أَو غَيره، وَهُوَ الْمَشْهُور باسم الْإِنْشَاء، والطلب إِمَّا أَمر أَو نهي أَو اسْتِفْهَام، نَحْو: قُم، وَلَا تقعد، وَهل عنْدك أحد؟ وَقد ذكر من الْإِنْشَاء: الْأَمر، وَالنَّهْي، والاستفهام، وَالتَّمَنِّي، والترجي، وَالْقسم، والنداء. وَظَاهر قَوْلنَا: وَغير الْخَبَر إنْشَاء وتنبيه، أَن الْإِنْشَاء هُوَ التَّنْبِيه، وتابعنا فِي ذَلِك ابْن مُفْلِح، وتابع ابْن مُفْلِح ابْن الْحَاجِب؛ وَلِهَذَا قَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر ": لم يفرق المُصَنّف بَين الْإِنْشَاء والتنبيه، وَقَالَ بَعضهم: الْكَلَام الَّذِي لَا يحْتَمل الصدْق وَالْكذب يُسمى إنْشَاء، فَإِن دلّ بِالْوَضْعِ على طلب الْفِعْل يُسمى أمرا، وَإِن دلّ على طلب الْكَفّ عَن الْفِعْل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1709 يُسمى نهيا، وَإِن دلّ على طلب الإفهام يُسمى استفهاماً، وَإِن لم يدل بِالْوَضْعِ على طلب يُسمى تَنْبِيها، ويندرج فِيهِ التمنى، والترجي، وَالْقسم، والنداء. انْتهى. وَقَالَهُ أَيْضا القَاضِي عضد الدّين فِي " شرح الْمُخْتَصر "، وَيَأْتِي لَفظه بعد قَوْله: وَغير الطّلب إنْشَاء، وَذكر فِي " جمع الْجَوَامِع " أَيْضا أَن الْإِنْشَاء والتنبيه مُتَرَادِفَانِ. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شَرحه ": وهما لفظان مُتَرَادِفَانِ، سمي بالتنبيه؛ لِأَنَّك نبهت بِهِ على مقصودك، وسمى بالإنشاء؛ لِأَنَّك ابتكرته من غير أَن يكون مَوْجُودا قبل ذَلِك فِي الْخَارِج من قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إنْشَاء} [الْوَاقِعَة: 35] ، ويندرج فِيهِ التَّمَنِّي، والترجي، وَالْقسم، والنداء. وَالْفرق بَين الترجي وَالتَّمَنِّي: أَن الترجي لَا يسْتَعْمل إِلَّا فِي الْمُمكن بِخِلَاف التَّمَنِّي فَإِنَّهُ يسْتَعْمل فِي الْمُمكن والمستحيل، تَقول: لَيْت الشَّبَاب يعود، وَلَا تَقول: لَعَلَّ الشَّبَاب يعود. انْتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1710 وَقَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": التَّنْبِيه قسم بِرَأْسِهِ غير الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة، تَحْتَهُ أَقسَام: أَحدهَا: الْعرض، نَحْو: أَلا تنزل عندنَا؟ والتحضيض، نَحوه: هلا تنزل عندنَا؟ وَهُوَ أَشد وأبلغ من الْعرض، وَالتَّمَنِّي [نَحْو] : لَيْت الشَّبَاب يعود والرجاء، نَحْو: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِي بِالْفَتْح} [الْمَائِدَة: 52] . وَاسْتغْنى بِذكر الترجي عَن الإشفاق، وَهُوَ مَا يكون فِي الْمَكْرُوه، وَرُبمَا توسع بِإِطْلَاق الترجي على الْأَعَمّ، وَقد اجْتمعَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم وَعَسَى أَن تحبوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لكم} [الْبَقَرَة: 216] فَهَذِهِ الْأَرْبَعَة وَهِي: الْعرض والتحضيض وَالتَّمَنِّي والترجي لَيْسَ طلبا صَرِيحًا، بل إِيمَاء إِلَى الطّلب، فَهِيَ شَبيه بِالطَّلَبِ الصَّرِيح، ولكونه لَيْسَ طلبا بِالْوَضْعِ جعله قوم، كالبيضاوي قسيماً لَهُ بِحَيْثُ قَالَ: إِن الْكَلَام إِمَّا أَن يُفِيد طلبا بِالْوَضْعِ، وَهُوَ الْأَمر وَالنَّهْي، والاستفهام، أَو لَا، فَمَا لَا يحْتَمل الصدْق وَالْكذب تَنْبِيه وإنشاء ومحتملهما الْخَبَر. وَكَذَا عبر فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَلكنه لَا يعرف مِنْهُ مَا يتَمَيَّز بِهِ التَّنْبِيه من الْإِنْشَاء وَلَا كَونه فِيهِ طلبا مَا، على أَن البيانيين يطلقون عَلَيْهِ اسْم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1711 الطّلب فيجعلون الطّلب أمرا ونهياً واستفهاماً وتنبيهاً. انْتهى. قلت: قد صرح الْعِرَاقِيّ - كَمَا تقدم - أَن الْإِنْشَاء والتنبيه مُتَرَادِفَانِ، وَهُوَ ظَاهر الْكِتَابَيْنِ اللَّذين ذكرهمَا المُصَنّف. وَقَالَ ابْن الْحَاجِب - كَمَا تقدم -: وَيُسمى غير الْخَبَر إنْشَاء وتنبيهاً. وَتقدم كَلَام الْأَصْفَهَانِي، وَالْقَاضِي عضد الدّين. قَوْله: {وَصِيغَة عقد وَفسخ وَنَحْوهَا إنْشَاء} الصَّحِيح من مَذْهَبنَا، وَمذهب أَكثر الْعلمَاء: أَن صِيغَة الْعُقُود والفسوخ وَنَحْوهَا إنْشَاء، وَهُوَ الَّذِي يقْتَرن مَعْنَاهُ بِوُجُود لَفظه، نَحْو: بِعْت، واشتريت، وأعتقت، وَطلقت، وفسخت، وَنَحْوهَا مِمَّا يشابه ذَلِك مِمَّا تستحدث بِهِ الْأَحْكَام فَهِيَ أَخْبَار فِي الأَصْل بِلَا شكّ، وَلَكِن لما اسْتعْملت فِي الشَّرْع فِي معنى الْإِنْشَاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1712 اخْتلف فِيهَا: هَل هِيَ بَاقِيَة على أَصْلهَا من الْإِخْبَار أَو نقلت؟ فأصحابنا، وَالْأَكْثَر على الثَّانِي، وَالْحَنَفِيَّة على الأول على معنى الْإِخْبَار عَن ثُبُوت الْأَحْكَام، فَمَعْنَى قَوْلك: بِعْتُك: الْإِخْبَار عَمَّا فِي قَلْبك، فَإِن أصل البيع هُوَ التَّرَاضِي، فَصَارَ بِعْت وَنَحْوهَا لفظا دَالا على الرضى بِمَا فِي ضميرك، فَيقدر وجودهَا قبل اللَّفْظ للضَّرُورَة، وَغَايَة ذَلِك أَن يكون مجَازًا وَهُوَ أولى من النَّقْل. وَدَلِيل الْأَكْثَر: أَنه لَو كَانَ خَبرا لَكَانَ إِمَّا عَن مَاض، أَو حَال، أَو مُسْتَقْبل، والأولان باطلان لِئَلَّا يلْزم أَن لَا يقبل الطَّلَاق وَنَحْوه التَّعْلِيق؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي توقف شَيْء لم يُوجد على مَا لم يُوجد، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1713 والماضي وَالْحَال قد وجدا لَكِن قبُوله التَّعْلِيق إِجْمَاع، والمستقبل يلْزم مِنْهُ أَن لَا يَقع بِهِ شَيْء؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة (سَأُطلقُ) وَالْغَرَض خِلَافه، إِلَى غير ذَلِك من أدلته. وَأَيْضًا: لَا خَارج لَهَا، وَلَا تقبل صدقا، وَلَا كذبا، وَلَو كَانَت خَبرا لما قبلت تَعْلِيقا لكَونه مَاضِيا؛ وَلِأَن الْعلم الضَّرُورِيّ قَاطع بِالْفرقِ بَين: طلقت إِذا قصد بِهِ الْوُقُوع، وَطلقت إِذا قصد بِهِ الْإِخْبَار. وَقَالَ القَاضِي من أَصْحَابنَا: هِيَ إِخْبَار فِي الْعُقُود. {وَلنَا وَجه أَن (طَلقتك) كِنَايَة} . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": وَقيل: طَلقتك كِنَايَة، فَيتَوَجَّه عَلَيْهِ أَن يحْتَمل الْإِنْشَاء وَالْخَبَر، وعَلى الأول هُوَ إنْشَاء، وَذكر القَاضِي فِي مَسْأَلَة الْأَمر: أَن الْعُقُود الشَّرْعِيَّة بِلَفْظ الْمَاضِي إِخْبَار، وَقَالَ شَيخنَا - يَعْنِي الشَّيْخ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1714 تَقِيّ الدّين -: هَذِه الصِّيَغ إنْشَاء من حَيْثُ إِنَّهَا هِيَ الَّتِي أَثْبَتَت الحكم، وَبهَا تمّ، وَهِي إِخْبَار لدلالتها على الْمَعْنى الَّذِي فِي النَّفس. انْتهى. قَوْله: {وَلَو قَالَه لرجعية طلقت فِي الْأَصَح} أَعنِي على القَوْل الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر؛ لِأَنَّهُ إنْشَاء للطَّلَاق، فعلى هَذَا لَا يقبل قَوْله: أَنه أَرَادَ الْإِخْبَار. وَذهب بَعضهم إِلَى أَنَّهَا لَا تطلق، وَكَأَنَّهُ يَعْنِي أَنه قصد الْإِخْبَار عَن الطَّلَاق الْمَاضِي، {وَلَو ادّعى طَلَاقا مَاضِيا توجه لنا خلاف} كالمسألة الَّتِي قبلهَا وَغَيرهَا. فَإِن قَوْله: طَلقتك يحْتَمل أَنه إِخْبَار عَن الطَّلَاق الْمَاضِي الَّذِي كَانَ أوقعه، فَلم يَقع عَلَيْهَا غَيره، لَكِن الظَّاهِر أَنه إنْشَاء، وَهُوَ الْمُتَعَارف بَين النَّاس، وَهَذَا الْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1715 قَوْله: {وَأشْهد، إنْشَاء تضمن إِخْبَارًا، وَقيل: إِخْبَار، وَقيل: إنْشَاء} ، فَإِذا قَالَ الشَّاهِد: أشهد بِكَذَا، فَفِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا - وَهُوَ الْمُخْتَار -: إِنَّهَا إنْشَاء تضمن الْخَبَر بِمَا فِي النَّفس. وَالثَّانِي: إِنَّهَا إِخْبَار مَحْض، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أهل اللُّغَة. قَالَ ابْن فَارس فِي " الْمُجْمل ": الشَّهَادَة خبر عَن علم. وَقَالَ الرَّازِيّ: قَوْله: (أشهد) إِخْبَار عَن الشَّهَادَة وَهِي الحكم الذهْنِي الْمُسَمّى كَلَام النَّفس. وَالثَّالِث: إِنَّهَا إنْشَاء، وَإِلَيْهِ ميل الْقَرَافِيّ؛ لِأَنَّهُ لَا يدْخلهُ تَكْذِيب شرعا، وَأما قَوْله تَعَالَى: {وَالله يشْهد إِن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1716 [المُنَافِقُونَ: 1] فراجع إِلَى تسميتهم ذَلِك شَهَادَة؛ لِأَنَّهَا مَا واطأ فِيهَا الْقلب اللِّسَان، وَإِنَّمَا اختير الأول لاضطراب النَّاس فِي ذَلِك، فَقَائِل بِأَنَّهَا إِخْبَار - كَمَا فِي كتب اللُّغَة -، وَقَائِل بِأَنَّهَا إنْشَاء؛ لِأَنَّهُ لَا يدْخلهُ تَكْذِيب شرعا، فالقائل بالثالث، رأى كلا من الْقَوْلَيْنِ لَهُ وَجه فَجمع بَينهمَا بِأَن قَالَ: ذَلِك يضمن إِخْبَارًا. وَقَالَ الكوراني: إِن أردْت تَحْقِيق الْمَسْأَلَة فاسمع لما أَقُول: اعْلَم أَنا قد قدمنَا أَن دلَالَة الْأَلْفَاظ إِنَّمَا هِيَ على الصُّور الذهنية الْقَائِمَة بِالنَّفسِ، فَإِن أُرِيد بالْكلَام الْإِشَارَة إِلَى أَن النِّسْبَة الْقَائِمَة بِالنَّفسِ مُطَابقَة لأخرى خارجية فِي أحد الْأَزْمِنَة الثَّلَاثَة فَالْكَلَام خبر، سَوَاء كَانَت تِلْكَ الخارجية قَائِمَة بِالنَّفسِ أَيْضا كعلمت وظننت، أَو بِغَيْرِهِ كخرجت وَدخلت، وَإِن لم يرد مُطَابقَة تِلْكَ النِّسْبَة الذهنية لأخرى خارجية فَالْكَلَام إنْشَاء، فَإِذا قَالَ الْقَائِل: أشهد بِكَذَا، لَا يشك أحد فِي أَنه لم يقْصد أَن تِلْكَ النِّسْبَة الْقَائِمَة بِنَفسِهِ تطابق نِسْبَة أُخْرَى فِي أحد الْأَزْمِنَة، بل مُرَاده الدّلَالَة على مَا فِي نَفسه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1717 من ثُبُوت هَذِه النِّسْبَة، مثل: اضْرِب وَلَا تضرب فَهُوَ إنْشَاء مَحْض، وَلَا يرجع الصدْق وَالْكذب إِلَيْهِ، وَكَون الْمَشْهُود بِهِ خَبرا لَا يُخرجهُ عَن كَونه إنْشَاء مَحْضا؛ لِأَن تِلْكَ النِّسْبَة مُسْتَقلَّة بِحكم وأطرافه، وَهَذِه أُخْرَى كَذَلِك، وَلَو كَانَ كَون الشَّيْء متضمناً لآخر يُخرجهُ عَن كَونه مَحْض ذَلِك الشَّيْء لم يبْق إنْشَاء مَحْض قطّ؛ إِذْ قَوْلك: اضْرِب، مُتَضَمّن لِقَوْلِك: الضَّرْب مِنْك مَطْلُوب، أَو أطلب مِنْك، وَهَذَا مِمَّا لَا يَقُول بِهِ عَاقل. انْتهى. وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": وَاعْلَم أَن نقل الْمذَاهب فِي هَذِه الْمَسْأَلَة هَكَذَا لَا يُوجد مجموعاً، وَإِنَّمَا هُوَ مفرق فِي كَلَام الْأَئِمَّة بالتلويح. انْتهى. قَوْله: {وَقيل: غير الْخَبَر طلب وإنشاء} . قَالَه جمع من الْعلمَاء، ويرون بِأَن الْإِنْشَاء لَيْسَ فِيهِ الطّلب بل قسيمه؛ لِأَن الْمَطْلُوب مستدعى الْحُصُول فِي الْمُسْتَقْبل، والإنشاء مَدْلُوله يحصل فِي الْحَال، وَلَفظ الْإِنْشَاء سَبَب لوُجُود مَعْنَاهُ، وَلَفظ الطّلب لَيْسَ سَببا لوُجُود مَعْنَاهُ، وَإِن أُرِيد بالإنشاء إِحْدَاث شَيْء لم يكن فَالْكل إنْشَاء؛ لِأَن الْخَبَر إِحْدَاث الْإِخْبَار بِهِ وَلَا قَائِل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1718 بذلك، فعلى هَذَا إِن طلب بِالْوَضْعِ تَحْصِيل فعل أَو ترك فَأمر وَنهي، نَحْو: قُم، وَلَا تقعد - كَمَا تقدم -، وَإِن طلب إعلاماً بِشَيْء لَا لتَحْصِيل فعل وَلَا ترك فَهُوَ اسْتِفْهَام، وَمَا أحسن مَا عبر عَنهُ البيانيون فَقَالُوا فِي الْأَمر وَالنَّهْي: إنَّهُمَا طلب مَا هُوَ حَاصِل فِي الذِّهْن أَن يحصل فِي الْخَارِج، وَفِي الِاسْتِفْهَام الْعَكْس - أَي: طلب مَا فِي الْخَارِج أَن يحصل فِي الذِّهْن. قَوْله: {وَغَيره} ، أَي: غير الطّلب إنْشَاء، وَهُوَ: عرض، وتحضيض، وتمن، وترج، وَقسم، ونداء. قَالَ القَاضِي عضد الدّين فِي " شرح الْمُخْتَصر ": غير الْخَبَر مَا لَا يشْعر بِأَن لمدلوله مُتَعَلقا خارجياً، ويسميه المُصَنّف تَنْبِيها وإنشاء، ويندرج فِيهِ الْأَمر، وَالنَّهْي، وَالتَّمَنِّي، والترجي، وَالْقسم، والنداء، والاستفهام. والمنطقيون يقسمونه إِلَى مَا يدل على الطّلب لذاته، إِمَّا للفهم، وَهُوَ الِاسْتِفْهَام، وَإِمَّا لغيره وَهُوَ الْأَمر، وَالنَّهْي، وَإِلَى غَيره، ويخصون التَّنْبِيه والإنشاء بالأخير مِنْهُمَا، ويعدون مِنْهُ التَّمَنِّي، والترجي، وَالْقسم، والنداء، وَبَعْضهمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1719 يعد التَّمَنِّي، والنداء من الطّلب. انْتهى. وَكَلَام المناطقة مُوَافق لِلْقَوْلِ الَّذِي حكيناه قبل. قَوْله: {وَقيل غير الْخَبَر طلب فَقَط} . من الْعلمَاء من قسم الْكَلَام إِلَى خبر، وَطلب كَمَا قَالَ ابْن مَالك فِي كافيته: (قَول مُفِيد طلبا أَو خَبرا ... هُوَ الْكَلَام كاستمع وسترى) وَكَأَنَّهُ رأى أَن الْإِنْشَاء فرع عَن الْخَبَر فيكتفي بِذكر الْخَبَر أَو غير ذَلِك. فَوَائِد: إِحْدَاهَا: الطّلب مَا يُفِيد بِذَاتِهِ احْتِرَازًا عَمَّا يُفِيد باللازم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1720 أَو بِالْقَرِينَةِ نَحْو: أَنا أطلب مِنْك أَن تُخبرنِي بِكَذَا، أَو أَن تسقيني مَاء، أَو أَن تتْرك الْأَذَى، وَنَحْوه، فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ دَالا على الطّلب لَكِن لَا بِذَاتِهِ، بل هَذِه إخبارات لازمها الطّلب، وَلَا يُسمى الأول استفهاماً، وَلَا الثَّانِي أمرا، وَلَا الثَّالِث نهيا لذَلِك. وَكَذَا قَوْله: أَنا عطشان، كَأَنَّهُ قَالَ: اسْقِنِي، فَإِن هَذَا طلب بِالْقَرِينَةِ لَا بِذَاتِهِ، وَرُبمَا عبر عَن هَذَا الْقَيْد بِكَوْنِهِ بِالْوَضْعِ، وَرُبمَا عبر عَنهُ بِمَا يفِيدهُ إِفَادَة أولية، وَالْكل صَحِيح، وَالله أعلم. الثَّانِيَة: الْخَبَر مُشْتَمل على مَحْكُوم عَلَيْهِ، ومحكوم بِهِ، ويعبر عَنهُ البيانيون بِمُسْنَد إِلَيْهِ، ومسند ويعدونه إِلَى مُطلق الْكَلَام. والمناطقة يسمون الْخَبَر قَضِيَّة لما فِيهَا من الْقَضَاء بِشَيْء على شَيْء، ويسمون الْمقْضِي عَلَيْهِ مَوْضُوعا، والمقضي بِهِ يسمونه مَحْمُولا، لِأَنَّك تضع الشَّيْء وَتحمل عَلَيْهِ حكما، ويقسمون الْقَضِيَّة إِلَى طبيعية وَهِي: مَا حكم فِيهَا بِأحد أَمريْن من حَيْثُ هُوَ على الآخر، من حَيْثُ هُوَ لَا بِالنّظرِ إِلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1721 أَفْرَاده، نَحْو: الرجل خير من الْمَرْأَة، وَنَحْو: المَاء مرو، وَغير الطبيعية وَهِي: الَّتِي قصد الحكم فِيهَا على مشخص فِي الْخَارِج لَا على الْحَقِيقَة من حَيْثُ هِيَ، ثمَّ ينظر فَإِن حكم فِيهَا على جزئي معِين سميت شخصية، نَحْو: زيد قَائِم، أَو لَا على معِين، فَإِذا ذكر فِيهَا سور الْكل أَو الْبَعْض فِي نفي أَو إِثْبَات سميت محصورة، نَحْو: كل إِنْسَان كَاتب بِالْقُوَّةِ، وَبَعض الْإِنْسَان كَاتب بِالْفِعْلِ، وَنَحْو: لَا شَيْء أَو وَاحِد من الْإِنْسَان بجماد، وَلَيْسَ بعض الْإِنْسَان بكاتب بِالْفِعْلِ، أَو بعض الْإِنْسَان لَيْسَ كَذَلِك. وَإِن لم يكن للقضية سور وَالْمرَاد الحكم فِيهَا على الْأَفْرَاد لَا على الْحَقِيقَة من حَيْثُ هِيَ سميت مُهْملَة، نَحْو: الْإِنْسَان فِي خسر، وَالْحكم فِيهَا على بعض ضَرُورِيّ، فَهُوَ المتحقق، وَلَا يصدق عَلَيْهَا كُلية، لَكِن إِذا كَانَ فِيهَا " أل " كَمَا فِي " الْإِنْسَان كَاتب " يُطلق عَلَيْهَا ابْن الْحَاجِب وَغَيره كثيرا أَنَّهَا كُلية نظرا إِلَى إِفَادَة " أل " الْعُمُوم، فَهِيَ مثل " كل "، وَإِن لم يكن ذَلِك من اصْطِلَاح المناطقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1722 الثَّالِثَة: سَأَلَ بَعضهم أَن سنة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا الْأَمر، وَالنَّهْي، والاستفهام، وأنواع التَّنْبِيه وَغير ذَلِك فَكيف تسمى كلهَا أَخْبَارًا؟ فَيُقَال: أَخْبَار النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأجَاب الباقلاني بجوابين أَحدهمَا: أَن الْكل أخبر بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن حكم الله تَعَالَى فَأمره وَنَهْيه وشبههما هُوَ فِي الْحَقِيقَة خبر عَن حكم الله تَعَالَى. الثَّانِي: أَنَّهَا سميت أَخْبَارًا لنقل المتوسطين فهم يخبرون بِهِ عَمَّن أخْبرهُم إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى من أمره النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو نَهَاهُ، فَإِن ذَلِك يَقُول: أمرنَا، ونهينا، وَالَّذِي بعده يَقُول: أخبرنَا فلَان عَن فلَان بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر، وَنهى. الرَّابِعَة: ذكر الْقَرَافِيّ فروقاً بَين الْخَبَر والإنشاء: أَحدهَا: قبُول الْخَبَر الصدْق وَالْكذب بِخِلَاف الْإِنْشَاء. الثَّانِي: أَن الْخَبَر تَابع للمخبر [عَنهُ] فِي أَي زمَان كَانَ، مَاضِيا كَانَ أَو حَالا أَو مُسْتَقْبلا، والإنشاء متبوع لمتعلقه فيترتب عَلَيْهِ بعده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1723 الثَّالِث: أَن الْإِنْشَاء سَبَب لوُجُود مُتَعَلّقه فيعقب آخر حرف مِنْهُ، أَو يُوجد مَعَ آخر حرف مِنْهُ على الْخلاف فِي ذَلِك إِلَّا أَن يمْنَع مَانع، وَلَيْسَ الْخَبَر سَببا، وَلَا مُعَلّقا عَلَيْهِ، بل مظهر [لَهُ] فَقَط. انْتهى. وَهَذِه الفروق رَاجِعَة إِلَى أَن الْخَبَر لَهُ خَارج يصدق أَو يكذب. تَنْبِيه: مِمَّا يَنْبَنِي على الْفرق بَينهمَا أَن الظِّهَار هَل هُوَ خبر أَو إنْشَاء؟ قَالَ الْقَرَافِيّ: قد يتَوَهَّم أَنه إنْشَاء، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ لِأَن الله تَعَالَى أَشَارَ إِلَى كذب الْمظَاهر ثَلَاث مَرَّات بقوله تَعَالَى: {ماهن أمهاتهم إِن أمهاتهم إِلَّا الائي ولدنهم وَإِنَّهُم ليقولون مُنْكرا من القَوْل وزوراً} [المجادلة: 2] قَالَ: وَلِأَنَّهُ حرَام، وَلَا سَبَب لتحريمه إِلَّا كَونه كذبا. وَأجَاب عَمَّن قَالَ سَبَب التَّحْرِيم إِنَّه قَائِم مقَام الطَّلَاق الثَّلَاث، وَذَلِكَ حرَام على رَأْي وَأطَال فِي ذَلِك. لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: الظَّاهِر أَنه إنْشَاء خلافًا لَهُ؛ لِأَن مَقْصُود النَّاطِق بِهِ تَحْقِيق مَعْنَاهُ الخبري بإنشاء التَّحْرِيم، فالتكذيب ورد على مَعْنَاهُ الخبري، لَا على مَا قَصده من إنْشَاء التَّحْرِيم، وَهَذَا مثل قَوْله: أَنْت عَليّ حرَام، فَإِن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1724 قَصده إنْشَاء التَّحْرِيم، فَلذَلِك وَجَبت الْكَفَّارَة حَيْثُ لم يقْصد بِهِ طَلَاقا، وَلَا ظِهَارًا، إِلَّا من حَيْثُ الْإِخْبَار. فالإنشاء ضَرْبَان: ضرب أذن الشَّارِع فِيهِ كَمَا أَرَادَهُ المنشئ كَالطَّلَاقِ، وَضرب لم يَأْذَن فِيهِ الشَّرْع وَلكنه رتب عَلَيْهِ حكما - وَهُوَ الظِّهَار - رتب فِيهِ تَحْرِيم الْمَرْأَة إِذا عَاد حَتَّى يكفر، وَقَوله: إِنَّهَا حرَام لَا بِقصد طَلَاق أَو ظِهَار رتب فِيهِ التَّحْرِيم حَتَّى يكفر. انْتهى. قَوْله: فَائِدَة: عشر حقائق تتَعَلَّق بمعدوم مستقبلي إِلَى آخِره. قَالَ الْقَرَافِيّ فِي " شرح التَّنْقِيح ": وَجه اختصاصها بالمستقبل، أَن الْأَمر، وَالنَّهْي، وَالدُّعَاء، والترجي، وَالتَّمَنِّي طلب وَطلب الْمَاضِي مُتَعَذر وَالْحَال مَوْجُود، وَطلب تَحْصِيل الْحَاصِل محَال فَتعين الْمُسْتَقْبل، وَالشّرط وجزاؤه ربط أَمر، وتوقيف دُخُوله فِي الْوُجُود على وجود آخر، والتوقف فِي الْوُجُود إِنَّمَا يكون فِي الْمُسْتَقْبل، وَأما الْوَعْد والوعيد فَإِنَّهُ زجر عَن مُسْتَقْبل أَو حث على مُسْتَقْبل بِمَا تتوقعه النَّفس من خبر فِي الْوَعْد وَشر فِي الْوَعيد، والتوقع لَا يكون إِلَّا فِي الْمُسْتَقْبل، وَالْإِبَاحَة تَخْيِير بَين الْفِعْل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1725 وَالتّرْك، والتخيير إِنَّمَا يكون فِي مَعْدُوم مُسْتَقْبل؛ لِأَن الْمَاضِي وَالْحَال تعين فنعين تعلق الْعشْرَة بالمستقبل. انْتهى. وَكَانَ ذكر فِي نفس التَّنْقِيح خَمْسَة فَقَط، وَهِي الْخَمْسَة الأول، ثمَّ زَاد فِي شَرحه الْخَمْسَة الْأُخَر وزدت أَنا الْعرض والتحضيض؛ إِذْ [لَا] شكّ أَنَّهُمَا مختصان بالمستقبل؛ إِذْ قَول الْقَائِل: أَلا تنزل عندنَا فنكرمك لمستقبل مَعْدُوم، وَكَذَا قَوْله: هلا تنزل عندنَا فنكرمك، لَكِن هَذَا أَشد من الْعرض وأبلغ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1726 قَوْله: {فصل} {الْأَكْثَر الْخَبَر صدق وَكذب} أَعنِي: أَنه مَحْصُور فِي هذَيْن الْقسمَيْنِ لَا يخرج شَيْء عَنْهُمَا، وَلَا وَاسِطَة بَينهمَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر؛ لِأَن الحكم الَّذِي هُوَ مَدْلُول الْخَبَر إِمَّا مُطَابق للْخَارِج الْوَاقِع، أَو غير مُطَابق، فَإِن كَانَ مطابقاً فَهُوَ الصدْق، وَسَوَاء كَانَ مَعَ اعْتِقَاد مُطَابقَة أَو لَا، وَإِن لم يكن مطابقاً فَهُوَ كذب. قَالَ الكوراني: الْإِنْشَاء كَلَام يحصل مَدْلُوله من اللَّفْظ فِي الْخَارِج مثل: اضْرِب، وَلَا تضرب؛ إِذْ مدلولها إِنَّمَا يحصل من لَفْظهمَا، وَالْخَبَر بِخِلَافِهِ، أَي: مَاله مَدْلُول رُبمَا طابقته النِّسْبَة الذهنية، وَرُبمَا لَا تطابقه، فَإِذا تصورت قيام زيد، وحكمت على زيد بِأَنَّهُ قَائِم، فَإِن كَانَ قَائِما فقد طابق حكمك لما فِي الْخَارِج، وَهُوَ قيام زيد فكلامك صدق، وَإِن لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1727 يُطَابق فكذب، فَتحَرَّر أَن صدق الْخَبَر مُطَابقَة حكم الْمُتَكَلّم للْوَاقِع وَكذبه عدمهَا، هَذَا مَذْهَب أهل الْحق. انْتهى. {وَقَالَ الجاحظ: المطابق مَعَ اعْتِقَاد الْمُطَابقَة صدق، وَغير المطابق مَعَ عدمهَا} ، أَي: مَعَ عدم الْمُطَابقَة {كذب، وَغَيرهمَا} وَاسِطَة {لَا صدق وَلَا كذب} ، فَشرط فِي الصدْق أَن يُطَابق مَا فِي نفس الْأَمر مَعَ الِاعْتِقَاد، وَالْكذب عدم مطابقته مَعَ اعْتِقَاد عدمهَا، فَإِن لم يعْتَقد أَحدهمَا سَوَاء طابق أَو لَا فَلَيْسَ بِصدق وَلَا كذب، فَيدْخل فِي الْوَاسِطَة بَينهمَا أَرْبَعَة أَقسَام. فالأقسام عِنْده سِتَّة: صدق، وَكذب، وواسطة؛ لِأَن الْخَبَر إِمَّا مُطَابق أَو غير مُطَابق، فَإِن كَانَ مطابقاً فإمَّا أَن يكون مَعَه اعْتِقَاد الْمُطَابقَة أَو لَا، وَالثَّانِي إِمَّا أَن يكون مَعَه اعْتِقَاد أَن لَا مُطَابقَة أَو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1728 لَا، فَإِن كَانَ غير مُطَابق فإمَّا أَن يكون مَعَه اعْتِقَاد أَن لَا مُطَابقَة أَو لَا، وَالثَّانِي إِمَّا أَن يكون مَعَه اعْتِقَاد الْمُطَابقَة أَو لَا. فَهَذِهِ سِتَّة أَقسَام: الأول مِنْهَا وَهُوَ الْخَبَر المطابق مَعَ اعْتِقَاد الْمُطَابقَة صدق، وَالرَّابِع وَهُوَ الْخَبَر غير المطابق مَعَ اعْتِقَاد عدم الْمُطَابقَة كذب، وَالْأَرْبَعَة الْبَاقِيَة لَيست بِصدق وَلَا كذب، قَالَه الْأَصْفَهَانِي، وَغَيره، وَقَالَ عَن الْأَرْبَعَة؛ لِأَن المطابق مَعَ نفي اعْتِقَاد الْمُطَابقَة انقسم إِلَى قسمَيْنِ، وَغير المطابق مَعَ نفي اعْتِقَاد اللامطابقة انقسم أَيْضا إِلَى قسمَيْنِ. انْتهى. قَالَ الكوراني: ذهب الجاحظ إِلَى أَن الصدْق مُطَابقَة الْخَبَر الْوَاقِع مَعَ اعْتِقَاد أَنه وَاقع، وَكذبه عدم الْمُطَابقَة مَعَ اعْتِقَاد أَنه غير وَاقع، فَالْأول صَادِق، وَالثَّانِي كَاذِب، وَتبقى أَربع صور: وَاسِطَة بَين الصدْق وَالْكذب، وَهُوَ معنى مَا تقدم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1729 وَاسْتدلَّ لقَوْل الجاحظ بقوله تَعَالَى: {افترى على الله كذبا أم بِهِ جنَّة} [سبأ: 8] وَالْمرَاد بالحصر فِي الافتراء وَالْجُنُون ضَرُورَة عدم اعترافهم بصدقه، فعلى تَقْدِير أَنه كَلَام مَجْنُون لَا يكون صدقا؛ لأَنهم لَا يَعْتَقِدُونَ صدقه، وَلَا كذبه؛ لِأَنَّهُ قسيم الْكَذِب على مَا زعموه فثبتت الْوَاسِطَة بَين الصدْق وَالْكذب. وَأجِيب: بِأَن الْمَعْنى افترى على الله كذبا أم لم يفتر فَيكون مَجْنُونا؛ لِأَن الْمَجْنُون لَا افتراء لَهُ لعدم قَصده. وَاسْتَدَلُّوا - أَيْضا - بِنَحْوِ قَول عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي حَدِيث: " إِن الْمَيِّت ليعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ، مَا كذب وَلكنه وهم ". وَأجِيب: بِأَن المُرَاد مَا كذب عمدا بل وهم. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": المُرَاد من الْآيَة عِنْد الْجُمْهُور الْحصْر فِي كَونه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1730 خَبرا كذبا أَو لَيْسَ بِخَبَر لجنونه فَلَا عِبْرَة بِكَلَامِهِ، وَأما الْمَدْح والذم فيتبعان الْقَصْد، ويرجعان إِلَى الْمخبر، لَا إِلَى الْخَبَر، وَمَعْلُوم عِنْد الْأمة صدق المكذب برَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قَوْله: مُحَمَّد رَسُول الله، مَعَ عدم اعْتِقَاده، وَكذبه فِي نفي الرسَالَة مَعَ اعْتِقَاده، وَكثر فِي السّنة تَكْذِيب من أخبر يعْتَقد الْمُطَابقَة فَلم يكن، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كذب أَبُو السنابل ". انْتهى. قَوْله: {وَقيل: إِن اعْتقد فطابق فَصدق، وَإِلَّا فكذب} . أَي: الْخَبَر المطابق للمخبر إِن كَانَ مُعْتَقدًا فَصدق، وَإِلَّا فكذب، سَوَاء كَانَ مطابقاً أَو لم يكن، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد إِنَّك لرَسُول الله وَالله يعلم إِنَّك لرَسُوله وَالله يشْهد إِن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ} [المُنَافِقُونَ: 1] كذبهمْ الله تَعَالَى لعدم اعْتِقَادهم مَعَ أَن قَوْلهم مُطَابق للْخَارِج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1731 ورد ذَلِك: بِأَنَّهُ كذبهمْ فِي شَهَادَتهم؛ لِأَن الشَّهَادَة الصادقة أَن يشْهد بالمطابقة مُعْتَقدًا، وَقَالَ الْفراء: الْكَاذِبُونَ فِي ضمائرهم، وَقيل: فِي تمنيهم. انْتهى. تَنْبِيه: هَذَا القَوْل ذكره ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَالظَّاهِر أَنه تَابع ابْن الْحَاجِب، لَكِن ابْن الْحَاجِب قَالَ: وَقيل: إِن كَانَ مُعْتَقدًا فَصدق وَإِلَّا فكذب. انْتهى. فَالْخَبَر عِنْد أَرْبَاب هَذَا القَوْل منحصر فِي الصدْق وَالْكذب، لَكِن لَا على الْوَجْه الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور. وَبَيَانه أَن الْخَبَر إِمَّا أَن يكون مطابقاً للْوَاقِع ومعتقداً مطابقته أَو لَا، وَالْأول: صدق، وَالثَّانِي: كذب. وَلَا فرق بَين الصدْق بِهَذَا التَّفْسِير، والصدق بتفسير الجاحظ، وَأما الْكَذِب فَهُوَ أَعم بِهَذَا التَّفْسِير من الْكَذِب عِنْد الجاحظ؛ فَإِن الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة الَّتِي لَيست بِصدق، وَلَا بكذب عِنْد الجاحظ تكون كذبا بِهَذَا التَّفْسِير، هَكَذَا قَالَ القطب الشِّيرَازِيّ، والأصفهاني فِي " شرحيهما للمختصر "، وَالَّذِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1732 قَالَه القَاضِي عضد الدّين فِي " شَرحه " عَن هَذَا القَوْل: إِن كَانَ الْمخبر مُعْتَقدًا لما يخبر بِهِ فَصدق، وَإِلَّا فكذب، وَلَا عِبْرَة فيهمَا بمطابقة الْوَاقِع وَعدمهَا. انْتهى. وَهُوَ ظَاهر عبارَة ابْن الْحَاجِب فِي حكايته القَوْل كَمَا تقدم لَفظه، فشرح القَاضِي عضد الدّين هَذَا القَوْل على أَن الصدْق الِاعْتِقَاد، وَشرح القطب، والأصفهاني على أَنه الِاعْتِقَاد مَعَ الْمُطَابقَة فَينْظر فِي أصل القَوْل، وَمن قَالَه، وَعبارَته فيتضح الْمَعْنى، وَلَعَلَّ الْكَلَام مُحْتَمل الْمَعْنيين الْمَذْكُورين. قَوْله: {وَهُوَ لَفْظِي} ، أَي: الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة لَفْظِي، قَالَه الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَغَيرهم. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَقَالَ بَعضهم: الْمَسْأَلَة لفظية، وَحَكَاهُ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1733 " التَّمْهِيد " عَن بعض الْمُتَكَلِّمين، وَلم يُخَالِفهُ؛ لِأَن الْمَسْأَلَة رَاجِعَة إِلَى الِاصْطِلَاح، والاصطلاح لَا مشاحة فِيهِ. قَوْله: {وَمِنْه} ، أَي: من الْخَبَر مَا هُوَ {مَعْلُوم صدقه، وَمَا هُوَ مَعْلُوم كذبه، وَمَا هُوَ مُحْتَمل لَهما} . قد تقدم أَن الْخَبَر من حَيْثُ ذَاته مُحْتَمل للصدق وَالْكذب، لَكِن قد يعرض لَهُ مَا يَقْتَضِي الْقطع بصدقه، أَو كذبه فَالَّذِي يَقْتَضِي الْقطع بصدقه أَنْوَاع: أَحدهَا: مَا يكون ضَرُورِيًّا بِنَفس الْخَبَر بِتَكَرُّر الْخَبَر من غير نظر، كالخبر الَّذِي بلغت رُوَاته حد التَّوَاتُر، وَسَوَاء كَانَ لفظياً، أَو معنوياً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1734 على مَا يَأْتِي تفسيرهما. الثَّانِي: مَا يكون ضَرُورِيًّا بِغَيْر نفس الْخَبَر بل لكَونه مُوَافقا للضروري ونعني بموافق الضَّرُورِيّ مَا يكون مُتَعَلقَة مَعْلُوما لكل أحد من غير كسب وتكرر نَحْو: الْوَاحِد نصف الِاثْنَيْنِ. الثَّالِث: مَا يكون نظرياً، كَخَبَر الله، وَخبر رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَخبر كل الْأمة؛ لِأَن الْإِجْمَاع حجَّة. فَكل وَاحِد من هَذِه الثَّلَاثَة علم بِالنّظرِ وَالِاسْتِدْلَال. وَاعْترض على الْإِجْمَاع: بِأَنَّهُ [إِن] أُرِيد أَنه حجَّة قَطْعِيَّة، كَمَا صرح بِهِ الْآمِدِيّ هُنَا فَهُوَ مُخَالف لقَوْله، وَقَول الْفَخر الرَّازِيّ أَنه ظَنِّي - كَمَا تقدم -؛ وَإِن أَرَادَ أَنه حجَّة ظنية فالظن لَا يُفِيد الْقطع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1735 الرَّابِع: مَا يكون غير ضَرُورِيّ، وَغير نَظَرِي، وَلكنه مُوَافق للنظري، وَهُوَ الْخَبَر الَّذِي علم مُتَعَلّقه بِالنّظرِ، كَقَوْلِنَا: الْعَالم حَادث، وقسمه ابْن مُفْلِح قسمَيْنِ وتابعناه: أَحدهمَا: خبر من ثَبت بِخَبَر أَحدهَا صدقه، يَعْنِي صدقه الله أَو رَسُوله، أَو الْإِجْمَاع وَثَبت ذَلِك. الثَّانِي: خبر من وَافق أَحدهَا - أَي: أحد الثَّلَاثَة -، وَهُوَ خبر الله، وَخبر رَسُوله، وَخبر الْإِجْمَاع فخبره وَافق أَحدهَا. وَالَّذِي يَقْتَضِي الْقطع بكذبه أَنْوَاع أَيْضا: أَحدهَا: مَا علم خِلَافه بِالضَّرُورَةِ، كَقَوْل الْقَائِل: النَّار بَارِدَة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1736 الثَّانِي: مَا علم خِلَافه بالاستدلال، كَقَوْل الفيلسوف: الْعَالم قديم. وَالثَّالِث: أَن يُوهم أمرا بَاطِلا من غير أَن يقبل التَّأْوِيل لمعارضته للدليل الْعقلِيّ، كَمَا لَو اختلق بعض الزَّنَادِقَة حَدِيثا كذبا على الله، أَو على رَسُوله، ويتحقق أَنه كذب. الرَّابِع: أَن يَدعِي شخص الرسَالَة عَن الله بِغَيْر معْجزَة. وَالَّذِي لَا يعلم صدقه وَلَا كذبه ثَلَاثَة أَنْوَاع: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1737 أَحدهَا: مَا يظنّ صدقه، كَخَبَر الْعدْل لرجحان صدقه على كذبه، وَخبر الْعدْل يتَفَاوَت فِي الظَّن. وَالثَّانِي: مَا يظنّ كذبه، كَخَبَر الْكذَّاب لرجحان كذبه على صدقه وَهُوَ متفاوت أَيْضا. وَالثَّالِث: مَا يَسْتَوِي فِيهِ الْأَمْرَانِ فيشك فِيهِ لعدم الْمُرَجح، كَخَبَر مَجْهُول الْحَال. قَالَ القَاضِي عضد الدّين: وَقد خَالف فِي هَذَا التَّقْسِيم بعض الظَّاهِرِيَّة - وَهُوَ التَّقْسِيم الْمُشْتَرك فِي صدقه وَكذبه - فَقَالَ: كل خبر إِلَى آخِره، وَهُوَ قَوْلنَا وَقَول قوم: كل خبر لم يعلم صدقه كذب بَاطِل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1738 أَي: قَوْلهم ذَلِك بَاطِل. وَاسْتَدَلُّوا لقَولهم بِأَنَّهُ لَو كَانَ صدقا لنصب عَلَيْهِ دَلِيل، كَخَبَر مدعي الرسَالَة؛ فَإِنَّهُ إِذا كَانَ صدقا دلّ عَلَيْهِ بالمعجزة. وَهَذَا الِاسْتِدْلَال فَاسد لجَرَيَان مثله فِي نقيض مَا أخبر بِهِ إِذا أخبر بِهِ آخر فَيلْزم اجْتِمَاع النقيضين، وَيعلم بِالضَّرُورَةِ وُقُوع الْخَبَر بهما - أَي: الْإِخْبَار بِشَيْء وبنقيضه - أَي: لَيْسَ هَذَا محالاً أَن يَقع، بل مَعْلُوم الْوُقُوع. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ يلْزم الْعلم بكذب كل شَاهد؛ إِذْ لَا يعلم صدقه بِدَلِيل، وَالْعلم بكذب كل مُسلم فِي دَعْوَى إِسْلَامه؛ إِذْ لَا دَلِيل على مَا فِي بَاطِنه، وَذَلِكَ بَاطِل بِالْإِجْمَاع والضرورة. وَأما الْقيَاس على خبر مدعي الرسَالَة فَلَا يَصح؛ لِأَنَّهُ لَا يكذب لعدم الْعلم بصدقه، بل للْعلم بكذبه؛ لِأَنَّهُ خلاف الْعَادة، فَإِن الْعَادة فِيمَا خالفها أَن يصدق بالمعجزة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1739 قَوْله: {فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهمَا: مَدْلُول الْخَبَر الحكم بِالنِّسْبَةِ لَا ثُبُوتهَا خلافًا للقرافي} . مَدْلُول الْخَبَر الحكم بِثُبُوت النِّسْبَة لَا نفس الثُّبُوت، فَإِذا قلت: زيد قَائِم، فمدلوله الحكم بِثُبُوت قِيَامه، لَا نفس ثُبُوت قِيَامه؛ إِذْ لَو كَانَ الثَّانِي لزم مِنْهُ أَن لَا يكون شَيْء من الْخَبَر كذبا، بل يكون كُله صدقا، قَالَه الرَّازِيّ، وَجمع كثير، وَخَالف الْقَرَافِيّ فِي ذَلِك فَقَالَ: إِن الْعَرَب لم تضع الْخَبَر إِلَّا للصدق؛ لِاتِّفَاق اللغويين والنحويين على أَن معنى " قَامَ زيد " حُصُول الْقيام مِنْهُ فِي الزَّمن الْمَاضِي، واحتماله الْكَذِب لَيْسَ من الْوَضع بل من جِهَة الْمُتَكَلّم. انْتهى. قَالَ الكوراني: اخْتلف فِي أَن مَدْلُول الْخَبَر هَل هُوَ وُقُوع النِّسْبَة فِي ذَاتهَا، أَو إِيقَاع الْمُتَكَلّم؟ فطائفة قَالَت: إِنَّه الْإِيقَاع لَا الْوُقُوع وَإِلَّا لزم أَن لَا يُوجد الْكَذِب فِي الْكَلَام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1740 توضيح ذَلِك قَوْلك: إِن زيدا قَائِم، لَو دلّ على ثُبُوت الْقيام فَحَيْثُ مَا وجد " زيد قَائِم " فَيثبت قِيَامه، وَلم يتَصَوَّر الْكَذِب فِي الْكَلَام، وَهُوَ مُخْتَار الإِمَام وَبَعض الْمُتَأَخِّرين. وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام هُوَ: أَن الْخَبَر - مثل: زيد قَائِم - إِذا صدر عَن الْمُتَكَلّم بِالْقَصْدِ يدل على الْإِيقَاع، وَهُوَ الحكم الَّذِي صدر عَن الْمُتَكَلّم، وَيدل أَيْضا على الْوُقُوع فَكل مِنْهُمَا يُسمى حكما، فاحتمال الصدْق وَالْكذب، وَصدق الْخَبَر وَكذبه فِي نفس الْأَمر إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار الْإِيقَاع؛ لِأَنَّهُ المتصف بذلك لَا الْوُقُوع. وَأما بِاعْتِبَار إِفَادَة الْمُخَاطب فَالْحكم هُوَ الْوُقُوع؛ لِأَنَّك إِذا قلت: زيد قَائِم - إِنَّمَا تفِيد الْمُخَاطب وُقُوع الْقيام، لَا أَنَّك أوقعت الْقيام على زيد، فَإِنَّهُ لَا يعد فَائِدَة. فَإِن قلت: لَو دلّ - زيد قَائِم - على الْوُقُوع لم يُوجد الْكَذِب فِي خبر قطّ لِامْتِنَاع تخلف الْمَدْلُول عَن الدَّلِيل؟ ! قلت: دلَالَة اللَّفْظ على الْمَعْنى وضعية لَا عقلية فَجَاز التَّخَلُّف لمَانع، كَمَا فِي الْمجَاز؛ وَلذَلِك قَالَ بعض أَئِمَّة الْعَرَبيَّة: إِن الصدْق هُوَ مَدْلُول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1741 الْخَبَر وَالْكذب احْتِمَال عَقْلِي. قَالَ: فَإِذا تَأَمَّلت هَذَا ظهر لَك أَن قَول المُصَنّف: (وَإِلَّا لم يكن شَيْء من الْخَبَر كذبا) لَيْسَ بِشَيْء؛ لِأَن ذَلِك إِنَّمَا يتم لَو كَانَت الدّلَالَة عقلية فمورد الصدْق وَالْكذب إِنَّمَا هُوَ ذَلِك الحكم الْمَفْعُول للمتكلم، وَبِه يناط الحكم الشَّرْعِيّ واللغوي. انْتهى. قَوْله: {قَالَ البيانيون: مورد الصدْق وَالْكذب النِّسْبَة الَّتِي تضمنها} . هَذِه قَاعِدَة مهمة أهملها الأصوليون، وَأخذت من البيانيين كالسكاكي وَغَيره. وتقريرها: أَن مورد الصدْق وَالْكذب فِي الْخَبَر هُوَ النِّسْبَة الَّتِي تضمنها الْخَبَر، لَا وَاحِد من طرفيها، وَهُوَ الْمسند والمسند إِلَيْهِ، فَإِذا قيل: زيد بن عَمْرو قَائِم، فَقيل: صدقت أَو كذبت، فالصدق وَالْكذب راجعان إِلَى الْقيام، لَا إِلَى الْبُنُوَّة الْوَاقِعَة فِي الْمسند إِلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَالك وَبَعض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1742 الشَّافِعِيَّة: إِذا شهد شَاهِدَانِ أَن فلَان بن فلَان وكل فلَانا فَهِيَ شَهَادَة بِالْوكَالَةِ فَقَط، وَلَا تنْسب إِلَيْهِمَا الشَّهَادَة بِالنّسَبِ أَلْبَتَّة. قلت: وقواعد مَذْهَبنَا تَقْتَضِي ذَلِك لَكِن الصَّحِيح عِنْد الشَّافِعِيَّة أَنَّهَا تَتَضَمَّن الشَّهَادَة بِالنّسَبِ، وَإِن كَانَ أصل الشَّهَادَة إِنَّمَا هُوَ بِالْوكَالَةِ. قَالَ الكوراني: لَكِن جعل الْفُقَهَاء هُنَا الْمَقْصُود تبعا كالمقصود أَصَالَة؛ لِأَن تِلْكَ النِّسْبَة الإضافية فِي قُوَّة الخبرية. انْتهى. ذكره الْهَرَوِيّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1743 وَالْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ وَغَيرهم. قَالَ الزَّرْكَشِيّ شَارِح " جمع الْجَوَامِع ": يَنْبَغِي أَن يسْتَثْنى من ذَلِك مَا لَو كَانَت صفة الْمسند إِلَيْهِ مَقْصُودَة بالحكم بِأَن يكون الْمَحْكُوم عَلَيْهِ فِي الْمَعْنى الْهَيْئَة الْحَاصِلَة فِي الْمسند إِلَيْهِ وَصفته كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم يُوسُف بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم " فَإِن المُرَاد الَّذِي جمع كرم نَفسه وآبائه، وَكَذَلِكَ الصِّفَات الْوَاقِعَة فِي الْحُدُود كالإنسان حَيَوَان نَاطِق، فَإِن الْمَقْصُود الصّفة والموصوف مَعًا، وَلَو قصد إِخْبَار الْمَوْصُوف فَقَط لعسر. انْتهى. قَالَ الْقَرَافِيّ: وَيرد على هَذِه الْقَاعِدَة الحَدِيث الْمَرْفُوع فِي " صَحِيح البُخَارِيّ ": " يُقَال لِلنَّصَارَى: مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ؟ فَقَالُوا: كُنَّا نعْبد الْمَسِيح ابْن الله، فَيُقَال: كَذبْتُمْ! مَا اتخذ الله من صَاحِبَة وَلَا ولد ". انْتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1744 قَوْله: {الثَّانِيَة} : أَحْمد، وَابْن عقيل، وَابْن الْجَوْزِيّ، والموفق، وَغَيرهم: يكون الْكَذِب فِي الزَّمن الْمُسْتَقْبل كَمَا يكون فِي الْمَاضِي، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح. قَالَ الإِمَام أَحْمد فِيمَن قَالَ: لَا آكل، ثمَّ أكل: هَذَا كذب لَا يَنْبَغِي أَن يفعل. وَقيل للْإِمَام أَحْمد - أَيْضا -: بِمَ يعرف الْكذَّاب؟ قَالَ: بخلف الْوَعْد. وَتَبعهُ على ذَلِك ابْن عقيل، وَابْن الْجَوْزِيّ، وَالشَّيْخ موفق الدّين ابْن قدامَة، وَغَيرهم؛ لقَوْله تَعَالَى: {وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم لَا يبْعَث الله من يَمُوت} [النَّحْل: 38] ، وَقَوله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين نافقوا يَقُولُونَ لإخوانهم الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب لَئِن أخرجتم ... ... } [الْحَشْر: 11] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1745 فَقَالَ تَعَالَى: {وَالله يشْهد إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} [الْحَشْر: 11] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا اتبعُوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وَمَا هم بحاملين من خطاياهم من شَيْء إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت: 12] فأكذبهم الله تَعَالَى. وَفِي " صَحِيح البُخَارِيّ " قَول سعد بن عبَادَة يَوْم فتح مَكَّة: (الْيَوْم تستحل الْكَعْبَة) فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كذب سعد ". وَفِي " صَحِيح مُسلم " قَول عبد حَاطِب لما جَاءَ يشكو على حَاطِب: (ليدخلن النَّار) ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كذبت لَا يدخلهَا ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1746 ورد أَبُو جَعْفَر النّحاس على من أنكر ذَلِك بقوله تَعَالَى: {ياليتنا نرد وَلَا نكذب بآيَات رَبنَا} [الْأَنْعَام: 27] . وَقيل: لَا يكون الْكَذِب إِلَّا فِي مَاض. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": قَالَ بعض أهل اللُّغَة: لَا يسْتَعْمل الْكَذِب إِلَّا فِي خبر عَن مَاض بِخِلَاف مَا هُوَ. قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي أثْنَاء النّسخ: وَهُوَ قَول مَشْهُور، بل هُوَ الْمَفْهُوم عَن الشَّافِعِي؛ فَلذَلِك قَالَ: لَا يجب الْوَفَاء بالوعد، وَضعف احتجاج قَائِل الْوُجُوب بِأَنَّهُ كذب وَهُوَ حرَام؛ بِأَن الْوَعْد إنْشَاء لَا خبر، فخلفه خلف وعد لَا كذب؛ وَلذَلِك جَاءَ فِي صفة الْمُنَافِق: إِذا حدث كذب، وَإِذا وعد أخلف، فغاير بَينهمَا، وسمى الثَّانِي إخلافاً، لَا كذبا. وَكَذَا قَالَ الزجاجي بِأَن الْإِخْبَار بضد الصدْق إِذا كَانَ مُسْتَقْبلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1747 يُقَال فِيهِ: أخلف، وَلَا يُقَال: كذب. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالْحق أَن الْخَبَر عَن الْمُسْتَقْبل يقبل التَّصْدِيق والتكذيب، فَإِن تعلق بالمستقبل وَلم يقبل ذَلِك - كالوعد - كَانَ إنْشَاء وَلَيْسَ مِمَّا نَحن فِيهِ. انْتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1748 قَوْله: {فصل} {الْخَبَر تَوَاتر وآحاد} . هَذِه قسْمَة أُخْرَى للْخَبَر وَهُوَ أَنه يَنْقَسِم إِلَى تَوَاتر وآحاد، وَسَيَأْتِي أَن من الْآحَاد مستفيض مَشْهُور، وَهَذَا التَّقْسِيم للسند هُوَ الأكثري، وَرُبمَا أطلق على الْمَتْن ذَلِك فَيُقَال: حَدِيث متواتر وآحاد على معنى تَوَاتر أَو آحَاد سَنَده. قَوْله: {فالتواتر تتَابع} شَيْئَيْنِ فَأكْثر {بمهلة} . وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أرسلنَا رسلنَا تترا} [الْمُؤْمِنُونَ: 44] أَصْلهَا وترا، بدلت التَّاء من الْوَاو. قَالَه ابْن قَاضِي الْجَبَل، وَقَالَ: هُوَ لُغَة تتَابع وَاحِد بعد وَاحِد من الْوتر، ثمَّ قَالَ: قلت: قَالَ الجواليقي: من غلط الْعَامَّة قَوْلهم: تَوَاتَرَتْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1749 كتبك إِلَيّ - أَي: اتَّصَلت من غير انْقِطَاع -، وَإِنَّمَا التَّوَاتُر الشَّيْء بعد الشَّيْء بَينهمَا انْقِطَاع، وَهُوَ تفَاعل من الْوتر وَهُوَ الْعود. انْتهى. قَالَ فِي " الْمِصْبَاح الْمُنِير ": التَّوَاتُر التَّتَابُع، يُقَال: تَوَاتَرَتْ الْخَيل إِذا جَاءَت يتبع بَعْضهَا بَعْضًا، وَمِنْه {جَاءُوا تترى} أَي: مُتَتَابعين وترا بعد وتر، الْوتر الْفَرد. انْتهى. قَوْله: {وَاصْطِلَاحا: خبر جمَاعَة مُفِيد للْعلم بِنَفسِهِ} . فَالْخَبَر: كالجنس يَشْمَل الْمُتَوَاتر وَغَيره، وبإضافته إِلَى الْجَمَاعَة يخرج عَنهُ خبر الْوَاحِد. وَقَوله: مُفِيد للْعلم، يخرج خبر جمَاعَة لَا يُفِيد الْعلم، بل الظَّن، وَإِنَّمَا قيل بِنَفسِهِ ليخرج الْخَبَر الَّذِي صدق المخبرين فِيهِ لسَبَب الْقَرَائِن الزَّائِدَة على مَا لَا يَنْفَكّ عَن الْمُتَوَاتر عَادَة وَغَيرهَا، وَمَا لَا يَنْفَكّ عَن الْمُتَوَاتر الشَّرَائِط الْمُعْتَبرَة فِي التَّوَاتُر كَمَا سَيذكرُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1750 والقرائن الزَّائِدَة المفيدة للْعلم قد تكون عَادِية كالقرائن الَّتِي تكون على من يخبر عَن موت وَلَده من شقّ الْجُيُوب والتفجع، وَقد تكون عقلية كَخَبَر جمَاعَة تَقْتَضِي البديهة أَو الِاسْتِدْلَال صدقهم، وَقد تكون حسية كالقرائن الَّتِي تكون على من يخبر عَن عطشه. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: زَاد بَعضهم بِنَفسِهِ ليخرج مَا امْتنع فيهم ذَلِك بالقرائن أَو مُوَافقَة دَلِيل عَقْلِي أَو غير ذَلِك، وَلَا يحْتَاج لذَلِك؛ لِأَن الْمُفِيد للْقطع هُوَ مَعَ الْقَرَائِن. انْتهى. وَكَذَا قَالَه الْبرمَاوِيّ والتاج السُّبْكِيّ وَغَيرهم. وَكَون خبر التَّوَاتُر يُفِيد الْعلم هُوَ قَول أَئِمَّة الْمُسلمين وَغَيرهم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1751 وَخَالف فِي ذَلِك من لَا يعبأ بِهِ على مَا يَأْتِي. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: التَّوَاتُر خبر جمع يمْتَنع تواطؤهم على الْكَذِب عَن محسوس أَو عَن خبر جمع مثلهم إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى محسوس، أَي: مَعْلُوم بِأَصْل الْحَواس الْخمس، كمشاهدة أَو سَماع فَخرج بالقيد الأول خبر الْوَاحِد، وَلَو كَانَ مستفيضاً. وَخرج بالانتهاء إِلَى محسوس مَا كَانَ عَن مَعْقُول، أَي: مَعْلُوم بِدَلِيل عَقْلِي، كإخبار أهل السّنة دهرياً بحدوث الْعَالم فَإِنَّهُ لَا يُوجب لَهُ علما لتجويزه غلطهم فِي الِاعْتِقَاد، بل هُوَ مُعْتَقد ذَلِك. وَأَيْضًا فَعلم المخبرين بِهِ نَظَرِي، والتواتر يُفِيد الْعلم الضَّرُورِيّ فَيصير الْفَرْع أقوى من الأَصْل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1752 وَأَيْضًا: مثل ذَلِك [إِذا] لم يتَّفق المخبرون على وَاحِد بِالنَّصِّ الَّذِي شَرط فِي التَّوَاتُر، بل كل وَاحِد إِنَّمَا يخبر عَن اعْتِقَاد نَفسه وَإِن توافقوا نوعا، وَلأَجل ذَلِك لم يكن الْإِجْمَاع من قبيل الْخَبَر الْمُتَوَاتر. والحجية فِيهِ إِنَّمَا هِيَ من حَيْثُ بِنَاء الشَّرْع على توَافق اعْتِقَاد الْأُمَم، أَو أَن الْعَادة تحيل تواطؤهم على اعْتِقَاد بَاطِل. لَكِن قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور، والباقلاني، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، والسمعاني، والرازي، والمازري: إِن التَّقْيِيد بالحس لَا معنى لَهُ، وَإِنَّمَا الْمدَار على الْعلم الضَّرُورِيّ ليدْخل مَا اسْتندَ فِيهِ علم المخبرين إِلَى قَرَائِن الْأَحْوَال، كإخبارهم عَن الخجل الَّذِي علموه بِالضَّرُورَةِ من قَرَائِن الْحَال، فالحس وَإِن وجد لَكِن لم يكتف بِهِ؛ لِأَن الْحمرَة إِنَّمَا تدْرك بالحس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1753 ذَاتهَا، وَحُمرَة الخجل كحمرة الْغَضَب، وَإِنَّمَا يفرق بَينهمَا بِأَمْر يدق عَن ضبط الْعبارَة. وَأجِيب عَن ذَلِك: بِأَن الْقَرَائِن تعود للحس؛ لِأَنَّهَا إِمَّا حَالية وَإِمَّا مقالية. فَائِدَة: يكون التَّوَاتُر فِي الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع. فَأَما الْكتاب فقد تقدم أَن الْقرَاءَات السَّبع متواترة، وَكَذَلِكَ الْعشْر على الْأَصَح، وَتقدم أَحْكَام التَّوَاتُر فِي ذَلِك. وَأما الْإِجْمَاع فالمتواتر فِيهِ كثير. وَأما السّنة فالمتواتر فِيهَا قَلِيل جدا، حَتَّى إِن بَعضهم نَفَاهُ إِذا كَانَ لفظياً، وَهُوَ أَن يتواتر لَفظه بِعَيْنِه، لَا مَا إِذا كَانَ معنوياً، كَأَن يتواتر معنى فِي ضمن أَلْفَاظ مُخْتَلفَة، وَلَو كَانَ الْمَعْنى الْمُشْتَرك فِيهِ بطرِيق اللُّزُوم، وَيُسمى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1754 التَّوَاتُر الْمَعْنَوِيّ، وَسَيَأْتِي التَّنْبِيه عَلَيْهِ فِي الْمَتْن هُوَ والتواتر اللَّفْظِيّ قَرِيبا. وَقد قَالَ الْأَكْثَر: إِن حَدِيث " من كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار " متواتر؛ فَإِنَّهُ قد نَقله من الصَّحَابَة الجم الْغَفِير. قَالَ ابْن الصّلاح: يصلح أَن يكون هَذَا مِثَالا للمتواتر من السّنة. ويعقب عَلَيْهِ بِوَصْف غَيره من الْأَئِمَّة عدَّة أَحَادِيث بِأَنَّهَا متواترة، كَحَدِيث ذكر حَوْض النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أورد الْبَيْهَقِيّ فِي كتاب " الْبَعْث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1755 والنشور " رِوَايَته عَن أَزِيد من ثَلَاثِينَ صحابياً، وأفرده الْمَقْدِسِي بِالْجمعِ. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَحَدِيثه متواتر بِالنَّقْلِ. وَحَدِيث الشَّفَاعَة، قَالَ القَاضِي عِيَاض: بلغ التَّوَاتُر. وَحَدِيث الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، قَالَ ابْن عبد الْبر: رَوَاهُ نَحْو أَرْبَعِينَ صحابياً، واستفاض وتواتر. وَقَالَ ابْن حزم فِي " الْمحلى ": نقل تَوَاتر يُوجب الْعلم، قَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1756 وَمن ذَلِك أَحَادِيث النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي مرابض الْإِبِل، وَحَدِيث النَّهْي عَن اتِّخَاذ الْقُبُور مَسَاجِد، وَحَدِيث قَول الْمُصَلِّي: رَبنَا وَلَك الْحَمد، إِلَى آخِره. وَجَوَابه: ذَلِك يحْتَمل أَن مُرَاد قَائِل ذَلِك بالتواتر إِنَّمَا هُوَ الْمَشْهُور كَمَا يعبر بِهِ كثيرا عَنهُ، أَو أَنَّهَا متواترة معنى أَو غير ذَلِك، وَإِلَّا فالواقع فقدان شَرط التَّوَاتُر فِي بعض طبقاتها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1757 وَقَالَ الْحَافِظ الشَّيْخ شهَاب الدّين بن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ ": روى حَدِيث: " من كذب عَليّ مُتَعَمدا ... " عَن ثَلَاثِينَ صحابياً بأسانيد صِحَاح وَحسان، وَعَن خمسين صحابياً غَيرهم بأسانيد ضَعِيفَة، وَعَن نَحْو عشْرين آخَرين بأسانيد سَاقِطَة، وَقد اعتنى جمَاعَة بِجمع طرقه فأولهم عَليّ بن الْمَدِينِيّ، وَتَبعهُ يَعْقُوب بن شيبَة فَقَالَ: رُوِيَ من عشْرين وَجها عَن الصَّحَابَة، ثمَّ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَأَبُو بكر البرقاني فَقَالَ: رُوِيَ عَن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1758 أَرْبَعِينَ صحابياً، ثمَّ ابْن صاعد فَزَاد قَلِيلا، وَقَالَ ابْن مَنْدَه: رَوَاهُ أَكثر من ثَمَانِينَ نفسا. وخرجها بعض النيسابوريين فزادت قَلِيلا. وَجمع طرقه ابْن الْجَوْزِيّ فِي كتاب " الموضوعات " فجاوز التسعين، وَبِذَلِك جزم ابْن دحْيَة. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ: يرويهِ نَحْو مائَة صَحَابِيّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1759 وَقد جمعهَا الحافظان يُوسُف بن خَلِيل، وَأَبُو عَليّ الْبكْرِيّ، وهما متعاصران فَوَقع لكل مِنْهُمَا مَا لَيْسَ عِنْد الآخر، وَتحصل من مَجْمُوع ذَلِك رِوَايَة مائَة من الصَّحَابَة على مَا فصل قبل، وَلأَجل كَثْرَة طرقه أطلق عَلَيْهِ جمَاعَة أَنه متواتر. وَقَالَ الْحَافِظ ابْن حجر: وَنَازع بعض مَشَايِخنَا فِي ذَلِك قَالَ: لِأَن شَرط التَّوَاتُر اسْتِوَاء طَرفَيْهِ، وَمَا بَينهمَا فِي الْكَثْرَة، وَلَيْسَت مَوْجُودَة فِي كل طَرِيق بمفردها. وَأجِيب: بِأَن المُرَاد بِإِطْلَاق كَونه متواتراً رِوَايَة الْمَجْمُوع عَن الْمَجْمُوع من ابْتِدَائه إِلَى انتهائه فِي كل عصر، وَهَذَا كَاف فِي إِفَادَة الْعلم، فَإِن الْعدَد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1760 5 - الْمعِين لَا يشْتَرط فِي التَّوَاتُر، بل مَا أَفَادَ الْعلم كفى، وَالصِّفَات العلمية فِي الرِّوَايَة تقوم مقَام الْعدَد، أَو تزيد عَلَيْهِ، وَبَين الرَّد على من ادّعى أَن مِثَال التَّوَاتُر لَا يُوجد إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث، وَبَين أَن أمثلته كَثِيرَة مِنْهَا: حَدِيث: " من بنى لله مَسْجِدا "، وَالْمسح على الْخُفَّيْنِ، وَرفع الْيَدَيْنِ والحوض، والشفاعة، ورؤية الله فِي الْآخِرَة، وَالْأَئِمَّة من قُرَيْش، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1761 وَغير ذَلِك. انْتهى كَلَام الْحَافِظ. قَوْله: ويتفاوت الْمَعْلُوم عِنْد أَحْمد، والمحققين، مِنْهُم: الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، والأرموي، والخونجي، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: هَذِه الْمَسْأَلَة ذَات خلاف، وَعَن أَحْمد فِيهَا رِوَايَتَانِ: الْأَصَح التَّفَاوُت؛ فَإنَّا نجد بِالضَّرُورَةِ الْفرق بَين كَون الْوَاحِد نصف الِاثْنَيْنِ وَبَين مَا علمناه من جِهَة التَّوَاتُر مَعَ كَون الْيَقِين حَاصِلا فيهمَا، قَالَ: وَوَقعت هَذِه الْمَسْأَلَة بَين الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام وَبَين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1762 الخونجي، فنفى ابْن عبد السَّلَام التَّفَاوُت، وأثبته الخونجي. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قلت: كَيفَ يَنْفِي التَّفَاوُت مَعَ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ الْمخبر كالمعاين؟ " وكما يفرق بَين علم الْيَقِين وَعين الْيَقِين، ثمَّ هُنَا أَمر آخر وَهُوَ أَن من فسر الرُّؤْيَة فِي الْآخِرَة بِزِيَادَة الْعلم، وَكَذَلِكَ الْكَلَام، كَيفَ يُمكنهُ نفي التَّفَاوُت؟ انْتهى. قَالَ ذَلِك لما أورد شُبْهَة السمنية والبراهمة، واحتجاجهم بِوَجْهَيْنِ وذكرهما، وسأذكرهما بعد ذَلِك. قَوْله: {وَحكي عَن البراهمة: لَا يفِيدهُ، واكتفوا بِالْعقلِ، وَحصر السمنية الْعلم فِي الْحَواس الْخمس. وَقيل: يُفِيد بالموجود لَا الْمَاضِي وَهُوَ عناد} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1763 السمنية - بِضَم السِّين الْمُهْملَة وبتشديد الْمِيم -: طَائِفَة من الْهِنْد عَبدة الْأَصْنَام، يَقُولُونَ بالتناسخ، وينقل ذَلِك عَن البراهمة وهم طَائِفَة لَا يجوزون على الله تَعَالَى بعثة الرُّسُل. وَعَن السوفسطائية - بِضَم السِّين الْمُهْملَة الأولى وبالفاء، وَرُبمَا قيل: السوفسطانية بنُون بعد الْألف -، قوم يُنكرُونَ الْخَالِق. قَالَ الْعلمَاء والعقلاء قَالُوا: الْمُتَوَاتر يُفِيد الْعلم لعلمهم بِبِلَاد نائية، وأمم مَاضِيَة، وأنبياء وخلفاء وملوك بِمُجَرَّد الْأَخْبَار، كعلمهم بالمحسات جزما خَالِيا عَن التَّرَدُّد. وَحكي عَن قوم - قيل: هم البراهمة، وهم لَا يجوزون على الله بعث الرُّسُل، وَقيل: هُوَ السمنية، فرقة من عَبدة الْأَصْنَام يَقُولُونَ بالتناسخ - أَنه لَا يُفِيد الْعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1764 وَقيل: يُفِيد عَن الْمَوْجُود، لَا الْمَاضِي؛ لِأَن تباينهم يمْنَع اجْتِمَاعهم على خبر، كاجتماعهم على حب طَعَام وَاحِد، ثمَّ الْجُمْلَة مركبة من وَاحِد، وَيُمكن كذبه فَكَذَا هِيَ، وَيلْزم تنَاقض المعلومين بتعارض تواترين، وَحُصُول الْعلم بِنَقْل أهل الْكتاب مَا يضاد الْإِسْلَام؛ وَلِأَن الضَّرُورِيّ لَا يخْتَلف وَلَا يُخَالف، وَقد فرقنا ضَرُورَة بَين الْمُتَوَاتر والمحسات وخالفناكم. ورد ذَلِك: بِأَنَّهُ تشكيك فِي الضَّرُورِيّ فَلَا يسمع. قَالَه الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول "، وَتَابعه ابْن مُفْلِح وَغَيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1765 قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قلت: قَالَ الأرموي: وَالْجَوَاب أَن هَذَا لَيْسَ بِجَوَاب، بل الْحق أَن المعلومات مُتَفَاوِتَة. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَهِي مَسْأَلَة خلاف، وَذكر مَا تقدم قبل ذَلِك فِي مَسْأَلَة ابْن عبد السَّلَام فِي التَّفَاوُت. قَالَ ابْن مُفْلِح: الأول مَمْنُوع، وَلَا يلْزم من ثُبُوت شَيْء للْوَاحِد ثُبُوته للجملة؛ فَإِن الْوَاحِد جُزْء الْعشْرَة وَلَيْسَت جُزْءا مِنْهُ، والمعلوم الْوَاحِد متناه لَا مَعْلُومَات الله واجتماع المتواترين فرض محَال، وأخبار أهل الْكتاب فِيمَا ذَكرُوهُ لم تتواتر، والقاطع يُقَابله، وَلَا نسلم أَن الضَّرُورِيّ لَا يتَفَاوَت، وَلَا يلْزم مِنْهُ أَنه لَا يُفِيد الْعلم، ثمَّ للاستئناس والمخالفة عناد، كَمَا حُكيَ عَن بعض السوفسطائية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1766 [و] قَالَ ابْن عقيل: أَصْحَاب سوفسطا نعلم أَنه لَا علم أصلا، وَعَن بَعضهم: لَا علم لنا بِمَعْلُوم، وَعَن بَعضهم: لَا يُنكر الْعلم، لَكِن لَا يقوى عَلَيْهِ الْبشر، وَعَن بَعضهم: من اعْتقد شَيْئا فَهُوَ كَمَا اعتقده، وَالْجَوَاب وَاحِد. انْتهى. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: من أَرَادَ أَن يدْفع الْعلم اليقيني المستقر فِي الْقُلُوب بالشبه فقد سلك مَسْلَك السوفسطائية؛ فَإِن السفسطة أَنْوَاع: أَحدهَا: النَّفْي، والجحد، والتكذيب، إِمَّا بالوجود وَإِمَّا بِالْعلمِ بِهِ. وَالثَّانِي: الشَّك والريب، وَهَذِه طَريقَة الاادرية الَّذين يَقُولُونَ: لَا نَدْرِي، فَلَا يثبتون وَلَا ينفون، لَكِن هم فِي الْحَقِيقَة قد نفوا الْعلم، وَهُوَ نوع من النَّفْي، فَعَادَت السفسطة إِلَى جحد الْحق الْمَعْلُوم أَو جحد الْعلم بِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1767 وَالثَّالِث: قَول من يَجْعَل الْحَقَائِق تبعا للعقائد، فلقول من اعْتقد الْعَالم قَدِيما فَهُوَ قديم، وَمن اعتقده مُحدثا فَهُوَ مُحدث. وَإِذا أُرِيد بذلك أَنه قديم عِنْده، مُحدث عِنْده فَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، فَإِن هَذَا هُوَ اعْتِقَاده، لَكِن السفسطة أَن يُرَاد أَنه كَذَلِك فِي الْخَارِج. انْتهى. {وَأنْكرت الملحدة والرافضة الْعلم بِالْعقلِ} لتناقض قضاياه لاخْتِلَاف الْعُقَلَاء، وَهَذَا تنَاقض مِنْهُم مَعَ أَن الْعقل حجَّة الله على الْمُكَلف، وَاخْتِلَاف الْعُقَلَاء لقُصُور علم، أَو تَقْصِير فِي شَرط النّظر، ثمَّ جَمِيع ذَلِك شبه لَا أثر لَهَا مَعَ الْعلم، كالحسيات مَعَ أَن النّظر يخْتَلف فِيهَا وَالسَّمَاع. وَقَالَت الْيَهُود من شَرط التَّوَاتُر أَن لَا يكذب بِهِ أحد، وَهُوَ بَاطِل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1768 قَوْله: {وَهُوَ لَفْظِي، كَحَدِيث: " من كذب عَليّ " ومعنوي، وَهُوَ تغاير الْأَلْفَاظ مَعَ الِاشْتِرَاك فِي معنى كلي، كَحَدِيث الْحَوْض، وسخاء حَاتِم} . التَّوَاتُر: لَفْظِي ومعنوي. فاللفظي: اشتراكهم فِي لفظ بِعَيْنِه، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من كذب عَليّ مُتَعَمدا " الحَدِيث كَمَا تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ، وعَلى طرقه وعدتهم. والمعنوي: تغاير الْأَلْفَاظ مَعَ الِاشْتِرَاك فِي معنى كلي، كَحَدِيث الْحَوْض - أَعنِي حَوْض النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا تقدم قَرِيبا -، وسخاء حَاتِم وشجاعة عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -، وَغَيرهَا. وَذَلِكَ إِذا كثرت الْأَخْبَار فِي الوقائع وَاخْتلف فِيهَا، لَكِن كل وَاحِد مِنْهَا يشْتَمل على معنى مُشْتَرك بَينهَا بِجِهَة التضمن أَو ... ... ... ... . . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1769 الِالْتِزَام، حصل الْعلم بِالْقدرِ الْمُشْتَرك، وَهُوَ مثلا الشجَاعَة وَالْكَرم وَنَحْوهَا، وَيُسمى التَّوَاتُر من جِهَة الْمَعْنى، وَذَلِكَ كوقائع حَاتِم فِيمَا يحْكى من عطاياه من فرس، وإبل، وَعين، وثوب، وَنَحْوهَا؛ فَإِنَّهَا تَتَضَمَّن جوده فَيعلم، وَإِن لم يعلم شَيْء من تِلْكَ القضايا بِعَيْنِه. وكقضايا عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - فِي حروبه من أَنه هزم فِي خَيْبَر كَذَا، وَفعل فِي أحد كَذَا، إِلَى غير ذَلِك؛ فَإِنَّهُ يدل بالإلتزام على شجاعته، وَقد تَوَاتر ذَلِك مِنْهُ، وَإِن كَانَ شَيْء من تِلْكَ الجزيئات لم يبلغ دَرَجَة الْقطع. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل " التَّوَاتُر الْمَعْنَوِيّ كَالْعلمِ بشجاعة عَليّ وسخاء حَاتِم مَعَ اخْتِلَاف المخبرين فِي الوقائع الدَّالَّة على ذَلِك لاشتراكها فِي الْمَدْلُول، وَإِن كَانَت جِهَة دلالتها تَارَة بالتضمن وَتارَة بالإلتزام، وَكثير من الوقائع على هَذَا الْوَجْه، ثمَّ قَالَ: قلت: التَّوَاتُر الْمَعْنَوِيّ تغاير الْأَلْفَاظ مَعَ الِاشْتِرَاك فِي معنى كلي، واللفظي اشتراكهم فِي اللَّفْظ. انْتهى. وَهَذَا الْأَخير الَّذِي قَالَه حسن؛ فَلذَلِك ذَكرْنَاهُ فِي الْمَتْن بَدَلا عَن الأول فَإِنَّهُ أوضح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1770 قَوْله: {أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر: الْعلم الْحَاصِل بِهِ ضَرُورِيّ} ؛ إِذْ لَو كَانَ نظرياً لافتقر إِلَى توَسط المقدمتين، وَلما حصل لمن لَيْسَ من أهل النّظر كالنساء وَالصبيان؛ وَلِأَن الضَّرُورِيّ مَا اضْطر الْعقل إِلَى التَّصْدِيق بِهِ، وَهَذَا كَذَلِك، ولساغ الْخلاف فِيهِ عقلاء كَسَائِر النظريات. {وَقَالَ أَبُو الْخطاب، وَأَبُو الْمَعَالِي، والدقاق، وَغَيرهم: نَظَرِي} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1771 وَقَالَهُ الكعبي، وَأَبُو الْحُسَيْن المعتزليان؛ إِذْ لَو كَانَ ضَرُورِيًّا لما افْتقر إِلَى النّظر فِي المقدمتين وَهِي اتِّفَاقهم على الْإِخْبَار وَعدم تواطئهم على الْكَذِب، فصورة التَّرْتِيب مُمكنَة. رد ذَلِك: بِأَنَّهُ مطرد فِي كل ضَرُورِيّ. قَالُوا: لَو كَانَ ضَرُورِيًّا لعلم كَونه ضَرُورِيًّا ضَرُورَة؛ لعدم حُصُول علم ضَرُورِيّ لَا يشْعر بضرورته. رد: معَارض بِمثلِهِ فِي النظري، ثمَّ لَا يلْزم من حُصُول الْعلم الشُّعُور بِالْعلمِ ضَرُورَة، وَإِن سلم فَلَا يلْزم الشُّعُور بِصفتِهِ ضَرُورَة. قَالُوا: كَالْعلمِ عَن خبر الله وَرَسُوله. رد: لتوقفه على معرفتهما، وَهِي نظرية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1772 وللقاضي أبي يعلى من أَئِمَّة [أَصْحَابنَا] قَولَانِ، وَاخْتَارَ فِي " الْكِفَايَة " أَنه نَظَرِي، وَاخْتَارَ فِي " الْعدة " أَنه ضَرُورِيّ. وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى ": تَحْقِيق القَوْل فِيهِ أَنه ضَرُورِيّ يَعْنِي أَنه لَا يحْتَاج فِي حُصُوله إِلَى الشُّعُور بتوسط وَاسِطَة مفضية إِلَيْهِ مَعَ أَن الْوَاسِطَة حَاضِرَة فِي الذِّهْن، وَلَيْسَ ضَرُورِيًّا بِمَعْنى أَنه حَاصِل من غير وَاسِطَة. انْتهى. وَنقل أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ عَن الْبَلْخِي مُوَافقَة الْمَعْنى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَحَكَاهُ أَيْضا عَن الدقاق، وَأبي الْحُسَيْن. وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": وَالْخلاف لَفْظِي؛ إِذْ مُرَاد الأول بالضروري مَا اضْطر الْعقل إِلَى تَصْدِيقه، وَالثَّانِي البديهي الْكَافِي فِي حُصُول الْجَزْم بِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1773 تصور طَرفَيْهِ، والضروري منقسم إِلَيْهِمَا، فدعوى كل غير دَعْوَى الآخر، والجزم حَاصِل على الْقَوْلَيْنِ. انْتهى. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: اللَّائِق ارْتِفَاع الْخلاف فَإِن حُصُول الْعلم فِيهِ بِالضَّرُورَةِ أَمر مشَاهد. وَقَالَ الكوراني: لخص الْخلاف بعض الْمُحَقِّقين بِأَن المتواترات والمجربات وَإِن كَانَت قضايا ضَرُورِيَّة إِلَّا أَن فِيهَا قِيَاسا خفِيا؛ إِذْ السَّامع إِنَّمَا يحكم فِي الْمُتَوَاتر؛ لِأَنَّهُ يعلم أَنه صدر عَن جمع لَا يُمكن اتِّفَاقهم على الْكَذِب، فَكَأَنَّهُ يَقُول عِنْد السماع: هَذَا خبر جمع لَا يُمكن تواطؤهم على الْكَذِب، وكل خبر هَذَا شَأْنه فَهُوَ صدق قطعا، فَهَذَا الْخَبَر صدق قطعا. وَمثل هَذَا الْقيَاس الْخَفي لَا يخرج الْعلم عَن كَونه ضَرُورِيًّا، فقد ظهر لَك أَن لَا خلاف بَين الطَّائِفَتَيْنِ. انْتهى. {وَتوقف الْآمِدِيّ والمرتضى} من الشِّيعَة لتعارض الْأَدِلَّة، لِأَن تَسْمِيَة مثل هَذَا الْعلم بالنظري غير ظَاهر؛ إِذْ لَا اسْتِدْلَال، وَكَذَا بالضروري الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1774 لتوقفه على ذَلِك الْقيَاس الْخَفي، وَصَححهُ صَاحب المصادر. وَفِي الْمَسْأَلَة قَول رَابِع: إِنَّه يُفِيد علما بَين المكتسب والضروري، قَالَه صَاحب " الكبريت الْأَحْمَر ". قَوْله: {فَائِدَة: خبر التَّوَاتُر لَا يُولد الْعلم وَيَقَع عِنْده بِفعل الله تَعَالَى عِنْد الْفُقَهَاء وَغَيرهم، وَخَالف قوم} . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: الأول: قَول الْفُقَهَاء والأشاعرة والمعتزلة خلافًا لقوم، وَقطع بِالْأولِ الطوفي، وَقدمه ابْن حمدَان وَغَيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1775 لنا: مَا ثَبت من الْأُصُول أَن لَا موجد إِلَّا الله وَهُوَ بِمَنْزِلَة إِجْرَاء الْعَادة بِخلق الْوَلَد من الْمَنِيّ، وَهُوَ قَادر على خلقه بِدُونِ ذَلِك خلافًا لمن قَالَ بالتولد. قَالَ الْمُخَالف: يُمكن أَن يخلفه وَيُمكن ضِدّه. قُلْنَا: مُمكن عقلا، وواجب عَادَة. وَاسْتدلَّ: لَو ولد الْعلم فإمَّا من الْأَخير وَحده وَهُوَ محَال إِذا كَانَ يَكْفِي مُنْفَردا، أَو مِنْهُ وَمن الْجُمْلَة قبله وَهُوَ محَال أَيْضا لعدم صُدُور الْمُسَبّب عَن شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا، أَو لِأَنَّهَا تعدم شَيْئا فَشَيْئًا، والمعدوم لَا يُؤثر. فَقيل: يجوز تَأْثِير الْأَخير مَشْرُوطًا بِوُجُود مَا قبله وانعدامه أَيْضا فَهُوَ وَارِد فِي إفادته التولد. ثمَّ قَالُوا من جِهَة الْإِلْزَام لِلْقَائِلين بالتولد: إِن مَاله جِهَة يجوز أَن يُولد شَيْئا فِي غير مَحَله، كالاعتمادات، والحركات، وَمَا لَيْسَ كَذَلِك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1776 فبخلافه، وَالْخَبَر لَيْسَ لَهُ جِهَة، فَلَا يُولد فِي غير مَحَله. فَقيل: هُوَ ضَعِيف؛ لِأَن مَذْهَب الْمُخَالف: يُولد الشَّيْء فِي غير مَحَله كالإرعاب المولد فِي غير مَحَله الوجل المولد الإصفرار بعد الإحمرار، وكالتوبيخ يُولد الخجل المولد للاحمرار. قَوْله: {وَشَرطه: بلوغهم عددا يمْتَنع مَعَه التواطؤ على الْكَذِب لكثرتهم} . وَعَن القَاضِي وَغَيره: {أَو دينهم، مستندين إِلَى الْحس مستوين فِي طرفِي الْخَبَر ووسطه} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1777 للمتواتر شُرُوط، بَعْضهَا مُتَّفق عَلَيْهِ، وَبَعضهَا مُخْتَلف فِيهِ. فَمن الْمُتَّفق عَلَيْهِ بِحَسب المخبرين: أَن يَتَعَدَّد المخبرون تعدداً يمْنَع اتِّفَاقهم على الْكَذِب بطرِيق الِاتِّفَاق أَو بطرِيق الْمُوَاضَعَة. وَفِي بعض كَلَام القَاضِي، وَذكره ابْن عقيل عَن أَصْحَابنَا: لكثرتهم أَو دينهم وصلاحهم وَهُوَ قوي؛ فَإِن إِخْبَار الْأَئِمَّة وَمن قارنهم لَيْسَ كأخبار غَيرهم. وَأَن يَكُونُوا مستندين فِي إخبارهم إِلَى الْحس فِي الْأَصَح لَا إِلَى دَلِيل عَقْلِي كَمَا تقدم، ذكره فِي كَلَام الْبرمَاوِيّ وَغَيره فِي حَدِيث التَّوَاتُر فَليُرَاجع. وَقَوْلنَا: فِي الْأَصَح القَوْل الَّذِي يُقَابل الْأَصَح للأستاذ أبي مَنْصُور، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1778 والباقلاني، والسمعاني، والرازي، والمازري قَالُوا: الْمُعْتَبر أَن يكون ذَلِك الْعلم ضَرُورِيًّا، سَوَاء كَانَ عَن حس أَو عَن قرينَة كَمَا تقدم فِي حد التَّوَاتُر فَليُرَاجع. وَقَوله: إِلَى الْحس يدل على أَمريْن: أَحدهمَا: أَن يكون عَن علم لَا ظن. الثَّانِي: أَن يكون علمهمْ مدْركا بِإِحْدَى الْحَواس الْخمس. ذكره الرَّازِيّ، والآمدي، وأتباعهما، وَتقدم كَلَام الباقلاني، وَغَيره. وَأَن يَكُونُوا مستوين فِي التَّعَدُّد، والاستناد بَالغا مَا بلغ عدد التَّوَاتُر. وَمحل هَذَا إِن وجد بِأَن يكون للْخَبَر طرفان ووسط، وَإِلَّا فقد يكون عدد التَّوَاتُر عَن أَخْبَار من عاينوه كأخبار الصَّحَابَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1779 فيكتفي بذلك بِلَا نزاع، بل هُوَ أولى من الطَّرفَيْنِ وَالْوسط، وكأخبار التَّابِعين عَن الصَّحَابَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَمن الْمُخْتَلف فِيهِ: مَا زَاده الْمُوفق، والآمدي، وَابْن حمدَان: أَن يكون المخبرون عَالمين بِمَا أخبروا بِهِ، وَهُوَ ضَعِيف غير مُحْتَاج إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِن أُرِيد علم جَمِيعهم فَبَاطِل؛ لِأَنَّهُ قد لَا يكون جَمِيعهم عَالمين، بل يكون بَعضهم ظَانّا وَمَعَ هَذَا يحصل الْعلم. وَإِن أُرِيد علم الْبَعْض بِهِ فَهُوَ لَازم مَا ذكرنَا من الْقُيُود الثَّلَاثَة عَادَة؛ وَلِأَنَّهَا لَا تَجْتَمِع إِلَّا وَالْبَعْض عَالم قطعا، وَإِلَّا كَيفَ يعلم حُصُول هَذِه الشُّرُوط مِمَّن زعم أَنه نَظَرِي بِشَرْط تقدم الْعلم بذلك كُله، وَأما نَحن فالضابط عندنَا حُصُول الْعلم بصدقه، فَإِذا علم ذَلِك عَادَة علم وجود الشَّرَائِط، لَا أَن الضَّابِط فِي حُصُول الْعلم سبق الْعلم بهَا كَمَا يَقُوله من يرى أَنه نَظَرِي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1780 {وَقَالَ} أَبُو الْخطاب {فِي " التَّمْهِيد ": إِن قُلْنَا} إِنَّه {نَظَرِي} اشْترط أَن يكون المخبرون عَالمين، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقع بِهِ الْعلم؛ وَلِأَن علم السَّامع فرع على الْمخبر. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ. قَوْله: {وَعدم علم السَّامع} مَا تقدم فَهُوَ شَرط فِي المخبرين، وَهَذَا شَرط فِي السامعين، يَعْنِي: أَن لَا يكون السَّامع للمتواتر عَالما بِمَا أخبروا قبل إخبارهم فَإِنَّهُ لَا يفِيدهُ شَيْئا لعلمه قبله. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَأَن يكون علم المستمع غير حَاصِل قبل الْخَبَر. انْتهى. وَقطع بِهِ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع "، وَغَيره. قَالَ الْبرمَاوِيّ: رَابِع الشُّرُوط كَون السَّامع غير عَالم بمدلوله ضَرُورَة أَو اسْتِدْلَالا، كالإخبار بِأَن السَّمَاء فَوق الأَرْض، وَبِأَن الْعَالم مُحدث لمن هُوَ مُسلم، وَهَذَا خَارج من قَوْلنَا فِي حد التَّوَاتُر: يُفِيد الْعلم؛ لِأَن هَذَا لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1781 يفد شَيْئا؛ لِأَن الْعلم بذلك كَانَ حَاصِلا انْتهى. وَقَالَ ابْن مُفْلِح: وَيعْتَبر فِي تأهل المستمع للْعلم، وَعَدَمه حَال الْإِخْبَار لِامْتِنَاع تَحْصِيل الْحَاصِل، وَأَن لَا يُعلمهُ السَّامع ضَرُورَة. انْتهى. قَوْله: {أَصْحَابنَا والمحققون: لَا ينْحَصر عدد التَّوَاتُر فِي عدد، بل مَا حصل الْعلم عِنْده فَيعلم أَيْضا حُصُول الْعدَد، وَلَا دور} . قَالَ الطوفي: وَالْحق أَن الضَّابِط حُصُول الْعلم بالْخبر فَيعلم إِذن حُصُول الْعدَد، وَلَا دور؛ إِذْ حُصُول الْعلم مَعْلُول الْإِخْبَار وَدَلِيله، كالشبع والري مَعْلُول المشبع والمروي وَدَلِيلهمَا، وَإِن لم يعلم ابْتِدَاء الْقدر الْكَافِي مِنْهُمَا، وَمَا ذكر من التقديرات تحكم لَا دَلِيل عَلَيْهِ، نعم لَو أمكن الْوُقُوف على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1782 حَقِيقَة اللحظة الَّتِي يحصل لنا الْعلم بالمخبر عَنهُ فِيهَا أمكن معرفَة أقل عدد يحصل الْعلم بِخَبَرِهِ لَكِن ذَلِك مُتَعَذر؛ إِذْ الظَّن يتزايد بتزايد المخبرين تزايداً خفِيا تدريجياً كتزايد النَّبَات، وعقل الصَّبِي ونمو بدنه، وضوء الصُّبْح، وحركة الْفَيْء فَلَا يدْرك. انْتهى. وَكَذَا قَالَ غَيره، قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: فَإِن قيل: كَيفَ يعلم الْعلم بالتواتر مَعَ الْجَهْل بِأَقَلّ عدده؟ قُلْنَا: كَمَا يعلم أَن الْخبز مشبع وَالْمَاء مرو وَإِن جهلنا عدده. انْتهى. قَالَ ابْن مُفْلِح: وضابطه مَا حصل الْعلم عِنْده للْقطع بِهِ من غير علم بِعَدَد خَاص، وَالْعَادَة تقطع بِأَنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى وجدانه لحصوله بتزايد الظنون على تدرج خَفِي كحصول كَمَال الْعقل بِهِ، وَلَا دَلِيل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1783 قَوْله: {وَعَلِيهِ يمْتَنع الِاسْتِدْلَال بالتواتر على من لم يحصل لَهُ الْعلم بِهِ} لَو حصل التَّوَاتُر عِنْد جمَاعَة وَلم يحصل عِنْد آخَرين امْتنع الِاسْتِدْلَال بالتواتر عِنْد من حصل لَهُ على من لم يحصل لَهُ الْعلم بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُول مَا تدعيه من التَّوَاتُر غير مُسلم فَلَا أسمعهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بمتواتر عِنْدِي. قَوْله: {وَيخْتَلف باخْتلَاف الْقَرَائِن} الْعدَد الَّذِي يحصل الْعلم بِصدق الْخَبَر عِنْده يخْتَلف باخْتلَاف قَرَائِن التَّعْرِيف، مثل: الهيئات الْمُقَارنَة للْخَبَر الْمُوجبَة لتعريف مُتَعَلقَة ولاختلاف أَحْوَال المخبرين فِي اطلاعهم على قَرَائِن التَّعْرِيف، ولاختلاف إِدْرَاك المستمعين لتَفَاوت الأذهان، والقرائح، ولاختلاف الوقائع على عظمها وحقارتها، وَهَذِه الْمَسْأَلَة ذَات خلاف. قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": وَالصَّحِيح ثَالِثهَا إِن علمه لِكَثْرَة الْعدَد مُتَّفق وللقرائن قد تخْتَلف فَيحصل لزيد دون عَمْرو. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1784 وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: هَل يجب اطراد حُصُول الْعلم بالمتواتر لكل من بلغ، أَو يُمكن حُصُول الْعلم لبَعْضهِم دون بعض؟ فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: ثَالِثهَا: وَهُوَ الرَّاجِح عِنْد الْمنصف - أَن علمه مُتَّفق - أَي يتَّفق النَّاس كلهم فِي الْعلم بِهِ، وَلَا يَخْتَلِفُونَ، وَإِن كَانَ لاحتفاف قَرَائِن بِهِ اضْطربَ فقد يحصل لبَعْضهِم دون بعض، وَفِيه نظر؛ فَإِن الْخَبَر الَّذِي لم يحصل الْعلم فِيهِ إِلَّا بانضمام الْقَرِينَة إِلَى الْخَبَر لَيْسَ من التَّوَاتُر، بل لابد أَن يكون حُصُول الْعلم بِمُجَرَّد روايتهم. انْتهى. قَالَ القَاضِي عضد الدّين: نقطع أَنه يخْتَلف بالقرائن الَّتِي تتفق فِي التَّعْرِيف غير زَائِدَة على الْمُحْتَاج إِلَيْهَا فِي ذَلِك عَادَة من الْجَزْم وتفرس آثَار الصدْق، وباختلاف اطلَاع المخبرين على مثلهَا عَادَة، كدخاليل الْملك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1785 بأحواله الْبَاطِنَة وباختلاف إِدْرَاك المستمعين وفطنتهم وباختلاف الوقائع، وتفاوت كل وَاحِد مِنْهَا مُوجب الْعلم بِخَبَر عدد أَكثر أَو أقل لَا يُمكن ضَبطه، فَكيف إِذا تركبت الْأَسْبَاب. انْتهى. قَوْله: {وَقيل: بلَى} أَي: وَقيل: ينْحَصر حُصُول التَّوَاتُر فِي عدد، وَاخْتلف الْقَائِلُونَ بذلك على أَقْوَال كَثِيرَة، أَكْثَرهَا ضَعِيف أَو سَاقِط. فَقيل: أقل مَا يحصل بِهِ اثْنَان، حَكَاهُ القَاضِي أَبُو يعلى، وَأَبُو الْخطاب عَن قوم؛ لِأَنَّهُ بَيِّنَة تَامَّة، وَهُوَ ضَعِيف جدا، بل سَاقِط، وَسَيَأْتِي أَن بَعضهم حكى الْإِجْمَاع أَنه لَا يحصل بِدُونِ أَرْبَعَة. وَقيل: يحصل بأَرْبعَة، حَكَاهُ أَيْضا القَاضِي أَبُو يعلى، وَأَبُو الْخطاب عَن قوم ذكره فِي " المسودة "؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَة الزِّنَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1786 قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى مُتَابعَة للْقَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ، وَقَالَهُ قبلهم القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني مُتَابعَة للجبائي: يجب أَن يكون عَددهمْ أَكثر من أَرْبَعَة؛ لِأَن خبر الْأَرْبَعَة لَو جَازَ أَن يكون مُوجبا للْعلم لوَجَبَ أَن يكون كل أَرْبَعَة مُوجبا لذَلِك، وَلَو كَانَ هَكَذَا لوَجَبَ - إِذا شهد أَرْبَعَة بِالزِّنَا - أَن يعلم الْحَاكِم صدقهم ضَرُورَة. قَالَ ابْن برهَان: وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على أَن الْأَرْبَعَة لَيْسَ من الْعدَد الْمُتَوَاتر، وَنسبه التَّاج السُّبْكِيّ للشَّافِعِيَّة. وَقيل: خَمْسَة، ذكره أَبُو الطّيب، وَنَصره الجبائي وَتردد فِيهِ الباقلاني، وَقَالَ عَن الْأَرْبَعَة: لَو حصل بقول شُهُود الزِّنَا لم يحْتَج إِلَى التَّزْكِيَة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1787 قَالَ القَاضِي عضد الدّين: وَيرد عَلَيْهِ أَن وجوب التَّزْكِيَة مُشْتَرك إِلَّا أَن يَقُول: قد يُفِيد الْعلم فَلَا تجب التَّزْكِيَة، وَقد لَا يُفِيد فَيعلم كذب وَاحِد، فالتزكية لتعلم عَدَالَة الْأَرْبَعَة، وَقد يفرق بَين الْخَبَر وَالشَّهَادَة، كَيفَ والاجتماع فِي الشَّهَادَة مَظَنَّة التواطؤ. انْتهى. قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا قيل يحصل بالخمسة؛ لأَنهم بِعَدَد أولي الْعَزْم من الرُّسُل على قَول من فسره بهم، وهم: نوح، وَإِبْرَاهِيم، ومُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمّد صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ -. قلت: وَقد ذكرهم الله تَعَالَى منفردين عَن غَيرهم فِي موضِعين من الْقُرْآن: الأول: فِي سُورَة الْأَحْزَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ أَخذنَا من النَّبِيين ميثاقهم ومنك وَمن نوح وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى ابْن مَرْيَم} [الْأَحْزَاب: 7] . وَالثَّانِي: فِي سُورَة الشورى فِي قَوْله تَعَالَى: {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى أَن أقِيمُوا الدّين} [الشورى: 13] ، وَقد نبه على ذَلِك الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيره. وَقيل: عشرَة. وَنسب هَذَا القَوْل إِلَى الْإِصْطَخْرِي؛ ... ... ... ... ... ... ... . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1788 لِأَن مَا دونهَا جمع قلَّة. وَقيل: اثْنَي عشر، بِعَدَد النُّقَبَاء الَّذِي أرسلهم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ليعرفوه أَحْوَال بني إِسْرَائِيل ليحصل الْعلم بخبرهم، قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَقَد أَخذ الله مِيثَاق بني إِسْرَائِيل وبعثنا مِنْهُم اثْنَي عشر نَقِيبًا} [الْمَائِدَة: 12] . وَقيل: عشرُون، لقَوْله تَعَالَى: {إِن يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ} [الْأَنْفَال: 65] . نقل هَذَا القَوْل عَن أبي الْهُذيْل وَغَيره من الْمُعْتَزلَة، وَقَيده الصَّيْرَفِي بِمَا إِذا كَانُوا عُدُولًا، لَكِن المصابرة فِي الْقِتَال لَا علقَة لَهَا بالأخبار. قَالَ القَاضِي عضد الدّين: بل ليُفِيد خبرهم الْعلم بِإِسْلَامِهِمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1789 وَقيل: أَرْبَعُونَ، عِنْد من تَنْعَقِد بهم الْجُمُعَة، لقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ} [الْأَنْفَال: 64] ، وَكَانُوا أَرْبَعِينَ. وَقيل: سَبْعُونَ، لقَوْله تَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قومه سبعين رجلا لِمِيقَاتِنَا} [الْأَعْرَاف: 155] ، وَإِنَّمَا خصهم بِهَذَا الْعدَد لخبرهم إِذا رجعُوا ليخبروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم. وَقيل: ثَلَاثمِائَة وبضع عشرَة، بِعَدَد أَصْحَاب بدر؛ لِأَنَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1790 يحصل بخبرهم الْعلم للْمُشْرِكين. والبضع - بِكَسْر الْبَاء -: مَا بَين الثَّلَاثَة ألى التِّسْعَة، وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": الْبضْع مَا بَين الثَّلَاث إِلَى التسع، أَو إِلَى الْخمس، أَو مَا بَين الْوَاحِد إِلَى الْأَرْبَعَة، أَو من أَربع إِلَى تسع، أَو هُوَ سبع، وَإِذا جَاوَزت لفظ الْعشْر ذهب الْبضْع، لَا يُقَال: بضع وَعِشْرُونَ، أَو يُقَال ذَلِك. الْفراء: لَا يذكر مَعَ الْعشْرَة وَالْعِشْرين إِلَى التسعين، وَلَا يُقَال: بضع وَمِائَة، وَلَا ألف. مبرمان: الْبضْع مَا بَين الْعقْدَيْنِ من وَاحِد إِلَى الْعشْرَة، وَمن أحد عشر إِلَى عشْرين، وَمَعَ الْمُذكر بهاء، وَمَعَهَا بِغَيْر هَاء: بضعَة وَعِشْرُونَ رجلا، وبضع وَعِشْرُونَ امْرَأَة، وَلَا يعكس، أَو الْبضْع: غير مَعْدُود؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنى الْقطعَة. انْتهى. وَقَالَ فِي " الْمِصْبَاح الْمُنِير ": الْبضْع - بِالْكَسْرِ، وَبَعض الْعَرَب يفتح - من الثَّلَاثَة إِلَى التِّسْعَة، يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث فَيُقَال: بضع رجال، وبضع نسْوَة، وَيسْتَعْمل من ثَلَاثَة عشر إِلَى تِسْعَة عشر، لَكِن تثبت الْهَاء فِي بضع مَعَ الْمُذكر، وتحذف مَعَ الْمُؤَنَّث، كالنيف، وَلَا يسْتَعْمل فِيمَا زَاد على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1791 الْعشْرين، وَأَجَازَهُ بعض الْمَشَايِخ فَتَقول: بضعَة وَعِشْرُونَ رجلا، وبضع وَعِشْرُونَ امْرَأَة، وَهَكَذَا قَالَه أَبُو زيد، وَقَالُوا: على هَذَا معنى الْبضْع والبضعة فِي الْعدَد قِطْعَة مُبْهمَة غير محدودة. انْتهى. والنيف ككيس، وَقد يُخَفف، اصله: نيوف، يُقَال: عشرَة ونيف وَكلما زَاد على العقد فنيف إِلَى أَن يبلغ العقد الثَّانِي، والنيف الْفضل وَالْإِحْسَان، وَمن وَاحِدَة إِلَى ثَلَاث. قَالَه " الْقَامُوس "، وَقَالَ: أفرد الْجَوْهَرِي لَهُ تركيب: ن ى ف وهما، وَالصَّوَاب أَنه واوي. وَالصَّحِيح أَن أَصْحَاب بدر كَانُوا ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، وَقيل: وَعشرَة، وَقيل: وَخَمْسَة، وَلَا تبَاين بَينهَا وَبَين الثلاثةعشر، كَمَا توهمه الدمياطي؛ لِأَن الدّين خَرجُوا الَّذين خَرجُوا لِلْقِتَالِ ثَلَاثمِائَة وَخَمْسَة، وَأدْخل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَهم فِي الْقِسْمَة ثَمَانِيَة أسْهم لجَماعَة لم يحضروا فنزلوا منزلَة الْحَاضِرين. وَقيل: خَمْسمِائَة، حَكَاهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة " عَن قوم وَلم نره لغيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1792 وَقيل: ألف وَسَبْعمائة بِعَدَد أهل بيعَة الرضْوَان. وَقَالَ بَعضهم: لابد للمتواتر من عدد أهل بيعَة الرضْوَان، قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: وهم ألف وَسَبْعمائة، وَقيل: ألف وَخَمْسمِائة، وَهِي رِوَايَة جَابر فِي " الصَّحِيحَيْنِ ". وَقيل: ألف وَأَرْبَعمِائَة، وَهِي رِوَايَة جَابر أَيْضا. قَالَ ابْن الْقيم فِي " الْهَدْي ": وَالْقلب إِلَى هَذَا أميل، وَهُوَ قَول الْبَراء بن عَازِب، وَمَعْقِل بن يسَار، وَسَلَمَة بن ... ... ... . . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1793 الْأَكْوَع فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ، وَهُوَ قَول الْمسيب بن حزن. انْتهى. قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا الْأَشْهر، وَعَن عبد الله بن أبي أوفى: كَانُوا ألفا وثلاثمائة. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ، ومُوسَى بن عقبَة: كَانُوا ألفا وسِتمِائَة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1794 وَقيل: غير ذَلِك فِيهَا، وَهَذِه الْأَقْوَال غالبها ضَعِيف جدا، وَبَعضهَا سَاقِط. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا تعلق لشَيْء من هَذِه الْأَعْدَاد بالأخبار فتعيين هَذِه الْأَعْدَاد فِي التَّوَاتُر بِهَذَا الشّبَه لَا يخفى ضعفه، وَالله أعلم. قَوْله: {وَقَول أبي الْحُسَيْن، والباقلاني: من حصل بِخَبَرِهِ علم بواقعة لشخص حصل بِمثلِهِ بغَيْرهَا لشخص آخر، صَحِيح إِن تَسَاويا من كل وَجه، وَهُوَ بعيد عَادَة} . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: كل عدد أَفَادَ الْعلم لشخص فِي وَاقعَة مُفِيد للْعلم لغيره فِي غَيرهَا، وإطلاقه بَاطِل؛ إِذْ قد يمتاز الشَّخْص بفرط ذكائه فِي تِلْكَ الْوَاقِعَة دون غَيرهَا، لَكِن هُوَ صَحِيح مَعَ التَّسَاوِي، وَهُوَ بعيد عَادَة. انْتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1795 وَكَذَا قَالَ غَيره، وَكلهمْ تابعوا ابْن الْحَاجِب. قَوْله: {وَشرط ابْن عَبْدَانِ من الشَّافِعِيَّة الْإِسْلَام وَالْعَدَالَة فِيهِ} ، كَمَا شَرط فِي الشَّهَادَة؛ لِأَن الْكفْر والفسوق عرضة للكذب والتحريف، وَالْإِسْلَام وَالْعَدَالَة يمنعانه، وَأَيْضًا: لَو لم يشْتَرط ذَلِك لأفاد إِخْبَار النَّصَارَى بقتل الْمَسِيح وَهُوَ بَاطِل بِنَصّ الْقُرْآن بقوله تَعَالَى: {وَقَوْلهمْ إِنَّا قتلنَا الْمَسِيح وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صلبوه وَلَكِن شبه لَهُم} [النِّسَاء: 157] ، وبالإجماع. وَالْجَوَاب: منع حُصُول شَرط التَّوَاتُر للاختلال فِي الأَصْل، أَي: الطَّبَقَة الأولى لكَوْنهم لم يبلغُوا عدد التَّوَاتُر؛ وَلِأَنَّهُم رَأَوْهُ من بعيد، أَو بعد صلبه فَشبه لَهُم، وللاختلال فِي الْوسط، أَي: قُصُور الناقلين عَن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1796 عدد التَّوَاتُر، وَفِي شَيْء مِمَّا بَينهم وَبَين الناقلين إِلَيْنَا من عدد التَّوَاتُر؛ وَلذَلِك نعلم أَن أهل قسطنطينية لَو أخبروا بقتل ملكهم حصل الْعلم. قَالَ الْبرمَاوِيّ: من شُرُوط التَّوَاتُر اشْتِرَاط الْعَدَالَة، وَإِلَّا فقد أخبر الإمامية بِالنَّصِّ على إِمَامَة عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - وَلم تقبل أخبارهم مَعَ كثرتهم لفسقهم. وَمِنْهَا: اشْتِرَاط الْإِسْلَام، وَإِلَّا فقد أخبر النَّصَارَى مَعَ كثرتهم بقتل عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -، وَلم يَصح ذَلِك لكفرهم. وَجَوَابه فيهمَا: أَن عدد التَّوَاتُر فِيمَا ذكر لَيْسَ فِي كل طبقَة فقد قتل بخْتنصر النَّصَارَى حَتَّى لم يبْق مِنْهُم إِلَّا دون عدد التَّوَاتُر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1797 قَالَ: وَاعْلَم أَن كَلَام الْآمِدِيّ يُوهم أَن الشطرين لِلْإِسْلَامِ وَالْعَدَالَة وَاحِد، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِلَّا فَكَانَ الإقتصار على الْعَدَالَة كَافِيا. انْتهى. وَقَالَ قوم: ذَلِك {إِن طَال الزَّمن} ، يَعْنِي: يشْتَرط الْإِسْلَام وَالْعَدَالَة إِن طَال الزَّمن وَإِلَّا فَلَا. قَالَ ابْن مُفْلِح: {وَشرط طوائف من الْفُقَهَاء: أَن لَا يحويهم بلد، وَلَا يحصيهم عدد} ، وَهُوَ بَاطِل؛ لِأَن أهل الْجَامِع لَو أخبروا عَن سُقُوط الْمُؤَذّن عَن المنارة، أَو الْخَطِيب عَن الْمِنْبَر لَكَانَ إخبارهم مُفِيدا للْعلم فضلا عَن أهل بلد. {وَشرط قوم اخْتِلَاف النّسَب وَالدّين والوطن} ؛ لتندفع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1798 التُّهْمَة، وَهُوَ أَيْضا بَاطِل؛ لِأَن التُّهْمَة لَو حصلت لم يحصل الْعلم، سَوَاء كَانُوا على دين وَاحِد وَمن نسب وَاحِد فِي وَطن وَاحِد، أَو لم يَكُونُوا كَذَلِك، وَإِن ارْتَفَعت حصل الْعلم كَيفَ كَانُوا. وشرطت الشِّيعَة وجود الْمَعْصُوم فِي المخبرين؛ لِئَلَّا يتفقوا على الْكَذِب، وَهُوَ بَاطِل؛ لِأَن الْمُفِيد حِينَئِذٍ قَول الْمَعْصُوم، لَا خبر أهل التَّوَاتُر، كَمَا قَالُوا فِي " الْإِجْمَاع ". {وَشرط قوم إخبارهم طَوْعًا} ، وَهُوَ بَاطِل أَيْضا؛ فَإِن الصدْق لَا يمْتَنع حُصُول الْعلم بِهِ، وَإِلَّا فَاتَ الشَّرْط. وَشرط المرتضى من الشِّيعَة - وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم الموسوي - {عدم اعْتِقَاد نقيض الْمخبر} ، قَالَ: لِأَن اعْتِقَاد النقيض محَال، والطارئ أَضْعَف من المستقر فَلَا يرفعهُ، وَهُوَ بَاطِل أَيْضا؛ بل يحصل سَوَاء كَانَ السَّامع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1799 يعْتَقد نقيض الْمخبر بِهِ أَو لَا، فَلَا يتَوَقَّف الْعلم على ذَلِك، وَتقدم فِي مَسْأَلَة كَون الْحَاصِل بِهِ ضَرُورِيًّا أَو نظرياً، إِن من قَالَ: نَظَرِي، شَرط سبق الْعلم بِجَمِيعِ ذَلِك، وَمن قَالَ: ضَرُورِيّ، فَلَا. وَضَابِط الْعلم بحصولها عِنْد حُصُول الْعلم بالْخبر؛ لِأَن ضَابِط حُصُول الْعلم بِهِ سبق حُصُول الْعلم بهَا. وشرطت الْيَهُود وجود أهل الذلة فِي المخبرين دفعا لتواطؤهم على الْكَذِب؛ لِأَن أهل الْعِزَّة لَا خوف عَلَيْهِم فَيجوز أَن يجترئوا على الْكَذِب، وَأهل الذلة أهل خوف فَلَا يجترئون على الْكَذِب، وَهُوَ فَاسد؛ لِأَن أهل الذلة لخستهم لَا ينتهون عَن الْكَذِب، وَأهل الْعِزَّة لشرفهم لَا يقدمُونَ على الْكَذِب. وَيَأْتِي فِي أثْنَاء خبر الْوَاحِد أَنه يمْتَنع كتمان أهل التَّوَاتُر مَا يحْتَاج إِلَى نَقله، كامتناع الْكَذِب على عدد التَّوَاتُر عَادَة، وَغَيره من الْمسَائِل يذكرهَا بَعضهم هُنَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1800 قَوْله: {فصل} ابْن الْبَنَّا، والموفق، والطوفي، وَجمع: {خبر الْوَاحِد مَا عدا التَّوَاتُر} . لما فَرغْنَا من أَحْكَام الْخَبَر الْمُتَوَاتر شرعنا نبين أَحْكَام خبر الْآحَاد، فالآحاد جمع أحد، كبطل وأبطال، وهمزة أحد مبدلة من وَاو الْوَاحِد، فَأصل آحَاد أأحاد بهمزتين أبدلت الثَّانِيَة ألفا ك " آدم ". فالأخبار قِسْمَانِ: تَوَاتر، وآحاد، لَا غير. قَالَه ابْن الْبَنَّا فِي الْعُقُود والخصال، والموفق، والطوفي، وَجمع كثير: ... ... ... ... ... ... . . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1801 فَلَا وَاسِطَة بَينهمَا، فالآحاد قسيم التَّوَاتُر. فخبر الْوَاحِد مَا لم ينْتَه إِلَى رُتْبَة التَّوَاتُر إِمَّا بِأَن يرويهِ من هُوَ دون الْعدَد الَّذِي لَا بُد مِنْهُ فِي التَّوَاتُر - على الْخلاف فِيهِ -، أَو يرويهِ عدد التَّوَاتُر وَلَكِن لم ينْتَهوا إِلَى إِفَادَة الْعلم باستحالة تواطؤهم على الْكَذِب، أَو لم يكن ذَلِك فِي كل الطَّبَقَات، أَو كَانَ، وَلَكِن لم يخبروا عَن محسوس - على القَوْل باشتراطه فِي التَّوَاتُر -، أَو غير ذَلِك مِمَّا يعْتَبر فِي الْمُتَوَاتر. فالآحاد هُوَ الَّذِي لَا يُفِيد الْعلم وَالْيَقِين. فَلَا يقصرون اسْم الْآحَاد على مَا يرويهِ الْوَاحِد، كَمَا هُوَ حَقِيقَة فِيهِ، بل يُرِيدُونَ بِهِ مَا لَا يُفِيد الْعلم، وَلَو كَانَ من عدد كثير، وَلَو أَفَادَ خَبرا، وَلَو أَفَادَ خبر الْوَاحِد الْعلم بانضمام قَرَائِن، أَو بالمعجزة فَلَيْسَ مِنْهُ اصْطِلَاحا، فاصطلاحهم مُخَالف للغة طرداً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1802 وعكساً. قَالَ يُوسُف الْجَوْزِيّ: خبر الْوَاحِد مَا نَقله وَاحِد عَن وَاحِد، أَو تخَلّل رِوَايَة الكثيرين وَاحِد. انْتهى. {وَقيل: مَا أَفَادَ الظَّن} . يَعْنِي قيل: إِن خبر الْوَاحِد مَا أَفَادَ الظَّن {وَنقض طرداً وعكساً} ، فنقض طرداً بِالْقِيَاسِ، وعكساً بِمَا لَا يُفِيد ظنا من الْأَخْبَار. وَقَالَ الْآمِدِيّ: كَيفَ، وَالظَّن يُطلق على الْعلم، وصيانة للحد عَن الْمُشْتَرك مَا حَده. وَأجِيب بِمَنْع الِاشْتِرَاك، بل هُوَ فِي الظَّن مجَاز، وَلَا يرد الْخَبَر الْوَاحِد المحتف بالقرائن المفيدة للْقطع؛ لِأَن الإفادة بالانضمام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1803 {وَقَالَ الْآمِدِيّ، وَأَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ، وَابْن حمدَان، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَنسبه إِلَى الْأَصْحَاب وَغَيرهم: من الْآحَاد} مَا يُسمى {مستفيضاً مَشْهُورا} ، فخبر الْآحَاد نَوْعَانِ: آحَاد، ومستفيض. قَالَ التَّاج السُّبْكِيّ: وَمِنْه المستفيض، وَهُوَ الشَّائِع عَن أصل وَقد يُسمى مَشْهُورا. قَالَ الْبرمَاوِيّ: أرجح الْأَقْوَال وأقواها أَن الْمَشْهُور قسم من الْآحَاد، وَيُسمى أَيْضا: المستفيض. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ فِي " الْحَاوِي ": والأستاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1804 وَجمع: إِنَّه قسم ثَالِث غير الْمُتَوَاتر والآحاد. نَقله الْبرمَاوِيّ. وَنقل ابْن مُفْلِح وَغَيره أَن الْأُسْتَاذ أَبَا إِسْحَاق، وَابْن فورك ذكرُوا المستفيض الْمَشْهُور، وَأَنه يُفِيد الْعلم النظري. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَقَالَ ابْن فورك: المستفيض يُفِيد الْقطع، فَجعله من أَقسَام الْمُتَوَاتر. انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَذهب أَبُو بكر الصَّيْرَفِي، والقفال الشَّاشِي إِلَى أَنه والمتواتر بِمَعْنى وَاحِد. وَاخْتَارَ ابْن الصّباغ وَغَيره: لابد أَن يكون سَماع المستفيض من عدد يمْتَنع تواطؤهم على الْكَذِب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1805 قَالَ الرَّافِعِيّ: وَهُوَ أشبه بِكَلَام الشَّافِعِي. انْتهى. وَقيل: إِن الْمَشْهُور أَعم من الْمُتَوَاتر، وَهِي طَريقَة الْمُحدثين. قَالَ ابْن الصّلاح: وَمعنى الشُّهْرَة مَفْهُوم، ثمَّ اخْتلف الْقَائِل بِأَن مِنْهُ مستفيض، فَالْأَصَحّ أَنه مَا زَاد نقلته على ثَلَاثَة فَلَا بُد أَن يكون أَرْبَعَة فَصَاعِدا مَا لم يتواتر. وَهُوَ اخْتِيَار الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَجمع من أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَقطع بِهِ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ". وَقيل: مَا زَاد نقلته على اثْنَيْنِ، فَلَا بُد أَن يَكُونُوا ثَلَاثَة فَأكْثر. وَقيل: مَا زَاد نقلته على وَاحِد، فَلَا بُد أَن يَكُونُوا اثْنَيْنِ فَصَاعِدا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1806 اخْتَارَهُ الشَّيْخ أَبُو حَامِد، وَأَبُو إِسْحَاق، وَأَبُو حَاتِم الْقزْوِينِي، وَإِلَيْهِ ميل أبي الْمَعَالِي. وَقيل: ماعد شَائِعا. قَالَه فِي " جمع الْجَوَامِع " وَغَيره: وَهُوَ الشَّائِع عَن أصل. {وَقَالَ} الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بن يُوسُف بن {الْجَوْزِيّ} : وَهُوَ {مَا ارْتَفع عَن ضعف الْآحَاد، وَلم يلْحق بِقُوَّة التَّوَاتُر} فَلم يخص بِعَدَد، بل إِذا وجدت هَذِه الصّفة كَانَ مستفيضاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1807 قَوْله: {فصل} {أَحْمد، وَالْأَكْثَر: خبر الْوَاحِد الْعدْل يُفِيد الظَّن فَقَط} . هَذَا هُوَ الصَّحِيح عَن الإِمَام أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَالْأَكْثَر من الْعلمَاء - أَيْضا - غَيرهم، لاحْتِمَال السَّهْو والغلط وَنَحْوهمَا، نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد فِي رِوَايَة الْأَثْرَم، وَأَنه يعْمل بِهِ، وَلَا يشْهد أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1808 وَأطلق ابْن عبد الْبر، وَجَمَاعَة أَنه قَول جُمْهُور أهل الْفِقْه، والأثر وَالنَّظَر؛ لِأَنَّهُ لَو أَفَادَ الْعلم لتناقض معلومان عِنْد إِخْبَار عَدْلَيْنِ بمتناقضين فَلَا يتعارض خبران ولثبتت نبوة مدعي النُّبُوَّة بقوله بِلَا معْجزَة، ولكان كالمتواتر فيعارض بِهِ الْمُتَوَاتر، وَيمْتَنع التشكيك بِمَا يُعَارضهُ، وَكذبه، وسهوه، وغلطه، وَلَا يتزايد بِخَبَر ثَان، وثالث، ويخطئ من خَالفه بِاجْتِهَاد، وَذَلِكَ خلاف الْإِجْمَاع. وَعَن الإِمَام أَحْمد، وَاخْتَارَهُ طَائِفَة من الْمُحدثين، وَابْن أبي مُوسَى، وَغَيره من أَصْحَابنَا وَغَيرهم أَنه يُفِيد الْعلم. قَالَ الإِمَام أَحْمد فِي رِوَايَة حَنْبَل أَخْبَار الرُّؤْيَة حق نقطع على الْعلم بهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1809 وَقَالَ لَهُ الْمروزِي: هُنَا إِنْسَان يَقُول الْخَبَر يُوجب عملا، وَلَا يُوجب علما فعابه وَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا هَذَا. وَفِي كتاب " الرسَالَة ": عَن أَحْمد: لَا تشهد على أحد من أهل الْقبْلَة أَنه فِي النَّار إِلَّا أَن يكون فِي حَدِيث كَمَا جَاءَ نصدقه ونعلم أَنه كَمَا جَاءَ. قَالَ القَاضِي: ذهب إِلَى هَذَا جمَاعَة من الْأَصْحَاب أَنه يُفِيد الْعلم. وَذكره فِي مُقَدّمَة " الْمُجَرّد " عَن أَصْحَابنَا، وَجزم بِهِ ابْن أبي مُوسَى، وَقَالَهُ كثير من أهل الْأَثر، وَبَعض أهل النّظر، والظاهرية، وَابْن خويزمنداد الْمَالِكِي، وَأَنه يخرج على مَذْهَب مَالك، وَهُوَ قَول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1810 الْكَرَابِيسِي، وَحمل بَعضهم كَلَام أَحْمد على أَنه أَرَادَ الْخَبَر الْمَشْهُور، وَهُوَ الَّذِي صحت لَهُ أَسَانِيد مُتعَدِّدَة سَالِمَة عَن الضعْف وَالتَّعْلِيل، فَإِنَّهُ يُفِيد الْعلم النظري، لكنه لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كل أحد، بل إِلَى الْحَافِظ المتبحر. قَوْله: {تَنْبِيه: ظَاهر الأول وَلَو مَعَ قرينَة} ، يَعْنِي: أَن الْخلاف الْمُتَقَدّم يعم مَا إِذا وجد قرينَة تدل على صدقه أَو لَا. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَذكره جمَاعَة قَول الْأَكْثَر. يَعْنِي: أَن خبر الْوَاحِد لَا يُفِيد الْعلم وَلَو مَعَ قرينَة، وَقَالَهُ طَائِفَة من الْعلمَاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1811 قَالَ الْحَارِث المحاسبي فِي كتاب " فهم السّنَن ": هُوَ قَول أَكثر أهل الحَدِيث من أهل الرَّأْي وَالْفِقْه. وَقَالَ الشَّيْخ موفق الدّين، وَالسيف الْآمِدِيّ، وَابْن حمدَان، والطوفي، وَجمع كثير، مِنْهُم: الرَّازِيّ، والبيضاوي، وَابْن الْحَاجِب، والنظام، وَنَقله ابْن قَاضِي الْجَبَل عَن الْجُوَيْنِيّ، وَالْغَزالِيّ: أَنه يُفِيد الْعلم بالقرائن، وَنَقله غَيره عَنْهُمَا. وَهَذَا أظهر وَأَصَح، لَكِن قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: الْقَرَائِن لَا يُمكن أَن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1812 تضبط بِعِبَارَة. وَقَالَ غَيره: يُمكن أَن تضبط بِمَا تسكن إِلَيْهِ النَّفس كسكونها إِلَى الْمُتَوَاتر، أَو قريب مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يبْقى فِيهِ احْتِمَال عِنْده. وَمن الْقَرَائِن المفيدة للْقطع: الْإِخْبَار بِحَضْرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا يُنكره - على مَا يَأْتِي، أَو بِحَضْرَة جمع يَسْتَحِيل تواطؤهم على الْكَذِب، وَنَحْوه. قَالَ الشَّيْخ موفق الدّين: الْقَرَائِن قد تفِيد الْعلم بِلَا إِخْبَار. قَوْله: {وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ} من أَصْحَابنَا وَغَيرهم: {لَو نَقله آحَاد الْأَئِمَّة الْمُتَّفق على عدالتهم، وَدينهمْ من طرق مُتَسَاوِيَة، وتلقي بِالْقبُولِ أَفَادَ الْعلم، مِنْهُم القَاضِي} من أَئِمَّة أَصْحَابنَا {وَقَالَ: هَذَا الْمَذْهَب} ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1813 {و} مِنْهُم {أَبُو الْخطاب} من أَئِمَّة أَصْحَابنَا، {وَقَالَ: هَذَا ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا} ، وَلم يحك فِيهِ خلافًا. {و} مِنْهُم {ابْن الزَّاغُونِيّ وَالشَّيْخ} تَقِيّ الدّين، وَقَالَ: وَالَّذِي عَلَيْهِ الأصوليون من أَصْحَاب أبي حنيفَة، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد أَن خبر الْوَاحِد إِذا تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ، وَعَملا بِهِ يُوجب الْعلم، إِلَّا فرقة قَليلَة تبعوا طَائِفَة من أهل الْكَلَام أَنْكَرُوا ذَلِك. وَالْأول ذكره أَبُو إِسْحَاق، وَأَبُو الطّيب، وَذكره عبد الْوَهَّاب وَأَمْثَاله من الْمَالِكِيَّة، والسرخسي وَأَمْثَاله من الْحَنَفِيَّة، وَهُوَ الَّذِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1814 عَلَيْهِ أَكثر الْفُقَهَاء، وَأهل الحَدِيث، وَالسَّلَف، وَأكْثر الأشعرية، وَغَيرهم. انْتهى. وَقَالَ: إِن هَؤُلَاءِ اخْتلفُوا: هَل يشْتَرط علمهمْ بِصِحَّتِهِ قبل الْعَمَل؟ على قَوْلَيْنِ، وَقَالَ ابْن عقيل، وَابْن الْجَوْزِيّ، وَالْقَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني، وَأَبُو حَامِد، وَابْن برهَان، وَالْفَخْر الرَّازِيّ، والآمدي، وَغَيرهم: لَا يُفِيد الْعلم مَا نَقله آحَاد الْأَئِمَّة الْمُتَّفق عَلَيْهِم إِذا تلقي بِالْقبُولِ. حَكَاهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عَن أَكثر هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة. وَقَالَ ابْن الصّلاح: مَا أسْندهُ البُخَارِيّ، وَمُسلم الْعلم اليقيني النظري وَاقع بِهِ خلافًا لقَوْل من نفى ذَلِك محتجاً بِأَنَّهُ لَا يُفِيد فِي أَصله إِلَّا الظَّن، وَإِنَّمَا تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ؛ لِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِم الْعَمَل بِالظَّنِّ، وَالظَّن قد يُخطئ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1815 قَالَ: وَقد كنت أميل إِلَى هَذَا، وَأَحْسبهُ قَوِيا، ثمَّ بَان لي أَن الْمَذْهَب الَّذِي اخترناه أَولا هُوَ الصَّحِيح؛ لِأَن ظن من هُوَ مَعْصُوم من الْخَطَأ لَا يُخطئ، وَالْأمة فِي إجماعها معصومة من الْخَطَأ. وَقد سبقه إِلَى ذَلِك مُحَمَّد بن طَاهِر الْمَقْدِسِي، وَأَبُو نصر عبد الرَّحِيم ابْن عبد الْخَالِق بن يُوسُف. قَالَ النَّوَوِيّ: وَخَالف ابْن الصّلاح الْمُحَقِّقُونَ، وَالْأَكْثَرُونَ وَقَالُوا: يُفِيد الظَّن مَا لم يتواتر. انْتهى. وَقَالَ الْأُسْتَاذ: أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ يفِيدهُ عملا لَا قولا. قَوْله: {فَائِدَة: ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1816 أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَغَيرهم، وَحكي إِجْمَاعًا يعْمل بِهِ فِي الْأُصُول} - أَعنِي أصُول الدّين -، وَحَكَاهُ ابْن عبد الْبر إِجْمَاعًا. قَالَ الإِمَام أَحْمد: لَا نتعدى الْقُرْآن والْحَدِيث. {و} قَالَ {القَاضِي} أَبُو يعلى: يعْمل بِهِ فِيهَا {فِيمَا تَلَقَّتْهُ} الْأمة بِالْقبُولِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الإِمَام أَحْمد: قد تلقتها الْعلمَاء بِالْقبُولِ. وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: مَذْهَب الْحَنَابِلَة أَن أَخْبَار الْآحَاد المتلقاة بِالْقبُولِ تصلح لإِثْبَات أصُول الديانَات، ذكره القَاضِي أَبُو يعلى فِي مُقَدّمَة " الْمُجَرّد "، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " عقيدته ". انْتهى. وَقَالَ أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَغَيرهمَا: لَا يعْمل بِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1817 فِيهَا، وَقد تقدم قَرِيبا أَنه لَا يُفِيد الْعلم، وَإِنَّمَا يُفِيد الظَّن؛ لِأَن طريقها الْعلم وَلَا يفيدها خبر الْآحَاد. وَبنى الْبرمَاوِيّ وَغَيره الْمَسْأَلَة على أَنه يُفِيد الْعلم أَو لَا؟ إِن قُلْنَا: يُفِيد الْعلم عمل بِهِ فِيهَا، وَإِلَّا فَلَا. قَوْله: {وَلَا يكفر منكره فِي الْأَصَح} . أَي: لنا فِي تَكْفِير مُنكر خبر الْآحَاد وَجْهَان حَكَاهُمَا ابْن حَامِد عَن الْأَصْحَاب، وَنقل تكفيره عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه. وَالْخلاف مَبْنِيّ على الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّهُ يُفِيد الْعلم، أَو لَا، فَإِن قُلْنَا يُفِيد الْعلم كفر منكره، وَإِلَّا فَلَا، ذكره الْبرمَاوِيّ، وَغَيره، وَهُوَ الظَّاهِر، لَكِن التَّكْفِير بمخالفة الْمجمع عَلَيْهِ لابد أَن يكون مَعْلُوما من الدّين بِالضَّرُورَةِ - كَمَا سبق آخر الْإِجْمَاع - فَهَذَا أولى؛ إِذْ لَا يلْزم من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1818 الْقطع أَن يكفر منكره. وَذهب بَعضهم إِلَى أَن أصل الْخلاف فِي الْمَسْأَلَة لَفْظِي، وَالصَّحِيح خلاف ذَلِك، وَأَن للْخلاف فَوَائِد: مِنْهَا: الْخلاف فِي تَكْفِير منكره، وَمِنْهَا: قبُوله فِي أصُول الدّين إِن قُلْنَا يُفِيد الْعلم قبل وَإِلَّا فَلَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1819 قَوْله: {فصل} {إِذا أخبر وَاحِد بِحَضْرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم يُنكر، دلّ على صدقه ظنا، فِي ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا، وَغَيرهم} ، قَالَه ابْن مُفْلِح، {وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَغَيره لتطرق الِاحْتِمَال} . لاحْتِمَال أَنه مَا سَمعه، أَو مَا فهمه، أَو أَخّرهُ لأمر يُعلمهُ، أَو بَينه قبل ذَلِك الْوَقْت وَنَحْوه. {وَقيل:} يدل على صدقه {قطعا} ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يُقرر الْبَاطِل. وَقيل: إِن كَانَ الْأَمر دينياً دلّ على صدقه؛ لِأَنَّهُ بعث شَارِعا للْأَحْكَام فَلَا يسكت عَمَّا يُخَالف الشَّرْع بِخِلَاف الدنيوي؛ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يبْعَث لبَيَان الدنيويات، قَالَه فِي " الْمَحْصُول ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1820 قَوْله: {وَكَذَا لَو أخبر وَاحِد بِحَضْرَة جمع عَظِيم، وَلم يكذبوه} . إِذا أخبر وَاحِد بِحَضْرَة جمع عَظِيم وسكتوا عَن تَكْذِيبه فَفِيهِ الْخلاف، وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ والرازي: لَا يُفِيد إِلَّا الظَّن؛ إِذْ رُبمَا خَفِي عَلَيْهِم حَال ذَلِك الْخَبَر، وَالْقَوْل بِأَنَّهُ يبعد خفاؤه لَا يُفِيد الْقطع وَهُوَ ظَاهر، وَقدمه ابْن مُفْلِح وَنَصره. {وَقيل: إِن علم أَنه لَو كَانَ كَاذِبًا لعلموه، وَلَا دَاعِي إِلَى السُّكُوت، علم صدقه} ، قطع بِهِ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره "، وَتَبعهُ جمَاعَة. ورد ذَلِك: بِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه لم يُعلمهُ إِلَّا وَاحِد أَو اثْنَان، وَالْعَادَة لَا تحيل سكوتهما، ثمَّ يحْتَمل مَانع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1821 وَحمل القَاضِي الرِّوَايَة عَن أَحْمد فِي إِفَادَة خبر الْعدْل الْعلم على صور مِنْهَا: هَاتَانِ الصورتان المتقدمتان، وَهُوَ إِخْبَار وَاحِد بِحَضْرَتِهِ، أَو بِحَضْرَة جمع عَظِيم، نَقله ابْن مُفْلِح. قَالَ القَاضِي عضد الدّين: إِذا أخبر وَاحِد بِشَيْء بِحُضُور خلق كثير وَلم يكذبوه، فَإِن كَانَ مِمَّا يحْتَمل أَن لَا يعلموه مثل حَدِيث غَرِيب لَا يقف عَلَيْهِ إِلَّا الْأَفْرَاد لم يدل على صدقه أصلا. وَإِن كَانَ مِمَّا لَو كَانَ لعلموه فَإِن كَانَ مِمَّا يجوز أَن يكون لَهُم حَامِل على السُّكُوت من خوف أَو غَيره، لم يدل أَيْضا، وَإِن علم أَنه لَا حَامِل لَهُم عَلَيْهِ فَهُوَ يدل على صدقه قطعا. لنا: أَن سكوتهم، وَعدم تكذيبهم مَعَ علمهمْ بِالْكَذِبِ فِي مثله مُمْتَنع عَادَة، وَلَا يُقَال: لَعَلَّهُم مَا علمُوا، أَو علمه بَعضهم أَو جَمِيعهم وسكتوا؛ لأَنا نقُول: ذَلِك مَعْلُوم الانتفاء بِالْعَادَةِ. انْتهى. قَوْله: {قَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {وَمِنْه مَا تَلقاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْقبُولِ كإخباره عَن تَمِيم الدَّارِيّ} فِي قصَّة الْجَسَّاسَة - وَهُوَ فِي " صَحِيح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1822 مُسلم " - فَإِنَّهُ صدقه، وَوَافَقَ مَا كَانَ يخبر بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الدَّجَّال فَقبله. {وَمِنْه: إِخْبَار شَخْصَيْنِ عَن قَضِيَّة يتَعَذَّر عَادَة تواطؤهما عَلَيْهَا، أَو على كذب وَخطأ} ، قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " مُقْتَصرا عَلَيْهِ من غير خلاف، وَالظَّاهِر أَنه من تَتِمَّة كَلَام الشَّيْخ تَقِيّ الدّين؛ فَإِنَّهُ عقبه لكَلَامه وَلم نر هَذِه الْمَسْأَلَة فِي غير هَذَا الْكتاب. قَوْله: {وَيمْتَنع كتمان أهل التَّوَاتُر مَا يحْتَاج إِلَى نَقله} ، كامتناع الْكَذِب على عدد التَّوَاتُر عَادَة، فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1823 الْمَسْأَلَة الأولى: كتمان أهل التَّوَاتُر مَا يحْتَاج إِلَى نَقله مُمْتَنع، خلافًا للرافضة حَيْثُ قَالُوا: لَا يمْتَنع ذَلِك لاعتقادهم كتمان النَّص على إِمَامَة عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -، وَهَذَا وَالله لَا يَعْتَقِدهُ مُسلم يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يكون خير الْقُرُون الَّذين - رَضِي الله عَنْهُم - وَشهد لَهُم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْجنَّةِ وَقد أخبر الله تَعَالَى فِي كِتَابه عَنْهُم بِأَنَّهُ رَضِي عَنْهُم، يعلمُونَ أَن الْإِمَامَة يَسْتَحِقهَا عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - ويكتمون ذَلِك فِيمَا بَينهم، وَيُوَلُّونَ غَيره، هَذَا من أمحل الْمحَال الَّذِي لَا يرتاب فِيهِ مُسلم، وَلَكِن هَذَا من بهت الرافضة عَلَيْهِم من الله مَا يسْتَحقُّونَ وَأَن هَذَا فِي الْقبْح كتواطؤهم على الْكَذِب وَهُوَ محَال عَلَيْهِم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1824 واستدلت الرافضة لما ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِأَن النَّصَارَى وهم أَكثر أمة تركُوا نقل كَلَام الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام فِي المهد مَعَ أَنه من أعجب حَادث حدث فِي الأَرْض. قُلْنَا: لِأَنَّهُ كَانَ قبل نبوته، واتباعهم لَهُ، وَظُهُور أمره، وَلم يعن بذلك أحد، والدواعي إِنَّمَا تتوفر على نقل أَعْلَام النُّبُوَّة، وَقد نقل أَن حاضري كَلَامه لم يَكُونُوا كثيرين فاختل شَرط التَّوَاتُر فِي الطّرف الأول، وَكَذَا فِي الْوسط كقصة بخْتنصر وَقَتله النَّصَارَى حَتَّى لم يبْق مِنْهُم قدر عدد التَّوَاتُر. قلت: وَفِي هَذَا الْأَخير نظر فِيمَا يظْهر. الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: امْتنَاع الْكَذِب على عدد التَّوَاتُر عَادَة، وَهُوَ مَمْنُوع فِي الْعَادة، وَإِن كَانَ لَا يحيله الْعقل، وَهَذَا مَأْخَذ الْمَسْأَلَة الْمُتَقَدّمَة فِي جَوَاز مَا يحْتَاج إِلَى نَقله؛ لِأَنَّهُ إِذا جَازَ الْكَذِب فالكتمان أولى، وَالأَصَح عدم جَوَازه عَادَة لَا لذاته، وَلَا يلْزم من فرض وُقُوعه محَال. قَوْله: {فَلَو انْفَرد مخبر فِيمَا تتوفر الدَّوَاعِي على نَقله، وَقد شَاركهُ خلق كثير فكاذب قطعا، خلافًا للشيعة} فِيهِنَّ، مِثَال ذَلِك فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1825 ينْفَرد مخبر بِأَن ملك الْمَدِينَة قتل عقب الْجُمُعَة وسط الْجَامِع، أَو قتل خطيبها على الْمِنْبَر، فَإِنَّهُ يقطع بكذبه عِنْد الْجَمِيع من الْعلمَاء المعتبرين، وَخَالف فِي ذَلِك الشِّيعَة. لنا: الْكَذِب بِمثل هَذَا عَادَة فَإِنَّهَا تحيل السُّكُوت عَنهُ، وَلَو جَازَ كِتْمَانه لجَاز الْإِخْبَار عَنهُ بِالْكَذِبِ، وكتمان مثل مَكَّة، وبغداد وبمثله يقطع بكذب مدعي مُعَارضَة الْقُرْآن، وَالنَّص على إِمَامَة عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - كَمَا تدعيه الشِّيعَة، كَمَا تقدم عَنْهُم. وَلم تنقل شرائع الْأَنْبِيَاء لعدم الْحَاجة إِلَيْهَا، ونقلت شَرِيعَة مُوسَى، وَعِيسَى لتمسك قوم بهما، وَلَا كَلَام الْمَسِيح فِي المهد؛ لِأَنَّهُ قبل ظُهُوره، واتباعه - كَمَا تقدم -، ومعجزات نَبينَا مَا كَانَت بِحَضْرَة خلق كثير تواتراً وَلم يسْتَمر اسْتغْنَاء بِالْقُرْآنِ، وَإِلَّا فَلَا يلْزم؛ لِأَنَّهُ نَقله من رَآهُ، وَمثل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1826 إِفْرَاد الْإِقَامَة وإفراد الْحَج، ومسخ الْخُف، وَالرَّجم، لم يتْرك نَقله، فَمِنْهُ مَا تَوَاتر، وَمَا لم يتواتر لم يكن بِحَضْرَة خلق، أَو لجَوَاز الْأَمريْنِ، أَو اخْتِلَاف سَماع، أَو غير ذَلِك. وَقَوْلهمْ: يجوز ترك النَّقْل لغَرَض أَو اعْتِرَاض رد بِالْمَنْعِ لما سبق وَأَنه لَو جَازَ لجَاز كذبهمْ لذَلِك لِأَنَّهُمَا قَبِيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1827 قَوْله: {فصل} {يعْمل بِهِ فِي: الْفَتْوَى، وَالْحكم، وَالشَّهَادَة، والأمور الدُّنْيَوِيَّة إِجْمَاعًا} ، أَي: بِخَبَر الْوَاحِد. قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": يعْمل بِهِ بِالْإِجْمَاع فِي ثَلَاثَة أَمَاكِن: فِي الْفَتْوَى، وَفِي الحكم؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنى فَتْوَى وَزِيَادَة التَّنْفِيذ بِشُرُوطِهِ الْمَعْرُوفَة، وَفِي الشَّهَادَة سَوَاء شَرط الْعدَد أَو [لَا] لِأَنَّهُ لم يخرج عَن الْآحَاد، وَفِي الرِّوَايَة فِي الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة كالمعاملات وَنَحْوهَا. انْتهى. لَكِن قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": مَذْهَب كثير مِمَّن قَالَ لَا يقبل خبر الْوَاحِد لَا يلْزم قبُول قَول مفت وَاحِد. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَمِمَّنْ صرح بِأَن الثَّلَاثَة الأول مَحل وفَاق: الْقفال الشَّاشِي فِي كِتَابه وَالْمَاوَرْدِيّ، وَالرُّويَانِيّ، وَابْن ... ... ... ... ... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1828 السَّمْعَانِيّ. قَوْله: {وَيجوز الْعَمَل بهَا عقلا} ، هَذَا قَول جَمَاهِير الْعلمَاء، وَخَالف فِيهِ قوم مِنْهُم: الجبائي، وَأكْثر الْقَدَرِيَّة، وَبَعض الظَّاهِرِيَّة كالقاشاني، وَنَقله عَن الجبائي ابْن الْحَاجِب، لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: الصَّحِيح فِي النَّقْل عَنهُ تَفْصِيل يَأْتِي ذكره. انْتهى. لَكِن هَل فِي الشَّرْع مَا يمنعهُ، أَو لَيْسَ فِيهِ مَا يُوجِبهُ قَولَانِ. وَلنَا: لَا يلْزم مِنْهُ محَال، وَلَيْسَ احْتِمَال الْكَذِب، وَالْخَطَأ بمانع وَإِلَّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1829 لمنع فِي الشَّاهِد، والمفتي، وَلَا يلْزم الْأُصُول - لما سبق - فِي إفادته الْعلم، وَإِلَّا نقل لقَضَاء الْعَادة فِيهِ بالتواتر، وَلَا التَّعَبُّد فِي الْإِخْبَار عَن الله بِلَا معْجزَة؛ لِأَن الْعَادة تحيل صدقه بِدُونِهَا وَلَا التَّنَاقُض بالتعارض؛ لِأَنَّهُ ينْدَفع بالترجيح أَو التَّخْيِير أَو الْوَقْف، ثمَّ قُولُوا بالتعبد، وَلَا تعَارض؛ وَلِأَن بِالْعَمَلِ بِهِ دفع ضَرَر مظنون فَوَجَبَ أخذا بِالِاحْتِيَاطِ وقواطع الشَّرْع نادرة فاعتبارها يعطل أَكثر الْأَحْكَام، وَالرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَبْعُوث إِلَى الكافة، ومشافهتهم، وإبلاغهم بالتواتر مُتَعَذر فتعينت الْآحَاد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1830 وَالْمُعْتَمد فِي ذَلِك: أَن نصب الشَّارِع علما ظنياً على وجوب فعل تكليفي جَائِز بِالضَّرُورَةِ. ثمَّ إِن الْمُنكر لذَلِك إِن أقرّ بِالشَّرْعِ فتعبده بالحكم، والفتيا، وَالشَّهَادَة، وَالِاجْتِهَاد فِي الْقبْلَة، وَالْوَقْت وَنَحْوهَا من الظنيات ينْقض قَوْله: وَإِلَّا فَمَا ذَكرْنَاهُ قبل يُبطلهُ. ثمَّ إِذا أقرّ بِالشَّرْعِ، وَعرف قَوَاعِده، ومبانيه وَافق، وَالله أعلم. قَوْله: {وَلَا يجب} ، أَي: لَا يجب الْعَمَل بِهِ عقلا، وَهَذَا الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر. وَاخْتَارَ القَاضِي فِي " الْكِفَايَة "، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن سُرَيج، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1831 والقفال، والصيرفي، وَأَبُو الْحُسَيْن المعتزلي: يجب عقلا لاحتياج النَّاس إِلَى بعض الْأَشْيَاء من جِهَة الْخَبَر، وَفِي ترك ذَلِك أعظم الضَّرَر؛ وَلِأَن الْعَمَل بِهِ يُفِيد دفع ضَرَر مظنون، فَكَانَ الْعَمَل بِهِ وَاجِبا. وَتَقَدَّمت أَدِلَّة الْجَوَاز بِمَا يدْخل بَعْضهَا فِي أَدِلَّة الْوُجُوب، لَكِن الْبرمَاوِيّ نقل أَن بَعضهم اسْتغْرب النَّقْل عَن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة فِي الْوُجُوب عقلا، وَأجَاب عَن ذَلِك، وَأول كَلَامهم بِمَا يَقْتَضِي أَنهم لَا يوجبونه عقلا، وَنَقله أَيْضا عَن الإِمَام أَحْمد، وَاعْتذر عَنهُ بأعذار عدَّة. قَوْله: {وَيجب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد سمعا فِي الْأُمُور الدِّينِيَّة عندنَا، وَعند أَكثر الْعلمَاء} - مَحل الْخلاف الْآتِي فِي وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد فِي الْأُمُور الدِّينِيَّة. قَالَ القَاضِي: يجب عندنَا سمعا، وَقَالَهُ عَامَّة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1832 الْفُقَهَاء، والمتكلمين، وَهُوَ الصَّحِيح الْمُعْتَمد عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء من السّلف وَالْخلف. قَالَ ابْن الْقَاص: لَا خلاف بَين أهل الْفِقْه فِي قبُول خبر الْآحَاد، فأصحاب هَذَا القَوْل اتَّفقُوا على أَن الدَّلِيل السمعي دلّ عَلَيْهِ من الْكتاب، وَالسّنة، وَعمل الصَّحَابَة، ورجوعهم كَمَا ثَبت ذَلِك بالتواتر. لَكِن الجبائي اعْتبر لقبوله شرعا أَن يرويهِ اثْنَان فِي جَمِيع طبقاته، أَو يعضد بِدَلِيل آخر كظاهر أَو انتشاره فِي الصَّحَابَة أَو عمل بَعضهم بِهِ، كَحَدِيث أبي بكر فِي تَوْرِيث الْجدّة؛ لِأَنَّهُ رد خبر الْمُغيرَة فِيهِ حَتَّى شهد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1833 مَعَه مُحَمَّد بن سَلمَة، وَكَذَلِكَ عمر رد قَول أبي مُوسَى فِي الاسْتِئْذَان حَتَّى وَافقه أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ. وَالْجَوَاب: إِنَّمَا فعلا ذَلِك تثبتاً فِي قَضِيَّة خَاصَّة؛ وَلذَلِك حكما فِي وقائع كَثِيرَة بأخبار الْآحَاد. وَحكي عَن الجبائي أَيْضا؛ وَاخْتَارَهُ عبد الْجَبَّار المعتزلي: يعْتَبر لقبوله فِي الزِّنَا أَن يرويهِ أَرْبَعَة، فَلَا يحد بِخَبَر دَال على حد الزِّنَا [إِلَّا] أَن يرويهِ أَرْبَعَة قِيَاسا على الشَّهَادَة بِهِ. وَالْجَوَاب: هَذَا قِيَاس مَعَ الْفَارِق؛ إِذْ بَاب الشَّهَادَة أحوط؛ وَلذَلِك أَجمعُوا على اشْتِرَاط الْعدَد فِيهِ. وَمنع قوم من قبُول أَخْبَار الْآحَاد مُطلقًا، مِنْهُم: ابْن دَاوُد: وَبَعض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1834 الْمُعْتَزلَة، وَبَعض الْقَدَرِيَّة، وَنسبه التَّاج السُّبْكِيّ إِلَى الظَّاهِرِيَّة. وَكَذَلِكَ الرافضة، وناقضوا فأثبتوا تصدق عَليّ بِخَاتمِهِ فِي الصَّلَاة وَنِكَاح الْمُتْعَة، والنقض بِأَكْل لحم الْإِبِل، وَكلهَا إِنَّمَا ثَبت بِخَبَر الْآحَاد. قَالَ ابْن الْقَاص: لَا خلاف بَين أهل الْفِقْه فِي قبُول خبر الْآحَاد، وَإِنَّمَا دفع بعض أهل الْكَلَام خبر الْآحَاد لعَجزه عَن السّنَن، زعم أَنه لَا يقبل مِنْهَا إِلَّا مَا تَوَاتر، بِخَبَر من [لَا] يجوز عَلَيْهِ الْغَلَط وَالنِّسْيَان، وَهَذَا ذَرِيعَة إِلَى إبِْطَال السّنَن فَإِن مَا شَرطه لَا يكَاد يُوجد إِلَيْهِ سَبِيل. انْتهى، وَهُوَ كَمَا قَالَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1835 وَمنعه الْكَرْخِي من الْحَنَفِيَّة فِي الْحُدُود لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ادرأوا الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ " وَفِي خبر الْوَاحِد شُبْهَة. وَعبارَة أبي الْحُسَيْن فِي هَذَا القَوْل الْمَنْع فِيمَا يَنْتَفِي بِالشُّبْهَةِ، وَذَلِكَ أَعم من أَن يكون حدوداً، أَو غَيرهَا. قَالَ: أَيْضا فَإِن الْكَرْخِي يقبله فِي إِسْقَاط الْحُدُود، وَلَا يقبله فِي إِثْبَاتهَا. وَأَجَابُوا عَن قَول الْكَرْخِي أَن معنى الشُّبْهَة لَيْسَ احْتِمَال الْكَذِب، وَإِلَّا انْتقض بِالشَّهَادَةِ فِي الْحُدُود لاحتمالها الْكَذِب. وَمنعه قوم من الْحَنَفِيَّة فِي ابْتِدَاء النصب - أَي: نصب الزَّكَاة - بِخِلَاف الزِّيَادَة عَلَيْهَا؛ وَلذَلِك أوجبوا فِي الزِّيَادَة على خَمْسَة أوسق بحسابها بِخِلَاف السخال الَّتِي مَاتَت أمهاتها؛ فَإِنَّهُم لم يوجبوا فِيهَا لكَونهَا بعد موت الْأُمَّهَات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1836 مُعْتَبرَة اسْتِقْلَالا، وَهُوَ ضَعِيف لشمُول الحَدِيث للْكُلّ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالْفرق عِنْدهم أَن ابْتِدَاء النصب أصل، وَالزَّائِد فرع فَيقبل فِي النّصاب الزَّائِد على خَمْسَة أوسق، وَلَا يقبل فِي ابْتِدَاء نِصَاب الفصلان والعجاجيل؛ لِأَنَّهُ أصل. انْتهى. وَمنعه قوم فِيمَا عمل الْأَكْثَر بِخِلَافِهِ، يَعْنِي إِذا عمل أَكثر الْعلمَاء على خلاف خبر الْآحَاد، وَهُوَ مَرْدُود؛ لِأَن الْمُجْتَهد لَا يُقَلّد مُجْتَهدا فَيجوز أَن يكون عمل الْأَكْثَر لِاتِّفَاق اجتهادهم. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالْحق أَن عمل الْأَكْثَر مُرَجّح بِهِ، لَا مَانع. انْتهى. وَمنعه الْمَالِكِيَّة إِذا خَالفه عمل أهل الْمَدِينَة، يَعْنِي: إِذا خالفوا خبر الْآحَاد فعملوا على خِلَافه، فَإِذا عمِلُوا بِخِلَافِهِ لم يقبله الْمَالِكِيَّة؛ وَلِهَذَا لم يَقُولُوا بِخِيَار الْمجْلس الثَّابِت فِي " الصَّحِيحَيْنِ " لمُخَالفَة أهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1837 الْمَدِينَة. وَمنعه أَكثر الْحَنَفِيَّة فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى أَو خَالفه رَاوِيه، أَو عَارض الْقيَاس، فمما تعم بِهِ الْبلوى: الْجَهْر بالبسملة، وَحَدِيث مس الذّكر؛ لِأَن مَا تعم بِهِ الْبلوى تَقْتَضِي الْعَادة تواتره. وَالْجَوَاب: منع قَضَاء الْعَادة، وَقَوْلنَا: أَو خَالفه رَاوِيه؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا خَالفه لدَلِيل أقوى؛ وَلذَلِك لم يوجبوا التسبيع فِي ... ... . . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1838 الولوغ لمُخَالفَة أبي هُرَيْرَة لروايته. وَقَالَ صَاحب " البديع " مِنْهُم: إِذا خَالفه بعد الرِّوَايَة، فَإِن خَالفه قبلهَا لم ترد، وَكَذَا إِذا جهل التَّارِيخ. وَقَوْلنَا: أَو عَارض الْقيَاس خَبره إِذا كَانَ فَقِيها؛ فَإِنَّهُ يدل على رُجْحَان كذبه. فَعَن الْحَنَفِيَّة: لَا يقبل مَا عَارض الْقيَاس؛ وَلِهَذَا ردوا خبر الْمُصراة، وَقَيده الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره بِكَوْنِهِ عِنْد عدم فقه الرَّاوِي، فَإِن كَانَ فَقِيها فَلَا ترد، وَلَو خَالف الْقيَاس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1839 وَلَهُم قَول آخر فِي الْخَبَر الْمعَارض للْقِيَاس: إِن عرفت عِلّة الْقيَاس بِنَصّ رَاجِح على الْخَبَر الْمعَارض لَهُ، وَوجدت تِلْكَ الْعلَّة فِي الْفَرْع قطعا، فَالْقِيَاس يقدم، وَإِن لم يكن وجود الْعلَّة فِي الْفَرْع قَطْعِيا فالوقف، وَإِن انْتَفَى قَطْعِيَّة الْعلَّة فِي الْفَرْع يقبل الْخَبَر كَحَدِيث الْمُصراة فَإِنَّهُ مُخَالف لقياس ضَمَان الْمُتْلفَات. وَيَأْتِي بعد مَا تذكر أَدِلَّة الْأَقْوَال كَلَام القَاضِي وَأبي الْخطاب فِي الْمَسْأَلَة أَيْضا وتقييدها بِمَا قَالُوا. اسْتدلَّ لِلْجُمْهُورِ بِأَنَّهُ قد كثر جدا قبُوله، وَالْعَمَل بِهِ فِي الصَّحَابَة، وَالتَّابِعِينَ عملا شَائِعا من غير نَكِير، يحصل بِهِ إِجْمَاعهم عَلَيْهِ عَادَة قطعا، فَمِنْهُ: قَول أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - لما جَاءَتْهُ الْجدّة تطلب مِيرَاثهَا: مَالك فِي كتاب الله شَيْء، وَمَا عملت لَك فِي سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْئا فارجعي حَتَّى أسأَل النَّاس، فَسَأَلَ النَّاس، فَقَالَ الْمُغيرَة: حضرت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَاهَا السُّدس، فَقَالَ: مَعَك غَيْرك؟ فَقَالَ مُحَمَّد بن مسلمة مثله، فأنفذه لَهَا أَبُو بكر. رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه، وَالنَّسَائِيّ، وَالتِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1840 وَاسْتَشَارَ عمر النَّاس فِي الْجَنِين، فَقَالَ الْمُغيرَة، قضى فِيهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بغرة عبد أَو أمة، فَقَالَ: لتأتين بِمن يشْهد مَعَك، فَشهد لَهُ مُحَمَّد بن مسلمة. مُتَّفق عَلَيْهِ. وَلأبي دَاوُد من حَدِيث طَاوُوس عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ -: (لَو لم نسْمع هَذَا لقضينا بِغَيْرِهِ) . وَرَوَاهُ الشَّافِعِي، وَسَعِيد من حَدِيث طَاوُوس أَنه سَأَلَ عَن ذَلِك فَقَالَ: حمل ابْن مَالك أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى فِيهِ بغرة، وَقَول عمر ذَلِك وطاووس لم يُدْرِكهُ. وَأخذ عمر بِخَبَر عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فِي أَخذ الْجِزْيَة من الْمَجُوس. رَوَاهُ البُخَارِيّ. وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ لَا يُورث الْمَرْأَة من دِيَة زَوجهَا حَتَّى أخبرهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1841 الضَّحَّاك أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كتب إِلَيْهِ أَن يُورث امْرَأَة أَشْيَم من دِيَة زَوجهَا، رَوَاهُ مَالك، وَأحمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَصَححهُ. وروى هَؤُلَاءِ أَن عُثْمَان أَخذ بِخَبَر فريعة بنت مَالك أُخْت أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن عدَّة الْوَفَاة فِي منزل الزَّوْج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1842 وَفِي البُخَارِيّ عَن ابْن عمر: أَن سَعْدا حَدثهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مسح على الْخُفَّيْنِ، فَسَأَلَ ابْن عمر أَبَاهُ عَنهُ، فَقَالَ: نعم، إِذا حَدثَك سعد عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا تسْأَل عَنهُ غَيره. [و] رَجَعَ ابْن عَبَّاس إِلَى خبر أبي سعيد فِي تَحْرِيم رَبًّا الْفضل. رَوَاهُ الْأَثْرَم وَغَيره، وَقَالَهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره. وروى سعيد من طرق عدم رُجُوعه. وتحول أهل قبَاء إِلَى الْقبْلَة وهم فِي الصَّلَاة بِخَبَر وَاحِد، رَوَاهُ أَحْمد، وَمُسلم، وَأَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَمَعْنَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " من حَدِيث ابْن عمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1843 وَقَالَ ابْن عمر: مَا كُنَّا نرى بالمزارعة بَأْسا حَتَّى سَمِعت رَافع بن خديج يَقُول: نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهَا، فتركتها. وَللشَّافِعِيّ، وَمُسلم عَن ابْن عمر: كُنَّا نخابر، فَلَا نرى بذلك بَأْسا، فَزعم رَافع أَن نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَنهُ، فتركناه من أَجله. وَكَانَ زيد بن ثَابت يرى أَن لَا تصدر الْحَائِض حَتَّى تَطوف بِالْبَيْتِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1844 فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس: سل فُلَانَة الْأَنْصَارِيَّة، هَل أمرهَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذلك؟ فَأَخْبَرته فَرجع زيد وَهُوَ يضْحك فَقَالَ لِابْنِ عَبَّاس: مَا أَرَاك إِلَّا صدقت. رَوَاهُ مُسلم. وَغير ذَلِك مِمَّا يطول. لَا يُقَال: أَخْبَار آحَاد فَيلْزم الدّور؛ لِأَنَّهَا متواترة كَمَا سبق فِي أَخْبَار الْإِجْمَاع، وَلَا يُقَال: يحْتَمل أَن عَمَلهم بغَيْرهَا؛ لِأَنَّهُ محَال عَادَة، وَلم ينْقل، بل الْمَنْقُول خِلَافه كَمَا سبق، والسياق يدل عَلَيْهِ، وَلَا يُقَال: أنكر عمر خبر أبي مُوسَى فِي الاسْتِئْذَان حَتَّى رَوَاهُ أَبُو سعيد. مُتَّفق عَلَيْهِ. وَخبر فَاطِمَة بنت قيس فِي المبتوتة: لَا سُكْنى لَهَا وَلَا نَفَقَة. رَوَاهُ مُسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1845 وَأنْكرت عَائِشَة خبر ابْن عمر فِي تَعْذِيب الْمَيِّت ببكاء أَهله؛ لأَنهم قبلوه بموافقة غير الرَّاوِي، وَلم يتواتر وَلَا يدل على عدم قبُوله لَو انْفَرد، وَكَانَ عمر يفعل ذَلِك سياسة؛ وَلِهَذَا قَالَ لأبي مُوسَى: لم أتهمك، خشيت أَن يتقول النَّاس، أَو للريبة؛ وَلِهَذَا قَالَ عمر عَن خبر فَاطِمَة: كَيفَ نَتْرُك كتاب رَبنَا لقَوْل امْرَأَة، حفظت أَو نسيت؟ وَقَالَت عَائِشَة عَن ابْن عمر: مَا كذب وَلكنه وهم، مُتَّفق عَلَيْهِ، أَي: لم يتَعَمَّد. وَلَا يُقَال عَمَلهم بهَا لكَونهَا أَخْبَار مَخْصُوصَة، للْعلم بِأَن عَمَلهم لظُهُور صدقهَا لَا لخصوصها، كظاهر الْكتاب، والمتواتر. وَأَيْضًا تَوَاتر أَنه عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَأتم السَّلَام كَانَ يبْعَث الْآحَاد إِلَى النواحي؛ لتبليغ الْأَحْكَام مَعَ الْعلم بتكليف الْمَبْعُوث إِلَيْهِم الْعَمَل بذلك. وَلَا يُقَال: هَذَا من الْفتيا للعامي؛ لِأَن الِاعْتِمَاد على كتبه مَعَ الْآحَاد إِلَى الْأَطْرَاف، وَمَا يَأْمر بِهِ من قبض زَكَاة، وَغير ذَلِك، وَعمل الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ، وتأسوا بِهِ، وَذَلِكَ مَقْطُوع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1846 فَإِن قيل: قد بعث الْآحَاد إِلَى الْمُلُوك فِي الْإِسْلَام، وَلَا يقبل فِيهِ وَاحِد. رده بِالْمَنْعِ عِنْد القَاضِي وَغَيره، وَفِي " الرَّوْضَة " وَغَيرهَا: بَعثهمْ لتبليغ الرسَالَة، ورده أَبُو الْخطاب بِأَن دعاءه إِلَى الْإِسْلَام انْتَشَر فِي الْآفَاق فَدَعَاهُمْ للدخول فِيهِ على أَن ذَلِك طَرِيقه الْعقل، أَي: وَبعث للتّنْبِيه على إِعْمَال فكر وَنظر، وَقَالَهُ بَعضهم. وَاسْتدلَّ جمَاعَة من أَصْحَابنَا وَغَيرهم بِمثل قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يكتمون} [الْبَقَرَة: 159] ، {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ} [الحجرات: 6] ، {فلولا نفر} [التَّوْبَة: 122] الْآيَات. وَاعْترض وَأجِيب بِمَا سبق فِي آيَات الْإِجْمَاع، ثمَّ يلْزم الْمَنْع فِي قبُول الشَّاهِد والمفتي، والطبيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1847 وَاعْترض: بِخُصُوص هَذِه أَو عُمُوم الرِّوَايَة. رد بِأَصْل الْفَتْوَى. وَقَالَ أَبُو الْخطاب: مَذْهَب كثير من هَذِه الطَّائِفَة لَا يلْزم قبُول قَول مفت وَاحِد. وَأما توقفه - عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام - عَن قبُول قَول ذِي الْيَدَيْنِ فِي السَّلَام من الصَّلَاة عَن نقص حَتَّى أخبرهُ أَبُو بكر وَعمر فَإِنَّهُ لَا يقبل فِيهِ وَاحِد. ثمَّ للريبة لظُهُور الْغَلَط، ثمَّ لم يتواتر. وَاحْتج الْقَائِل بِهِ عقلا بِأَن الْعَمَل بِالظَّنِّ فِي تَفْصِيل جملَة علم وُجُوبهَا يجب عقلا كإخبار عدل بمضرة شَيْء، وَقيام من تَحت حَائِط مائل يجب؛ لِأَنَّهُ فِي تَفْصِيل مَا علم وُجُوبه وَهُوَ اخْتِيَار دفع المضار وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث للْمصَالح، وَدفع المضار فَالْخَبَر تَفْصِيل لَهَا. رد: الْعقل لَا يحسن، ثمَّ لم يجب فِي الْعقلِيّ، بل هُوَ أولى، وَإِن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1848 سلم عملا بِالْعَادَةِ، ولمعرفة الْمصلحَة فِيهَا، وَظن الْمضرَّة بالمخالفة، منع فِي الشَّرْعِيّ لعدم ذَلِك، وَإِن سلم فَهُوَ قِيَاس ظَنِّي فِي الْأُصُول، ثمَّ الْمَسْأَلَة دليلها قَطْعِيّ عِنْد الْعلمَاء، وَعند الْآمِدِيّ وَغَيره ظَنِّي وَسبق الْإِجْمَاع مثله فَهُنَا أولى، وَالله أعلم. قَوْله: فَقَالَ القَاضِي وَغَيره: إِن كَانَ للْعلم طَرِيق، إِلَى آخِره: معنى ذَلِك أَن مَحل الْخلاف إِذا تعذر الْعلم وَلم يتَوَصَّل إِلَيْهِ بطرِيق، فَأَما إِذا كَانَ للْعلم طَرِيق فَاخْتلف فِي ذَلِك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1849 قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": فَأَما إِن كَانَ للْعلم طَرِيق لم يجز الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد، ذكره القَاضِي وَغَيره هُنَا. وَذكر بعض أَصْحَابنَا عَن أبي الْخطاب: إِن أمكنه سُؤَاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فكاجتهاده، واختياره لَا يجوز، وَأَن بَقِيَّة أَصْحَابنَا القَاضِي، وَابْن عقيل: يجوز إِن أمكنه سُؤَاله أَو الرُّجُوع إِلَى التَّوَاتُر محتجين بِهِ فِي الْمَسْأَلَة. وَذكر القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب الْمَسْأَلَة فِيمَا بعد، وجزما بِالْجَوَازِ خلافًا لبَعْضهِم اكْتِفَاء بقول السعاة وَغَيرهم، وَلَا يمْتَنع فِي الْأَحْكَام كَالْوضُوءِ بِمَاء لَا قطع بِطَهَارَتِهِ وَعِنْده نهر مَقْطُوع بِطَهَارَتِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1850 وَكَذَا ذكر ابْن عقيل، وَفِي " التَّمْهِيد " فِي كَون قَول الصَّحَابِيّ حجَّة: منع عدُول مُتَمَكن من الْعلم إِلَى الظَّن، وَجوزهُ بَعضهم. قَالَ: وَلَا يجوز؛ لِأَنَّهُ لَا يجوز تعارضهما. انْتهى. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": قَالَ أَبُو الْخطاب: الحكم بِخَبَر الْوَاحِد عَن الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمن يُمكنهُ سُؤَاله مثل الحكم بِاجْتِهَادِهِ واختياره، أَنه لَا يجوز. وَالَّذِي ذكره بَقِيَّة أَصْحَابنَا القَاضِي وَابْن عقيل جَوَاز الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد لمن يُمكنهُ سُؤَاله أَو أمكنه الرُّجُوع إِلَى التَّوَاتُر محتجين بِهِ فِي الْمَسْأَلَة بِمُقْتَضى أَنه إِجْمَاع. وَهَذَا مثل قَول بعض أَصْحَابنَا: إِنَّه لَا يعْمل بقول الْمُؤَذّن مَعَ إِمْكَان الْعلم بِالْوَقْتِ، وَهَذَا القَوْل خلاف مَذْهَب أَحْمد، وَسَائِر الْعلمَاء المعتبرين، وَخلاف مَا شهِدت بِهِ النُّصُوص. وَذكر فِي مَسْأَلَة منع التَّقْلِيد أَن المتمكن من الْعلم لَا يجوز لَهُ الْعُدُول إِلَى الظَّن وَجعله مَحل وفَاق وَاحْتج بِهِ فِي الْمَسْأَلَة. انْتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1851 قَوْله " {فصل} {للراوي شُرُوط} . مِنْهَا: الْعقل إِجْمَاعًا؛ إِذْ لَا وازع لغير عَاقل يمنعهُ عَن الْكَذِب؛ وَلَا عبارَة أَيْضا، كالطفل. وَمِنْهَا: الْإِسْلَام إِجْمَاعًا لتهمة عَدَاوَة الْكَافِر للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولشرعه. وَمِنْهَا: الْبلُوغ عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم من الْعلمَاء لاحْتِمَال كذب من لم يبلغ كالفاسق، بل أولى؛ لِأَنَّهُ غير مُكَلّف فَلَا يخَاف الْعقَاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1852 وَاسْتدلَّ أَيْضا بِعَدَمِ قدرته على الضَّبْط، وَنقض بالمراهق. وَبِأَنَّهُ لَا يقبل إِقْرَاره على نَفسه، وَهَهُنَا أولى. وَنقض بالمحجور عَلَيْهِ، وَالْعَبْد. وَرُوِيَ عَن الإِمَام أَحْمد أَن شَهَادَة الْمُمَيز تقبل، وَعنهُ: ابْن عشر. وَاخْتلف الصَّحَابَة والتابعون فِيهَا فههنا أولى. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: تتخرج فِيهِ رِوَايَتَانِ، كشهادته. قَوْلهم يَصح الائتمام بِهِ بِنَاء على خَبره بِطَهَارَتِهِ وأذانه لبالغ. رد بِالْمَنْعِ، ثمَّ لَا تقف صِحَة صَلَاة الْمَأْمُوم على ذَلِك، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1853 وَفِيه نظر. قَوْله: {فَائِدَة: لَو تحمل صَغِيرا عَاقِلا ضابطاً، وروى كَبِيرا، قبل عِنْد الإِمَام أَحْمد} ، وَأكْثر الْعلمَاء؛ لإِجْمَاع الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ على قبُول مثل ابْن عَبَّاس، وَابْن الزبير، وأشباههما، ولإسماع الصَّغِير، وكالشهادة وَأولى. ويتحمل كَافِرًا أَو فَاسِقًا ويروي مُسلما عدلا. قَوْله: {وَمِنْهَا الضَّبْط} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1854 من شُرُوط صِحَة الرِّوَايَة الضَّبْط لِئَلَّا يُغير اللَّفْظ وَالْمعْنَى فَلَا يوثق بِهِ. قَالَ الإِمَام أَحْمد: لَا يَنْبَغِي لمن لَا يعرف الحَدِيث أَن يحدث بِهِ. وَالشّرط غَلَبَة ضَبطه وَذكره على سَهْوه لحُصُول الظَّن إِذا. ذكره الْآمِدِيّ وَجَمَاعَة. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ مُحْتَمل. وَفِي " الْوَاضِح " لِابْنِ عقيل قَول أَحْمد وَقيل لَهُ: مَتى يتْرك حَدِيث الرجل؟ قَالَ: إِذا غلب عَلَيْهِ الْخَطَأ. وَذكر أَصْحَابنَا فِي الْفِقْه: لَا تقبل شَهَادَة مَعْرُوف بِكَثْرَة غلط، وسهو، ونسيان، وَلم يذكرُوا هُنَا شَيْئا، فَالظَّاهِر مِنْهُم التَّسْوِيَة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1855 وَذكره جمَاعَة من الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم قَالُوا: إِذا لم يحدث من أصل صَحِيح وَلِأَن أَئِمَّة الحَدِيث تركُوا رِوَايَة كثير مِمَّن ضعف ضَبطه مِمَّن سمع كَبِيرا ضابطاً. قَوْله: {فَإِن جهل حَاله لم يقبل، ذكره الْمُوفق} فِي " الرَّوْضَة " {وَغَيره} ؛ لِأَنَّهُ لَا غَالب لحَال الروَاة. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَفِيه نظر: وَأَنه يحْتَمل مَا قَالَ الْآمِدِيّ يحمل على غَالب حَال الروَاة. فَإِن جهل حَالهم اعْتبر حَاله، فَإِن قيل: ظَاهر حَال الْعدْل لَا يروي إِلَّا مَا يضبطه. وَقد أنكر على أبي هُرَيْرَة الْإِكْثَار وَقبل. رد: لكنه لَا يُوجب ظنا للسامع، وَلم يُنكر على أبي هُرَيْرَة لعدم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1856 الضَّبْط، بل خيف ذَلِك لإكثاره. فَإِن قيل: الْخَبَر دَلِيل، وَالْأَصْل صِحَّته فَلَا يتْركهُ بِاحْتِمَال كاحتمال حدث بعد طَهَارَة. رد: إِنَّمَا هُوَ دَلِيل مَعَ الظَّن، وَلَا ظن مَعَ تَسَاوِي الْمعَارض، وَاحْتِمَال الْحَدث ورد على يَقِين الطُّهْر فَلم يُؤثر. قَوْله: {وَمِنْهَا الْعَدَالَة إِجْمَاعًا} لما سبق من الْأَدِلَّة وَهُوَ كَاف. قَوْله: {ظَاهرا، وَبَاطنا عِنْد أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهمَا} . قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": يحْتَمل ظَاهرا وَبَاطنا كَالشَّهَادَةِ. وَذكره الْآمِدِيّ عَن الْأَكْثَر، مِنْهُم: الشَّافِعِي وَأحمد. قلت: وَهَذَا الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ أَكثر الْعلمَاء، وَعند القَاضِي، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1857 وَابْن الْبَنَّا وَغَيرهمَا: تَكْفِي الْعَدَالَة ظَاهرا للْمَشَقَّة، كَمَا قُلْنَا فِي الشَّهَادَة، على رِوَايَة عَن أَحْمد، اخْتَارَهَا أَبُو بكر عبد الْعَزِيز من أَصْحَابنَا، وَصَاحب " رَوْضَة فقهنا ". قلت: الْخلاف هُنَا ينْزع إِلَى الْمَسْأَلَة الْآتِيَة قَرِيبا، وَهُوَ عدم [قبُول] رِوَايَة مَجْهُول الْحَال أَو قبُولهَا. قَوْله: {وَهِي صفة راسخة فِي النَّفس تحمل على مُلَازمَة التَّقْوَى والمروءة} ، وَترك الْكَبَائِر، والرذائل {بِلَاد بِدعَة مُغَلّظَة} . الْعَدَالَة لُغَة: التَّوَسُّط فِي الْأَمر من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان. وَقَوْلنَا: صفة راسخة فِي النَّفس المُرَاد بِالصّفةِ هِيَ الملكة؛ لأَنهم فسروها بهَا فالملكة هِيَ الصّفة الراسخة فِي النَّفس. أما الْكَيْفِيَّة النفسانية فِي أول حدوثها قبل أَن ترسخ فتسمى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1858 حَالا؛ وَلذَلِك عيب على صَاحب " البديع " فِي تَعْبِيره بِأَن الْعَدَالَة هَيْئَة فِي النَّفس؛ لشمولها الْحَال والملكة. وَهَذِه الصّفة الراسخة فِي النَّفس تحمل صَاحبهَا على مُلَازمَة التَّقْوَى، والمروءة، وَترك الْكَبَائِر والرذائل، وَيَأْتِي حد الْكَبِيرَة وحقيقتها. وَأما الرذائل الْمُبَاحَة فكالبول فِي الطَّرِيق، وَالْأكل فِي مجامع الْأَسْوَاق، وَنَحْوه. وَقَالَ الْمُوفق فِي " الْمقنع فِي الْفِقْه ": وَالْعَدَالَة اسْتِوَاء أَحْوَاله فِي دينه واعتدال أَقْوَاله وأفعاله. انْتهى. {فَلَا يَأْتِي كَبِيرَة} لِلْآيَةِ فِي الْقَاذِف، وَقس عَلَيْهِ الْبَاقِي من الْكَبَائِر. {وَقَالَ أَصْحَابنَا} وَغَيرهم: {إِن قذف بِلَفْظ الشَّهَادَة قبلت رِوَايَته} ؛ لِأَن نقص الْعدَد لَيْسَ من جِهَته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1859 زَاد القَاضِي فِي " الْعدة ": وَلَيْسَ بِصَرِيح فِي الْقَذْف، وَقد اخْتلفُوا فِي الْحَد، ويسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد، وَلَا ترد الشَّهَادَة بِمَا يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد. وَكَذَا زَاد ابْن عقيل. قَالَ الشِّيرَازِيّ فِي " اللمع ": وَأَبُو بكرَة وَمن شهد مَعَه تقبل روايتهم؛ لأَنهم أخرجُوا ألفاظهم مخرج الْإِخْبَار، لَا مخرج الْقَذْف، وجلدهم عمر بِاجْتِهَادِهِ. وَجزم صَاحب " الْمُغنِي " برد شَهَادَته، وبفسقه؛ لقَوْل عمر لأبي بكرَة: (إِن تبت قبلت شهادتك) . احْتج بِهِ الإِمَام أَحْمد وَغَيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1860 {وَاتفقَ النَّاس على الرِّوَايَة عَن أبي بكرَة} ، وَالْمذهب عِنْدهم: يحد. وَرُوِيَ عَن أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ: أَنه لَا يحد. قَالَ ابْن مُفْلِح: فَيتَوَجَّه من هَذِه الرِّوَايَة بَقَاء عَدَالَته، وَقَالَهُ الشَّافِعِيَّة، {وَهُوَ معنى مَا جزم بِهِ الْآمِدِيّ} ، وَمن وَافقه، وَأَنه لَيْسَ من الْجرْح؛ لِأَنَّهُ لم يُصَرح بِالْقَذْفِ اقْتصر على هَذَا. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَكَيف يُقَال مَعَ حَده عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وَصرح الْإِسْمَاعِيلِيّ بِالْفِسْقِ، وَفرق بِأَن الرِّوَايَة لَا تهمه فِيهَا، وَبِأَنَّهُ لَا يمْتَنع من قبُوله أحد مَعَ إِجْمَاعهم على منع الشَّهَادَة فَأجرى قبُول خَبره مجْرى الْإِجْمَاع. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ. قَالَ: وَالْأَظْهَر الْعَمَل بِالْآيَةِ، وَهَذَا رام وَإِلَّا لم يحد، وَلَا وَجه للتفرقة كَمَا قالته الْحَنَفِيَّة والمالكية، لَكِن إِن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1861 حد لم تقبله الْحَنَفِيَّة وَلَو تَابَ. وَقَضِيَّة أبي بكرَة وَاقعَة عين تَابَ مِنْهَا؛ فَلهَذَا روى النَّاس عَنهُ، وَمَات بعد الْخمسين، واسْمه نفيع بن الْحَرْث، وَهُوَ من جملَة من تسور جِدَار الطَّائِف وَجَاء فَأسلم، وَكَانَ عبدا. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: {صرح القَاضِي} فِي قِيَاس الشّبَه من " الْعدة " {بعدالة من أَتَى كَبِيرَة} لقَوْله تَعَالَى: فَمن ثقلت مَوَازِينه فَأُولَئِك هم المفلحون} الْآيَة: [الْمُؤْمِنُونَ: 102] ، {و} رُوِيَ {عَن أَحْمد فِيمَن أكل الرِّبَا إِن أَكثر لم يصل خَلفه} . قَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل: فَاعْتبر الْكَثْرَة. {و} قَالَ الْمُوفق {فِي " الْمُغنِي ": إِن أَخذ صَدَقَة مُحرمَة وتكرر ذَلِك مِنْهُ ردَّتْ} . انْتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1862 قَالَ فِي " الْفُرُوع ": وَظَاهر " الْكَافِي " فِي الْعدْل من رجح خَيره وَلم يَأْتِ كَبِيرَة. قَوْله: {وَأما الصَّغَائِر إِن كفرت باجتناب الْكَبَائِر} . قَالَ ابْن عقيل: أَو بمصائب الدُّنْيَا، وَيكفر بهما فِي الْأَصَح لم يقْدَح وَإِلَّا قدحت عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا. لم تدخل الصَّغَائِر مُطلقًا فِي حد الْعَدَالَة لما فِيهَا من التَّفْصِيل فَلذَلِك ذَكرنَاهَا على حِدة. فَنَقُول: الصَّغَائِر إِذا فعلهَا لَا يَخْلُو إِمَّا أَن نقُول: تكفر باجتناب الْكَبَائِر، أَو لَا، فَإِن قُلْنَا إِنَّهَا تكفر بذلك، وَهُوَ الصَّحِيح، وَهُوَ ظَاهر قَوْله تَعَالَى: {إِن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ} [النِّسَاء: 31] ، وَدلّ على ذَلِك السّنة، قَالَه جمَاعَة من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1863 أَصْحَابنَا، وَكثير من الْعلمَاء، وَحَكَاهُ بَعضهم إِجْمَاعًا، وَحَكَاهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد على الرافضي عَن أَكثر الْعلمَاء، وَاخْتَارَهُ. وَقيل: لَا تكفر بذلك. وعَلى القَوْل الأول قَالَ ابْن عقيل: وَكَذَلِكَ إِن قُلْنَا: تكفر بمصائب الدُّنْيَا، وَفِيه خلاف أَيْضا. وَالصَّحِيح - أَيْضا - أَنَّهَا تكفر بهَا للأحاديث فِي ذَلِك، وَاخْتَارَهُ أَيْضا الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد على الرافضي، وَحَكَاهُ عَن الْجُمْهُور. وَقَالَ أَيْضا فِي الْكتاب الْمَذْكُور - وَلم يثبت مِنْهُ -: فالصغائر تكفر باجتناب الْكَبَائِر عِنْد جَمَاهِير أهل السّنة. بل وَعنهُ: الْأَكْثَرُونَ مِنْهُم أَن الْكَبَائِر تمحى بِالْحَسَنَاتِ الَّتِي هِيَ أعظم، وبالمصائب المكفرة وَغير ذَلِك. انْتهى. قَوْله: {لم يقْدَح} ، يَعْنِي إِذا قُلْنَا: تكفر باجتناب الْكَبَائِر، أَو بمصائب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1864 الدُّنْيَا، وفعلها واجتنب الْكَبَائِر أَو أُصِيب بِشَيْء من مصائب الدُّنْيَا لم يقْدَح فعلهَا فِي الْعَدَالَة، وَلَا فِي الرِّوَايَة. وَإِن قُلْنَا: لَا تكفر بذلك قدحت، ومنعت الرِّوَايَة عَن صَاحبهَا على الصَّحِيح من الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ أَكثر أَصْحَابنَا، وَغَيرهم؛ وَلِأَنَّهُ صَحَّ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: لَا صَغِيرَة مَعَ إِصْرَار وَلَا كَبِيرَة مَعَ اسْتِغْفَار. رَوَاهُ ابْن جرير، وَابْن أبي حَاتِم. وَيتَوَجَّهُ إِن قيل: قَول الصَّحَابِيّ حجَّة، وَإِلَّا فَلَا، قَالَه ابْن مُفْلِح. وروى التِّرْمِذِيّ مَرْفُوعا: " لَا صَغِيرَة مَعَ إِصْرَار، وَلَا كَبِيرَة مَعَ اسْتِغْفَار " نَقله فِي " الْفُرُوع "، لَكِن قَالَ: وَفِي الْخَبَر الَّذِي فِي التِّرْمِذِيّ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1865 وَذكره، لَكِن يشْتَرط أَن يتَكَرَّر مِنْهُ، وَهُوَ قَوْله: {إِن تَكَرَّرت مِنْهُ تَكْرَارا يخل الثِّقَة بصدقه، وَهَذَا الصَّحِيح} . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله ": حد الْإِصْرَار الْمَانِع فِي الصَّغَائِر أَن يتَكَرَّر مِنْهُ تَكْرَارا يخل الثِّقَة بصدقه كملاً بسته الْكَبِيرَة. انْتهى. وَقطع الشَّيْخ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": {إِن غلب عَلَيْهِ الطَّاعَات لم يقْدَح} لقَوْله تَعَالَى: {فَمن يعْمل ... } الْآيَة [الْأَنْبِيَاء: 94، والزلزلة: 7] . {وَقيل: يقْدَح تكرارها} فِي الْجُمْلَة، وَقيل: ثَلَاثًا. قَالَه ابْن حمدَان فِي " الْمقنع "، و " آدَاب الْمُفْتِي ". {و} قَالَ {فِي " التَّرْغِيب " وَغَيره: يقْدَح كَثْرَة الصَّغَائِر وإدمان وَاحِدَة} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1866 وَقَالَ الْمُوفق فِي " الْمقنع ": لَا يدمن على صَغِيرَة. وَهَذَا الصَّحِيح، وَهُوَ مُرَاد الأول، وَعَلِيهِ أَكثر الْأَصْحَاب، وَهُوَ الَّذِي جزم بِهِ فِي " الْمُحَرر " و " الْوَجِيز "، و " تذكرة ابْن عَبدُوس "، وَغَيرهم، وَقدمه فِي " الْهِدَايَة "، و " الْمَذْهَب "، و " الْمُسْتَوْعب "، و " الْخُلَاصَة "، و " الْمقنع " للموفق، و " النّظم "، وَغَيرهم. فالإدمان هُنَا كَمَا قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله " كَمَا تقدم وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ فِي الْمَتْن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1867 قَوْله: {وَترد بِالْكَذِبِ - وَلَو تدين - فِي الحَدِيث عِنْد أَحْمد، وَمَالك وَغَيرهمَا} ، بل عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤمن عَلَيْهِ أَن يكذب فِيهِ. وَقيل: لَا ترد بذلك. وَعنهُ أَيْضا: ترد بكذبة وَاحِدَة، اخْتَارَهُ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " وَغَيره. وَاحْتج أَحْمد بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام رد شَهَادَة رجل فِي كذبه، وَإِسْنَاده جيد لكنه مُرْسل. رَوَاهُ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ والخلال، وَجعله فِي " التَّمْهِيد " إِن صَحَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1868 للزجر، وَفِيه وَعِيد فِي مَنَامه - عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام - فِي الصَّحِيح، وَفِي الصَّحِيح الزّجر عَن شَهَادَة الزُّور وَأَنَّهَا من الْكَبَائِر. وَذكر فِي " الْفُصُول " فِي الشَّهَادَة: أَن بَعضهم اخْتَار هَذِه الرِّوَايَة، وقاس عَلَيْهَا بَقِيَّة الصَّغَائِر. واختارها الشَّيْخ تَقِيّ الدّين نقلته من " الْإِنْصَاف "، وَهُوَ ظَاهر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1869 كَلَامه فِي " الْمُغنِي "، وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَن الكذبة الْوَاحِدَة لَا تقدح؛ للْمَشَقَّة وَعدم دَلِيله. وَذكر ابْن عقيل فِي الشَّهَادَة فِي " الْفُصُول ": أَنه ظَاهر مَذْهَب أَحْمد وَعَلِيهِ جُمْهُور أَصْحَابه. قَالَ ابْن عقيل: وَقِيَاس بَقِيَّة الصَّغَائِر عَلَيْهَا بعيد؛ لِأَن الْكَذِب مَعْصِيّة فِيمَا تحصل بِهِ الشَّهَادَة وَهُوَ الْخَبَر. انْتهى. وَلِهَذَا الْمَعْنى جزم بِهِ القَاضِي فِي الشَّهَادَة وَالْخَبَر للْحَاجة إِلَى صدق الْمخبر فَهُوَ أولى بِالرَّدِّ مِمَّا يُسمى فَاسِقًا. {وَأخذ هُوَ وَأَبُو الْخطاب} من هَذِه الرِّوَايَة {أَنَّهَا كَبِيرَة} كشهادته بالزور، وَكذبه على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، {وكالغيبة والنميمة على الْأَصَح} . اخْتلف فِي الْغَيْبَة والنميمة هَل هما من الصَّغَائِر، أَو من الْكَبَائِر؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1870 وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَنَّهُمَا من الْكَبَائِر، وَقدمه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " وَهُوَ ظَاهر مَا قدمه فِي " فروعه ". قَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا خلاف أَن الْغَيْبَة من الْكَبَائِر. وَقيل: من الصَّغَائِر، اخْتَارَهُ جمَاعَة من أَصْحَابنَا، مِنْهُم صَاحب " الْفُصُول "، و " الغنية "، و " الْمُسْتَوْعب ". قَوْله: {والكذبة الْوَاحِدَة فِي الحَدِيث تقدح فَلَا تقبل رِوَايَته وَإِن تَابَ} . نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَقَالَ: لَا تقبل مُطلقًا. وَقَالَهُ القَاضِي أَبُو يعلى وَغَيره من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1871 قَالَ القَاضِي لِأَنَّهُ زنديق، فَتخرج تَوْبَته على تَوْبَته وَفَارق الشَّهَادَة؛ لِأَنَّهُ قد يكذب فِيهَا لرشوة أَو تقرب إِلَى أَرْبَاب الدُّنْيَا. وَقَالَ ابْن عقيل: هَذَا فرق بعيد؛ لِأَن الرَّغْبَة إِلَيْهِم بأخبار الرَّجَاء أَو الْوَعيد غَايَته الْفسق. وَظَاهر كَلَام جمَاعَة من أَصْحَابنَا أَن تَوْبَته تقبل. وَقَالَ كثير من الْعلمَاء - مِنْهُم أَبُو بكر الشَّامي -: لَكِن فِي غير مَا كذب فِيهِ، كتوبته فِيمَا أقرّ بتزويره. {وَقبلهَا الدَّامغَانِي} الْحَنَفِيّ فِيهِ - أَيْضا -، قَالَ: لِأَن ردهَا لَيْسَ بِحكم، ورد الشَّهَادَة حكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1872 قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: سَأَلت أَبَا بكر الشَّامي عَنهُ فَقَالَ: لَا يقبل خَبره فِيمَا رد وَيقبل فِي غَيره اعْتِبَارا بِالشَّهَادَةِ. قَالَ: وَسَأَلت قَاضِي الْقُضَاة الدَّامغَانِي، فَقَالَ: يقبل حَدِيثه الْمَرْدُود وَغَيره بِخِلَاف شَهَادَته إِذا ردَّتْ ثمَّ تَابَ لم تقبل تِلْكَ خَاصَّة، قَالَ: لِأَن هُنَاكَ حكما من الْحَاكِم بردهَا فَلَا ينْقض، ورد الْخَبَر مِمَّن روى لَهُ لَيْسَ بِحكم. انْتهى. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَهَذَا يتَوَجَّه لَو رددنا الحَدِيث لفسقه، بل يَنْبَغِي أَن يكون هُوَ الْمَذْهَب، فَأَما إِذا علمنَا كذبه فِيهِ فَأَيْنَ هَذَا من الشَّهَادَة؟ فنظيره أَن يَتُوب من شَهَادَة زور ويقر فِيهَا بالتزوير. انْتهى. قَوْله: {وَلم يفرق أَصْحَابنَا وَغَيرهم فِي الصَّغَائِر} ، بل أطْلقُوا فَظَاهره أَنه لَا فرق؛ بل ذكر أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " التطفيف مِنْهَا، وَاعْتبر التّكْرَار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1873 وَقَالَ الْآمِدِيّ وَمن وَافقه: إِن مثل سَرقَة لقْمَة، والتطفيف بِحَبَّة، وَاشْتِرَاط أَخذ الْأُجْرَة على سَماع الحَدِيث يعْتَبر تَركه كالكبائر بِلَا خلاف. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَقد قَالَ الإِمَام أَحْمد فِي اشْتِرَاط أَخذ الْأُجْرَة: لَا يكْتب عَنهُ الحَدِيث، وَلَا كَرَامَة. وَقَالَهُ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَأَبُو حَاتِم. قَالَ القَاضِي: هُوَ على الْوَرع؛ لِأَنَّهُ مُجْتَهد. وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": هَذَا غلط؛ لِأَنَّهُ أَكثر دناءة من الْأكل على الطَّرِيق. يُؤَيّد مَا ذكره نقل أبي الْحَارِث: هَذِه طعمة سوء. وَحمله ابْن عقيل على أَنه فرض كِفَايَة، قَالَ: {فَإِن قطعه عَن شغله فكنسخ حَدِيث، ومقابلته خلافًا للحنفية} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1874 قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: وَيعْتَبر ترك مَا فِيهِ دناءة وَترك مُرُوءَة كأكله فِي السُّوق بَين النَّاس الْكثير، وَمد رجلَيْهِ أَو كشف رَأسه بَينهم، وَالْبَوْل فِي الشوارع، واللعب بالحمام، وصحبة الأرذال، والإفراط فِي المزح؛ لحَدِيث أبي مَسْعُود البدري: " إِذا لم تَسْتَحي فَاصْنَعْ مَا شِئْت " رَوَاهُ البُخَارِيّ. أَي: صنع مَا شَاءَ فَلَا يوثق بِهِ، لَكِن يعْتَبر تكْرَار ذَلِك كالصغائر، وَمن ذَلِك من صَنعته دنيئة عرفا، وَلَا ضَرُورَة كحجام، وزبال، وقراد، لَكِن الصَّحِيح لَا يقْدَح إِذا حسنت طريقتهم لحَاجَة النَّاس إِلَيْهَا. وَقيل: تقدح، وَكَذَا حائك، وحارس، ودباغ. وَتعْتَبر هَذِه الشُّرُوط للشَّهَادَة، وَلَا يعْتَبر للرواية غير ذَلِك فَتقبل رِوَايَة عبد وَغَيره على مَا يَأْتِي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1875 قَوْله: {فَائِدَة: نفى الْأُسْتَاذ، والباقلاني، وَابْن فورك، والقشيري، والسبكي، الصَّغَائِر، وَجعلُوا الْكل كَبَائِر} . قَالَ الْبرمَاوِيّ: القَوْل بانقسام الذَّنب إِلَى صغائر وكبائر عَلَيْهِ الْجُمْهُور. وَقَالَ الْأُسْتَاذ، وَالْقَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني، وَابْن الْقشيرِي: إِن جَمِيع الذُّنُوب كَبَائِر. وَنَقله ابْن فورك عَن الأشعرية، وَاخْتَارَهُ نظرا إِلَى من عصى الله عز وَجل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1876 قَالَ الْقَرَافِيّ: كَأَنَّهُمْ كَرهُوا تَسْمِيَة مَعْصِيّة الله تَعَالَى صَغِيرَة إجلالاً لَهُ مَعَ موافقتهم فِي الْجرْح أَنه لَيْسَ بِمُطلق الْمعْصِيَة؛ بل مِنْهُ مَا يقْدَح، وَمِنْه مَا لَا يقْدَح، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي التَّسْمِيَة. انْتهى. اسْتدلَّ الْجُمْهُور بقوله: {إِن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ} [النِّسَاء: 31] ، الْآيَة: وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي تَكْفِير الصَّلَوَات الْخمس وَالْجُمُعَة مَا بَينهمَا إِذا اجْتنبت الْكَبَائِر؛ إِذْ لَو كَانَ الْكل كَبَائِر لم يبْق بعد ذَلِك مَا يكفر بِمَا ذكر، وَفِي الحَدِيث الْكَبَائِر سبع وَفِي رِوَايَة تسع وعدوها، فَلَو كَانَت الذُّنُوب كلهَا كَبَائِر لما سَاغَ ذَلِك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1877 قلت: وَمَا أحسن مَا قَالَ الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": إِن أَرَادوا إِسْقَاط الْعَدَالَة فقد خالفوا الْإِجْمَاع، وَإِن أَرَادوا قبح الْمعْصِيَة نظرا إِلَى كبريائه تَعَالَى، وَأَن مُخَالفَته لَا تعد أمرا صَغِيرا فَنعم القَوْل. انْتهى. قَوْله: {والكبيرة عِنْد أَحْمد وَنقل عَن ابْن عَبَّاس مَا فِيهِ حد فِي الدُّنْيَا، أَو وَعِيد فِي الْآخِرَة} . زَاد الشَّيْخ} وَأَتْبَاعه: {أَو لعنة، أَو غضب، أَو نفي إِيمَان} ، إِلَى آخِره. الْقَائِل بِأَن الذُّنُوب كَبَائِر وصغائر، اخْتلفُوا فِي حد الْكَبِيرَة اخْتِلَافا كثيرا، فَقيل: لَا يعرف ضابطها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1878 {قَالَ القَاضِي فِي " الْمُعْتَمد ": معنى الْكَبِيرَة أَن عقابها أعظم، وَالصَّغِيرَة أقل، {لَا يعلمَانِ إِلَّا بتوقيف} . قَالَ الواحدي: الصَّحِيح أَن الْكَبَائِر لَيْسَ لَهَا حد تعرف بِهِ وَإِلَّا لاقتحم النَّاس الصَّغَائِر، واستباحوها، وَلَكِن الله تَعَالَى أخْفى ذَلِك عَن الْعباد ليجتهدوا فِي اجْتِنَاب الْمنْهِي عَنهُ رَجَاء أَن تجتنب الْكَبَائِر، نَظِيره: إخفاء الصَّلَاة الْوُسْطَى، وَلَيْلَة الْقدر، وَسَاعَة الْإِجَابَة فِي الْجُمُعَة، وَقيام السَّاعَة، وَنَحْو ذَلِك. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: ضابطها مَعْرُوف، فَقَالَ الإِمَام أَحْمد: الْكَبِيرَة مَا فِيهِ حد فِي الدُّنْيَا، أَو وَعِيد فِي الْآخِرَة لوعد الله مجتنبيها بتكفير الصَّغَائِر. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلِأَنَّهُ معنى قَول ابْن عَبَّاس، ذكره، أَحْمد، وَأَبُو عبيد، زَاد الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَأَتْبَاعه: أَو لعنة الله، أَو غضب أَو نفي الْإِيمَان، قَالَ: وَلَا يجوز أَن يَقع نفي الْإِيمَان لأمر مُسْتَحبّ، بل لكَمَال وَاجِب، قَالَ: وَلَيْسَ لأحد أَن يحمل كَلَام أَحْمد إِلَّا على معنى يبين من كَلَامه مَا يدل على أَنه مُرَاده، لَا على مَا يحْتَملهُ اللَّفْظ من كَلَام كل أحد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1879 وَفِي كَلَام ابْن حَامِد أَن نفي الْإِيمَان مخرج إِلَى الْفسق. وَذكر الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَيْضا مَا مَعْنَاهُ إِنَّمَا ورد فِيهِ لفظ الْكفْر أَو الشّرك للتغليط، وَأَنه كَبِيرَة. انْتهى. {وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: مَا تعلق} بِحَق الله صَغِيرَة، وَمَا تعلق {بِحَق الْآمِدِيّ} كَبِيرَة. وَقيل: مَا فِيهِ وَعِيد شَدِيد بِنَصّ كتاب الله أَو سنة، وَنسب إِلَى الْأَكْثَر. وَقيل: مَا أوجب حدا، وَمَال إِلَيْهِ جمَاعَة. وَقَالَ الْهَرَوِيّ: كل مَعْصِيّة يجب فِي جِنْسهَا حد، من قتل، أَو غَيره، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1880 وَترك كل فَرِيضَة مَأْمُور بهَا على الْفَوْر، وَالْكذب فِي الشَّهَادَة، وَالرِّوَايَة وَالْيَمِين. وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: الْكَبِيرَة كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بِالدّينِ، ورقة الدّيانَة. وَرجحه كثير من الْعلمَاء، وَعدد ذَلِك فِي " جمع الْجَوَامِع ". فَائِدَة: قَالَ العلائي فِي " قَوَاعِده " الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْكَبَائِر فِي مَجْمُوع أَحَادِيث كَثِيرَة، وَأَنه كتبهَا فِي مُصَنف مُنْفَرد: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1881 الشّرك بِاللَّه تَعَالَى، وَقتل النَّفس بِغَيْر حق، وَالزِّنَا وأفحشه بحليلة الْجَار، والفرار من الزَّحْف، وَالسحر، وَأكل الرِّبَا، وَأكل مَال الْيَتِيم، وَقذف الْمُحْصنَات، والاستطالة فِي عرض الْمُسلم بِغَيْر حق، وَشَهَادَة الزُّور، وَالْيَمِين الْغمُوس، والنميمة، وَالسَّرِقَة، وَشرب الْخمر، وَاسْتِحْلَال بَيت الله الْحَرَام، ونكث الصَّفْقَة، وَترك السّنة، وَالتَّعَرُّب بعد الْهِجْرَة، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، وَمنع ابْن السَّبِيل من فضل المَاء، وَعدم التَّنَزُّه من الْبَوْل، وعقوق الْوَالِدين، والتسبب إِلَى شتمهما، والإضرار فِي الْوَصِيَّة. هَذَا مَجْمُوع مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيث مَنْصُوصا عَلَيْهِ أَنه كَبِيرَة. انْتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1882 قَوْله: {فصل} {أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، والمعظم مِنْهُم الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم: لَا تقبل رِوَايَة مُبْتَدع دَاعِيَة} ، وعللوا ذَلِك بخوف الْكَذِب لموافقة هَوَاهُ: وَنقض ذَلِك بالداعية فِي الْفُرُوع. وَلم يفرق الْحَنَفِيَّة، والآمدي، وَجَمَاعَة بَين الداعية وَغَيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1883 وَقَبله بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَحكي عَن الشَّافِعِي. وَقَالَ ابْن عقيل فِي الْكَفَاءَة من " الْفُصُول ": إِن دَعَا كفر، قَالَ: وَالصَّحِيح لَا كفر؛ لِأَن أَحْمد أجَاز الرِّوَايَة عَن الحرورية، والخوارج. قَوْله: {وَفِي غَيره} ، أَي: غير الداعية من المبتدعة {رِوَايَات} عَن الإِمَام أَحْمد: إِحْدَاهَا الْقبُول، اخْتَارَهَا أَبُو الْخطاب من الْأَصْحَاب، وَقَالَهُ أَبُو الْحُسَيْن المعتزلي، وَغَيره. وَأطْلقهُ الْحَنَفِيَّة؛ لعدم عِلّة الْمَنْع، وَلما فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيرهمَا من المبتدعة كالقدرية والخوارج والرافضة والمرجئة، وَرِوَايَة السّلف وَالْأَئِمَّة عَنْهُم فَهُوَ إِجْمَاع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1884 لَا يُقَال: قد تكلم فِي بَعضهم؛ لِأَنَّهُ أُرِيد معرفَة حَالهم أَو للترجيح عِنْد التَّعَارُض، ثمَّ يحصل الْمَقْصُود بِمن لم يتَكَلَّم فِيهِ، وَلَا يلْزم من رده رد الْجَمِيع، أَو الْأَكْثَر لِكَثْرَة تفسيق الطوائف وتكفير بَعضهم بَعْضًا؛ وَلِأَنَّهَا حَاجَة عَامَّة فَهِيَ أولى من تَصْدِيقه أَنه ملكه، وَفِي اسْتِئْذَانه، وإرساله بهدية وَهِي إِجْمَاع. ذكره الْقُرْطُبِيّ وَخص الْآيَة بِهِ، وَلَا تُهْمَة لعُمُوم رِوَايَته لَهُ وَلغيره؛ وَلِأَنَّهُ يوثق بِهِ لتدينه، وكفره بِتَأْوِيل أخطاء فِيهِ وَهُوَ يظنّ أَنه على حق، وَلم يبتغ غير الْإِسْلَام دينا بِخِلَاف غَيره فَإِنَّهُ يقدم على مَا يَعْتَقِدهُ محرما لغرضه فَمثله يكذب وَلَا يوثق بِهِ. وَاعْترض بقول الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن جَاءَكُم فَاسق} [الحجرات: 6] الْآيَة. أُجِيب: بِمَنْع فسقه عِنْد بعض أَصْحَابنَا، وَغَيرهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1885 وَقَالَهُ ابْن عقيل فِي غير الداعية، وَقَالَهُ القَاضِي فِي " شرح الْخرقِيّ " فِي الْمُقَلّد: قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَنهى أَحْمد عَن الْأَخْذ عَنْهُم إِنَّمَا هُوَ لهجرهم، وَهُوَ يخْتَلف بالأحوال والأشخاص؛ وَلِهَذَا لم يرو الْخلال عَن قوم لنهي الْمَرْوذِيّ، ثمَّ روى عَنْهُم بعد مَوته. وَلِهَذَا جعل القَاضِي الدَّاعِي إِلَى الْبِدْعَة قسما غير دَاخل فِي مُطلق الْعَدَالَة، ثمَّ المُرَاد غير المبتدع بِدَلِيل مَا سبق، وسببها وسياقها. وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة: عدم الْقبُول، وَهُوَ قَول مَالك، وَالْقَاضِي من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1886 أَصْحَابنَا، وَغَيره، والباقلاني، والآمدي، والجبائية، وَجَمَاعَة كَمَا لَو تدين بِالْكَذِبِ كالخطابية من الرافضة، وَهُوَ يظنّ أَنه على حق لما سبق. والخطابية نِسْبَة إِلَى أبي الْخطاب، وَهُوَ من مَشَايِخ الرافضة، وَكَانَ يَقُول بإلهية جَعْفَر الصَّادِق، ثمَّ ادّعى الإلهية لنَفسِهِ عَلَيْهِ لعائن الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ، وَهُوَ وَأَتْبَاعه يسْتَحلُّونَ الْكَذِب فِي نصْرَة مَذْهَبهم فيرون الشَّهَادَة بالزور لموافقهم على مخالفهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1887 قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: مَا فِي أهل الْأَهْوَاء قوم أشهد بالزور من الرافضة. وَالرِّوَايَة الثَّالِثَة: {الْقبُول مَعَ بِدعَة مفسقة لَا مكفرة} ، وَهَذَا قَول الإِمَام الشَّافِعِي، وَأكْثر الْفُقَهَاء، وَبَعض الْحَنَفِيَّة؛ لعظم الْكفْر، فيضعف الْعذر، ويقوى عدم الوثوق، وَلم يفرقُوا بَين الْمُكَفّر وَغَيره. وَقد قَالَ أَبُو الْخطاب عَن قَول الإِمَام أَحْمد: (يكْتب عَن الْقَدَرِيَّة) : وهم كفار عِنْده، وَكَذَا اخْتَارَهُ بعض الشَّافِعِيَّة، وَقَالَ بعض الْعلمَاء: من كفره فَهُوَ كالكافر عِنْده، وَأَن الْخلاف فِي قبُوله مَعَ بِدعَة وَاضِحَة وَإِلَّا قبل لقُوَّة الشّبَه من الْجَانِبَيْنِ. {وَقَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {كَلَام أَحْمد يفرق بَين أَنْوَاع الْبدع وَبَين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1888 الْحَاجة إِلَى الرِّوَايَة عَنْهُم وَعدمهَا} . قَالَ الإِمَام أَحْمد: احملوا عَن المرجئة الحَدِيث، وَيكْتب عَن القدري إِذا لم يكن الداعية، واستعظم الرِّوَايَة عَن رجل وَهُوَ سعد الْعَوْفِيّ، وَقَالَ: ذَلِك جهمي امتحن فَأجَاب وَأَرَادَ بِلَا إِكْرَاه. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي " شرح مُقَدّمَة مُسلم ": إِن الْعلمَاء من الْمُحدثين وَالْفُقَهَاء والأصوليين قَالُوا: لَا تقبل رِوَايَة من كفر ببدعته اتِّفَاقًا. انْتهى. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا الْمُتَأَخِّرين - وَهُوَ القَاضِي عَلَاء الدّين البعلي -: إِن كَانَت بِدعَة أحدهم مُغَلّظَة كالتجهم ردَّتْ رِوَايَته، وَإِن كَانَت متوسطة كالقدر ردَّتْ إِن كَانَ دَاعِيَة، وَإِن كَانَت خَفِيفَة كالإرجاء فَهَل تقبل مَعهَا مُطلقًا أم ترد ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1889 عَن الداعية؟ رِوَايَتَانِ، هَذَا تَحْقِيق مَذْهَبنَا. قَوْله: {فَائِدَة: المبتدعة أهل الْأَهْوَاء} ؛ إِذا أطلق الْعلمَاء لَفْظَة المبتدعة فَالْمُرَاد بِهِ أهل الْأَهْوَاء من الْجَهْمِية، والقدرية، والمعتزلة، والخوارج، وَالرَّوَافِض وَمن نحا نحوهم، وَلَيْسَ الْفُقَهَاء مِنْهُم على الصَّحِيح عِنْد الْعلمَاء، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": قَالَه ابْن عقيل وَغَيره، وَهُوَ الْمَعْرُوف عِنْد الْعلمَاء وَهُوَ أولى. وَخَالف القَاضِي أَبُو يعلى وَابْن الْبَنَّا، وَجمع فأدخلوهم فِي أهل الْأَهْوَاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1890 قَوْله: {فَمن شرب نبيذاً مُخْتَلفا فِيهِ حد عندنَا، وَلم يفسق، كالشافعي} . قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: {وَفِيه نظر} ؛ لِأَن الْحَد أضيق. ورد: الشَّهَادَة أوسع؛ وَلِأَنَّهُ يلْزم من الْحَد التَّحْرِيم فيفسق بِهِ، أَو إِن تكَرر. وَعَن أَحْمد: يفسق، اخْتَارَهُ ابْن أبي مُوسَى فِي " الْإِرْشَاد "، وَأَبُو الْفرج الشِّيرَازِيّ فِي " الْمُبْهِج " وفَاقا للْإِمَام مَالك؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْمجمع عَلَيْهِ وللسنة المستفيضة فِي ذَلِك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1891 وَعَن أَحْمد رِوَايَة ثَالِثَة: لَا حد عَلَيْهِ، وَلَا يفسق بذلك. اخْتَارَهُ أَبُو ثَوْر، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَهُوَ قوي للْخلاف فِيهِ كَغَيْرِهِ؛ وَلِئَلَّا يفسق بِوَاجِب يَفْعَله مُعْتَقدًا وُجُوبه فِي مَوضِع، وَلَا أثر لاعتقاد الْإِبَاحَة. وَمثل الْمَسْأَلَة مُتْعَة النِّكَاح، إِن قيل: لَا إِجْمَاع فِيهَا؛ وَلِهَذَا سوى بَينهمَا القَاضِي فِي " الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة "، وَمثله رَبًّا الْفضل، وَالْمَاء من المَاء. وَذكر بعض أَصْحَابنَا - قِيَاس رِوَايَة فسق الشَّارِب النَّبِيذ - من لعب بشطرنج، وَتسمع غناء بِلَا آلَة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1892 {تَنْبِيه: مَحَله فِي مُجْتَهد أَو مقلد، وَإِلَّا فَيحرم الْقدوم على مَا لَا يعلم جَوَازه إِجْمَاعًا} ؛ لِأَن إقدامه على مَا لَا يعلم: هَل يجوز فعله، أَو لَا يجوز؟ جرْأَة على الله، وعَلى رَسُوله، وعَلى الْعلمَاء لكَونه لم يسْأَل. {وَاخْتلف كَلَام القَاضِي فِي فسقه، وفسقه الباقلاني} ، وَقَالَ: ضم جهلا إِلَى فسق. ورده بعض الشَّافِعِيَّة بِالْفرقِ: بِعَدَمِ الجرأة. {وَفسق ابْن عقيل عامياً شرب نبيذاً} ، وَلَا يُعَارض ذَلِك قَوْله: فِيمَن زوج أمته، أَو أم وَلَده ثمَّ وَطئهَا جهلا، هَل يَأْثَم لتَركه السُّؤَال أم لَا لعدم شكه فِي التَّحْرِيم؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ. يَعْنِي لعذره بالاستصحاب، وَكَذَا جمعه فِي " الْكَافِي " - فِي بطلَان الصَّلَاة بِكَلَام الْجَاهِل - بَينه وَبَين النَّاسِي بِعَدَمِ التأثيم، واستقصاء ذَلِك وَبَيَان حكم الْبدع فِي كتب الْفِقْه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1893 قَالَ الْحلْوانِي من أَصْحَابنَا: وَلَا يحكم بفسق مُخَالف فِي أصُول الْفِقْه. وَبِه قَالَ جمَاعَة الْفُقَهَاء، والمتكلمين، خلافًا لبَعض الْمُتَكَلِّمين. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا أطلقهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1894 قَوْله: {فصل} {تقبل رِوَايَة عبد} ؛ لظَاهِر الْأَدِلَّة فَإِنَّهَا تشمله. وَتقبل رِوَايَة الْأُنْثَى لقبولهم خبر عَائِشَة، وَأَسْمَاء، وَأم سَلمَة، وَأم سليم، وغيرهن - رَضِي الله عَنْهُن أَجْمَعِينَ - سَوَاء كن أحراراً أَو أرقاء. وَتقبل أَيْضا رِوَايَة الْقَرِيب، والضرير، والعدو، وَغَيرهم؛ لِأَن حكم الرِّوَايَة عَام للمخبر والمخبر، وَلَا يخْتَص بشخص فَلَا تُهْمَة فِي ذَلِك بِخِلَاف الشَّهَادَة، وَهَذَا وَاضح جلي. قَوْله: {وَلَا تعْتَبر كَثْرَة سَماع الحَدِيث} ؛ بل مَتى سمع وَلَو حَدِيثا وَاحِدًا صحت رِوَايَته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1895 {وَلَا} يعْتَبر أَيْضا {معرفَة نسبه} ، كَالْعَبْدِ، وَغَيره مِمَّن لَا يعرف نسبه وَإِن كَانَ فِي الأَصْل لَهُ نسب، كَعَدم نسبه بِالْكُلِّيَّةِ كَوَلَد الزِّنَا، والمنفي بِلعان إِذا كَانُوا عُدُولًا؛ وَلِأَنَّهُم داخلون فِي عُمُوم الْأَدِلَّة فَصحت روايتهم كغيرهم. {وَلَا} يعْتَبر أَيْضا {علمه بالفقه والعربية، وَلَا بِمَعْنى الحَدِيث} . وَهَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء. وَاعْتبر الإِمَام مَالك معرفَة الْفِقْه، وَنقل عَن أبي حنيفَة مثله، وَعنهُ أَيْضا: تعْتَبر مَعْرفَته إِن خَالف مَا رَوَاهُ الْقيَاس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1896 وَاحْتَجُّوا بِأَن غير الْفَقِيه مَظَنَّة سوء الْفَهم، وَوضع النُّصُوص على غير المُرَاد مِنْهَا، فالاحتياط للْأَحْكَام أَن لَا يرْوى عَنهُ. وَاسْتدلَّ لِلْجُمْهُورِ بِحَدِيث زيد بن ثَابت: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " نضر الله امْرَءًا سمع منا حَدِيثا فحفظه حَتَّى يبلغهُ غَيره فَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ وَرب حَامِل فقه وَلَيْسَ بفقيه ". إِسْنَاده جيد، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَالتِّرْمِذِيّ، وَحسنه، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي وَأحمد بِإِسْنَاد جيد. وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نضر الله ... . " رَوَاهُ الْأَصْمَعِي بتَشْديد الضَّاد الْمُعْجَمَة، وَأَبُو عبيد بتخفيفه. أَي: نعمه الله، وَكَانَت الصَّحَابَة تقبل رِوَايَة الْأَعرَابِي لحَدِيث وَاحِد، وعَلى ذَلِك عمل الْمُحدثين، وَمَا يعْتَبر من ذَلِك فِي الشَّهَادَة وَالْخلاف فِيهِ مَذْكُور فِي الْفِقْه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1897 وَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود: " فَرب مبلغ أوعى من سامع " رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ. وَالْجَوَاب عَمَّا قَالُوا: إِنَّا إِنَّمَا نقبل رِوَايَته إِذا روى بِاللَّفْظِ وَالْمعْنَى المطابق، وَكَانَ يعرف مقتضيات الْأَلْفَاظ، وَالْعَدَالَة تَمنعهُ من تَحْرِيف لَا يجوز. قَوْله: {وَلَا تقبل رِوَايَة متساهل فِيهَا} ، سَمَاعا وإسماعاً، كالنوم وَقت السماع، وَقبُول التَّلْقِين، أَو يحدث لَا من أصل مصحح وَنَحْوه، وَقد نَص عَلَيْهِ المحدثون، وَالشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم. وَهُوَ قَادِح فِي قِيَاس قَول أَصْحَابنَا وَغَيرهم: يحرم التساهل فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1898 الْفتيا واستفتاء مَعْرُوف بِهِ، وَقبُول الحَدِيث مِمَّن هُوَ على هَذِه الصّفة أولى بِالتَّحْرِيمِ. وَقد جزم بِهِ فِي " الْمَحْصُول " وَغَيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1899 قَوْله: {فصل} {أَحْمد وَأَصْحَابه، وَالْأَكْثَر} ، مِنْهُم: الْمَالِكِيَّة وَالشَّافِعِيَّة: {لَا تقبل رِوَايَة مَجْهُول الْعَدَالَة} . وَعَن أَحْمد رِوَايَة: يقبل {وفَاقا لأبي حنيفَة، وَأكْثر أَصْحَابه، وَابْن فورك، وسليم الرَّازِيّ، والمحب الطَّبَرِيّ، والطوفي من الْأَصْحَاب كقبوله عقب إِسْلَامه} . هَكَذَا نقل كثير من الْعلمَاء أَن مَذْهَب أبي حنيفَة، وَأَصْحَابه كَذَلِك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1900 وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: إِن رده جَمِيعهم لم يقبل، وَإِن اخْتلفُوا فِيهِ قبل، وَإِن لم يرد، وَلم يقبل جَازَ قبُوله لظَاهِر عَدَالَة الْمُسلم وَلم يجب. وَجوز الْحَنَفِيَّة الْقَضَاء بِظَاهِر الْعَدَالَة، أما الْيَوْم فَتعْتَبر التَّزْكِيَة لغَلَبَة الْفسق. انْتهى. وَلم ينْقل إِلَّا عَن تَحْرِير، وَنقل الْبرمَاوِيّ عَن صَاحب " البديع " وَغَيره من الْحَنَفِيَّة أَن أَبَا حنيفَة إِنَّمَا قبل ذَلِك فِي صدر الْإِسْلَام حَيْثُ الْغَالِب على النَّاس الْعَدَالَة، فَأَما الْيَوْم فَلَا بُد من التَّزْكِيَة لغَلَبَة الْفسق. انْتهى. {وَعَن القَاضِي} : تقبل رِوَايَة مَجْهُول الْعَدَالَة، {وَإِن لم تقبل شَهَادَته} . نقل فِي " المسودة " فَقَالَ: لما بحث القَاضِي فِي أَحْكَام الْمُرْسل أَن يروي عَن مَجْهُول لم يعرف عينه، ثمَّ قَالَ: فَإِن قيل: فَيجب أَن تقبل شَهَادَته وَإِن لم نبحث عَن عَدَالَته للمعنى الَّذِي ذكرته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1901 قيل: تقبل شَهَادَته فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، فعلى هَذَا لَا فرق، وَفِي الْأُخْرَى لَا يقبلهَا احْتِيَاطًا للشَّهَادَة. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: قلت: فقد ذكر أَنه تقبل رِوَايَة المستور، وَإِن لم تقبل شَهَادَته. انْتهى. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَاخْتَارَهُ بعض أَصْحَابنَا وَإِن لم تقبل شَهَادَته. وَقَالَ القَاضِي فِي " الْكِفَايَة ": تقبل رِوَايَة من عرف إِسْلَامه وجهلت عَدَالَته فِي الزَّمن الَّذِي لم تكْثر فِيهِ الْجِنَايَات، فَأَما مَعَ كَثْرَة الْجِنَايَات فَلَا بُد من معرفَة الْعَدَالَة. انْتهى. {وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: يُوقف، وَيجب الْكَفّ فِي التَّحْرِيم إِلَى الظُّهُور احْتِيَاطًا} ، فَقَالَ: رِوَايَة المستور مَوْقُوفَة إِلَى استبانة حَاله، فَلَو كُنَّا على اعْتِقَاد فِي حل شَيْء فروى لنا مَسْتُور تَحْرِيمه فَالَّذِي أرَاهُ وجوب الانكفاف عَمَّا كُنَّا نستحله إِلَى تَمام الْبَحْث عَن حَال الرَّاوِي. قَالَ: وَلَيْسَ ذَلِك حكما بالحظر الْمُتَرَتب على الرِّوَايَة، وَإِنَّمَا هُوَ توقف فِي الْأَمر والتوقف فِي الْإِبَاحَة يتَضَمَّن الإحجام وَهُوَ معنى الْحَظْر، فَهُوَ إِذا حظر مَأْخُوذ من قَاعِدَة ممهدة، وَهِي التَّوَقُّف عِنْد عدم بَدو ظواهر الْأُمُور إِلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1902 استبانتها، فَإِذا ثبتَتْ الْعَدَالَة فَالْحكم بالرواية إِذْ ذَاك. انْتهى. وَقَالَ ابْن مُفْلِح: يتَوَجَّه أَن يحْتَمل عَدَالَة كل من اعتنى بِالْعلمِ. وَقَالَهُ ابْن عبد الْبر، وحرف الْمَسْأَلَة أَن شَرط الْقبُول فِي الرِّوَايَة هَل هُوَ الْعلم بِالْعَدَالَةِ فَلَا تقبل رِوَايَة الْمَجْهُول للْجَهْل بهَا، أَو الشَّرْط عدم الْعلم بِالْفِسْقِ فَتقبل رِوَايَة الْمَجْهُول لعدم الْعلم بِفِسْقِهِ؟ هُنَا قَالَ من منع الْعَمَل بروايته: إِنَّمَا عمل بِخَبَر الْوَاحِد للْإِجْمَاع وَلَا إِجْمَاع وَلَا دَلِيل على الْعَمَل؛ وَلِأَن الْفسق مَانع كجهالة الصَّبِي وَالْكفْر. فَقَالُوا: الْفسق سَبَب التثبت فَإِذا انْتَفَى يَنْتَفِي، وَعَملا بِالظَّاهِرِ وَقبُول الصَّحَابَة لَهُم. رد: يَنْتَفِي بالخبرة، والتزكية، وبمنع الظَّاهِر ... ... ... ... ... ... ... . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1903 وَالْقَبُول، وَيقبل الْخَبَر بِالْملكِ والذكاة وَلَو من فَاسق وَكَافِر للنصوص وللحاجة وَالْأَشْهر لنا فِي الْمَجْهُول وَأَنه متطهر فَيصح الائتمام بِهِ، لَا أَن المَاء طَاهِر أَو نجس فِي ظَاهر مَذْهَبنَا وَمذهب الشَّافِعِيَّة، وَقَبله الْآمِدِيّ وَمن وَافقه مَعَ فسقه. قَالُوا: كروايته عقب إِسْلَامه. أجَاب عَنهُ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والآمدي بِمَنْعه لاستصحابه للكذب وتسليمه لِأَنَّهُ يعظمه ويهابه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1904 وَاحْتج ابْن عبد الْبر بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يحمل هَذَا الْعلم من كل خلف عدوله ينفون عَنهُ تَحْرِيف الْجَاهِلين وَإِبْطَال المبطلين وَتَأْويل الغالين " رَوَاهُ الْخلال، وَابْن عدي، وَالْبَيْهَقِيّ، وَله طرق. قَالَ مهنا لِأَحْمَد: كَأَنَّهُ مَوْضُوع، قَالَ: لَا، هُوَ صَحِيح. قلت: سمعته أَنْت؟ قَالَ: من غير وَاحِد. وَلقَائِل أَن يُجيب عَنهُ بضعفه، ثمَّ بِتَقْدِير لَام الْأَمر فِي " يحمل " وَهُوَ جَائِز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1905 لُغَة، وَاخْتَارَهُ الزّجاج فِي " يحذر المُنَافِقُونَ ". قَالَ ابْن الْقطَّان: وخفي على أَحْمد من أمره مَا علمه غَيره، فقد ضعفه ابْن معِين، وَابْن أبي حَاتِم، وَالسَّعْدِي، وَابْن عدي، وَابْن حبَان. وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث مَرْفُوعا مُسْندًا عَن أبي هُرَيْرَة، وَعبد الله بن عمر، وَعلي بن أبي طَالب، وَابْن عَمْرو، وَأبي أُمَامَة، وَجَابِر بن سَمُرَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1906 بطرق ضَعِيفَة، ذكره الْعِرَاقِيّ، وَوَافَقَ ابْن عبد الْبر ابْن الْمواق. وَقَالَ ابْن الصّلاح: مَا قَالَه ابْن عبد الْبر فِيهِ اتساع غير مرضِي، واستدلاله بذلك لَا يَصح لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: الْإِرْسَال والضعف. وَالثَّانِي: عدم صِحَة كَونه خَبرا؛ لِأَن كثير مِمَّن يحمل الْعلم غير عدل فَلم يبْق إِلَّا حمله على الْأَمر، وَمَعْنَاهُ: أَنه أَمر الثِّقَات بِحمْل الْعلم؛ لِأَن الْعلم إِنَّمَا يبقل من الثِّقَات، وَيدل عَلَيْهِ أَن فِي بعض طرق ابْن أبي حَاتِم: " ليحمل هَذَا الْعلم " بلام الْأَمر، وَالله أعلم. انْتهى. فَوَافَقَ هَذَا مَا قَالَه ابْن مُفْلِح. قَوْله: {فَائِدَة: لَا تقبل رِوَايَة مَجْهُول الْعين، وتزول بِوَاحِد فِي الْأَصَح فيهمَا} : ذكرنَا مَسْأَلَتَيْنِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1907 إِحْدَاهمَا: هَل تقبل رِوَايَة مَجْهُول الْعين أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: لَا يقبل، وَهُوَ الصَّحِيح وَقطع بِهِ جمع مِنْهُم: التَّاج السُّبْكِيّ، بل ظَاهره أَنه إِجْمَاع، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ فقد حكى الْبرمَاوِيّ وَغَيره فِيهِ خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: لَا يقبل مُطلقًا، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر من الْمُحدثين وَغَيرهم. وَالثَّانِي: يقبل مُطلقًا، وَهُوَ رَأْي من لم يشْتَرط فِي الرَّاوِي غير الْإِسْلَام. وَالثَّالِث: إِن كَانَ الْمُنْفَرد بالرواية عَنهُ لَا يروي إِلَّا عَن عدل كَابْن مهْدي، وَيحيى بن سعيد، واكتفينا بالتعديل بِوَاحِد قبل، وَإِلَّا فَلَا. وَالرَّابِع: إِن كَانَ مَشْهُورا فِي غير الْعلم بالزهد، وَالْقُوَّة فِي الدّين، وَإِلَّا فَلَا. وَهُوَ قَول ابْن عبد الْبر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1908 وَالْخَامِس: إِن زَكَّاهُ أحد من أَئِمَّة الْجرْح وَالتَّعْدِيل مَعَ رِوَايَة وَاحِد عَنهُ قبل وَإِلَّا فَلَا. وَهُوَ اخْتِيَار أبي الْحُسَيْن ابْن الْقطَّان. انْتهى. الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: هَل تَزُول الْجَهَالَة بِوَاحِد أم لَا؟ فِيهِ أَقْوَال، قَالَ ابْن رَجَب فِي " شرح التِّرْمِذِيّ ": اخْتلف الْفُقَهَاء، وَأهل الحَدِيث فِي رِوَايَة الثِّقَة عَن غير مَعْرُوف: هَل هُوَ تَعْدِيل لَهُ أم لَا؟ وَحكى أَصْحَابنَا عَن أَحْمد فِي ذَلِك رِوَايَتَيْنِ، وحكوا عَن الْحَنَفِيَّة أَنه تَعْدِيل، وَعَن الشَّافِعِيَّة خلاف ذَلِك. والنصوص عَن أَحْمد تدل على أَنه إِن عرف مِنْهُ أَنه لَا يروي إِلَّا عَن ثِقَة فروايته عَن إِنْسَان تَعْدِيل لَهُ، وَمن لم يعرف مِنْهُ ذَلِك فَلَيْسَ بتعديل، وَصرح بِهِ طَائِفَة من مُحَقّق أَصْحَابنَا وَأَصْحَاب الشَّافِعِي. انْتهى. وَيَأْتِي هَذَا أَيْضا إِذا علم ذَلِك؛ فَفِي الْمَسْأَلَة أَقْوَال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1909 أَحدهَا: وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن يحيى الذهلي، وَعَلِيهِ الْمُتَأَخّرُونَ أَنه لَا يخرج الرجل عَن الْجَهَالَة إِلَّا بِرِوَايَة رجلَيْنِ فَصَاعِدا عَنهُ. وَذكر الْخَطِيب عَن أهل الحَدِيث: لَا تَزُول إِلَّا بِاثْنَيْنِ، وَعلي بن الْمَدِينِيّ يشْتَرط أَكثر من ذَلِك، وَذَلِكَ بِاعْتِبَار من روى عَنهُ. ذكره عَنهُ ابْن رَجَب فِي " شرح التِّرْمِذِيّ ". وَقَالَ ابْن معِين: إِذا روى عَن الرجل مثل ابْن سِيرِين؛ وَالشعْبِيّ - وَهَؤُلَاء أهل الْعلم - فَهُوَ غير مَجْهُول، وَإِن روى عَنهُ مثل سماك بن حَرْب، وَأبي إِسْحَاق، فَإِن هَؤُلَاءِ يروون عَن المجهولين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1910 قَالَ ابْن رَجَب: وَهَذَا تَفْصِيل حسن. وَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة لَا يكْتَفى فِيهَا بِمُجَرَّد إِسْلَامه، بل لابد أَن يكون عدلا ظَاهرا. وَالصَّحِيح أَنه يَزُول بِوَاحِد، وَعَزاهُ بعض الشَّافِعِيَّة إِلَى صَاحِبي الصَّحِيح؛ لِأَن فيهمَا من ذَلِك جمَاعَة، وَأَن الْخلاف مُتَوَجّه لتعديل وَاحِد. قَالَ ابْن مُفْلِح: يُؤَيّدهُ أَن عَمْرو بن بجدان تفرد عَنهُ أَبُو قلَابَة وَقَبله أَكْثَرهم، وَمثله الْخَطِيب بجبار الطَّائِي، وَعبد الله بن أغر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1911 صفحة فارغة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1912 قَوْله: {فصل} {الْأَرْبَعَة} وَالْأَكْثَر، مِنْهُم أَصْحَابنَا، قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: وَالْجُمْهُور: {يَكْفِي جرح وَاحِد وتعديله} ؛ لِأَن الشَّرْط لَا يزِيد على مشروطه، وَيَكْفِي فِي الرِّوَايَة وَاحِد لَا الشَّهَادَة، فتعديل الرَّاوِي تبع للرواية، وَفرع لَهَا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُرَاد لأَجلهَا، وَالرِّوَايَة لَا يعْتَبر فِيهَا الْعدَد، بل يَكْفِي فِيهَا راو وَاحِد، فَكَذَا مَا هُوَ تبع وَفرع لَهَا. فَلَو قُلْنَا: نقبل رِوَايَة الْوَاحِد وَلَا يَكْفِي فِي تعديله إِلَّا اثْنَان لزاد الْفَرْع على أَصله، وَزِيَادَة الْفُرُوع على أُصُولهَا غير معهودة عقلا، وَلَا شرعا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1913 {وَاعْتبر قوم الْعدَد فيهمَا} ، أَي: فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل، مِنْهُم: ابْن حمدَان فِي " مقنعه " {كَالشَّهَادَةِ عندنَا وَعند الشَّافِعِيَّة والمالكية} ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَة فَاعْتبر لَهُ الْعدَد. رد: بِأَنَّهُ خبر لَا شَهَادَة. قَالُوا: يعْتَبر الْعدَد؛ لِأَنَّهُ أحوط، وَقَوْلنَا أحوط لِئَلَّا يضيع الشَّرْع، وَعَن أَحْمد: الشَّهَادَة كالرواية فَيَكْفِي فِيهَا جرح وَاحِد وتعديله، اخْتَارَهُ من أَصْحَابنَا أَبُو بكر عبد الْعَزِيز، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَالْحَنَفِيَّة، وَالْقَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني. {وَاعْتبر قوم الْعدَد فِي الْجرْح} فَقَط فِي الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة، اخْتَارَهُ بعض الْمُحدثين وَالشَّافِعِيَّة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1914 قَوْله: {وَيشْتَرط ذكر سَبَب الْجرْح لَا التَّعْدِيل عِنْد أَحْمد، وَالْأَكْثَر} ، مِنْهُم: أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم، لاخْتِلَاف النَّاس فِي سَبَب الْجرْح، واعتقاد بَعضهم مَا لَا يصلح أَن يكون سَببا للجرح جارح، كشرب النَّبِيذ متأولاً فَإِنَّهُ يقْدَح فِي الْعَدَالَة عِنْد مَالك دون غَيره، وَكَمن رأى إنْسَانا يَبُول قَائِما فيبادر لجرحه لذَلِك وَلم ينظر فِي أَنه متأول مُخطئ أَو مَعْذُور، كَمَا رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه بَال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1915 قَائِما لعذر كَانَ بِهِ، فَلهَذَا وَشبهه يَنْبَغِي بَيَان سَبَب الْجرْح ليَكُون على ثِقَة، واحتراز من الْخَطَأ والغلو فِيهِ. قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": وَلَقَد رَأَيْت بعض الْعَامَّة يضْرب يدا على يَد، وَيُشِير إِلَى رجل وَيَقُول: مَا هَذَا إِلَّا زنديق لَيْتَني قدرت عَلَيْهِ فأفعل بِهِ وأفعل! فَقلت: مَا رَأَيْت مِنْهُ؟ فَقَالَ: رَأَيْته وَهُوَ يجْهر بالبسملة فِي الصَّلَاة. انْتهى. وَلِلنَّاسِ فِي هَذَا حكايات غَرِيبَة عَجِيبَة، لَكِن هَذَا كُله مِمَّن لَا يعْتَمد عَلَيْهِ بِخِلَاف أولي الْعلم الراسخين الجهابذة النقاد، وَقَالُوا بِخِلَاف التَّعْدِيل فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط ذكر سَببه استصحاباً لحَال الْعَدَالَة. {وَقيل: عَكسه} ، أَي: يشْتَرط ذكر سَبَب التَّعْدِيل لَا الْجرْح. وَنقل عَن ابْن الباقلاني: لالتباس الْعَدَالَة لِكَثْرَة التصنع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1916 قلت: وَهُوَ قوي. {واشترطه ابْن حمدَان من أَصْحَابنَا وَغَيره فيهمَا} ، أَي: يشْتَرط ذكر سَبَب الْجرْح وَالتَّعْدِيل لما تقدم فِي الْجرْح، والمسارعة إِلَى التَّعْدِيل بِنَاء على الظَّاهِر، فَيَقُول - مثلا -: هَذَا فَاسق؛ لِأَنَّهُ يشرب الْخمر، وَنَحْوه، وَهَذَا عدل؛ لِأَنَّهُ يواظب على فعل الْعِبَادَات، وَترك الْمُحرمَات فِيمَا أعلم؛ وَلِهَذَا القَوْل قُوَّة. وَعَن أَحْمد عكس هَذَا القَوْل، أَي: لَا يشْتَرط ذكر سَبَب وَاحِد مِنْهُمَا، اخْتَارَهُ جمع من الْعلمَاء، مِنْهُم: ابْن الباقلاني، وَحكي عَن الْحَنَفِيَّة فَيَكْفِي مُجَرّد قَوْله: هُوَ فَاسق، أَو عدل اعْتِمَادًا على الْجَارِح والمعدل. قلت: وَيَنْبَغِي أَن ينظر إِلَى حَال الْجَارِح، والمعدل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1917 {وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي، والرازي، والآمدي، وَذكره عَن ابْن الباقلاني: إِن كَانَ عَالما بذلك قبل} عملا بِالظَّاهِرِ من حَال الْعدْل الْعَالم، {وَقَالَهُ مَالك، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الْجرْح} ، يَعْنِي إِن كَانَ عَالما بذلك قبل. قَوْله: {وَلَا أثر لمن عَادَته التساهل فِي التَّعْدِيل أَو الْمُبَالغَة} ، فيجرح بِلَا سَبَب شَرْعِي أَو يُعْطِيهِ فَوق حَقه وَهَذَا غير جَائِز. قَالَ ابْن مُفْلِح: لما حكى الْخلاف الْمُتَقَدّم: وَهَذَا الْخلاف مُطلق، وَالْمرَاد - وَالله أعلم - مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بعض أَصْحَابنَا، وَغَيرهم: لَا أثر لمن عَادَته التساهل فِي التَّعْدِيل أَو الْمُبَالغَة. انْتهى. قَوْله: {وَإِذا لم يقبل الْجرْح الْمُطلق لم يلْزم التَّوَقُّف حَتَّى يتَبَيَّن سَببه} كَالشَّهَادَةِ؛ لِأَن الْخَبَر يلْزم الْعَمَل بِهِ مَا لم يثبت الْقدح، وَالشَّهَادَة آكِد، ذكره القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب فِي مَسْأَلَة " مَا لَا نفس لَهُ سائله "، فَإِذا انْتَفَى الْقدح عمل بِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1918 {وَقيل: بلَى} ، أَي: يلْزم التَّوَقُّف حَتَّى يبين سَبَب الْجرْح الَّذِي أطلقهُ؛ لِأَنَّهُ أوجب رِيبَة، وَإِلَّا انسد بَاب الْجرْح غَالِبا. وَقَالَهُ بعض الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم، وَإِلَيْهِ ميل ابْن مُفْلِح. قلت: وَهُوَ الْأَحْوَط. قَوْله: {وَمن اشْتبهَ اسْمه باسم مَجْرُوح وقف خَبره} حَتَّى يتَحَقَّق أمره، ذَلِك لاحْتِمَال أَن يكون الرَّاوِي ذَلِك الْمَجْرُوح فَلَا تقبل رِوَايَته بل يتَوَقَّف حَتَّى يعلم: هَل هُوَ الْمَجْرُوح، أَو غَيره. وَكثير مَا يفعل المدلسون مثل هَذَا، يذكرُونَ الرَّاوِي الضَّعِيف باسم يُشَارِكهُ فِيهِ راو ثِقَة ليظن أَنه ذَلِك الثِّقَة ترويجاً لروايتهم. قَوْله: {وَمن أطلق تَضْعِيف خبر بِأَن يَقُول: هَذَا الْخَبَر ضَعِيف، فَهُوَ كجرح مُطلق} فَيخرج عَلَيْهِ، فَمَا قيل فِي الْجرْح الْمُطلق. يُقَال فِي تَضْعِيفه للْخَبَر إِذا أطلق، وَهَذَا مَذْهَبنَا، قَالَه الْمجد فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1919 " المسودة "، وَتَبعهُ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَغَيره. وَالصَّحِيح أَنه لَا يقبل الْجرْح الْمُطلق، بل لابد من ذكر السَّبَب الْمُطلق كَمَا تقدم قَرِيبا. وَلَا يُؤثر قَوْله ذَلِك عِنْد الشَّافِعِيَّة فَلَا يمْنَع قبُوله، فَيقبل الحَدِيث إِذا قَالَ الْمُحدث: هَذَا الحَدِيث ضَعِيف من غير أَن يعزوه إِلَى مُسْتَند يرجع إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قد يُضعفهُ بِشَيْء لَو ذكره لم يكن قدحاً. ويؤثر ذَلِك عِنْد الْحَنَفِيَّة، فَلَا يقبله، وَيكون الْخَبَر ضَعِيفا عِنْدهم بذلك. لِأَن الْمُحدث ثِقَة، وَقد ضعفه. فتلخص فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال: الْقبُول مُطلقًا، وَعَدَمه مُطلقًا، وإجراؤه كالجرح الْمُطلق، فَأتى فِيهِ من الْخلاف مَا أَتَى فِيهِ على مَا تقدم. قَوْله: {أَو تَصْحِيحه} ، أَي: أطلق تَصْحِيح خبر بِأَن يَقُول: هَذَا الْخَبَر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1920 صَحِيح، فَهُوَ {كالتعديل الْمُطلق} عندنَا؛ فَإِن إِطْلَاق تَصْحِيحه يسْتَلْزم تَعْدِيل رُوَاته. وَعَن الإِمَام أَحْمد: إِذا سَمِعت أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: حَدِيث غَرِيب، أَو فَائِدَة فَاعْلَم أَنه خطأ - أَي: لِأَنَّهُ شَاذ - وَإِذا سمعتهم يَقُولُونَ: حَدِيث لَا شَيْء فَاعْلَم أَنه صَحِيح، أَي: لم تفد رِوَايَته لشهرته. حَكَاهُ القَاضِي، وَجَمَاعَة عَن حِكَايَة أبي إِسْحَاق عَن أبي بكر النقاش، وَهُوَ كَذَّاب، والشاذ أَقسَام عِنْدهم. قَوْله: {وَلَا شَيْء للجرح بالاستقراء} ، يَعْنِي بِأَن يَقُول: تتبعنا كَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1921 فوجدناه كَذَا مرَارًا كَثِيرَة لم ينخرم، فَلَو قيل: من وَجَدْنَاهُ يعْمل كَذَا فَهُوَ مَجْرُوح واستقرأنا ذَلِك فِي أشخاص كَثِيرَة فوجدناه كذك، فَهَذَا لَيْسَ بِجرح، وَلَيْسَ من طرق الْجرْح حَتَّى نحكم بِهِ. وَهَذِه الْمَسْأَلَة أَخَذتهَا من كَلَام ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَيَأْتِي معنى الاستقراء وَأَحْكَامه فِي الْأَدِلَّة الْمُخْتَلف فِيهَا بعد الِاسْتِدْلَال، كَقَوْلِهِم: الْوتر يفعل رَاكِبًا فَلَيْسَ بِوَاجِب لاستقراء الْوَاجِبَات. قَوْله: {وَله الْجرْح بالاستفاضة} ، إِذا شاع عَن مُحدث أَن فِيهِ صفة توجب رد الحَدِيث وجرحه بهَا جَازَ الْجرْح بهَا، كَمَا تجوز الشَّهَادَة بالاستفاضة فِي مسَائِل مَخْصُوصَة مَعْلُومَة ذكرهَا الْفُقَهَاء فِي كتبهمْ فَكَذَلِك هَذَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1922 وَمنعه بعض أَصْحَابنَا، فَقَالَ: لَيْسَ لَهُ الْجرْح بالاستفاضة، وَلَا يقبل كَمَا أَنه لَا يجوز لَهُ أَن يُزكي بالاستفاضة لَو شاعت عَدَالَته، فَكَذَلِك لَيْسَ لَهُ الْجرْح بِمُجَرَّد الاستفاضة بِمَا يُوجب جرحه. وَهَذَا ضَعِيف، وَالْأول أولى وَأظْهر. وَخَالف بعض أَصْحَابنَا فِي التَّزْكِيَة بالاستفاضة فَقَالَ: تجوز التَّزْكِيَة بالاستفاضة. {وَاحْتج} لذَلِك كثير من الْعلمَاء {بِمن شاعت إِمَامَته وعدالته من الْأَئِمَّة} ، فَإِنَّهُ يُزكي بالإستفاضة بِلَا نزاع. {قلت: وَهَذَا الْمَذْهَب، وَهُوَ معنى قَول الإِمَام أَحْمد، وَجَمَاعَة} من الْعلمَاء. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ أَن هَذَا احْتِمَال قَول ثَالِث، وَأَنه الْمَذْهَب وَهُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1923 معنى قَول أَحْمد وَجَمَاعَة، يسْأَل وَاحِد مِنْهُم عَن مثلهم فَيُقَال: ثِقَة لَا يسْأَل عَن مثله. انْتهى. كَمَا سُئِلَ - مثلا - عَن الإِمَام مَالك، وَالْأَوْزَاعِيّ، وَالثَّوْري، وَنَحْوهم. {وَقَالَ ابْن الصّلاح: هَذَا صَحِيح مَذْهَب الشَّافِعِي} ، وَعَلِيهِ الِاعْتِمَاد فِي أصُول الْفِقْه، وَمِمَّنْ ذكره من أهل الحَدِيث: الْخَطِيب. وَمثل ذَلِك بِمَالك وَشعْبَة، والسفيانين، وَالْأَوْزَاعِيّ، وَاللَّيْث، وَابْن الْمُبَارك، ووكيع، وَأحمد، وَابْن معِين، وَابْن الْمَدِينِيّ، وَمن جرى مجراهم فِي نباهة الذّكر، واستقامة الْأَمر، وَلَا يسْأَل عَن عَدَالَة هَؤُلَاءِ وأمثالهم، إِنَّمَا يسْأَل عَمَّن خَفِي أمره عَن الطالبين. انْتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1924 وَقد سُئِلَ ابْن معِين عَن أبي عبيد فَقَالَ: مثلي يسْأَل عَن أبي عبيد {أَبُو عبيد يسْأَل عَن النَّاس؟} وَسُئِلَ أَحْمد عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فَقَالَ: مثل إِسْحَاق يسْأَل عَنهُ؟ ! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1925 قَوْله: {فصل} {الْأَرْبَعَة، وأصحابنا، وَالْأَكْثَر يقدم جرح مُطلقًا} ، أَعنِي سَوَاء كثر الْجَارِح أَو قل، أَو سَاوَى؛ لِأَن مَعَه زِيَادَة علم لم يطلع عَلَيْهَا الْمعدل؛ فَلذَلِك قدم. وَهَذَا الصَّحِيح مُطلقًا وَعَلِيهِ الْأَكْثَر. وَقَالَ ابْن حمدَان من أَصْحَابنَا وَغَيره: يقدم الْجرْح إِن كثر الْجَارِح وَإِلَّا فَلَا، وَحَكَاهُ فِي الْمَحْصُول فَقَالَ: يقدم الْأَكْثَر من الْجَارِح والمعدل؛ لِأَن الْكَثْرَة لَهَا تَأْثِير فِي الْقُوَّة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1926 ورده الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ بِأَن المعدلين وَإِن كَثُرُوا فليسوا مخبرين بِعَدَمِ مَا أخبر بِهِ الجارحون، وَلَو أخبروا بذلك كَانَت شَهَادَة نفي وَهِي بَاطِلَة. وَقيل: يقدم التَّعْدِيل مُطلقًا؛ لِأَن الْجَارِح قد يجرح بِمَا لَيْسَ فِي نفس الْأَمر جرحا، والمعدل لَا يعدل حَتَّى يتَحَقَّق بطرِيق سَلَامَته من كل جارح. وَهَذَا القَوْل حَكَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن أبي حنيفَة، وَأبي يُوسُف، لَكِن قَضِيَّة تَعْلِيله بِمَا سبق تَخْصِيص الْخلاف بِالْجرْحِ غير الْمُفَسّر بِنَاء على قبُوله. وَقيل: يقدم التَّعْدِيل على الْجرْح إِن كثر المعدلون، وَاخْتَارَهُ الْمجد من أَصْحَابنَا مَعَ جرح مُطلق إِن قبلناه، يَعْنِي على القَوْل بِقبُول الْجرْح الْمُطلق، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1927 وَالصَّحِيح أَنه لَا يقبل الْجرْح الْمُطلق كَمَا تقدم. اعْلَم أَن القَاضِي أَبَا بكر ابْن الباقلاني فِي كِتَابه " التَّقْرِيب " جعل مَوضِع الْخلاف فِيمَا إِذا كَانَ عدد المعدلين أَكثر، فَأَما إِن اسْتَويَا فَإِنَّهُ يقدم الْجرْح إِجْمَاعًا، وَكَذَا قَالَ الْخَطِيب فِي " الْكِفَايَة "، وَابْن الْقطَّان وَأَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ، وَاعْترض على حكايته ذَلِك بِأَن الْقشيرِي نصب الْخلاف فِيمَا إِذا اسْتَوَى عدد الْجَارِح والمعدل، فَإِن كثر المعدلون فقبولهم أولى. وَقَالَ الْمَازرِيّ: وَحكى ابْن شعْبَان فِي كِتَابه " الزاهي " الْخلاف مَعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1928 التَّسَاوِي فِي الْعدَد، قَالَ: فَإِن زَاد عدد الجارحين فَلَا وَجه لجَرَيَان الْخلاف. وَبِه صرح الْبَاجِيّ فَقَالَ: لَا خلاف فِي تَقْدِيم الْجرْح، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: لَا شكّ فِيهِ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وعَلى هَذَا فَيخرج فِي مَحل الْخلاف ثَلَاث طرق. انْتهى. قَوْله: {وَقيل: التَّرْجِيح كإثبات معِين ونفيه يَقِينا} ، أَعنِي أَن التَّرْجِيح قَول محكي فِي الْمَسْأَلَة، أَعنِي أَنَّهُمَا يتعارضان عِنْده فيقف على مُرَجّح يرجع إِلَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1929 وَقَوله: (كإثبات معِين ونفيه يَقِينا) وَهَذِه الصُّورَة يتعارضان فِيهَا، وَيقف الْأَمر على مُرَجّح من خَارج بِلَا خلاف عِنْدهم، مثل أَن يَقُول الْجَارِح: هُوَ قتل فلَانا يَوْم كَذَا، وَيَقُول الْمعدل: هُوَ حَيّ وَأَنا رَأَيْته بعد ذَلِك الْيَوْم. فَيَقَع بَينهمَا التَّعَارُض لعدم إِمْكَان الْجمع الْمَذْكُور فِي تَقْدِيم قَول الْجَارِح على الصَّحِيح فَإِنَّهُ هُنَا يتَعَذَّر فَحِينَئِذٍ يُصَار إِلَى التَّرْجِيح. قَالَ الطوفي فِي " شرح مُخْتَصره " فِي هَذَا الْمِثَال: فههنا يتعارضان فيتساقطان وَيبقى أصل الْعَدَالَة ثَابتا، ثمَّ قَالَ: قلت: وَيحْتَمل هُنَا أَن يقدم قَول الْمعدل؛ لِأَن السَّبَب الَّذِي اسْتندَ إِلَيْهِ الْجَارِح قد تبين بُطْلَانه فَتبين بِهِ أَن الْجرْح كَأَنَّهُ لم يكن فَيبقى التَّعْدِيل مُسْتقِلّا وَالْحكم وَاحِد. انْتهى. قلت: وَهَذَا ضَعِيف وَكَذَا قَوْله: (وَيبقى أصل الْعَدَالَة ثَابتا) وَلَعَلَّه بنى ذَلِك على أَن الأَصْل فِي الْإِنْسَان الْعَدَالَة، وفيهَا خلاف، وَالْمَشْهُور خلاف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1930 ذَلِك، وَالله أعلم. قَوْله: {تَنْبِيه: يعدل بقول، وَحكم، وَعمل، وَرِوَايَة} ، أَعنِي يكون التَّعْدِيل تَارَة بالْقَوْل، وَتارَة بالحكم، وَتارَة بِالْعَمَلِ، وَتارَة بالرواية. وَلما تقرر فِي حَقِيقَة الْجرْح وَالتَّعْدِيل وَالْحكم فِي بَيَان سببهما وَاعْتِبَار الْعَدَالَة فيهمَا وَجب القَوْل فِيمَا يحصل بِهِ التَّعْدِيل، وَهُوَ أَرْبَعَة أَشْيَاء: أَحدهَا: صَرِيح القَوْل فِي الرَّاوِي وَالشَّاهِد، وَله صفتان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1931 إِحْدَاهمَا وَهِي أكملهما: قَول الْمعدل: هُوَ عدل رضى، مَعَ بَيَان السَّبَب، أَي: يبين سَبَب الْعَدَالَة مَعَ هَذَا القَوْل بِأَن يثني عَلَيْهِ بِذكر محَاسِن عمله مِمَّا يعلم مِنْهُ مِمَّا يَنْبَغِي شرعا من أَدَاء الْوَاجِبَات وَاجْتنَاب الْمُحرمَات، وَاسْتِعْمَال وظائف الْمُرُوءَة، وَهُوَ أَعلَى مَرَاتِب التَّعْدِيل للاتفاق عَلَيْهِ. ويليه قَوْله: هُوَ عدل رضى، من غير ذكر سَبَب الْعَدَالَة، وَهِي أدنى من الَّتِي قبلهَا. وَقد ذكر أَرْبَاب فن الْجرْح وَالتَّعْدِيل أَن مَرَاتِب التَّعْدِيل أَرْبَعَة: الأولى: الْعليا مِنْهَا تكْرَار اللَّفْظ، بِأَن يَقُول: ثِقَة، ثِقَة، أَو: عدل، عدل، أَو: ثِقَة، عدل. أَو ثِقَة متقن، وَنَحْو ذَلِك. الثَّانِيَة: ذكر ذَلِك من غير تكْرَار، كَقَوْلِه: ثِقَة، أَو عدل، أَو: متقن، أَو: ثَبت، أَو: حجَّة، أَو: حَافظ، أَو: ضَابِط. قَالَ الْخَطِيب: أرفع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1932 الْعبارَات أَن يَقُول: حجَّة، أَو ثِقَة. الثَّالِثَة: قَوْلهم: لَا بَأْس، وَنَحْوه، أَو صَدُوق، أَو مَأْمُون، أَو خِيَار. الرَّابِعَة: قَوْلهم: مَحَله الصدْق، أَو رووا عَنهُ، أَو صَالح الحَدِيث، أَو مقارب الحَدِيث، أَو حسن الحَدِيث، أَو صُوَيْلِح، أَو صَدُوق إِن شَاءَ الله تَعَالَى، أَو أَرْجُو أَنه لَيْسَ بِهِ بَأْس وَنَحْو ذَلِك. قَوْله: {وَحكم مشترط الْعَدَالَة بهَا تَعْدِيل اتِّفَاقًا} . وَهَذَا الثَّانِي من الْأَرْبَعَة الَّذِي يحصل بهَا التَّعْدِيل، فَهَذَا مَا يحصل بِهِ التَّعْدِيل. قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: وَحكم الْحَاكِم تَعْدِيل اتِّفَاقًا، أطلقهُ فِي " الرَّوْضَة "، وَمرَاده مَا صرح بِهِ غَيره: حَاكم يشْتَرط الْعَدَالَة، وَهُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1933 كَمَا قَالَ، وَهُوَ تَعْدِيل مُتَّفق عَلَيْهِ، وَإِلَّا كَانَ الْحَاكِم فَاسِقًا لقبُول شَهَادَة من لَيْسَ عدلا عِنْده. قَوْله: {وَهُوَ أقوى من القولي بِالسَّبَبِ} ، يَعْنِي أَن حكم مشترط الْعَدَالَة بهَا أقوى من التَّعْدِيل بالْقَوْل الَّذِي ذكر مَعَه سَببه؛ لِأَن ذَلِك قَول مُجَرّد، وَالْحكم بروايته فعل تضمن القَوْل أَو استلزمه؛ إِذْ تعديله القولي تَقْديرا من لَوَازِم الحكم بروايته، وَإِلَّا [كَانَ] هَذَا الْحَاكِم حَاكما بِالْبَاطِلِ. وَهَذَا اخْتِيَار الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ، وَغَيره مِنْهُم الْعَسْقَلَانِي شَارِح الطوفي، التَّسْوِيَة بَينهمَا. قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " هُنَا، وَقَالَ فِي التَّرْجِيح: قَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1934 الْآمِدِيّ وَتَبعهُ بعض أَصْحَابنَا: وتزكيته بِصَرِيح القَوْل على حكمه أَو عمله بِشَهَادَتِهِ لاحْتِمَاله بِغَيْرِهِ، وَالْحكم على عمله، وَسبق فِي السّنة. انْتهى. فَظَاهره التَّنَاقُض عَن الْآمِدِيّ؛ لِأَنَّهُ حكى عَنهُ هُنَا أَنه سوى بَين التَّعْدِيل القولي وَبَين الحكم من مشترط الْعَدَالَة؟ وَحكى عَنهُ فِي التَّرْجِيح أَنه قدم تزكيته بِصَرِيح القَوْل على حكمه أَو عمله بِشَهَادَتِهِ، وَلَعَلَّ لَهُ قَوْلَيْنِ أَو يكون غير الْمَسْأَلَة، وَهُوَ بعيد. وَمحل الْخلاف هُنَا مَعَ ذكر السَّبَب فِي القولي، أما مَعَ عدم ذكره، فَالثَّانِي أقوى للاتفاق عَلَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1935 قَوْله: {وَعَمله بروايته تَعْدِيل إِن علم أَن لَا مُسْتَند لَهُ غَيره وَإِلَّا فَلَا عِنْد القَاضِي، وَالْأَكْثَر} . وَهَذَا الثَّالِث مِمَّا يحصل بِهِ التَّعْدِيل، فمما يحصل بِهِ التَّعْدِيل الْعَمَل بِخَبَر الرَّاوِي بِشَرْط أَن يعلم أَن لَا مُسْتَند للْعَمَل غير رِوَايَته، وَإِلَّا فَلَا، أَي: وَإِن لم يعلم ذَلِك مِنْهُ لم يكن تعديلاً لاحْتِمَال أَنه يكون عمل بِدَلِيل آخر وَافق رِوَايَته. {وَقَالَهُ الْمُوفق، وَأَبُو الْمَعَالِي إِلَّا فِيمَا الْعَمَل بِهِ احْتِيَاطًا} ؛ لفسقه لَو عمل بفاسق. قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": قَالَ الْجُوَيْنِيّ والمقدسي: يكون تعديلاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1936 إِلَّا فِيمَا الْعَمَل بِهِ من مسالك الِاحْتِيَاط. قَالَ: وَعِنْدِي أَنه يفصل بَين أَن يكون الرَّاوِي مِمَّن يرى قبُول مَسْتُور الْحَال، أَو لَا يرَاهُ، أَو يجهل مذْهبه فِيهِ. انْتهى. فَكَأَن الْمجد يخْتَار أَنه إِن كَانَ الرَّاوِي يرى أَنه لَا يروي إِلَّا عَن بارز الْعَدَالَة فعمله بروايته تَعْدِيل، وَإِن كَانَ يرى قبُول مَسْتُور الْحَال، أَو يجهل مذْهبه فِيهِ فَلَيْسَ بتعديل للإبهام فَيرجع فِيهِ إِلَى رَأْي الرَّاوِي فِيمَن يروي عَنهُ. فعلى الأول قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": هُوَ كتعديله بِلَا سَبَب، وَمَعْنَاهُ للآمدي وَمن تبعه. يَعْنِي إِذا عمل بروايته وَقُلْنَا إِنَّهَا تَعْدِيل فَيكون هَذَا التَّعْدِيل كالتعديل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1937 القولي بِلَا ذكر السَّبَب على مَا تقدم عِنْد الشَّيْخ موفق الدّين، وَمن تَابعه. وَقيل: بل هُوَ كحكمه بِهِ، فعلى هَذَا القَوْل يكون أقوى من القَوْل الَّذِي قبله؛ لِأَن الحكم بِهِ أقوى من التَّعْدِيل القولي وَلَو مَعَ ذكر السَّبَب كَمَا تقدم. قَوْله: {وَلَيْسَ ترك الْعَمَل بهَا وبالشهادة جرحا} . يَعْنِي: لَو ترك الْعَمَل بالرواية أَو بِالشَّهَادَةِ لَا يكون ذَلِك جرحا لاحْتِمَال سَبَب سوى ترك الْعَمَل فَلَا يحكم على الرَّاوِي وَالشَّاهِد إِذا ترك الْعَمَل بهما بجرحهما عِنْد الْجُمْهُور؛ لِأَنَّهُ تَركه للْعَمَل قد يكون لأجل معنى فيهمَا من تُهْمَة قرَابَة، أَو عَدَاوَة، أَو غير ذَلِك، وَقد يكون لغير ذَلِك. فَإِذا لم يعْمل وَاحْتمل فَلَا يحكم عَلَيْهِ بِالْجرْحِ بذلك مَعَ الِاحْتِمَال؛ لِأَن الأَصْل عَدمه، وَلَيْسَ ترك الحكم بهَا منحصراً فِي الْفسق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1938 وَلِأَن عمله قد يكون متوقفاً على أَمر آخر زَائِد على الْعَدَالَة فَيكون التّرْك لعدم ذَلِك لَا لانْتِفَاء الْعَدَالَة. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني: يكون جرحا إِذا تحقق ارْتِفَاع الدوافع، والموانع، وَأَنه لَو كَانَ ثَابتا للَزِمَ الْعَمَل بِهِ. أما إِن لم يتَبَيَّن قَصده إِلَى مُخَالفَة الْخَبَر فَلَا يكون جرحا، وَفِي الْحَقِيقَة لَا يُخَالف الأول، قَالَه الْبرمَاوِيّ. قَوْله: {وَرِوَايَة الْعدْل تَعْدِيل إِن كَانَ عَادَته لَا يروي إِلَّا عَن عدل} عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَالشَّيْخ موفق الدّين، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، والطوفي، وَأبي الْمَعَالِي، والآمدي، وَابْن الْقشيرِي، ... ... ... ... . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1939 وَالْغَزالِيّ، وَابْن الْحَاجِب، والهندي، والباجي، وَغَيرهم، وَهُوَ وَاضح. وَهَذَا الرَّابِع الَّذِي يحصل بِهِ التَّعْدِيل. قَالَ ابْن رَجَب فِي آخر " شرح التِّرْمِذِيّ ": اخْتلف الْفُقَهَاء، وَأهل الحَدِيث فِي رِوَايَة الثِّقَة عَن رجل غير مَعْرُوف: هَل هُوَ تَعْدِيل، أم لَا؟ وَحكى أَصْحَابنَا عَن أَحْمد فِي ذَلِك رِوَايَتَيْنِ، وحكوا عَن الْحَنَفِيَّة أَنه تَعْدِيل، وَعَن الشَّافِعِيَّة خلاف ذَلِك. قَالَ: فالمنصوص عَن أَحْمد أَنه إِن عرف مِنْهُ أَنه لَا يروي إِلَّا عَن ثِقَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1940 فروايته عَن إِنْسَان تَعْدِيل لَهُ، وَمن لم يعرف مِنْهُ ذَلِك فَلَيْسَ بتعديل. وَصرح بِهِ طَائِفَة من محققي أَصْحَابنَا، وَأَصْحَاب الشَّافِعِي. قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة الْأَثْرَم: إِذا روى الحَدِيث عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن رجل فَهُوَ حجَّة، ثمَّ قَالَ: كَانَ عبد الرَّحْمَن أَولا يتساهل فِي الرِّوَايَة عَن غير وَاحِد ثمَّ شدد بعد. وَقَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة أبي زرْعَة مَالك بن أنس إِذا روى عَن رجل لَا يعرف فَهُوَ حجَّة. وَقَالَ فِي رِوَايَة ابْن هَانِئ: مَا روى مَالك عَن أحد إِلَّا وَهُوَ ثِقَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1941 وكل من روى عَنهُ مَالك فَهُوَ ثِقَة. وَذكر نصوصاً أخر فِي ذَلِك عَنهُ، وَعَن ابْن معِين، وَغَيره. انْتهى. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": مذْهبه التَّفْضِيل بَين بعض الْأَشْخَاص. وَقَالَ أَيْضا: وَالصَّحِيح الَّذِي يُوجِبهُ كَلَام أَحْمد أَن من عرف من حَاله الْأَخْذ عَن الثِّقَات كمالك، وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي، كَانَ تعديلاً دون غَيره. انْتهى. وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": وَالْحق أَنه إِن عرف من مذْهبه أَو عَادَته أَو صَرِيح قَوْله أَنه لَا يرى الرِّوَايَة وَلَا يروي إِلَّا عَن عدل كَانَ تعديلاً، وَإِلَّا فَلَا؛ إِذْ قد يروي الشَّخْص عَمَّن لَو سُئِلَ عَنهُ لسكت. وَقَالَ ابْن اللحام فِي " مُخْتَصره " فِي الْأُصُول: وَفِي رِوَايَة الْعدْل عَنهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1942 أَقْوَال، ثَالِثهَا الْمُخْتَار وَهُوَ الْمَذْهَب: تَعْدِيل إِن كَانَ عَادَته لَا يروي إِلَّا عَن عدل. انْتهى. إِذا علم ذَلِك فَيعرف كَونه لَا يروي إِلَّا عَن عدل إِمَّا بتصريحه وَهُوَ الْغَايَة، أَو باعتبارنا لحاله، أَو استقرائنا لمن يروي عَنهُ، وَهُوَ دون الأول، قَالَه ابْن دَقِيق الْعِيد، وَغَيره وَتقدم كَلَام الطوفي. وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: لَا يكون ذَلِك تعديلاً. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي أُصُوله: وَرِوَايَة الْعدْل لَيست تعديلاً عِنْد أَكثر الْعلمَاء من الطوائف وفَاقا للمالكية، وَالشَّافِعِيَّة. انْتهى. وَقيل: تَعْدِيل مُطلقًا، اخْتَارَهُ القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَالْحَنَفِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة عملا بِظَاهِر الْحَال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1943 رد بِالْمَنْعِ، وَبِأَنَّهُ خلاف الْوَاقِع، وبعدم الدَّلِيل. وَرُوِيَ عَن القَاضِي: إِن سَمَّاهُ فَلَا تَعْدِيل لعدم الْغرَر، وَإِلَّا فتعديل لِئَلَّا تكون رِوَايَته ضيَاعًا. وَلَعَلَّه أَرَادَ بِمَا إِذا سَمَّاهُ أَنه وكل تعديله وجرحه إِلَى غَيره، وأظن أَنِّي رَأَيْت هَذَا النَّقْل عَن القَاضِي فِي " المسودة "، لَكِن قَالَ ابْن مُفْلِح: وَأَشَارَ بعض أَصْحَابنَا: إِن سَمَّاهُ فَلَا تَعْدِيل لعدم الْغرَر وَإِلَّا فتعديل لِئَلَّا تكون رِوَايَته ضيَاعًا كَذَا قَالَ. انْتهى. وَلم ينْسب النَّقْل إِلَى القَاضِي. قَوْله: فَائِدَة: {يعْمل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف فِي الْفَضَائِل عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَالشَّيْخ الْمُوفق، وَالْأَكْثَر} . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " الْآدَاب الْكُبْرَى ": قطع غير وَاحِد مِمَّن صنف فِي عُلُوم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1944 5 - الحَدِيث حِكَايَة عَن الْعلمَاء أَنه يعْمل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف فِيمَا لَيْسَ تحليلاً وَلَا تَحْرِيمًا كالفضائل. وَعَن أَحْمد مَا يُوَافق ذَلِك فَإِنَّهُ قَالَ: إِذا روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْحَلَال وَالْحرَام شددنا فِي الْأَسَانِيد، وَإِذا روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي فَضَائِل الْأَعْمَال، وَمَا لَا يضع حكما، وَلَا يرفعهُ تساهلنا فِي الْأَسَانِيد. ذكر هَذِه الْفَضَائِل القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن، وَاسْتحبَّ الإِمَام أَحْمد الِاجْتِمَاع لَيْلَة الْعِيد فِي رِوَايَة فَدلَّ على الْعَمَل بِهِ لَو كَانَ شعاراً. وَفِي " الْمُغنِي " فِي صَلَاة التَّسْبِيح: الْفَضَائِل لَا يشْتَرط لَهَا صِحَة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1945 الْخَبَر، واستحبها جمَاعَة، لَا لَيْلَة الْعِيد فَدلَّ على التَّفْرِقَة بَين الشعار وَغَيره، قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ". وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: لَا يعْمل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف فِي الْفَضَائِل؛ وَلِهَذَا لم يسْتَحبّ صَلَاة التَّسْبِيح لضعف خَبَرهَا عِنْده، مَعَ أَنه خبر مَشْهُور عمل بِهِ وَصَححهُ غير وَاحِد من الْأَئِمَّة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1946 وَلم يسْتَحبّ أَيْضا التَّيَمُّم بضربتين على الصَّحِيح عَنهُ، مَعَ أَن فِيهِ أَخْبَارًا أوآثاراً، وَغير ذَلِك من مسَائِل الْفُرُوع. وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَلم ير أَحْمد الْعَمَل بالْخبر فِي صَلَاة التَّسْبِيح لضَعْفه، فَدلَّ على أَنه لَا يعْمل بِهِ فِي الْفَضَائِل. وَقيل: لَا يعْمل بِهِ فِيمَا فِيهِ شعار. قَالَ فِي " الْآدَاب ": وَيحْتَمل أَن يُقَال: يحمل الأول على عدم الشعار، وَأَنه إِنَّمَا ترك الْعَمَل بِالثَّانِي لما فِيهِ من الشعار، وَهُوَ معنى مُنَاسِب، وَالله أعلم. {وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يعْمل بِهِ فِي التَّرْغِيب، والترهيب، لَا فِي إِثْبَات مُسْتَحبّ، وَلَا غَيره} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1947 قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عَن قَول أَحْمد وَقَول الْعلمَاء فِي الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف فِي فَضَائِل الْأَعْمَال قَالَ: الْعَمَل بِهِ بِمَعْنى أَن النَّفس ترجو ذَلِك الثَّوَاب، أَو تخَاف ذَلِك الْعقَاب. وَمِثَال ذَلِك التَّرْغِيب والترهيب بالإسرائيليات والمنامات، وكلمات السّلف، وَالْعُلَمَاء، ووقائع الْعَالم، وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يجوز بِمُجَرَّدِهِ إِثْبَات حكم شَرْعِي، لَا اسْتِحْبَاب، وَلَا غَيره، لَكِن يجوز أَن يدْخل فِي التَّرْغِيب والترهيب فِيمَا علم حسنه أَو قبحه بأدلة الشَّرْع فَإِن ذَلِك ينفع، وَلَا يضر وَسَوَاء كَانَ فِي نفس الْأَمر حَقًا أَو بَاطِلا إِلَى أَن قَالَ: وَالْحَاصِل: أَن هَذَا الْبَاب يرْوى وَيعْمل بِهِ فِي التَّرْغِيب والترهيب لَا فِي الِاسْتِحْبَاب. ثمَّ اعْتِقَاد مُوجبه وَهُوَ مقادير الثَّوَاب وَالْعِقَاب يتَوَقَّف على الدَّلِيل الشَّرْعِيّ. وَقَالَ فِي " شرح الْعُمْدَة " فِي التَّيَمُّم بضربتين: وَالْعَمَل بالضعاف إِنَّمَا يسوغ فِي عمل قد علم أَنه مَشْرُوع فِي الْجُمْلَة، فَإِذا رغب فِي بعض أَنْوَاعه بِحَدِيث ضَعِيف عمل بِهِ، أما إِثْبَات سنة فَلَا. انْتهى كَلَامه. وَنقل الْجَمَاعَة عَن أَحْمد أَنه كَانَ يكْتب حَدِيث الرجل الضَّعِيف، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1948 كَابْن لَهِيعَة، وَجَابِر الْجعْفِيّ، وَابْن أبي مَرْيَم، فَيُقَال لَهُ، فَيَقُول: أعرفهُ، أعتبر بِهِ كَأَنِّي أستدل بِهِ مَعَ غَيره، لَا أَنه حجَّة إِذا انْفَرد، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1949 وَيَقُول: يُقَوي بَعْضهَا بَعْضًا، وَرَأى ذَلِك أَيْضا، وَيَقُول الحَدِيث عَن الْجعْفِيّ قد يحْتَاج إِلَيْهِ فِي وَقت وَقَالَ: كنت لَا أكتب حَدِيث جَابر الْجعْفِيّ ثمَّ كتبته، أعتبر بِهِ. وَعجب أَيْضا من ذَلِك وَقَالَ: مَا أعجب أَمر الْفُقَهَاء فِي ذَلِك، وَيزِيد بن هَارُون من أعجبهم يكْتب عَن الرجل مَعَ علمه بضعفه. وَظَاهر هَذَا مِنْهُ أَنه لَا يحْتَج بِهِ مَعَ غَيره كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَام جمَاعَة، وَظَاهر الأول يحْتَج بِهِ، وَقَالَهُ بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَالْمرَاد إِلَّا من ضعفه لكذبه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1950 أما مُنْفَردا فَلَا يحْتَج بِهِ عِنْد الْعلمَاء لاعْتِبَار الشُّرُوط السَّابِقَة فِي الرَّاوِي؛ وَلِهَذَا قَالَ: إِذا جَاءَ الْحَلَال وَالْحرَام أردنَا أَقْوَامًا هَكَذَا، وَقبض كَفه وَأقَام إبهاميه. وَقَالَ أَيْضا: شددنا فِي الْأَسَانِيد، كَمَا تقدم. وَفِي جَامع القَاضِي فِي أَوْقَات الصَّلَاة، وَفِي غَيره أَن الحَدِيث الضَّعِيف لَا يحْتَج بِهِ فِي المآثم، قَالَ فِي حَدِيث: " الصَّعِيد الطّيب وضوء الْمُسلم ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1951 مذْهبه - يَعْنِي: أَحْمد - أَن الحَدِيث الضَّعِيف إِذا لم يكن لَهُ معَارض قَالَ بِهِ. وَقَالَ فِي كَفَّارَة وَطْء الْحَائِض: مذْهبه فِي الْأَحَادِيث وَإِن كَانَت مضطربة وَلم يكن لَهَا معَارض قَالَ بهَا. وَاحْتج القَاضِي بِحَدِيث مظَاهر ابْن أسلم: " أَن عدَّة الْأمة قرءان " فضعفه خَصمه فطالبه بِسَبَبِهِ، ثمَّ قَالَ: مَعَ أَن أَحْمد يقبل الحَدِيث الحَدِيث الضَّعِيف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1952 وَقَالَ فِي " الْعدة " و " الْوَاضِح ": أطلق أَحْمد القَوْل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف، فَقَالَ النَّاس أكفاء إِلَّا حائكاً أَو حجاماً: ضَعِيف وَالْعَمَل عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي حَدِيث غيلَان: " أَنه أسلم على عشر نسْوَة ": لَا يَصح، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1953 وَالْعَمَل عَلَيْهِ فَمَعْنَى قَوْله: ضَعِيف، عِنْد الْمُحدثين [بِمَا] لَا يُوجب ضعفه عِنْد الْفُقَهَاء كتدليس وإرسال والتفرد بِزِيَادَة فِي حَدِيث. ثمَّ ذكر فِي " الْعدة " مَا سبق من رِوَايَة أَحْمد عَن الضَّعِيف، وَقَالَ: فِيهِ فَائِدَة بِأَن يروي الحَدِيث من طَرِيق صَحِيح فرواية الضَّعِيف تَرْجِيح أَو ينْفَرد الضَّعِيف بالرواية فَيعلم ضعفه فَلَا يقبل. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: قَول أَحْمد: (اسْتدلَّ بِهِ مَعَ غَيره لَا أَنه حجَّة إِذا انْفَرد) يُفِيد يصير حجَّة بالانضمام لَا مُنْفَردا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1954 وَقَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة عبد الله: طريقتي: لست أُخَالِف مَا ضعف من الحَدِيث إِذا لم يكن فِي الْبَاب مَا يَدْفَعهُ. قَوْله: {وَلَا يقبل تَعْدِيل مُبْهَم، كحدثني ثِقَة، أَو عدل أَو من لَا أتهم عِنْد بعض أَصْحَابنَا، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة} ، مِنْهُم: الْقفال الشَّاشِي، والصيرفي، والخطيب، وَالْقَاضِي أَبُو الطّيب، وَالشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق، وَابْن الصّباغ، وَالْمَاوَرْدِيّ فِي قَوْله: (حَدثنِي ثِقَة) لاحْتِمَال كَونه مجروحاً عِنْد غَيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1955 {وَذكره القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب وَابْن عقيل، من صور الْمُرْسل على الْخلاف فِيهِ} ، قَالَ الرَّوْيَانِيّ من الشَّافِعِيَّة: هُوَ كالمرسل. وَصَححهُ ابْن الصّباغ، قَالَ ابْن مُفْلِح: {وَكَذَا أَبُو الْمَعَالِي واختياره قبُوله، وَأَن الشَّافِعِي أَشَارَ إِلَيْهِ، وَقَبله الْمجد من أَصْحَابنَا، وَإِن لم يقبل الْمُرْسل والمجهول} ، فَقَالَ: إِذا قَالَ الْعدْل: حَدثنِي الثِّقَة، أَو من لَا أَتَّهِمهُ، أَو رجل عدل، وَنَحْو ذَلِك، فَإِنَّهُ يقبل وَإِن رددنا الْمُرْسل والمجهول؛ لِأَن ذَلِك تَعْدِيل صَرِيح عندنَا. انْتهى. وَكَذَا قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل، وَنقل ابْن الصّلاح عَن أبي حنيفَة أَنه يقبل، وَقيل: فِيهِ تَفْصِيل، من يعرف من عَادَته إِذا أطلق ذَلِك، أَنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1956 يَعْنِي بِهِ معينا وَهُوَ مَعْرُوف بِأَنَّهُ ثِقَة فَيقبل وَإِلَّا فَلَا. حَكَاهُ شَارِح " اللمع الْيَمَانِيّ " عَن صَاحب " الْإِرْشَاد ". وَقيل: وَهُوَ الظَّاهِر الَّذِي قطع بِهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَنَقله ابْن الصّلاح عَن اخْتِيَار بعض الْمُحَقِّقين - إِنَّه إِن كَانَ الْقَائِل لذَلِك من أَئِمَّة الشَّأْن العارفين بِمَا اشْتَرَطَهُ هُوَ وخصومه فِي الْعدْل، وَقد ذكره فِي مقَام الِاحْتِجَاج فَيقبل؛ لِأَن مثل هَؤُلَاءِ لَا يُطلق فِي مقَام الِاحْتِجَاج إِلَّا فِي مَوضِع يَأْمَن أَن يُخَالف فِيمَن أطلق أَنه ثِقَة. فَائِدَة: إِذا قَالَ الشَّافِعِي: حَدثنِي الثِّقَة، فَتَارَة يُرِيد بِهِ أَحْمد، وَتارَة يُرِيد يحيى بن حسان، وَتارَة يُرِيد بِهِ ابْن أبي فديك، وَتارَة يُرِيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1957 بِهِ سعيد بن سَالم القداح، وَتارَة يُرِيد بِهِ إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل، واشتهر عَنهُ ذَلِك فِيهِ، وَتارَة يُرِيد بِهِ مَالِكًا. وَقيل: مُسلم بن خَالِد الزنْجِي إِلَّا أَنه كَانَ يرى الْقدر، وَاحْترز عَن التَّصْرِيح باسمه لهَذَا الْمَعْنى. وَذكر الْحَاكِم جمَاعَة أخر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1958 وَقَالَ ابْن حبَان: إِذا قَالَ: أَخْبرنِي الثِّقَة عَن ابْن أبي ذِئْب فَهُوَ عَن أبي فديك، أَو عَن اللَّيْث، فَهُوَ يحيى بن حسان، أَو عَن الْوَلِيد بن كثير فَهُوَ عَمْرو بن أبي سَلمَة، أَو عَن ابْن جريج فَهُوَ مُسلم بن خَالِد الزنْجِي، أَو عَن صَالح مولى التؤمة فَهُوَ إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى. وَقَالَ الرّبيع: إِذا قَالَ الشَّافِعِي: أخبرنَا الثِّقَة فَهُوَ يحيى بن حسان، وَإِذا قَالَ: من لَا أتهم فَهُوَ إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى، فَإِذا قَالَ: بعض [النَّاس] فَهُوَ يُرِيد أهل الْعرَاق، وَإِذا قَالَ: بعض أَصْحَابنَا فيريد أهل الْحجاز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1959 قَوْله: {فَائِدَتَانِ: أَحدهمَا: الْجرْح نِسْبَة مَا يرد لأَجله القَوْل إِلَى الشَّخْص} الْقَائِل من خبر أَو شَهَادَة، من فعل مَعْصِيّة أَو ارْتِكَاب ذَنْب أَو مَا يخل بِالْعَدَالَةِ. قَالَه الطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَشَرحه فِي حد الْجرْح. قَوْله: {وَالتَّعْدِيل بِخِلَافِهِ} ، أَي: فَهُوَ نِسْبَة مَا يقبل لأَجله القَوْل إِلَى الشَّخْص الْقَائِل من فعل الْخَيْر، والعفة والمروءة، وَالدّين بِفعل الْوَاجِبَات، وَترك الْمُحرمَات، وَنَحْو ذَلِك. قَوْله: {الثَّانِيَة: الْإِخْبَار عَن عَام لَا يخْتَص بِمعين، وَلَا ترافع فِيهِ يُمكن عِنْد الْحُكَّام، هُوَ الرِّوَايَة وَعَكسه الشَّهَادَة. قَالَه الْمَازرِيّ: وَمَعْنَاهُ للشَّافِعِيّ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1960 لما وَقع التَّفْصِيل بَين قبُول تَعْدِيل وَاحِد وجرحه فِي الرِّوَايَة بِخِلَاف ذَلِك فِي الشَّهَادَة احْتِيجَ إِلَى الْفرق بَينهمَا، وَقد خَاضَ جمَاعَة غمره. وَأكْثر مَا يفرقون بَينهمَا باختلافهما فِي الْأَحْكَام كاشتراط الْعدَد فِي الشَّهَادَة، وَالْحريَّة على قَول، والذكورية فِي صور. وَلَا يخفى أَن هَذِه أَحْكَام مترتبة على معرفَة الْحَقِيقَة، فَلَو ثبتَتْ الْحَقِيقَة بهَا لزم الدّور. قَالَ الْقَرَافِيّ: أَقمت مُدَّة أتطلب الْفرق بَينهمَا حَتَّى ظَفرت بِهِ فِي " شرح الْبُرْهَان ". فَذكر مَا حَاصله أَن الْخَبَر إِن كَانَ عَن عَام لَا يخْتَص بِمعين وَلَا ترافع فِيهِ يُمكن عِنْد الْحُكَّام فَهُوَ الرِّوَايَة، وَإِن كَانَ خَاصّا، وَفِيه ترافع مُمكن فَهُوَ الشَّهَادَة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1961 وَعلم من هَذَا الْفرق الْمَعْنى فِيمَا اخْتصّت بِهِ الشَّهَادَة من الْعدَد، والذكورية، وَالْحريَّة، وَنَحْوهَا. وَاحْترز بِإِمْكَان الترافع عَن الرِّوَايَة عَن خَاص معِين فَإِنَّهُ لَا ترافع فِيهِ مُمكن، انْتهى مُلَخصا. قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": قلت: هَذَا الْفرق نَفسه فِي كَلَام الشَّافِعِي، وَبَين المُرَاد من الْعُمُوم وَالْخُصُوص هُنَا، فَقَالَ فِيمَا نَقله الْمُزنِيّ فِي " الْمُخْتَصر " فِي بَاب شَهَادَة النِّسَاء لَا رجل مَعَهُنَّ وَالرَّدّ على من أجَاز شَهَادَة امْرَأَة من هَذَا الْكتاب فِي مَسْأَلَة الْخلاف بَينه وَبَين أبي حنيفَة، وَأَصْحَابه حَيْثُ قبلوا شَهَادَة امْرَأَة على ولادَة الزَّوْجَة دون الْمُطلقَة مَا نَصه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1962 وَقلت لمن يُجِيز شَهَادَة امْرَأَة فِي الْولادَة، كَمَا يُجِيز الْخَبَر بهَا لَا من قبل الشَّهَادَة، وَأَيْنَ الْخَبَر من الشَّهَادَة؟ : أتقبل امْرَأَة عَن امْرَأَة أَن امْرَأَة رجل ولدت هَذَا الْوَلَد؟ قَالَ: لَا. قلت: وَتقبل فِي الْخَبَر: أخبرنَا فلَان عَن فلَان؟ قَالَ: نعم. قلت: وَالْخَبَر هُوَ مَا اسْتَوَى فِيهِ الْمخبر والمخبر والعامة من حرَام وحلال؟ قَالَ: نعم. قلت: وَالشَّهَادَة مَا كَانَ الشَّاهِد مِنْهُ خلياً والعامة وَإِنَّمَا تلْزم الْمَشْهُود عَلَيْهِ؟ قَالَ: نعم. قلت: أفترى هَذَا مشبهاً لهَذَا؟ قَالَ: أما فِي مثل هَذَا فَلَا. انْتهى. وَقَوله: الْخَبَر بهَا لَا من قبل الشَّهَادَة هُوَ المصطلح على تَسْمِيَته رِوَايَة، وَإِن كَانَت الشَّهَادَة أَيْضا خَبرا بِاعْتِبَار مُقَابلَة الْإِنْشَاء. فللخبر إطلاقات، والمتقدمون يعبرون عَن الرِّوَايَة بالْخبر كَمَا هُوَ فِي بعض عِبَارَات الباقلاني، وَالْمَاوَرْدِيّ، وَغَيرهمَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1963 وَبَين الشَّافِعِي السَّبَب فِيمَا تفارق فِيهِ الشَّهَادَة الرِّوَايَة من الْأَحْكَام، وترتبه على مَا افْتَرَقت بِهِ حقيقتاهما من الْمَعْنى، وَذكر بعض الْأَحْكَام قِيَاسا على الْبَعْض ردا على خَصمه الَّذِي قد سلم الْمَعْنى وَفرق فِي الْأَحْكَام بِمَا لَا يُنَاسب. فَإِن قلت: فَأَيْنَ اعْتِبَار إِمْكَان الترافع فِي الشَّهَادَة دون الرِّوَايَة فِي كَلَام الشَّافِعِي؟ قلت: من قَوْله: (وَإِنَّمَا يلْزم الْمَشْهُود عَلَيْهِ) فَإِن اللُّزُوم يَسْتَدْعِي مخاصمة وترافعاً. فَإِن قيل: لَيْسَ فِيمَا نقلت عَن الشَّافِعِي وَلَا فِيمَا نَقله الْقَرَافِيّ عَن الْمَازرِيّ ذكر مَا يعْتَبر فِي الشَّهَادَة من لفظ: أشهد. وَكَونه عِنْد الْحَاكِم أَو الْمُحكم أَو سيد العَبْد أَو الْأمة حَيْثُ سمع عَلَيْهِمَا الْبَيِّنَة لإِقَامَة الْحُدُود إِن جَوَّزنَا لَهُ ذَلِك، وَلَا مَا أشبه ذَلِك مِمَّا يخْتَص بِالشَّهَادَةِ. قلت: إِنَّمَا لم يذكر لكَونهَا أحكاماً وشروطاً خَارِجا عَن الْحَقِيقَة وعَلى كل حَال فقد علم مِمَّا سبق وَجه الْمُنَاسبَة فِيمَا اخْتصّت بِهِ الشَّهَادَة عَن رِوَايَات الْأَخْبَار. قَالَ ابْن عبد السَّلَام: لِأَن الْغَالِب من الْمُسلمين مهابة الْكَذِب على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِخِلَاف شَهَادَة الزُّور فاحتيج إِلَى الِاسْتِظْهَار فِي الشَّهَادَات، وَأَيْضًا فقد ينْفَرد الحَدِيث النَّبَوِيّ بِشَاهِد وَاحِد فِي المحاكمات؛ وَلِهَذَا يظْهر فِيمَا سبق فِي تَزْكِيَة الْوَاحِد فِي الرِّوَايَة أَنه لكَونه أحوط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1964 وَأَيْضًا بَين كثير من النَّاس إحن وعداوات قد تحمل على شَهَادَة الزُّور من بعض بِخِلَاف الْأَخْبَار النَّبَوِيَّة. انْتهى مُلَخصا. وَفصل غَيره الْمَعْنى فِيمَا اعْتبر فِي الشَّهَادَة، أما الْعدَد فَإِنَّهَا لما تعلّقت بِمعين تطرقت إِلَيْهَا التُّهْمَة بِاحْتِمَال الْعَدَاوَة فاحتيط بإبعاد التُّهْمَة بِخِلَاف الرِّوَايَة. وَأما الذُّكُورَة حَيْثُ اشْترطت فَإِن إِلْزَام الْمعِين فِيهِ نوع سلطنة وقهر، والنفوس تأباه، وَلَا سِيمَا من النِّسَاء لنَقص عقلهن ودينهن بِخِلَاف الرِّوَايَة؛ لِأَنَّهَا عَامَّة تتأسى فِيهَا النُّفُوس فيخف الْأَلَم. وَأَيْضًا فلنقص النِّسَاء يكثر غلطهن وَلَا ينْكَشف ذَلِك غَالِبا فِي الشَّهَادَة لانقضائها بِانْقِضَاء زمانها بِخِلَاف الرِّوَايَة فَإِن متعلقها بِالْعُمُومِ يَقع الْكَشْف عَنْهَا فيتبين مَا عساه وَقع من الْمَرْأَة من غلط وَنَحْوه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1965 قَوْله: {فصل} {تَدْلِيس الْمَتْن عمدا محرم} . وجرح التَّدْلِيس لَهُ مَعْنيانِ، معنى فِي اللُّغَة وَمعنى فِي الِاصْطِلَاح. فَمَعْنَاه فِي اللُّغَة: كتمان الْعَيْب فِي مَبِيع أَو غَيره، وَيُقَال: دالسه خادعه، كَأَنَّهُ من الدلس وَهُوَ الظلمَة؛ لِأَنَّهُ إِذا غطى عَلَيْهِ الْأَمر أظلمه عَلَيْهِ. وَأما فِي الِاصْطِلَاح: فَهُوَ قِسْمَانِ، قسم مُضر يمْنَع الْقبُول، وَقسم لَا يضر. فَالْأول هُوَ الَّذِي ذكرنَا أَولا وَيُسمى المدرج، سَمَّاهُ بذلك المحدثون، وَهُوَ بِكَسْر الرَّاء اسْم فَاعل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1966 فالراوي للْحَدِيث إِذا أَدخل فِيهِ شَيْئا من كَلَامه أَولا أَو آخرا أَو وسطا على وَجه يُوهم أَنه من جملَة الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ [فَهُوَ المدرج] وَيُسمى هَذَا تَدْلِيس الْمُتُون، وفاعله عمدا مرتكب محرما مَجْرُوح عِنْد الْعلمَاء لما فِيهِ من الْغِشّ. أما لَو اتّفق ذَلِك من غير قصد من صَحَابِيّ أَو غَيره فَلَا يكون ذَلِك محرما، وَمن ذَلِك كثير أفرده الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ بالتصنيف. وَمن أمثلته حَدِيث ابْن مَسْعُود فِي التَّشَهُّد، قَالَ فِي آخِره: (وَإِذا قلت هَذَا فَإِن شِئْت أَن تقوم فَقُمْ، وَإِن شِئْت أَن تقعد فَاقْعُدْ) ، وَهُوَ من كَلَامه لَا من الحَدِيث الْمَرْفُوع. قَالَه الْبَيْهَقِيّ والخطيب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1967 وَالنَّوَوِيّ وَغَيرهم: وَهَذَا من المدرج أخيراً. وَمِثَال المدرج أَولا: مَا رَوَاهُ الْخَطِيب بِسَنَدِهِ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -: " أَسْبغُوا الْوضُوء، ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار "، فَإِن " أَسْبغُوا الْوضُوء " من كَلَام أبي هُرَيْرَة. وَمِثَال الْوسط مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن بسرة بنت صَفْوَان - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " من مس ذكره أَو أثنييه أَو رفغيه فَليَتَوَضَّأ " قَالَ: فَذكر الْأُنْثَيَيْنِ والرفغ مدرج، إِنَّمَا هُوَ من قَول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1968 عُرْوَة الرَّاوِي عَن بسرة، ومرجع ذَلِك إِلَى الْمُحدثين. وَيعرف ذَلِك بِأَن يرد من طرق أُخْرَى التَّصْرِيح بِأَن ذَلِك من كَلَام الرَّاوِي، وَهُوَ طَرِيق ظَنِّي قد يقوى، وَقد يضعف. وعَلى كل حَال حَيْثُ فعل ذَلِك الْمُحدث عمدا بِأَن قصد إدراج كَلَامه فِي حَدِيث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من غير تَبْيِين، بل دلّس ذَلِك كَانَ فعله حَرَامًا، وَهُوَ مَجْرُوح عِنْد الْعلمَاء غير مَقْبُول الحَدِيث، وَالله أعلم. قَوْله: {وَغَيره مَكْرُوه مُطلقًا} . هَذَا الْقسم الثَّانِي، وَهُوَ الَّذِي لَا يضر، وَله صور: إِحْدَاهَا: أَن يُسمى شَيْخه فِي رِوَايَته باسم لَهُ غير مَشْهُور من كنية، أَو لقب، أَو اسْم، أَو نَحوه، كَقَوْل أبي بكر بن مُجَاهِد الْمُقْرِئ الإِمَام: ثَنَا الإِمَام عبد الله بن أبي أوفى، يُرِيد بِهِ عبد الله بن أبي دَاوُد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1969 السجسْتانِي. وَقَوله أَيْضا: ثَنَا مُحَمَّد بن سَنَد، يُرِيد بِهِ النقاش الْمُفَسّر نسبه إِلَى جده، وَهُوَ كثير جدا وَيُسمى هَذَا تَدْلِيس الشُّيُوخ. وَأما تَدْلِيس الْإِسْنَاد، وَهُوَ أَن يروي عَمَّن لقِيه أَو عاصره مَا لم يسمعهُ مِنْهُ موهماً سَمَاعه مِنْهُ قَائِلا: قَالَ فلَان، أَو عَن فلَان وَنَحْوه، وَرُبمَا لم يسْقط شَيْخه وَأسْقط غَيره. قَالَ ابْن الصّلاح: وَمثله غَيره بِمَا فِي التِّرْمِذِيّ عَن ابْن شهَاب عَن أبي سَلمَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - مَرْفُوعا: " لَا نذر فِي مَعْصِيّة وكفارته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1970 كَفَّارَة يَمِين "، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح؛ لِأَن الزُّهْرِيّ لم يسمعهُ من أبي سَلمَة. ثمَّ ذكر أَن بَينهمَا سُلَيْمَان بن أَرقم عَن يحيى بن أبي كثير، وَأَن هَذَا وَجه الحَدِيث، قَالَ ابْن الصّلاح: هَذَا الْقسم مَكْرُوه جدا، ذمه الْعلمَاء، وَكَانَ شُعْبَة من أَشَّدهم ذماً لَهُ. وَقَالَ مرّة لَهُ: التَّدْلِيس أَخُو الْكَذِب وَمرَّة: لِأَن أزني أحب إِلَيّ من أَن أدلس. وَهَذَا مِنْهُ إفراط مَحْمُول على الْمُبَالغَة فِي الزّجر عَنهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1971 الصُّور الثَّانِيَة: أَن يُسَمِّي شَيْخه باسم شيخ آخر لَا يُمكن أَن يكون رَوَاهُ عَنهُ، كَمَا يَقُول تلامذة الْحَافِظ أبي عبد الله الذَّهَبِيّ: ثَنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ، تَشْبِيها بقول الْبَيْهَقِيّ فِيمَا يرويهِ عَن شَيْخه أبي عبد الله الْحَاكِم: ثَنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ. وَهَذَا لَا يقْدَح لظُهُور الْمَقْصُود. الصُّورَة الثَّالِثَة: أَن يَأْتِي فِي التحديث بِلَفْظ يُوهم أمرا لَا قدح فِي إيهامه ذَلِك، كَقَوْلِه: ثَنَا وَرَاء النَّهر، موهماً نهر جيحون، وَهُوَ نهر عِيسَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1972 بِبَغْدَاد أَو الجيزة وَنَحْوهَا بِمصْر، فَلَا حرج فِي ذَلِك، قَالَه الْآمِدِيّ؛ لِأَن ذَلِك من بَاب الإغراب وَإِن كَانَ فِيهِ إِيهَام الرحلة إِلَّا أَنه صدق فِي نَفسه، إِذا علم ذَلِك. فَالْمُرَاد بذلك الأول، وَأكْثر الْعلمَاء على أَنه مَكْرُوه كَمَا تقدم. قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة حَرْب، وَنقل الْمَرْوذِيّ: {لَا يُعجبنِي هُوَ من أهل الرِّيبَة} ، وَلَا يُغير اسْم رجل؛ لِأَنَّهُ لَا يعرف وَسَأَلَهُ مهنا عَن هشيم قَالَ: ثِقَة إِذا لم يُدَلس. قلت: التَّدْلِيس عيب؟ قَالَ: نعم. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: هَل كَرَاهَته تَنْزِيه أَو تَحْرِيم يخرج على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1973 الْخلاف لنا فِي معاريض غير ظَالِم وَلَا مظلوم، قَالَ: وَالْأَشْبَه تَحْرِيمه؛ لِأَنَّهُ أبلغ من تَدْلِيس الْمَبِيع. قَوْله: {وَمن فعل متأولاً. قبل: عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه، وَالْأَكْثَر} من الْفُقَهَاء، والمحدثين، {وَلم يفسق} ؛ لِأَنَّهُ قد صدر من الْأَعْيَان المتقدى بهم. وَقل من سلم مِنْهُ. وَقد رد الإِمَام أَحْمد قَول شُعْبَة (التَّدْلِيس كذب) قيل للْإِمَام أَحْمد: كَانَ شُعْبَة يَقُول: التَّدْلِيس كذب. فَقَالَ: لَا، قد دلّس قوم وَنحن نروي عَنْهُم، وَتقدم تَأْوِيل كَلَام شُعْبَة. وَقطع ابْن حمدَان فِي " مقنعه "، وَغَيره بِأَن تَدْلِيس الْأَسْمَاء لَيْسَ بِجرح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1974 قَوْله: {وَمن عرف بِهِ عَن الضُّعَفَاء لم تقبل رِوَايَته حَتَّى يبين سَمَاعه عِنْد الْمُحدثين} ، وَغَيرهم، {وَقَالَهُ بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم} ، وَأَبُو الطّيب وَغَيره من الشَّافِعِيَّة، وَهُوَ ظَاهر الْمَعْنى، وسبقت رِوَايَة مهنا، {وَقَالَ الْمجد} ، بن تَيْمِية: {من كثر مِنْهُ التَّدْلِيس لم تقبل عنعنته} . قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ أَن يحْتَمل تَشْبِيه ذَلِك بِمَا سبق فِي الضَّبْط من كَثْرَة السَّهْو وغلبته، وَمَا فِي البُخَارِيّ وَمُسلم من ذَلِك مَحْمُول على أَن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1975 السماع من طَرِيق آخر، كَذَا قيل. وَقد قيل لِأَحْمَد فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: الرجل يعرف بالتدليس يحْتَج بِمَا لم يقل فِيهِ حَدثنِي أَو سَمِعت؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. قلت: الْأَعْمَش مَتى تصاب لَهُ الْأَلْفَاظ؟ قَالَ: يضيق إِن لم يحْتَج بِهِ. قَوْله: {والإسناد المعنعن بِلَا تَدْلِيس بِأَيّ لفظ كَانَ مُتَّصِل عِنْد أَحْمد وَالْأَكْثَر} من الْمُحدثين، وَغَيرهم، عملا بِالظَّاهِرِ، وَالْأَصْل عدم التَّدْلِيس. قَالَ ابْن الصّلاح: الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنه من قبيل الْإِسْنَاد الْمُتَّصِل. وَحَكَاهُ ابْن عبد الْبر فِي " التَّمْهِيد " إِجْمَاعًا، وَكَذَا حَكَاهُ أَبُو عَمْرو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1976 الداني إِجْمَاعًا، وَلَكِن شَرط ابْن عبد الْبر ثَلَاثَة شُرُوط: الْعَدَالَة، واللقاء، وَعدم التَّدْلِيس. قَالَ الإِمَام أَحْمد: مَا رَوَاهُ الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو رَوَاهُ الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه وَدَاوُد عَن الشّعبِيّ عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كل ذَلِك ثَابت. وَذكر جمَاعَة أَن الْإِسْنَاد المعنعن لَيْسَ بِمُتَّصِل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1977 قَالَ ابْن الصّلاح: عده بعض النَّاس من قبيل الْمُرْسل والمنقطع حَتَّى يتَبَيَّن اتِّصَاله بِغَيْرِهِ فَيجْعَل مُرْسلا إِن كَانَ من قبل الصَّحَابِيّ، ومنقطعاً إِن كَانَ من قبل غَيره. وَقَوْلنَا: (بِأَيّ لفظ كَانَ) يَشْمَل (عَن) و (أَن) و (قَالَ) وَنَحْوه، وَهَذَا الصَّحِيح كَمَا يَأْتِي فِي (قَالَ) وَنَحْوه. وَنقل أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد أَن (أَن فلَانا) لَيست للاتصال. وَأطلق القَاضِي وَغَيره من أَصْحَابنَا وَبَعض الْعلمَاء فَلم يفرقُوا بَين المدلس أَو غَيره أَو علم إِمْكَان اللِّقَاء أَو لَا. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَعَلَّه غير مُرَاد، وَقَالَ أَبُو بكر البرذعي: إِن حرف (أَن) مَحْمُول على الِانْقِطَاع حَتَّى يتَبَيَّن السماع فِي ذَلِك الْخَبَر من جِهَة أُخْرَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1978 وَقَالَهُ الْحَافِظ الْفَحْل ابْن شيبَة كَمَا قَالَه الإِمَام أَحْمد، وَيَأْتِي حكم (قَالَ، وَفعل، وَأقر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) . قَوْله: {وَيَكْفِي إِمْكَان اللقي عِنْد مُسلم، وَحَكَاهُ عَن أهل الْعلم بالأخبار} . قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ معنى مَا ذكره أَصْحَابنَا فِيمَا يرد بِهِ الْخَبَر وَمَا لم يرد. قَالَ ابْن رَجَب فِي آخر " شرح التِّرْمِذِيّ ": وَهُوَ قَول كثير من الْعلمَاء الْمُتَأَخِّرين، وَهُوَ ظَاهر كَلَام ابْن حبَان، وَغَيره، وَاشْترط عَليّ ابْن الْمَدِينِيّ وَالْبُخَارِيّ وَغَيرهمَا الْعلم باللقي وَهُوَ أظهر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1979 قَالَ ابْن رَجَب فِي " شرح التِّرْمِذِيّ ": هُوَ قَول جُمْهُور الْمُتَقَدِّمين، وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الإِمَام أَحْمد، وَأبي زرْعَة، وَأبي حَاتِم، وَغَيرهم من أَعْيَان الْحفاظ، بل كَلَامهم يدل على اشْتِرَاط ثُبُوت السماع كَمَا تقدم عَن الشَّافِعِي فَإِنَّهُم قَالُوا فِي جمَاعَة من الْأَعْيَان: ثبتَتْ لَهُم الرُّؤْيَة لبَعض الصَّحَابَة وَقَالُوا: مَعَ ذَلِك لم يثبت لَهُم السماع مِنْهُم فرواياتهم عَنْهُم مُرْسلَة، مِنْهُم: الْأَعْمَش وَيحيى بن أبي كثير، وَأَيوب، وَابْن عون وقرة بن خَالِد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1980 رَأَوْا أنسا وَلم يسمعوا مِنْهُ، فرواياتهم عَنهُ مُرْسلَة، كَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم، وَقَالَهُ أَبُو زرْعَة أَيْضا فِي يحيى بن أبي كثير وَقَالَ أَحْمد فِي يحيى بن أبي كثير: قد رأى أنسا فَلَا أَدْرِي سمع مِنْهُ أم لَا؟ وَلم يجْعَلُوا رِوَايَته عَنهُ مُتَّصِلَة بِمُجَرَّد الرُّؤْيَة والرؤية أبلغ من إِمْكَان اللقي، وَكَذَلِكَ كثير من صبيان الصَّحَابَة رَأَوْا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم يَصح لَهُم سَماع مِنْهُ فرواياتهم عَنهُ مرسله، كطارق ابْن شهَاب وَغَيرهم، وَكَذَلِكَ من علم مِنْهُ أَنه مَعَ اللِّقَاء لم يسمع مِمَّن لقِيه إِلَّا شَيْئا يَسِيرا فروايته عَنهُ زِيَادَة على ذَلِك مُرْسلَة، كروايات ابْن الْمسيب عَن عمر فَإِن الْأَكْثَرين نفوا سَمَاعه مِنْهُ وَأثبت أَحْمد أَنه رَآهُ وَسمع مِنْهُ، وَقَالَ: مَعَ ذَلِك رواياته عَنهُ مُرْسلَة، إِنَّمَا سمع مِنْهُ شَيْئا يَسِيرا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1981 مِثَاله: نعيه النُّعْمَان بن مقرن على الْمِنْبَر، وَنَحْو ذَلِك، وَكَذَلِكَ سَماع الْحسن من عُثْمَان وَهُوَ على الْمِنْبَر [يَأْمر] بقتل الْكلاب وَذبح الْحمام. ورواياته عَنهُ غير ذَلِك مُرْسلَة. وَقَالَ أَحْمد: [بن] جريج لم يسمع من طَاوُوس، وَلَا حرفا، وَيَقُول: رَأَيْت طاووساً. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ أَيْضا: الزُّهْرِيّ لَا يَصح سَمَاعه من ابْن عمر رَآهُ وَلم يسمع مِنْهُ، وَرَأى عبد الله بن جَعْفَر وَلم يسمع مِنْهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1982 وَأثبت أَيْضا دُخُول مَكْحُول على وَاثِلَة بن الْأَسْقَع ورؤيته لَهُ ومشافهته، وَأنكر سَمَاعه، وَقَالَ: لم يَصح لَهُ مِنْهُ سَماع، وَجعل رواياته عَنهُ؟ مُرْسلَة. وَقَالَ أَحْمد: أبان بن عُثْمَان لم يسمع من أَبِيه، من أَيْن سمع مِنْهُ؟ وَمرَاده: من أَيْن صحت الرِّوَايَة بِسَمَاعِهِ مِنْهُ، وَإِلَّا فإمكان ذَلِك واحتماله غير مستبعد. وَقَالَ أَبُو زرْعَة فِي أبي أُمَامَة بن سهل بن حنيف: لم يسمع من عمر. هَذَا مَعَ أَن أَبَا أُمَامَة رأى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَدلَّ كَلَام الإِمَام أَحْمد، وَأبي زرْعَة، وَأبي حَاتِم على أَن الِاتِّصَال لَا يثبت إِلَّا بِثُبُوت التَّصْرِيح بِالسَّمَاعِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1983 وَهَذَا أضيق من قَول ابْن الْمَدِينِيّ، وَالْبُخَارِيّ؛ فَإِن المحكي عَنْهُمَا أَنه يعْتَبر أحد أَمريْن: إِمَّا السماع، وَإِمَّا اللِّقَاء. وَأحمد وَمن تبعه عِنْدهم لابد من ثُبُوت السماع. وَيدل على أَن هَذَا مُرَادهم، أَن أَحْمد قَالَ: ابْن سِيرِين لم يَجِيء عَنهُ سَماع من ابْن عَبَّاس. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: الزُّهْرِيّ أدْرك أبان بن عُثْمَان وَمن هُوَ أكبر مِنْهُ، وَلَكِن لَا يثبت لَهُ السماع، كَمَا أَن حبيب بن أبي ثَابت لَا يثبت لَهُ السماع من عُرْوَة، وَقد سمع مِمَّن هُوَ أكبر مِنْهُ غير أَن أهل الحَدِيث قد اتَّفقُوا على ذَلِك، واتفاقهم على شَيْء يكون حجَّة، وَاعْتِبَار السماع لاتصال الحَدِيث هُوَ الَّذِي ذكره ابْن عبد الْبر، وَحَكَاهُ عَن الْعلمَاء، وَقُوَّة كَلَامه تشعر بإنه إِجْمَاع مِنْهُم. قَالَ ابْن رَجَب: وَقد تقدم أَنه قَول الشَّافِعِي أَيْضا. وَأطَال النَّقْل فِي ذَلِك عَن الْأَئِمَّة ثمَّ قَالَ: كَلَام أَحْمد، وَأبي زرْعَة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1984 وَأبي حَاتِم فِي هَذَا الْمَعْنى كثير جدا، وَكله يَدُور على أَن مُجَرّد ثُبُوت الرُّؤْيَة لَا يَكْفِي فِي ثُبُوت السماع، وَأَن السماع لَا يثبت بِدُونِ التَّصْرِيح بِهِ، وَأَن رِوَايَة من روى عَمَّن عاصره تَارَة بِوَاسِطَة، وَتارَة بِغَيْر وَاسِطَة يدل على أَنه لم يسمع مِنْهُ إِلَّا أَن يثبت لَهُ السماع من وَجه. ثمَّ قَالَ: فَإِذا كَانَ هَذَا قَول هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة الْأَعْلَام، وهم أعلم أهل زمانهم بِالْحَدِيثِ وَعلله، وَصَحِيحه، وسقيمه مَعَ مُوَافقَة البُخَارِيّ وَغَيره، فَكيف يَصح لمُسلم رَحمَه الله دَعْوَى الْإِجْمَاع على خلاف قَوْلهم، بل اتِّفَاق هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة على قَوْلهم هَذَا يَقْتَضِي حِكَايَة إِجْمَاع الْحفاظ المعتبرين على هَذَا القَوْل، وَإِن القَوْل بِخِلَاف قَوْلهم لَا يعرف عَن أحد من نظرائهم وَلَا عَمَّن قبلهم مِمَّن هُوَ فِي درجتهم وحفظهم. وَيشْهد لصِحَّة ذَلِك حِكَايَة أبي حَاتِم اتِّفَاق أهل الحَدِيث على أَن حبيب ابْن أبي ثَابت لم يثبت لَهُ السماع من عُرْوَة مَعَ إِدْرَاكه لَهُ، وَقد ذكرنَا من قبل أَن كَلَام الشَّافِعِي إِنَّمَا يدل على مثل هَذَا لَا على خِلَافه؛ وَلذَلِك حَكَاهُ ابْن عبد الْبر عَن الْعلمَاء فَلَا يبعد حِينَئِذٍ أَن يُقَال: هَذَا قَول الْأَئِمَّة من الْمُحدثين، وَالْفُقَهَاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1985 وَزَاد ابْن رَجَب مَا ذكره مُسلم من الرِّوَايَات وَاحِدَة وَاحِدَة وَبَين مَا يرد عَلَيْهِ فليعاود فَإِنَّهُ أَجَاد وَأفَاد. وَقَالَ أَبُو عَمْرو الداني: لابد مَعَ ذَلِك من الْعلم بالرواية عَنهُ مَعَ اللقي؛ إِذْ لَا يلْزم من اللقي الرِّوَايَة عَنهُ. وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: لابد من طول الصُّحْبَة فلابد من اللقي وَطول الصُّحْبَة، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ أضيق من الْأَقْوَال الْمُتَقَدّمَة. قَوْله: {وَظَاهر الأول أَن من روى عَمَّن [لم] يعرف بِصُحْبَتِهِ وَالرِّوَايَة عَنهُ} أَن رِوَايَته عَنهُ تقبل مُطلقًا. أَعنِي {وَلَو أجمع أَصْحَاب الشَّيْخ أَنه لَيْسَ من أَصْحَابه} ؛ لِأَنَّهُ ثِقَة. وَقَالَ الحنيفة، وَابْن برهَان، وَلم تقبله الشَّافِعِيَّة، وَظَاهر كَلَام أَحْمد فِي ذَلِك مُخْتَلف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1986 قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": إِذا روى رجل خَبرا عَن شيخ مَشْهُور لم يعرف بِصُحْبَتِهِ، وَلم يشْتَهر بالرواية عَنهُ، وَأجْمع أَصْحَاب الشَّيْخ المعروفون على جهالته بَينهم، وَأَنه لَيْسَ مِنْهُم، هَل يمْنَع ذَلِك قبُول خَبره؟ قَالَت الشَّافِعِيَّة: يمْنَع. وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: لَا يمْنَع، وَنَصره ابْن برهَان. وَالْأول ظَاهر كَلَام الإِمَام أَحْمد فِي مَوَاضِع، وَأكْثر الْمُحدثين. وَالثَّانِي يدل عَلَيْهِ كَلَام الإِمَام أَحْمد فِي اعتذاره لجَابِر الْجعْفِيّ فِي قصَّة هِشَام بن عُرْوَة مَعَ زَوجته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1987 وَقد قَالَ ابْن عقيل: الْمُحَقِّقُونَ من الْعلمَاء يمْنَعُونَ رد الْخَبَر بالاستدلال، كرد خبر القهقهة اسْتِدْلَالا بِفضل الصَّحَابَة الْمَانِع من الضحك، وَردت عَائِشَة قَول ابْن عَبَّاس فِي الرُّؤْيَة، وَقَول بَعضهم إِن قَوْله: (لأزيدن على السّبْعين) بعيد الصِّحَّة؛ لِأَن السّنة تَأتي بالعجائب، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1988 وَلَو شهِدت بَيِّنَة على مَعْرُوف بِالْخَيرِ بِإِتْلَاف أَو غصب لم ترد بالاستبعاد هَذَا معنى كَلَام أَصْحَابنَا، وَغَيرهم فِي رده بِمَا يحيله الْعقل، وَالله أعلم. قَوْله: وَلَيْسَ ترك الْإِنْكَار شرطا فِي قبُول الْخَبَر عندنَا، [وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد خلافًا للحنفية ذكره القَاضِي فِي الْخلاف فِي خبر فَاطِمَة بنت قيس] ورد عمر لَهُ. وَكَذَا قَالَ ابْن عقيل جَوَاب من قَالَ: رده السّلف: إِن الثِّقَة لَا يرد حَدِيثه بإنكار غَيره؛ لِأَن مَعَه زِيَادَة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1989 قَوْله: {فصل} {أَصْحَابنَا، والمعظم: الصَّحَابَة عدُول} . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَغَيره: الَّذِي عَلَيْهِ سلف الْأمة وَجُمْهُور الْخلف أَن الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - عدُول بتعديل الله تَعَالَى لَهُم. قَالَ ابْن الصّلاح وَغَيره: الْأمة مجمعة على تَعْدِيل جَمِيع الصَّحَابَة، وَلَا يعْتد بِخِلَاف من خالفهم. انْتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1990 وَحَكَاهُ ابْن عبد الْبر فِي مُقَدّمَة " الِاسْتِيعَاب " إِجْمَاع أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وَحكى فِيهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ الْإِجْمَاع. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل كَمَا قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: فهم عدُول بتعديل الله تَعَالَى. قَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ} [التَّوْبَة: 100] ، وَقَالَ تَعَالَى: {لقد رضى الله عَن الْمُؤمنِينَ} [الْفَتْح: 18] ، وَقَالَ: {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار} [الْفَتْح: 29] ، وَقَالَ تَعَالَى: {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} [آل عمرَان: 110] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} [الْبَقَرَة: 143] . وَقد تَوَاتر امتثالهم الْأَوَامِر والنواهي. وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَو أنْفق أحدكُم مثل أحد مَا بلغ مد أحدهم، وَلَا نصيفه ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1991 وَلَو ورد على سَبَب خَاص فَالْعِبْرَة بِعُمُوم اللَّفْظ، وَلَا يضرنا أَيْضا كَون الْخطاب بذلك للصحابة، أَيْضا؛ لِأَن الْمَعْنى لَا يسب غير أَصْحَابِي أَصْحَابِي، وَلَا يسب أَصْحَابِي بَعضهم بَعْضًا. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خير الْقُرُون قَرْني " مُتَّفق عَلَيْهِمَا. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن الله اختارني وَاخْتَارَ لي أصحاباً وأنصاراً، لَا تؤذوني فِي أَصْحَابِي " فَأَي تَعْدِيل أصح من تَعْدِيل علام الغيوب وتعديل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ { فَإِن قيل: هَذِه الْأَدِلَّة دلّت على فَضلهمْ فَأَيْنَ التَّصْرِيح بِعَدَالَتِهِمْ؟ قلت: من أثنى الله عَلَيْهِ بِهَذَا الثَّنَاء، لَا يكون عدلا؟} فَإِذا كَانَ التَّعْدِيل يثبت بقول اثْنَيْنِ من النَّاس فَكيف لَا تثبت الْعَدَالَة بِهَذَا الثَّنَاء الْعَظِيم من الله وَرَسُوله؟ ! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1992 قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": ومرادهم من جهل حَاله فَلم يعرف بقدح. قَالَ الْمَازرِيّ: وَالْحكم بِالْعَدَالَةِ إِنَّمَا هُوَ لمن اشتهرت صحبته. نَقله الْبرمَاوِيّ. وَالظَّاهِر أَن هُنَا فِي النُّسْخَة غَلطا. وَقيل: هم عدُول إِلَى زمن الْفِتَن، وَبعد حُدُوث الْفِتَن كغيرهم، ومثلوا ذَلِك بقتل عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ -. {وَقَالَت الْمُعْتَزلَة} : هم عدُول {إِلَّا من قَاتل عليا} . وَقَالَت: من قَاتل عليا فَهُوَ فَاسق لِخُرُوجِهِ على الإِمَام بِغَيْر حق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1993 وَهُوَ ضَعِيف؛ بل فعلوا ذَلِك اجْتِهَادًا، وهم من أَهله، وَالْعَمَل بِالِاجْتِهَادِ وَاجِب، أَو جَائِز. {وَقيل: هم كغيرهم} مُطلقًا للعمومات الدَّالَّة على ذَلِك. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَهَذِه الْأَقْوَال الْبَاطِلَة بَعْضهَا مَنْسُوب إِلَى عَمْرو بن عبيد وَأَضْرَابه، وَمَا وَقع بَينهم مَحْمُول على الِاجْتِهَاد، وَلَا قدح على مُجْتَهد عِنْد المصوبة وَغَيرهم، وَهَذَا متأول. الأولى: لَيْسَ المُرَاد بكونهم عُدُولًا الْعِصْمَة لَهُم، واستحالة الْمعْصِيَة عَلَيْهِم، إِنَّمَا المُرَاد أَن لَا نتكلف الْبَحْث عَن عدالتهم، وَلَا طلب التَّزْكِيَة فيهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1994 الثَّانِيَة: قَالَ الْحَافِظ الْمزي: من الْفَوَائِد أَنه لم يُوجد قطّ رِوَايَة عَمَّن لمز بالنفاق من الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم -. الثَّالِثَة: من فَوَائِد القَوْل بِعَدَالَتِهِمْ مُطلقًا إِذا قيل عَن رجل من الصَّحَابَة: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ كَذَا كَانَ ذَلِك كتعيينه باسمه لِاسْتِوَاء الْكل فِي الْعَدَالَة. وَقَالَ أَبُو زيد الدبوسي: بِشَرْط أَن يعْمل بروايته السّلف، أَو يسكتوا عَن الرَّد مَعَ الانتشار، أَو تكون مُوَافقَة للْقِيَاس، وَإِلَّا فَلَا يحْتَج بهَا. وَهَذَا ضَعِيف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1995 قَوْله: {وهم من لَقِي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو رَآهُ يقظة حَيا، عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَالْبُخَارِيّ} وَغَيرهمَا. لما تقرر أَن الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - عدُول فلابد من بَيَان الصَّحَابِيّ من هُوَ، وَمَا الطَّرِيق فِي معرفَة كَونه صحابياً؟ وَقد اخْتلف فِي تَفْسِير الصَّحَابِيّ على أَقْوَال منتشرة، الْمُخْتَار مِنْهَا مَا ذهب إِلَيْهِ الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه، وَالْبُخَارِيّ، وَغَيرهم، وَهُوَ مَا قدمْنَاهُ أَولا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1996 قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: وَهِي طَريقَة أهل الحَدِيث. فقولنا: {من لقِيه} ليعم الْبَصِير وَالْأَعْمَى فَهُوَ أحسن من قَول من قَالَ: من رَآهُ. وَزَاد بَعضهم: أَو رَآهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى يدْخل الْأَعْمَى. وَقَوْلنَا: {يقظة} احْتِرَاز مِمَّن رَآهُ مناماً؛ فَإِنَّهُ لَا يُسمى صحابياً إِجْمَاعًا، وَهُوَ ظَاهر. وَقَوْلنَا: {حَيا} ، احْتِرَاز مِمَّن رَآهُ بعد مَوته: كَأبي ذُؤَيْب الشَّاعِر خويلد بن خَالِد الْهُذلِيّ؛ لِأَنَّهُ لما أسلم وَأخْبر بِمَرَض النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَافر ليراه فَوَجَدَهُ مَيتا مسجى فَحَضَرَ الصَّلَاة عَلَيْهِ والدفن فَلم يعد صحابياً. على أَن الذَّهَبِيّ فِي " التَّجْرِيد " للصحابة عد مِنْهُم أَبَا ذُؤَيْب، وَقواهُ الشَّيْخ أَبُو حَفْص البُلْقِينِيّ، وَقَالَ الشَّيْخ: الظَّاهِر أَنه يعد صحابياً، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1997 وَلَكِن مُرَادهم كلهم الصُّحْبَة الْحكمِيَّة الَّتِي سنبينها لَا حَقِيقَة الصُّحْبَة. وَقَوْلنَا: {مُسلما} ؛ ليخرج من رَآهُ وَاجْتمعَ بِهِ قبل النُّبُوَّة وَلم يره بعد ذَلِك، كَمَا فِي زيد بن عَمْرو بن نفَيْل، فَإِنَّهُ مَاتَ قبل المبعث، وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّه يبْعَث أمه وَحده " كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَيخرج أَيْضا من رَآهُ وَهُوَ كَافِر ثمَّ أسلم بعد مَوته. وَقَوْلنَا: {وَلَو ارْتَدَّ ثمَّ أسلم وَلم يره وَمَات مُسلما} ، لَهُ مَفْهُوم ومنطوق، فمفهومه أَنه إِذا ارْتَدَّ فِي زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو بعد مَوته؛ وَقتل على الرِّدَّة: كَابْن خطل وَغَيره؛ فَإِنَّهُ لَا يعد من الصَّحَابَة قطعا؛ فَإِنَّهُ بِالرّدَّةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1998 تبين أَنه لم يجْتَمع بِهِ مُؤمنا تَفْرِيعا على قَول الْأَشْعَرِيّ: إِن الْكفْر وَالْإِيمَان لَا يتبدلان خلافًا للحنفية، وَالِاعْتِبَار فيهمَا بالخاتمة. ومنطوقه لَو ارْتَدَّ ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَام: كالأشعث بن قيس فقد تبين أَنه لم يزل مُؤمنا. فَإِن كَانَ قد رَآهُ مُؤمنا ثمَّ ارْتَدَّ ثمَّ رَآهُ ثَانِيًا مُؤمنا فَأولى وأوضح أَن يكون صحابياً؛ فَإِن الصُّحْبَة قد صحت بالاجتماع الثَّانِي قطعا. وَخرج من اجْتمع بِهِ قبل النُّبُوَّة ثمَّ أسلم بعد المبعث وَلم يلقه، فَإِن الظَّاهِر أَنه لَا يكون صحابياً بذلك الِاجْتِمَاع؛ لِأَنَّهُ لم يكن حِينَئِذٍ مُؤمنا، كَمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1999 رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عبد الله بن أبي الحمساء قَالَ: بَايَعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل أَن يبْعَث فوعدته أَن آتيه بهَا فِي مَكَانَهُ، ونسيت، ثمَّ ذكرت بعد ثَلَاث فَجئْت فَإِذا هُوَ فِي مَكَانَهُ فَقَالَ: يَا فَتى لقد شققت عَليّ أَنا فِي انتظارك مُنْذُ ثَلَاث. ثمَّ لم ينْقل أَنه اجْتمع بِهِ بعد المبعث. وَدخل فِي قَوْلنَا: من لَقِي، من جِيءَ بِهِ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ غير مُمَيّز فحنكه: كَعبد الله بن الْحَارِث بن نَوْفَل، أَو تفل فِي فِيهِ: كمحمود بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2000 الرّبيع، بل مجه بِالْمَاءِ كَمَا فِي البُخَارِيّ، وَهُوَ ابْن خمس سِنِين أَو أَربع أَو مسح وَجهه: كَعبد الله بن ثَعْلَبَة بن صعير - بالصَّاد وَفتح الْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ - وَنَحْو ذَلِك. فَهَؤُلَاءِ صحابة وَإِن اخْتَار جمَاعَة خلاف ذَلِك، كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَام ابْن معِين، وَأبي زرْعَة الرَّازِيّ، وَأبي حَاتِم، وَأبي دَاوُد، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2001 وَابْن عبد الْبر، وَغَيرهم، وَكَأَنَّهُم نفوا الصُّحْبَة الْمُؤَكّدَة. وَقَوْلنَا: {وَلَو جنياً على الْأَظْهر} . اخْتلف الْعلمَاء فِي الْجِنّ الَّذين قدمُوا على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من نَصِيبين وهم ثَمَانِيَة من الْيَهُود أَو سَبْعَة؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أنزل من بعد مُوسَى} [الْأَحْقَاف: 30] ، وَذكر فِي أسمائهم: شاصر وماصر وناشي ومنشي والأحقب وزوبعة وسرق وَعَمْرو بن جَابر. وَقد اسْتشْكل ابْن الْأَثِير فِي " أَسد الغابة " قَول من ذكرهم فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2002 الصَّحَابَة، وَهُوَ مَحل نظر. قلت: الأولى أَنهم من الصَّحَابَة، وَأَنَّهُمْ لقوا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وآمنوا بِهِ، وَأَسْلمُوا وذهبوا إِلَى قَومهمْ منذرين. فَائِدَة: قَالَ بعض الْعلمَاء: خرج من الصَّحَابَة من رَآهُمْ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين كشف لَهُ عَنْهُم لَيْلَة الْإِسْرَاء، أَو غَيرهَا، وَمن رَآهُ فِي غير عَالم الشَّهَادَة: كالمنام كَمَا تقدم، وَكَذَا من اجْتمع بِهِ من الْأَنْبِيَاء، وَالْمَلَائِكَة فِي السَّمَوَات؛ لِأَن مقامهم أجل من رُتْبَة الصُّحْبَة. قَالَه الْبرمَاوِيّ. وَكَذَا من اجْتمع بِهِ فِي الأَرْض: كعيسى وَالْخضر - عَلَيْهِمَا من الله الصَّلَاة وَالسَّلَام - إِن صَحَّ فَإِن المُرَاد اللقي الْمَعْرُوف على الْوَجْه الْمُعْتَاد لَا خوارق الْعَادَات، وَالله أعلم. وَقد ذكرت أَقْوَال غير ذَلِك كلهَا ضَعِيفَة فَشرط بعض الْعلمَاء فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2003 الصَّحَابَة زِيَادَة على مَا ذَكرْنَاهُ أَن يروي عَنهُ وَلَو حَدِيث وَاحِدًا، وَإِلَّا فَلَا يكون صحابياً. وَشرط بَعضهم أَن تطول الصُّحْبَة وتكثر المجالسة على طَرِيق التبع لَهُ وَالْأَخْذ عَنهُ، وينقل ذَلِك عَن أهل الْأُصُول. قلت: قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَقَالَ عمر بن يحيى هُوَ من طَالَتْ صحبته، وَأخذ عَنهُ. وَقَالَت طَائِفَة: هُوَ وَاقع على من صَحبه وجالسه واختص بِهِ لَا على من كَانَ فِي عَهده. اخْتَارَهُ الجاحظ والباقلاني. وَشرط سعيد بن الْمسيب أَن يُقيم مَعَه سنة أَو سنتَيْن أَو يَغْزُو مَعَه غَزْوَة أَو غزوتين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2004 وَقد اعْترض عَلَيْهِ بِنَحْوِ جرير بن عبد الله، وَوَائِل بن حجر وَغَيرهمَا مِمَّن وَفد عَلَيْهِ فِي السّنة الْعَاشِرَة وَمَا قاربها، مَعَ أَن الْإِجْمَاع على عدهم من الصَّحَابَة. ذكر ابْن الْعِرَاقِيّ: إِلَّا أَن يُرِيدُوا الصُّحْبَة الْمُؤَكّدَة فيستقيم. وَشرط بَعضهم الْبلُوغ، حَكَاهُ الْوَاقِدِيّ عَن أهل الْعلم، ورد ذَلِك بِخُرُوج عبد الله بن الزبير، وَالْحسن، وَالْحُسَيْن، وأشباههم - رَضِي الله عَنْهُم -. وَاشْترط أَبُو الْحسن ابْن الْقطَّان الْعَدَالَة، قَالَ: والوليد الَّذِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2005 شرب الْخمر لَيْسَ بصحابي، وَإِنَّمَا صَحبه الَّذين هم على طَرِيقَته، وَالصَّحِيح خِلَافه. قَوْله: {فَائِدَتَانِ: الأولى: قَالَ ابْن الصّلاح، وَالنَّوَوِيّ، وَغَيرهمَا: فِي التَّابِعِيّ مَعَ الصَّحَابِيّ الْخلاف} الْمُتَقَدّم فِي الصَّحَابَة قِيَاسا عَلَيْهِم. وَاشْترط الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ وَجَمَاعَة فِي التَّابِعين الصُّحْبَة، فَلَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّد الرُّؤْيَة وَلَا اللقي، بِخِلَاف الصَّحَابَة فَإِن لَهُم مزية على سَائِر النَّاس وشرفاً بِرُؤْيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَاشْترط ابْن حبَان فِي التَّابِعِيّ كَونه فِي سنّ يحفظ عَنهُ بِخِلَاف الصَّحَابِيّ فَإِن الصَّحَابَة قد اختصوا بِشَيْء لم يُوجد فِي غَيرهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2006 قَوْله: {وَلَا يعْتَبر الْعلم فِي ثُبُوت الصُّحْبَة عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم [خلافًا] لقوم} . اعْلَم أَن طَريقَة معرفَة الصَّحَابَة تَارَة تكون ظَاهِرَة، وَتارَة خُفْيَة، فالظاهرة مَعْلُومَة فَمِنْهَا: التَّوَاتُر، وَمِنْهَا: استفاضة بِكَوْنِهِ صحابياً أَو بِكَوْنِهِ من الْمُهَاجِرين أَو من الْأَنْصَار. وَقَول الصَّحَابِيّ ثَابت الصُّحْبَة: هَذَا صَحَابِيّ، أَو ذكر مَا يلْزم مِنْهُ أَن يكون صحابياً، نَحْو: كنت أَنا وَفُلَان عِنْد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو دَخَلنَا عَلَيْهِ، وَنَحْوه، لَكِن بِشَرْط أَن يعرف إِسْلَامه فِي تِلْكَ الْحَال واستمراره عَلَيْهِ. وَأما الْخفية فَكَمَا لَو ادّعى الْعدْل المعاصر للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه صَحَابِيّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2007 قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَلَا يعْتَبر الْعلم فِي ثُبُوت الصُّحْبَة وفَاقا للأئمة الْأَرْبَعَة، خلافًا لبَعض الْحَنَفِيَّة، فَلَو قَالَ معاصر عدل: أَنا صَحَابِيّ قبل عِنْد أَصْحَابنَا وَالْجُمْهُور. انْتهى. وَقيل: لَا يقبل، وَإِلَيْهِ ميل الطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَهُوَ ظَاهر كَلَام ابْن الْقطَّان الْمُحدث، وَبِه قَالَ أَبُو عبد الله الصَّيْمَرِيّ من الْحَنَفِيَّة، وَأَنه لَا يجوز أَن يُقَال: إِنَّه صَحَابِيّ إِلَّا عَن علم ضَرُورِيّ أَو كسبي، وَهُوَ ظَاهر كَلَام ابْن السَّمْعَانِيّ أَيْضا. قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": وَتعلم الصُّحْبَة بِإِخْبَار غَيره عَنهُ أَو عَن نَفسه، وَفِيه نظر؛ إِذْ هُوَ مُتَّهم بتحصيل منصب الصَّحَابَة، وَلَا يُمكن تَفْرِيع قبُول قَوْله على عَدَالَة الصَّحَابَة، إِذْ عدالتهم فرع الصُّحْبَة، فَلَو ثبتَتْ الصُّحْبَة بهَا لزم الدّور. انْتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2008 وَفِي قَوْله: لزم الدّور نظر بَينه شَارِحه. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: وَتخرج من كَلَام بَعضهم مَذْهَب ثَالِث بالتفصيل بَين مدعي الصُّحْبَة القصيرة فَيقبل؛ لِأَنَّهُ يتَعَذَّر إِثْبَات صحبته بِالنَّقْلِ، إِذْ رُبمَا لَا يحضرهُ حِين اجتماعه بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أحد، أَو حَال رُؤْيَته إِيَّاه، وَبَين مدعي طول الصُّحْبَة، وَكَثْرَة التَّرَدُّد فِي السّفر والحضر فَلَا يقبل ذَلِك مِنْهُ؛ لِأَن مثل ذَلِك يشْتَهر وينقل. انْتهى. وَهُوَ قَول حسن. قَوْله: {الثَّانِيَة: لَو قَالَ تَابِعِيّ عدل: فلَان صَحَابِيّ، لم يقبل فِي الْأَصَح} ، وَهُوَ ظَاهر كَلَامهم لكَوْنهم خصوا ذَلِك بالصحابي. قَالَ بعض شرَّاح " اللمع ": لَا أعرف فِيهِ نقلا، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقيَاس أَنه لَا يقبل؛ لِأَن ذَلِك مُرْسل؛ لِأَنَّهَا قَضِيَّة لم يحضرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2009 قيل: وَالظَّاهِر خلاف ذَلِك؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُول ذَلِك إِلَّا عَن علم اضطراري أَو اكتسابي. قَوْله: {وَلَو قَالَ: أَنا تَابِعِيّ أدْركْت الصَّحَابَة، فَالظَّاهِر أَنه كالصحابي} فِي قَوْله: أَنا صَحَابِيّ؛ لِأَنَّهُ ثِقَة عدل مَقْبُول القَوْل، فَقبل كالصحابي.،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2010 (قَوْله: {فصل} {فِي مُسْتَند الصَّحَابِيّ} الْمُخْتَلف) اعْلَم أَن مُسْتَند الصَّحَابِيّ فِي الرِّوَايَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَوْعَانِ: أَحدهمَا: لَا خلاف فِيهِ؛ إِذْ هُوَ صَرِيح فِي ذَلِك لَا يحْتَمل شَيْئا كَقَوْلِه: سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو حَدثنِي، أَو أَخْبرنِي، أَو شافهني، أَو رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: أَو يفعل كَذَا. وَهَذَا أرفع الدَّرَجَات لكَونه يدل على عدم الْوَاسِطَة بَينهمَا قطعا. النَّوْع الثَّانِي: مَا هُوَ مُخْتَلف فِيهِ لكَونه غير صَرِيح، بل مُحْتَمل الْوَاسِطَة، وَهُوَ مَرَاتِب: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2011 الْمرتبَة الأولى: أَن يَقُول الصَّحَابِيّ: قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَذَا، أَو فعل كَذَا، أَو أقرّ على كَذَا، فَهَذَا من الْمُخْتَلف فِيهِ. وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابنَا، وَأكْثر الْعلمَاء: أَنه يحمل على الِاتِّصَال وَأَنه لَا وَاسِطَة بَينهمَا، وَيكون ذَلِك حكما شَرْعِيًّا يجب الْعَمَل بِهِ؛ لِأَنَّهُ الظَّاهِر من حَال الصَّحَابِيّ الْقَائِل ذَلِك. وَقَوْلنَا: قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَنَحْوه، أَعنِي نَحْو: قَالَ كَفعل أَو أقرّ، كَمَا تقدم. وَيدخل فِي ذَلِك (عَن) و (أَن) ، وَتقدم ذَلِك فِي الْإِسْنَاد المعنعن، وَخَالف فِي ذَلِك أَبُو الْخطاب من أَصْحَابنَا، وَجمع من الْعلمَاء، مِنْهُم: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2012 القَاضِي أَبُو بكر بن الباقلاني. وَحَكَاهُ أَبُو الْخطاب عَن الأشعرية فَقَالُوا: لَا يحمل على السماع لاحْتِمَاله وتردده بَين سَمَاعه مِنْهُ وَمن غَيره. قَالَ الباقلاني: مُتَرَدّد بَين سَمَاعه مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبَين سَمَاعه من غَيره بِنَاء على عَدَالَة الصَّحَابَة، نَقله الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب عَنهُ، ورده السُّبْكِيّ فِي " شرح الْمُخْتَصر "، وَقَالَ: الْمَنْقُول عَنهُ فِي " التَّقْرِيب " أَنه مَحْمُول على السماع. انْتهى. قلت: يحْتَمل أَن لَهُ قَوْلَيْنِ، إِذا علم ذَلِك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2013 فَقَالَ ابْن مُفْلِح: لما قَالَ أَبُو الْخطاب: إِنَّه مُحْتَمل، وَإنَّهُ ظَاهر قَول من نصر أَن الْمُرْسل لَيْسَ بِحجَّة فَظَاهره كمرسل لاحْتِمَال سَمَاعه من تَابِعِيّ. وَالْأَشْهر يَنْبَنِي على عَدَالَة الصَّحَابَة لظُهُور سَمَاعه مِنْهُم. انْتهى. وَقَالَ كثير من الْعلمَاء: إِن قُلْنَا بعدالة جَمِيع الصَّحَابَة قبل وَإِلَّا فكمرسل. وَتقدم حكم (عَن) و (أَن) والإسناد المعنعن وَالْخلاف فِي ذَلِك. قَوْله: {أَمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِكَذَا، أَو نهى عَن كَذَا، أَو أمرنَا بِكَذَا، أَو نَهَانَا} عَن كَذَا، فَحكمه حكم، قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لكنه فِي الدّلَالَة دون ذَلِك لاحْتِمَال الْوَاسِطَة، واعتقاد مَا لَيْسَ بِأَمْر وَلَا نهي، أمرا أَو نهيا، لَكِن الظَّاهِر أَنه لم يُصَرح بِنَقْل الْأَمر إِلَّا بعد جزمه بِوُجُود حَقِيقَته. وَمَعْرِفَة الْأَمر مستفادة من اللُّغَة، وهم أَهلهَا، فَلَا يخفى عَلَيْهِم، ثمَّ إِنَّهُم لم يكن بَينهم فِي صِيغَة الْأَمر وَنَحْوهَا خلاف، وخلافنا فِيهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2014 لَا يستلزمه، فعلى هَذَا يكون حجَّة، وَرجعت إِلَيْهِ الصَّحَابَة وَهُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْعلمَاء. وَخَالف بعض الْمُتَكَلِّمين فِي ذَلِك، وَنقل عَن دَاوُد قَولَانِ. وَمن خَالف فِي الَّتِي قبلهَا فَفِيهَا أولى. قَوْله: {وأمرنا، أَو نهينَا، أَو رخص لنا، أَو حرم علينا وَنَحْوه} كأباح لنا، حجَّة عندنَا، وَعند الشَّافِعِي، وَالْأَكْثَر، وَنقل عَن أهل الحَدِيث؛ إِذْ مُرَاد الصَّحَابِيّ الِاحْتِجَاج بِهِ فَيحمل على صدوره مِمَّن يحْتَج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2015 بقوله وَهُوَ الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، [وَأَنه] هُوَ الَّذِي أَمرهم، ونهاهم، وَرخّص، وَحرم عَلَيْهِم، تبليغا عَن الله تَعَالَى، وَإِن كَانَ يحْتَمل أَنه من بعض الْخُلَفَاء، لكنه بعيد فَإِن المشرع لذَلِك هُوَ صَاحب الشَّرْع. وَخَالف الصَّيْرَفِي، والباقلاني، وَأَبُو بكر الرَّازِيّ، والكرخي: الحنفيين، والإسماعيلي، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَأكْثر مالكية بَغْدَاد، وَنَقله ابْن الْقطَّان عَن نَص الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد: لاحْتِمَال أَن الْآمِر غير النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَذَلِكَ الناهي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2016 وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: إِن اقْترن بِهِ أَن الْأَمر على عَهده لم يتَوَجَّه الْخلاف. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يحْتَمل أَرَادَ أَمر الله بِنَاء على تَأْوِيل أَخطَأ فِيهِ فَيخرج إِذن على كَون مذْهبه حجَّة. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَذكر القَاضِي أَبُو الطّيب: أَن (رخص لنا) حجَّة بِلَا خلاف، وَهُوَ ظَاهر. وَحكى ابْن السَّمْعَانِيّ قولا بِالْوَقْفِ، وَابْن الْأَثِير قولا إِن كَانَ من أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - فمرفوع؛ لِأَنَّهُ لم يتأمر عَلَيْهِ غَيره، وَإِلَّا فَلَا. وَفِي " شرح الْإِلْمَام ": إِن كَانَ قَائِله من أكَابِر الصَّحَابَة، وَإِن كَانَ من غَيرهم فالاحتمال فِيهِ قوي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2017 قَوْله: {وَمثله: من السّنة كَذَا} ، يَعْنِي: أَن قَوْله: من السّنة كَذَا مثل قَوْله: أمرنَا أَو نهينَا، فِيهَا من الْخلاف مَا فِي ذَلِك، وَأَن الصَّحِيح أَنه حجَّة، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء. وَكَذَا قَوْله: جرت السّنة، أَو مَضَت السّنة بِكَذَا: كَقَوْل عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: (من السّنة وضع الْكَفّ على الْكَفّ فِي الصَّلَاة تَحت السُّرَّة) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَول أنس: (من السّنة إِذا تزوج الْبكر على الثّيّب أَقَامَ عِنْدهَا سبعا) مُتَّفق عَلَيْهِ. وَاخْتِيَار الصَّيْرَفِي، والكرخي، والقشيري، وَأبي الْمَعَالِي أَن قَوْله: من السّنة، لَا يَقْتَضِي سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2018 وَحَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي عَن الْمُحَقِّقين، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: هُوَ مُحْتَمل عِنْد الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد، وَكَونه مُحْتملا على سنة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الْقَدِيم. وَنَقله غَيره حَتَّى قيل: إِنَّهَا من الْمسَائِل الَّتِي يُفْتِي فِيهَا بالقديم فِي الْأُصُول، لَكِن الْمَشْهُور عِنْدهم أَن هَذَا هُوَ الْجَدِيد. وَقيل: مَوْقُوف، نَقله ابْن الصّلاح، وَالنَّوَوِيّ عَن أبي بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ. قَوْله: قد يكون قَوْله: من السّنة، مُسْتَحبا، كَمَا فِي حَدِيث عَليّ، وَقد يكون وَاجِبا كَمَا فِي حَدِيث أنس، فَلَيْسَ فِي الصِّيغَة تعْيين حكم من وجوب أَو غَيره. قَوْله: وَكُنَّا نَفْعل وَنَحْوه مثل قَوْله: كُنَّا نقُول أَو نرى على عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكُنَّا نقُول على عَهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكُنَّا نرى، أَيْضا، كل ذَلِك حجَّة، أطلقهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2019 أَبُو الْخطاب والموفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي، وَالْحَاكِم، والرازي، وَذكره أَبُو الطّيب ظَاهر مَذْهَبهم؛ لِأَنَّهُ فِي معرض الْحجَّة، فَالظَّاهِر بُلُوغه وَتَقْرِيره. وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: هُوَ حجَّة إِذا كَانَ من الْأُمُور الظَّاهِرَة الَّتِي لَا يخفى مثلهَا على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. انْتهى. وَتبع فِي ذَلِك الْمجد فِي " مسودته "، وَهُوَ تَوْجِيه احْتِمَال لِابْنِ مُفْلِح. وَنَقله النَّوَوِيّ فِي أَوَائِل " شرح مُسلم " عَن جمَاعَة، مِنْهُم الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق، وَاخْتَارَهُ الْقُرْطُبِيّ أَيْضا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2020 وَخَالف الْحَنَفِيَّة فَلم يَقُولُوا هِيَ حجَّة. وَقَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ، وَابْن الصّلاح: هُوَ مَوْقُوف. وَأطلق القَاضِي أَبُو يعلى فِي الْكِفَايَة احْتِمَالَيْنِ. قَوْله: {فَائِدَة: لم يذكر} الأصوليون وَغَيرهم {أَنه حجَّة لتقرير الله تَعَالَى، وَذكره الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين محتجا {بقول جَابر} بن عبد الله - رَضِي الله عَنْهُمَا -: {كُنَّا نعزل وَالْقُرْآن ينزل} لَو كَانَ شَيْء ينْهَى عَنهُ لنهانا عَنهُ الْقُرْآن مُتَّفق عَلَيْهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2021 وَهُوَ ظَاهر الدّلَالَة. فَائِدَة: لَو قَالَ الصَّحَابِيّ: نزلت هَذِه فِي كَذَا، هَل هُوَ من بَاب الرِّوَايَة أَو الِاجْتِهَاد؟ طَريقَة البُخَارِيّ فِي " صَحِيحه " تَقْتَضِي أَنه من بَاب الْمَرْفُوع، وَأحمد فِي " الْمسند " لم يذكر مثل هَذَا. انْتهى. قَوْله: {وَكَانُوا يَفْعَلُونَ حجَّة عندنَا، وَعند الْحَنَفِيَّة، وَالْأَكْثَر} ، مِنْهُم الْآمِدِيّ، وَغَيره، وذكروه عَن الْأَكْثَر لقَوْل عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: (كَانُوا لَا يقطعون فِي الشَّيْء التافه) . {وَخَالف قوم} مِنْهُم بعض الشَّافِعِيَّة، وَجزم بِهِ بعض متأخري أَصْحَابنَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2022 وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": انْصَرف إِلَى فعل الْأَكْثَرين. وَلم يرتضه ابْن مُفْلِح. وَنقل النَّوَوِيّ فِي مُقَدّمَة " مُسلم " عَن جُمْهُور الْمُحدثين، وَالْفُقَهَاء، والأصوليين: أَنه مَوْقُوف. ورد قَوْله فِي ذَلِك. وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": إِن أضيف إِلَى عهد النُّبُوَّة دلّ على جَوَازه، أَو وُجُوبه على حسب مَفْهُوم لفظ الرَّاوِي؛ إِذا ذكره فِي معرض الِاحْتِجَاج يَقْتَضِي أَنه بلغ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأقره عَلَيْهِ، وَإِلَّا لم يفد. {وَقَالَ القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب: إِجْمَاع أَو حجَّة} ؛ لِأَنَّهُ ظَاهر اللَّفْظ فِي معرض الْحجَّة، وَجَازَت مُخَالفَته؛ لِأَن طَرِيقه ظَنِّي كَخَبَر وَاحِد. وَاقْتصر ابْن حمدَان فِي " مقنعه " على قَوْله: انْصَرف إِلَى فعل الْأَكْثَرين. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ. قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": ثمَّ قَوْله: " كَانُوا يَفْعَلُونَ " لَا يُفِيد الْإِجْمَاع عِنْد بعض الشَّافِعِيَّة مَا لم يُصَرح بِهِ عَن أَهله، وَهُوَ نقل لَهُ عِنْد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2023 أبي الْخطاب. قَوْله: {وَسوى الْآمِدِيّ، وَابْن حمدَان، والطوفي بَين (كَانُوا) و (كُنَّا) وَهُوَ مُتَّجه} . قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ مُتَّجه، وتبعته على ذَلِك، لَكِن هُوَ أنزل من قَوْله: (كُنَّا نَفْعل على عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) . قَالَ ابْن مُفْلِح: واقتصار بعض أَصْحَابنَا على (كَانُوا) لَا يدل على التَّفْرِقَة. قَوْله: {فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهمَا: قَول غير الصَّحَابِيّ يرفعهُ أَو ينميه أَو يبلغ بِهِ أَو رِوَايَة كالمرفوع صَرِيحًا عِنْد الْعلمَاء} . قَالَ ابْن الصّلاح: حكم ذَلِك عِنْد أهل الْعلم حكم الْمَرْفُوع صَرِيحًا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2024 وَذَلِكَ كَقَوْل سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس: " الشِّفَاء فِي ثَلَاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية بِنَار ". ثمَّ قَالَ: رفع الحَدِيث، رَوَاهُ البُخَارِيّ. وكحديث أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة يبلغ بِهِ قَالَ: (النَّاس تبع لقريش) ، وَغَيره كثير. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن أبي هُرَيْرَة رِوَايَة: " تقاتلون قوما ... " الحَدِيث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2025 وروى مَالك عَن أبي حَازِم عَن سهل بن سعد: " كَانَ النَّاس يؤمرون أَن يضع الرجل يَده الْيُمْنَى على ذراعه الْيُسْرَى فِي الصَّلَاة ". قَالَ أَبُو حَازِم: لَا أعلم إِلَّا أَنه ينمي ذَلِك. قَالَ مَالك [رفع] ذَلِك، هَذَا لفظ رِوَايَة عبد الله بن يُوسُف. وَرَوَاهُ البُخَارِيّ من طَرِيق القعْنبِي عَن مَالك فَقَالَ: ينمي ذَلِك إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَصرحَ بِرَفْعِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2026 قَوْله: {الثَّانِيَة: قَول التَّابِعِيّ: أمرنَا، أَو نهينَا، أَو من السّنة} ، كَقَوْل الصَّحَابِيّ ذَلِك عِنْد أَصْحَابنَا، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد فِي " من السّنة " لكنه كالمرسل. قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": وأصل ذَلِك الْمَرَاسِيل وفيهَا رِوَايَتَانِ. وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: لَو قَالَ تَابِعِيّ: من السّنة كَذَا، كَأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْمُرْسل، حجَّة على إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَقَالَ الشَّيْخ: هما سَوَاء، وَإِن كَانَ قَول الصَّحَابِيّ أولى. انْتهى. وَكَذَا قَالَ الطوفي فِي " من السّنة " فَقَالَ: وَقَول التَّابِعِيّ والصحابي فِي حَال حَيَاة الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبعد مَوته سَوَاء إِلَّا أَن الْحجَّة فِي قَول الصَّحَابِيّ أظهر. قَوْله: {وَقَوله: " كَانُوا يَفْعَلُونَ " كَقَوْل الصَّحَابِيّ ذَلِك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2027 ذكره القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَغَيرهم، وَخَالف الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين وَقَالَ: لَيْسَ بِحجَّة؛ لِأَنَّهُ قد يَعْنِي من أدْركهُ كَقَوْل إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: كَانُوا يَفْعَلُونَ. يُرِيد أَصْحَاب عبد الله بن مَسْعُود، وَأَشَارَ إِلَى أَنه وَجه لنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2028 (قَوْله: {فصل} ) {مُسْتَند غير الصَّحَابِيّ أَقسَام} . المُرَاد بذلك أَن مُسْتَند غير الصَّحَابِيّ مثله فِي الرِّوَايَة لَهُ مَرَاتِب وَإِن كَانَ بَعْضهَا يكون فِي الصَّحَابِيّ كَعَكْسِهِ، وَهُوَ أَن أَلْفَاظ الصَّحَابِيّ قد يكون مِنْهَا مَا هُوَ فِي غير الصَّحَابِيّ، لَكِن الضَّرُورَة دَاعِيَة إِلَى بَيَان مُسْتَند غير الصَّحَابِيّ، والاصطلاح فِي ذَلِك وَلَو كَانَ الحكم فيهمَا سَوَاء. قَوْله: {مِنْهَا: قِرَاءَة الشَّيْخ} والراوي عَنهُ يُسمى، سَوَاء كَانَ إملاءً أَو تحديثا من حفظه، أَو من كِتَابه، ثمَّ {الْقِرَاءَة عَلَيْهِ} . هَذَا الصَّحِيح، أَعنِي أَن قِرَاءَة الشَّيْخ والراوي يسمع أَعلَى من الْقِرَاءَة عَلَيْهِ عِنْد أَكثر الْعلمَاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2029 قَالَ ابْن مُفْلِح: ذكره فِي " الرَّوْضَة " وَغَيرهَا، وَقَالَهُ جُمْهُور الْمُحدثين، وَغَيرهم. وَعَن أبي حنيفَة: الْقِرَاءَة عَلَيْهِ أَعلَى من قِرَاءَة الشَّيْخ. وَذكره بَعضهم اتِّفَاقًا، وَرُوِيَ عَن مَالك مثله، نَقله عَنهُ ابْن فَارس والخطيب. وَالْأَشْهر عَن مَالك أَنَّهُمَا سَوَاء، وَعَلِيهِ أشياخه، وَأَصْحَابه، وعلماء الْكُوفَة، والحجاز، وَالْبُخَارِيّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2030 وَاسْتدلَّ لأبي حنيفَة أَن الْقِرَاءَة على الشَّيْخ أبعد من الْخَطَأ والسهو، وَإِنَّمَا كَانَ أَكثر التَّحَمُّل عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بتحديثه؛ لِأَنَّهُ لَا يعلم إِلَّا مِنْهُ وَهُوَ لَا يحدث إِلَّا من حفظه، وَغَيره لَيْسَ كَذَلِك. وَأجَاب الْأَكْثَرُونَ: أَن تَجْوِيز الْخَطَأ وَالنِّسْيَان فِي صُورَة الْقِرَاءَة على الشَّيْخ وَهُوَ يسمع أقرب. قَوْله: {ثمَّ قصد} - أَي الشَّيْخ - {إسماعه وَحده، أَو} قصد إسماعه {مَعَ غَيره} سَاغَ لَهُ أَن يَقُول: حَدثنَا، أَو أخبرنَا، وَقَالَ، وَسمعت، وَكَذَا يَقُول: أَنبأَنَا، ونبأنا، وَلكنه قَلِيل عِنْدهم؛ لِأَنَّهُ أشهر اسْتِعْمَالهَا فِي الْإِجَازَة فَيجوز فِي التحديث إِذا قَرَأَ الشَّيْخ أَن يَقُول: حَدثنَا، وَأخْبرنَا، وأنبأنا، وَسمعت فلَانا يَقُول، وَقَالَ: لنا فلَان، وَذكر لنا فلَان. وَقد نقل القَاضِي عِيَاض الْإِجْمَاع فِي هَذَا كُله؛ فَلِذَا تعقب بَعضهم على ابْن الصّلاح فِي قَوْله بعد أَن حكى ذَلِك: أَن فِيهِ نظرا، أَو أَنه يَنْبَغِي فِيمَا شاع اسْتِعْمَاله من هَذِه الْأَلْفَاظ أَن يكون مَخْصُوصًا بِمَا سمع من غير لفظ الشَّيْخ. وَجه التعقيب عَلَيْهِ معارضته للْإِجْمَاع، وَأَنه لَا يجب على السَّامع أَن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2031 يبين: هَل كَانَ السماع من لفظ الشَّيْخ أَو عرضا. قَوْله: {وَإِن لم يقْصد} ، أَي: الشَّيْخ، الإسماع {قَالَ: حدث، وَأخْبر، وَقَالَ، وسمعته، وأنبأ، ونبأ} . قطع بِهِ ابْن مُفْلِح وَغَيره. قَوْله: {ثمَّ سَمَاعه} ، هَذِه الْمرتبَة الثَّالِثَة، فَإِن الأولى قِرَاءَة الشَّيْخ، وَالثَّانيَِة: قِرَاءَته على الشَّيْخ، وَهَذِه الثَّالِثَة وَهِي: سَمَاعه. وَهُوَ: أَن يقْرَأ أحد على الشَّيْخ وَغير القاريء يسمع، وَيُسمى هَذَا عرضا كَالَّذي قبله، وَإِن كَانَ أنزل. وَفِي الرِّوَايَة بِهِ خلاف، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكثر أهل الْعلم مِنْهُم الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وجماهير الْعلمَاء: أَنه صَحِيح وَعَلِيهِ الْعَمَل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2032 قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر: وَوَقع الْإِجْمَاع عَلَيْهِ فِي هَذِه الْأَزْمِنَة وَقبلهَا. وَحكى الرامَهُرْمُزِي عَن أبي عَاصِم النَّبِيل: الْمَنْع. وَحَكَاهُ الْخَطِيب عَن وَكِيع، وَعَن مُحَمَّد بن سَلام، وَكَذَا عبد الرَّحْمَن بن سَلام الجُمَحِي. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": خلافًا لبَعض الْعِرَاقِيّين، كعرض الْحَاكِم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2033 وَالشَّاهِد على الْمقر وَكَرِهَهُ ابْن عُيَيْنَة وَغَيره. {وَقيل: إِن أمسك أصل} . شَرط بعض الْعلمَاء فِي الْعرض أَن يكون الشَّيْخ ممسكا لأصله إِن لم يكن حَافِظًا مَا يقْرَأ عَلَيْهِ، أَو يمسك غير الشَّيْخ من الثِّقَات على خلاف فِي هَذَا لبَعض الْأُصُولِيِّينَ. وَفِي معنى إمْسَاك الثِّقَة أصل الشَّيْخ حفظه مَا يعرض على الشَّيْخ والثقة مستمع، أَو يكون القاريء نَفسه هُوَ الْحَافِظ فَيقْرَأ من حفظه وَالشَّيْخ يسمع. قَوْله: {وأرفعها: سَمِعت، فحدثنا، وحَدثني، فَأخْبرنَا، فأنبأنا، ونبأنا} ، إِذا قَالَ: سَمِعت أَو حَدثنَا، كَانَ أرفع من غَيرهمَا؛ إِذْ فِيهِ احْتِرَاز من الْإِجَازَة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2034 قَالَ الْخَطِيب: أرفع الْعبارَات " سَمِعت "، ثمَّ " حَدثنَا "، و " حَدثنِي "، ثمَّ " أخبرنَا " وَهُوَ كثير فِي الِاسْتِعْمَال، ثمَّ " أَنبأَنَا " و " نبأنا "، وَهُوَ قَلِيل فِي الِاسْتِعْمَال. انْتهى. وَقَالَ أَحْمد بن صَالح: " أخبرنَا "، و " أَنبأَنَا " دون " حَدثنَا ". وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: " أخبرنَا " أسهل من " حَدثنَا "؛ فَإِن " حَدثنَا " شَدِيد. وَبسط الْخلاف وتوجيهه مَحَله فِي كتب الحَدِيث. قَوْله: {وَله إِذا سمع مَعَ غَيره قَول: حَدثنِي} . هَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَغَيره من الْعلمَاء. وَعَن الإِمَام أَحْمد: أَنه أحب إِلَيّ أَن يَقُول فِي ذَلِك: حَدثنَا، إِذا سمع مَعَ النَّاس. نَقله عَنهُ الْفضل بن زِيَاد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2035 وَأما قَول " حَدثنَا " فمتفق عَلَيْهِ عِنْد الْعلمَاء؛ لِأَنَّهُ الأَصْل، وَكَذَا إِذا سمع وَحده لَهُ قَول: " حَدثنَا "، وَلم أر فِيهِ خلافًا. قَوْله: {وسكوته عِنْد الْقِرَاءَة بِلَا مُوجب من غَفلَة أَو غَيرهَا، وَقَوله: " نعم " كإقراره عِنْد أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر} من الْعلمَاء. قَالَ ابْن مُفْلِح: عَلَيْهِ جُمْهُور الْفُقَهَاء والمحدثين. انْتهى. قَالَ: والأحوط أَن يستنطقه بِالْإِقْرَارِ بِهِ. وَشرط بعض الظَّاهِرِيَّة إِقْرَار الشَّيْخ بِصِحَّة مَا قريء عَلَيْهِ نطقا. وَالصَّحِيح أَن عدم إِنْكَاره، وَلَا حَامِل لَهُ على ذَلِك من إِكْرَاه، أَو نوم، أَو غَفلَة، أَو نَحْو ذَلِك كَاف؛ لِأَن الْعرف قَاض بِأَن السُّكُوت تَقْرِير فِي مثل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2036 هَذَا، وَإِلَّا لَكَانَ سُكُوته - لَو كَانَ غير صَحِيح - قادحا فِيهِ. قَوْله: {وَيَقُول: حَدثنَا وَأخْبرنَا قِرَاءَة عَلَيْهِ} ، بِلَا نزاع؛ لِأَنَّهُ الأَصْل، {وَيجوز الْإِطْلَاق} فَيَقُول: حَدثنَا، وَأخْبرنَا، من غير ذكر " قِرَاءَة عَلَيْهِ " {عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَأبي حنيفَة، وَمَالك، والخلال، وَصَاحبه} أبي بكر عبد الْعَزِيز، {وَالْقَاضِي} أبي يعلى، {وَغَيرهم} . وَحَكَاهُ القَاضِي عَن الشَّافِعِيَّة، وَهُوَ قَول عُلَمَاء الْحجاز، والكوفة، وَالْبُخَارِيّ، وَغَيرهم؛ لِأَنَّهُ مَعْنَاهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2037 وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة ثَانِيَة: لَا يُطلق، بل يَقُول: قِرَاءَة عَلَيْهِ. وَقَالَهُ جمَاعَة من الْمُحدثين، مِنْهُم: ابْن مَنْدَه من أَصْحَابنَا وَغَيره، وَابْن الْمُبَارك، وَيحيى بن يحيى، وَابْن عُيَيْنَة، وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، والنيسابوري، وَغَيرهم؛ لِأَنَّهُ كذب، كَمَا لَا يجوز قَوْله: " سَمِعت " عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2038 وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة ثَالِثَة: يجوز قَوْله: " أخبرنَا "، وَيُطلق لَا " حَدثنَا "، وَقَالَهُ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، وعلماء الْمشرق وَغَيرهم. وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة رَابِعَة: جوازهما فِيمَا أقرّ بِهِ لفظا لَا حَالا. وَعنهُ رِوَايَة خَامِسَة: جَوَاز " أخبرنَا " فَقَط فِيمَا أقرّ بِهِ لفظا لَا حَالا. فهاتان الرِّوَايَتَانِ يشْتَرط فيهمَا ذَلِك، وَإِلَّا كَانَت الرِّوَايَة الرَّابِعَة تَكْرَارا؛ لأَنا قد قدمنَا أَنه لَا يجوز الْإِطْلَاق. {وَقيل: يَقُول قَرَأت عَلَيْهِ، أَو قرئَ عَلَيْهِ وَهُوَ يسمع فَقَط إِن لم يقر نطقا} . ذهب سليم الرَّازِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَابْن الصّباغ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2039 وَابْن السَّمْعَانِيّ: إِلَى أَنه لَا يَقُول شَيْئا من ذَلِك إِن لم يقر الشَّيْخ نطقا، وَإِنَّمَا يَقُول: قَرَأت عَلَيْهِ أَو قرئَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يسمع، كَمَا إِذا قَرَأَ على إِنْسَان كتابا فِيهِ أَنه أقرّ بدين، أَو بيع، أَو نَحْو ذَلِك فَلم يقر بِهِ لم يجز أَن يشْهد عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا، وَقد يفرق من اطراد الْعرف فِي نَحْو ذَلِك بِخِلَاف بَاب الشَّهَادَة، فَإِنَّهُ أضيق. قَوْله: {وَيحرم إِبْدَال} قَول الشَّيْخ: {" حَدثنَا " بأخبرنا، وَعَكسه} لاحْتِمَال أَن يكون الشَّيْخ لَا يرى التَّسْوِيَة فَيكون كذبا عَلَيْهِ. وَعنهُ: لَا يحرم، اخْتَارَهُ الْخلال وبناه على الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى، وبناؤه ظَاهر. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: أَخذهَا القَاضِي من قَوْله فِي رِوَايَة أَحْمد بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2040 عبد الْجَبَّار " حَدثنَا وَأخْبرنَا " وَاحِد، وَنَقله عَنهُ سَلمَة بن شبيب أَيْضا. قَوْله: {وَظَاهر مَا سبق، وَقَالَهُ جمع: إِن منع الشَّيْخ الرَّاوِي من رِوَايَته عَنهُ} بِلَا قَادِح لَا يُؤثر، وَأَنه لَا يروي إِلَّا مَا سمع من الشَّيْخ فَلَا يَسْتَفْهِمهُ مِمَّن سَمعه مَعَه ثمَّ يرويهِ، وَخَالف هُنَا قوم. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " بعد أَن تكلم على مَا تقدم: وَظَاهر مَا سبق أَن منع الشَّيْخ للراوي من رِوَايَته وَلم يسند ذَلِك إِلَى خطاء أَو شكّ لَا يُؤثر، وَقَالَهُ بَعضهم، ثمَّ قَالَ: وَظَاهر مَا سبق أَنه لَيْسَ لَهُ أَن يروي إِلَّا مَا سَمعه من الشَّيْخ فَلَا يَسْتَفْهِمهُ مِمَّن مَعَه ثمَّ يرويهِ، وَقَالَهُ جمَاعَة خلافًا لآخرين. قَالَ الْعِرَاقِيّ فِي " شرح منظومته ": قَالَ صَالح: قلت لأبي: الشَّيْخ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2041 يدغم الْحَرْف يعرف أَنه كَذَا وَكَذَا وَلَا يفهم عَنهُ، ترى أَن يروي ذَلِك عَنهُ؟ قَالَ أَحْمد: أَرْجُو أَن لَا يضيق هَذَا. وَقَالَ أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن: نرى فِيمَا سقط عَنهُ من الْحَرْف الْوَاحِد وَالِاسْم مِمَّا يسمعهُ من سُفْيَان وَالْأَعْمَش، واستفهم من أَصْحَابه، أَن يرويهِ عَن أَصْحَابه، لَا نرى [غير] ذَلِك وَاسِعًا. وَجَاء ذَلِك - أَيْضا - عَن زَائِدَة بن قدامَة قَالَ خلف بن تَمِيم: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2042 سَمِعت من الثَّوْريّ عشرَة آلَاف حَدِيث أَو نَحْوهَا، فَكنت أستفهم جليسي، فَقلت لزائدة، فَقَالَ: لَا تحدث بهَا إِلَّا مَا تحفظ بقلبك وَسمع أُذُنك! قَالَ: فألقيتها. قَوْله: {وَمن شكّ فِي سَماع حَدِيث حرم رِوَايَته} مَعَ الشَّك، ذكره الْآمِدِيّ إِجْمَاعًا؛ لِأَن الأَصْل عدم السماع؛ وَلِأَن ذَلِك شَهَادَته على شَيْخه، وَلَو اشْتبهَ بِغَيْرِهِ، لم يرو شَيْئا مِمَّا اشْتبهَ بِهِ؛ لِأَن كل وَاحِد مِنْهَا يحْتَمل أَن يكون غير المسموع، وَإِن ظن أَنه وَاحِد مِنْهَا بِعَيْنِه، أَو أَن هَذَا مسموعه عمل بِهِ عِنْد أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَالْأَكْثَر عملا بِالظَّنِّ. قيل للْإِمَام أَحْمد: الشَّيْخ يدغم الْحَرْف يعرف أَنه كَذَا وَكَذَا لَا يفهم عَنهُ، ترى أَن يرْوى ذَلِك عَنهُ؟ قَالَ: أَرْجُو أَن لَا يضيق هَذَا. وَقيل: لَا يعْمل بِهِ لِإِمْكَان اعْتِبَار الْعلم بِمَا يرويهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2043 قَوْله: {وَمِنْهَا الْإِجَازَة، فَتجوز الرِّوَايَة بهَا عِنْد أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وأصحابهما، وَالْأَكْثَر} . وَحكى الباقلاني، والباجي، وَغَيرهمَا من الْأُصُولِيِّينَ: الِاتِّفَاق عَلَيْهِ. وَاحْتج ابْن الصّلاح لَهَا بِأَنَّهُ إِذا جَازَ أَن يروي عَنهُ مروياته فقد أخبرهُ بهَا جملَة، فَهُوَ كَمَا لَو أخبرهُ بِهِ تَفْصِيلًا، وإخباره بهَا غير مُتَوَقف على التَّصْرِيح نطقا، كَمَا فِي الْقِرَاءَة على الشَّيْخ. انْتهى. وَيجب الْعَمَل بهَا على هَذَا كالحديث الْمُرْسل، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَغَيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2044 ومنعها شُعْبَة، وَأَبُو زرْعَة الرَّازِيّ، وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ من أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد، وَجمع كثير، مِنْهُم جمَاعَة من الْحَنَفِيَّة، وَجَمَاعَة من الشَّافِعِيَّة، وَبَعض الظَّاهِرِيَّة، وَنَقله الرّبيع عَن الشَّافِعِي. قَالَ شُعْبَة: لَو صحت الْإِجَازَة لبطلت الرحلة. وَكَذَا قَالَ أَبُو زرْعَة الرَّازِيّ: لَو صحت لبطل الْعلم. وَاخْتَارَهُ القَاضِي حُسَيْن من الشَّافِعِيَّة، وَالْمَاوَرْدِيّ، وَالرُّويَانِيّ، ونقلوه عَن نَص الشَّافِعِي، وَنقل ابْن وهب عَن مَالك أَنه قَالَ: لَا أرى هَذَا يجوز، وَلَا يُعجبنِي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2045 وَقَالَ أَبُو طَاهِر الدباس الْحَنَفِيّ: من قَالَ لغيره: أجزت لَك أَن تروي عني، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أجزت لَك أَن تكذب عَليّ. وَكَذَا قَالَ غَيره: إِنَّه بِمَنْزِلَة أبحت لَك مَا لَا يجوز فِي الشَّرْع؛ لِأَن الشَّرْع لَا يُبِيح رِوَايَة مَا لَا يسمع. {وَعند أبي حنيفَة، وَمُحَمّد: إِن علم الْمُجِيز مَا فِي الْكتاب وَالْمجَاز لَهُ ضَابِط جَازَ، وَإِلَّا فَلَا} ؛ لما فِيهِ من صِيَانة السّنة وحفظها. وأجازها أَبُو يُوسُف، وَذَلِكَ تَخْرِيج من كتاب القَاضِي إِلَى مثله، فَإِن علم مَا فِيهِ شَرط عِنْدهمَا دونه. وَحكى السَّرخسِيّ عَن أبي حنيفَة، وَأبي يُوسُف: الْمَنْع. قَوْله: {وَهِي خَاص لخاص} ، الْإِجَازَة أَقسَام: أَحدهَا: إجَازَة خَاص لخاص، كَقَوْلِه: أجزت هَذَا الْكتاب لفُلَان، وَهِي أَصَحهَا، حَتَّى ذهب بَعضهم أَنه لَا خلاف فِيهَا، وَالصَّحِيح أَن الْخلاف الْمَذْكُور يشملها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2046 الثَّانِي: {عَام لخاص} ، كَقَوْلِه: أجزت لفُلَان جَمِيع مروياتي. وَالْخلاف فِي هَذَا النَّوْع أقوى من الَّذِي قبله، وَذهب أَبُو الْمَعَالِي إِلَى الْمَنْع؛ إِذْ قَالَ: يبعد أَن يحصل الْعلم إِلَّا بالتعويل على خطوطهم مُشْتَمِلَة على سَماع الشَّيْخ؛ فَإِن تحقق ظُهُور سَماع لموثوق بِهِ فَذَلِك وهيهات. انْتهى. وَالْجُمْهُور على الْجَوَاز، وَغَايَة مَا قَالَه استبعاد. الثَّالِث: {عَكسه} ، وَهِي خَاص لعام، كَقَوْلِه: أجزت للْمُسلمين أَو لمن أدْرك حَياتِي، أَو لكل أحد كتابي الْفُلَانِيّ. الرَّابِع: عكس الأول {و} وَهِي {عَام لعام} ، كَقَوْلِه: أجزت جَمِيع مروياتي لكل أحد. ذكر هذَيْن الْقسمَيْنِ القَاضِي أَبُو يعلى، وَغَيره، وَقَالَهُ أَبُو بكر عبد الْعَزِيز من أَصْحَابنَا فِي جَمِيع مَا يرويهِ لمن أَرَادَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2047 وَهَذَا الرَّابِع دون الَّذِي قبله، وَقد مَنعه جمَاعَة، وَجوزهُ الْخَطِيب وَغَيره، وَفعله ابْن مَنْدَه وَغَيره، قَالَ: أجزت لمن قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله. وَكَانَ ابْن الْقطَّان وَغَيره يمِيل إِلَى الْجَوَاز، وَجوز أَبُو الطّيب الْإِجَازَة لجَمِيع الْمُسلمين من كَانَ مِنْهُم مَوْجُودا عِنْد الْإِجَازَة. وَقَالَ ابْن الصّلاح: لم نرو، وَلم نسْمع عَن أحد مِمَّن يقْتَدى بِهِ اسْتعْمل هَذِه الْإِجَازَة إِلَّا عَن الشرذمة المجوزة، وَالْإِجَازَة فِي أَصْلهَا ضعف، وتزداد بِهَذَا التَّوَسُّع ضعفا كثيرا لَا يَنْبَغِي احْتِمَاله. وَقَالَ الْعِرَاقِيّ فِي " شرح منظومته ": مِمَّن أجازها: أَبُو الْفضل بن خيرون الْبَغْدَادِيّ، وَابْن ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2048 رشد الْمَالِكِي، والسلفي، وَغَيرهم، وَرجحه ابْن الْحَاجِب، وَصَححهُ النَّوَوِيّ من زِيَادَة " الرَّوْضَة "، وَغَيره. قَوْله: {وَلَا يجوز لمعدوم تبعا لموجود} : كأجزت لفُلَان وَلمن يُولد لَهُ، أَو أجزت لَك ولولدك، أَو لعقبك مَا تَنَاسَلُوا، فِي ظَاهر كَلَام جمَاعَة من أَصْحَابنَا، وَقَالَهُ غَيرهم؛ لِأَنَّهَا محادثة أَو إِذن فِي الرِّوَايَة بِخِلَاف الْوَقْف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2049 وأجازها أَبُو بكر بن أبي دَاوُد من أَصْحَابنَا، وَجَمَاعَة، كَمَا تجوز الْإِجَازَة لطفل لَا سَماع [لَهُ] ، ولمجنون فِي أصح قولي الْعلمَاء؛ لِأَنَّهَا إِبَاحَة للرواية كَمَا تجوز للْغَائِب. قَالَ ابْن أبي دَاوُد لما سُئِلَ الْإِجَازَة: وَقد أجزت لَك ولأولادك ولحبل الحبلة، يَعْنِي لمن يُولد بعد. وَأما الْكَافِر فقد صححوا تحمله إِذا أَدَّاهُ بعد الْإِسْلَام كَمَا تقدم، فَالْقِيَاس جَوَاز الْإِجَازَة لَهُ، ثمَّ إِذا أسلم يرويهِ بِالْإِجَازَةِ. وَقد وَقعت هَذِه الْمَسْأَلَة فِي زمن الْحَافِظ أبي الْحجَّاج الْمزي بِدِمَشْق، وَكَانَ طَبِيب يُسمى مُحَمَّد بن عبد السَّيِّد يسمع الحَدِيث - وَهُوَ يَهُودِيّ - على أبي عبد الله بن عبد الْمُؤمن الصُّورِي، وَكتب اسْمه فِي طَبَقَات السماع مَعَ النَّاس. وَأَجَازَ ابْن عبد الْمُؤمن لمن سَمعه وَهُوَ من جُمْلَتهمْ، وَكَانَ السماع وَالْإِجَازَة بِحَضْرَة الْمزي الْحَافِظ وَبَعض السماع بقرَاءَته وَلم يُنكره، ثمَّ هدى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2050 الله الْيَهُودِيّ لِلْإِسْلَامِ وَحدث بِمَا أُجِيز وَتحمل الطلاب عَنهُ. قَالَ الْحَافِظ عبد الرَّحِيم الْعِرَاقِيّ: ورأيته وَلم أسمع مِنْهُ. قَوْله: {وَلَا تجوز لمعدوم أصلا عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر} ، نَحْو: أجزت لمن يُولد لفُلَان؛ وَلِأَن الْإِجَازَة فِي حكم الْإِخْبَار جملَة بالمجاز كَمَا تقدم، فَكَمَا لَا يَصح الْإِخْبَار للمعدوم لَا تصح إِجَازَته. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَقَالَهُ الشَّافِعِيَّة كالوقف عندنَا. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالصَّحِيح الَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ رَأْي القَاضِي أبي الطّيب وَابْن الصّباغ أَنه لَا يَصح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2051 قَالَ ابْن الصّلاح: وَهُوَ الصَّحِيح الَّذِي لَا يَنْبَغِي غَيره، وَنَظِيره فِي الْوَقْف لَا يجوز عندنَا، وَأَجَازَهُ أَصْحَاب مَالك وَأبي حنيفَة فجوزوا الْوَقْف على من سيولد أَو يُوجد من نسل فلَان. انْتهى. وَأَجَازَ هَذِه الْإِجَازَة بِهَذِهِ الصّفة القَاضِي أَبُو يعلى من أَصْحَابنَا، وَابْن عمروس من الْمَالِكِيَّة، والخطيب من الشَّافِعِيَّة. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَاخْتَارَ صَاحب " الْمُغنِي " جَوَاز الْوَقْف فقد يتَوَجَّه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2052 احْتِمَال تَخْرِيج، يَعْنِي بِصِحَّة الْإِجَازَة على هَذِه الصّفة من اخْتِيَار صَاحب " الْمُغنِي " فِي الْوَقْف. تَنْبِيه: مَحل الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِذا لم تكن الْإِجَازَة للمعدوم على الْعُمُوم: كأجزت لمن يُوجد بعد ذَلِك فَلَا يَصح بِالْإِجْمَاع، وَكَأَنَّهَا إجَازَة من مَعْدُوم لمعدوم، قَالَه الْبرمَاوِيّ. قَوْله: {وَلَا لمجهول وَلَا بِمَجْهُول} . لَا تجوز الْإِجَازَة لمجهول: كأجزت لرجل من النَّاس، أَو لفُلَان ويشترك فِي ذَلِك الِاسْم جمع. وَلَا تجوز الْإِجَازَة أَيْضا بِمَجْهُول من مروياته: كأجزت لَك أَن تروي عني شَيْئا، أَو بعض مروياتي، أَو كتاب السّنَن مثلا. {وَجوز القَاضِي أَبُو يعلى وَابْن عمروس الْمَالِكِي " أجزت لمن يَشَاء فلَان "} ، وَالصَّحِيح خلاف ذَلِك، وَهُوَ عدم الصِّحَّة لما فِيهِ من الْجَهَالَة وَالتَّعْلِيق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2053 وَقد أفتى أَبُو الطّيب وَغَيره بِأَنَّهُ لَا يجوز؛ لِأَنَّهُ إجَازَة لمجهول، قَالَ: كَقَوْلِه: أجزت بعض النَّاس. تَنْبِيه: لَيْسَ من هَذِه الْإِجَازَة لمسميين مُعينين بأنسابهم والمخبر جَاهِل بأعيانهم فَلَا يقْدَح كَمَا لَا يقْدَح عدم مَعْرفَته بِمن هُوَ خَاص يسمع بشخصه، وَكَذَا لَو جَازَ للمسمين فِي الاستجازة وَلم يعرفهُمْ بأعيانهم، وَلَا بِأَسْمَائِهِمْ وَلَا تصفحهم وَاحِدًا وَاحِدًا. قَوْله: {وَيَقُول: أجَاز لي فلَان} ، حَيْثُ صححنا الْإِجَازَة، اخْتلف فِيمَا يَقُول الرَّاوِي بِالْإِجَازَةِ، فَإِن قَالَ: أجَاز لي، أَو أجَاز لنا فَهُوَ الأجود، {وَيجوز} قَوْله: {" حَدثنَا وَأخْبرنَا إجَازَة "} عِنْد أَصْحَابنَا وَأكْثر الْعلمَاء. {وَمنع قوم فِي " حَدثنَا "} فَلَا يَقُول فِي الْإِجَازَة: " حَدثنَا، وَلَكِن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2054 يَقُول: أخبرنَا إجَازَة فَقَط. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَجوز أَبُو نعيم، وَأَبُو عبد الله المرزباني أَن يَقُول: " أخبرنَا " دون " حَدثنَا "، وَأَجَازَهُ قوم مُطلقًا، يَعْنِي سَوَاء قَالَ: حَدثنَا، أَو أخبرنَا إجَازَة أَو لم يقل إجَازَة، وَكَانَ يفعل ذَلِك أَبُو نعيم الْأَصْفَهَانِي. قلت: وَفِيه بعد وإيهام أَن يكون بِالتَّحْدِيثِ على الْحَقِيقَة، وَالْأَصْل الْحَقِيقَة. قَوْله: {وَتجوز إجَازَة الْمجَاز بِهِ فِي الْأَصَح} : كأجزت لَك مجازاتي، أَو أجزت لَك مَا أُجِيز لي رِوَايَته. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْعَمَل خلافًا لبَعض الْمُتَأَخِّرين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2055 وَقد كَانَ الْفَقِيه نصر الْمَقْدِسِي يروي بِالْإِجَازَةِ عَن الْإِجَازَة، وَعَلِيهِ الْعَمَل إِلَى زَمَاننَا هَذَا. قَوْله: {وَلَا يجوز لما يتحمله} فِي الْمُسْتَقْبل أَن يُجِيزهُ قبل أَن يتحمله {ليرويه عَنهُ إِذا تحمله فِي الْأَصَح} . قَالَ القَاضِي عِيَاض: لم أرهم تكلمُوا فِيهِ، وَرَأَيْت بعض العصريين يَفْعَله، قَالَ عبد الْملك الطبني: كنت عِنْد القَاضِي أبي الْوَلِيد يُونُس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2056 بقرطبة فَسَأَلَهُ إِنْسَان الْإِجَازَة بِمَا رَوَاهُ وَمَا يرويهِ من بعد، فَلم يجبهُ، فَغَضب، فَقلت: يَا هَذَا {يعطيك مَا لم يَأْخُذ؟} فَقَالَ أَبُو الْوَلِيد: هَذَا جوابي. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَهُوَ الصَّحِيح، وصححناه تبعا لما صححوه. قَوْله: {وَمِنْهَا المناولة مَعَ الْإِجَازَة أَو الْإِذْن} . هَذَا الْقسم يُسمى عرض المناولة، كَمَا أَن سَماع الشَّيْخ يُسمى عرض الْقِرَاءَة، وَهِي نَوْعَانِ: أَحدهمَا: مَا ذكرنَا وَهِي المناولة مَعَ الْإِجَازَة أَو الْإِذْن، وَالرِّوَايَة بِهَذَا النَّوْع جَائِزَة. قَالَ القَاضِي عِيَاض فِي " الإلماع ": جَائِزَة بِالْإِجْمَاع. وَكَذَا قَالَ الْمَازرِيّ: لَا شكّ فِي وجوب الْعَمَل بِهِ. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2057 لَكِن الصَّيْرَفِي حكى الْخلاف فِي الْمَسْأَلَة، وَأَن الْمَانِع خرجه على الشَّهَادَة: كَمَا فِي الصَّك، وَلم يقْرَأ على الشُّهُود عَلَيْهِ، بل قَالَ: اشهدا عَليّ بِمَا فِيهِ، فَإِن القَوْل بِمَنْعه مَشْهُور كَمَا ذَكرُوهُ فِي الْكتاب إِلَى القَاضِي. وَمِمَّا اسْتدلَّ للمناولة بِدُونِ الْقِرَاءَة مَا قَالَه البُخَارِيّ: إِن بعض أهل الْحجاز احْتَجُّوا عَلَيْهَا بِحَدِيث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَيْثُ كتب لأمير السّريَّة كتابا، قَالَ: لَا تَقْرَأهُ حَتَّى تبلغ مَكَان كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا بلغ ذَلِك الْمَكَان قَرَأَهُ على النَّاس، وَأخْبرهمْ بِأَمْر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. لَكِن أَشَارَ الْبَيْهَقِيّ إِلَى أَنه لَا حجَّة فِيهِ، وَهُوَ ظَاهر لاحْتِمَال أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَأَهُ عَلَيْهِ فَيكون وَاقعَة عين يسْقط مِنْهَا الِاسْتِدْلَال للاحتمال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2058 وأمير السّريَّة هُوَ عبد الله بن جحش المجدع فِي الله، وَذَلِكَ فِي رَجَب فِي السّنة الثَّانِيَة، والْحَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرِيّ مَرْفُوعا. وَصفَة هَذَا النَّوْع: أَن يُجِيزهُ بِشَيْء نَاوَلَهُ إِيَّاه بِأَن يدْفع الشَّيْخ إِلَى الطَّالِب أصل مرويه، أَو فرعا مُقَابلا بِهِ وَيَقُول لَهُ: هَذَا سَمَاعي أَو مرويي بطرِيق كَذَا فاروه عني، أَو أجزته لَك أَن ترويه عني ثمَّ يملكهُ إِيَّاه بطرِيق أَو يعيره لَهُ، يَنْقُلهُ، ويقابله بِهِ. وَفِي مَعْنَاهُ: أَن يَجِيء الطَّالِب بذلك للشَّيْخ ابْتِدَاء ويعرضه عَلَيْهِ فيتأمله الشَّيْخ الْعَارِف اليقظ وَيَقُول: نعم، هَذَا مسموعي، أَو روايتي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2059 بطرِيق كَذَا، فاروه عني، أَو أجزته لَك، أَو يُعْطِيهِ شَيْئا من تصانيفه فَيَقُول: اروه عني. وَالرِّوَايَة بِهَذَا النَّوْع جَائِزَة - كَمَا تقدم -، لكنه لَيْسَ كالسماع، بل منحط عَنهُ، وَهُوَ الصَّحِيح. حَكَاهُ الْحَافِظ عَن فُقَهَاء الْإِسْلَام الْمُفْتِينَ فِي الْحَلَال وَالْحرَام: الشَّافِعِي وصاحبيه الْمُزنِيّ والبويطي، وَأحمد، وَإِسْحَاق، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2060 وَابْن الْمُبَارك، وَيحيى بن يحيى، قَالَ: وَعَلِيهِ عهدنا أَئِمَّتنَا، وَإِلَيْهِ نَذْهَب. وَأما مُقَابِله: فَقَوْل الزُّهْرِيّ، وَرَبِيعَة، وَيحيى بن سعيد، وَمَالك، وَمُجاهد، وَأبي الزبير، وَابْن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2061 عُيَيْنَة، وَقَتَادَة، وَأبي الْعَالِيَة، وَابْن وهب، وَآخَرين - نَقله الْبرمَاوِيّ عَنْهُم - فَيكون عِنْد هَؤُلَاءِ كالسماع. قَوْله: {وَهِي أَعلَى من الْإِجَازَة} - أَي الْمُجَرَّدَة - {فِي الْأَصَح} ، وَهُوَ الرَّاجِح الَّذِي عَلَيْهِ المحدثون، وَإِن كَانَ الأصوليون خالفوهم فِي ذَلِك كَمَا صرح بِهِ أَبُو الْمَعَالِي، وَابْن الْقشيرِي، وَالْغَزالِيّ. وَقَالُوا: المناولة لَيْسَ شرطا وَلَيْسَ فِيهَا مزِيد تَأْكِيد، وَإِنَّمَا هُوَ زِيَادَة تكلّف أحدثه بعض الْمُحدثين. قَوْله: {وبمجردها} هَذَا النَّوْع الثَّانِي من المناولة، وَهُوَ مُجَرّد المناولة العاري عَن الْإِجَازَة وَالْإِذْن، {لَا يجوز عندنَا، وَعند الْأَكْثَر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2062 قَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {إِنَّمَا نَص الإِمَام أَحْمد فِي مناولة مَا عرفه الْمُحدث} . وأصل المناولة لُغَة: الْإِعْطَاء بِالْيَدِ. ثمَّ اسْتعْملت عِنْد الْمُحدثين وَغَيرهم فِي إِعْطَاء كتاب أَو ورقة مَكْتُوبَة، وَنَحْو ذَلِك. وَيَقُول المناول: هَذَا سَمَاعي من قبل فلَان أَو مرويي عَنهُ بطرِيق كَذَا. وَسَوَاء قَالَ مَعَ ذَلِك: خُذْهُ، أَو نَاوَلَهُ ساكتا، فَإِذا لم يَنْضَم إِلَيْهَا إِذن وَلَا إجَازَة تسمى المناولة الْمُجَرَّدَة، وَالَّذِي رَجحه الْأَكْثَر أَن الرِّوَايَة لَا تصح بهَا. وَحكى الْخَطِيب عَن قوم أَنهم صححوها، وَبِه قَالَ ابْن الصّباغ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2063 قَالَ الْهِنْدِيّ: وَكَلَام الرَّازِيّ صَرِيح فِيهِ، وَكَلَام غَيره يدل على الْمَنْع. وَقَالَ ابْن الصّلاح: إِنَّهَا إجَازَة مجملة لَا تجوز الرِّوَايَة بهَا. وعابها غير وَاحِد من الْفُقَهَاء والأصوليين على الْمُحدثين. قَالَ النَّوَوِيّ: الصَّحِيح الْمَنْع عَن الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاء. قَوْله: {و} لم ير {الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة} ، وهم: الإِمَام أَبُو حنيفَة، وَالْإِمَام الشَّافِعِي، وَالْإِمَام أَحْمد، وَأكْثر الْعلمَاء، {إِطْلَاق " حَدثنَا " و " أخبرنَا " فِيهَا} ، أَي: فِي المناولة مَعَ الْإِجَازَة أَو الْإِذْن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2064 {وَجوزهُ الزُّهْرِيّ، وَمَالك} ، وَجمع؛ لِأَنَّهَا كالسماع عِنْدهم، كَمَا تقدم عَنْهُم. قَوْله: {وَيَكْفِي اللَّفْظ بِلَا مناولة} . يَعْنِي لَو كَانَ الْكتاب بيد الْمجَاز لَهُ أَو على الأَرْض، وَنَحْوه جَازَ، وَلَا يشْتَرط فِيهَا فعل المناولة؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِير لَهُ. قَوْله: {وَمِنْهَا الْمُكَاتبَة مَعَ الْإِجَازَة فِي الْأَصَح} . من الْأَقْسَام: الْمُكَاتبَة، بِأَن يكْتب الشَّيْخ إِلَى غَيره سَمِعت من فلَان كَذَا، للمكتوب إِلَيْهِ إِذا علم خطه، أَو ظَنّه بِإِخْبَار عدل أَنه خطه، أَو شَاهده يكْتب، أَن يعْمل بِهِ وَيَرْوِيه عَنهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2065 قَالَ الْعِرَاقِيّ فِي " شرح منظومته ": الْمُكَاتبَة أَن يكْتب الشَّيْخ شَيْئا من حَدِيثه بِخَطِّهِ، أَو يَأْمر غَيره فَيكْتب عَنهُ بِإِذْنِهِ سَوَاء كتبه، أَو كتب عَنهُ إِلَى غَائِب عَنهُ، أَو حَاضر عِنْده. فهذان نَوْعَانِ: أَحدهمَا: أَن يُجِيزهُ مَعَ ذَلِك فَتجوز الرِّوَايَة بِهِ على الصَّحِيح، كالمناولة. وَعَلِيهِ أَكثر الْعلمَاء حَتَّى قَالَ بَعضهم: إِنَّه كالسماع؛ لِأَن الْكِتَابَة أحد اللسانين، وَقد كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يبلغ الْغَائِب بِالْكِتَابَةِ إِلَيْهِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يكْتب إِلَى عماله تَارَة وَيُرْسل أُخْرَى. وَمنع قوم من الرِّوَايَة بِالْكِتَابَةِ مُطلقًا، مِنْهُم: الْمَاوَرْدِيّ، وَالرُّويَانِيّ وأجابا عَن كتب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَن الِاعْتِمَاد على إِخْبَار الْمُرْسلَة على يَده، وَنقل إِنْكَار ذَلِك عَن الدَّارَقُطْنِيّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2066 قَوْله: {وبدونها} ، أَي: بِدُونِ الْإِجَازَة بل كتبه إِلَيْهِ يُخبرهُ بذلك فَقَط، وَهُوَ النَّوْع الثَّانِي. {وَظَاهر كَلَام الإِمَام أَحْمد، والخلال الْجَوَاز} ، فَإِن أَبَا مسْهر وَأَبا تَوْبَة كتبا إِلَيْهِ بِأَحَادِيث وَحدث بهَا، وَهُوَ الْأَشْهر للمحدثين، وَاخْتَارَهُ كثير من الْمُتَقَدِّمين حَتَّى قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: إِنَّهَا أقوى من الْإِجَازَة. وَجزم بِهِ الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول ". وَفِي " البُخَارِيّ " فِي كتاب الْأَيْمَان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2067 وَالنُّذُور: كتب إِلَى مُحَمَّد بن بشار. وَفِي " مُسلم ": عَن عَامر بن سعد بن أبي وَقاص كتب إِلَى جَابر بن سَمُرَة. وللشافعية خلاف عملا بِالْقَرِينَةِ، وَأَنَّهَا تَضَمَّنت الْإِجَازَة، وَقد تقدم مَا فِيهَا مَعَ الْإِجَازَة فَمَعَ عدمهَا الْخلاف أقوى. قَالَ الْآمِدِيّ: لَا يرويهِ إِلَّا بتسليط الشَّيْخ كَقَوْلِه: فاروه عني، أَو أجزت لَك رِوَايَته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2068 قَوْله: {وَيَكْفِي معرفَة خطه عندنَا، وَعند الْأَكْثَر} . تقدم أَنه يَكْفِي معرفَة خطه بطرق، مِنْهَا: أَن يعرف خطه. وَمِنْهَا: أَن يَظُنّهُ، وَيَكْفِي الظَّن فِي ذَلِك بِإِخْبَار عدل. وَمِنْهَا: أَن يُشَاهِدهُ يكْتب ذَلِك، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح. وَقد حكى أَبُو الْحُسَيْن بن الْقطَّان عَن بَعضهم أَن لَا يَكْفِي فِي ذَلِك إِلَّا شَاهِدَانِ على الْكَاتِب بِأَنَّهُ كتبه على حد شَرط كتاب القَاضِي إِلَى القَاضِي، وَتقدم ذَلِك قَرِيبا. قَوْله: {وَلَا يجوز إِطْلَاق " حَدثنَا " " وَأخْبرنَا " فِيهَا خلافًا لقوم} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2069 الأول هُوَ الْمُخْتَار الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر، بل يَقُول: كتب إِلَيّ، أَو أَخْبرنِي كِتَابه. وَجوز الْفَخر الرَّازِيّ أَن يُطلق " أَخْبرنِي " وَإِن لم يقل كِتَابه، وَجرى عَلَيْهِ ابْن دَقِيق الْعِيد فِي " شرح العنوان " فَجعل قَول الرَّاوِي " كِتَابَة " أدبا، لَا شرطا، وَنقل نَحْو ذَلِك عَن اللَّيْث بن سعد أَنه يجوز إِطْلَاق " حَدثنَا " و " أخبرنَا ". قَوْله: {وَمُجَرَّد قَول الشَّيْخ: هَذَا سَمَاعي أَو روايتي، لَا تجوز رِوَايَته عَنهُ بذلك عندنَا، وَعند الْأَكْثَر} من الْمُحدثين، والآمدي، وَغَيرهم، وَبِه قطع أَبُو حَامِد الطوسي من الشَّافِعِيَّة، كَمَا قَالَه ابْن الصّلاح. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ بِهِ الْغَزالِيّ، فَإِنَّهُ كَذَلِك فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2070 " الْمُسْتَصْفى ". قَالَ: لِأَنَّهُ لم يَأْذَن فِي الرِّوَايَة فَلَعَلَّهُ لَا يجوز الرِّوَايَة؛ لخلل يعرفهُ فِيهِ، وَإِن سَمعه. انْتهى. وَذهب جمع كثير إِلَى الْجَوَاز، مِنْهُم: ابْن جريج، وَعبد الله الغمري - بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَالرَّاء الْمُهْملَة - وَأَصْحَابه المدنيون، وَطَائِفَة من الْمُحدثين، وَالْفُقَهَاء، والأصوليين، وَأهل الظَّاهِر، وَابْن الصّباغ، وَنَصره أَيْضا الْوَلِيد بن بكر الغمري - بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة أَيْضا - فِي كتاب " الوجازة " لَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2071 وَجوزهُ أَبُو مُحَمَّد بن خَلاد الرامَهُرْمُزِي قَالَ: حَتَّى لَو قَالَ: هَذِه روايتي وَلَكِن لَا تَرَوْهَا وَلَا أجيزه، لم يضرّهُ ذَلِك. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَمَا قَالَه صَحِيح لَا يَقْتَضِي النّظر سواهُ؛ لِأَن مَنعه لَا لعِلَّة، وَلَا لريبة لَا يُؤثر فَهُوَ من الَّذِي لَا يرجع فِيهِ. ورده ابْن الصّلاح بِأَنَّهُ كالشاهد قد يسمع من يذكر شَيْئا فِي غير مجْلِس الحكم لَيْسَ لَهُ أَن يشْهد على شَهَادَته إِذا لم يَأْذَن لَهُ، قَالَ: وَذَلِكَ مِمَّا تَسَاوَت فِيهِ الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة. انْتهى. وَاعْلَم أَن هَذَا كُله فِي جَوَاز الرِّوَايَة، أما الْعَمَل بِمَا أخبرهُ الشَّيْخ أَنه سَمَاعه، أَو مرويه فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ إِذا صَحَّ إِسْنَاده، كَمَا جزم بِهِ ابْن الصّلاح، وَحكى عِيَاض عَن محققي أَصْحَاب الْأُصُول أَنهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ. قَوْله: {وَلَا تجوز بِالْوَصِيَّةِ} بكتبه فِي الْأَصَح، أَي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2072 لَا تجوز الرِّوَايَة بِالْوَصِيَّةِ بكتبه، مثل أَن يُوصي قبل مَوته، أَو عِنْد سَفَره بِشَيْء من مروياته لشخص. فَعَن بعض السّلف أَنه يجوز للْمُوصى لَهُ أَن يرويهِ عَن الْمُوصي. قَالَ أَيُّوب لمُحَمد بن سِيرِين: إِن فلَانا أوصى إِلَيّ بكتبه أفأحدث بهَا عَنهُ؟ قَالَ: نعم. ثمَّ قَالَ لي بعد ذَلِك: لَا آمُرك وَلَا أَنهَاك. قَالَ حَمَّاد: وَكَانَ أَبُو قلَابَة قَالَ: ادفعوا كتبي إِلَى أَيُّوب: إِن كَانَ حَيا وَإِلَّا فأحرقوها. وَعلل ذَلِك القَاضِي عِيَاض بِأَنَّهُ نوع من الْإِذْن. قَالَ ابْن الصّلاح: وَهَذَا بعيد جدا، وَهُوَ إِمَّا زلَّة عَالم، أَو مؤول على أَنه أَرَادَ أَن يكون ذَلِك على سَبِيل الوجادة. وَأنكر عَلَيْهِ ابْن أبي الدَّم ذَلِك وَقَالَ: الْوَصِيَّة أرفع رُتْبَة من الوجادة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2073 بِلَا خلاف، وَهِي مَعْمُول بهَا عِنْد الشَّافِعِي وَغَيره. انْتهى. فعلى القَوْل بِالْعَمَلِ يَنْبَغِي أَن يُصَرح بذلك، فَيَقُول: أوصى إِلَيّ فلَان أَن أروي عَنهُ كَذَا، وَلَا يُطلق " حَدثنَا "، و " أخبرنَا "، وَكَذَا فِي الْإِعْلَام. قَوْله: {وَلَو وجد شَيْئا بِخَط الشَّيْخ لم تجز رِوَايَته عَنهُ} ، لَكِن يَقُول: وجدت بِخَط فلَان. وَتسَمى الوِجادة - بِكَسْر الْوَاو - مصدر مُؤَكد لوجد. قَالَ الْمعَافى بن زَكَرِيَّا النهرواني: إِن المولدين ولدوه، وَلَيْسَ عَرَبيا جَعَلُوهُ مباينا لمصادر " وجد " الْمُخْتَلفَة الْمَعْنى، وكما ميزت الْعَرَب بَين مَعَانِيهَا، فرق هَؤُلَاءِ بَين مَا قصدوه من هَذَا النَّوْع وَبَين تِلْكَ، فمادة " وجد " متحدة الْمَاضِي والمضارع مُخْتَلفَة المصادر بِحَسب اخْتِلَاف الْمعَانِي، فَيُقَال فِي الْغَضَب: موجدة، وَفِي الْمَطْلُوب: وجودا، وَفِي الضَّالة: وجدانا، وَفِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2074 الْحبّ: وَجدا - بِالْفَتْح - وَفِي المَال: وُجدانا - بِالضَّمِّ -، وَفِي الْغنى: جِدة - بِكَسْر الْجِيم وَتَخْفِيف الدَّال الْمَفْتُوحَة على الْأَشْهر فِي جَمِيع ذَلِك. وَقَالُوا أَيْضا فِي الْمَكْتُوب: وجادة، وَهِي مولدة، وَزيد فِي الْغَضَب أَيْضا: جدة، وَفِي الْغنى: اجدانا، ذكره ابْن حجر وَغَيره. والوجادة فِي الِاصْطِلَاح: أَن يحدث الحَدِيث أَو نَحوه بِخَط من يعرفهُ، ويثق بِأَنَّهُ خطه حَيا كَانَ أَو مَيتا. فَأَما الرِّوَايَة بِهِ فَيَقُول: {وجدت بِخَط فلَان} كَذَا، وَإِذا لم يَثِق بذلك يَقُول: ذكر أَنه خطّ فلَان، وَلَا يَقُول: " حَدثنَا "، و " أخبرنَا " خلافًا لمن جازف فِي إِطْلَاق ذَلِك. {وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: لَا تجوز الرِّوَايَة بِرُؤْيَة خطّ الشَّيْخ سَمِعت كَذَا سَوَاء قَالَ: هَذَا خطي، أَو لم يقل} . وَأَن أَبَا الْخطاب قَالَ: نَص الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2075 أَحْمد على جَوَازه، كَذَا قَالَ. انْتهى. قَالَ القَاضِي عِيَاض: لَا أعلم أحدا مِمَّن يقْتَدى بِهِ أجَاز ذَلِك، وَإِنَّمَا أَن يَقُول: عَن فلَان. قَالَ ابْن الصّلاح: إِنَّه تَدْلِيس قَبِيح إِذا كَانَ يُوهم سَمَاعه مِنْهُ. قَوْله: {فَائِدَة: يجب الْعَمَل بِمَا ظن صِحَّته من ذَلِك عِنْد أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة} وَغَيرهم فَلَا يتَوَقَّف الْعَمَل على رِوَايَتهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2076 قَالَ ابْن مُفْلِح: عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم، وَذَلِكَ لعمل الصَّحَابَة على كتبه - عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام -. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": قَالَه الشَّافِعِي ونظار أَصْحَابه، وَنَصره الْجُوَيْنِيّ، وَاخْتَارَهُ جمع من الْمُحَقِّقين. قَالَ ابْن الصّلاح: وَهُوَ الَّذِي لَا يتَّجه غَيره فِي الْأَعْصَار الْمُتَأَخِّرَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ الصَّحِيح، وَهَذَا قَول أَصْحَابنَا. وَقيل: لَا يعْمل بِهِ. قَالَ القَاضِي عِيَاض: أَكثر الْمُحدثين، وَالْفُقَهَاء من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2077 الْمَالِكِيَّة وَغَيرهم لَا يرَوْنَ الْعَمَل بِهِ. تَنْبِيه: بل الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِذا لم يكن لَهُ بِمَا وجده رِوَايَة، وَصرح بِهِ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَهُوَ ظَاهر كَلَام غَيره. وَمِمَّا يدل على كَونهم ذكرُوا ذَلِك عقب الوجادة. وَأما إِذا كَانَ لَهُ رِوَايَة بِمَا وجده فالاعتماد على الرِّوَايَة، لَا على الوجادة، وَالله أعلم. قَوْله: {وَمن رأى سَمَاعه وَلم يذكرهُ فَلهُ رِوَايَته وَالْعَمَل بِهِ إِذا عرف الْخط عِنْد أَحْمد وَالشَّافِعِيّ، وَأبي يُوسُف، وَمُحَمّد} ، وَغَيرهم، لما سبق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2078 وَخَالف أَبُو حنيفَة فَقَالَ: لَا تجوز حَتَّى يذكر سَمَاعه. قلت: نظيرها لَو رأى الشَّاهِد خطه بِشَهَادَة، أَو الْحَاكِم خطه بِحكم وَلم يذكراه، هَل للشَّاهِد أَن يشْهد، وللحاكم أَن ينفذ حكمه أم لَا. فِيهِ رِوَايَتَانِ عَن الإِمَام أَحْمد، وَالْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب الْمَنْع وَالْمُخْتَار عَدمه. فعلى الأول قَالَ أَكثر أَصْحَابنَا، وَغَيرهم: يعْمل بِهِ إِذا ظَنّه خطه، فَيَكْفِي ظَنّه، وَهَذَا الصَّحِيح، ونقلوه عَمَّن أجَاز الرِّوَايَة. وَقَالَ الْمجد: لَا يعْمل بِهِ إِلَّا إِذا تحَققه، وَقطع بِهِ فِي " المسودة ". وَنقل الأول ابْن مُفْلِح، ثمَّ قَالَ: وَلِهَذَا قيل لِأَحْمَد: فَإِن أَعَارَهُ من لم يَثِق بِهِ؟ فَقَالَ: كل ذَلِك أَرْجُو. فَإِن الزِّيَادَة فِي الحَدِيث لَا تكَاد تخفي؛ لِأَن الْأَخْبَار مَبْنِيَّة على حسن الظَّن وغلبته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2079 (قَوْله: {فصل} ) {الْأَرْبَعَة وَالْأَكْثَر تجوز رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى للعارف} بِمَا يحِيل الْمَعْنى. هَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وجماهير الْعلمَاء مُطلقًا، وَعَلِيهِ الْعَمَل. وَقد روى ابْن مَنْدَه فِي " معرفَة الصَّحَابَة " من حَدِيث عبد الله بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2080 سُلَيْمَان بن أكيمَة اللَّيْثِيّ، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أسمع مِنْك الحَدِيث لَا أَسْتَطِيع أَن أرويه كَمَا سمعته مِنْك يزِيد حرفا أَو ينقص حرفا، فَقَالَ: إِذا لم تحلوا حَرَامًا، وَلَا تحرموا حَلَالا، وأصبتم الْمَعْنى فَلَا بَأْس. فَذكر ذَلِك لِلْحسنِ، فَقَالَ: لَوْلَا هَذَا مَا حَدثنَا. قَالَ الإِمَام أَحْمد: مَا زَالَ الْحفاظ يحدثُونَ بِالْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَة - على مَا يَأْتِي -: {وَعنهُ: لَا} يجوز، {اخْتَارَهُ جمع} من الْعلمَاء، مِنْهُم: مُحَمَّد بن سِيرِين، وثعلب من الْحَنَابِلَة، وَأَبُو بكر الرَّازِيّ من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2081 الْحَنَفِيَّة، وَنَقله أَبُو الْمَعَالِي، والقشيري عَن مُعظم الْمُحدثين وَبَعض الْأُصُولِيِّينَ. وَنَقله القَاضِي عبد الْوَهَّاب عَن الظَّاهِرِيَّة، وَحَكَاهُ ابْن السَّمْعَانِيّ عَن ابْن عمر، وَجمع من التَّابِعين، وَبِه أجَاب الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ. وَنقل عَن مَالك أَيْضا. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي نَقله عَن ابْن عمر، وَمن مَعَه من التَّابِعين: فِيهِ نظر؛ فَإِنَّهُ لم يَصح عَنْهُم سوى مُرَاعَاة اللَّفْظ، فَلَعَلَّهُ اسْتِحْبَاب، أَو لغير عَارِف، فَإِنَّهُ إِجْمَاع فيهمَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2082 {وَجوزهُ الْمَاوَرْدِيّ إِن نسي اللَّفْظ} ؛ لِأَنَّهُ قد تحمل اللَّفْظ وَالْمعْنَى وَعجز عَن أَحدهمَا فَيلْزمهُ إِذن الآخر، وَجعل مَحل الْخلاف فِي الصَّحَابِيّ، وَقطع فِي غَيره بِالْمَنْعِ. {وَقيل:} يجوز {إِن كَانَ مُوجبه علما} ، فَهَذَا القَوْل مفصل: وَهُوَ إِن كَانَ مُقْتَضَاهُ علما جَازَ، وَإِن اقْتضى عملا فَمِنْهُ مَا لَا يجوز الْإِخْلَال بِهِ كَقَوْلِه: تَحْرِيمهَا التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم، وَخمْس تقتل فِي الْحل وَالْحرم. وَحَكَاهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَجها لبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي. وَقيل: يجوز ذَلِك للصحابة فَقَط، وَتقدم ذَلِك عَن الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره من النَّاس، وَقيل: يجوز ذَلِك فِي الْأَحَادِيث الطوَال دون الْأَحَادِيث الْقصار، حُكيَ عَن القَاضِي عبد الْوَهَّاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2083 {وَقيل: يجوز للاحتجاج لَا التَّبْلِيغ} فيورد على وَجه الِاحْتِجَاج والفتيا لَا التَّبْلِيغ فَلَا يجوز لظَاهِر حَدِيث الْبَراء، قَالَه ابْن حزم فِي الإحكام. {وَقيل} يجوز {بِلَفْظ مرادف} فَقَط، فَلَا يجوز بِغَيْرِهِ، اخْتَارَهُ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ. {وَمنع أَبُو الْخطاب إِبْدَاله بأظهر مِنْهُ معنى أَو أخْفى} لجَوَاز قصد الشَّارِع التَّعْرِيف بذلك. قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": قَالَ أَبُو الْخطاب: وَلَا يُبدل الرَّاوِي بِالْمَعْنَى لفظا بأظهر مِنْهُ؛ لِأَن الشَّاعِر إِنَّمَا قصد إِيصَال الحكم إِلَى الْمُكَلّفين بِاللَّفْظِ الْجَلِيّ تَارَة تسهيلا للفهم عَلَيْهِم وباللفظ الْخَفي أُخْرَى تكثيرا لأجرهم بإجادة النّظر فِيهِ. قلت: وَكَذَا بِالْعَكْسِ وَأولى، أَي: كَذَلِك لَا يُبدل لفظا بِلَفْظ أخْفى مِنْهُ، وَهُوَ أولى بِعَدَمِ الْجَوَاز مِمَّا ذكره أَبُو الْخطاب. {و} قَالَ ابْن عقيل {فِي الْوَاضِح} : إِبْدَاله {بِالظَّاهِرِ أولى، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يجوز بأظهر اتِّفَاقًا} لجوازه [بِغَيْر] عَرَبِيَّة وَهِي أتم بَيَانا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2084 قَوْله: {فعلى الْجَوَاز لَيْسَ بِكَلَام الله، وَهُوَ وَحي، وَإِلَّا فَكَلَامه} يَعْنِي وَإِن لم يجز فَهُوَ كَلَامه، {هَذَا إِن روى مُطلقًا، وَإِن بَين النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن الله أَمر أَو نهى فكالقرآن. وَقَالَ ابْن أبي مُوسَى، وحفيد القَاضِي وَغَيرهمَا: مَا كَانَ خَبرا عَن الله تَعَالَى أَنه قَالَه فَحكمه كالقرآن} . اسْتدلَّ للْجُوَاز بِعَمَل السّلف من غير نَكِير مِنْهُم فَهُوَ إِجْمَاع. وَقد تقدم أَن الإِمَام أَحْمد قَالَ: مَا زَالَ الْحفاظ يحدثُونَ بِالْمَعْنَى وَكَذَلِكَ الصَّحَابَة مستدلا بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْن مَنْدَه. وَقد روى عَن غير وَاحِد من الصَّحَابَة التَّصْرِيح بذلك، وَلأَحْمَد بِإِسْنَاد حسن عَن وَاثِلَة: إِذا حَدَّثْنَاكُمْ بِالْحَدِيثِ على مَعْنَاهُ فحسبكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2085 وروى الْخلال هَذَا الْمَعْنى عَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا، وَحدث ابْن مَسْعُود عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَدِيثا فَقَالَ: أَو دون ذَلِك، أَو فَوق ذَلِك أَو قَرِيبا من ذَلِك. وَكَانَ أنس إِذا حدث عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أَو كَمَا قَالَ. إسنادهما صَحِيح، رَوَاهُمَا ابْن ماجة، وَكَذَلِكَ نقلت وقائع متحدة بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة. وَلِأَنَّهُ يجوز تَفْسِيره بعجمية إِجْمَاعًا فبعربية أولى، ولحصول الْمَقْصُود وَهُوَ الْمَعْنى، وَلِهَذَا لَا يجب تِلَاوَة اللَّفْظ وَلَا ترتيبه بِخِلَاف الْقُرْآن وَالْأَذَان وَنَحْوه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2086 وَاحْتج أَصْحَابنَا بِجَوَازِهِ فِي كَلَام غَيره عَلَيْهِ السَّلَام لتَحْرِيم الْكَذِب فيهمَا. رد بِالْخِلَافِ فِيهِ، ثمَّ بِالْفرقِ. قَالُوا: نضر الله امْرَءًا ... ، وَسبق ذَلِك فِي شُرُوط الرَّاوِي. رد: لَا وَعِيد، ثمَّ أَدَّاهُ كَمَا سَمعه بِدَلِيل تَرْجَمته، أَو لغير عَارِف. قَالُوا: يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَاف الْمَعْنى؛ لتَفَاوت الأفهام، وَلِهَذَا لما علم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَراء بن عَازِب عِنْد النّوم: " آمَنت بكتابك الَّذِي أنزلت، وبنبيك الَّذِي أرْسلت ". قَالَ: وَرَسُولك، قَالَ: لَا، وَنَبِيك. مُتَّفق عَلَيْهِ. رد: إِنَّمَا يجوز لمن علم الْمَعْنى. وَفَائِدَة قَوْله للبراء: عدم الالتباس بِجِبْرِيل، أَو الْجمع بَين لَفْظِي النُّبُوَّة والرسالة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2087 قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: الْجَواب عَن حَدِيث الْبَراء من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن الرَّسُول كَمَا يكون من الْأَنْبِيَاء يكون من الْمَلَائِكَة. الثَّانِي: أَن تضمن قَوْله: " وَرَسُولك " النُّبُوَّة بطرِيق الِالْتِزَام، فَأَرَادَ عَلَيْهِ السَّلَام أَن يُصَرح بِذكرِهِ النُّبُوَّة. الثَّالِث: الْجمع بَين لَفْظِي النُّبُوَّة والرسالة. انْتهى. تَنْبِيه: قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: إِذا قُلْنَا تجوز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى فلهَا شُرُوط: أَحدهَا: كَون الرَّاوِي عَارِفًا بدلالات الْأَلْفَاظ وَاخْتِلَاف مواقعها. وَالثَّانِي: أَن لَا يكون متعبدا بِلَفْظِهِ كالقرآن قطعا وكالتشهد فَلَا يجوز نقل أَلْفَاظه بِالْمَعْنَى اتِّفَاقًا. نَقله الكيا، وَالْغَزالِيّ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ ابْن برهَان، وَابْن فورك، وَغَيرهمَا. وَالثَّالِث: أَن لَا يكون من الْمُتَشَابه؛ ليَقَع الْإِيمَان بِلَفْظِهِ من غير تَأْوِيل أَو بِتَأْوِيل على المذهبين، فروايته بِالْمَعْنَى يُؤَدِّي إِلَى خلل على الرِّوَايَتَيْنِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2088 وَالرَّابِع: أَن لَا يكون من جَوَامِع الْكَلم، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْخراج بِالضَّمَانِ "، " وَالْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي "، و " العجماء جَبَّار "، و " لَا ضَرَر وَلَا ضرار "، و " لَا ينتطح فِيهَا عنزان "، و " حمي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2089 الْوَطِيس " وَنَحْوه مِمَّا لَا ينْحَصر، وَنقل بعض الْحَنَفِيَّة فِيهِ خلافًا عَن بعض مشائخهم. قَوْله: {تَنْبِيه: مَحل الْخلال فِي غير الْكتب المصنفة لما فِيهِ من تَغْيِير تصنيفه، وَقَالَهُ ابْن الصّلاح وَغَيره} . قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَعَلَّ المُرَاد بِالْخِلَافِ فِي غير ذَلِك. انْتهى. قَالَ ابْن الصّلاح: لَا نرى الْخلاف جَارِيا وَلَا أجراه النَّاس فِيمَا نعلم فِيمَا تضمنه بطُون الْكتب، فَلَيْسَ لأحد أَن يُغير لفظ شَيْء من كتاب، وَيثبت فِيهِ بدله لفظا آخر بِمَعْنَاهُ؛ فَإِن الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى رخص فِيهَا من رخص لما كَانَ عَلَيْهِم فِي ضبط الْأَلْفَاظ، والجمود عَلَيْهَا من الْحَرج، وَالنّصب وَذَلِكَ غير مَوْجُود فِيمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ بطُون الأوراق والكتب؛ وَلِأَنَّهُ إِن ملك تَغْيِير اللَّفْظ فَلَيْسَ يملك تَغْيِير تصنيف غَيره. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2090 وَتعقبه ابْن دَقِيق الْعِيد بِأَنَّهُ قَالَ: فَأَقل مَا فِيهِ أَنه يَقْتَضِي تَجْوِيز هَذَا فِيمَا ينْقل من المصنفات فِي أجزائنا وتخاريجنا، وَأَنه لَيْسَ فِيهِ تَغْيِير المُصَنّف، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا جَارِيا على الِاصْطِلَاح، فَإِن الِاصْطِلَاح على أَن [لَا] تغير الْأَلْفَاظ بعد الِانْتِهَاء إِلَى الْكتب المصنفة سَوَاء رويناها فِيهَا أَو نقلناها مِنْهَا. انْتهى. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: قَالَ بعض شُيُوخنَا وَلقَائِل أَن يَقُول لَا نسلم أَن يَقْتَضِي جَوَاز التَّغْيِير فِيمَا نَقَلْنَاهُ إِلَى تخاريجنا بل لَا يجوز نَقله عَن ذَلِك الْكتاب إِلَّا بِلَفْظِهِ دون مَعْنَاهُ، سَوَاء فِي مصنفاتنا وَغَيرهَا. انْتهى. قَوْله: {فَائِدَة: إِبْدَال الرَّسُول بِالنَّبِيِّ وَعَكسه عِنْد أَحْمد وَالْقَاضِي وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَالنَّوَوِيّ وَغَيرهم} ، وَنَصّ على ذَلِك الإِمَام أَحْمد فِيمَا رَوَاهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2091 عَنهُ عمر المغازلي، وَقَالَ صَالح: قلت لأبي: يكون فِي الحَدِيث: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَيجْعَل الْإِنْسَان " قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "! قَالَ: أَرْجُو أَن لَا يكون بِهِ بَأْس. وَاقْتصر على التَّعْلِيق الشَّيْخ تَقِيّ الدّين. وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": هَذِه الْمَسْأَلَة مَبْنِيَّة على الْمَسْأَلَة قبلهَا، يَعْنِي على جَوَاز رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى، فَمن أجازها أجَاز الْإِبْدَال وَمن لَا فَلَا. قلت: قد منع ابْن الصّلاح وَغَيره جَوَاز الْإِبْدَال مَعَ تجويزهم رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى، فَدلَّ على أَنَّهَا غير مَبْنِيَّة، وَقد فرق الْعلمَاء بَين النَّبِي وَالرَّسُول بفروق كَثِيرَة. وَأجَاب أَحْمد بِأَن الرسَالَة طرأت على النُّبُوَّة، وَلم يكن رَسُولا وَأرْسل كشعيب، نَقله عَنهُ ابْن مُفْلِح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2092 (قَوْله: {فصل} ) لَو كذب أصل فرعا - قَالَ ابْن الباقلاني - أَو غلطه لم يعْمل بِهِ عندنَا، وَعند الْأَكْثَر، وَحكي إِجْمَاعًا} . قَالَ ابْن مُفْلِح: حَكَاهُ جمَاعَة إِجْمَاعًا لكذب أَحدهمَا. وَنقل عَن الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، لكنهما على عدالتهما فَلَا تبطل بِالشَّكِّ، فَلَو شَهدا عِنْد حَاكم فِي وَاقعَة قبلا؛ لِأَن قَوْله لَا يقْدَح فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2093 عَدَالَته؛ لِأَنَّهُ عدل، وتكذيبه قد يكون لظن مِنْهُ، أَو غَيره. {وَاخْتَارَ جمَاعَة الْعَمَل بِهِ} ، مِنْهُم: ابْن الْقطَّان، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَالْمَاوَرْدِيّ، وَالرُّويَانِيّ، وَابْن السُّبْكِيّ - فِي " جمع الْجَوَامِع " - والبرماوي فِي " منظومته " و " شرحها "؛ لِأَن الْفَرْع قد يضْبط وَيكون الشَّيْخ نَاسِيا فينكره اعْتِمَادًا على غَلَبَة ظَنّه أَنه مَا أخبرهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْحَالِف على غَلَبَة ظَنّه، وَالْأَمر بِخِلَافِهِ لَا يَحْنَث. ووقف أَبُو الْمَعَالِي فِي الْمَسْأَلَة فَقَالَ: إِن قطع بكذبه وغلطه تَعَارضا ووقف الْأَمر على مُرَجّح بَين الْخَبَرَيْنِ لتعارض قطع الشَّيْخ بكذب الرَّاوِي، وَقطع الرَّاوِي بِأَن الشَّيْخ رَوَاهُ لَهُ. وَقَالَ ابْن الباقلاني: إِن كذبه أَو غلطه لم يعْمل بِهِ، وَحَكَاهُ عَن الشَّافِعِي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2094 قَوْله: {وَإِن أنكرهُ، وَلم يكذبهُ عمل بِهِ عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه، وَمَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَمُحَمّد، وَالْأَكْثَر} ، وَهُوَ الصَّحِيح؛ لِأَنَّهُ عدل جازم غير مكذب، كموت الأَصْل أَو جُنُونه. وروى سعيد عَن الدَّرَاورْدِي عَن ربيعَة عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2095 ونسيه سُهَيْل، وَقَالَ: حَدثنِي ربيعَة عني. وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن الدَّرَاورْدِي قَالَ: فَذكرت ذَلِك لسهيل فَقَالَ: أَخْبرنِي ربيعَة وَهُوَ عِنْدِي ثِقَة، إِنِّي حدثته إِيَّاه وَلَا أحفظه، وَكَانَ سُهَيْل يحدثه بعد عَن ربيعَة عَنهُ عَن أَبِيه. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَإِسْنَاده جيد، وَلم يُنكر ذَلِك. فَإِن قيل: فَأَيْنَ الْعَمَل بِهِ؟ قيل: مَذْكُور فِي معرض الْحجَّة، ثمَّ فَإِنَّهُ إِذا جَازَ أَن يعْمل بِهِ ثَبت أَنه حق يجب الْعَمَل بِهِ. {وَعنهُ: لَا} يعْمل بِهِ. {وَقَالَهُ أَبُو حنيفَة، وَأَبُو يُوسُف، والكرخي} ، والرازي، وَأكْثر الْحَنَفِيَّة: وَلذَلِك ردوا خبر " أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل "؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2096 لِأَن رَاوِيه الزُّهْرِيّ وَقَالَ: لَا أذكرهُ. وَكَذَلِكَ حَدِيث سُهَيْل فِي الشَّاهِد وَالْيَمِين. وَقَالَ أَرْبَاب هَذَا القَوْل: كَالشَّهَادَةِ إِذا نسي شَاهد الأَصْل. أجابوا: بِأَن الشَّهَادَة أضيق. قَالَ ابْن مُفْلِح: {وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: عُمُوم كَلَام أَحْمد يَقْتَضِي وَلَو جحد الْمَرْوِيّ عَنهُ} ؛ لِأَن الْإِنْكَار يَشْمَل الْقسمَيْنِ. وَقيل: إِن غلب نسيانه، واعتاد ذَلِك قبل، وَإِلَّا فَلَا، حَكَاهُ أَبُو زيد الدبوسي. وَقيل: إِن كَانَ هُنَاكَ دَلِيل مُسْتَقل لم يعْمل بِهِ، وَإِلَّا عمل بِهِ، حَكَاهُ ألكيا وَحسنه. وَقيل يجوز لكل أحد أَن يرويهِ إِلَّا الَّذِي نَسيَه لكَون الْمَرْء لَا يعْمل بِخَبَر أحد عَن فعل نَفسه كَمَا فِي الْمُصَلِّي يُنَبه على مَا لَا يَعْتَقِدهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2097 (قَوْله: {فصل} ) {تقبل زِيَادَة ثِقَة ضَابِط لفظا أَو معنى} . يَعْنِي سَوَاء كَانَت الزِّيَادَة فِي الحَدِيث فِي اللَّفْظ أَو فِي الْمَعْنى تقبل {إِن تعدد الْمجْلس إِجْمَاعًا} ، قَالَه ابْن مُفْلِح. قَالَ الأبياري، وَابْن الْحَاجِب، والهندي: بِلَا خلاف. لَكِن انتقد عَلَيْهِ ذَلِك بِأَن ابْن السَّمْعَانِيّ قد أجْرى فِيهَا الْخلاف. قلت: وَإِن وجد خلاف فَهُوَ شَاذ ضَعِيف لَا يلْتَفت إِلَيْهِ. {وَإِن اتَّحد} الْمجْلس {وَفِيه} جمَاعَة {لَا يتَصَوَّر غفلتهم} عَادَة {لم تقبل عِنْد الْأَكْثَر، مِنْهُم: أَبُو الْخطاب، وَابْن حمدَان} فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2098 " مقنعه "، وَذكره بَعضهم إِجْمَاعًا. {وَقيل: أَو كَانَت تتوفر الدَّوَاعِي على نقلهَا} ، اخْتَارَهُ ابْن السَّمْعَانِيّ، والتاج السُّبْكِيّ، والبرماوي، وألحقوها بِمَا إِذا كَانَ فِي الْمجْلس جمَاعَة لَا تتَصَوَّر غفلتهم، وَهُوَ قوي فِي النّظر. {وَعنهُ: تقبل، اخْتَارَهُ القَاضِي وَغَيره} . قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ ظَاهر مَا ذكره القَاضِي، وَجَمَاعَة وذكروه عَن أَحْمد، وَجَمَاعَة الْفُقَهَاء والمتكلمين. وَحَكَاهُ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " عَن أَصْحَابنَا، وَحَكَاهُ الْبرمَاوِيّ عَن جُمْهُور الْفُقَهَاء والمحدثين، قَالَ: وَلِهَذَا قبل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خبر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2099 الْأَعرَابِي عَن رُؤْيَة الْهلَال مَعَ انْفِرَاده، وَقبل خبر ذِي الْيَدَيْنِ، وَأبي بكر وَعمر - رَضِي الله عَنْهُم -، وَإِن انفردوا عَن جَمِيع الروَاة. وَمِمَّنْ نقل عَنهُ إِطْلَاق الْقبُول مَالك، حَكَاهُ عَنهُ عبد الْوَهَّاب فِي " الملخص ". وَجرى على الْإِطْلَاق ابْن الْقطَّان، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَان "، وَالْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى "، وَأَبُو إِسْحَاق فِي " اللمع "، وَابْن برهَان، وَابْن الْقشيرِي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2100 قَوْله: {وَإِن تصورت غفلتهم قبلت} ، وَهَذَا الصَّحِيح، وَعَلِيهِ جُمْهُور الْعلمَاء، مِنْهُم ابْن الصّباغ، وَابْن السَّمْعَانِيّ. وَقَالَ أَبُو الْخطاب: إِن اسْتَوَى الْعدَد قدم بِزِيَادَة حفظ وَضبط وثقة، فَإِن اسْتَويَا، فَذكر شَيخنَا - يَعْنِي بِهِ القَاضِي أَبَا يعلى - رِوَايَتَيْنِ، ثمَّ ضعف مَأْخَذ رُوَاة عدم الْقبُول. وَأطلق القَاضِي فِي " الْعدة " أَن زِيَادَة ثِقَة فِي حَدِيث تقبل، وَأَن أَحْمد نَص على الْأَخْذ بِالزَّائِدِ فِي مَوَاضِع، وردهَا جمَاعَة من الْمُحدثين، وَعَن أَحْمد نَحوه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2101 وَإِنَّمَا ذكر كَلَام أَحْمد فِي وقائع إِلَّا رِوَايَة ابْن الْقَاسِم فِي فَوَات الْحَج فِيهِ زِيَادَة دم. قَالَ أَحْمد: الزَّائِد أولى أَن يُؤْخَذ بِهِ، قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبنَا فِي الْأَحَادِيث إِذا كَانَت الزِّيَادَة فِي أَحدهمَا أَخذنَا بِالزِّيَادَةِ. وَكَذَا أطلقهُ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ عَن جُمْهُور الْفُقَهَاء، وَأهل الحَدِيث. وَذكره بعض الشَّافِعِيَّة مَذْهَب الشَّافِعِي وللمالكية وَجْهَان، وَخص بَعضهم رِوَايَة عدم قبُولهَا عَن أَحْمد؛ لمخالفتها ظَاهر الْمَزِيد عَلَيْهِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2102 وَبَعْضهمْ؛ لمُخَالفَته رِوَايَة الْجُمْهُور، وَفِي " الْوَاضِح " إِنَّهَا إِن خَالَفت الْمَزِيد عَلَيْهِ ردَّتْ، وَلَيْسَ مَسْأَلَة الْخلاف. اسْتدلَّ للقبول بِأَنَّهُ عدل جازم فَقبل، وَلَا نسلم مَانِعا؛ إِذْ الأَصْل عَدمه، وَمن ترك الزِّيَادَة يحْتَمل أَنه لشاغل أَو سَهْو أَو نِسْيَان. وقاس أَصْحَابنَا على الشَّهَادَة، لَو شهد ألف أَنه أقرّ بِأَلف وَاثْنَانِ بِأَلفَيْنِ ثبتَتْ الزِّيَادَة. قَالَ الْمُخَالف: الظَّاهِر الْغَلَط؛ لِتَفَرُّدِهِ مَعَ احْتِمَال مَا سبق فِيهِ. رد: قَوْلنَا أرجح؛ بِدَلِيل انْفِرَاده بِخَبَر، وبالشهادة، والسهو فِيمَا سَمعه أَكثر مِنْهُ فِيمَا لم يسمعهُ. قَوْله: {وَإِن جهل الْمجْلس} ، يَعْنِي هَل فِيهِ من يتَصَوَّر غفلته، أَو لَا يتَصَوَّر غفلته؟ وَهل هُوَ فِي مجْلِس أَو مجَالِس؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2103 وعَلى كل حَال فَالصَّحِيح الْقبُول، وَهُوَ ظَاهر " الرَّوْضَة " وَغَيرهَا، وَقطع بذلك الْبرمَاوِيّ وَقَالَ: هُوَ كَمَا إِذا تعدد الْمجْلس. قَالَ ابْن مُفْلِح: هَذَا أولى، فَظَاهر كَلَام القَاضِي وَغَيره أَنه كاتحاد الْمجْلس، وَقَالَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، فَيعْطى حكمه. {وَقَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {كَلَام أَحْمد، وَغَيره مُخْتَلف فِي الوقائع وَأهل الحَدِيث أعلم} . قَوْله: {وَإِن خَالَفت الزِّيَادَة للمزيد عَلَيْهِ تَعَارضا فيرجح. ذكره القَاضِي وَغَيره} ، وَنَقله الأبياري عَن قوم وَأطلق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2104 آخَرُونَ من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم، وَنقل الأبياري عَن قوم تَقْدِيم الزِّيَادَة، قَالَ: وَهُوَ الظَّاهِر عندنَا، إِذْ لم يكن بُد من تطرق الْوَهم إِلَى أَحدهمَا لِاسْتِحَالَة صدقهما وَامْتنع الْحمل على تعمد الْكَذِب، لم يبْق إِلَّا الذهول وَالنِّسْيَان وَالْعَادَة ترشد إِلَى أَن نِسْيَان مَا جرى أقرب من تخيل مَا لم يجر وَحِينَئِذٍ فالمثبت أولى. وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": إِن خَالَفت الْمَزِيد عَلَيْهِ ردَّتْ، وَلَيْسَت مَسْأَلَة الْخلاف كَمَا تقدم. قَالَ ابْن الصّلاح: إِن الزِّيَادَة إِذا خَالَفت مَا رَوَاهُ الثِّقَات فَهِيَ مَرْدُودَة. {وَعند أبي الْحُسَيْن: إِن غيرت الْمَعْنى لَا الْإِعْرَاب قبلت وَإِلَّا فَلَا} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2105 قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شَرحه ": إِذا غيرت الزِّيَادَة الْإِعْرَاب تَعَارضا كَمَا هُوَ الْحق عِنْد الإِمَام الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه، وَحَكَاهُ الْهِنْدِيّ عَن الْأَكْثَر، قَالَ: لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يروي غير مَا رَوَاهُ الآخر فَيكون نافيا لَهُ، مِثَاله: لَو روى راو فِي كل أَرْبَعِينَ شَاة شَاة، وروى آخر نصف شَاة فيتعارضان. وَخَالف أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ، لَكِن الَّذِي فِي " الْمُعْتَمد " عَنهُ قبُول الزِّيَادَة، سَوَاء أثرت فِي اللَّفْظ أَو لَا، إِذا أثرت فِي الْمَعْنى، وَأَن القَاضِي عبد الْجَبَّار يقبلهَا إِذا أثرت فِي الْمَعْنى دون مَا إِذا أثرت فِي إِعْرَاب اللَّفْظ. وَقَالَ الْمجد فِي " المسودة ": وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ: إِن غيرت الزِّيَادَة إِعْرَاب الْكَلَام وَمَعْنَاهُ تَعَارضا، مثل أَن يروي أَحدهمَا " صَدَقَة الْفطر صَاعا من بر " وروى الآخر " نصف صَاع من بر "، وَإِن غيرت الْمَعْنى دون الْإِعْرَاب، كَقَوْل الآخر: صَاعا من بر بَين الِاثْنَيْنِ قبلت الزِّيَادَة. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2106 قَوْله: {وَلَو رَوَاهُ مرّة، وَتركهَا أُخْرَى فكتعدد الروَاة} ، قَالَه ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، والبرماوي، وَغَيرهم. مَا تقدم فِيمَا إِذا كَانَت الزِّيَادَة من بعض الروَاة دون بعض، وَمَا ذكر هُنَا فِيمَا إِذا كَانَ الرَّاوِي للزِّيَادَة هُوَ السَّاكِت عَنْهَا فِي مرّة أُخْرَى، فَالْحكم فِيهَا يجْرِي كتعدد الروَاة حَتَّى يفصل فِيهِ بَين اتِّحَاد سماعهَا من الَّذِي روى عَنهُ وتعدده، وَالْمرَاد مَا أمكن جَرَيَانه من الشُّرُوط والأقوال لَا مَا لَا يُمكن، وَهُوَ ظَاهر. وَقَالَ الْفَخر الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول ": إِن روى الزِّيَادَة مرّة، وَلم يروها أُخْرَى فالاعتبار لِكَثْرَة المرات وَإِن تَسَاوَت قبلت. وَنقل الباقلاني، وَابْن الْقشيرِي عَن قوم أَنَّهَا ترد من الرَّاوِي الْوَاحِد، وَلَا ترد من أحد الروايين. وَقَالَ ابْن الصّباغ فِي الْوَاحِد: إِن صرح بِأَنَّهُ سمع النَّاقِص فِي مجْلِس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2107 وَالزَّائِد فِي آخر قبلت، وَإِن عزاهما لمجلس وَاحِد، وتكررت رِوَايَته بِغَيْر زِيَادَة، ثمَّ روى الزِّيَادَة، فَإِن قَالَ: كنت نسيت هَذِه الزِّيَادَة قبل مِنْهُ، وَإِن لم يقل ذَلِك وَجب التَّوَقُّف فِي الزِّيَادَة. فَائِدَة: مِثَال زِيَادَة ثِقَة سكت عَنْهَا بَقِيَّة الثِّقَات حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قَوْله: " قسمت الصَّلَاة بيني وَبَين عَبدِي نِصْفَيْنِ، فَإِذا قَالَ العَبْد: الْحَمد لله رب الْعَالمين. يَقُول الله تَعَالَى: حمدني عَبدِي ... " حَدِيث صَحِيح، ثمَّ روى عبد الله بن زِيَاد بن سمْعَان عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة الْخَبَر وَذكر فِيهِ: " فَإِذا قَالَ العَبْد: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. قَالَ تَعَالَى: ذَكرنِي عَبدِي " تفرد بِالزِّيَادَةِ عبد الله، وَفِيه مقَال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2108 وَحَدِيث ابْن عمر فِي صَدَقَة الْفطر: " أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن نخرج صَدَقَة الْفطر صَاعا من شعير، أَو صَاعا من تمر " انْفَرد سعيد بن عبد الرَّحْمَن الجُمَحِي عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر بِزِيَادَة " أَو صَاع من قَمح ". وَحَدِيث ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من شرب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2109 من إِنَاء من ذهب أَو فضَّة فَإِنَّمَا يجرجر فِي جَوْفه نَار جَهَنَّم "، زَاد فِيهِ يحيى بن مُحَمَّد الْجَارِي، عَن زَكَرِيَّا بن إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن مُطِيع عَن أَبِيه عَن جده عَن ابْن عمر: " أَو إِنَاء فِيهِ شَيْء من ذَلِك ". وَمثل زِيَادَة الرَّاوِي مرّة، وَتركهَا أُخْرَى: حَدِيث سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2110 طَلْحَة بن يحيى بن طَلْحَة بن عبيد الله بِسَنَدِهِ إِلَى عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -، قَالَت: دخل عَليّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقلت: إِنَّا خبأنا لَك حَيْسًا، فَقَالَ: " أما أَنِّي كنت أُرِيد الصَّوْم، وَلَكِن قربيه "، وأسنده الشَّافِعِي عَن سُفْيَان هَكَذَا. وَرَوَاهُ عَن سُفْيَان شيخ باهلي، وَزِيَادَة فِيهِ: " وَأَصُوم يَوْمًا مَكَانَهُ " ثمَّ عرضته عَلَيْهِ قبل مَوته بِسنة فَذكر هَذِه الزِّيَادَة. قَوْله: {وَلَو أسْندهُ، وأرسله غَيره، أَو وَصله، وقطعه غَيره، أَو رَفعه، وَوَقفه غَيره فكالزيادة، ذكره} القَاضِي {فِي " الْعدة "، وَغَيرهَا} ؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2111 لِأَنَّهُ زِيَادَة، وَيَأْتِي أَن البُخَارِيّ قَالَ فِي الْمُرْسل والمسند: الحكم لمن وَصله. وَذكر أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": الأولى وَالثَّانيَِة وَقطع بِأَنَّهُ يقبل مُطلقًا من غير بِنَاء على الزِّيَادَة وَقَالَ: لم يمْنَع من قبُوله على الرِّوَايَتَيْنِ. {وَعَن أهل الحَدِيث: الحكم لمن أرْسلهُ} ، حَكَاهُ عَنْهُم الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ. قَوْله: {وَلَو فعله راو وَاحِد قبل مُطلقًا، قطع بِهِ فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره. وَحكي عَن الشَّافِعِيَّة خلافًا لبَعض الْمُحدثين} . لَو فعل ذَلِك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2112 راو وَاحِد بِأَن أسْندهُ تَارَة، وأرسله أُخْرَى، أَو وَصله تَارَة، وقطعه أُخْرَى، أَو رَفعه تَارَة وَوَقفه أُخْرَى قبل، قطع بِهِ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَغَيره، قَالَ أَبُو الْخطاب: لِأَن الرَّاوِي إِذا صَحَّ عِنْده الْخَبَر أفتى بِهِ تَارَة، وَرَوَاهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُخْرَى. وَحَكَاهُ بعض أَصْحَابنَا عَن الشَّافِعِيَّة، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَقطع بِهِ الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعه فِيمَا إِذا كَانَ الرَّاوِي وَاحِدًا. وَخَالف بعض الْمُحدثين فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وَحَكَاهُ فِي " منهاج الْبَيْضَاوِيّ " قولا فِي الْمَسْأَلَة، وَعلله فَقَالَ: لِأَن إهماله يدل على الضعْف. وَحمله ابْن السُّبْكِيّ فِي " شرح الْمِنْهَاج " على مَا إِذا كَانَ من شَأْنه إرْسَال الْأَخْبَار وأسنده. وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شَرحه ": اعْلَم أَن الرَّاوِي إِذا أرسل حَدِيثا مرّة ثمَّ أسْندهُ أُخْرَى أَو وَقفه على الصَّحَابِيّ ثمَّ رَفعه فَلَا إِشْكَال فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2113 قبُوله، وَبِه جزم الإِمَام وَأَتْبَاعه. وَأما إِذا كَانَ الرَّاوِي من شَأْنه إرْسَال الْأَحَادِيث إِذا رَوَاهَا فاتفق أَنه روى حَدِيثا مُسْندًا فَفِي قبُوله مذهبان فِي " الْمَحْصُول " وَالْحَاصِل من غير تَرْجِيح، وَهَذِه هِيَ مَسْأَلَة الْكتاب فَافْهَم ذَلِك، أرجحهما عِنْد المُصَنّف قبُوله لوُجُود شَرطه وَعلله. وَالْمذهب الثَّانِي: لَا يقبل؛ لِأَن إهماله لاسم الروَاة يدل على علمه بضعفهم؛ إِذْ لَو علم عدالتهم لصرح بهم، وَلَا شكّ أَن تَركه للراوي مَعَ علمه خِيَانَة وغش، فَإِنَّهُ إِيقَاع فِي الْعَمَل بِمَا لَيْسَ بِصَحِيح، وَإِذا كَانَ خائنا لم تقبل رِوَايَته مُطلقًا، هَذَا حَاصِل مَا قَالَه الإِمَام. وَالْجَوَاب: أَن ترك الرَّاوِي قد يكون لنسيان اسْمه أَولا لإيثار الِاخْتِصَار. انْتهى كَلَام الْإِسْنَوِيّ. فَائِدَة: مِثَال مَا إِذا أسْند، وَأرْسل غَيره: إِسْنَاد إِسْرَائِيل بن يُونُس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2114 عَن جده أبي إِسْحَاق السبيعِي عَن أبي بردة عَن أَبِيه عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، حَدِيث: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي ". وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي بردة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقضى البُخَارِيّ لمن وَصله، وَقَالَ زِيَادَة الثِّقَة مَقْبُولَة. وَمِثَال من رفع ووقف غَيره حَدِيث مَالك فِي الْمُوَطَّأ " عَن أبي النَّضر عَن بسر بن سعيد عَن زيد بن ثَابت مَوْقُوفا عَلَيْهِ: " أفضل صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إِلَّا الْمَكْتُوبَة ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2115 وَخَالفهُ مُوسَى بن عقبَة وَعبد الله بن سعيد بن أبي هِنْد وَغَيرهمَا فَرَوَوْه عَن أبي النَّضر مَرْفُوعا، وَمثل ذَلِك كثير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2116 (قَوْله: {فصل} ) يسن نقل الحَدِيث بِكَمَالِهِ} بِلَا نزاع بَين الْعلمَاء، {فَإِن ترك بعضه وَلم يتَعَلَّق بِالْبَاقِي جَازَ} عِنْد أَكثر الْعلمَاء، مِنْهُم الإِمَام أَحْمد، وَالْإِمَام مَالك، وَالْإِمَام الشَّافِعِي وَغَيرهم، كأخبار مُتعَدِّدَة. وَقيل: لَا يجوز. وَقيل: إِن نقل بِتَمَامِهِ مرّة جَازَ، وَإِلَّا فَلَا. وَقيل: إِن كَانَ الحَدِيث مَشْهُورا بِتَمَامِهِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2117 قَوْله: {وَإِلَّا لم يجز} ، يَعْنِي إِذا تعلق الْبَاقِي بِمَا تَركه لم يجز {إِجْمَاعًا} ؛ لبُطْلَان الْمَقْصُود مِنْهُ نَحْو الْغَايَة وَالِاسْتِثْنَاء وَنَحْوهمَا. كنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع الثَّمَرَة حَتَّى تزهي، فَيتْرك: حَتَّى تزهي. وَكَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَب وَلَا الْفضة بِالْفِضَّةِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء " فَيتْرك إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء. وَكَذَلِكَ الصّفة، نَحْو: " فِي الْغنم السَّائِمَة الزَّكَاة ". أَو كَانَ فِيهِ تَغْيِير معنوي، كَمَا فِي النّسخ، نَحْو: " كنت نَهَيْتُكُمْ عَن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2118 زِيَارَة الْقُبُور فزوروها "، أَو بَيَان للمجمل فِيهِ، أَو تَخْصِيص للعام، أَو تَقْيِيد للمطلق، وَنَحْو ذَلِك، فَلَا يجوز تَركه إِجْمَاعًا. قَوْله: {يجب الْعَمَل بِحمْل الصَّحَابِيّ وَعنهُ أَو التَّابِعِيّ زَاد جمَاعَة أَو بعض الْأَئِمَّة، مَا رَوَاهُ على أحد محمليه المتنافيين عندنَا وَعند الْأَكْثَر} . قَالَ ابْن مُفْلِح: عندنَا، وَعند عَامَّة الْفُقَهَاء. هَذِه الْمَسْأَلَة تعرف بِمَا إِذا قَالَ رَاوِي الحَدِيث فِيهِ شَيْئا، هَل يقبل أَو يعْمل بِالْحَدِيثِ؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2119 وَلها أَحْوَال، مِنْهَا: أَن يكون الْخَبَر عَاما فيحمله الرَّاوِي على بعض أَفْرَاده - وَيَأْتِي ذَلِك فِي تَخْصِيص الْعَام - أَو يَدعِي تقييدا فِي مُطلق، فكالعام يخصصه، أَو يَدعِي نسخه - وَيَأْتِي فِي النّسخ - أَو يُخَالِفهُ بترك نَص الحَدِيث، كَرِوَايَة أبي هُرَيْرَة فِي الولوغ سبعا، وَقَوله: " يغسل ثَلَاثًا ". وَبَعْضهمْ يمثل بذلك لتخصيص الْعَام، وَلَا يَصح؛ لِأَن الْعدَد نَص فِيهِ، وَهَذِه تَأتي فِي كَلَام الْمَتْن قَرِيبا. وَمِنْهَا: مَسْأَلَة الْكتاب، وَهُوَ أَن يروي الصَّحَابِيّ خَبرا مُحْتملا لمعنيين، ويحمله على أَحدهمَا، فَإِن تنافيا كالقرء، يحملهُ الرَّاوِي على الْأَطْهَار - مثلا - وَجب الرُّجُوع إِلَى حمله عملا بِالظَّاهِرِ، كَمَا قَالَ أَصْحَابنَا، وَجُمْهُور الشَّافِعِيَّة، كالأستاذين أبي إِسْحَاق، وَأبي مَنْصُور، وَابْن فورك، والكيا، وسليم، وَنَقله أَبُو الطّيب عَن مَذْهَب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2120 الشَّافِعِي؛ وَلِهَذَا رَجَعَ إِلَى تَفْسِير ابْن عمر فِي التَّفَرُّق فِي خِيَار الْمجْلس بالأبدان، وَإِلَى تَفْسِيره حَبل الحبلة بِبيعِهِ إِلَى نتاج النِّتَاج، وَإِلَى قَول عمر - رَضِي الله عَنهُ - فِي هَاء وهاء أَنه التَّقَابُض فِي مجْلِس العقد. {وَخَالف أبي بكر الرَّازِيّ} من الْحَنَفِيَّة، حكى السَّرخسِيّ عَن أبي بكر الرَّازِيّ أَنه لَا يعْمل بِحمْل الصَّحَابِيّ كتفسير ابْن عمر تَفْرِيق الْمُتَبَايعين بالأبدان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2121 {وَقيل: لَا يجب} الْحمل، {فيجتهد فَإِن لم يظْهر شَيْء وَجب} . قَالَ الْآمِدِيّ: لَا يبعد أَن لَا يجب الْعَمَل بِحمْلِهِ، فَيعْمل بِالِاجْتِهَادِ، فَإِن لم يظْهر شَيْء وَجب الْعَمَل بِحمْلِهِ، وللمالكية خلاف. {قَالَ بعض أَصْحَابنَا: الْمَسْأَلَة فرع على أَن قَوْله لَيْسَ بِحجَّة} . تَنْبِيه: قَوْله: {وَعنهُ والتابعي} ، قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَفِي وجوب الرُّجُوع إِلَى التَّابِعِيّ رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد ذكرهمَا أَبُو الْخطاب وَغَيره، وَتَأَول القَاضِي رِوَايَة الْوُجُوب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2122 وَاخْتَارَ ابْن عقيل لَا يجب. والاقتصار فِي المسالة على الصَّحَابِيّ هِيَ طَريقَة الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب، ورجحها الْقَرَافِيّ، لَكِن إِمَام الْحَرَمَيْنِ، والرازي، وَغَيرهمَا فرضوها فِي الرَّاوِي، سَوَاء كَانَ صحابيا أَو غَيره. قَالَ الْبرمَاوِيّ: ورجحها كثير، لَكِن بِشَرْط أَن يكون الرَّاوِي من الْأَئِمَّة. قَوْله: {وَغير الْمنَافِي كمشترك فِي الْحمل} . اعْلَم أَنه إِذا لم يكن بَين الْمَعْنيين تناف فَإِن قُلْنَا: اللَّفْظ الْمُشْتَرك ظَاهر فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2123 جَمِيع محامله، كالعام فتعود الْمَسْأَلَة إِلَى التَّخْصِيص بقول الصَّحَابِيّ، وَإِن قُلْنَا: لَا يحمل على جَمِيعهَا، فَفِي " البديع ": يحمل فِيهِ على مَا حمله رَاوِيه وعينه؛ لِأَن الظَّاهِر أَنه لم يحملهُ عَلَيْهِ إِلَّا بِقَرِينَة، قَالَ: وَلَا يبعد أَن يُقَال: لَا يكون تَأْوِيله حجَّة على غَيره، فَإِن لَاحَ لمجتهد تَأْوِيل غَيره بِدَلِيل حمله عَلَيْهِ، وَإِلَّا فتعيين الرَّاوِي صَالح للترجيح إِذا علم ذَلِك فمحله إِذا لم يجتمعوا على أَن المُرَاد أَحدهمَا، وجوزوا كلا مِنْهُمَا، كَمَا فِي حَدِيث ابْن عمر فِي التَّفَرُّق فِي خِيَار الْمجْلس، هَل هُوَ التَّفَرُّق بالأبدان، أَو بالأقوال، فقد أَجمعُوا أَن المُرَاد أَحدهمَا فَكَانَ مَا صَار إِلَيْهِ الرَّاوِي أولى. قَالَ ابْن أبي هُرَيْرَة: أحملهُ عَلَيْهِمَا مَعًا فأجعل لَهما الْخِيَار فِي الْحَالين بالْخبر. قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: هَذَا صَحِيح، لَوْلَا أَن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على أَن المُرَاد أَحدهمَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2124 وَاعْلَم أَن الْخلاف كَمَا قَالَ الْهِنْدِيّ فِيمَا إِذا ذكر ذَلِك لَا بطرِيق التَّفْسِير للفظه، وَإِلَّا فتفسيره أولى بِلَا خلاف. قَوْله: {وَإِن حمله على غير ظَاهره عمل بِالظَّاهِرِ على الْأَصَح} . إِنَّمَا قبلنَا قَول الصَّحَابِيّ فِيمَا مضى إِذا اسْتَوَى المعنيان، أَو حمله على الرَّاجِح، أما إِذا حمله الصَّحَابِيّ بتفسيره أَو عمله على غير ظَاهره بل حمله على الْمَرْجُوح كَمَا إِذا حمل مَا ظَاهره الْوُجُوب على النّدب أَو بِالْعَكْسِ، أَو مَا هُوَ حَقِيقَة على الْمجَاز، وَنَحْو ذَلِك فَيعْمل بِالظَّاهِرِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، وَاخْتَارَهُ القَاضِي وَغَيره {- وَلَو قُلْنَا: قَوْله حجَّة -} ، وَقَالَهُ أَيْضا أَكثر الْفُقَهَاء مِنْهُم: الشَّافِعِي وَأكْثر الْحَنَفِيَّة؛ وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِي: كَيفَ أترك الْخَبَر لأقوال أَقوام لَو عاصرتهم لحججتهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2125 {وَعَن أَحْمد: يعْمل بقوله} وَيتْرك الظَّاهِر، وَقَالَهُ بعض الْحَنَفِيَّة، وَحَكَاهُ الْبرمَاوِيّ عَن أَكثر الْحَنَفِيَّة؛ لِأَنَّهُ لَا يفعل ذَلِك إِلَّا عَن تَوْقِيف. وللمالكية خلاف، وَاخْتَارَ ابْن عقيل، والآمدي، وَأَبُو الْحُسَيْن. وَعبد الْجَبَّار يعْمل بِالظَّاهِرِ إِلَّا أَن يعلم مأخذه، وَيكون صَالحا، وَهَذَا أظهر. قَالَ ابْن مُفْلِح: لَعَلَّه مُرَاد من أطلق، وَمَا هُوَ بِبَعِيد. وَلَكِن غاير الْبرمَاوِيّ بَين قَول أبي الْحُسَيْن وَقَول الْآمِدِيّ، وَلم يغاير بَينهمَا ابْن مُفْلِح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2126 وَإِن كَانَ الظَّاهِر عُمُوما، فَيَأْتِي فِي التَّخْصِيص. قَوْله: {وَإِن كَانَ نصا لَا يحْتَمل وَخَالفهُ، فَالْأَصَحّ عندنَا لَا يرد بِهِ الْخَبَر وَلَا ينْسَخ، وقالته الشَّافِعِيَّة} لاحْتِمَال نسيانه، ثمَّ لَو عرف ناسخه لذكره وَرَوَاهُ وَلَو مرّة؛ لِئَلَّا يكون كَاتِما للْعلم، كَرِوَايَة أبي هُرَيْرَة فِي غسل الولوغ سبعا، وَقَوله: يغسل ثَلَاثًا كَمَا تقدم. {عَن أَحْمد} رِوَايَة {وقالته الْحَنَفِيَّة: لَا يعْمل بالْخبر} . وَقَالَ الْآمِدِيّ: يتَعَيَّن ظُهُور نَاسخ عِنْده، وَقد لَا يكون نَاسِخا عِنْد غَيره فَلَا يتْرك النَّص بِاحْتِمَال. وَخَالفهُ ابْن الْحَاجِب وَقَالَ: فِي الْعَمَل بِالنَّصِّ نظر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2127 وَحكي عَن ابْن أبان أَنه إِن كَانَ من الْأَئِمَّة فَيدل على نسخ الْخَبَر. وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَابْن الْقشيرِي: إِن تحققنا نسيانه للْخَبَر أَو فَرضنَا مُخَالفَته لخَبر لم يروه، وجوزنا أَنه لم يبلغهُ فَالْعَمَل بالْخبر، أَو روى خَبرا يَقْتَضِي رفع الْحَرج فِيمَا سبق فِيهِ حظر، ثمَّ رَأَيْنَاهُ يتحرج فَالْعَمَل بالْخبر أَيْضا، وَيحمل تحرجه على الْوَرع. قَوْله: {وَإِن عمل أَكثر الْأمة بِخِلَاف الْخَبَر عمل بالْخبر، وَحكي إِجْمَاعًا} حَكَاهُ ابْن مُفْلِح وَغَيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2128 {وَاسْتثنى ابْن الْحَاجِب إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة} ، فَقَالَ: فَالْعَمَل بالْخبر إِلَّا إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة، وَذَلِكَ على قَاعِدَة الْمَالِكِيَّة على - مَا سبق - فِي الْإِجْمَاع، وَسبق أَنه لَيْسَ بِحجَّة عِنْد الجماهير، بل مُقْتَضى كَلَامه هُنَا تَقْيِيد إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة بكونهم أَكثر الْأمة وَلَا قَائِل بِهِ، بل إِمَّا لحجيتهم وَإِن كَانُوا أقل الْأمة، أَو لَا حجَّة فِي قَوْلهم مُطلقًا إِلَّا أَن تَأَول عِبَارَته بِأَن الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطع. قَوْله: {نَص أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وأصحابهما، والكرخي، وَالْأَكْثَر: خبر الْوَاحِد الْمُخَالف للْقِيَاس من كل وَجه مقدم عَلَيْهِ} . وَاسْتدلَّ لَهُ بقول عمر: لَوْلَا هَذَا لقضينا فِيهِ برأينا، ورجوعه إِلَى تَوْرِيث الْمَرْأَة من دِيَة زَوجهَا، وَعمل جمَاعَة من الصَّحَابَة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2129 قَالَ الإِمَام أَحْمد: أَكْثَرهم ينْهَى عَن الْوضُوء بِفضل وضوء الْمَرْأَة، والقرعة فِي عتق جمَاعَة فِي مرض مَوته، وَغير ذَلِك وشاع وَلم يُنكر. {وَقدم الْمَالِكِيَّة الْقيَاس، وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة إِن خَالف الْأُصُول، أَو معنى الْأُصُول لَا قِيَاس الْأُصُول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2130 وأجازوا الْوضُوء بالنبيذ سفرا وأبطلوه بالقهقهة دَاخل الصَّلَاة} . قَالَت الْمَالِكِيَّة لما قدمت الْقيَاس؛ لاحْتِمَال كذب الرَّاوِي وفسقه وكفره وخطئه والإجمال فِي الدّلَالَة، والتجوز والإضمار والنسخ مِمَّا لَا يحْتَملهُ الْقيَاس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2131 رد ذَلِك بِأَنَّهُ بعيد وبتطرقه إِلَى أصل ثَبت بِخَبَر الْوَاحِد، وبتقديم ظَاهر الْكتاب وَالسّنة المتواترة مَعَ التطرق فِي الدّلَالَة. قَالُوا: ظَنّه فِي الْخَبَر من جِهَة غَيره، وَفِي الْقيَاس من جِهَة نَفسه، وَهُوَ بهَا أوثق. رد بِأَن الْخَطَأ إِلَيْهِ أقرب من الْخَبَر، وَالْخَبَر مُسْتَند إِلَى الْمَعْصُوم، وَيصير ضَرُورِيًّا بِضَم أَخْبَار إِلَيْهِ، وَلَا يفْتَقر إِلَى قِيَاس. وَلَا إِجْمَاع فِي لبن الْمُصراة، وَهُوَ أصل بِنَفسِهِ، أَو مُسْتَثْنى للْمصْلحَة، وَقطع النزاع لاختلاطه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2132 وَاعْترض بِمثل قَول ابْن عَبَّاس لأبي هُرَيْرَة وَقد روى عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " توضؤوا مِمَّا مست النَّار " فَقَالَ: أَنَتَوَضَّأُ من الْحَمِيم؟ - أَي: المَاء الْحَار - فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: يَا ابْن أخي إِذا سَمِعت حَدِيثا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا تضرب لَهُ مثلا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَابْن ماجة. ورد بِأَن ذَلِك استبعاد لمُخَالفَة الظَّاهِر، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أكل من كتف شَاة وَصلى وَلم يتَوَضَّأ. وَأَيْضًا خبر معَاذ سبق فِي أَن الْإِجْمَاع حجَّة؛ وَلِأَن الْخَبَر أقوى فِي غَلَبَة الظَّن؛ لِأَنَّهُ يجْتَهد فِيهِ فِي الْعَدَالَة وَالدّلَالَة، ويجتهد فِي الْقيَاس فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2133 ثُبُوت حكم الأَصْل وَكَونه مُعَللا، وصلاحية الْوَصْف للتَّعْلِيل ووجوده فِي الْفُرُوع وَنفي الْمعَارض فِي الأَصْل وَالْفرع. وَلما تَعَارَضَت الْأَدِلَّة عِنْد ابْن الباقلاني توقف فِي الْمَسْأَلَة. {وَعند أبي الْحُسَيْن إِن كَانَت الْعلَّة بِنَصّ قَطْعِيّ فَالْقِيَاس} كالنص على حكمهَا، {وَإِن كَانَ الأَصْل مَقْطُوعًا بِهِ فَقَط فالاجتهاد وَالتَّرْجِيح. وَعند صَاحب " الْمَحْصُول " يقدم الْخَبَر مَا لم توجب الضَّرُورَة تَركه} ، كَخَبَر الْمُصراة لمعارضة الْإِجْمَاع فِي ضَمَان الْمثل أَو الْقيمَة. {وَعند الْآمِدِيّ وَمن وَافقه} كَابْن الْحَاجِب وَغَيره: {إِن ثبتَتْ الْعلَّة بِنَصّ رَاجِح على الْخَبَر وَهِي قطيعة فِي الْفَرْع فَالْقِيَاس، أَو ظنية فالوقف، وَإِلَّا فَالْخَبَر} ، وَمعنى كَلَام جمَاعَة من أَصْحَابنَا يَقْتَضِيهِ، قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ مُتَّجه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2134 وَأما إِذا كَانَ أَحدهمَا أَعم خص بِالْآخرِ على خلاف يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلنَا: ويخص أعمهما بِالْآخرِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2135 (قَوْله: {فصل} ) {الْمُرْسل قَول غير الصَّحَابِيّ فِي سَائِر الْأَعْصَار: " قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "، عِنْد أَصْحَابنَا، والكرخي، والجرجاني، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، والمحدثين، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد:} رُبمَا كَانَ الْمُنْقَطع أقوى إِسْنَادًا. وَقَالَهُ ابْن الْحَاجِب وَكثير من الْأُصُولِيِّينَ، بل ينْسب هَذَا القَوْل إِلَى الْأُصُولِيِّينَ. {وَخَصه أَكثر الْمُحدثين} وَكثير من الْأُصُولِيِّينَ {بالتابعي} ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2136 سَوَاء كَانَ من كبارهم وَهُوَ من لَقِي جمَاعَة كَثِيرَة من الصَّحَابَة، كعبيد الله بن عدي بن الْخِيَار حَتَّى قَالَ ابْن عبد الْبر، وَابْن حبَان، وَابْن مَنْدَه: إِنَّه صَحَابِيّ لكَونه ولد فِي حَيَاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على مَذْهَبهم. وكسعيد بن الْمسيب، وعلقمة بن قيس النَّخعِيّ - ولد فِي حَيَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وكأبي مُسلم الْخَولَانِيّ - حَكِيم هَذِه الْأمة -، ومسروق، وَكَعب الْأَحْبَار، وأشباههم. أَو من صغارهم وَهُوَ من لم يلق من الصَّحَابَة إِلَّا الْقَلِيل، كيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَأبي حَازِم، وَابْن شهَاب لَقِي عشرَة من الصَّحَابَة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2137 وَقيل: مَا كَانَ من صغَار التَّابِعين لَا يُسمى مُرْسلا، بل مُنْقَطِعًا لِكَثْرَة الوسائط لغَلَبَة روايتهم عَن التَّابِعين. وَقيل: يُسمى مُرْسلا إِذا سقط من الْإِسْنَاد وَاحِد أَو أَكثر، سَوَاء الصَّحَابِيّ وَغَيره فيتحد مَعَ الْمُسَمّى بالمنقطع بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ. قَالَ ابْن الصّلاح: فَفِي الْفِقْه وأصوله أَن كل ذَلِك يُسمى مُرْسلا، قَالَ: وَإِلَيْهِ ذهب من أهل الحَدِيث أَبُو بكر الْخَطِيب، وَقطع بِهِ. إِلَّا أَن أَكثر مَا يُوصف بِالْإِرْسَال من حَيْثُ الِاسْتِعْمَال مَا رَوَاهُ التَّابِعِيّ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَمَا رَوَاهُ تَابع التَّابِعِيّ فيسمونه معضلا، فَسمى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2138 الْبرمَاوِيّ هَذَا القَوْل مُرْسلا غير الْمُرْسل الَّذِي ذكره ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم فَجعله نوعا بِرَأْسِهِ، وَكَأَنَّهُ يَجعله أَعم من قَوْلنَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ أَولا. يَعْنِي سَوَاء قَالَ فِيهِ: قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو لَا، وَفِيه نظر. قَوْله: {فَلَو قَالَه تَابع التَّابِعِيّ، أَو سقط بَين الروايين أَكثر من وَاحِد فمعضل} . هَذَا تَفْرِيع على قَول أَكثر الْمُحدثين إِن الْمُرْسل لَا يكون إِلَّا من التَّابِعين، فَلَو قَالَ تَابع التَّابِعِيّ أَو سقط أَكثر من وَاحِد سمي معضلا فِي اصطلاحهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2139 وَقَالَ قوم - كَمَا تقدم من حِكَايَة ابْن عبد الْبر -: إِن قَالَه تَابِعِيّ صَغِير يكون مُنْقَطِعًا. قَوْله: {ثمَّ هُوَ حجَّة عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه، وَالْحَنَفِيَّة، والمالكية} والمعتزلة. قَالَ الْبرمَاوِيّ: هُوَ قَول أبي حنيفَة، وَمَالك، وَأشهر الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد. وَحَكَاهُ الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " عَن الْجُمْهُور - أَي: جُمْهُور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2140 الْأُصُولِيِّينَ -، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَغَيره. وَذكر مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ أَن التَّابِعين أَجمعُوا بأسرهم على قبُول الْمَرَاسِيل، وَلم يَأْتِ عَن أحد إِنْكَاره إِلَى رَأس الْمِائَتَيْنِ. وَكَذَا قَالَ أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ: إِنْكَار كَونه حجَّة بِدعَة حدثت بعد الْمِائَتَيْنِ؛ وَذَلِكَ لقبولهم مَرَاسِيل الْأَئِمَّة من غير نَكِير. وَبِأَن الظَّاهِر مِنْهُم لَا يطلقون إِلَّا بعد ثُبُوته، لإلزام الله تَعَالَى بِحكمِهِ، وَذَلِكَ مَمْنُوع لما سبق من التَّفْرِقَة. وَعَن أَحْمد لَيْسَ بِحجَّة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2141 وَقَالَ ابْن عبد الْبر: هُوَ قَول أهل الحَدِيث. قَالَ ابْن الصّلاح: هُوَ الْمَذْهَب الَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ رَأْي أهل الحَدِيث ونقاد الْأَثر، كَمَا قَالَه الْخَطِيب فِي " الْكِفَايَة ". وَبِه قَالَ أَبُو بكر ابْن الباقلاني من الْأُصُولِيِّينَ، {وَحَكَاهُ مُسلم عَن أهل الْعلم بالأخبار} . وَهَذَا، وَإِن قَالَه مُسلم على لِسَان غَيره لكنه أقره، وَاحْتَجُّوا بِأَن فِيهِ جهلا بِعَين الرَّاوِي، وَصفته. {وَقَالَ السَّرخسِيّ: هُوَ حجَّة فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة} ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام أثنى عَلَيْهِم، وَقَالَ عِيسَى بن أبان و {من أَئِمَّة النَّقْل} ، فَقَالَ: إِن كَانَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2142 [من] مَرَاسِيل الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وتابعي التَّابِعين وَمن كَانَ من أَئِمَّة النَّقْل قبل، وَإِلَّا فَلَا. {وَقَالَ الشَّافِعِي} وَأَتْبَاعه: إِن كَانَ من كبار التَّابِعين وَلم يُرْسل إِلَّا عَن عدل، {وأسنده غَيره، أَو أرْسلهُ، وشيوخهما مُخْتَلفَة أَو عضده عمل صَحَابِيّ أَو الْأَكْثَر} ، أَو قِيَاس أَو انتشار أَو عمل الْعَصْر قبل، وَإِلَّا فَلَا. قَالَت الشَّافِعِيَّة: إِذا انْضَمَّ إِلَيْهِ مَا يتقوى بِهِ يكون حجَّة. فَمن ذَلِك إِذا كَانَ الْمُرْسل لَهُ مِمَّن عرف أَنه لَا يروي إِلَّا عَن عدل، وَقد اعْتبرت فَوجدت مسانيد، كسعيد بن الْمسيب. وَمن ذَلِك إِذا كَانَ تابعيا كَبِيرا، فَإِن الْغَالِب فِي مثله أَنه لَا يروي إِلَّا عَن الصَّحَابَة، وهم عدُول، وَقد نَص عَلَيْهِمَا الشَّافِعِي، وَقَالَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2143 الشَّافِعِي فِي بَاب الْحجَّة على تثبيت خبر الْوَاحِد مَا حَاصله من المقويات لقبُول الْمُرْسل أُمُور: أَحدهَا: أَن يَأْتِي بِمَعْنَاهُ مُسْندًا من طَرِيق آخر، وَهُوَ أقوى الْأُمُور، وَمن شَرط الْمسند أَن يكون صَحِيحا، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الشَّافِعِي خلافًا لما زَعمه الرَّازِيّ أَن مُرَاد الشَّافِعِي الْمسند الضَّعِيف. وَالثَّانِي: أَن يُوَافقهُ مُرْسل أَخذ من أرْسلهُ الْعلم من غير مَأْخَذ مِنْهُ مُرْسل الأول. وَالثَّالِث: أَن يُوَافقهُ قَول بعض الصَّحَابَة. وَالرَّابِع: أَن يُوَافقهُ قَول أَكثر الْعلمَاء، وَزَاد الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره عَن الشَّافِعِي: أَن يُوَافقهُ قِيَاس، أَو انتشار من غير دَافع، أَو عمل أهل الْعَصْر أَو فعل صَحَابِيّ، لَكِن قَوْله أَو فعل صَحَابِيّ تقدم نَظِيره فِي الثَّالِث بقوله الثَّالِث أَن يُوَافقهُ قَول بعض الصَّحَابَة، لَكِن هَذَا فعل، وَذَلِكَ قَول فيجمعهما قَوْلنَا: أَو عضده عمل صَحَابِيّ فَإِن الْعَمَل يَشْمَل القَوْل وَالْفِعْل، وَقد نَص الشَّافِعِي عَلَيْهِمَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2144 وَزَاد الْمَاوَرْدِيّ: تاسعا، وَهُوَ أَن لَا يُوجد دَلِيل سواهُ؟ وَنَقله إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن الشَّافِعِي. ورد بِأَنَّهُ لَا يعرف هَذَا عَن الشَّافِعِي. وأوله بَعضهم أَنه أُرِيد بفقد الدَّلِيل، فقد دَلِيل يُخَالِفهُ فَرجع إِلَى أَنه حجَّة ضَعِيفَة لَا تقاوم شَيْئا من الْأَدِلَّة إِلَّا الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة لفقد غَيرهَا فَإِنَّهَا أَضْعَف مِنْهُ. وَزَاد بَعضهم عاشرا كَمَا هُوَ ظَاهر عبارَة " الْمَحْصُول ": أَن يكون مِمَّن سبر مرسله فَوجدَ مُسْندًا كَابْن الْمسيب لكنه تَفْرِيع على أَن مُرْسل ابْن الْمسيب وَنَحْوه يحْتَج بِهِ بِمُجَرَّدِهِ من غير انضمام عاضد، لَكِن الرَّاجِح خِلَافه، وَبِتَقْدِير التَّسْلِيم فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة مُسْند، فَيحصل لهَذَا الْمُرْسل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2145 بِهَذِهِ المقويات الْجَبْر بِمَا انْضَمَّ إِلَيْهِ ويزيل ضعفه بِمَا يزل التُّهْمَة فِيهِ عَن الرَّاوِي الْمَحْذُوف فالحجة بِمَجْمُوع الْأَمريْنِ. والمسند إِذا انْضَمَّ إِلَى الْمُرْسل كَأَنَّهُ بَين أَن السَّاقِط فِي الْمُرْسل عدل مُحْتَج بِهِ فَوَجَبَ أَن يكون دَلِيلا، وَلَا امْتنَاع أَن يكون للْحكم دليلان، وَتظهر فَائِدَته فِي التَّرْجِيح عِنْد التَّعَارُض. وَأما انضمام إِجْمَاع أَو قِيَاس فَكَذَلِك فِيهِ على صِحَة سَنَد الْمُرْسل فيكونان دَلِيلين، وَالله أعلم. وَذكر الْآمِدِيّ أَنه وَافق الشَّافِعِي على ذَلِك أَكثر أَصْحَابه. وَقَالَ القَاضِي عَلَاء الدّين ابْن اللحام البعلي فِي " أُصُوله ": اعْتبر الشَّافِعِي لقبوله فِي الرَّاوِي أَن لَا يعرف لَهُ رِوَايَة إِلَّا عَن مَقْبُول، وَأَن لَا يُخَالف الثِّقَات إِذا أسْند الحَدِيث فِيمَا أسندوه وَأَن يكون من كبار التَّابِعين. وَفِي الْمَتْن أَن يسند الْحفاظ المأمونون عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من وَجه آخر، معنى ذَلِك الْمُرْسل، أَو يُرْسِلهُ غَيره وشيوخهما مُخْتَلفَة، أَو يعضده قَول صَحَابِيّ أَو قَول عَامَّة الْعلمَاء. وَكَلَام الإِمَام أَحْمد فِي الْمُرْسل قريب من كَلَام الشَّافِعِي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2146 {وَاخْتَارَ الطوفي} من أَصْحَابنَا {بِنَاء الْمَسْأَلَة على} الْخلاف فِي {قبُول الْمَجْهُول} ، قَالَ: إِذا السَّاقِط من السَّنَد مَجْهُول. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، {و} قَالَ {بعض أَصْحَابنَا:} هُوَ مَبْنِيّ {على رِوَايَة الْعدْل عَن غير، وَهَذَا أظهر} . قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ أَنه مَذْهَب أَحْمد، فَإِنَّهُ فرق بَين مُرْسل من يعرف أَنه لَا يروي إِلَّا عَن ثِقَة، وَبَين غَيره، فَإِنَّهُ قَالَ فِي مرسلات سعيد بن الْمسيب: أَصَحهَا، ومرسلات إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: لَا بَأْس بهَا، وأضعفها مرسلات الْحسن وَعَطَاء كَانَا يأخذان عَن كل، ومرسلات ابْن سِيرِين صِحَاح، ومرسلات عَمْرو بن دِينَار أحب إِلَيّ من مرسلات إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد إِسْمَاعِيل لَا يُبَالِي عَمَّن حدث، وَعَمْرو لَا يروي إِلَّا عَن ثِقَة، وَلَا يُعجبنِي مُرْسل يحيى بن أبي كثير؛ لِأَنَّهُ روى عَن ضِعَاف، وَقيل لَهُ: لم كرهت مرسلات الْأَعْمَش؟ قَالَ: لَا يُبَالِي عَمَّن حدث، وَقيل لَهُ: عَن مرسلات سُفْيَان؟ قَالَ: لَا يُبَالِي عَمَّن روى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2147 وَنقل مهنا أَن مُرْسل الْحسن صَحِيح. وَقَالَهُ ابْن الْمَدِينِيّ: وَمثل ذَلِك كثير فِي كَلَام الْأَئِمَّة، وَقد قَالَ يحيى الْقطَّان: مرسلات ابْن عُيَيْنَة تشبه الرّيح ثمَّ قَالَ: - أَي: وَالله وسُفْيَان بن سعيد. قَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: قلت مرسلات مَالك؟ قَالَ: هِيَ أحب إِلَيّ. قَالَ بعض أَصْحَابنَا: لَيْسَ هَذَا مَذْهَب أَحْمد؛ فَإِنَّهُ لَا يحْتَج بمراسيل وقته، لَكِن هَذَا إِذا قَالَه مُحدث عَارِف، أَو احْتج بِهِ فَنعم، كتعليق البُخَارِيّ المجزوم بِهِ. قَالَت: بحث القَاضِي يدل على أَنه أَرَادَ بالمرسل فِي عصرنا مَا أرْسلهُ عَن وَاحِد، وَهَذَا قريب. وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد " أَيْضا: يقبل الْمُرْسل إِن أرسل فِي وَقت لم تكن الْأَحَادِيث مضبوطة وَإِلَّا فَلَا. قَوْله: {فَائِدَة: قَالَ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2148 القَاضِي وَكثير من الْفُقَهَاء، وَغَيرهم لَو انْقَطع فِي الْإِسْنَاد وَاحِد كَرِوَايَة تَابِعِيّ التَّابِعِيّ عَن صَحَابِيّ فَهُوَ مُرْسل، وَالْأَشْهر عِنْد الْمُحدثين أَنه مُنْقَطع} . قَوْله: {وَمن روى عَمَّن لم يلقه وَوَقفه عَلَيْهِ فمرسل، أَو مُنْقَطع، وَيُسمى مَوْقُوفا} . الْمُنْقَطع سُقُوط راو فَأكْثر مِمَّن هُوَ دون الصَّحَابِيّ، والمنقطع إِمَّا فِي الحَدِيث أَو الْإِسْنَاد على مَا يُؤْخَذ فِي كَلَامهم من الإطلاقين؛ إِذْ مرّة يَقُولُونَ فِي الحَدِيث مُنْقَطع، وَمرَّة فِي الْإِسْنَاد مُنْقَطع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2149 فالمنقطع بِهَذَا الِاعْتِبَار أخص من مُطلق الْمُنْقَطع الْمُقَابل للمتصل الَّذِي هُوَ مورد التَّقْسِيم، وَإِن كَانَ السَّاقِط أَكثر من وَاحِد بِاعْتِبَار طبقتين فَصَاعِدا، إِن كَانَ فِي مَوضِع وَاحِد سمي معضلا، وَإِن كَانَ فِي موضِعين [سمي مُنْقَطِعًا من موضِعين] . إِذا علم ذَلِك فَإِذا روى عَمَّن لم يلقه فَهُوَ مُرْسل من حَيْثُ كَونه انْقَطع بَينه وَبَين من روى عَنهُ كَمَا تقدم فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا على رَأْي القَاضِي وَكثير من الْفُقَهَاء، ومنقطع على رَأْي الْمُحدثين كَمَا تقدم عَنْهُم فِي أصل الْمُرْسل، وَمَوْقُوف بِكَوْنِهِ وَقفه على شخص فَهُوَ بِهَذِهِ الاعتبارات لَهُ ثَلَاث صِفَات يُسمى مُرْسلا بِاعْتِبَار، ومنقطعا على رَأْي الْمُحدثين، وموقوفا بِاعْتِبَار كَونه وَقفه على شخص. هَذَا مَا ظهر لي فَإِنِّي تبِعت فِي هَذِه الْمَسْأَلَة ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2150 قَوْله: {قَالَ أَصْحَابنَا والمعظم: مُرْسل الصَّحَابِيّ حجَّة} ؛ لِأَن روايتهم عَن الصَّحَابَة والجهالة بالصحابي غير قادحة؛ لأَنهم كلهم عدُول، وَهَذَا فِي الْغَالِب، وَإِلَّا فقد يروي عَن التَّابِعِيّ وَهُوَ قَلِيل. وَخَالف الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ فِي الْمَسْأَلَة فَقَالَ: لَيْسَ بِحجَّة إِلَّا أَن يَقُول إِنَّه لَا يروي إِلَّا عَن صَحَابِيّ، أَي: فِيمَا لَا يُمكنهُ إِدْرَاكه وَمِمَّا يُمكن أَن يروي إِلَّا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو يعضده بِمَا سبق فِي مَرَاسِيل التَّابِعين. وَهَذَا بِنَاء على الْمَشْهُور من تَعْلِيل الْمَنْع بِأَن الصَّحَابِيّ قد يروي عَمَّن لَا يعلم عَدَالَته. قَوْله: {تَنْبِيه: اسْتثْنِي مَرَاسِيل صغارهم كمحمد بن أبي بكر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2151 وَنَحْوه، فَهُوَ كمراسيل التَّابِعين} ، وَهَذَا بِلَا شكّ فَإِنَّهُ لم يدْرك النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهُوَ وَاضح جدا. قَالَ الْحَافِظ شهَاب الدّين ابْن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ ": أَحَادِيث مثل هَؤُلَاءِ من مَرَاسِيل كبار التَّابِعين لَا من قبيل مَرَاسِيل الصَّحَابَة الَّذين سمعُوا من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهَذَا مِمَّا يلغز بِهِ فَيُقَال: صَحَابِيّ حَدِيثه مُرْسل لَا يقبله من يقبل مَرَاسِيل الصَّحَابَة، وَمُحَمّد بن أبي بكر ولد قبل وَفَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِثَلَاثَة أشهر وَأَيَّام كَمَا ثَبت فِي مُسلم أَن أمه أَسمَاء بنت عُمَيْس وَلدته فِي حجَّة الْوَدَاع قبل أَن يدخلُوا مَكَّة، وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر ذِي الْحجَّة سنة عشر من الْهِجْرَة، وَالله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2152 (بَاب الْأَمر) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2153 فارغة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2154 ( {بَاب الْأَمر: حَقِيقَة فِي القَوْل الْمَخْصُوص اتِّفَاقًا) لما فرغ من السَّنَد شرع فِي الْمَتْن بِمَا يشْتَرك فِيهِ الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع، فَمِنْهُ: أَمر، وَنهي، وعام، وخاص، وَمُطلق، ومقيد، ومجمل، ومبين، وَظَاهر، ومؤول، ومنطوق، وَمَفْهُوم، فَبَدَأَ بِالْأَمر ثمَّ بِالنَّهْي؛ لِأَن انقسام الْكَلَام إِلَيْهِمَا بِالذَّاتِ، لَا بِاعْتِبَار الدّلَالَة والمدلول. فَالْأَمْر لَا يَعْنِي بِهِ مُسَمَّاهُ كَمَا هُوَ الْمُتَعَارف فِي الْإِخْبَار عَن الْأَلْفَاظ أَن يلفظ بهَا وَالْمرَاد مسمياتها بل لَفْظَة الْأَمر وَهُوَ أَمر كَمَا يُقَال زيد مُبْتَدأ وَضرب فعل مَاض، وَفِي حرف جر [وَلِهَذَا قُلْنَا إِنَّه] حَقِيقَة فِي القَوْل الْمَخْصُوص اتِّفَاقًا، وَأَنه قسم من الْكَلَام؛ وَلِهَذَا قُلْنَا وَهُوَ قسم من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2155 أَقسَام الْكَلَام؛ لِأَن الْكَلَام يكون من الْأَسْمَاء فَقَط، وَمن الْأَسْمَاء وَالْأَفْعَال، وَيكون من الْفِعْل الْمَاضِي وفاعله، وَمن الْفِعْل الْمُضَارع وفاعله، وَمن فعل الْأَمر وفاعله، فَالْكَلَام: الْأَلْفَاظ المتضمنة لمعانيها. وَعند الْأَشْعَرِيّ وَأَتْبَاعه اللَّفْظ، والنفسي الْقَدِيم، {وَإِن كَانَ وَاحِدًا بِالذَّاتِ فيسمى أمرا ونهيا وخبرا وَغَيرهَا من أَقسَام الْكَلَام باخْتلَاف تعلقه ومتعلقه} ، وَقد تقدم ذَلِك وتحرير هَذَا الْمَذْهَب وَغَيره تحريرا شافيا لَا مزِيد عَلَيْهِ فِي أَوَائِل الْكتاب وَهُوَ الْقُرْآن فليعاود ذَلِك. قَوْله: {وَالْكِتَابَة كَلَام حَقِيقَة} . وَقيل: لَا، كالإشارة، وَهُوَ أظهر وَأَصَح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2156 {وَاخْتلف كَلَام القَاضِي وَغَيره من أَئِمَّة أَصْحَابنَا فِي تَسْمِيَة الْكِتَابَة كلَاما حَقِيقَة} ، فَذكر الْمجد فِي " المسودة " فصلا ذكر فِيهِ كَلَام القَاضِي فَقَالَ: ذكر القَاضِي أَن الْكِتَابَة وَالْإِشَارَة لَا تسمى أمرا - يَعْنِي حَقِيقَة - ذكره مَحل وفَاق، وَذكر فِي مَوضِع آخر عَن القَاضِي أَنه قَالَ: إِن الْكِتَابَة عندنَا كَلَام حَقِيقَة، أَظُنهُ فِي مَسْأَلَة الطَّلَاق بِالْكِتَابَةِ. انْتهى. قلت: قد ذكر الْأَصْحَاب أَنه لَو كتب صَرِيح الطَّلَاق وَنوى بِهِ الطَّلَاق يَقع الطَّلَاق بذلك على الصَّحِيح من الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْأَصْحَاب، وَقَطعُوا بِهِ وَخَرجُوا قولا بِعَدَمِ وُقُوع الطَّلَاق وَلَو نوى بِهِ الطَّلَاق، بل هُوَ لَغْو. وَإِن لم ينْو شَيْئا، بل كتب صَرِيح الطَّلَاق من غير نِيَّة الطَّلَاق بِهِ فللأصحاب فِي وُقُوع الطَّلَاق بذلك وَجْهَان: أَحدهمَا: هُوَ أَيْضا صَرِيح فَيَقَع من غير نِيَّة، وَهَذَا الصَّحِيح من الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ أَكثر الْأَصْحَاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2157 قَالَ ناظم " الْمُفْردَات ": أدخلهُ الْأَصْحَاب فِي الصَّرِيح، وَنَصره القَاضِي من أَئِمَّة أَصْحَابنَا وَتَبعهُ أَصْحَابه، وَذكره الْحلْوانِي عَن الْأَصْحَاب. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنه كِنَايَة لَا صَرِيح، اخْتَارَهُ جمَاعَة من أَصْحَابنَا مِنْهُم صَاحب الْوَجِيز وَابْن حمدَان، وَهُوَ أظهر وَأَصَح. قَوْله: {وَالْأَمر مجَاز فِي الْفِعْل} ، أَعنِي فعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صرح بِهِ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ". وَهَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه، وَأكْثر الْعلمَاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2158 وَاعْلَم أَن لفظ الْأَمر يُطلق بِإِزَاءِ معَان: مِنْهَا: الْمَعْنى الاصطلاحي الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود فِي هَذَا الْبَاب. وَمِنْهَا: الْفِعْل، يُقَال: زيد فِي أَمر عَظِيم من سفر أَو غَيره، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وشاورهم فِي الْأَمر} [آل عمرَان: 159] ، أَي: فِي الْفِعْل، وَنَحْوه قَوْله تَعَالَى: {أَتَعْجَبِينَ من أَمر الله} [هود: 73] ، {حَتَّى إِذا جَاءَ أمرنَا} [هود: 40] . وَمِنْهَا: الشَّأْن، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَمَا أَمر فِرْعَوْن برشيد} [هود: 97] ، أَي: شَأْنه. وَالْمعْنَى الَّذِي هُوَ مبَاشر لَهُ، وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه} [النَّحْل: 40] . وَمِنْهَا: الصّفة، كَقَوْل الشَّاعِر: ( ... ... ... ... ... ... ... لأمر مَا يسوّد من يسود) أَي: بِصفة من صِفَات الْكَمَال. وَمِنْهَا: الشَّيْء، كَقَوْلِهِم: تحرّك الْجِسْم لأمر، أَي: لشَيْء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2159 وَمِنْهَا: الطَّرِيق، وَقع فِي عبارَة بَعضهم، قَالَ فِي " الْعمد ": الطَّرِيق والشأن بِمَعْنى وَاحِد، وَقد يُطلق على الْقَصْد وَالْمَقْصُود. إِذا علم ذَلِك فإطلاقه على الْمَعْنى الاصطلاحي حَقِيقَة بِلَا نزاع، وَفِي غَيره الْأَصَح عِنْد الْعلمَاء أَنه مجَاز فِيهِ، وَإِلَّا لزم الِاشْتِرَاك، وَالْمجَاز عِنْدهم خير من الِاشْتِرَاك؛ لأَنا إِذا حكمنَا بِأَنَّهُ حَقِيقَة فِي كل وَاحِد من هَذِه الْمعَانِي كَانَ مُشْتَركا وَالْمجَاز خير مِنْهُ. وَقد تقدم فِي صدر الْمَسْأَلَة أَن الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه وَأكْثر أهل الْعلم، قَالَ: إِن إِطْلَاق الْأَمر على الْفِعْل مجَاز، وَهُوَ الصَّحِيح فِي الْمَسْأَلَة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2160 {وَقيل: مُشْتَرك بَين الْفِعْل وَالْقَوْل} بالاشتراك اللَّفْظِيّ؛ لِأَنَّهُ أطلق عَلَيْهِمَا، وَالْأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة. {وَقيل: متواطيء} . اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، قَالَه ابْن مُفْلِح وَغَيره، فَهُوَ للقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا من بَاب التواطؤ دفعا للاشتراك وَالْمجَاز على وَجه الْإِلْزَام للخصم، أَي: أَنه لَو قيل بذلك فَمَا الْمَانِع مِنْهُ؟ وَلِهَذَا لما تعرض لَهُ ابْن الْحَاجِب قَالَ فِي آخر الْمَسْأَلَة: وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَول حَادث هُنَا. قلت: كَونه حَادِثا لَا يَنْفِي أَنه مَا قيل، فَإِن للْعُلَمَاء أقوالا كَثِيرَة حدثت قبل الْآمِدِيّ وَبعده وَفِي زَمَنه، وَله هُوَ أَقْوَال قَالَهَا لم يسْبق إِلَيْهَا. {و} قَالَ القَاضِي {فِي " الْكِفَايَة ": مُشْتَرك بَين القَوْل والشأن والطريقة وَنَحْوه} ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2161 قَالَ الشَّيْخ عبد الْحَلِيم ولد الْمجد ووالد الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: هَذَا هُوَ الصَّحِيح لمن أنصف، وَنَصره ابْن برهَان وَأَبُو الطّيب، فبعضهم عَن أبي الْحُسَيْن أَنه مُشْتَرك بَين الصِّيغَة وَبَين الْفِعْل وَبَين الشَّأْن، وَعبارَته فِي " الْمُعْتَمد ": وَأَنا أذهب إِلَى أَن قَول الْقَائِل: " أَمر " مُشْتَرك بَين الصِّيغَة وَالشَّيْء وَالطَّرِيق، وَبَين جملَة الشَّأْن وَبَين القَوْل الْمَخْصُوص. انْتهى. وَلم يذكر الْفِعْل أصلا إِلَّا أَن يكون قد دخل فِي الشَّأْن، وَذكر الطَّرِيق. اسْتدلَّ لِلْقَوْلِ الأول الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر بِأَن القَوْل يسْبق إِلَى الْفَهم عِنْد الْإِطْلَاق، وَلَو كَانَ متواطئا لم يفهم مِنْهُ الْأَخَص؛ لِأَن الْأَعَمّ لَا يدل على الْأَخَص. هُوَ قَول أهل اللُّغَة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2162 وَاسْتدلَّ: لَو كَانَ حَقِيقَة فِي الْفِعْل لزم الِاشْتِرَاك، ولاطرد؛ لِأَنَّهُ من لوازمها، وَلَا يُقَال للْأَكْل أَمر، ولاشتق لَهُ مِنْهُ آمُر، وَلَا مَانع، ولاتحد جمعاهما، ولوصف بِكَوْنِهِ مُطَاعًا ومخالفا، وَلما صَحَّ نَفْيه. ورد الأول بِمَنْع إِطْلَاقه عَلَيْهِ بل على شَأْنه وَصفته، وَمِنْه قَوْله. ثمَّ: مجَاز؛ لدليلنا، وَسبق فيتعارض الْمجَاز والحقيقة. وَالثَّانِي: بِالْمَنْعِ، ثمَّ: خص بِبَعْض الْأَفْعَال، كالأمر بقول مَخْصُوص. وَالثَّالِث: بِأَن الِاشْتِقَاق تَابع للنَّقْل والوضع، وكما يتبع الْحَقِيقَة يتبع بعض المسميات، فَلَا يطرد لعدم الِاشْتِرَاك فِي ذَلِك الْمُسَمّى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2163 وَبِه يُجَاب عَن الرَّابِع وَالْخَامِس وَالسَّادِس بِالْمَنْعِ. الْقَائِل مُشْتَرك إِطْلَاقه وَجمعه وَلَا علاقَة فَكَانَ حَقِيقَة [رد] بِالْمَنْعِ وَالْمرَاد: القَوْل أَو شَأْنه وَصفته وحمار للبليد جمع حمر. ثمَّ كل وَاحِد من الْأَمر والأمور يَقع موقع الآخر وَلَيْسَ جمعا لَهُ. قلت: وَقد تقدم فِي الْمجَاز يجمع على خلاف جمع الْحَقِيقَة، الْقَائِل متواطيء لدفع الْمجَاز والاشتراك فَيجْعَل لقدر مُشْتَرك وَهُوَ الْوُجُود وَالصّفة. ورد ذَلِك بِأَنَّهُ يلْزم رفعهما أبدا كَذَلِك، وَأَن [يدل] الْأَعَمّ على الْأَخَص وَبِأَنَّهُ إِحْدَاث قَول ثَالِث، كَمَا تقدم، وَتقدم جَوَابه. قَوْله: {وَأما حَده} ، ذكرنَا لِلْأَمْرِ حدودا، فَمِنْهَا مَا قَالَه القَاضِي فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2164 " الْعدة "، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": {اقْتِضَاء فعل، أَو استدعاء فعل بقول مِمَّن هُوَ دونه} . وَقَالَ فِي " الْوَاضِح " أَيْضا: استدعاء الْأَعْلَى لتعود الْهَاء إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يجوز فِي الْحَد إِضْمَار، فَيجوز استدعاء فعل بقول من الدون. {و} قَالَ أَبُو الْخطاب فِي {" التَّمْهِيد "، و} الشَّيْخ الْمُوفق فِي {" الرَّوْضَة ": استدعاء فعل بقول بِجِهَة الاستعلاء} أَو على جِهَة الاستعلاء، وَهُوَ معنى حد الأشعرية. قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": لَو أسقط: بقول، أَو زيد، أَو مَا قَامَ مقَامه، استقام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2165 قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَقَالَ: وَالْأولَى على أصلنَا قَول مَعَ اقْتِضَاء بِجِهَة الاستعلاء. {و} قَالَ {الْفَخر} إِسْمَاعِيل، {وَابْن حمدَان: قَول يطْلب بِهِ الْأَعْلَى من الْأَدْنَى فعلا أَو غَيره} . ورده أَيْضا ابْن مُفْلِح. {وَقَالَ ابْن برهَان: تعْتَبر إِرَادَة الْمُتَكَلّم بالصيغة بِلَا خلاف} حَتَّى لَا يرد نَحْو نَائِم، وساه، وَالْكِتَابَة لَيست كلَاما حَقِيقَة. قَالَ ابْن عقيل: عِنْد أحد وَأخرج أَصْحَابنَا ذَلِك والتهديد وَغَيره. وحد أَصْحَابنَا وجود اللَّفْظ بالاستدعاء لجِهَة الاستعلاء، وَإِن عدلنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2166 فلقرينة، ثمَّ {قَالَ ابْن عقيل وَغَيره: اتفقنا أَن إِرَادَة النُّطْق مُعْتَبرَة} وَإِلَّا فَلَيْسَ طلبا واقتضاء واستدعاء. وَاخْتلف النَّاس هَل هُوَ كَلَام؟ فنفاه الْمُحَقِّقُونَ فقوم لقِيَام الْكَلَام بِالنَّفسِ، وَقوم لعدم الْإِرَادَة، وَعِنْدنَا لِأَنَّهُ مَدْفُوع إِلَيْهِ كخروج حرف عَن غَلَبَة عطاس وَنَحْو. {و} حد {أَكثر الْمُعْتَزلَة} الْأَمر {بقول الْقَائِل لمن دونه: افْعَل، أَو مَا يقوم مقَامه من غير الْعَرَبيَّة} . وَنقض طرده بالتهديد، وَالْإِبَاحَة، والتكوين، والإرشاد، والحاكي، وبصدوره من الْأَعْلَى خضوعا، وَعَكسه: بصدوره من الْأَدْنَى استعلاء. {وَبَعْضهمْ: صِيغَة افْعَل مُجَرّدَة عَن الْقَرَائِن الصارفة عَن الْأَمر} . وَفِيه: تَعْرِيف الْأَمر بِالْأَمر فَهُوَ من تَعْرِيف الشَّيْء بِنَفسِهِ، وَإِن أسقط قيد الْقَرَائِن بَقِي صِيغَة افْعَل مُجَرّدَة فَيرد التهديد وَغَيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2167 {وَبَعْضهمْ: صِيغَة افْعَل باقتران} إرادات ثَلَاث؛ {إِرَادَة وجود اللَّفْظ، وَإِرَادَة دلالتها على الْأَمر، وَإِرَادَة الِامْتِثَال} . فَالْأول عَن النَّائِم، وَالثَّانِي عَن التهديد وَغَيره، وَالثَّالِث عَن الْمبلغ والحاكي. وَهُوَ فَاسد؛ فَإِن الْأَمر الَّذِي هُوَ الْمَدْلُول إِن كَانَ الصِّيغَة فسد، فَإِنَّهَا لم ترد دلالتها على اللَّفْظ، وَإِن كَانَ الْمَعْنى لم يكن الْأَمر الصِّيغَة، وَقد قَالَ إِنَّه هِيَ. فَإِن قيل: الْأَمر الأول اللَّفْظ مُفَسّر بالصيغة وَالْأَمر الثَّانِي الْمَعْنى وَهُوَ الطّلب، أَي: الْأَمر الصِّيغَة المُرَاد بهَا دلالتها على الطّلب. رد: فِيهِ اسْتِعْمَال الْمُشْتَرك فِي التَّعْرِيف بِلَا قرينَة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2168 وَاعْتبر الجبائي وَابْنه {إِرَادَة الدّلَالَة، وَبَعْضهمْ إِرَادَة الْفِعْل} . وَنقض عَكسه: بصدوره بِلَا إِرَادَة بِأَن توعد سُلْطَان على ضرب زيد عَبده بِلَا جرم فَادّعى مُخَالفَة أمره، وَأَرَادَ تمهيد عذره بمشاهدته فَإِنَّهُ يَأْمُرهُ وَلَا يُرِيد امتثاله، وَهَذَا أَيْضا يلْزم من حد الْأَمر بِالطَّلَبِ، وَهُوَ الِاقْتِضَاء. ورده أَيْضا أَصْحَابنَا وَغَيرهم: بِأَنَّهُ كَانَ يجب وجود كل أوَامِر الله تَعَالَى، فَإِن إِرَادَة الْفِعْل تخصصه بِوَقْت حُدُوثه، وَإِذا لم يُوجد لم يتخصص وَلم تتَعَلَّق بِهِ، وَلَا تشْتَرط الْإِرَادَة لُغَة إِجْمَاعًا على مَا يَأْتِي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2169 وَحده بعض الشَّافِعِيَّة بِأَنَّهُ خبر عَن الثَّوَاب على الْفِعْل، وَالْعِقَاب على التّرْك. وَفِيه: لزومهما. فَقيل: باستحقاقهما. فَرد: بِالْتِزَام الْخَبَر للصدق أَو الْكَذِب، وَالْأَمر لَا يحْتَملهُ. {و} حَده ابْن {الباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ} ، قَالَ الْآمِدِيّ وَأَكْثَرهم {بالْقَوْل الْمُقْتَضِي طَاعَة الْمَأْمُور بِفعل الْمَأْمُور بِهِ} . ورد بِأَن الْمَأْمُور مُشْتَقّ من الْأَمر، وَبِأَن الطَّاعَة مُوَافقَة الْأَمر، وهما دور. وَاخْتَارَ {الْآمِدِيّ} على قَاعِدَة أَصْحَابه فِي كَلَام النَّفس: أَنه {طلب فعل على جِهَة الاستعلاء} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2170 فالفعل عَن النَّهْي، وَالْبَاقِي عَن الدُّعَاء والالتماس. {وَقيد} جمَاعَة - مِنْهُم ابْن الْحَاجِب - {الْفِعْل بِغَيْر كف} ليخرج النَّهْي فَإِنَّهُ فعل كف. وَأوردهُ: (اترك، وكف) أَمْرَانِ وهما اقْتِضَاء فعل هُوَ كف، و (لَا تتْرك وَلَا تكف) نهي وهما اقْتِضَاء فعل غير كف بِجِهَة الاستعلاء، وَقَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": اقْتِضَاء فعل غير كف مَدْلُول عَلَيْهِ بِغَيْر كف. فَقَوله: اقْتِضَاء فعل، أَي: طلب فعل، وَهُوَ جنس؛ ليشْمل الْأَمر وَالنَّهْي وَيخرج الْإِبَاحَة وَغَيرهَا مِمَّا يسْتَعْمل مِنْهُ صِيغَة الْأَمر وَلَيْسَ أمرا. وَقَوله: غير كف، فصل خرج بِهِ النَّهْي فَإِنَّهُ طلب فعل هُوَ كف. وَقَوله: مَدْلُول عَلَيْهِ بِغَيْر كف وصف لقَوْل (كف) وَهُوَ قيد زَاده على ابْن الْحَاجِب؛ لإدخال قَوْلنَا: (كف نَفسك عَن كَذَا أَو أمسك عَن كَذَا) فَإِنَّهُ أَمر مَعَ أَنه يخرج بقولنَا: (غير كف) فَبين أَن الْكَفّ الَّذِي أُرِيد إِخْرَاجه مَا دلّ عَلَيْهِ غير كف، أما طلب فعل هُوَ كف دلّ على كف فَإِنَّهُ لَيْسَ نهيا بل أمرا. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2171 وَهَذَا التَّعْرِيف وتعريف الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب على الْكَلَام النَّفْسِيّ، وَأما من نَفَاهُ عرفه بِأَنَّهُ: القَوْل الطَّالِب للْفِعْل. وَقَالَ بعض الْمُعْتَزلَة: هُوَ اقْتِضَاء وَطلب. قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": وَهُوَ قَول حسن. قَوْله: {فَائِدَة اعْتبر أَبُو الْخطاب، والموفق، و} أَبُو مُحَمَّد {الْجَوْزِيّ، والطوفي، وَابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَابْن برهَان} فِي " الْأَوْسَط "، {و} الْفَخر {الرَّازِيّ، والآمدي، وَغَيرهم فِيهِ الاستعلاء} ، وَهُوَ قَول أبي الْحُسَيْن من الْمُعْتَزلَة، وَصَححهُ ابْن الْحَاجِب، وَغَيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2172 {و} اعْتبر أَكثر أَصْحَابنَا، مِنْهُم: {القَاضِي، وَابْن عقيل، وَابْن الْبَنَّا، وَالْفَخْر} إِسْمَاعِيل {وَالْمجد} ابْن تَيْمِية {وَابْن حمدَان} وَغَيرهم، وَنسبه ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " إِلَى الْمُحَقِّقين، {وَأَبُو الطّيب} الطَّبَرِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق {الشِّيرَازِيّ} - نقل عَنهُ الْبرمَاوِيّ -، {والمعتزلة: الْعُلُوّ، فالمساوي} عِنْدهم {التمَاس} ، أَعنِي: أَمر الْمسَاوِي لغيره يُسمى عِنْدهم التماسا، {والأدون سؤالا} . وَنَقله الْبرمَاوِيّ عَن ابْن الصّباغ، وَحَكَاهُ ابْن الصّباغ عَن أَصْحَابهم، والباقلاني، وَعبد الْوَهَّاب فِي ... ... ... ... ... ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2173 " الملخص "، وَأَبُو الْفضل ابْن عَبْدَانِ. قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب فِي " الملخص ": هَذَا عَلَيْهِ أهل اللُّغَة وَجُمْهُور أهل الْعلم. وَاعْتبر الاستعلاء والعلو مَعًا ابْن {الْقشيرِي وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب} الْمَالِكِي، نَقله عَنْهُمَا الْبرمَاوِيّ. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: من النَّاس من يشْتَرط الْعُلُوّ والاستعلاء كَقَوْل أَصْحَابنَا وَغَيرهم. انْتهى. وَالظَّاهِر أَنه أَخذه من " المسودة " فَإِن الْمجد قَالَ فِيهَا: الْآمِر لَا بُد أَن يكون أعلا رُتْبَة من الْمَأْمُور من حَيْثُ هُوَ آمُر، وَإِلَّا كَانَ سؤالا وتضرعا، وَيُسمى أمرا مجَازًا، هَذَا قَول أَصْحَابنَا وَالْجُمْهُور، وَقَالَ بعض الأشعرية: لَا تشْتَرط الرُّتْبَة. انْتهى. لَكِن لَيْسَ فِي كَلَام الْمجد إِلَّا أَن الْآمِر يكون أعلا رُتْبَة من الْمَأْمُور وَهُوَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2174 اشْتِرَاط الْعُلُوّ فَهُوَ مُوَافق لما نَقَلْنَاهُ عَن أَكثر أَصْحَابنَا، وَابْن قَاضِي الْجَبَل نسب إِلَى الْأَصْحَاب الْعُلُوّ والاستعلاء وَلم يعْتَبر وَلَا وَاحِدًا مِنْهُمَا أَكثر الشَّافِعِيَّة، وَحَكَاهُ فِي " الْمَحْصُول " عَن أَصْحَابهم. تَنْبِيه: تلخص فِي الْمَسْأَلَة أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: اعْتِبَار الْعُلُوّ والاستعلاء، وَالثَّانِي: عَكسه، وَالثَّالِث: اعْتِبَار الاستعلاء فَقَط، وَالرَّابِع: اعْتِبَار الْعُلُوّ فَقَط. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَلم يشْتَرط بعض الأشعرية الرُّتْبَة، فَعَزاهُ إِلَى بعض الأشعرية، قَالَ: وَحكي عَن الْمُعْتَزلَة، لقَوْل فِرْعَوْن: {فَمَاذَا تأمرون} [الْأَعْرَاف: 110] وأبطل الْعُلُوّ والاستعلاء ب (مَاذَا تأمرون) . رد ذَلِك بِأَنَّهُ من قَول الْمَلأ، ثمَّ هُوَ استشارة؛ لِأَن من أَمر سَيّده أَحمَق إِجْمَاعًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2175 قَالَ فِي " الْوَاضِح ": لَا خلاف أَنه من العَبْد لَيْسَ أمرا؛ لدنو الرُّتْبَة، وَأَجْمعُوا على اعْتِبَار الرُّتْبَة فِي الْحَد، وَهُوَ من المماثل سُؤال. قَوْله: {فالاستعلاء طلب بغلظة، والعلو كَون الطَّالِب أَعلَى رُتْبَة، قَالَه الْقَرَافِيّ} . فَقَالَ فِي " التَّنْقِيح ": الاستعلاء هَيْئَة فِي الْآمِر من الترفع وَإِظْهَار الْقَهْر والعلو يرجع إِلَى هَيْئَة الْآمِر من شرفه وعلو مَنْزِلَته بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَأْمُور. انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالْمرَاد بالعلو أَن يكون الْآمِر فِي نَفسه عَالِيا، أَي: أَعلَى دَرَجَة من الْمَأْمُور والاستعلاء أَن يَجْعَل الْآمِر نَفسه عَالِيا بكبرياء أَو غير ذَلِك، سَوَاء كَانَ فِي نفس الْأَمر كَذَلِك أَو لَا، فالعلو من الصِّفَات الْعَارِضَة لِلْأَمْرِ، والاستعلاء من صفة صِيغَة الْأَمر وهيئته نطقه مثلا. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: فالعلو صفة للمتكلم، والاستعلاء صفة للْكَلَام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2176 (قَوْله: {فصل} ) {الْأَرْبَعَة وَالْأَكْثَر لِلْأَمْرِ صِيغَة تدل بمجردها عَلَيْهِ لُغَة} . نَقله عَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره، وَقَالَ: هُوَ قَول الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَالْأَوْزَاعِيّ، وَجَمَاعَة أهل الْعلم وَبِه يَقُول الْبَلْخِي من الْمُعْتَزلَة. {وَقَالَ ابْن عقيل: الصِّيغَة الْأَمر} ، فَمنع أَن يُقَال: لِلْأَمْرِ صِيغَة، أَو أَن يُقَال: هِيَ دَالَّة عَلَيْهِ بل الصِّيغَة نَفسهَا هِيَ الْأَمر وَالشَّيْء لَا يدل على نَفسه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2177 وَإِنَّمَا يَصح عِنْد الْمُعْتَزلَة: الْأَمر الْإِرَادَة، أَو الأشعرية: الْأَمر معنى فِي النَّفس، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ صِيغَة الْأَمر كَقَوْلِك: ذَات الشَّيْء وَنَفسه. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: قَوْلهم لِلْأَمْرِ صِيغَة صَحِيح؛ لِأَن الْأَمر اللَّفْظ، وَالْمعْنَى فاللفظ دلّ على التَّرْكِيب وَلَيْسَ هُوَ عين الْمَدْلُول؛ وَلِأَن اللَّفْظ دلّ على صفته الَّتِي هِيَ الأمرية كَمَا يُقَال: يدل على كَونه أمرا، وَلم يقل: على الْأَمر. وَقَالَ القَاضِي: الْأَمر يدل على طلب الْفِعْل واستدعائه، فَجعله مَدْلُول الْأَمر لَا عين الْأَمر. {وَقَالَ القَاضِي} عَن قَول أَحْمد: من تَأَول الْقُرْآن على ظَاهره بِلَا أَدِلَّة من الرَّسُول وَلَا أحد من الصَّحَابَة فَهُوَ تَأْوِيل أهل الْبدع؛ لِأَن الْآيَة قد تكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2178 عَامَّة قصدت لشَيْء بِعَيْنِه، وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الْمعبر عَن كتاب الله: {ظَاهره: لَا صِيغَة لَهُ} ، بل الْوَقْف؛ {حَتَّى يتَبَيَّن المُرَاد} من وجوب وَندب، قَالَ بعض أَصْحَابنَا: نَص أَحْمد فِي الْعُمُوم، وَاعْتبر القَاضِي جنس الظَّاهِر وَهُوَ اعْتِبَار جيد. فَيبقى قد حكى رِوَايَة بِمَنْع التَّمَسُّك بالظواهر الْمُجَرَّدَة؛ حَتَّى يعلم مَا يُفَسِّرهَا، وَهُوَ الْوَقْف الْمُطلق وقوفا شَرْعِيًّا؛ لمجيء التَّفْسِير وَالْبَيَان كثيرا مَعَ ظُهُوره لُغَة. وَمن أَصْحَابنَا من يُفَسر هَذِه الرِّوَايَة بِمَا يُوَافق كَلَامه. قَوْله: {وَعند [أَكثر] الْقَائِلين بِكَلَام النَّفس أَن لِلْأَمْرِ صِيغَة} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2179 {و} عِنْد {الْأَشْعَرِيّ} وَمن تبعه {لَا صِيغَة لَهُ. فَقيل: مُشْتَركَة، وَقيل: لَا نَدْرِي} . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: الْقَائِلُونَ بِالنَّفسِ اخْتلفُوا: هَل لَهُ صِيغَة تخصه؟ فَنقل عَن أبي الْحسن وَمن تَابعه النَّفْي، وَإِنَّمَا يدل عَلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ والقرائن، وَعَن غَيرهم: الْإِثْبَات. وَنقل عَن الباقلاني أَنه قَالَ: لَا صِيغَة لَهُ تفيده بِنَفسِهَا، بل هِيَ كالزاي من زيد يَنْضَم إِلَيْهَا قرينَة فتفيد الْمَجْمُوع، ثمَّ قَالَ: اخْتلف ابْن كلاب والأشعري، وَكَانَ ابْن كلاب يَقُول: هِيَ حِكَايَة عَن الْأَمر، وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ: هِيَ عبارَة عَن الْمَعْنى النفساني. انْتهى. وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره: اخْتلف الْقَائِلُونَ بالْكلَام النَّفْسِيّ فِي أَن الْأَمر هَل لَهُ صِيغَة تخصه أم لَا؟ قَوْلَيْنِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2180 أَحدهمَا: وَهُوَ الْمَنْقُول عَن الْأَشْعَرِيّ أَنه لَيست لَهُ صِيغَة تخصه، فَقَوْل الْقَائِل: افْعَل، مُتَرَدّد بَين الْأَمر وَالنَّهْي، ثمَّ اخْتلف أَصْحَابه فِي تَحْقِيق مذْهبه. فَقيل: أَرَادَ الْوَقْف، أَي: أَن قَول الْقَائِل: افْعَل، لَا يدْرِي وضع فِي اللِّسَان الْعَرَبِيّ لماذا؟ وَقيل: أَرَادَ الِاشْتِرَاك، أَي: أَن اللَّفْظ صَالح لجَمِيع المحامل صَلَاحِية اللَّفْظ الْمُشْتَرك للمعاني الَّتِي يثبت اللَّفْظ لَهَا. الثَّانِي: أَن لَهُ صيغا تخصه لَا يفهم مِنْهَا غَيره عِنْد التجرد عَن الْقَرَائِن، كَفعل الْأَمر وَاسم الْفِعْل وَالْفِعْل الْمُضَارع المقرون بِاللَّامِ. وَذكر إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزالِيّ أَن الْخلاف فِي صِيغَة (افْعَل) دون قَول الْقَائِل: أَمرتك فأوجبت عَلَيْك، وندبت وألزمتك فَأَنت مَأْمُور فَإِنَّهُ من صِيغ الْأَمر بِلَا خلاف، وتبعهم جمَاعَة. وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَا وَجه لهَذَا التَّخْصِيص فَإِن مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ أَن الْأَمر عبارَة عَن الطّلب الْقَائِم بِالنَّفسِ، وَلَيْسَ لَهُ صِيغَة تخصه، وَإِنَّمَا يعبر بِمَا يدل عَلَيْهِ؛ لانضمام الْقَرِينَة إِلَيْهِ. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2181 قَوْله: {فَائِدَتَانِ: الأولى: لَا تشْتَرط} فِيهِ وَلَا فِي الْخَبَر {إِرَادَة} ، خلافًا {للمعتزلة} ، كاللغة إِجْمَاعًا، لَا تشْتَرط فِي الْأَمر إِرَادَة عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء خلافًا للمعتزلة. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: هَذِه الْإِرَادَة نفس الصِّيغَة للطلب عِنْدهم؛ لِأَن للصيغة بضعَة عشر محملًا لَا يتَعَيَّن أَحدهَا إِلَّا بالإرادة. ثمَّ قَالَ: لنا أَن الله تَعَالَى أَمر إِبْرَاهِيم بِذبح وَلَده وَلم يردهُ مِنْهُ، وَأمر إِبْلِيس بِالسُّجُود وَلم يردهُ مِنْهُ، وَلَو أَرَادَهُ لوقع؛ لِأَنَّهُ فعال لما يُرِيد؛ وَلِأَن الله تَعَالَى أَمر برد الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا، ثمَّ إِنَّه لَو قَالَ: وَالله لأؤدين أمانتك إِلَيْك غَدا إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَلم يفعل لم يَحْنَث، وَلَو كَانَ مُرَاد الله لوَجَبَ أَن يَحْنَث وَلَا حنث بِالْإِجْمَاع، خلافًا لمن حنثه كالجبائي، وخرق الْإِجْمَاع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2182 قَالَ الشَّيْخ الْمُوفق، والطوفي، وَغَيرهمَا من الْأَصْحَاب: لنا على أَن الْأَمر لَا تشْتَرط لَهُ إِرَادَة، إِجْمَاع أهل اللُّغَة على عدم اشْتِرَاطهَا. قَالُوا: الصِّيغَة مستعملة فِيمَا سبق من الْمعَانِي فَلَا يتَعَيَّن الْأَمر إِلَّا بالإرادة؛ إِذْ لَيست أمرا لذاتها وَلَا لتجردها عَن الْقَرَائِن. قُلْنَا: اسْتِعْمَالهَا فِي غير الْأَمر مجَاز، فَهِيَ بإطلاقها لَهُ، ثمَّ الْأَمر والإرادة ينفكان كمن يَأْمر وَلَا يُرِيد، أَو يُرِيد وَلَا يَأْمر فَلَا يتلازمان، وَإِلَّا اجْتمع النقيضان. تَنْبِيه: وَأما الْخَبَر فَلَا تشْتَرط فِيهِ إِرَادَة أَيْضا على الصَّحِيح من قولي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2183 الْعلمَاء، والمخالف فِي ذَلِك الْمُعْتَزلَة كَمَا قَالُوا فِي الْأَمر. قَالَت الْمُعْتَزلَة: الْخَبَر يَأْتِي دُعَاء كَقَوْلِه: غفر الله لنا، وَيَأْتِي تهديدا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {سنفرغ لكم أيه الثَّقَلَان} [الرَّحْمَن: 31] ، وَيَأْتِي أمرا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ} [الْبَقَرَة: 233] ، فَإِذا اخْتلف موارد الِاسْتِعْمَال لم يتَعَيَّن الْخَبَر إِلَّا بِإِرَادَة. وَجَوَابه: أَن الصِّيغَة حَقِيقَة فِي الْخَبَر فتصرف لمدلولها وضعا لَا بالإرادة، وإتيانه لهَذِهِ الْمعَانِي مجَاز؛ لِأَن الْمجَاز صرفهَا عَن حَقِيقَتهَا إِلَى ذَلِك الْمَعْنى {قَوْله: كاللغة إِجْمَاعًا} ، قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَا تشْتَرط الْإِرَادَة لُغَة إِجْمَاعًا. قَوْله: {الثَّانِيَة: ترد صِيغَة (افْعَل) } لمعان كَثِيرَة. أَحدهَا: الْوُجُوب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} [الْإِسْرَاء: 78] ، {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} [الْبَقَرَة: 43] إِذا كَانَ المُرَاد بهَا الصَّلَوَات الْخمس، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " بِخِلَاف نَحْو: {وصل عَلَيْهِم} [التَّوْبَة: 103] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2184 وَمن الْوُجُوب أَيْضا: {لينفق ذُو سَعَة من سعته} [الطَّلَاق: 7] ، {وليتق الله ربه} [الْبَقَرَة: 283] . قَوْله: الثَّانِي: النّدب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا} [النُّور: 33] فَإِنَّهُ للنَّدْب على الْأَصَح عِنْد جمَاعَة الْعلمَاء، وَرُوِيَ عَن دَاوُد وَجمع أَنه للْوُجُوب. قلت: حمل الْآيَة على الْوُجُوب هُوَ الصَّحِيح من مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه، وَأَنه يجب إتْيَان العَبْد شَيْئا من الْكِتَابَة. وَحَكَاهُ الشَّيْخ موفق الدّين وَالشَّارِح عَن الشَّافِعِي وَإِسْحَاق. وَحكي الِاسْتِحْبَاب عَن أبي حنيفَة وَمَالك، لَكِن الشَّيْخ موفق الدّين فِي " الرَّوْضَة "، وَغَيره من أَصْحَاب الْأُصُول من أَصْحَابنَا اسْتشْهدُوا للاستحباب بِآيَة الْمكَاتب، وَهَذَا لَا يضر فَإِن الاستشهاد يجوز وَلَو على قَول من أَقْوَال الْعلمَاء لَا سِيمَا فِي الْمحل؛ فَإِن أَكثر أهل الْعلم قد قَالُوا: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2185 إِن الْأَمر فِي الْآيَة للاستحباب، وَقَالُوا: إِن قرينَة صرفه عَن الْوُجُوب إِمَّا لكَونه علق على رَأْي السادات، أَو لكَونه أمرا بعد حظر، وَالله أعلم. وَالْأولَى فِي الاستشهاد للاستحباب قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " استاكوا ". الثَّالِث: الْإِبَاحَة، كَقَوْلِه: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} [الْمَائِدَة: 2] ، {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض} [الْجُمُعَة: 10] . وَاعْلَم أَن الْإِبَاحَة إِنَّمَا تستفاد من خَارج؛ فلهذه الْقَرِينَة يحمل الْأَمر عَلَيْهَا مجَازًا بعلاقة المشابهة المعنوية؛ لِأَن كلا مِنْهُمَا مَأْذُون فِيهِ. الرَّابِع: الْإِرْشَاد، كَقَوْلِه تَعَالَى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [الْبَقَرَة: 282] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم} [الْبَقَرَة: 282] ، وَنَحْوه: {إِذا تداينتم بدين إِلَى أجل مُسَمّى فاكتبوه} [الْبَقَرَة: 282] ، وَالضَّابِط فِيهِ أَن يرجع لمصْلحَة فِي الدُّنْيَا بِخِلَاف النّدب فَإِنَّهُ لمصَالح الْآخِرَة. وَأَيْضًا الْإِرْشَاد لَا ثَوَاب فِيهِ وَالنَّدْب فِيهِ الثَّوَاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2186 الْخَامِس: الْإِذْن، كَقَوْلِك لمستأذن عَلَيْك: ادخل. وَمِنْهُم من يدْخل هَذَا فِي قسم الْإِبَاحَة، وَقد يُقَال: الْإِبَاحَة إِنَّمَا تكون من صِيغ الشَّرْع الَّذِي لَهُ الْإِبَاحَة وَالتَّحْرِيم، وَإِنَّمَا الْإِذْن يعلم بِأَن الشَّرْع أَبَاحَهُ دُخُول ملك ذَلِك الآذان مثلا فتغايرا. السَّادِس: التَّأْدِيب، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعمر بن أبي سَلمَة: " يَا غُلَام سم الله وكل بيمينك وكل مِمَّا يليك " مُتَّفق عَلَيْهِ، وَقَالَ لعكراش: " كل من مَوضِع وَاحِد فَإِنَّهُ طَعَام وَاحِد ". وَمِنْهُم من يدْخل ذَلِك فِي قسم النّدب، مِنْهُم: الْبَيْضَاوِيّ، وَمِنْهُم من قَالَ: يقرب من النّدب، وَهُوَ يدل على الْمُغَايرَة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2187 وَالظَّاهِر أَن بَينهمَا عُمُوما وخصوصا من وَجه؛ لِأَن الْأَدَب مُتَعَلق بمحاسن الْأَخْلَاق أَعم من أَن يكون بَين مُكَلّف أَو غَيره؛ لِأَن عمر كَانَ صَغِيرا، وَالنَّدْب يخْتَص بالمكلف وأعم من أَن يكون من محَاسِن الْأَخْلَاق وَغَيرهَا. السَّابِع: الامتنان، كَقَوْلِه تَعَالَى: {كلوا مِمَّا رزقكم الله} [الْأَنْعَام: 142] ، وَسَماهُ أَبُو الْمَعَالِي: الإنعام، وَالْفرق بَينه وَبَين الْإِبَاحَة أَنَّهَا مُجَرّد إِذن، والامتنان لَا بُد فِيهِ من اقتران حَاجَة الْخلق لذَلِك وَعدم قدرتهم عَلَيْهِ. والعلاقة بَين الامتنان وَالْوُجُوب المشابهة فِي الْإِذْن، إِذْ الْمَمْنُون لَا يكون إِلَّا مَأْذُونا فِيهِ. الثَّامِن: الْإِكْرَام، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ادخلوها بِسَلام آمِنين} [الْحجر: 46] فَإِن قرينَة " بِسَلام آمِنين " يدل على الْإِكْرَام. التَّاسِع: الْجَزَاء، كَقَوْلِه: {ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} [النَّحْل: 32] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2188 الْعَاشِر: الْوَعْد، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لبني تَمِيم: " أَبْشِرُوا "، وَقَوله تَعَالَى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجنَّةِ الَّتِي كُنْتُم توعدون} [فصلت: 30] ، وَقد يُقَال بِدُخُول ذَلِك فِي الامتنان فَإِن بشرى العَبْد منَّة عَلَيْهِ. الْحَادِي عشر: التهديد، كَقَوْلِه تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} [فصلت: 40] ، وَقَوله: {واستفزز ماستطعت مِنْهُم بصوتك وأجلب عَلَيْهِم بخيلك ورجلك وشاركهم فِي الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد} الْآيَة [الْإِسْرَاء: 64] . الثَّانِي عشر: الْإِنْذَار، كَقَوْلِه تَعَالَى: {قل تمَتَّعُوا فَإِن مصيركم إِلَى النَّار} [إِبْرَاهِيم: 30] . وَقد جعله قوم قسما من التهديد، وَهُوَ ظَاهر الْبَيْضَاوِيّ، وَالصَّوَاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2189 الْمُغَايرَة، وَالْفرق: أَن التهديد هُوَ التخويف، والإنذار إبلاغ الْمخوف، كَمَا فسره الْجَوْهَرِي بهما. وَقيل: الْإِنْذَار يجب أَن يكون مَقْرُونا بالوعيد كالآية، والتهديد لَا يجب فِيهِ ذَلِك، بل قد يكون مَقْرُونا وَقد لَا يكون مَقْرُونا. وَقيل: التهديد عرفا أبلغ فِي الْوَعيد وَالْغَضَب من الْإِنْذَار. الثَّالِث عشر: التحسير والتلهيف، كَقَوْلِه تَعَالَى: {قل موتوا بغيظكم} [آل عمرَان: 119] ، وَمثله: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} [الْمُؤْمِنُونَ: 108] حَكَاهُ ابْن فَارس. الرَّابِع عشر: التسخير، كَقَوْلِه تَعَالَى: {كونُوا قردة خَاسِئِينَ} [الْبَقَرَة: 65] ، وَالْمرَاد بالتسخير هُنَا السخرية بالمخاطب بِهِ لَا بِمَعْنى التكوين، كَمَا قَالَه بَعضهم. الْخَامِس عشر: التَّعْجِيز، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَأتوا بِسُورَة مثله} [يُونُس: 38] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2190 والعلاقة بَينه وَبَين الْوُجُوب: المضادة؛ لِأَن التَّعْجِيز إِنَّمَا هُوَ فِي الممتنعات والإيجاب فِي الممكنات وَمثله {فليأتوا بِحَدِيث مثله} [الطّور: 34] ، وَمثله بَعضهم بقوله تَعَالَى: {قل كونُوا حِجَارَة أَو حديدا} [الْإِسْرَاء: 50] . وَالْفرق بَين التَّعْجِيز والتسخير: أَن التسخير نوع من التكوين، فَمَعْنَى كونُوا قردة: انقلبوا إِلَيْهَا، وَأما التَّعْجِيز فإلزامهم أَن ينقلبوا، وهم لَا يقدرُونَ أَن ينقلبوا. قَالَ ابْن عَطِيَّة فِي " تَفْسِيره ": فِي التَّمَسُّك بِهَذَا نظر، وَإِنَّمَا التَّعْجِيز حَيْثُ يَقْتَضِي بِالْأَمر فعل مَا لَا يقدر عَلَيْهِ الْمُخَاطب، نَحْو: {فادرءوا عَن أَنفسكُم الْمَوْت} [آل عمرَان: 168] . السَّادِس عشر: الإهانة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم} [الدُّخان: 49] ، وَمِنْهُم من يُسَمِّيه التهكم، وضابطه: أَن يَأْتِي بِلَفْظ ظَاهره الْخَيْر والكرامة وَالْمرَاد ضِدّه، ويمثل بقوله تَعَالَى: {وأجلب عَلَيْهِم بخيلك ورجلك} [الْإِسْرَاء: 64] ، والعلاقة أَيْضا هُنَا المضادة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2191 السَّابِع عشر: الاحتقار، كَقَوْلِه تَعَالَى فِي قصَّة مُوسَى يُخَاطب السَّحَرَة: {ألقوا مَا أَنْتُم ملقون} [الشُّعَرَاء: 43] ؛ إِذْ أَمرهم فِي مُقَابلَة المعجزة حقير، وَهُوَ مِمَّا أوردهُ الْبَيْضَاوِيّ. وَالْفرق بَينه وَبَين الإهانة: أَنَّهَا إِمَّا بقول أَو فعل أَو تَقْرِير كَتَرْكِ إجَابَته أَو نَحْو ذَلِك لَا بِمُجَرَّد اعْتِقَاد، والاحتقار قد يكون بِمُجَرَّد اعْتِقَاد؛ فَلهَذَا يُقَال فِي مثل ذَلِك: احتقره، وَلَا يُقَال: أهانه، وَأجِيب عَن ذَلِك. الثَّامِن عشر: التَّسْوِيَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَاصْبِرُوا أَو لَا تصبروا} [الطّور: 16] بعد قَوْله: {اصلوها} أَي: هَذِه التصلية لكم سَوَاء صَبَرْتُمْ، أَو لَا، فالحالتان سَوَاء. والعلاقة المضادة؛ لِأَن التَّسْوِيَة بَين الْفِعْل [وَالتّرْك] مضادة لوُجُوب الْفِعْل، وَمِنْه قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأبي هُرَيْرَة: " فاختص على ذَلِك أَو ذَر " رَوَاهُ البُخَارِيّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2192 التَّاسِع عشر: الدُّعَاء، كَقَوْلِه تَعَالَى: {رب اغْفِر لي ولوالدي} [نوح: 28] ، {رَبنَا اغْفِر لنا ذنوبنا} [آل عمرَان: 147] ، وَكله طلب أَن يعطيهم ذَلِك على وَجه التفضل وَالْإِحْسَان. والعلاقة بَينه وَبَين الْإِيجَاب طلب أَن يَقع ذَلِك لَا محَالة. الْعشْرُونَ: التَّمَنِّي، كَقَوْل امريء الْقَيْس: (أَلا أَيهَا اللَّيْل الطَّوِيل أَلا انجلي ... ) وَإِنَّمَا حمل على التَّمَنِّي دون الترجي؛ لِأَنَّهُ أبلغ؛ لِأَنَّهُ نزل ليله لطوله منزلَة المستحيل انجلاؤه كَمَا قَالَ الآخر: (وليل الْمُحب بِلَا آخر ... ) قَالَ بَعضهم: وَالْأَحْسَن تَمْثِيل هَذَا كُله كَمَا مثله ابْن فَارس لشخص ترَاهُ: كن فلَانا، وَفِي الحَدِيث قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ على تَبُوك: " كن أَبَا ذَر "، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2193 وَرَأى آخر فَقَالَ: " كن أَبَا خَيْثَمَة "؛ لِأَن [بَيت] امريء الْقَيْس قد يدعى استفادة التَّمَنِّي [فِيهِ] من أَلا لَا من صِيغَة (افْعَل) بِخِلَاف هَذَا الْمِثَال. وَقد يُقَال: إِن (أَلا) قرينَة إِرَادَة التَّمَنِّي ب (افْعَل) ، وَأما (كن فلَانا) فَلَيْسَ تمنيا أَن يكون إِيَّاه، بل الْجَزْم بِهِ، وَأَنه يَنْبَغِي أَن يكون كَذَلِك، فَلَمَّا احْتمل هَذَا المثالين ذكرتهما. الْحَادِي وَالْعشْرُونَ: كَمَال الْقُدْرَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه أَن نقُول لَهُ كن فَيكون} [النَّحْل: 40] هَكَذَا سَمَّاهُ الْغَزالِيّ والآمدي، وَبَعْضهمْ عبر عَنهُ بالتكوين، وَسَماهُ الْقفال وَأَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2194 إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ التسخير، فَهُوَ تفعيل من كَانَ بِمَعْنى وجد، فتكوين الشَّيْء إيجاده من الْعَدَم، وَالله تَعَالَى هُوَ الموجد لكل شَيْء وخالقه. الثَّانِي وَالْعشْرُونَ: أَن يكون الْأَمر بِمَعْنى الْخَبَر، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فليضحكوا قَلِيلا وليبكوا كثيرا} [التَّوْبَة: 82] ، وَقَوله تَعَالَى: {فليمدد لَهُ الرَّحْمَن مدا} [مَرْيَم: 75] ، {ولنحمل خطاياكم} [العنكبوت: 12] ، {أسمع بهم وَأبْصر} [مَرْيَم: 38] ، وَمِنْه - على رَأْي -: " إِذا لم تَسْتَحي فَاصْنَعْ مَا شِئْت ". تَنْبِيه: كَمَا جَاءَ الْأَمر بِمَعْنى الْخَبَر جَاءَ الْخَبَر بِمَعْنى الْأَمر كَقَوْلِه تَعَالَى: {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ} [الْبَقَرَة: 233] وَكَذَا يَجِيء بِمَعْنى النَّهْي كَمَا فِي حَدِيث رَوَاهُ ابْن ماجة بِسَنَد جيد: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تزوج المرأةُ الْمَرْأَة، وَلَا تزوج الْمَرْأَة نَفسهَا " بِالرَّفْع؛ إِذْ لَو كَانَ نهيا لجزم فيكسر لالتقاء الساكنين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2195 قَالَ أَرْبَاب الْمعَانِي وَهُوَ أبلغ من صَرِيح الْأَمر وَالنَّهْي؛ لِأَن الْمُتَكَلّم لشدَّة طلبه نزل الْمَطْلُوب منزلَة الْوَاقِع لَا محَالة. وَمن هُنَا تعرف العلاقة فِي إِطْلَاق الْخَبَر بِمَعْنى الْأَمر وَالنَّهْي. الثَّالِث وَالْعشْرُونَ: التَّفْوِيض، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَاقْض مَا أَنْت قَاض} [طه: 72] ذكره أَبُو الْمَعَالِي، وَيُسمى أَيْضا التَّحْكِيم، وَسَماهُ ابْن فَارس والعبادي: التَّسْلِيم، وَسَماهُ نصر بن مُحَمَّد الْمروزِي: الاستبسال، قَالَ: أعلموه أَنهم قد اسْتَعدوا لَهُ بِالصبرِ، وَأَنَّهُمْ غير تاركين لدينهم، وَأَنَّهُمْ يستقلون مَا هُوَ فَاعل فِي جنب مَا يتوقعونه من ثَوَاب الله تَعَالَى. قَالَ: وَمِنْه قَول نوح عَلَيْهِ السَّلَام: {فَأَجْمعُوا أَمركُم} [يُونُس: 71] أخْبرهُم بهوانهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2196 الرَّابِع وَالْعشْرُونَ: التَّكْذِيب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {قل فَأتوا بِالتَّوْرَاةِ فاتلوها إِن كُنْتُم صَادِقين} [آل عمرَان: 93] ، وَمِنْه: {فَأتوا بِسُورَة من مثله} [الْبَقَرَة: 23] ، {قل هَلُمَّ شهداءكم الَّذين يشْهدُونَ} الْآيَة [الْأَنْعَام: 150] . الْخَامِس وَالْعشْرُونَ: المشورة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَانْظُر مَاذَا ترى} [الصافات: 102] فِي قَول إِبْرَاهِيم لِابْنِهِ إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِشَارَة إِلَى مشاورته فِي هَذَا الْأَمر وَهُوَ قَوْله: {يَا بني إِنِّي أرى فِي الْمَنَام أَنِّي أذبحك فَانْظُر مَاذَا ترى} [الصافات: 102] ، ذكره الْعَبَّادِيّ. السَّادِس وَالْعشْرُونَ: الِاعْتِبَار، كَقَوْلِه تَعَالَى: {انْظُرُوا إِلَى ثمره إِذا أثمر وينعه} [الْأَنْعَام: 99] فَإِن فِي ذَلِك عِبْرَة لمن يعْتَبر. السَّابِع وَالْعشْرُونَ: التَّعَجُّب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {انْظُر كَيفَ ضربوا لَك الْأَمْثَال} [الْإِسْرَاء: 48] قَالَه الْفَارِسِي، وَمثله الْهِنْدِيّ بقوله تَعَالَى: {قل كونُوا حِجَارَة أَو حديدا} [الْإِسْرَاء: 50] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2197 وَتقدم أَن بَعضهم مثل بِهِ للتعجيز، وَأَن ابْن عَطِيَّة قَالَ: فِيهِ نظر، قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ الظَّاهِر فَإِن التَّمْثِيل بِهِ للتعجب أوضح؛ لِأَن المُرَاد التَّعَجُّب. الثَّامِن وَالْعشْرُونَ: إِرَادَة امْتِثَال أَمر آخر، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كن عبد الله الْمَقْتُول وَلَا تكن عبد الله الْقَاتِل "، فَإِنَّمَا الْمَقْصُود الاستسلام والكف عَن الْفِتَن. فَهَذَا الَّذِي وَقع اختيارنا عَلَيْهِ، وَقد ذكر جمَاعَة من الْعلمَاء غير ذَلِك مِمَّا فِيهِ نظر، مِنْهَا - وَهُوَ -: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2198 التَّاسِع وَالْعشْرُونَ: التَّخْيِير، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فاحكم بَينهم أَو أعرض عَنْهُم} [الْمَائِدَة: 42] ، ذكره الْقفال. وَقد يُقَال: نفس صِيغَة (افْعَل) لَيْسَ فِيهَا تَخْيِير [إِلَّا] بانضمام أَمر آخر يفِيدهُ، لَكِن تَمْثِيل ذَلِك يَأْتِي فِي التَّسْوِيَة. وَمِنْهَا - وَهُوَ - الثَّلَاثُونَ: الِاحْتِيَاط، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَلَا يغمس يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا ثَلَاثًا " بِدَلِيل " فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده ". قَالَ الْبرمَاوِيّ: هَذَا دَاخل تَحت النّدب، فَلَا حَاجَة لإفراده. قلت: لَيست فِي هَذَا صِيغَة أَمر، وَإِنَّمَا هُوَ صِيغَة نهي كَمَا ترى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2199 وَمِنْهَا: - وَهُوَ - الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: الْوَعيد، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَقل الْحق من ربكُم فَمن شَاءَ فليؤمن وَمن شَاءَ فليكفر} [الْكَهْف: 29] ، وَلَكِن هَذَا من التهديد، وَقَالَ بَعضهم: التهديد أبلغ من الْوَعيد. وَمِنْهَا: - وَهُوَ - الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: الالتماس، كَقَوْلِك لنظيرك: افْعَل. وَهَذَا يَأْتِي على رَأْي كَمَا تقدم، وَهُوَ وَشبهه مِمَّا يقل جدواه فِي دَلَائِل الْأَحْكَام. وَمِنْهَا - وَهُوَ - الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ: التصبر، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا تحزن إِن الله مَعنا} [التَّوْبَة: 40] ، {فمهل الْكَافرين أمهلهم رويدا} [الطارق: 17] ، {فذرهم يخوضوا ويلعبوا} [الزخرف: 83] ، ذكره الْقفال. وَمِنْهَا: - وَهُوَ - الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ: قرب الْمنزلَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ادخُلُوا الْجنَّة} [الْأَعْرَاف: 49] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2200 قَالَ بَعضهم: وَمِنْهَا - وَهُوَ - الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ: التحذير والإخبار عَمَّا يؤول الْأَمر إِلَيْهِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَقَالَ تمَتَّعُوا فِي داركم ثَلَاثَة أَيَّام} [هود: 65] ، قَالَه الصَّيْرَفِي. وَمِنْهَا: - وَهُوَ - السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ: التحسير والتلهيف، ذكره ابْن فَارس، وَمثله بقوله تَعَالَى: {قل موتوا بغيظكم} [آل عمرَان: 119] ، {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} [الْمُؤْمِنُونَ: 108] ، وَقد تقدم أَنهم مثلُوا ذَلِك للتحسير لَا غير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2201 (قَوْله: {فصل} ) {أَحْمد وَأَصْحَابه، وَالْأَكْثَر: الْأَمر الْمُجَرّد عَن قرينَة حَقِيقَة فِي الْوُجُوب} . هَذَا مَذْهَب إمامنا وَأَصْحَابه وَجُمْهُور الْعلمَاء من أَرْبَاب الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَغَيرهم. قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " شرح اللمع "، وَابْن برهَان فِي " الْوَجِيز ": هَذَا مَذْهَب الْفُقَهَاء. ثمَّ اخْتلف الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْمَذْهَب هَل اقْتِضَاء الْوُجُوب بِوَضْع اللُّغَة، أم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2202 بِالشَّرْعِ، أم بِالْعقلِ؟ ثَلَاثَة مَذَاهِب، اخْتَار أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ، وَابْن حمدَان من أَصْحَابنَا أَنه اقْتَضَاهُ بِوَضْع الشَّرْع. وَاخْتَارَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَنَقله أَبُو الْمَعَالِي عَن الشَّافِعِي أَنه اقْتَضَاهُ بِوَضْع اللُّغَة. وَاخْتَارَ بَعضهم أَنه اقْتَضَاهُ بِالْعقلِ، قَالَ ابْن مُفْلِح من أَصْحَابنَا وَغَيره: وَمنع أَصْحَابنَا وَغَيرهم حسن الِاسْتِفْهَام. وَاسْتدلَّ لمَذْهَب الْجُمْهُور بقوله تَعَالَى: {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} [النُّور: 63] ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] ، ذمهم وذم إِبْلِيس على مُخَالفَة الْأَمر الْمُجَرّد، وَدَعوى قرينَة الْوُجُوب واقتضاء تِلْكَ اللُّغَة لُغَة لَهُ دون هَذِه غير مسموعة، وَأَن السَّيِّد لَا يلام على عِقَاب عَبده على مُخَالفَة مُجَرّد أمره بِاتِّفَاق الْعُقَلَاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2203 الْمَذْهَب الثَّانِي: أَنه حَقِيقَة للنَّدْب، اخْتَارَهُ أَبُو هَاشم، نَقله ابْن الْحَاجِب. ونوزع بِأَن عِبَارَته لَا تَقْتَضِيه، وَنَقله أَيْضا عَن كثير من الْمُتَكَلِّمين. وَنَقله أَبُو حَامِد عَن الْمُعْتَزلَة بأسرها، وَنَقله الْغَزالِيّ والآمدي عَن الشَّافِعِي، وَقَالَهُ بعض الشَّافِعِيَّة. وَرُوِيَ عَن أَحْمد أَنه قَالَ: مَا أَمر بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أسهل مِمَّا نهى عَنهُ. قَالَ جمَاعَة من أَصْحَابنَا: لَعَلَّه أَرَادَ لِأَن جمَاعَة قَالُوا: الْأَمر للنَّدْب وَلَا تكْرَار، وَالنَّهْي للتَّحْرِيم والدوام، لِئَلَّا يُخَالف نصوصه. وَأما أَبُو الْخطاب فَإِنَّهُ أَخذ مِنْهُ أَنه للنَّدْب. وَوجه هَذَا القَوْل: أَنا نحمل الْأَمر الْمُطلق على مُطلق الرجحان، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2204 ونفيا للعقاب بالاستصحاب، وَلقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم "، فَرده إِلَى استطاعتنا؛ وَلِأَنَّهُ الْيَقِين؛ وَلِأَن الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ حَقِيقَة. رد الأول بِأَن كل وَاجِب كَذَلِك، وَالثَّانِي: بِأَن الْإِبَاحَة أولى لتيقن نفي الْحَرج عَن الْفِعْل بِخِلَاف رُجْحَان جَانِبه. الْمَذْهَب الثَّالِث: أَنه حَقِيقَة فِي الْقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا، أَي: الطّلب الْمُشْتَرك، أَي: مَوْضُوعَة للقدر الْمُشْتَرك بَين الْوُجُوب وَالنَّدْب وَهُوَ الطّلب فَيكون من المتواطيء، اخْتَارَهُ الماتريدي من الْحَنَفِيَّة، لَكِن قَالَ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2205 يحكم بِالْوُجُوب ظَاهرا فِي حق الْعَمَل احْتِيَاطًا دون الِاعْتِقَاد. انْتهى. وَاسْتدلَّ لذَلِك بِأَن الشَّارِع أطلق، وَالْأَصْل الْحَقِيقَة، وَيحسن الِاسْتِفْهَام، وَالتَّقْيِيد: أفعل وَاجِبا أَو ندبا. رد: خلاف الأَصْل. وَمنع أَصْحَابنَا وَغَيرهم بِأَنَّهُ لَا يحسن الِاسْتِفْهَام كَمَا تقدم، وَبِأَنَّهُ يبطل بأسماء الْحَقَائِق، وَالتَّقْيِيد بِالْوُجُوب تَأْكِيد، وَبِغَيْرِهِ: قرينَة صارفة. الْمَذْهَب الرَّابِع: أَنه {للاشتراك اللَّفْظِيّ} ، جزم بِهِ الرَّازِيّ فِي " الْمُنْتَخب "، وَصَاحب " التَّحْصِيل "، كِلَاهُمَا فِي بَاب الِاشْتِرَاك، فَيكون على هَذَا مُشْتَركا لَا متواطئا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2206 الْمَذْهَب الْخَامِس: الْوَقْف، قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": قَالَ الْأَشْعَرِيّ والباقلاني وَغَيرهمَا بِالْوَقْفِ فيهمَا، أَي: فِي الِاشْتِرَاك أَو الِانْفِرَاد. قَالَ الْبرمَاوِيّ: قَالَ القَاضِي وَأَتْبَاعه: حَقِيقَة إِمَّا فِي الْوُجُوب وَإِمَّا فِي النّدب، وَإِمَّا فيهمَا بالاشتراك اللَّفْظِيّ، لَكنا لَا نَدْرِي مَا هُوَ الْوَاقِع من الْأَقْسَام الثَّلَاثَة. وَنَقله ابْن الْقطَّان عَن ابْن سُرَيج وَنسبه إِلَى الشَّافِعِي. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ أَيْضا: حكى الْهِنْدِيّ عَن القَاضِي وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ التَّوَقُّف فِي أَنه حَقِيقَة فِي الْوُجُوب فَقَط أَو النّدب فَقَط، أَو فيهمَا بالاشتراك اللَّفْظِيّ أَو الْمَعْنَوِيّ، فَزَاد على القَوْل الَّذِي قبله أمرا رَابِعا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2207 الْمَذْهَب السَّادِس: أَنه حَقِيقَة فِي الْإِبَاحَة؛ لِأَن الْجَوَاز مُطلق وَالْأَصْل عدم الطّلب. الْمَذْهَب السَّابِع: أَنه حَقِيقَة فِي الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ فِي الثَّلَاثَة. الْمَذْهَب الثَّامِن: أَنه حَقِيقَة فِي الِاشْتِرَاك الْمَعْنَوِيّ فِي الثَّلَاثَة، وَهُوَ الْإِذْن فَيكون من المتواطيء، حَكَاهُ ابْن الْحَاجِب والبرماوي وَغَيرهمَا، وَمَا علل بِهِ القَوْل بالاشتراك فِي الْمَذْهَب الثَّالِث يُعلل بِهِ هَهُنَا. الْمَذْهَب التَّاسِع: أَنه حَقِيقَة فِي الِاشْتِرَاك فِيهِنَّ، وَفِي التهديد وَهُوَ قَول الشِّيعَة فَهُوَ قريب من قَول من قَالَ: إِنَّه مُشْتَرك فِي الْأَحْكَام الْخَمْسَة؛ لِأَن التهديد يدْخل تَحْتَهُ التَّحْرِيم وَالْكَرَاهَة لَكِن غاير بَعضهم بَين الْقَوْلَيْنِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2208 الْمَذْهَب الْعَاشِر: أَنه حَقِيقَة فِي الِاشْتِرَاك فِي الْأَرْبَعَة وَفِي الْإِرْشَاد، حَكَاهُ الْغَزالِيّ. الْمَذْهَب الْحَادِي عشر: أَنه حَقِيقَة فِي الِاشْتِرَاك فِي الْأَحْكَام الْخَمْسَة، حَكَاهُ الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول "، وَكَأن المُرَاد بِالتَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَة، مَا تضمنه التهديد وَنسب إِلَى الْأَشْعَرِيّ. الْمَذْهَب الثَّانِي عشر: هُوَ حَقِيقَة مَوْضُوع لوَاحِد من هَذِه الْخَمْسَة وَلَا نعلمهُ، نَقله فِي " الْبُرْهَان "، وَنسب إِلَى الْأَشْعَرِيّ أَيْضا. فَإِن قيل: كَيفَ يسْتَعْمل لفظ الْأَمر فِي التَّحْرِيم أَو الْكَرَاهَة؟ قيل: لِأَنَّهُ يسْتَعْمل فِي التهديد والمهدد عَلَيْهِ إِمَّا حرَام أَو مَكْرُوه كَمَا تقدم فِي أَنه مُشْتَرك فِي الْأَحْكَام الْخَمْسَة. الْمَذْهَب الثَّالِث عشر: قَالَه الْأَبْهَرِيّ فِي بعض أَقْوَاله، حَكَاهُ عَنهُ تِلْمِيذه القَاضِي عبد الْوَهَّاب فِي " ملخصه " أَن أَمر الله تَعَالَى للْإِيجَاب، وَأمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُبْتَدَأ للنَّدْب، أَي: الَّذِي لَيْسَ مُوَافقا لنَصّ أَو بَيَانا لمجمل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2209 وَحَكَاهُ القيرواني فِي " الْمُسْتَوْعب " عَن الْأَبْهَرِيّ أَيْضا فِي بعض أَقْوَاله، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه حَقِيقَة فِي النّدب، فَيكون لَهُ قَولَانِ. الْمَذْهَب الرَّابِع عشر: اخْتَارَهُ أَبُو الْمَعَالِي ابْن منجا من أَصْحَابنَا: الْفرق بَين أَمر الشَّارِع وَغَيره فَأمر الشَّارِع للْوُجُوب دونه غَيره، وَبنى على ذَلِك من أخر دفع مَال أَمر بِدَفْعِهِ بِلَا عذر، قَالَ: لَا يضمن بِنَاء على اخْتِصَاص الْوُجُوب بِأَمْر الشَّارِع. وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَنه يضمن بِنَاء على الْقَاعِدَة. قد سبق فِي آخر الْأَحْكَام إِذا نسخ الْوُجُوب أَو صرف الْأَمر عَن الْوُجُوب هَل يبْقى النّدب أَو غَيره؟ فَإِن لَهُ تعلقا بِهَذَا الْموضع ويذكره بَعضهم هُنَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2210 (قَوْله: {فصل} ) قَالَ الإِمَام {أَحْمد وَأكْثر الْأَصْحَاب، والأستاذ} أَبُو إِسْحَاق، {وَغَيرهم: الْأَمر بِلَا قرينَة} - أَي: الْأَمر الْمُطلق الَّذِي لَيْسَ مُقَيّدا بِمرَّة وَلَا تكْرَار - {للتكرار حسب الْإِمْكَان} . ذكره ابْن عقيل مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه، وَذكره الشَّيْخ مجد الدّين عَن أَكثر أَصْحَابنَا، وَقَالَهُ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ. قَالَ الْآمِدِيّ: وَجَمَاعَة من الْفُقَهَاء والمتكلمين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2211 وَذكره ابْن برهَان عَن الْحَنَفِيَّة، وَحكي عَن الْمُزنِيّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِم الْقزْوِينِي. وَحكي عَن القَاضِي أبي بكر الباقلاني، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَنَقله الْغَزالِيّ فِي " المنخول " عَن أبي حنيفَة والمعتزلة، وَنَقله الْبَاجِيّ عَن ابْن خويزمنداد، وَحَكَاهُ ابْن الْقصار عَن مَالك: فَيجب اسْتِيعَاب الْعُمر بِهِ دون أزمنة قَضَاء الْحَاجة وَالنَّوْم، وضروريات الْإِنْسَان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2212 وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة ثَانِيَة: لَا يَقْتَضِي التّكْرَار إِلَّا بِقَرِينَة وَبلا قرينَة لَا يَقْتَضِيهِ، واختارها الشَّيْخ موفق الدّين والطوفي، وَهُوَ قَول أَكثر الْفُقَهَاء، والمتكلمين، نَقله ابْن مُفْلِح، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ، وَنَقله عَن الأقلين، وَرجحه الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، والبيضاوي، وَذكر أَبُو مُحَمَّد التَّمِيمِي - من أَصْحَابنَا - أَنه قَول الإِمَام أَحْمد، وَأَن أَصْحَابه اخْتلفُوا، وَاخْتلف اخْتِيَار القَاضِي أبي يعلى من أَئِمَّة أَصْحَابنَا فَتَارَة قَالَ بِالْأولِ، وَتارَة بِهَذَا، فعلى هَذَا القَوْل يُفِيد طلب الْمَاهِيّة من غير إِشْعَار بوحدة، وَلَا بِكَثْرَة إِلَّا أَنه لَا يُمكن [إِدْخَال] الْمَاهِيّة فِي الْوُجُود بِأَقَلّ من مرّة فَصَارَت الْمرة من ضروريات الْإِتْيَان بالمأمور بِهِ لَا أَن الْأَمر يدل عَلَيْهَا بِذَاتِهِ، بل بطرِيق الْإِلْزَام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2213 7 - {وَقيل: يَقْتَضِي فعل مرّة} بِلَفْظِهِ وَوَضعه، حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ عَن أَكثر أَصْحَابهم، وَأبي حنيفَة، وَأكْثر الْفُقَهَاء، وَعَن اخْتِيَار أبي الطّيب، وَأبي حَامِد. قَالَ أَبُو حَامِد: وَهُوَ مُقْتَضى قَول الشَّافِعِي. وَحَكَاهُ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " عَن أَكثر الْفُقَهَاء، والمتكلمين وَأَنه أقوى. انْتهى. فعلى هَذَا القَوْل وَالَّذِي قبله {يحْتَمل الزَّائِد التّكْرَار، وَهُوَ الْأَشْهر للشَّافِعِيَّة، وَاخْتَارَهُ} الْآمِدِيّ وَغَيره. وَقيل: لَا يَقْتَضِي وَلَا يحْتَمل التّكْرَار، {اخْتَارَهُ كثير من الْحَنَفِيَّة} قَالَ السَّرخسِيّ: الْأَصَح عَن عُلَمَائهمْ لَا يحْتَملهُ. الحديث: 7 ¦ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2214 قَوْلنَا: {ووقف أَبُو الْمَعَالِي} ، أَي: وقف فِي الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَخيرينِ وَهُوَ احْتِمَال التّكْرَار وَعَدَمه. وَقَوْلنَا: {الْوَقْف مُطلقًا للباقلاني وَجمع} ، أَي: الْوَقْف فِي أصل الْمَسْأَلَة هَل يَقْتَضِي التّكْرَار، أَو الْمرة، أَو لَا يَقْتَضِي هَذَا، وَلَا هَذَا أَو لكَونه مُشْتَركا بَين الْمرة والتكرار؟ فَيُوقف إعماله فِي أَحدهمَا على قرينَة أَو لكَونه لأَحَدهمَا وَلَا نعرفه فَيتَوَقَّف لعدم علمنَا بالواقع. ومنشأ الْخلاف اسْتِعْمَاله فيهمَا، كأمر الْحَج وَالْعمْرَة، وَأمر الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم، هَل هُوَ حَقِيقَة فيهمَا - لِأَن الأَصْل فِي الِاسْتِعْمَال الْحَقِيقَة -، أَو فِي أَحدهمَا؟ حذرا من الِاشْتِرَاك وَلَا نعرفه، أَو هُوَ التّكْرَار؛ لِأَنَّهُ الْأَغْلَب، أَو الْمرة؛ لِأَنَّهَا الْمُتَيَقن، أَو فِي الْقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا حذرا من الِاشْتِرَاك وَالْمجَاز؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2215 احْتج القَوْل الأول بِأَن النَّهْي يَقْتَضِي تكْرَار التّرْك، وَالْأَمر يَقْتَضِيهِ فَيَقْتَضِي تكْرَار ترك الْفِعْل؛ وَلِأَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه فَيَقْتَضِي تكْرَار ترك الضِّدّ. وَأجِيب عَن الأول بِأَن الْأَمر يَقْتَضِي فعل الْمَاهِيّة، وَهُوَ حَاصِل بِفعل فَرد من أفرادها فِي زمن مَا، وَالنَّهْي يَقْتَضِي تَركهَا، وَلَا يحصل إِلَّا بترك جَمِيع أفرادها فِي كل زمَان فَافْتَرقَا. وَعَن الثَّانِي بِمَنْع أَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه، وَإِن سلم فَلَا يلْزم من ترك الضِّدّ الْمنْهِي عَنهُ التَّلَبُّس بالضد الْمَأْمُور بِهِ لجَوَاز أَن يكون للمنهي عَنهُ أضداد فيتلبس بِغَيْر الْمَأْمُور بِهِ مِنْهَا. وَاسْتدلَّ للْأولِ بتكرار الصَّوْم وَالصَّلَاة. رد: التّكْرَار فيهمَا بِدَلِيل، وعورض بِالْحَجِّ، وَأَيْضًا كالنهي؛ لِأَنَّهُمَا طلب. [رد] قِيَاس فِي اللُّغَة وَبِأَن النَّهْي يَقْتَضِي النَّفْي، وَلِهَذَا لَو قَالَ: لَا يفعل كَذَا مرّة عَم، وَبِأَن التّكْرَار فِي النَّهْي لَا يمْنَع من فعل غَيره بِخِلَافِهِ فِي الْأَمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2216 وَأَيْضًا الْأَمر نهي عَن ضِدّه، وَالنَّهْي يعم فَيلْزم تكْرَار الْمَأْمُور بِهِ. رد بِالْمَنْعِ، وَبِأَن النَّهْي الْمُسْتَفَاد من الْأَمر لَا يعم؛ لِأَن عُمُومه فرع عُمُوم الْآمِر. وَأَيْضًا قَوْله لعَبْدِهِ: أكْرم فلَانا وَأحسن عشرته، أَو احفظ كَذَا للدوام، رد لقَرِينَة إكرامه وَحفظه. وَلِأَنَّهُ يجب تكْرَار اعْتِقَاد الْوُجُوب، وعزم الِامْتِثَال، كَذَا الْفِعْل. رد: لَو غفل بعد الِاعْتِقَاد والعزم جَازَ، وَبِأَنَّهُ وَجب بِإِخْبَار الشَّارِع أَنه يجب اعْتِقَاد أوامره فَمن عرف الْأَمر وَلم يعْتَقد وُجُوبه صَار مُكَذبا، وبوجوبهما دون الْفِعْل فِي (افْعَل) مرّة وَاحِدَة. وَأَيْضًا: " إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم ". رد: مَفْهُومه: الْعَجز عَن بعضه لَا يسْقطهُ. وَأَيْضًا: لَو لم يتَكَرَّر لم يرد نسخ. رد هُوَ قرينَة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2217 وَوجه الْمرة أَيْضا، لَو قَالَ: افْعَل كَذَا، فَفعله مرّة امتثل. رد: لفعل الْمَأْمُور بِهِ؛ لِأَنَّهَا من ضَرُورَته، لَا أَن الْأَمر ظَاهر فِيهَا وَلَا فِي التّكْرَار. وَمنع ابْن عقيل أَنه امتثل، وَأَنه دَعْوَى، فَقيل لَهُ: يحسن قَوْله: فعلت، فَقَالَ: للْعُرْف ووقوعه على شُرُوعه فِيهِ؛ وَلِهَذَا لَو أمره بتكراره لم يقبح مِنْهُ فِي الفعلة الْوَاحِدَة. وَقَالَ: لَا يمْتَنع أَن يقف اسْم ممتثل على الخاتمة بِنَاء على مَسْأَلَة الموافاة. قَالُوا: لَو كَانَ للتكرار كَانَ (صل) مرَارًا تكريرا وَمرَّة نقضا كَمَا تقدم. رد: يُقَال مثله لَو كَانَ للمرة، وَحسن لرفع الِاحْتِمَال. وَاحْتج الْفَرِيقَانِ بِحسن الِاسْتِفْهَام، وَمنع القَاضِي وَغَيره حسن الِاسْتِفْهَام، ثمَّ سلموه، قَالُوا: لَو قَالَ: طَلِّقِي نَفسك أَو طَلقهَا يَا فلَان، وَلَا نِيَّة فَوَاحِدَة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2218 وَأجَاب القَاضِي بِأَن هَذَا فِي الشَّرْع وَالْخلاف فِي اللُّغَة. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ. ورده أَبُو الْخطاب: بِأَن الشَّرْع لَا يُغير اللُّغَة بِدَلِيل طَلقهَا مَا أملكهُ. وَأجَاب ابْن عقيل بِأَنَّهَا نِيَابَة فِي مَشْرُوع فتقيدت بِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يطلقهَا فِي حيض وطهر وطِئت فِيهِ. وَقَالَ: الْيَمين وَالْوكَالَة للْعُرْف، وَالْأَمر للْحَقِيقَة بِدَلِيل مَسْأَلَة الرؤوس الْمَشْهُورَة، يَعْنِي: فِي الْأَيْمَان. وَوجه مَا فِي " الرَّوْضَة ": أَن مَدْلُول الْأَمر طلب الْفِعْل، والمرة والتكرار خارجان عَنهُ، وَإِلَّا لزم التّكْرَار أَو النَّقْض لَو قرن بِأَحَدِهِمَا، وَلم يبرأ بالمرة؛ وَلِأَنَّهُمَا صفتان للْفِعْل كالقليل وَالْكثير، وَلَا دلَالَة للموصوف على الصّفة، وَوجه الْوَقْف كَالَّتِي قبلهَا، وَالله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2219 قَوْله: {وَلَو علق أَمر بِشَرْط أَو صفة فَإِن كَانَ عِلّة ثَابِتَة تكَرر بتكررها اتِّفَاقًا} ، قَالَه ابْن الباقلاني فِي " التَّقْرِيب "، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَقَالَهُ الْآمِدِيّ، وَتَبعهُ ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح وَغَيرهمَا. قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": وَكَلَام أَصْحَابنَا يَقْتَضِيهِ. قَالَ ابْن مُفْلِح: لاتباع الْعلَّة لَا لِلْأَمْرِ. فَمَعْنَى هَذَا التّكْرَار أَنه كلما وجدت الْعلَّة وجد الحكم؛ لِأَنَّهُ إِذا وجدت الْعلَّة يتَكَرَّر الْفِعْل، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} [الْمَائِدَة: 6] ، {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا} [الْمَائِدَة: 38] ، {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا} [النُّور: 2] ، وَنَحْوهَا، فالجنابة عِلّة للطهر، وَالسَّرِقَة عِلّة للْقطع، وَالزِّنَا عِلّة للجلد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2220 تَنْبِيه: فِي هَذِه الْمَسْأَلَة طَرِيقَانِ: أَحدهمَا: أَن الْعلَّة الثَّابِتَة [يتَكَرَّر الْأَمر] بتكررها اتِّفَاقًا كَمَا تقدم، وَهِي طَرِيق ابْن الباقلاني فِي " التَّقْرِيب "، وَابْن السَّمْعَانِيّ، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، والصفي الْهِنْدِيّ، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم. وَالطَّرِيق الثَّانِي: أَن الْخلاف جَار فِيهَا كَمَا لَو علق بِشَرْط أَو صفة وَلم تكن عِلّة ثَابِتَة وَهُوَ قَول الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه. وَقد مثلُوا بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَعَ كَونهمَا عِلّة ثَابِتَة لذَلِك. قَوْله: {وَإِلَّا فكالمسألة قبلهَا} فِيهَا الْخلاف الْمُتَقَدّم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2221 يَعْنِي إِذا علق الْأَمر على غير عِلّة، أَي: على أَمر لم تثبت علته، مثل أَن يَقُول: إِذا دخل الشَّهْر فاعتق عبدا عَبِيدِي، فَهَل يَقْتَضِي التّكْرَار؟ هِيَ كالمسألة قبلهَا على مَا تقدم من الْخلاف. قَالَ ابْن مُفْلِح: فَهِيَ كالمسألة الَّتِي قبلهَا عِنْد الْجَمِيع. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر. {وَقَالَ القَاضِي، وَالْمجد، وحفيده، وَغَيرهم: يُفِيد التّكْرَار هُنَا} وَإِن لم يفد فِي الَّتِي قبلهَا كالنهي. قَالَ ابْن الْقطَّان: قَالَ أَصْحَابنَا وَهُوَ أشبه بِمذهب الشَّافِعِي. ونقلوا عَن الصَّيْرَفِي أَن الْأَظْهر على الْمَذْهَب التّكْرَار. لنا على الأول مَا سبق، وَلَا أثر للشّرط بِدَلِيل قَوْله لعَبْدِهِ: إِن دخلت السُّوق فاشتر كَذَا، يمتثل بِمرَّة، وَإِن قُمْت فَأَنت طَالِق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2222 قَوْلهم: (التَّرْتِيب يُفِيد الْعلية) رد: بِالْمَنْعِ بِمَا سبق. وَاسْتدلَّ فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره بِأَن تَعْلِيق الْخَبَر لَا يَقْتَضِي تكْرَار الْمخبر عَنهُ كَذَا هُنَا، وَهُوَ قِيَاس فِي اللُّغَة. قَالُوا: أَكثر أوَامِر الشَّرْع: {إِذا قُمْتُم ... فَاغْسِلُوا} ، {يَا أَيهَا ... وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} ، {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا} ، {الزَّانِيَة} الْآيَتَانِ. رد فِي غير الْعلَّة بِدَلِيل خارجي؛ وَلذَلِك لم يتَكَرَّر الْحَج مَعَ تَعْلِيقه بالاستطاعة. قَالُوا: تكَرر بِالْعِلَّةِ فبالشرط أولى لانْتِفَاء الْمَشْرُوط بانتفائه. [رد] : الْعلَّة مقتضية لمعلولها، وَالشّرط لَا يَقْتَضِي مشروطه، وَيَأْتِي كَلَام ابْن عقيل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2223 تَنْبِيه: إِذا علم ذَلِك فعلى هَذَا القَوْل وَهُوَ القَوْل بالتكرار هُنَا وَإِن لم يفد فِي الَّتِي قبلهَا، اخْتلفُوا فِي إِفَادَة التّكْرَار بِمَاذَا؟ فَقيل: أَفَادَ التّكْرَار من جِهَة اللَّفْظ، أَي: هَذَا اللَّفْظ وضع للتكرار، وَهُوَ قَول الْأَكْثَر. وَقيل: أَفَادَ التّكْرَار من جِهَة الْقيَاس لَا اللَّفْظ، قَالَ الرَّازِيّ وَتَبعهُ الْبَيْضَاوِيّ: لَا يدل على التّكْرَار من جِهَة اللَّفْظ، بل من جِهَة الْقيَاس. قَالَ فِي " الْمَحْصُول ": هَذَا هُوَ الْمُخْتَار. وَقَالَ ابْن عقيل: الْأَمر الْمُعَلق بمستحيل لَيْسَ أمرا، نَحْو: صل إِن كَانَ زيد متحركا سَاكِنا، فَهُوَ كَقَوْلِه: كن الْآن متحركا سَاكِنا. قَوْله: {تَنْبِيه: من قَالَ بالتكرار قَالَ بالفور} ، يَعْنِي: من قَالَ: الْأَمر للتكرار قَالَ: هُوَ للفور أَيْضا. وَاخْتلف غَيرهم، أَي: اخْتلف من قَالَ: إِن الْأَمر لَا يَقْتَضِي التّكْرَار فَهَل يَقْتَضِي الْفَوْر أم لَا؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2224 فَقَالَ {أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَالْحَنَفِيَّة، والمالكية، وَبَعض الشَّافِعِيَّة} ، مِنْهُم: الصَّيْرَفِي، وَأَبُو حَامِد الْمروزِي، والدقاق، وَأَبُو الطّيب، وَجزم بِهِ الْمُتَوَلِي، وَنقل عَن الْمُزنِيّ، وَأهل الْعرَاق، وَقَالَهُ الظَّاهِرِيَّة: يَقْتَضِي الْفَوْر. قَالَ القَاضِي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2225 حُسَيْن من الشَّافِعِيَّة: إِنَّه الصَّحِيح من مَذْهَبهم، وَإِنَّمَا جَوَّزنَا تَأْخِير الْحَج بِدَلِيل خارجي. وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: أَنه لَا يَقْتَضِي الْفَوْر، وَقَالَهُ: أَكثر الشَّافِعِيَّة، نَقله الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور، وسليم الرَّازِيّ، وَنَصره الباقلاني، وَالْغَزالِيّ، والآمدي، والرازي. وَأخذت هَذِه الرِّوَايَة عَن أَحْمد من قَوْله عَن قَضَاء رَمَضَان: يفرق، قَالَ الله تَعَالَى: {فَعدَّة من أَيَّام أخر} [الْبَقَرَة: 184] ، وَقَالَهُ أَيْضا الجبائية، وَأَبُو الْحُسَيْن المعتزلي، وَذكر السَّرخسِيّ أَنه الَّذِي يَصح عِنْده من مَذْهَب عُلَمَائهمْ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2226 فعلى هَذَا القَوْل، يَعْنِي القَوْل إِنَّه لَا يَقْتَضِي الْفَوْرِيَّة، هَل يعْتَبر الْعَزْم على فعله لجَوَاز تَأْخِيره، أم لَا يعْتَبر؟ حكمه حكم الْوَاجِب الموسع على مَا تقدم فِي أَوْقَات الصَّلَوَات الْخمس، نَقله ابْن مُفْلِح وَغَيره. وَالصَّحِيح وجوب الْعَزْم. {وَقيل: بِالْوَقْفِ لُغَة} ، قَالَه أَكثر الاشعرية، فَإِن بَادر امتثل. وَقيل: بِالْوَقْفِ وَإِن بَادر، وَهُوَ ضَعِيف جدا، بل الْإِجْمَاع قبله خِلَافه، حَكَاهُ ابْن الصّباغ. وَجه الأول بِأَنا نقطع بالفور إِذا قَالَ: اسْقِنِي. رد ذَلِك: إِنَّمَا دلّ على الْفَوْرِيَّة لقَرِينَة حَاجَة طَالب المَاء إِلَيْهِ سَرِيعا عَادَة. وَأَيْضًا: كل مخبر أَو منشئ فَالظَّاهِر قَصده الزَّمن الْحَاضِر، كقام زيد، وَأَنت طَالِق، أَو حرَّة. رد ذَلِك: بِأَنَّهُ قِيَاس فِي اللُّغَة. ورده فِي " التَّمْهِيد ": يتَبَيَّن بذلك أَن اللَّفْظ وضع للتعجيل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2227 وَأَيْضًا الْأَمر نهي عَن ضِدّه وَالْأَمر طلب كالنهي، وَأَيْضًا: {مَا مَنعك أَلا تسْجد} [الْأَعْرَاف: 12] ذمه؛ إِذْ لم يُبَادر. رد: لقَوْله: {فَإِذا سويته} [ص: 72] . وَأَيْضًا: مُسْتَلْزم لِلْأَمْرِ لاستلزام الْوُجُوب إِيَّاه؛ لِأَن وجوب الْفِعْل مُسْتَلْزم لوُجُوب اعْتِقَاده على الْفَوْر؛ وَلِأَنَّهُ أحوط لِخُرُوجِهِ عَن الْعهْدَة إِجْمَاعًا، ولأثمه بِمَوْت. رد: لَو صرح بِالتَّأْخِيرِ وَجب تَعْجِيل الِاعْتِقَاد لَا تَعْجِيل الْفِعْل فَلَا مُلَازمَة. وَقيل للْقَاضِي: يجب الِاعْتِقَاد فِي: " صل بعد شهر لَا الْفِعْل. فَأجَاب بِتَأْخِير الِاعْتِقَاد بِالشّرطِ، وَالِاحْتِيَاط اتِّبَاع مُوجب الظَّن، وَإِلَّا فَوَجَبَ التَّعْجِيل لمن ظن التَّرَاخِي حرَام. ثمَّ لَا يلْزم من كَونه أحوط وُجُوبه. وَأَيْضًا: لَو جَازَ التَّأْخِير فإمَّا إِلَى غَايَة مُعينَة مَعْلُومَة مَذْكُورَة - وَالْخلاف فِي الْأَمر الْمُطلق - أَو لَا، وَإِمَّا إِلَى ظن الْمَوْت، فَلَا يَنْضَبِط وَيَأْتِي بَغْتَة، أَو مُطلقًا: فمحال لإِخْرَاج الْوَاجِب عَن حَقِيقَته، وَإِمَّا بِبَدَل غير وَاجِب فَلَا يجوز إِجْمَاعًا، أَو وَاجِب فممتنع؛ لعدم دَلِيله، ولوجب إنباه النَّائِم أول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2228 الْوَقْت؛ حذرا من فَوَات الْبَدَل كضيق الْوَقْت، ولكان الْبَدَل محصلا مَقْصُود الْمُبدل، فَيسْقط الْمُبدل بِهِ، ولكان الْمُبدل إِمَّا أَن يجوز تَأْخِيره فَالْكَلَام فِيهِ كالمأمور بِهِ، وَهُوَ تسلسل مُمْتَنع، أَو لَا يجوز فيزيد الْبَدَل على أَصله. رد: يلْزم لَو صرح بِجَوَاز التَّأْخِير. وَجَوَابه: يجْرِي الدَّلِيل فِيهِ. ورده فِي " الرَّوْضَة " بِأَنَّهُ يتناقض بِجَوَاز تَركه مُطلقًا. وَفِي " التَّمْهِيد ": لَا يتم الْوُجُوب مَعَ جَوَاز التَّأْخِير. اعْترض على القَاضِي: بِالْأَمر بِالْوَصِيَّةِ عِنْد الْمَوْت للأقربين. فَأجَاب: بِأَن الْمَوْت عَلَيْهِ أَمارَة، وبإمكان فعلهَا عِنْد الْمَوْت بِخِلَاف غَيرهَا. وَأَيْضًا: {فاستبقوا الْخيرَات} [الْبَقَرَة: 148] وَالْأَمر للْوُجُوب. رد: المسارعة إِلَى سَبَب الْخَيْر فَهِيَ دلَالَة اقْتِضَاء لَا تعم فَيخْتَص بِمَا يلْزم تَعْجِيله إِجْمَاعًا كالتوبة، ثمَّ المُرَاد الْأَفْضَلِيَّة وَإِلَّا فَلَا مسارعة لضيق وقته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2229 وجوابهما بِالْمَنْعِ، والخيرات الْأَعْمَال الصَّالِحَة عِنْد الْمُفَسّرين، وَالْأَصْل لَا يقدر، وضيق الْوَقْت لَا يمْنَع المسارعة بِدَلِيل مَا يلْزم تَعْجِيله كالتوبة. وَسلم بَعضهم الْفَوْر من (سارعوا) لَا من الْأَمر. الْقَائِل لَا فَور: مَا سبق أَنه لَا يدل على تكْرَار وَلَا مرّة. ورد بِالْمَنْعِ، بل يَقْتَضِيهِ بِلَفْظِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يخْتَص بمَكَان. رد: بِالنَّهْي، ثمَّ بِالْمَنْعِ لفَوَات زمن، حَتَّى لَو قَالَ: اضْرِب رجلا اخْتصَّ بِمَا قرب مِنْهُ، ثمَّ: لَا مزية فِي الْأَشْخَاص فتساويا، ذكر ذَلِك فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره. وَمَعْنَاهُ فِي " وَاضح ابْن عقيل ". وَأجَاب فِي " الرَّوْضَة ": بتساوي الْأَمْكِنَة بِخِلَاف الزَّمَان؛ وَلِأَنَّهُ يحسن الِاسْتِفْهَام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2230 وَمنعه القَاضِي إِن كَانَ الْآمِر لَا يضع شَيْئا غير مَكَانَهُ، وكالوعد، كقضية الْحُدَيْبِيَة. [رد] : بِأَن عمر تعجل فِيهَا الْوَعْد، ثمَّ بِالْفرقِ وَالْيَمِين كالوعد، ثمَّ مُقَيّدَة بِالْعرْفِ بِدَلِيل مَسْأَلَة الرؤوس، وَالْيَمِين على لبس أَو ركُوب يخْتَص بملبوس ومركوب عرفا. تَنْبِيه: قَوْله: {وَيسْتَثْنى مِنْهُ} ، أَي: من مَحل الْخلال نَحْو: دع، واترك؛ فَإِنَّهُ فِي حكم النَّهْي، وَسَيَأْتِي أَن النَّهْي يَقْتَضِي التّكْرَار والفور، وَإِلَّا لم يَقع مِنْهُ امْتِثَال، وَكَذَا يَنْبَغِي فِي الْأَمر الكفي، وَهَذَا يفهم من ردهم على من قَالَ: إِن الْأَمر للفور كالنهي، وَالْفرق بَينهمَا عدم إِمْكَان الِامْتِثَال فِي النَّهْي إِلَّا بذلك فَافْتَرقَا، وَظَاهر كَلَام كثير من الْعلمَاء عدم اسْتثِْنَاء ذَلِك من الْأَمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2231 (قَوْله: {فصل} ) {أَصْحَابنَا وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة وَغَيرهم: الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه معنى لَا لفظا} ، أَي: من جِهَة الْمَعْنى لَا من جِهَة اللَّفْظ. وَقَالَهُ الكعبي، وَأَبُو الْحُسَيْن المعتزلي، وَذكره أَبُو الْخطاب عَن الْفُقَهَاء، قَالَ القَاضِي وَغَيره: بِنَاء على أصلنَا أَن مُطلق الْأَمر الْفَوْر، وَعند الْمُعْتَزلَة لَيْسَ نهيا عَن ضِدّه بِنَاء على أصلهم فِي اعْتِبَار إِرَادَة الناهي وَلَيْسَت مَعْلُومَة، وَقطع بِهِ النَّوَوِيّ فِي " الرَّوْضَة " فِي كتاب الطَّلَاق؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2232 لِأَن الْقَائِل: (اسكن) قد يكون غافلا عَن ضد السّكُون وَهُوَ الْحَرَكَة فَلَيْسَ عينه، وَلَا يتضمنه. وَعند الأشعرية: الْأَمر معنى فِي النَّفس. فَقَالَ بَعضهم: {هُوَ عين النَّهْي عَن ضِدّه الوجودي} ، وَهُوَ قَول الْأَشْعَرِيّ وَالْأَكْثَر. قَالَ أَبُو حَامِد: بنى الْأَشْعَرِيّ ذَلِك على أَن الْأَمر لَا صِيغَة لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ معنى قَائِم بِالنَّفسِ، فَالْأَمْر عِنْدهم هُوَ نفس النَّهْي من هَذَا الْوَجْه فاتصافه بِكَوْنِهِ أمرا ونهيا كاتصاف الْكَوْن الْوَاحِد بِكَوْنِهِ قَرِيبا من شَيْء بَعيدا من شَيْء. {و} قَالَ {ابْن الصّباغ، وَأَبُو الطّيب والشيرازي:} إِنَّه لَيْسَ عين النَّهْي، وَلكنه يتضمنه {ويستلزمه} من طَرِيق الْمَعْنى. وَنقل عَن أَكثر أَصْحَابهم، وَأكْثر الْفُقَهَاء، وَاخْتَارَهُ الباقلاني آخرا، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ إِلَّا أَن نقُول بتكليف الْمحَال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2233 وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: هُوَ مَذْهَب عَامَّة الْفُقَهَاء، وَنَقله عبد الْوَهَّاب عَن أَصْحَاب الشَّافِعِي، قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَب أَصْحَابنَا وَإِن لم يصرحوا بِهِ. وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ، والكيا: إِنَّه لَيْسَ عين النَّهْي عَن ضِدّه وَلَا يَقْتَضِيهِ. {و} للْقَاضِي أبي بكر {الباقلاني} الْأَقْوَال {الثَّلَاثَة} الْمُتَقَدّمَة. {وَعند بعض الْحَنَفِيَّة يسْتَلْزم كَرَاهَة ضِدّه، و} عِنْد {الرَّازِيّ} فِي " الْمَحْصُول " {الْكَرَاهَة} ؛ لِأَن النَّهْي لما لم يكن مَقْصُودا سمي اقْتِضَاء؛ لِأَنَّهُ ضَرُورِيّ وَأثبت بِهِ أقل مَا أثبت بِالنَّهْي وَهُوَ الْكَرَاهَة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2234 تَنْبِيه: قَوْلنَا: الوجودي هُوَ قيد فِي الْمَسْأَلَة؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ هُوَ من لَوَازِم نقيض الشَّيْء الْمَأْمُور، كالأمر بالحركة هَل هِيَ نهي عَن نفس السّكُون الَّذِي هُوَ ضد لَهَا أم لَا؟ فَإِن لم يكن لَهُ إِلَّا ضد وَاحِد فَالْخِلَاف فِي النَّهْي عَنهُ: كَصَوْم يَوْم الْعِيد الْأَمر بِالْفطرِ فِيهِ نهي عَن ضِدّه وَهُوَ الصَّوْم. وَمثله الْأَمر بِالْإِيمَان نهي عَن الْكفْر، وَإِن كَانَ لَهُ أضداد كالأمر بِالْقيامِ فَإِن لَهُ أضداد من قعُود وركوع وَسُجُود وَنَحْوهَا، فَفِي النَّهْي عَنهُ إِذا قُلْنَا نهي عَن ضِدّه أَو يستلزمه هَل المُرَاد جَمِيع الأضداد، أَو وَاحِد مِنْهَا لَا بِعَيْنِه؟ - فِيهِ خلاف - انْتهى. وَجه القَوْل الأول فِي أصل الْمَسْأَلَة - وَهُوَ الصَّحِيح - أَمر الْإِيجَاب طلب فعل يذم تَاركه إِجْمَاعًا، وَلَا ذمّ إِلَّا على فعل وَهُوَ والكف عَنهُ أَو الضِّدّ، فيستلزم النَّهْي عَن ضِدّه، أَو النَّهْي عَن الْكَفّ عَنهُ. رد: مَبْنِيّ على أَن الْأَمر يدل على الذَّم، لَا بِدَلِيل خارجي، وَإِن سلم فالذم على أَنه لم يفعل، لَا على فعل بِنَاء على أَن الْعَدَم مَقْدُور، وَإِن سلم فالنهي طلب كف عَن فعل لَا عَن كف، وَإِلَّا لزم تصور الْكَفّ عَن الْكَفّ لكل آمُر، وَالْوَاقِع خِلَافه. وَفِيه نظر وَمنع؛ وَلِأَنَّهُ لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بترك ضِدّه فَيكون مَطْلُوبا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2235 وَهُوَ معنى النَّهْي، وسبقت الْمَسْأَلَة. وَاحْتج ابْن عقيل بِأَن عِنْد الْمُعْتَزلَة يَقْتَضِي الْأَمر إِرَادَة الْمَأْمُور بِهِ وَحسنه، فبتركه يَقْتَضِي ضدهما كَرَاهَته وقبحه وهما مقتضيان حظره. وَلِأَن الْأَمر غير النَّهْي؛ لتغاير الصيغتين وَالْمعْنَى النَّفْسِيّ الْقَدِيم غير مُتحد، وَإِن اتَّحد فَإِنَّهُ يخْتَلف بتعلقه ومتعلقه فهما غيران؛ لتَعَدد الْحَادِث. الْقَائِل: الْأَمر عين النَّهْي لَو لم يكن لَكَانَ ضدا أَو مثلا أَو خلافًا؛ لِأَنَّهُمَا إِن تَسَاويا فِي الذاتيات واللوازم فمثلان، وَإِلَّا فَإِن تنافيا بأنفسهما فضدان، وَإِلَّا فخلافان، وَلَيْسَ هُوَ بالأولين وَإِلَّا لما اجْتمعَا، وَلَا الثَّالِث وَإِلَّا فَجَاز أَحدهمَا مَعَ ضد الآخر، وَمَعَ خلاف الآخر؛ لِأَنَّهُ حكم الخلافين فالعلم والإرادة خلافان: يُوجد الْعلم مَعَ الْكَرَاهَة وَهِي ضد الْإِرَادَة وَخلاف الْمحبَّة، وتوجد الْإِرَادَة مَعَ الْجَهْل، والسخاء ضد الْعلم وخلافه، ويستحيل الْأَمر بِفعل مَعَ ضد النَّهْي عَن ضِدّه وَهُوَ الْأَمر بضده؛ لِأَنَّهُمَا نقيضان أَو تَكْلِيف بِغَيْر مُمكن. رد: إِن أُرِيد بِطَلَب ترك الضِّدّ وَهُوَ معنى النَّهْي عنة طلب الْكَفّ عَنهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2236 فهما خلافان، ونمنع أَن حكم الخلافين مَا سبق فالمتضايفان متلازمان فيستحيل وجود أَحدهمَا مَعَ ضد الآخر لِاجْتِمَاع الضدين. وَقد يكون كل من الخلافين ضدا لضد الآخر كالكاتب والضاحك كل مِنْهُمَا ضد للصاهل، فَيكون كل من الْأَمر بالشَّيْء وَالنَّهْي عَن ضِدّه ضدا لضده فَيمكن اجْتِمَاعهمَا. وَإِن أُرِيد بترك ضِدّه عين الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ عَاد النزاع لفظيا فِي تَسْمِيَة الْفِعْل تركا، ثمَّ فِي تَسْمِيَة طلبه نهيا. الْقَائِل بِالنَّفْيِ: لَو كَانَ عينه أَو يستلزمه لزم تعقل الضِّدّ والكف عَنهُ؛ لِأَنَّهُ مَطْلُوب النَّهْي وَيمْتَنع تعقل الشَّيْء بِدُونِ نَفسه أَو لَازمه ونقطع بِالطَّلَبِ مَعَ الذهول عَنْهُمَا. ورد: المُرَاد الضِّدّ الْعَام، وَهُوَ ترك الْمَأْمُور بِهِ لَا الْخَاص وَهُوَ مَا يسْتَلْزم فعله ترك الْمَأْمُور، كَالْأَكْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّلَاة والضد الْعَام متعقل؛ لِأَن الطّلب لَا يكون لموجود. [رد] : المُرَاد طلبه فِي الْمُسْتَقْبل وَلَو سلم تعقل الضِّدّ فَعدم تعقل الْكَفّ وَاضح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2237 رد: أَمر الْإِيجَاب لَا يتَحَقَّق بِغَيْر الْكَفّ عَن الضِّدّ الْعَام؛ لِأَنَّهُ طلب فعل مَعَ الْمَنْع من تَركه الْقَائِل (يستلزمه) ؛ لِأَنَّهُ طلب نفي فعل هُوَ عدم، وَالْأَمر طلب وجود فعل، وللزوم وجوب الزِّنَا وَنفي الْمُبَاح ولاستلزام أَمر الْإِيجَاب الذَّم على التّرْك، وَهُوَ فعل لاستلزام الذَّم على الْفِعْل، وَالنَّهْي: طلب كف عَن فعل فَلم يسْتَلْزم الْأَمر؛ لِأَنَّهُ طلب فعل. قَوْله: {وَالنَّهْي إِن كَانَ لَهُ ضد وَاحِد فمأمور بِهِ قطعا} كالنهي عَن الْكفْر، فَإِنَّهُ أَمر بِالْإِيمَان، وَالنَّهْي عَن الصَّوْم؛ فَإِنَّهُ أَمر بالإفطار، وَنَحْو ذَلِك. قَوْله: {وَإِلَّا فكالأمر} ، يَعْنِي أَن النَّهْي عَن الشَّيْء إِذا كَانَ لَهُ أضداد فَحكمه حكم الْأَمر على مَا تقدم فِي أَن الْأَمر بِشَيْء معِين نهي عَن ضِدّه، وَتقدم الْخلاف فِي ذَلِك، فَكَذَا يكون الْخلاف هُنَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَقدمه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ". {و} قَالَ {الْجِرْجَانِيّ} من الْحَنَفِيَّة: {لَيْسَ أمرا بِهِ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2238 {و} قَالَ {الْجَصَّاص} الْحَنَفِيّ: هُوَ {أَمر بضد} لَا بأضداد. وَجزم الباقلاني فِي " التَّقْرِيب " أَنه أَمر بالضد قطعا. وَوَجهه: أَن دلَالَة النَّهْي عَن مُقْتَضَاهُ أقوى من دلَالَة الْأَمر على مُقْتَضَاهُ، فَإِن دَرْء الْمَفَاسِد مقدم على جلب الْمصَالح. وَضعف أَبُو الْمَعَالِي هَذِه الطَّرِيقَة، وَقَالَ: يلْزم مِنْهَا القَوْل بِمذهب الكعبي فِي نفي الْمُبَاح فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يقدر مُبَاح إِلَّا وَهُوَ ضد مَحْظُور فَيكون وَاجِبا. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَحكى ابْن الْحَاجِب طَريقَة الْقطع على عكس الْمَذْكُورَة هُنَا، وَهُوَ أَنه لَيْسَ أمرا بالضد قطعا، ونازعه التَّاج السُّبْكِيّ فِي ثُبُوتهَا، وَقَالَ: إِنَّه لم يعثر على نقل، وَلم يتَّجه لَهُ عقل. وَقَالَ غَيره: إِنَّه مَبْنِيّ على أَن النَّهْي طلب نفي الْفِعْل لَا طلب الْكَفّ عَنهُ الَّذِي هُوَ ضِدّه، كمذهب أبي هَاشم فَلَا يكون أمرا بالضد. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2239 وَلنَا خلاف فِي حنث من قَالَ: إِذا أَمرتك فخالفتيني فَأَنت طَالِق فَنَهَاهَا فخالفته وَلَا نِيَّة بِنَاء على ذَلِك. قلت: لنا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال. أَحدهَا: وَهُوَ الصَّحِيح من الثَّلَاثَة أَنه لَا يَحْنَث، إِلَّا أَن يَنْوِي مُطلق الْمُخَالفَة. اخْتَارَهُ أَبُو بكر، وَغَيره، وَقطع بِهِ فِي " الْوَجِيز "، و " منتخب الْآدَمِيّ " وَقدمه فِي " الْخُلَاصَة "، و " الشَّرْح " و " النّظم " و " الْفُرُوع " وَغَيرهمَا، قَالَ ابْن منجا فِي " شَرحه ": هَذَا الْمَذْهَب. وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّهَا تطلق مُطلقًا، جزم بِهِ فِي " المنثور "، وَاخْتَارَهُ ابْن عَبدُوس فِي " تَذكرته "، وَقدمه فِي " الْمُحَرر " و " الرِّعَايَتَيْنِ "، و " الْحَاوِي الصَّغِير ". وَقَالَ أَبُو الْخطاب: أَن لم يعرف حَقِيقَة الْأَمر وَالنَّهْي حنث وَهُوَ قوي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2240 قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": وَلَعَلَّ هَذَا أقرب إِلَى الْفِقْه وَالتَّحْقِيق. قَوْله: {وَأمر ندب كإيجاب عِنْد القَاضِي، وَغَيره} ، من أَصْحَابنَا {وَالْأَكْثَر: أَن قيل: مَأْمُور بِهِ حَقِيقَة} . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَأمر النّدب كالإيجاب عِنْد الْجَمِيع إِن قيل مَأْمُور بِهِ حَقِيقَة، وَذكره القَاضِي وَغَيره. انْتهى. وَصرح بِهِ القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني فِي " التَّقْرِيب "، وَحمل النَّهْي عَن الضِّدّ فِي الْوُجُوب تَحْرِيمًا وَفِي النّدب تَنْزِيها. قَالَ: وَبَعض أهل الْحق خصص ذَلِك بِأَمْر الْإِيجَاب لَا النّدب وَهُوَ مَا حَكَاهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب عَن الْأَشْعَرِيّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2241 {وَتقدم} حكم {الْإِجْزَاء فِي خطاب الْوَضع} ؛ لِأَن كثيرا من المصنفين يذكرُونَ الْمَسْأَلَة هُنَا فِي هَذَا الْمحل. قَوْله: {فَائِدَتَانِ: الأولى: المعلومات أَربع} ... إِلَى آخِره. هَاتَانِ الفائدتان ذكرهمَا الْقَرَافِيّ فِي " التَّنْقِيح " و " شَرحه "، وَتَبعهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره، وهما مذكورتان فِيمَا تقدم فِي الْبَحْث فِي الْمسَائِل الْمُتَقَدّمَة؛ فَلهَذَا أفردتهما بِالذكر. قَالَ الْقَرَافِيّ فِي " شرح التَّنْقِيح ": دَلِيل الْحصْر أَن المعلومين إِمَّا أَن يُمكن اجْتِمَاعهمَا أَو لَا، فَإِن أمكن اجْتِمَاعهمَا فهما الخلافان كالحركة وَالْبَيَاض، وَإِن لم يُمكن اجْتِمَاعهمَا فإمَّا أَن يُمكن ارتفاعهما، أَو لَا، الثَّانِي النقيضان، كوجود زيد وَعَدَمه، وَالْأول لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يختلفا فِي الْحَقِيقَة أم لَا. الأول: الضدان كسواد وَبَيَاض؛ لاخْتِلَاف الْحَقِيقَة. وَالثَّانِي: المثلان كبياض وَبَيَاض، ثمَّ قَالَ: سُؤال: كَيفَ يُقَال فِي حد الضدين إِنَّه يُمكن ارتفاعهما، وَالْحَرَكَة والسكون ضدان لَا يُمكن ارتفاعهما عَن الْجِسْم، والحياة وَالْمَوْت لَا يُمكن ارتفاعهما عَن الْحَيَوَان، وَالْعلم وَالْجهل لَا يُمكن ارتفاعهما عَن الْحَيّ؟ وَجَوَابه: أَن إِمْكَان الِارْتفَاع أَعم من إِمْكَان الِارْتفَاع مَعَ بَقَاء الْمحل، فَنحْن نقُول: يُمكن ارتفاعهما من حَيْثُ الْجُمْلَة وهما مُمكنا الرّفْع مَعَ ارْتِفَاع الْمحل، فَقيل للمحل: الْعَالم لَا متحرك، وَلَا سَاكن، وَلَا من الْعَالم حَيّ وَلَا ميت، وَلَا عَالم وَلَا جَاهِل فصح الْحَد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2242 فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهمَا: الخلافان قد يتَعَذَّر ارتفاعهما لخُصُوص حَقِيقَة غير كَونهمَا خلافين كذات وَاجِب الْوُجُود، - سُبْحَانَهُ - مَعَ صِفَاته، وَقد يتَعَذَّر افتراقهما كالعشرة مَعَ الزَّوْجِيَّة خلافان ويستحيل افتراقهما، والخمسة مَعَ الفردية، والجوهر مَعَ الأكوان، وَهُوَ كثير، وَلَا تنَافِي بَين إِمْكَان الِافْتِرَاق والارتفاع بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذَّات، وَتعذر الِارْتفَاع بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَمر خارجي عَنْهُمَا. الثَّانِيَة: حصر المعلومات فِي هَذِه الْأَرْبَعَة كلهَا حَتَّى لَا يخرج مِنْهَا شَيْء إِلَّا مَا توَحد الله تَعَالَى بِهِ وَتفرد بِهِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ ضد الشَّيْء، وَلَا نقيضا، وَلَا مثلا، وَلَا خلافًا لتعذر الرّفْع، وَهَذَا حكم عَام فِي صِفَاته العلى وذاته لتعذر رَفعهَا بِسَبَب وجوب وجودهَا. قَوْله: {الثَّانِيَة: الْحَقَائِق الْأَرْبَعَة} - أَي: نِسْبَة الْحَقَائِق بَعْضهَا إِلَى بعض أَرْبَعَة - متساويان ... إِلَى آخِره. هَذَا أَيْضا أخذناه من كَلَام الْقَرَافِيّ، فَقَالَ: دَلِيل الْحصْر أَن المعلومين إِمَّا أَن يجتمعا أَو لَا، الثَّانِي المتباينان، وَالْأول لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يصدق كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي جَمِيع موارد الآخر، أَو لَا. الأول المتساويان، وَالثَّانِي إِن صدق أَحدهمَا فِي كل موارد الآخر من غير عكس فَهُوَ الْأَعَمّ مُطلقًا، وَإِلَّا فَهُوَ الْأَعَمّ من وَجه، والأخص من وَجه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2243 وَقد مثلهَا بِهَذِهِ الْأَمْثِلَة الْفِقْهِيَّة؛ لِأَنَّهَا أقرب لطلبة الْعلم، وَكنت قد تابعته فِي الْأَمْثِلَة كلهَا، مِنْهَا الرَّابِع: وَهُوَ النِّكَاح وَملك الْيَمين، ثمَّ أضربت عَنهُ؛ لِأَن مَذْهَبنَا أَنه لَا يجْتَمع النِّكَاح وَملك الْيَمين، فَحَيْثُ وجد ملك الْيَمين امْتنع النِّكَاح، وَحَيْثُ وجد النِّكَاح امْتنع ملك الْيَمين، فمثلت بمثال يُوَافق مَذْهَبنَا فمثلت بِالْوضُوءِ وَالتَّيَمُّم فِي صُورَة، وَهُوَ صِحَة إِفْرَاد التَّيَمُّم عِنْد الْعَدَم، أَو الْعَجز عَن اسْتِعْمَاله، وَصِحَّة الْوضُوء لشرطه واجتماعهما فِيمَا إِذا غمس يَده فِي الْإِنَاء قبل غسلهَا ثَلَاثًا، وَلَيْسَ عِنْده غَيره، فَإِنَّهُ يتَوَضَّأ بِهِ، وَيتَيَمَّم مَعَه على الصَّحِيح من الْمَذْهَب. ويمثل أَيْضا ذَلِك بالموارد الْعَقْلِيَّة فالمتساويان كالإنسان والضحك بِالْقُوَّةِ، يلْزم من وجود كل وَاحِد مِنْهُمَا وجود الآخر وَمن عَدمه عدمُه، فَلَا إِنْسَان إِلَّا وَهُوَ ضَاحِك بِالْقُوَّةِ، وَلَا ضَاحِك بِالْقُوَّةِ إِلَّا وَهُوَ إِنْسَان. ونعني بِالْقُوَّةِ كَونه قَابلا وَلَو لم يَقع، ويقابله الضاحك بِالْفِعْلِ، وَهُوَ الْمُبَاشر للضحك. والمتباينان كالإنسان، وَالْفرس، فَمَا هُوَ إِنْسَان لَيْسَ بفرس، وَمَا هُوَ فرس فَلَيْسَ بِإِنْسَان، فَيلْزم من صدق أَحدهمَا على مَحل عدم صدق الآخر. والأعم مُطلقًا [والأخص مُطلقًا] كالحيوان وَالْإِنْسَان فالحيوان صَادِق على جَمِيع أَفْرَاد الْإِنْسَان فَلَا يُوجد إِنْسَان بِدُونِ الحيوانية أَلْبَتَّة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2244 والأعم من وَجه ضابطه: أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي صُورَة وينفرد كل وَاحِد مِنْهُمَا بِصُورَة، كالحيوان والأبيض فَإِن الْحَيَوَان يُوجد بِدُونِ الْأَبْيَض فِي السودَان، وَيُوجد الْأَبْيَض بِدُونِ الْحَيَوَان فِي الْحجر الْأَبْيَض وَغَيره كالثلج مِمَّا لَيْسَ بحيوان، ويجتمعان فِي الْحَيَوَانَات فِي الْبيض، فَلَا يلْزم من وجود الْأَبْيَض وجود الْحَيَوَان، وَلَا من وجود الْحَيَوَان وجود الْأَبْيَض، وَلَا من عدم أَحدهمَا عدم الآخر، فَلَا جرم لَا دلَالَة فيهمَا مُطلقًا لَا فِي وجوده وَلَا فِي عَدمه بِخِلَاف الْأَعَمّ مُطلقًا، يلْزم من عدم الْحَيَوَان عدم الْإِنْسَان، وَمن وجود الْإِنْسَان الَّذِي هُوَ أخص وجود الْحَيَوَان، وَلَا يلْزم من عدم الْأَخَص عدم الْأَعَمّ؛ لِأَن الْحَيَوَان قد يبْقى مَوْجُودا فِي الْفرس وَغَيره من الْأَنْوَاع. ففائدة هَذِه الْقَاعِدَة: الِاسْتِدْلَال بِبَعْض الْحَقَائِق على بعض. والتمثيل فِي المتساويين بِالرَّجمِ وزنا الْمُحصن بِنَاء على اللائط لَا يرْجم، أما لَو فرعنا على أَنه يرْجم كَانَ الرَّجْم أَعم من الزِّنَا عُمُوما مُطلقًا كالغسل والإنزال الْمُعْتَبر فَإِن الْغسْل أَعم مُطلقًا؛ لوُجُوده بِدُونِ الْإِنْزَال فِي انْقِطَاع دم الْحيض، والتقاء الختانين وَغير ذَلِك من أَسبَاب الْغسْل. انْتهى. قلت: الصَّحِيح من مَذْهَبنَا أَن حد اللوطي كَحَد الزَّانِي سَوَاء، فَيحْتَاج إِلَى مِثَال غير ذَلِك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2245 (قَوْله: {فصل} ) {أَحْمد، وَمَالك، وأصحابهما، وَالشَّافِعِيّ، وَالْأَكْثَر: الْأَمر بعد الْحَظْر للْإِبَاحَة} ، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور. وَمحل ذَلِك: إِذا فرعنا على أَن اقْتِضَاء الْأَمر الْوُجُوب فورد بعد حظر فَفِيهِ هَذَا الْخلاف. وَالصَّحِيح أَنه للْإِبَاحَة حَقِيقَة؛ لتبادرهما إِلَى الذِّهْن فِي ذَلِك؛ لعلية اسْتِعْمَاله فِيهَا حِينَئِذٍ، والتبادر عَلامَة للْحَقِيقَة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2246 وَأَيْضًا: فَإِن النَّهْي يدل على التَّحْرِيم فورود الْأَمر بعده يكون لرفع التَّحْرِيم وَهُوَ الْمُتَبَادر، فالوجوب أَو النّدب زِيَادَة لَا بُد لَهَا من دَلِيل. فَمن اسْتِعْمَاله بعد الْحَظْر للْإِبَاحَة قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} [الْمَائِدَة: 2] ، {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض} [الْجُمُعَة: 10] ، {فَإِذا تطهرن فأتوهن} [الْبَقَرَة: 222] . وَأَيْضًا عرف الشَّرْع، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَإِن طبن لكم عَن شَيْء مِنْهُ نفسا فكلوه} [النِّسَاء: 4] ، {فَكُلُوا مِمَّا أمسكن عَلَيْكُم} [الْمَائِدَة: 4] . وَقَوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: " كنت نَهَيْتُكُمْ عَن ادخار لُحُوم الْأَضَاحِي فادخروها "، وَالْأَصْل عدم دَلِيل سوى الْحَظْر، وَالْإِجْمَاع حَادث بعده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَكَقَوْلِه لعَبْدِهِ: لَا تَأْكُل هَذَا، ثمَّ يَقُول: كُله. وَاعْترض بقوله: لَا تقتل هَذَا، ثمَّ يَقُول: اقتله، للْإِيجَاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2247 رد: بِالْمَنْعِ فِي قَوْلنَا وَهُوَ ظَاهر قَول غَيرنَا ثمَّ الْخلاف فِي حظر أَفَادَهُ النَّهْي، اعْتمد عَلَيْهِ فِي " الْعدة "، و " التَّمْهِيد "، و " الْوَاضِح " مَعَ قَول القَاضِي وَأبي الْفرج الْمَقْدِسِي لما قيل لَهما: يلْزم أَن جَمِيع الْأَوَامِر للْإِبَاحَة على قَوْلكُم - أَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْحَظْر - بِأَنَّهَا مَسْأَلَة خلاف، وَكَذَا فِي " التَّمْهِيد "، وَفِيه: هِيَ مُبَاحَة فِي وَجه فَالْأَمْر بعد الْحَظْر يرفعهُ وَيعود إِلَى أصل الْإِبَاحَة. وَكَذَا احْتج ابْن عقيل على من جعلهَا للْإِبَاحَة بِأَن الْأَمر يرفع الْحَظْر فَيَعُود إِلَى الأَصْل فَقَالَ: عندنَا لَيْسَ بِأَمْر بل إِبَاحَة، وَمن لقب الْمَسْأَلَة بِالْأَمر فلصيغته. وَقَالَ: إِن جعلناها للْإِبَاحَة فَالْأَمْر يعد إِبَاحَة، وَإِن جعلناها للحظر فَلَيْسَ بحظر نطقي، وَفرق بَينهمَا بِدَلِيل النّسخ لحكم ثَبت نطقا. قَالُوا: لَو منع الْحَظْر الْوُجُوب منع التَّصْرِيح بِهِ، وَلم يخْتَص الْأَمر بِصِيغَة (افْعَل) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2248 رد: الصَّرِيح لَا يحْتَمل تغيره، وَلَا يخْتَص فِي ظَاهر كَلَام الْأَكْثَر. وَقَالَهُ فِي " الرَّوْضَة "، ثمَّ اخْتصَّ؛ لِأَن الْعرف فِيهَا. قَالَ الْمجد: عِنْدِي أَنه الْمَذْهَب، وَقَالَهُ قوم. {وَذهب القَاضِي} أَبُو يعلى، {وَأَبُو الطّيب} الطَّبَرِيّ، {و} أَبُو إِسْحَاق {الشِّيرَازِيّ، وَابْن السَّمْعَانِيّ، و} الْفَخر {الرَّازِيّ} ، وَأَتْبَاعه، وَصدر الشَّرِيعَة من الْحَنَفِيَّة إِلَى أَنه {كالأمر ابْتِدَاء} . وَاسْتدلَّ للْوُجُوب بقوله تَعَالَى: {فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2249 وَالْجَوَاب عِنْد ذَلِك عَن الْقَائِل بِالْإِبَاحَةِ: أَن الْمُتَبَادر غير ذَلِك، وَفِي الْآيَة إِنَّمَا علم بِدَلِيل خارجي. {و} ذهب {أَبُو الْمَعَالِي وَالْغَزالِيّ} فِي " المنخول "، وَابْن الْقشيرِي {والآمدي} ، وَغَيرهم إِلَى {الْوَقْف} فِي الْإِبَاحَة وَالْوُجُوب لتعارض الْأَدِلَّة. وَذهب القَاضِي الْحُسَيْن من الشَّافِعِيَّة إِلَى الِاسْتِحْبَاب، وَمثله بقوله تَعَالَى: {فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا} [النُّور: 33] . قَالَ الشَّافِعِي: هُوَ للاستحباب، وَإِنَّمَا ذَلِك من الْأَمر بعد الْحَظْر؛ لِأَن بيع الْإِنْسَان مَاله من مَاله مُمْتَنع بِلَا شكّ. قلت: على الصَّحِيح من مَذْهَبنَا اسْتِحْبَاب الْكِتَابَة باجتماع الشَّرْط فِيهَا، وَعنهُ أَنَّهَا وَاجِبَة إِذا ابتاعها من سَيّده أجبر عَلَيْهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2250 بِقِيمَتِه، اخْتَارَهُ أَبُو بكر من أَصْحَابنَا. قَالَ الكوراني فِي " شَرحه ": لم يذكر فِي " جمع الْجَوَامِع " القَوْل بالندب، وَذكره صَاحب " التَّلْوِيح "، وَأسْندَ إِلَى سعيد بن جُبَير أَن الْإِنْسَان إِذا انْصَرف من الْجُمُعَة ندب لَهُ أَن يساوم شَيْئا وَلَو لم يشتره. انْتهى. {وَذهب الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين، وَجمع - وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْقفال الشَّاشِي - والبلقيني {أَنه كَمَا قبل الْحَظْر} فَهُوَ لدفع الْحَظْر السَّابِق وإعادة حَال الْفِعْل إِلَى مَا كَانَ قبل الْحَظْر، فَإِن كَانَ مُبَاحا كَانَت للْإِبَاحَة نَحْو: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} ، أَو وَاجِبا كَانَت للْوُجُوب، نَحْو: {فأتوهن من حَيْثُ أَمركُم الله} ، إِذا قُلْنَا بِوُجُوب الْوَطْء، وَنسب إِلَى الْمُزنِيّ، {فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَعَلِيهِ يخرج {فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم} الْآيَة. {وَقَالَ: هُوَ الْمَعْرُوف عَن السّلف وَالْأَئِمَّة} . انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2251 {وَقيل: للْوُجُوب إِن كَانَ بِلَفْظ (أَمرتك، وَأَنت مَأْمُور) قَالَ الْمجد بن تَيْمِية: هَذَا عِنْدِي الْمَذْهَب} . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": الصَّرِيح لَا يحْتَمل تغيره بِقَرِينَة، وَلَا يخْتَص فِي ظَاهر كَلَام الْأَكْثَر، كَمَا تقدم فِي الْبَحْث. تَنْبِيه: قَالَ الكوراني: هَذَا الْخلاف إِنَّمَا هُوَ عِنْد انْتِفَاء الْقَرِينَة، وَأما عِنْد وجودهَا فَيحمل على مَا يُنَاسب الْمقَام بِلَا خلاف. انْتهى. قَوْله: {وَالْأَمر بعد الاسْتِئْذَان للْإِبَاحَة، قَالَه القَاضِي وَابْن عقيل} ، وَحَكَاهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل عَن الْأَصْحَاب، قَالَ: لَا فرق بَين الْأَمر بعد الْحَظْر، وَبَين الْأَمر بعد الاسْتِئْذَان. قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": إِذا فرعنا على أَن الْأَمر الْمُجَرّد للْوُجُوب فَوجدَ أَمر بعد اسْتِئْذَان فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوب بل الْإِبَاحَة، ذكره القَاضِي مَحل وفَاق، قلت: وَكَذَا ابْن عقيل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2252 ثمَّ قَالَ: وَإِطْلَاق جمَاعَة: ظَاهره يَقْتَضِي الْوُجُوب، مِنْهُم: الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " فَإِنَّهُ جعل الْأَمر بعد الْحَظْر والاستئذان، الحكم فيهمَا وَاحِد، وَاخْتَارَ أَن الْأَمر بعد الْحَظْر للْوُجُوب، فَكَذَا بعد الاسْتِئْذَان عِنْده. انْتهى. فَإِذا علم ذَلِك لَا يَسْتَقِيم قَول القَاضِي وَابْن عقيل لما استدلا على نقض الْوضُوء بِلَحْم الْإِبِل بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِي مُسلم، لما سُئِلَ عَن التَّوَضُّؤ من لُحُوم الْإِبِل، فَقَالَ: نعم تَوَضَّأ من لُحُوم الْإِبِل. وَمِمَّا يُقَوي الْإِشْكَال أَن فِي الحَدِيث الْأَمر بِالصَّلَاةِ فِي مرابض الْغنم، وَهُوَ بعد سُؤال، وَلَا يجب بِلَا خلاف، بل وَلَا يسْتَحبّ. فَإِن قلت: إِذا كَانَ كَذَلِك فَلم يستحبون الْوضُوء مِنْهُ؟ والاستحباب حكم شَرْعِي يفْتَقر إِلَى دَلِيل وَعِنْدهم هَذَا الْأَمر يَقْتَضِي الْإِبَاحَة. قلت: إِذا قيل باستحبابه فلدليل غير هَذَا الْأَمر، وَهُوَ أَن الْأكل من لُحُوم الْإِبِل يُورث قُوَّة نارية فيناسب أَن تطفأ بِالْمَاءِ كَالْوضُوءِ عِنْد الْغَضَب، وَلَو كَانَ الْوضُوء من أكل لحم الْإِبِل وَاجِبا على الْأمة، وَكلهمْ كَانُوا يَأْكُلُون لحم الْإِبِل لم يُؤَخر بَيَان وُجُوبه، حَتَّى يسْأَله سَائل فَيُجِيبهُ، فَعلم أَن مَقْصُوده أَن الْوضُوء من لحومها مَشْرُوع، وَهُوَ حق، وَالله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2253 وَقد يُقَال: الحَدِيث إِنَّمَا ذكر فِيهِ بَيَان وجوب مَا يتَوَضَّأ مِنْهُ بِدَلِيل أَنه لما سُئِلَ عَن الْوضُوء من لُحُوم الْغنم، قَالَ: " إِن شِئْت فَتَوَضَّأ وَإِن شِئْت فَلَا تتوضأ " مَعَ أَن الْوضُوء من لُحُوم الْغنم مُبَاح، فَلَمَّا خير فِي لحم الْغنم، وَأمر بِالْوضُوءِ من لحم الْإِبِل، دلّ على أَن الْأَمر لَيْسَ هُوَ لمُجَرّد الْإِذْن، بل للطلب الْجَازِم. انْتهى. قلت: وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمد فِي الْمَذْهَب، وَالله أعلم. قَوْله: {وَمثله الْأَمر بماهية مَخْصُوصَة بعد سُؤال تَعْلِيم} . وَفِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": الْأَمر بماهية مَخْصُوصَة بعد سُؤال تَعْلِيم كالأمر بعد الاسْتِئْذَان فِي الْأَحْكَام وَالْمعْنَى، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَسْتَقِيم اسْتِدْلَال الْأَصْحَاب على وجوب الصَّلَاة على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي التَّشَهُّد الْأَخير بِمَا ثَبت عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قيل لَهُ: يَا رَسُول الله، قد علمنَا كَيفَ نسلم عَلَيْك فَكيف نصلي عَلَيْك؟ قَالَ: " قُولُوا: اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد ... " الحَدِيث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2254 نعم إِن ثَبت الْوُجُوب من خَارج فَيكون هَذَا الْأَمر للْوُجُوب؛ لِأَنَّهُ بَيَان لكيفية وَاجِبَة، وَالله أعلم. قَوْله: {وَالْخَبَر بِمَعْنى الْأَمر كالأمر، قَالَه الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين، {وَغَيره} . هَذِه الْمَسْأَلَة وَقعت بَين الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَبَين الشَّيْخ ابْن الزملكاني، وَهِي: أَن صِيغَة الْخَبَر بِمَعْنى الْأَمر وَالنَّهْي، هَل يجْرِي فيهمَا الْخلاف الَّذِي فِي الْأَمر وَالنَّهْي فِي كَونهمَا حَقِيقَة فِي الْوُجُوب، وَالتَّحْرِيم وَيَتَرَتَّب عَلَيْهِمَا أَحْكَام الْأَمر، وَالنَّهْي الصريحين، أم لَا؟ ذكر ابْن دَقِيق الْعِيد فِيهَا احْتِمَالَيْنِ من عِنْده، وَلم يرجح شَيْئا. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: يجْرِي الْخلاف فِي ذَلِك. قَالَ ابْن الزملكاني: لَا يجْرِي فِيهِ شَيْء من ذَلِك، إِنَّمَا ذَلِك فِي الصِّيغَة الْأَصْلِيَّة، قَالَ: فدعوى خلاف ذَلِك مُكَابَرَة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2255 وَقَالَ: ويغلط فِي ذَلِك كثير من الْفُقَهَاء، ويغترون بِإِطْلَاق الْأُصُولِيِّينَ، فَيدْخلُونَ فِيهِ كلما أَفَادَ أمرا، أَو نهيا، وَإِن لم يكن فِيهِ الْأَمر، أَو النَّهْي من الْمُحَقق. وأيد بعض الْعلمَاء قَول الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بقول الْقفال. وَمن الدَّلِيل على أَن ذَلِك مَعْنَاهُ، وَأَن ذَلِك كُله كالأمر وَالنَّهْي: دُخُول النّسخ فِيهِ إِذْ الْأَخْبَار الْمَحْضَة لَا يدخلهَا النّسخ؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ خَبرا لم يُوجد خِلَافه. قَالَ: وَمن هَذَا عِنْد أَصْحَابنَا قَوْله تَعَالَى: {لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} [الْوَاقِعَة: 79] ، واستند بَعضهم فِي ذَلِك لقَوْل البيانيين، وَغَيرهم إِن ذَلِك أبلغ من صَرِيح الْأَمر وَالنَّهْي، فَيَنْبَغِي أَن يكون للْوُجُوب قطعا. وَأجِيب عَن ذَلِك ... ، قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " لما تكلم على الْأَمر: وَظَاهر الْمَسْأَلَة أَن الْخَبَر بِمَعْنى الْأَمر كَذَلِك ك {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} [الْبَقَرَة: 228] ، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: لَا يحْتَمل النّدب؛ لِأَنَّهُ إِذن، إِنَّه كالمحقق المستمر. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2256 قَوْله: {وَالنَّهْي بعد الْأَمر للتَّحْرِيم، قَالَه القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، والحلواني، والموفق، والطوفي} ، وَالْأَكْثَر، وَقَالَهُ الْغَزالِيّ فِي " المنخول "، والأستاذ أَبُو إِسْحَاق، والباقلاني، وحكياه إِجْمَاعًا، لَكِن قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: مَا أرى الْمُخَالفين فِي الْأَمر بعد الْحَظْر يسلمُونَ ذَلِك. انْتهى. {وَقَالَ أَبُو الْفرج} الْمَقْدِسِي: {للكراهة} ، فَقَالَ: وَتقدم الْوُجُوب قرينَة فِي أَن النَّهْي بعده للكراهة، وَقطع بِهِ. وَقَالَهُ القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، ثمَّ سلما أَنه للتَّحْرِيم؛ لِأَنَّهُ آكِد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2257 وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة ": هُوَ لإباحة التّرْك كَقَوْلِه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: " وَلَا تتوضأوا من لُحُوم الْغنم "، ثمَّ سلم أَنه للتَّحْرِيم. وَكَذَا اخْتَار ابْن عقيل: يَقْتَضِي إِسْقَاط مَا أوجبه الْأَمر، وَأَنه وزان الْإِبَاحَة بعد الْحَظْر؛ لإخراجهما عَن جَمِيع أقسامهما. وَغلط مَا حَكَاهُ قَول أَصْحَابنَا للتنزيه فضلا عَن التَّحْرِيم، وَقَالَ: تأكده لَا يزِيد على مُقْتَضى الْأَمر، وَقد جعلُوا تقدم الْحَظْر قرينَة. {وَقيل: للْإِبَاحَة} ، كالقول فِي مَسْأَلَة الْأَمر بعد الْحَظْر، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {إِن سَأَلتك عَن شَيْء بعْدهَا فَلَا تُصَاحِبنِي} [الْكَهْف: 76] . ووقف أَبُو الْمَعَالِي لتعارض الْأَدِلَّة، كَمَسْأَلَة الْأَمر بعد الْحَظْر، فعلى الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - وَقَول الْجُمْهُور، وَفرق بَينه وَبَين الْأَمر بأوجه: أَحدهَا: أَن مُقْتَضى النَّهْي وَهُوَ التّرْك مُوَافق للْأَصْل بِخِلَاف مُقْتَضى الْأَمر وَهُوَ الْفِعْل. الثَّانِي: أَن النَّهْي لدفع مفْسدَة الْمنْهِي عَنهُ، وَالْأَمر لتَحْصِيل مصلحَة الْمَأْمُور بِهِ، واعتناء الشَّارِع بِدفع الْمَفَاسِد أَشد من جلب الْمصَالح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2258 الثَّالِث: أَن القَوْل بِالْإِبَاحَةِ فِي الْأَمر بعد التَّحْرِيم سَببه وُرُوده فِي الْقُرْآن وَالسّنة كثيرا للْإِبَاحَة، وَهَذَا غير مَوْجُود فِي النَّهْي بعد الْوُجُوب. انْتهى. وَترْجم الْبرمَاوِيّ الْمَسْأَلَة بِأَن صِيغَة النَّهْي إِذا وَردت فِي شَيْء قد كَانَ وَاجِبا إِلَى حِين وُرُودهَا، هَل يكون سبق الْوُجُوب قرينَة تبين أَن النَّهْي خرج عَن حَقِيقَته - وَهُوَ التَّحْرِيم - أَو لَا؟ وَهِي مَبْنِيَّة على مَسْأَلَة الْأَمر بعد الْحَظْر. إِن قُلْنَا: يسْتَمر على الْوُجُوب فَهُنَا يسْتَمر على التَّحْرِيم من بَاب أولى، وَإِن قُلْنَا هُنَاكَ قرينَة فَهُنَا طَرِيقَانِ: أَحدهمَا: الْقطع بِعَدَمِ كَون الْوُجُوب السَّابِق قرينَة صارفة عَن التَّحْرِيم. وَالثَّانِي: طرد مَا يُمكن طرده من خلاف الْأَمر كالقول بِأَنَّهُ للْإِبَاحَة. وَمِنْهُم من قَالَ هُنَا: إِنَّه للكراهة، وَمِنْهُم من قَالَ: لدفع الْوُجُوب فَيكون نسخا، وَيعود الْأَمر إِلَى مَا كَانَ قبله. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2259 (قَوْله: فصل) {الْأَمر بِعبَادة فِي وَقت مُقَدّر إِذا فَاتَ عَنهُ فالقضاء بِالْأَمر الأول} فِي الْأَشْهر. اخْتَارَهُ {القَاضِي، والحلواني، والموفق، وَابْن حمدَان} ، والطوفي {وَغَيرهم} . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه " فِي بَاب الْحيض: يمْنَع الْحيض الصَّوْم إِجْمَاعًا، وتقتضيه إِجْمَاعًا هِيَ وكل مَعْذُور بِالْأَمر السَّابِق، لَا بِأَمْر جَدِيد فِي الْأَشْهر. وَاخْتَارَ أَبُو الْخطاب وَابْن عقيل وَالْمجد وَالْأَكْثَر من الْفُقَهَاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2260 والمتكلمين، مِنْهُم أَكثر الشَّافِعِيَّة والمعتزلة وَبَعض الْحَنَفِيَّة. قَالَ الْبَاجِيّ من الْمَالِكِيَّة: وَهُوَ الصَّحِيح. وَنَقله عَن ابْن الباقلاني، وَابْن خويز منداد أَنه بِأَمْر جَدِيد. وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث، حَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن صَاحب " التَّقْوِيم " أَنه يجب بِالْقِيَاسِ على الْعِبَادَات الْفَائِتَة الَّتِي دلّ الدَّلِيل على وجوب قَضَائهَا، وَالْجَامِع بَينهمَا اسْتِدْرَاك مصلحَة الْفَائِت. وَحَاصِله: أَن مَا لم ينْقل فِيهِ أَمر بِالْقضَاءِ يكون مَأْمُورا قِيَاسا لَا بِالْأَمر الأول وَلَا بِأَمْر جَدِيد. وَنقل مَعْنَاهُ عَن أبي زيد الدبوسي، وَأوجب أَكثر الْحَنَفِيَّة قَضَاء الْمَنْذُور بِالْقِيَاسِ على الْمَفْرُوض، نَقله ابْن مُفْلِح فِي أُصُوله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2261 فَائِدَة: الْأَمر الْجَدِيد إِجْمَاع، أَو نَص، أَو قِيَاس جلي احْتمل مَجِيئه. قَوْله: {وَإِن لم يُقيد بِوَقْت - وَقُلْنَا بالفورية -} وَفعله بعده، {فالقضاء بِالْأَمر الأول عِنْد أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر} ، مِنْهُم: أَكثر الْمَالِكِيَّة، والرازي الْحَنَفِيّ. {قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: الْإِجْمَاع أَنه مؤد لَا قَاض، وَعند جمَاعَة كالمؤقت} ، مِنْهُم: القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني، وَأَبُو الْفرج الْمَالِكِي، والكرخي وَغَيره من الْحَنَفِيَّة. وَإِن قُلْنَا الْأَمر للتراخي فَلَيْسَ بِقَضَاء قطعا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2262 (قَوْله: {فصل} ) {الْأَمر بالشَّيْء لَيْسَ أمرا عندنَا، وَعند الْأَكْثَر} ، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعمر عَن ابْنه عبد الله: " مره فَلْيُرَاجِعهَا "، وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " مُرُوهُمْ بهَا لسبع "، {وَأمر أهلك بِالصَّلَاةِ} [طه: 132] . وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ أمرا لَكَانَ قَول الْقَائِل: مر عَبدك، تَعَديا وتناقضا لقَوْله للْعَبد: لَا تفعل. {وَخَالف بَعضهم} ، مِنْهُم الْعَبدَرِي، وَابْن الْحَاج، وَقَالا: هُوَ أَمر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2263 حَقِيقَة، لُغَة أَو شرعا، وَقَالا: فهم ذَلِك من أَمر الله وَرَسُوله، وَمن قَول الْملك لنوابه: قُولُوا لزيد قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ مبلغ. قَالَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مره فَلْيُرَاجِعهَا " دَلِيل على أَن الْأَمر بِالْأَمر أَمر. قُلْنَا: لِأَنَّهُ مبلغ لَا آمُر. قَوْله: { {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة} [التَّوْبَة: 103] لَيْسَ أمرا لَهُم بالإعطاء} على {الصَّحِيح} . وَقَالَ ابْن حمدَان: مِمَّا يلْحق بِالْمَسْأَلَة الْمُتَقَدّمَة ويشبهها هَذِه الْمَسْأَلَة، فَإِن الْأَمر بِالْأَخْذِ يتَوَقَّف على إعطائهم ذَلِك، فَهَل يكون أمرا بالإعطاء أم لَا؟ فِيهِ خلاف. فَقَالَ ابْن حمدَان وَقَبله الْقشيرِي: هُوَ أَمر بالإعطاء. قَالَ بعض الْفُقَهَاء: يجب عَلَيْهِ الْإِعْطَاء من حَيْثُ إِن الْأَمر بِالْأَخْذِ يتَوَقَّف عَلَيْهِ فَيجب من حَيْثُ كَونه مُقَدّمَة الْوَاجِب كالطهارة للصَّلَاة، وَإِن اخْتلف الْفَاعِل هُنَا فَيكون كالأمر لَهُم ابْتِدَاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2264 وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني: يجب الْإِعْطَاء لَا بِهَذَا الطَّرِيق بل بِالْإِجْمَاع؛ لِأَنَّهُ إِذا أوجب عَلَيْهِ الْأَخْذ قيل لَهُ: مر بالإعطاء، وامتثال أمره وَاجِب. قَوْله: {وَالْأَمر بِالصّفةِ أَمر بالموصوف نصا} . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل تبعا للمجد بن تَيْمِية فِي " المسودة ": إِذا ورد الْأَمر بهيئة أَو صفة لفعل، وَدلّ الدَّلِيل على استحبابها سَاغَ التَّمَسُّك بِهِ على وجوب أصل الْفِعْل، لتَضَمّنه الْأَمر بِهِ؛ لِأَن مُقْتَضَاهُ وجوبهما، فَإِذا خُولِفَ فِي الصَّرِيح بَقِي المتضمن على أصل الِاقْتِضَاء. ذكره أَصْحَابنَا، وَنَصّ عَلَيْهِ إمامنا حَيْثُ تمسك على وجوب الِاسْتِنْشَاق بِالْأَمر بالمبالغة خلافًا ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2265 للحنفية بِأَنَّهُ لَا يبْقى دَلِيلا على وجوب الأَصْل، حَكَاهُ الْجِرْجَانِيّ. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَحَقِيقَة الْمَسْأَلَة أَن مُخَالفَة الظَّاهِر فِي لفظ الْخطاب لَا تَقْتَضِي مُخَالفَة الظَّاهِر فِي فحواه، وَهُوَ يشبه نسخ اللَّفْظ، هَل يكون نسخا للفحوى؟ هَكَذَا يَجِيء فِي جَمِيع دلالات الْتِزَام، وَقَول الْمُخَالف مُتَوَجّه، وسرها أَنه هَل هُوَ بِمَنْزِلَة أَمريْن، أَو أَمر بفعلين، أَو أَمر بِفعل وَاحِد ولوازمه جَاءَت ضَرُورَة، وَهُوَ يستمد من الْأَمر بالشَّيْء هَل هُوَ نهي عَن أضداده، انْتهى. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ: الْأَمر بِالصّفةِ أَمر بالموصوف ويقتضيه كالأمر بالطمأنينة فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود يكون أمرا بهما. قَالَ: وغلطت الْحَنَفِيَّة؛ حَيْثُ استدلوا على وجوب التَّلْبِيَة فِي الْإِحْرَام بِمَا رُوِيَ أَن جِبْرِيل نزل على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: " مر أَصْحَابك أَن يرفعوا أَصْوَاتهم بِالتَّلْبِيَةِ " فَجعلُوا النّدب إِلَى الصّفة وَهُوَ رفع الصَّوْت بهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2266 دَلِيلا على وُجُوبهَا. أَي: فَكيف يكون الْأَمر بِالصّفةِ للنَّدْب، وَهُوَ يتَضَمَّن الْأَمر بالموصوف إِيجَابا؟ قيل: قد نقل غَيره عَن الْحَنَفِيَّة عكس ذَلِك، وَنقل بعض الْحَنَابِلَة ذَلِك عَن أَحْمد وَأَصْحَابه؛ لِأَن الْأَمر بهَا لما كَانَ أمرا بالموصوف كَانَ ظَاهره الْوُجُوب فيهمَا، فَلَمَّا دلّ الدَّلِيل على صرف الْأَمر بِالصّفةِ عَن الْوُجُوب إِلَى النّدب بَقِي الْأَمر بالموصوف على وُجُوبه. قَالَ: وَقد تمسك بِهِ أَحْمد فِي وجوب الِاسْتِنْشَاق بِالْأَمر بالمبالغة. {وَيَأْتِي بَقَاء التَّكْلِيف بِلَا غَايَة فِي} أثْنَاء {النّسخ} ، فَإِن بَعضهم يذكر الْمَسْأَلَة هُنَا، وَبَعْضهمْ هُنَاكَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2267 (قَوْله: {فصل} ) {الْأَمر الْمُطلق بِبيع يتَنَاوَلهُ وَلَو بِغَبن فَاحش، وَيصِح العقد، وَيضمن وَلَو النَّقْص عِنْد أَصْحَابنَا} . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": إِذا أطلق الْأَمر، كَقَوْلِه لوَكِيله: بِعْ كَذَا، فَعِنْدَ أَصْحَابنَا تنَاول البيع بِغَبن فَاحش وَاعْتبر ثمن الْمثل للْعُرْف وَالِاحْتِيَاط للْمُوكل. وَفرقُوا أَيْضا بَينه وَبَين أمره - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - فِي اعْتِبَار إِطْلَاقه بالتعدية بتعليله بِخِلَاف الْمُوكل، ثمَّ هَل يَصح العقد وَيضمن الْوَكِيل النَّقْص أم لَا، كَقَوْل الْمَالِكِيَّة وَالشَّافِعِيَّة؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد، {وَعند الْحَنَفِيَّة لَا يعْتَبر ثمن الْمثل واعتبروه فِي} الْوَكِيل فِي {الشِّرَاء. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة: الْأَمر بالماهية الْكُلية إِذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2268 أَتَى بمسماها امتثل، وَلم يتَنَاوَل اللَّفْظ الجزئيات وَلم ينفها، فَهِيَ مِمَّا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ. وَجَبت عقلا لَا قصدا} . أَي: بِالْقَصْدِ الأول، بل بِالثَّانِي. وَاخْتَارَ صَاحب " الْمَحْصُول " أَن {الْمَطْلُوب بِالْأَمر} نفس {الْمَاهِيّة الْكُلية فَالْأَمْر بِالْبيعِ لَيْسَ أمرا بِغَبن فَاحش، وَلَا ثمن الْمثل} ؛ لتَعَلُّقه بِقدر مُشْتَرك، وَهُوَ غير مُسْتَلْزم لكل مِنْهُمَا، وَالْأَمر بالأعم لَيْسَ أمرا بالأخص، وَأَنه لَا يمتثل إِلَّا بِالْأَمر بِمعين. وَذكر بَعضهم الِاتِّفَاق على بُطْلَانه، {وَقَالَ الْآمِدِيّ، وَغَيره: الْمَطْلُوب فعل مُمكن مُطَابق للماهية الْمُشْتَركَة} ، وَأَنه لَو سلم تعلقه بِقدر مُشْتَرك فَأتى بِبَعْض الجزئيات فقد أَتَى بمسماه. وَجه هَذَا أَن مَاهِيَّة الْفِعْل الْمُطلق كلي؛ لاشْتِرَاكهمَا بَين كثيرين فيستحيل وجودهَا خَارِجا وَإِلَّا لتشخص، فَيكون كليا وجزئيا مَعًا، وَهُوَ محَال فَلم يكن مَطْلُوبا بِالْأَمر وَإِلَّا لَكَانَ تكليفا بالمحال. رد: الْمَاهِيّة بِشَرْط عدم التشخيص وَيُسمى الْمُجَرّد، وبشرط لَا شَيْء، لَا تُوجد خَارِجا. قَالَ بعض أَصْحَابنَا، وَغَيرهم: وَلَا ذهنا، وبشرط عدم التَّقْيِيد الْخَارِجِي تُوجد ذهنا، وَمن حَيْثُ هِيَ من غير اعْتِبَار تشخيص أَولا يُسمى الْمُطلق والماهية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2269 لَا بِشَرْط شَيْء يُوجد خَارِجا جُزْء المشخص، فَمن حَيْثُ هِيَ لَا تَقْتَضِي وحدة، وَلَو اقْتَضَت تعددا امْتنع عرُوض التشخيص لَهَا، وَلِهَذَا قيل: لكل شَيْء حَقِيقَة هُوَ بهَا، هُوَ: فَمَا دلّ عَلَيْهِ الْمُطلق، وَعَلَيْهَا مَعَ وحدة مُعينَة الْمعرفَة، وَإِلَّا فالنكرة وَعَلَيْهَا مَعَ وحدات مَعْدُودَة الْعدَد، وَمَعَ كل جزئياتها الْعَام. وَجه الثَّانِي: الْفِعْل مُطلق والجزئي مُقَيّد بالمشخص فَلَيْسَ بمطلوب، فالمطلوب الْفِعْل الْمُشْتَرك. رد باستحالته بِمَا سبق. ورد: الْمَاهِيّة بِقَيْد الِاشْتِرَاك لَيست مَطْلُوبَة من حَيْثُ معروضة لَهُ، وَهِي مَوْجُودَة خَارِجا، انْتهى كَلَام ابْن مُفْلِح. لما ذكر ابْن قَاضِي الْجَبَل الْمَسْأَلَة، وَذكر نَص مَا ذكره ابْن مُفْلِح، قَالَ بعد ذَلِك: تَنْبِيه، هَذَا فَرد من قَاعِدَة عَامَّة، وَهِي الدَّال على الْأَعَمّ غير دَال على الْأَخَص، فَإِذا قُلْنَا: جسم، لَا يفهم أَنه نَام، وَإِذا قُلْنَا: نَام، لَا يفهم أَنه حَيَوَان، وَإِذا قُلْنَا: حَيَوَان، لَا يفهم أَنه إِنْسَان، وَإِذا قُلْنَا: إِنْسَان لَا يفهم أَنه زيد، فَإِن قُلْنَا: إِن الْكُلِّي قد يخص نَوعه فِي شخصه: كانحصار الشَّمْس فِي فَرد مِنْهَا، وَكَذَلِكَ الْقَمَر، وَكَذَلِكَ جَمِيع مُلُوك الأقاليم وقضاة الْأُصُول تَنْحَصِر أنواعهم فِي أشخاصهم، فَإِذا قلت: صَاحب مصر، إِنَّمَا ينْصَرف الذِّهْن إِلَى الْملك الْحَاضِر فِي وَقت الصِّيغَة، فَيكون الْآمِر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2270 بِتِلْكَ الْمَاهِيّة يتَنَاوَل الجزئي فِي جَمِيع هَذِه الصُّور، قلت: لم يَأْتِ ذَلِك من قبل اللَّفْظ، بل من جِهَة أَن الْوَاقِع كَذَلِك. ومقصود الْمَسْأَلَة إِنَّمَا هُوَ دلَالَة اللَّفْظ من حَيْثُ هُوَ لفظ. انْتهى كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل. قَوْله: فصل {الْأَمْرَانِ المتعاقبان بِلَا عطف إِن اخْتلفَا عمل بهما إِجْمَاعًا} ، كَقَوْلِك: صل، صم، زك، حج، وَنَحْوهَا على الِاخْتِلَاف فِي مُقْتَضى الْأَمر، كَمَا سبق. قَوْله: {وَإِن تماثلا وَلم يقبل تَكْرَارا} ، كصم يَوْم الْجُمُعَة، صم يَوْم الْجُمُعَة، واقتل زيدا، اقْتُل زيدا، واعتق سالما، اعْتِقْ سالما، واجلد الزناة، اجلد الزناة، وَنَحْوه: {أَو قبل} التّكْرَار {ومنعت الْعَادة} مِنْهُ، كاسقني مَاء، اسْقِنِي مَاء، {أَو} كَانَ {الثَّانِي مُعَرفا} يَعْنِي يقبل التّكْرَار، وَلَكِن الثَّانِي معرف، كصل رَكْعَتَيْنِ، صل الرَّكْعَتَيْنِ، أَو كَانَ بَين الْآمِر والمأمور عهد ذهني يَعْنِي إِذا قبل التّكْرَار، وَلَكِن بَين الْأَمر والمأمور عهد ذهني يمْنَع التّكْرَار - قَالَه الْبرمَاوِيّ - {فَالثَّانِي مُؤَكد} للْأولِ {إِجْمَاعًا} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2271 قَوْله: {وَإِن لم تمنع} الْعَادة، {وَلم يتعرف} وَلَا كَانَ بَينهمَا عهد ذهني، {كصم صم} ، صل صل، أَو أعْط زيدا درهما، أعْط زيدا درهما وَنَحْو ذَلِك، {فَالثَّانِي تأسيس} لَا تَأْكِيد {عِنْد القَاضِي وَابْن عقيل، وَغَيرهمَا} ، وَذكره القَاضِي وَغَيره عَن الْحَنَفِيَّة. وَقَالَهُ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " فِي مَسْأَلَة الْمُطلق والمقيد كبعد امْتِثَال الأول، {قَالَ أَبُو الْمجد: وَهُوَ الْأَشْبَه بمذهبنا} كَقَوْلِنَا فِيمَن قَالَ لزوجته: أَنْت طَالِق، أَنْت طَالِق، تلْزمهُ طَلْقَتَانِ. وَذكره ابْن برهَان عَن الْفُقَهَاء قاطبة، وَقَالَهُ عبد الْجَبَّار والجبائي، وَابْن الباقلاني، والآمدي، وَغَيرهم؛ لِأَن الأَصْل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2272 التأسيس. وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": الثَّانِي تَأْكِيد لَا تأسيس؛ لِئَلَّا يجب فعل بِالشَّكِّ وَلَا تَرْجِيح. وَمنع أَن تغاير اللَّفْظ يُفِيد تغاير الْمَعْنى، ثمَّ سلمه والتأكيد فَائِدَة، قَالَ ابْن مُفْلِح، كَذَا قَالَ. وَقَالَهُ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، وَاحْتج بِالْيَمِينِ وَالنّذر. وَقَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَذكر أَبُو مُحَمَّد التَّمِيمِي عَن أَحْمد الثَّانِي تَأْكِيد، وَاخْتلف أَصْحَابه. وللشافعية كالقولين وَقَول ثَالِث بِالْوَقْفِ، وَقَالَهُ ابْن فورك، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ وَهُوَ الصَّحِيح عَن الباقلاني؛ لمُخَالفَته الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة، فَلَا يحمل على التَّأْكِيد وَلَا على التّكْرَار إِلَّا بِدَلِيل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2273 وعورض: يلْزم من الْوَقْف مُخَالفَة مُقْتَضى الْأَمر، فَيسلم التَّرْجِيح بالتأسيس. قَوْله: {وَإِن كَانَ الثَّانِي مَعْطُوفًا وَاخْتلفَا عمل بهما} ، مَا تقدم من الْأَحْكَام، والتقاسيم فِيمَا إِذا كَانَ الْأَمْرَانِ بِلَا عطف. وَمَا ذكر هُنَا إِذا كَانَ مَعْطُوفًا على الأول وَاخْتلفَا عمل بهما، كصل، وصم، وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة، وَنَحْوهمَا. {وَإِن تماثلا وَلم يقبل تَكْرَارا} إِذا تماثلا، فَتَارَة يقبل الْعَطف التّكْرَار وَتارَة لَا يقبل، فَإِن لم يقبل التّكْرَار - وَهِي الْمَسْأَلَة الْمَذْكُورَة فِي الْكتاب - فَتَارَة لَا يقبله حسا، كاقتل زيدا واقتل زيدا، وَتارَة لَا يقبله حكما: كأعتق سالما، وَأعْتق سالما، فَهُوَ تَأْكِيد بِلَا خلاف. {وَإِن قبل} التّكْرَار {وَلم تمنع عَادَة وَلَا الثَّانِي معرف فالأقوال الثَّلَاثَة} الْمُتَقَدّمَة تَأتي فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": مَعَ تَرْجِيح آخر وَهُوَ الْعَطف، انْتهى. قَوْله: {وَإِن منعت عَادَة تَعَارضا والأقوال الثَّلَاثَة} فِيهَا. {وَجزم الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين هُنَا {بالتكرار} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2274 (بَاب النَّهْي) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2275 فارغة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2276 فارغة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2277 فارغة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2278 (قَوْله: {بَاب النَّهْي} ) {يُقَابل الْأَمر فِي حَده وصيغته ومسائله وَغير ذَلِك} . لَا شكّ أَن النَّهْي مُقَابل الْأَمر فَكل مَا قيل فِي حد الْأَمر وَأَن لَهُ صِيغَة، وَمَا فِي مسَائِله من مُخْتَار ومزيف يكون مثله فِي النَّهْي. وَمن الْعلمَاء من فرق بَين النَّهْي وَالْأَمر، فَحمل النَّهْي على التَّحْرِيم وَالْأَمر على النّدب، وخرجه أَبُو يعلى رِوَايَة ذكره ابْن قَاضِي الْجَبَل. قَوْله: {وَترد} - أَي صِيغَة النَّهْي - {للتَّحْرِيم} . ترد صِيغَة النَّهْي لمعان ذكرنَا هُنَا غالبها: أَحدهَا: التَّحْرِيم، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} [النِّسَاء: 29] ، {وَلَا تقربُوا الزِّنَا} [الْإِسْرَاء: 32] ، {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} [النِّسَاء: 29] وَنَحْوه، فَهُوَ حَقِيقَة فِيهِ، وَمَا عداهُ مجَاز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2279 الثَّانِي: ترد {للكراهة} ، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {" لَا يمسكن} أحدكُم {ذكره وَهُوَ يَبُول "} ، مثله الْمحلي وَغَيره، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون} [الْبَقَرَة: 267] . الثَّالِث: {التحقير} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: { {لَا تَمُدَّن عَيْنَيْك} إِلَى مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم} [الْحجر: 88] . الرَّابِع: {بَيَان الْعَاقِبَة} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: { {وَلَا تحسبن الله غافلا} عَمَّا يعْمل الظَّالِمُونَ} [إِبْرَاهِيم: 42] . الْخَامِس: {الدُّعَاء} ، كَقَوْلِه: {رَبنَا {لَا تُؤَاخِذنَا} إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا رَبنَا وَلَا تحمل علينا إصرا كَمَا حَملته على الَّذين من قبلنَا} [الْبَقَرَة: 286] ، {رَبنَا لَا تزغ قُلُوبنَا بعد إِذْ هديتنا} [آل عمرَان: 8] . السَّادِس: {الْيَأْس} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: { {لَا تعتذروا} قد كَفرْتُمْ بعد إيمَانكُمْ} [التَّوْبَة: 66] ، وَقد يُقَال إِنَّه رَاجع إِلَى الاحتقار فَلهَذَا مثله بَعضهم بِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2280 السَّابِع: {الْإِرْشَاد} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا {لَا تسألوا عَن أَشْيَاء} إِن تبد لكم تَسُؤْكُمْ} [الْمَائِدَة: 101] وَالْمرَاد أَن الدّلَالَة على الْأَحْوَط ترك ذَلِك. قيل: وَفِيه نظر، بل هِيَ للتَّحْرِيم، وَالْأَظْهَر الأول؛ لِأَن الْأَشْيَاء الَّذِي يسْأَل عَنْهَا السَّائِل لَا يعرف حِين السُّؤَال، هَل تُؤدِّي إِلَى مَحْذُور أم لَا؟ وَلَا تَحْرِيم إِلَّا بالتحقق. الثَّامِن: الْأَدَب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تنسوا الْفضل بَيْنكُم} [الْبَقَرَة: 237] ، وَلَكِن هَذَا رَاجع للكراهة؛ إِذْ المُرَاد: لَا تتعاطوا أَسبَاب النسْيَان، فَإِن نفس النسْيَان لَا يدْخل تَحت الْقُدْرَة حَتَّى ينْهَى عَنهُ. وَبَعْضهمْ يعد من ذَلِك الْخَبَر، وَلَيْسَ للْخَبَر مِثَال صَحِيح، وَمثله بَعضهم بقوله تَعَالَى: {لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} [الْوَاقِعَة: 79] ، وَهَذَا الْمِثَال إِنَّمَا هُوَ للْخَبَر بِمَعْنى النَّهْي لَا للنَّهْي بِمَعْنى الْخَبَر، وَهُوَ المُرَاد هُنَا فَليعلم. التَّاسِع: {التهديد} ، كَقَوْلِك لمن تهدده: أَنْت {لَا تمتثل أَمْرِي} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2281 الْعَاشِر: {إِبَاحَة التّرْك، كالنهي بعد الْإِيجَاب} على قَول تقدم فِي أَن النَّهْي بعد الْأَمر للْإِبَاحَة، وَالصَّحِيح خِلَافه. الْحَادِي عشر: {للالتماس، كَقَوْلِك لنظيرك: لَا تفعل} ، عِنْد من يَقُول إِن صِيغَة الْأَمر لَهَا ثَلَاث صِفَات: أَعلَى، وَنَظِير، وأدون، وَكَذَلِكَ النَّهْي. الثَّانِي عشر: {التصبر} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: { {لَا تحزن} إِن الله مَعنا} [التَّوْبَة: 40] . الثَّالِث عشر: {إِيقَاع الْأَمْن} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: { {لَا تخف} إِنَّك من الْآمنينَ} ، [الْقَصَص: 31] ، {لَا تخف نجوت من الْقَوْم الظَّالِمين} [الْقَصَص: 25] ، وَلَكِن قيل: إِنَّه رَاجع إِلَى الْخَبَر كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْت لَا تخَاف. الرَّابِع عشر: التحذير، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ} [آل عمرَان: 102] . الْخَامِس عشر: {التَّسْوِيَة} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: { {فَاصْبِرُوا أَو لَا تصبروا} } [الطّور: 16] ، وَهَذَا أَنا قلته وَلم أر من ذكره، لكِنهمْ لما ذكرُوا أَن صِيغَة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2282 الْأَمر ترد للتسوية ومثلوا بِهَذِهِ الْآيَة، وَالْآيَة قد تَضَمَّنت الْأَمر وَالنَّهْي وَهُوَ وَاضح، ثمَّ رَأَيْت الْبرمَاوِيّ ذكره وَقَالَ: لم أر من ذكره، وَهُوَ أولى بِالذكر من كثير مِمَّا ذَكرُوهُ، فحمدت الله تَعَالَى على ذَلِك. قَوْله: {فَإِن تجردت} صِيغَة النَّهْي عَن الْمعَانِي الْمَذْكُورَة والقرائن، اقْتَضَت التَّحْرِيم على الصَّحِيح عِنْد الْعلمَاء من الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَغَيرهم. وَقيل: تَقْتَضِي صيغته الْكَرَاهَة، وَبَالغ الإِمَام الشَّافِعِي فِي إِنْكَار ذَلِك، ذكره الْجُوَيْنِيّ. {وَقيل: بَينهمَا} - أَي بَين التَّحْرِيم وَالْكَرَاهَة - فَيكون مُجملا، قَالَه بَعضهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2283 {وَقيل:} يكون {للقدر الْمُشْتَرك} بَينهمَا، أَعنِي بَين التَّحْرِيم وَالْكَرَاهَة، وَهُوَ مُطلق التّرْك. {وَقيل: لأَحَدهمَا لَا بِعَيْنِه} ، قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة " عَن هَذَا القَوْل: وَالْقَوْل الثَّالِث: قَالَ بَعضهم يكون مُجملا على هذَيْن الْقَوْلَيْنِ، وَقد يُقَال عَن هذَيْن الْقَوْلَيْنِ: يرجع إِلَى القَوْل بِالتَّحْرِيمِ؛ لِأَن ترك الْحَرَام وَاجِب وَهَذَا اللَّفْظ مُشْتَرك بَين الْحَرَام وَغَيره فَيجب الْكَفّ، فَإِنَّهُ من بَاب مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ، وَالله أعلم. {وَقيل: للْإِبَاحَة} ، ذكره الْقَرَافِيّ، وَهُوَ بعيد جدا. {وَقيل: بِالْوَقْفِ} فِي هَذِه الْمعَانِي لتعارض الْأَدِلَّة والاحتمالات، وَكثير من الْعلمَاء يجْعَلُونَ الْأَقْوَال الَّتِي فِي الْأَمر الْمُجَرّد فِي النَّهْي الَّذِي يُمكن تصَوره فِيهِ. قَالَ أَبُو زيد فِي " التَّقْوِيم ": لم أَقف على الْخلاف فِي حكم النَّهْي كَمَا فِي الْأَمر، فَيحْتَمل أَنه على الْخلاف فِيهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2284 وَقَالَ الْبَزْدَوِيّ: قَالَ الْمُعْتَزلَة بالندب فِي الْأَمر وبالتحريم فِي النَّهْي؛ لِأَن الْأَمر يَقْتَضِي حسن الْمَأْمُور بِهِ وَالْوَاجِب وَالْمَنْدُوب داخلان فِي اقْتِضَاء الْحسن بِخِلَاف النَّهْي، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي قبح الْمنْهِي عَنهُ، والانتهاء عَن الْقَبِيح وَاجِب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2285 (قَوْله: {فصل} ) {أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر مُطلق النَّهْي عَن الشَّيْء لعَينه يَقْتَضِي فَسَاده} ، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمُعْتَمد عَلَيْهِ من أَقْوَال الْعلمَاء من فُقَهَاء الْحَنَفِيَّة، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، والحنابلة، والظاهرية، وَبَعض الْمُتَكَلِّمين، وَغَيرهم. قَالَ الْخطابِيّ: هَذَا مَذْهَب الْعلمَاء فِي قديم الدَّهْر وَحَدِيثه، كَحَدِيث عَائِشَة الْمُتَّفق عَلَيْهِ: " من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2286 ومثلوا للنَّهْي عَن الشَّيْء لعَينه، أَي: لذاته كالكفر، وَالْكذب، وَالظُّلم، والجور، وَنَحْوهَا من المستقبح لذاته عقلا عِنْد من يرى ذَلِك. وَقَالَ الْغَزالِيّ، والرازي، وَأَبُو الْحُسَيْن وَجمع: مُطلق النَّهْي يَقْتَضِي الْفساد فِي الْعِبَادَات دون غَيرهَا، لجَوَاز لَا تفعل، فَإِن فعلت ترَتّب الحكم، نَحْو: لَا تطَأ جَارِيَة ولدك، فَإِن فعلت صَارَت أم ولد لَك، وَلَا تطلق فِي الْحيض، فَإِن فعلت وَقع، وَلَا تغسل الثَّوْب بِمَاء مَغْصُوب ويطهر إِن فعلت. وَالْفرق بَينهمَا من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الْعِبَادَة قربَة، وارتكاب الْمنْهِي عَنهُ مَعْصِيّة، فيتناقضان بِخِلَاف الْمُعَامَلَات. الثَّانِي: أَن فَسَاد الْمُعَامَلَات بِالنَّهْي يضر بِالنَّاسِ لقطع مَعَايشهمْ أَو تقليلها فَصحت؛ رِعَايَة لمصلحتهم وَعَلَيْهِم إِثْم ارْتِكَاب النَّهْي بِخِلَاف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2287 الْعِبَادَات، فَإِنَّهَا حق الله تَعَالَى فتعطيلها لَا يضر بِهِ، بل من أوقعهَا بِسَبَب صَحِيح أطَاع وَمن لَا، عصي، وَأمر الْجمع إِلَيْهِ فِي الْآخِرَة. {و} قَالَ {بعض الْحَنَفِيَّة، والأشعرية} ، وَعَامة الْمُعْتَزلَة والمتكلمين: لَا يَقْتَضِي فَسَادًا وَلَا صِحَة. وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن محققي أَصْحَابهم، كالقفال وَالْغَزالِيّ، وَحَكَاهُ عَن جُمْهُور الْمُتَكَلِّمين، وَحَكَاهُ الكيا عَن أَكثر الْأُصُولِيِّينَ، وَحَكَاهُ الرَّازِيّ عَن أَكثر الْفُقَهَاء. وَقيل: يَقْتَضِي الصِّحَّة، حُكيَ ذَلِك عَن أبي حنيفَة، وَمُحَمّد بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2288 الْحسن؛ لدلالته على تصور الْمنْهِي عَنهُ. فعلى الْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - اقتضاؤه للْفَسَاد من جِهَة الشَّرْع لَا غير، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قَالَ الْجُمْهُور اقتضاؤه الْفساد من جِهَة الشَّرْع بعرف شَرْعِي، انْتهى؛ لِأَن النَّهْي عَنهُ فِي قَوْلنَا: لَا يَصح صَوْم يَوْم النَّحْر: هُوَ الصَّوْم الشَّرْعِيّ قطعا، فَلَا بُد وَأَن تكون الدّلَالَة شَرْعِيَّة، إِذْ أهل اللُّغَة لَا يفهمون الْمَعْنى الشَّرْعِيّ، فَكيف يدل اللَّفْظ عَلَيْهِ. وَقيل: اقتضاؤه للْفَسَاد من جِهَة اللُّغَة، وَقَالَهُ كثير من أَصْحَابنَا وَغَيرهم. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل للقائل بفساده لُغَة احتجاج الصِّحَّة: قُلْنَا: نمْنَع فهمهم الْفساد لُغَة، بل شرعا. قَالُوا: يَقْتَضِي الْأَمر الصِّحَّة، وَالنَّهْي نقيضه فمقتضاه الْفساد لوُجُوب التقابل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2289 قُلْنَا: إِذا أُرِيد لُغَة فَمَمْنُوع، وَشرعا فَمُسلم، وَلَو سلم لُغَة فَلَا نسلم لُزُوم الِاخْتِلَاف فِي المتقابلات اشتراكهما فِي لَازم وَاحِد، وَلَو سلم فَإِنَّمَا يلْزم أَن لَا يكون النَّهْي مقتضيا للصِّحَّة لَا أَن يَقْتَضِي الْفساد، انْتهى. وَقيل: اقتضاؤه للْفَسَاد من جِهَة الْمَعْنى، حَكَاهُ طَائِفَة من الْحَنَفِيَّة؛ لِأَن النَّهْي دلّ على قبح الْمنْهِي عَنهُ، وَهُوَ مضاد للمشروعية، قَالَ: وَهُوَ أولى. قَوْلنَا: مُطلق النَّهْي خرج بِهِ مَا اقْترن بِهِ مَا يدل على الْفساد أَو الصِّحَّة فَلَيْسَ من مَحل الْخلاف فِي شَيْء. احْتج للْأولِ - وَهُوَ الصَّحِيح من مَذْهَبنَا وَمذهب الْعلمَاء - بِالْكتاب وَالسّنة، وَالِاعْتِبَار، ومناقضة الْخُصُوم، أما الْإِجْمَاع فَلم يزل الْعلمَاء يستدلون على الْفساد بِالنَّهْي، كاحتجاج ابْن عمر بقوله تَعَالَى: (وَلَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2290 تنْكِحُوا المشركات} [الْبَقَرَة: 221] ، وكاستدلال الصَّحَابَة على فَسَاد عُقُود الرِّبَا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَبِيعُوا الذَّهَب إِلَّا مثلا بِمثل " الحَدِيث، ولنكاح الْمحرم بِالنَّهْي عَنهُ، وكبيع الطَّعَام قبل قَبضه وشاع وذاع من غير نَكِير. فَإِن قلت احتجاجهم إِنَّمَا هُوَ على التَّحْرِيم لَا على الْفساد، قلت: بل على كليهمَا، أَلا ترى إِلَى حَدِيث بيع الصاعين بالصاع، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أوه عين الرِّبَا " وَذَلِكَ بعد الْقَبْض فَأمر برده. وَأما الثَّانِي فَفِي " صَحِيح مُسلم ": أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد "، وَالرَّدّ إِذا أضيف إِلَى الْعِبَادَات اقْتضى عدم الِاعْتِدَاد، وَإِن أضيف إِلَى الْعُقُود اقْتضى الْفساد. فَإِن قيل: وَمَعْنَاهُ: لَيْسَ بمقبول، وَلَا طَاعَة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2291 قُلْنَا: الحَدِيث يَقْتَضِي رد ذَاته، فَإِذا لم يُمكن اقْتضى رد مُتَعَلّقه. فَإِن قيل: هُوَ من أَخْبَار الْآحَاد وَالْمَسْأَلَة من الْأُصُول. قيل: تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ، وَالْمَسْأَلَة من بَاب الْفُرُوع، فَيكون وجوده كَعَدَمِهِ. وَاحْتج الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ - بقول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور "، و " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي "، و " لَا صِيَام لمن لم يبيت الصّيام من اللَّيْل "، وَنَحْو ذَلِك. قَالَ: وَمَعْلُوم إِنَّه لم يرد بذلك نفي نفس الْفِعْل؛ لِأَن الْفِعْل مَوْجُود من حَيْثُ الْمُشَاهدَة، وَإِنَّمَا يُرَاد نفي حكمه، فَإِذا وجد الْفِعْل على الصّفة الْمنْهِي عَنْهَا لم يكن لَهُ حكم فوجوده كَعَدَمِهِ، وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يُؤثر إيجاده وَكَانَ الْفَرْض الأول على عَادَته. وَأما الثَّالِث - وَهُوَ الِاعْتِبَار - فَلِأَن النَّهْي يدل على تعلق مفْسدَة بالمنهي عَنهُ، أَو بِمَا يلازمه؛ لِأَن الشَّارِع حَكِيم لَا ينْهَى عَن الْمصَالح، وَفِي الْقَضَاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2292 بإفسادها إعدام لَهَا بأبلغ الطّرق؛ وَلِأَن النَّهْي عَنْهَا مَعَ ربط الحكم بهَا مفض إِلَى التَّنَاقُض فِي الْحِكْمَة؛ لِأَن نصبها سَببا يُمكن من التوسل، وَالنَّهْي منع من التوسل؛ وَلِأَن حكمهَا مَقْصُود الْآدَمِيّ ومتعلق غَرَضه، فتمكينه مِنْهُ حث على تعاطيه، وَالنَّهْي منع من التعاطي؛ لِأَنَّهُ لَو لم يفْسد الْمنْهِي عَنهُ لزم من نَفْيه، لكَونه مَطْلُوب التّرْك بِالنَّهْي حكمه للنَّهْي، وَمن ثُبُوته لكَون الْغَرَض جَوَاز التَّصَرُّف وَصِحَّته، حكم الصِّحَّة، وَذَلِكَ بَاطِل. أما الْمُلَازمَة فلاستحالة خلو الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة عَن الْحِكْمَة. وَأما بطلَان الثَّانِي فَلِأَن اجْتِمَاعهمَا يُؤَدِّي إِلَى خلو الحكم عَن الْحِكْمَة وَهُوَ خرق للْإِجْمَاع؛ لِأَن حِكْمَة النَّهْي إِمَّا أَن تكون راجحة على الصِّحَّة، أَو مرجوحة، أَو مُسَاوِيَة، لَا جَائِز أَن تكون مرجوحة، وَلَا مُسَاوِيَة؛ إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لامتنع النَّهْي فَلم يبْق إِلَّا أَن تكون راجحة على حكم الصِّحَّة، وَفِي رُجْحَان النَّهْي يمْتَنع الصِّحَّة. فَإِن قلت: التَّرْجِيح غَايَته أَن يُنَاسب نفي الصِّحَّة وَلَا يلْزم من ذَلِك نفي الْحِكْمَة إِلَّا بإيراد شَاهد بِالِاعْتِبَارِ، وَلَو ظهر كَانَ الْفساد لَازِما من الْقيَاس. قُلْنَا: الْقَضَاء بِالْفَسَادِ لعدم الصِّحَّة، فَلَا يفْتَقر إِلَى شَاهد الِاعْتِبَار؛ وَلِأَن فِي الشرعيات منهيات بَاطِلَة وَلَا مُسْتَند لَهَا إِلَّا أَن النَّهْي للْأَصْل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2293 وَأما المناقضة - وَهُوَ الرَّابِع - فلأنهم أبطلوا النِّكَاح فِي الْعدة، وَنِكَاح الْمحرم، والمحاقلة، والمزابنة، وَالْمُلَامَسَة، وَالْعقد على مَنْكُوحَة الْأَب؛ لقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آباؤكم من النِّسَاء} الْآيَة [النِّسَاء: 22] ، {وَلَا تنْكِحُوا المشركات} [الْبَقَرَة: 221] ، وَالصَّلَاة فِي الْمَكَان النَّجس وَالثَّوْب النَّجس، وَحَالَة كشف الْعَوْرَة، إِلَى غير ذَلِك، وَلَا مُسْتَند إِلَّا النَّهْي. قَالَ: لَو دلّ الْفساد لناقض التَّصْرِيح بِالصِّحَّةِ فِي قَوْله: نهيتك عَن فعل كَذَا، فَإِن فعلت صَحَّ. قُلْنَا: الْجَواب عَنهُ من أوجه: أَحدهَا: أَن ذَلِك لَهُ نقل. الثَّانِي: الْمَنْع من جَوَاز التَّصْرِيح بِالصِّحَّةِ لما ذكرنَا من حِكْمَة الْفساد ورجحانها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2294 الثَّالِث: لَو سلم فالتصريح بِخِلَاف الظَّاهِر لَا يُنَاقض، نَحْو: رَأَيْت أسدا يَرْمِي، قَالَ ذَلِك ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره. قَوْله: {وَكَذَا الْمنْهِي عَنهُ لوصفه عندنَا وَعند الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم} . الْمنْهِي عَنهُ أَقسَام: أَحدهَا: أَن يكون النَّهْي عَنهُ لعَينه كَمَا تقدم تمثيله. الثَّانِي: أَن يكون النَّهْي عَنهُ لخارج، لكنه لوصفه اللَّازِم لَهُ، وَهُوَ المُرَاد هُنَا، كالنهي عَن صَوْم يَوْم الْعِيد، وَأَيَّام التَّشْرِيق، وَعَن الرِّبَا لوصف الزِّيَادَة الْمُقَارن للْعقد اللَّازِم، وَلكَون الْعِيد وَأَيَّام التَّشْرِيق أَيَّام ضِيَافَة الله، وَهَذَا معنى لَازم لَهَا. لَكِن منع صَاحب " الْمُحَرر " أَن النَّهْي لم يعد إِلَى عين الْمنْهِي عَنهُ؛ لِأَن النَّص أَضَافَهُ إِلَى صَوْم هَذَا الْيَوْم كإضافة النَّهْي إِلَى صَلَاة حَائِض، ومحدث، انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2295 قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": كالنهي عَن نِكَاح الْكَافِر للمسلمة، وَعَن بيع العَبْد الْمُسلم من كَافِر، فَإِن ذَلِك يلْزم مِنْهُ إِثْبَات الْقيام والاستيلاء، والسبيل للْكَافِرِ على الْمُسلم، فَيبْطل لهَذَا الْوَصْف اللَّازِم لَهُ، انْتهى. {وَعند الْحَنَفِيَّة، وَأبي الْخطاب، يَقْتَضِي صِحَة الشَّيْء وَفَسَاد وَصفه} ، فَيدل على فَسَاد الْوَصْف لَا الْمَوْصُوف الْمنْهِي عَنهُ لكَونه مَشْرُوعا بِدُونِ الْوَصْف، وبنوا على ذَلِك لَو بَاعَ درهما بِدِرْهَمَيْنِ، ثمَّ طرحا الزِّيَادَة، فَإِنَّهُ يَصح العقد. قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره، عِنْد الْحَنَفِيَّة يَقْتَضِي صِحَة الشَّيْء وَفَسَاد وَصفه، فالمحرم عِنْدهم وُقُوع الصَّوْم فِي الْعِيد، لَا الْوَاقِع، [فَهُوَ] حسن؛ لِأَنَّهُ صَوْم، قَبِيح لوُقُوعه فِي الْعِيد، فَهُوَ طَاعَة فَيصح النّذر بِهِ، وَوصف قبحه لَازم للْفِعْل لَا للاسم، وَلَا يلْزم بِالشُّرُوعِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2296 وَالْفساد فِي الصَّلَاة وَقت النَّهْي فِي وَصفه للنسبة إِلَى الشَّيْطَان، وَالْوَقْت سَبَب وظرف؛ فأثر نَقصه فِي نَقصهَا، فَلم يتأدبها الْكَامِل، وضمنت بِالشُّرُوعِ. وَوقت الصَّوْم معيار فَلم يضمن بِهِ عِنْد أبي حنيفَة، وَخَالفهُ صَاحِبَاه. وَإِذا بَاعَ بِخَمْر صَحَّ بِأَصْلِهِ، لَا وَصفه، وَلَو بَاعَ خمرًا بِعَبْد لم يَصح؛ لِأَن الثّمن تَابع غير مَقْصُود بِخِلَاف الْمُثمن. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالُوا: وَقيل: لأبي الْخطاب فِي " الِانْتِصَار " فِي نذر صَوْم يَوْم الْعِيد: نَهْيه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - عَن صَوْم الْعِيد يدل على الْفساد، فَقَالَ: هُوَ حجتنا؛ لِأَن النَّهْي عَمَّا لَا يكون محَال، كنهي [الْأَعْمَى] عَن النّظر، فَلَو لم يَصح لما نهى عَنهُ، انْتهى. {وَاخْتَارَ الطوفي} فِي " مُخْتَصره " أَن النَّهْي يَقْتَضِي {الصِّحَّة فِي وصف غير لَازم} ، فَقَالَ فِي " مُخْتَصره ": وَالْمُخْتَار أَن النَّهْي عَن الشَّيْء لذاته، أَو وصف لَازم لَهُ مُبْطل، ولخارج عَنهُ غير مُبْطل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2297 وَفِيه: لوصف غير لَازم تردد وَالْأولَى الصِّحَّة. فَاخْتَارَ الصِّحَّة فِي شَيْئَيْنِ: فِي وصف خَارج عَنهُ، وَفِي وصف غير لَازم، والبطلان فِي شَيْئَيْنِ: فِي الْمنْهِي عَنهُ لذاته، أَو لوصف لَازم لَهُ، فالشيء الْمنْهِي عَنهُ لذاته تَابع فِيهِ الْمَذْهَب. والجماهير كَمَا تقدم وَتقدم أمثلتهما، وَمِثَال النَّهْي عَن الْفِعْل لأمر خَارج عَنهُ لَا تعلق لَهُ بِهِ عقلا، كالنهي عَن الصَّلَاة فِي دَار؛ لِأَن فِيهَا صنما مَدْفُونا، أَو كَافِرًا مسجونا، أَو شرعا كالنهي عَن بيع الْجَوْز، وَالْبيض خشيَة أَن يقامر بِهِ، وَنَحْو ذَلِك. {وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: النَّهْي إِن أوجب حظرا أوجبه مَعَ النَّهْي عَن السَّبَب: كَطَلَاق الْحَائِض، وظهار} الذِّمِّيّ، محرمان موجبان للتَّحْرِيم. {وَنبهَ عَلَيْهِ أَبُو الْخطاب فِي مَسْأَلَة البيع الْفَاسِد لَا ينْقل الْملك. وَقَالَ الشَّيْخ الْمُوفق فِي " الْمُغنِي " لمن احْتج بِالنَّهْي عَن الْعُمْرَى والرقبى: النَّهْي إِنَّمَا يمْنَع صِحَّته مَا يُفِيد الْمنْهِي عَنهُ فَائِدَة فَإِن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2298 [كَانَت] صِحَّته ضَرَرا على مرتكبه، لم يمْنَع صِحَّته، كَطَلَاق الْحَائِض، والعمرى؛ لزوَال ملكه بِلَا عوض، انْتهى. إِذا علم ذَلِك فَوجه الأول مَا سبق، واستدلال الصَّحَابَة بِالنَّهْي عَن صَوْم الْعِيد وَغَيره من غير فرق، وَسلم الخالف الصَّلَاة بِلَا طَهَارَة. وَقَالَ ابْن مُفْلِح: وَفِي إِلْزَامه بيع الملاقيح، والمضامين وَنَحْوهمَا نظر، وَتقدم منع الْمجد. قَالُوا: وَأجِيب بِمَا سبق أَنه لَا يَقْتَضِي فَسَادًا وَيَقْتَضِي صِحَة غير الْعِبَادَة. قَالُوا: لَو دلّ لما صَحَّ طَلَاق حَائِض، وَالْحَد بِسَوْط غصب، وَذبح ملك غَيره. رد: ترك الظَّاهِر لدَلِيل، وَهُوَ خبر ابْن عمر فِي الطَّلَاق. وَقَالَ القَاضِي: تَغْلِيظًا عَلَيْهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2299 وَفِي الْحَد للْإِجْمَاع، قَالَه فِي " التَّمْهِيد "؛ لِئَلَّا يُزَاد الْحَد. وَيحل الْمَذْبُوح على الْأَصَح عندنَا للْخَبَر. وَتقدم كَلَام الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَصَاحب " الْمُغنِي ". قَوْله: {وَكَذَا النَّهْي لِمَعْنى فِي الْمنْهِي عَنهُ، كَبيع بعد نِدَاء الْجُمُعَة عِنْد أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه، والمالكية} ، والظاهرية، والجبائية، {وَابْن الْحَاجِب} ، وَغَيرهم. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي - وعزي هَذَا القَوْل إِلَى طوائف من الْفُقَهَاء: تقدم أَن الْمنْهِي عَنهُ أَقسَام: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2300 تَارَة يكون لذاته كَمَا مثلنَا بِهِ قبل، وَتارَة يكون لوصفه اللَّازِم لَهُ، وَتقدم، وَتارَة يكون لأمر خَارج غير لَازم كَالْبيع بعد نِدَاء الْجُمُعَة، وكالوضوء بِمَاء مَغْصُوب، فَإِن الْمنْهِي عَنهُ لأمر خَارج عَنهُ وَهُوَ الْغَصْب، يَنْفَكّ بِالْإِذْنِ من صَاحبه، أَو الْملك وَنَحْوه، فَهَذَا الصَّحِيح من الْمَذْهَب، إِنَّه كَالَّذي قبله وَعَلِيهِ كثير من الْعلمَاء كَمَا تقدم. {وَخَالف الطوفي} كَمَا تقدم عَنْهُم، {وَالْأَكْثَر} فِي ذَلِك فَقَالُوا: لَا يَقْتَضِي الْفساد، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَغَيره. قَالَ الْآمِدِيّ: لَا خلاف أَنه لَا يَقْتَضِي الْفساد، إِلَّا مَا نقل عَن مَالك وَأحمد، وَلَا فرق بَين الْعِبَادَات والمعاملات. إِذا علم ذَلِك فالدليل والاعتراض وَالْجَوَاب كَمَا سبق. وألزم القَاضِي الشَّافِعِيَّة بِبُطْلَان البيع بالتفرقة بَين وَالِدَة وَوَلدهَا. قَوْله: {وَلَو كَانَ النَّهْي عَن غير عقد لحق آدَمِيّ كتلق، ونجش الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2301 وسوم وخطبة وتدليس صَحَّ فِي الْأَصَح عندنَا وَعند الْأَكْثَر} . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَحَيْثُ قَالَ أَصْحَابنَا اقْتضى النَّهْي الْفساد، فمرادهم: مَا لم يكن النَّهْي لحق آدَمِيّ يُمكن استدراكه، فَإِن كَانَ وَلَا مَانع كتلقي الركْبَان والنجش، فَإِنَّهُمَا يصحان على الْأَصَح عندنَا، وَعند الْأَكْثَر لإِثْبَات الشَّرْع الْخِيَار فِي التلقي وعللوه بِمَا سبق. انْتهى. وَلنَا رِوَايَة عَن أَحْمد بِعَدَمِ الصِّحَّة، وَلنَا مسَائِل كَثِيرَة فروعية، كَبيع الْفُضُولِيّ والمجهول، وَغير ذَلِك لَهَا أَدِلَّة خَاصَّة هُنَاكَ. {تَنْبِيه: النَّهْي يَقْتَضِي الْفَوْر والدوام عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر} ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2302 وَيُؤْخَذ من أَن النَّهْي للدوام أَنه للفور؛ لِأَنَّهُ من لوازمه؛ وَلِأَن من نهى عَن فعل بِلَا قرينَة عد مُخَالفا لُغَة وَعرفا أَي وَقت فعله؛ وَلِهَذَا لم تزل الْعلمَاء تستدل بِهِ من غير نَكِير. وَحَكَاهُ أَبُو حَامِد، وَابْن برهَان، وَأَبُو زيد الدبوسي إِجْمَاعًا. وَالْفرق بَينه وَبَين الْأَمر أَن الْأَمر لَهُ حد يَنْتَهِي إِلَيْهِ فَيَقَع الِامْتِثَال فِيهِ بالمرة، وَأما الِانْتِهَاء عَن الْمنْهِي فَلَا يتَحَقَّق إِلَّا باستيعابه فِي الْعُمر، فَلَا يتَصَوَّر فِيهِ تكْرَار، بل اسْتِمْرَار بِهِ يتَحَقَّق الْكَفّ. وَخَالف القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني، وَالْفَخْر الرَّازِيّ، وَنَقله ابْن عقيل عَن الباقلاني، وَنقل الْمَازرِيّ عَنهُ خِلَافه، وَلَعَلَّ لَهُ قَوْلَيْنِ. قَالَ ابْن مُفْلِح: النَّهْي يَقْتَضِي الْفَوْر والدوام عِنْد أَصْحَابنَا وَعَامة الْعلمَاء خلافًا لِابْنِ الباقلاني، وَصَاحب " الْمَحْصُول "؛ لِأَن النَّهْي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2303 منقسم إِلَى الدَّوَام وَغَيره: كَالزِّنَا وَالْحَائِض عَن الصَّلَاة فَكَانَ الْقدر الْمُشْتَرك دفعا للاشتراك وَالْمجَاز. رد: عدم الدَّوَام لقَرِينَة هِيَ تَقْيِيد بِالْحيضِ وَكَونه حَقِيقَة للدوام أولى من الْمرة لدليلنا ولإمكان التَّجَوُّز عَن بعضه لاستلزامه لَهُ بِخِلَاف الْعَكْس. قَوْله: {وَلَا تفعل هَذَا مرّة، يَقْتَضِي تكْرَار التّرْك} ، قدمه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَعند القَاضِي وَالْأَكْثَر يسْقط بِمرَّة، وَهُوَ الْمَعْرُوف عِنْد الشَّافِعِيَّة، وَقدمه فِي " جمع الْجَوَامِع " حَتَّى قَالَ شَارِحه ابْن الْعِرَاقِيّ عَن القَوْل بِأَنَّهُ يَقْتَضِي التّكْرَار: غَرِيب لم نره لغير ابْن السُّبْكِيّ. وَقطع بِهِ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته "، وَالظَّاهِر أَنَّهُمَا لم يطلعا على كَلَام الْحَنَابِلَة فِي ذَلِك. وَقد تقدم فِي الْأَمر فِي مَسْأَلَة مَا إِذا تجرد الْأَمر عَن الْقَرِينَة هَل يَقْتَضِي التّكْرَار؟ فِي أثْنَاء بحث الْمَسْأَلَة أَنه لَو قَالَ: لَا تفعل هَذَا مرّة، عَم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2304 قطع بِهِ ابْن مُفْلِح فِي بحث الْمَسْأَلَة، وَعند القَاضِي لَا يعم؛ لقبح الْمنْهِي عَنهُ فِي وَقت وَحسنه فِي آخر. قَالَ ابْن مُفْلِح: قَالَ بعض أَصْحَابنَا، وَقَالَ غَيره: يعم. يَعْنِي غير القَاضِي. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": إِذا قَالَ: لَا تفعل هَذَا مرّة. فَقَالَ القَاضِي: يَقْتَضِي الْكَفّ مرّة، فَإِذا ترك مرّة يسْقط النَّهْي. وَقَالَ غَيره: يَقْتَضِي التّكْرَار. انْتهى. فَظَاهره أَن غير القَاضِي يَقُول بتكرار التّرْك. قَوْله: {فَائِدَة: يكون النَّهْي عَن وَاحِد، ومتعدد جمعا، وفرقا وجميعا} . قد يكون النَّهْي عَن وَاحِد فَقَط، وَهُوَ كثير وَاضح، وَقد يكون عَن مُتَعَدد: أَي عَن شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا، وَهَذَا ثَلَاثَة أَنْوَاع: الأول: أَن يكون نهيا عَن الْجَمِيع، أَي: عَن الْهَيْئَة الاجتماعية، فَلهُ فعل أَيهَا شَاءَ على انْفِرَاده، كَمَا تقدم آخر الْوَاجِب أَنه يجوز النَّهْي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2305 عَن وَاحِد لَا بِعَيْنِه. الثَّانِي: عكس الأول، وَهُوَ النَّهْي عَن الِافْتِرَاق دون الْجمع كالنهي عَن الِاقْتِصَار على أحد الشَّيْئَيْنِ، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تمش فِي نعل وَاحِدَة "، فَإِنَّهُ مَنْهِيّ عَنهُ لَا عَن لبسهما، وَلَا عَن نزعهما، وَلذَلِك قَالَ: " ليلبسهما جَمِيعًا أَو ليحفهما جَمِيعًا ". الثَّالِث: أَن يكون نهيا عَن الْجَمِيع، أَي: كل وَاحِد، سَوَاء أَتَى بِهِ مُنْفَردا أَو مَعَ الآخر، كالنهي عَن الزِّنَا، والربا، وَالسَّرِقَة وَغَيرهَا، وَكَقَوْلِه: " لَا تباغضوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تدابروا ". قَالَ الكوراني: وَالْحق أَن هَذَا مُسْتَدْرك؛ لِأَنَّهُ من قبيل النَّهْي عَن الْوَاحِد. فَائِدَة: قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: إِذا تعلق النَّهْي بأَشْيَاء فإمَّا على الْجَمِيع، كالميتة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير، وَإِمَّا على الْجمع، كالجمع بَين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2306 الْأُخْتَيْنِ، أَو على الْبَدَل كجعل الصَّلَاة بَدَلا عَن الصَّوْم، وَنَظِيره: لَا تَأْكُل السّمك وتشرب اللَّبن. إِن جزمت الْفِعْلَيْنِ كَانَ كل مِنْهُمَا مُتَعَلق النَّهْي، وَإِن نصبت الثَّانِي مَعَ جزم الأول كَانَ مُتَعَلق النَّهْي الْجمع بَينهمَا وكل وَاحِد مِنْهُمَا غير مَنْهِيّ عَنهُ بِانْفِرَادِهِ، وَإِن جزمت الأول وَرفعت الثَّانِي كَانَ الأول مُتَعَلق النَّهْي فَقَط فِي حَال مُلَابسَة الثَّانِي. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2307 فارغة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2308 (بَاب الْعَام) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2309 فارغة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2310 (قَوْله: {بَاب} ) {الْعَام: اللَّفْظ الدَّال على جَمِيع أَجزَاء مَاهِيَّة مَدْلُوله} . إِنَّمَا أخر الْكَلَام فِي الْعَام وَالْخَاص عَن الْأَمر وَالنَّهْي؛ لتعلقهما بِنَفس الْخطاب الشَّرْعِيّ، وَتعلق الْعُمُوم وَالْخُصُوص بِاعْتِبَار الْمُخَاطب بِهِ، وَإِنَّمَا قدمنَا هَذَا الْحَد على الْحُدُود الْبَاقِيَة لما نذكرهُ فَإِن الطوفي ذكره فِي " مُخْتَصره "، وَقَالَ: هُوَ أَجود الْحُدُود. فَإِنَّهُ ذكر حدودا كلهَا مُعْتَرضَة، وَذكر هَذَا فِي جملَة تَقْسِيم فَقَالَ: وَقيل: اللَّفْظ إِن دلّ على الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ هِيَ، فَهُوَ الْمُطلق كالإنسان، أَو على وَحده مُعينَة كزيد فَهُوَ الْعلم، أَو غير مُعينَة كَرجل فَهُوَ النكرَة، أَو على وحدات مُتعَدِّدَة فَهِيَ: إِمَّا بعض وحدات الْمَاهِيّة فَهُوَ اسْم الْعدَد، كعشرين رجلا أَو جَمِيعهَا فَهُوَ الْعَام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2311 فَإِذن: هُوَ اللَّفْظ الدَّال على جَمِيع أَجزَاء مَاهِيَّة مَدْلُوله، وَهُوَ أَجودهَا. انْتهى. فَهَذَا الْحَد مُسْتَفَاد من التَّقْسِيم الْمَذْكُور؛ لِأَن التَّقْسِيم الصَّحِيح يرد على جنس الْأَقْسَام، ثمَّ يُمَيّز بَعْضهَا عَن بعض بِذكر خواصها الَّتِي يتَمَيَّز بهَا فيتركب كل وَاحِد من أقسامه من جنسه الْمُشْتَرك ومميزه الْخَاص وَهُوَ الْفَصْل، وَلَا معنى للحد إِلَّا اللَّفْظ الْمركب من الْجِنْس والفصل. وعَلى هَذَا فقد استفدنا من هَذَا التَّقْسِيم معرفَة حُدُود مَا تضمنه من الْحَقَائِق وَهُوَ الْمُطلق، وَالْعلم، والنكرة وَاسم الْعدَد. فالمطلق: هُوَ اللَّفْظ الدَّال على الْمَاهِيّة الْمُجَرَّدَة عَن وصف زَائِد. وَالْعلم: هُوَ اللَّفْظ الدَّال على وحدة مُعينَة. وَاسم الْعدَد: هُوَ اللَّفْظ الدَّال على بعض وحدات مَاهِيَّة مَدْلُوله. وَالْعَام مَا ذكرنَا. انْتهى. وَقَوله: فَإِن دلّ على الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ هِيَ، أَي: مَعَ قطع النّظر عَن جَمِيع مَا يعرض لَهَا من وحدة وَكَثْرَة، وحدوث وَقدم، وَطول وَقصر، وَسَوَاد وَبَيَاض، فَهَذَا الْمُطلق كالإنسان من حَيْثُ هُوَ إِنْسَان إِنَّمَا يدل على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2312 حَيَوَان نَاطِق لَا على وَاحِد وَلَا على غَيره مِمَّا ذكر، وَإِن كُنَّا نعلم أَنه لَا يَنْفَكّ عَن بعض تِلْكَ. قَوْله: {وَقَالَ أَكثر أَصْحَابنَا وَغَيرهم: هُوَ مَا عَم شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا} . وَلم أعلم الْآن من أَيْن نقلت ذَلِك، ولعلنا أردنَا كَلَامه فِي " الرَّوْضَة " وَغَيرهَا. وَقد قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": والعموم مَا شَمل شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا شمولا وَاحِدًا، ثمَّ قَالَ: وَقَالَ بعض الْفُقَهَاء: مَا عَم شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا وَلَيْسَ بمرضي؛ لِأَن قَوْله: عَم - وَعَن الْعُمُوم سُئِلَ - لَيْسَ بتحديد، كمن قيل لَهُ: مَا السوَاد، فَقَالَ: مَا سود الْمحل الَّذِي يقوم بِهِ. انْتهى. {و} قَالَ {أَبُو الْخطاب، و} الْفَخر {الرَّازِيّ} ، وَأَبُو الْحُسَيْن المعتزلي: {اللَّفْظ الْمُسْتَغْرق لما يصلح لَهُ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2313 فَقيل: لَيْسَ بمانع لدُخُول كل نكرَة من أَسمَاء الْأَعْدَاد، كعشرة، وكنحو: ضرب زيد عمرا. وَفِيه نظر، فَإِنَّهُ أُرِيد بِمَا يصلح أَفْرَاد مُسَمّى اللَّفْظ فَلم تدخل النكرَة، وَإِن فسر (مَا يصلح) بأجزاء مُسَمّى اللَّفْظ لَا بجزئياته فالعشرة مستغرقة أجزاءها، أَي: وحداتها، وَنَحْو (ضرب زيد عمرا، إِن استغرق لما يصلح من أَفْرَاد (ضرب زيد عمرا) فعام، وَإِلَّا لم يدْخل. وأبطله الْآمِدِيّ بِأَنَّهُ عرف الْعَام بالمستغرق وهما مُتَرَادِفَانِ وَلَيْسَ الْقَصْد شرح اسْم الْعَام ليَكُون الْحَد لفظيا بل مُسَمَّاهُ بِحَدّ حَقِيقِيّ أَو رسمي. وَزيد فِي الْحَد (من غير حصر) احْتِرَاز من اسْم الْعدَد، نَحْو: عشرَة فَإِنَّهَا تستغرق الْأَفْرَاد المركبة، لَكِن تحصر؛ إِذْ دلَالَته كل على أَجْزَائِهِ، وَدلَالَة الْعُمُوم كلي على جزئياته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2314 {و} قَالَ {الْمُوفق} فِي " الرَّوْضَة "، {و} أَبُو مُحَمَّد {الْجَوْزِيّ} فِي " الْإِيضَاح ": {اللَّفْظ الْوَاحِد الدَّال على شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا مُطلقًا} . فاللفط كالجنس لَهُ وللخاص والمشترك وَغير ذَلِك من أَصْنَاف اللَّفْظ، وَفِيه إِشْعَار بِأَن الْعُمُوم من عوارض الْأَلْفَاظ دن الْمعَانِي على مَا يَأْتِي. وَاحْترز بِالْوَاحِدِ عَن كل مَا ذكر مَعَه عَام يَقْتَضِيهِ من الْفَاعِل وَالْمَفْعُول وَنَحْوه، مثل (ضرب زيد عمرا) فَإِنَّهُ إِن دلّ على شَيْئَيْنِ وَلَكِن لَا بِلَفْظ وَاحِد، إِذْ هما لفظان. وَاحْترز بشيئين عَن مثل رجل فِي الْإِثْبَات، وَعَن أَسمَاء الْأَعْلَام كزيد، وَعَمْرو، فَإِن لفظ رجل، وَدِرْهَم، وَزيد، وَإِن كَانَت صَالِحَة لكل وَاحِد من آحَاد الرِّجَال، وآحاد الدَّرَاهِم فَلَا يَتَنَاوَلهَا مَعًا بل على سَبِيل الْبَدَل. و (فَصَاعِدا) عَن لفظ اثْنَيْنِ وَنَحْوهَا من كل مثنى نَحْو رجلَيْنِ، وَاحْترز ب (مُطلقًا) عَن مثل عشرَة رجال وَنَحْوه من الْأَعْدَاد الْمقدرَة، فَإِنَّهُ لَيْسَ من الْأَلْفَاظ الْعَامَّة وَإِن كَانَ مَعَ اتحاده الْأَصْلِيّ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا وَهِي الْآحَاد الدَّاخِلَة فِيهَا إِلَّا أَنه إِنَّمَا دلّ على تَمام عشرَة فَقَط لَا مُطلقًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2315 قَالَ الطوفي: وَفِي الِاحْتِرَاز ب (مُطلقًا) عَمَّا قَالَه نظر؛ إِذْ هُوَ خَارج بقوله: فَصَاعِدا، إِذا هِيَ لَفْظَة لَيْسَ لَهَا نِهَايَة تقف عِنْدهَا، فَكل مَا كَانَ من الْأَعْدَاد فَوق الْوَاحِد انتظمه قَوْله: فَصَاعِدا. قَالَ الْعَسْقَلَانِي شَارِح " مُخْتَصر الطوفي ": وَفِي هَذَا النّظر من هَذِه الْحَيْثِيَّة نظر؛ إِذْ الْعشْرَة يصدق عَلَيْهِ أَنه يدل على شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا، وَلَيْسَ فِي الْحَد مَا يَقْتَضِي أَنه يدل على شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا بِمَا لَا نِهَايَة لَهُ يقف عِنْدهَا؛ إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لَخَرَجت أَكثر العمومات عَن كَونهَا عَامَّة، إِذا لَا بُد لَهَا من نِهَايَة. انْتهى. لَكِن هَذَا الْحَد لَيْسَ بِجَامِع لخُرُوج لَفْظِي المستحيل والمعدوم عَنهُ، وهما من الْأَلْفَاظ الْعَامَّة وَلَا دلَالَة لَهما على شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا؛ لِأَن مدلولهما لَيْسَ بِشَيْء، أما المستحيل فبالإجماع وَأما الْمَعْدُوم فعلى قَول. ولخروج الموصولات؛ لِأَنَّهَا عَامَّة وَلَيْسَ بِلَفْظ وَاحِد؛ لِأَنَّهَا لَا تتمّ إِلَّا بصلاتها. وَقَالَ الْغَزالِيّ: اللَّفْظ الْوَاحِد الدَّال من جِهَة وَاحِدَة على شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا. لَكِن قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": حَده فِي " الرَّوْضَة " أَجود من حد الْغَزالِيّ، وَاخْتَارَ هَذَا الْحَد الْآمِدِيّ وأبدل (شَيْئَيْنِ) بمسميين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2316 {و} قَالَ {ابْن الْمَنِيّ} فِي " جدله الْكَبِير "، {و} تِلْمِيذه {الْفَخر} إِسْمَاعِيل: {مَا دلّ على مسميات دلَالَة لَا تَنْحَصِر فِي عدد} ، نَقله عَنهُ ابْن حمدَان فِي " مقنعه " وَهُوَ حسن لَكِن دخل فِيهِ الْمعَانِي وفيهَا خلاف يَأْتِي قَرِيبا. {و} قَالَ {ابْن الْحَاجِب: مَا دلّ على مسميات بِاعْتِبَار أَمر اشتركت فِيهِ مُطلقًا} ضربه أَي دَفعه ليخرج نَحْو رجل. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَا حَاجَة إِلَى زيادتها. وَدخل فِي حَده الْمعَانِي والمعدوم، والمستحيل، وَخرج الْمُسَمّى الْوَاحِد، والمثنى، والنكرة الْمُطلقَة كَرجل، وَخرج نَحْو: عشرَة ب (اشتركت فِيهِ) ، وَخرج الْمَعْهُود بقوله مُطلقًا. قَوْله: {وَيكون مجَازًا فِي الْأَصَح} . يكون الْعَام مجَازًا على الْأَصَح، كَقَوْلِك: رَأَيْت الْأسود على الْخُيُول، فالمجاز هُنَا كالحقيقة فِي أَنه قد يكون عَاما. وَخَالف بعض الْحَنَفِيَّة، فَزعم أَن الْمجَاز لَا يعم بصيغته؛ لِأَنَّهُ على خلاف الأَصْل فَيقْتَصر بِهِ على الضَّرُورَة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2317 وَيرد: بِأَن الْمجَاز لَيْسَ خَاصّا بِحَال الضَّرُورَة، بل هُوَ عِنْد قوم غَالب على اللُّغَات كَمَا تقدم. وَاسْتدلَّ على أَن الْعَام قد يكون مجَازًا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة إِلَّا أَن الله أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَام "، فَإِن الِاسْتِثْنَاء معيار الْعُمُوم فَدلَّ على تَعْمِيم كَون الطّواف صَلَاة، وَكَون الطّواف صَلَاة مجَاز. قَوْله: {وَالْخَاص بِخِلَافِهِ} ، أَي: بِخِلَاف الْعَام، {أَي: مَا دلّ وَلَيْسَ بعام فَلَا يرد المهمل} . قَالَ القطب الشِّيرَازِيّ فِي " شرح الْمُخْتَصر ": وَأما قَوْله: وَالْخَاص بِخِلَافِهِ، فَالْمُرَاد مِنْهُ أَن الْخَاص هُوَ مَا دلّ لَا على مسميات على الْوَجْه الْمَذْكُور، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ أَن الْخَاص مَا لَيْسَ بعام على مَا يُوهم. وَأورد عَلَيْهِ أَنه لَا يطرد لدُخُول اللَّفْظ المهمل فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بعام لعدم دلَالَته، وَأَن فِيهِ تَعْرِيف الْخَاص بسلب الْعَام، وَهُوَ ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ إِن كَانَ بَينهمَا وَاسِطَة فَلَا يلْزم من سلب الْعَام تعين الْخَاص، وَإِلَّا فَلَيْسَ تَعْرِيف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2318 أَحدهمَا بسلب حَقِيقَة الآخر عَنهُ أولى من الْعَكْس. وَأَيْضًا فَإِن اللَّفْظ قد يكون خَاصّا كالإنسان بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيَوَان، وَلَا يخرج عَن كَونه عَاما بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَحْتَهُ. وَالْأول وَالثَّانِي إِنَّمَا يرد على مَا توهم أَنه مُرَاده لَا على مَا هُوَ مُرَاده. وَأما الثَّالِث فَلَا يرد على مَا توهم أَيْضا؛ لِأَن الْإِنْسَان لَيْسَ خَاصّا بِالْمَعْنَى الْمُقَابل للعام، بل بِاعْتِبَار آخر؛ لِأَن الْخَاص كَمَا يُطلق على مَا يُقَابل الْعَام كزيد مثلا كَذَلِك يُطلق على خصوصيته بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أَعم مِنْهُ كالإنسان بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيَوَان. وَيحد بِأَنَّهُ: اللَّفْظ الَّذِي يُقَال على مَدْلُوله وعَلى غير مَدْلُوله، لفظ آخر من جِهَة وَاحِدَة. انْتهى. قَوْله: {ثمَّ لَا أَعم من المتصور} لتنَاوله الْمَوْجُود والمعلوم والمسلوب وضدها. وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": وَلَا أَعم من مَعْلُوم ومسمى ومذكور. {وَقيل: لَيْسَ بموجود} ، هَذَا القَوْل ضربنا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا حُكيَ بعد قَوْلهم لَا أَعم من الْمَعْلُوم فورد الْمَجْهُول أَو الشَّيْء فورد الْمَعْدُوم. وَذكره فِي " الرَّوْضَة " تبعا للغزالي، وسترى مَا فِيهِ. قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": الَّذِي لَا أَعم مِنْهُ الْمَعْلُوم أَو الشَّيْء، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2319 وَيُسمى الْعَام الْمُطلق؛ لِأَنَّهُ إِذا أطلق لَا تخرج عَنهُ صُورَة. وَقيل: لَيْسَ بموجود لخُرُوج الْمَجْهُول عَن الأول والمعدوم عَن الثَّانِي فِي قَول، وَأطْرد مِنْهُمَا الْمُسَمّى، أَو الْمَذْكُور؛ لِأَنَّهُ لَا تخرج عَنْهُمَا صُورَة، قَالَه الْعَسْقَلَانِي. قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": وَقَوله: وَقيل لَيْسَ بموجود يَعْنِي أَن الْعَام الْمُطلق، قيل: هُوَ مَوْجُود، وَقيل: لَا. وَلَيْسَ لنا عَام مُطلق، وَهَذَا ذكره الْغَزالِيّ بِاعْتِبَار، وَتَابعه أَبُو مُحَمَّد فَجعله قولا ثَانِيًا، ولنحك كَلَام الْغَزالِيّ ليتبين مَا ذَكرْنَاهُ. قَالَ الْغَزالِيّ: وَاعْلَم أَن اللَّفْظ إِمَّا خَاص فِي ذَاته مُطلقًا كزيد، وَإِمَّا عَام مُطلق كالمذكور والمعلوم، وَإِمَّا عَام بِالْإِضَافَة، كَلَفْظِ الْمُؤمنِينَ، فَإِنَّهُ عَام بِالْإِضَافَة إِلَى آحَاد الْمُؤمنِينَ، خَاص بِالْإِضَافَة إِلَى جُمْلَتهمْ إِذْ يتناولهم دون الْمُشْركين فَكَأَنَّهُ يُسمى عَاما من حَيْثُ شُمُوله للآحاد، خَاصّا من حَيْثُ اقْتِصَاره على مَا شَمله وقصوره عَمَّا لم يَشْمَلهُ. وَمن هَذَا الْوَجْه يُمكن أَن يُقَال: لَيْسَ فِي الْأَلْفَاظ عَام مُطلق؛ لِأَن لفظ الْمَعْلُوم لَا يتَنَاوَل الْمَجْهُول، وَالْمَذْكُور لَا يتَنَاوَل الْمَسْكُوت عَنهُ. قلت: فحاصل قَوْله: إِن كل لفظ، فَهُوَ بِالنّظرِ إِلَى شُمُوله أَفْرَاد مَا تَحْتَهُ عَام، وبالنظر إِلَى اقْتِصَاره على مَدْلُوله خَاص / وَبِهَذَا التَّفْسِير لَا يبْقى لنا عَام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2320 مُطلق، لَكِن هَذَا غير تفسيرنا الْعَام الْمُطلق بِمَا لَا أَعم مِنْهُ؛ لِأَن من الْأَلْفَاظ مَا يكون عَاما مَعَ أَنه مَقْصُور الدّلَالَة على مَا تَحْتَهُ فَيكون حِينَئِذٍ عَاما مُطلقًا، لَا عَاما مُطلقًا باعتبارين كَمَا ذكر من التفسيرين لَكِن مثل ذَلِك لَا يَنْبَغِي أَن يحْكى قولا مُطلقًا كَمَا فعل أَبُو مُحَمَّد؛ لِئَلَّا يُوهم أَن فِي وجود الْعَام الْمُطلق بتفسير وَاحِد قَوْلَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل يذكر ذَلِك بتفسيرين كَمَا ذكر الْغَزالِيّ. انْتهى كَلَام الطوفي. قَوْله: {وَلَا أخص من علم الشَّخْص} كزيد مثلا، وَنَحْوه، وَهَذَا الرجل؛ إِذْ لَا أخص من اسْم شخص يعرف بِهِ. قَوْله: {وعام خَاص نسبي} كالموجود، والجوهر، والجسم، والنامي، وَالْحَيَوَان، وَالْإِنْسَان، فَإِن كل وَاحِد من هَذِه الْأَلْفَاظ خَاص بِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَوْقه، عَام بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَحْتَهُ كالموجود أحد مدلولي الْمَذْكُور، وَالثَّانِي الْمَجْهُول. والجوهر أحد مدلولي الْمَوْجُود وَالْآخر الْعرض، والجسم، وَهُوَ الْمركب أحد مدلولي الْجَوْهَر وَالْآخر الْفَرد الَّذِي لَا تركيب فِيهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2321 والنامي أحد مدلولي الْجِسْم وَالْآخر الجماد، وَالْحَيَوَان أحد مدلولي النامي وَالْآخر النَّبَات، وَالْإِنْسَان أحد مدلولي الْحَيَوَان وَالْآخر مَا دب غير النَّاطِق، وَالْمُؤمن أحد مدلولي الْإِنْسَان، وَالْآخر الْكَافِر. وَلِهَذَا قُلْنَا يُسمى عَاما خَاصّا نسبيا، أَي: بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا دونه عَام، وبالنسبة إِلَى مَا فَوْقه خَاص، وَالله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2322 (قَوْله: {فصل} ) {الْعُمُوم من عوارض الْأَلْفَاظ حَقِيقَة إِجْمَاعًا} . يُقَال: هَذَا لفظ عَام كَمَا يُقَال: لفظ خَاص يَعْنِي {بِمَعْنى الشّركَة فِي الْمَفْهُوم} مَعْنَاهُ لَا بِمَعْنى الشّركَة فِي اللَّفْظ. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: بِمَعْنى كل لفظ يَصح شركَة الكثيرين فِي مَعْنَاهُ لَا أَنه يُسمى عَاما حَقِيقَة؛ إِذْ لَو كَانَت الشّركَة فِي مُجَرّد الِاسْم لَا فِي مَفْهُومه لَكَانَ مُشْتَركا لَا عَاما، وَبِه يبطل قَول من قَالَ: إِنَّه من عوارض الْأَلْفَاظ لذاتها. انْتهى. قَوْله: {وَكَذَا من عوارض الْمعَانِي حَقِيقَة} أَي: كَمَا أَنه من عوارض الْأَلْفَاظ حَقِيقَة فَهُوَ من عوارض الْمعَانِي حَقِيقَة. وَهَذَا قَول القَاضِي، وَالشَّيْخ، وَابْن الْحَاجِب، وَأبي بكر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2323 الرَّازِيّ، وَحَكَاهُ عَن مَذْهَبهم وَغَيرهم فَيكون الْعُمُوم مَوْضُوعا للقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا بالتواطؤ على الْأَصَح. وَقيل: مَوْضُوع لكل مِنْهُمَا حَقِيقَة فَهُوَ مُشْتَرك. {وَعند الْمُوفق، و} أبي مُحَمَّد {الْجَوْزِيّ، وَالْأَكْثَر: مجَاز} ، يَعْنِي: أَنه من عوارض الْمعَانِي لكنه مجَاز لَا حَقِيقَة. قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق: إِنَّه قَول الْأَكْثَرين. وَصَححهُ ابْن برهَان وَغَيره، وَنَقله عبد الْوَهَّاب فِي الإفادة عَن الْجُمْهُور، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَغَيره، وَذكره عَن أَصْحَابهم وَجُمْهُور الْأَئِمَّة. وَقيل بنفيهما، أَي: أَن الْعُمُوم لَا يكون فِي الْمعَانِي لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2324 حَكَاهُ ابْن الْحَاجِب وَغَيره، وَهُوَ ظَاهر مَا حُكيَ عَن أبي الْخطاب، وَنَقله ابْن مُفْلِح. {وَقيل: من عوارض الْمَعْنى الذهْنِي} . قَالَ ابْن مُفْلِح: وَذكر الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عَن الْغَزالِيّ، وَصَاحب " الرَّوْضَة " أَنه من عوارض اللَّفْظ وَالْمعْنَى الذهْنِي. وَفِي " الرَّوْضَة ": من عوارض الْأَلْفَاظ مجَاز فِي غَيرهَا، وَقَالَ فِي الْمَعْنى الْكُلِّي: إِن سمي عَاما، فَلَا بَأْس. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَجه الأول: حَقِيقَة الْعَام لُغَة: شُمُول أَمر لمتعدد وَهُوَ فِي الْمعَانِي، كعم الْمَطَر، وَالْخصب، وَفِي الْمَعْنى الْكُلِّي؛ لشُمُوله لمعاني الجزئيات. وَاعْترض على ذَلِك: بِأَن المُرَاد أَمر وَاحِد شَامِل، وَعُمُوم الْمَطَر شُمُول مُتَعَدد لمتعدد؛ لِأَن كل جُزْء من الأَرْض يخْتَص بِجُزْء من الْمَطَر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2325 ورد هَذَا: بِأَن هَذَا لَيْسَ بِشَرْط للْعُمُوم لُغَة، وَلَو سلم فعموم الصَّوْت بِاعْتِبَار وَاحِد شَامِل للأصوات المتعددة الْحَاصِلَة لسامعيه، وَعُمُوم الْأَمر وَالنَّهْي بِاعْتِبَار وَاحِد وَهُوَ الطّلب الشَّامِل لكل طلب تعلق بِكُل مُكَلّف، وَكَذَا الْمَعْنى الْكُلِّي الذهْنِي. وَقد فرق طَائِفَة بَين الذهْنِي والخارجي فَقَالُوا بعروض الْعُمُوم للمعنى الذهْنِي دون الْخَارِجِي؛ لِأَن الْعُمُوم عبارَة عَن شُمُول أَمر وَاحِد لمنفرد، وَالْخَارِج لَا يتَصَوَّر ذَلِك؛ لِأَن الْمَطَر الْوَاقِع فِي هَذَا الْمَكَان بل كل قَطْرَة مِنْهُ بِخُصُوصِهِ بمَكَان خَاص كَمَا تقدم. وَالْجَوَاب: أَن مُطلق الشُّمُول كَاف. تَنْبِيه: لَيْسَ المُرَاد الْمعَانِي التابعة للألفاظ فَإِنَّهُ لَا خلاف فِي عمومها؛ لِأَن لَفظهَا عَام، وَإِنَّمَا المُرَاد الْمعَانِي المستقلة كالمقتضى وَالْمَفْهُوم. قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2326 (قَوْله: {فصل} ) {الْأَرْبَعَة، وَالْأَكْثَر للْعُمُوم صِيغَة خَاصَّة بِهِ} . هَذَا مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة [و] الظَّاهِرِيَّة، وَعَامة الْمُتَكَلِّمين. {و} قَالَ {ابْن عقيل: الْعُمُوم صِيغَة} ، وَلَا يُقَال للْعُمُوم صِيغَة، كَمَا سبق عَنهُ فِي الْأَمر. {ف} على الأول {هُوَ حَقِيقَة فِي الْعُمُوم مجَاز فِي الْخُصُوص} على الْأَصَح؛ لِأَن الْعُمُوم أحوط فَكَانَ أولى. {وَقيل: عَكسه} ، فَهُوَ حَقِيقَة فِي الْخُصُوص مجَاز فِي الْعُمُوم؛ لِأَن الْخُصُوص مُتَيَقن فَجعله لَهُ حَقِيقَة أولى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2327 رد: هَذَا إِثْبَات اللُّغَة بالترجيح وَلَيْسَ بطرِيق لنا - على مَا يَأْتِي فِي المبحث - وَهَذَا اخْتِيَار الْآمِدِيّ، وَالْخُصُوص أقل الْجمع وَتوقف فِيمَا زَاد. {وَقيل: مُشْتَركَة} . وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ، {والأشعرية، وَغَيرهم: لَا صِيغَة لَهُ} . وَقَالَهُ المرجئة، وَذكره التَّمِيمِي عَن بعض أَصْحَابنَا. ثمَّ للأشعرية، ولجماعة من الْأُصُولِيِّينَ قَولَانِ: أَحدهمَا: الْوَقْف، وَهُوَ الصَّحِيح عِنْدهم، {فَقيل:} معنى الْوَقْف {لَا نَدْرِي. وَقيل: نَدْرِي ونجهل} هَل هُوَ {حَقِيقَة} فِي الْعُمُوم، {أم مجَاز} . وَقيل: الْأَمر وَالنَّهْي للْعُمُوم، وَالْوَقْف فِي الْأَخْبَار، وَقيل: عَكسه، فالأخبار للْعُمُوم وَالْوَقْف فِي الْأَمر وَالنَّهْي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2328 وَعند أَرْبَاب الْخُصُوص هِيَ حَقِيقَة فِيهِ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَتوقف فِيمَا زَاد، كَمَا تقدم، وَعند مُحَمَّد بن شُجَاع الثَّلْجِي، وَأبي هَاشم، وَجَمَاعَة من الْمُعْتَزلَة: لفظ الْجمع وَاسم الْجِنْس لثَلَاثَة، وَيُوقف فِيمَا زَاد. اسْتدلَّ أَصْحَاب القَوْل الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - بقول الْإِنْسَان: لَا تضرب أحدا، وكل من قَالَ كَذَا فَقل لَهُ كَذَا: عَام قطعا. وَلمُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: قَالُوا: فالحمر يَا رَسُول الله؟ قَالَ: " مَا أنزل عَليّ فِيهَا شَيْء إِلَّا هَذِه الْآيَة الجامعة الفاذة {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره (7) وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} [الزلزلة: 7، 8] . وَعَن ابْن عمر أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما رَجَعَ من الْأَحْزَاب قَالَ: " لَا يصلين أحد الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة " فَأدْرك بَعضهم الْعَصْر فِي الطَّرِيق، فَقَالَ بَعضهم: لَا نصلي حَتَّى نأتيها، وَقَالَ بَعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذَلِك، فَذكر للنَّبِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2329 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلم يعنف وَاحِدًا مِنْهُم. مُتَّفق عَلَيْهِ. وأجنب عَمْرو بن الْعَاصِ فِي غَزْوَة ذَات السلَاسِل، فصلى بِأَصْحَابِهِ، وَلم يغْتَسل؛ لخوفه، وَتَأَول قَوْله تَعَالَى؛ {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} [النِّسَاء: 29] . فَذكر ذَلِك للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَضَحِك، وَلم يقل شَيْئا. رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالْحَاكِم وَقَالَ: على شَرط الصَّحِيحَيْنِ. وَلِأَن نوحًا تمسك بقوله: {وَأهْلك} [هود: 40] بِأَن ابْنه من أَهله وَأقرهُ الله تَعَالَى وَبَين الْمَانِع. وَلِأَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فهم الْعُمُوم من {أهل هَذِه الْقرْيَة} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2330 [العنكبوت: 31] فَقَالَ للْمَلَائكَة: {إِن فِيهَا لوطا} [العنكبوت: 32] ، وأجابوه: {لننجينه وَأَهله} [العنكبوت: 32] . واستدلال الصَّحَابَة وَالْأَئِمَّة على حد كل سَارِق وزان بقوله: {وَالسَّارِق والسارقة} [الْمَائِدَة: 38] ، {الزَّانِيَة وَالزَّانِي} [النُّور: 2] . وَفِي " الصَّحِيح ": احتجاج عمر على أبي بكر فِي قتال مانعي الزَّكَاة بقوله عَلَيْهِ السَّلَام: " أمرت أَن أقَاتل النَّاس؛ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا الله ". وَللشَّافِعِيّ: فَقَالَ أَبُو بكر: هَذِه من حَقّهَا. وللترمذي فِي غير جَامعه عَن عمر عَن أبي بكر مَرْفُوعا: " إِنَّا معشر الْأَنْبِيَاء لَا نورث ". ولمالك عَن ابْن شهَاب عَن قبيصَة بن ذُؤَيْب أَن رجلا سَأَلَ عُثْمَان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2331 عَن الْأُخْتَيْنِ من ملك الْيَمين: هَل يجمع بَينهمَا؟ فَقَالَ: أَحَلَّتْهُمَا آيَة، وحرمتهما آيَة، وَأَنا لَا أحب أَن أصنع هَذَا، فَخرج من عِنْده فلقي رجلا من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: لَو كَانَ لي من الْأَمر شَيْء ثمَّ وجدت أحدا فعل ذَلِك لجعلته نكالا. فَقَالَ ابْن شهَاب: أرَاهُ عليا. قَالَ مَالك: وَبَلغنِي عَن الزبير مثل ذَلِك. وللطحاوي وَالدَّارَقُطْنِيّ عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس كَقَوْل عُثْمَان. وللبخاري عَن زيد بن ثَابت أَنه لما نزل: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ} [النِّسَاء: 95] ، قَالَ ابْن أم مَكْتُوم: يَا رَسُول الله، لَو أَسْتَطِيع الْجِهَاد لَجَاهَدْت! فَأنْزل الله تَعَالَى: {غير أولي الضَّرَر} [النِّسَاء: 95] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2332 وَشرب قدامَة بن مَظْعُون خمرًا، وَاحْتج بقوله: {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا} [الْمَائِدَة: 93] الْآيَة، فَقَالَ عمر: أَخْطَأت التَّأْوِيل إِذا اتَّقَيْت اجْتنبت مَا حرم الله، وَحده عمر. رَوَاهُ الْحميدِي بِسَنَد البُخَارِيّ. وشاع وَلم يُنكر. وَاعْترض: فهم من الْقَرَائِن، ثمَّ أَخْبَار آحَاد. رد: الأَصْل عدم الْقَرِينَة، ثمَّ حَدِيث أبي هُرَيْرَة صَرِيح، وَهِي متواترة معنى وتلقتها الْأمة بِالْقبُولِ، ثمَّ الظَّن كَاف. وَأَيْضًا صِحَة الِاسْتِثْنَاء فِي (أكْرم النَّاس إِلَّا الْفَاسِق) ، وَهُوَ إِخْرَاج مَا لولاه لدخل بِإِجْمَاع أهل الْعَرَبيَّة، لَا لصلح دُخُوله، وَأَيْضًا: (من دخل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2333 من عَبِيدِي حر، وَمن نسَائِي طَالِق) يعم اتِّفَاقًا، أَو (فَأكْرمه) يتَوَجَّه اللوم بترك وَاحِد، وَأَيْضًا (من جَاءَك؟) اسْتِفْهَام عَام؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوع اتِّفَاقًا، وَلَيْسَ بِحَقِيقَة فِي الْخُصُوص لحسن جَوَابه بجملة الْعُقَلَاء، وَكَذَا الِاشْتِرَاك وَالْوَقْف وَإِلَّا لما حسن إِلَّا بعد الِاسْتِفْهَام. وَالْفرق بَين كل وَبَعض وَبَين تَأْكِيد الْعُمُوم وَالْخُصُوص قَطْعِيّ، وَكَذَا تَفْرِيق أهل اللُّغَة بَين لفظ الْعُمُوم وَلَفظ الْخُصُوص. وَأَيْضًا (كل النَّاس عُلَمَاء يكذبهُ كلهم لَيْسُوا عُلَمَاء) . وَاحْتج أَصْحَابنَا وَغَيرهم أَنه لما نزل قَوْله: {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم} [الْأَنْبِيَاء: 98] ، قَالَ عبد الله بن الزبعري للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قد عُبدت الْمَلَائِكَة، وعزير، وَعِيسَى، هَؤُلَاءِ فِي النَّار مَعَ آلِهَتنَا! فَنزل {وَلما ضرب ابْن مَرْيَم مثلا} [الزخرف: 57] {إِن الَّذين سبقت} [الْأَنْبِيَاء: 101] إِسْنَاده جيد. رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2334 وَفِيه قَالَ الْمُشْركُونَ: وَلَيْسَ فِيهِ الْمَلَائِكَة وَلَا {وَلما ضرب} الْآيَة. رَوَاهُ الضياء فِي " المختارة ". ورد بِأَن (مَا) لما لَا يعقل؛ وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لِابْنِ الزبعري: " مَا أجهلك بِلِسَان قَوْمك! ". قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": كَذَا قيل، وَلَا وَجه لصِحَّة الْإِسْنَاد، وَلم يَصح قَوْله ذَلِك لَهُ، وَلَو اخْتصّت مَا بِمن لَا يعقل لما احْتِيجَ إِلَى قَوْله: {من دون الله} ؛ لعدم تنَاولهَا لله، و (مَا) هُنَا بِمَعْنى الَّذِي وَالَّذِي يصلح لما يعقل، كَقَوْلِهِم: الَّذِي جَاءَ زيد، وَصِحَّة (مَا فِي الدَّار من العبيد أَحْرَار) . وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: فَكَذَا (مَا) بمعناها يكون للعاقل أَيْضا، كَقَوْلِه: {وَالسَّمَاء وَمَا بناها} [الشَّمْس: 5] وَمَا بعْدهَا، ذكره بَعضهم فِيهِنَّ، وَبَعْضهمْ بِمَعْنى (من) ، وَبَعْضهمْ مَصْدَرِيَّة. وَاحْتَجُّوا - أَيْضا - بِأَن الْعُمُوم معنى ظَاهر يحْتَاج إِلَى التَّعْبِير عَنهُ كَغَيْرِهِ. ورد: بالاستغناء بالمجاز والمشترك، كَذَا قيل، وَالظَّاهِر خِلَافه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2335 الْقَائِل بالخصوص مُتَيَقن فَجعله حَقِيقَة أولى. رد: إِثْبَات للغة بالترجيح وَلَيْسَ بطرِيق لَهَا، وَسبق فِي الْأَمر. وعورض بِأَن الْعُمُوم أحوط فَكَانَ أولى. قَالُوا: يلْزم من كَونهَا للْعُمُوم كذب الْخُصُوص كعشرة مَعَ إِرَادَة خَمْسَة. رد: لَا يلْزم إِذا كَانَ نصا كعشرة. قَالُوا: يلْزم من كَونهَا للْعُمُوم كَون التَّأْكِيد عَبَثا وَالِاسْتِثْنَاء نقضا وَأَن لَا يحسن الِاسْتِفْهَام. رد: لدفع احْتِمَال التَّخْصِيص وبلزوم ذَلِك فِي الْخَاص، ولصحة اسْتثِْنَاء خَمْسَة من عشرَة وَلَيْسَ بِنَقْض مَعَ أَنه صَرِيح. قَالُوا: الْخُصُوص أغلب فَهُوَ أولى. رد: بِمَنْعه فِي الْمُؤَكّد، وَمنعه بَعضهم فِي الْخَبَر. ثمَّ هَذَا الْغَالِب لَا يخْتَص بِثَلَاثَة، وَقد يسْتَعْمل الشَّيْء غَالِبا مجَازًا وافتقار تخصيصها إِلَى دَلِيل يدل على أَنَّهَا للْعُمُوم. الْقَائِل مُشْتَركَة أَو مَوْقُوفَة مَا سبق فِي الْأَمر للْوُجُوب. الْقَائِل بِالْفرقِ: الْإِجْمَاع على تَكْلِيف الْمُكَلّفين لأجل الْعَام بِالْأَمر وَالنَّهْي فَتجب إفادتها للْعُمُوم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2336 رد: مثله الْخَبَر الَّذِي يَقع التَّكْلِيف الْعَام بمعرفته نَحْو: {وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم} [الْبَقَرَة: 29] ، وَعُمُوم الْوَعْد والوعيد. قَوْله: {فَائِدَة: يُقَال للمعنى أَعم وأخص، وللفظ عَام وخاص} . قَالَ الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": هَذَا مُجَرّد اصْطِلَاح لَا يدْرك لَهُ وَجه سوى التَّمْيِيز بَين صفة اللَّفْظ وَصفَة الْمَعْنى. وَمَا وَقع من أَن صِيغَة التَّفْضِيل اخْتصّت بِالْمَعْنَى؛ لكَونه أهم من اللَّفْظ فسهو؛ إِذْ الْأَعَمّ لم يرد بِهِ معنى التَّفْضِيل بل الشُّمُول مُطلقًا، وَلَو كَانَ الْأَمر على مَا توهم لَكَانَ اعْتِبَاره فِي الْأَلْفَاظ أَيْضا وَاجِبا حَيْثُ كَانَت الزِّيَادَة مَقْصُودَة، وَقد أَشَارَ إِلَى ذَلِك الْعَلامَة الشريف الْجِرْجَانِيّ فِي بعض تصانيفه فِي الْمنطق. انْتهى. وَكَأَنَّهُ عني: الْقَرَافِيّ وَمن تَابعه، فَإِنَّهُ قَالَ: وَجه الْمُنَاسبَة أَن صِيغَة (افْعَل) تدل على الزِّيَادَة والرجحان والمعاني أَعم من الْأَلْفَاظ فخصت بِصِيغَة (افْعَل) التَّفْضِيل، وَمِنْهُم من يَقُول فِيهَا عَام وخاص أَيْضا. انْتهى. قلت: وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمد. قوه: {ومدلوله كُلية، أَي: مَحْكُوم فِيهِ على كل فَرد} ، فَرد بِحَيْثُ لَا يبْقى فَرد، فَقَوله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] بِمَنْزِلَة قَوْله: اقْتُل زيدا الْمُشرك وعمرا الْمُشرك إِلَى آخِره، وَهُوَ مثل قَوْلنَا: كل رجل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2337 يشبعه رغيفان، أَي: كل وَاحِد على انْفِرَاده، وَلَيْسَ دلَالَته من بَاب الْكل وَهُوَ الحكم على الْمَجْمُوع من حَيْثُ هُوَ كأسماء الْعدَد، وَمِنْه: كل رجل يحمل الصَّخْرَة، أَي: الْمَجْمُوع لَا كل وَاحِد، وَلَا من بَاب الْكُلِّي، وَهُوَ مَا اشْترك فِي مَفْهُومه كَثِيرُونَ كالحيوان، وَالْإِنْسَان فَإِنَّهُ صَادِق على جَمِيع أَفْرَاده وَيُقَال الْكُلية والجزئية، وَالْكل والجزء، والكلي والجزئي فصيغة الْعُمُوم للكلية، وَأَسْمَاء الْأَعْدَاد للْكُلّ، والنكرات للكلي، والأعلام للجزئي، وَبَعض الْعدَد زوج للجزئية، وَمَا تركب مِنْهُ وَمن غَيره كل كالخمسة للجزء. وَالْفرق بَين الْكل والكلي من أوجه. مِنْهَا: الْكل مُتَقَوّم بأجزائه والكلي بجزئياته. وَمِنْهَا: الْكل فِي الْخَارِج والكلي فِي الذِّهْن. وَمِنْهَا: الْأَجْزَاء متناهية، والجزئيات غير متناهية. وَمِنْهَا الْكل مَحْمُول على أَجْزَائِهِ والكلي على جزئياته، قَالَه ابْن قَاضِي الْجَبَل، وَالظَّاهِر أَنه من كَلَام الْقَرَافِيّ. قَوْله: {ودلالته على أصل الْمَعْنى قَطْعِيَّة} ، وَهَذَا بِلَا نزاع، فَلَا معنى لقَوْله فِي " جمع الْجَوَامِع " وَهُوَ عَن الشَّافِعِي. قَوْله: {وعَلى كل فَرد بِخُصُوصِهِ بِلَا قرينَة، ظنية عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2338 وَالْأَكْثَر} ، مِنْهُم من الْحَنَفِيَّة الماتريدي وَمن تبعه من مَشَايِخ سَمَرْقَنْد. قَالَ ابْن اللحام فِي " أُصُوله ": وعَلى كل فَرد بِخُصُوصِهِ ظنية عِنْد الْأَكْثَر. وَقَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": هُوَ عَن الشَّافِعِيَّة. وَقَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأَصْلِيَّة ": هَذَا الْمَشْهُور عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيرهم. وَقد ذكر القَاضِي وَأَصْحَابه، وَاسْتَدَلُّوا لذَلِك بِأَن التَّخْصِيص بالمتراخي لَا يكون نسخا، وَلَو كَانَ الْعَام نصا على أَفْرَاده لَكَانَ نسخا، وَذَلِكَ أَن صِيغ الْعُمُوم ترد تَارَة بَاقِيَة على عمومها، وَتارَة يُرَاد بهَا بعض الْأَفْرَاد، وَتارَة يَقع فِيهَا التَّخْصِيص، وَمَعَ الِاحْتِمَال لَا قطع، بل لما كَانَ الأَصْل بَقَاء الْعُمُوم فِيهَا كَانَ هُوَ الظَّاهِر الْمُعْتَمد للظن، وَيخرج بذلك عَن الْإِجْمَال. وَقَالَ ابْن عقيل: وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل من أَصْحَابنَا، وَحكي عَن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2339 الإِمَام الشَّافِعِي، حَكَاهُ الأبياري عَن الشَّافِعِي والمعتزلة أَن دلَالَته قَطْعِيَّة، وَرُوِيَ عَن الْحَنَفِيَّة. قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": إِذا تَعَارَضَت دلَالَة الْعَام وَالْخَاص فِي شَيْء وَاحِد تَسَاويا. انْتهى. تَنْبِيه: قَوْله: {بِلَا قرينَة} يَقْتَضِي كل فَرد: كالعمومات الَّتِي يقطع بعمومها وَلَا يدخلهَا تَخْصِيص، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم} [الْبَقَرَة: 29] ، {لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض} [الْبَقَرَة: 284] ، {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} [هود: 6] ، وَنَحْوه. وَإِن اقْترن بِهِ مَا يدل على أَن الْمحل غير قَابل للتعميم فَهُوَ كالمجمل يجب التَّوَقُّف فِيهِ إِلَى ظُهُور المُرَاد مِنْهُ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَاب النَّار وَأَصْحَاب الْجنَّة} [الْحَشْر: 20] ذكره ابْن الْعِرَاقِيّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2340 تَنْبِيه آخر: قد علم مِمَّا قَرَّرْنَاهُ أَن لفظ الْعَام لَهُ دلالتان دلَالَة على الْمَعْنى الَّذِي اشتركت فِيهِ أَفْرَاده، وَهِي الَّتِي بَينا أَن الحكم فِيهَا على الْكُلِّي وَلَيْسَ للعام بهَا اخْتِصَاص فَإِنَّهَا تتَعَلَّق بالكلي سَوَاء كَانَ فِيهِ عُمُوم أَو لَا، ودلالته على كل فَرد من أَفْرَاده من خُصُوص، وَهِي الَّتِي لَهَا خُصُوصِيَّة بِالْعَام، ويعبر عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، أما الأولى فقطعية بِلَا شكّ، وَهُوَ مَحل وفَاق. وَمعنى الْقطع فِيهِ دلَالَة النصوصية، أَي: هُوَ نَص بِالْقطعِ فِيهِ من هَذِه الْحَيْثِيَّة، فَيكون كدلالة الْخَاص. وَالدّلَالَة الثَّانِيَة مَحل خلاف، والأثر على أَنَّهَا ظنية كَمَا تقدم. قَوْله: {الْعَام فِي الْأَشْخَاص عَام فِي الْأَحْوَال وَغَيرهَا} كالأزمنة وَالْبِقَاع والمتعلقات {عِنْد الإِمَام وَالْأَكْثَر} ، مِنْهُم: ابْن السَّمْعَانِيّ والرازي. قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأَصْلِيَّة ": الْعَام فِي الْأَشْخَاص عَام فِي الْأَحْوَال، هَذَا الْمَعْرُوف عِنْد الْعلمَاء، قَالَ الإِمَام أَحْمد فِي قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] ظَاهرهَا على الْعُمُوم؛ أَن من وَقع عَلَيْهِ اسْم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2341 وَلَده فَلهُ مَا فرض الله، وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الْمعبر عَن الْكتاب، وَالْآيَة إِنَّمَا قصدت للْمُسلمِ لَا الْكَافِر. انْتهى. وَخَالف الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، والآمدي، والقرافي، والأصفهاني فِي " شرح الْمَحْصُول "، وَغَيرهم. قَالَ الْقَرَافِيّ، وَتَابعه ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله ": صِيغ الْعُمُوم وَإِن كَانَت عَامَّة فِي الْأَشْخَاص فَهِيَ مُطلقَة فِي الْأَزْمِنَة، وَالْبِقَاع، وَالْأَحْوَال، والمتعلقات، فَهَذِهِ الْأَرْبَعَة لَا عُمُوم فِيهَا من جِهَة ثُبُوت الْعُمُوم فِي غَيرهَا حَتَّى يُوجد لفظ يَقْتَضِي الْعُمُوم، نَحْو: لأصومنَّ الْأَيَّام، ولأصلين فِي جَمِيع الْبِقَاع، وَلَا عصيت الله فِي جَمِيع الْأَحْوَال، ولأشتغلن بتحصيل جَمِيع المعلومات. فَإِذا قَالَ الله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] فَهُوَ عَام فِي جَمِيع أَفْرَاد الْمُشْركين، مُطلق فِي الْأَزْمِنَة، وَالْبِقَاع، وَالْأَحْوَال، والمتعلقات، فَيَقْتَضِي النَّص قتل كل مُشْرك فِي زمَان مَا، فِي مَكَان مَا، فِي حَالَة مَا، وَقد أشرك بِشَيْء مَا. وَلَا يدل اللَّفْظ على خُصُوص يَوْم السبت، وَلَا مَدِينَة مُعينَة من مَدَائِن الْمُشْركين، وَلَا أَن ذَلِك الْمُشرك طَوِيل، أَو قصير، وَلَا أَن شركه وَقع بالصنم، أَو بالكوكب، بل اللَّفْظ مُطلق فِي هَذِه الْأَرْبَع. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2342 ورد ذَلِك ابْن دَقِيق الْعِيد فِي " شرح الْعُمْدَة "، فَقَالَ: أولع بعض أهل الْعَصْر - وَمَا قرب مِنْهُ - بِأَن قَالُوا: صِيغَة الْعُمُوم إِذا وَردت على الذوات مثلا، أَو على الْأَفْعَال كَانَت عَامَّة فِي ذَلِك، مُطلقَة فِي الزَّمَان، وَالْمَكَان، وَالْأَحْوَال، والمتعلقات. ثمَّ قَالَ: الْمُطلق يَكْفِي فِي الْعَمَل بِهِ صُورَة وَاحِدَة فَلَا يكون حجَّة فِيمَا عداهُ، وَأَكْثرُوا من هَذَا السُّؤَال فِيمَا لَا يُحْصى كَثْرَة من أَلْفَاظ الْكتاب وَالسّنة، وَصَارَ ذَلِك ديدنا لَهُم فِي الْجِدَال. قَالَ: وَهَذَا عندنَا بَاطِل، بل الْوَاجِب أَن مَا دلّ على الْعُمُوم فِي الذوات - مثلا - يكون دَالا على ثُبُوت الحكم فِي كل ذَات تنَاولهَا اللَّفْظ، وَلَا تخرج عَنْهَا ذَات إِلَّا بِدَلِيل يَخُصهَا، فَمن أخرج شَيْئا من تِلْكَ الذوات فقد خَالف مُقْتَضى الْعُمُوم. مِثَال ذَلِك: إِذا قَالَ: من دخل دَاري فأعطه درهما، فتقتضي الصِّيغَة العمومة فِي كل ذَات صدق عَلَيْهَا أَنَّهَا الدَّاخِلَة. فَإِذا قَالَ قَائِل: هُوَ مُطلق فِي الزَّمَان فأعمل بِهِ فِي الذوات الدَّاخِلَة الدَّار فِي أول النَّهَار - مثلا - وَلَا أعمل بِهِ فِي غير ذَلِك الْوَقْت؛ لِأَنَّهُ مُطلق فِي الزَّمَان، وَقد علمت بِهِ مرّة، فَلَا يلْزم أَن أعمل بِهِ أُخْرَى لعدم عُمُوم الْمُطلق. قُلْنَا: الصِّيغَة لما دلّت على الْعُمُوم فِي كل ذَات دخلت الدَّار، وَمن جُمْلَتهَا الدَّاخِلَة فِي آخر النَّهَار، فَإِذا أخرجت تِلْكَ الذوات فقد أخرجت مَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2343 دلّت الصِّيغَة على دُخُوله، وَقَول أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ: (فقدمنا الشَّام فَوَجَدنَا مراحيض قد بنيت نَحْو الْقبْلَة فننحرف عَنْهَا ونستغفر الله) يدل على أَن الْعَام فِي الْأَشْخَاص عَام فِي الْمَكَان. انْتهى. وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث اخْتَارَهُ ابْن المرحل، والسبكي، وَولده التَّاج: إِنَّه يعم بطرِيق الِالْتِزَام لَا بطرِيق الْوَضع، وجمعوا بَين المقالتين، أَي: فَيلْزم من لَازم تَعْمِيم الْأَشْخَاص عُمُوم فِي الْأَحْوَال والأزمنة، وَالْبِقَاع. وَتكلم على ذَلِك الْبرمَاوِيّ، وَأطَال من كَلَامهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2344 (قَوْله: {فصل} ) {صِيغ الْعُمُوم: اسْم شَرط، واستفهام} . أَي: للْعُمُوم صِيغ عِنْد الْقَائِل بهَا، أَي: بِأَن للْعُمُوم صِيغَة تخصه. مِنْهَا: أَسمَاء الشَّرْط، والاستفهام {كمن فِي (من يعقل) } نَحْو: {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا} [الطَّلَاق: 2] ، {وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه} [الطَّلَاق: 3] ، {من عمل صَالحا فلنفسه} [فصلت: 46] ، {وَمن يقنط من رَحْمَة ربه إِلَّا الضالون} [الْحجر: 56] . وَتَأْتِي (من) الشّرطِيَّة بخصوصها مُنْفَرِدَة بِالْأَحْكَامِ، وَالْخلاف فِيهَا قبل التَّخْصِيص، وَتقول فِي الِاسْتِفْهَام: من عنْدك؟ {و (مَا) فِيمَا لَا يعقل} ، نَحْو، {مَا يفتح الله للنَّاس من رَحْمَة فَلَا مُمْسك لَهَا وَمَا يمسك فَلَا مُرْسل لَهُ من بعده} [فاطر: 2] ، {وَمَا عِنْد الله خير للأبرار} [آل عمرَان: 198] ، {مَا عنْدكُمْ ينْفد وَمَا عِنْد الله بَاقٍ} [النَّحْل: 96] ، وَتقول فِي الِاسْتِفْهَام: مَا عنْدك؟ هَذَا هُوَ الصَّحِيح، أَعنِي أَن اسْتِعْمَال (من) فِيمَا يعقل، وَاسْتِعْمَال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2345 (مَا) فِيمَا لَا يعقل، وَهُوَ اسْتِعْمَال كثير شَائِع، قد ورد فِي الْكتاب وَالسّنة، وَكَلَام الْعَرَب. {وَقيل: (مَا) لَهما} ، يَعْنِي: لمن يعقل وَلمن لَا يعقل فِي الْخَبَر والاستفهام، ذكره ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " عَن جمَاعَة. قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": كل مِن (مَن) و (مَا) قد يسْتَعْمل فِي الآخر كثيرا فِي مَوَاضِع مَشْهُورَة فِي النَّحْو، والعموم مَوْجُود فَلَا حَاجَة لذكر اخْتِصَاص وَلَا غَيره فيهمَا. انْتهى. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: من، وَمَا فِي الِاسْتِفْهَام للْعُمُوم، فَإِذا قُلْنَا: من فِي الدَّار؟ حسن الْجَواب بِوَاحِد، فَيُقَال مثلا: زيد، وَهُوَ مُطَابق للسؤال. فاستشكل ذَلِك قوم. وَجَوَابه: أَن الْعُمُوم إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار حكم الِاسْتِفْهَام، لَا بِاعْتِبَار الْكَائِن فِي الدَّار، فالاستفهام عَم جَمِيع الرتب، فالمستفهم عَم بسؤاله كل وَاحِد يتَصَوَّر كَونه فِيهَا، فالعموم لَيْسَ بِاعْتِبَار الْوُقُوع، بل بِاعْتِبَار الِاسْتِفْهَام، واشتماله على كل الرتب المتوهمة. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2346 وَسَبقه إِلَى ذَلِك الْقَرَافِيّ، بل هُوَ أَخذه من كَلَامه. قَوْله: {و (أَيْن) و (أَنى) و (حَيْثُ) للمكان} ، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ مَعكُمْ أَيْن مَا كُنْتُم} [الْحَدِيد: 4] ، و {أَيْنَمَا تَكُونُوا يدرككم الْمَوْت} [النِّسَاء: 78] فِي الْجَزَاء وَتقول مستفهما: أَنى زيد؟ قَوْله: {و (مَتى) للزمان الْمُبْهم} ، نَحْو: مَتى يقم أقِم. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَقيد ابْن الْحَاجِب وَغَيره عُمُوم (مَتى) بالأزمان المبهمة، فَلَا يُقَال: مَتى طلعت الشَّمْس، بل يُقَال: إِذا طلعت الشَّمْس. وَهَذَا مُرَاد من أطلق الْعبارَة. انْتهى. فَلهَذَا قيدها بذلك. وَاسْتدلَّ لمتى بقول الشَّاعِر: (مَتى تأته تعشو إِلَى ضوء ناره ... تَجِد خير نَار عِنْدهَا خير موقد) أَي: أَي وَقت أتيت، وَنَحْوه فِي الْجَزَاء، مَتى جئتني أكرمتك. وَتقول فِي الِاسْتِفْهَام: مَتى جَاءَ زيد. قَوْله: و (أَي) المضافة للْكُلّ، أَي للعاقل وَغَيره، فَمن الأول: {لنعلم أَي الحزبين أحصى لما لَبِثُوا أمدا} [الْكَهْف: 12] ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت نَفسهَا بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2347 وَمن الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {أَيّمَا الْأَجَليْنِ قضيت فَلَا عدوان عَليّ} [الْقَصَص: 28] وَتقول: أَي وَقت تخرج؟ قَوْله: {وتعم (من) و (أَي) المضافة إِلَى الشَّخْص ضميرهما فَاعِلا كَانَ أَو مَفْعُولا} ، فَلَو قَالَ: من قَامَ مِنْكُم، أَو أَيّكُم قَامَ، أَو من أقمته، أَو أَيّكُم أقمته فَهُوَ حر، فَقَامُوا، أَو أقامهم عتقوا. قَالَ الشَّيْخ مجد الدّين فِي " الْمُحَرر ": وعَلى قِيَاسه، أَي: عَبِيدِي ضَربته أَو من ضَربته من عَبِيدِي فَهُوَ حر، فضربهم، عتقوا. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: و (أَي) عَامَّة فِيمَا تُضَاف إِلَيْهِ من الْأَشْخَاص والأزمان، والأمكنة، وَالْأَحْوَال. وَمِنْه: " أَي امْرَأَة نكحت نَفسهَا ... "، وَيَنْبَغِي تقييدها بالاستفهامية، أَو الشّرطِيَّة، أَو الموصولة؛ لتخرج الصّفة، كمررت بِرَجُل أَي رجل، وَالْحَال: مَرَرْت بزيد أَي رجل. انْتهى. {وَعنهُ: لَا تعم أَي} . قَالَ ابْن أبي مُوسَى فِي " الْإِرْشَاد ": إِن قَالَ أَيّكُم جَاءَ بِخَبَر كَذَا فَهُوَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2348 حر فَجَاءَتْهُ جمَاعَة: فَعَن أَحْمد يعتقون. وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّهَا لَيست للْعُمُوم الشمولي، وَإِنَّمَا للْعُمُوم البدلي: ابْن السَّمْعَانِيّ، وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي، وَأَبُو زيد الدبوسي، وَصَاحب " اللّبَاب " من الْحَنَفِيَّة، وَأَنَّهَا نكرَة لَا تَقْتَضِي الْعُمُوم إِلَّا بِقَرِينَة حَتَّى لَو قَالَ: أَي عَبِيدِي ضَربته فَهُوَ حر، فضربهم لَا يعْتق إِلَّا وَاحِد بِخِلَاف (أَي عَبِيدِي ضربك فَهُوَ حر) فضربوه جَمِيعًا عتقوا لعُمُوم فعل الضَّرْب، وَاخْتَارَهُ بعض الشَّافِعِيَّة. قَالَ ابْن مُفْلِح: قَالَ الْحَنَفِيَّة: (أَي عَبِيدِي ضربك حر) ، فَضربُوا عتقوا؛ لعُمُوم صفة الضَّرْب، وَلَو قَالَ: ضَربته فضربهم عتق وَاحِد؛ لِأَنَّهُ نكرَة فِي إثْبَاته إِثْبَات لانْقِطَاع هَذِه الصّفة عَنْهَا إِلَيْهِ، وَلَو قَالَ: من شِئْت من عَبِيدِي فَأعْتقهُ، فشاء عتق كلهم، فَعِنْدَ أبي حنيفَة يَسْتَثْنِي وَاحِد؛ لِأَن من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2349 للتَّبْعِيض، وَعند صَاحِبيهِ يعْتق كلهم؛ لِأَن من للْبَيَان، وَعنهُ: أحدهم. وَقيل: لَا تعم، أَي الموصولة. قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَا عُمُوم فِي الموصولة، نَحْو: (يُعجبنِي أَيهمْ هُوَ قَائِم) فَلَا عُمُوم فِيهَا، بِخِلَاف الشّرطِيَّة، نَحْو: {أيا مَا تدعوا فَلهُ الْأَسْمَاء الْحسنى} [الْإِسْرَاء: 110] ، والاستفهامية نَحْو: {أَيّكُم يأتيني بِعَرْشِهَا} [النَّمْل: 38] ، وَالله أعلم. قَوْله: {وموصول من صِيغ الْعُمُوم} . الْمَوْصُول سَوَاء كَانَ مُفردا كَالَّذي، وَالَّتِي، أَو مثنى، كَقَوْلِه تَعَالَى: {واللذان يأتيانها مِنْكُم} [النِّسَاء: 16] ، أَو مجموعا نَحْو: {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى} [الْأَنْبِيَاء: 101] ، {واللاتي تخافون نشوزهن} [النِّسَاء: 34] ، {واللائي يئسن من الْمَحِيض} [الطَّلَاق: 4] ، وَنَحْوهَا. وَالرَّاجِح عُمُوم الموصولات كلهَا إِلَّا (أَي) على مَا تقدم. قَوْله: {و (كل) } . من صِيغ الْعُمُوم كل، وَهِي أقوى صِيغَة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2350 وَلها بِالنِّسْبَةِ إِلَى إضافتها معَان، مِنْهَا: أَنَّهَا إِذا أضيفت إِلَى نكرَة فَهِيَ لشمُول أَفْرَاده، نَحْو: {كل نفس ذائقة الْمَوْت} [آل عمرَان: 185] . وَمِنْهَا: إِذا أضيفت إِلَى معرفَة، وَهِي جمع، أَو مَا فِي مَعْنَاهُ، فَهِيَ لاستغراق أَفْرَاده أَيْضا، نَحْو: (كل الرِّجَال، أَو كل النِّسَاء على وَجل إِلَّا من أَمنه الله) ، وَفِي الحَدِيث: " كل النَّاس يَغْدُو فبائع نَفسه فمعتقها أَو موبقها ". وَمِنْهَا: إِذا أضيفت إِلَى معرفَة مُفْرد فَهِيَ لاستغراق أَجْزَائِهِ أَيْضا، نَحْو: كل الْجَارِيَة حسن، أَو كل زيد جميل، إِذا علم ذَلِك، فمادتها تَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاق والشمول: كالإكليل لإحاطته بِالرَّأْسِ، والكلالة لإحاطتها بالوالد وَالْولد؛ فَلهَذَا كَانَت أصرح صِيغ الْعُمُوم؛ لشمولها الْعَاقِل وَغَيره، الْمُذكر والمؤنث، الْمُفْرد والمثنى، وَالْجمع، وَسَوَاء بقيت على إضافتها كَمَا مثلنَا، أَو حذفت، نَحْو: {كل لَهُ قانتون} [الْبَقَرَة: 116] ، {كل آمن بِاللَّه} [الْبَقَرَة: 285] . قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب: لَيست فِي كَلَام الْعَرَب كلمة أَعم مِنْهَا تفِيد الْعُمُوم مُبتَدأَة، وتابعة لتأكيد الْعَام، نَحْو: جَاءَ الْقَوْم كلهم. وَهنا فَوَائِد: مِنْهَا: أَن مَا سبق من كَونهَا تستغرق الْأَفْرَاد فِيمَا إِذا أضيفت لجمع معرف كَمَا لَو أضيفت إِلَى نكرَة فَيكون من الْكُلية، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِكَايَة عَن ربه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2351 - عز وَجل -: " يَا عبَادي كلكُمْ جَائِع إِلَّا من أطعمته " الحَدِيث، وَهُوَ قَول الْأَكْثَر، وَذهب بَعضهم إِلَى أَنه من الْكل المجموعي لَا من الْكُلية. وَمِنْهَا: إِذا دخلت كل على جمع معرف بِاللَّامِ، وَقُلْنَا بعمومها، فَهَل الْمُفِيد للْعُمُوم الْألف وَاللَّام وكل تَأْكِيد، أَو اللَّام لبَيَان الْحَقِيقَة، وكل لتأسيس إِفَادَة الْعُمُوم؟ الثَّانِي أظهر؛ لِأَن كلا إِنَّمَا تكون مُؤَكدَة إِذا كَانَت تَابِعَة، وَقد يُقَال: اللَّام أفادت عُمُوم مَرَاتِب مَا دخلت عَلَيْهِ، وكل أفادت استغراق الْأَفْرَاد، فنحو (كل الرِّجَال) تفِيد فِيهَا الْألف وَاللَّام عُمُوم مَرَاتِب جمع الرجل، وكل استغراق الْآحَاد، وَلِهَذَا قَالَ ابْن السراج: إِن (كل) لَا تدخل فِي الْمُفْرد، والمعرف بِالْألف وَاللَّام إِذا أُرِيد بِكُل مِنْهُمَا الْعُمُوم. انْتهى. وَهُوَ ظَاهر؛ وَلِهَذَا منع دُخُول (أل) على كل وعيب قَول بعض النُّحَاة: بدل الْكل من الْكل. وَمِنْهَا: لَيْسَ من دُخُولهَا على الْمُفْرد والمعرف نَحْو قَوْله تَعَالَى: {كل الطَّعَام كَانَ حلا لبني إِسْرَائِيل} [آل عمرَان: 93] ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2352 " كل الطَّلَاق وَاقع إِلَّا طَلَاق الْمَعْتُوه "؛ لِأَن الظَّاهِر أَنَّهَا مِمَّا هُوَ فِي معنى الْجمع الْمُعَرّف، حَتَّى تكون لاستغراق الْأَفْرَاد لَا الْأَجْزَاء. وَمِنْهَا: مَحل عمومها إِذا لم يدْخل عَلَيْهَا نفي مُتَقَدم عَلَيْهَا، نَحْو: (لم يقم كل الرِّجَال) فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ للمجموع، وَالنَّفْي وَارِد عَلَيْهِ وَسميت سلب الْعُمُوم بِخِلَاف مَا لَو تَأَخّر عَنْهَا نَحْو: كل إِنْسَان لم يقم، فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ لاستغراق النَّفْي فِي كل فَرد، وَيُسمى عُمُوم السَّلب. وَهَذِه الْقَاعِدَة مُتَّفق عَلَيْهَا عِنْد أَرْبَاب الْبَيَان، وَأَصلهَا قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ: " كل ذَلِك لم يكن " جَوَابا لقَوْله: (أنسيت، أم قصرت الصَّلَاة؟) أَي: لم يكن كل من الْأَمريْنِ، لَكِن بِحَسب ظَنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلذَلِك صَحَّ أَن يكون جَوَابا للاستفهام عَن أَي الْأَمريْنِ وَقع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2353 وَلَو كَانَ لنفي الْمَجْمُوع لم يكن مطابقا للسؤال، وَلَا لقَوْل ذِي الْيَدَيْنِ فِي بعض الرِّوَايَات قد كَانَ بعض ذَلِك؛ فَإِن السَّلب الْكُلِّي نقيضه الْإِيجَاب الجزئي. وَأورد على قَوْلهم تقدم النَّفْي لسلب الْعُمُوم نَحْو قَوْله تَعَالَى: {إِن كل من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض إِلَّا آتِي الرَّحْمَن عبدا} [مَرْيَم: 93] ، فَيَنْبَغِي أَن تقيد الْقَاعِدَة بِأَن لَا ينْتَقض النَّفْي، فَإِن انْتقض كَانَت لعُمُوم السَّلب. وَقد يُقَال: انْتِقَاض النَّفْي قرينَة إِرَادَة عُمُوم السَّلب. قَالَه الْبرمَاوِيّ وَأطَال هُنَا وَفِي الْحُرُوف. قَوْله: {و (جمع) } من صِيغ الْعُمُوم، جَمِيع وَهِي مثل كل إِلَّا أَنَّهَا لَا تُضَاف إِلَّا إِلَى معرفَة، فَلَا يُقَال: جَمِيع رجل، وَيَقُول: جَمِيع النَّاس، وَجَمِيع العبيد. ودلالتها على كل فَرد فَرد بطرِيق الظُّهُور بِخِلَاف كل، فَإِنَّهَا بطرِيق النصوصية. وَفرق الْحَنَفِيَّة بَينهمَا بِأَن كلا تعم على جِهَة الِانْفِرَاد، وجميعا على جِهَة الِاجْتِمَاع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2354 قَالَ بَعضهم: إِذا كَانَت (جَمِيع) إِنَّمَا تُضَاف لمعْرِفَة فَهُوَ إِمَّا بِاللَّامِ، أَو بِكَوْنِهِ مُضَافا لمعْرِفَة، وكل مِنْهُمَا يُفِيد الْعُمُوم فَلم تفده جَمِيع. وَجَوَابه: أَن مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام تقدر حِينَئِذٍ أَنَّهَا للْجِنْس والعموم مُسْتَفَاد من جَمِيع. وَأما الْمُضَاف، نَحْو: جَمِيع غُلَام زيد، فَلَيْسَتْ فِيهِ لعُمُوم كل فَرد، بل لعُمُوم الْأَجْزَاء كَمَا تقدم. قَوْله: {وَنَحْوه} ، إِشَارَة إِلَى مَا كَانَ من هَذِه الْمَادَّة مثلهَا فِي الْعُمُوم كأجمع، وأجمعين، وَنَحْوهمَا، وَمن زعم أَن أَجْمَعِينَ تَقْتَضِي الِاتِّحَاد فِي الزَّمَان بِخِلَاف جَمِيع، فَالْأَصَحّ خلاف قَوْله، قَالَ الله تَعَالَى: {ولأغوينهم أَجْمَعِينَ} [الْحجر: 39] . وَاخْتلف فِي (أجمع) وَنَحْوه إِذا وَقع بعد كل: هَل التَّأْكِيد بِالْأولِ، وَالثَّانِي زِيَادَة فِيهِ أَو بِكُل مِنْهُمَا أَو بهما مَعًا؟ الْأَرْجَح الأول كَمَا فِي سَائِر التوابع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2355 وَمن مَادَّة جَمِيع أَيْضا: جَاءَ الْقَوْم بأجمعهم - وَهُوَ بِضَم الْمِيم - جمعُ جمعٍ، وَسُكُون ثَانِيه، كَعبد وأعبد، وَلَا يُقَال: بأجمعهم - بِفَتْح الْمِيم - لِئَلَّا يتَوَهَّم أَنه أجمع الَّذِي يُؤَكد بِهِ؛ لِأَن ذَلِك لَا يُضَاف للضمير وَلَا يدْخل على حرف الْجَرّ. قَالَه الحريري فِي " درة الغواص "، وَحكى ابْن السّكيت الْوَجْهَيْنِ وَإِن كَانَ الأقيس الضَّم. قَوْله: {ومعشر ومعاشر وَعَامة وكافة وقاطبة} . ذكر الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": أَن من صِيغ الْعُمُوم الَّتِي هِيَ نَحْو جَمِيع هَذِه الْخَمْسَة الْأَلْفَاظ، نَحْو: {يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس} [الرَّحْمَن: 33] ، " إِنَّا معشر الْأَنْبِيَاء لَا نورث "، {وقاتلوا الْمُشْركين كَافَّة كَمَا يقاتلونكم كَافَّة} [التَّوْبَة: 36] ، وَقَالَت عَائِشَة: (لما مَاتَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ارْتَدَّت الْعَرَب قاطبة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2356 قَالَ ابْن الْأَثِير: أَي جَمِيعهم، لَكِن معشر ومعاشر لَا يكونَانِ إِلَّا مضافين بِخِلَاف قاطبة، وَعَامة، وكافة، فَإِنَّهَا تُضَاف وَتفرد. قَوْله: {وَجمع مُطلقًا معرف بلام أَو إِضَافَة} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 1] . من جملَة صِيغ الْعُمُوم الْجمع الْمُعَرّف تَعْرِيف جنس سَوَاء كَانَ الْمُذكر، أَو مؤنث سَالم، أَو مكسر، جمع قلَّة أَو كَثْرَة، فَلهَذَا قُلْنَا: وَجمع مُطلقًا، ليشْمل هَذَا كُله. وَمن أمثلته أَيْضا: {أَن الله بَرِيء من الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 3] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَترى الْجبَال تحسبها جامدة} [النَّمْل: 88] ، {إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات} [الْأَحْزَاب: 35] ، فَجمع الْكَثْرَة كرجال وَصَوَاحِب، والسالم الْمُذكر: الْمُسلمُونَ، والمؤنث: المسلمات، والتكسير: كأكسية، وأفلس، وصبية، وأجمال، والقلة: من ثَلَاثَة، أَو اثْنَيْنِ إِلَى أحد عشر، وَمن بعْدهَا للكثرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2357 أَو جمع معرف بِالْإِضَافَة، نَحْو: عَبِيدِي أَحْرَار، ونسائي طَوَالِق، وَنَحْوهمَا، وَقَوله تَعَالَى: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] ، و {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} [النِّسَاء: 23] ، وَهَذَا قَول أَكثر الْعلمَاء وَالصَّحِيح عَنْهُم. قَالَ ابْن برهَان: القَوْل بعمومها هُوَ قَول مُعظم الْعلمَاء. قَالَ ابْن الصّباغ: هُوَ إِجْمَاع أَصْحَابنَا. وَدَلِيله: أَن الْعلمَاء لم تزل تستدل بِآيَة السّرقَة وَآيَة الزِّنَا، وَآيَة الْأَمر بِقِتَال الْمُشْركين، وَنَحْو ذَلِك، وَمِنْهَا قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي التَّشَهُّد فِي السَّلَام علينا وعَلى عباد الله الصَّالِحين: " فَإِنَّكُم إِذا قُلْتُمْ ذَلِك فقد سلمتم على كل عبد الله صَالح فِي السَّمَاء وَالْأَرْض " رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم. وَقيل: لَا تعم، فَلَا تفِيد الِاسْتِغْرَاق. وَحَكَاهُ صَاحب الْمُعْتَمد عَن الجبائي، وَحكي أَيْضا عَن جمع من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2358 الْفُقَهَاء، وَحكي أَيْضا فِي " الْمُعْتَمد " عَن أبي هَاشم أَنه يُفِيد الْجِنْس دون الِاسْتِغْرَاق، وَحَكَاهُ غَيره عَنهُ أَيْضا وَعَن الْفَارِسِي. وَقيل: لَا يعم غَيره، قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": قَالَ البستي: الْكَامِل فِي الْعُمُوم هُوَ الْجمع؛ لوُجُود صورته وَمَعْنَاهُ، وَمَا عداهُ قَاصِر فِي الْعُمُوم؛ لِأَنَّهُ لصيغته إِنَّمَا يتَنَاوَل وَاحِدًا لكنه يَنْتَظِم جَمِيعًا من المسميات معنى فالعموم قَائِم بمعناها لَا بصيغتها. انْتهى. قَالَ القَاضِي وَغَيره: التَّعْرِيف يصرف الِاسْم إِلَى مَا الْإِنْسَان بِهِ أعرف، فَإِن كَانَ معهودا فَهُوَ بِهِ أعرف فَيَنْصَرِف إِلَيْهِ، وَلَا يكون مجَازًا وَإِلَّا انْصَرف إِلَى الْجِنْس؛ لِأَنَّهُ بِهِ أعرف من أَبْعَاضه، وَاحْتج بعمومها مَعَ الْعَهْد على من خَالف فِيهِ مَعَ الْجِنْس. وَقَالَهُ أَبُو الْحُسَيْن، وَأَبُو الْخطاب، وَقَالَ: لَو قيل: يصير الِاسْم مجَازًا بِقَرِينَة الْعَهْد، لجَاز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2359 وَقَالَ ابْن مُفْلِح: وَجزم بِهِ غَيره. قَالَ الْبرمَاوِيّ: زعم بَعضهم أَن القَوْل بِعُمُوم الْجمع الْمُعَرّف إِذا كَانَ جمع قلَّة مُشكل؛ لِأَنَّهُ إِلَى عشرَة والعموم يُنَافِي ذَلِك، وَعنهُ أجوبة كَثِيرَة: مِنْهَا: جَوَاب أبي الْمَعَالِي: حمل كَلَام سِيبَوَيْهٍ والنحاة على الْمُنكر وَكَلَام الْأُصُولِيِّينَ على الْمُعَرّف. وَمِنْهَا: أَن أصل الْوَضع فِي الْقلَّة ذَلِك، وَلَكِن اسْتِعْمَاله كالكثرة إِمَّا بعرف الِاسْتِعْمَال أَو بعرف الشَّرْع. وَمِنْهَا: أَن الْمُقْتَضى للْعُمُوم إِذا دخل على الْوَاحِد لَا تَدْفَعهُ وحدته فدخوله على جمع الْقلَّة لَا يَدْفَعهُ تحديده بِهَذَا الْعدَد من بَاب أولى. وَقيل: السُّؤَال من أَصله لَا يرد، فقد قَالَ الزّجاج وَابْن خروف: إِن جمعي الْقلَّة وَالْكَثْرَة سَوَاء. وَقيل: لَا يرد لأمر آخر، وَهُوَ: أَن الْمُقْتَضى للْعُمُوم إِذا دخل على جمع، فِيهِ خلاف سَيَأْتِي أَن آحاده جموع أَو وحدان، فَإِن كَانَ وحدانا فقد ذهب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2360 اعْتِبَار الجمعية بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِن كَانَ جموعا فَلَا تنَافِي بَين استغراق كل جمع جمع؛ لِأَن تِلْكَ الجموع كل وَاحِد مِنْهَا لَهُ عدد معِين، وَقيل: غير ذَلِك. انْتهى. تَنْبِيه: على القَوْل بِالْعُمُومِ قيل: أَفْرَاده جموع، وَالأَصَح آحَاد فِي الْإِثْبَات وَغَيره، وَعَلِيهِ أَئِمَّة التَّفْسِير فِي اسْتِعْمَال الْقُرْآن، نَحْو: {وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ} [آل عمرَان: 134] أَي: يحب كل محسن، {فَإِن الله لَا يحب الْكَافرين} [آل عمرَان: 32] أَي: كلا مِنْهُم بِأَن يعاقبهم، {فَلَا تُطِع المكذبين} [الْقَلَم: 8] أَي: كل وَاحِد مِنْهُم، وتؤيده صِحَة اسْتثِْنَاء الْوَاحِد مِنْهُ، نَحْو: جَاءَ الرِّجَال إِلَّا زيدا، وَلَو كَانَ مَعْنَاهُ جَاءَ كل جمع من جموع الرِّجَال لم يَصح إِلَّا أَن يكون مُنْقَطِعًا، قَالَه الْمحلي وَغَيره. قَالَ من قَالَ بِالْأولِ: يَقُول: قَامَت قرينَة الْآحَاد فِي الْآيَات الْمَذْكُورَة وَنَحْوهَا. قَوْله: {وَاسم جنس معرف تَعْرِيف جنس} ، وَهُوَ مَا لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه كالناس، وَالْحَيَوَان، وَالْمَاء، وَالتُّرَاب، وَنَحْوهَا، حملا للتعريف على فَائِدَة لم تكن، وَهُوَ تَعْرِيف جمع الْجِنْس؛ لِأَنَّهُ الظَّاهِر كالجمع، وَالِاسْتِثْنَاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2361 مِنْهُ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِن الْإِنْسَان لفي خسر (2) إِلَّا الَّذين آمنُوا} [الْعَصْر: 2، 3] . {وَقَالَ الْغَزالِيّ: إِن تميز واحده عَن جنسه بِالتَّاءِ وخلا عَنْهَا أَو لم يتَمَيَّز بوصفه بالوحدة عَم وَإِلَّا فَلَا} ، كالبر، وَالتَّمْر، وَنَحْوهمَا فَيعم؛ لِأَن وَاحِد الْبر برة، وَوَاحِدَة التَّمْر تَمْرَة بِخِلَاف مَا لم يدْخل عَلَيْهِ التَّاء، كَالرّجلِ، وَالدُّنْيَا، فَلَا عُمُوم فِي ذَلِك. قَوْله: {وَلَا يعم مَعَ قرينَة اتِّفَاقًا} ، إِذا عَارض اسْم الْجِنْس الْمُعَرّف تَعْرِيف الْجِنْس قرينَة عهد منعته الْعُمُوم اتِّفَاقًا، وَذَلِكَ كسبق تنكير قَوْله تَعَالَى: {كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا (15) فعصى فِرْعَوْن الرَّسُول} [المزمل: 15، 16] ؛ لِأَنَّهُ يصرفهُ إِلَى ذَلِك، فَلَا يعم إِذا عرف، إِرَادَة الْعَهْد لقَرِينَة، وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {يَا لَيْتَني اتَّخذت مَعَ الرَّسُول سَبِيلا} [الْفرْقَان: 27] ، وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَيْسَ الذّكر كالأنثى} [آل عمرَان: 36] . وَمِمَّنْ نقل الِاتِّفَاق على ذَلِك الْفَخر الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " وَغَيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2362 [ {وَمَعَ جهلها يعم عندنَا وَعند الْأَكْثَر ووقف أَبُو الْمَعَالِي وَإِن عَارض الِاسْتِغْرَاق احْتِمَال تَعْرِيف جنس وَعرف. كعلي الطَّلَاق وَنَحْوه لم يعم على الْأَصَح. ومفرد محلي بلام غير عهدية عندنَا وَعند الْأَكْثَر كَالرّجلِ وَالسَّارِق لفظا عِنْد الْأَكْثَر، وَقَالَ السَّمْعَانِيّ: معنى، وَقَالَ الرَّازِيّ وَغَيره: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2363 لَا يعم، وَقيل: مُجمل. وَجمع مُضَاف ومفرد مُضَاف لمعْرِفَة كعبدي وامرأتي، عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه وَمَالك وَبَعض أَصْحَابه تبعا لعَلي وَابْن عَبَّاس وَحكي عَن الْأَكْثَر، وَخَالف الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة. ونكرة فِي نفي: وضعا، وَقيل: لُزُوما، نصا وظاهرا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2364 وَعند أبي الْبَقَاء وَغَيره لَا تعمم إِلَّا مَعَ من ظَاهِرَة أَو مقدرَة، وَحكي إِجْمَاع وَمَعَ من الْعُمُوم قَطْعِيّ فَلَا مجَاز. وَفِي إِثْبَات لامتنان واستفهام إنكاري، وَفِي نهي، وَقيل: وَأمر، قَالَ أَبُو الْمَعَالِي وَالشَّيْخ وَغَيرهمَا وَشرط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2365 قَالَ الشَّيْخ: هَل تفيده لفظا أَو معنى فِيهِ نظر. وَفِي " الْمُغنِي " مَا يدل على أَنَّهَا لَا تعم. وَجمع مُنكر غير مُضَاف لَا يعم عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه وَالْأَكْثَر، وَيحمل على أقل الْجمع. وَقَالَ أَبُو ثَوْر: وَجمع يعم. فَائِدَتَانِ: الأولى: الْأَكْثَر ساير بِمَعْنى بَاقٍ، وَفِي الصِّحَاح وَغَيرهَا لجملة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2366 الشَّيْء، وَهُوَ فِي كَلَام الْخرقِيّ والموفق وَجمع. الثَّانِيَة: معيار الْعُمُوم صِحَة الِاسْتِثْنَاء من غير عدد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2367 ( فصل :) الْأَرْبَعَة وَغَيرهم: أقل الْجمع ثَلَاثَة حَقِيقَة. والأستاذ والباقلاني وَالْغَزالِيّ وَبَعض أَصْحَابنَا والمالكية وَغَيرهم اثْنَان حَقِيقَة، ثمَّ قَالَ: أَبُو الْمَعَالِي: يَصح فِي الِاثْنَيْنِ وَالْوَاحد مجَازًا وَقيل فِي الِاثْنَيْنِ. وَقيل: لَا يَصح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2368 فَائِدَة: مَحل الْخلاف فِي غير لفظ " جمع " و " نَحن " و " قُلْنَا " و " قُلُوبكُمَا " مِمَّا فِي الْإِنْسَان مِنْهُ شَيْء وَاحِد فَإِنَّهُ وفَاق وَأَقل الْجَمَاعَة فِي غير صَلَاة ثَلَاثَة. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وَصَاحب الْبلْغَة: اثْنَان. وَقيل: جمع قلَّة من ثَلَاثَة إِلَى عشرَة حَقِيقَة، وَجمع كَثْرَة مَا زَاد على عشرَة حَقِيقَة وَحكي عَن أهل اللُّغَة} ] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2369 وَقَالَ ابْن الصّباغ: إِنَّه قَول أَصْحَابنَا وَبِه قَالَ ألكيا. قَالَ: لكنه دون مَا [لم] يتَطَرَّق التَّخْصِيص إِلَيْهِ يكسبه ضربا من التَّجَوُّز. وَقَالَ الدبوسي: هُوَ الَّذِي صَحَّ عندنَا من مَذْهَب السّلف ... قَالَ: لكنه غير مُوجب للْعلم قطعا بِخِلَاف مَا قبل التَّخْصِيص. انْتهى. وَالْمرَاد فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِذا خص بِمَعْلُوم، أَو خص باستثناء بِمَعْلُوم على مَا يَأْتِي فِي كلامنا فِي أَوَاخِر الْمَسْأَلَة. وَقيل: حجَّة فِي أقل الْجمع اثْنَيْنِ، أَو ثَلَاثَة على الْخلاف، لَا فِي مَا زَاد، حَكَاهُ الباقلاني، وَالْغَزالِيّ، والقشيري، وَقَالَ: إِنَّه تحكم. وَقَالَ الْهِنْدِيّ: لَعَلَّه قَول من لَا يجوز التَّخْصِيص إِلَيْهِ. وَقيل: حجَّة فِي وَاحِد فَقَط، حَكَاهُ الْغَزالِيّ فِي " المنخول " عَن أبي هَاشم، وَلَا يتَمَسَّك بِهِ فِي جمع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2370 وَقَالَ الْبَلْخِي: حجَّة إِن خص بِمُتَّصِل، وَإِن خص بمنفصل فمجمل فِي الْبَاقِي. وَقَالَ أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ: إِن كَانَ الْعُمُوم منبئا عَنهُ قبل التَّخْصِيص ك {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} منبئ عَن الذِّمِّيّ، وَإِلَّا فَلَا، ك (السَّارِق) لَا يُنبئ عَن النّصاب والحرز فيفتقر إِلَى بَيَان كَحكم مُجمل. قَالَ الْبرمَاوِيّ: ك {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] فَهُوَ حجَّة فَإِنَّهُ يُنبئ عَن الْحَرْبِيّ كَمَا يُنبئ عَن الْمُسْتَأْمن، وَإِن يكن منبئا فَلَيْسَ بِحجَّة، ك {وَالسَّارِق والسارقة} [الْمَائِدَة: 38] فَإِنَّهُ لَا يُنبئ عَن النّصاب والحرز، فَإِذا انْتَفَى الْعَمَل بِهِ عِنْد عدم النّصاب والحرز، لم يعْمل بِهِ عِنْد وجودهما. انْتهى. قَالَ عبد الْجَبَّار: إِن كَانَ قبله غير مفتقر إِلَى بَيَان ك (الْمُشْركين) فَهُوَ حجَّة، وَإِلَّا فَلَا، ك (أقِيمُوا الصَّلَاة) فَإِنَّهُ مفتقر قبل إِخْرَاج الْحَائِض. قَالَ الْبرمَاوِيّ: هُوَ حجَّة عندنَا إِن كَانَ لَا يتَوَقَّف على الْبَيَان، ك (الْمُشْركين) فَإِنَّهُ بَين فِي الذِّمِّيّ قبل إِخْرَاجه بِخِلَاف نَحْو: (أقِيمُوا الصَّلَاة) فَإِنَّهُ مفتقر إِلَى الْبَيَان قبل إِخْرَاج الْحَائِض من عُمُوم اللَّفْظ؛ وَلذَلِك بَينه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقَالَ: " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ". انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2371 قَالَ ابْن مُفْلِح: رد؛ إِذْ لَا فرق، ثمَّ فرق ابْن عقيل بِأَنَّهُ إِذا خرج من (أقِيمُوا الصَّلَاة) من لم يرد، وَلم يُمكن الْحمل على المُرَاد بِالْآيَةِ. انْتهى. وَقَالَ أَبُو ثَوْر، وَبَعض أَصْحَابنَا، وَعِيسَى بن أبان، والكرخي، وَحَكَاهُ الْقفال الشَّاشِي عَن أهل الْعرَاق، وَحَكَاهُ الْغَزالِيّ عَن الْقَدَرِيَّة، وَنَقله إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَابْن الْقشيرِي، عَن كثير من الشَّافِعِيَّة، والمالكية، وَالْحَنَفِيَّة، وَعَن الجبائي وَابْنه: إِنَّه لَيْسَ بِحجَّة. قَالُوا: لِأَن اللَّفْظ مَوْضُوع للاستغراق وَإِنَّمَا يخرج عَنهُ بِقَرِينَة، وَمِقْدَار تَأْثِير الْقَرِينَة فِي اللَّفْظ مَجْهُول فَيصير مُجملا. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَمُرَاد من قَالَ من أَصْحَابنَا بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحجَّة إِلَّا فِي الِاسْتِثْنَاء بِمَعْلُوم فَإِنَّهُ بالِاتِّفَاقِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2372 ذكره القَاضِي وَالْمجد من أَصْحَابنَا وَغَيرهمَا، وَاحْتَجُّوا بِهِ وَفهم الْآمِدِيّ، وَغَيره الْإِطْلَاق فَلم يستثنوا ذَلِك. قَوْله: {وَقيل بِالْوَقْفِ} ، أَي فِي الْمَسْأَلَة، فَلَا يحكم بِأَنَّهُ خَاص أَو عَام أَلا بِدَلِيل، حَكَاهُ ابْن الْقطَّان، وَجعله مغايرا لقَوْل ابْن أبان وَغَيره. نعم، من يَقُول: أَنه مُجمل اخْتلفُوا: هَل هُوَ مُجمل من حَيْثُ اللَّفْظ وَالْمعْنَى؛ فَإِنَّهُ لَا يعقل المُرَاد من ظَاهره إِلَّا بِقَرِينَة، أَو مُجمل من حَيْثُ الْمَعْنى فَقَط؟ وَجْهَان للشَّافِعِيَّة: الْأَكْثَرُونَ على الثَّانِي لافتقار الْعَام الْمَخْصُوص لقَرِينَة تبين مَا هُوَ مُرَاد بِهِ، وافتقار الْعَام المُرَاد بِهِ خَاص إِلَى قرينَة تبين مَا لَيْسَ مرَادا بِهِ فتزيد الْمذَاهب. وَاسْتدلَّ للصحيح بِمَا سبق فِي إِثْبَات الْعُمُوم بِأَن الصَّحَابَة لم تزل تستدل بالعمومات مَعَ وجود التَّخْصِيص فِيهَا، وَلَو قَالَ: أكْرم بني تَمِيم وَلَا تكرم فلَانا فَترك عصي قطعا، وَلِأَنَّهُ كَانَ حجَّة، وَالْأَصْل بَقَاؤُهُ؛ وَلِأَن دلَالَته على بعض لَا تتَوَقَّف على بعض آخر للدور. وَاسْتدلَّ: لَو لم يكن حجَّة بعد التَّخْصِيص كَانَت دلَالَته عَلَيْهِ قبله مَوْقُوفَة على دلَالَته على الآخر وَاللَّازِم بَاطِل؛ لِأَنَّهُ إِن عكس فدور، وَإِلَّا فتحكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2373 فَأُجِيب بِالْعَكْسِ، وَلَا دور؛ لِأَنَّهُ توقف معية كتوقف كل من معلولي عِلّة على الآخر، لَا توقف تقدم كتوقف مَعْلُول على عِلّة. قَالُوا: صَار مجَازًا. رد بِالْمَنْعِ، ثمَّ هِيَ حجَّة. وَأجَاب أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " بِأَنَّهُ مجَاز لُغَة، حَقِيقَة شرعا. قَالُوا: صَار مُجملا؛ لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه مجَاز فِي الْبَاقِي، وَفِي كل فَرد مِنْهُ، وَلَا تَرْجِيح. رد: بِالْمَنْعِ؛ لِأَن الْبَاقِي كَانَ مرَادا، وَالْأَصْل بَقَاؤُهُ. فَائِدَة: قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ، وَغَيره فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مُفَرع على القَوْل بِأَن الْعَام بعد التَّخْصِيص مجَاز، فَأَما إِن قُلْنَا إِنَّه حَقِيقَة فَهُوَ حجَّة قطعا، وَكَانَ يَنْبَغِي الإفصاح فِي ذَلِك؛ لدفع الْإِيهَام. انْتهى. قلت: وَهُوَ ظَاهر صَنِيع ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، فَإِنَّهُ فِي الْمَسْأَلَة الأولى نصر أَن الْعَام بعد التَّخْصِيص مجَاز، وَنصر بعد ذَلِك أَنه حجَّة. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: قد ذكرنَا أَن الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مُفَرع على الَّتِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2374 قبلهَا، نعم، من جوز التَّعَلُّق بِهِ مَعَ كَونه مجَازًا كَالْقَاضِي يبْقى الْخلاف على قَوْله لفظيا، كَمَا قَالَه أَبُو حَامِد وَغَيره؛ لِأَنَّهُ هَل يحْتَج بِهِ، وَيُسمى مجَازًا أم لَا يُسمى مجَازًا؟ وَقَالَ صَاحب " الْمِيزَان " من الْحَنَفِيَّة: إِن الْمَسْأَلَة مفرعة على أَن دلَالَة الْعَام على أَفْرَاده قَطْعِيَّة، أَو ظنية، فَمن قَالَ قَطْعِيَّة جعل الَّذِي خص كَالَّذي لم يخص. قيل: وَفِيه نظر. وَقيل: مفرعة على أَن اللَّفْظ الْعَام هَل يتَنَاوَل الْجِنْس، وتندرج الْآحَاد تَحْتَهُ ضَرُورَة اشتماله عَلَيْهَا، أَو يتَنَاوَل الْآحَاد وَاحِدًا وَاحِدًا؛ حَتَّى يسْتَغْرق الْجِنْس؟ فالمعتزلة قَالُوا بِالْأولِ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاق يظْهر عُمُومه، فَإِذا خص تبين أَنه لم يرد الْعُمُوم، وَعند إِرَادَة عدم الْعُمُوم لَيْسَ بعض أولى من بعض فَيكون مُجملا. انْتهى. تَنْبِيه: وَقد علمنَا أَن هَذَا الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَام الْمَخْصُوص، أما الْعَام المُرَاد بِهِ الْخُصُوص فمجاز قطعا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2375 قَوْله: {وَلَو خص بِمَجْهُول لم يكن حجَّة كاقتلوا الْمُشْركين إِلَّا بَعضهم اتِّفَاقًا} . قَالَه جمع مِنْهُم: الباقلاني، والآمدي، والأصفهاني فِي " شرح الْمَحْصُول "، وَهُوَ ظَاهر تَقْيِيد ابْن الْحَاجِب، والبيضاوي، وَغَيرهمَا. مَحل الْخلاف الْمُخَصّص بِمعين، وَقطع بِهِ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، وَغَيرهمَا، فَلَا يسْتَدلّ بِالْآيَةِ على الْأَمر بقتل فَرد من الْأَفْرَاد، إِذْ مَا من فَرد إِلَّا وَيجوز أَن يكون هُوَ الْمخْرج، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم} [الْمَائِدَة: 1] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2376 وَقَالَ الرَّازِيّ وَغَيره: حجَّة. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَاخْتَارَهُ صَاحب " الْمَحْصُول "، وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي " التَّمْهِيد "، فَإِنَّهُ قَالَ: أَلا ترى أَنه لَو أقرّ بِعشْرَة إِلَّا درهما لزمَه تِسْعَة، وَلَو قَالَ: إِلَّا شَيْئا إِلَّا عددا جهلنا الْبَاقِي فَلم يُمكن الحكم بِهِ، فعلى هَذَا يقف على الْبَيَان. انْتهى. وَقدمه فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَعَزاهُ إِلَى الْأَكْثَر، وَتبع فِي ذَلِك ابْن برهَان، وَالصَّوَاب مَا تقدم، وَالَّذِي حَكَاهُ الْبرمَاوِيّ عَن الرَّازِيّ أَنه لَيْسَ بِحجَّة، فَليعلم ذَلِك، قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَلَيْسَ حِكَايَة الِاتِّفَاق بصحيحة. فَفِي " الْوَجِيز " لِابْنِ برهَان حِكَايَة الْخلاف فِي هَذِه الْحَالة، بل صحّح الْعَمَل بِهِ مَعَ الْإِبْهَام قَالَ: لأَنا إِذا نَظرنَا إِلَى فَرد شككنا فِيهِ: هَل هُوَ من الْمخْرج، أَو لَا؟ وَالْأَصْل عَدمه فَيبقى على الأَصْل، وَيعْمل بِهِ إِلَى أَن يعلم بِالْقَرِينَةِ، أَن الدَّلِيل الْمُخَصّص معَارض للفظ الْعَام، وَإِنَّمَا يكون مُعَارضا عِنْد الْعلم بِهِ. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2377 وَهُوَ صَرِيح فِي الإضراب عَن الْمُخَصّص، وَالْعَمَل بِالْعَام فِي جَمِيع أَفْرَاده وَهُوَ بعيد، وَإِن قَالَ بِهِ بعض الْحَنَفِيَّة، وَحكي عَن بعض الشَّافِعِيَّة. وَبِالْجُمْلَةِ فالراجح الْمَنْع؛ لِأَن إِخْرَاج الْمَجْهُول من الْمَعْلُوم، يصير الْمَعْلُوم مَجْهُولا. قَوْله: {فَائِدَتَانِ: الأولى: الْعَام الْخُصُوص عُمُومه مُرَاد تناولا لَا حكما، وقرينته لفظية قد تنفك عَنهُ، وَالْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص لَيْسَ مرَادا، بل كلي اسْتعْمل فِي جزئي، وَمن ثمَّ كَانَ مجَازًا قطعا، وقرينته عقلية، لَا تنفك عَنهُ، وَالْأول أَعم مِنْهُ} . لم يتَعَرَّض كثير من الْعلمَاء، بل أَكْثَرهم للْفرق بَين الْعَام الْمَخْصُوص وَالْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص، وَهُوَ من مهمات هَذَا الْبَاب، وَهُوَ عَزِيز الْوُجُود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2378 قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَقد أَشَارَ الشَّافِعِي إِلَى تغايرهما فِي ترديده فِي آيَة البيع وَنَحْوه، وَكَثُرت مقالات أَصْحَابه فِي تَقْرِير ذَلِك، وَفرق بَينهمَا أَبُو حَامِد أَن الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص كَانَ المُرَاد بِهِ أقل، وَمَا لَيْسَ بِمُرَاد هُوَ الْأَكْثَر. قَالَ ابْن أبي هُرَيْرَة: وَلَيْسَ كَذَلِك الْعَام الْمَخْصُوص؛ لِأَن المُرَاد بِهِ هُوَ الْأَكْثَر، وَمَا لَيْسَ بِمُرَاد هُوَ الْأَقَل. قَالَ: ويفترقان فِي الحكم من جِهَة أَن الأول لَا يَصح الِاحْتِجَاج بِظَاهِرِهِ، وَهَذَا يُمكن التَّعَلُّق بِظَاهِرِهِ اعْتِبَارا بِالْأَكْثَرِ. وَفرق الْمَاوَرْدِيّ بِوَجْهَيْنِ، أَحدهمَا هَذَا. وَالثَّانِي: أَن إِرَادَة مَا أُرِيد بِهِ الْعُمُوم، ثمَّ خص مُتَأَخّر أَو تقارن. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: يجب أَن ينتبه للْفرق بَينهمَا، فالعام الْمَخْصُوص أَعم من الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص، أَلا ترى أَن الْمُتَكَلّم إِذا أَرَادَ بِاللَّفْظِ أَولا مَا دلّ عَلَيْهِ ظَاهره من الْعُمُوم، ثمَّ أخرج بعد ذَلِك بعض مَا دلّ عَلَيْهِ اللَّفْظ كَانَ عَاما مَخْصُوصًا، وَلم يكن عَاما أُرِيد بِهِ الْخُصُوص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2379 وَيُقَال: إِنَّه مَنْسُوخ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَعْض الَّذِي أخرج، وَهَذَا مُتَوَجّه إِذا قصد الْعُمُوم، وَفرق بَينه وَبَين أَن لَا يقْصد الْخُصُوص بِخِلَاف مَا إِذا نطق بِاللَّفْظِ الْعَام مرِيدا بِهِ بعض مَا تنَاوله فِي هَذَا. انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَحَاصِل مَا قَرَّرَهُ أَن الْعَام إِذا قصر على بعضه، لَهُ ثَلَاث حالات: الأولى: أَن يُرَاد بِهِ فِي الِابْتِدَاء خَاص، فَهَذَا هُوَ المُرَاد بِهِ خَاص. الثَّانِيَة: أَن يُرَاد بِهِ عَام ثمَّ يخرج مِنْهُ بعضه فَهُوَ نسخ. وَالثَّالِثَة: أَن لَا يقْصد بِهِ خَاص وَلَا عَام فِي الِابْتِدَاء، ثمَّ يخرج مِنْهُ أَمر، ويتبين بذلك أَنه لم يرد بِهِ فِي الِابْتِدَاء عُمُومه، فَهَذَا هُوَ الْعَام الْمَخْصُوص؛ وَلِهَذَا كَانَ التَّخْصِيص عندنَا بَيَانا لَا نسخا، إِلَّا إِن أخرج بعد دُخُول وَقت الْعَمَل بِالْعَام فَيكون نسخا؛ لِأَنَّهُ قد تبين أَن الْعُمُوم أُرِيد فِي الِابْتِدَاء. انْتهى. وَفرق السُّبْكِيّ فَقَالَ: الْعَام الْمَخْصُوص أُرِيد عُمُومه وشموله لجَمِيع الْأَفْرَاد من جِهَة تنَاول اللَّفْظ لَهَا، لَا من جِهَة الحكم، وَالَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص لم يرد شُمُوله لجَمِيع الْأَفْرَاد لَا من جِهَة التَّنَاوُل وَلَا من جِهَة الحكم، بل هُوَ كلي اسْتعْمل فِي جزئي، وَلِهَذَا كَانَ مجَازًا قطعا لنقل اللَّفْظ عَن مَوْضِعه الْأَصْلِيّ بِخِلَاف الْعَام الْمَخْصُوص فَإِن فِيهِ خلافًا يَأْتِي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2380 وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام البُلْقِينِيّ: الْفرق بَينهمَا من أوجه: أَحدهَا: أَن قرينَة الْعَام الْمَخْصُوص لفظية، وقرينة الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص عقلية. الثَّانِي: أَن قرينَة الْمَخْصُوص قد تنفك عَنهُ، وقرينة الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص لَا تنفك عَنهُ. قَالَ الْبرمَاوِيّ بعد أَن حكى الفروق فِي ذَلِك: وَيعلم من ذَلِك أَن قَول بعض متأخري الْحَنَابِلَة فِي الْفرق بِأَن الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ [الْخُصُوص أَن يُطلق الْمُتَكَلّم اللَّفْظ الْعَام وَيُرِيد بِهِ بَعْضًا معينا وَالْعَام الْمَخْصُوص هُوَ الَّذِي أُرِيد بِهِ] سلب الحكم عَن بعض مِنْهُ، وَأَيْضًا فَالَّذِي أُرِيد بِهِ خُصُوص يحْتَاج لدَلِيل معنوي يمْنَع إِرَادَة الْجَمِيع فَتعين لَهُ الْبَعْض، والمخصوص يحْتَاج لدَلِيل لَفْظِي غَالِبا، كالشرط وَالِاسْتِثْنَاء والغاية والمنفصل. انْتهى. وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَيحْتَمل إِرَادَة غَيره، وَلم نطلع على قَائِله. وَقد قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: يجوز وُرُود الْعَام وَالْمرَاد بِهِ الْخُصُوص خَبرا كَانَ أَو أمرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2381 قَالَ أَبُو الْخطاب: وَقد ذكره الإِمَام أَحْمد فِي قَوْله تَعَالَى: {تدمر كل شَيْء بِأَمْر رَبهَا} [الْأَحْقَاف: 25] قَالَ: وَأَتَتْ على أَشْيَاء لم تدمرها كمساكنهم وَالْجِبَال. وَبِه قَالَ الْجُمْهُور. انْتهى. فَهَذَا عَام أُرِيد بِهِ الْخُصُوص فِيمَا يظْهر. قَوْله: {الثَّانِيَة، قيل: لَيْسَ فِي الْقُرْآن عَام لم يخص إِلَّا قَوْله تَعَالَى:} {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} [هود: 6] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم} [الْبَقَرَة: 29] . قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": مَا من عُمُوم إِلَّا وَقد تطرق إِلَيْهِ التَّخْصِيص إِلَّا الْيَسِير، كَقَوْلِه تَعَالَى ... وَذكر الْآيَتَيْنِ. قَالَ الطوفي فِي " الإشارات ": قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم} [الْبَقَرَة: 29] هَذَا عَام لم يخص بِشَيْء أصلا لتَعلق علمه عز وَجل بالمواد الثَّلَاث مَادَّة الْوَاجِب والممكن والممتنع، بِخِلَاف قَوْله تَعَالَى: {إِن الله على كل شَيْء قدير} [الْبَقَرَة: 20] فَإِنَّهُ عَام مَخْصُوص بالمحالات والواجبات الَّتِي لَا تدخل تَحت الْمَقْدُور بِهِ كالجمع بَين الضدين، وكخلق ذَاته وَصِفَاته، وَأَشْبَاه ذَلِك. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2382 قَالَ الْبرمَاوِيّ: اعْترض ابْن دَاوُد على الشَّافِعِي فِي جعله {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} من الْعَام الَّذِي لم يخص، بِأَن من الدَّوَابّ من أفناه الله تَعَالَى قبل أَن يرزقه. ورده الصَّيْرَفِي: بِأَن ذَلِك خطأ؛ لِأَنَّهُ لَا بُد لَهُ من رزق يقوم بِهِ وَلَو بِنَفس يَأْتِيهِ، وَقد جعل الله تَعَالَى غذَاء طَائِفَة من الطير التنفس إِلَى مُدَّة يصلح فِيهَا للْأَكْل وَالشرب. انْتهى. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ أَيْضا: نعم، هَل يُطلق على الْمَعْدُوم شَيْء؟ إِن كَانَ مستحيلا فَلَا، بِلَا خلاف عِنْد الْمُتَكَلِّمين، وَغلظ الزَّمَخْشَرِيّ على الْمُعْتَزلَة فِي ذَلِك، وَإِنَّمَا خلافهم فِي الْمَعْدُوم الَّذِي لَيْسَ بمستحيل. نعم، عِنْد النُّحَاة أَن الْمَعْدُوم يُطلق عَلَيْهِ شَيْء مستحيلا كَانَ أَو لَا. إِذا تقرر أَن المستحيل لَا يُسمى شَيْئا على رَأْي لَا يُسمى شَيْئا على رَأْي الْمُتَكَلِّمين تبين أَن نَحْو قَوْله: {الله على كل شَيْء قدير} من الْعَام الْمَخْصُوص بِالْعقلِ، أَو من الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص على الْخلاف السَّابِق. انْتهى. وَقَالَ بعض أهل الْعلم: الْعَام الْبَاقِي على عُمُومه قَلِيل جدا، وَلم يُوجد مِنْهُ إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {وَالله بِكُل شَيْء عليم} [الْبَقَرَة: 282] ، وَقَوله تَعَالَى: {خَلقكُم من نفس وَاحِدَة} [النِّسَاء: 1] ثمَّ قَالَ: قلت: الظَّاهِر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2383 إِن من ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} الْآيَة [النِّسَاء: 23] ، فَإِن من صِيغ الْعُمُوم الْجمع الْمُضَاف، وَلَا تَخْصِيص فِيهَا. انْتهى. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِي فِي " شرح الطوفي ": وَقد ولع النَّاس كثيرا بقَوْلهمْ: إِن كل عَام فِي الْقُرْآن مَخْصُوص إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم} ، وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا:، وَقد تدبرت ذَلِك فَوجدت فِي الْقُرْآن وَالسّنة مَا لَا تحصى كَثْرَة من العمومات الْبَاقِيَة على عمومها، فَتَأَمّله تَجدهُ كَذَلِك. انْتهى. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: هُنَا نَوْعَانِ: نوع يمْتَنع لذاته مِمَّا يُنَاقض صِفَاته اللَّازِمَة كالموت، وَالنَّوْم، وَالْجهل، واللغوب، وَنَحْوه، فَهَذَا مُمْتَنع وجوده مُطلقًا، كَمَا يمْتَنع وجود إِلَه آخر مسَاوٍ لَهُ، وكما يمْتَنع عَدمه - سُبْحَانَهُ -، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء بِاتِّفَاق الْعُقَلَاء فَلَا يدْخل فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الله على كل شَيْء قدير} فَإِنَّهُ يمْتَنع وجوده فِي الْخَارِج؛ إِذْ كَانَ مستلزما للْجمع بَين النقيضين بَين الْوُجُود والعدم، وَكَون الشَّيْء مَوْجُودا مَعْدُوما مُمْتَنع. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2384 (قَوْله: {فصل} ) {الْجَواب غير المستقل تَابع للسؤال فِي عُمُومه اتِّفَاقًا} ، كجوابه لمن سَأَلَهُ عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ: " أينقص الرطب إِذا يبس؟ " قيل: نعم. قَالَ: " فَلَا إِذا "، لَكِن ابْن قَاضِي الْجَبَل قَالَ: تَابع فِي عُمُومه عِنْد الْأَكْثَر. قَوْله: {وَكَذَا فِي خصوصه} ، يَعْنِي: أَن الْجَواب غير المستقل تَابع للسؤال فِي خصوصه أَيْضا، كنحو قَوْله تَعَالَى: {فَهَل وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا قَالُوا نعم} [الْأَعْرَاف: 44] ، وكحديث أنس: قَالَ رجل: يَا رَسُول الله، الرجل منا يلقى أَخَاهُ أَو صديقه أينحني لَهُ؟ قَالَ: " لَا "، قَالَ: أفيلزمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2385 ويقبله؟ قَالَ: " لَا " قَالَ: فَيَأْخُذ بِيَدِهِ ويصافحه؟ قَالَ: " نعم ". قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن. قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": كَقَوْلِه لغيره: تغد عِنْدِي، فَيَقُول: لَا. وَقَالَ القَاضِي وَغَيره: كَقَوْلِه لأبي بردة: " تجزئك وَلَا تجزيء أحدا بعْدك "، أَي: فِي الْأُضْحِية. قَالَ الْآمِدِيّ: فَهَذَا وَأَمْثَاله وَإِن ترك فِيهِ الاستفصال مَعَ تعَارض الْأَحْوَال لَا يدل على التَّعْمِيم فِي حق غَيره كَمَا قَالَه الشَّافِعِي؛ إِذْ اللَّفْظ لَا عُمُوم لَهُ، وَلَعَلَّ الحكم على ذَلِك الشَّخْص لِمَعْنى مُخْتَصّ بِهِ كتخصيص أبي بردة بقوله: " وَلَا تجزيء أحدا بعْدك "، ثمَّ بِتَقْدِير تَعْمِيم الْمَعْنى فبالعلة لَا بِالنَّصِّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2386 وَقَالَهُ قبله أَبُو الْمَعَالِي لاحْتِمَال مَعْرفَته، فَأجَاب على مَا عرف وعَلى هَذَا تجْرِي أَكثر الْفَتَاوَى من الْمُفْتِينَ. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَالَّذِي عِنْد أَصْحَابنَا التَّعْمِيم، قَالُوا: لَو اخْتصَّ بِهِ لما احْتِيجَ إِلَى تَخْصِيص، {وَهَذَا ظَاهر كَلَام الشَّافِعِي} أَيْضا {فِي قَوْله: ترك الاستفصال فِي حِكَايَة الْحَال مَعَ قيام الِاحْتِمَال ينزل منزلَة الْعُمُوم فِي الْمقَال، وَيحسن بهَا الِاسْتِدْلَال} . قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": وَهَذَا ظَاهر كَلَام الإِمَام أَحْمد؛ لِأَنَّهُ احْتج فِي مَوَاضِع كَثِيرَة بِمثل ذَلِك، وَكَذَلِكَ أَصْحَابنَا. قَالَ الْمجد: فِيمَا سبق إِنَّمَا يمْنَع قُوَّة الْعُمُوم لَا ظُهُوره؛ لِأَن الأَصْل عدم الْمعرفَة لما لم يذكر. وَمثله الشَّافِعِي بقوله لغيلان وَقد أسلم على عشر نسْوَة: " أمسك أَرْبعا " وَلم يسْأَله هَل ورد العقد عَلَيْهِنَّ مَعًا أَو مُرَتبا فَدلَّ على عدم الْفرق. وَرُوِيَ عَن الشَّافِعِي عبارَة أُخْرَى، {وَهِي: حِكَايَة الْحَال؛ إِذا تطرق إِلَيْهَا الِاحْتِمَال كساها ثوب الْإِجْمَال وَسقط بهَا الِاسْتِدْلَال} ، فاختلفت أجوبة الْعلمَاء عَن ذَلِك، فَمنهمْ من قَالَ: هَذَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2387 مُشكل، وَمِنْهُم من قَالَ: لَهُ قَولَانِ. {وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي: يحمل الأول على قَول يُحَال عَلَيْهِ الْعُمُوم، و} يحمل {الثَّانِي على فعل؛ لِأَنَّهُ لَا عُمُوم لَهُ، وَاخْتَارَهُ} شيخ الْإِسْلَام البُلْقِينِيّ، وَابْن دَقِيق الْعِيد فِي " شرح الْإِلْمَام "، والسبكي فِي بَاب مَا يحرم من النِّكَاح فِي " شرح الْمِنْهَاج ". {وَقَالَ الْقَرَافِيّ: الأول مَعَ بعد الِاحْتِمَال} ، وَالثَّانِي مَعَ قرب الِاحْتِمَال ثمَّ الِاحْتِمَال إِن كَانَ فِي دَلِيل الحكم سقط الِاسْتِدْلَال، كَقَوْلِه فِي الْمحرم: " لَا تقربوه طيبا فَإِنَّهُ يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبيا ". وَقَالَ أَيْضا: الأول إِذا كَانَ الِاحْتِمَال فِي مَحل الحكم كقصة غيلَان، وَالثَّانِي إِذا كَانَ الِاحْتِمَال فِي دَلِيل الحكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2388 قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَعند أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه الحكم عَام فِي كل محرم، قَالَ أَصْحَابنَا فِي ذَلِك: حكمه فِي وَاحِد حكمه فِي مثله إِلَّا أَن يرد تَخْصِيصه. وَهَذَا حكمه فِي شُهَدَاء أحد حكم فِي سَائِر الشُّهَدَاء. قَالَ القَاضِي وَغَيره: اللَّفْظ خَاص، وَالتَّعْلِيل عَام فِي كل محرم، وَعند الْحَنَفِيَّة، وَعند الْمَالِكِيَّة يخْتَص بذلك الْمحرم. قَوْله: {وَإِن اسْتَقل الْجَواب} بِحَيْثُ لَو ورد ابْتِدَاء لأفاد الْعُمُوم {وساوى السُّؤَال، تَابعه فِي عُمُومه وخصوصه} عِنْد كَون السُّؤَال عَاما أَو خَاصّا، كَمَا لَو لم يسْتَقلّ، فالخصوص: كسؤال الْأَعرَابِي عَن وَطئه فِي نَهَار رَمَضَان فَقَالَ: " اعْتِقْ رَقَبَة "، والعموم: كسؤال عَن الْوضُوء بِمَاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2389 الْبَحْر، فَقَالَ: " هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ، الْحل ميتَته ". {قَالَ الْغَزالِيّ: هَذَا مُرَاد الشَّافِعِي بالعبارة الأولى} . قَوْله: {وَإِن كَانَ أخص من السُّؤَال اخْتصَّ بِالْجَوَابِ} ، كسؤاله عَن قتل النِّسَاء الكوافر، فَيَقُول: اقْتُلُوا المرتدات فَيخْتَص بِالْجَوَابِ. قَوْله: {وَإِن كَانَ أَعم} ، يَعْنِي إِذا كَانَ الْجَواب أَعم من السُّؤَال فَهُوَ مندرج فِي الْآتِي بعده، وَهُوَ الْعَام على سَبَب خَاص؛ لِأَن السَّبَب قد يكون سؤالا وَقد يكون غَيره. مِثَاله: سُؤَاله عَن مَاء بِئْر بضَاعَة، فَقَالَ: " المَاء طهُور لَا يُنجسهُ شَيْء ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2390 {أَو ورد عَام على سَبَب خَاص بِغَيْر سُؤال} ، كَمَا رُوِيَ أَنه مر بِشَاة ميتَة لميمونة فَقَالَ: " أَيّمَا إهَاب دبغ فقد طهر " {اعْتبر عُمُومه وَلم يقصر على سَببه عِنْد أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أصحابهما، وَالْحَنَفِيَّة، وَأكْثر الْمَالِكِيَّة، والأشعرية} ، فالسبب لَا يخْتَص بِهِ والعموم بَاقٍ على عُمُومه؛ لِأَن عدُول الْمُجيب عَمَّا سُئِلَ عَنهُ، أَو عَمَّا اقْتَضَاهُ حَال السَّبَب الَّذِي ورد الْعَام عَلَيْهِ عَن ذكره بِخُصُوصِهِ إِلَى الْعُمُوم دَلِيل على إِرَادَته؛ لِأَن الْحجَّة فِي اللَّفْظ - وَهُوَ مُقْتَضى الْعُمُوم - وَالسَّبَب لَا يصلح مُعَارضا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2391 لجَوَاز أَن يكون الْمَقْصُود عِنْد وُرُود السَّبَب بَيَان الْقَاعِدَة الْعَامَّة لهَذِهِ الصُّورَة، وَغَيرهَا. قَالَ أَبُو حَامِد، وَأَبُو الطّيب، وَالْمَاوَرْدِيّ، وَابْن برهَان: هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي. قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: عَامَّة الْأَصْحَاب تسنده إِلَى الشَّافِعِي، وَاخْتَارَهُ الصَّيْرَفِي، وَابْن الْقطَّان، وَصَححهُ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق، وَالشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق، وَابْن الْقشيرِي، وألكيا، وَالْغَزالِيّ، وَجزم بِهِ الْقفال الشَّاشِي، وَنَقله ابْن كج عَن عَامَّة أَصْحَابهم، وَأَنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2392 مَذْهَب الشَّافِعِي. وَأَن بِهِ قَالَ أَبُو حنيفَة، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، والمالكية، وَنَقله الْبَاجِيّ أَيْضا عَن أَكثر الْمَالِكِيَّة، وَصَححهُ أَيْضا الباقلاني. {وَلنَا قَول} فِي مَذْهَبنَا. {وَقَالَهُ جمع} كثير إِنَّه {يقصر على سَببه} . قَالَ القَاضِي فِي " الْكِفَايَة ": قَالَ بعض أَصْحَابنَا يقصر على سَببه، وَذكره بعض أَصْحَابنَا رِوَايَة من لفظين، وذكرهما ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَنَقله جمَاعَة عَن أبي ثَوْر، والمزني، والدقاق، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2393 والخفاف فِي " الْخِصَال "، وَنسبه الْأُسْتَاذ إِلَى الْأَشْعَرِيّ، وَنسبه عبد الْوَهَّاب لأبي الْفرج من أَصْحَاب مَالك، وَابْن نصر، وَنسبه كثير من الْمُتَأَخِّرين للشَّافِعِيّ، وَنسبه أَبُو الْمَعَالِي لأبي حنيفَة، وَقَالَ: إِنَّه الَّذِي صَحَّ عندنَا من مَذْهَب الشَّافِعِي، وَنَقله جمَاعَة عَن مَالك. اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَالصَّحِيح -: أَن الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ استدلوا على التَّعْمِيم مَعَ السَّبَب الْخَاص وَلم يُنكر، كآية اللّعان، وَنزلت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2394 فِي هِلَال بن أُميَّة وَهُوَ فِي " الصَّحِيح "، وَآيَة الظِّهَار، وَنزلت فِي أَوْس بن الصَّامِت. رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَغَيرهمَا، وَمَعْنَاهُ فِي البُخَارِيّ، وقصة عَائِشَة فِي الْإِفْك فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغير ذَلِك، فَكَذَا هُنَا؛ وَلِأَن اللَّفْظ عَام بِوَضْعِهِ، وَالِاعْتِبَار بِهِ، بِدَلِيل لَو كَانَ أخص، وَالْأَصْل عدم مَانع. وقاس أَصْحَابنَا وَغَيرهم على الزَّمَان وَالْمَكَان مَعَ أَن الْمصلحَة قد تخْتَلف فيهمَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2395 رد: لَا يصلحان عِلّة للْحكم بِخِلَاف لفظ السَّائِل. رد: بِالْمَنْعِ. قَالُوا: لَو عَم جَازَ تَخْصِيص السَّبَب بِالِاجْتِهَادِ كَغَيْرِهِ. رد: السَّبَب مُرَاد قطعا بِقَرِينَة خارجية لوُرُود الْخطاب بَيَانا لَهُ، وَغَيره ظَاهر، وَلِهَذَا لَو سَأَلته امْرَأَة من نِسَائِهِ طَلاقهَا، فَقَالَ: نسَائِي طَوَالِق، طلقت، ذكره ابْن عقيل إِجْمَاعًا، وَأَنه لَا يجوز تَخْصِيصه، وَالْأَشْهر عندنَا وَلَو استثناها بِقَلْبِه، لَكِن يدين. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ فِيهِ خلاف، وَلَو اسْتثْنى غَيرهَا لم تطلق على أَنه منع فِي " الْإِرْشَاد " و " الْمُبْهِج " و " الْفُصُول " الْمُعْتَمِر الْمحصر من التَّحَلُّل مَعَ أَن سَبَب الْآيَة فِي حصر الْحُدَيْبِيَة وَكَانُوا معتمرين. وَحكي هَذَا عَن مَالك، وَأَنه لَا هدي أَيْضا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2396 وَعَن أَحْمد أَنه حمل مَا فِي " الصَّحِيح " من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: " لَا يلْدغ الْمُؤمن من جُحر مرَّتَيْنِ " على أَمر الْآخِرَة مَعَ أَن سَببه أَمر الدُّنْيَا، لَكِن يحْتَمل أَنه لم يَصح عِنْده سَببه، وَالأَصَح عَن أَحْمد أَنه لَا يَصح اللّعان على حمل، وَقَالَهُ أَبُو حنيفَة، وَهُوَ سَبَب آيَة اللّعان وَاللّعان عَلَيْهِ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، لَكِن ضعفه أَحْمد، وَلِهَذَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنه لَاعن بعد الْوَضع. ثمَّ يحْتَمل أَنه علم وجوده بِوَحْي فَلَا يكون اللّعان مُعَلّقا بِشَرْط، وَلَيْسَ سَبَب الْآيَة قذف حَامِل ولعانها. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن عَائِشَة أَن عتبَة بن أبي وَقاص عهد إِلَى أَخِيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2397 سعد أَن ابْن وليدة زَمعَة ابْني فاقبضه إِلَيْك فَلَمَّا كَانَ عَام الْفَتْح أَخذه سعد، وَفِيه: فَقَالَ سعد: هَذَا يَا رَسُول الله ابْن أخي عتبَة عهد إِلَيّ أَنه ابْنه، انْظُر: إِلَى شبهه! فَرَأى شبها بَينا بِعتبَة، فَقَالَ: " هُوَ لَك يَا عبد بن زَمعَة، الْوَلَد للْفراش وللعاهر الْحجر، واحتجبي مِنْهُ يَا سَوْدَة بنت زَمعَة ". وَكَانَت تَحت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَفِي لفظ البُخَارِيّ: " هُوَ أَخُوك يَا عبد ". وَلأَحْمَد، وَالنَّسَائِيّ بِإِسْنَاد جيد من حَدِيث عبد الله بن الزبير أَن زَمعَة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2398 كَانَت لَهُ جَارِيَة يَطَؤُهَا، وَكَانَت تظن بآخر، وَفِيه: " احتجبي مِنْهُ يَا سَوْدَة! فَلَيْسَ لَك بِأَخ " زَاد أَحْمد: " أما الْمِيرَاث فَلهُ ". وَعند أبي حنيفَة لَا تصير الْأمة فراشا حَتَّى يقر بِوَلَدِهَا، فَإِذا أقرّ بِهِ صَارَت فراشا ولحقه أَوْلَاده بعد ذَلِك فَأخْرج السَّبَب قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: لم يبلغهُ هَذَا وَاللّعان على الْحمل. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَسبق الْجَواب عَن اللّعان، وَهَذَا لَا جَوَاب عَنهُ. قَالُوا: لَو عَم لم ينْقل السَّبَب لعدم الْفَائِدَة. رد: فَائِدَته منع تَخْصِيصه، وَمَعْرِفَة الْأَسْبَاب. قَالُوا: لَو قَالَ تغد عِنْدِي، فَحلف: لَا تغديت، لم يعم، وَمثله نظائرها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2399 رد: بِالْمَنْعِ فِي الْأَصَح عَن أَحْمد، وَإِن سلم كَقَوْل مَالك: فللعرف ولدلالة السَّبَب على النِّيَّة فَصَارَ كمنوي. قَالُوا: لَو عَم لم يُطَابق الْجَواب السُّؤَال. رد: طابق وَزَاد. قَوْله: {وَصُورَة السَّبَب قَطْعِيَّة الدُّخُول عِنْد الْأَكْثَر فَلَا يخص بِالِاجْتِهَادِ} . صُورَة السَّبَب مَقْصُودَة بِالْعُمُومِ قطعا، وَالْخلاف إِنَّمَا هُوَ فِيمَا عَداهَا فيطرق التَّخْصِيص ذَلِك الْعَام إِلَّا تِلْكَ الصُّورَة؛ فَإِنَّهُ لَا يجوز إخْرَاجهَا. لَكِن السُّبْكِيّ قَالَ: إِنَّمَا تكون صُورَة السَّبَب قَطْعِيَّة إِذا دلّ الدَّلِيل على دُخُولهَا وضعا تَحت اللَّفْظ الْعَام، وَإِلَّا فقد يُنَازع فِيهِ الْخصم، وَيَدعِي أَنه قد يقْصد الْمُتَكَلّم بِالْعَام إِخْرَاج السَّبَب، فالمقطوع بِهِ إِنَّمَا هُوَ بَيَان حِكْمَة السَّبَب، وَهُوَ حَاصِل مَعَ كَونه خَارِجا كَمَا يحصل بِدُخُولِهِ، وَلَا دَلِيل على تعْيين وَاحِد من الْأَمريْنِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2400 وللحنفية أَن يَقُولُوا فِي حَدِيث عبد بن زَمعَة: إِن قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَد للْفراش " وَإِن كَانَ واردا فِي أمه فَهُوَ وَارِد لبَيَان حكم ذَلِك الْوَلَد، وَبَيَان حكمه إِمَّا بالثبوت أَو بالانتفاء فَإِذا ثَبت أَن الْفراش هُوَ الزَّوْجَة؛ لِأَنَّهَا الَّتِي يتَّخذ لَهَا الْفراش غَالِبا، وَقَالَ الْوَلَد للْفراش كَانَ فِيهِ حصر أَن الْوَلَد للْحرَّة، وَمُقْتَضى ذَلِك أَن لَا يكون للْأمة فَكَانَ فِيهِ بَيَان الْحكمَيْنِ جَمِيعًا نفي النّسَب عَن السَّبَب وإثباته لغيره، وَلَا يَلِيق دَعْوَى الْقطع هُنَا، وَذَلِكَ من جِهَة اللَّفْظ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة نزاع فِي أَن اسْم الْفراش هَل هُوَ مَوْضُوع للْحرَّة وَالْأمة الْمَوْطُوءَة، أَو للْحرَّة فَقَط، فالحنفية يدعونَ الثَّانِي فَلَا عُمُوم عِنْدهم فِي الْآيَة فَتخرج الْمَسْأَلَة من بَاب أَن الْعبْرَة بِعُمُوم اللَّفْظ أَو بِخُصُوص السَّبَب. قَوْله: {وَأكْثر أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر يَصح إِطْلَاق الْمُشْتَرك على معنييه، أَو مَعَانِيه مَعًا، والحقيقة وَالْمجَاز الرَّاجِح بِلَفْظ وَاحِد} . هُنَا مَسْأَلَتَانِ: إِحْدَاهمَا: يَصح أَن يُرِيد الْمُتَكَلّم بالمشترك معنييه أَو مَعَانِيه فاستعماله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2401 فِي أحد معنييه، أَو مَعَانِيه جَائِز قطعا، وَهُوَ حَقِيقَة؛ لِأَنَّهُ فِيمَا وضع لَهُ. وَأما إِطْلَاقه على الْكل مَعًا فِي حَالَة وَاحِدَة فَفِيهِ مَذَاهِب: أَحدهَا - وَهُوَ الصَّحِيح - يَصح كَقَوْلِنَا الْعين مخلوقة، ونريد جَمِيع مَعَانِيهَا، وَعَلِيهِ أَكثر أَصْحَابنَا، كَالْقَاضِي، وَأبي الْخطاب، وَابْن عقيل، والحلواني، وَغَيرهم. قَالَ فِي " الِانْتِصَار ": وَلما قيل لَهُ فِيمَن لَا يجد نَفَقَة امْرَأَته، يفرق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2402 بَينهمَا - أَي: لَا يحبسها؟ فَقَالَ: الظَّاهِر مِنْهَا الْإِطْلَاق، على أَنه عَام فِي العقد وَالْمَكَان مَعًا. وَنسب للشَّافِعِيّ، وَقطع بِهِ من أَصْحَابه ابْن أبي هُرَيْرَة، وَمثله بقوله: {إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي} [الْأَحْزَاب: 56]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ فَإِن الصَّلَاة من الله الرَّحْمَة، وَمن الْمَلَائِكَة دُعَاء، وَكَذَا لفظ {شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} [آل عمرَان: 18] وشهادته تَعَالَى علمه، وَغَيره إِقْرَار بذلك، وَبِقَوْلِهِ: {وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آباؤكم من النِّسَاء} [النِّسَاء: 22] النِّكَاح: العقد وَالْوَطْء مرادان مِنْهُ إِذا قُلْنَا مُشْتَرك، وَقطع بِهِ الباقلاني، وَنَقله أَبُو الْمَعَالِي عَن مَذْهَب الْمُحَقِّقين، وجماهير الْفُقَهَاء، وَحكي عَن أَكثر الْمُعْتَزلَة، وَأكْثر الْحَنَفِيَّة، وَعَن أبي يُوسُف وَمُحَمّد، وَنسبه القَاضِي عبد الْوَهَّاب لمذهبهم، قَالَ: وَهُوَ قَول جُمْهُور أهل الْعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2403 قَوْله: {مجَازًا} ، اخْتلف من صحّح إِطْلَاق الْمُشْتَرك على معنييه مَعًا، فَقيل: يكون إِطْلَاقه على معنييه، أَو مَعَانِيه مجَازًا، لَا حَقِيقَة، نَقله صَاحب " التَّلْخِيص " من الشَّافِعِيَّة عَن الشَّافِعِي، وَإِلَيْهِ مَال إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، وَتَبعهُ فِي " جمع الْجَوَامِع ". وَقيل: {حَقِيقَة} ، قَالَ الْأَصْفَهَانِي: وَهُوَ اللَّائِق بِمذهب الشَّافِعِي؛ لِأَنَّهُ يُوجب حمله على الْجَمِيع، وَنَقله أَيْضا عَن الشَّافِعِي، وَالْقَاضِي أبي بكر الباقلاني، وَنَقله أَيْضا الْآمِدِيّ عَنْهُمَا. الْمَذْهَب الثَّانِي: {يَصح} إِطْلَاقه على معنييه أَو مَعَانِيه {بِقَرِينَة مُتَّصِلَة} ، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أبي الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان "، وَأبي بكر الباقلاني. الْمَذْهَب الثَّالِث: صِحَة اسْتِعْمَاله فِي معنييه {فِي النَّفْي} دون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2404 الْإِثْبَات؛ لِأَن النكرَة فِي النَّفْي تعم. ورد بِأَن النَّفْي لَا يرفع إِلَّا مَا يَقْتَضِيهِ الْإِثْبَات. وَهَذَا القَوْل احْتِمَال لأبي الْحُسَيْن فِي " الْمُعْتَمد "، وَتَبعهُ عَلَيْهِ الرَّازِيّ، وَهُوَ وَجه للشَّافِعِيَّة، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْحَنَفِيَّة. الْمَذْهَب الرَّابِع: صِحَة اسْتِعْمَاله {فِي غير مُفْرد} ، فَإِن كَانَ جمعا كاعتدي بِالْأَقْرَاءِ، أَو مثنى: كقرءين صَحَّ؛ لِأَن الْجمع فِي حكم تعدد الْأَلْفَاظ، وَهُوَ وَجه للشَّافِعِيَّة، وَهُوَ مُفَرع على جَوَاز تَثْنِيَة الْمُشْتَرك وَجمعه بِاعْتِبَار معنييه، أَو مَعَانِيه على مَا يَأْتِي فِي آخر الْمَسْأَلَة. الْمَذْهَب الْخَامِس: صِحَة اسْتِعْمَاله {إِن تعلق أحد الْمَعْنيين بِالْآخرِ} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2405 نَحْو قَوْله: {أَو لامستم النِّسَاء} [النِّسَاء: 43] فَإِن كلا من اللَّمْس بِالْيَدِ وَالْوَطْء لَازم للْآخر، وَالنِّكَاح للْوَطْء وَالْعقد كَذَلِك، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ غَرِيب. الْمَذْهَب السَّادِس {- قَالَه بعض أَصْحَابنَا، وَالْغَزالِيّ - يَصح} اسْتِعْمَاله {إِرَادَة، لَا لُغَة} فَيصح أَن يُرَاد بِاللَّفْظِ الْوَاحِد معنياه بِوَضْع جَدِيد؛ لَكِن لَيْسَ من اللُّغَة؛ فَإِن اللُّغَة منعت مِنْهُ. الْمَذْهَب السَّابِع: {لَا يَصح مُطلقًا} ، اخْتَارَهُ القَاضِي أَبُو يعلى، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن الْقيم، وَحَكَاهُ عَن الْأَكْثَر، وَقَالَهُ أَبُو هَاشم، والكرخي، وَأَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ، وَابْن الصّباغ، والرازي، وَغَيرهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2406 وَحَكَاهُ الْكَرْخِي عَن أبي حنيفَة، وَنقل عَن جمع من أَصْحَابه، وَغَيرهم، فَلَا يَصح إِرَادَة جَمِيع مَعَانِيه، وَلَا يحمل عِنْد الْإِطْلَاق على جَمِيعهَا. قَالَ ابْن الْقيم فِي كِتَابه " الصَّلَاة على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي منع كَون الصَّلَاة من الله الرَّحْمَة: الْأَكْثَرُونَ لَا يجوزون اسْتِعْمَال اللَّفْظ الْمُشْتَرك فِي معنييه لَا بطرِيق الْحَقِيقَة، وَلَا بطرِيق الْمجَاز، ورد مَا ورد عَن الشَّافِعِي قَالَ: وَقد ذكرنَا على إبِْطَال اسْتِعْمَال اللَّفْظ الْمُشْتَرك فِي معنييه مَعًا بضعَة عشر دَلِيلا فِي مَسْأَلَة الْقُرْء فِي كتاب التَّعْلِيق على الْأَحْكَام. انْتهى. تَنْبِيه: قَالَ الْبرمَاوِيّ: اخْتلف المانعون فِي سَبَب الْمَنْع، فَقيل: لِأَنَّهُ لَا يَصح أَن يقْصد من حَيْثُ اللُّغَة لكَونه لم يوضع إِلَّا لوَاحِد، قَالَه الْغَزالِيّ كَمَا تقدم، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، وَضعف ذَلِك. وَقيل: السَّبَب أَنه اسْتِعْمَال فِي غير مَا وضع لَهُ، وَهُوَ على الْبَدَل فَيكون مجَازًا، فَهُوَ رَاجع إِلَى القَوْل بِأَنَّهُ مجَاز. الْمَذْهَب الثَّامِن: {الْوَقْف} ، قَالَ الْآمِدِيّ: إِذْ لَيْسَ بَعْضهَا أولى من بعض فَوَجَبَ التَّوَقُّف حَتَّى يدل دَلِيل على الْكل، أَو الْبَعْض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2407 تَنْبِيه آخر: قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَغَيره: مَحل الْخلاف بَين الشَّافِعِي وَغَيره فِي اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي كل مَعَانِيه إِنَّمَا هُوَ فِي الْكُلِّي العددي، كَمَا قَالَه فِي " التَّحْصِيل "، أَي: فِي كل فَرد فَرد، وَذَلِكَ بِأَن يَجعله يدل على كل وَاحِد مِنْهُمَا على حِدته، بالمطابقة فِي الْحَالة الَّتِي تدل على الْمَعْنى الآخر بهَا وَلَيْسَ المُرَاد الْكُلِّي المجموعي، أَي: يَجعله مَجْمُوع الْمَعْنيين مدلولا مطابقا، كدلالة الْعشْرَة على آحادها، وَإِلَّا الْكُلِّي البدلي، أَي: يَجْعَل كل وَاحِد مِنْهُمَا مدلولا مطابقا على الْبدن. انْتهى. وَادّعى الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمَحْصُول " أَنه رأى فِي مُصَنف آخر لصَاحب " التَّحْصِيل " أَن الْخلاف فِي الْكل المجموعي، قَالَ: لِأَن أَكْثَرهم صَرَّحُوا بِأَن الْمُشْتَرك عِنْد الشَّافِعِي كالعام. قَالَ الْبرمَاوِيّ: هَذَا عَلَيْهِ، لَا لَهُ، فَإِن دلَالَة الْعَام من دلَالَة الْكُلِّي على جزئياته، لَا الْكل على أَجْزَائِهِ، وَإِلَّا لتعذر الِاسْتِدْلَال بِالْعَام على بعض أَفْرَاده، وَأما إِذا لم يسْتَعْمل فِي وَقت وَاحِد، بل فِي وَقْتَيْنِ - مثلا - فَإِن ذَلِك جَائِز قطعا. انْتهى. قَوْله: {فعلى الْجَوَاز هُوَ ظَاهر فيهمَا مَعَ عدم قرينَة فَيحمل عَلَيْهِمَا} . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " بعد أَن ذكر الْجَوَاز: هَل هُوَ ظَاهر فِي ذَلِك مَعَ عدم قرينَة كالعام، أم مُجمل، فَيرجع إِلَى مُخَصص خَارج؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2408 ظَاهر كَلَامهم أَو صَرِيحه: الأول، وَلِهَذَا قَالُوا يحمل عَلَيْهِمَا. وَهُوَ كثير فِي كَلَام القَاضِي وَأَصْحَابه، وَقَالَ هُوَ، وَابْن عقيل: اللَّمْس حَقِيقَة فِي اللَّمْس بِالْيَدِ مجَاز فِي الْجِمَاع فَيحمل عَلَيْهِمَا، وَيجب الْوضُوء مِنْهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا تدافع بَينهمَا. وَقَالَ الْمجد فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " اقرؤوا يس على مَوْتَاكُم ": يَشْمَل المحتضر، وَالْمَيِّت قبل الدّفن وَبعده. وَنقل عَن عبد الْجَبَّار، والجبائي، وَغَيرهمَا، وَقَالَ ابْن الْقشيرِي: وَعَلِيهِ يدل كَلَام الشَّافِعِي، فَإِنَّهُ حمل {أَو لامستم النِّسَاء} [النِّسَاء: 43] على الجس بِالْيَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ حَقِيقَة، وعَلى الوقاع الَّذِي هُوَ فِيهِ مجَاز، قَالَ: وَإِذا قَالَ ذَلِك فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فَفِي الحقيقتين أولى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2409 وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور: إِنَّه قَول أَصْحَابنَا، قَالَ: وَلِهَذَا حملنَا اللَّمْس على الْجِمَاع، والجس بِالْيَدِ. وَنَقله غَيرهمَا أَيْضا عَن الشَّافِعِي وَالْقَاضِي صَرِيحًا. انْتهى. وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّه مُجمل فَيرجع إِلَى مُخَصص خَارج. صرح بِهِ أَيْضا القَاضِي، وَابْن عقيل، وَالشَّيْخ، وَغَيرهم، نَقله عَنْهُم ابْن مُفْلِح، وَنَقله الْهِنْدِيّ عَن الْأَكْثَر، وَنَقله أَبُو زيد الدبوسي عَن الْحَنَفِيَّة. القَوْل الثَّالِث: الْوَقْف فِي الْحمل؛ إِذْ لَيْسَ بَعْضهَا أولى من بعض فَيجب التَّوَقُّف حَتَّى يدل على الْكل، أَو الْبَعْض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2410 القَوْل الرَّابِع: قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": إِن كَانَ بِلَفْظ الْمُفْرد فمجمل، أَو بِلَفْظ الْجمع فَيجب الْحمل، وَبِه قَالَ القَاضِي من الْحَنَابِلَة. انْتهى. فتلخص إِذا قُلْنَا بِصِحَّة إِطْلَاق الْمُشْتَرك على معنييه هَل يجب الْحمل عَلَيْهِمَا مَعَ عدم قرينَة، أَو لَا يجب؟ فَيكون مُجملا، أَو يجب إِن كَانَ بِلَفْظ الْجمع، وَإِلَّا فمجمل أَو الْوَقْف: أَرْبَعَة أَقْوَال، وَالصَّحِيح الأول. قَوْله: {كالعام فِي الْأَصَح} . الْقَائِلُونَ بِوُجُوب الْحمل على الْجَمِيع اخْتلفُوا فِي سَبَب ذَلِك: هَل هُوَ لكَونه من بَاب الْعُمُوم أَو أَن ذَلِك احْتِيَاطًا؟ فبالأول قَالَ أَبُو الْمَعَالِي، وَابْن الْقشيرِي، وَالْغَزالِيّ، والآمدي، وَجرى عَلَيْهِ ابْن الْحَاجِب حَتَّى إِنَّه ذكر الْمَسْأَلَة فِي بَاب الْعُمُوم، وَقَالَهُ ابْن مُفْلِح، وتابعناه. وَقيل: إِنَّه قَول الواقفية فِي صِيغ الْعُمُوم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2411 وتوجيه ذَلِك أَن نِسْبَة الْمُشْتَرك إِلَى مَعَانِيه كنسبة الْعَام إِلَى أَفْرَاده، وَعند التجرد يعم الْأَفْرَاد، فَكَذَا الْمُشْتَرك، وَالْجَامِع صدق اللَّفْظ بِالْوَضْعِ على كل فَرد من أَفْرَاده، وَإِن افْتَرقَا من حَيْثُ إِن الْعَام صدقه بِوَاسِطَة أَمر اشتركت فِيهِ، والمشترك صدقه بِوَاسِطَة الِاشْتِرَاك فِي أَن اللَّفْظ وضع لكل وَاحِد. وبالقول الثَّانِي وَهُوَ كَونه احْتِيَاطًا مَنْقُول عَن الباقلاني، نَقله ابْن السُّبْكِيّ، وَنقل الْآمِدِيّ عَن الشَّافِعِي، والباقلاني أَنه من بَاب الْعُمُوم، وَنقل الْبَيْضَاوِيّ عَنْهُمَا أَنه من بَاب الِاحْتِيَاط. {تَنْبِيه: مَحل صِحَة الْإِطْلَاق، وَالْحمل إِذا لم يتنافيا، فَإِن تنافيا امتنعا كافعل، أمرا، وتهديدا} ، مَحل الْحمل على الْكل عِنْد الْقَائِل بِهِ؛ حَيْثُ لَا يكون بَين الْمَعْنيين، أَو الْمعَانِي تناف كاستعمال لفظ (افْعَل) فِي الْأَمر، والتهديد عَن الْفِعْل، وَهَذَا قيد فِي الِاسْتِعْمَال أَيْضا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2412 وَذكر هَذَا الْقَيْد ابْن الْحَاجِب حَيْثُ قَالَ: إِن صَحَّ الْجمع، والبيضاوي بقوله: فِي جَمِيع مفهوماته الْغَيْر متضادة، وَإِن لم يذكرهُ شَيْخه الرَّازِيّ، وَنَقله الْآمِدِيّ عَن الشَّافِعِي، والباقلاني، والجبائي، وَعبد الْجَبَّار، وَغَيرهم. وَمَعْنَاهُ ذكره أَبُو الْمَعَالِي، وَأَبُو الْخطاب عَن المجوزين، وَقَالَهُ ابْن عقيل، قَالَ: وَلِهَذَا لَا يحسن أَن يُصَرح بِهِ بِخِلَاف هَذَا. تَنْبِيه: الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: قد تقدم من أول الْكَلَام على ذَلِك. إِن هُنَا مَسْأَلَتَيْنِ ذكرنَا أَحْكَام الْمَسْأَلَة الأولى، وَمَا يتَعَلَّق بهَا، وَالْكَلَام الْآن فِي الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة، وَهِي أَنَّهَا مثل الْمَسْأَلَة الأولى فِي الْأَحْكَام، وَهِي إِطْلَاق اللَّفْظ الْوَاحِد على الْحَقِيقَة، وَالْمجَاز إِذا كَانَ للفظ حَقِيقَة، ومجاز، وَالْحمل عَلَيْهِمَا على مَا تقدم من الْأَقْوَال وَالْأَحْكَام، وَلذَلِك جَمعنَا فِي الْمَتْن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2413 بَينهَا وَبَين الْمُشْتَرك فِي الحكم لاتحادهما، إِلَّا أَن القَاضِي أَبَا بكر الباقلاني قَالَ: لَا يَصح إِطْلَاق اللَّفْظ الْوَاحِد على الْحَقِيقَة وَالْمجَاز مَعًا، وَإِن صَححهُ فِي غَيره. وَقَالَ: اسْتِعْمَاله فيهمَا محَال هُنَا؛ لِأَن الْحَقِيقَة اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِيمَا وضع لَهُ، وَالْمجَاز فِيمَا لم يوضع لَهُ، وهما متناقضان، فَلَا يَصح أَن يُرَاد بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَة مَعْنيانِ متناقضان. انْتهى. فعلى الأول مَحَله فِي الْحَقِيقَة مُقَدّمَة قطعا، مِثَال ذَلِك إِطْلَاق النِّكَاح للْعقد، وَالْوَطْء مَعًا إِذا قُلْنَا حَقِيقَة فِي أَحدهمَا مجَاز فِي الآخر؛ وَلذَلِك حمل قَوْله تَعَالَى: {أَو لامستم النِّسَاء فامسحوا} على الجس بِالْيَدِ، وَهُوَ حَقِيقَة، وعَلى الوقاع، وَهُوَ مجَاز. وَمثله قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] فَإِنَّهُ حَقِيقَة فِي ولد الصلب، مجَاز فِي ولد الابْن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2414 وَمثله قَوْله تَعَالَى: {وافعلوا الْخَيْر} [الْحَج: 77] فَإِنَّهُ شَامِل للْوُجُوب وَالنَّدْب خلافًا لمن خصّه بِالْوَاجِبِ بِنَاء على منع الِاسْتِعْمَال فِي الْكل، وَبَعْضهمْ قَالَ: للقدر الْمُشْتَرك، وَهُوَ مُطلق الطّلب فِرَارًا من الِاشْتِرَاك، وَالْمجَاز. وَمن ذَلِك مَا قَالَه الْمجد فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " اقرؤوا يس على مَوْتَاكُم " يَشْمَل المحتضر وَالْمَيِّت قبل الدّفن وَبعده، كَمَا تقدم، فَبعد الْمَوْت حَقِيقَة، وَقَبله مجَاز. وَمن ذَلِك مَا قَالَه القَاضِي، وَابْن عقيل، وَغَيرهمَا: اللَّمْس حَقِيقَة فِي اللَّمْس بِالْيَدِ مجَاز فِي الْجِمَاع، كَمَا تقدم التَّمْثِيل بذلك فَيحمل عَلَيْهِمَا وَيجب الْوضُوء مِنْهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا تدافع بَينهمَا. وَفِي الْمَسْأَلَة قَول آخر إِنَّه يجب الْحمل على الْحَقِيقَة دون الْمجَاز، قَالَه القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي، وَهُوَ المُرَاد بقولنَا كالعام فِي الْأَصَح. {وَقيل: على الْحَقِيقَة فَقَط} فَهَذَا القَوْل هُوَ مَا قَالَه عبد الْوَهَّاب يَعْنِي أَنه فِي الْمُشْتَرك حمله على الْجَمِيع، وَهنا فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز يجب حمله على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2415 الْحَقِيقَة فَقَط، فَهَذَا القَوْل مُخَالف للمشترك أَيْضا، فَهُنَا ثَلَاث مسَائِل فِي مُخَالفَة الْحَقِيقَة، وَالْمجَاز للمشترك: إِحْدَاهَا: إِذا أطلق عَلَيْهِمَا وجوزناه لَا يكون إِلَّا مجَازًا، وَفِي الْمُشْتَرك قَولَانِ: هَل هُوَ حَقِيقَة أم مجَاز، فَإِن قُلْنَا مجَاز أَيْضا فَلَا مُخَالفَة، وَإِن قُلْنَا: حَقِيقَة حصلت الْمُخَالفَة. الثَّانِيَة: عدم جَوَاز الْإِطْلَاق فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز، وَإِن جوزناه فِي الْمُشْتَرك، وَهُوَ قَول الباقلاني، كَمَا تقدم. الثَّالِثَة: الْحمل فِي الْمُشْتَرك على الْجَمِيع، وَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة لَا يحمل إِلَّا على الْحَقِيقَة فَقَط، على قَول تقدم، وَالله أعلم. قَوْله: {فَائِدَتَانِ: الأولى: ألحق جمع من الْعلمَاء المجازين المتساويين بِالْحَقِيقَةِ وَالْمجَاز} إِذا تعذر حمل اللَّفْظ على مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ، أَو قَامَ دَلِيل على أَنه غير مُرَاد، وَعدل إِلَى الْمَعْنى الْمجَازِي إطلاقا أَو حملا وَكَانَ الْمجَاز متعذرا، هَل يجوز إِرَادَة الْكل وَهل يسوغ مَعَه الْحمل على الْكل؟ وَقل من تعرض لهَذِهِ الْمَسْأَلَة، وَقد ذكرهَا أَبُو الْمَعَالِي، وَابْن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2416 السَّمْعَانِيّ، والأصفهاني فِي " شرح الْمَحْصُول "، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب فِي بَاب الْمُجْمل، لَكِن اختارا فيهمَا الْإِجْمَال عكس اختيارهما فِي الحقيقتين والحقيقة وَالْمجَاز. فعلى قَول من قَالَ بِأَن هَذِه الْمَسْأَلَة كالحقيقة وَالْمجَاز أَعْطَاهَا حكم تِلْكَ، فَفِيهَا من الْأَحْكَام مَا فِي تِلْكَ، لَكِن يشْتَرط أَن يكون المجازان متساويين. مِثَال ذَلِك: لَو حلف لَا يَشْتَرِي دَار زيد، وَقَامَت قرينَة على أَن المُرَاد أَنه لَا يعْقد بِنَفسِهِ وَتردد الْحَال بَين السّوم وشرى الْوَكِيل، هَل يحمل عَلَيْهِمَا، أم لَا؟ فَمن جوز الْحمل يَقُول يَحْنَث بِكُل مِنْهُمَا. قَوْله: {الثَّانِيَة: جمع الْمُشْتَرك بِاعْتِبَار مَعَانِيه} مَبْنِيّ على جَوَاز اسْتِعْمَال الْمُفْرد فِي مَعَانِيه. وَهَذِه إِحْدَى الطّرق فِي الْمَسْأَلَة. قَالَ ابْن الْحَاجِب: وَالْأَكْثَر: جمعه بِاعْتِبَار معنييه مَبْنِيّ على الْخلاف فِي الْمُفْرد فِيهِ: إِن جَازَ سَاغَ، وَإِلَّا فَلَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2417 وَوجه الْبناء أَن التَّثْنِيَة وَالْجمع تابعان لما يسوغ الْمُفْرد فِيهِ فَحَيْثُ جَازَ اسْتِعْمَال مُفْرد فِي معنييه، أَو مَعَانِيه جَازَ تَثْنِيَة الْمُشْتَرك وَجمعه، وَحَيْثُ لَا، فَلَا، فَيَقُول: عُيُون زيد وتريد بِهِ الْعين الباصرة، وَالْعين الْجَارِيَة، وَعين الْمِيزَان وَالذَّهَب، وَغَيرهَا. وَالطَّرِيق الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال، رجح ابْن الْحَاجِب فِي " شرح الْمفصل " الْمَنْع مُطلقًا، وَحَكَاهُ عَن الْأَكْثَرين. وَرجح ابْن مَالك الْجَوَاز مُطلقًا كَمَا فِي الحَدِيث الْأَيْدِي ثَلَاثَة، وَحَدِيث: " مَا لنا إِلَّا الأسودان "، وَاسْتعْمل الْحَرِير ذَلِك فِي المقامات فِي قَوْله: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2418 ( ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... فانثنى بِلَا عينين) يُرِيد الباصرة وَالذَّهَب. وَفصل ابْن عُصْفُور بَين أَن يتَّفقَا فِي معنى التَّسْمِيَة نَحْو: الأحمران الذَّهَب والزعفران فَيجوز، أَو لَا، فَلَا يجوز كَالْعَيْنِ الباصرة وَالذَّهَب، وَلَا يخفى مَا فِيهِ من النّظر. وَقَالَ بَعضهم: يجوز، وَإِن لم يجز فِي الْمُفْرد؛ لِأَنَّهُ كَمَا سبق فِي حكم أَلْفَاظ مُتعَدِّدَة. انْتهى. وَهَذِه الطَّرِيق الثَّالِث. تَنْبِيه: تلخص لنا فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاث طرق: أَحدهَا: جَوَاز تَثْنِيَة الْمُشْتَرك وَجمعه بِاعْتِبَار معنييه، أَو مَعَانِيه، مَبْنِيّ على جَوَاز اسْتِعْمَال الْمُفْرد فِي مَعَانِيه، وَهُوَ الَّذِي ذكره ابْن الْحَاجِب، وَالْأَكْثَر. وَالثَّانِي: فِي جَوَاز تثنيته وَجمعه بِاعْتِبَار معنييه أَو مَعَانِيه أَقْوَال. وَالثَّالِث: جَوَاز تثنيته وَجمعه وَإِن لم نصحح إِطْلَاق الْمُفْرد على مَعَانِيه كَمَا تقدم، وَقد تحررت الْمَسْأَلَة وَللَّه الْحَمد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2419 (قَوْله: {فصل} ) {أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة نفي الْمُسَاوَاة للْعُمُوم} نَحْو قَوْله: {هَل يستوون الْحَمد لله} [النَّحْل: 75] ، {هَل يستويان مثلا} [هود: 24] وَنَحْوه. {وَعند الْحَنَفِيَّة} ، والمعتزلة، وَالْغَزالِيّ، والرازي، والبيضاوي، وَغَيرهم لَيْسَ للْعُمُوم، {وَيَكْفِي النَّفْي فِي شَيْء وَاحِد} . قَالَ الْبرمَاوِيّ: نفي الاسْتوَاء، وَمَا فِي مَعْنَاهُ من التَّسَاوِي والمساواة والتماثل والمماثلة وَنَحْو ذَلِك، سَوَاء فِيهِ نَفْيه فِي فعل، مثل: لَا يَسْتَوِي كَذَا وَكَذَا، أَو فِي اسْم، مثل: لَا مُسَاوَاة بَين كَذَا وَكَذَا، هَل يعم كل اسْتِوَاء، أَو لَا؟ قَولَانِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2420 بأولهما قَالَ جُمْهُور أَصْحَابنَا، وَعَلِيهِ جرى الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهمَا، وَبِالثَّانِي قَالَ أَبُو حنيفَة، وَأَصْحَابه، والمعتزلة، وَالْغَزالِيّ، والرازي وَأَتْبَاعه، كالبيضاوي. وَأثر الْخلاف فِي الِاسْتِدْلَال على أَن الْمُسلم لَا يقتل بالذمي بقوله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَاب النَّار وَأَصْحَاب الْجنَّة} [الْحَشْر: 20] فَلَو قتل بِهِ لثبت استواؤهما، وَالِاسْتِدْلَال على أَن الْفَاسِق لَا يَلِي عقد النِّكَاح بقوله تَعَالَى: {أَفَمَن كَانَ مُؤمنا كمن كَانَ فَاسِقًا لَا يستوون} [السَّجْدَة: 18] ، إِذْ لَو قُلْنَا: يَلِي لاستوى، مَعَ الْمُؤمن الْكَامِل، وَهُوَ الْعدْل وَمن نفى الْعُمُوم فِي الْآيَتَيْنِ لَا يمْنَع قصاص الْمُؤمن بالذمي، لَا ولَايَة الْفَاسِق. ثمَّ قَالَ: وَاعْلَم أَن مَأْخَذ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَة أَن الاسْتوَاء فِي الْإِثْبَات هَل هُوَ من كل وَجه فِي اللُّغَة، أَو مدلولة لُغَة الاسْتوَاء من وَجه مَا؟ فَإِن قُلْنَا: من كل وَجه فنفيه من سلب الْعُمُوم فَلَا يكون عَاما. وَإِن قُلْنَا: من بعض الْوُجُوه فَهُوَ من عُمُوم السَّلب فِي الحكم؛ لِأَن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2421 نقيض الْإِيجَاب الْكُلِّي سلب جزئي، ونقيض الْإِيجَاب الجزئي سلب كلي، وَلَكِن كَون الاسْتوَاء فِي الْإِثْبَات عَاما من غير صِيغَة عُمُوم مَمْنُوع. غَايَته: أَن حَقِيقَة الاسْتوَاء ثبتَتْ، وَقَول الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه نفي الاسْتوَاء أَعم من نَفْيه من كل وَجه، وَمن نَفْيه من بعض الْوُجُوه، والأعم لَا يلْزم مِنْهُ الْأَخَص مَرْدُود بِمَا قَالَ ابْن الْحَاجِب وَغَيره: بِأَن ذَلِك فِي الْإِثْبَات، أما نفي الْأَعَمّ فَيلْزم مِنْهُ انْتِفَاء الْأَخَص، كنفي الْحَيَوَان نفي الْإِنْسَان، هَذَا إِذا سلمنَا أَن الاسْتوَاء عَام لَهُ جزئيات. أما إِذا قُلْنَا حَقِيقَته وَاحِدَة، فَإِنَّهُ يلْزم من نَفيهَا نفي كل متصف بهَا. وَقد اسْتدلَّ من نفي الْعُمُوم فِي الْمَسْأَلَة أَيْضا: بِأَنَّهُ لَو عَم لم يصدق؛ إِذْ لَا بُد بَين كل شَيْئَيْنِ من مُسَاوَاة وَلَو فِي نفي مَا سواهُمَا عَنْهُمَا. وَجَوَابه: أَنه إِنَّمَا يَنْفِي مُسَاوَاة يَصح انتفاؤها لَا كل مُسَاوَاة؛ لِأَن ذَلِك مدرك إِرَادَته بِالْعقلِ، وَقد ذكر مَعْنَاهُ ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهمَا. وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث: إِنَّه من بَاب الْمُجْمل؛ لِأَنَّهُ يحْتَمل من كل وَجه، وَمن الْوَجْه الَّذِي قد ذكر فِي الْآيَتَيْنِ الْأَوليين، وَعَلِيهِ جرى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2422 الْهِنْدِيّ إِذْ قَالَ: الْحق أَن قَوْله (يَسْتَوِي أَو لَا يَسْتَوِي) من بَاب الْمُجْمل، من بَاب المتواطئ لَا الْعَام. انْتهى. وَقد سبق أَن ذَلِك من ذكر بعض أَفْرَاد الْعَام، وَلَا يلْزم مِنْهُ أَن يبْقى مُجملا، وَالله أعلم. قَوْله: {وَدلَالَة الِاقْتِضَاء، والإضمار عَامَّة عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا وَأكْثر الْمَالِكِيَّة، وَالنَّوَوِيّ} وَغَيرهم. {وَعند القَاضِي أَيْضا} ، وَأبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَابْن السَّمْعَانِيّ، {وَالْغَزالِيّ، ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2423 والرازي، والآمدي، وَغَيرهم مجملة. وَعند أَكثر الْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة، وَابْن حمدَان هِيَ لنفي الْإِثْم} . اسْتدلَّ للْأولِ - وَهُوَ الصَّحِيح -: بِمَا روى الطَّبَرَانِيّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَاد جيد عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: " إِن الله تجَاوز لي عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان، وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ ". وَرَوَاهُ ابْن ماجة، وَلَفظه: " إِن الله وضع "، وروى ابْن عدي: " رفع الله عَن هَذِه الْأمة ثَلَاثًا: الْخَطَأ، وَالنِّسْيَان، وَالْأَمر يكْرهُونَ عَلَيْهِ "، فَمثل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2424 هَذَا يُقَال فِيهِ: مُقْتَضى الْإِضْمَار وَمُقْتَضَاهُ الْإِضْمَار ودلالته على الْمُضمر، دلَالَة إِضْمَار واقتضاء فالمضمر عَام. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَيُسمى مقتضيا؛ لِأَنَّهُ أَمر اقْتَضَاهُ النَّص لتوقف صِحَّته عَلَيْهِ، وَهُوَ بِكَسْر الضَّاد اللَّفْظ الطَّالِب للإضمار، وَبِفَتْحِهَا ذَلِك الْمُضمر نَفسه الَّذِي اقْتَضَاهُ الْكَلَام تَصْحِيحا، وَهُوَ المُرَاد هُنَا. انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: الْمُقْتَضِي - بِالْكَسْرِ - الْكَلَام الْمُحْتَاج للإضمار - بِالْفَتْح - هُوَ ذَلِك الْمَحْذُوف، ويعبر عَنهُ أَيْضا بالمضمر، فالمختلف فِي عُمُومه على الصَّحِيح الْمُقْتَضى - بِالْفَتْح - بِدَلِيل اسْتِدْلَال من نفى عُمُومه بِكَوْن الْعُمُوم من عوارض الْأَلْفَاظ، فَلَا يجوز دَعْوَاهُ فِي الْمعَانِي، وَيحْتَمل أَن يكون فِي الْمُقْتَضِي - بِالْكَسْرِ - وَهُوَ الْمَنْطُوق بِهِ الْمُحْتَاج فِي دلَالَته للإضمار، كَمَا صور بِهِ بعض الْحَنَفِيَّة. وَبِالْجُمْلَةِ فِي أصل الْمَسْأَلَة أَن الْمُحْتَاج إِلَى تَقْدِير فِي نَحْو: {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} [الْمَائِدَة: 5] وَغَيرهَا من الْأَمْثِلَة، إِن دلّ دَلِيل على تَقْدِير شَيْء من المحتملات بِعَيْنِه فَذَاك سَوَاء كَانَ الْمُقدر عَاما فِي أُمُور كَثِيرَة، أَو خَاصّا بفرد، وَإِن لم يدل دَلِيل على تعْيين شَيْء، لَا عَام، وَلَا خَاص مَعَ احْتِمَال أُمُور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2425 مُتعَدِّدَة، لم يتَرَجَّح بَعْضهَا فَهَل تقدر المحتملات كلهَا وَهُوَ المُرَاد بِالْعُمُومِ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَو لَا فِيهِ مَذَاهِب. وَوَجهه: أَنه لم يرد رفع الْفِعْل الْوَاقِع، بل مَا تعلق بِهِ، فاللفظ مَحْمُول عَلَيْهِ بِنَفسِهِ لَا بِدَلِيل. احْتج بِهِ القَاضِي وَغَيره، قَالَ بعض أَصْحَابنَا مضمونه أَن مَا عَلَيْهِ اللَّفْظ بِنَفسِهِ مَعَ قرينَة عقلية فَهُوَ حَقِيقَة، أَو أَنه حَقِيقَة عرفية، لَكِن مُقْتَضَاهُ الأول، وَكَذَا فِي " التَّمْهِيد " و " الرَّوْضَة " أَن اللَّفْظ يَقْتَضِي ذَلِك. وَاعْترض: لَا بُد من إِضْمَار فَهُوَ مجَاز. رد بِالْمَنْعِ لذَلِك، ثمَّ قَوْلنَا أقرب إِلَى الْحَقِيقَة. عورض: بِأَن بَاب الْإِضْمَار فِي الْمجَاز أولى فَكلما قل قلت مُخَالفَة الأَصْل فِيهِ فَيسلم قَوْلنَا لَو عَم اضمر من غير حَاجَة، وَلَا تجوز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2426 رد بِالْمَنْعِ فَإِن حكم الْخَطَأ عَام وَلَا زِيَادَة. ونمنع أَن زِيَادَة حكم مَانع. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا عَن بَعضهم: التَّخْصِيص كالإضمار، وَكَذَا قَالَ ألكيا فِي الْإِضْمَار: هَل هُوَ من الْمجَاز، أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ كالقولين فِي الْعُمُوم الْمَخْصُوص، فَإِنَّهُ نقص الْمَعْنى عَن اللَّفْظ، والإضمار عَكسه لَيْسَ فيهمَا اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي مَوْضُوع آخر. وَفِي " التَّمْهِيد ": لِأَن الْإِثْم لَا مزية لأمته فِيهِ على الْأُمَم؛ لِأَن النَّاسِي غير مُكَلّف؛ وَلِأَنَّهُ الْعرف نَحْو: لَيْسَ للبلد سُلْطَان لنفي الصِّفَات الَّتِي تنبغي لَهُ، وَلَا وَجه لمنع الْآمِدِيّ الْعرف فِي نَحْو: لَيْسَ للبلد سُلْطَان، وَلَا لرد غَيره بِأَنَّهُ قِيَاس فِي الْعرف، وَلَا يجوز كاللغة بِأَنَّهُ لم يرد بِهِ الْقيَاس، ثمَّ من مَنعه عرفا، ثمَّ فِيهِ لُغَة خلاف سبق ذكره ابْن مُفْلِح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2427 وَكَلَام الْآمِدِيّ وَغَيره فِي التَّحْرِيم الْمُضَاف إِلَى الْعين، وَنَحْو: " لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور "، يُخَالف مَا ذَكرُوهُ هُنَا، وَقَالُوا فِيهِ بِزِيَادَة الْإِضْمَار، وَإنَّهُ أولى. وَقَالُوا أَيْضا فِي " رفع عَن أمتِي " لَا إِجْمَال فِيهِ، وَلَا إِضْمَار لظُهُوره لُغَة قبل الشَّرْع فِي نفي الْمُؤَاخَذَة، وَالْعِقَاب، وتبادره إِلَى الْفَهم، وَالْأَصْل فِيمَا تبادر أَنه حَقِيقَة لُغَة، أَو عرفا. فَقيل لَهُم: فَلم يجب الضَّمَان؟ فَقَالُوا: لَيْسَ بعقوبة؛ لوُجُوبه على من لَا عُقُوبَة عَلَيْهِ أَو تَخْصِيصًا لعُمُوم الْخَبَر، وَالله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2428 (قَوْله: {فصل} ) مثل: {لَا آكل، أَو إِن أكلت فَعَبْدي حر، يعم مفعولاته فَيقبل تَخْصِيصه} . الْفِعْل الْمُتَعَدِّي إِلَى مفعول، نَحْو: وَالله لَا آكل، إِن أكلت فَعَبْدي حر يعم مفعولاته فَيقبل تَخْصِيصه. قَالَ الْبرمَاوِيّ: الْفِعْل الْمَنْفِيّ هَل يعم؟ حَتَّى إِذا وَقع فِي عين نَحْو: وَالله لَا آكل، أَو لَا أضْرب، أَولا أقوم، أَو مَا أكلت، أَو مَا قعدت، وَنَحْو ذَلِك وَنوى تَخْصِيصه بِشَيْء يقبل، أَو لَا يعلم فَلَا يقبل. ينظر: إِمَّا أَن يكون الْفِعْل مُتَعَدِّيا، أَو لَازِما، فَالْأول هُوَ الَّذِي ينصب فِيهِ الْخلاف عِنْد الْأَكْثَر، فَإِذا نفي وَلم يذكر لَهُ مفعول بِهِ فَفِيهِ مذهبان: أَحدهمَا: قَوْله أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَأبي يُوسُف إِنَّه يعم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2429 وَالْمذهب الثَّانِي: أَنه لَا يعم، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة والقرطبي والرازي. ومنشأ الْخلاف [أَن] الْمَنْفِيّ الْأَفْرَاد، فَيقبل إِرَادَة التَّخْصِيص بِبَعْض المفاعيل بِهِ لعمومه، أَو الْمَنْفِيّ الْمَاهِيّة وَلَا تعدد فِيهَا فَلَا عُمُوم. وَالأَصَح هُوَ الأول. قَوْله: {فَلَو نوى مَأْكُولا معينا قبل بَاطِنا عِنْد أَصْحَابنَا والمالكية وَالشَّافِعِيَّة. وَعند الْحَنَفِيَّة، وَابْن الْبَنَّا} ، والقرطبي، والرازي، {لَا يقبل بَاطِنا} . قَالَ الْبرمَاوِيّ لما ذكر الْمَسْأَلَة، وَالْخلاف فِيهَا قَالَ: وبنوا عَلَيْهِ أَن الْحَالِف إِذا قَالَ: إِن تزوجت، أَو أكلت، أَو شربت، أَو سكنت، أَو لبست، وَنوى شَيْئا دون شَيْء، هَل يقبل أَو لَا يقبل؟ - على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2430 الْخلاف - فَإِن ذكر الْمَفْعُول بِهِ، ك لَا آكل تَمرا، أَو لَا أضْرب زيدا، فَلَا خلاف بَين الْفَرِيقَيْنِ فِي عُمُومه وقبوله التَّخْصِيص. انْتهى. قَالَ ابْن مُفْلِح: لَو نوى مَأْكُولا معينا لم يَحْنَث بِغَيْرِهِ بَاطِنا عِنْد أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَهل يقبل حكما - كَقَوْل مَالك، وَأبي يُوسُف، وَمُحَمّد، أم لَا؟ كَقَوْل الشَّافِعِيَّة. فِيهِ عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ، وَعند ابْن الْبَنَّا من أَصْحَابنَا لَا يقبل بَاطِنا وفَاقا للحنفية، ثمَّ قَالَ: لنا عُمُومه، وإطلاقه بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأكل، وَلَا يعقل إِلَّا بِهِ فَثَبت بِهِ حكمه، وَكَقَوْلِه: لَا آكل أكلا. وَفرق الْحَنَفِيَّة بِأَن أكلا يدل على التَّوْحِيد. رد: هُوَ تَأْكِيد، فالواحد وَالْجمع سَوَاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2431 وَاحْتج القَاضِي بِصِحَّة الِاسْتِثْنَاء فِيهِ، فَكَذَا تَخْصِيصه. قَالُوا: الْمَأْكُول لم يلفظ بِهِ فَلَا عُمُوم كالزمان وَالْمَكَان. رد: الحكم وَاحِد عندنَا، وَعند الْمَالِكِيَّة وَعنهُ قَوْلَيْنِ، ويعم للزمان، وَالْمَكَان عندنَا، وَعند الْمَالِكِيَّة. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ احْتِمَال بِالْفرقِ، كَقَوْل الشَّافِعِيَّة، وَجزم بِهِ الْآمِدِيّ لِأَنَّهُمَا لَا يدل عَلَيْهِمَا اللَّفْظ بل من ضَرُورَة الْفِعْل بِخِلَاف الْمَأْكُول. قَالُوا: الْأكل مُطلق كلي لَا يشْعر بالمخصص فَلَا يَصح تَفْسِيره بِهِ. رد: الْكُلِّي غير مُرَاد لاستحالته خَارِجا، بل الْمُقَيد المطابق لَهُ؛ وَلِهَذَا يَحْنَث بِهِ إِجْمَاعًا. قَوْله: {فَلَو زَاد فَقَالَ لَحْمًا مثلا وَنوى معينا قبل عندنَا} ، وَهُوَ ظَاهر مَا ذكر عَن غَيرنَا، قَالَه ابْن مُفْلِح، {و} قَالَه {الْحَنَفِيَّة} ، وَذكره بعض أَصْحَابنَا اتِّفَاقًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2432 وخرجه الْحلْوانِي من أَصْحَابنَا على رِوَايَتَيْنِ بَاطِنا، وَذكر غَيره عَن ابْن الْبَنَّا: لَا يقبل. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَذكر بَعضهم: يقبل حكما على الْأَصَح عَن أَحْمد. قَوْله: {تَنْبِيه: علم من ذَلِك} ، يَعْنِي مَا تقدم {أَن الْعَام فِي شَيْء عَام فِي متعلقاته، قَالَه الْعلمَاء إِلَّا من شَذَّ} . قَالَ ابْن مُفْلِح: وَقد عرف من ذَلِك أَن الْعَام فِي شَيْء عَام فِي متعلقاته كَمَا هُوَ الْمَعْرُوف عِنْد الْعلمَاء خلافًا لبَعض الْمُتَأَخِّرين. قَالَ أَحْمد فِي قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] ظَاهرهَا على الْعُمُوم، أَن من وَقع عَلَيْهِ اسْم ولد فَلهُ مَا فرض الله، فَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الْمعبر عَن الْكتاب إِن الْآيَة إِنَّمَا قصدت الْمُسلم، لَا الْكَافِر. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: سَمَّاهُ عَاما وَهُوَ مُطلق فِي الْأَحْوَال يعمها على الْبَدَل، وَمن أَخذ بِهَذَا لم يَأْخُذ بِمَا دلّ عَلَيْهِ ظَاهر لفظ الْقُرْآن، بل بِمَا ظهر لَهُ مِمَّا سكت عَنهُ الْقُرْآن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2433 وَقَالَ فِي: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] عَامَّة فيهم، مُطلقَة فِي أَحْوَالهم لَا يدل عَلَيْهَا بِنَفْي وَلَا إِثْبَات، فَإِذا جَاءَت السّنة بِحكم لم يكن مُخَالفا لظَاهِر لفظ الْقُرْآن، بل لما لم يتَعَرَّض لَهُ. وَقَالَ: وَاحْتج أَصْحَابنَا كَالْقَاضِي، وَأبي الْخطاب، وَغَيرهم من الْمَالِكِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة بِعُمُوم قَوْله: " لَا وَصِيَّة لوَارث " فِي وَصِيَّة الْقَاتِل وَفِي وَصِيَّة الْمُمَيز، وَفِيه نظر. وَاحْتج جمَاعَة على الشُّفْعَة للذِّمِّيّ على الْمُسلم بقوله: " الشُّفْعَة فِيمَا لم يقسم ". وَأجَاب جمَاعَة من أَصْحَابنَا: إِنَّمَا هُوَ عَام فِي الْأَمْلَاك، وَالله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2434 تَنْبِيهَات: أَحدهَا: إِذا قَالَ: إِن أكلت، فَهُوَ مثل لَا أكلت؛ لِأَن النكرَة فِي سِيَاق الشَّرْط تعم، كالنفي فَمن ثمَّ جَمعنَا بَينهمَا؛ تبعا لِابْنِ مُفْلِح، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهمَا، وَإِن كَانَ التَّاج السُّبْكِيّ جعل ذَلِك ضَعِيفا فِي " جمع الْجَوَامِع "؛ إِذْ قَالَ: لَا أكلت، قيل: وَإِن أكلت؛ لِأَنَّهُ يحمل كَلَام من قَالَ: النكرَة فِي سِيَاق الشَّرْط للْعُمُوم البدلي. وَقد تقدم رد ذَلِك، وَأَن المُرَاد الْعُمُوم الشمولي. الثَّانِي: لَا يخْتَص جَوَاز التَّخْصِيص بِالنِّيَّةِ بِالْعَام، بل يجْرِي فِي تَقْيِيد الْمُطلق بِالنِّيَّةِ، وَلذَلِك لما قَالَ الْحَنَفِيَّة فِي (لَا أكلت) إِنَّه لَا عُمُوم فِيهِ، بل مُطلق، والتخصيص فرع الْعُمُوم. اعْترض عَلَيْهِم بِأَنَّهُ يصير بِالنِّيَّةِ تقييدا فَلم يمنعوه. الثَّالِث: هَذِه الْمَسْأَلَة هِيَ مَسْأَلَة تَخْصِيص الْعُمُوم بِالنِّيَّةِ، وَقد ذكر الْأَصْحَاب حكمهَا فِي أول بَاب جَامع الْأَيْمَان، وَذكروا الْخلاف فِي ذَلِك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2435 (قَوْله: {فصل} ) {فعله عَلَيْهِ السَّلَام لَا يعم أقسامه وجهاته} . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": الْفِعْل الْوَاقِع لَا يعم أقسامه وجهاته كصلاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَاخل الْكَعْبَة لَا يعم الْفَرْض وَالنَّفْل فَلَا يحْتَج بِهِ على جوازهما فِيهَا، وَقَول الرَّاوِي: صلى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد الشَّفق لَا يعم الشفقين إِلَّا عِنْد من حمل الْمُشْتَرك على معنييه. قَوْله: {وتكرر الْجمع مِنْهُ مَبْنِيّ على (كَانَ) } هَل هِيَ لدوام الْفِعْل وتكراره، أَوله عرفا، أَو لَا مُطلقًا على أَقْوَال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2436 وَالَّذِي قَالَه القَاضِي وَأَصْحَابه: إِنَّهَا لدوام الْفِعْل وتكراره، وَذكر القَاضِي أَيْضا فِي " الْكِفَايَة ": هَل تفِيد التّكْرَار؟ فِيهِ قَولَانِ. وَقَالَ الْمُوفق فِي " الْمُغنِي " وَأَتْبَاعه فِي اعْتِبَار التّكْرَار للْعَادَة (كَانَ) لدوام الْفِعْل وتكراره. {وَاخْتَارَهُ} القَاضِي أَبُو بكر ابْن {الباقلاني، وَأَبُو الطّيب، والآمدي وَغَيرهم} ؛ لِأَنَّهُ الْعرف كَقَوْل الْقَائِل: كَانَ فلَان يكرم الضيفان، وَقد قَالَ الله تَعَالَى عَن إِسْمَاعِيل: {وَكَانَ يَأْمر أَهله بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة} [مَرْيَم: 55] أَي: كَانَ يداوم على ذَلِك. وَفِي " صَحِيح البُخَارِيّ ": " كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَتَخَوَّلنَا بِالْمَوْعِظَةِ " فَالْمُرَاد هُنَا الِاسْتِمْرَار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2437 وَمِنْه: كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا سلم سلم ثَلَاثًا، وَإِذا تكلم بِكَلِمَة أَعَادَهَا ثَلَاثًا. وَمِنْه: كَانَ يعالج من التَّنْزِيل شدَّة. فَهِيَ كَذَلِك تفِيد الِاسْتِمْرَار والتكرار. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهِي لمُطلق الْفِعْل فِي الْمَاضِي كَسَائِر الْأَفْعَال تكَرر، أَو انْقَطع أَو لَا، فَلهَذَا قَالَ جمَاعَة: يَصح وَيصدق على وجود الله تَعَالَى، كَانَ كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " كَانَ الله وَلَا شَيْء قبله "، وَفِي لفظ: " شَيْء مَعَه ". وَمِنْه جمَاعَة لشعوره بالتقضي والعدم. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَعَلَّ المُرَاد عرفا، نَحْو: {وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} [النِّسَاء: 96] أَي: لم يزل، قَالَ بَعضهم: للقرينة. وَزعم الْجَوْهَرِي زيادتها. وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": وَتَكون (كَانَ) زَائِدَة. وَقَالَ عبد الْجَبَّار: إِنَّهَا تَقْتَضِي التّكْرَار عرفا لَا لُغَة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2438 قلت: وَهُوَ قوي جدا. وَقَالَهُ الرَّازِيّ، وَالنَّوَوِيّ - فِي " شرح مُسلم " - وَقَالَ: عَلَيْهِ أَكثر الْمُحَقِّقين من الْأُصُولِيِّينَ فَهِيَ تفِيد مرّة. فَإِن دلّ دَلِيل على التّكْرَار من خَارج عمل بِهِ، وَإِلَّا فَلَا، قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالتَّحْقِيق مَا قَالَه ابْن دَقِيق الْعِيد: إِنَّهَا تدل على التّكْرَار كثيرا، كَمَا يُقَال: كَانَ فلَان يقري الضَّيْف، وَمِنْه كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَجود النَّاس. الحَدِيث. ولمجرد الْفِعْل قَلِيلا من غير تكَرر، نَحْو: كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقف بِعَرَفَات عِنْد الصخرات، وَقَول عَائِشَة: كنت أطيب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِحلِّهِ وَحرمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2439 وَلم يَقع وُقُوفه بِعَرَفَة وإحرامه وَعَائِشَة مَعَه إِلَّا مرّة وَاحِدَة. وَمِنْه: مَا فِي سنَن أبي دَاوُد بِسَنَد صَحِيح عَن عَائِشَة، وَهِي تذكر شَأْن خَيْبَر: كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يبْعَث عبد الله بن رَوَاحَة إِلَى يهود خَيْبَر فيخرص النّخل. فَهَذَا لَا يُمكن فِيهِ التّكْرَار؛ لِأَن فتح خَيْبَر كَانَ سنة سبع، وَعبد الله بن رَوَاحَة قتل فِي غَزْوَة مُؤْتَة سنة ثَمَان. وَاعْلَم أَن هَذَا الْخلاف غير خلاف النُّحَاة فِي أَن (كَانَ) هَل تدل على الِانْقِطَاع أَو لَا؟ اخْتِيَار ابْن مَالك الثَّانِي، وَرجح أَبُو حَيَّان الأول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2440 وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه غَيره؛ لِأَنَّهُ لَا يلْزم من التّكْرَار عدم الِانْقِطَاع فقد يتَكَرَّر الشَّيْء ثمَّ يَنْقَطِع نعم يلْزم بِالضَّرُورَةِ فِي عدم الِانْقِطَاع التكرر، لَكِن لَا قَائِل بِهِ. قَوْله: {وَأما الْأمة فَلم تدخل بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -} . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَأما الْأمة فَلم تدخل بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بل بِدَلِيل قَوْله أَو قرينَة، نَحْو: " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، و " خُذُوا عني مَنَاسِككُم "، ووقوعه بعد إِجْمَال، أَو إِطْلَاق، أَو عُمُوم قصد بَيَانه، أَو بالتأسي بِهِ، أَو بِالْقِيَاسِ على فعله. وَاعْترض بِعُمُومِهِ، نَحْو: (سَهَا فَسجدَ) ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أما أَنا فأفيض المَاء ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2441 رد بِالْفَاءِ فَإِنَّهَا للسَّبَبِيَّة، وَبِمَا سبق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2442 (قَوْله: {فصل} ) نَحْو {قَول صَحَابِيّ: نهى عَن بيع الْغرَر، وَالْمُخَابَرَة، وَقضى بِالشُّفْعَة للْجَار} فِيمَا لم يقسم، {يعم كل غرر، ومخابرة، وجار} عندنَا وَعند جمَاعَة مِنْهُم: الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب وَشَيْخه الأبياري، وَابْن الساعاتي فِي " البديع ". {وَقَالَ الْأَكْثَر: لَا يعم} ، حَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن أَكثر الْأُصُولِيِّينَ، مِنْهُم: الباقلاني، والقفال الشَّاشِي، والأستاذ أَبُو مَنْصُور، وَأَبُو حَامِد، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2443 وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وسليم، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَابْن الْقشيرِي، وَالْفَخْر الرَّازِيّ، وَغَيرهم، فَقَالُوا: يحْتَمل فعلا، وجارا خَاصّا، أَو سمع صِيغَة غير عَامَّة فَتوهم الْعُمُوم، وَالْحجّة هِيَ المحكية لَا الْحِكَايَة. رد ذَلِك بِأَنَّهُ خلاف الظَّاهِر. وَاسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - بِإِجْمَاع الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي رجوعهم إِلَيْهِ، وعملهم بِهِ، كَمَا سبق فِي خبر الْوَاحِد. وَلِأَنَّهُ عدل عَارِف باللغة وَالْمعْنَى، فَالظَّاهِر أَنه لم ينْقل الْعُمُوم إِلَّا بعد ظُهُوره، وَظن صدقه مُوجب لاتباعه لَهُ. وَيَأْتِي: هَل يعم الحكم الْمُعَلق على عِلّة، فِي الْقيَاس فِي قَوْله: فصل: النَّص على عِلّة حكم الأَصْل تَكْفِي فِي التَّعَدِّي، قبيل القوادح بِيَسِير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2444 (قَوْله: {فصل} ) {أَكثر أَصْحَابنَا، وَغَيرهم الْمَفْهُوم مُطلقًا عَام فِيمَا سوى الْمَنْطُوق يجوز تَخْصِيصه بِمَا يخصص بِهِ الْعَام وَرفع كُله تَخْصِيص أَيْضا} لإِفَادَة اللَّفْظ فِي منطوقه وَمَفْهُومه فَهُوَ كبعض الْعَام. وَقيل لأبي الْخطاب، وَغَيره من أَصْحَابنَا: لَو كَانَ حجَّة لما خص؛ لِأَنَّهُ مستنبط من اللَّفْظ، كالعلة. فَأَجَابُوا: بِالْمَنْعِ، وَأَن اللَّفْظ بِنَفسِهِ دلّ عَلَيْهِ بِمُقْتَضى اللُّغَة فَخص كالنطق، وَقد قَالَ أَحْمد فِي الْمحرم: يقتل السَّبع وَالذِّئْب، والغراب، وَنَحْوه، وَاحْتج بقوله: {لَا تقتلُوا الصَّيْد} [الْمَائِدَة: 95] الْآيَة. لَكِن مَفْهُوم الْمُوَافقَة هَل يعمه النُّطْق؟ فِيهِ خلاف يَأْتِي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2445 {وَاخْتَارَ ابْن عقيل، والموفق، وَالشَّيْخ} تَقِيّ الدّين، {وَالْغَزالِيّ، وَغَيرهم: لَا يعم، وتكفي الْمُخَالفَة فِي صُورَة مَا} ، اخْتَارَهُ الشَّيْخ موفق الدّين، ذكره فِي مَسْأَلَة الْقلَّتَيْنِ فِي مَفْهُوم الْمُخَالفَة: لَا يعم، وَيَكْفِي الْمُخَالفَة فِي صُورَة فَإِن الْجَارِي لَا ينجس إِلَّا بالتغيير خلافًا للمشهور عَن أَحْمد وَأَصْحَابه، وَاخْتَارَ بعض الْمُتَأَخِّرين من الشَّافِعِيَّة لَا يعم، وَاخْتَارَهُ بعض أَصْحَابنَا، وَقَالَ: لِأَنَّهُ يدل بطرِيق التَّعْلِيل، والتخصيص، وَالْحكم إِذا ثَبت بعلة وانتفت جَازَ أَن تخلفها فِي بعض الصُّور، أَو كلهَا عِلّة أُخْرَى، وَقصد التَّخْصِيص يحصل بالتفصيل. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قَالَ شَارِح " الورقات ": الصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي، والأصوليين أَنه لَا عُمُوم للمفهوم، سَوَاء كَانَ مَفْهُوم مُوَافقَة، أَو مُخَالفَة؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا تُوصَف الدّلَالَة بِالْعُمُومِ، إِذْ لَو تناولت غَيرهَا، والغير هُنَا لَيْسَ من صُورَة الْمَفْهُوم، وَلَا من صُورَة الْمَنْطُوق؛ وَلِأَن الْعُمُوم من عوارض النُّطْق. انْتهى. {وَقيل: لَا يتَحَقَّق الْخلاف} . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": الْخلاف فِي أَن الْمَفْهُوم لَهُ عُمُوم، لَفْظِي؛ لِأَن مفهومي الْمُوَافقَة والمخالفة عَام فِيمَا سوى الْمَنْطُوق بِهِ بِلَا خلاف، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2446 وَمن نفي الْعُمُوم - كالغزالي - أَرَادَ أَن الْعُمُوم لم يثبت بالمنطوق بِهِ بِغَيْر توَسط الْمَفْهُوم، وَلَا خلاف فِيهِ أَيْضا. كَذَا ذكره الْآمِدِيّ، وَمن تبعه، وَكَذَا قَالَ صَاحب " الْمَحْصُول "، إِن عني أَنه لَا يُسمى عَاما لفظيا فقريب، وَإِن عني أَنه لَا يُفِيد انْتِفَاء عُمُوم الحكم، فدليل كَون الْمَفْهُوم حجَّة يَنْفِيه. انْتهى. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قَالَ الْآمِدِيّ، والرازي: الْخلاف فِي الْمَفْهُوم هَل لَهُ عُمُوم لَا يتَحَقَّق؟ لِأَن مفهومي الْمُوَافقَة والمخالفة عَام فِيمَا سوى الْمَنْطُوق، وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي سَائِمَة الْغنم الزَّكَاة " يَقْتَضِي عُمُومه سلب الحكم عَن معلوفة الْغنم دون غَيرهَا على الصَّحِيح، فَمَتَى جَعَلْنَاهُ حجَّة لزم انْتِفَاء الحكم عَن جملَة صور الْمُخَالفَة، وَإِلَّا لم يكن للتخصيص فَائِدَة، وتأولوا ذَلِك على أَن الْمُخَالفين أَرَادوا أَنه لم يثبت بالمنطوق وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2447 قيل: قَوْلهم الْمَفْهُوم لَا عُمُوم لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَفْظ حَتَّى يعم لَا يُرِيدُونَ بِهِ سلب الحكم عَن جَمِيع المعلوفة؛ لِأَنَّهُ خلاف مَذْهَب الْقَائِلين بِالْمَفْهُومِ، وَلَكنهُمْ قد يذكرُونَهُ فِي معرض الْبَحْث. فقد قَالُوا: دلَالَة الِاقْتِضَاء تجوز رفع الْخَطَأ، أَي: حكمه، لَا يعم حكم الْإِثْم وَالْغُرْم - مثلا - تقليلا للإضمار فَلذَلِك يُقَال فِي الْمَفْهُوم: هُوَ حجَّة لضَرُورَة ظُهُور فَائِدَة التَّقْيِيد بِالصّفةِ، وَيَكْفِي فِي الْفَائِدَة انْتِفَاء الحكم عَن صُورَة وَاحِدَة لتوقف بَيَانهَا على دَلِيل آخر، وَإِن لم يقل بذلك أهل الْمَفْهُوم، لكنه بحث مُتَّجه. قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: وَلقَائِل أَن يَقُول الْحَال فِي هَذِه منقسمة بِحَيْثُ يكون مَحل النُّطْق إِثْبَاتًا جزئيا فَالْحكم مُنْتَفٍ فِي جملَة صور الْمُخَالفَة، وَحَيْثُ يكون مَحل النُّطْق نفيا لم يلْزم أَنه يثبت الحكم فِي جملَة صور الْمُخَالفَة؛ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْمَنْطُوق إِثْبَاتًا لزم نفي الحكم؛ إِذا انْتَفَى عَن كل أَفْرَاد الْمُخَالف؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يدل على تنَاول الحكم لكل فَرد من أَفْرَاد الْمُخَالف، أَو لَا، فَإِن دلّ فَهُوَ المُرَاد، وَإِن لم يدل فَهُوَ دَال حِينَئِذٍ على نفي الحكم عَن مُسَمّى الْمُخَالف فَيلْزم انتفاؤه عَن كل فَرد ضَرُورَة أَنه يثبت النَّفْي للمسمى وَمَا يثبت - أَعنِي النَّفْي عَن الْأَعَمّ - يثبت لجملة أَفْرَاده. وَهَذَا كتعليق الْوُجُوب بسائمة الْغنم فَإِن مَحل النُّطْق إِثْبَات فَيَقْتَضِي نفي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2448 وجوب الزَّكَاة عَن المعلوفة، فَإِذا كَانَ بِصفة للْعُمُوم فَذَاك، وَإِلَّا فَهُوَ سلب عَن مُسَمّى المعلوفة فَيلْزم انتفا الْوُجُوب عَن كل أَفْرَاد المعلوفة لما بَيناهُ أَن المسلوب عَن الْأَعَمّ مسلوب عَن كل أَفْرَاده. وَأما إِن كَانَ مَحل النُّطْق نفيا، أَو مَا فِي مَعْنَاهُ، كنهيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَن الْبَوْل فِي المَاء الدَّائِم، ثمَّ يغْتَسل مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي انْتِفَاء الحكم عَن الْمُخَالف وَهُوَ النَّفْي فَيكون الثَّابِت للمخالف إِثْبَاتًا، فَإِن مُطلق الحكم فِي السّوم لَيْسَ يلْزم مِنْهُ الْعُمُوم، فَإِن الْعُمُوم لَهُ صِيغ مَخْصُوصَة، لَا كل صِيغَة، فَإِذا كَانَ بعض الْأَلْفَاظ المنطوقة بهَا لَا تدل على الْعُمُوم إِذا كَانَت فِي طرف الْإِثْبَات، فَمَا ظَنك بِمَا لَا لفظ فِيهِ أصلا فمدعي الْعُمُوم لَا بُد لَهُ من دَلِيل، وَقَول الْقَائِل: وَمَتى جعلنَا حجَّة لزم انْتِفَاء الحكم فِي جملَة الصُّور، وَإِلَّا لم يكن للتخصيص فَائِدَة مَمْنُوع؛ لأَنا إِذا علقنا الحكم بِالْمُسَمّى الْمُطلق كَانَت فَائِدَة الْمَفْهُوم حَاصِلَة فِي بعض الصُّور ضَرُورَة، فَلَا يَخْلُو الْمَفْهُوم من فَائِدَة، وَفِي مثل هَذَا يتَوَجَّه كَلَام الْغَزالِيّ. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2449 (قَوْله: {فصل} ) لَا يلْزم من إِضْمَار شَيْء فِي الْمَعْطُوف أَن يضمر فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ، ذكره أَبُو الْخطاب، وَابْن حمدَان، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم خلافًا للحنفية، وَالْقَاضِي، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهم} . وَهَذِه التَّرْجَمَة الَّتِي ترجمنا بهَا الْمَسْأَلَة هِيَ تَرْجَمَة أبي الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2450 وترجمها الرَّازِيّ، والبيضاوي، والهندي، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَغَيرهم بقَوْلهمْ: عطف الْخَاص على الْعَام لَا يَقْتَضِي تَخْصِيص الْمَعْطُوف عَلَيْهِ. وترجمها ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " بقوله: هَل يلْزم أَن يضمر فِي الْمَعْطُوف مَا يُمكن مِمَّا فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ، وَإِذا لزم وَلم يضمر فِي الْمَعْطُوف خَاص يلْزم أَن يكون الْمَعْطُوف عَلَيْهِ كَذَلِك. وَمثل الْفَرِيقَانِ لهَذِهِ الْمَسْأَلَة بقول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ: " لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر وَلَا ذُو عهد فِي عَهده ". وَالْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مَشْهُور بَين الْعلمَاء مَعَ الِاتِّفَاق على أَن النكرَة فِي سِيَاق النَّفْي للْعُمُوم. فالحنفية وَمن تَابعهمْ يقدرُونَ تتميما للجملة الثَّانِيَة لفظا عَاما تَسْوِيَة بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فِي مُتَعَلّقه فَيكون على حد قَوْله تَعَالَى: {آمن الرَّسُول بِمَا أنزل إِلَيْهِ من ربه والمؤمنون} [الْبَقَرَة: 285] فَيقدر: وَلَا ذُو عهد فِي عَهده بِكَافِر؛ إِذْ لَو قدر خَاصّا، وَهُوَ وَلَا ذُو عهد فِي عَهده بحربي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2451 لزم التخالف بَين المتعاطفين، وَأَن يكون تَقْديرا بِلَا دَلِيل بِخِلَاف مَا لَو قدر عَاما فَإِن الدَّلِيل دلّ عَلَيْهِ من الْمُصَرّح بِهِ فِي الْجُمْلَة الَّتِي قبلهَا، وَحِينَئِذٍ فيخصص الْعُمُوم فِي الثَّانِيَة بالحربي بِدَلِيل آخر، وَهُوَ الِاتِّفَاق على أَن الْمعَاهد لَا يقتل بالحربي، وَيقتل بالمعاهد وَالذِّمِّيّ. قَالُوا: وَإِذا تقرر هَذَا وَجب أَن يخصص الْعَام الْمَذْكُور أَولا؛ ليتساويا فَيصير لَا يقتل مُسلم بِكَافِر وَلَا ذُو عهد فِي عَهده بِكَافِر حَرْبِيّ. وَأما أَصْحَابنَا وَغَيرهم فَإِذا قدرُوا فِي الْجُمْلَة الثَّانِيَة فَإِنَّمَا يقدرُونَ خَاصّا فَيَقُولُونَ: وَلَا ذُو عهد فِي عَهده بحربي؛ لِأَن التَّقْدِير إِنَّمَا هُوَ بِمَا تنْدَفع بِهِ الْحَاجة بِلَا زِيَادَة، وَفِي التَّقْدِير بحربي كِفَايَة، وَلَا يضر تخَالفه مَعَ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فِي ذَلِك؛ إِذْ لَا يشْتَرط إِلَّا اشتراكهما فِي أصل الحكم، وَهُوَ هُنَا منع الْقَتْل بِمَا يذكر، أَو بِمَا يقوم الدَّلِيل عَلَيْهِ لَا فِي كل الْأَحْوَال كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وبعولتهن أَحَق بردهن} [الْبَقَرَة: 228] فَإِنَّهُ مُخْتَصّ بالرجعيات، وَإِن تقدم المطلقات بِالْعُمُومِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2452 {وَقيل بِالْوَقْفِ} فِي الْمَسْأَلَة؛ لتعارض الْأَدِلَّة. وَقيل: {إِن قيد بِقَيْد غير قيد الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فَلَا يضمر فِيهِ، وَإِن أطلق أضمر فِيهِ} ، وَهَذَا قَالَه أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ". وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا الْمُتَأَخِّرين: {إِنَّمَا يخصص الْمَعْطُوف عَلَيْهِ بِمَا فِي الْمَعْطُوف من الْخُصُوص إِذا كَانَ بِخُصُوص الْمَادَّة كالحديث} ، لَا نَحْو: (اضْرِب زيدا وعمرا قَائِما فِي الدَّار) ، وَلأَجل ذَلِك عيب على من ترْجم هَذِه الْمَسْأَلَة - كالآمدي - بِأَن الْمَعْطُوف على الْعَام هَل يَقْتَضِي الْعُمُوم فِي الْمَعْطُوف؟ فَإِن هَذَا شَامِل لما لَا خلاف فِيهِ، وَهُوَ مَا لَو قَالَ: وَلَا ذُو عهد فِي عَهده بحربي فَلَا يسمع أحدا أَن يَقُول: باقتضاء الْعَطف على الْعَام هُنَا الْعُمُوم مَعَ كَون الْمَعْطُوف خَاصّا، وَلَا نَحن نقُول فِيمَا إِذا قدر عَام أَنه خَاص بِلَا دَلِيل خصصه، إِنَّمَا الْمَقْصُود بِالْمَسْأَلَة أَن إِحْدَى الجملتين إِذا عطف على الْأُخْرَى وَكَانَت الثَّانِيَة تَقْتَضِي إضمارا يَسْتَقِيم، وَكَانَ نَظِيره فِي الْجُمْلَة الأولى عَاما هَل يجب أَن يُسَاوِيه فِي عُمُومه فيضمر عَام، أَو لَا؟ كَمَا قَرَّرْنَاهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2453 وَلذَلِك لما رأى ابْن الْحَاجِب التَّرْجَمَة بذلك مختلة عبر عَنْهَا بقوله مَسْأَلَة قَالَ الْحَنَفِيَّة: مثل قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ... الحَدِيث. وَمِنْهُم من يصحح التَّرْجَمَة بالْعَطْف على الْعَام، وَأَن هَذَا خرج مخرج اللقب على الْمَسْأَلَة لَا لمراعاة قيودها. وَترْجم الرَّازِيّ، والبيضاوي، والهندي بعطف الْخَاص على الْعَام لَا يَقْتَضِي تَخْصِيص الْمَعْطُوف عَلَيْهِ، فَإِن (بِكَافِر) فِي الْجُمْلَة الثَّانِيَة مُخَصص بالحربي، فَهَل يكون تَخْصِيصًا للعام الأول، وَيكون التَّقْدِير: لَا يقتل مُسلم بِكَافِر حَرْبِيّ، أَي: بل يقتل بالذمي، أَو هُوَ بَاقٍ على عُمُومه وَلَا يقْدَح عطف الْخَاص عَلَيْهِ. الأولى قَول الْحَنَفِيَّة، وَالثَّانيَِة قَول الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم. وَلَكِن هَذَا يَشْمَل مَا لَو صرح فِي الثَّانِيَة بحربي من بَاب أولى، وَلَا يضر ذَلِك فِي التَّصْوِير إِلَّا أَنه يخرج عَن مُلَاحظَة الْمُقدر: هَل يقدر عَاما، أَو خَاصّا؟ وَمِمَّا يضعف قَوْلهم أَن كَون الْحَرْبِيّ مهدرا من الْمَعْلُوم من الدّين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2454 بِالضَّرُورَةِ فَلَا يتَوَهَّم أحد قتل مُسلم بِهِ فَحمل الْكَافِر فِي " لَا يقتل مُسلم بِكَافِر " عَلَيْهِ ضَعِيف لعدم فَائِدَته. على أَن تَرْجَمَة الْمَسْأَلَة بالمعطوف على كل حَال فِيهِ نظر؛ لِأَن الْمَعْطُوف فِي الحَدِيث فِي الْحَقِيقَة هُوَ (ذُو عهد) على النَّائِب عَن الْفَاعِل فِي (يقتل) وَهُوَ مُسلم، إِلَّا أَن يقدر بعده مجرور بباء ليقابل بِكَافِر فِي الْجُمْلَة الأولى فَيكون من عطف معمولين على معمولي عَامل وَهُوَ جَائِز قطعا، لَكِن فِيهِ على كل حَال إِيهَام؛ لأَنا لَا نعلم مَا المُرَاد بالمعطوف أَو الْمَجْرُور. نعم، جمع من الشَّافِعِيَّة وَافق الْحَنَفِيَّة على أَن مدعاهم فِي الْمَسْأَلَة أرجح، وَكَذَا ابْن الْحَاجِب صرح بموافقتهم، وَاسْتدلَّ لَهُم وَأجَاب عَن أَدِلَّة غَيرهم وَإِن لم يكن من مذْهبه قتل الْمُسلم بالكافر إِلَّا أَنه يَقُول: التَّخْصِيص طرق الْعَام الأول بِدَلِيل من خَارج، وَالْعَام الثَّانِي كَذَلِك. قَالَ الْبرمَاوِيّ: ذهب قوم من أَصْحَابنَا إِلَى أَن الْجُمْلَة الثَّانِيَة كَلَام تَامّ لَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير خَاص، وَلَا عَام، وَأَن الْمَعْنى النَّهْي عَن قتل الْمعَاهد مَا دَامَ فِي عَهده، فالقيد فِي منع قَتله كَونه فِي عَهده والفائدة حَاصِلَة بذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2455 وَذكر الْقَدُورِيّ من الْحَنَفِيَّة فِي " كِفَايَة التَّجْرِيد ": فِي الحَدِيث تقديرين آخَرين غير تقديرهم الْمَشْهُور: أَحدهمَا: أَنه لَا حذف فِيهِ، بل على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَالْأَصْل لَا يقتل مُسلم وَلَا ذُو عهد فِي عَهده بِكَافِر. وَالثَّانِي: أَن ذَا عهد مُبْتَدأ، وَفِي عَهده خَبره، وَالْوَاو للْحَال، أَي: لَا يقتل مُسلم بِكَافِر وَالْحَال أَنه لَيْسَ ذَا عهد فِي عَهده، ورد من وَجْهَيْن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2456 (قَوْله: {فصل} ) القِران بَين شَيْئَيْنِ لفظا لَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَة بَينهمَا حكما فِي غير الْمَذْكُور إِلَّا بِدَلِيل من خَارج، عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا وَالْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة} ، وَحَكَاهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل عَن كل الْأَصْحَاب. وَذَلِكَ مثل قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم وَلَا يغْتَسل فِيهِ من جَنَابَة "؛ لِأَن الأَصْل عدم الشّركَة. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: لَا يلْزم من تنجيسه بالبول تنجيسه بالاغتسال. وَمن الدَّلِيل أَيْضا قَوْله تَعَالَى: {كلوا من ثمره إِذا أثمر وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} [الْأَنْعَام: 141] فعطف ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2457 وَاجِبا على مُبَاح؛ لِأَن الأَصْل عدم الشّركَة ودليلها. {وَخَالف أَبُو يُوسُف، والمزني، والحلواني، وَالْقَاضِي أَيْضا} ؛ لِأَن الْعَطف يَقْتَضِي الْمُشَاركَة، نَحْو: أقِيمُوا الصَّلَاة، وَآتوا الزَّكَاة فَلذَلِك لَا تجب الزَّكَاة فِي مَال الصَّغِير؛ لِأَنَّهُ لَو أُرِيد دُخُوله فِي الزَّكَاة لَكَانَ فِيهِ عطف وَاجِب على مَنْدُوب؛ لِأَن الصَّلَاة عَلَيْهِ مَنْدُوبَة اتِّفَاقًا. وَضعف بِأَن الأَصْل فِي اشْتِرَاك الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يذكر لَا فِيمَا سواهُ من الْأُمُور الخارجية وَقد أَجمعُوا على أَن اللَّفْظَيْنِ العامين إِذا عطف أَحدهمَا على الآخر، وَخص أَحدهمَا لَا يَقْتَضِي تَخْصِيص الآخر. وَاسْتدلَّ لهَذَا الْمَذْهَب أَيْضا بقول الصّديق - رَضِي الله عَنهُ -: (وَالله لأقتلن من فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2458 وَاسْتدلَّ ابْن عَبَّاس لوُجُوب الْعمرَة بِأَنَّهَا قرينَة الْحَج فِي كتاب الله. رد: لدَلِيل وقرينته فِي الْأَمر بهَا. وَاسْتدلَّ القَاضِي بقوله تَعَالَى: {أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط أَو لامستم النِّسَاء} [النِّسَاء: 43] قَالَ: فعطف اللَّمْس على الْغَائِط مُوجب للْوُضُوء، قَالَ: وخصص أَحْمد بِالْقَرِينَةِ فَذكر قَوْله فِي آيَة النَّجْوَى، وَقَوله: {وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم} [الْبَقَرَة: 282] إِذا أَمن فَلَا بَأْس. انْظُر إِلَى آخر الْآيَة. وَاخْتلف كَلَام أبي يعلى الصَّغِير وَغَيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2459 (قَوْله: {فصل} ) أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَالْحَنَفِيَّة، والمالكية الْخطاب الْخَاص بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا المزمل} [المزمل: 1] وَنَحْوه عَام للْأمة إِلَّا بِدَلِيل يَخُصُّهُ} . وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك} [التَّحْرِيم: 1] ، وَاخْتَارَهُ ابْن السَّمْعَانِيّ، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ على مَا يؤول إِلَيْهِ تَفْصِيل لَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2460 فعلى هَذَا - وَهُوَ القَوْل بالشمول - يَقُولُونَ: إِذا قَالَ يَا أَيهَا النَّبِي للْأمة لَا يَقُولُونَ إِنَّه باللغة بل للْعُرْف فِي مثله حَتَّى لَو قَامَ دَلِيل على خُرُوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من ذَلِك كَانَ من بَاب الْعَام الْمَخْصُوص، وَلَا يَقُولُونَ إِنَّهُم داخلون بِدَلِيل آخر، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ مَحل النزاع فيتحد الْقَوْلَانِ. {و} قَالَ {التَّمِيمِي، وَأَبُو الْخطاب، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، والأشعرية} ، والمعتزلة، وَغَيرهم: {لَا يعمهم إِلَّا بِدَلِيل} يُوجب التَّشْرِيك إِمَّا مُطلقًا، وَإِمَّا فِي ذَلِك الحكم بِخُصُوصِهِ من قِيَاس أَو غَيره، وَحِينَئِذٍ فشمول الحكم لَهُ بذلك لَا بِاللَّفْظِ؛ لِأَن اللُّغَة تَقْتَضِي أَن خطاب الْمُفْرد لَا يتَنَاوَل غَيره. وَاسْتدلَّ للْأولِ بقوله تَعَالَى: {فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا زَوَّجْنَاكهَا لكَي لَا يكون على الْمُؤمنِينَ حرج فِي أَزوَاج أدعيائهم} [الْأَحْزَاب: 37] فعلل الْإِبَاحَة بِنَفْي الْحَرج عَن أمته، وَلَو اخْتصَّ بِهِ الحكم لما كَانَ عِلّة لذَلِك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2461 وَأَيْضًا: {خَالِصَة لَك من دون الْمُؤمنِينَ} [الْأَحْزَاب: 50] وَلَو كَانَ اللَّفْظ مُخْتَصًّا لم يحْتَج إِلَى التَّخْصِيص. فَإِن قيل: الْفَائِدَة فِي التَّخْصِيص عدم الْإِلْحَاق بطرِيق الْقيَاس، وَلذَلِك رفع الْحَرج. قُلْنَا: ظَاهر اللَّفْظ مُقْتَض للمشاركة؛ لِأَنَّهُ علل إِبَاحَة التَّزْوِيج بِرَفْع الْحَرج عَن الْمُؤمنِينَ، وَكَذَلِكَ قَضَاؤُهُ بالخصوية، فَالْقِيَاس بمعزل عَن ذَلِك. وَأَيْضًا فِي مُسلم أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَأَلَهُ رجل فَقَالَ: تدركني الصَّلَاة وَأَنا جنب فأصوم؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَأَنا تدركني الصَّلَاة وَأَنا جنب فأصوم! " فَقَالَ: لست مثلنَا يَا رَسُول الله، قد غفر الله لَك مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر، فَقَالَ: " وَالله، إِنِّي لأرجو أَن أكون أخشاكم لله وَأعْلمكُمْ بِمَا أتقي ". وَرُوِيَ عَنهُ فِي القُبلة مثله، فَدلَّ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه أجابهم بِفِعْلِهِ، وَلَو اخْتصَّ الحكم بِهِ لم يكن جَوَابا لَهُم. الثَّانِي: أَنه أنكر عَلَيْهِم مراجعتهم لَهُ باختصاصه بالحكم، فَدلَّ على أَنه لَا يجوز الْمصير إِلَيْهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2462 وَلِأَن الصَّحَابَة كَانُوا يرجعُونَ إِلَى أَفعاله عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ من الْأَحْكَام كرجوعهم فِي التقاء الختانين، وَصِحَّة صَوْم من أصبح جنبا، وَغير ذَلِك. قَالُوا: الْمُفْرد لَا يتَنَاوَل غَيره لُغَة. قُلْنَا: مَحل النزاع لَيْسَ فِي اللُّغَة، بل فِي الْعرف الشَّرْعِيّ. قَالُوا: يُوجب كَون خُرُوج غَيره تَخْصِيصًا. قُلْنَا: من الْعرف الشَّرْعِيّ مُسلم إِذا ظَهرت مشاركتهم لَهُ فِي الْأَحْكَام ثَبت مشاركته لَهُم أَيْضا لوُجُود التلازم ظَاهرا؛ فَإِن مَا ثَبت لأحد المتلازمين ثَبت للْآخر، أَو لَو ثَبت لَهُم حكم انفردوا بِهِ دونه لثبت نقيضه فِي حَقه دونهم، وَقد ظهر الدَّلِيل على خِلَافه. انْتهى. {ووقف أَبُو الْمَعَالِي} ، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَيَأْتِي تَفْصِيل فِي الْمَسْأَلَة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2463 تَنْبِيه: مَحل ذَلِك مَا يُمكن إِرَادَة الْأمة مَعَه، أما مَا لَا يُمكن إِرَادَة الْأمة مَعَه فِيهِ مثل: {يَا أَيهَا المدثر (1) قُم فَأَنْذر} [المدثر: 1، 2] ، {يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} [الْمَائِدَة: 67] ، وَنَحْوه فَلَا تدخل الْأمة فِيهِ قطعا، وَمِنْه مَا قَامَت فِيهِ قرينَة على اخْتِصَاصه بِهِ من خَارج، نَحْو: {وَلَا تمنن تستكثر} [المدثر: 6] . فتفصيل إِمَام الْحَرَمَيْنِ بَين أَن ترد الصِّيغَة فِي مَحل التَّخْصِيص فَيكون خَاصّا بِهِ وَإِلَّا فَيكون عَاما لَيْسَ قولا آخر، بل يتَبَيَّن بِمحل الْخلاف، وَأما [مَا] لَا يُمكن فِيهِ إِرَادَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذلك الحكم المقترن بخطابه، بل يكون الْخطاب لَهُ وَالْمرَاد الْأمة فَلَيْسَ ذَلِك من مَحل النزاع أَيْضا، وَذَلِكَ مثل قَوْله: {لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك} [الزمر: 65] ، فخطابه بذلك من مجَاز التَّرْكِيب، وَهُوَ مَا أسْند فِيهِ الحكم لغير من هُوَ لَهُ، نَحْو: أنبت الرّبيع البقل، {يَا هامان ابْن لي صرحا} [غَافِر: 36] ؛ وَلأَجل ذَلِك انتقد على ابْن الْحَاجِب تمثيله مَحل النزاع بِآيَة {لَئِن أشركت} . ورد ذَلِك ابْن عَطِيَّة بِمَا فِيهِ شِفَاء. وَقَول التَّمِيمِي وَمن مَعَه: (لَا يعمهم إِلَّا بِدَلِيل) تقييدا لهَذَا القَوْل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2464 بِأَن لَا قرينَة على إِرَادَة الْأمة مَعَه فَإِن كَانَت قرينَة تدل على إرادتهم مَعَه دخلُوا بِلَا خلاف، وَذَلِكَ مثل قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء} [الطَّلَاق: 1] ، فَإِن ضمير الْجمع فِي (طلّقْتُم) و (طلقوهن) قرينَة لفظية تدل على أَن الْأمة مَقْصُودَة مَعَه بالحكم وَإِن تَخْصِيصه بالنداء تشريف لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَنَّهُ إمَامهمْ وقدوتهم وسيدهم الَّذِي يصدر فعلهم عَن رَأْيه وإرشاده. انْتهى. فتلخص أَن خطابه ثَلَاثَة أَنْوَاع: أَحدهَا: يكون مُخْتَصًّا بِهِ بِلَا نزاع. وَالثَّانِي: دُخُول أمته مَعَه بِلَا نزاع. وَالثَّالِث: مَحل الْخلاف. تَنْبِيه: عكس هَذِه الْمَسْأَلَة، نَحْو: يَا أَيهَا الْأمة، قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب، والهندي: لَا يدْخل قطعا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2465 قَوْله: {وَكَذَا خطاب الله تَعَالَى لأَصْحَابه، هَل يعمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟} فِيهِ الْخلاف الْمُتَقَدّم. وَالصَّحِيح أَنه يعمه على مَا تقدم، لَكِن قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": نفي دَخَلُوهُ هُنَا عَن الْأَكْثَر من الْفُقَهَاء والمتكلمين، وَذَلِكَ بِنَاء على أَنه لَا يَأْمر كالسيد مَعَ عبيده. رد بِأَنَّهُ مخبر بِأَمْر الله تَعَالَى. قلت: هُوَ كَمَا قَالَه القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي، والهندي فِي التَّنْبِيه الَّذِي قبل هَذَا، وَاحْتج الأول: بفهم أهل اللُّغَة من الْأَمر للأمير بالركوب لكسر الْعَدو، وَنَحْوه أَنه أَمر لأتباعه مَعَه. رد بِالْمَنْعِ، وَلِهَذَا يُقَال: أَمر الْأَمِير، لَا أَتْبَاعه. قَوْله: {وَكَذَا خطابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لوَاحِد من الْأمة هَل يعم غَيره} ، أم لَا؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2466 فِيهِ الْخلاف الْمُتَقَدّم، وَالصَّحِيح عندنَا أَنه عَام مُطلقًا فَيتَنَاوَل الْمُخَاطب وَغَيره وَلَو اخْتصَّ بِهِ الْمُخَاطب لم يكن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَبْعُوثًا إِلَى الْجَمِيع. رد بِالْمَنْعِ، فَإِن مَعْنَاهُ تَعْرِيف كل وَاحِد مَا يخْتَص بِهِ، وَلَا يلْزم شركَة الْجَمِيع فِي الْجَمِيع. قَالُوا: هُوَ إِجْمَاع الصَّحَابَة لرجوعهم إِلَى قصَّة مَاعِز، وَبرْوَع بنت واشق، وَأَخذه الْجِزْيَة من مجوس هجر، وَغير ذَلِك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2467 رد: بِدَلِيل هُوَ التَّسَاوِي فِي السَّبَب. وَقَالَ أَبُو الْخطاب: إِن وَقع جَوَابا لسؤال، كَقَوْل الْأَعرَابِي: واقعت أَهلِي فِي رَمَضَان فَقَالَ: اعْتِقْ، كَانَ عَاما، وَإِلَّا فَلَا، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مروا أَبَا بكر فَليصل بِالنَّاسِ " فَلَا يدْخل فِيهِ غَيره. وَعند الشَّافِعِي، وَأكْثر الْعلمَاء، مِنْهُم: الْحَنَفِيَّة، أَنه لَا يعم. قَالَت الْحَنَفِيَّة: لِأَنَّهُ عَم فِي الَّتِي قبلهَا لفهم الِاتِّبَاع؛ لِأَنَّهُ مُتبع وَهنا مُتبع. {وَاخْتَارَ أَبُو الْمَعَالِي} أَنه {يعم هُنَا وَأَنه قَول الواقفية فِي الْفِعْل} ، وَذكره بعض أَصْحَابنَا عَن أبي الْخطاب، قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2468 تَنْبِيه: إِذا علم هَذَا النَّقْل، فقد قَالَت الشَّافِعِيَّة: الْخطاب الْخَاص لُغَة لوَاحِد من الْأمة لَا يتعداه إِلَى غَيره إِلَّا بِدَلِيل مُنْفَصِل، قَالَه الْجُمْهُور. وَقيل: يعم بِنَفسِهِ من جِهَة الْعَادة، لَا من جِهَة اللُّغَة. وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: الْخلاف لَفْظِي. وَقَالَ غَيره: معنوي. قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ على قَوْله فِي " جمع الْجَوَامِع ": وَأَن خطاب الْوَاحِد لَا يتعداه. وَكَذَا قَالَ الكوراني، وَنسب القَوْل بِأَنَّهُ يتَعَدَّى إِلَى جَمِيع الْأمة إِلَى الْحَنَابِلَة، وَذكر دَلِيل الْفَرِيقَيْنِ فليعاود. وَمَا قُلْنَا فِي الْمَتْن وَالشَّرْح تبعا لِابْنِ مُفْلِح، وَلذَلِك الْبرمَاوِيّ صحّح مَا قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره فَإِنَّهُ نَص الشَّافِعِيَّة وعَلى الْأَكْثَر. تَنْبِيه: مَحل ذَلِك، وَالْخلاف فِيهِ إِذا لم يخص ذَلِك الْوَاحِد فَلَا يكون غَيره مثله فِي الحكم لحَدِيث أبي بردة لقَوْله: " اذْبَحْهَا وَلنْ تُجزئ عَن أحد بعْدك ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2469 وَمثله حَدِيث زيد بن خَالِد، وَعقبَة بن عَامر، فَإِنَّهُ وَقع لَهما مثل ذَلِك فَرخص النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لزيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ كَمَا فِي أبي دَاوُد، كَمَا رخص لأبي بردة، وَرخّص أَيْضا لعقبة بن عَامر كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ ". وَهُوَ مَبْنِيّ على تَخْصِيص لعُمُوم بعد تَخْصِيص. وَاسْتدلَّ للْأولِ - وَهُوَ الصَّحِيح - رُجُوع الصَّحَابَة إِلَى التَّمَسُّك بقضايا الْأَعْيَان كقصة مَاعِز، ودية الْجَنِين، والمفوضة، وَالسُّكْنَى للمبتوتة، وَغير ذَلِك. وَأَيْضًا قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأبي بردة: " تجزئك وَلَا تُجزئ عَن أحد بعْدك " فلولا أَن الْإِطْلَاق يَقْتَضِي الْمُشَاركَة لم يخص. وَكَذَلِكَ تَخْصِيص خُزَيْمَة بِجعْل شَهَادَته كشهادتين، وَقَوله تَعَالَى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2470 {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس ... ... ... ... يعلمُونَ (28) } [سبأ: 28] ، وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " بعثت إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود ". قَالُوا: لتعريف كل مَا يخْتَص. قُلْنَا: إِذا لم يكن اخْتِصَاص ظهر اقْتِصَار الحكم بِمَا ذَكرْنَاهُ. وَأَيْضًا فَقَوْل الرَّاوِي: نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو قضى يعم، وَلَو اخْتصَّ بِمن سوقه [لَهُ] لم يعم لاحْتِمَال سَماع الرَّاوِي أمرا، أَو نهيا لوَاحِد فَلَا يكون عَاما. قَالُوا: لنا مَا تقدم من الْقطع والتخصيص. قُلْنَا: سبق جوابهما. قَالُوا: يلْزم عدم فَائِدَة (حكمي على الْوَاحِد) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2471 قُلْنَا: الحَدِيث غير مَعْرُوف أصلا، ثمَّ لَو صَحَّ آكِد، قَالَه ابْن قَاضِي الْجَبَل. قَوْله: {وتعدي فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أمته يخرج على الْخطاب المتوجه إِلَيْهِ عِنْد الْأَكْثَر} . قَالَ صَاحب " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة " فِي " مُخْتَصره فِي الْأُصُول ": وَحكم فعله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي تعديه إِلَى أمته يخرج على الْخلاف فِي الْخطاب المتوجه إِلَيْهِ عِنْد الْأَكْثَر. وَفرق أَبُو الْمَعَالِي وَغَيره، وَقَالُوا: يتَعَدَّى فعله. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2472 وَكَذَا قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " إِلَّا أَنه قَالَ: قَالَه بعض أَصْحَابنَا، زَاد بَعضهم إِذا عرف وَجهه، وَفرق أَبُو الْمَعَالِي، وَغَيره فَقَالُوا: يتَعَدَّى فعله، وَمعنى كَلَام الْآمِدِيّ وَغَيره الْفرق - أَيْضا -. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2473 (قَوْله: {فصل} ) {لفظ الرِّجَال، والرهط لَا يعم النِّسَاء، وَلَا الْعَكْس} أَعنِي لفظ النِّسَاء لَا يعم الرِّجَال، وَلَا الرَّهْط {قطعا، ويعم النَّاس وَنَحْوه الْكل إِجْمَاعًا} . ذكر أَصْحَابنَا الرَّهْط فَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " الْفُرُوع ": والرهط مَا دون الْعشْرَة خَاصَّة لُغَة، وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَجمعه أرهط وأرهاط، وأراهط، وَأما لفظ الرِّجَال، وَالنَّاس، وَنَحْوهم فقد ذكره الْعلمَاء وَلَا إِشْكَال فِيهِ. قَوْله: {وَالْقَوْم للرِّجَال فِي الْأَصَح، وَقيل: ولهن تبعا} ، أَي: وللنساء تبعا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2474 فِي الْقَوْم ثَلَاثَة أَقْوَال: هَل يخْتَص بِالرِّجَالِ؟ - وَهُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر -، أَو يَشْمَل الرِّجَال وَالنِّسَاء؟ أَو هُوَ للرِّجَال وَيدخل النِّسَاء تبعا؟ قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: الْقَوْم للرِّجَال دون النِّسَاء، قَالَ الله تَعَالَى: {لَا يسخر قوم من قوم} الْآيَة [الحجرات: 11] ، لَكِن الَّذِي يظْهر أَنه قد يَأْتِي الْقَوْم للرِّجَال وَالنِّسَاء. ويستأنس لَهُ بقوله تَعَالَى: {يَا قَومنَا أجِيبُوا دَاعِي الله} [الْأَحْقَاف: 31] فَيدْخل النِّسَاء فِي ذَلِك، ثمَّ وجدته فِي " الْقَامُوس " قَالَ: الْقَوْم الْجَمَاعَة من الرِّجَال وَالنِّسَاء، أَو من الرِّجَال خَاصَّة، أَو يدْخل النِّسَاء على التّبعِيَّة وَيُؤَنث. انْتهى. فَذكر ثَلَاثَة أَقْوَال. وَقَالَ فِي " الْمِصْبَاح الْمُنِير ": الْقَوْم جمَاعَة الرِّجَال لَيْسَ فيهم امْرَأَة الْوَاحِد رجل وامرؤ من غير لَفظه، وَالْجمع أَقوام، سموا بذلك؛ لقيامهم بالعظائم والمهمات. وَقَالَ الصغاني: وَرُبمَا دخل النِّسَاء تبعا؛ لِأَن قوم كل نَبِي رجال وَنسَاء، وَيذكر الْقَوْم وَيُؤَنث، وَكَذَا كل اسْم جمع لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، كرهط وَنَفر، وَنَحْوهمَا. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2475 قَوْله: {وَنَحْو الْمُسلمين، وفعلوا} وَكَذَا فافعلوا، ويفعلون، وفعلتم وَنَحْوه، بل وَلَا يخْتَص بالضمائر بل اللواحق لذَلِك، نَحْو: ذَلِكُم وَإِيَّاكُم {مِمَّا يغلب فِيهِ الْمُذكر يعم النِّسَاء تبعا عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا وَالْحَنَفِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد} ، وَهُوَ مَذْهَب الظَّاهِرِيَّة، وَحَكَاهُ أَبُو الطّيب عَن أبي حنيفَة، وَحَكَاهُ الْبَاجِيّ عَن ابْن خويز منداد. {وَعنهُ: لَا يعم، اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، والطوفي، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، والأشعرية، وَغَيرهم} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2476 قَالَ الْبرمَاوِيّ: ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي، وَأَصْحَابه وَالْجُمْهُور. وَنَقله ابْن برهَان عَن مُعظم الْفُقَهَاء، وَنَقله ابْن الْقشيرِي عَن مُعظم أهل اللُّغَة. قَالَ الْبرمَاوِيّ: ظَاهر القَوْل الأول أَنه لَيْسَ من حَيْثُ اللُّغَة، بل بِالْعرْفِ أَو بِعُمُوم الْأَحْكَام، أَو نَحْو ذَلِك. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: اندراج النِّسَاء تَحت لفظ الْمُسلمين بالتغليب لَا بِأَصْل الْوَضع. وَقَالَ الأبياري: لَا خلاف بَين الْأُصُولِيِّينَ والنحاة فِي عدم تناولهن لجَمِيع كجمع الذُّكُور، وَإِنَّمَا ذهب بعض الْأُصُولِيِّينَ إِلَى ثُبُوت التَّنَاوُل؛ لِكَثْرَة اشْتِرَاك النَّوْعَيْنِ فِي الْأَحْكَام لَا غير فَيكون الدُّخُول عرفا، أَو نَحوه، لَا لُغَة. ثمَّ قَالَ: وَإِذا قُلْنَا بالتناول هَل يكون دَالا عَلَيْهَا بِالْحَقِيقَةِ وَالْمجَاز أَو عَلَيْهِمَا مجَازًا صرفا؟ خلاف، ظَاهر مَذْهَب القَاضِي ابْن الباقلاني الثَّانِي، وَقِيَاس قَول الإِمَام - أَي: أبي الْمَعَالِي - الأولى. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2477 {و} قَالَ ابْن عقيل {فِي " الْوَاضِح ": لَا يَقع مُؤمن على أُنْثَى بالتكفير بِالرَّقَبَةِ فِي قَتلهَا قِيَاسا، وَخص الله تَعَالَى الْحجب بالأخوة، فَعدى إِلَى الْأَخَوَات بِالْمَعْنَى} . انْتهى. وَفِي هَذَا الْكَلَام تَقْوِيَة للْمَذْهَب الثَّانِي. وَاسْتدلَّ للْأولِ بمشاركة الذُّكُور فِي الْأَحْكَام لظَاهِر اللَّفْظ. رد بِالْمَنْعِ، بل لدَلِيل، وَلِهَذَا لم يعمهن الْجِهَاد، وَالْجُمُعَة، وَغَيرهمَا. أُجِيب بِالْمَنْعِ، ثمَّ لَو كَانَ لعرف، وَالْأَصْل عَدمه، وخروجهن من بعض الْأَحْكَام لَا يمْنَع كبعض الذُّكُور. وَلِأَن أهل اللُّغَة غلبوا الْمُذكر بِاتِّفَاق. بِدَلِيل {اهبطوا} [الْبَقَرَة: 36] لآدَم وحواء وإبليس. رد: بِقصد الْمُتَكَلّم وَيكون مجَازًا. أُجِيب: لم يشْتَرط أحد من أهل اللُّغَة الْعلم بِقَصْدِهِ، ثمَّ لَو لم يعمهن لما عَم بِالْقَصْدِ بِدَلِيل جمع الرِّجَال، وَالْأَصْل الْحَقِيقَة وَلَو كَانَ مجَازًا لم يعد الْعُدُول عَنهُ عيا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2478 وَاسْتدلَّ: لَو أوصى لرجال وَنسَاء بِشَيْء ثمَّ قَالَت: أوصيت لَهُم بِكَذَا، عمهم. رد: بِقَرِينَة الْإِيصَاء الأول. قَالُوا: لَو عمهن لما حسن {إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات} [الْأَحْزَاب: 35] . رد: تنصيص وتأكيد لما سبق، وَإِن كَانَ التأسيس أولى، وكعطف لَا يمْنَع بِدَلِيل عطف جِبْرِيل وَمِيكَائِيل على مَلَائكَته وَرُسُله. وَقَوله تَعَالَى: {وَإِذ أَخذنَا من النَّبِيين ميثاقهم ومنك وَمن نوح} [الْأَحْزَاب: 7] . وَذكر أَصْحَابنَا وَجها بِمَنْعه. وَمن عطف الْعَام قَوْله: {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ} [الْبَقَرَة: 136] ، {وأورثكم أَرضهم وديارهم وَأَمْوَالهمْ} [الْأَحْزَاب: 27] . قَالُوا: قَالَت أم سَلمَة لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: مَا لنا لَا نذْكر فِي الْقُرْآن كَمَا تذكر الرِّجَال؟ فَنزلت {إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات} الْآيَة. إِسْنَاده جيد، رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَغَيره، وَلَو دخلن لم يصدق نَفيهَا، وَلم يَصح تَقْرِيره لَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2479 رد: يصدق وَيصِح لِأَنَّهَا أَرَادَت التَّنْصِيص تَشْرِيفًا لَهُنَّ لَا تبعا لما سبق. قَالُوا: الْجمع تَضْعِيف الْوَاحِد، وَمُسلم لرجل فمسلمون لجمعه. رد: يحْتَمل مَنعه، قَالَه الْحلْوانِي. وَقَالَ فِي " الْعدة ": إِن سلمناه، ثمَّ فرق. وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد ": مَنعه بَعضهم، وَالصَّحِيح تَسْلِيمه للبس، ولعموم الْجمع لَهما بِدَلِيل قَصده بِخِلَاف الْمُفْرد. وَقد احْتج أَصْحَابنَا بِأَن قَوْله: {الْحر بِالْحرِّ} [الْبَقَرَة: 178] عَام للذّكر وللأنثى. تَنْبِيه: سكت الأصوليون عَن الخناثا هَل يدْخلُونَ فِي خطاب الْمُذكر والمؤنث، أما إِن قُلْنَا بِدُخُول النِّسَاء فالخناثا بطرِيق أولى، وَأما إِذا قُلْنَا لَا يدخلن فَالظَّاهِر من تصرف الْفُقَهَاء دُخُولهمْ فِي خطاب النِّسَاء فِي التَّغْلِيظ، وَالرِّجَال فِي التَّخْفِيف، وَرُبمَا أخرجُوا من الْقسمَيْنِ، وَلَهُم أَحْكَام كَثِيرَة مُخْتَلفَة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2480 وللقاضي وَغَيره من أَصْحَابنَا تصنيف فِي أَحْكَام الخناثا، وَالله أعلم. تَنْبِيه آخر: مِمَّا يخرج على هَذِه الْقَاعِدَة مَسْأَلَة الْوَاعِظ الْمَشْهُورَة، وَهُوَ قَوْله للحاضرين عِنْده: طلقتكم ثَلَاثًا، وَامْرَأَته فيهم وَهُوَ لَا يدْرِي، فَأفْتى أَبُو الْمَعَالِي بالوقوع. قَالَ الْغَزالِيّ: وَفِي الْقلب مِنْهُ شَيْء، قلت: الصَّوَاب عدم الْوُقُوع. وَقَالَ الرَّافِعِيّ، وَالنَّوَوِيّ: وَيَنْبَغِي أَن لَا يَقع، وَلَهُم فِيهَا كَلَام كثير. تَنْبِيه: لَو جَاءَ الْمُذكر بِلَفْظ الْوَاحِد، كَقَوْلِه: فَإِن جَاءَ مُسلم أعْطه درهما، فَذكر الْحلْوانِي وَغَيره احْتِمَالَيْنِ فِيهَا: أَحدهمَا: اخْتِصَاص الْمُذكر. وَالثَّانِي: الْمُشَاركَة. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2481 قَوْله: {وَالْمذهب أَن الْأُخوة والعمومة يعم} الذُّكُور وَالْإِنَاث، قطع بِهِ فِي " الْمُغنِي " و " الشَّرْح "، و " شرح ابْن رزين "، وَصَاحب " الْفُرُوع " فِيهِ، وَغَيرهم، وَظَاهر كَلَامه فِي " الْوَاضِح " الْمُتَقَدّم أَن الْأُخوة لَا تعم الْإِنَاث وَأَن الْمُؤمن لَا يعمهن كَمَا تقدم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2482 (قَوْله: {فصل} ) {الْأَرْبَعَة وَغَيرهم أَن (من) الشّرطِيَّة تعم الْمُؤَنَّث} لقَوْله تَعَالَى: {وَمن يعْمل من الصَّالِحَات من ذكر أَو أُنْثَى} [النِّسَاء: 124] فالتفسير بِالذكر وَالْأُنْثَى دَال على تنَاول الْقسمَيْنِ. وَلقَوْله تَعَالَى: {وَمن يقنت مِنْكُن لله وَرَسُوله} [الْأَحْزَاب: 31] . وَلقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من جر ثَوْبه خلاء لم ينظر الله إِلَيْهِ " فَقَالَت أم سَلمَة: فَكيف يصنع النِّسَاء بذيولهن؟ فأقرها النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على فهم دُخُول النِّسَاء فِي (من) الشّرطِيَّة. وَلِأَنَّهُ لَو قَالَ: من دخل دَاري فَهُوَ حر، فدخله الْإِمَاء عتقن بِالْإِجْمَاع، قَالَه فِي " الْمَحْصُول ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2483 وَحكى ابْن الْحَاجِب وَغَيره قولا إِنَّهَا تخْتَص بالذكور، وتبعناهم على ذَلِك، وَحَكَاهُ ابْن برهَان النَّحْوِيّ عَن الشَّافِعِي، وَهُوَ غَرِيب، وَإِنَّمَا هُوَ محكي عَن بعض الْحَنَفِيَّة، وَأَنَّهُمْ تمسكوا بِهِ فِي مَسْأَلَة الْمُرْتَدَّة فَجعلُوا قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ " لَا يَتَنَاوَلهَا، وَالصَّحِيح من مَذْهَبنَا، وَمذهب الْجُمْهُور أَنَّهَا تقتل؛ لدخولها فِي الحَدِيث. تَنْبِيه: قد تقدم (من) الشّرطِيَّة فِي أول صِيغ الْعُمُوم وَكَذَلِكَ (من) الاستفهامية، وتقييدهم هُنَا بِمن الشّرطِيَّة يخرج (من) الموصولة والاستفهامية. وَقَالَ الصفي الْهِنْدِيّ: الظَّاهِر أَنه لَا فرق، وَالْخلاف جَار فِي الْجَمِيع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2484 وَاعْتذر بَعضهم عَن أبي الْمَعَالِي فِي إِفْرَاده (من) الشّرطِيَّة دون الموصولة والاستفهامية بِأَنَّهُ إِنَّمَا خص الشّرطِيَّة؛ لِأَنَّهُ لم يذكر الاستفهامية والموصولة فِي صِيغ الْعُمُوم. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَالْحق أَن الاستفهامية من صِيغ الْعُمُوم دون الموصولة، نَحْو: مَرَرْت بِمن قَامَ، فَلَا عُمُوم لَهَا. انْتهى. ويعاود كَلَام الْبرمَاوِيّ وَغَيره هُنَاكَ. قَوْله: {ويعم النَّاس، والمؤمنون، وَنَحْوهمَا} ، ك {وَالَّذين آمنُوا} [الْبَقَرَة: 9] ، و {يَا عبَادي} [العنكبوت: 56] {العبيد عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَأكْثر أَتبَاع الْأَئِمَّة} ؛ لأَنهم يدْخلُونَ فِي الْخَبَر فَكَذَا فِي الْأَمر، وباستثناء الشَّارِع لَهُم فِي الْجُمُعَة. {وَقيل:} لَا يدْخلُونَ {إِلَّا بِدَلِيل} ؛ لأَنهم أَتبَاع الْأَحْرَار. وَحَكَاهُ ابْن مُفْلِح عَن أَكثر الْمَالِكِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَذكره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2485 ابْن تَمِيم - من تَمِيم - من فُقَهَاء أَصْحَابنَا عَن بعض أَصْحَابنَا. لَكِن حُكيَ هَذَا القَوْل أَنهم لَا يدْخلُونَ، وَلم يقل فِيهِ: إِلَّا بِدَلِيل. {وَقيل: إِن تضمن تعبدا دخلُوا، وَإِلَّا فَلَا، اخْتَارَهُ أَبُو بكر الرَّازِيّ} الْحَنَفِيّ، {وَغَيره} ، قَالَ فَإِن تضمن الْخطاب تعبدا توجه إِلَيْهِ، وَإِن تضمن ملكا، أَو ولَايَة، أَو عقدا فَلَا، بل حكى بَعضهم الْإِجْمَاع على عدم خطابهم بالعبادات الْمَالِيَّة؛ لِأَنَّهُ لَا ملك لَهُم، وَفِيه نظر. قَالَ الْهِنْدِيّ: الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ دُخُول العبيد وَالْكفَّار فِي لفظ النَّاس وَنَحْوه، إِن زَعَمُوا أَنه لَا يتناولهم لُغَة فمكابرة، وَإِن زَعَمُوا أَن الرّقّ وَالْكفْر أخرجهم شرعا فَبَاطِل؛ لِأَن الْإِجْمَاع أَنهم مكلفون فِي الْجُمْلَة. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2486 قَوْله: {وَأما الْمبعض فَالظَّاهِر دُخُوله} إِن قُلْنَا بِدُخُول العبيد وَالْإِمَاء فِي الْخطاب ويعمهم، فالمبعض بطرِيق أولى وَأَحْرَى، وَإِن قُلْنَا: لَا يدْخلُونَ فَمَا حكم الْمبعض؟ لم يذكروه. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: أما الْمبعض فَالظَّاهِر تَغْلِيب الْحُرِّيَّة فَلَا يجْرِي فِيهِ الْخلاف فِي العبيد. انْتهى. قلت: لنا فِي الْفِقْه مسَائِل فِي الْمبعض مُخْتَلف فِيهَا، مِنْهَا: الْأمة المبعضة الْحُرِّيَّة فِي الستْرَة فِي الصَّلَاة، هَل هِيَ كَالْحرَّةِ، أَو كالأمة، وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَنَّهَا كالأمة، وَلنَا قَول اخْتَارَهُ الْمجد بن تَيْمِية وَغَيره من الْمُحَقِّقين إِنَّهَا كَالْحرَّةِ وَهُوَ أولى وَأظْهر. قَوْله: {وَاخْتَارَ السَّمْعَانِيّ دُخُول الْكفَّار فِي {الَّذين آمنُوا} } يَعْنِي: يشملهم اللَّفْظ بذلك، فَقَالَ: الْمُخْتَار أَنه يعم الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار؛ لعُمُوم التَّكْلِيف، وَإِنَّمَا خص الْمُؤْمِنُونَ بذلك؛ للتشريف لَا للتخصيص بِدَلِيل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وذروا مَا بَقِي من الرِّبَا} [الْبَقَرَة: 278] وَقد ثَبت تَحْرِيم الرِّبَا فِي حق أهل الذِّمَّة. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2487 وَضعف قَوْله بِأَن هَذَا لأمر خارجي لَا من حَيْثُ الصِّيغَة إِمَّا لعُمُوم الشَّرْع لَهُم، وَإِمَّا للعمومات الشاملة لَهُم لُغَة، أَو غير ذَلِك، وَهَذَا قَول الْجُمْهُور من الْعلمَاء. قَوْله: {ويدخلون} ، أَي: الْكفَّار {فِي} لفظ {النَّاس، وَنَحْوه} ، مثل أولي الْأَلْبَاب {فِي الْأَصَح من غير قرينَة} لُغَة. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَبِه قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق وَغَيره؛ إِذْ لَا مَانع من ذَلِك. وَنقل عَن بعض الشَّافِعِيَّة أَنهم لَا يدْخلُونَ، وَلَعَلَّه لكَون الْكفَّار غير مخاطبين بالفروع، إِلَّا أَن الْمَانِع هُنَا أطلق وَلم يُقيد بخطاب الْفُرُوع. تَنْبِيه: أما إِن قَامَت قرينَة بِعَدَمِ دُخُولهمْ، أَو أَنهم هم المُرَاد لَا الْمُؤْمِنُونَ عمل بهَا، نَحْو {الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس إِن النَّاس قد جمعُوا لكم} [آل عمرَان: 173] ؛ لِأَن الأول للْمُؤْمِنين فَقَط، إِمَّا نعيم بن مَسْعُود الْأَشْجَعِيّ، وَهُوَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2488 الَّذِي قَالَه الْمُفَسِّرُونَ، أَو أَرْبَعَة كَمَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة "، وَالثَّانِي لكفار مَكَّة، لَكِن قد يُقَال بِأَن اللَّام فِي ذَلِك للْعهد الذهْنِي، وَالْكَلَام فِي الاستغراقية. وَقَوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس ضرب مثل فَاسْتَمعُوا لَهُ} [الْحَج: 73] المُرَاد الْكفَّار بِدَلِيل بَاقِي الْآيَة، نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة "، وَجعله من الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخَاص، فقد يدعى ذَلِك أَيْضا فِي الْآيَة الَّتِي قبلهَا فَلَا تكون (أل) فِيهَا عهدية. قَوْله: {و {يَا أهل الْكتاب} [آل عمرَان: 64] {لَا يَشْمَل الْأمة} ، أَي: أمة نَبينَا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْد مُعظم الْعلمَاء، بل أَكْثَرهم قطع بذلك، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ} [النِّسَاء: 171] ، {يَا أَيهَا الَّذين أُوتُوا الْكتاب آمنُوا بِمَا نزلنَا} [النِّسَاء: 47] ، (قل يَا أهل الْكتاب تَعَالَوْا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2489 إِلَى كلمة} [آل عمرَان: 64] ، {قل يَا أهل الْكتاب هَل تَنْقِمُونَ منا} [الْمَائِدَة: 59] فَلَا يدْخل فِيهِ أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا أَن يدل دَلِيل على مشاركتهم لَهُم فِيمَا خوطبوا بِهِ، وَذَلِكَ لِأَن اللَّفْظ قَاصِر عَلَيْهِم فَلَا يتعداهم. وَالْمرَاد الْيَهُود وَالنَّصَارَى. وَخَالف فِي هَذَا الشَّيْخ مجد الدّين بن تَيْمِية فِي " مسودته "، فَقَالَ: يَشْمَل الْأمة إِن شركوهم فِي الْمَعْنى، قَالَ: لِأَن شَرعه عَام لبني إِسْرَائِيل وَغَيرهم من أهل الْكتاب وَغَيرهم كالمؤمنين فَثَبت الحكم فيهم كأمي أهل الْكتاب، وَذَلِكَ كَاف لوَاحِد من الْمُكَلّفين فَإِنَّهُ يعم غَيره - أَي: على رَأْي من يَقُول بِهِ - قَالَ: وَإِن لم يشركهم فَلَا، كَمَا فِي قَوْله لأهل بدر: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُم} [الْأَنْفَال: 69] ، وَلأَهل أحد: {إِذْ هَمت طَائِفَتَانِ مِنْكُم أَن تَفْشَلَا} [آل عمرَان: 122] فَإِن ذَلِك لَا يعم غَيرهم، قَالَ: ثمَّ الشُّمُول هُنَا هَل هُوَ بطرِيق الْعَادة الْعُرْفِيَّة أَو الِاعْتِبَار الْعقلِيّ؟ فِيهِ الْخلاف الْمَشْهُور. قَالَ: وعَلى هَذَا يَنْبَنِي اسْتِدْلَال الْأمة على حكمنَا، بِمثل قَوْله تَعَالَى: {أتأمرون النَّاس بِالْبرِّ} الْآيَة [الْبَقَرَة: 44] فَإِن هَذِه الضمائر رَاجِعَة لبني إِسْرَائِيل. قَالَ: وَهَذَا كُله فِي الْخطاب على لِسَان مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أما خطابه لَهُم على لِسَان مُوسَى وَغَيره من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَهِيَ مَسْأَلَة شرع من قبلنَا هَل هُوَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2490 شرع لنا؟ وَالْحكم هُنَا لَا يثبت بطرِيق الْعُمُوم الْخطابِيّ قطعا بل بِالِاعْتِبَارِ الْعقلِيّ عِنْد الْجُمْهُور. قَوْله: ويعم {يَا أَيهَا النَّاس} [الْبَقَرَة: 21] و {وَالَّذين آمنُوا} [الْبَقَرَة: 9] و {يَا عباد} [الزمر: 10] ، وَنَحْوه الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْد الْأَكْثَر من الْعلمَاء حَيْثُ لَا قرينَة، مثل: {يَا أَيهَا النَّاس اعبدوا ربكُم} [الْبَقَرَة: 21] ، {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا} [الْبَقَرَة: 278] ، {يَا عباد لَا خوف عَلَيْكُم} [الزخرف: 68] ، هَل يَشْمَل الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ فِيهِ مَذَاهِب: أَحدهَا: يعمه حَيْثُ لَا قرينَة، وَهُوَ الصَّحِيح من أَقْوَال الْعلمَاء، وَعَلِيهِ جُمْهُور الْعلمَاء؛ لصدق ذَلِك عَلَيْهِ فَلَا يخرج إِلَّا بِدَلِيل. وَالْقَوْل الثَّانِي: يدْخل فِي خطاب الْقُرْآن وَلَا يدْخل فِي خطاب السّنة، قَالَه المقترح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2491 وَالْقَوْل الثَّالِث: لَا يدْخل مُطلقًا لقَرِينَة المشافهة؛ لِأَن المشافِه غير المشافَه، والمبلِّغ غير المبلَّغ، والآمر والناهي غير الْمَأْمُور والمنهي فَلَا يكون دَاخِلا. رد: بِأَن الْخطاب فِي الْحَقِيقَة هُوَ من الله تَعَالَى للعباد، وَهُوَ مِنْهُم وَهُوَ مَعَ ذَلِك مبلغ للْأمة، فَالله تَعَالَى هُوَ الْآمِر الناهي وَجِبْرِيل هُوَ الْمبلغ لَهُ، وَلَا يُنَافِي كَون النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مخاطِبا مخاطَبا مبلِّغا مبلَّغا باعتبارين. وَرُبمَا اعتل الْمَانِع بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ خَصَائِص، فَيحْتَمل أَنه غير دَاخل لخصوصيته بِخِلَاف الْأَمر الَّذِي خَاطب بِهِ النَّاس. ورد بِأَن الأَصْل عَدمه حَتَّى يَأْتِي دَلِيل. وَالْقَوْل الرَّابِع: لَا يدْخل إِن اقْترن ذَلِك ب (قل) نَحْو: {قل يَا أَيهَا النَّاس} [الْأَعْرَاف: 158] ، {قل يَا عبَادي} [الزمر: 53] اخْتَارَهُ الصَّيْرَفِي والحليمي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2492 ورده أَبُو الْمَعَالِي بِأَن القَوْل مُسْتَند إِلَى الله وَالرَّسُول مبلغ عَنهُ فَلَا معنى للتفرقة. تَنْبِيهَانِ: أَحدهمَا: مَحل هَذَا الْخلاف الْمُتَقَدّم حَيْثُ لَا قرينَة تَنْفِي دُخُوله، نَحْو: يَا أيتها الْأمة، يَا أمة مُحَمَّد فَلَا يدْخل بِلَا خلاف. قَالَه الْهِنْدِيّ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ القَاضِي عبد الْوَهَّاب. وَمثله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ} [الْأَنْفَال: 24] لأَنا مأمورون بالاستجابة. الثَّانِي: قيل: لَا فَائِدَة للْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَاخل فِي الحكم كالأمة قطعا. ورد بِاحْتِمَال أَن يَقُول الْمُخَالف إِن ذَلِك بِدَلِيل خارجي، وَتظهر فَائِدَته فِيمَا إِذا فعل مَا يُخَالف ذَلِك، هَل يكون نسخا فِي حَقه إِن قُلْنَا هُوَ دَاخل فنسخ، أَي: إِذا دخل وَقت الْعَمَل؛ لِأَن ذَلِك شَرط الْمَسْأَلَة وَإِلَّا فَلَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2493 قَوْله: {قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيرهم: ويعم الْغَائِب والمعدوم إِذا وجد وكلف لُغَة. وَقيل: بل بِدَلِيل وَتقدم} . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: لَيْسَ النزاع فِي قَوْلنَا: ويعم الْغَائِب والمعدوم إِذا وجد وكلف، فِي الْكَلَام النَّفْسِيّ، بل هَذِه خَاصَّة بِاللَّفْظِ اللّغَوِيّ؛ ولأننا مأمورون بِأَمْر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَحصل ذَلِك إِخْبَارًا عَن أَمر الله تَعَالَى عِنْد وجودنا مُقْتَض بطرِيق التَّصْدِيق والتكذيب، وَأَن لَا يكون قسيما للْخَبَر. انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: مِمَّا اخْتلف فِي عُمُومه الْخطاب الْوَارِد شفاها فِي الْكتاب وَالسّنة، مثل قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس} ، {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} ، {يَا عبَادي} لَا خلاف فِي أَنه عَام فِي الحكم الَّذِي تضمنه لمن لم يشافه بِهِ، سَوَاء كَانَ مَوْجُودا غَائِبا وَقت تَبْلِيغ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو مَعْدُوما بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِذا بلغ الْغَائِب والمعدوم بِعَدَمِ وجوده تعلق بِهِ الحكم، وَإِنَّمَا اخْتلف فِي جِهَة عُمُومه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2494 وَالْحَاصِل: أَن الْعَام المشافه فِيهِ بِحكم لَا خلاف فِي شُمُوله لُغَة للمشافهين وَفِي غَيرهم حكما، وَكَذَا الْخلاف فِي غَيرهم: هَل الحكم شَامِل لَهُم باللغة، أَو بِدَلِيل آخر؟ ذهب جمع من الْحَنَابِلَة وَالْحَنَفِيَّة إِلَى أَنه من اللَّفْظ، أَي: اللّغَوِيّ. وَذهب الْأَكْثَر إِلَى أَنه بِدَلِيل آخر، وَذَلِكَ مِمَّا علم من عُمُوم دينه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالضَّرُورَةِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {لأنذركم بِهِ وَمن بلغ} [الْأَنْعَام: 19] ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بعث إِلَى النَّاس كَافَّة " قَالَ: وَهَذَا معنى قَول كثير كَابْن الْحَاجِب: إِن مثل {يَا أَيهَا النَّاس} لَيْسَ خطابا لمن بعدهمْ، أَي: من بعد المواجهين وَإِنَّمَا ثَبت الحكم بِدَلِيل آخر من إِجْمَاع أَو نَص، أَو قِيَاس. وَاسْتَدَلُّوا: بِأَنَّهُ لَا يُقَال للمعدومين: {يَا أَيهَا النَّاس} . وَأَجَابُوا عَمَّا اسْتدلَّ بِهِ الْخصم بِأَنَّهُ لَو لم يكن المعدومون مخاطبين بذلك لم يكن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا إِلَيْهِم، بِأَنَّهُ لَا يتَعَيَّن الْخطاب الشفاهي فِي الْإِرْسَال، بل مُطلق الْخطاب كَاف، وَالله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2495 قَوْله: {أَكثر أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم: الْمُتَكَلّم دَاخل فِي عُمُوم كَلَامه مُطلقًا} ، أَي: سَوَاء كَانَ خَبرا أَو إنْشَاء، أَو أمرا، أَو نهيا {إِن صلح} ، نَحْو: {وَالله بِكُل شَيْء عليم} [الْبَقَرَة: 282] إِذا قُلْنَا بِصِحَّة إِطْلَاق شَيْء عَلَيْهِ، وَقَول السَّيِّد لعَبْدِهِ: من أحسن إِلَيْك فَأكْرمه، أَو فَلَا تهنه. ذكره الْآمِدِيّ عَن الْأَكْثَر. وَلِأَن اللَّفْظ عَام، وَلَا مَانع من الدُّخُول، وَالْأَصْل عَدمه. {وَعنهُ} : لَا يدْخل إِلَّا {بِدَلِيل} . {وَقيل: لَا} يدْخل مُطلقًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2496 {و} قَالَ {أَبُو الْخطاب وَالْأَكْثَر: لَا فِي الْأَمر} وَالنَّهْي {وَهُوَ أَكثر كَلَام القَاضِي، وَهُوَ أظهر} . خرج بقولنَا: (إِن صلح) يَعْنِي أَن يكون اللَّفْظ صَالحا لَهُ أَي: لدُخُوله فِيهِ، مَا إِذا كَانَ بِلَفْظ المخاطبة، نَحْو: " إِن الله يَنْهَاكُم أَن تحلفُوا بِآبَائِكُمْ ". وَقَوْلنَا: (مُطلقًا) ليشْمل الْخَبَر والإنشاء وَالْأَمر وَالنَّهْي. وَعَزاهُ فِي " الْمَحْصُول " إِلَى الْأَكْثَر. وَالْقَوْل الثَّانِي: لَا يدْخل إِلَّا بِدَلِيل، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد، حَكَاهَا التَّمِيمِي عَنهُ، فَقَالَ: وَعَن أَحْمد لَا يدْخل الْآمِر فِي الْأَمر إِلَّا بِدَلِيل، وَاخْتلف أَصْحَابه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2497 وَالْقَوْل الثَّالِث: لَا يدْخل مُطلقًا، قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَقد سبق فِي بَاب الْأَوَامِر والنواهي أَن مُقْتَضى كَلَام الرَّافِعِيّ، وَالنَّوَوِيّ فِي مسَائِل من الطَّلَاق أَن الْمُتَكَلّم لَا يدْخل فِي عُمُوم كَلَامه وَلَو كَانَ غير آمُر وناه على الْأَصَح. انْتهى. وَمن الْمسَائِل الْمُتَعَلّقَة بِهَذَا: الْوَقْف على الْفُقَرَاء ثمَّ صَار فَقِيرا، هَل يجوز لَهُ الْأَخْذ، أم لَا؟ وَالصَّحِيح من مَذْهَبنَا جَوَاز الْأَخْذ، وَقيل: لَا يجوز لَهُ الْأَخْذ؛ لِأَن مُطلق الْوَقْف ينْصَرف إِلَى غير الْوَاقِف. وَالْقَوْل الرَّابِع: لَا يدْخل فِي الْأَمر وَالنَّهْي، وَيدخل فِي غَيرهمَا. اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، وَأكْثر الْفُقَهَاء والمتكلمين، وَهُوَ أَكثر كَلَام القَاضِي أَبُو يعلى، وَهُوَ أظهر. وَفرق أَبُو الْخطاب بَينهمَا بِأَن الْأَمر استدعاء الْفِعْل على جِهَة الاستعلاء، فَلَو دخل الْمُتَكَلّم تَحت مَا يَأْمر بِهِ غَيره لَكَانَ مستدعيا من نَفسه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2498 ومستعليا وَهُوَ محَال، وَهُوَ احْتِمَال فِي " الْمَحْصُول ". تَنْبِيه: من فروع هَذِه الْمَسْأَلَة: هَل كَانَ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يتَزَوَّج بِلَا ولي، وَلَا شُهُود، وزمن الْإِحْرَام؟ فِي الْمَسْأَلَة وَجْهَان لِأَصْحَابِنَا، الْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب جَوَاز ذَلِك لَهُ، وَخَالف ابْن حَامِد فِي ذَلِك. وَقَالَ الشَّيْخ موفق الدّين: يُمكن أَن تنبني هَذِه الْمَسْأَلَة على أَن مَا ثَبت فِي حَقهم شاركهم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ذَلِك الحكم، وَلذَلِك لما أَمرهم بِفَسْخ الْحَج إِلَى الْعمرَة، ثمَّ لم يفعل سَأَلُوهُ عَن تَركه الْفَسْخ فَبين لَهُم عذره. انْتهى. قَوْله: {وَيَأْتِي آخل الْبَيَان: هَل يجب اعْتِقَاد الْعُمُوم وَغَيره قبل الْبَحْث} عَنهُ، أم لَا؟ فَإِن جمَاعَة يذكرُونَ الْمَسْأَلَة هُنَا، وَجَمَاعَة يذكرونها هُنَاكَ، مِنْهُم: ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " وَنحن تابعناه على ذَلِك فنذكرها هُنَاكَ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2499 (قَوْله: {فصل} ) {مثل {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة} [التَّوْبَة: 103] يَقْتَضِي أَخذ الصَّدَقَة من كل نوع من المَال فِي ظَاهر كَلَام أبي الْفرج} الشِّيرَازِيّ، {وَقَالَهُ ابْن حمدَان} فِي " الْمقنع "، وَأكْثر الْعلمَاء من أَصْحَاب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، إِلَّا أَن يخص بِدَلِيل من السّنة، وَهُوَ مَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة ". {وَخَالف الْكَرْخِي وَابْن الْحَاجِب} ، فَقَالَا: يَكْفِي الْأَخْذ من نوع وَاحِد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2500 قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَنقل عَن الْكَرْخِي من الْحَنَفِيَّة أَن مُقْتَضى الْآيَة إِنَّمَا هُوَ أَخذ صَدَقَة وَاحِدَة من نوع وَاحِد، وَرجحه ابْن الْحَاجِب حَيْثُ قَالَ: خلافًا للأكثرين، ثمَّ قَالَ: لنا أَنه بِصَدقَة وَاحِدَة يصدق أَنَّهَا أَخذ مِنْهَا صَدَقَة فَيلْزم الِامْتِثَال، وَأَيْضًا فَإِن كل دِينَار مَال وَلَا يجب ذَلِك بِإِجْمَاع. انْتهى. أُجِيب عَن الأول بِمَنْع صدق ذَلِك؛ لِأَن أَمْوَالهم جمع مُضَاف فَكَانَ عَاما فِي كل نوع نوع، وفرد فَرد إِلَّا مَا خرج بِالسنةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِي. وَعَن الثَّانِي: بِأَن المُرَاد عَن كل نِصَاب نِصَاب كَمَا بَينته السّنة. وَمِمَّا ذكر احتجاجا للكرخي أَن (من) فِي الْآيَة للتَّبْعِيض، وَلَو كَانَت الْآيَة عَامَّة، والتبعيض يصدق بِبَعْض الْمَجْمُوع، وَلَو من نوع وَاحِد. وَجَوَابه: أَن التَّبْعِيض فِي الْعَام إِنَّمَا يكون بِاعْتِبَار تبعيض كل جزئي جزئي مِنْهُ فَلَا بُد أَن يكون مأخوذا من كل نِصَاب، إِذْ لَو أسقطت (مِن) لَكَانَ المَال يُؤْخَذ كُله صَدَقَة. وَأما الْآمِدِيّ فتوقف فِي الْمَسْأَلَة، فَلم يرجح شَيْئا؛ إِذْ قَالَ فِي آخر كَلَامه: وَبِالْجُمْلَةِ فَهِيَ مُحْتَملَة، ومأخذ الْكَرْخِي دَقِيق، قَالَه الْبرمَاوِيّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2501 قلت: بل ميل الْآمِدِيّ إِلَى مُوَافقَة الْكَرْخِي لقَوْله: مأخذه دَقِيق؛ وَلأَجل ذَلِك - وَالله أعلم - اخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب وَنَصره. قَوْله: {وَإِذا تضمن الْعَام مدحا أَو ذما كالأبرار، والفجار} كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم (13) وَإِن الْفجار لفي جحيم} [الانفطار: 13، 14] ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل الله} [التَّوْبَة: 34] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَالَّذين هم لفروجهم حافظون} [الْمُؤْمِنُونَ: 5] {لم يمْنَع عُمُومه} ، أَي: لم يُغير عُمُومه {عِنْد} الْأَئِمَّة {الْأَرْبَعَة} . قَالَ الْأُسْتَاذ: هُوَ ظَاهر الْمَذْهَب، وَقَالَ أَبُو حَامِد، وسليم، وَابْن برهَان، وَابْن السَّمْعَانِيّ، هُوَ الْمَذْهَب وَهُوَ الثَّابِت عَن الشَّافِعِي، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2502 وَهُوَ الصَّحِيح؛ إِذْ لَا تنَافِي بَين قصد الْعُمُوم وَبَين الْمَدْح، أَو الذَّم فَيحمل الذَّهَب وَالْفِضَّة وَغَيرهمَا على الْعُمُوم؛ إِذْ لَا صَارف لَهُ عَنهُ. {وَقيل: بلَى} ، أَي: تمنع الْعُمُوم، وَنَقله أَبُو الْمَعَالِي وَغَيره عَن الشَّافِعِي، وَاخْتَارَهُ ألكيا، والقفال، وَالْقَاضِي حُسَيْن، وَقَالَهُ بعض الْحَنَفِيَّة كالكرخي وَغَيره، وَبَعض الْمَالِكِيَّة. وَلذَلِك منع الشَّافِعِي التَّمَسُّك بِآيَة الزَّكَاة السَّابِقَة فِي وجوب زَكَاة الْحلِيّ الْمُبَاح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2503 وَالْآيَة {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب} قَالُوا: الْقَصْد الْمُبَالغَة فِي الْحَث والزجر فَلم يعم. رد: الْعُمُوم أبلغ من ذَلِك، وَلَا مُنَافَاة فَعم للمقتضي، وَانْتِفَاء الْمَانِع. {وَقيل: يمْنَع إِن عَارضه عَام آخر، وَإِلَّا فَلَا} يمْنَع فَيكون بَاقِيا على عُمُومه إِذا لم يُعَارضهُ عَام آخر لم يسق لمدح وَلَا ذمّ، فَإِن عَارضه ذَلِك عمل بالمعارض الْخَالِي عَن الْمَدْح والذم. وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة عين القَوْل بِالْعُمُومِ؛ لِأَن غَايَة الْمُعَارضَة قرينَة تقدم غَيره عَلَيْهِ فِي صُورَة. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهَذَا القَوْل أَصَحهَا، وَهُوَ الثَّابِت عَن الشَّافِعِي الصَّحِيح من مذْهبه. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: الثَّالِث أَنه للْعُمُوم إِلَّا إِن عَارضه عَام آخر لم يقْصد بِهِ الْمَدْح أَو الذَّم فيترجح الَّذِي لم يسق لذَلِك عَلَيْهِ، نَحْو قَوْله تَعَالَى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2504 {وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ} [النِّسَاء: 23] ، مَعَ قَوْله: {أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم} [النِّسَاء: 3] فَالْأولى سيقت؛ لبَيَان الحكم فَقدمت على مَا سياقها الْمِنَّة بِإِبَاحَة الْوَطْء بِملك الْيَمين. وَقد رد أَصْحَابنَا بِهَذَا على دَاوُد الظَّاهِرِيّ احتجاجه بِالثَّانِيَةِ على إِبَاحَة الْأُخْتَيْنِ بِملك الْيَمين. انْتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2505 (بَاب التَّخْصِيص) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2507 فارغة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2508 (قَوْله: {بَاب التَّخْصِيص} ) لما انْتهى الْكَلَام فِي الْعُمُوم وصيغه شرعنا فِي مُقَابِله، وَهُوَ الْخُصُوص. فالخاص فِي الِابْتِدَاء أمره ظَاهر، وَإِنَّمَا النّظر فِيمَا إِذا كَانَ عَاما ثمَّ صَار خَاصّا بِدَلِيل، فَهَذَا تتَوَقَّف مَعْرفَته على بَيَان التَّخْصِيص والمخصص - بِالْفَتْح - والمخصص - بِالْكَسْرِ -. فَأَما التَّخْصِيص فرسمه: {قصر الْعَام على بعض أَجْزَائِهِ} . قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَعَلَّه مُرَاد من قَالَ على بعض مسمياته، فَإِن مُسَمّى الْعَام جَمِيع مَا يصلح لَهُ اللَّفْظ، لَا بعضه. قَالَ ابْن الْحَاجِب: هُوَ قصر الْعَام على بعض مسمياته. وَوَافَقَهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2509 وَقَالَ الْبرمَاوِيّ تبعا ل " جمع الْجَوَامِع ": (هُوَ قصر الْعَام على بعض أَفْرَاده، فَخرج تَقْيِيد الْمُطلق؛ لِأَنَّهُ قصر مُطلق لَا عَام، كرقبة مُؤمنَة، وَكَذَا الْإِخْرَاج من الْعدَد كعشرة إِلَّا ثَلَاثَة، وَنَحْو ذَلِك، وَدخل مَا عُمُومه بِاللَّفْظِ ك {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} قصر بِالدَّلِيلِ على غير الذِّمِّيّ وَغَيره مِمَّن عصم بِأَمَان، وَمَا عُمُومه بِالْمَعْنَى كقصر عِلّة الرِّبَا فِي بيع الرطب بِالتَّمْرِ - مثلا - بِأَنَّهُ ينقص إِذا جف على غير الْعَرَايَا. وَالَّذِي يظْهر أَن الْحَد الَّذِي قدمْنَاهُ مُوَافق لما قَالَه فِي " جمع الْجَوَامِع " وَغَيره، وَمَا قَالَه ابْن الْحَاجِب وَغَيره، هُوَ كَمَا قَالَه ابْن مُفْلِح فَيكون معنى هَذِه الْحُدُود وَاحِدًا. لَكِن قَالَ الكوراني: وَإِنَّمَا عدل المُصَنّف عَن حد ابْن الْحَاجِب على مَا فِي بعض الشُّرُوح؛ لِأَن مُسَمّى الْعَام وَاحِد، وَهُوَ كل الْأَفْرَاد، قَالَ: وَهَذَا وهم مِنْهُ؛ لِأَن المُرَاد بالمسميات هِيَ الْآحَاد الَّتِي اشتركت فِي أَمر، كالرجال - مثلا - فَإِنَّهَا مُشْتَركَة فِي معنى الرجل، فَهِيَ مسميات ذَلِك الْأَمر الْمُشْتَرك فِيهِ لَا مسميات الْعَام؛ وَلذَلِك يصدق على كل وَاحِد من تِلْكَ الْآحَاد أَنه ذَلِك الْأَمر الْمُشْتَرك مَعَ توجه الِاعْتِرَاض على عبارَة المُصَنّف من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الْمُتَبَادر من الْأَفْرَاد هِيَ الجزئيات، كزيد، وَعَمْرو، وَبكر؛ فَإِنَّهَا أَفْرَاد الْإِنْسَان، أَي: جزئياته فَيصدق على كل وَاحِد أَنه إِنْسَان بِخِلَاف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2510 الْعَام فَإِنَّهُ لَا يصدق على تِلْكَ الْأَفْرَاد. الثَّانِي: أَن أَفْرَاد الْجمع الْمُسْتَغْرق هِيَ الجموع، لَا الوحدان؛ فَيلْزم أَن يكونه معنى الْعُمُوم فِي الرِّجَال يتَنَاوَلهُ جَمِيع الجموع، لَا الوحدان، وَالْمُصَنّف لم يقل بِهِ، وَإِن صَار إِلَى التَّأْوِيل فَإِن المُرَاد هِيَ آحَاد بِاعْتِبَار أَمر اشتركت فِيهِ على مَا ذَكرْنَاهُ فِي تَوْجِيه كَلَام الشَّيْخ فَلَا وَجه للعدول عَنهُ. تَنْبِيه: المُرَاد من قصر الْعَام قصر حكمه، وَإِن كَانَ لفظ الْعَام بَاقِيا على عُمُومه، لَكِن لفظا لَا حكما فبذلك يخرج إِطْلَاق الْعَام وَإِرَادَة الْخَاص، فَإِن ذَلِك قصر دلَالَة لفظ الْعَام لَا قصر حكمه. وَقد أورد على تَعْرِيف التَّخْصِيص أَنه إِنَّمَا يكون تَخْصِيصًا بِدَلِيل، فَلم لَا، قيل: قصر الْعَام بدليله؟ وَجَوَابه: أَن الْكَلَام فِي التَّخْصِيص الشَّرْعِيّ فالتقدير قصر الشَّارِع الْعَام على بعض أَفْرَاده فأضيف الْمصدر إِلَى مَفْعُوله وَحذف الْفَاعِل للْعلم بِهِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ المعتزلي: هُوَ {إِخْرَاج بعض مَا يتَنَاوَلهُ الْخطاب} عَن الْخطاب، لشُمُوله - بِتَقْدِير وجود الْمُخَصّص - جَمِيع الْأَفْرَاد فِي نَفسه، والمخصص أخرج بَعْضهَا عَنهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2511 وَقيل: أَرَادَ مَا يتَنَاوَلهُ بِتَقْدِير عدم الْمُخَصّص، نَحْو قَوْلهم، خص الْعَام فَيرد - إِذا - دور لَا جَوَاب عَنهُ. وَعند الْآمِدِيّ: تَعْرِيف أَن الْعُمُوم للخصوص، فَيرد الدّور؛ لِأَنَّهُمَا لِمَعْنى وَاحِد. أُجِيب: المُرَاد فِي الْحَد التَّخْصِيص لُغَة أَخذ فِي حَده اصْطِلَاحا، وَالله أعلم. قَوْله: {وَيُطلق على قصر لفظ غير عَام على بعض مُسَمَّاهُ كَمَا يُطلق عَام على غير لفظ عَام} ، كعشرة وَالْمُسْلِمين للْعهد. زَاد بَعضهم وضمائر الْجمع؛ لِأَنَّهَا لَا تدل بِنَفسِهَا. وَلَيْسَ كَذَلِك كَمَا سبق؛ لِأَنَّهَا تَابِعَة للمظهر. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَيُطلق التَّخْصِيص على قصر اللَّفْظ على بعض مُسَمَّاهُ، وَإِن لم يكن عَاما بالاصطلاح، كإطلاق الْعشْرَة على بعض آحادها، وَكَذَلِكَ يُطلق على اللَّفْظ عَام وَإِن لم يكن عَاما؛ لتعدده كعشرة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2512 وَالْمُسْلِمين المعهودين، لَا الْمُسلمين مُطلقًا، وَإِلَّا كَانَ عَاما اصْطِلَاحا. انْتهى. قَالَ الْعَضُد: كَمَا يُطلق الْعَام على بعض مسمياته فقد يُطلق على قصر اللَّفْظ على بعض مسمياته وَإِن لم يكن عَاما، وَذَلِكَ كَمَا يُطلق على اللَّفْظ كَونه عَاما؛ لتَعَدد مسمياته كعشرة، يُقَال لَهُ عَام بِاعْتِبَار آحاده، فَإِذا قصر على خَمْسَة بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ قيل: قد خصص، وَكَذَلِكَ الْمُسلمُونَ للمعهودين، نَحْو: جَاءَنِي مُسلمُونَ، وأكرمت الْمُسلمين إِلَّا زيدا؛ فَإِنَّهُم يسمون الْمُسلمُونَ عَاما، وَالِاسْتِثْنَاء مِنْهُ تَخْصِيصًا. انْتهى. قَوْله: {وَأَجَازَهُ الْأَرْبَعَة والمعظم مُطلقًا، وَلَو لمؤكد فِي الْأَصَح، وَمنع قوم فِي الْخَبَر، وَقوم فِي الْأَمر} . أجَاز الْجُمْهُور التَّخْصِيص مُطلقًا، أَعنِي سَوَاء كَانَ أمرا أَو نهيا أَو خَبرا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2513 قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَقد تعرض ابْن الْحَاجِب، وَغَيره إِلَى حِكَايَة الْخلاف فِي جَوَاز تَخْصِيص الْعَام فَقَالَ: التَّخْصِيص جَائِز إِلَّا عِنْد شذوذ، وَأَرَادَ بذلك أَن الْعَام، سَوَاء كَانَ أمرا، أَو خَبرا، أَو نهيا يجوز أَن يطرقه التَّخْصِيص. انْتهى. قَالَ ابْن مُفْلِح: التَّخْصِيص جَائِز عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وَغَيرهم خلافًا لبَعض الشَّافِعِيَّة، وَبَعض الْأُصُولِيِّينَ فِي الْخَبَر، وَعَن بَعضهم: وَفِي الْأَمر. انْتهى. اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح -: بِأَنَّهُ اسْتعْمل فِي الْكتاب، وَالسّنة. قَالُوا: يُوهم فِي الْخَبَر الْكَذِب، وَفِي الْأَمر البداء. رد: بِالْمَنْعِ. قَالُوا: كنسخ الْخَبَر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2514 فَأجَاب أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، والآمدي بِالْمَنْعِ، ثمَّ التَّخْصِيص يبين المُرَاد بِاللَّفْظِ، والنسخ رفع. قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَكِن مُقْتَضى إِيرَاد جمَاعَة، مِنْهُم: الشَّيْخ أَبُو حَامِد، وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وسليم، وَابْن الصّباغ، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَأَبُو الْحُسَيْن، والآمدي: أَن الْخلاف إِنَّمَا هُوَ فِي تَخْصِيص الْعَام إِذا كَانَ خَبرا لَا أمرا، أَو نهيا فَإِنَّهُ جَائِز بِلَا خلاف. وَيرد ذَلِك كُله وُرُود مَا هُوَ مَخْصُوص قطعا، نَحْو: {الله خلق كل شَيْء} [الزمر: 62] ، {تدمر كل شَيْء بِأَمْر رَبهَا} [الْأَحْقَاف: 25] ، {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَات كل شَيْء} [الْقَصَص: 57] ، {وَأُوتِيت من كل شَيْء} [النَّمْل: 23] ، {وَآتَيْنَاهُ من كل شَيْء سَببا} [الْكَهْف: 84] . وَفِي الْأَمر: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] ، وَفِي النَّهْي: {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} [الْبَقَرَة: 222] مَعَ أَن بعض القربان غير مَنْهِيّ عَنهُ قطعا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2515 بل قَالُوا: لَا عَام إِلَّا وطرقه التَّخْصِيص إِلَّا مَوَاضِع يسيرَة. قَوْله: وَلَو لمؤكد فِي الْأَصَح، أَي: لعام مُؤَكد، فالعام إِذا أكد لَا يمْنَع تَخْصِيصه على أصح قولي الْعلمَاء، حَكَاهُمَا جمع من الْعلمَاء وصححوا الْجَوَاز، وَنقل القَوْل بِالْمَنْعِ من ذَلِك أَبُو بكر الرَّازِيّ عَن بَعضهم، وَجزم بِهِ الْمَازرِيّ، مستندين إِلَى التَّأْكِيد لنفي الْمجَاز، وَلِهَذَا وَقع الْجَواب فِي قَوْله تَعَالَى: {يَقُولُونَ هَل لنا من الْأَمر من شَيْء قل إِن الْأَمر كُله لله} [آل عمرَان: 154] على قِرَاءَة نصب (كُله) ؛ لِأَنَّهُ لَو لم يكن معينا للْعُمُوم لما وَقع جَوَابا لمن قَالَ: {هَل لنا من الْأَمر من شَيْء} ، وَلَكِن الْأَصَح أَنه يخصص بِدَلِيل {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيس} [الْحجر: 30، 31] إِذا قدر مُتَّصِلا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2516 وَفِي الحَدِيث: " فأحرموا كلهم إِلَّا أَبَا قَتَادَة ". قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَفِي " الْبُرْهَان " لإِمَام الْحَرَمَيْنِ أَن الْجَوَاز قَضِيَّة كَلَام الْأَشْعَرِيّ، وَصرح بِهِ الْقفال الشَّاشِي، وَالْمَاوَرْدِيّ، وَالرُّويَانِيّ، بل ظَاهر كَلَام الْهِنْدِيّ فِي بَاب النّسخ أَنه إِجْمَاع. انْتهى. قَوْله: {وَلَا تَخْصِيص إِلَّا فِيمَا لَهُ شُمُول حسا أَو حكما} . قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: لَا تَخْصِيص إِلَّا فِيمَا يَصح توكيده بِكُل، وَهُوَ مَا لَهُ شُمُول حسا، نَحْو: جَاءَنِي الْقَوْم، أَو حكما نَحْو: اشْتريت العَبْد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2517 قَالَ الْعَسْقَلَانِي: لَا يَسْتَقِيم التَّخْصِيص إِلَّا بِمَا فِيهِ معنى الشُّمُول، وَيصِح توكيده بِكُل ليَكُون ذَا أَجزَاء يَصح اقترانها إِمَّا حسا ك {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} ، أَو حكما كاشتريت الْجَارِيَة كلهَا لِإِمْكَان افْتِرَاق أَجْزَائِهَا. انْتهى. قَالَ ابْن عقيل: التَّخْصِيص والنسخ فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا يتَنَاوَل أفعالنا الْوَاقِعَة فِي الْأَزْمَان، والأعيان فَقَط، وَالْفُقَهَاء والمتكلمون أَكْثرُوا القَوْل بِأَن النّسخ يتَنَاوَل الْأَزْمَان فَقَط، والتخصيص يتَنَاوَل الْجَمِيع، وَإِنَّمَا يَسْتَعْمِلهُ المحصلون تجوزا. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2518 (قَوْله: {فصل} ) {أَكثر أَصْحَابنَا وَغَيرهم يجوز تَخْصِيصه إِلَى أَن يبْقى وَاحِد. وَمنع الْمجد وَغَيره} من أَصْحَابنَا، {وَأَبُو بكر الرَّازِيّ من أقل الْجمع. والقفال وَغَيره إِن كَانَ لَفظه جمعا. وَالْقَاضِي وَولد الْمجد، وَجمع لَا بُد أَن تبقى كَثْرَة وَإِن لم تقدر. وَالْمجد، وَابْن حمدَان، وَطَائِفَة كثرت تقرب من مَدْلُول اللَّفْظ. وَجوزهُ ابْن الْحَاجِب باستثناء وَبدل إِلَى وَاحِد، وبمتصل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2519 كصفة، ومنفصل فِي مَحْصُور قَلِيل إِلَى اثْنَيْنِ، وَغير المحصور، وَالْعدَد الْكثير، كالمجد} . الْمَذْهَب الأول هُوَ الصَّحِيح من مَذْهَب الإِمَام أَحْمد، وَأَصْحَابه. قَالَ ابْن مُفْلِح: يجوز تَخْصِيص الْعَام إِلَى أَن يبْقى وَاحِد عِنْد أَصْحَابنَا. قَالَ الْحلْوانِي: هُوَ قَول الْجَمَاعَة. وَكَذَا قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل. قَالَ ابْن برهَان: هُوَ الْمَذْهَب الْمَنْصُور. قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب: هُوَ قَول مَالك وَالْجُمْهُور. وَحكى الْجُوَيْنِيّ إِجْمَاع أهل السّنة على ذَلِك فِي (من) و (مَا) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2520 وَنَحْوهمَا، وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَحَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي فِي " التَّلْخِيص " وَغَيره عَن مُعظم أَصْحَاب الشَّافِعِي، قَالَ: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ. وَنَقله أَيْضا عَن معظمهم ابْن الصّباغ، وَنَقله ابْن السَّمْعَانِيّ عَن سَائِر أَصْحَاب الشَّافِعِي خلا الْقفال. وَحَكَاهُ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ عَن إِجْمَاع أَئِمَّتنَا، وَصَححهُ القَاضِي أَبُو الطّيب. وَمنع الْمجد، وَغَيره من أَصْحَابنَا، وَأَبُو بكر الرَّازِيّ الْحَنَفِيّ، والقفال، وَالْغَزالِيّ النَّقْص من أقل الْجمع، قَالَه ابْن مُفْلِح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2521 قَالَ الْبرمَاوِيّ: فِيهِ مَذَاهِب: أَحدهَا - وَهُوَ الْمُخْتَار، ورأي الْقفال -: أَنه يجوز التَّخْصِيص إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى أقل الْمَرَاتِب الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا ذَلِك الْعَام الَّذِي يخص، فَإِن لم يكن جمعا، وَلَا فِي معنى الْجمع كمن، وَمَا، وَأَيْنَ، وَنَحْو ذَلِك، فَإلَى أَن يبْقى وَاحِد، وَإِن كَانَ جمعا، كالرجال أَو مَا فِي مَعْنَاهُ كالنساء وَالْقَوْم، والرهط، وَنَحْو ذَلِك، فَإلَى أَن يبْقى أقل مَا ينطبق عَلَيْهِ الْجمع، أَو مَا فِي مَعْنَاهُ. وعَلى هَذَا فيفصل فِي الْجمع فَإِن كَانَ جمع قلَّة فَإلَى ثَلَاثَة، وَإِن كَانَ جمع كَثْرَة، أَو مَا فِي معنى الْجمع فَإلَى أحد عشر. لَكِن هَذَا التَّفْصِيل مُفَرع على أَن الْجمع الْعَام آحاده جموع لَا وحدان، فَأَما إِن قُلْنَا الْآحَاد وحدان فَهُوَ حِينَئِذٍ كمن، وَمَا، وَنَحْوهمَا. انْتهى. لَكِن القَوْل الثَّانِي غير قَول الْقفال، فَإِن القَوْل الثَّانِي الْمَنْع من أقل الْجمع مُطلقًا، أَعنِي سَوَاء كَانَ لفظا أَو معنى، أَو لَا كَمَا تقدم تمثيله، وَهُوَ مَذْهَب حَكَاهُ الْبرمَاوِيّ فَقَالَ: الْمَذْهَب الرَّابِع: أَنه لَا بُد من بَقَاء أقل الْجمع مُطلقًا، وَلَو لم تكن صِيغَة الْعُمُوم جمعا، حَكَاهُ ابْن برهَان، وَغَيره. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2522 فَنقل ابْن مُفْلِح فِيهِ نظر؛ فَإِن مَذْهَب الْمجد، وَجمع كَمَا ذكر، وَهَذَا الْمَذْهَب غَيره، وَلذَلِك أفردناه فِي الْمَتْن عَن هَذَا القَوْل فَقُلْنَا بعد حِكَايَة القَوْل الثَّانِي: والقفال وَغَيره إِن كَانَ لَفظه جمعا، فمذهب الْقفال وَالْجمع الَّذِي مَعَه أخص من الْمَذْهَب الَّذِي قبله، فَليعلم ذَلِك. وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى فِي " الْكِفَايَة "، وَولد الْمجد الشَّيْخ عبد الْحَلِيم وَالِد الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَجمع: لَا بُد أَن تبقى كَثْرَة وَإِن لم تقدر. قَالَ الْبرمَاوِيّ: الْمَذْهَب الثَّالِث: مَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو الْحُسَيْن، وَرُبمَا نقل عَن الْمُعْتَزلَة من غير تعْيين وَإِلَيْهِ ميل إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَاخْتَارَهُ الْغَزالِيّ، وَنَقله بعض الْمُتَأَخِّرين عَن أَكثر أَصْحَابنَا، وَأَنه لَا بُد مِمَّن بَقَاء جمع كثير. قيل: إِلَّا أَن يسْتَعْمل ذَلِك الْعَام فِي الْوَاحِد تَعْظِيمًا، نَحْو: {فقدرنا فَنعم القادرون} [المرسلات: 23] ، وَلَكِن لَا حَاجَة إِلَى هَذَا الِاسْتِثْنَاء؛ لِأَن هَذَا من إِطْلَاق الْعَام وَإِرَادَة الْخَاص، وَلَيْسَ الْكَلَام فِيهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2523 وَهَذَا الْمَذْهَب نَقله أَيْضا الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب عَن الْأَكْثَرين، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعه، لَكِن اخْتلفُوا فِي ذَلِك الْجمع الْكثير، فَقَالَ الْمجد بن تَيْمِية، وَابْن حمدَان، وَطَائِفَة: كَثْرَة تقرب من مَدْلُول اللَّفْظ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: فَقَالَ ابْن الْحَاجِب: الَّذِي يقرب من مَدْلُوله قبل التَّخْصِيص، قَالَ: وَمُقْتَضى هَذَا أَن يكون أَكثر من النّصْف. وَفسّر جمع - كالبيضاوي - بِأَن يبْقى غير مَحْصُور. قلت: وَقَرِيب مِنْهُ مَا قَالَه القَاضِي، وَولد الْمجد، لَا بُد أَن تبقى كَثْرَة وَإِن لم تقدر بِحَال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2524 وَالتَّفْسِير متقاربان؛ إِذْ المُرَاد بِكَوْنِهِ يقرب من مَدْلُول الْعَام أَن يكون غير مَحْصُور فَإِن الْعَام هُوَ الْمُسْتَغْرق لما يصلح لَهُ من غير حصر فَهُوَ معنى أَن يبْقى غير مَحْصُور. قَوْله: {وَجوزهُ ابْن الْحَاجِب} ، هَذَا تَفْصِيل لِابْنِ الْحَاجِب وَقَالَ: إِنَّه الْمُخْتَار، وَهُوَ أَنه جوزه {باستثناء وَبدل إِلَى وَاحِد، وبمتصل كصفة ومنفصل فِي مَحْصُور قَلِيل إِلَى اثْنَيْنِ} ، مثل: قتلت كل زنديق، وَقد قتل اثْنَيْنِ والزنادقة كَانُوا ثَلَاثَة. {وَغير المحصور وَالْعدَد الْكثير ك} - يَقُول {الْمجد} ، وَهُوَ أَن تبقى بعد التَّخْصِيص كَثِيرَة تقرب من مَدْلُول الْعَام، قَالَه الْبرمَاوِيّ. قَالَ الْأَصْفَهَانِي وَغَيره: وَلَا يعرف هَذَا التَّفْصِيل لغيره. وَلَهُم قَول آخر بالتفصيل بَين أَن يكون التَّخْصِيص بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَالْبدل فَيجوز إِلَى وَاحِد، وَبَين أَن لَا يكون بهما فَلَا يجوز إِلَى وَاحِد، حَكَاهُ ابْن المطهر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2525 اسْتدلَّ لِلْقَوْلِ الأول - وَهُوَ الصَّحِيح من الْمَذْهَب -: لَو امْتنع ذَلِك لَكَانَ الِامْتِنَاع، إِمَّا لِأَنَّهُ مجَاز، أَو لاستعماله فِي غير مَوْضُوعه فَيمْتَنع تَخْصِيصه مُطلقًا. وَاعْترض على ذَلِك بِأَن الْمَنْع لعدم اسْتِعْمَاله فِيهِ لُغَة. وَجَوَابه بِالْمَنْعِ، ثمَّ لَا فرق. وَأَيْضًا: أكْرم النَّاس إِلَّا الْجُهَّال. وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ خص بِالِاسْتِثْنَاءِ. وَجَوَابه: الْمَعْرُوف التَّسْوِيَة، ثمَّ لَا فرق. اسْتدلَّ بقوله تَعَالَى: {الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس} [آل عمرَان: 173] وَأُرِيد نعيم بن مَسْعُود. رد: لَيْسَ بعام؛ لِأَنَّهُ لمعهود. وَاسْتدلَّ بقوله تَعَالَى: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الْحجر: 9] . أُجِيب: أطلق الْجمع عَلَيْهِ؛ للتعظيم وَمحل النزاع فِي الْإِخْرَاج مِنْهُ. وَاسْتدلَّ بِجَوَاز قَوْله: (أكلت الْخبز وشربت المَاء لأَقل) . رد: المُرَاد بعض مُطَابق لمعهود ذهني. الْقَائِل بِأَقَلّ الْجمع مَا سبق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2526 رد: لَيْسَ الْجمع بعام ليطلق الْعَام على مَا يُطلق عَلَيْهِ. الْقَائِل بِالْكَثْرَةِ لَو قَالَ: قتلت كل من كَانَ فِي الْبَلَد، أَو أكلت كل رمانة، أَو من دخل فَأكْرمه، وَفَسرهُ بِثَلَاثَة عد قبيحا لُغَة. أجَاب الْآمِدِيّ بِالْمَنْعِ مَعَ قرينَة بِدَلِيل مَا سبق من إِرَادَة نعيم بن مَسْعُود من (النَّاس) وَصِحَّة (أكلت الْخبز) . وَأجَاب أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": يلْزم الِاسْتِثْنَاء فِيهِ لُغَة، وَيجوز عِنْد الْخصم، وَبِأَنَّهُ قد يَقُول ذَلِك وَإِن أكل قَلِيلا كَقَوْل مَرِيض: أكلت اللَّحْم، يُرِيد قَلِيلا. وَفِي هَذَا الْموضع يَقُول الْخصم: المُرَاد أكل الْجِنْس فَلَا يلْزمه. قَوْله: {والمخصص الْمخْرج وَهُوَ إِرَادَة الْمُتَكَلّم وَيُطلق على الدَّلِيل مجَازًا وَهُوَ المُرَاد هُنَا} وَقَالَ ذَلِك أَكثر الْعلمَاء. لما فرغ من بَيَان التَّخْصِيص شرعنا فِي الْمُخَصّص - بِكَسْر الصَّاد - وَهُوَ حَقِيقَة فَاعل التَّخْصِيص الَّذِي هُوَ الْإِخْرَاج، 5 ثمَّ أطلق على إِرَادَة الْإِخْرَاج؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يخصص بالإرادة فَأطلق على نفس الْإِرَادَة مُخَصّصا، حَتَّى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2527 قَالَ الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه: إِن حَقِيقَة التَّخْصِيص هُوَ الْإِرَادَة ثمَّ أطلق الْمُخَصّص على الدَّلِيل الدَّال على الْإِرَادَة. وَمِنْهُم من يَحْكِي هذَيْن قَوْلَيْنِ، كَمَا فعل القَاضِي عبد الْوَهَّاب وَابْن برهَان: أَحدهمَا: أَن الْمُخَصّص إِرَادَة الْمُتَكَلّم إِخْرَاج بعض مَا يتَنَاوَلهُ الْخطاب. وَالثَّانِي: الدَّلِيل الدَّال على إدادة ذَلِك. وَبِالْجُمْلَةِ فالمقصود من التَّرْجَمَة الثَّانِي وَهُوَ الدَّلِيل فَإِنَّهُ الشَّائِع فِي الْأُصُول حَتَّى صَار حَقِيقَة عرفية، وَرُبمَا أطلق الْمُخَصّص على الْمظهر لإِرَادَة مُرِيد التَّخْصِيص من مُجْتَهد وَغَيره. إِذا علم ذَلِك فالمخصص قِسْمَانِ: مُتَّصِل: وَهُوَ مَا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ، بل مُرْتَبِط بِكَلَام آخر. ومنفصل: وَهُوَ مَا يسْتَقلّ. فَلذَلِك قُلْنَا: {وَهُوَ مُتَّصِل، ومنفصل، وَخَصه بعض أَصْحَابنَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2528 وَغَيرهم بالمنفصل، وَقَالَ: لَا يدْخل فِي التَّخْصِيص الْمُطلق} . أَكثر أهل الْعلم، على أَن الْمُخَصّص قِسْمَانِ: مُتَّصِل، ومنفصل وَقَطعُوا بذلك. وَخَصه بعض أَصْحَابنَا بالمنفصل، وَقَالَ: هُوَ اصْطِلَاح كثير من الْأُصُولِيِّينَ؛ لِأَن الِاتِّصَال مَنعه الْعُمُوم فَلم يدل إِلَّا مُتَّصِلا فَلَا يُسمى عَاما مَخْصُوصًا. وَقَالَ أَيْضا: لَا يدْخل فِي التَّخْصِيص الْمُطلق. وَفِي " التَّمْهِيد ": الْعُمُوم بِدُونِ ذَلِك لَيْسَ حَقِيقَة وَلَا مجَازًا، بل الْمَجْمُوع الْحَقِيقَة؛ لِأَن الْمُتَكَلّم أَرَادَ الْبَعْض بالمجموع، وَاحْتج بِهَذَا على أَنه لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس، وَفِي " الرَّوْضَة " فِي كَلَامه على الشَّرْط معنى ذَلِك. قَوْله: {فالمتصل: اسْتثِْنَاء مُتَّصِل [وَشرط] ، وَصفَة، وَغَايَة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2529 وَزَاد الْآمِدِيّ وَمن تبعه} - كَابْن الْحَاجِب - {بدل الْبَعْض} . أما الْأَرْبَعَة الأول فَلَا خلاف فِي أَنَّهَا من المخصصات، وَأما بدل الْبَعْض فَذكره الْآمِدِيّ وَمن تبعه من المخصصات. قَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر " وَغَيره: وَقد زَاد المُصَنّف بدل الْبَعْض عَن الْكل؛ لِأَنَّهُ إِخْرَاج بعض مَا يتَنَاوَلهُ اللَّفْظ. قَالَ: وَفِيه نظر، فَإِن الْمُبدل فِي حكم المطرح وَالْبدل قد أقيم مقَامه فَلَا يكون مُخَصّصا لَهُ، وَخص المُصَنّف بدل الْبَعْض بِكَوْنِهِ مُخَصّصا دون الأبدال الْبَاقِيَة لكَونهَا غير متناهية. انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: من المخصصات الْمُتَّصِلَة بدل الْبَعْض من الْكل، مثل: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمرَان: 97] ، {قُم اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا (2) نصفه} [المزمل: 2، 3] ، {ثمَّ عموا وصموا كثير مِنْهُم} [الْمَائِدَة: 71] ، عده ابْن الْحَاجِب من الْمُخَصّص، وَأنْكرهُ الصفي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2530 الْهِنْدِيّ فِي " الرسَالَة السيفية "، قَالَ: لِأَن الْمُبدل مِنْهُ كالمطرح فَلم يتَحَقَّق فِيهِ معنى الْإِخْرَاج والتخصيص لَا بُد فِيهِ من الْإِخْرَاج، فَلذَلِك قدرُوا فِي آيَة الْحَج: وَللَّه الْحَج على المستطيع. وَكَذَا انْظُر الْأَصْفَهَانِي كَمَا تقدم، وَمن ثمَّ لم يذكرهُ الْأَكْثَر - مِنْهُم: السُّبْكِيّ -، وعللوه بِمَا تقدم. لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: فِيمَا قَالُوهُ نظر من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن أَبَا حَيَّان نقل التَّخْصِيص بِالْبَدَلِ عَن الشَّافِعِي؛ إِذْ قَالَ فِي قصيدته الَّتِي مدح فِيهَا الشَّافِعِي: إِنَّه هُوَ الَّذِي استنبط الْفَنّ الأصولي، وَإنَّهُ الَّذِي يَقُول بتخصيص الْعُمُوم بالبدلين. وَمرَاده بدل الْبَعْض، وَبدل الاشتمال، فاستفدنا مِنْهُ أَن بدل الاشتمال فِي معنى بدل الْبَعْض فِي التَّخْصِيص عِنْد من يَقُول بِهِ، وَمَعْنَاهُ ظَاهر؛ لِأَن قَوْلك: أعجبني زيد علمه، يكون الأول معبرا بِهِ عَن مَجْمُوع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2531 ذَاته وَعلمه وَسَائِر أَوْصَافه، فَإِذا قلت: علمه، تخصص الحكم بِعِلْمِهِ فَقَط، وَفهم بَعضهم من الْبَدَلَيْنِ بدل الْبَعْض، وَبدل الْمُطَابقَة. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن مَا قَالُوهُ فِي اطراح الْمُبدل مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ تَفْرِيع على أَن الْمُبدل مِنْهُ مطرح، وَهُوَ أحد الْأَقْوَال فِي الْمَسْأَلَة، وَالْأَكْثَر على خِلَافه. انْتهى. قَوْله: {الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل كَلَام ذُو صِيغ محصورة تدل على أَن الْمَذْكُور فِيهِ لم يرد بالْقَوْل الأول قَالَه القَاضِي وَابْن عقيل وَالْغَزالِيّ} . لما ذكرنَا أَن المخصصات أَرْبَعَة أَو خَمْسَة - على رَأْي - شرعنا نبين أَحْكَامهَا على التَّرْتِيب، فالاستثناء مَأْخُوذ من الثني وَهُوَ الْعَطف، تَقول: ثنيت الْحَبل أثنيه إِذا عطف بعضه على بعض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2532 وَقيل: من ثنيته عَن الشَّيْء إِذا صرفته عَنهُ. وَهُوَ شَيْئَانِ: اسْتثِْنَاء مُتَّصِل، واستثناء مُنْقَطع، وَالْمرَاد هُنَا الْمُتَّصِل، أما الْمُنْقَطع فَسَيَأْتِي أَن الرَّاجِح أَنه لَا يعد من المخصصات، وَفِي تَعْرِيف كل مِنْهُمَا عِبَارَات، ذكرنَا فِي الْمُتَّصِل عبارتين: مَا قَالَه القَاضِي أَبُو يعلى، وَابْن عقيل، وَالْغَزالِيّ الْمُتَقَدّم ذكره. فَقَوْلهم: ذُو صِيغ محصورة مُرَادهم أدوات الِاسْتِثْنَاء الثَّمَانِية الْمَشْهُورَة الَّتِي مِنْهَا مَا هُوَ حرف اتِّفَاقًا ك (إِلَّا) ، أَو على الْأَصَح ك (حاشا) فَإِنَّهَا حرف عِنْد سِيبَوَيْهٍ دَائِما، وَيُقَال فِيهَا: حاش وحشا. وَمِنْهَا مَا هُوَ فعل ك (لَا يكون) ، أَو على الرَّاجِح ك (لَيْسَ) ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَرَدّد بَين الحرفية، والفعلية، فَإِن نصب مَا بعده كَانَ فعلا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2533 أَو جَرّه كَانَ حرفا، وَهُوَ (خلا) بِاتِّفَاق، و (عدا) عِنْد غير سِيبَوَيْهٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ اسْم، وَهُوَ (غير) ، و (سوى) . سَوَاء قُلْنَا: هُوَ ظرف، وَإِنَّمَا اسْتثْنِي بِهِ، أَو قُلْنَا: يتَصَرَّف تصرف الْأَسْمَاء، وَيُقَال فِيهِ: سوا - بِضَم السِّين - وسَوآ - بِفَتْحِهَا وَالْمدّ وبكسرها وَالْمدّ، ذكرهَا الفاسي فِي " شرح الشاطبية ". إِذا علم ذَلِك رَجعْنَا إِلَى قيود الْحَد: فَقَوْلهم: (كَلَام) احْتِرَاز من التَّخْصِيص بِغَيْر القَوْل، كَفعل، وقرينة، وَدَلِيل، عقل، وحس. وَقَوْلهمْ: (ذُو صِيغ محصورة) أورد عَلَيْهِ الْأَقْوَال الْمُوجبَة للتخصيص الْخَارِجَة عَن الِاسْتِثْنَاء، كالشرط، والغاية، وَنَحْو: (فَاقْتُلُوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2534 الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] وَلَا تقتلُوا النِّسَاء، فَلَو زادوا بعد (صِيغ محصورة) مَخْصُوصَة لاندفع الْإِيرَاد. قلت: قد ذكره ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره " عَن الْغَزالِيّ، قَالَ: وَأوردهُ على طرده التَّخْصِيص بِالشّرطِ، وَالْوَصْف بِالَّذِي، والغاية، وَمثل: قَامَ الْقَوْم، وَلم يقم زيد، وَلَا يرد الْأَوَّلَانِ، وعَلى عَكسه جَاءَ الْقَوْم إِلَّا زيدا، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِذِي صِيغ. انْتهى. قَالَ الطوفي: وَهَذَا الْحَد قَول من يزْعم أَن التَّعْرِيف بِالْإِخْرَاجِ تنَاقض؛ لِأَن قَامَ الْقَوْم إِلَّا زيدا ينْحل إِلَى (قَامَ زيد، لم يقم زيد وَلَيْسَ بِشَيْء) ؛ لِأَن دُخُول زيد إِنَّمَا هُوَ بِحَسب اللَّفْظ ظَاهرا، لَا بِحَسب الحكم؛ إِذْ لَا يثبت إِلَّا بِتمَام الْكَلَام فَيكون الِاسْتِثْنَاء دافعا لثُبُوت الحكم؛ لِأَن أَفعاله بعد ثُبُوته، وَإِلَّا لزم التَّنَاقُض الْمَحْض فِي قَوْله تَعَالَى: {ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} [العنكبوت: 14] وَهُوَ محَال، وَهَذَا مَحل شُبْهَة أبي بكر من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2535 أَصْحَابنَا، وَمنعه صِحَة الِاسْتِثْنَاء فِي الطَّلَاق بِنَاء على امْتنَاع ارْتِفَاع الطَّلَاق بعد وُقُوعه. ثمَّ الْمرجع فِي هَذَا الشَّأْن إِلَى أهل اللُّغَة وَقد عرفوه بِالْإِخْرَاجِ، مِنْهُم ابْن جني، وَغَيره، فَلهَذَا قُلْنَا: وَالأَصَح الْإِخْرَاج بإلا، أَو إِحْدَى أخواتها، وَقد عرفت أخواتها فِيمَا تقدم، وَيَأْتِي تَتِمَّة الْحَد قَرِيبا، وَهَذَا الْحَد قَالَه الطوفي، وَكثير من الْعلمَاء. قَوْله: {من مُتَكَلم وَاحِد [و] قيل مُطلقًا} . الصَّحِيح أَن من شَرط صِحَة الِاسْتِثْنَاء كَونه من مُتَكَلم وَاحِد، ليخرج مَا لَو قَالَ الله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] ، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِلَّا أهل الذِّمَّة؛ فَإِن ذَلِك اسْتثِْنَاء مُنْفَصِل، لَا مُتَّصِل، وَقدم هَذَا القَوْل فِي " جمع الْجَوَامِع ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2536 وَقَالَهُ الباقلاني، والصفي الْهِنْدِيّ، وَغَيرهمَا، وَضعف مُقَابِله؛ وَلِهَذَا قَالَ الرَّافِعِيّ: لَو قَالَ: لي عَلَيْك مائَة، فَقَالَ: إِلَّا درهما لم يكن مقرا بِمَا عدا الْمُسْتَثْنى على الْأَصَح. وَأما استناد من جوزه من متكلمين إِلَى أَن الْمِثَال السَّابِق فِي قَول الله تَعَالَى، وَقَول الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا بدع فِيهِ؛ لِأَن الْكَلَامَيْنِ كالواحد؛ لِأَنَّهُ مبلغ عَن الله تَعَالَى فَذَاك بِخُصُوص الْمِثَال، لَا فِي كل اسْتثِْنَاء من متكلمين. وَلذَلِك احْتِيجَ فِي قَول الْعَبَّاس بعد قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلَا يخْتَلى خلاه إِلَّا الْإِذْخر " فَقَالَ: " إِلَّا الْإِذْخر "، إِلَى تَأْوِيله بِأَن الْعَبَّاس أَرَادَ أَن يذكرهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالِاسْتِثْنَاءِ خشيَة أَن يسكت عَنهُ اتكالا على فهم السَّامع ذَلِك بِقَرِينَة، وَفهم مِنْهُ أَنه يُرِيد اسْتثِْنَاء؛ وَلأَجل ذَلِك أعَاد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الِاسْتِثْنَاء فَقَالَ: " إِلَّا الْإِذْخر " وَلم يكْتب باستثناء الْعَبَّاس. فَكل ذَلِك يرشد إِلَى اعْتِبَار كَونه من مُتَكَلم وَاحِد، وَأطَال الْبرمَاوِيّ فِي ذَلِك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2537 تَنْبِيه: أورد على تَعْرِيف الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل بِأَن إِلَّا، وَنَحْوه من التَّعْرِيف لكَونه أَدَاة اسْتثِْنَاء فتصور ذَلِك فِيهِ مُتَوَقف على تصور الِاسْتِثْنَاء، فَلَو عَرفْنَاهُ بِهِ كَانَ دورا. وَجَوَابه: أَنه إِنَّمَا وقف التَّعْرِيف بهَا من حَيْثُ كَونهَا مخرجة لَا من حَيْثُ خُصُوص الِاسْتِثْنَاء، فَإِن الْإِخْرَاج أَعم. وَيُجَاب بِهَذَا - أَيْضا - عَن السُّؤَال فِي قَوْله: (وَنَحْوهَا) أَنه كَانَ من حَيْثُ الِاسْتِثْنَاء لزم الدّور؛ إِذْ من حَيْثُ الْإِخْرَاج فِي الْجُمْلَة دخل التَّخْصِيص بالمنفصل، وَغير الِاسْتِثْنَاء من الْمُتَّصِل، فَقَالَ الْمخْرج بِالْوَضْعِ إِنَّمَا هُوَ ذَوَات الِاسْتِثْنَاء، فَهُوَ المُرَاد. انْتهى. قَوْله: {فَهُوَ إِخْرَاج مَا لولاه لوَجَبَ دُخُوله لُغَة، عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيرهم} . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين هَذَا قَول أَصْحَابنَا، والأكثرين. فعلى هَذَا لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء من النكرَة، لَا مَا جَازَ دُخُوله. يَعْنِي: أَنه لَا يقدر إِخْرَاج مَا لولاه لجَاز دُخُوله، خلافًا لقوم فِي هَذَا القَوْل يَصح الِاسْتِثْنَاء من النكرَة، وَسلمهُ القَاضِي، وَابْن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2538 عقيل، وَقَالَهُ ابْن مَالك، أَي: قَالَ بِالصِّحَّةِ، إِن وصفت النكرَة، وَإِلَّا فَلَا. وَالْأول هُوَ الصَّحِيح من الْأَقْوَال، وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْعلمَاء، أَعنِي: أَن الِاسْتِثْنَاء إِخْرَاج مَا لولاه لوَجَبَ دُخُوله لُغَة، احْتِرَاز من نَحْو: جَاءَ رجال إِلَّا زيدا؛ لاحْتِمَال أَن لَا يُرِيد الْمُتَكَلّم دُخُوله حَتَّى يُخرجهُ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: أما إِذا أَفَادَ الِاسْتِثْنَاء من النكرَة كاستثناء جُزْء من مركب فَيجوز، نَحْو: اشْتريت عبدا إِلَّا ربعه، أَو دَارا إِلَّا سقفها، فالاستثناء من النكرَة إِذا لم يفد لم يكن مُتَّصِلا، وَلَا يكون مُنْقَطِعًا؛ لِأَن شَرطه لَا يدْخل فِي الْمُسْتَثْنى مِنْهُ قطعا. وَقَالَ ابْن مَالك: إِن وصفت النكرَة صَحَّ الِاسْتِثْنَاء مِنْهَا، وَإِلَّا فَلَا. قَوْله: {وَالْمرَاد من قَوْله عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة سَبْعَة، و (إِلَّا) قرينَة مخصصة عندنَا، وَعند الْأَكْثَر} . اخْتلف فِي تَقْدِير دلَالَة الِاسْتِثْنَاء على مَذَاهِب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2539 منشأ الْمذَاهب إِشْكَال فِي معقولية الِاسْتِثْنَاء، فَإنَّك إِذا قلت: قَامَ الْقَوْم إِلَّا زيدا، فَإِن لم يكن زيد دخل فيهم فَكيف أخرج؟ هَذَا، وَقد اتّفق أهل الْعَرَبيَّة على أَنه إِخْرَاج، وَإِن كَانَ دخل فيناقض أول الْكَلَام آخِره، وَكَذَا نَحْو قَوْله: لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا درهما، بل أبلغ؛ لِأَن الْعدَد نَص فِي مَدْلُوله وَالْعَام فِيهِ الْخلاف السَّابِق، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى نفي الِاسْتِثْنَاء من كَلَام الْعَرَب؛ لِأَنَّهُ كذب على هَذَا التَّقْدِير فِي أحد الطَّرفَيْنِ، وَلَكِن قد وَقع فِي الْقُرْآن الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه. أحد الْمذَاهب الْمَذْكُورَة قبل، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمذهب الْأَكْثَر. نَقله ابْن الْحَاجِب عَنْهُم أَن المُرَاد بِعشْرَة سَبْعَة، وَإِلَّا قرينَة تثبت أَن الْكل اسْتعْمل وَأُرِيد بِهِ الْجُزْء مجَازًا. وعَلى هَذَا فالاستثناء مُبين لغَرَض الْمُتَكَلّم بِهِ، بالمستثنى مِنْهُ، فَإِذا قَالَ: لَهُ عَليّ عشرَة كَانَ ظَاهرا فِي الْجَمِيع وَيحْتَمل إِرَادَة بَعْضهَا مجَازًا، فَإِذا قَالَ: إِلَّا ثَلَاثَة فقد بَين أَن مُرَاده بِالْعشرَةِ سَبْعَة فَقَط كَمَا فِي سَائِر التخصيصات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2540 قَالَ ابْن مُفْلِح: الِاسْتِثْنَاء إِخْرَاج مَا تنَاوله الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، يبين أَنه لم يرد بِهِ كالتخصيص عِنْد القَاضِي وَغَيره. وَفِي " التَّمْهِيد " - أَيْضا -: مَا لولاه لدخل فِي اللَّفْظ كالتخصيص. وَمرَاده كَالْأولِ، وَمَعْنَاهُ قَالَه الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " وَغَيره. انْتهى. واستنكر أَبُو الْمَعَالِي هَذَا الْمَذْهَب وَقَالَ: إِنَّه محَال لَا يَعْتَقِدهُ لَبِيب. انْتهى. وَالْمذهب الثَّانِي - وَبِه قَالَ أَبُو بكر الباقلاني - أَن نَحْو عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة مَدْلُوله سَبْعَة، لَكِن لَهُ لفظان: أَحدهمَا مركب، وَهُوَ عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة، وَاللَّفْظ الآخر سَبْعَة. وَقصد بذلك أَن يفرق بَين التَّخْصِيص بِدَلِيل مُتَّصِل فَيكون الْبَاقِي فِيهِ حَقِيقَة، أَو بالمنفصل فَيكون تنَاول اللَّفْظ للْبَاقِي مجَازًا. وَوَافَقَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ على ذَلِك بِمَنْزِلَة اسْمَيْنِ بِالْوَضْعِ: أَحدهمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2541 مُفْرد، وَالْآخر مركب، وَمَعْنَاهُ فِي " الرَّوْضَة " فِي كَلَامه فِي الشَّرْط. وَحكي عَن الشَّافِعِي: إِخْرَاج لشَيْء دلّ عَلَيْهِ صدر الْجُمْلَة بالمعارضة فَمَعْنَى عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة فَإِنَّهَا لَيست عَليّ. وَالْمذهب الثَّالِث - وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، وَغَيره مِنْهُم: ابْن قَاضِي الْجَبَل وَنَصره من سِتَّة أوجه -: أَن المُرَاد بِالْعشرَةِ عشرَة بِاعْتِبَار أَفْرَاده، وَلَكِن لَا يحكم بِمَا أسْند إِلَيْهَا إِلَّا بعد إِخْرَاج الثَّلَاثَة مِنْهَا، فَفِي اللَّفْظ أسْند الحكم إِلَى عشرَة، وَفِي الْمَعْنى إِلَى سَبْعَة، وعَلى هَذَا فَلَيْسَ الِاسْتِثْنَاء مُبينًا للمراد بِالْأولِ، بل بِهِ يحصل الْإِخْرَاج، وَلَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا الْإِثْبَات، وَلَا نفي أصلا، فَلَا تنَاقض، وَنصر ذَلِك وَأطَال. فالاستثناء على قَول الباقلاني لَيْسَ بتخصيص؛ لِأَن التَّخْصِيص قصر الْعَام على بعض أَفْرَاده، وَهنا لم يرد بِالْعَام بعض أَفْرَاده، بل بالمجموع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2542 الْمركب، وَأَنه على قَول الْأَكْثَرين تَخْصِيص، أَي: لما فِيهِ من قصر اللَّفْظ على بعض مسمياته. وَأما على الْمَذْهَب الثَّالِث فَيحْتَمل أَن يكون تَخْصِيصًا نظرا إِلَى كَون الحكم فِي الظَّاهِر للعام وَالْمرَاد الْخُصُوص، وَيحْتَمل أَن لَا يكون تَخْصِيصًا نظرا إِلَى أَنه أُرِيد بالمستثنى مِنْهُ تَمام مُسَمَّاهُ. وَذكر القَاضِي عضد الدّين فِي تَحْقِيق هَذِه الْمذَاهب كلَاما أَطَالَ فِيهِ، وَتعقب عَلَيْهِ فِي بعضه ابْن السُّبْكِيّ فِي " شرح الْمُخْتَصر " فَليُرَاجع مِنْهُ. وَجه الأول: لَو أُرِيد عشرَة كَامِلَة امْتنع مثل {فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} [العنكبوت: 14] ؛ لِأَنَّهُ يلْزم كذب أَحدهمَا وَلم نقطع بِأَنَّهُ إِنَّمَا أقرّ بسبعة. رد ذَلِك بِأَن الصدْق وَالْكذب وَالْحكم بِالْإِقْرَارِ بِاعْتِبَار الْإِسْنَاد لَا بِاعْتِبَار الْعشْرَة، والإسناد بعد الْإِخْرَاج. وَوجه الثَّانِي: مَا سبق وَضعف أَدِلَّة غَيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2543 وَوجه الثَّالِث: الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَبِالْعَكْسِ لما يَأْتِي فَوَجَبَ كَونه مُعَارضا لصدر الْجُمْلَة فِي بعض. رد: معَارض بقَوْلهمْ تكلم بِالْبَاقِي بعد الثنيا. وَوجه الْأَخير: ضعف مَا سبق، أما الأول فَلِأَنَّهُ يلْزم من قَالَ اشْتريت الشَّيْء إِلَّا نصفه، أَن يُرِيد اسْتثِْنَاء نصفه من نصفه ولتسلسله إِذا، وللقطع بِأَن الضَّمِير للشَّيْء الْمَبِيع كَامِلا، ولإجماع النُّحَاة أَنه إِخْرَاج بعض من كل، ولإبطال النُّصُوص، وللقطع بِأَنا نسقط الْخَارِج فَالْمُسْنَدُ إِلَيْهِ مَا بَقِي، وَلَو كَانَ المُرَاد بالمستثنى مِنْهُ هُوَ الْبَاقِي لم يعلم بالإسقاط أَن الْمسند إِلَيْهِ هُوَ مَا بَقِي لتوقف إِسْقَاطه على حُصُول خَارج، وَلَا خَارج إِذا. رد ذَلِك: أَن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ هُوَ الْجَمِيع بِحَسب ظَاهره وَالِاسْتِثْنَاء بَين أَن المُرَاد بِهِ النّصْف فَجَمِيع ذَلِك بِحَسب الظَّاهِر، فَلَا مُنَافَاة، وَلَا يلْزم إبِْطَال نَص، وَهُوَ مَا لَا يحْتَمل إِلَّا معنى وَاحِد عِنْد عدم قرينَة. وَأما ضعف الثَّانِي فخروجه عَن اللُّغَة؛ إِذْ لَيْسَ فِيهَا كلمة وَاحِدَة مركبة من ثَلَاث وأولها مُعرب أَيْضا وَلَا إِضَافَة؛ وَلِأَنَّهُ يعود الضَّمِير فِي إِلَّا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2544 نصفه على جُزْء الِاسْم وَهُوَ مُمْتَنع ولإجماع النُّحَاة أَنه إِخْرَاج. فَوَائِد: ذكرهَا الْقَرَافِيّ فِي " شرح التَّنْقِيح ": إِحْدَاهَا: أَن الِاسْتِثْنَاء أَرْبَعَة أَنْوَاع: أَحدهَا: مَا لولاه لعلم دُخُوله كالاستثناء من النُّصُوص مثل: عنْدك عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة. الثَّانِي: لظن دُخُوله كالاستثناء من الظَّوَاهِر، نَحْو: اقْتُلُوا الْمُشْركين إِلَّا زيدا. وَالثَّالِث: مَا لولاه لجَاز دُخُوله كالاستثناء من الْمحَال والأزمان وَالْأَحْوَال، كأكرم رجلا إِلَّا زيدا أَو عمرا، وصل إِلَّا عِنْد الزَّوَال {لتأتنني بِهِ إِلَّا أَن يحاط بكم} [يُوسُف: 66] . وَالرَّابِع: مَا لولاه لقطع بِعَدَمِ دُخُوله كالاستثناء الْمُنْقَطع، كجاء الْقَوْم إِلَّا حمارا. قلت: وَفِي هَذَا نظر. الْفَائِدَة الثَّانِيَة: يَقع الِاسْتِثْنَاء فِي عشرَة أُمُور: اثْنَان ينْطق بهما وَثَمَانِية لَا ينْطق بهَا، وَوَقع الِاسْتِثْنَاء مِنْهَا، فَمَا ينْطق بهَا الْأَحْكَام وَالصِّفَات، فالأحكام: قَالَ الْقَوْم إِلَّا زيدا، وَالصِّفَات قَول الشَّاعِر: (قَاتل ابْن البتول إِلَّا عليا ... ) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2545 يُرِيد الْحُسَيْن ابْن فَاطِمَة، وَمعنى البتول: المنقطعة، قيل: عَن النظير والشبيه، وَقيل: عَن الْأزْوَاج، وَهُوَ مُرَاد الشَّاعِر. قيل: انْقَطَعت عَن الْأزْوَاج إِلَّا عَن عَليّ فاستثنى من صفتهَا، لَا مِنْهَا. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {أفما نَحن بميتين (58) إِلَّا موتنا الأولى} [الصافات: 58، 59] استثنوا من صفتهمْ الموتة الأولى، لَا من ذواتهم. وَالِاسْتِثْنَاء من الصّفة ثَلَاثَة أَقسَام: أَحدهَا: عَن متعلقها: كَقَوْل الشَّاعِر الْمُتَقَدّم مُتَعَلق التبتل. وَثَانِيها: من بعض أَنْوَاعهَا: كالآية؛ لِأَن الموتة الأولى أحد أَنْوَاع الْمَوْت. وَثَالِثهَا: أَن يَسْتَثْنِي بجملتها لَا يتْرك مِنْهَا شَيْء، كَأَنْت طَالِق وَاحِدَة إِلَّا وَاحِدَة. وَالثَّمَانِيَة الْبَاقِيَة لَا ينْطق بهَا وَيَقَع الِاسْتِثْنَاء مِنْهَا: أَحدهَا: الْأَسْبَاب، نَحْو: لَا عُقُوبَة إِلَّا بِجِنَايَة. وَالثَّانيَِة: الشُّرُوط، لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور. وَالثَّالِث: الْمَوَانِع، لَا تسْقط الصَّلَاة عَن الْمَرْأَة إِلَّا بِالْحيضِ. وَالرَّابِع: الْمحَال، أكْرم رجلا إِلَّا زيدا، أَو عمرا، أَو بكرا فَإِن كل شخص هُوَ مَحل الأعمية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2546 وَالْخَامِس: الْأَحْوَال {لتأتنني بِهِ إِلَّا أَن يحاط بكم} [يُوسُف: 66] ، أَي: لتأتنني بِهِ فِي جَمِيع الْأَحْوَال إِلَّا فِي حَالَة الْإِحَاطَة فَإِنِّي أعذركم. وَالسَّادِس: الْأَزْمَان، صل إِلَّا عِنْد الزَّوَال. وَالسَّابِع: الْأَمْكِنَة، صل إِلَّا على المزبلة، وَنَحْوهَا. وَالثَّامِن: مُطلق الْوُجُود مَعَ قطع النّظر عَن الخصوصيات: {إِن هِيَ إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم} [النَّجْم: 23] ، أَي: لَا حَقِيقَة للأصنام أَلْبَتَّة إِلَّا أَنَّهَا لفظ مُجَرّد فاستثنى اللَّفْظ من مُطلق الْوُجُود على سَبِيل الْمُبَالغَة فِي النَّفْي، أَي: لم يثبت لَهَا وجود أَلْبَتَّة إِلَّا وجود اللَّفْظ وَلَا شَيْء وَرَاءه. فَهَذِهِ الثَّمَانِية لم يذكر فِيهَا الِاسْتِثْنَاء، وَإِنَّمَا يعلم لما ذكر بعد الِاسْتِثْنَاء فَرد مِنْهَا، فيستدل بذلك الْفَرد على جنسه، وَهُوَ الْكَائِن بعد الِاسْتِثْنَاء وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَن يعلم أَن الِاسْتِثْنَاء فِي هَذِه الْأُمُور الَّتِي لم تذكر كلهَا اسْتثِْنَاء مُتَّصِل؛ لِأَنَّهُ من الْجِنْس وَحكم بالنقيض بعد (إِلَّا) ، وَهَذَانِ القيدان وافيان بِحَقِيقَة الْمُتَّصِل. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2547 (قَوْله: {فصل} ) {أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَمُحَمّد، وَزفر، وَحكي عَن الْأَكْثَر لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس} ، حَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن الْأَكْثَر. وَذكر التَّمِيمِي أَن أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد اخْتلفُوا، وَقَالَ ابْن برهَان: قَول عدم صِحَّته قَول عَامَّة أَصْحَابنَا وَالْفُقَهَاء قاطبة، وَهُوَ الْمَنْصُور، نَقله ابْن مُفْلِح عَنهُ، وَنَقله ابْن قَاضِي الْجَبَل عَن ابْن كيسَان بِهَذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2548 اللَّفْظ و [هُوَ] وَالله أعلم تَصْحِيف، وَإِنَّمَا هُوَ ابْن برهَان، وَحَكَاهُ جمَاعَة عَن أبي حنيفَة، وَاخْتَارَهُ ألكيا، وَابْن برهَان، وَحكي عَن ابْن الْبَاجِيّ، وَابْن خويزمنداد. وَعَن الإِمَام أَحْمد رَحمَه الله رِوَايَة بِصِحَّة اسْتثِْنَاء أحد النَّقْدَيْنِ من الآخر، فَإِذا قَالَ: لَهُ عِنْدِي مائَة إِلَّا دِينَارا، أَو مائَة دِينَار إِلَّا ألف دِرْهَم، صَحَّ اخْتَارَهُ الْخرقِيّ، وَجَمَاعَة من أَصْحَابنَا، مِنْهُم: أَبُو حَفْص العكبري والحلواني صَاحب " التَّبْصِرَة "، وَقدمه فِي " الْخُلَاصَة " لِابْنِ المنجي و " شرح ابْن رزين ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2549 ثمَّ اخْتلف الْأَصْحَاب فِي مَأْخَذ هَذِه الرِّوَايَة، فَقَالَ فِي " رَوْضَة فقه أَصْحَابنَا " بِنَاء على أَنه جنس، أَو جِنْسَانِ، وَإِن قُلْنَا: هما جنس صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ القَاضِي فِي " الْعدة "، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": لِأَنَّهُمَا كالجنس فِي أَشْيَاء فَكَذَا فِي الِاسْتِثْنَاء. وَقَالَ الْمُوفق فِي " الْمُغنِي ": يُمكن حمل هَذِه الرِّوَايَة على مَا إِذا كَانَ أَحدهمَا يعبر بِهِ عَن الآخر، أَو يعلم قدره مِنْهُ. وَقَالَ الطوفي فِي " شرح مُخْتَصره " فِي الْأُصُول: إِنَّمَا صَحَّ ذَلِك اسْتِحْسَانًا، وأجراه بعض أَصْحَابنَا على ظَاهره، وأنهما نَوْعَانِ، فَيصح اسْتثِْنَاء نوع من نوع آخر، فَقَالَ: يلْزم من هَذِه الرِّوَايَة صِحَة اسْتثِْنَاء نوع من آخر. فَقَالَ أَبُو الْخطاب: يلْزم مِنْهَا صِحَة اسْتثِْنَاء ثوب وَنَحْوه من دَرَاهِم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2550 وَقَالَهُ الْمَالِكِيَّة، وَابْن الباقلاني، وَجَمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين، والنحاة. قَالَ الْمُوفق فِي " الْمُغنِي ": وَقَالَ مَالك، وَالشَّافِعِيّ: يَصح الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس مُطلقًا؛ لِأَنَّهُ ورد فِي الْكتاب الْعَزِيز ولغة الْعَرَب. انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَلِهَذَا نقل الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الِاتِّفَاق على صِحَة الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس. وللشافعية كالقولين، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَالْأَشْهر عَن أبي حنيفَة صِحَّته فِي مَكِيل أَو مَوْزُون من أَحدهمَا فَقَط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2551 وَجه الْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح -: أَن الِاسْتِثْنَاء صرف اللَّفْظ بحرفه عَمَّا يَقْتَضِيهِ لولاه، أَو إِخْرَاج؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذ من الثني من قَوْلهم: ثنيت فلَانا عَن رَأْيه، وثنيت عنان دَابَّتي كَمَا تقدم. وَلِأَن الِاسْتِثْنَاء إِنَّمَا يَصح؛ لتَعَلُّقه بِالْأولِ لعدم استقلاله، وَإِلَّا لصَحَّ كل شَيْء من كل شَيْء؛ لاشْتِرَاكهمَا فِي معنى عَام. وَلِأَنَّهُ لَو قَالَ: جَاءَ النَّاس إِلَّا الْكلاب، وَإِلَّا الْحمير عد قبيحا لُغَة وَعرفا. ورد الأول بِأَنَّهُ مَحل النزاع، وَبِأَنَّهُ مُشْتَقّ من التَّثْنِيَة كَأَنَّهُ ثنى الْكَلَام بِهِ، وَلَا يلْزم من الِاشْتِقَاق لِمَعْنى [نفي] كَونه حَقِيقَة لِمَعْنى آخر. وَلَا الاطراد، وقبح مَا ذكر لَا يمْتَنع لُغَة كَقَوْل الدَّاعِي: يَا رب الْكلاب وَالْحمير. ثمَّ إِن امْتنع من اللَّفْظ مُطَابقَة لَا يمْتَنع من لَازم لَهُ، وَلَا يلْزم اسْتثِْنَاء كل شَيْء من كل شَيْء لاعْتِبَار مُنَاسبَة بَينهمَا كَقَوْل الْقَائِل: لَيْسَ لي بنت إِلَّا ذكر، بِخِلَاف قَوْله: إِلَّا أَنِّي بِعْت دَاري. وَاحْتج أَصْحَابنَا وَغَيرهم بِأَنَّهُ تَخْصِيص فَلَا يَصح فِي غير دَاخل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2552 وَجه الثَّانِي: وُقُوعه، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِلَّا رمزا} [آل عمرَان: 41] ، {أَن يقتل مُؤمنا إِلَّا خطئا} [النِّسَاء: 92] ، {من علم إِلَّا اتِّبَاع الظَّن} [النِّسَاء: 157] ، {من سُلْطَان إِلَّا أَن دعوتكم} [إِبْرَاهِيم: 22] ، وَقَول الْعَرَب: مَا بِالدَّار أحد إِلَّا وتد، وَمَا جَاءَنِي زيد إِلَّا عَمْرو، وَلِأَنَّهُ لَو أقرّ بِمِائَة دِرْهَم إِلَّا ثوبا لغى على الأول مَعَ إِمْكَان تَصْحِيحه بِأَن مَعْنَاهُ قيمَة ثوب، لَا سِيمَا إِن أَرَادَهُ. ورد أَن (إِلَّا) فِي ذَلِك بِمَعْنى (لَكِن) عِنْد النُّحَاة، مِنْهُم: الزّجاج وَابْن قُتَيْبَة، وَقَالَ: هُوَ قَول سِيبَوَيْهٍ، وَهُوَ اسْتِدْرَاك، وَلِهَذَا لم يَأْتِ إِلَّا بعد نفي، أَو بعد إِثْبَات بعده جملَة، وَلَا مدْخل للاستدراك فِي إِقْرَار فَبَطل وَلَو مَعَ جملَة بعده، كَقَوْلِه: مائَة دِرْهَم إِلَّا ثوبا لي عَلَيْهِ، فَيصح كإقراره وَتبطل دَعْوَاهُ، كتصريحه بذلك بِغَيْر اسْتثِْنَاء. وَفِي " الْعدة "، و " التَّمْهِيد ": لَو صَحَّ لصَحَّ إِذا أقرّ بِثَوْب، وَأَرَادَ قِيمَته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2553 زَاد فِي " التَّمْهِيد ": وَقد قيل يَصح ذَلِك لَا على وَجه الِاسْتِثْنَاء؛ بل للفظ الْمقر، كمن أقرّ بِمِائَة ثمَّ فَسرهَا. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَا، قَالَ: وَالْمذهب الأول أظهر لسبق الْمُتَّصِل إِلَى الْفَهم، وَهُوَ دَلِيل الْحَقِيقَة، لَكِن عِنْد تعذره فِي الْعَمَل بالمنقطع نظر. انْتهى. قَوْله: {فَائِدَة: الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع مجَاز} . إِذا قُلْنَا بِصِحَّة الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس وَهُوَ الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع، فَهَل هُوَ حَقِيقَة: أَو مجَاز؟ فِيهِ قَولَانِ: وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر أَنه مجَاز، قَالَه الْبرمَاوِيّ وَغَيره، وَاخْتَارَهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي، وَالْفَخْر الرَّازِيّ، وَالْقَاضِي أَبُو بكر الباقلاني، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع "، وَغَيرهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2554 وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّه حَقِيقَة، فعلى هَذَا القَوْل هَل يكون مَعَ الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل مُشْتَركا أَو مَوْضُوعا للقدر الْمُشْتَرك بَين الْمُتَّصِل والمنقطع فَيكون متواطئا؟ فِيهِ قَولَانِ، أَحدهمَا: إِن إِطْلَاقه عَلَيْهِ وعَلى الْمُتَّصِل من بَاب الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ، أَي: أَنه مَوْضُوع لكل مِنْهُمَا على انْفِرَاده فَإِنَّهُ لَيْسَ بَينهمَا قدر مُشْتَرك، فَإِن الْمُتَّصِل إِخْرَاج بِخِلَاف الْمُنْفَصِل. وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّه من بَاب المتواطئ، أَي: أَن حقيقتهما وَاحِدَة والاشتراك بَينهمَا معنوي، وَالله أعلم. قَالَ ابْن مُفْلِح: لتقسيم الِاسْتِثْنَاء إِلَيْهِمَا، وَالْأَصْل عدم الِاشْتِرَاك وَالْمجَاز. {وَقيل بِالْوَقْفِ} لتكافؤ الْأَدِلَّة واختلافها من الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ من زِيَادَته فِي " جمع الْجَوَامِع "، وعَلى كل الْأَقْوَال يُسمى اسْتثِْنَاء قطع بِهِ الْأَكْثَر. قَالَ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره الْكَبِير ": إِن ذَلِك بالِاتِّفَاقِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2555 لَكِن حكى الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ أَنه لَا يُسمى اسْتثِْنَاء لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا. ثمَّ قَالَ ابْن الْحَاجِب وَمن تَابعه: إِنَّه إِذا قُلْنَا إِنَّه مجَاز أَو مُشْتَرك لَا يَجْتَمِعَانِ فِي حد وَاحِد. ثمَّ عرف الْمُنْقَطع، لكنه قَالَ فِي تَعْرِيفه: (من غير إِخْرَاج) . ليخرج بِهِ الْمُتَّصِل، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنه إِذا سَقَطت هَذِه اللَّفْظَة كَانَ بَقِيَّة التَّعْرِيف شَامِلًا لَهما، ثمَّ ذكر تَعْرِيفه على القَوْل بالتواطؤ بِمَا دلّ على مُخَالفَة بإلا غير الصّفة وَأَخَوَاتهَا. وَأما ابْن مَالك فجمعهما فِي تَعْرِيفه فِي " التسهيل "، فَقَالَ فِي الْمُسْتَثْنى: هُوَ الْمخْرج تَحْقِيقا، أَو تَقْديرا من مَذْكُور، أَو مَتْرُوك بإلا، أَو بِمَا فِي مَعْنَاهَا بِشَرْط الْفَائِدَة، فَأدْخل الْمُنْقَطع بقوله: (أَو تَقْديرا) نَحْو: {مَا لَهُم بِهِ من علم إِلَّا اتِّبَاع الظَّن} [النِّسَاء: 157] ، فالظن لم يدْخل فِي الْعلم تَحْقِيقا، لكنه فِي تَقْدِير الدَّاخِل؛ إِذْ هُوَ مستحضر بِذكرِهِ، أَي: مَا لَهُم بِهِ من علم، وَلَا غَيره من الشُّعُور إِلَّا اتِّبَاع الظَّن، وَمثله، مَا فِي الدَّار أحد إِلَّا حمارا، فَإِن الْمَعْنى مَا فِيهَا عَاقل وَلَا شَيْء من متعلقاته إِلَّا الْحمار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2556 قَوْله: {وَيشْتَرط لصِحَّته مُخَالفَة فِي نفي الحكم، أَو فِي أَن الْمُسْتَثْنى حكم آخر لَهُ مُخَالفَة بِوَجْه} . لَا بُد فِي الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع من مُخَالفَة الْمُسْتَثْنى للمستثنى مِنْهُ فِي نفي الحكم، نَحْو: مَا جَاءَنِي الْقَوْم إِلَّا حمارا، أَو مَا جَاءَ زيد إِلَّا عمرا. أَو إِن فِي الْمُسْتَثْنى حكم آخر، لَهُ مُخَالفَة مَعَ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، نَحْو: مَا زَاد إِلَّا مَا نقص، وَمَا نفع إِلَّا مَا ضرّ، فَالْمَشْهُور أَنه اسْتثِْنَاء من غير الْجِنْس لاستثناء النُّقْصَان من الزِّيَادَة، وَالنُّقْصَان لَيْسَ مِنْهَا. ورد بِمَنْع كَون مَعْنَاهُ مَا زَاد إِلَّا النُّقْصَان لجَوَاز أَن لَا يكون (مَا) مَصْدَرِيَّة، بل يكون بِمَعْنى (الَّذِي) كَأَنَّهُ قَالَ: مَا زَاد إِلَّا الَّذِي نقص. قَالَ الْبرمَاوِيّ: أَي مَا زَاد المَاء إِلَّا مَا نقص، وَمَا نفع زيد إِلَّا مَا ضرّ. انْتهى. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ أَيْضا: قسم النُّحَاة الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع إِلَى مَا لَيْسَ لِلْعَامِلِ عَلَيْهِ تسلط فَيجب نَصبه بِاتِّفَاق، نَحْو: مَا زَاد المَال إِلَّا نقص، وَمَا نفع زيدا إِلَّا مَا ضرّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2557 وَمَا لِلْعَامِلِ عَلَيْهِ تسلط فالحجازيون يوجبون نَصبه، وَتَمِيم ترجحه وتجيز الْبَدَل. انْتهى. وَإِذا علم ذَلِك فَفِي (مَا) الثَّانِيَة قَولَانِ، أَحدهمَا: إِنَّهَا مَصْدَرِيَّة، قَالَه سِيبَوَيْهٍ، فَقَالَ: الأولى نَافِيَة، وَالثَّانيَِة مَصْدَرِيَّة، وفاعلهما مصدر، أَي: فلَان، ومفعولهما مَحْذُوف، أَي: إِلَّا نُقْصَانا، ومضرة. وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّهَا مَوْصُولَة بِمَعْنى الَّذِي، وَالله أعلم. فَائِدَة: قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: يَنْقَسِم الِاسْتِثْنَاء إِلَى مُنْقَطع ومتصل، وَفِي ضبط الْمُنْقَطع إِشْكَال، فكثير من الْعُقَلَاء يَعْتَقِدُونَ أَن الْمُنْقَطع الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس، وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن قَوْله تَعَالَى: {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّا الموتة الأولى} [الدُّخان: 56] مُنْقَطع على الْأَصَح مَعَ أَن الْمَحْكُوم عَلَيْهِ بعد إِلَّا هُوَ نقيض الْمَحْكُوم عَلَيْهِ أَولا وَمن جنسه. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تكون تِجَارَة} [النِّسَاء: 29] مُنْقَطع، مَعَ أَن الْمَحْكُوم عَلَيْهِ بعد إِلَّا هُوَ عين الْأَمْوَال الَّتِي حكم عَلَيْهَا قبل إِلَّا، بل الْمُحَقق أَن يعلم أَن الْمُتَّصِل عبارَة عَن أَن تحكم على جنس كَمَا حكمت عَلَيْهِ أَولا بنقيض مَا حكمت فِيهِ أَولا، فَمَتَى انخرم قيد من هذَيْن القيدين كَانَ مُنْقَطِعًا وَيكون الْمُنْقَطع بِحكم على جنس كَمَا حكمت عَلَيْهِ أَولا بِغَيْر مَا حكمت عَلَيْهِ أَولا، وعَلى هَذَا يكون الِاسْتِثْنَاء فِي الْآيَتَيْنِ مُنْقَطِعًا، فَإِن نقيض {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت} الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2558 يذوقون فِيهَا الْمَوْت وَلم يحكم بِهِ بل بالذوق فِي الدُّنْيَا، ونقيض: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} كلوها بِالْبَاطِلِ وَلم يحكم بِهِ، وعَلى هَذَا تخرج أَقْوَال الْعلمَاء فِي الْكتاب وَالسّنة ولسان الْعَرَب. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2559 (قَوْله: فصل) . {الْأَرْبَعَة وَغَيرهم شَرط الِاسْتِثْنَاء اتِّصَال مُعْتَاد لفظا، أَو حكما كانقطاعه بتنفس، وسعال، وَنَحْوه كَبَقِيَّة التوابع. عَن ابْن عَبَّاس: يَصح وَلَو بعد سنة} . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وروى سعيد، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة، ثَنَا الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ يرى الِاسْتِثْنَاء وَلَو بعد سنة، الْأَعْمَش مُدَلّس {وَمَعْنَاهُ} قَول {طَاوُوس ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2560 وَمُجاهد} . وَعَن مُجَاهِد أَيْضا: إِلَى سنتَيْن. {وَعَن ابْن عَبَّاس} أَيْضا: أَنه يَصح الِاسْتِثْنَاء {إِلَى شهر} . وَرُوِيَ عَنهُ: يَصح أبدا كَمَا يجوز التَّأْخِير فِي تَخْصِيص الْعَام، وَبَيَان الْمُجْمل. لَكِن حمل الإِمَام أَحْمد، وَجَمَاعَة من الْعلمَاء كَلَام ابْن عَبَّاس على نِسْيَان قَول (إِن شَاءَ الله تَعَالَى) ، مِنْهُم الْقَرَافِيّ. قَالَ ابْن جرير: إِن صَحَّ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس فَمَحْمُول على أَن السّنة أَن يَقُول الْحَالِف: إِن شَاءَ الله، وَلَو بعد سنة. قَالَ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ: إِنَّه لَا يثبت عَن ابْن عَبَّاس، ثمَّ قَالَ: إِن صَحَّ هَذَا عَن ابْن عَبَّاس فَيحْتَمل أَن الْمَعْنى إِذا نسيت الِاسْتِثْنَاء فَاسْتَثْنِ إِذا ذكرت، وَقيل: رَجَعَ. قَالَ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى: يحْتَمل أَيْضا أَنه رَجَعَ عَنهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2561 {و} رُوِيَ {عَن} سعيد {بن جُبَير} أَنه أجَازه {أَرْبَعَة اشهر. وَقَالَ بعض الْمَالِكِيَّة: يَصح اتِّصَاله بِالنِّيَّةِ وانقطاعه لفظا فيدين} ، قَالَ الْآمِدِيّ: وَلَعَلَّه مَذْهَب ابْن عَبَّاس. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني: لَعَلَّ مُرَاد ابْن عَبَّاس أَن يَسْتَثْنِي مُتَّصِلا بالْكلَام ثمَّ يظْهر مَا نَوَاه بعد ذَلِك، فَإِنَّهُ يدين. {وَعَن أَحْمد: يَصح فِي الْيَمين مُنْفَصِلا فِي زمن يسير إِذا لم يخلط كَلَامه بِغَيْرِهِ، وَعنهُ} أَيْضا: {وَفِي الْمجْلس، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين وَغَيره، {وَرُوِيَ عَن الْحسن وَعَطَاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2562 وَقيل} : يَصح {مَا لم يدْخل فِي كَلَام آخر} . وَقَالَ أَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي: يَصح {وَلَو تكلم. وَقيل} : يجوز ذَلِك {فِي الْقُرْآن خَاصَّة} . وَحمل بَعضهم كَلَام ابْن عَبَّاس عَلَيْهِ. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: ذهب بَعضهم إِلَى جَوَاز الِاسْتِثْنَاء الْمُنْفَصِل فِي كَلَام الله تَعَالَى، وَحمل بَعضهم كَلَام ابْن عَبَّاس عَلَيْهِ، وَأَنه جوز ذَلِك فِي استثناءات الْقُرْآن خَاصَّة. اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - بقول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليكفر عَن يَمِينه وليأت الَّذِي هُوَ خير " وَلم يقل: أَو يسْتَثْن. وَكَذَلِكَ لما أرشد الله - أَيُّوب - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - بقوله: {وَخذ بِيَدِك ضغثا فَاضْرب بِهِ وَلَا تَحنث} [ص: 44] جعل طَرِيق بره ذَلِك، وَلَو كَانَ الِاسْتِثْنَاء المتراخي يحصل بِهِ الْبر لما جعل الله تَعَالَى لَهُ الْوَسِيلَة إِلَى الْبر ذَلِك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2563 وَفِي " تَارِيخ بَغْدَاد " لِابْنِ النجار أَن الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ أَرَادَ الْخُرُوج مرّة من بَغْدَاد فاجتاز فِي بعض الطَّرِيق وَإِذا بِرَجُل على رَأسه سلة فِيهَا بقل وَهُوَ يَقُول لآخر: مَذْهَب ابْن عَبَّاس فِي تراخي الِاسْتِثْنَاء غير صَحِيح، وَلَو صَحَّ لما قَالَ الله تَعَالَى لأيوب عَلَيْهِ السَّلَام: {وَخذ بِيَدِك ضغثا ... وَلَا تَحنث} ، بل كَانَ يَقُول لَهُ: استثن، وَلَا حَاجَة إِلَى التوسل إِلَى الْبر بذلك، فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق: بَلْدَة فِيهَا رجل يحمل البقل يرد على ابْن عَبَّاس لَا تسْتَحقّ أَن يخرج مِنْهَا. انْتهى. وَحكى ابْن الْعَرَبِيّ فِي الْفِقْه، مثل ذَلِك عَن امْرَأَة قَالَت لجارتها ذَلِك كَمَا تقدم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2564 وَمن لطيف مَا يَحْكِي أَن الرشيد استدعى أَبَا يُوسُف القَاضِي وَقَالَ لَهُ: كَيفَ مَذْهَب ابْن عَبَّاس فِي الِاسْتِثْنَاء؟ فَقَالَ: يلْحق عِنْده بِالْخِطَابِ، ويغير حكمه وَلَو بعد زمَان، فَقَالَ: عزمت عَلَيْك أَن تُفْتِي بِهِ وَلَا تخَالفه. وَكَانَ أَبُو يُوسُف لطيفا فِيمَا يُورِدهُ متأنيا فِيمَا يَقُوله، فَقَالَ: رأى ابْن عَبَّاس يفْسد عَلَيْك بيعتك؛ لِأَن من حلف لَك وبايعك يرجع إِلَى منزله فَيَسْتَثْنِي، فانتبه الرشيد، وَقَالَ: إياك أَن تعرف النَّاس مذْهبه فِي ذَلِك، واكتمه. وَوَقع قريب من ذَلِك لأبي حنيفَة مَعَ الْمَنْصُور، وَكَانَ قَالَ لَهُ رجل يبغض أَبَا حنيفَة: أَبُو حنيفَة يبغض جدك ابْن عَبَّاس وَيَقُول: إِن الِاسْتِثْنَاء الْمُنْفَصِل لَا يَصح، فَقَالَ أَبُو حنيفَة: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا الرجل يُرِيد أَن يفْسد عَلَيْك دولتك، فَقَالَ: وَكَيف ذَلِك؟ قَالَ: لِأَن الِاسْتِثْنَاء الْمُنْفَصِل لَو صَحَّ لجَاز لكل من بَايَعَك عَام أول أَن يَسْتَثْنِي الْآن، أَو بعده مُدَّة اسْتثِْنَاء تحل بِهِ الْبيعَة من عُنُقه، ثمَّ يخرج عَلَيْك! فَضَحِك الْمَنْصُور، وَقَالَ لَهُ: الزم مَقَالَتك. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2565 {وَقَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {يجب إِجْرَاء الرِّوَايَتَيْنِ} اللَّتَيْنِ فِي الْيَمين المتقدمتين {فِي صلات الْكَلَام الْمُغيرَة لَهُ من تَخْصِيص، وَتَقْيِيد قِيَاسا على الْيَمين وَجوزهُ فِي الْجَزَاء مَعَ الشَّرْط، وَالْخَبَر مَعَ الْمُبْتَدَأ بِزَمن يسير} . قَوْله: {وتشترط نِيَّة الِاسْتِثْنَاء قبل تَمام الْمُسْتَثْنى مِنْهُ عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر} . تقدم أَنه يشْتَرط فِي الِاسْتِثْنَاء الِاتِّصَال الْمُعْتَاد إِلَّا مَا اسْتثْنى وَمَعَ هَذَا يشْتَرط نِيَّة الِاسْتِثْنَاء قبل تَمام الْمُسْتَثْنى مِنْهُ على الصَّحِيح من مَذْهَب الإِمَام أَحْمد، وَمذهب أَصْحَابه. قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": هَذَا الْمَذْهَب وَقَالَهُ القَاضِي وَغَيره، وَاخْتَارَهُ فِي " التَّرْغِيب " وَغَيره، وَقطع بِهِ الْمجد فِي " محرره "، وَابْن حمدَان فِي رعايته، وَصَاحب " الْحَاوِي " و " الْوَجِيز "، و " النّظم "، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2566 و " تَجْرِيد الْعِنَايَة "، و " الْمنور "، وَغَيرهم. وَهُوَ الصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِيَّة. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: اتّفق الذاهبون إِلَى اشْتِرَاط اتِّصَاله أَنه يَنْوِي فِي الْكَلَام، فَلَو لم يعرض لَهُ نِيَّة الِاسْتِثْنَاء إِلَّا بعد فرَاغ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ لم يعْتد بِهِ، ثمَّ قيل: يعْتَبر وجود النِّيَّة فِي أول الْكَلَام، وَقيل: يَكْتَفِي بوجودها قبل فَرَاغه، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح. انْتهى. {وَقيل} : يشْتَرط أَن تكون {من أول الْكَلَام} ، قَالَه فِي " التَّرْغِيب " توجيها من عِنْده. وَقد سَأَلَ أَبُو دَاوُد أَحْمد عَمَّن تزوج امْرَأَة، فَقيل: لَك امْرَأَة سوى هَذِه؟ فَقَالَ: كل امْرَأَة لي طَالِق، فَسكت، فَقيل: إِلَّا فُلَانَة، قَالَ: إِلَّا فُلَانَة فَإِنِّي لم أعنها، فَأبى أَن يُفْتِي بِهِ. وَقطع أَبُو الْفرج الشِّيرَازِيّ فِي " الْمُبْهِج "، وَصَاحب " الْمُسْتَوْعب "، و " الْمُغنِي " و " الشَّرْح ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2567 وَبعد فرَاغ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ قبل فرَاغ الْمُسْتَثْنى، قَالَ فِي " التَّرْغِيب ": هُوَ ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَقَالَ: دلّ عَلَيْهِ كَلَام أَحْمد، وَعَلِيهِ متقدمو أَصْحَابه، وَزَاد أَيْضا: لَا يضر فصل يسير بِالنِّيَّةِ وَلَا بِالِاسْتِثْنَاءِ. انْتهى. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: لَا بُد أَن يَنْوِي قبل تَمام اللَّفْظ بالمستثنى بِهِ، وَمرَاده قبل تَمام آلَة الِاسْتِثْنَاء، وَهِي إِلَّا أَو إِحْدَى أخواتها، وَالله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2568 (قَوْله: {فصل} ) {الْأَرْبَعَة وَغَيرهم لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء إِلَّا نطقا إِلَّا فِي يَمِين خَائِف بنطقه} . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء إِلَّا نطقا عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم لما سبق، يَعْنِي فِي الِاسْتِدْلَال فِي مَسْأَلَة شَرط الِاسْتِثْنَاء الِاتِّصَال، كَمَا تقدم. ثمَّ قَالَ: إِلَّا فِي يَمِين لخائف من نطقه، وَهَذَا وَاضح للضَّرُورَة. قَالَ فِي " الْفُرُوع ": وَيعْتَبر نطقه إِلَّا من مظلوم خَائِف، نَص على ذَلِك، وَلم يذكر فِي " الْمُسْتَوْعب " (خَائِف) ، وَالْأَصْحَاب على الأول، لَكِن ظَاهر مَا قدمه فِي " الْمُغنِي " و " الشَّرْح " أَنه لَا يَصح إِلَّا نطقا، وَقَالا: وَرُوِيَ عَن أَحْمد أَنه إِن كَانَ مَظْلُوما فاستثنى فِي نَفسه: رَجَوْت أَن يجوز إِذا خَافَ على نَفسه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2569 فَهَذَا فِي حق الْخَائِف على نَفسه؛ لِأَن يَمِينه غير منعقدة، أَو لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة المتأول. انْتهى. ثمَّ قَالَ ابْن مُفْلِح: {وَقَالَ بعض الْمَالِكِيَّة - فِي الْيَمين -: قِيَاس مَذْهَب مَالك صِحَّته بِالنِّيَّةِ} . انْتهى. قَوْله: {وَيجوز تَقْدِيمه عِنْد الْكل} . يَعْنِي يجوز تَقْدِيم الْمُسْتَثْنى على الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَالله إِن شَاءَ الله لَا أَحْلف على يَمِين ... " الحَدِيث مُتَّفق عَلَيْهِ، وكقول الْكُمَيْت: (وَمَا لي إِلَّا آل أَحْمد شيعَة ... وَمَالِي إِلَّا مَذْهَب الْحق مَذْهَب) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2570 قَوْله: {اسْتثِْنَاء الْكل بَاطِل} عِنْد الْعلمَاء، وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم إِجْمَاعًا، {وشذ بَعضهم} فِي حِكَايَة خلاف، فَقَالَ ابْن طَلْحَة الْمَالِكِي فِي كتاب " الْمدْخل " لَهُ فِي الْفِقْه: إِذا قَالَ: أَنْت طَالِق ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا، هَل يَقع الطَّلَاق؟ على قَوْلَيْنِ عَن مَالك. قَالَ بعض الْمَالِكِيَّة: وَمُقْتَضى هَذَا النَّقْل جَوَاز اسْتثِْنَاء الْكل من الْكل. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هَذَا على قَول مَالك، وبيض لذَلِك، وَنقل اللَّخْمِيّ عَن بَعضهم فِي قَوْله (أَنْت طَالِق وَاحِدَة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2571 إِلَّا وَاحِدَة) أَن الطَّلَاق لَا يَقع؛ لِأَن النَّدَم مُنْتَفٍ بِإِمْكَان الرّجْعَة بِخِلَاف (ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا) . وَفِي " الْهِدَايَة " للحنفية: أَن الطَّلَاق الْمُسْتَغْرق إِنَّمَا هُوَ فِي نَحْو: نسَائِي طَوَالِق إِلَّا نسَائِي، أَو أوصيت بِثلث مَالِي إِلَّا ثلث مَالِي، لَا فِي نَحْو: نسَائِي طَوَالِق إِلَّا هَؤُلَاءِ مُشِيرا إلَيْهِنَّ، أَو ثلث مَالِي إِلَّا ألف دِرْهَم، وَهُوَ ثلثه. انْتهى. قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": قلت: وَلقَائِل أَن يَقُول: إِذا قَالَ: أَنْت طَالِق ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا إِنَّه يَقع وَاحِدَة، إِذا قُلْنَا يَصح اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر، وَاثْنَتَانِ على الْمَذْهَب؛ لِأَن اسْتثِْنَاء الْأَقَل عندنَا صَحِيح، وَلنَا فِي الْأَكْثَر وَجه، فالمستثنى للثلاث جَامع بَين مَا يجوز، وَمَا لَا يجوز فَيخرج على قَاعِدَة تَفْرِيق الصَّفْقَة. انْتهى. وَمحل امْتنَاع اسْتثِْنَاء الْكل فِي غير الصّفة على مَا يَأْتِي قَرِيبا فِي كَلَام أبي الْخطاب وَغَيره، وَكَلَام ابْن مُفْلِح، وَغَيره وَمحل ذَلِك وَهُوَ بطلَان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2572 الْمُسْتَغْرق مَا لم يعقب الْمُسْتَغْرق اسْتثِْنَاء بعضه: كعشرة إِلَّا عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة، على مَا يَأْتِي الْخلاف فِيهِ فِي الْمَتْن وَالشَّرْح - إِن شَاءَ الله تَعَالَى -. قَوْله: {وَكَذَا الْأَكْثَر من عدد مُسَمّى عِنْد أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَأبي يُوسُف، وَابْن الْمَاجشون، وَأكْثر النُّحَاة} ، وَذكر ابْن هُبَيْرَة أَنه قَول أهل اللُّغَة. وَنَقله أَبُو حَامِد الإِسْفِرَايِينِيّ، وَأَبُو حَيَّان فِي " الارتشاف " عَن نحاة الْبَصْرَة، وَهُوَ أحد قولي القَاضِي أبي بكر ابْن الباقلاني، وَنَقله ابْن السَّمْعَانِيّ وَغَيره عَن الْأَشْعَرِيّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2573 {وَعند الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة، والخلال} من أَئِمَّة أَصْحَابنَا {يَصح} . قَالَ ابْن مُفْلِح: وَعند أَكثر الْفُقَهَاء، والمتكلمين يَصح. وَقيل: اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر مستقبح عِنْد الْعَرَب لَا مُمْتَنع فِي لغتهم. وَقيل: يمْتَنع اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر إِن كَانَ الْمُسْتَثْنى والمستثنى مِنْهُ فِي أعداد صَرِيحَة، نَحْو: عشرَة إِلَّا تِسْعَة، فَإِن لم يكن كَذَلِك، نَحْو: خُذ مَا فِي هَذَا الْكيس إِلَّا الزُّيُوف، وَكَانَت الزُّيُوف أَكثر من الْبَاقِي فَهُوَ جَائِز. وَقيل: يمْتَنع اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر جملَة، وَلَا يمْتَنع تَفْصِيلًا. قَالَ الْبرمَاوِيّ: قيل وَهُوَ الْمَوْجُود فِي كتب الْحَنَابِلَة، فَيمْتَنع: جَاءَ إخْوَتك الْعشْرَة إِلَّا تِسْعَة، وَيجوز إِلَّا زيدا، وعمرا، وبكرا، وَهَكَذَا لتَمام التِّسْعَة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2574 وَقيل: التَّفْصِيل بَين أَن يكون السَّامع عَالما بِأَن الْمخْرج أَكثر فَيمْتَنع أَو لَا فَيجوز. وَقيل: يجوز اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر، لَكِن لم ترد بِهِ اللُّغَة، بل ذكر قِيَاسا على التَّخْصِيص. وَقيل: قَالَ الْبرمَاوِيّ، ويعزى للحنابلة: يجوز فِي الْمُنْقَطع لَا الْمُتَّصِل فَيجوز: لَهُ عِنْدِي ألف دِرْهَم إِلَّا الثَّوْب الْفُلَانِيّ إِذا كَانَ ذَلِك الثَّوْب يُسَاوِي سِتّمائَة. ذكر هَذِه الْأَقْوَال الْبرمَاوِيّ. وَجه القَوْل الأول: أَنه لُغَة، فَمن ادَّعَاهُ فَعَلَيهِ الْبَيَان. ثمَّ نقُول: لَا يعرف لما سبق. وَأنْكرهُ الزّجاج، وَابْن قُتَيْبَة، وَابْن درسْتوَيْه، وَابْن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2575 جني، فَإِن قيل: جوزه أَكثر الْكُوفِيّين. قيل: يمْتَنع ثُبُوته عَنْهُم فِي الْأَعْدَاد، ثمَّ عَلَيْهِم الدَّلِيل، والبصريون أثبت مِنْهُم فِي اللُّغَة، كالخليل، وسيبويه، وَقد منعُوهُ، وَأنْكرهُ من تتبعه كَمَا سبق. وَأَيْضًا وضع للاستدراك والاختصار، فَمن أقرّ بِأَلف إِلَّا تِسْعمائَة [و] تِسْعَة وَتِسْعين فَهُوَ خلاف الْوَضع، وَلِهَذَا يعد قبيحا عرفا، وَالْأَصْل التَّقْرِير. وَاسْتدلَّ بِأَنَّهُ خلاف الأَصْل؛ لِأَنَّهُ إِنْكَار بعد إِقْرَار فصح فِي الْأَقَل؛ لِأَنَّهُ قد ينساه فينضر فِي الْأَقَل إِن لم يَصح. رد: بِالْمَنْعِ؛ فَإِنَّهُمَا كجملة، وَهُوَ تكلم بِالْبَاقِي، ثمَّ: بِمَنْع مُخَالفَة الأَصْل فَيصح فِي الْأَكْثَر لِئَلَّا ينضر، وَصدقه مُمكن. قَالُوا: وَقع فِي قَوْله: {إِلَّا من اتبعك من الغاوين} [الْحجر: 42] ، وَقَوله: {إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين} [الْحجر: 40] ، وَأيهمَا كَانَ أَكثر فقد اسْتَثْنَاهُ، أَو أَن الغاوين أَكثر؛ لقَوْله: {وَمَا أَكثر النَّاس وَلَو حرصت بمؤمنين} [يُوسُف: 103] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2576 رد ذَلِك: بِأَن مَحل الْخلاف إِنَّمَا هُوَ فِي الِاسْتِثْنَاء من عدد، وَأما هَذَا فتخصيص بِصفة وَفرق بَينهمَا؛ لِأَنَّهُ - كَمَا يَأْتِي قَرِيبا - يسْتَثْنى بِالصّفةِ مَجْهُول من مَعْلُوم، وَمن مَجْهُول، ويستثني الْجَمِيع أَيْضا، فَلَو قَالَ: اقْتُل من فِي الدَّار إِلَّا بني تَمِيم، أَو إِلَّا الْبيض، فَكَانُوا كلهم بني تَمِيم، أَو بيضًا لم يجز قَتلهمْ بِخِلَاف الْعدَد، ثمَّ الْجِنْس ظَاهر، وَالْعدَد صَرِيح، وَلِهَذَا فرقت اللُّغَة بَينهمَا. ثمَّ هُوَ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، أَي: لَكِن قَوْله: {إِلَّا عِبَادك مِنْهُم} يَعْنِي: ولد آدم، وَفِي الْآيَة الْأُخْرَى أضَاف الْعباد إِلَيْهِ، وَالْمَلَائِكَة مِنْهُم، فاستثنى الْأَقَل مِنْهُمَا. وَاعْتمد القَاضِي فِي " الْعدة "، وَأَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَغَيرهمَا على الْجَواب الأول، وَبِه يُجَاب عَن قَوْله تَعَالَى: " كلكُمْ جَائِع إِلَّا من أطعمته " رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي ذَر، وَلم يعرج عَلَيْهِ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2577 وَبَعض النَّاس ذكر فِيهِ خلافًا، قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ. وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": لَا خلاف فِيهِ لَكِن اتَّفقُوا أَنه لَو أقرّ بِهَذِهِ الدَّار إِلَّا هَذَا الْبَيْت صَحَّ، وَلَو كَانَ أَكثر، بِخِلَاف إِلَّا ثلثيها؛ فَإِنَّهُ على الْخلاف. وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخ فِي " المسودة ": لَا خلاف فِي جَوَازه إِذا كَانَت الْكَثْرَة من دَلِيل خَارج، لَا من اللَّفْظ. قَالُوا: كالتخصيص، وكاستثناء الْأَقَل. وَجَوَابه وَاضح، وَعجب مِمَّن ذكر الْخلاف، ثمَّ يحْتَج بِالْإِجْمَاع أَن من أقرّ بِعشْرَة إِلَّا درهما يلْزمه تِسْعَة {} تقرر أَن الْمَذْهَب لَا يَصح اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر فَكيف صحّح الْأَصْحَاب اسْتثِْنَاء الرّبع من الثَّالِث وَالْخمس من الرّبع وَنَحْو ذَلِك، وَقد تنبه أَبُو الْخطاب لهَذَا الْإِشْكَال فِي " التَّهْذِيب "، وَأجَاب عَنهُ بِأَن هَذَا لَيْسَ من بَاب اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر وَإِنَّمَا كَأَنَّهُ أوصى لَهُ بِشَيْء ثمَّ رَجَعَ عَن بعضه وَترك الْبَعْض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2578 قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": وَفِي الْجَواب نظر؛ إِذْ هُوَ تَحْويل للفظ الِاسْتِثْنَاء إِلَى غير معنى الرُّجُوع. وَأَيْضًا فَإِن الرُّجُوع لَا يكون [إِلَّا] بعد اسْتِقْرَار الحكم وَالِاسْتِثْنَاء مَانع من اسْتِقْرَار الحكم، وَحَقِيقَته [إِخْرَاج] مَا لولاه لدخل فِي اللَّفْظ، فَهُوَ مَانع من دُخُول مَا يَقْتَضِي اللَّفْظ دُخُوله، لَا أَنه يسْتَقرّ دُخُوله ثمَّ يخرج، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال فِي تحريره إِنَّا إِنَّمَا منعنَا اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر؛ لِأَنَّهُ إبِْطَال للفظ الأول، لَا تَخْصِيص لَهُ، وَهُوَ لَا يملك إبطالهما بِالرُّجُوعِ فَنزل اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر فِيهَا بِمَنْزِلَة الرُّجُوع. انْتهى. وَاسْتشْكل الْحَارِثِيّ مَسْأَلَة من لَهُ ثَلَاثَة بَنِينَ، وَأوصى بِمثل نصيب أحدهم إِلَّا ربع المَال، فأورد هَاهُنَا أَن الِاسْتِثْنَاء مُسْتَغْرق؛ لِأَن الْمثل مَعَ الثَّلَاثَة ربع فَكيف يَسْتَثْنِي مِنْهُ الرّبع؟ وَأجَاب عَنهُ بِأَن الِاسْتِثْنَاء يَتَّسِع بِهِ النَّصِيب كَذَا الْوَصِيَّة؛ لِأَن الْحَاصِل للْوَارِث مَعَ [عدم] الِاسْتِثْنَاء ربع فَقَط، وَمَعَ الِاسْتِثْنَاء ربع وَشَيْء فالمثل الْمُوصى بِهِ كَذَلِك، فَإِذا اسْتثْنى مِنْهُ الرّبع لم يكن الِاسْتِثْنَاء مُسْتَغْرقا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2579 ثمَّ قَالَ: وَلقَائِل أَن يَقُول: الزِّيَادَة على الرّبع إِنَّمَا تثبت بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالْقدر الثَّابِت بِالِاسْتِثْنَاءِ لَا يثبت قبله فَلَا يحصل بذلك تَخْلِيص عَن الْإِيرَاد، وَالله أعلم. وَأجَاب بعض الْمُتَأَخِّرين عَن الأول بِمَا ذكره الْمُوفق، وَغَيره من أَن اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر إِنَّمَا يمْتَنع من الْعدَد خَاصَّة، أما من الجموع المستغرقة فَلَا يمْتَنع اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر، وَكَذَلِكَ اخْتَار ابْن عُصْفُور، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " الْمسَائِل البغداديات " الِاتِّفَاق على ذَلِك، ذكره فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ". قَوْله: تَنْبِيهَات: {قَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {لَا خلاف فِي جَوَازه إِذا كَانَت الْكَثْرَة من دَلِيل خَارج، لَا من اللَّفْظ. وَجوز أَبُو الْخطاب، وَأَبُو يعلى الصَّغِير، وَجمع} من الْعلمَاء {اسْتثِْنَاء الْكل من الجموع غير ذَوَات الْعدَد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2580 قَالَ ابْن مُفْلِح، وَغَيره: يسْتَثْنى بِالصّفةِ مَجْهُول من مَعْلُوم، وَمن مَجْهُول، والجميع أَيْضا، كأقتل من فِي الدَّار إِلَّا بني تَمِيم، أَو الْبيض، وَيكون الْكل بني تَمِيم، أَو بيضًا} فَإِنَّهُم لَا يقتلُون، وَقد تقدم ذَلِك كُله فِي الْبَحْث الْمُتَقَدّم. قَوْله: {الثَّانِي: حَيْثُ بَطل الِاسْتِثْنَاء وَاسْتثنى مِنْهُ رَجَعَ إِلَى مَا قبله. وَقيل: يبطل الْكل. وَقيل: يعْتَبر مَا تؤول إِلَيْهِ الاستثناءات} . القَوْل الأول قَالَ فِي " تَصْحِيح الْمُحَرر ": جزم بِهِ فِي " الْمُغنِي ". وَالْقَوْل الْأَخير قَالَ فِي " تَصْحِيح الْمُحَرر ": اخْتَارَهُ القَاضِي. انْتهى. فَإِذا قَالَ: لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا عشرَة، إِلَّا ثَلَاثَة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2581 أَحدهَا: يلْزمه عشرَة، فَإِن الِاسْتِثْنَاء الأول لم يَصح، وَالثَّانِي مُرَتّب عَلَيْهِ. وَالْوَجْه الثَّانِي: يلْزمه ثَلَاثَة، واستثناء الْكل من الْكل إِنَّمَا لَا يَصح إِذا اقْتصر عَلَيْهِ، أما إِذا أعقبه باستثناء صَحِيح فَيصح؛ لِأَن الْكَلَام بِآخِرهِ. وَهَذَا الْمُرَجح عِنْد الشَّافِعِيَّة. وَالْوَجْه الثَّالِث: يلْزمه سَبْعَة، وَالِاسْتِثْنَاء الأول لَا يَصح فَيسْقط فَيبقى كَأَنَّهُ اسْتثْنى ثَلَاثَة من عشرَة. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": اسْتثِْنَاء الْكل بَاطِل إِجْمَاعًا، ثمَّ إِذا اسْتثْنى مِنْهُ فَهَل يبطل الْجَمِيع؛ لِأَن الثَّانِي فرع الأول، أم يرجع إِلَى مَا قبله؛ لِأَن الْبَاطِل كَالْعدمِ، أم يعْتَبر مَا تؤول إِلَيْهِ الاستثناءات فِيهِ أَقْوَال لنا وللعلماء. قَوْله: {وَيصِح اسْتثِْنَاء النّصْف فِي الْأَصَح عندنَا، وفَاقا للكوفيين وَبَعض الْبَصرِيين} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2582 وَقَالَ أَكثر الْبَصرِيين، والناظم، والطوفي من أَصْحَابنَا أَيْضا: لَا يَصح. وَحَكَاهُ القَاضِي أَبُو الطّيب رِوَايَة عَن أَحْمد. لِأَصْحَابِنَا فِي صِحَة اسْتثِْنَاء النّصْف وَعدمهَا وَجْهَان، وَأطلقهُمَا فِي " الْهِدَايَة "، و " الْمَذْهَب "، و " الْمُسْتَوْعب "، و " الْخُلَاصَة "، و " الْمُغنِي "، و " الْكَافِي "، و " الْهَادِي "، و " الْبلْغَة "، و " الشَّرْح "، و " الْمُحَرر "، و " النّظم "، و " الْفُرُوع "، و " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة "، وَغَيرهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2583 أَحدهمَا: يَصح - وَهُوَ الصَّحِيح كَمَا قدمْنَاهُ وصححناه -. قَالَ ابْن هُبَيْرَة: الصِّحَّة ظَاهر الْمَذْهَب، وَصَححهُ فِي " التَّصْحِيح "، و " تَصْحِيح الْمُحَرر "، و " الرِّعَايَتَيْنِ "، و " الْحَاوِي الصَّغِير "، وَاخْتَارَهُ ابْن عَبدُوس، وَجزم بِهِ فِي " الْإِرْشَاد "، و " الْوَجِيز "، و " الْمنور "، و " منتخب الأدمِيّ ". وَالْوَجْه الثَّانِي: لَا يَصح، اخْتَارَهُ ابْن عبد الْقوي فِي " منظومته "، والطوفي فِي " مُخْتَصر الرَّوْضَة "، وشارحه الْعَسْقَلَانِي. وحكاهما أَبُو الْفرج، وَصَاحب " الْخُلَاصَة "، و " رَوْضَة فقهنا " رِوَايَتَيْنِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2584 وَاخْتَارَ الصِّحَّة أَيْضا الباقلاني فِي أحد قوليه، وَنَقله ابْن السَّمْعَانِيّ عَن الْأَشْعَرِيّ. قَوْله: {وَقيل: لَا يَصح مُطلقًا من عدد} . فِي الِاسْتِثْنَاء من الْعدَد مَذَاهِب، الْمَشْهُور الْجَوَاز مُطلقًا كَغَيْرِهِ. الثَّانِي: الْمَنْع مُطلقًا، وَهُوَ هَذَا القَوْل الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَاخْتَارَهُ ابْن عُصْفُور، وَأجَاب عَن قَوْله تَعَالَى: {فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} [العنكبوت: 14] بِأَن الْألف تسْتَعْمل فِي التكثير، كَقَوْلِه: اقعد ألف سنة، أَي: زَمَانا طَويلا. {وَقيل} : لَا يَصح مُطلقًا {من عقد كنحو: عشرَة من مائَة} ، وَهُوَ القَوْل الآخر الَّذِي ذَكرْنَاهُ، فَلَا يَصح اسْتثِْنَاء عقد صَحِيح، نَحْو قَوْله: مائَة إِلَّا عشرَة، وَيجوز إِلَّا ثَلَاثَة. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَعَن جمَاعَة من أهل اللُّغَة لَا يَصح اسْتثِْنَاء عقد كعشرة من مائَة، بل بعضه كخمسة. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2585 (قَوْله: {فصل} ) {الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة، وأصحابهم إِذا تعقب الِاسْتِثْنَاء جملا بواو عطف، وَصلح عوده إِلَى كل وَاحِدَة فللجميع، إِلَّا لمَانع، كبعد مُفْرَدَات، وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، والرازي، وَالْمجد، للأخيرة. وَقيل: مَعْنَاهُ [فِي] الْكِفَايَة إِن تبين إضراب عَن الأولى فللأخيرة، وَإِلَّا فللكل، والإضراب أَن يختلفا نوعا أَو اسْما مُطلقًا، أَو حكما اشتركت الجملتان فِي غَرَض أَو لَا، وَالْغَرَض الْحمل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2586 ووقف جمع، وَقَالَ المرتضي بالاشتراك، والآمدي إِن ظهر أَن الْوَاو للابتداء فللأخيرة أَو عاطفة للْجَمِيع، وَإِن أمكنا فالوقف. وَقيل: إِن كَانَ بَينهمَا تعلق، وَإِلَّا فللأخيرة} . اعْلَم أَن الِاسْتِثْنَاء إِذا تعقب جملا مذكورات متعاطفة بِالْوَاو، فَإِن لم يُمكن عوده إِلَى كل مِنْهَا لدَلِيل اقْتضى عوده إِلَى الأولى فَقَط، أَو إِلَى الْأَخِيرَة فَقَط، أَو كَانَ عَائِدًا إِلَى كل مِنْهَا بِالدَّلِيلِ فَلَا خلاف فِي الْعود إِلَى مَا قَامَ لَهُ الدَّلِيل، وَإِن أمكن بِأَن تجرد عَن قرينَة شَيْء من ذَلِك فَهُوَ مَحل الْخلاف الْآتِي بَيَانه. مِثَال مَا دلّ على عوده إِلَى الأول دَلِيل فَيَعُود إِلَيْهِ قطعا قَوْله تَعَالَى: {إِن الله مبتليكم بنهر فَمن شرب مِنْهُ فَلَيْسَ مني وَمن لم يطعمهُ فَإِنَّهُ مني إِلَّا من اغترف غرفَة بِيَدِهِ} [الْبَقَرَة: 249] ، فالاستثناء من اغترف إِنَّمَا يعود إِلَى (مِنْهُ) لَا إِلَى (من لم يطعمهُ) . وَقَوله تَعَالَى: {لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد وَلَا أَن تبدل بِهن من أَزوَاج ... إِلَّا مَا ملكت يَمِينك} [الْأَحْزَاب: 52] فاستثناء (مَا ملكت يَمِينك) يعود الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2587 إِلَى لفظ النِّسَاء لَا إِلَى الْأزْوَاج؛ لِأَن زَوجته لَا تكون ملك يَمِينه. وَحَدِيث: " لَيْسَ على الْمُسلم فِي عَبده، وَلَا فِي فرسه صَدَقَة إِلَّا زَكَاة الْفطر فِي الرَّقِيق " وَنَحْو ذَلِك مَا قَالَه الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا جَاءَهُم أَمر من الْأَمْن أَو الْخَوْف أذاعوا بِهِ} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا قَلِيلا} [النِّسَاء: 83] أَنه اسْتثِْنَاء من الْجُمْلَة الأولى. وَمِثَال الْعَائِد إِلَى الْأَخير جزما للدليل إِلَّا إِلَى غَيره قَوْله تَعَالَى: {فَإِن كَانَ من قوم عَدو لكم وَهُوَ مُؤمن} الْآيَة [النِّسَاء: 92] فَإِن (إِلَّا أَن يصدقُوا) إِنَّمَا يعود للدية لَا لِلْكَفَّارَةِ. وَنَحْوه: {إِلَّا عابري سَبِيل} [النِّسَاء: 43] لَا يعود للسكارى؛ لِأَن السَّكْرَان مَمْنُوع من دُخُول الْمَسْجِد؛ إِذْ لَا يُؤمن تلويثه، ... ... ... ... الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2588 قَالَه الْعلمَاء. أَو يعود للأخير جزما وَإِن كَانَ فِي غَيره مُحْتملا، فَيجْرِي فِيهِ الْخلاف كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات} الْآيَة [النُّور: 4] ف {إِلَّا الَّذين تَابُوا} [النُّور: 5] عَائِد إِلَى الْإِخْبَار بِأَنَّهُم فَاسِقُونَ قطعا حَتَّى يَزُول عَنْهُم بِالتَّوْبَةِ اسْم الْفسق. بل قَالَ بعض الْعلمَاء: وَيلْزم مِنْهُ لَازم الْفسق، وَهُوَ عدم قبُول الشَّهَادَة، خلافًا لأبي حنيفَة إِنَّه يَزُول اسْم الْفسق، وَلَا تقبل شَهَادَته عملا بِمَا سَيَأْتِي من قَاعِدَته وَهُوَ الْعود إِلَى الْأَخير، لَا إِلَى غَيره. وَلَا يعود فِي هَذِه الْآيَة للجلد الْمَأْمُور بِهِ قطعا؛ لِأَن حد الْقَذْف حق لآدَمِيّ فَلَا يسْقط بِالتَّوْبَةِ، وَهل يعود إِلَى قبُول الشَّهَادَة فَيقبل إِذا تَابَ أَو لَا فَلَا يقبل؟ فِيهِ الْخلاف الْآتِي. وَمِثَال الْعَائِد إِلَى الْكل قطعا بِالدَّلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله} الْآيَة [الْمَائِدَة: 33] ف {إِلَّا الَّذين تَابُوا} عَائِد إِلَى الْجَمِيع بِالْإِجْمَاع، كَمَا قَالَه ابْن السَّمْعَانِيّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2589 وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} الْآيَة ف {إِلَّا مَا ذكيتم} [الْمَائِدَة: 3] عَائِد إِلَى الْكل، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر} [الْفرْقَان: 68] ف {إِلَّا من تَابَ} عَائِد إِلَى الْجَمِيع، قَالَ السُّهيْلي: بِلَا خلاف. أما مَا تجرد عَن الْقَرَائِن، وَأمكن عوده إِلَى الْأَخير، وَلغيره فَفِيهِ مَذَاهِب: أَحدهَا: الْعود إِلَى الْجَمِيع، وَهُوَ مَذْهَب الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة: مَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد وأصحابهم، وَغَيرهم. نَقله الْمَاوَرْدِيّ، وَالرُّويَانِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي " سنَنه " عَن الشَّافِعِي، وَنَقله ابْن الْقصار عَن مَالك، وَقَالَ: إِنَّه الظَّاهِر من مَذَاهِب أَصْحَابه، وَهُوَ الرَّاجِح من مَذْهَبنَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2590 وَنَقله الْأَصْحَاب عَن نَص أَحْمد حَيْثُ قَالَ فِي حَدِيث: " لَا يُؤمن الرجل فِي سُلْطَانه وَلَا يجلس على تكرمته إِلَّا بِإِذْنِهِ ": أَرْجُو أَن يكون الِاسْتِثْنَاء على كُله. وَقَالَ القَاضِي: نَص عَلَيْهِ فِي كتاب طَاعَة الرَّسُول. قَوْلنَا: {كبعد مُفْرَدَات} ، قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": والوارد بعد مُفْرَدَات أولى بِالْكُلِّ. انْتهى. قَالَ الْمحلي: الْوَارِد بعد مُفْرَدَات، نَحْو: تصدق على الْفُقَرَاء، وَالْمَسَاكِين، وَأَبْنَاء السَّبِيل، إِلَّا الفسقة مِنْهُم، أولى بِالْكُلِّ أَي: بعوده للْكُلّ من الْوَارِد بعد جمل لعدم اسْتِقْلَال الْمُفْردَات. انْتهى. تَنْبِيه: قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: لفظ الْجمل يُرَاد بِهِ مَا فِيهِ شُمُول لَا الْجمل النحوية، لَكِن القَاضِي أَبُو يعلى، - وَغَيره - ذكر الْأَعْدَاد من صورها وَسوى بَين قَوْله رجل، وَرجل وَبَين قَوْله رجلَيْنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2591 وَذكر أَصْحَابنَا فِي الِاسْتِثْنَاء فِي الْإِقْرَار والعطف إِذا تعقب جملتين هَل يعود إِلَيْهِمَا، أَو إِلَى الثَّانِيَة؟ على وَجْهَيْن كَمَا لَو عطف على مُسْتَثْنى فَهَل يصير الْمَعْطُوف، والمعطوف عَلَيْهِ كجملة، أَو كجملتين؟ على وَجْهَيْن. وَقَالَ أَيْضا: وَكثير من النَّاس يدْخل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الِاسْتِثْنَاء المتعقب اسْما فيريدون بقَوْلهمْ جملَة الْجُمْلَة الَّتِي تقبل الِاسْتِثْنَاء، لَا يُرِيدُونَ الْجُمْلَة من الْكَلَام، وَلَا بُد من الْفرق فَإِنَّهُ فرق بَين أَن يُقَال: أكْرم هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاء إِلَّا الْفُسَّاق، أَو يُقَال: أكْرم هَؤُلَاءِ، وَأكْرم هَؤُلَاءِ إِلَّا الْفُسَّاق، ذكره فِي " المسودة "، وَابْن قَاضِي الْجَبَل عَنهُ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: الْمَشْهُور أَن الْجُمْلَة هِيَ الاسمية من مُبْتَدأ وَخبر، والفعلية من فعل، وفاعل، وَقَالَ ابْن تَيْمِية - إِلَى آخِره - ثمَّ قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَحَاصِله يرجع إِلَى أَن من عبر بِالْجُمْلَةِ فَإِنَّمَا أَرَادَ الْأَعَمّ بالتقرير الَّذِي ذكره - ابْن تَيْمِية - وَهُوَ حسن. انْتهى. الْمَذْهَب الثَّانِي: أَنه يعود للأخيرة فَقَط، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، وَأكْثر أَصْحَابه، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ فِي " المعالم "، وَالْمجد ابْن تَيْمِية فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2592 " المسودة "، وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " الْقَوَاعِد ": إِنَّه الْأَشْبَه. وَنَقله صَاحب " الْمُعْتَمد " عَن الظَّاهِرِيَّة، ويحكى عَن أبي عبد الله الْبَصْرِيّ، وَعَن الْكَرْخِي، وَإِلَيْهِ ذهب الْفَارِسِي، والمهاباذي فِي " شرح اللمع ". وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة: إِن شَهَادَة الْقَاذِف مَرْدُودَة، وَلَو تَابَ. الْمَذْهَب الثَّالِث: قَول جمَاعَة من الْمُعْتَزلَة، مِنْهُم: عبد الْجَبَّار، وَأَبُو الْحُسَيْن، وَمَعْنَاهُ للْقَاضِي أبي يعلى فِي " الْكِفَايَة ": إِن تبين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2593 إضراب عَن الأولى فللأخيرة وَإِلَّا فللكل ... إِلَى آخِره. قَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر ": وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن: إِن تبين الإضراب عَن الْجُمْلَة الأولى فللأخيرة، وَإِلَّا فللجميع، والإضراب إِنَّمَا يتَحَقَّق باخْتلَاف الجملتين بالنوع بِأَن تكون إِحْدَاهمَا طلبا، وَالْأُخْرَى خَبرا، مثل أَن يُقَال: جَاءَ الْقَوْم وَأكْرم بني تَمِيم إِلَّا الطوَال، أَو باختلافهما اسْما، وَلَا يكون الِاسْم فِي الْجُمْلَة الثَّانِيَة ضميرا للاسم فِي الْجُمْلَة الأولى، مثل: أكْرم بني تَمِيم ... ، وأهن بني خَالِد إِلَّا الطوَال. وَمِثَال مَا يكون الِاسْم فِي الثَّانِي ضميرا للْأولِ، مثل: أكْرم بني تَمِيم واستأجرهم إِلَّا الصغار. قلت: هَذَا معنى قَوْلنَا: أَو اسْما مُطلقًا، أَعنِي سَوَاء كَانَ الضَّمِير فِي الثَّانِيَة ضميرا للأولى، أَو لَا. انْتهى. أَو باختلافهما حكما وَلَا تكون الجملتان مشتركتين فِي غَرَض، مثل: أكْرم بني تَمِيم، واستأجر بني تَمِيم إِلَّا الضُّعَفَاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2594 وَمِثَال مَا تكون الجملتان مشتركتين فِي غَرَض، مثل: أكْرم الضَّعِيف وَتصدق على الْفَقِير فَإِنَّهُمَا مُشْتَركا فِي غَرَض، وَهَذَا الْحمل. انْتهى. فاعتمد على هَذَا فَإِنَّهُ مُحَرر. وَفِي كَلَام ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَفِي " قَوَاعِد الْأُصُول " نوع خلل فِيمَا يظْهر، وَالله أعلم. الْمَذْهَب الرَّابِع: الْوَقْف؛ حَتَّى تقوم قرينَة تصرفه للْكُلّ، أَو للأخيرة، أَو للأولى، أَو للوسطى، كَمَا فِي الْأَمْثِلَة السَّابِقَة. قَالَ سليم: وَهُوَ مَذْهَب الأشعرية. وَحَكَاهُ ابْن برهَان عَن الباقلاني، وَاخْتَارَهُ الْغَزالِيّ، والرازي فِي " الْمُنْتَخب "، وَفِي الْكَلَام على التَّخْصِيص من " الْمَحْصُول " التَّصْرِيح بِهِ. وَحَكَاهُ ألكيا عَن اخْتِيَار إِمَام الْحَرَمَيْنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2595 الْمَذْهَب الْخَامِس: قَول المرتضى، وَهُوَ الِاشْتِرَاك بَين عوده الْكل وللأخيرة، وَهَذَا القَوْل مُخَالف لتوقف الباقلاني وَغَيره؛ فَإِنَّهُ لعدم الْعلم بمدلوله لُغَة، وَقد غاير فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَغَيره بَين الِاشْتِرَاك وَالْوَقْف، ووافقناهم على ذَلِك. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالصَّوَاب أَنه قَول وَاحِد، وَإِن اخْتلف مدرك الْوَقْف. الْمَذْهَب السَّادِس: اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ إِن ظهر أَن الْوَاو للابتداء كالقسم الأول فللأخيرة، أَو عاطفة فللجميع، وَإِن أمكنا فالوقف. الْمَذْهَب السَّابِع: إِن كَانَ بَينهمَا تعلق، كأكرم الْعلمَاء، والزهاد، وَأنْفق عَلَيْهِم، إِلَّا المبتدع، فللجميع، وَإِلَّا فللأخيرة. وَفِي الْمَسْأَلَة مَذَاهِب أخر يطول الْكَلَام بذكرها فليقتصر على هَذَا الْقدر، فَفِيهِ كِفَايَة. وَجه الْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح -: أَن الْعَطف يَجْعَل الْجَمِيع كواحد. رد: إِنَّمَا هَذَا فِي الْمُفْردَات، وَأما فِي الْجمل فَمحل النزاع. قَالُوا: كالشرط فَإِنَّهُ للْجَمِيع، كَذَلِك هُنَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2596 رد: بِالْمَنْعِ، ثمَّ قِيَاس فِي اللُّغَة، ثمَّ الْفرق أَن الشَّرْط رتبته التَّقْدِيم لُغَة بِلَا شكّ فالجمل هِيَ الشَّرْط وَالْجَزَاء لَهَا. قَالُوا: لَو كرر الِاسْتِثْنَاء كَانَ مستهجنا قبيحا لُغَة، ذكره الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " باتفاقهم. رد: بِالْمَنْعِ لُغَة، قَالَه الْآمِدِيّ، وَلِهَذَا روى سعيد عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " لَا يؤم الرجلُ الرجل فِي سُلْطَانه إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يقْعد على تكرمته فِي بَيته إِلَّا بِإِذْنِهِ "، ثمَّ عِنْد قرينَة اتِّصَال الْجمل، ثمَّ الاستهجان لترك الِاخْتِصَار؛ لِأَنَّهُ يُمكن بعد الْجمل، إِلَّا كَذَا فِي الْجَمِيع. قَالُوا: صَالح للْجَمِيع فَكَانَ لَهُ كالعام فبعضه تحكم. رد: لَا ظُهُور بِخِلَاف الْعَام، وَالْجُمْلَة الْأَخِيرَة أولى لقربها. قَالُوا: خَمْسَة، وَخَمْسَة إِلَّا سِتَّة للْجَمِيع إِجْمَاعًا، ذكره فِي " التَّمْهِيد "، فَدلَّ على أَن المُرَاد بالجمل مَا يقبل الِاسْتِثْنَاء، لَا الْجمل النحوية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2597 وَلِهَذَا ذكر القَاضِي، وَغَيره الْأَعْدَاد من صورتهَا، وَسوى بَين قَوْله: رجل وَرجل، وَقَوله: رجلَيْنِ. ورد: مُفْرَدَات، وَالْخلاف فِي الْجمل، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَقَالَ: فرق بَين: أكْرم هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء إِلَّا الْفُسَّاق، وَبَين: أكْرم هَؤُلَاءِ وَأكْرم هَؤُلَاءِ إِلَّا الْفُسَّاق، وَإِن سلم؛ فلتعذره ليَصِح الْكَلَام. وَاقْتصر الْآمِدِيّ على منع صِحَة الِاسْتِثْنَاء. وَاحْتج الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فَقَالَ: من تَأمل غَالب الاستثناءات فِي الْكتاب وَالسّنة، واللغة وجدهَا للْجَمِيع، وَالْأَصْل إِلْحَاق الْمُفْرد بالغالب، فَإِذا جعلت حَقِيقَته فِي الْغَالِب مجَازًا فِيمَا قل، عمل بِالْأَصْلِ النَّافِي للاشتراك وَالْأَصْل النَّافِي للمجاز، وَهُوَ أولى من تَركه مُطلقًا. الْقَائِل يخْتَص بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَة لم يرجع فِي آيَة الْقَذْف إِلَى الْجلد، فَكَذَا غَيرهَا دفعا للاشتراك، وَالْمجَاز. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2598 رد: بِالْمَنْعِ فِي رِوَايَة عَن أَحْمد، ثمَّ لِأَنَّهُ حق آدَمِيّ فَلَا يسْقط بِالتَّوْبَةِ؛ وَلِهَذَا عَاد إِلَى غَيره. قَالُوا: {اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن} [النِّسَاء: 23] شَرط فِي الربائب دون أُمَّهَات النِّسَاء. رد: لَيْسَ باستثناء، ثمَّ لِأَنَّهُ من تَتِمَّة نعت الربائب، وَلِأَن {نِسَائِكُم} الأولى مجرورة بِالْإِضَافَة، وَالثَّانيَِة بِمن فتمتنع الصّفة لاخْتِلَاف الْجَرّ، كاختلاف الْعَمَل، ثمَّ للنَّص. قَالُوا: (عَليّ عشرَة إِلَّا أَرْبَعَة، إِلَّا اثْنَيْنِ) للأخير. رد: لَا عطف، ومفردات، ثمَّ لتعذره؛ لِأَن الِاسْتِثْنَاء من الْإِثْبَات نفي، وَمن النَّفْي إِثْبَات، وَلَو تعذر الْأَخير فَالْأول، كعشرة إِلَّا اثْنَيْنِ إِلَّا اثْنَيْنِ. قَالُوا: الْجُمْلَة الثَّانِيَة فاصلة كالسكوت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2599 رد: الْجمل كجملة، ثمَّ يجب أَن لَا يعود إِلَى الْجَمِيع فِي مَوضِع. قَالُوا: ثَبت حكم الأولى، وَعوده إِلَيْهَا مَشْكُوك فِيهِ. رد: بِالْمَنْعِ، ثمَّ إِنَّمَا ثَبت بِالسُّكُوتِ من غير اسْتثِْنَاء، ذكره فِي " الْعدة "، و " التَّمْهِيد "، و " الرَّوْضَة "، وَغَيرهَا. قَالَ بعض أَصْحَابنَا: هَذَا جيد فَإِنَّهُ مَانع، لَا رَافع. وَمنع ابْن عقيل كَالْأولِ، ثمَّ عَارض بتخصيص قَاطع بِظَاهِر. ثمَّ يبطل بِالشّرطِ. قَالُوا: عوده لعدم استقلاله فتندفع الضَّرُورَة بِالْأَقَلِّ، وَمَا يَلِيهِ مُتَيَقن. رد: بِالْمَنْعِ، بل لصلاحيته، وظهوره فالجمل كجملة، ثمَّ يبطل بِالشّرطِ. الْقَائِل بالاشتراك: حسن الِاسْتِفْهَام عَن عوده لعدم الْعلم، أَو لرفع الِاحْتِمَال. قَالُوا: أطلق، وَالْأَصْل الْحَقِيقَة. رد: سبق تعَارض الِاشْتِرَاك وَالْمجَاز. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2600 قَوْله: {تَنْبِيهَانِ: الأول: ألحق جمع وَالشَّيْخ - وَقَالَ: هُوَ مُوجب قَول أَصْحَابنَا وَغَيرهم -، مَا فِي معنى الْوَاو بهَا} . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَقَوْلنَا فِي فرض الْمَسْأَلَة: الْوَاو العاطفة. كَذَا فِي " الْعدة "، و " التَّمْهِيد "، وَغَيرهمَا فِي بحث الْمَسْأَلَة، أَن وَاو الْعَطف تجْعَل الْجمل كجملة، وَكَذَا بحثوا أَن الْوَاو للْجمع الْمُطلق لَا تَرْتِيب فِيهَا. وَأَنه هُوَ الْمَعْنى الْمُوجب جعل كجملة وبنوا على ذَلِك: أَنْت طَالِق، وَطَالِق، وَطَالِق إِلَّا وَاحِدَة، هَل يَصح الِاسْتِثْنَاء؟ وَأَنه لَو أَتَى بِالْفَاءِ، أَو ثمَّ لم يَصح؛ لِأَن التَّرْتِيب أفرد الْأَخِيرَة عَمَّا قبلهَا فاختص بهَا الِاسْتِثْنَاء فَلم يَصح. وَكَذَا لم أجد إِلَّا من خص الْوَاو بذلك، إِلَّا مَا قَالَ بعض أَصْحَابنَا - يَعْنِي بِهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين -. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2601 إِن أَصْحَابنَا وَغَيرهم أطْلقُوا، فموجب مَا ذَكرُوهُ لَا فرق، وَأَنه يلْزم من التَّفْرِقَة أَن لَا تشترك (الْفَاء) و (ثمَّ) حَيْثُ تشترك الْوَاو، وَهُوَ خلاف للغة، وَأَن من فرق - وَهُوَ أَبُو الْمَعَالِي - قَوْله بعيد جدا، وَأَنه اعْترف بِأَن الْأَئِمَّة أطْلقُوا، كَذَا قَالَ. انْتهى كَلَام ابْن مُفْلِح. قلت: صرح القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني فِي " التَّقْرِيب " بِأَن غير الْوَاو الَّتِي مَعْنَاهَا كالواو، فَقَالَ: إِذا عطفت بِأَيّ حرف كَانَ من فَاء، وَاو، وَغَيرهمَا. أَي: مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُمَا. وَكَذَا أَبُو الْمَعَالِي فِي " النِّهَايَة "، فَقَالَ: إِن الظَّاهِر أَن ثمَّ، وَحَتَّى، وَالْفَاء، مثل الْوَاو فِي ذَلِك. لَكِن نقل الرَّافِعِيّ عَنهُ أَنه قَيده بِالْوَاو. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمَحْصُول ": إِنَّه لم ير التَّقْيِيد لأحد بِالْوَاو، قبل الْآمِدِيّ. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2602 قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالصَّوَاب أَن مَا كَانَ مثل الْوَاو فِي اقْتِضَاء الْمُشَاركَة كالواو. وَعبارَة ابْن الْقشيرِي: أما إِذا اشْتَمَل الْكَلَام على جمل مُنْقَطِعَة تنبئ كل وَاحِد عَمَّا لَا تنبئ عَنهُ أخواتها، لَكِنَّهَا جمعت بِحرف من حُرُوف الْعَطف جَامع فِي مُقْتَضى الْوَضع، ثمَّ تعقب باستثناء فَهَذَا مَحل الْخلاف. وَنَحْوه عبارَة الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ. {وَقيل: يخْتَص بِالْوَاو} ، وَهَذَا قَالَه القَاضِي أَبُو يعلى، وَأَبُو الْخطاب، وَغَيرهمَا من الْأَصْحَاب، كَمَا نَقله ابْن مُفْلِح كَمَا تقدم، وَقَالَهُ أَبُو الْمَعَالِي، نَقله عَنهُ الرَّافِعِيّ، وَقَالَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن الساعاتي، وَغَيرهم. قَوْله: {الثَّانِي: مثل (بني تَمِيم وَرَبِيعَة أكْرمهم إِلَّا الطوَال) للْكُلّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2603 قَالَ الشَّيْخ: لَو قَالَ: أَدخل بني هَاشم، ثمَّ بني الْمطلب، ثمَّ سَائِر قُرَيْش وَأكْرمهمْ، فَالضَّمِير للْكُلّ} ، ذكر ذَلِك ابْن مُفْلِح. وَقَالَ عَن الصُّورَة الأولى: جعلهَا فِي " التَّمْهِيد " أصلا للمسألة الَّتِي قبلهَا، كَذَا قَالَ، كَأَنَّهُ يَقُول: إِن الْخلاف لَيْسَ بجار فِيهَا، وعَلى قَوْله فِي " التَّمْهِيد " الْخلاف جَار فِيهَا. وَقَالَ عَن الصُّورَة الثَّانِيَة عَن قَوْله: الضَّمِير (للْجَمِيع) ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوع لما تقدم، وَلَيْسَ من الْمَسْأَلَة قبلهَا. انْتهى. الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَالَهَا الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، رَأَيْتهَا لَهُ فِي مَسْأَلَة استفتى عَلَيْهَا فِيمَن وقف على أَوْلَاده، ثمَّ على أَوْلَاد أَوْلَاده، ثمَّ على أَوْلَاد أَوْلَاد أَوْلَاده على أَنه من مَاتَ مِنْهُم من غير ولد، فَنصِيبه لمن فِي دَرَجَته، كتب عَلَيْهَا قريب خمس كراريس، فَقَالَ: لَو قَالَ: أَدخل بني هَاشم، ثمَّ بني الْمطلب، ثمَّ سَائِر قُرَيْش فأكرمهم، كَانَ الضَّمِير عَائِدًا إِلَى مَا تقدم ذكره، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2604 وَلَيْسَ هَذَا من بَاب اخْتِلَاف النَّاس فِي الِاسْتِثْنَاء المتعقب جملا، هَل يعود إِلَى الْأَخِيرَة، أَو إِلَى الْكل؟ لِأَن الْخلاف هُنَاكَ إِنَّمَا نَشأ؛ لِأَن الِاسْتِثْنَاء يرفع بعض مَا دخل فِي اللَّفْظ، وَهَذَا الْمَعْنى غير مَوْجُود فِي الضَّمِير؛ فَإِن الضَّمِير اسْم مَوْضُوع لما تقدم ذكره، وَهُوَ صَالح للْعُمُوم على سَبِيل الْجمع فَإِذا كَانَ كَذَلِك وَجب حمله على الْعُمُوم إِذا لم يقم مُخَصص، وعَلى هَذَا فَحمل الضَّمِير على الْعُمُوم حَقِيقَة، وَحمله على الْخُصُوص مثل تَخْصِيص اللَّفْظ الْعَام. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2605 (قَوْله: {فصل} ) أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَبِالْعَكْسِ خلافًا للحنفية} - أَي: لمعظمهم -، {ولبعضهم} - أَي بعض الْحَنَفِيَّة - {فيهمَا} - أَي: أَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي لَيْسَ بِإِثْبَات، وَلَا عَكسه -. فعلى الأول إِذا قَالَ: لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا درهما، كَانَ إِقْرَارا بِتِسْعَة، وَإِذا قَالَ: لَيْسَ لَهُ عَليّ شَيْء إِلَّا درهما، كَانَ مقرا بدرهم. وعَلى قَول الْحَنَفِيَّة فِي: لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا درهما، تِسْعَة من حَيْثُ أَن الدِّرْهَم الْمخْرج منفي بِالْأَصَالَةِ، لَا من حَيْثُ إِن الِاسْتِثْنَاء من الْإِثْبَات نفي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2606 وَلَا يوجبون فِي: لَيْسَ لَهُ عَليّ شَيْء إِلَّا درهما شَيْئا؛ إِذْ المُرَاد (إِلَّا درهما) فَإِنِّي لَا أحكم عَلَيْهِ بِشَيْء، وَلَا إِقْرَار إِلَّا مَعَ حكم ثَابت. إِذا علم ذَلِك فقد حكى الرَّازِيّ، وَطَائِفَة: الْخلاف عَن الْحَنَفِيَّة فِي أَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات، أَو لَا، وَأَن الِاتِّفَاق على أَن الِاسْتِثْنَاء من الْإِثْبَات نفي، وَحكى الْخلاف فِي الْأَمريْنِ مَعًا الْقَرَافِيّ فَقَالَ: الْخلاف مَوْجُود عِنْدهم فيهمَا. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَلَا تعَارض بَين النقلين، فَإِن من حكى تَعْمِيم الْخلاف أَرَادَ مَا قَرَّرْنَاهُ من ثُبُوت الْوَاسِطَة بَين الْحكمَيْنِ، وَهُوَ عدم الْحكمَيْنِ بِنَاء على أَن تقَابل حكم الْمُسْتَثْنى والمستثنى مِنْهُ يُقَابل نقيضين عِنْدهم، حكم وَعدم حكم، وتقابل شدين عِنْد الْجُمْهُور، وَمن حكى الِاتِّفَاق فِي صُورَة الِاسْتِثْنَاء من الْإِثْبَات على أَنه أَرَادَ الِاتِّفَاق على أصل النَّفْي فِيهِ، لَا على أَن النَّفْي مُسْتَند للاستثناء كَمَا قرر، فَلَا يظْهر حِينَئِذٍ للْخلاف مَعَهم فِي الْإِثْبَات فَائِدَة. انْتهى. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: الِاتِّفَاق على إِثْبَات نقيض مَا قبل الِاسْتِثْنَاء بعده فالجماهير يثبتون نقيض الْمَحْكُوم بِهِ، وَالْحَنَفِيَّة يثبتون نقيض الحكم فَيكون مَا بعد الِاسْتِثْنَاء غير مَحْكُوم عَلَيْهِ. قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَبِالْعَكْسِ خلافًا لأبي حنيفَة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2607 قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شَرحه ": الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات، وَمن الْإِثْبَات نفي، هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي وَالْجُمْهُور، وَخَالف أَبُو حنيفَة فيهمَا كَمَا حَكَاهُ الْهِنْدِيّ، وَتَبعهُ المُصَنّف، لَكِن الرَّازِيّ فِي " المعالم " جعل الْخلاف فِي الأولى فَقَط، وَحكى الِاتِّفَاق على أَن الِاسْتِثْنَاء من الْإِثْبَات نفي. اسْتدلَّ لقَوْل الْجُمْهُور، فَقَالَ ابْن مُفْلِح: لنا اللُّغَة، وَأَن قَول الْقَائِل: لَا إِلَه إِلَّا الله، تَوْحِيد، وتبادر فهم كل من سمع لَا عَالم إِلَّا زيد، وَلَيْسَ لَك على شَيْء إِلَّا دِرْهَم، إِلَى علمه، وَإِقْرَاره. فَإِن قيل: فَلَو قَالَ: لَيْسَ لَهُ عَليّ، أَو عِنْدِي عشرَة إِلَّا خَمْسَة، قيل: لنا وللشافعية خلاف. وَقيل: لَا يلْزمه شَيْء؛ لِأَن قَصده نفي الْخَمْسَة، وَإِلَّا لأتى بِكَلَام الْعَرَب لَيْسَ لَهُ عَليّ إِلَّا خَمْسَة. وَقيل: يلْزمه خَمْسَة؛ لِأَنَّهُ إِثْبَات من نفي؛ لِأَن التَّقْدِير: لَيْسَ لَهُ عَليّ عشرَة، لَكِن خَمْسَة. قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَا يلْزمه شَيْء عِنْد الْأَكْثَر. انْتهى. قَالُوا: لَو كَانَ لزم من قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور " ثُبُوتهَا بِالطَّهَارَةِ، وَمثله: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي "، و " لَا تَبِيعُوا الْبر بِالْبرِّ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2608 رد: لَا يلْزم؛ لِأَنَّهُ اسْتثِْنَاء من غير الْجِنْس، وَإِنَّمَا سبق لبَيَان اشْتِرَاط الطّهُور للصَّلَاة، وَلَا يلْزم من وجود الشَّرْط وجود الْمَشْرُوط. وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة ": هَذِه صِيغَة الشَّرْط ومقتضاها نَفيهَا عِنْد نَفيهَا، ووجودها عِنْد وجودهَا لَيْسَ منطوقا، بل من الْمَفْهُوم، فنفي شَيْء لانْتِفَاء شَيْء لَا يدل على إثْبَاته عِنْد وجوده، بل يبْقى كَمَا قبل النُّطْق بِخِلَاف لَا عَالم إِلَّا زيد. قَالَ بعض أَصْحَابنَا: جعله الْمُثبت من قَاعِدَة الْمَفْهُوم لَيْسَ بجيد، وَكَذَا جعله ابْن عقيل فِي " الْفُصُول " فِي قَول أَحْمد: كل شَيْء يُبَاع قبل قَبضه إِلَّا مَا كَانَ مَأْكُولا. وَقد احْتج القَاضِي على أَن النِّكَاح لَا يفْسد بِفساد الْمهْر بقوله: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي، وشاهدي عدل "، قَالَ: فَاقْتضى الظَّاهِر صِحَّته، وَلم يفرق. قَالَ أَصْحَابنَا: هَذِه دلَالَة ضَعِيفَة. فَإِن قيل: فِيهِ إِشْكَال سوى ذَلِك، وَهُوَ أَن المُرَاد النَّفْي الْأَعَمّ، أَي: لَا صفة للصَّلَاة مُعْتَبرَة إِلَّا صفة الطَّهَارَة، فنفي الصِّفَات الْمُعْتَبرَة وَأثبت الطَّهَارَة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2609 وَقيل: المُرَاد من نَفيهَا الْمُبَالغَة فِي إِثْبَات تِلْكَ الصّفة، وَأَيْضًا آكدها، وَالْقَوْل بِأَنَّهُ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع فَلَا إِشْكَال، بعيد؛ لِأَنَّهُ مفرغ فَهُوَ من تَمام الْكَلَام، وَمثله: مَا زيد إِلَّا قَائِم وَنَحْوه. قَالَ الْبرمَاوِيّ: من أَدِلَّة الْجُمْهُور أَن (لَا إِلَه إِلَّا الله) لَو لم يكن الْمُسْتَثْنى فِيهِ مثبتا لم يكن كَافِيا فِي الدُّخُول فِي الْإِيمَان، وَلكنه كَاف، أَي: بِاتِّفَاق، وَقد قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا الله " فَجعل ذَلِك غَايَة الْمُقَاتلَة. وَقد أجابوا بِأَن الْإِثْبَات مَعْلُوم، وَإِنَّمَا الْكفَّار يَزْعمُونَ شركه فنفيت الشّركَة بذلك، أَو أَنه وَإِن كَانَ لَا يُفِيد الْإِثْبَات بِالْوَضْعِ اللّغَوِيّ لَكِن يفِيدهُ بِالْوَضْعِ الشَّرْعِيّ، فَإِن الْمَقْصُود نفي الشَّرِيك وَهُوَ مُسْتَلْزم للثبوت، فَإِذا قلت: لَا شريك لفُلَان فِي كرمه، اقْتضى أَن يكون كَرِيمًا. وَأَيْضًا فالقرائن تَقْتَضِي الْإِثْبَات؛ لِأَن كل متلفظ بهَا ظَاهر قَصده إثْبَاته وَاحِدًا لَا للتعطيل. رد ذَلِك: بِأَن الحكم قد علق بهَا بمجردها فَاقْتضى ذَلِك أَنَّهَا تدل بلفظها دون شَيْء زَائِد فِي الأَصْل عَدمه. قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد فِي " شرح الْإِلْمَام ": كل هَذَا عِنْدِي تشغيب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2610 ومراوغات جدلية، وَالشَّرْع خَاطب النَّاس بِهَذِهِ الْكَلِمَة وَأمرهمْ [بهَا] لإِثْبَات مَقْصُود التَّوْحِيد، وَحصل الْفَهم لذَلِك مِنْهُم من غير احْتِيَاج لأمر زَائِد، وَلَو كَانَ وضع اللَّفْظ لَا يَقْتَضِي ذَلِك لَكَانَ أهم الْمُهِمَّات أَن يعلمنَا الشَّارِع مَا يَقْتَضِيهِ بِالْوَضْعِ من غير احْتِيَاج لأمر آخر فَإِن ذَلِك الْمَقْصُود الْأَعْظَم فِي الْإِسْلَام. انْتهى. وَمن أَدِلَّة الْجُمْهُور أَيْضا قَوْله تَعَالَى: {فَلَنْ نَزِيدكُمْ إِلَّا عذَابا} [النبأ: 30] ، وَهُوَ ظَاهر. وَأما أَدِلَّة الْحَنَفِيَّة، فَمن أعظمها أَنه لَو كَانَ كَذَلِك للَزِمَ فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور " أَن من تطهر يكون مُصَليا، أَو تصح صلَاته، وَإِن فقد بَقِيَّة الشُّرُوط. وَجَوَابه: أَن الْمُسْتَثْنى مُطلق يصدق بِصُورَة مَا لَو تَوَضَّأ، وَصلى فَيحصل الْإِثْبَات، لَا أَنه عَام حَتَّى يكون كل متطهر مُصَليا. وَأَيْضًا فَهُوَ اسْتثِْنَاء شَرط، أَي: لَا صَلَاة إِلَّا بِشَرْط الطَّهَارَة، وَمَعْلُوم أَن وجود الشَّرْط [لَا يلْزم مِنْهُ وجود الْمَشْرُوط، وَأَيْضًا فالمقصود الْمُبَالغَة فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2611 هَذَا الشَّرْط] دون سَائِر الشُّرُوط؛ لِأَنَّهُ آكِد فَكَأَنَّهُ لَا شَرط غَيره لَا أَن الْمَقْصُود نفي جَمِيع الصِّفَات. وَأَيْضًا فقد قيل: الِاسْتِثْنَاء فِيهِ مُنْقَطع وَلَيْسَ الْكَلَام فِيهِ، وَضَعفه ابْن الْحَاجِب على أَن هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ لَا يعرف، إِنَّمَا الْمَعْرُوف: " لَا يقبل الله صَلَاة بِغَيْر طهُور " أخرجه مُسلم، لَكِن فِي ابْن ماجة: " لَا تقبل صَلَاة إِلَّا بِطهُور "، وَلَو مثلُوا بِحَدِيث: " لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب " الثَّابِت فِي " الصَّحِيحَيْنِ " لَكَانَ أَجود، وَالله أعلم. فَائِدَة: مَا قَالَه الْحَنَفِيَّة مُوَافق لقَوْل نحاة الْكُوفَة، وَمَا قَالَه الْجُمْهُور مُوَافق لقَوْل سِيبَوَيْهٍ والبصريين، وَمحل الْخلاف فِي الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل؛ لِأَنَّهُ فِيهِ إِخْرَاج، أما الْمُنْقَطع فَالظَّاهِر أَن مَا بعد (إِلَّا) فِيهِ مَحْكُوم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2612 عَلَيْهِ بضد الحكم السَّابِق فَإِن مساقه هُوَ الحكم بذلك فنحو: {مَا لَهُم بِهِ من علم إِلَّا اتِّبَاع الظَّن} [النِّسَاء: 157] المُرَاد أَن لَهُم بِهِ اتِّبَاع الظَّن لَا الْعلم، وَإِن لم يكن الظَّن دَاخِلا فِي الْعلم، وَقس عَلَيْهِ. لَكِن هَل يجْرِي الْخلاف فِي المفرغ؟ قيل: الظَّاهِر، لَا، وَأَن الِاسْتِثْنَاء فِيهِ إِثْبَات قطعا؛ لِأَن قَوْلك: مَا قَامَ إِلَّا زيد، لَيْسَ مَعَك شَيْء يثبت لَهُ الْقيام فَيكون فَاعِلا إِلَّا زيد فَيكون مُتَعَيّنا للإثبات بِالضَّرُورَةِ بِخِلَاف قَوْلك: مَا قَامَ أحد إِلَّا زيد. وَحكى الْقَرَافِيّ فِي " العقد المنظوم " عَن الْحَنَفِيَّة أَنهم أجروا الْخلاف فِي المفرغ أَيْضا، قَالَ: ويلزمهم أَن يعربوا زيدا فِيمَا قَامَ إِلَّا زيد بَدَلا، لَا فَاعِلا وَيكون الْفَاعِل مضمرا، أَي: مَا قَامَ أحد إِلَّا زيد، لَكِن حذف الْفَاعِل مُمْتَنع عِنْد النُّحَاة. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَإِن قلت: لَا بُد فِي الِاسْتِثْنَاء المفرغ من معنى مَحْذُوف يسْتَثْنى مِنْهُ وَإِن لم يقدر لَفظه على الْمُرَجح، فَالْقَوْل بجريان الْخلاف فِيهِ غير بعيد. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2613 تَنْبِيه: إِذا علم الْأَمْرَانِ: الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات، وَمن الْإِثْبَات نفي ترَتّب عَلَيْهَا تعدد الِاسْتِثْنَاء، نَحْو: لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا تِسْعَة، إِلَّا ثَمَانِيَة إِلَّا سَبْعَة، إِلَّا سِتَّة، إِلَّا خَمْسَة، إِلَّا أَرْبَعَة، إِلَّا ثَلَاثَة، إِلَّا اثْنَيْنِ، إِلَّا وَاحِدًا، وَقد بَينا كَيْفيَّة الْعَمَل فِي ذَلِك فِي " الْإِنْصَاف " فِي الْإِقْرَار. وَاعْلَم أَن للمسألة أحوالا: الأولى: مَا ذكرنَا من الْمِثَال، ولاستخراج الحكم من ذَلِك طرق للنحاة وَغَيرهم: إِحْدَاهَا: طَريقَة الْإِخْرَاج وجبر الْبَاقِي بِالِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي، وَهَكَذَا إِلَى آخِره، فَإِذا قَالَ: لَهُ عشرَة إِلَّا تِسْعَة ... إِلَى آخِره، فَنَقُول: أخرج تِسْعَة بِالِاسْتِثْنَاءِ الأول، جبر مَا بَقِي - وَهُوَ وَاحِد - بِالِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي وَهُوَ ثَمَانِيَة - فَصَارَ تِسْعَة، ثمَّ خرج بِالِاسْتِثْنَاءِ الثَّالِث سَبْعَة، بَقِي اثْنَان فجبره بالرابع - وَهُوَ سِتَّة - فَصَارَ ثَمَانِيَة، ثمَّ خرج بالخامس خَمْسَة فَبَقيَ ثَلَاثَة، فجبر بالسادس - وَهُوَ أَرْبَعَة - فَصَارَ سَبْعَة، ثمَّ خرج بالسابع ثَلَاثَة فَبَقيَ أَرْبَعَة فجبر بالثامن - وَهُوَ اثْنَان - فَصَارَ الْبَاقِي سِتَّة، وَأخرج مِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ التَّاسِع وَاحِد فَصَارَ الْمقر بِهِ خَمْسَة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2614 الطَّرِيقَة الثَّانِيَة: أَن يحط الآخر مِمَّا يَلِيهِ، وَهَكَذَا إِلَى الأول فتحط وَاحِدًا من اثْنَيْنِ يبْقى وَاحِد، تحطه من ثَلَاثَة يبْقى اثْنَان تحطهما من أَرْبَعَة يبْقى اثْنَان تحطهما من خَمْسَة يبْقى ثَلَاثَة تحطها من سِتَّة يبْقى ثَلَاثَة تحطها من سَبْعَة يبْقى أَرْبَعَة، تحطها من ثَمَانِيَة يبْقى أَرْبَعَة تحطها من تِسْعَة، يبْقى خَمْسَة، تحطها من عشرَة يبْقى الْمقر بِهِ خَمْسَة. الطَّرِيقَة الثَّالِثَة: أَن تجْعَل كل وتر من الِاسْتِثْنَاء خَارِجا، وكل شفع مَعَ الأَصْل دَاخِلا فِي الحكم فَمَا اجْتمع فَهُوَ الْحَاصِل فَيسْقط مَا اجْتمع من الْخَارِج مِمَّا اجْتمع من الدَّاخِل فَهُوَ الْجَواب فالعشرة وَالثَّمَانِيَة والستة وَالْأَرْبَعَة، والاثنان ثَلَاثُونَ هُوَ الْمخْرج مِنْهَا، والتسعة، والسبعة، والخمسة، وَالثَّلَاثَة، وَالْوَاحد خَمْسَة، وَعِشْرُونَ هِيَ المخرجة يبْقى خَمْسَة. الطَّرِيقَة الرَّابِعَة: إِن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ أَولا إِن كَانَ شفعا كالعشرة فِي مثالنا، فَخذ لكل اسْتثِْنَاء من الأوتار وَاحِدًا، واجمعه، وأسقطه مِنْهُ فالباقي الْجَواب، فعدد الاستثناءات الأوتار خَمْسَة تسقطها من الْعشْرَة يبْقى خَمْسَة، وَإِن كَانَ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ أَولا وترا كَقَوْلِه: لَهُ عَليّ أحد عشرَة إِلَّا عشرَة، إِلَّا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2615 تِسْعَة ... إِلَى آخِره، فَخذ عدد الاستثناءات الأشفاع وَهُوَ خَمْسَة، وأسقطها من الْأَحَد عشرَة، وَالْبَاقِي سِتَّة وَهُوَ الْجَواب، لَكِن هَذِه الطَّرِيقَة لَا تتأتى إِلَّا فِي استثناءات مُتَوَالِيَة بِحَيْثُ لَا يكون بَين كل وَاحِد من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ والمستثنى شَيْء، كَمَا فِي مثالنا فَتَأَمّله، وَلَهُم طرق غير ذَلِك يطول الْكتاب بذكرها. قَوْله: {وَاسْتثنى الْقَرَافِيّ الشَّرْط} ، فَقَالَ فِي " شرح التَّنْقِيح ": قَول الْعلمَاء الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات لَيْسَ على إِطْلَاقه؛ لِأَن الِاسْتِثْنَاء يَقع فِي الْأَحْكَام نَحْو: قَامَ الْقَوْم إِلَّا زيدا، وَمن الْمَوَانِع نَحْو: لَا تسْقط الصَّلَاة عَن الْمَرْأَة إِلَّا بِالْحيضِ، وَمن الشُّرُوط وَنَحْو: {لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور} . فالاستثناء من الشُّرُوط مُسْتَثْنى من كَلَام الْعلمَاء فَإِنَّهُ لَا يلْزم من الْقَضَاء بِالنَّفْيِ لأجل عدم الشَّرْط أَن يقْضِي بالوجود لأجل وجود الشَّرْط لما علم من أَن الشَّرْط لَا يلْزم من وجوده الْوُجُود وَلَا الْعَدَم، فَقَوْلهم: الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات يخْتَص بِمَا عدا الشَّرْط؛ لِأَنَّهُ {لم يقل أحد} من الْعلمَاء {إِنَّه يلْزم من وجود الشَّرْط وجود الْمَشْرُوط} . وبهذه الْقَاعِدَة يحصل الْجَواب عَن شُبْهَة الْحَنَفِيَّة فَإِن النُّصُوص الَّتِي ألزمونا بهَا كلهَا من بَاب الشُّرُوط، وَهِي لَيست من صور النزاع، فَلَا تلزمنا. انْتهى. وَقد تقدم من بحث الْمَسْأَلَة الْجَواب على ذَلِك بِمَا فِيهِ كِفَايَة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2616 (قَوْله: {فصل} ) {إِذا عطف اسْتثِْنَاء على اسْتثِْنَاء أضيف إِلَى الأول} . فعشرة إِلَّا ثَلَاثَة، وَإِلَّا اثْنَيْنِ، كعشرة إِلَّا خَمْسَة، وَأَنت طَالِق ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَة، وَإِلَّا وَاحِدَة يَلْغُو الثَّانِي إِن بَطل اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر، وَإِلَّا وَقع وَاحِدَة فَيرجع الْكل المتعاطف إِلَى الْمُسْتَثْنى مِنْهُ حملا للْكَلَام على الصِّحَّة مَا أمكن فَإِن عود كل لما يَلِيهِ قد تعذر بانفصاله بأداة الْعَطف، هَذَا إِذا لم يلْزم من عود الْكل الِاسْتِغْرَاق أَو الْأَكْثَر على الصَّحِيح كَمَا مثلنَا فِي الطَّلَاق. قَوْله: {وَإِلَّا اسْتثِْنَاء من اسْتثِْنَاء} ، يَعْنِي: وَإِن لم تكن متعاطفة فَيكون اسْتثِْنَاء من اسْتثِْنَاء، {يَصح إِجْمَاعًا} ، قَالَه فِي " أُصُوله ". وَحكى ابْن الْعِرَاقِيّ عَن بَعضهم مَنعه، وَحكى الْمحلي فِي " الذَّخَائِر " أَن بعض الْفُقَهَاء، حكى الْمَنْع عَن بعض أهل الْعَرَبيَّة، وَحَكَاهُ الرَّوْيَانِيّ عَن بعض أهل اللُّغَة، وَعلل ذَلِك الْبرمَاوِيّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2617 فعلى الأول لَو قَالَ: عَليّ عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة، إِلَّا درهما يلْزمه ثَمَانِيَة؛ لِأَنَّهُ من الْإِثْبَات نفي وَمن نفي إِثْبَات. وَأَنت طَالِق ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَة، إِلَّا وَاحِدَة، فَقيل: يَلْغُو الثَّانِيَة فَيَقَع اثْنَتَانِ، وَهُوَ الصَّحِيح من الْمَذْهَب. وَقيل: لَا، فَيَقَع ثَلَاث؛ لِأَنَّهُ اسْتثِْنَاء أَكثر؛ لِأَنَّهُ نفي من إِثْبَات، وَاسْتدلَّ لجَوَاز الِاسْتِثْنَاء من الِاسْتِثْنَاء بقوله تَعَالَى: {إِلَّا آل لوط إِنَّا لمنجوهم أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَته قَدرنَا} الْآيَة [الْحجر: 59، 60] . وعللوا الْوَجْه الضَّعِيف الَّذِي يَقُول صَاحبه بِالْمَنْعِ بِأَن الْعَامِل فِي الِاسْتِثْنَاء الْفِعْل الأول بتقوية حرف الِاسْتِثْنَاء، وَالْعَامِل لَا يعْمل فِي معمولين. وَأَجَابُوا عَم اسْتدلَّ بِهِ الْجُمْهُور من قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أرسلنَا إِلَى قوم مجرمين (58) إِلَّا آل لوط إِنَّا لمنجوهم أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَته قَدرنَا} بِأَن الِاسْتِثْنَاء الثَّانِي وَهُوَ {إِلَّا امْرَأَته} إِنَّمَا هُوَ من قَوْله: {أَجْمَعِينَ} . قَوْله: {تَنْبِيه: تقدم الشَّرْط} ، أَي تقدم الشَّرْط، وَأَحْكَامه وَحده، وأقسامه وَمَا يتَعَلَّق بِهِ فِي خطاب الْوَضع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2618 قَوْله: {وَيخْتَص اللّغَوِيّ مِنْهُ عرفا بِكَوْنِهِ مُخَصّصا} . ذكر الأصوليون الشَّرْط من المخصصات كَمَا تقدم فِي تعدادها، وَالْمرَاد بِالشّرطِ الْمُخَصّص هُنَا هُوَ الشَّرْط اللّغَوِيّ لَا غير، وَإِن كَانَ قد أطلق الأصوليون الشَّرْط هُنَا، وَبَعْضهمْ قَيده. قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": الشَّرْط ثَلَاثَة أَقسَام، ثمَّ قَالَ: الثَّانِي اللّغَوِيّ، وَالْمرَاد بِهِ صِيغ التَّعْلِيق ب (إِن) وَنَحْوهَا، وَهُوَ مَا يذكر فِي أصُول الْفِقْه فِي المخصصات للْعُمُوم، نَحْو: {وَإِن كن أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ} [الطَّلَاق: 6] ، وَمِنْه قَوْلهم فِي الْفِقْه: الْعتْق الْمُعَلق على شَرط، وَالطَّلَاق الْمُعَلق على شَرط. وَهَذَا كَمَا قَالَ الْقَرَافِيّ وَغَيره يرجع إِلَى كَونه سَببا حَتَّى يلْزم من وجود الْوُجُود، وَمن عَدمه الْعَدَم لذاته، وَوهم من فسره هُنَاكَ بتفسير الشَّرْط الْمُقَابل للسبب وَالْمَانِع، كَمَا وَقع لكثير من الْأُصُولِيِّينَ، فَجعل الْمُخَصّص الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2619 هُنَا من الشَّرْط اللّغَوِيّ، وَوهم من قَالَ غَيره. وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": الثَّانِي من المخصصات الشَّرْط عقليا كالحياة للْعلم، أَو شَرْعِيًّا كالإحصان مَعَ الرَّجْم، وعاديا كالسلم مَعَ الصعُود. فَجعل الْمُخَصّص الشَّرْط بأقسامه، لَكِن لم يَجْعَل من أقسامه اللّغَوِيّ بل لم يذكرهُ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَّا أَن تكون النُّسْخَة مغلوطة، فَإِن لم تكن مغلوطة فَفِي كَلَامه نظر من وَجْهَيْن. وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شرح منهاج الْبَيْضَاوِيّ " فِي المخصصات: وَاعْلَم أَن الشَّرْط قد يكون شَرْعِيًّا، وَقد يكون عقليا، وَقد يكون لغويا، وَكَلَام الإِمَام يَقْتَضِي أَن الْمَحْدُود هُوَ الشَّرْط الشَّرْعِيّ. انْتهى. وَظَاهر كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل، وَابْن مُفْلِح أَن الْمَحْدُود فِي المخصصات يَشْمَل الشُّرُوط الثَّلَاثَة، فَإِن ابْن قَاضِي الْجَبَل قَالَ لما ذكر حد الْمُوفق، وَالْغَزالِيّ: وَلَا يمْنَع لُزُوم الدّور بِحمْل الشَّرْط على اللّغَوِيّ؛ إِذْ الْمَحْدُود الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2620 هُوَ الشَّرْط الَّذِي هُوَ أَعم من الْعقلِيّ، والشرعي، واللغوي. انْتهى. قلت: وَمِمَّا يدل على أَن المُرَاد الشَّرْط اللّغَوِيّ تمثيلهم بذلك. قَوْله: {وَهُوَ مخرج مَا لولاه لدخل} ، كَقَوْلِك: (أكْرم بني تَمِيم إِن دخلُوا) فيقصره الشَّرْط على من دخل، وَأكْرمهمْ أبدا إِن قدرت، وَإِن خرج عدم الْقُدْرَة بِالْعقلِ لَا يُنَافِي الدُّخُول لُغَة. قَوْله: {ويتحد، ويتعدد، على الْجمع، وَالْبدل} ، ثَلَاثَة أَقسَام كل مِنْهَا مَعَ {الْجَزَاء كَذَلِك تكمل تِسْعَة} . الشَّرْط قد يتحد، مثل: إِن دخل زيد الدَّار، وَقد يَتَعَدَّد إِمَّا على سَبِيل الْجمع، مثل: إِن دخل زيد الدَّار، والسوق، وَإِمَّا على سَبِيل [الْبَدَل] مثل: إِن دخل الدَّار، أَو السُّوق، فَيكون ثَلَاثَة أَقسَام. وكل من هَذِه الثَّلَاثَة إِمَّا أَن يكون جَزَاؤُهُ متحدا، مثل: أكْرمه، أَو مُتَعَددًا، إِمَّا على سَبِيل الْجمع مثل: أكْرمه وأعطه، أَو على سَبِيل الْبَدَل مثل: أكْرمه، أَو أعْطه، فَتكون الْأَقْسَام تِسْعَة. قَوْله: {وَله صدر الْكَلَام يتَقَدَّم على الْجَزَاء لفظا؛ لتقدمه عَلَيْهِ فِي الْوُجُود طبعا، فَإِن أخر لفظا فَأكْثر النُّحَاة أَن مَا تقدم لَيْسَ بجزاء بل قَامَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2621 مقَامه، وَدلّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَحْذُوف} . اعْلَم أَن قَول النُّحَاة: أكرمتك إِن دخلت الدَّار، خبر، وَالْجَزَاء مَحْذُوف مُرَاعَاة لتقدم الشَّرْط، كتقدم الِاسْتِفْهَام، وَالْقسم. قَالَ ابْن مَالك فِي " التسهيل ": لأداة الشَّرْط صدر الْكَلَام فَإِن تقدم عَلَيْهَا شَبيه بِالْجَوَابِ معنى فَهُوَ دَلِيل الْجَواب، وَلَيْسَ إِيَّاه خلافًا للكوفيين، والمبرد، وَأبي زيد. انْتهى. وَقَالَ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره ": إِن عنوا أَن الْمُقدم لَيْسَ بجزاء للشّرط فِي اللَّفْظ فَمُسلم، وَإِن عنوان أَنه لَيْسَ بجزاء للشّرط لَا لفظا، وَلَا معنى، فَهُوَ عناد؛ لِأَن الْإِكْرَام يتَوَقَّف على الدُّخُول فَيتَأَخَّر عَنهُ من حَيْثُ الْمَعْنى فَيكون جَزَاء لَهُ معنى. قَالَ: وَالْحق أَنه لما كَانَ الْمُتَقَدّم أَي (أكرمتك) جملَة مُسْتَقلَّة من حَيْثُ اللَّفْظ دون الْمَعْنى، روعيت الشائبتان فِيهِ، أَي: شَائِبَة الِاسْتِقْلَال من حَيْثُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2622 اللَّفْظ فَحكم بِكَوْنِهِ جَزَاء، وشائبة عدم الِاسْتِقْلَال من حَيْثُ الْمَعْنى فَحكم بِأَن الْجَزَاء مَحْذُوف لكَونه مَذْكُورا من حَيْثُ الْمَعْنى. انْتهى. قَوْله: {وَهُوَ كاستثناء فِي اتِّصَاله بالمشروط} بِلَا خلاف، وَلَكِن قَوْله إِن شَاءَ الله يُسمى اسْتثِْنَاء، وَأَنه كالاستثناء فِي الِاتِّصَال، وَأَنه عِنْد بَعضهم أَنه مَحل الْخلاف، {وَإِن تعقب جملا متعاطفة فللكل عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} . وَذكره أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " إِجْمَاعًا. وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": سلمه الْأَكْثَر. {وَقيل: يخْتَص بِالْجُمْلَةِ الَّتِي تليه} حَتَّى إِن كَانَ مُتَأَخِّرًا اخْتصَّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَة أَو مُتَقَدما اخْتصَّ بِالْأولَى، اخْتَارَهُ بعض الأدباء، وَقد حَكَاهُ الصَّيْرَفِي قبل قَوْله هَذَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2623 وَحكى الْغَزالِيّ عدم عوده للْجَمِيع عَن الأشعرية. وَحكى الْمَاوَرْدِيّ، وَابْن كج عَن أبي حنيفَة أَنه كالاستثناء فِي اخْتِصَاصه بالأخيرة. وَقَالَ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره ": وَهُوَ كالاستثناء فِي الِاتِّصَال وَفِي تعقبه الْجمل، وَعَن أبي حنيفَة للْجَمِيع فَفرق. انْتهى. وَاخْتَارَ الْفَخر الرَّازِيّ التَّوَقُّف كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاء، وعَلى كل حَال هُوَ أولى بِالْعودِ إِلَى الْكل من الِاسْتِثْنَاء بِدَلِيل مُوَافقَة أبي حنيفَة عَلَيْهِ. مِثَاله: أكْرم تميما، وَأعْطِ مضرا إِن نزلُوا بِكَذَا. قَوْله: {وَيجوز إِخْرَاج الْأَكْثَر بِهِ} . قَالَ فِي " الْمَحْصُول ": اتَّفقُوا على أَنه يحسن التَّقْيِيد بِشَرْط أَن يكون الْخَارِج مِنْهُ أَكثر من الْبَاقِي، وَإِن اخْتلفُوا فِيهِ فِي الِاسْتِثْنَاء. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2624 فَلَو قَالَ: أكْرم بني تَمِيم إِن كَانُوا عُلَمَاء، وَكَانَ الْجُهَّال أَكثر جَازَ، بل وَلَو كَانَ الْكل جُهَّالًا، يخرج الْكل بِالشّرطِ. قَوْله: {فَائِدَة: يحصل الْمُعَلق على الشَّرْط وَالْعقد} ، أَي: وَيحصل العقد بعد وجود الشَّرْط، وَالْقَبُول فِي العقد. {وَقَالَ أَكثر الْمُتَكَلِّمين، وَابْن عبد السَّلَام: مَعَه} . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: هَل يحصل الشَّرْط مَعَ الْمَشْرُوط، أَو بعده؟ وَكَذَلِكَ قَوْلك: بِعْتُك، أَو وَهبتك، هَل يحصل مَعَ الْكَاف، أَو بعْدهَا؟ على قَوْلَيْنِ، الْأَكْثَرُونَ من الْمُتَكَلِّمين على أَنَّهَا مَعهَا، وَهُوَ اخْتِيَار ابْن عبد السَّلَام، وَالثَّانِي: بعده، وَهُوَ الصَّحِيح، قَاس الْأَولونَ الشَّرْط على الْعلَّة الْعَقْلِيَّة، وَالتَّحْقِيق الْمَنْع فيهمَا؛ وَلِهَذَا يدْخل فِي كَسرته فانكسر إِلَى غير ذَلِك. انْتهى. قلت: وَمَا صَححهُ هُوَ ظَاهر كَلَام الْأَصْحَاب فِي تَعْلِيق الطَّلَاق بِالشُّرُوطِ. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": يُوجد الْمُسَبّب مَعَ السَّبَب على الْمُرَجح كوجود الْعتْق وَالطَّلَاق الْمُعَلق على شَرط، على الْأَصَح فِي الْمَذْهَب، كَمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2625 قَالَه الرَّافِعِيّ وَغَيره، وَهُوَ اخْتِيَار الْأَشْعَرِيّ، والمحققين كَالْإِمَامِ وَالْغَزالِيّ وَابْن عبد السَّلَام وَغَيرهم. وَاخْتَارَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَأَتْبَاعه الْوُقُوع عقبه من غير تخَلّل زمَان. انْتهى. قَوْله: {والتخصيص بِالصّفةِ كالاستثناء فِي الْعود وَلَو تقدّمت} . من جملَة المخصصات الْمُتَّصِلَة الْوَصْف. وَالْمرَاد بِهِ: مَا أشعر بِمَعْنى ينعَت بِهِ أَفْرَاد الْعَام سَوَاء كَانَ نعتا، أَو عطف بَيَان، أَو حَالا، وَسَوَاء كَانَ ذَلِك مُفردا، أَو جملَة، أَو شبهها، وَهُوَ الظروف، وَالْجَار، وَالْمَجْرُور، وَلَو كَانَ جَامِدا مؤولا بمشتق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2626 لَكِن يخرج من ذَلِك أَن يكون الْوَصْف خرج مخرج الْغَالِب فيطرح مَفْهُومه كَمَا يَأْتِي فِي المفاهيم، أَو يساق الْوَصْف لمدح أَو ذمّ، أَو ترحم، أَو توكيد، أَو تَفْصِيل فَلَيْسَ شَيْء من ذَلِك مُخَصّصا للْعُمُوم. مِثَال التَّخْصِيص بِالصّفةِ: أكْرم بني تَمِيم الداخلين، فيقصر الْإِكْرَام عَلَيْهِم. قَالَ بعض أَصْحَابنَا، والآمدي، وَجمع: هِيَ كالاستثناء فِي الْعود كَمَا تقدم. قَوْله: {وَلَو تقدّمت} ، هَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر، مثل قَوْله: وقفت على محتاجي أَوْلَادِي، وَأَوْلَادهمْ، فتشترط الْحَاجة فِي أَوْلَاد الْأَوْلَاد. {وَقيل: يخْتَص بِمَا وليته إِن توسطت} . قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": أما المتوسطة فالمختار اختصاصها بِمَا وليته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2627 مثل ذَلِك: على أَوْلَادِي المحتاجين وَأَوْلَادهمْ. قَالَ التَّاج السُّبْكِيّ: لَا نعلم فِيهَا نقلا، وَيظْهر اختصاصها بِمَا وليته. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَيدل على اختصاصها بِمَا وليته مَا نَقله الرَّافِعِيّ فِي الْأَيْمَان عَن ابْن كج أَنه لَو قَالَ: عَبدِي حر - إِن شَاءَ الله -، وامرأتي طَالِق، وَنوى صرف الِاسْتِثْنَاء إِلَيْهِمَا، إِلَى آخِره فَإِن مَفْهُومه أَنه لَو لم ينْو لما عَاد إِلَى مَا بعده، وَإِذا كَانَ هَذَا فِي الشَّرْط الَّذِي لَهُ صدر الْكَلَام، وَقد قَالَ بعوده للْجَمِيع بعض من لَا يَقُول بِعُود الِاسْتِثْنَاء وَالصّفة للْجَمِيع فَلِأَن يجْرِي مثل ذَلِك فِي الصّفة من بَاب أولى. قَوْله: {وبغاية} . من المخصصات الْغَايَة، وَالْمرَاد بهَا أَن يَأْتِي بعد الْعَام حرف من أحرف الْغَايَة ك (إِلَى، وَحَتَّى، وَاللَّام) مِثَال اللَّام قَوْله تَعَالَى: {سقناه لبلد ميت} [الْأَعْرَاف: 57] أَي إِلَى، وَمثله {بِأَن رَبك أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] أَي أوحى إِلَيْهَا، وكأو أَيْضا فِي قَوْله: (لأستسهلن الصعب أَو أدْرك المنى ... ) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2628 أَي: إِلَى، وَرُبمَا كَانَت (إِلَى) بِمَعْنى (مَعَ) كَمَا تقدم. وَحَتَّى للابتداء، نَحْو: (حَتَّى مَاء دجلة أشكل ... ) وَمِثَال حَتَّى، وَإِلَى: أكْرم بني تَمِيم أَو حَتَّى أَو إِلَى أَن يدخلُوا، فيقصر على غَيرهم كالاستثناء بعد الْجُمْلَة يشْتَرط فِيهَا الِاتِّصَال، وَكَذَا إِذا وليت مُتَعَددًا يعود إِلَى الْكل، نَحْو: وقفت على أَوْلَادِي وَأَوْلَاد أَوْلَادِي إِلَى أَن يستغنوا. وَكَذَا فِي إِخْرَاج الْأَكْثَر، قَالَه الْبرمَاوِيّ وَغَيره، وَقَالَ: وَقَول ابْن الْحَاجِب، و " جمع الْجَوَامِع " إِنَّهَا كالاستثناء فِي الْعود، لَيْسَ الْمَقْصُود الْقصر على الْعود، بل تعرضا لَهُ لكَونه أهم. قَوْله: {وَمَا بعْدهَا مُخَالف عِنْد الْأَكْثَر} ، أَي: مُخَالف لما قبلهَا، أَي: مَحْكُوم عَلَيْهِ بنقيض حكمه؛ لِأَن مَا بعْدهَا لَو لم يكن مُخَالفا لما قبلهَا لم تكن غَايَة، بل وسطا بِلَا فَائِدَة، قَالَ الله تَعَالَى: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} [الْبَقَرَة: 187] فَلَيْسَ شَيْء من اللَّيْل دَاخِلا قطعا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2629 قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي، وَالْجُمْهُور، كَمَا قَالَه أَبُو الْمَعَالِي. {وَقَالَ} القَاضِي أَبُو بكر ابْن {الباقلاني} : مُخَالف لما بعْدهَا {نطقا} . وَيَأْتِي فِي مَفْهُوم الْغَايَة لَفظه وتحريره. وَقيل: مَا بعْدهَا لَيْسَ مُخَالفا لما قبلهَا، بل هُوَ دَاخل مُطلقًا. وَقيل: مُخَالفا بِمَا بعْدهَا إِن كَانَ مَعهَا (من) نَحْو: بِعْتُك من هَذَا إِلَى هَذَا. {وَقَالَ الرَّازِيّ: إِن تميز عَمَّا قبله بالحس لم يدْخل، وَإِلَّا دخل} . والتمييز نَحْو: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} فَإِن لم يتَمَيَّز حسا اسْتمرّ ذَلِك الحكم على مَا بعْدهَا، {وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} [الْمَائِدَة: 6] فَإِن الْمرْفق غير مُنْفَصِل عَن الْيَد بفصل محسوس. {وَقيل: إِن كَانَ المغيا عينا، أَو وقتا لم يدْخل، وَإِلَّا دخل} . قَالَه بعض الْحَنَفِيَّة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} [الْبَقَرَة: 222] ؛ لِأَن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2630 الْغَايَة هُنَا فعل وَالْفِعْل لَا يدْخل بِنَفسِهِ مَا لم يفعل، وَمَا لم تُوجد الْغَايَة لَا يَنْتَهِي المغيا فَلَا بُد من وجود الْفِعْل الَّذِي هُوَ غَايَة النَّهْي؛ لانْتِهَاء النَّهْي فَيبقى الْفِعْل دَاخِلا فِي النَّهْي. وَقيل: دَاخل إِن كَانَ من الْجِنْس، نَحْو: (بِعْتُك الرُّمَّان إِلَى هَذِه الشَّجَرَة وَالْوَاقِع أَنَّهَا رمانة) ، وَإِلَّا فَلَا. {قَالَ الْآمِدِيّ: لَا تدل} الْغَايَة {على شَيْء} ، يَعْنِي: لَا تدل على أَن مَا بعْدهَا مُخَالف وَلَا مُوَافق. وَتقدم عِنْد الْكَلَام على (إِلَى) فِي الْحُرُوف مَا يتَعَلَّق بِهَذَا، وَذكرنَا هُنَاكَ أقوالا لم نذكرها هَاهُنَا. فَائِدَة غَايَة الشَّيْء طرفه ومنتهاه، ثمَّ تطلق تَارَة على الْحَرْف، كَقَوْلِه تَعَالَى: {حَتَّى مطلع الْفجْر} [الْقدر: 5] ، {حَتَّى يطهرن} ، {إِلَى الْمرَافِق} {إِلَى اللَّيْل} . فَإِذا قيل: الْغَايَة هَل تدخل فِي المغيا، أَو لَا تدخل؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2631 فَيُقَال: إِن أُرِيد بِالْمَعْنَى الأول - وَهُوَ طرف الشَّيْء ومنتهاه - فداخلة قطعا وَإِن أُرِيد مَا بعد الَّذِي دخل عَلَيْهِ الْحَرْف فَلَا خلاف فِي عدم دُخُوله، وَإِن أُرِيد نفس مَا دخل عَلَيْهِ حرف الْغَايَة فَهُوَ مَحل الْخلاف الَّذِي ذَكرْنَاهُ قبل، الْمعبر عَنهُ بِمَا بعد الْغَايَة هَل يدْخل فِيمَا قبلهَا؟ فَإِن الْغَايَة هُنَا نفس الْحَرْف، وَمَا دخل عَلَيْهِ هُوَ مَا بعد الْغَايَة فَليعلم ذَلِك. قَوْله: {وَمحله فِي غَايَة تقدمها عُمُوم يشملها لَو لم تأت، بِخِلَاف {حَتَّى مطلع الْفجْر} وَقطعت أَصَابِعه كلهَا من الْخِنْصر إِلَى الْإِبْهَام، فالغاية فِي الأولى خَارِجَة قطعا، وَفِي الثَّانِيَة دَاخِلَة قطعا} . قَالَ السُّبْكِيّ الْكَبِير: قَول الْأُصُولِيِّينَ إِن الْغَايَة من المخصصات إِنَّمَا هُوَ إِذا تقدمها عُمُوم يشملها لَو لم يُؤْت بهَا كَقَوْلِه تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة} [التَّوْبَة: 29] فلولا الْغَايَة لقاتلنا الْكفَّار أعْطوا أَو لم يُعْطوا، أما نَحْو: " رفع الْقَلَم عَن الصَّبِي حَتَّى يبلغ، وَعَن النَّائِم عَن يَسْتَيْقِظ، وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يفِيق "، وَلَو سكت عَن الْغَايَة لم يكن الصَّبِي شَامِلًا للبالغ، وَلَا النَّائِم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2632 للمستيقظ وَلَا الْمَجْنُون للمفيق، فَذكر الْغَايَة فِي ذَلِك إِمَّا تَأْكِيد لتقرير أَن أزمنة الصَّبِي وأزمنة الْجُنُون وأزمنة النّوم لَا يسْتَثْنى مِنْهَا شَيْء، وَنَحْوه: {حَتَّى مطلع الْفجْر} طلوعه، أَو زمن طلوعه لَيْسَ من اللَّيْل حَتَّى يَشْمَلهُ {سَلام هِيَ} بل حقق بِهِ ذَلِك، وَإِمَّا للإشعار بِأَن مَا بعد الْغَايَة حكمه مُخَالف لما قبله، وَلَوْلَا الْغَايَة لَكَانَ مسكوتا عَن ذكر الحكم مُحْتملا، وَهَذَا على رَأْي من يَقُول بِالْمَفْهُومِ. قَالَ الشَّيْخ: وَهَذَا وَإِن قيل بِهِ فِي نَحْو {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة} فَهُوَ أقوى من القَوْل بِهِ هُنَا؛ لِأَن هُنَاكَ لَو لم يقل بِهِ لم يكن للغاية فَائِدَة، وَهنا فائدتها الْمَذْكُورَة أَولا فِيمَا سبق تعم قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} يحْتَمل أَنه مثل {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة} نظرا إِلَى أَن الصَّوْم اللّغَوِيّ شَامِل اللَّيْل وَالنَّهَار، وَلِهَذَا مثل الْبَيْضَاوِيّ بِهِ. وَيحْتَمل أَنه مثل {حَتَّى مطلع الْفجْر} نظرا إِلَى أَن الصَّوْم الشَّرْعِيّ مُخْتَصّ بِالنَّهَارِ. وَأَيْضًا فالعموم فِي الصّيام إِنَّمَا هُوَ فِي أَفْرَاد الصَّوْم لَا لأوقاته. وَأَيْضًا إِطْلَاق كَون الْغَايَة من المخصصات لَا بُد فِيهِ من إِخْرَاج مَا سبق فِي حَدِيث: " رفع الْقَلَم " و {حَتَّى مطلع الْفجْر} ، و {حَتَّى يطهرن} ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2633 وَنَحْوه مِمَّا لَا يكون شَامِلًا لما بعد الْغَايَة وَإِخْرَاج نَحْو قطعت أَصَابِعه من الْخِنْصر إِلَى الْإِبْهَام وَأَن الْغَايَة دَاخِلَة فِيهِ قطعا فَهُوَ تَأْكِيد وَتَحْقِيق للْعُمُوم كَمَا سبق. وَلَو كَانَ اللَّفْظ غير صَرِيح، نَحْو: (ضربت الْقَوْم حَتَّى زيدا) كَانَ تَأْكِيدًا بالظهور، لَا بِالْقطعِ؛ لاحْتِمَال أَنه أَرَادَ أَن الضَّرْب انْتهى إِلَيْهِ وَلم يَشْمَلهُ. انْتهى. قَوْله: {والغاية والمغيّا أَي: الْمُقَيد بهَا يتحدان ويتعددان تِسْعَة أَقسَام} ، قد تكون الْغَايَة والمغيا أَي: الْمُقَيد بهَا متحدين، كأكرم بني تَمِيم إِلَى أَن يدخلُوا، وَقد يكونَانِ متعددين إِمَّا على سَبِيل الْجمع كأكرم بني تَمِيم وأعطهم ألى أَن يدخلُوا ويقوموا، أَو على سَبِيل الْبَدَل، كأكرم بني تَمِيم أَو أعطهم إِلَى أَن يدخلُوا، أَو يقومُوا. وَقد يكون أَحدهمَا متحدا، وَالْآخر مُتَعَددًا فَتكون الْأَقْسَام تِسْعَة كالشرط وتعرف أمثله بَاقِي الْأَقْسَام مِمَّا قد مر، وَتقدم الْكَلَام على التَّخْصِيص بِبَدَل الْبَعْض. قَوْله: {فَائِدَة: قَالَ الشَّيْخ: التوابع المخصصة كبدل، وَعطف بَيَان، وتوكيد وَنَحْوه كاستثناء، والشروط المعنوية بِحرف الْجَزَاء، وبحرف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2634 الْعَطف كالشرط وتتعلق حُرُوف الْجَرّ الْمُتَأَخِّرَة بِالْفِعْلِ الْمُتَقَدّم} انْتهى. أخذت ذَلِك من نقل ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، فَإِنَّهُ قَالَ: قَالَ بعض أَصْحَابنَا: والتوابع المخصصة للأسماء الْمُتَقَدّمَة كالبدل، وَعطف الْبَيَان كالاستثناء. والشروط المعنونة بحروف الْجَرّ كَقَوْلِه: على أَنه، أَو بِشَرْط أَنه، أَو بحروف الْعَطف كَقَوْلِه: وَمن شَرطه كَذَا، فَهَذَا كالشرط، فَأكْرم بني تَمِيم، وَبني أَسد، وَبني بكر الْمُؤمنِينَ، أمكن كَونه تَمامًا لبكر فَقَط، وبشرط كَونهم مُؤمنين، أَو على أَنه مُتَعَلق بالإكرام وَهُوَ للْجَمِيع مَعًا، كَقَوْلِه: إِن كَانُوا مُؤمنين، وَلذَا تتَعَلَّق حُرُوف الْجَرّ الْمُتَأَخِّرَة بِالْفِعْلِ الْمُتَقَدّم، وَهُوَ قَوْله: وقفت، وَهُوَ الْكَلَام وَالْجُمْلَة، فَيجب الْفرق بَين مَا تعلق بِالِاسْمِ، وَمَا تعلق بالْكلَام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2635 قَالَ: وَالْوَقْف على جمل أجنبيات كالوقف على أَوْلَاده، ثمَّ أَوْلَاد فلَان ثمَّ الْمَسَاكِين على أَنه لَا يعْطى مِنْهُم إِلَّا صَاحب عِيَال، يقوى اخْتِصَاص الشَّرْط بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَة؛ لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّة من الأولى. انْتهى. قَوْله: {وَالْإِشَارَة بِلَفْظ ذَلِك بعد الْجمل يعود إِلَى الْكل. ذكره القَاضِي وحفيده، وَابْن عقيل، وَأَبُو الْبَقَاء} . قَالَ ابْن عقيل فِي " الْإِرْشَاد " فِي الْوَعيد: والوعيد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما} [الْفرْقَان: 68] يجب عوده إِلَى جَمِيع مَا تقدم، وَعوده إِلَى بعضه لَيْسَ بلغَة الْعَرَب، وَلِهَذَا لَو قَالَ: من دخل، وخدمني، وأكرمني، فَلهُ دِرْهَم لم يعد إِلَى الدُّخُول فَقَط. وَذكره أَيْضا فِي " الْوَاضِح " فِي مُخَاطبَة الْكفَّار، وَقَالَ: إِذا عَاد للْجَمِيع فالمؤاخذة بِكُل من الْجمل فالخلود للكفر، والمضاعفة فِي قدر الْعَذَاب لما ذكره من الذُّنُوب. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وعَلى الْوَارِث مثل ذَلِك} [الْبَقَرَة: 233] . قيل: الْإِشَارَة إِلَى أُجْرَة الرَّضَاع وَالنَّفقَة. وَقيل: إِلَى النَّهْي عَن الضرار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2636 وَقيل: إِلَى الْجَمِيع، اخْتَارَهُ القَاضِي؛ لِأَنَّهُ على الْمَوْلُود لَهُ، وَهَذَا مَعْطُوف عَلَيْهِ فَيجب للْجَمِيع. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاء فِي قَوْله تَعَالَى: {ذالكم فسق} [الْمَائِدَة: 3] : إِشَارَة إِلَى الْجَمِيع وَيجوز أَن يرجع إِلَى الاستقسام. وَقَالَ أَبُو يعلى الصَّغِير من أَصْحَابنَا فِي قتل مَانع الزَّكَاة فِي آيَة الْفرْقَان الْمَذْكُورَة: ظَاهر اللَّفْظ يَقْتَضِي عود الْعَذَاب وَالتَّخْلِيد إِلَى الْجَمِيع، وكل وَاحِد مِنْهُ لَكِن قَامَ دَلِيل على أَن التخليد لَا يكون إِلَّا بالْكفْر فخصت بِهِ الْآيَة. قَوْله: {والتمييز بعد جمل، مُقْتَضى كَلَام النُّحَاة وَبَعض الْأُصُولِيِّينَ عوده إِلَى الْجَمِيع، وَلنَا خلاف فِي الْفُرُوع} . قَالَه البعلي فِي " أُصُوله ". وَقَالَ فِي " قَوَاعِده الْأُصُولِيَّة ": وَاخْتلف أَصْحَابنَا فِي " الْفُرُوع " على وَجْهَيْن، أصَحهمَا أَن الْأَمر كَذَلِك، فَإِن قَالَ: لَهُ عَليّ - مثلا - ألف وَخَمْسُونَ درهما فالجميع دَرَاهِم على الصَّحِيح من الْمَذْهَب. وَقَالَ أَبُو الْحسن التَّمِيمِي: يرجع فِي تَفْسِير الْألف إِلَيْهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2637 (قَوْله: {فصل} {التَّخْصِيص الْمُنْفَصِل} ) مَا تقدم من الْكَلَام هُوَ فِي التَّخْصِيص بالمتصل، وَالْكَلَام الْآن فِي التَّخْصِيص بالمنفصل. وَالْفرق بَينهمَا أَن الْمُتَّصِل لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ، بل يكون مُتَعَلقا بِاللَّفْظِ الَّذِي فِيهِ الْعَام، والمنفصل عَكسه. قَوْله: {مِنْهُ الْحس} . يجوز التَّخْصِيص بالحس، أَي: الْمُشَاهدَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَأُوتِيت من كل شَيْء} [النَّمْل: 23] ، {تدمر كل شَيْء} [الْأَحْقَاف: 25] فَنحْن نشاهد أَشْيَاء كَثِيرَة لم تؤتها بلقيس كملك سُلَيْمَان، وَنحن نشاهد أَشْيَاء كَثِيرَة لم تدمرها الرّيح كالسموات، وَالْجِبَال، وَغَيرهَا. وَنَحْوه قَوْله تَعَالَى: {مَا تذر من شَيْء أَتَت عَلَيْهِ إِلَّا جعلته كالرميم} الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2638 [الذاريات: 42] ، {يَجِيء إِلَيْهِ ثَمَرَات كل شَيْء} [الْقَصَص: 57] فَإنَّا نشاهد أَشْيَاء لم تجعلها كالرميم، وَأَن مَا فِي أقْصَى الْمغرب والمشرق لم يجب إِلَيْهِ. وَاعْلَم أَن هُنَا ثَلَاثَة أَشْيَاء: الأول: أَن هَذِه الْأَمْثِلَة لَا تتَعَيَّن أَن تكون من الْعَام الْمَخْصُوص بالحس، فقد يدعى أَنَّهَا من الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص. الثَّانِي: أَن مَا كَانَ خَارِجا بالحس قد يدعى أَنه لم يدْخل حَتَّى يخرج، كَمَا يَأْتِي نَظِيره فِي التَّخْصِيص بِالْعقلِ، فَلْيَكُن هَذَا على الْخلاف الَّذِي هُنَاكَ. الثَّالِث: يؤول التَّخْصِيص بالحس إِلَى أَن الْعقل يحكم بِخُرُوج بعض الْأَفْرَاد بِوَاسِطَة الْحس، فَلم يخرج عَن كَونه خَارِجا بِالْعقلِ فليكونا قسما وَاحِدًا، وَإِن اخْتلف طَرِيق الْحُصُول. قَوْله: {وَالْعقل أَيْضا} من المخصصات الْمُنْفَصِلَة. الْعقل ضَرُورِيًّا كَانَ أم نظريا، فالضروري كَقَوْلِه تَعَالَى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2639 {الله خَالق كل شَيْء} [الرَّعْد: 16] ، فَإِن الْعقل قَاض بِالضَّرُورَةِ أَنه لم يخلق نَفسه الْكَرِيمَة، وَلَا صِفَاته. والنظري كتخصيص قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمرَان: 97] فَإِن الْعقل بنظره اقْتضى عدم دُخُول الطِّفْل، وَالْمَجْنُون بالتكليف بِالْحَجِّ؛ لعدم فهمهما، بل هما من جملَة الغافلين الَّذين هم غير مخاطبين بخطاب التَّكْلِيف. قَالَ بعض أَعْيَان الشَّافِعِيَّة: لَا خلاف فِي ذَلِك. قَالَ الْبرمَاوِيّ: نعم، منع كثير من الْعلمَاء أَن مَا خرج من الْأَفْرَاد بِالْعقلِ من بَاب التَّخْصِيص، وَإِنَّمَا الْعقل اقْتضى عدم دُخُوله فِي لفظ الْعَام، وَفرق بَين عدم دُخُوله فِي لفظ الْعَام، وَبَين خُرُوجه بعد أَن دخل. وَمَا ذَكرُوهُ هُوَ ظَاهر نَص الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة "، فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَاب: مَا نزل من الْكتاب عَاما يُرَاد بِهِ الْعَام الَّذِي لم يدْخلهُ خُصُوص: قَوْله تَعَالَى: {الله خَالق كل شَيْء} ، {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها وَيعلم مستقرها ومستودعها} [هود: 6] قَالَ: فَهَذَا عَام لَا خَاص فِيهِ، فَكل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2640 شَيْء من سَمَاء وَأَرْض، وَذي روح وَشَجر وَغير ذَلِك فَالله تَعَالَى خالقه، وكل دَابَّة فعلى الله رزقها، وَيعلم مستقرها ومستودعها. انْتهى. فَجعله الشَّافِعِي مِمَّا لم يدْخلهُ تَخْصِيص، وَمَا ذَاك إِلَّا لِأَن مَا اقْتضى الْعقل عدم دُخُوله لم يدْخل، فَكيف يُقَال دخل ثمَّ خرج؟ قَالَ الْبرمَاوِيّ: نعم اخْتلف فِي أَن هَذَا الْخلاف هَل هُوَ معنوي، أَو لَفْظِي لَا فَائِدَة فِيهِ؟ وَبِالثَّانِي قَالَ الباقلاني، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَابْن الْقشيرِي، وَالْغَزالِيّ، وألكيا، وَغَيرهم، وَوَافَقَهُمْ الْقَرَافِيّ، والتاج السُّبْكِيّ، وَغَيرهم - وَهُوَ الَّذِي صححناه فِي الْمَتْن -. وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: الْخلاف لَفْظِي عِنْد التَّحْقِيق، وَيشْهد لَهُ قَول الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور: أَجمعُوا على صِحَة دلَالَة الْعقل على خُرُوج شَيْء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2641 عَن حكم الْعُمُوم، وَاخْتلفُوا فِي تَسْمِيَته تَخْصِيصًا، وَمن قَالَ بِالْأولِ قَالَ: لِأَن الْعَام الْمَخْصُوص بِدَلِيل الْعقل على قَول من يجوز تَخْصِيصه بِهِ، يَقُول هُوَ حَقِيقَة بِلَا خلاف كَمَا قَالَه الصفي الْهِنْدِيّ. قَالَ بَعضهم: أَو يكون عِنْدهم من الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص فيظنه الْخلاف فِي أَنه هَل يكون حَقِيقَة أَو مجَازًا. وَجعل أَبُو الْخطاب مَأْخَذ الْخلاف فِي كَون الْعقل مُخَصّصا أَو لَا، التحسين والتقبيح العقليين، فَإِن صَحَّ ذَلِك كَانَ هَذَا أَيْضا من فَائِدَة الْخلاف، لَكِن استدركه عَلَيْهِ الْأَصْفَهَانِي والنقشواني بِمَا فِيهِ نظر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2642 (قَوْله: {فصل} ) {أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر إِذا ورد عَام وخاص مقترنين يقدم الْخَاص، وَقيل: يُعَارض الْخَاص بِمَا قابله من الْعَام، وَإِن لم يقترنا قدم الْخَاص مُطلقًا عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه، وَغَيرهم، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد. وَعنهُ وَقَالَهُ أَكثر الْحَنَفِيَّة، والباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي: الْمُتَأَخر نَاسخ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2643 إِذا ورد عَام وخاص فَتَارَة يكونَانِ مقترنين، وَتارَة لَا يكونَانِ مقترنين، فَإِن كَانَا مقترنين مثل مَا لَو قَالَ فِي كَلَام متواصل: اقْتُلُوا الْكفَّار وَلَا تقتلُوا الْيَهُود، أَو يَقُول: زكوا الْبَقر وَلَا تزكوا العوامل، ذكره الْمجد فِي " المسودة "، وَقَالَ: وَبِه قَالَ عَامَّة الْفُقَهَاء والمتكلمين. وَحكي عَن بَعضهم تعَارض الْخَاص وَمَا قابله من الْعَام وَلَا يخصص بِهِ، ذكره أَبُو الْخطاب. وَإِن كَانَا غير مقترنين قدم الْخَاص مُطلقًا، أَعنِي سَوَاء كَانَ الْخَاص مُتَقَدما، أَو مُتَأَخِّرًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَقَالَهُ أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه، وَجَمَاعَة من الْحَنَفِيَّة مِنْهُم: أَبُو زيد. لِأَن فِي تَقْدِيم الْخَاص عملا بكليهما بِخِلَاف الْعَكْس فَكَانَ أولى. وَعَن أَحْمد، وَقَالَهُ أَكثر الْحَنَفِيَّة والمعتزلة، وَابْن الباقلاني، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2644 وَأَبُو الْمَعَالِي: إِن تَأَخّر الْعَام نسخ، وَإِن تَأَخّر الْخَاص نسخ من الْعَام بِقَدرِهِ. فعلى على هَذَا القَوْل إِن جهل التَّارِيخ وقف الْأَمر حَتَّى يعلم التَّارِيخ. قَالَت الْحَنَفِيَّة: وَيُؤَخر الْمحرم احْتِيَاطًا. وَقَالَ الإِمَام أَحْمد فِي رِوَايَة عبد الله بعد كَلَام طَوِيل: يُؤْخَذ بهما حَتَّى تؤتي دلَالَة بِأَن الْخَبَر قبل الْخَبَر فَيكون الْأَخير أولى. وتأولها القَاضِي على أَن الْخَبَرَيْنِ خاصان. قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": وَفِيه نظر، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: فَاسد لتمثيله أول الرِّوَايَة بِخَبَر حَكِيم، وَهُوَ عَام فِي البيع مَعَ السّلم وَهُوَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2645 خَاص، وبخبر الْمُصراة، وَهُوَ خَاص مَعَ الْخراج بِالضَّمَانِ، وَهُوَ عَام فِي كل ضَمَان. وَذكر الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة بِتَقْدِيم الْمُتَأَخر مُطلقًا. وخرجه بعض أَصْحَابنَا على قَول من منع من تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْخطاب إِلَى وَقت الْحَاجة من أَصْحَابنَا، وَقَالَهُ بعض الْمَالِكِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، فَإِن جهل التَّارِيخ اقْتَضَت تعارضهما، هَكَذَا قَالَ فِي " الرَّوْضَة ". وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: مَنْصُوص أَحْمد إِن فقد التَّارِيخ يقدم الْخَاص، وَإِلَّا قدم الْمُتَأَخر وَهُوَ أقوى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2646 قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَقَالَهُ بعض الْحَنَفِيَّة وَبَعض الْمُعْتَزلَة. قَالَ: وَيقدم الْخَاص؛ لجهل التَّارِيخ، وَإِن قُلْنَا الْعَام الْمُتَأَخر ينْسَخ؛ لِأَن الْعَام لم يعلم ثُبُوته فِي قدر الْخَاص لجَوَاز اتصالهما، أَو تقدم الْعَام، أَو تَأَخره مَعَ بَيَان التَّخْصِيص مُقَارنًا، نَقله ابْن مُفْلِح. وَجه القَوْل الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ} [الْمَائِدَة: 5] خص {وَلَا تنْكِحُوا المشركات} [الْبَقَرَة: 221] ، قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: على هَذَا عَامَّة الْفُقَهَاء، وروى مَعْنَاهُ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، مِنْهُم: عُثْمَان، وَطَلْحَة، وَحُذَيْفَة، وَجَابِر، وَابْن عَبَّاس. وَأَيْضًا الْخَاص قَاطع، أَو أَشد تَصْرِيحًا، وَأَقل احْتِمَالا. وَلِأَنَّهُ لَا فرق لُغَة بَين تَقْدِيم الْخَاص وتأخيره، قَالُوا: فِي النّسخ: إِعْمَال الدَّلِيلَيْنِ فِي زمانين، وَفِي التَّخْصِيص إبِْطَال للْعُمُوم فِي بعض أَفْرَاده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2647 وَلِأَنَّهُ لَو قَالَ: لَا تقتل زيدا للشرك، ثمَّ قَالَ: اقْتُلُوا الْمُشْركين، كَانَ فِي قُوَّة: اقْتُل زيدا وَأَنه نسخ. رد: شَرطه الْمُسَاوَاة، وَعدم الْجمع، ثمَّ التَّخْصِيص مَانع، والنسخ رَافع، وَالدَّفْع أسهل مِنْهُ، وَهُوَ أغلب، والنسخ نَادِر. قَالُوا: عَن ابْن عَبَّاس عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنه صَامَ فِي سفر ثمَّ أفطر، قَالَ: وَكَانَ صحابة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتبعُون الأحدث فالأحدث من أمره. رَوَاهُ مُسلم. وَفِي البُخَارِيّ عَن الزُّهْرِيّ وَإِنَّمَا يُؤْخَذ من أمره - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - بِالْآخرِ فالآخر. وَاحْتج بِهِ أَحْمد فِي رِوَايَة عبد الله السَّابِقَة. رد: بِحمْلِهِ على غير الْمُخَصّص جمعا بَين الْأَدِلَّة. الْمَانِع مِنْهُ فِي الْكتاب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2648 لَو جَازَ لم يكن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُبينًا، وَقد قَالَ تَعَالَى: {لتبين للنَّاس} [النَّحْل: 44] عرُوض بقوله: {تبيانا لكل شَيْء} [النَّحْل: 89] ثمَّ عَلَيْهِ السَّلَام مُبين لَهما. قَوْله: {وَإِن كَانَ كل مِنْهُمَا عَاما من وَجه، خَاصّا من وَجه تَعَارضا وَطلب الْمُرَجح} . مَا تقدم فِي الْمَسْأَلَة قبلهَا فِي حكم الْعَام وَالْخَاص إِذا كَانَا مقترنين أَو غير مقترنين، وَالْكَلَام هُنَا إِذا كَانَ كل مِنْهُمَا عَاما من وَجه، خَاصّا من وَجه. مِثَاله: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا فَليصل إِذا ذكرهَا " مَعَ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاة بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس "، فَالْأول خَاص فِي الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة الْفَائِتَة، عَام فِي الْوَقْت، وَالثَّانِي عَكسه؛ لِأَنَّهُ عَام فِي الْمَكْتُوبَة والنافلة، خَاص فِي الْوَقْت. مثله قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ " مَعَ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نهيت عَن قتل النِّسَاء " فَالْأول عَام فِي الرِّجَال وَالنِّسَاء، خَاص فِي الْمُرْتَدين، وَالثَّانِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2649 خَاص فِي النِّسَاء عَام فِي الحربيات والمرتدات. إِذا علم ذَلِك فَالصَّحِيح أَنَّهُمَا يتعادلان؛ لعدم أَوْلَوِيَّة أَحدهمَا بِالْعَمَلِ بِهِ دون الآخر، وَيطْلب الْمُرَجح من خَارج، وَقد يرجح الأول بِقِيَام الْقَرِينَة على اخْتِصَاص الثَّانِي بِسَبَبِهِ، وَهُوَ الحربيات. {وَعند الْحَنَفِيَّة الْمُتَأَخر نَاسخ} ، تابعت فِي ذَلِك التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع " لَكِن قَالَ الزَّرْكَشِيّ شَارِحه: وَمَا حَكَاهُ عَن الْحَنَفِيَّة من أَن الْمُتَأَخر نَاسخ، فَهُوَ قِيَاس مَا تقدم عَنْهُم، لَكِن لم أَجِدهُ صَرِيحًا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. انْتهى. قَوْله: {وَقيل لَا يخصص الْكتاب بِالْكتاب وَلَا السّنة بِالسنةِ} . هَذَا القَوْل عَائِد إِلَى أصل الْمَسْأَلَة، وَهُوَ مَا إِذا ورد عَام وخاص. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْعلمَاء أَن الْكتاب يخص بِالْكتاب، وَأَن السّنة تخص بِالسنةِ، وَهُوَ من تَخْصِيص قَطْعِيّ الْمَتْن بقطعيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2650 مِثَاله قَوْله تَعَالَى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} [الْبَقَرَة: 228] فَخص عُمُومه بالحوامل فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} [الطَّلَاق: 4] وَخص أَيْضا عُمُومه فِي الْمَدْخُول بهَا وَغَيرهَا بقوله تَعَالَى فِي غير الْمَدْخُول بهَا: {تمَسُّوهُنَّ فَمَا لكم عَلَيْهِنَّ من عدَّة تعتدونها} [الْأَحْزَاب: 49] . وَنَحْوه قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ} الْآيَة [الْبَقَرَة: 234] ، خص بقوله تَعَالَى: {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} [الْبَقَرَة: 221] بقوله تَعَالَى: {وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ} [الْمَائِدَة: 5] كَمَا تقدم فِي بحث الْمَسْأَلَة. والمخالف فِي مَسْأَلَة تَخْصِيص الْكتاب بِالْكتاب بعض الظَّاهِرِيَّة، وتمسكوا بِأَن التَّخْصِيص بَيَان للمراد بِاللَّفْظِ فَلَا يكون إِلَّا بِالسنةِ؛ لقَوْله تَعَالَى: {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} [النَّحْل: 44] وَمَا ذكر من الْأَمْثِلَة يجوز أَن يكون التَّخْصِيص فِيهِ بِالسنةِ، كَمَا فِي حَدِيث أبي السنابل بن بعكك مَعَ سبيعة الأسْلَمِيَّة حِين قَالَ: مَا أَنْت بناكح حَتَّى تمر عَلَيْك أَرْبَعَة أشهر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2651 وَعشر، فَجَاءَت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأفتاها بِأَنَّهَا قد حلت بِوَضْع حملهَا. وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا يخرج عَن كَونه مُبينًا إِذا بَين مَا أنزل بِآيَة أُخْرَى منزلَة كَمَا بَين مَا أنزل عَلَيْهِ من السّنة، فَإِن الْكل منزل. تَنْبِيه: لَا يخفى أَن هَذِه الْمَسْأَلَة فرع عَن كَون الْخَاص مَعَ الْعَام يخصصه، سَوَاء تقدم، أَو تَأَخّر، أَو جهل، أَو قَارن فَهُوَ تَخْصِيص، لَا نسخ خلافًا لأبي حنيفَة، وَإِن كَانَ ابْن الْحَاجِب مزجهما مَعًا فِي " مُخْتَصره "، حَتَّى اضْطربَ الشُّرَّاح فِي تَقْرِير كَلَامه. قَالَه الْبرمَاوِيّ. وَالصَّحِيح أَيْضا أَن السّنة تخص بِالسنةِ، وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْعلمَاء. وَاسْتدلَّ لذَلِك بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر " يخصص الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2652 بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة "، وَهُوَ كثير، والمخالف فِي ذَلِك دَاوُد الظَّاهِرِيّ وَطَائِفَة فَقَالَ: إنَّهُمَا يتعارضان. ومنشأ الْخلاف أَيْضا مَا سبق فِي أَن السّنة إِنَّمَا تكون مبينَة لَا محتاجة للْبَيَان. قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب: منع بَعضهم من تَخْصِيص السّنة بِالسنةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2653 (قَوْله: {فصل} {تَخْصِيص السّنة بِالْكتاب} ) وَهَذَا قَلِيل جدا حَتَّى إِن الْبَيْضَاوِيّ لم يذكرهُ وَابْن الْحَاجِب وَإِن ذكره لم يمثل لَهُ. ومثاله قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أبين من حَيّ فَهُوَ ميت " رَوَاهُ ابْن ماجة، خص بقوله تَعَالَى: {وَمن أصوافها وأوبارها وَأَشْعَارهَا أثاثا ومتاعا إِلَى حِين} [النَّحْل: 80] . وَمن أمثلته قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا رَوَاهُ مُسلم عَن عبَادَة بن الصَّامِت: " خُذُوا عني، خُذُوا عني قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا الْبكر بالبكر: جلد مائَة وَنفي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2654 سنة، وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ: جلد مائَة وَالرَّجم " فَإِن ذَلِك يَشْمَل الْحر وَالْعَبْد، فخصص بقوله تَعَالَى: {فَإِذا أحصن فَإِن أتين بِفَاحِشَة فعليهن نصف مَا على الْمُحْصنَات من الْعَذَاب} [النِّسَاء: 25] . وَمِنْه حَدِيث: " لَا يقبل الله صَلَاة أحدكُم حَتَّى يتَوَضَّأ " خص مِنْهُ الْمُتَيَمم بِآيَة التَّيَمُّم. وَقد يمْنَع هَذَا من يرى أَن التَّيَمُّم يرفع الْحَدث. وَمِنْه حَدِيث: " أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا الله " خص بقوله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة} [التَّوْبَة: 29] . وَمِنْه حَدِيث: " إِن الله تجَاوز لأمتي مَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا " خص بقوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2655 تَعَالَى فِي سبق اللِّسَان بِالْيَمِينِ: {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم} [الْبَقَرَة: 225] . وَعَن أَحْمد: لَا تخصص السّنة بِالْكتاب، اخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَبَعض الْمُتَكَلِّمين. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَهُوَ مُقْتَضى قَول مَكْحُول، وَيحيى بن أبي كثير [إِن] السّنة تقضي على الْكتاب، وَالْكتاب لَا يقْضِي على السّنة. قَالَ: وَهُوَ الْأَغْلَب على كَلَام الشَّافِعِي. قَوْله: {ويخص الْكتاب بالمتواترة إِجْمَاعًا} ، حَكَاهُ ابْن مُفْلِح وَغَيره. قَوْله: {وبخبر الْوَاحِد} ، أَي: يخص الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح. وَقَالَهُ أَحْمد، وَمَالك، وَالشَّافِعِيّ، ... الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2656 وأصحابهم، وَبَعض الْحَنَفِيَّة. وَنَقله الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب عَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة. {وَعنهُ الْمَنْع، اخْتَارَهُ الْفَخر} إِسْمَاعِيل من أَصْحَابنَا، {وَغَيره} فَقَالَ: لَهُ ظُهُور واتجاه. وَنَقله الْغَزالِيّ عَن الْمُعْتَزلَة، وَنَقله ابْن برهَان عَن طَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين وَالْفُقَهَاء. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَعند الْحَنَفِيَّة إِن كَانَ خص بِدَلِيل مجمع عَلَيْهِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ ابْن أبان: {إِن خص بقاطع جَازَ} تَخْصِيصه بعد ذَلِك بالآحاد؛ لِأَنَّهُ بعد التَّخْصِيص يكون مجَازًا فِي الْبَاقِي، أما قبله فحقيقة فِي الْأَفْرَاد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2657 وَقَالَ {الْكَرْخِي: إِن خص} قبل ذَلِك {بمنفصل جَازَ} أَن يخص بالآحاد، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ بالتخصيص بالمنفصل يصير مجَازًا عِنْده. وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا القَوْل وَالَّذِي قبله مبنيان على القَوْل بِأَن دلَالَة الْعَام على كل فَرد من أَفْرَاده قطيعة. {ووقف} القَاضِي أَبُو بكر ابْن {الباقلاني} : إِمَّا على معنى لَا نَدْرِي، وَإِمَّا على معنى تعَارض أَمريْن: دلَالَة الْعُمُوم على إثْبَاته، وَدلَالَة الْخُصُوص على نَفْيه؛ وَذَلِكَ لِأَن متن الْكتاب قَطْعِيّ وفحواه مظنون، وَخبر الْوَاحِد بِالْعَكْسِ فتعارضا، وَلَا مُرَجّح فالوقف، وَالله أعلم. وَقيل: يجوز أَن يَقع التَّخْصِيص بذلك وَلَكِن مَا وَقع حَكَاهُ الباقلاني فِي " التَّقْرِيب "، وَهُوَ معنى قَوْلنَا: {وَقيل لم يَقع} . وَاسْتدلَّ للْأولِ: بِأَنَّهُ إِجْمَاع الصَّحَابَة كَمَا خصوا {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} [النِّسَاء: 24] بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة: " لَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا، وَلَا على خَالَتهَا " مُتَّفق عَلَيْهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2658 وَآيَة السّرقَة بِمَا دون النّصاب، وَقتل الْمُشْركين بِإِخْرَاج الْمَجُوس وَغير ذَلِك. قَالُوا: رد عمر خبر فَاطِمَة بنت قيس أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يَجْعَل لَهَا سُكْنى، وَلَا نَفَقَة لتخصيصه لقَوْله: {أسكنوهن} ؛ وَلِهَذَا قَالَ: كَيفَ نَتْرُك كتاب الله لقَوْل امْرَأَة! رد: لتردده فِي صِحَّته، أَو مُخَالفَته سنة عِنْده، وَلِهَذَا فِي مُسلم: لَا نَتْرُك كتاب الله وَسنة نَبينَا لقَوْل امْرَأَة لَعَلَّهَا حفظت، أَو نسيت. مَعَ أَن أَحْمد ضعفه، وَذكر ابْن عقيل عَنهُ بِأَنَّهُ أجَاب بِأَنَّهُ احْتِيَاط، وَضعف الدَّارَقُطْنِيّ قَوْله: (وَسنة نَبينَا) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2659 وَلَا يَصح: صدقت أَو كذبت. قَالُوا: الْعَام قَطْعِيّ، وَالْخَبَر ظَنِّي لَا سِيمَا إِن ضعف بتخصيصه. رد: دلَالَته ظنية والتخصيص فِيهَا، وَالْخَبَر دلَالَته قَطْعِيَّة. قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَحكمه يثبت بِأَمْر قَاطع فالجمع أولى. الْقَائِل بِالْوَقْفِ: كِلَاهُمَا قَطْعِيّ ظَنِّي من وَجه. رد: الْجمع أولى. قَوْله: {وَخص السَّمْعَانِيّ مَحل الْخلاف بِخَبَر لم يجمع على الْعَمَل بِهِ} ، فَإِن أجمع على الْعَمَل بِهِ فَلَيْسَ فِيهِ خلاف فِي أَنه يجوز التَّخْصِيص بِهِ عِنْده. وَكَذَا ألحق الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور بالمتواتر الْمَقْطُوع بِصِحَّتِهِ، وَمثله بتخصيص آيَة الْمَوَارِيث بِحَدِيث: " لَا يَرث الْمُسلم الْكَافِر ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2660 و [مثله] السَّمْعَانِيّ بِحَدِيث: " لَا مِيرَاث لقَاتل "، و " لَا وَصِيَّة لوَارث " وَنَهْيه عَن الْجمع بَين الْمَرْأَة وعمتها، فَيجوز التَّخْصِيص بِهِ بِلَا خلاف؛ لِأَن هَذِه الْأَخْبَار بِمَنْزِلَة الْمُتَوَاتر؛ لانعقاد الْإِجْمَاع على حكمهَا وَإِن لم ينْعَقد على رِوَايَتهَا. انْتهى. ورده الْبرمَاوِيّ فَقَالَ: قلت وَفِي ذَلِك كُله نظر؛ لِأَنَّهُ إِن أُرِيد الْقطع بِصِحَّة الْمَتْن فَهَذِهِ مَسْأَلَة مَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مُسْندًا هَل هُوَ مَقْطُوع بِصِحَّتِهِ - كَمَا اخْتَارَهُ ابْن الصّلاح - أَولا؟ وَهُوَ الَّذِي صَوبه النَّوَوِيّ وَقَالَ بِهِ الْأَكْثَر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2661 وعَلى الثَّانِي فَكيف يُسَاوِي الْقُرْآن وَالْمَانِع من التَّخْصِيص بِالسنةِ لِلْقُرْآنِ إِنَّمَا مُسْتَنده عدم الْمُسَاوَاة. وَإِن أُرِيد الْقطع فِي الدّلَالَة فَلَا شَيْء مَقْطُوع بدلالته من النقليات، وَإِن أُرِيد انْعِقَاد الْإِجْمَاع على الحكم فالتخصيص حِينَئِذٍ إِنَّمَا هُوَ بِالْإِجْمَاع لَا بِالسنةِ. قَوْله: {وَكَذَا تَخْصِيص متواتر بآحاد} . هَذِه الْمَسْأَلَة قل من ذكرهَا، وَهِي وَاضِحَة كتخصيص الْكتاب بالآحاد، وَقد صرح بهَا القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني وَغَيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2662 (قَوْله: {فصل} ) {يخص الْعَام بِمَفْهُوم الْمُوَافقَة اتِّفَاقًا} ، قَالَه الْآمِدِيّ وَغَيره. وَمن المخصصات الْمُنْفَصِلَة تَخْصِيص اللَّفْظ الْعَام بفحوى الْخطاب، أَي: بِمَفْهُوم الْمُوَافقَة مِثَاله: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ليُّ الْوَاجِد يحل عرضه وعقوبته ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة، وَابْن حبَان، وَالْحَاكِم، وَالْبَيْهَقِيّ، قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2663 واللي: المطل، وَالْمرَاد بِحل عرضه أَن يَقُول غَرِيمه: ظَلَمَنِي، وبعقوبته: الْحَبْس. خص بِمَفْهُوم قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} [الْإِسْرَاء: 23] فمفهومه أَنه لَا يؤذيهما بِحَبْس، وَلَا غَيره؛ فَلذَلِك لَا يحبس الْوَالِد بدين وَلَده، بل وَلَا لَهُ مُطَالبَته على الصَّحِيح من الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ أَكثر الْعلمَاء. وَمحل هَذَا حَيْثُ لم يَجْعَل من بَاب الْقيَاس فَأَما إِن قُلْنَا: إِنَّه من بَاب الْقيَاس فَيكون مُخَصّصا بِالْقِيَاسِ. قَوْله: {وبالمخالفة عِنْد الْقَائِل بِهِ} . يخص الْعُمُوم بِمَفْهُوم الْمُخَالفَة عِنْد الْقَائِل بِهِ على الصَّحِيح من قولي الْعلمَاء، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2664 مِثَال ذَلِك قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ لم يحمل الْخبث ". رَوَاهُ الْأَرْبَعَة، وَصَححهُ ابْن حبَان، وَالْحَاكِم، وَالْبَيْهَقِيّ، وَغَيره. خص بمفهومه وَهُوَ مَا لم يبلغ قُلَّتَيْنِ عُمُوم قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء إِلَّا مَا غلب على رِيحه، أَو طعمه، أَو لَونه ". رَوَاهُ ابْن ماجة، وَالْبَيْهَقِيّ، فَإِنَّهُ أَعم من الْقلَّتَيْنِ ودونهما فَتَصِير القلتان فِي الحَدِيث الأول تنجسهما مَخْصُوص بالتغيير بِالنَّجَاسَةِ، وَيبقى مَا دونهمَا ينجس بِمُجَرَّد الملاقاة فِي غير الْمَوَاضِع المستثناة بِدَلِيل آخر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2665 قَوْله: {وَخَالف القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب أَيْضا، والمالكية، وَابْن حزم} ، وَغَيرهم، فَقَالُوا: لَا يخص الْعُمُوم بِمَفْهُوم الْمُخَالفَة. اسْتدلَّ للْأولِ: أَنه خَاص، وَفِيه جمع بَينهمَا فَكَانَ أولى. قَالُوا: الْعَام مجمع على دلَالَته. رد: بِالْمَنْعِ، ثمَّ الْفَرْض أَن الْمَفْهُوم حجَّة، فَإِن كَانَت صُورَة السُّكُوت أولى بالحكم من الْمَنْطُوق فَهُوَ التَّنْبِيه، وَهُوَ أولى من الْمَفْهُوم أَو اقْتضى الْقيَاس استواءهما فَهُوَ أولى من الْمَفْهُوم كنهيه عَن بيع الطَّعَام مَعَ نَهْيه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2666 عَن بيع مَا لم يقبض، وَقَوله فِي اخْتِلَاف الْمُتَبَايعين والسلعة قَائِمَة. ذكر ذَلِك القَاضِي. وَفِي " الْوَاضِح ": نَهْيه عَن بيع الطَّعَام مَعَ الْحَاجة إِلَيْهِ تَنْبِيه على غَيره فَقدم والتحالف مَعَ تلف السّلْعَة أولى؛ لِإِمْكَان الدّلَالَة على صدق أَحدهمَا بِقِيمَتِهَا الشاهدة بِالثّمن لمثلهَا. قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَيجب أَن يخرج فِي تَقْدِيم الْقيَاس على الْمَفْهُوم وَجْهَان كتخصيص الْمَفْهُوم بِالْقِيَاسِ، بل أولى، وَصرح القَاضِي بِأَن تَقْدِيم الْقيَاس مَأْخُوذ من تَقْدِيمه على الْعُمُوم، وَقَالَهُ فِي " التَّمْهِيد ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2667 وَفِي الْقيَاس من " الْوَاضِح ": لَا عدَّة على ذِمِّيَّة قبل الدُّخُول قِيَاسا على المؤمنة تَقْدِيمًا لَهُ على الْمَفْهُوم، قَالَ: وَلم يذكر الله قذف المحصنين من الرِّجَال، فَنظر القائسون إِلَى الْمَعْنى. وَمِنْه قِيَاس عبد على أمة فِي تنصيف الْحَد. وقاس الْجُمْهُور اسْتِعْمَال آنِية ذهب وَفِضة فِي غير أكل وَشرب عَلَيْهِمَا، وَغير الْحجر عَلَيْهِ فِي الِاسْتِجْمَار، وَالظفر على الشّعْر فِي الْإِحْرَام. قَالَ بعض أَصْحَابنَا: تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْمَفْهُومِ إِنَّمَا هُوَ فِي كلامين منفصلين من مُتَكَلم وَاحِد، أَو فِي حكم الْوَاحِد، ككلام الله وَرَسُوله، لَا فِي كَلَام وَاحِد مُتَّصِل، وَلَا متكلمين يجب اتِّحَاد مقصودهما، كبينة شهِدت أَن جَمِيع الدَّار لزيد، وَأُخْرَى أَن الْموضع الْفُلَانِيّ مِنْهَا لعَمْرو، فَإِنَّهُمَا يتعارضان فِي ذَلِك الْموضع. قَالَ: وَغلط بعض النَّاس، فَجمع بَينهمَا؛ لِأَنَّهُ من بَاب الْعَام وَالْخَاص كَمَا غلط بَعضهم فِي كَلَام مُتَكَلم مُتَّصِل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2668 قَوْله: {وبالإجماع، أَي: بدليله} . يخص الْعَام بِالْإِجْمَاع. وَالْمرَاد بِدَلِيل الْإِجْمَاع لَا أَنه نَفسه مُخَصص؛ لِأَنَّهُ لَا يعْتَبر زمن الْوَحْي؛ إِذْ الْإِجْمَاع لَا بُد لَهُ من دَلِيل يسْتَند إِلَيْهِ، وَإِن لم نعرفه. ومثاله: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات} [النُّور: 4] خص بِالْإِجْمَاع على أَن العَبْد الْقَاذِف يجلد على النّصْف من الْحر. لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: فِي التَّمْثِيل بذلك نظر؛ لاحْتِمَال أَن يكون التَّخْصِيص بِالْقِيَاسِ، ثمَّ قَالَ: فَإِن قيل لم لَا تَقولُونَ بِأَن الْإِجْمَاع يكون نَاسِخا على معنى أَنه يتَضَمَّن نَاسِخا؟ فَجَوَابه: أَن سَنَد الْإِجْمَاع قد يكون مِمَّا لَا ينْسَخ بِهِ، فَلَيْسَ فِي كل إِجْمَاع تضمن لما يسوغ النّسخ بِهِ، وَأما التَّخْصِيص فَلَمَّا كَانَ من الْبَيَان كَانَ كل دَلِيل مُخَصّصا بِهِ. انْتهى. وَجعل بعض الْعلمَاء من أَمْثِلَة الْمَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله ... ... كُنْتُم تعلمُونَ} [الْجُمُعَة: 9] خص بِالْإِجْمَاع على عدم وجوب الْجُمُعَة على العَبْد وَالْمَرْأَة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2669 هَذَا فِي تَخْصِيص الْكتاب بِالْإِجْمَاع، وَأما تَخْصِيص السّنة الْعَامَّة بِالْإِجْمَاع فَلم أرهم تعرضوا لَهُ كَأَنَّهُمْ استغنوا بمثال تَخْصِيص الْقُرْآن، وَالله أعلم. قَوْله: وَلَو عمل أهل الْإِجْمَاع بِخِلَاف نَص خَاص تضمن نَاسِخا، أَي: لَا يكون إِجْمَاعهم نَاسِخا لذَلِك النَّص، بل النَّاسِخ هُوَ الدَّلِيل الَّذِي تضمنه الْإِجْمَاع، وَهُوَ مُسْتَند الْإِجْمَاع، وَالْإِجْمَاع دَلِيل عَلَيْهِ، وَتَخْصِيص الْإِجْمَاع كَذَلِك فَإِن الدَّلِيل الَّذِي تضمنه الْإِجْمَاع هُوَ الْمُخَصّص، وَالْإِجْمَاع دَلِيل عَلَيْهِ كَمَا تقدم ذَلِك. قَوْله: {وبفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْد الْأَرْبَعَة، وَغَيرهم إِن شَمله الْعُمُوم، وَمنعه قوم، ووقف عبد الْجَبَّار} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2670 من المخصصات للعام فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِشَرْط على الصَّحِيح من أَقْوَال الْعلمَاء، كَمَا لَو قَالَ: كشف الْفَخْذ حرَام على كل مُسلم، ثمَّ فعله؛ لِأَن فعله كَقَوْلِه فِي الدّلَالَة، سَوَاء فاستويا فِي التَّخْصِيص. وَالظَّاهِر أَنه وَأمته سَوَاء فِيهِ. وَقد خص أَحْمد قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} [الْبَقَرَة: 222] بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: دلّ على أَنه أَرَادَ الْجِمَاع. وَقَالَ جمع - مِنْهُم الْكَرْخِي -: لَا يخص بِهِ مُطلقًا. اخْتَارَهُ ابْن برهَان، وَذَلِكَ تَخْصِيصًا لدَلِيل الِاتِّبَاع الْعَام بِهَذَا جمعا بَينهمَا. وَقيل: إِن فعله مرّة فَلَا تَخْصِيص بِهِ؛ لاحْتِمَال أَنه من خَصَائِصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، نَقله صَاحب " الكبريت الْأَحْمَر " عَن الْكَرْخِي، وَغَيره من الْحَنَفِيَّة، قَالَ: فَإِن تكَرر خص بِهِ إِجْمَاعًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2671 وَقيل: إِن كَانَ فعلا ظَاهرا خص بِهِ، وَإِن كَانَ مستترا فَلَا. وَقيل: إِن اشْتهر كَون الْفِعْل من خَصَائِصه لم يخص بِهِ، وَإِلَّا خص، جزم بِهِ سليم الرَّازِيّ فِي " التَّقْرِيب ". وَقَالَ ألكيا: إِنَّه أصح، قَالَ: وَلِهَذَا حمل الشَّافِعِي تَزْوِيج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم على أَنه كَانَ من خَصَائِصه. وَقيل بِالْوَقْفِ، وَنقل عَن عبد الْجَبَّار. وَقيل: إِن كَانَ منافيا للظَّاهِر خص بِهِ، أَو مُوَافقا فَلَا. قَوْله: {أما إِن ثَبت وجوب اتِّبَاع الْأمة لَهُ بِدَلِيل خَاص فالدليل نَاسخ للعام} مَحل كَونه مُخَصّصا مَا إِذا كَانَ الْعُمُوم شَامِلًا لَهُ وللأمة، بِتَحْرِيم شَيْء مثلا، ثمَّ يفعل الْفِعْل الْمنْهِي عَنهُ، وَهُوَ مِمَّا لَا يجب اتِّبَاعه فِيهِ، إِمَّا لكَونه من خَصَائِصه، أَو غير ذَلِك. أما إِذا أَوجَبْنَا التأسي بِهِ فِيهِ فيرتفع الحكم عَن الْكل، وَذَلِكَ نسخ، لَا تَخْصِيص. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2672 وَأما إِذا كَانَ الْعُمُوم للْأمة دونه فَفعله لَيْسَ بتخصيص لعدم دُخُوله فِي الْعُمُوم، وَقد مثل لذَلِك بِالنَّهْي عَن اسْتِقْبَال الْقبْلَة واستدبارها، ثمَّ جلس فِي بَيت حَفْصَة مُسْتَقْبلا بَيت الْمُقَدّس. فعلى القَوْل بِأَن النَّهْي شَامِل للصحراء والبنيان فَيحرم فيهمَا، وَبِه قَالَ جمع وَيكون النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خص بذلك وَخرج من عُمُوم النَّهْي، وَإِن قُلْنَا: إِنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْسَ مُخْتَصًّا بذلك فالتخصيص للبنيان من الْعُمُوم، سَوَاء هُوَ وَالْأمة فِي ذَلِك. وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ أَنه لَا وَجه للْخلاف فِي التَّخْصِيص بِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إِن وَجب التأسي فنسخ، وَإِلَّا فَلَا تَخْصِيص، قَالَ: وَالْأَظْهَر الْوَقْف؛ لِأَن دَلِيل وجوب التأسي عَام أَيْضا فتعارضا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2673 فَقيل لَهُ: الْفِعْل مَعَ أَدِلَّة التأسي أخص من اللَّفْظ الْعَام. فَأجَاب: لَا دلَالَة للْفِعْل على وجوب التأسي والموجب مسَاوٍ للعام. قَوْله: {وبإقراره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على فعل عِنْد أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر وَهُوَ أقرب من نسخه مُطلقًا، أَو عَن فَاعله، وَقيل: ينْسَخ إِن نسخ بِالْقِيَاسِ} . تَقْرِيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمن فعل فعلا من أمته بِحَضْرَتِهِ مُخَالفا للْعُمُوم وَلم يُنكره مَعَ علمه، تَخْصِيص على الصَّحِيح من أَقْوَال الْعلمَاء، وَقَالَهُ أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، وَهُوَ أقرب من نسخه مُطلقًا أَو عَن فَاعله. اسْتدلَّ للْأولِ بِأَن سُكُوته عَن ذَلِك مَعَ علمه دَلِيل جَوَازه وَإِلَّا لوَجَبَ إِنْكَاره. قَالَ المنكرون لذَلِك: التَّقْرِير لَا صِيغَة لَهُ فَلَا يُقَابل: الصِّيغَة. رد: بِجَوَازِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2674 قَالَ الْآمِدِيّ: قطعا، فَجَاز تَخْصِيصه. ثمَّ قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": يعم غَيره. وَغَيره على الْمُخْتَار، وَهُوَ التَّاج السُّبْكِيّ فِي " شرح الْمُخْتَصر "، وَاخْتَارَ ابْن الْحَاجِب أَنه لَا يتَعَدَّى إِلَى غَيره وَإِن فهم الْمَعْنى فَمثله يُشَارِكهُ فِيهِ، وَلَو عَم الْأمة كَانَ نسخا لَا تَخْصِيصًا، كَمَا ظن بَعضهم. وَقَالَ بَعضهم: يكون نَاسِخا إِن جَازَ النّسخ بِالْقِيَاسِ، وَسَيَأْتِي الْخلاف فِي جَوَاز النّسخ بِالْقِيَاسِ فِي بَاب النّسخ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: فَائِدَة: التَّخْصِيص بالتقرير، هَل هُوَ تَخْصِيص بِنَفس تَقْرِيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو بِمَا تضمنه من سبق قَول بِهِ، فَيكون مستدلا بتقريره على أَنه خص بقول سَابق؛ إِذْ لَا يجوز لَهُم أَن يَفْعَلُوا مَا فِيهِ مُخَالفَة للعام إِلَّا بِإِذن صَرِيح فتقريره دَلِيل ذَلِك. فِيهِ وَجْهَان للشَّافِعِيَّة حَكَاهُمَا ابْن الْقطَّان، وألكيا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2675 قَالَ ابْن فورك، والطبري: الظَّاهِر الأول. قلت: وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا وَغَيرهم. قَوْله: {وَمذهب الصَّحَابِيّ إِن قيل هُوَ حجَّة وَإِلَّا فَلَا عِنْد} الْأَئِمَّة {الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} . قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ". قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: إِذا قُلْنَا قَول الصَّحَابِيّ حجَّة جَازَ تَخْصِيص الْعَام بِهِ، نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَبِه قَالَت الْحَنَفِيَّة، والمالكية، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2676 وَابْن حزم، وَعِيسَى بن أبان، وللشافعية وَجْهَان إِذا قَالُوا بقوله الْقَدِيم فِي كَونه حجَّة. انْتهى. إِذا علم ذَلِك هَل يكون مَذْهَب الصَّحَابِيّ مُخَصّصا أم لَا؟ تَارَة نقُول: إِن قَوْله حجَّة، وَتارَة يَقُول: لَيْسَ بِحجَّة، فَإِن قُلْنَا: إِنَّه حجَّة كَانَ مُخَصّصا على الصَّحِيح، وَقد نَقله ابْن مُفْلِح عَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم. وَقَالَ: {وَمنعه بعض الشَّافِعِيَّة مُطلقًا} ، أَي: لَا يكون مُخَصّصا وَلَو قُلْنَا إِنَّه حجَّة. قَالَ الْبرمَاوِيّ: إِذا كَانَ مورد النزاع فِي الصَّحَابِيّ، فَهَل هُوَ تَفْرِيع على أَن قَوْله حجَّة؟ فَأَما إِن قُلْنَا إِنَّه غير حجَّة فَلَا يخصص بِهِ قطعا. أَو أَنه تَفْرِيع على أَنه غير حجَّة، أما إِذا قُلْنَا إِنَّه حجَّة فيخصص بِهِ قطعا فِيهِ اضْطِرَاب أَيْضا، فَفِي " التَّقْرِيب " للباقلاني الأول، قَالَ: وَقد ينْسب للشَّافِعِيّ ذَلِك فِي قَوْله الَّذِي يجوز فِيهِ تَقْلِيد الصَّحَابِيّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2677 قَالَ: وَنقل عَنهُ أَنه لَا يخصص بِهِ إِلَّا إِذا انْتَشَر فِي أهل الْعَصْر / وَلم ينكروه وَجعل ذَلِك منزلا منزلَة الْإِجْمَاع. وَكَذَا فَرعه كثير من الْعلمَاء على حجية قَول الصَّحَابِيّ، لَكِن فِي استدلالات ابْن الْحَاجِب فِي الْمَسْأَلَة، وَبِه قَالَ جمع من الْعلمَاء إِن ذَلِك إِذا قُلْنَا إِن قَوْله غير حجَّة؛ لِأَن القَوْل بحجيته إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ لم يُخَالف قَوْله قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. انْتهى. وَإِن قُلْنَا: إِن قَول الصَّحَابِيّ غير حجَّة فَلَا يكون مُخَصّصا للعام، هَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ مُعظم الْعلمَاء. وَقيل: يخصص بِهِ سَوَاء كَانَ الرَّاوِي صحابيا أَو غَيره، وَنَقله ابْن الْحَاجِب وَغَيره عَن الْحَنَفِيَّة. اسْتدلَّ لقَوْل من قَالَ: إِنَّه لَا يخصص مُطلقًا بِأَن الصَّحَابِيّ يتْرك مذْهبه للْعُمُوم، كَتَرْكِ ابْن عمر للمخابرة لخَبر رَافع بن خديج. وَأجَاب أَصْحَابنَا أَنه لَا يتْركهُ إِلَّا للنَّص؛ لِأَن قَوْله عَن دَلِيل نَص أَو قِيَاس ويخص بهما الْعُمُوم، أَو عُمُوم فالترجيح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2678 وَخرج بعض أَصْحَابنَا [من] الرُّجُوع إِلَى قَوْله مُطلقًا - إِذا كَانَ الرَّاوِي للْخَبَر وَتَركه - مثله هُنَا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا خَالفه لدَلِيل فيخص، وَإِلَّا فسق فَيجب الْجمع. رد: لدَلِيل فِي ظَنّه يلْزمه اتِّبَاعه لَا غَيره بِدَلِيل صَحَابِيّ آخر. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يَخُصُّهُ إِن سمع الْعَام وَخَالفهُ، وَإِلَّا فمحتمل، وَهُوَ قَول الشَّيْخ تَقِيّ الدّين. وَقد مثل للمسألة بأمثلة، مِنْهَا: مَا ذكره فِي " الْمَحْصُول " مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة فِي الْأَمر بِالْغسْلِ من ولوغ الْكَلْب سبعا مَعَ فتواه بِثَلَاث. وَفِيه نظر من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن ذَلِك لم يَصح عَن أبي هُرَيْرَة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2679 وَثَانِيهمَا: أَن ذَلِك لَيْسَ من بَاب الْعُمُوم، فَإِن الْعدَد نَص لَا عُمُوم فِيهِ والتخصيص فرع الْعُمُوم. وَقَررهُ الْبَاجِيّ بِأَن لفظ الْكَلْب مُفْرد معرف، وَقَالَ: فَهُوَ عَام يَشْمَل كلب الزَّرْع وَغَيره، وَأَبُو هُرَيْرَة يرى الِاقْتِصَار فِي كلب الزَّرْع على ثَلَاث. لَكِن لم تعرف هَذِه التَّفْرِقَة عَن أبي هُرَيْرَة. وَمِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ " فَإِن مَذْهَب رَاوِيه ابْن عَبَّاس أَن الْمَرْأَة لَا تقتل بِالرّدَّةِ، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة أَيْضا. قيل: وَفِي التَّمْثِيل بِهِ نظر؛ لاحْتِمَال أَن يكون من الْقَائِلين بِأَن من الشّرطِيَّة لَا تتَنَاوَل الْإِنَاث. وَمِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يحتكر إِلَّا خاطئ " رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث ابْن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2680 الْمسيب عَن معمر بن عبد الله عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَانَ سعيد يحتكر الزَّيْت، فَقيل لَهُ، فَقَالَ: إِن معمرا رَاوِي الحَدِيث كَانَ يحتكر. تَنْبِيه: قَالَ ابْن مُفْلِح: وَقد ترْجم بعض أَصْحَابنَا وَبَعض الْحَنَفِيَّة، وَابْن برهَان مَسْأَلَة هَل يخص الْعُمُوم بِمذهب الرَّاوِي. انْتهى. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: فِي مَوْضُوع الْمَسْأَلَة اضْطِرَاب، فَمرَّة يُقَال: مَذْهَب الصَّحَابِيّ هَل يخص بِهِ، أَو لَا؟ سَوَاء كَانَ هُوَ الرَّاوِي أَو غَيره، وَمرَّة يُقَال: مُخَالفَة الرَّاوِي فِي بعض مَا رَوَاهُ، هَل هُوَ تَخْصِيص، أَو لَا؟ أَي: وَلَو كَانَ صحابيا. وَالْأول هُوَ ظَاهر كَلَام ابْن الْحَاجِب حَيْثُ قَالَ الْجُمْهُور إِن مَذْهَب الصَّحَابِيّ لَيْسَ بمخصص؛ وَلَو كَانَ الرَّاوِي، وَكَذَا قَالَ الْقَرَافِيّ إِن مَذْهَب غير الصَّحَابِيّ لَيْسَ مُخَصّصا قطعا، وَكَأَنَّهُ بنى ذَلِك على أَن قَول الصَّحَابِيّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2681 إِذا لم يقل أحد إِنَّه حجَّة، فَكيف يخص بِهِ؟ وَلَكِن قد ذكر الْخلاف فِي ذَلِك، لَكِن الْخلاف فِيمَا إِذا كَانَ الرَّاوِي صحابيا أقوى مِمَّا إِذا كَانَ غير صَحَابِيّ. قَوْله: {وبقضايا الْأَعْيَان} ، أَعنِي يخص الْعَام بقضايا الْأَعْيَان، هَذِه الْمَسْأَلَة أَخَذتهَا من كَلَام ابْن مُفْلِح خَاصَّة فَإِنَّهُ قَالَ: يخص الْعُمُوم بقضايا الْأَعْيَان ثمَّ قَالَ: وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا - يَعْنِي الْمجد إِلَى آخِره - وَابْن مُفْلِح أَخذهَا من كَلَام الْمجد فِي " المسودة ". وَمعنى ذَلِك أَن يرد مَعنا حكم عَام، ثمَّ ترد مَعنا قَضِيَّة عين مُخَالفَة لذَلِك الْعَام فَهَل يخص الْعَام ذَلِك. مِثَاله: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن لبس الْحَرِير للرِّجَال، ثمَّ أذن فِي لبسه لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَالزُّبَيْر بن الْعَوام؛ لقمل كَانَ بهما وإذنه لَهما فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2682 ذَلِك قَضِيَّة عين فَهَل ذَلِك مُخَصص للْعُمُوم أم لَا؟ قَوْله: {وبالقياس} ، أَي: يخص الْعَام بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحدهمَا: أَن يكون قَطْعِيا، فَإِن كَانَ الْقيَاس قَطْعِيا خص بِهِ الْعَام قطعا، قَالَه الأبياري فِي " شرح الْبُرْهَان "، وَغَيره فَقَالَ: الْقيَاس الْقطعِي يجوز التَّخْصِيص بِهِ بِلَا خلاف، وَذَلِكَ فِيمَا إِذا كَانَ حكم الأَصْل الَّذِي يسْتَند إِلَيْهِ الْفَرْع مَقْطُوعًا بِهِ، وعلته منصوصة، أَو مجمعا عَلَيْهَا، وَهِي مَوْجُودَة فِي الْفَرْع قطعا، وَلَا فَارق قطعا، فَهَذَا النَّوْع من الْقيَاس لَا يتَصَوَّر فِيهِ الْخلاف. انْتهى. قلت: ظَاهر كَلَام كثير من الْعلمَاء إِجْرَاء الْخلاف فِيهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2683 وَالثَّانِي: أَن يكون ظنيا، وَهُوَ مَحل الْخلاف، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، والأشعري، وَأكْثر أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر، مِنْهُم: أَبُو هَاشم وَأَبُو الْحُسَيْن {جَوَاز التَّخْصِيص بِهِ} ، نَقله الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب عَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وتبعهما ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " على ذَلِك. وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: تَنْبِيه فِي مَأْخَذ الْمَسْأَلَة من كَلَام الإِمَام أَحْمد، فَإِن الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب حكياه عَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، أَعنِي التَّخْصِيص، قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة الْحسن بن ثَوَاب: حَدِيث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2684 لَا ترده الْأَمْثِلَة، وَظَاهره أَن الْقيَاس لَا يرد الظَّاهِر. قَالَ ابْن عقيل: هَذَا من كَلَام لَا يمْنَع؛ لِأَن التَّخْصِيص لَيْسَ برد، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَان، وتمسكوا للتخصيص بِرِوَايَة بكر بن مُحَمَّد: إِذا قذف زَوجته بعد الثَّلَاث وَله مِنْهَا ولد يُرِيد نَفْيه: يُلَاعن. فَقيل لَهُ: أَلَيْسَ يَقُول الله تَعَالَى {وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم} [النُّور: 6] ، وَهَذِه لَيست زَوْجَة، فاحتج بِأَن الرجل يُطلق ثَلَاثًا، وَهُوَ مَرِيض فترثه؛ لِأَنَّهُ فر من الْمِيرَاث، وَهَذَا فار من الْوَلَد. قَالَ القَاضِي: فقد عَارض الظَّاهِر بِضَرْب من الْقيَاس. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قلت: لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيص للْعُمُوم، وَإِنَّمَا عَارض الظَّاهِر الْمَفْهُوم؛ لِأَن تَخْصِيص الحكم بالأزواج يَنْفِيه عَمَّن سواهن. وَنقل الْمَيْمُونِيّ فِي الرجل يُزَوّج ابْنَته وَهِي كَبِيرَة أحب إِلَيّ أَن يستأمرها فَإِن زَوجهَا من غير أَن يستأمرها جَازَ النِّكَاح، وَهَذَا للْأَب خَاصَّة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2685 قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قلت: كَأَنَّهُ خص قَوْله: " لَا تنْكح الْبكر حَتَّى تستأذن ". انْتهى. وَعند ابْن سُرَيج، والطوفي من أَصْحَابنَا يخص الْقيَاس الْجَلِيّ دون غَيره. وَقَالَهُ جمَاعَة من أَصْحَاب الشَّافِعِي، مِنْهُم: ابْن مَرْوَان. وَاخْتلفُوا فِي تَفْسِير الْجَلِيّ والخفي، فَقيل: الْجَلِيّ قِيَاس الْعلَّة، والخفي قِيَاس الشّبَه، وَسَيَأْتِي بيانهما فِي الْقيَاس. وَقيل: الْجَلِيّ مَا تتبادر علته إِلَى الْفَهم عِنْد سَماع الحكم، كتعظيم الْأَبَوَيْنِ عِنْد سَماع قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} [الْإِسْرَاء: 23] . وَقيل: الْجَلِيّ مَا ينْقض قَضَاء القَاضِي بِخِلَافِهِ، والخفي خِلَافه. نقل عَن الْإِصْطَخْرِي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2686 وَقيل غير ذَلِك، وَيَأْتِي بَيَان ذَلِك فِي الْقيَاس. وَقَالَ ابْن أبان: يخص بِالْقِيَاسِ إِن كَانَ الْعَام مُخَصّصا فَقَالَ: إِن خص الْعَام بِغَيْر الْقيَاس جَازَ تَخْصِيصه بِالْقِيَاسِ، وَإِلَّا فَلَا. وَنَقله ابْن برهَان فِي " وجيزه " عَن أَصْحَاب أبي حنيفَة. قَالَ الطوفي: وَحكي عَن أبي حنيفَة، وَعند الْحَنَفِيَّة يخص بِالْقِيَاسِ إِن كَانَ الْعَام مُخَصّصا بمجمع عَلَيْهِ. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَعند الْحَنَفِيَّة إِن كَانَ خص بِدَلِيل مجمع عَلَيْهِ جَازَ. وَأخرج الأبياري فِي " شرح الْبُرْهَان " وَغَيره من مَحل الْخلاف كَمَا تقدم لَفظه كَامِلا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2687 وَعند الْكَرْخِي يجوز التَّخْصِيص بِالْقِيَاسِ إِن كَانَ الْعَام مُخَصّصا بمنفصل وَإِلَّا فَلَا. وَعند الْآمِدِيّ إِن ثبتَتْ الْعلَّة بِنَصّ أَو إِجْمَاع جَازَ التَّخْصِيص بِهِ، وَإِلَّا فَلَا. زَاد ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره ": أَو كَانَ الأَصْل مُخَصّصا خصص الْعَام بِهِ وَإِلَّا فَالْمُعْتَبر الْقَرَائِن فِي الوقائع فَإِن ظهر تَرْجِيح خَاص، وَإِلَّا فَالْخَبَر. قَالَ الْبرمَاوِيّ: لكنه آيل إِلَى اتِّبَاع أرجح الظنين، فَإِن تَسَاويا فالوقف. وَهَذَا رَأْي الْغَزالِيّ فَإِنَّهُ قَالَ: إِن تَفَاوتا، أَي: الْعَام وَالْقِيَاس فِي إِفَادَة. الظَّن رجحنا الْأَقْوَى، وَإِلَّا توقفنا. واعترف الإِمَام فِي أثْنَاء الْمَسْأَلَة بِأَنَّهُ حق. وَكَذَا قَالَ الْأَصْفَهَانِي إِنَّه حق وَاضح. وَكَذَا الْهِنْدِيّ فِي أثْنَاء الْمَسْأَلَة، وَاسْتَحْسنهُ الْقَرَافِيّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2688 وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: إِنَّه مَذْهَب جيد. قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَكِن جعل هَذَا مذهبا فِي الْمذَاهب فِي الْمَسْأَلَة لَا يَسْتَقِيم فَإِنَّهُ أَمر كلي لَا تعلق لَهُ بِخُصُوص الْمَسْأَلَة، وَلَا أحد يُنَازع فِيمَا قَرَّرَهُ من أرجح الظنين وَلَا فِي الْوَقْف عِنْد الاسْتوَاء، فَتَأَمّله. وَمنعه ابْن حَامِد، وَابْن الْجَوْزِيّ، وَجمع مُطلقًا، مِنْهُم: أَبُو عَليّ الجبائي، وَطَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين، وَبَعض الشَّافِعِيَّة. وَأطلق القَاضِي فِي " الْكِفَايَة " رِوَايَتَيْنِ، وَأطلق أَبُو إِسْحَاق ابْن شاقلا من أَصْحَابنَا وَجْهَيْن، ثمَّ حكى عَنهُ القَاضِي الْمَنْع، وجوازه إِن كَانَ الْمَقِيس عَلَيْهِ مخرجا من الْعُمُوم، كَقَوْل بعض الْعلمَاء. قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: وفيهَا قَول إِن كَانَ الْمَقِيس عَلَيْهِ مخرجا من عَام جَازَ التَّخْصِيص، وَإِلَّا فَلَا. انْتهى. وَقوم فِي الْقُرْآن، أَي: منع قوم التَّخْصِيص بِالْقِيَاسِ فِي الْقُرْآن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2689 خَاصَّة، وعزي إِلَى الْحَنَفِيَّة؛ لِأَن التَّخْصِيص عِنْدهم نسخ وَلَا ينْسَخ الْقُرْآن بِالْقِيَاسِ وَلَو كَانَ جليا. ووقف القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي. اسْتدلَّ للْأولِ بِأَن الْقيَاس خَاص لَا يحْتَمل التَّخْصِيص وَفِيه جمع بَينهمَا فَقدم. وَادّعى بَعضهم إِجْمَاع الصَّحَابَة على ذَلِك، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ. وَاسْتدلَّ للْمَنْع: لَو قدم التَّخْصِيص بِهِ لقدم الأضعف لما سبق فِي تَقْدِيم خبر الْوَاحِد على الْقيَاس. رد بِمَا سبق فَإِن ذَلِك عِنْد إبِْطَال أَحدهمَا، والتخصيص إِعْمَال لَهما. وألزم بَعضهم الْخصم تَخْصِيص الْكتاب بِالسنةِ وَالْمَفْهُوم لَهما. قَالُوا: وَأجِيب بِمَا سبق فِي الْمَفْهُوم، وباستصحاب الْحَال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2690 رد: بِأَنَّهُ دَلِيل عِنْد عدم دَلِيل شَرْعِي. وَاقْتصر فِي " التَّمْهِيد " على أَنه لَيْسَ دَلِيلا. وَاحْتج الْحَنَفِيَّة بِمَا سبق فِي خبر الْوَاحِد. وَاسْتدلَّ للْوَقْف بتعارض الْأَدِلَّة. رد بِمَا سبق على أَنه خلاف الْإِجْمَاع. وَاسْتدلَّ الْآمِدِيّ أَن الْعلَّة كَذَلِك كنص خَاص، وللمخالف الْمَنْع. وَاسْتدلَّ: المستنبطة مرجوحة، أَو مُسَاوِيَة فَلَا تَخْصِيص، أَو راجحة وَوُقُوع وَاحِد من اثْنَيْنِ أقرب من وَاحِد معِين. رد بلزومه فِي كل تَخْصِيص، وبأنها راجحة، أَو مُسَاوِيَة، وَالْجمع أولى. قَوْله: {وَكَذَا صرف ظَاهر غير عَام إِلَى احْتِمَال مَرْجُوح بِقِيَاس} . وَمعنى هَذَا الْكَلَام أَن يكون معنى اللَّفْظ مُحْتملا لشيئين وَهُوَ ظَاهر فِي أَحدهمَا مَرْجُوح فِي الآخر، لَكِن هُوَ مُوَافق للْقِيَاس فَهَل يصرف عَن الظَّاهِر إِلَى الِاحْتِمَال الْمَرْجُوح لأجل مُوَافقَة الْقيَاس؟ فِيهِ الْخلاف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2691 وَهَذِه الْمَسْأَلَة لم أرها إِلَّا فِي " أصُول ابْن مُفْلِح "، وَقد ذكر الأصوليون التَّأْوِيل والمؤول، وَقَالُوا: هُوَ حمل ظَاهر على مُحْتَمل مَرْجُوح بِدَلِيل، وَالدَّلِيل أَعم من قِيَاس وَغَيره، فَتدخل هَذِه الْمَسْأَلَة فِيهَا. قَوْله: {هَذِه الْمَسْأَلَة وَنَحْوهَا ظنية} ؛ لِأَن أدلتها ظنية لَا قَطْعِيَّة فَيكون من بَاب الظنون. وَعند القَاضِي أبي بكر ابْن الباقلاني قَطْعِيَّة للْقطع بِالْعَمَلِ بِالظَّنِّ الرَّاجِح. قَوْله: {فَائِدَة: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يصلين أحد مِنْكُم الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة "} ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما فرغ من الْأَحْزَاب وَأمره جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِالْمَسِيرِ إِلَى بني قُرَيْظَة، فَفعل الْفَرِيقَيْنِ يرجع إِلَى تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ وَعَدَمه. هَذِه الْمَسْأَلَة أَخَذتهَا من " مُصَنف ابْن قَاضِي الْجَبَل " فِي الْأُصُول فَإِنَّهُ قَالَ: تَنْبِيه: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي " الصَّحِيح ": " لَا يصلين أحد مِنْكُم الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة " ثمَّ ذكر لَهُ أَن طَائِفَة صلت فِي الطَّرِيق فِي الْوَقْت، وَطَائِفَة صلت فِي بني قُرَيْظَة بعد الْوَقْت، فَلم يعب وَاحِدَة مِنْهُمَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2692 فَمن أخر الصَّلَاة حَتَّى وصل إِلَى بني قُرَيْظَة أَخذ بِعُمُوم قَوْله: " لَا يصلين أحد مِنْكُم الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة "، وَمن صلى فِي الْوَقْت قبل أَن يصل أَخذ، بِأَن المُرَاد بقوله ذَلِك للتَّأْكِيد فِي سرعَة الْمسير إِلَيْهِ، لَا فِي تَأْخِير الصَّلَاة عَن وَقتهَا. {فَقَالَ ابْن حزم} : التَّمَسُّك {بِالْعُمُومِ} هُنَا أرجح، وَأَن الْمُؤخر للصَّلَاة حَتَّى وصل بني قُرَيْظَة هُوَ الْمُصِيب فِي فعله. {وَخَالفهُ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين بِأَن المُرَاد من ذَلِك التأهب وَسُرْعَة الْمسير، لَا تَأْخِير الصَّلَاة، وَإِن من صلى فِي الْوَقْت كَانَ هُوَ الْمُصِيب، وكلا الطَّائِفَتَيْنِ مُجْتَهد؛ فَلذَلِك لم تعنف وَاحِدَة مِنْهُمَا. وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي الرَّاجِح من الْفِعْلَيْنِ كَمَا تقدم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2693 (قَوْله: {فصل} ) {أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَالْأَكْثَر: الْعَادة: الفعلية لَا تخص الْعُمُوم وَلَا تقيد الْمُطلق} . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": الْعَادة لَا تخص، وَلَا تقيد الْمُطلق، نَحْو: " حرمت الرِّبَا فِي الطَّعَام " وعادتهم الْبر عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة وَالْجُمْهُور خلافًا للحنفية، والمالكية. وَلِهَذَا لَا نقض بنادر عِنْد الْمَالِكِيَّة قصرا للغائط على الْمُعْتَاد. وَذكره القَاضِي القَاضِي فِي مَوَاضِع، فَقَالَ: فِي النَّقْض المُرَاد بِهِ النّوم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2694 الْمُعْتَاد وَهُوَ المضطجع؛ لِأَنَّهُ الْمَعْقُول من قَوْلك: نَام فلَان. وَقَالَهُ أَيْضا الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَقَالَ: إِن كتب القَاضِي الَّتِي فِي الْفِقْه على هَذَا، وَأَنه ذكر فِي الْوَصِيَّة لأقاربه، وَبَعض مسَائِل الْإِيمَان أَن {الْعَام يخص بعادة الْمُتَكَلّم وَغَيره فِي الْفِعْل} . قَالَ ابْن مُفْلِح: وَجه الأول: الْعُمُوم لُغَة وَعرفا، وَالْأَصْل عدم مُخَصص. قَالُوا: المُرَاد ظَاهره عرفا فيخصص بِهِ كالدابة. رد بِمَا سبق فَلم يتخصص الِاسْم، فَلَو تخصص كالدابة اخْتصَّ، فَهُوَ تَخْصِيص بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللُّغَة بعرف قولي، وَالْأول بعرف فعلي. وَمِنْه مَسْأَلَة من حلف لَا يَأْكُل رَأْسا وبيضا - قَالَه بعض أَصْحَابنَا قَالَ -: وَكَذَا لَحْمًا، هَل يَحْنَث بِمحرم غير مُعْتَاد؟ على وَجْهَيْن. كَذَا قَالَ، وَالْمَعْرُوف حنثه. وَفِي الْفِقْه مثل هَذِه مسَائِل مُخْتَلفَة، فيوجه القَوْل بِأَن هَذِه الْمَسْأَلَة فِي عرف الشَّارِع، وَكَلَام الكلف يعْمل فِيهِ بعرفه، أَو عرف خَاص أَو عَام. وَلِهَذَا قيل للْقَاضِي فِي تَعْلِيقه فِي الطَّلَاق قبل النِّكَاح لَيْسَ مُطلقًا بِدَلِيل مَا لَو علق عتق عَبده بِطَلَاقِهَا فعلقه لم يعْتق، فَقَالَ: لفظ الْحَالِف يحمل على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2695 الْمُسْتَعْمل الْمَعْهُود وَهُوَ الْإِيقَاع والوقوع، وَلَفظ الشَّارِع يحمل على الْعُمُوم فيهمَا، وَلَو حرم الله تَعَالَى أكل الرؤوس عَم، وَعِنْدهم لَا يَحْنَث إِلَّا بِأَكْل رُؤُوس الْأَنْعَام، وَأَن تِلْكَ الْمسَائِل من الْعرف القولي؛ وَلِهَذَا لَا يَحْنَث فِي مَذْهَب الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة بِرَأْس كل مَأْكُول وبيضه. قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَمثل الْمَسْأَلَة قصر الحكم على الْمُعْتَاد زَمَنه عَلَيْهِ السَّلَام، وَمِنْه قصر أَحْمد نَهْيه عَلَيْهِ السَّلَام على الْبَوْل فِي المَاء الدَّائِم على غير المصانع المحدثة، وَله نَظَائِر، كَذَا قَالَ. وَفِيه نظر للْعلم بِأَنَّهُ لم يرد كل مَاء فَلم يُخَالف الْأَصْحَاب أَحْمد فِي هَذَا. وَقَالَ أَيْضا لما قيل لَهُ الْيَمين بِالطَّلَاق حدثت بعد الشَّارِع فَلم يَتَنَاوَلهَا كَلَامه، فَقَالَ: يَتَنَاوَلهَا. هَذَا بحث ابْن مُفْلِح، وَنَقله عَن الْمذَاهب، وَالْأَصْحَاب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2696 وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: لَا يخص الْعُمُوم بالعادات عِنْد الشَّافِعِيَّة، وَأكْثر الْمُتَكَلِّمين خلافًا للحنفية والمالكية، وَذكر النَّقْل. ثمَّ قَالَ: تَنْبِيه: قَالَت الْمَالِكِيَّة العوائد القولية تُؤثر فِي الْأَلْفَاظ تَخْصِيصًا، ومجازا وَغَيره بِخِلَاف العوائد الفعلية. انْتهى. وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": اخْتلف النَّقْل فِي أَن الْعَادة تخصص، أم لَا، فَنقل الرَّازِيّ أَنَّهَا تخصص، وَعكس الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب، وَلم يتوارد النقلان على مَحل وَاحِد، فَكَلَام الرَّازِيّ فِيمَا إِذا ورد من الشَّارِع لفظ عَام، وَوجدنَا الْعَادة [جَارِيَة بِإِخْرَاج بعض أَفْرَاده كالنهي عَن بيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ مُتَفَاضلا إِذا جرت الْعَادة] بِبيع بعض الْأَطْعِمَة مُتَفَاضلا فَتكون الْعَادة مخصصة للْعُمُوم ودالة على جَوَاز التَّفَاضُل فِي بيع ذَلِك الطَّعَام إِن كَانَت الْعَادة مَوْجُودَة فِي عصره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأقرهم عَلَيْهَا، وَكَذَا إِذا دلّ على جَوَاز ذَلِك النَّوْع بِجِنْسِهِ مَعَ التَّفَاضُل الْإِجْمَاع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2697 وَكَلَام الْآمِدِيّ فِيمَا إِذا ورد النَّهْي عَن بيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ وَجَرت الْعَادة بِأَن لَا يُبَاع من الطَّعَام إِلَّا الْقَمْح، فَهَل يخْتَص النَّهْي بِهِ، أَو يَشْمَل كلما صدق عَلَيْهِ اسْم الطَّعَام. قَالَ أَبُو حنيفَة: يخْتَص بِهِ، وَقَالَ الْجُمْهُور: لَا، فَلَا يخْتَص الحكم بالمعتاد وَلَا بِمَا وَرَاء الْمُعْتَاد، بل تطرح كل الْعَادة وَيُؤْخَذ بِالْعُمُومِ. فَكَلَام الرَّازِيّ فِي إِخْرَاج الْمُعْتَاد من غير الْمُعْتَاد، وَكَلَام الْآمِدِيّ فِي إِدْخَال غير الْمُعْتَاد مَعَ الْمُعْتَاد فِي حكمه، وَحمل ابْن دَقِيق الْعِيد كَلَام الْآمِدِيّ على الْعَادة الفعلية كَمَا مثلناه. أما القولية فَكَمَا يعْتَاد أهل الْعرف تَخْصِيص اللَّفْظ بِبَعْض موارده اعْتِبَارا بسبق الذِّهْن بِسَبَبِهِ إِلَى ذَلِك الْخَاص، فَإِذا أطلق الْعَام قوي تَنْزِيله على الْخَاص الْمُعْتَاد؛ لِأَن الظَّاهِر إِنَّمَا يدل بِاللَّفْظِ على مَا شاع اسْتِعْمَاله فِيهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَبَادر إِلَى الذِّهْن. انْتهى. وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شرح الْمِنْهَاج " لما ذكر الْبَيْضَاوِيّ الْمَسْأَلَة: لَا إِشْكَال أَن الْعَادة القولية تخصص الْعُمُوم، نَص عَلَيْهِ الْغَزالِيّ، وَصَاحب " الْمُعْتَمد "، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2698 والآمدي، وَمن تبعه، كَمَا إِذا كَانَ عَادَتهم إِطْلَاق الطَّعَام على المقتات خَاصَّة، ثمَّ ورد النَّهْي عَن بيع الطَّعَام بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا فَإِن النَّهْي يكون خَاصّا بالمقتات؛ لِأَن الْحَقِيقَة الْعُرْفِيَّة مُقَدّمَة على اللُّغَوِيَّة. وَأما الْعَادة الفعلية فَهِيَ مسئلة الْكتاب الْمُخْتَلف فِيهَا. انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَمِمَّنْ نَص على أَن الْعَادة القولية تخصص: الْغَزالِيّ، وألكيا، وَصَاحب " الْمُعْتَمد "، والآمدي، وَمن تبعه، وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب، والقرطبي، وَفِي " شرح العنوان " لِابْنِ دَقِيق الْعِيد: أَن الصَّوَاب التَّفْصِيل بَين الْعَادة الراجعة إِلَى الْفِعْل، والراجعة إِلَى القَوْل، فيخصص بِالثَّانِيَةِ الْعُمُوم لسبق الذِّهْن عِنْد الْإِطْلَاق إِلَيْهِ دون الأول. أَي: إِذا تقدّمت أَو تَأَخَّرت وَلَكِن لم يقررها رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى يجْتَمع كَلَامه. وَقَالَ الْقَرَافِيّ: شَذَّ الْآمِدِيّ بحكاية الْخلاف فِي الْعَادة الفعلية، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2699 قَالَ: وَوَقع للمازري خلاف فِي ذَلِك عَن الْمَالِكِيَّة، وَلَعَلَّه مِمَّن الْتبس عَلَيْهِ الفعلية والقولية. قَالَ: وأظن أَنِّي سَمِعت الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام يَحْكِي الْإِجْمَاع أَن الفعلية لَا تخصص. وَقَالَ العالمي من الْحَنَفِيَّة: الْعَادة الفعلية لَا تكون مخصصة إِلَّا أَن تجمع الْأمة على استحسانها. وَقد ذكر الْبرمَاوِيّ أَن الْعَادة ثَلَاث حالات، وَبَينهَا وَبَين مَحل الْخلاف. قَوْله: {وَلَا يخص الْعَام بمقصوده عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر} ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2700 وَخَالف عبد الْوَهَّاب وَالْمجد وحفيده، وَقَالَ ابْن مُفْلِح: الْعَام لَا يخص بمقصوده عِنْد الْجُمْهُور لما سبق خلافًا لعبد الْوَهَّاب وَغَيره من الْمَالِكِيَّة، وَغَيرهم. {وَقَالَ صَاحب " الْمُحَرر ": الْمُتَبَادر إِلَى الْفَهم من لمس النِّسَاء مَا يقْصد مِنْهُنَّ غَالِبا من الشَّهْوَة، ثمَّ لَو عَمت خصت بِهِ، وَخَصه حفيده} أَيْضا {بِالْمَقْصُودِ، وَكَذَا قَالَه فِي آيَة الْمَوَارِيث} . وَقَوله: {وَأحل الله البيع} [الْبَقَرَة: 275] قَصده الْفرق بَينه وَبَين الرِّبَا، و " فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر " قَصده مَا يجب فِيهِ الْعشْر وَنصفه، وَكَذَا قَالَه بعض أَصْحَابنَا فَلَا يحْتَج بِعُمُوم ذَلِك. انْتهى. وَلم أرها فِي غَيره. قَوْله: {وَإِذا وَافق خَاص عَاما لم يخصصه عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم. وَخَالف أَبُو ثَوْر} ، وَمَعْنَاهُ: أَن يَأْتِي مَعنا لفظ عَام، وَيَأْتِي لفظ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2701 خَاص هُوَ بعض ذَلِك الْعَام وداخل فِيهِ، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيّمَا إهَاب دبغ فقد طهر "، فَهَذَا عَام، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي شَاة مَيْمُونَة: " دباغها طهورها " خَاص، وَهُوَ بعض أَفْرَاد الْعَام الْمُتَقَدّم فَلَا يخصص الْخَاص الْعَام لموافقته لَهُ خلافًا لأبي ثَوْر، وَحَكَاهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَجها لبَعض أَصْحَابنَا، قَالَ: وَوهم بَعضهم فِي النَّقْل عَن أبي ثَوْر. وَقيل: بلَى، كَانَ يَقُول بِمَفْهُوم اللقب. انْتهى. اسْتدلَّ للْأولِ بِأَنَّهُ لَا تعَارض بَينهمَا فَيعْمل بهما. قَالُوا: الْمَفْهُوم يخص الْعُمُوم. رد: لَا مَفْهُوم فِيهِ، ثمَّ لَو سلم أَنه مَفْهُوم فَهُوَ مَفْهُوم لقب، وَلَيْسَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2702 بِحجَّة ثمَّ دلَالَة الْعُمُوم أقوى، وَلَو سلم فَهُوَ وَارِد على سَببه فَلَا يكون حجَّة اتِّفَاقًا. وَمن أمثلتها قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وإيتاء ذِي الْقُرْبَى} [النَّحْل: 90] ، وَالْإِحْسَان بلام التَّعْرِيف، عَام فِي جَمِيع أَنْوَاع الْإِنْسَان فيندرج فِيهِ إيتَاء ذِي الْقُرْبَى، فَذكره بعده لَيْسَ تَخْصِيصًا للْأولِ بإيتاء ذِي الْقُرْبَى بل اهتماما بِهَذَا النَّوْع، فَإِن عَادَة الْعَرَب أَنَّهَا إِذا اهتمت بِبَعْض أَنْوَاع الْعَام خصصته بِالذكر إبعادا لَهُ عَن الْمجَاز، والتخصيص بذلك النَّوْع. وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَلَائِكَته [وَرُسُله] وَجِبْرِيل وميكال} [الْبَقَرَة: 98] ، وَلَيْسَ من هَذَا الْبَاب، قَوْله تَعَالَى: {فَاكِهَة ونخل ورمان} [الرَّحْمَن: 68] ؛ لِأَن فَاكِهَة مُطلق. فَائِدَة: قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَقع فِي الْمَذْهَب الاستدلالات على خلاف هَذِه الْقَاعِدَة، مِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من مس ذكره فَليَتَوَضَّأ " عَام فِيمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2703 يمس بِهِ، خصوه بِالْيَدِ عِنْد قوم، وباطن الْكَفّ عِنْد آخَرين لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا أفْضى أحدكُم بِيَدِهِ إِلَى ذكره فَليَتَوَضَّأ " وَالْيَد بعض مَا يمس بِهِ. وَمِنْهَا نَهْيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع مَا لم يقبض، وَنهى عَن بيع الطَّعَام قبل قَبضه، وَالطَّعَام بعض ذَلِك الْعُمُوم. فَقَالَ مَالك وَجَمَاعَة: إِلَّا الطَّعَام قبل قَبضه. وَقَالَت طَائِفَة: مُطلق ومقيد، وَهُوَ بَاطِل، بل هَذَا تَخْصِيص الْعَام بِذكر بعض أَنْوَاعه، وَهُوَ بَاطِل. انْتهى. قَوْله: {وَرُجُوع الضَّمِير إِلَى بعض الْعَام لَا يخصصه عِنْد أَكثر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2704 أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة} . وَعنهُ: بلَى، كأكثر الْحَنَفِيَّة، وَالْقَاضِي. {وَفِي " الْوَاضِح " هُوَ الْمَذْهَب. ووقف أَبُو الْمَعَالِي، والرازي} . اخْتلف الْعلمَاء فِيمَا إِذا عَاد الضَّمِير إِلَى بعض الْعَام، هَل يخصص الْعَام أَو لَا يخصصه، أَو يُوقف؟ على ثَلَاثَة أَقْوَال. مِثَال ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} ثمَّ قَالَ: {وبعولتهن أَحَق بردهن} [الْبَقَرَة: 228] فَإِن المطلقات يعم البوائن والرجعيات، وَالضَّمِير فِي قَوْله تَعَالَى: {وبعولتهن} عَائِد إِلَى الرجعيات فَقَط؛ لِأَن الْبَائِن لَا يملك الزَّوْج ردهَا. وَلَو ورد بعد الْعَام حكم لَا يَأْتِي إِلَّا فِي بعض أَفْرَاده كَانَ حكمه حكم الضَّمِير، وَصرح بِهِ الرَّازِيّ وَغَيره. وَمثله بقوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء فطلقوهن لعدتهن} ثمَّ قَالَ: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ الله يحدث بعد ذَلِك أمرا} [الطَّلَاق: 1] يَعْنِي: الرَّغْبَة فِي مراجعتهن، والمراجعة لَا تَأتي فِي الْبَائِن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2705 إِذا علم ذَلِك فَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَعبد الْجَبَّار، وَغَيره من الْمُعْتَزلَة أَن الضَّمِير إِذا رَجَعَ إِلَى بعض الْعَام لَا يخصص الْعَام؛ لِأَن الْمظهر عَام، وَالْأَصْل بَقَاؤُهُ، فَلَا يلْزم من تَخْصِيص الْمُضمر تَخْصِيصه. قَالُوا: يلْزم، وَإِلَّا لم يطابقه. رد: لَا يلْزم، كرجوعه مظْهرا. وَعَن أَحْمد رِوَايَة: يخصصه الضَّمِير، وَاخْتَارَهُ القَاضِي فِي الْكِفَايَة، وَهُوَ قَول أَكثر الْحَنَفِيَّة. وَذكر الرِّوَايَة هُوَ، وَأَبُو الْخطاب عَن أَحْمد، كَقَوْلِه فِي رِوَايَة أبي طَالب: يَأْخُذُونَ بِأول الْآيَة وَيدعونَ آخرهَا. وَقَوله فِي آيَة النَّجْوَى: هُوَ علمه لقَوْله فِي أَولهَا ... ... ... الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2706 وَآخِرهَا. وَذكره فِي " الْوَاضِح " الْمَذْهَب، وَخطأ من خَالفه؛ لِأَنَّهُ أقرب من آيَة أُخْرَى. وَقَالَ القَاضِي أَيْضا: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك بِدَلِيل وعضده لبَيَان الْآيَة. وللحنفية الْقَوْلَانِ. وَتوقف أَبُو الْمَعَالِي، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ". وَقَالَ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره ": وَقَالَ الإِمَام، وَأَبُو الْحُسَيْن تَخْصِيص، وَقيل: بِالْوَقْفِ. هَذَا لَفظه، فَخَالف نقل الْمُخْتَصر نقل ابْن مُفْلِح عَنْهُمَا، وَنقل ابْن الْعِرَاقِيّ أَن الرَّازِيّ اخْتَار فِي " الْمَحْصُول " الْوَقْف، ثمَّ رَأَيْت الْإِسْنَوِيّ قَالَ: الْوَقْف مُخْتَار صَاحب " الْمَحْصُول ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2707 وَنَقله الْآمِدِيّ عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَأبي الْحُسَيْن، وَنقل ابْن الْحَاجِب عَنْهُمَا التَّخْصِيص، وَالْمَشْهُور عَن أبي الْمَعَالِي وَأبي الْحُسَيْن الْوَقْف، وَكَذَلِكَ الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " وَكَذَلِكَ صَاحب " الْحَاصِل ". وَلما قَالَت الْحَنَفِيَّة إِنَّه من المخصصات قَالُوا فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا تَبِيعُوا الْبر بِالْبرِّ إِلَّا كَيْلا بكيل " أَي: إِلَّا كَيْلا مِنْهُ بكيل مِنْهُ، فَالضَّمِير مَحْذُوف وَهُوَ عَائِد على الْبر الَّذِي يُمكن كَيْله، لَا جَمِيع الْبر فَيجوز بيع حفْنَة بر بحفنة مِنْهُ؛ لِأَن ذَلِك لَا يُكَال فَيكون الْعَام وَهُوَ الْبر مُخَصّصا بِمَا يُكَال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2708 (بَاب الْمُطلق والمقيد) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2709 فارغة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2710 (قَوْله: {بَاب} ) {الْمُطلق: مَا تنَاول وَاحِدًا غير معِين بِاعْتِبَار حَقِيقَة شَامِلَة لجنسه} . وَقَالَ الْآمِدِيّ، والجوزي، وَابْن حمدَان: نكرَة فِي إِثْبَات. لما كَانَ معنى الْمُطلق والمقيد قَرِيبا من معنى الْعَام وَالْخَاص ذكر عقبهما، بل جعله الْبَيْضَاوِيّ تذنيبا دَاخِلا فِي بَاب الْعَام وَالْخَاص، أَي: ذنابة، وتتمة لَهُ. وَالْمُطلق مَأْخُوذ من مَادَّة تَدور على معنى الانفكاك من الْقَيْد فَلذَلِك قُلْنَا هُوَ مَا تنَاول وَاحِدًا غير معِين بِاعْتِبَار حَقِيقَة شَامِلَة لجنسه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2711 فَخرج بقولنَا: (مَا تنَاول وَاحِدًا) أَلْفَاظ الْأَعْدَاد المتناولة لأكْثر من وَاحِد. وَخرج (بِغَيْر معِين) المعارف كزيد وَنَحْوه، وبباقي الْحَد الْمُشْتَرك وَالْوَاجِب الْمُخَير فَإِن كلا مِنْهُمَا يتَنَاوَل وَاحِدًا لَا بِعَيْنِه لَا بِاعْتِبَار حقائق مُخْتَلفَة وَذَلِكَ مثل قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِير رَقَبَة} [المجادلة: 3] ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي " فَكل وَاحِد من لفظ الرَّقَبَة وَالْوَلِيّ قد يتَنَاوَل وَاحِدًا غير معِين من جنس الرّقاب والأولياء. وَفِيه حُدُود كَثِيرَة قل أَن يسلم مِنْهَا حد، وَقَالَ الْآمِدِيّ وَمن تبعه وَأَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ فِي " الْإِيضَاح "، {و} ابْن حمدَان {فِي " الْمقنع "} : هُوَ {نكرَة فِي إِثْبَات} ، وَكَذَلِكَ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره "، فَقَالَ: {هُوَ مَا دلّ على شَائِع فِي جنسه} . فَقَوله: شَائِع، أَي: لَا يكون مُتَعَيّنا بِحَيْثُ يمْنَع صَدَقَة على كثيرين. وَقَوله: فِي جنسه، أَي: لَهُ أَفْرَاد تماثله فَيدْخل فِيهِ الدَّال على الْمَاهِيّة من حَيْثُ هُوَ، وَالدَّال على وَاحِد غير معِين، وَهُوَ النكرَة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2712 قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": وَزعم الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب دلَالَته على الْوحدَة الشائعة توهماه النكرَة. وَمن ثمَّ قَالَا: الْأَمر بِمُطلق الْمَاهِيّة أَمر بجزئي وَلَيْسَ بِشَيْء. انْتهى. قَالَ الزَّرْكَشِيّ " شَارِحه ": وَقَول المُصَنّف: (توهماه النكرَة) مَمْنُوع، بل تحققاه، وَمَا صنعاه خير مِمَّا صنعه المُصَنّف؛ فَإِن مَفْهُوم الْمَاهِيّة بِلَا قيد، ومفهومها مَعَ قيد الْوحدَة لَا يخفى تغايرهما على أحد، وَلَكِن لم يفرق الأصوليون بَينهمَا لعدم الْفرق بَينهمَا فِي تَعْلِيق التَّكْلِيف، فَإِن التَّكْلِيف لَا يتَعَلَّق إِلَّا بالموجود فِي الْخَارِج، وَالْمُطلق الْمَوْجُود فِي الْخَارِج وَاحِد غير معِين فِي الْخَارِج؛ لِأَن الْمُطلق لَا يُوجد إِلَّا فِي ضمن الْآحَاد، ووجوده فِي ضمنه هُوَ صَيْرُورَته عينه بانضمام مشخصاته إِلَيْهِ فَيكون الْمُطلق الْمَوْجُود وَاحِدًا غير معِين وَذَلِكَ هُوَ مَفْهُوم النكرَة، والأصولي إِنَّمَا يتَكَلَّم فِيمَا وضع بِهِ التَّكْلِيف، وَأما الاعتبارات الْعَقْلِيَّة كَمَا فعله المُصَنّف فَلَا تَكْلِيف بهَا؛ إِذْ لَا وجود لَهَا فِي الْخَارِج؛ لِأَن الْمُكَلف بِهِ يجب إِيقَاعه والإتيان بِمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2713 لَا يقبل الْوُجُود الْخَارِج لَا يُمكن فَلَا يُكَلف بِهِ. انْتهى كَلَام الزَّرْكَشِيّ شَارِح " جمع الْجَوَامِع ". وَقَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": الْمُطلق الدَّال على الْمَاهِيّة بِلَا قيد، أَي: من غير اعْتِبَار عَارض من عوارضها، كَقَوْلِنَا: الرجل خير من الْمَرْأَة. وَقَوله: (بِلَا قيد) مخرج الْمعرفَة النكرَة؛ لِأَن الأولى تدل عَلَيْهَا مَعَ وحدة مُعينَة كزيد، وَالثَّانيَِة مَعَ وَحده غير مُعينَة كَرجل وَهَذَا صَرِيح مِنْهُ فِي الْفرق بَين الْمُطلق والنكرة. قَوْله: {والمقيد مَا تنَاول معينا} كزيد، وَعَمْرو، {أَو مَوْصُوفا بزائد} ، أَي: بِوَصْف زَائِد {على حَقِيقَة جنسه} ، نَحْو: {شَهْرَيْن مُتَتَابعين} [المجادلة: 4] و {رَقَبَة مُؤمنَة} [النِّسَاء: 92] ، وَهَذَا الرجل. {وتتفاوت مراتبه} فِي تَقْيِيده بِاعْتِبَار قلَّة الْقُيُود وَكَثْرَتهَا، فَمَا كثرت فِيهِ قيود، كَقَوْلِه تَعَالَى: {عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن أَن يُبدلهُ أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن مسلمات مؤمنات} الْآيَة [التَّحْرِيم: 5] ، أَعلَى رُتْبَة مِمَّا قيوده أقل. قَوْله: {وَقد يَجْتَمِعَانِ فِي لفظ وَاحِد بالجهتين} . أَي: يجْتَمع الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد فِي لفظ وَاحِد اعْتِبَارا بالجهتين فَيكون مُقَيّدا من وَجه، مُطلقًا من آخر، ك {رَقَبَة مُؤمنَة} قيدت الرَّقَبَة من حَيْثُ الدّين فَيتَعَيَّن المؤمنة لِلْكَفَّارَةِ، وأطلقت من حَيْثُ مَا سواهُ من الْأَوْصَاف، كالصحة والطول وَالْبَيَاض، وأضدادها، وَنَحْوهَا، فالآية مُطلقَة فِي كل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2714 رَقَبَة مُؤمنَة، وَفِي كل كَفَّارَة مجزية، ومقيدة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُطلق الرّقاب وَمُطلق الْكَفَّارَات. فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهمَا: الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد يكونَانِ تَارَة فِي الْأَمر، كأعتق رَقَبَة، وَأعْتق رَقَبَة مُؤمنَة، وَتارَة فِي الْخَبَر ك " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدين " و " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي مرشد وشاهدي عدل ". الثَّانِيَة: الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد من عوارض الْأَلْفَاظ بِاعْتِبَار مَعَانِيهَا اصْطِلَاحا، وَإِن أطلق على الْمعَانِي عرفا فَلَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح. قَالَ الطوفي: وهما فِي الْأَلْفَاظ مستعاران مِنْهُمَا فِي الْأَشْخَاص، يُقَال: رجل أَو حَيَوَان مُطلق إِذا خلا عَن قيد، أَو عقال، ومقيد إِذا كَانَ فِي رجله قيد أَو عقال أَو شكال، وَنَحْوه من مَوَانِع الْحَيَوَان من الْحَرَكَة الطبيعية الاختيارية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2715 فَإِذا قُلْنَا: أعتق رَقَبَة فَهَذِهِ الرَّقَبَة شائعة فِي جِنْسهَا شيوع الْحَيَوَان الْمُطلق بحركته الاختيارية بَين جنسه، وَإِذا قُلْنَا: اعْتِقْ رَقَبَة مُؤمنَة كَانَت هَذِه الصّفة لَهَا كالقيد الْمُمَيز للحيوان الْمُقَيد من بَين أَفْرَاد جنسه، ومانعة لَهَا من الشُّيُوع كالقيد الْمَانِع للحيوان من الشُّيُوع بالحركة فِي جنسه، وهما أَمْرَانِ نسبيان بِاعْتِبَار الطَّرفَيْنِ فمطلق لَا مُطلق بعده كمعلوم، ومقيد لَا مُقَيّد بعده كزيد، وَبَينهمَا وسائط تكون من الْمُقَيد بِاعْتِبَار مَا قبل، وَمن الْمُطلق بِاعْتِبَار مَا بعد كجسم وحيوان وإنسان. قَالَ الْهِنْدِيّ: فالمطلق الْحَقِيقِيّ مَا دلّ على الْمَاهِيّة فَقَط والإضافي مُخْتَلف. وَالْحَاصِل: أَن الشَّيْء قد يكون مُطلقًا بِاعْتِبَار، ومقيدا بِاعْتِبَار، كرقبة مُؤمنَة، مُطلق بِاعْتِبَار سَائِر الرّقاب المؤمنة، ومقيد بِاعْتِبَار مُطلق الرَّقَبَة، وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون فِي الاعتباري لَا الْحَقِيقِيّ. قَوْله: {وهما كالعام وَالْخَاص} ، فَمَا ذكر من تَخْصِيص الْعُمُوم من مُتَّفق عَلَيْهِ ومختلف فِيهِ، ومختار، ومزيف جَار فِي تَقْيِيد الْمُطلق فَيجوز تَقْيِيد الْكتاب بِالْكتاب وبالسنة، وَالسّنة بِالسنةِ وبالكتاب، وتقييدهما بِالْقِيَاسِ، والمفهومين، وَفعل النَّبِي وَتَقْرِيره، وَمذهب الصَّحَابِيّ، وَنَحْوهَا على الْأَصَح فِي الْجَمِيع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2716 الثَّالِثَة: يتَفَرَّع على قَول التَّاج السُّبْكِيّ وَمن تَابعه على أَن الْمُطلق الدَّال على الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ لَا مَعَ وحدة شائعة أَن الْأَمر الْمُطلق أَمر بالماهية، وَلَكِن لما لم يحصل إِلَّا فِي جزئي اقْتضى ذَلِك أَنه مَطْلُوب من حَيْثُ مَا يحصل بِهِ الِامْتِثَال؛ لِأَن الجزئي مَطْلُوب ابْتِدَاء. وَأما على طَريقَة الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب فَالْأَمْر بالمطلق أَمر بجزئي من جزئيات الْمَاهِيّة لَا بالكلي الْمُشْتَرك، فالمطلوب من ضرب - مثلا - فعل جزئي من جزئيات الضَّرْب من حَيْثُ مطابقته للماهية الْكُلية الْمُشْتَركَة؛ لِأَن الْمَاهِيّة الْكُلية يَسْتَحِيل وجودهَا فِي الْأَعْيَان. وَضعف ذَلِك يُوضح الْفرق بَين الْمَاهِيّة بِشَرْط شَيْء وبشرط لَا شَيْء وَلَا بِشَرْط، وَحِينَئِذٍ فالمطلوب الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ لَا بِقَيْد الْجُزْئِيَّة وَلَا بِقَيْد الْكُلية، واستحالة وجودهَا فِي الْخَارِج إِنَّمَا هُوَ من حَيْثُ تجردها لَا فِي ضمن جزئي، وَذَلِكَ كَاف فِي الْقُدْرَة على تَحْصِيلهَا. قَوْله: {لَكِن إِن ورد مُطلق ومقيد} . لَا يُقَال: كَانَ يَنْبَغِي إِذا كَانَ الْمُطلق والمقيد كالعام وَالْخَاص أَن لَا يفردا بِالذكر؛ لأَنا نقُول تحصل الْمُخَالفَة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2717 بَينهمَا من وجوده، وَهِي أَن لنا هُنَا من يرى وَيَقُول بِحمْل الْمُطلق على الْمُقَيد، وَلَا قَائِل هُنَا بِحمْل الْخَاص على الْعَام. وَأَيْضًا فالحمل هُنَاكَ للعام على غير الْمخْرج بالتخصيص، وَهنا بِالْعَكْسِ الْحمل هُنَا للمطلق على نفس الْمُقَيد. وَأَيْضًا فَمن أَقسَام وُرُود الْمُطلق والمقيد مَا يكون فِيهِ تَخْصِيص، وَمَا يكون حملا لَا تَخْصِيصًا. وَأَيْضًا فالحمل هُنَا بطرِيق الْقيَاس على رَأْي، وَغير ذَلِك من الْأَحْكَام الْآتِي بَيَانهَا، فاحتيج إِلَى الْإِفْرَاد بِالذكر. إِذا علم ذَلِك فَإِذا ورد مُطلق ومقيد فَنَقُول إِذا ورد مُطلق فَقَط، أَو مُقَيّد فَقَط فَحكمه وَاضح، أَو مُطلق فِي مَوضِع، ومقيد فِي آخر فقصر الْمُقَيد على قَيده يطرقه الْخلاف الَّذِي فِي المفاهيم. وَأما تَقْيِيد الْمُطلق بِقَيْد الْمُقَيد فَهُوَ المُرَاد هُنَا، لَكِن قَالَ بعض الْعلمَاء أَن يكون الْقَيْد مَعْمُولا بِهِ، نَحْو: {وَإِن كُنْتُم مرضى أَو على سفر} [النِّسَاء: 43] الْآيَة وَالْمَرَض وَالسّفر شَرط فِي إِبَاحَة التَّيَمُّم. فَأَما إِذا لم يكن مَعْمُولا بِهِ فَلَا يحْتَمل عَلَيْهِ الْمُطلق قطعا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ} [النِّسَاء: 101] فَلَيْسَ الْخَوْف شرطا فِي الْقصر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2718 وإهمال الْأُصُولِيِّينَ هَذَا الشَّرْط؛ إِنَّمَا هُوَ لوضوحه. إِذا علم ذَلِك فللمطلق والمقيد أَحْوَال. الْحَالة الأولى: {أَن يخْتَلف حكمهَا، فَلَا حمل اتِّفَاقًا} مُطلقًا، أَي: سَوَاء {اتّفق السَّبَب أَو اخْتلف} . مِثَال الأول: التَّتَابُع فِي صِيَام كَفَّارَة الْيَمين فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود، وَإِطْلَاق الطَّعَام فِيهَا. وَمِثَال الثَّانِي: الْأَمر بالتتابع فِي كَفَّارَة الْيَمين، وَإِطْلَاق الطَّعَام فِي كَفَّارَة الظِّهَار؛ وَلِهَذَا عَن أَحْمد رِوَايَة: لَا يحرم وَطْء من ظَاهر مِنْهَا قبل تكفيره بِالْإِطْعَامِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو بكر، وَأَبُو إِسْحَاق من أَصْحَابنَا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2719 وَأَبُو ثَوْر، وَاحْتج بهَا القَاضِي وَأَصْحَابه هُنَا، وَمذهب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة يحرم، وقاسوه على الْعتْق وَالصَّوْم. وَاحْتج القَاضِي فِي تَعْلِيقه لهَذَا بِحمْل الْمُطلق على الْمُقَيد، وللذي قبله بعكسه، وَادّعى بعض متأخري أَصْحَابنَا اتِّفَاق الحكم هُنَا؛ لِأَنَّهَا أَنْوَاع الْوَاجِب لَا فرق إِلَّا الْأَسْمَاء. قَوْله: {وَإِن لم يخْتَلف فَإِن اتَّحد سببهما وَكَانَا مثبتين} ، إِذا لم يخْتَلف الحكم فَتَارَة يتحد سببهما، وَتارَة لَا يتحد، فَإِن اتَّحد فَتَارَة يكونَانِ مثبتين وَتارَة يكونَانِ نهيين، وَتارَة يكون أَحدهمَا أمرا وَالْآخر نهيا. فَإِن لم يخْتَلف الحكم واتحد السَّبَب وَكَانَا مثبتين، أَو فِي معنى الْمُثبت كالأمر، كَقَوْلِه فِي الظِّهَار: أعتق رَقَبَة ثمَّ قَالَ: أعتق رَقَبَة مُؤمنَة ف {يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد} هُنَا {عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2720 وَذكره الْمجد إِجْمَاعًا، وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَا أعرف فِيهِ خلافًا. قَالَ القَاضِي الباقلاني، وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب، وَابْن فورك، وألكيا، وَغَيرهم: اتِّفَاقًا. وَحكى ابْن برهَان، وَابْن السَّمْعَانِيّ فِيهِ خلافًا عَن الْحَنَفِيَّة. وَحكى الطرطوشي خلافًا أَيْضا عَن الْمَالِكِيَّة. وَقيل للْقَاضِي أبي يعلى فِي تَعْلِيقه فِي خبر ابْن عمر: أَمر لمحرم بِقطع الْخُف، وَأطلق فِي خبر ابْن عَبَّاس فَيحمل عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّمَا يحمل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2721 إِذا لم يُمكن تَأْوِيله، وتأولنا التَّقْيِيد على الْجَوَاز. وعَلى أَن الْمَرْوذِيّ قَالَ: احتججت على أبي عبد الله بِخَبَر ابْن عمر هَذَا وَقلت: فِيهِ زِيَادَة، فَقَالَ: هَذَا حَدِيث وَذَاكَ حَدِيث، فَظَاهر هَذَا أَنه لم يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد. وَأجَاب أَبُو الْخطاب فِي " الِانْتِصَار ": لَا يحمل، نَص عَلَيْهِ فِي رِوَايَة الْمَرْوذِيّ، وَإِن سلمنَا - على رِوَايَة - فَإِذا لم يُمكن التَّأْوِيل. وَقيل: لَهُ فِي التَّحَالُف لاخْتِلَاف المتابعين المُرَاد والسلعة قَائِمَة لقَوْله والسلعة قَائِمَة، فَقَالَ: لَا يحمل على وَجه لنا. وللمالكية خلاف فِي حمله. وَاسْتدلَّ للْأولِ بِأَنَّهُ عمل بِالصَّرِيحِ وَالْيَقِين مَعَ الْجمع بَينهمَا. فَإِن قيل: الْأَمر بالأيمان للنَّدْب لأجل الْمُطلق، رد بِمَا سبق. قَوْله: {ثمَّ إِن كَانَ الْمُقَيد آحادا وَالْمُطلق تواترا انبنى على الزِّيَادَة هَل هِيَ نسخ، وعَلى نسخ التَّوَاتُر بالآحاد، وَالْمَنْع للحنفية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2722 وَالأَصَح أَن الْمُقَيد بَيَان للمطلق. وَقيل: نسخ إِن تَأَخّر الْمُقَيد. وَقيل: عَن وَقت الْعَمَل بالمطلق} . قيدنَا الْمَسْأَلَة بِهَذَا الْقَيْد وَهُوَ مَا إِذا كَانَ الْمُقَيد آحادا وَالْمُطلق تواترا انبنى على الزِّيَادَة، هَل هِيَ نسخ أم لَا؟ وَالصَّحِيح أَن الزِّيَادَة لَيست بنسخ على مَا تقدم بَيَانه فِيمَا إِذا ورد عَام وخاص سَوَاء كَانَا مقترنين أَو لَا، وانبنى أَيْضا على نسخ التَّوَاتُر بالآحاد. وَالصَّحِيح على أَنه لَا ينْسَخ بِهِ على مَا يَأْتِي فِي الْمَتْن وَالشَّرْح، فَإِذا كَانَت الزِّيَادَة لَيست نسخا وَإِن الْآحَاد لَا ينْسَخ التَّوَاتُر على الصَّحِيح فيهمَا، فَالصَّحِيح أَن الْمُقَيد بَيَان للمطلق، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد فِي الْمَذْهَب وَعَلِيهِ الْأَكْثَر من أَصْحَابنَا وَالْعُلَمَاء كتخصيص الْعَام. وكما لَا يكون تَأْخِير الْمُطلق نسخا للمقيد مَعَ رَفعه لتقييده فَكَذَا عَكسه. قَالُوا: فَيكون المُرَاد بالمطلق الْمُقَيد، فَيكون مجَازًا. رد: بلزومه فِي تَقْيِيد الرَّقَبَة بالسلامة، وَفِيمَا إِذا تقدم الْمُقَيد فَإِنَّهُ بَيَان لَهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2723 عِنْدهم، وَبِأَن الْمجَاز أولى من النّسخ. وَهَذِه الْمَسْأَلَة ذكرهَا على هَذِه الصّفة، وقيدها بذلك ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " تبعا للمجد فِي " مسودته "، وَتَبعهُ أَيْضا بعض الْمُتَأَخِّرين. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة: حمل الْمُطلق على الْمُقَيد لَا الْمُقَيد على الْمُطلق خلافًا لأبي حنيفَة ولبعضهم، ثمَّ اخْتلف الْقَائِلُونَ بِالْحملِ، هَل حمله بَيَان للمطلق، أَو نسخ لحكم الْمُطلق ويجدد لَهُ حكم التَّقْيِيد؟ وَالْأَكْثَرُونَ على أَنه بَيَان، تقدم الْمُطلق على الْمُقَيد، أَو تَأَخّر، وَذهب قوم إِلَى أَنه إِن تَأَخّر الْمُقَيد كَانَ نسخا، وَإِن تقدم كَانَ بَيَانا. انْتهى. وَالَّذِي رَأَيْته للشَّافِعِيَّة أَن الْمُقَيد إِن تَأَخّر عَن وَقت الْعَمَل بالمطلق فَهُوَ نَاسخ، وَإِن تقدم عَلَيْهِ أَو تَأَخّر عَنهُ لَا عَن وَقت الْعَمَل فَهُوَ مَحل الْخلاف الْمَذْكُور. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: وَفِيه مَذْهَب ثَالِث أَنه لَا يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد لَا بَيَانا، وَلَا نسخا. قَالَه الْبرمَاوِيّ. وَقيل: يحمل الْمُقَيد على الْمُطلق عكس الصَّحِيح الْمُقدم فَيبقى الْمُطلق على إِطْلَاقه، وَيكون الْمُقَيد ذكر فَرد من أَفْرَاد الْمَاهِيّة، كَمَا أَن ذكر فَرد من أَفْرَاد الْعَام لَا يخصصه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2724 قُلْنَا: الْفرق بَينهمَا أَن مَفْهُوم الْمُقَيد حجَّة بِخِلَاف مَفْهُوم اللقب الَّذِي ذكر فَرد من الْعَام مِنْهُ. فتلخص من الْمَسْأَلَة أَن الْمُطلق هَل يحمل على الْمُقَيد؟ فَإِذا قُلْنَا يحمل، فَهَل هُوَ بَيَان، أَو نسخ؟ إِن تَأَخّر الْمُقَيد عَن الْمُطلق مُطلقًا، أَو عَن وَقت الْعَمَل بالمطلق، أَو لَا يحمل مُطلقًا، أَو يحمل الْمُقَيد على الْمُطلق - عكس الأول -؟ فِيهِ أَقْوَال تقدّمت. قَوْله: {وَإِن كَانَا نهيين} ، يَعْنِي إِذا اتَّحد السَّبَب وَكَانَا نهيين، أَو نفيين، نَحْو: لَا تعْتق مكَاتبا، لَا تعْتق مكَاتبا كَافِرًا، أَو لَا تكفر بِعِتْق، لَا تكفر بِعِتْق كَافِر، وَلَا نِكَاح إِلَّا بولِي، لَا نِكَاح إِلَّا بولِي مرشد، {فالمقيد دلّ بِالْمَفْهُومِ. قَالَ أَبُو الْخطاب: فَمن لَا يرَاهُ حجَّة. قَالَ الْمجد: أَو لَا يخص الْعُمُوم بِعَمَل بِمُقْتَضى الْإِطْلَاق وَإِلَّا بالمقيد} . قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: فالقائل إِن الْمَفْهُوم حجَّة يُقيد قَوْله: لَا تعْتق مكَاتبا، بِمَفْهُوم قَوْله: لَا تعْتق مكَاتبا كَافِرًا، فَيجوز إِعْتَاق الْمكَاتب الْمُسلم، وَبِهَذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2725 صرح الْفَخر الرَّازِيّ فِي " الْمُنْتَخب "، وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام " الْمَحْصُول "، وَمن لَا يَقُول بِالْمَفْهُومِ يعْمل بِالْإِطْلَاقِ، وَيمْنَع إِعْتَاق الْمكَاتب مُطلقًا، وَبِهَذَا قَالَ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب. انْتهى. فَهَذَا مُوَافق لما قَالَه أَبُو الْخطاب، وَاخْتَارَ القَاضِي فِي " الْكِفَايَة ": يعْمل بالمطلق؛ لِأَنَّهُ لَا يخص الشَّيْء بِذكر بعض مَا دخل تَحْتَهُ. {و} ذكر {الْآمِدِيّ} : يعْمل {بالمقيد بِلَا خلاف} ، قَالَ فِي " الإحكام ": لَا خلاف فِي الْعَمَل بمدلولهما، وَالْجمع بَينهمَا؛ إِذا لَا تعذر فِيهِ. هَذَا لَفظه، وَمَعْنَاهُ: أَنه يلْزم من نفي الْمُطلق نفي الْمُقَيد فَيمكن الْعَمَل بهما فَلَا يعْتق - فِي مثالنا رَقَبَة مُؤمنَة، وَلَا كَافِرَة بِنَاء على أَن ذكر بعض أَفْرَاد الْعُمُوم لَا يكون مُخَصّصا. وَصرح بِهِ أَبُو الْحُسَيْن فِي " الْمُعْتَمد ". وَحِينَئِذٍ فَلَا فرق بَين هَذَا القَوْل وَبَين قَول من قَالَ يعْمل بالمطلق كَمَا هُوَ قَول القَاضِي. وَأما قَول أبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ: إِن ذكر بعض أَفْرَاد الْعُمُوم لَا يكون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2726 مُخَصّصا فَفِيهِ نظر؛ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ ذَلِك الْفَرد لَهُ مَفْهُوم مُعْتَبر فَهِيَ مَسْأَلَة تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْمَفْهُومِ، وَالْمذهب عندنَا تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْمَفْهُومِ، كَمَا تقدم ذَلِك محررا. قَوْله: {وَقيل: هما من الْعَام وَالْخَاص} ، ذكر غير وَاحِد من الْأُصُولِيِّينَ أَنه إِذا اتَّحد الحكم وَالسَّبَب وَكَانَا نهيين أَو نفيين من صور الْمُطلق والمقيد، وَمن جملَة من ذكره ابْن مُفْلِح وَغَيره من أَصْحَابنَا وَغَيرهم وتابعناهم. وَذهب جمَاعَة من الْعلمَاء - مِنْهُم: الْقَرَافِيّ، وَابْن دَقِيق الْعِيد وَغَيرهمَا - أَنه من صور الْعَام وَالْخَاص؛ لِأَنَّهُ نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي، والنكرة فِي سِيَاق النَّفْي أَو النَّهْي عَامَّة، وَهَذَا الْأَظْهر، وتسميتهما مُطلقًا ومقيدا مجَاز. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة " بعد كَلَام أبي الْخطاب وَالْقَاضِي فِي " الْكِفَايَة ": قلت: وَإِن كَانَا إباحتين فهما فِي معنى النهيين، وَكَذَلِكَ إِذا كَانَا كراهتين، فَإِن كَانَا ندبين فَفِيهِ نظر، وَإِن كَانَا خبرين عَن حكم شَرْعِي فَينْظر فِي ذَلِك الحكم. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2727 قَوْله: {وَإِن كَانَ أَحدهمَا أمرا، وَالْآخر نهيا فالمطلق مُقَيّد بضد الصّفة} فأحدهما فِي معنى النَّفْي، وَالْآخر فِي معنى الْإِثْبَات، مثل: إِن ظَاهَرت فَأعتق رَقَبَة، وَيَقُول: لَا تملك رَقَبَة كَافِرَة، فَلَا بُد من التَّقْيِيد بِنَفْي الْكفْر لِاسْتِحَالَة إِعْتَاق الرَّقَبَة الْكَافِرَة، فالحمل فِي ذَلِك ضَرُورِيّ، لَا من حَيْثُ إِن الْمُطلق حمل على الْمُقَيد، وَلذَلِك قَالَ ابْن الْحَاجِب: إِنَّه وَاضح. قَوْله: {وَإِن اخْتلف سببهما كالرقبة فِي الظِّهَار، وَالْقَتْل} فَأطلق الرَّقَبَة فِي الظِّهَار وقيدها بِالْإِيمَان فِي الْقَتْل. الْكَلَام أَيْضا فِيمَا إِذا اخْتلف الحكم فَإِنَّهُ قِسْمَانِ: قسم يتحد السَّبَب، وَتَحْته أَنْوَاع: أَحدهمَا: أَن يَكُونَا منفيين. الثَّانِي: أَن يَكُونَا نهيين. الثَّالِث: أَن يكون أَحدهمَا نهيا وَالْآخر نفيا، وَتقدم الْكَلَام على ذَلِك كُله. وَالْقسم الثَّانِي: أَن يتحد الحكم وَيخْتَلف السَّبَب وَهِي مَسْأَلَتنَا، كإعتاق الرَّقَبَة فِي الْقَتْل وَفِي الظِّهَار وَالْيَمِين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2728 أما فِي الظِّهَار فَإِنَّهَا وَردت فِيهِ مُطلقَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يظاهرون من نِسَائِهِم ثمَّ يعودون لما قَالُوا فَتَحْرِير رَقَبَة من قبل أَن يتماسا} [المجادلة: 3] ، وَقَالَ فِي الْيَمين: {فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين} - إِلَى قَوْله - {أَو تَحْرِير رَقَبَة} [الْمَائِدَة: 89] . وَأما فِي الْقَتْل فَإِنَّهَا وَردت فِيهِ مُقَيّدَة بِالْإِيمَان فِي قَوْله: {وَمن قتل مُؤمنا خطئا فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة ودية مسلمة إِلَى أَهله} [النِّسَاء: 92] . وَمِنْه: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [الْبَقَرَة: 282] ، وَقَوله: {وَأشْهدُوا ذَوي عدل مِنْكُم} [الطَّلَاق: 2] ، فَالصَّحِيح {حمل} الْمُطلق على الْمُقَيد {قِيَاسا بِجَامِع بَينهمَا عِنْد أَحْمد و} أَكثر {أَصْحَابه، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أَصْحَابه، والمالكية، وَغَيرهم} . قَالَ: اخْتَارَهُ أَكثر أَصْحَابنَا كتخصيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: فَجَائِز عِنْد أَصْحَابنَا، وَبِه يَقُول الْمَالِكِيَّة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2729 وَالشَّافِعِيَّة، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، والرازي، والباقلاني، وَنسبه للمحققين. قَالَ عبد الْوَهَّاب: إِنَّه الْأَصَح عِنْدهم. {وَعنهُ لَا} يحمل عَلَيْهِ {كالحنفية وَغَيرهم} . قَالَ ابْن مُفْلِح: اخْتَارَهُ ابْن شاقلا وَابْن عقيل فِي فنونه قَالَ: لجَوَاز قصد الْبَارِي للتفرقة بِمَعْنى بَاطِن، أَو ابتلاء. وَمنع الْمجد دلَالَة هَذِه الرِّوَايَة، ثمَّ قَالَ: نعم، يتَخَرَّج لنا رِوَايَة من عدم تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2730 {وَتوقف أَبُو الْمَعَالِي} . قَوْله: {وَلَا يحمل عَلَيْهِ لُغَة عِنْد أَحْمد، وَابْن شاقلا، وَابْن عقيل، والحلواني، وَالْمجد، والآمدي، وَالْحَنَفِيَّة، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَحكي عَن الشَّافِعِي} . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَهُوَ أرجح قولي الشَّافِعِي. قَالَ ابْن نصر: وَهُوَ قَول الْمَالِكِيَّة، وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، والجويني، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، وَنَقله عبد الْوَهَّاب عَن أَكثر الْمَالِكِيَّة. {وَعَن أَحْمد: يحمل، اخْتَارَهُ القَاضِي} ، وَقَالَ: أَكثر كَلَام أَحْمد يدل عَلَيْهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2731 وَرُوِيَ عَن مَالك، {و} قَالَه {بعض الشَّافِعِيَّة} . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَبِه قَالَت الْمَالِكِيَّة. وَنقل عَن الشَّافِعِي وَبَعض أَصْحَابه، قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: هَذَا ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي وَعَلِيهِ جُمْهُور أَصْحَابنَا، وَحَكَاهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب عَن جُمْهُور أَصْحَابه. فتلخص فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال: يحمل مُطلقًا، لَا يحمل مُطلقًا، يحمل بِقِيَاس لَا بلغَة. تَنْبِيه: منشأ الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أُمُور: أَحدهَا: أَن الْمُطلق هَل هُوَ ظَاهر فِيمَا يَشْمَلهُ، أَو نَص فِيهِ؟ فَإِن قُلْنَا نَص، فَلَا يحمل على الْمُقَيد بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ يكون نسخا، والنسخ بِالْقِيَاسِ مُمْتَنع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2732 الثَّانِي: أَن الزِّيَادَة على النَّص نسخ عِنْد الْحَنَفِيَّة، وَتَخْصِيص عندنَا وَعند الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم كَمَا تقدم، والنسخ لَا يجوز بِالْقِيَاسِ وَيجوز التَّخْصِيص. الثَّالِث: عدم حجية الْمَفْهُوم عِنْد الْحَنَفِيَّة، فَلَا يحمل / الْمُطلق عَلَيْهِ كَذَلِك. وَعِنْدنَا حجَّة فِي الْجُمْلَة. قَوْله: وَإِن ورد مقيدان متنافيان وَمُطلق، وَاخْتلف السَّبَب، كتتابع صَوْم الظِّهَار، وتفريق صَوْم الْمُتْعَة، وَقَضَاء رَمَضَان مُطلق. إِذا ورد مَعنا مقيدان متنافيان، وَمُطلق فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يخْتَلف السَّبَب أَو يتَّفق، فَإِن اخْتلف السَّبَب لَكِن جنس الْجَمِيع وَاحِد كتتابع صَوْم الظِّهَار فَإِنَّهُ قد ورد النَّص بتتابعه لقَوْله تَعَالَى: {فَمن لم يجد فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين} [المجادلة: 4] وتفريق صَوْم الْمُتْعَة فَإِن النَّص قد ورد بتفريقه لقَوْله تَعَالَى: {فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي فَمن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رجعتم} [الْبَقَرَة: 196] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2733 وَورد قَضَاء رَمَضَان مُطلق لم يرد بِهِ تتَابع، وَلَا تَفْرِيق، قَالَ الله تَعَالَى: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} [الْبَقَرَة: 184] فَأطلق الْقَضَاء. وَمثله بَعضهم بالصيام فِي كَفَّارَة الْيَمين فَإِن فِي تتابعه خلافًا فعلى القَوْل بِعَدَمِ التَّتَابُع هُوَ دائر بَين قيدين: التَّتَابُع فِي صَوْم الظِّهَار، والتفريق فِي صَوْم التَّمَتُّع فِي الْحَج، وَلَيْسَ أَحدهمَا أولى من الآخر. وَمثله بَعضهم أَيْضا بتردد إِطْلَاق الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّم بَين الْوضُوء الْمُقَيد بالمرافق، وَقطع السّرقَة الْمُقَيد بالكوع بِالْإِجْمَاع. وَلَكِن الْأَشْبَه بِهِ أرجح فِي الْحمل وَهُوَ الْوضُوء؛ لِأَن التَّيَمُّم بدله، وهما طهارتان، وَلَا يحمل على أَحدهمَا لُغَة، أَي: فِي اللُّغَة. قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": إِذا كَانَ مَعنا نصان مقيدان فِي جنس وَاحِد وَالسَّبَب مُخْتَلف، وَهُنَاكَ نَص ثَالِث مُطلق من الْجِنْس فَلَا خلاف أَنه لَا يلْحق بِوَاحِد مِنْهُمَا لُغَة، وَذكر الْمِثَال الْمُتَقَدّم. وَكَذَا قَالَ ابْن مُفْلِح: فَلَا يحمل لُغَة بِلَا خلاف؛ إِذْ لَا مدْخل للغة فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة. وَقَالَهُ الْمجد فِي " المسودة ". قَوْله: بل {قِيَاسا بِجَامِع} فِي الْأَصَح، إِذا لم يحمل لُغَة فَهَل يحمل قِيَاسا بِجَامِع؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2734 فِيهِ الْخلاف الَّذِي فِي حمل الْمُطلق على الْمُقَيد. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَقِيَاسًا بِجَامِع مُعْتَبر الْخلاف، يَعْنِي بِهِ الْخلاف الَّذِي فِي حمل الْمُطلق على الْمُقَيد على مَا سبق. قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": وَأما إِلْحَاقه بِأَحَدِهِمَا قِيَاسا إِذا وجدت عِلّة تَقْتَضِي الْإِلْحَاق فَإِنَّهُ على الْخلاف الْمَذْكُور فِي الَّتِي قبلهَا. انْتهى. وَقَالَ الطوفي وَغَيره تبعا للموفق فِي " الرَّوْضَة ": حمل الْمُطلق على أشبههما بِهِ. قَالَ ابْن مُفْلِح: {وَحكى} بَعضهم {عَن أبي الْخطاب قِيَاس قَضَاء رَمَضَان على كَفَّارَة الْيَمين فِي التَّتَابُع أولى مِنْهُ [على الْمُتْعَة فِي عَدمه] } . قَوْله: {وَإِن اتَّحد السَّبَب، وتساويا سقطا مَحل تُرَاب ... الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2735 فِي غسل نَجَاسَة كلب} . قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَإِن كَانَ السَّبَب وَاحِدًا، فَإِن كَانَ حمله على أَحدهمَا أرجح من الآخر بِأَن كَانَ الْقيَاس فِيهِ أظهر قيد بِهِ؛ لِأَن الْعَمَل بِالْقِيَاسِ الأجلى أولى، فَإِن تساوى عمل بالمطلق ويلغى القيدان كالبينتين إِذا تَعَارَضَتَا فَإِن الْأَرْجَح فيهمَا التساقط، وَكَانَ كمن لَا بَيِّنَة هُنَاكَ. وَقَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": وَأما إِذا أطلقت الصُّورَة الْوَاحِدَة، ثمَّ قيدت تِلْكَ الصُّورَة بِعَينهَا بقيدين متنافيين، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا ولغَ الْكَلْب فِي إِنَاء أحدكُم فليغسله سبع مَرَّات " وَورد فِي رِوَايَة: " إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ "، وَفِي رِوَايَة: " أولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ "، وَفِي أُخْرَى: " السَّابِعَة بِالتُّرَابِ ". رَوَاهَا أَبُو دَاوُد، وَهِي معنى: " وعفروه الثَّامِنَة بِالتُّرَابِ "، قيل: إِنَّمَا سميت ثامنة لأجل اسْتِعْمَال التُّرَاب مَعهَا. فَلَمَّا كَانَ القيدان متنافيين تساقطا، ورجعنا إِلَى الْإِطْلَاق فِي إِحْدَاهُنَّ فَفِي أَي غسلة جعل جَازَ، إِذا أَتَى عَلَيْهِ من المَاء مَا يُزِيلهُ ليحصل الْمَقْصُود الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2736 مِنْهُ، لَكِن اخْتلف فِي الْأَوْلَوِيَّة على أَقْوَال عندنَا: أَحدهَا: أَن إِحْدَى الغسلات لَيْسَ بِأولى من غَيرهَا، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْمُوفق فِي " الْمقنع "، وَجَمَاعَة كَثِيرَة، وَهُوَ مُوَافق لما قُلْنَا أَولا، وَهُوَ التساقط وَالرُّجُوع إِلَى الْإِطْلَاق. وَعنهُ: الأولى أَن يكون التُّرَاب فِي الأولى، وَهَذَا قطع بِهِ فِي " الْمُغنِي "، و " الشَّرْح "، و " الْكَافِي "، و " النّظم "، و " الْحَاوِي الصَّغِير "، وَغَيرهم، وَاخْتَارَهُ جمَاعَة كَثِيرَة، وَهُوَ الْمَذْهَب على المصطلح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2737 وَعنهُ: إِن غسلهَا ثمانيا، فَفِي الثَّامِنَة، جزم بِهِ ابْن تَمِيم، وَاخْتَارَهُ أَيْضا جمَاعَة. وَعنهُ: الْأَخِيرَة أولى. وَلَعَلَّ من اخْتَار غير الْإِطْلَاق بِدَلِيل غير ذَلِك فيترجح عِنْده التَّعْيِين على الْإِطْلَاق للدليل الْخَارِج، وَالله أعلم. وَقَوْلنَا: وَإِن اتَّحد السَّبَب وتساويا، احْتِرَاز مِمَّا إِذا كَانَ أَحدهمَا أرجح قِيَاسا، فَإِنَّهُ يعْمل بِهِ، وَقد تقدم التَّنْبِيه عَلَيْهِ فِي كَلَام الْبرمَاوِيّ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: مَا ذكر فِي مَسْأَلَة اتِّحَاد السَّبَب إِذا لم يكن أولى بِأحد القيدين من طرحهما. وَالْعَمَل بالمطلق، هُوَ مَا أجَاب بِهِ الْقَرَافِيّ لبَعض الْحَنَفِيَّة فِي قَوْله إِن الشَّافِعِيَّة خالفوا قاعدتهم فِي حمل الْمُطلق على الْمُقَيد فِي حَدِيث الولوغ فَإِنَّهُ قد جَاءَ: " إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ " وَهُوَ مُطلق، وَجَاء فِي رِوَايَة: " أولَاهُنَّ "، فِي رِوَايَة: " أخراهن " فهما قيدان متنافيان فَلم يحملوا وجوزوا التَّرْتِيب فِي كل من السَّبع، فَقَالَ لَهُ الْقَرَافِيّ: ذَلِك إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ يكون قيدا وَاحِدًا، أما فِي القيدين فَيعْمل بالمطلق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2738 قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَمَا ذكره، هُوَ مَا جرى عَلَيْهِ أَصْحَابنَا فِي الْفِقْه من عدم تعْيين شَيْء من السَّبع، وَقَالُوا: التتريب فِي الأولى أولى، لَا وَاجِب. لَكِن نَص الشَّافِعِي فِي " الْأُم " على تعْيين الأولى، أَو الْأَخِيرَة، وَكَذَا نَص فِي " مُخْتَصر الْبُوَيْطِيّ " أَنه يعْمل بالقيدين على معنى أَن الْوَاجِب أَحدهمَا لَا بِعَيْنِه، وَأَحَدهمَا قدر مُشْتَرك، وَفَائِدَته دفع الْخَمْسَة المتوسطة بَين الأولى والأخيرة. وَبحث السُّبْكِيّ أَنه يجب فِي كليهمَا؛ لوُرُود الحَدِيث فيهمَا وَلَا تنَافِي فِي الْجمع بَينهمَا. ورد: فنص الشَّافِعِي مُخَالف لما قَالَه أَصْحَابه. لَكِن ورد عَنهُ نَص بموافقتهم. قَوْله: تَنْبِيه: يحمل {الأَصْل فِي الْأَصَح} كالوصف، حمل الْمُطلق على الْمُقَيد بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَصْف مُتَّفق عَلَيْهِ كوصف الرَّقَبَة فِي الْقَتْل وَنَحْوه بِالْإِيمَان، وَأما بِالنِّسْبَةِ إِلَى الأَصْل أَي الْمَحْذُوف بِالْكُلِّيَّةِ كالإطعام فَإِنَّهُ مَذْكُور فِي كَفَّارَة الظِّهَار دون كَفَّارَة الْقَتْل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2739 قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": فَظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد فِي الأَصْل كَمَا حمل عَلَيْهِ فِي الْوَصْف؛ لأَنهم حكوا فِي كَفَّارَة الْقَتْل فِي وجوب الْإِطْعَام رِوَايَتَيْنِ: الْوُجُوب إِلْحَاقًا بكفارة الظِّهَار، كَمَا حكوا رِوَايَتَيْنِ فِي اشْتِرَاط وصف الْإِيمَان فِي كَفَّارَة الظِّهَار، والاشتراط إِلْحَاقًا بكفارة الْقَتْل، فَدلَّ هَذَا من كَلَامهم لَا فرق فِي الْحمل بَين الأَصْل وَالْوَصْف. وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّهُ لَا فرق فِي الْحمل بَين الأَصْل وَالْوَصْف ابْن خيران من الشَّافِعِيَّة، وَلَكِن قَالَ الرَّوْيَانِيّ فِي " الْبَحْر ": المُرَاد بِحمْل الْمُطلق على الْمُقَيد إِنَّمَا هُوَ الْمُطلق بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَصْف دون الأَصْل. قلت: الصَّحِيح من الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ أَكثر الْأَصْحَاب أَنه لَا يجب الْإِطْعَام فِي كَفَّارَة الْقَتْل، وَفِي هَذَا تَنْبِيه أَنه لَا يحمل الأَصْل، بل الْحمل مَخْصُوص بِالْوَصْفِ، لَكِن فِي الْمَذْهَب رِوَايَة عَن أَحْمد أَنه يجب الْإِطْعَام، وَاخْتَارَهُ كثير من الْأَصْحَاب، كصاحب " الْمُحَرر " وَغَيره، فعلى هَذَا يحمل كالوصف. وَأما مَسْأَلَة الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة الْوَاجِبَة فِي الظِّهَار، [و] كَفَّارَة الْوَطْء فِي رَمَضَان فَالصَّحِيح من الْمَذْهَب اشْتِرَاط الْإِيمَان فِي الْكل، وَعَلِيهِ مُعظم الْأَصْحَاب، وَقطع بِهِ كثير مِنْهُم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2740 وَلنَا رِوَايَة ضَعِيفَة إِجْزَاء الرَّقَبَة الْكَافِرَة فِي الظِّهَار، وَالْوَطْء فِي رَمَضَان، وَالْيَمِين، اخْتَارَهَا أَبُو بكر من أَصْحَابنَا، وَهَذِه هِيَ الْمَسْأَلَة الْمُتَقَدّمَة وَهِي مَا إِذا اتَّحد الحكم وَاخْتلف السَّبَب فَقِيَاس صَاحب الْقَوَاعِد الْمَسْأَلَة الأولى على هَذِه فِيهِ نظر، بل الحكم مُخْتَلف فيهمَا على الصَّحِيح من الْمَذْهَب. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: يشْتَرط فِيمَا إِذا اخْتلف السَّبَب واتحد الحكم أَن يُقيد الْمُقَيد صفة، نَحْو تَقْيِيد الرَّقَبَة بِالْإِيمَان، لَا ذاتا كالإطعام فِي كَفَّارَة الْقَتْل فَلَا يحمل على الظِّهَار فِي وُجُوبه عِنْد تعذر صَوْم الشَّهْرَيْنِ على أصح قولي الشَّافِعِي، وكحمل التَّيَمُّم فِي الْأَعْضَاء الْأَرْبَعَة على الْوضُوء فِي ذَلِك، بل يقْتَصر على الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: وَكَذَا حمل إِطْلَاق الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّم على قيد الْمرَافِق فِي الْوضُوء؛ لِأَن ذَلِك صفة فِي الْيَدَيْنِ، لَا أصل مُسْتَقل كَمَا فِي الرَّأْس وَالرّجلَيْنِ. انْتهى. وَمِنْهُم من منع من ذَلِك؛ لِأَنَّهُ فِي ذَات الساعدين زِيَادَة على الكوعين. ذكر هَذَا الشَّرْط كثير من الشَّافِعِيَّة، وَنَقله الْمَازرِيّ عَن الْأَبْهَرِيّ من الْمَالِكِيَّة وَنقل كَلَام ابْن خيران. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2741 قَوْله: {وَمحله} ، أَي: الْحمل {إِذا لم يسْتَلْزم تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة، فَإِن استلزمه حمل على إِطْلَاقه، قَالَه بعض أَصْحَابنَا} الْمُحَقِّقين {كَمَسْأَلَة قطع الْخُف} . قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": مَحل حمل الْمُطلق على الْمُقَيد إِذا لم يسْتَلْزم تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة، فَإِن استلزمه حمل على إِطْلَاقه، قَالَه طَائِفَة من محققي أَصْحَابنَا، مِثَال ذَلِك: لما أطلق النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لبس الْخُفَّيْنِ بِعَرَفَات، وَكَانَ مَعَه الْخلق الْعَظِيم من أهل مَكَّة، والبوادي، واليمن مِمَّن لم يشْهد خطبَته بِالْمَدِينَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُقيد بِمَا قَالَه فِي الْمَدِينَة وَهُوَ قطع الْخُفَّيْنِ. وَنَظِير هَذَا فِي حمل اللَّفْظ على إِطْلَاقه قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمن سَأَلته عَن دم الْحيض: " حتيه ثمَّ اغسليه بِالْمَاءِ " لم يشْتَرط عددا مَعَ أَنه وَقت حَاجَة، فَلَو كَانَ الْعدَد شرطا لبينه، وَلم يحلهَا على ولوغ الْكَلْب فَإِنَّهَا رُبمَا لم تسمعه، وَلَعَلَّه لم يشرع الْأَمر بِغسْل ولوغه. انْتهى. قَوْله: {وَقَالَ بعض محققيهم وَغَيرهم الْمُطلق من الْأَسْمَاء يتَنَاوَل الْكَامِل من المسميات فِي إِثْبَات، لَا نفي} كَالْمَاءِ، والرقبة، وَعقد النِّكَاح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2742 الْخَالِي عَن وَطْء يدْخل فِي قَوْله: {وَلَا تنْكِحُوا} [الْبَقَرَة: 221] لَا {حَتَّى تنْكح} [الْبَقَرَة: 230] . وَلَو حلف لَا يتَزَوَّج حنث بِمُجَرَّد العقد عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة. وَلَو حلف ليتزوجن يبر بِمُجَرَّدِهِ عِنْد أَحْمد وَمَالك، {وَكَذَا قَالَ بعض أَصْحَابنَا: الْوَاجِبَات الْمُطلقَة تَقْتَضِي السَّلامَة من الْعَيْب فِي عرف الشَّارِع} بِدَلِيل الْإِطْعَام فِي الْكَفَّارَة، وَالزَّكَاة. {وَصرح القَاضِي، وَابْن عقيل وَغَيرهمَا} من أَئِمَّة أَصْحَابنَا {أَن إِطْلَاق الرَّقَبَة فِي الْكَفَّارَة يَقْتَضِي الصِّحَّة} بِدَلِيل الْمَبِيع وَغَيره، وَسبق خِلَافه من كَلَام الْآمِدِيّ وَغَيره، وَكَذَا لِابْنِ عقيل فِي الزِّيَادَة على النَّص. وَحكي عَن دَاوُد أَنه جوز عتق كل رَقَبَة لإِطْلَاق اللَّفْظ، وَسلمهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2743 الْمُوفق فِي " الْمُغنِي " وَغَيره، وَقَيده قِيَاسا على الْإِطْعَام، وَاخْتَارَ فِي (ليتزوجن) يبر بِالْعقدِ كالنفي؛ لِأَن الْمُسَمّى وَاحِد فَمَا تنَاوله النَّفْي تنَاوله الْإِثْبَات. أما الْمُعَامَلَة كَالْبيع فإطلاق الدِّرْهَم مُخْتَصّ بعرفها. قَوْله: خَاتِمَة: الْمُطلق ظَاهر الدّلَالَة على الْمَاهِيّة كالعام، لَكِن على سَبِيل الْبَدَل، وَعند الْحَنَفِيَّة قَطْعِيّ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: الْمُطلق قَطْعِيّ الدّلَالَة على الْمَاهِيّة عِنْد الْحَنَفِيَّة، وَظَاهر فِيهَا عِنْد الشَّافِعِيَّة كالعام، وَهُوَ يُشبههُ لاسترساله على كل فَرد إِلَّا على سَبِيل الْبَدَل، وَلِهَذَا قيل عَام عُمُوم بدل. انْتهى. وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " بعد ذكر الْمُقَيد وَالْمُطلق: وَقد عرف مِمَّا سبق دلَالَة الْمُطلق وَأَنه كالعام فِي تنَاوله، وأطلقوا عَلَيْهِ الْعُمُوم لكنه على الْبَدَل، وَسبق فِي (إِن أكلت) هَل يعم الزَّمَان، وَالْمَكَان؟ وَقيل للْقَاضِي وَقد احْتج على الْقَضَاء فِي الْمَسْجِد بقوله: {وَأَن احكم بَينهم} [الْمَائِدَة: 49] لَا يدل على الْمَكَان فَقَالَ: هُوَ أَمر بالحكم فِي عُمُوم الْأَمْكِنَة والأزمنة، إِلَّا مَا خصّه الدَّلِيل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2744 وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد ": الْمُطلق مُشْتَمل على جَمِيع صِفَات الشَّيْء وأحواله. وَأجَاب الْمُوفق فِي " الْمُغنِي " لمن احْتج بِآيَة الْقصاص وَالسَّرِقَة وَالزِّنَا فِي الملتجئ إِلَى الْحرم: الْأَمر بذلك مُطلق فِي الْأَمْكِنَة والأزمنة يتَنَاوَل مَكَانا ضَرُورَة إِقَامَته فَيمكن فِي غير الْحرم [ثمَّ] لَو عَم خص. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَالْمَعْرُوف فِي كَلَامه وَكَلَام غَيره هُوَ الثَّانِي، وَسبق كَلَام بعض أَصْحَابنَا فِي (إِن أكلت) ، وَفِيه أَن الْمُطلق تنَاول أَفْرَاده على الْبَدَل لُزُوما عقليا، وأوصاف الرَّقَبَة لم يدل عَلَيْهَا لَفظهَا بِنَفْي وَلَا إِثْبَات، فإيجاب الْإِيمَان إِيجَاب لما لم يُوجِبهُ اللَّفْظ وَلم ينفه. فَلَو قَالَ: أعْط هَذَا لفقير، ثمَّ قَالَ: لَا تعطه كَافِرًا، فَلَا تنَافِي، وَلَو قَالَ: أعْطه أَي فَقير كَانَ، ثمَّ قَالَ: لَا تعطه كَافِرًا تنافيا لقصده ثُبُوت الحكم لكل فَرد، وَالْمُطلق قَصده ثُبُوته للمعنى الْعَام فَإِذا شَرط فِيهِ شرطا لم يتنافيا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2745 وَقَالَ أَيْضا: التَّقْيِيد زِيَادَة حكم والتخصيص نقص فَلَو كَانَ بعد الْمُطلق جَازَ بِخَبَر الْوَاحِد، وَحمله لجهل التَّارِيخ على التَّأَخُّر أولى، وَالله أعلم. انْتهى الْجُزْء الثَّانِي، ويتلوه الْجُزْء الثَّالِث، وأوله بَاب الْمُجْمل، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2746 الْجُزْء الثَّالِث من كتاب التحبير شرح التَّحْرِير فِي أصُول الْفِقْه بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم اللَّهُمَّ صل على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه وَسلم. (بَاب الْإِجْمَاع) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2747 فارغة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2748 (قَوْله: {بَاب} ) {الْمُجْمل لُغَة الْمَجْمُوع} ، أَو الْمُبْهم، {أَو المحصل} . قَالَ ابْن مُفْلِح: الْمُجْمل لُغَة الْمَجْمُوع من أجملت الْحساب. وَقيل: أَو الْمُبْهم. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: هُوَ لُغَة من الْجمل، وَمِنْه قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْيَهُود: " جملوها "، أَي: خلطوها، وَمِنْه الْعلم الإجمالي لاختلاط الْمَعْلُوم بِالْمَجْهُولِ، وَهنا سمي مُجملا؛ لاختلاط المُرَاد بِغَيْرِهِ، أَو أجملت الْحساب جمعته، وأجملت حصلت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2749 وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: الْمُجْمل أَصله من الْجمل وَهُوَ الْجمع، وَمن مَعَانِيه اللُّغَوِيَّة أَيْضا الْإِبْهَام، من أجمل الْأَمر، أَي: أبهمه، وَمِنْه التَّحْصِيل، من أجمل الشَّيْء حصله. قَوْله: {وَاصْطِلَاحا: مَا تردد بَين محتملين فَأكْثر على السوَاء} . قَالَه الطوفي فِي " مُخْتَصره "، لَكِن قَالَ: اللَّفْظ المتردد إِلَى آخِره فَيرد عَلَيْهِ الْأَفْعَال، نَحْو الْقيام من الرَّكْعَة الثَّانِيَة قبل التَّشَهُّد؛ لتردده بَين الْجَوَاز والسهو فَلذَلِك حذفتها ليدْخل الْإِجْمَال الْفعْلِيّ فَإِن الْمُجْمل يتَنَاوَل القَوْل وَالْفِعْل والمشترك والمواطئ. وَاحْترز بقوله: (بَين محتملين) عَمَّا لَهُ محمل وَاحِد كالنص. وَقَوله: على السوَاء، احْتِرَاز عَن الظَّاهِر، وَعَن الْحَقِيقَة الَّتِي لَهَا مجَاز. {وَقيل: مَا لم تتضح دلَالَته} ، قَالَه ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، والتاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2750 أَي: مَا لَهُ دلَالَة غير وَاضِحَة لِئَلَّا يرد عَلَيْهِ المهمل؛ لِأَنَّهُ يصدق عَلَيْهِ أَنه لم تتضح دلَالَته؛ إِذْ لَا دلَالَة فِيهِ، وَلَا اتضاح. وَهُوَ يتَنَاوَل القَوْل وَالْفِعْل والمشترك والمتواطئ. وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، وَضعف تَفْسِيره بِاللَّفْظِ الَّذِي لَا يفهم مِنْهُ عِنْد الْإِطْلَاق شَيْء؛ لِأَنَّهُ يدْخل فِيهِ المهمل، والمستحيل، أَي: لِأَنَّهُ لَا يفهم من المهمل شَيْء، وَأما المستحيل فَلَيْسَ بِشَيْء. وانتقد عَلَيْهِ بِأَن قَوْله: (عِنْد الْإِطْلَاق) يَقْتَضِي أَنه يفهم شَيْء عِنْد التَّقْيِيد فَلَا يدْخل المهمل، وَلَا المستحيل؛ لِأَنَّهُمَا لَا يفهم مِنْهُمَا شَيْء لَا عِنْد الْإِطْلَاق وَلَا عِنْد التَّقْيِيد. قَالَ ابْن الْحَاجِب: وَلَا ينعكس، أَي: التَّعْرِيف لجَوَاز فهم أحد المحامل مِنْهُ على الْجُمْلَة، وَهُوَ أحد هذَيْن فيفهم انْتِفَاء غَيرهمَا. وَلِأَن ذَلِك قد يكون فِي الْفِعْل كَمَا تقدم. {و} قَالَ أَبُو الْخطاب {فِي " التَّمْهِيد ": مَا أَفَادَ جملَة من الْأَشْيَاء} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2751 قد يعْتَرض عَلَيْهِ بِأَن الْأَشْيَاء قد يكون بَعْضهَا أظهر من بعض وَهِي جملَة. {و} قَالَ القَاضِي {فِي " الْعدة ": مَا لَا يفهم مَعْنَاهُ من لَفظه} . قد يرد عَلَيْهِ المهمل، وَقد يُجَاب بِأَن المهمل مَا [لَيْسَ] لَهُ معنى. {و} قَالَ الْمُوفق {فِي " الرَّوْضَة ": مَا لَا يفهم مِنْهُ عِنْد الْإِطْلَاق معنى} . وَمرَاده معنى معينا، وَإِلَّا بَطل بالمشترك فَإِنَّهُ يفهم معنى غير معِين، والمشترك من جملَة الْمُجْمل. {وَقَالَ} أَبُو مُحَمَّد {الْجَوْزِيّ} فِي " الْإِيضَاح ": {مَا لَا يفهم مِنْهُ مُرَاد الْمُتَكَلّم} ، فَهُوَ حسن ومعانيها مُتَقَارِبَة. قَوْله: {وَحكمه التَّوَقُّف على الْبَيَان} الْخَارِجِي، فَلَا يجوز الْعَمَل بِأحد محتملاته إِلَّا بِدَلِيل خَارج من لَفظه لعدم دلَالَة لَفظه على المُرَاد وَامْتِنَاع التَّكْلِيف بِمَا لَا دَلِيل عَلَيْهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2752 قَوْله: {وَيكون فِي الْكتاب وَالسّنة فِي الْأَصَح} ، الْمُخَالف فِي ذَلِك دَاوُد الظَّاهِرِيّ. قَالَ بَعضهم: لَا نعلم أحدا قَالَ بِهِ غَيره، فالحجة عَلَيْهِ من الْكتاب وَالسّنة لَا يُحْصى وَلَا يعد، وإنكاره مُكَابَرَة. قَالَ دَاوُد: الْإِجْمَال بِدُونِ الْبَيَان لَا يُفِيد، وَمَعَهُ تَطْوِيل، وَلَا يَقع فِي كَلَام البلغاء فضلا عَن الله، وَسيد الْأَنْبِيَاء. وَالْجَوَاب: أَن الْكَلَام إِذا ورد مُجملا، ثمَّ بَين وَفصل أوقع عِنْد النَّفس من ذكره مُبينًا ابْتِدَاء. وَأجَاب فِي " الْمَحْصُول " عَن هَذَا السؤل بِأَن الله يفعل مَا يَشَاء، وَلَا يخفى أَنه لَيْسَ بِجَوَاب؛ لِأَن قَوْله: مَعَ الْبَيَان تَطْوِيل بِلَا فَائِدَة يكون مُسلما عِنْد الْمُجيب، وَلَا يرضى بِهِ عَاقل فضلا عَن مُحَقّق فَاضل، قَالَه الكوراني. قَوْله: {وَفِي مُفْرد} يكون الْمُجْمل تَارَة فِي الْمُفْرد، وَتارَة فِي الْمركب، فالمفرد كالقرء المتردد بَين الطُّهْر وَالْحيض، وَالْعين المترددة بَين الباصرة وَالْجَارِيَة والنقد والربئية وَعين الْمِيزَان وَغَيرهَا، حَتَّى عد ذَلِك إِلَى قريب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2753 الثَّلَاثِينَ، أَو أَزِيد، وَالْمُخْتَار، وَنَحْوهَا؛ إِذْ أَصله مختير، فَإِن فتحت الْيَاء كَانَ اسْم مفعول، وَإِن كسرتها كَانَ اسْم فَاعل. وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ الْيَاء حرف عِلّة متحرك وَمَا قبله مَفْتُوح فيقلب ألفا فَلَمَّا قلب ألفا حصل الْإِجْمَال؛ لاحْتِمَال أَن يكون اسْم فَاعل، وَذَلِكَ حكم مُخْتَار وَنَحْوه فقسه على ذَلِك. قَالَ العسكري: ويتميز بِحرف الْجَرّ تَقول: هَذَا مُخْتَار لكذا فِي الْفَاعِل ومختار من كَذَا فِي الْمَفْعُول، وَالْفرق بَين هَذَا وَبَين الْقُرْء أَن الْإِجْمَال طَرَأَ على هَذَا بِاعْتِبَار الإعلال وَالْعَمَل التصريفي، والقرء مُجمل من حَيْثُ وَضعه مَعَ أَن كلا مِنْهُمَا إجماله من حَيْثُ هُوَ مُفْرد. وَحَاصِله: أَن الْمُجْمل أَعم من الْمُشْتَرك؛ لِأَن الْمُجْمل يَشْمَل مَا احْتمل مَعْنيين سَوَاء وَاللَّفْظ فيهمَا حَقِيقَة أَو مجَازًا، أَو أَحدهمَا حَقِيقَة وَالْآخر مجَاز مسَاوٍ للْحَقِيقَة، فَلذَلِك يدْخل فِيهِ مَا كَانَ صَالحا لمتماثلين بِوَجْه من الْوُجُوه كالنور لِلْعَقْلِ، وللشمس والجسم للسماء وَالْأَرْض، وَالرجل لزيد وَعَمْرو، قَالَه الْغَزالِيّ، وَفِيه نظر. وَأما الْمركب فكثير، فَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {أَو يعفوا الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح} [الْبَقَرَة: 237] هَل هُوَ الزَّوْج أَو الْوَلِيّ؟ فَيحْتَمل أَن يكون الْوَلِيّ؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2754 لِأَنَّهُ الَّذِي يعْقد نِكَاح الْمَرْأَة؛ لِأَنَّهَا لَا تزوج نَفسهَا، وَيحْتَمل أَن يكون الزَّوْج؛ لِأَنَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ دوَام العقد والعصمة، فَوَقع الِاخْتِلَاف فِي بَيَانه، فَالَّذِي قَالَه الإِمَام أَحْمد، وَأَبُو حنيفَة، وَالشَّافِعِيّ فِي الْجَدِيد إِنَّه الزَّوْج. وَقَالَهُ كثير من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى أَنه الْأَب، وَهُوَ قَول مَالك، وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم، وَقَالَهُ جمع من التَّابِعين، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، لَكِن قَالَ أَبُو حَفْص: رَجَعَ الإِمَام أَحْمد عَن هَذِه الرِّوَايَة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2755 وَقَالَ بَعضهم: أَن لَا إِجْمَال فِيهِ لقِيَام الدَّلِيل على أَن المُرَاد بِهِ الزَّوْج. وَالظَّاهِر أَنه مُجمل لَكِن بَين. قَوْله: {وَفِي مرجع الضَّمِير} فِي نَحْو: ضرب زيد عمرا وأكرمني، يحْتَمل أَن يعود الضَّمِير الَّذِي فِي أكرمني إِلَى زيد، وَإِلَى عَمْرو وَهُوَ الْأَقْرَب. وَفِي قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " لَا يمنعن جَار جَاره أَن يغرز خَشَبَة فِي جِدَاره " يحْتَمل عوده على الغارز، أَي: لَا يمنعهُ جَاره أَن يفعل ذَلِك فِي جِدَار نَفسه، وعَلى هَذَا فَلَا دلَالَة فِيهِ على القَوْل إِنَّه إِذا طلب جَاره مِنْهُ أَن يضع خَشَبَة على جِدَار الْمَطْلُوب مِنْهُ وَجب عَلَيْهِ التَّمْكِين. وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي " مُخْتَصر الْبُوَيْطِيّ "، وَقواهُ النَّوَوِيّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2756 وَيحْتَمل أَن يعود على الْجَار الآخر فَيكون فِيهِ دلَالَة على ذَلِك. وَرجح بَعضهم الأول؛ لموافقته لقواعد الْعَرَبيَّة فِي عود الضَّمِير إِلَى أقرب مَذْكُور، وَالَّذِي عَلَيْهِ إمامنا، وأصحابنا أَن الضَّمِير إِنَّمَا يعود إِلَى الْجَار لَا إِلَى الغارز، وَهُوَ الظَّاهِر، ورجوعه إِلَى الغارز ضَعِيف. وَفِي الحَدِيث مَا يدل على ذَلِك لقَوْل أبي هُرَيْرَة: (مَا لي أَرَاكُم عَنْهَا معرضين؛ وَالله لأرمين بهَا بَين أظْهركُم) وَلَو كَانَ ذَلِك عَائِدًا إِلَى الغارز لما قَالَ ذَلِك. قَوْله: {وَفِي مرجع الصّفة كزيد طَبِيب ماهر} ، يحْتَمل أَن يعود ماهر إِلَى طَبِيب، يَعْنِي طَبِيبا ماهرا فِي طبه، وَيحْتَمل أَن يعود ماهر إِلَى زيد، أَي: زيد ماهر، فَيحْتَمل أَن يعود إِلَى ذَات زيد، وَيحْتَمل أَن يعود إِلَى وَصفه الْمَذْكُور، وَهُوَ طَبِيب. وَلَا شكّ أَن الْمَعْنى متفاوت باعتبارهما وَإِن كَانَ بَينهمَا فرق، فَإِن أعدنا (ماهرا) إِلَى طَبِيب فَيكون ماهرا فِي طبه، وَإِن أعدنا إِلَى زيد فَتكون مهارته فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2757 غير الطِّبّ وَهُوَ الْمُجْمل بِاعْتِبَار التَّرْكِيب، صرح بِهِ الْبرمَاوِيّ، وَغَيره. وَأما الكوراني فَقَالَ: وَكَذَا زيد طَبِيب ماهر؛ إِذْ المستكن فِي ماهر مُمكن عوده إِلَى زيد وَإِلَى طَبِيب. فعلى مَا اخْتَارَهُ الشَّافِعِي يعود إِلَى طَبِيب؛ فتنحصر مهارة زيد فِي الطِّبّ. انْتهى. وَهَذَا الْمِثَال لَيْسَ من كَلَام الله، وَلَا من سنة رَسُول الله، وَهُوَ من كَلَام الْعَرَب. قَوْله: {وَفِي تعدد الْمجَاز عِنْد تعذر الْحَقِيقَة} ، إِذا كَانَت المجازات متكافئة وَمَعَ مَانع من حمله على الْحَقِيقَة. قَوْله: {وعام خص بِمَجْهُول} ، مِثَال الْعَام الْمَخْصُوص بِمَجْهُول: اقْتُلُوا الْمُشْركين إِلَّا بَعضهم، وَقد تقدم ذَلِك فِيمَا إِذا خص الْعَام بِمَجْهُول، هَل يكون حجَّة، وَإِذا خص بِمَجْهُول صَار الْبَاقِي مُحْتملا فَكَانَ مُجملا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2758 {ومستثنى وَصفَة مجهولين} . مِثَال الْمُسْتَثْنى الْمَجْهُول، نَحْو: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم} [الْمَائِدَة: 1] . قَالَ الْبرمَاوِيّ: قَوْله: {أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم} فَإِنَّهُ قد اسْتثْنى من الْمَعْلُوم مَا لم يعلم فَصَارَ الْبَاقِي مُحْتملا فَكَانَ مُجملا. انْتهى. وَمِثَال الصّفة المجهولة، نَحْو: {محصنين} مُوجب الْإِجْمَال فِي {وَأحل لكم} إِلَى قَوْله: {أَن تَبْتَغُوا بأموالكم} [النِّسَاء: 24] والإحصان غير مُبين؛ لِأَنَّهُ صفة مَجْهُول. قَوْله: {وَالْوَاو، وَمن} ، الْوَاو فِي قَوْله تَعَالَى: {والراسخون [فِي الْعلم] يَقُولُونَ آمنا بِهِ} [آل عمرَان: 7] يحْتَمل أَن تكون عاطفة، وَيكون الراسخون فِي الْعلم يعلمُونَ تَأْوِيله، وَيحْتَمل أَن تكون مستأنفة فَتكون للاستئناف، وَيكون الْوَقْف على (إِلَّا الله) ، وَقد تقدم الْكَلَام على ذَلِك مُسْتَوفى فِي أَوَاخِر الْكَلَام على الْكتاب الْعَزِيز. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2759 وَأما (من) فلهَا معَان، وَتَأْتِي فِي بعض الْأَمَاكِن مُحْتَملَة لمعان فَتكون مجملة، فَإِنَّهَا تصلح للتَّبْعِيض، وَابْتِدَاء الْغَايَة، وَالْجِنْس وَنَحْوهَا. والمجمل حصره فِي الْأَمْثِلَة عسر، وَلَكِن الفطن يعلم ذَلِك بالتتبع مَعَ الِاحْتِمَالَات، وَالله أعلم. تَنْبِيه: حَيْثُ كَانَ الْمُجْمل فِي مُشْتَرك أَو فِي حَقِيقَة ومجاز، أَو فِي مجازين فإجماله حَيْثُ لم يحمل على معنييه، أَو مَعَانِيه، فَأَما إِذا حمل على ذَلِك فَلَا إِجْمَال على مَا تقدم فِي أثْنَاء الْعَام. قَوْله: {لَا إِجْمَال فِي إِضَافَة التَّحْرِيم إِلَى الْعين، ك {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} [الْمَائِدَة: 3] و {أُمَّهَاتكُم} [النِّسَاء: 23] ، هَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ أَكثر الْعلمَاء أَكثر أَصْحَابنَا وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2760 وَخَالف فِي ذَلِك القَاضِي أَبُو يعلى، وَأَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي من أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة وَأكْثر الْحَنَفِيَّة، الْكَرْخِي وَغَيره، وَأَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ. وَاسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - أَن تَحْرِيم الْعين غير مُرَاد؛ لِأَن التَّحْرِيم إِنَّمَا يتَعَيَّن بِفعل الْمُكَلف، فَإِذا أضيف إِلَى عين من الْأَعْيَان يقدر الْفِعْل الْمَقْصُود مِنْهُ، فَفِي المأكولات يقدر الْأكل، وَفِي المشروبات الشّرْب، وَفِي الملبوسات اللّبْس، وَفِي الموطوءات الْوَطْء، فَإِذا أطلق أحد هَذِه الْأَلْفَاظ سبق الْمَعْنى المُرَاد إِلَى الْفَهم من غير توقف فَتلك الدّلَالَة متضحة لَا إِجْمَال فِيهَا. وَاسْتدلَّ للْمَذْهَب الثَّانِي أَن إِسْنَاد التَّحْرِيم إِلَى الْعين لَا يَصح؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يتَعَلَّق بِالْفِعْلِ فَلَا بُد من تَقْدِيره، وَهُوَ مُحْتَمل لأمور لَا حَاجَة إِلَى جَمِيعهَا، وَلَا مُرَجّح لبعضها فَكَانَ مُجملا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2761 قُلْنَا: الْمُرَجح مَوْجُود، وَهُوَ الْعرف فَإِنَّهُ قَاض بِأَن المُرَاد فِي الأول تَحْرِيم الْأكل وَنَحْوه، وَفِي الثَّانِي تَحْرِيم الِاسْتِمْتَاع بِوَطْء وَنَحْوه. وَلِأَن الصَّحَابَة احْتَجُّوا بظواهر هَذِه الْأُمُور وَلم يرجِعوا إِلَى غَيرهَا، فَلَو لم تكن من الْمُبين لم يحتجوا بهَا. قَوْله: {وَهُوَ عَام عِنْد القَاضِي، وَابْن عقيل، والحلواني، وَالْفَخْر، وَغَيرهم} . تقدم ذكر ذَلِك فِي دلَالَة الِاقْتِضَاء، والإضمار، فنحو: {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} وَنَحْوه من الْأَمْثِلَة، إِن دلّ دَلِيل على تَقْدِير شَيْء من المحتملات بِعَيْنِه فَذَاك سَوَاء كَانَ الْمُقدر عَاما فِي أُمُور كَثِيرَة، أَو خَاصّا مُقَدّر. وَإِن لم يدل دَلِيل على تعْيين شَيْء لَا عَام، وَلَا خَاص مَعَ احْتِمَال أُمُور مُتعَدِّدَة لم يتَرَجَّح بَعْضهَا، فَهَل تقدر المحتملات كلهَا، وَهُوَ المُرَاد بِالْعُمُومِ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، أَو لَا؟ ذكر ذَلِك الْبرمَاوِيّ فِي دلَالَة الْإِضْمَار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2762 قَالَ ابْن مُفْلِح: وَذكر أَبُو الطّيب الْعُمُوم عَن قوم من الْحَنَفِيَّة. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: لَا إِجْمَال فِي {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} ؛ لِأَن الْعرف دلّ على التَّعْمِيم فَيتَنَاوَل العقد وَالْوَطْء. وَقَالَ فِي الْعَام: الْعرف دلّ على أَن المُرَاد تَحْرِيم الاستمتاعات الْمَقْصُودَة من النِّسَاء من الْوَطْء ومقدماته. وَقيل: الْعُمُوم من بَاب الِاقْتِضَاء؛ لِاسْتِحَالَة تَحْرِيم الْأَعْيَان فيضمر مَا يَصح بِهِ الْكَلَام، وَيجْرِي فِيهِ الْخلاف فِي عُمُوم الْمُقْتَضى. وَقد يتَرَجَّح هَذَا بقَوْلهمْ: الْإِضْمَار خير من النَّقْل. انْتهى. وَهَذَا مُرَاد ابْن مُفْلِح بقوله: إِنَّه عَام عِنْد جمَاعَة، وَهُوَ الَّذِي قدمه وقدمناه، {و} أَيْضا {عِنْد أبي الْخطاب، والموفق، والمالكية} وَجَمَاعَة من الْمُعْتَزلَة {ينْصَرف إِطْلَاقه فِي كل عين إِلَى الْمَقْصُود اللَّائِق بهَا} ؛ لِأَنَّهُ متبادر لُغَة أَو عرفا، نقل هذَيْن الْقَوْلَيْنِ ابْن مُفْلِح فِي أُصُوله وَلم أرهما على هَذِه الصّفة لغيره وتابعته على ذَلِك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2763 {وَعند أَكثر الْمُتَكَلِّمين لَا عُمُوم لَهُ} ، لَا أعلم الْآن من أَيْن نقلت هَذَا عَن أَكثر الْمُتَكَلِّمين، فيتتبع. قَوْله: {وَقَالَ التَّمِيمِي، وَالشَّافِعِيَّة: وصف الْعين بِالْحلِّ وَالْحُرْمَة مجَاز} ، فَدلَّ على أَن الْمُقدم أَنه تُوصَف الْعين بهما حَقِيقَة، وَهُوَ الصَّحِيح من مَذْهَبنَا، وَمذهب الْحَنَفِيَّة، وَنَقله الْبرمَاوِيّ عَنْهُم فِي كَلَامه على الرُّخْصَة، وَنَقله أَيْضا عَن الْمُعْتَزلَة وَقَالَ: ويعزى للحنفية. وَنَصره ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَقَالَ: رد قَول من منع ذَلِك، بل تُوصَف الْعين بِالْحلِّ، والحظر حَقِيقَة فَهِيَ محظورة علينا، ومباحة كوصفها بِطَهَارَة، ونجاسة، وَطيب، وخبث، فالعموم فِي لفظ التَّحْرِيم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2764 وَقَالَ التَّاج السُّبْكِيّ فِي " قَوَاعِده ": قَالَ أَئِمَّتنَا فِي طوائف أهل السّنة: إِن الْحل وَالْحُرْمَة، وَالطَّهَارَة، والنجاسة، وَسَائِر الْمعَانِي الشَّرْعِيَّة لَيست من صِفَات الْأَعْيَان، فَإِذا قُلْنَا: هَذَا حَلَال، أَو حرَام، أَو طَاهِر، أَو نجس فَلَيْسَ ذَلِك رَاجعا إِلَى نفس الذَّات، وَلَا إِلَى صفة نفسية قَائِمَة بهَا، بل هُوَ من صِفَات التَّعَلُّق، وَصفَة التَّعَلُّق لَا تعود إِلَى وصف فِي الذَّات، فَلَيْسَ معنى قَوْلنَا الْخمر، حرَام ذَاتهَا وَلَا تجرع الشَّارِب، إِيَّاهَا، وَإِنَّمَا التَّحْرِيم رَاجع إِلَى قَول الشَّارِع فِي النَّهْي عَن شربهَا، وذاتها لم تَتَغَيَّر. وَهَذَا كمن علم زيدا قَاعِدا بَين يَدَيْهِ، فَإِن علمه وَإِن تعلق بزيد لم يُغير من صِفَات زيد وَلَا أحدث لزيد صفة ذَات. وَذهب من ينتمي إِلَى أبي حنيفَة من عُلَمَاء الْكَلَام إِلَى أَن الْأَحْكَام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2765 الشَّرْعِيَّة صِفَات للمحال وَرَأَوا أَن التَّحْرِيم وَالْوُجُوب راجعان إِلَى ذَات الْفِعْل الْمحرم وَالْوَاجِب، انْتهى. ذكره الْبرمَاوِيّ وَأطَال فِيهِ. فَائِدَة: إِذا لم يَتَّضِح أحد المجازات بِقَرِينَة، وَلَا بِشَهَادَة عرف. قدر الْجَمِيع؛ لِأَنَّهُ الْأَقْرَب إِلَى الْحَقِيقَة كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لعن الله الْيَهُود حرمت عَلَيْهِم الشحوم فجملوها وباعوها فَأَكَلُوا ثمنهَا " فَلَو لم يعم جَمِيع التَّصَرُّفَات لما اتجه اللَّعْن فِي البيع. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي رده على الْقَائِل بِالْإِجْمَاع فِي إِضَافَة التَّحْرِيم إِلَى الْأَعْيَان، ثمَّ نمْنَع الْحَاجة إِلَى الْإِضْمَار مَعَ تبادر الْفَهم، ثمَّ يضمر الْجَمِيع؛ لِأَن الْإِضْمَار وَاقع إِجْمَاعًا بِخِلَاف الْإِجْمَال، وَأكْثر وقوعا مِنْهُ، ولإضماره فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لعن الله الْيَهُود، حرمت عَلَيْهِم الشحوم فجملوها، وباعوها "، وَإِلَّا لما لعنهم بِبَيْعِهَا. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2766 قَوْله: {وَلَا فِي قَوْله: {وامسحوا برءوسكم} [الْمَائِدَة: 6] أَعنِي أَنه لَا إِجْمَال فِي ذَلِك، وَخَالف بعض الْحَنَفِيَّة، وَقَالَ عَنهُ: إِنَّه مُجمل؛ لتردده بَين مسح الْكل وَالْبَعْض، وَإِن السّنة بيّنت الْبَعْض، وَحَكَاهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل عَن الْحَنَفِيَّة. وَقَالَ ابْن مُفْلِح: خلافًا للحنفية، أَو لبَعْضهِم. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: ذهب بعض الْحَنَفِيَّة إِلَى أَنه مُجمل. وَحَكَاهُ فِي " الْمُعْتَمد " عَن أبي عبد الله الْبَصْرِيّ. وَالصَّحِيح أَنه لَا إِجْمَال فِيهَا، وَعَلِيهِ أَكثر الْعلمَاء أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة وَغَيرهم؛ لِأَن الْبَاء للإلصاق وَمَعَ الظُّهُور لَا إِجْمَال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2767 قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: والقائلون بِعَدَمِ الْإِجْمَال فريقان، الْجُمْهُور مِنْهُم قَالُوا: إِنَّه بِوَضْع حكم اللُّغَة ظَاهر فِي مسح جَمِيع الرَّأْس؛ لِأَن الْبَاء حَقِيقَة فِي الإلصاق، وَقد ألصقت الْمسْح بِالرَّأْسِ وَهُوَ اسْم لكله، لَا لبعضه؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَال بعض الرَّأْس رَأس، فَيكون ذَلِك مقتضيا مسح جَمِيعه، وَهُوَ قَول أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَمَالك، والباقلاني، وَابْن جني، كآية التَّيَمُّم {فامسحوا بوجوهكم} [الْمَائِدَة: 6] . وَمِنْهُم من زعم أَن عرف الِاسْتِعْمَال الطَّارِئ على الْوَضع يَقْتَضِي إلصاق الْمسْح بِبَعْض الرَّأْس، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي، وَعبد الْجَبَّار، وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ. وَالْمَشْهُور أَن القَوْل بالتبعيض مَذْهَب بعض الشَّافِعِيَّة، فَأَما مَذْهَب الشَّافِعِي وَعبد الْجَبَّار وَأبي الْحُسَيْن فَهُوَ الْقدر الْمُشْتَرك بَين الْكل وَالْبَعْض، وَهُوَ مُطلق مسح الرَّأْس مَعَ قطع النّظر عَن الْكل وَالْبَعْض، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا إِجْمَال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2768 قَوْله: {وَلَا فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: رفع عَن أمتِي الْخَطَأ، وَالنِّسْيَان "} عِنْد الْجُمْهُور، وَخَالف بعض الْحَنَفِيَّة، وَأَبُو الْحُسَيْن وَأَبُو عبد الله البصريان، ويحكى عَن الْقَدَرِيَّة، قَالُوا: لتردده بَين نفي الصُّورَة وَالْحكم. وَأَيْضًا: إِذا لم يكن نفي الْمَذْكُور مرَادا فَلَا بُد من إِضْمَار لمتعلق الرّفْع وَهُوَ مُتَعَدد، فَحصل الْإِجْمَال. أُجِيب عَن الأول بِأَن نفي الصُّورَة لَا يُمكن أَن يكون مرَادا لما فِيهِ من نِسْبَة كَلَامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْكَذِب وَالْخلف فَتعين أَن المُرَاد نفي الحكم. وَعَن الثَّانِي - وَهُوَ احْتِمَال الْمُضْمرَات - بِأَنَّهُ قد دلّ الدَّلِيل على المُرَاد إِمَّا بِالْعرْفِ، أَو غَيره كَمَا سبق فِي {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} ، فَيُقَال: هُنَا دلّ الْعرف بِأَن الْمَرْفُوع الْمُؤَاخَذَة، وَالْعِقَاب، وَالْحكم الْمَرْفُوع هُوَ الْإِثْم خَاصَّة دون الضَّمَان، وَالْقَضَاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2769 وَقيل بِرَفْع جَمِيع أَحْكَام الْخَطَأ، وَهُوَ ظَاهر قَول أبي الْخطاب، والطوفي وَغَيرهمَا. فعلى هَذَا حَيْثُ لزم الْقَضَاء وَالضَّمان بعض من ذكر، كَانَ لدَلِيل خَارج، كقضاء الصَّلَاة، وَقتل الْمُكْره. قَوْله: وَلَا فِي آيَة السّرقَة، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] يَعْنِي: لَا إِجْمَال فِيهَا. هَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء؛ لِأَن الْيَد حَقِيقَة إِلَى الْمنْكب لصِحَّة إِطْلَاق بعض الْيَد لما دونه، وَالْقطع حَقِيقَة فِي إبانة الْمفصل، وَلَا إِجْمَال فِي شَيْء مِنْهَا فإطلاقها إِلَى الْكُوع مجَاز قَامَ الدَّلِيل على إِرَادَته فِي الْآيَة، وَهُوَ فعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْإِجْمَاع. وَقَالَ بعض الْحَنَفِيَّة: مُجمل فِي الْقطع، وَفِي الْيَد؛ لِأَن الْيَد تطلق على مَا هُوَ إِلَى الْكُوع وعَلى مَا هُوَ إِلَى الْمنْكب، وعَلى مَا هُوَ إِلَى الْمرَافِق فَيكون مُشْتَركا، وَهُوَ من الْمُجْمل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2770 وَالْقطع يُطلق على الْإِبَانَة، وَيُطلق على الْجرْح فَيكون مُجملا. وَالْجَوَاب على ذَلِك: أَن الْمَسْأَلَة لغوية، وَالْيَد حَقِيقَة إِلَى الْمنْكب، وَالْقطع حَقِيقَة فِي الْإِبَانَة، ظَاهر فيهمَا. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلِهَذَا لما نزلت آيَة التَّيَمُّم تيممت الصَّحَابَة مَعَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى المناكب. وَأَيْضًا لَو كَانَ مُشْتَركا فِي الْكُوع، والمرفق والمنكب لزم الْإِجْمَال، وَالْمجَاز أولى مِنْهُ على مَا سبق. وَاسْتدلَّ للثَّانِي: بِأَنَّهُ يحْتَمل الِاشْتِرَاك والتواطؤ، وَحَقِيقَة أَحدهمَا، وَوُقُوع وَاحِد من اثْنَيْنِ أقرب من معِين. رد ذَلِك بِأَنَّهُ إِثْبَات لُغَة بالترجيح، وبنفي الْمُجْمل، وَفِيه نظر؛ لاخْتِصَاص هَذَا الدَّلِيل بِلَفْظ أطلق على معَان اخْتلف فِي ظُهُوره فِي بَعْضهَا. قَالُوا: الْيَد للثلاث وَالْقطع للإبانة وَالْجرْح، وَالْأَصْل عدم مُرَجّح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2771 رد بظهوره بِمَا سبق. وَسلم الْآمِدِيّ أَن قطع السَّارِق خلاف الظَّاهِر، وَأَنه أولى من الْإِجْمَال. وَفِي " التَّمْهِيد ": قَامَ الدَّلِيل عَلَيْهِ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ يجب حمله على أول مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم وَهُوَ الْكَفّ؛ لِأَن من أَمر بِفعل يَقع على أَشْيَاء - وَالْعقل يحظره - وَجب فعل أقلهَا، وَسبق خِلَافه فِي عُمُوم جمع مُنكر. قَوْله: {وَلَا فِي {وَأحل الله البيع} [الْبَقَرَة: 275] يَعْنِي: أَن قَوْله: {وَأحل الله البيع} لَيْسَ بمجمل، وَخَالف فِي ذَلِك الْحلْوانِي من أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وللقاضي أبي يعلى الْقَوْلَانِ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: ومنشأ الْخلاف أَن (أل) الَّتِي فِي البيع هَل هِيَ للشمول أَو عهدية أَو للْجِنْس من غير استغراق، أَو مُحْتَملَة. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2772 فَمن قَالَ: إِنَّه مُجمل، قَالَ لتردد الرِّبَا بَين مُسَمَّاهُ اللّغَوِيّ والشرعي؛ لِأَن الرِّبَا فِي اللُّغَة الزِّيَادَة كَيفَ كَانَت، وَحَيْثُ كَانَت، وَفِي الشَّرْع هُوَ زِيَادَة مَخْصُوصَة فَيتَوَقَّف فِيهِ حَتَّى يعلم أَي الزيادتين أَرَادَ. وَهَذَا التَّعْلِيل وَاضح فِي قَوْله: {وَأحل الله البيع} وَهُوَ الَّذِي ذكره فِي " الرَّوْضَة ". وَبَيَانه أَن الْبياعَات فِي الشَّرْع مِنْهَا حَلَال كالعقود المستجمعة للشروط وَمِنْهَا حرَام، كَبيع الْغرَر، والتلقي وَنَحْوهمَا، فَمن قَالَ إِنَّه مُجمل قَالَ لتردده بَين هَذِه الْبياعَات الْجَائِزَة، والمحرمة، ثمَّ ورد الْبَيَان من الشَّرْع بالمحرم، والجائز. وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّه عَام فِي الْبيُوع الْجَائِز وَغَيرهَا، ثمَّ خصص الْمحرم فِيهَا بأدلة، وَبَقِي مَا عداهُ ثَابتا بِالْعُمُومِ الأول. وَهُوَ قريب من الَّذِي قبله؛ لِأَن تَخْصِيص الْعُمُوم نوع من الْبَيَان. وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأحل الله البيع} إِن قُلْنَا هُوَ مُجمل، ثمَّ بَين كَانَ حجَّة بِلَا خلاف. وَإِن قُلْنَا هُوَ عَام خص كَانَ فِي بَقَائِهِ حجَّة الْخلاف السَّابِق فِي أَن الْعَام بعد التَّخْصِيص حجَّة أم لَا؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2773 قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": وعَلى كل حَال فكونه من بَاب الْعَام الْمَخْصُوص أولى، وَأكْثر، وَأشهر. انْتهى. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: للشَّافِعِيّ فِي الْآيَة أَرْبَعَة أَقْوَال. أَحدهَا: أَنَّهَا عَامَّة خصصها الْكتاب. وَالثَّانِي: أَنَّهَا عَامَّة خصصتها السّنة. وَالثَّالِث: أَنَّهَا مجملة بَينهَا الْكتاب. وَالرَّابِع: مجملة بينتها السّنة. قَالَ ابْن مُفْلِح: وعزي إِلَى الشَّافِعِي هَل البيع مُجمل، أَو لَا؟ قَالَه ابْن برهَان، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَقَالَ: كل بيع فِيهِ زِيَادَة فمجمل، وَإِلَّا فعام. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَاخْتلف أَيْضا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتوا الزَّكَاة} [الْبَقَرَة: 43] على قَوْلَيْنِ، أَحدهمَا: عَام خصصته السّنة. وَالثَّانِي: مُجمل بَينته السّنة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2774 وَهنا سُؤال، وَهُوَ أَن اللَّفْظ فِي كل من الْآيَتَيْنِ مُفْرد معرف، فَإِن عَم من حَيْثُ اللَّفْظ فليعم فِي الْآيَتَيْنِ أَو الْمَعْنى فليعم فيهمَا أَيْضا، وَإِن لم يعم لَا من حَيْثُ اللَّفْظ، وَلَا الْمَعْنى فهما مستويان، مَعَ أَن الصَّحِيح فِي آيَة البيع الْعُمُوم، وَفِي آيَة الزَّكَاة الْإِجْمَال. وَجَوَابه: أَن فِي ذَلِك سرا وَهُوَ أَن حل البيع على وفْق الأَصْل من حَيْثُ إِن الأَصْل فِي الْمَنَافِع الْحل، والمضار الْحُرْمَة بأدلة شَرْعِيَّة فمهما حرم البيع فَهُوَ خلاف الأَصْل. وَأما الزَّكَاة فَهِيَ خلاف الأَصْل؛ لتضمنها أَخذ مَال الْغَيْر بِغَيْر إِرَادَته فوجوبها على خلاف الأَصْل، وَالْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي هَذَا الْبَاب مشعرة بِهَذَا الْمَعْنى، فَلذَلِك اعتنى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِبَيَان المبيعات الْفَاسِدَة كالنهي عَن بيع حَبل الحبلة، والمنابذة، وَالْمُلَامَسَة، وَغير ذَلِك بِخِلَاف الزَّكَاة فَإِنَّهُ لم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2775 يعتن فِيهَا بِبَيَان مَا لَا زَكَاة فِيهِ، فَمن ادّعى وُجُوبهَا فِي مُخْتَلف فِيهِ كالرقيق، وَالْخَيْل فقد ادّعى حكما على خلاف الدَّلِيل. وَأما تردد الشَّافِعِي فِي آيَة البيع هَل الْمُخَصّص أَو الْمُبين لَهَا الْكتاب أَو السّنة دون الزَّكَاة فَلِأَنَّهُ عقب على البيع بقوله تَعَالَى: {وَحرم الرِّبَا} والربا من أَنْوَاع البيع اللُّغَوِيَّة، وَلم يعقب آيَة الزَّكَاة بِشَيْء، وَالله أعلم. قَوْله: {وَلَا فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور " وَنَحْوه} " لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب "، " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي "، " لَا صِيَام لمن لم يبيت الصّيام من اللَّيْل "، وَالْمرَاد هُنَا من هَذِه الْأَحَادِيث وَنَحْوهَا مِمَّا فِيهِ نفي ذَوَات وَاقعَة تتَوَقَّف الصِّحَّة فِيهَا على إِضْمَار شَيْء. فالجمهور على أَنَّهَا لَيست مجملة بِنَاء على القَوْل بِثُبُوت الْحَقَائِق الشَّرْعِيَّة؛ فَإِنَّهُ إِذا اخْتَلَّ مِنْهَا شَرط، أَو ركن صَحَّ نَفْيه حَقِيقَة؛ لِأَن الشَّرْعِيّ الَّذِي هُوَ تَامّ الْأَركان متوافر الشُّرُوط، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للمسيء فِي صلَاته: " ارْجع فصل فَإنَّك لم تصل ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2776 وَإِذا كَانَت الْحَقِيقَة هِيَ المُرَاد نَفيهَا فَلَا يحْتَاج نَفيهَا إِلَى إِضْمَار شَيْء فَلَا إِجْمَال. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَجه عدم الْإِجْمَال أَنه من عرف الشَّارِع فِيهِ نفي الصِّحَّة، أَي: لَا عمل شَرْعِي، وَإِن لم يثبت فَعرف اللُّغَة، نَحْو: لَا علم إِلَّا مَا نفع، وَلَا بلد إِلَّا بسُلْطَان، وَلَا حكم إِلَّا لله، وَلَو قدر حذفهَا لَا بُد من إِضْمَار، فنفي الصِّحَّة أولى؛ لِأَنَّهُ يصير كَالْعدمِ فَهُوَ أقرب إِلَى نفي الْحَقِيقَة المتعذرة، وَلَيْسَ هَذَا إِثْبَاتًا للغة بالترجيح، بل إِثْبَاتًا لأولوية أحد المجازات، كالصحة والكمال، والإجزاء بعرف اسْتِعْمَاله. انْتهى. وَعند بعض الشَّافِعِيَّة، والحنابلة، وَابْن الباقلاني، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2777 وَأبي عبد الله الْبَصْرِيّ أَنه مُجمل، وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة، أَو بَعضهم. قَالَ الطوفي: الْقَائِل بِأَنَّهُ مُجمل؛ لِأَنَّهُ مُتَرَدّد بَين اللّغَوِيّ والشرعي، وَقيل: لِأَن حمله على نفي الصُّورَة بَاطِل فَتعين حمله على نفي الحكم، وَالْأَحْكَام مُتَسَاوِيَة. انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ عَن قَول الباقلاني بِنَاء على مذْهبه فِي نفي الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة، وَأَن الشَّرْعِيّ للأعم من الصَّحِيح وَالْفَاسِد: نعم، الْقَائِلُونَ بالإجمال اخْتلفُوا فِي سَببه على أَقْوَال: أَحدهَا: إِنَّه لم يرد بنفيه نفي وُقُوعه، وَإِنَّمَا أُرِيد بِهِ أمرا آخر غير مَذْكُور وَهُوَ مُحْتَمل. الثَّانِي: أَن ذَلِك مُحْتَمل نفي الْوُجُود وَنفي الحكم. الثَّالِث: أَنه يحْتَمل نفي الصِّحَّة وَنفي الْكَمَال، وَبِه قَالَ الباقلاني فِي " التَّقْرِيب ". انْتهى. قَالَ ابْن مُفْلِح: قَالَ هَؤُلَاءِ الْعرف مُخْتَلف فِي الصِّحَّة والكمال. رد بِالْمَنْعِ، بل اخْتلف الْعلمَاء، ثمَّ نفي الصِّحَّة أولى لما سبق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2778 وَقيل بالإجمال لاقْتِضَائه نفي الْعَمَل حسا وَهُوَ ضَعِيف. قَوْله: {وَيَقْتَضِي نفي الصِّحَّة عِنْد أَحْمد، وَمَالك، وَالشَّافِعِيّ وأصحابهم} ، وَغَيرهم. يَعْنِي: إِذا قُلْنَا بِأَنَّهُ لَيْسَ بمجمل، وَاخْتلفُوا فِي ذَلِك وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرهم أَنه يَقْتَضِي نفي الصِّحَّة، {وعمومه مَبْنِيّ على دلَالَة الْإِضْمَار} على مَا تقدم من دلَالَة الِاقْتِضَاء والإضمار. وَالصَّحِيح أَنه عَام على مَا تقدم بَيَانه هُنَاكَ. {وَقيل: عَام فِي نفي الْوُجُود، وَالْحكم خص الْوُجُود بِالْعقلِ} ، وَهُوَ لأرباب القَوْل بِأَنَّهُ مُجمل كَمَا ذكره الْبرمَاوِيّ. وَظَاهر كَلَام ابْن مُفْلِح أَنه مَبْنِيّ على القَوْل الأول. {وَقيل: عَام فِي نفي الصِّحَّة والكمال، وَهُوَ فِي كَلَام القَاضِي، وَابْن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2779 عقيل} بِنَاء على عُمُوم الْمُضمر، وَهَذِه الْأَقْوَال الثَّلَاثَة مَبْنِيَّة على القَوْل بِأَن ذَلِك لَيْسَ بمجمل. فَإِذا قُلْنَا إِنَّه لَيْسَ بمجمل فَمَا يَقْتَضِي فِيهِ هَذِه الْأَقْوَال الثَّلَاثَة، قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ". وَظَاهر كَلَام الْبرمَاوِيّ، بل صَرِيحه أَن الْقَوْلَيْنِ الْأَخيرينِ مبنيان على القَوْل بِأَنَّهُ مُجمل. قَوْله: {وَمثله: " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " عِنْد الْأَصْحَاب} . وَمثله الطوفي ب لَا عمل إِلَّا بنية، يحمل على نفي الصِّحَّة؛ لِأَنَّهُ أولى المجازات لكَونه أقرب إِلَى نفي الْحَقِيقَة لانْتِفَاء فَائِدَة الْفِعْل وجدواه. وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد ": إِن نَفْيه يدل على عَدمه، وَعدم إجزائه. قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " من هَذَا الْبَاب؛ لِأَن الْأَعْمَال مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف، وَاخْتلفُوا هَل هُوَ الصِّحَّة فَيكون التَّقْدِير: إِنَّمَا الْأَعْمَال صَحِيحَة، أَو الْكَمَال، فَيكون تَقْدِيره: إِنَّمَا الْأَعْمَال كَامِلَة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2780 قَالَ: وَالْأَظْهَر إِضْمَار الصِّحَّة لما سبق. انْتهى. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَمثله: " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " لَيْسَ بمجمل؛ لِأَن المُرَاد بِهِ من نوى خيرا فَلهُ خير فَلَا تَقْدِير، وَلَو قدر صِحَة الْأَعْمَال أَو كمالها لقدم إِضْمَار الصِّحَّة لكَونه أقرب إِلَى الْحَقِيقَة، وَالله أعلم. انْتهى. قَوْله: وَتقدم نفي الْقبُول والإجزاء فِي أَوَاخِر خطاب الْوَضع، وَكثير من الْعلمَاء يذكرهما هُنَا فَلذَلِك نبهت عَلَيْهِ لِئَلَّا يتَوَهَّم أَنه لم يذكر. قَوْله: {اللَّفْظ لِمَعْنى تَارَة، ولمعنيين أُخْرَى، وَلَا ظُهُور، مُجمل فِي ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا، وَقَالَهُ الْغَزالِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَجمع. وَقَالَ الْآمِدِيّ: ظَاهر فِي الْمَعْنيين، وَحَكَاهُ عَن الْأَكْثَر. وَقيل: المعنيان غير الأول، فَإِن كَانَ أَحدهمَا عمل بِهِ، ووقف الآخر} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2781 إِذا ورد من الشَّارِع لفظ لَهُ استعمالان، أحد الاستعمالين يرد لِمَعْنى وَاحِد، وَالثَّانِي يرد لمعنيين، وَلَا ظُهُور فِي ذَلِك فَفِيهِ مذهبان، أَو ثَلَاثَة: أَحدهَا - وَهُوَ الْمُخْتَار وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْأَصْحَاب، قَالَه ابْن مُفْلِح: وَاخْتَارَهُ الْغَزالِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَجَمَاعَة -: أَنه مُجمل؛ لتردده بَين الْمَعْنى، والمعنيين، وَمحله إِذا لم تقم قرينَة على المُرَاد. وَالثَّانِي - وَهُوَ قَول الْآمِدِيّ وَذكره قَول الْأَكْثَر -: أَنه يحمل على مَا يُفِيد مَعْنيين كَمَا لَو دَار بَين مَا يُفِيد، وَمَا لَا يُفِيد؛ وَلِأَنَّهُ أَكثر فَائِدَة. قَالَ ابْن مُفْلِح بِأَنَّهُ إِثْبَات لُغَة بالترجيح، ثمَّ الْحَقَائِق لِمَعْنى وَاحِد أَكثر. وَالْقَوْل الثَّالِث: ينظر إِن كَانَ الْمَعْنى أحد الْمَعْنيين عمل بِهِ جزما لوُجُوده فِي الاستعمالين، وَيُوقف الآخر للتردد فِيهِ، وَهَذَا اخْتِيَار التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع "، قَالَ الْمحلي: هَذَا مَا ظهر لَهُ، وَالظَّاهِر أَنه مُرَادهم أَيْضا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2782 ثمَّ قَالَ: مِثَال الأول حَدِيث رَوَاهُ مُسلم: " لَا يَنْكِح الْمحرم وَلَا ينُكِح " بِنَاء على أَن النِّكَاح مُشْتَرك بَين العقد وَالْوَطْء، فَإِنَّهُ إِن حمل على الْوَطْء اسْتُفِيدَ مِنْهُ معنى وَاحِد، وَهُوَ أَن الْمحرم لَا يطَأ وَلَا يُوطأ، أَي: لَا يُمكن غَيره من وَطئه، وَإِن حمل على العقد اسْتُفِيدَ مِنْهُ مَعْنيانِ بَينهمَا قدر مُشْتَرك، وَهُوَ أَن الْمحرم لَا يعْقد لنَفسِهِ، وَلَا يعْقد لغيره. وَمِثَال الثَّانِي حَدِيث فِي مُسلم أَيْضا: " الثّيّب أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا "، أَي: بِأَن تعقد لنَفسهَا أَو تَأذن لوَلِيّهَا فيعقد لَهَا وَلَا يجبرها. وَقد قَالَ بِصِحَّة عقدهَا لنَفسهَا أَبُو حنيفَة، وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي، لَكِن إِذا كَانَت فِي مَكَان لَا ولي فِيهِ، وَلَا حَاكم، وَنَقله يُونُس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2783 ابْن عبد الْأَعْلَى عَن الشَّافِعِي. قَوْله: {وَمَا لَهُ محمل لُغَة} ، وَشرعا {ك " الطّواف بِالْبَيِّنَاتِ صَلَاة "} فأصحابنا وَالْأَكْثَر الشَّرْعِيّ، وَالْغَزالِيّ مُجمل. مَاله محمل فِي اللُّغَة، وَيُمكن حمله على حكم شَرْعِي كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة " يحْتَمل أَنه كَالصَّلَاةِ فِي الْأَحْكَام، وَيحْتَمل أَنه صَلَاة لُغَة؛ للدُّعَاء فِيهِ. وَكَقَوْلِه: " الِاثْنَان جمَاعَة " لَا إِجْمَال فِيهِ عِنْد أَكثر الْعلمَاء، مِنْهُم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2784 أَصْحَابنَا؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث لتعريف الْأَحْكَام، لَا اللُّغَة، وَفَائِدَة التأسيس أولى. وَأَيْضًا لَيْسَ فِي الطّواف حَقِيقَة الصَّلَاة الشَّرْعِيَّة فَكَانَ مجَازًا. وَالْمرَاد أَن حكمه حكم الصَّلَاة فِي الطَّهَارَة، وَالنِّيَّة، وَستر الْعَوْرَة وَغَيره، وَيدل على ذَلِك قَوْله فِي بَقِيَّة الحَدِيث: " إِلَّا أَن الله أحل فِيهِ الْكَلَام "، فَدلَّ على أَن المُرَاد كَونه صَلَاة فِي الحكم، إِلَّا مَا اسْتثْنِي فِي الحكم. وَقَالَ الْغَزالِيّ: مُجمل؛ لِأَنَّهُ مُتَرَدّد بَين الْمجَاز الشَّرْعِيّ والحقيقة اللُّغَوِيَّة وَالْأَصْل عدم النَّقْل. ورد بِمَا سبق. قَالَ الْمحلي تبعا لجمع الْجَوَامِع: فَإِن تعذر الْمُسَمّى الشَّرْعِيّ للفظ حَقِيقَة - وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي - فَيرد إِلَيْهِ بتجوز مُحَافظَة على الشَّرْعِيّ مَا أمكن أَو هُوَ مُجمل؛ لتردده بَين الْمجَاز الشَّرْعِيّ والمسمى اللّغَوِيّ، أَو يحمل على اللّغَوِيّ تَقْدِيمًا للْحَقِيقَة على الْمجَاز أَقْوَال، اخْتَار مِنْهَا التَّاج فِي " شرح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2785 الْمُخْتَصر " كَغَيْرِهِ الأول، وَذكر الحَدِيث، وَقَالَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره. قَوْله: {وَمَاله حَقِيقَة لُغَة وَشرعا كَالصَّلَاةِ فَأَبُو الْخطاب، والموفق، والطوفي} ، وَالْأَكْثَر، {للشرعي} ، وَأَبُو حنيفَة للغوي، والحلواني وَجمع: مُجمل، وَبَعض الشَّافِعِيَّة لَهما، وَالْغَزالِيّ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2786 4 - والآمدي فِي إِثْبَات وَلَو أمرا للشرعي وَفِي نفي، وَنهي الْغَزالِيّ مُجمل، والآمدي اللّغَوِيّ. {وبناه القَاضِي تَارَة على إِثْبَات الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة كَابْن عقيل، وَتارَة مُجمل} قبل الْبَيَان، مُفَسّر بعده. مَاله حَقِيقَة لُغَة وَشرعا كخطاب الشَّرْع بِلَفْظ يجب حمله على عرف الشَّرْع كَالصَّلَاةِ، وَالْوُضُوء، وَالزَّكَاة، وَالصَّوْم، وَالْحج، وَغَيرهَا، فَهُوَ للشرعي على الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، مِنْهُم: أَبُو الْخطاب، والموفق، وَالشَّارِح وَابْن المنجا، والطوفي، وَغَيرهم. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَالْحَنَفِيَّة؛ وَذَلِكَ لِأَن خطاب الشَّرْع بِلَفْظ يجب حمله على عرف الشَّرْع؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَبْعُوث لبَيَان الشرعيات؛ وَلِأَنَّهُ كالناسخ الْمُتَأَخر فَيجب حمله عَلَيْهِ، وَلذَلِك ضعفوا حمل حَدِيث " من أكل لحم الْجَزُور فَليَتَوَضَّأ " على التَّنْظِيف بِغسْل الْيَد، وَرجح النَّوَوِيّ التوضأ مِنْهُ؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2787 لضعف الْجَواب عَن الحَدِيث الصَّحِيح بذلك. قَالَ الْبرمَاوِيّ: هَذَا أرجح الْمذَاهب فِي الْمَسْأَلَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: للغوي فَيحمل على اللّغَوِيّ، لَا على الشَّرْعِيّ، وَلَا هُوَ مُجمل إِلَّا أَن يدل على إِرَادَة الشَّرْعِيّ، قَالَ: لِأَن الشَّرْعِيّ مجَاز وَالْكَلَام لحقيقته حَتَّى يدل دَلِيل على الْمجَاز. وَأجِيب بِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرْع حَقِيقَة، وَإِلَى اللُّغَة مجَاز فَذَاك دَلِيل عَلَيْهِ، لَا لَهُ. وَظَاهر كَلَام أَحْمد، قَالَ بعض أَصْحَابنَا: بل نَصه أَنه مُجمل، وَقَالَهُ الْحلْوانِي. وَحكى [عَن] ابْن عقيل لما فِي الَّتِي قبلهَا، وللشافعية وَجْهَان، وَاخْتلف كَلَام القَاضِي، فَتَارَة بناه على الْحَقِيقَة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2788 الشَّرْعِيَّة: كَابْن عقيل، وَتارَة قَالَ إِنَّه مُجمل وَلَو أثبت الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة، ونفاها فِي " جَامعه " الْكَبِير وَجعل للشرعي. وَقَالَهُ ابْن عقيل فِي تَقْسِيم الْأَدِلَّة من " الْوَاضِح "، وَفِي " الْوَاضِح " أَيْضا فِي آخر الْعُمُوم مُجمل قبل الْبَيَان، مُفَسّر بعده. وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: لَهما، أَي: يعم الْمَعْنيين الشَّرْعِيّ واللغوي فَهُوَ عَام. قَالَ ابْن مُفْلِح: فَإِن قيل: يعم الْمَعْنيين قيل ظَاهر فِي الشَّرْعِيّ، ثمَّ لم يقل بِهِ أحد، قَالَه فِي " التَّمْهِيد ". وَقَالَ فِي " الْوَاضِح " عَن بعض الشَّافِعِيَّة إِنَّه عَام، وأبطله بِأَنَّهُ لم يرد بِهِ. انْتهى. وَقَالَ الْغَزالِيّ والآمدي: هُوَ فِي الْإِثْبَات، وَمَا فِي مَعْنَاهُ كالأمر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2789 [على] الشَّرْعِيّ كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنِّي إِذا صَائِم " أَي: الصَّوْم الشَّرْعِيّ حَتَّى يسْتَدلّ بِهِ على جَوَاز النِّيَّة فِي النَّفْل بِالنَّهَارِ، وَأما فِي النَّفْي وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ النَّهْي فاختلفا، فَقَالَ الْغَزالِيّ: هُوَ مُجمل كالنهي عَن صِيَام يَوْم النَّحْر؛ إِذْ لَو حمل على اللّغَوِيّ لَكَانَ حملا لكَلَام الْمُتَكَلّم على غير عرفه. قَالَ ابْن مُفْلِح: رد قَوْله، بِأَنَّهُ لَيْسَ معنى الشَّرْعِيّ الصَّحِيح، وَإِلَّا لزم فِي قَوْله للحائض: " دعِي الصَّلَاة " الْإِجْمَال. انْتهى. وَقَالَ الْآمِدِيّ: يحمل على اللّغَوِيّ للاستحالة الْمُتَقَدّمَة للُزُوم صِحَّته كَبيع الْحر وَالْخمر، وَالْأَصْل اللُّغَة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2790 قَالَ الْبرمَاوِيّ: ويضعف مَذْهَبهمَا الِاتِّفَاق على حمل نَحْو قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " دعِي الصَّلَاة أَيَّام أَقْرَائِك " على الْمَعْنى الشَّرْعِيّ بِاتِّفَاق مَعَ أَنه فِي معنى النَّهْي. قَوْله: {وعَلى الأول} ، أَي: على الْمَذْهَب الأول، وَهُوَ أَنه للشرعي، {لَو تعذر الشَّرْعِيّ} حمل على {الْعرفِيّ، فَإِن تعذر} الْعرفِيّ، حمل على {اللّغَوِيّ، فَإِن تعذر} اللّغَوِيّ، {فَهُوَ 5 مجَاز} . أما إِذا تعذر الشَّرْعِيّ فَإِنَّهُ يحمل على الْعرفِيّ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَبَادر إِلَى الْفَهم وَلِهَذَا اعْتبر الشَّارِع الْعَادَات فِي مَوَاضِع كَثِيرَة. فَإِذا تعذر الْعرفِيّ أَيْضا حمل على اللّغَوِيّ، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من دعِي إِلَى وَلِيمَة فليجب، فَإِن كَانَ مُفطرا فَليَأْكُل، وَإِن كَانَ صَائِما فَليصل " حمله ابْن حبَان فِي " صَحِيحه " على معنى (فَليدع) . قلت: وَحمله أَصْحَابنَا، صَاحب " الْمُغنِي " و " الشَّرْح " وَغَيرهمَا على ذَلِك، لَكِن روى أَبُو دَاوُد: " فَإِن كَانَ صَائِما فليَدْعُ " الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2791 فَتكون هَذِه الرِّوَايَة مبينَة للرواية الْأُخْرَى " فَليصل " وَيكون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرَاده اللُّغَة. فَإِن تعذر حمله على اللُّغَة فَهُوَ مجَاز. إِذا تعذر حمله على إِحْدَى الْحَقَائِق الثَّلَاث فَهُوَ مجَاز كَمَا تقدم؛ لِأَن الْكَلَام إِمَّا حَقِيقَة، وَإِمَّا مجَاز، وَقد تعذر حمله على الْحَقِيقَة فَمَا بَقِي إِلَّا الْمجَاز فَيحمل عَلَيْهِ. وَالله أعلم. فَائِدَة: قَالَ ابْن مُفْلِح: {الْأَقْوَال السَّابِقَة فِي مجَاز مَشْهُور وَحَقِيقَة لغوية} ، وَسبق مَعْنَاهُ فِي كَلَام القَاضِي، وَإِن لم يكن مَشْهُورا عمل بِالْحَقِيقَةِ، وَفِي " اللامع " لأبي عبد الله بن حَاتِم تلميذ ابْن الباقلاني: اخْتلف فِيهِ أَصْحَابنَا فَمنهمْ من قَالَ: لَا يصرف إِلَى وَاحِد مِنْهُمَا إِلَّا بِدَلِيل. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2792 وَذَلِكَ لِأَن الْمُجْمل أَعم من الْمُشْتَرك؛ لِأَن الْمُجْمل يشْتَمل على احْتِمَال مَعْنيين سَوَاء، وَاللَّفْظ فيهمَا حَقِيقَة أَو مجَاز، أَو أَحدهمَا حَقِيقَة وَالْآخر مجَاز مسَاوٍ للْحَقِيقَة، كَمَا تقدم ذَلِك فِي مَسْأَلَة اخْتِلَاف أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2793 فارغة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2794 (بَاب الْبَيَان) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2795 فارغة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2796 (قَوْله: بَاب الْبَيَان) تقدم أَن للمجمل تعريفات وتقسيمات فَخذ ضدها فِي الْمُبين، فَإِن قلت: الْمُجْمل مَا تردد بَين محتملين فَأكْثر على السوَاء فَقل: الْمُبين مَا نَص على معنى معِين من غير إِبْهَام. وَإِن قلت: الْمُجْمل مَا لَا يفهم مِنْهُ عِنْد الْإِطْلَاق معنى معِين، فَقل: الْمُبين مَا فهم مِنْهُ عِنْد الْإِطْلَاق معنى معِين من نَص، أَو ظُهُور بِالْوَضْعِ، أَو بعد الْبَيَان، وَكَذَا سَائِر التعريفات الصَّحِيحَة. قَوْله: {وَيكون فِي مُفْرد، ومركب، وَقَول، وَفعل سبق إِجْمَال أم لَا} . كَمَا أَن الْمُجْمل منقسم إِلَى مُفْرد ومركب، كَذَلِك الْمُبين يَنْقَسِم إِلَى مُفْرد ومركب. قَالَ الْآمِدِيّ فِي " مُنْتَهى السول ": والمبين نقيض الْمُجْمل، وَيكون فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2797 مُفْرد ومركب، وَفِي فعل سبق إِجْمَال، أَو لم يسْبق. انْتهى. قَوْله: {سبق إِجْمَال أم لَا} ، يَعْنِي: أَن الْفِعْل يكون بَيَانا ابْتِدَاء من غير أَن يسْبقهُ إِجْمَال، وَيكون بَيَانا بعد الْإِجْمَال. فَإِن الْبَيَان من حَيْثُ هُوَ يكون تَارَة ابْتِدَاء وَيكون تَارَة بعد الْإِجْمَال، وَقد وَقع هَذَا، وَهَذَا وَهُوَ وَاضح. قَالَ الْعَضُد: وَقد يكون فِيمَا لَا يسْبق فِيهِ إِجْمَال كمن يَقُول ابْتِدَاء: {وَالله بِكُل شَيْء عليم} الْآيَة [الْبَقَرَة: 282] . قَوْله: {وَالْبَيَان يُطلق على التَّبْيِين، وَهُوَ الْمَدْلُول} . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: الْبَيَان الْمُتَعَلّق بالتعريف والإعلام بِمَا لَيْسَ بمعرف، وَلَا مَعْلُوم؛ لِأَنَّهُ مصدر (بيّن) ، يُقَال: بَين تبيينا وبيانا، كَمَا يُقَال: كلم تكليما وكلاما، وَهُوَ عبارَة عَن الدّلَالَة. انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَاعْلَم أَن الْبَيَان يُطلق تَارَة على فعل الْمُبين، وَهُوَ التَّبْيِين كالسلام بِمَعْنى التَّسْلِيم، وَالْكَلَام بِمَعْنى التكليم، فَهُوَ اسْم مصدر لَا مصدر؛ لعدم جَرَيَانه على الْفِعْل. انْتهى. إِذا علم ذَلِك فَلهُ ثَلَاثَة إطلاقات: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2798 أَحدهَا: يُطلق على التَّبْيِين، وَهُوَ فعل الْمُبين الَّذِي هُوَ التَّعْرِيف والإعلام. الثَّانِي: يُطلق على مَا حصل بِهِ التَّبْيِين، وَهُوَ الدَّلِيل. الثَّالِث: يُطلق على مُتَعَلق التَّبْيِين وَمحله، وَهُوَ الْمَدْلُول، وَهُوَ الْمُبين - بِفَتْح الْيَاء -. {فبالنظر إِلَى} الْإِطْلَاق {الأول قَالَ} أَبُو الْخطاب {فِي " التَّمْهِيد ": إِظْهَار الْمَعْلُوم للمخاطب} مُنْفَصِل عَمَّا يشكل، {وإيضاحه} لَهُ. {وَمَعْنَاهُ فِي وَاضح} ابْن عقيل {وَلم يقل للمخاطب} . {و} قَالَ {أَبُو بكر} عبد الْعَزِيز، وَأَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي، {وَابْن عقيل - أَيْضا - والصيرفي: إِخْرَاج الْمَعْنى من حيّز الْإِشْكَال إِلَى حيّز التجلي} ، وَهُوَ للصيرفي، وَتَبعهُ عَلَيْهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَأَبُو الطّيب، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2799 والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، إِلَّا أَنهم زادوا: والوضوح تَأْكِيدًا وتقريرا. قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: هَذَا الْحَد قَاصِر؛ لِأَنَّهُ لَا يدْخل فِيهِ إِلَّا مَا كَانَ مُشكلا، ثمَّ أظهر، وَأما مَا بَينه من القَوْل كَقَوْلِه تَعَالَى: {هَذَا حَلَال وَهَذَا حرَام} [النَّحْل: 116] فَهُوَ لم يكن مُشكلا. قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: رُبمَا ورد من الله تَعَالَى بَيَان لما لم يخْطر ببال أحد. وَأَيْضًا فَفِي التَّعْبِير بالحيز وَهُوَ حَقِيقَة فِي الْأَجْسَام يجوز إِطْلَاقه فِي الْمعَانِي وَنَحْوه التجلي. وَأجِيب عَن الأول بِأَن السَّامع لما يرد من الْمُبين بِمَنْزِلَة من أشكل عَلَيْهِ الحكم فِي ذَلِك إِذا لم يكن عِنْده علم من ذَلِك [كَذَا] أجَاب بِهِ القَاضِي عبد الْوَهَّاب، لَكِن فِي تَسْمِيَته عدم الْعلم إشْكَالًا تجوز، على أَن هَذَا فرع عَن تَسْمِيَة إِيرَاد مَا كَانَ وَاضحا من الِابْتِدَاء بَيَانا، وَقد لَا يختاره الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2800 الصَّيْرَفِي، ويخص الْبَيَان بِمَا سبق إِشْكَال فبينه. وَاعْتَرضهُ ابْن السَّمْعَانِيّ بِأَن لفظ الْبَيَان أظهر من لفظ إِخْرَاج الشَّيْء إِلَى آخِره، وَقد يمْنَع ذَلِك. وَعَن الثَّانِي بِأَن الْمجَاز بِالْقَرِينَةِ يدْخل فِي التعاريف، كَمَا صرح بِهِ الْغَزالِيّ وَغَيره على مَا تقدم فِي الْحُدُود. {و} بِالنّظرِ {إِلَى} الْإِطْلَاق {الثَّانِي قَالَ التَّمِيمِي، وَأكْثر الأشعرية} ، والمعتزلة: {هُوَ الدَّلِيل} ؛ لصِحَّة إِطْلَاقه عَلَيْهِ لُغَة وَعرفا مَعَ عدم مَا سبق، وَالْأَصْل الْحَقِيقَة. لَكِن زَاد التَّمِيمِي على ذَلِك: الْمظهر للْحكم. ورده القَاضِي أَبُو يعلى بالمجمل. قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": لَهُ أَن يَقُول الْمُجْمل لَيْسَ دَلِيلا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2801 {و} بِالنّظرِ {إِلَى الثَّالِث قَالَ} أَبُو عبد الله {الْبَصْرِيّ وَغَيره} : بِأَنَّهُ {الْعلم} الْحَاصِل {عَن الدَّلِيل} . قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مفرعان على الإطلاقين الْأَخيرينِ، بل الْأَقْوَال الثَّلَاثَة مفرعة على الإطلاقات الثَّلَاثَة، وَحده الشَّافِعِي إِلَى آخِره. {قَالَ الشَّافِعِي} فِي " الرسَالَة ": {اسْم جَامع لأمور متفقة الْأُصُول متشعبة الْفُرُوع} . قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَلَيْسَ مُرَاده تَفْسِيره بِمَا فهمه ابْن دَاوُد، وَقَالَ: إِن الْبَيَان أبين من التَّفْسِير، وَإِنَّمَا مُرَاده أَنه أَنْوَاع مُخْتَلفَة الْمَرَاتِب بَعْضهَا أجلى من بعض، فَمِنْهُ مَا لَا يحْتَاج لتدبر، وَمِنْه مَا لَا يحْتَاج لَهُ، وَقد قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن من الْبَيَان لسحرا " فَبين أَن بعض الْبَيَان أظهر من بعض. وَيدل عَلَيْهِ أَن الله تَعَالَى خاطبنا بِالنَّصِّ، وَالظَّاهِر وبالمنطوق، وَالْمَفْهُوم، والعموم، والمجمل، والمبين، وَغير ذَلِك؛ وَلذَلِك عِنْد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2802 الشَّافِعِي لكل من الْأَنْوَاع بَاب، فَقَالَ: بَاب الْبَيَان الأول، بَاب الْبَيَان الثَّانِي، وَهَكَذَا. ورد ابْن عقيل - أَيْضا - على ابْن دَاوُد لما اعْترض عَلَيْهِ بذلك، وَقَالَ: الشَّافِعِي أَبُو هَذَا الْعلم وَأول من هذبه. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: جُمْهُور الْفُقَهَاء قَالُوا: الْبَيَان إِظْهَار المُرَاد بالْكلَام الَّذِي لَا يفهم مِنْهُ المُرَاد إِلَّا بِهِ. قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وَهُوَ أحسن من جَمِيع الْحُدُود. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالْعجب أَنه أورد على الصَّيْرَفِي الْمُبين ابْتِدَاء، وَلَا شكّ فِي وُرُوده هُنَا، بل أولى؛ لِأَنَّهُ صرح بتقدم كَلَام لم يفهم المُرَاد مِنْهُ. وَأَيْضًا الْبَيَان قد يرد على فعل وَلَا يُسمى مثل ذَلِك كلَاما. قَوْله: {وَيجب لمن أُرِيد فهمه اتِّفَاقًا} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2803 لنا من الْمُجْمل قسم يسْتَمر بِلَا بَيَان إِلَى آخر الدَّهْر، وَذَلِكَ عِنْد عدم الْحَاجة إِلَى بَيَانه بِأَن لَا يكون من دَلَائِل الْأَحْكَام الْمُكَلف بهَا. فَأَما إِن كَانَ من دَلَائِل الْأَحْكَام الْمُكَلف بهَا وَأُرِيد بِالْخِطَابِ وإفهام الْمُخَاطب بِهِ، ليعْمَل بِهِ وَجب أَن يبين لَهُ ذَلِك على حسب مَا يُرَاد بذلك الْخطاب؛ لِأَن الْفَهم شَرط التَّكْلِيف. فَأَما من لَا يُرَاد إفهامه ذَلِك فَلَا يجب الْبَيَان لَهُ بالِاتِّفَاقِ. وَلِهَذَا قَالَ بَعضهم: إِنَّه لَا يجب الْبَيَان فِي الْخطاب إِذا كَانَ خَبرا لَا يتَعَلَّق بِهِ تَكْلِيف، وَإِنَّمَا يجب فِي التكاليف الَّتِي يحْتَاج إِلَى مَعْرفَتهَا. قَوْله: {وَيحصل بقول} . يحصل الْبَيَان بالْقَوْل بِلَا نزاع بَين الْعلمَاء وَهُوَ إِمَّا من الله، أَو من رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَالْأول كَقَوْلِه تَعَالَى: {صفراء فَاقِع لَوْنهَا تسر الناظرين} [الْبَقَرَة: 69] فَإِنَّهُ مُبين لقَوْله تَعَالَى: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة} [الْبَقَرَة: 67] إِذا قُلْنَا المُرَاد بالبقرة بقرة مُعينَة، وَهُوَ الْمَشْهُور. وَالثَّانِي كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَغَيره عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: " فِيمَا سقت السَّمَاء، أَو كَانَ عثريا الْعشْر، وَمَا سقِِي بالنضح نصف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2804 الْعشْر "، وروى مُسلم نَحوه عَن جَابر، وَهُوَ مُبين لقَوْله تَعَالَى: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} [الْأَنْعَام: 141] . واستفدنا من هَذَا الْمِثَال أَن السّنة تبين مُجمل الْكتاب وَهُوَ كثير، كَمَا فِي الصَّلَاة، وَالصَّوْم، وَالزَّكَاة، وَالْحج، وَالْبيع، والربا. وغالب الْأَحْكَام الَّذِي جَاءَ تفصيلها فِي السّنة. قَوْله: {وَفعل} . يحصل الْبَيَان بِالْفِعْلِ على الصَّحِيح، وَعَلِيهِ مُعظم الْعلمَاء. وَالْمرَاد فعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَخَالف فِيهِ شرذمة قَليلَة، مِنْهُم: الْكَرْخِي، وَجَمَاعَة. دَلِيل الْجُمْهُور - كَمَا قَالَ ابْن الْحَاجِب وَغَيره - أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَين الصَّلَاة، وَالْحج بِالْفِعْلِ، وَقَالَ: " خُذُوا عني مَنَاسِككُم "، وَقَالَ: " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " روى الأول مُسلم من حَدِيث جَابر، وروى الثَّانِي البُخَارِيّ من حَدِيث مَالك بن الْحُوَيْرِث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2805 لَا يُقَال إِن الَّذِي وَقع بِهِ الْبَيَان قَول، وَهُوَ قَوْله: " صلوا " و " خُذُوا "؛ لأَنا نقُول: إِنَّمَا دلّ القَوْل على أَن فعله بَيَان، لَا أَن نفس القَوْل وَقع بَيَانا. وَأَيْضًا فالفعل مشَاهد، والمشاهدة أدل فَهُوَ أولى من القَوْل بِالْبَيَانِ. وَفِي الحَدِيث: " لَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة " رَوَاهُ أَحْمد بِسَنَد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا، وَابْن حبَان، وَالطَّبَرَانِيّ وَزَاد فِيهِ: " فَإِن الله تَعَالَى أخبر مُوسَى بن عمرَان عَلَيْهِ السَّلَام عَمَّا صنع قومه من بعده فَلم يلق الألواح، فَلَمَّا عاين ذَلِك ألْقى الألواح ". وَأما شُبْهَة الْخصم بِأَن الْفِعْل يطول فَيتَأَخَّر الْبَيَان بِهِ مَعَ إِمْكَان تَعْجِيله فمردود؛ لِأَنَّهُ قد يطول بالْقَوْل وَيزِيد على زمَان الْفِعْل. وَأَيْضًا فَهُوَ أقوى من القَوْل فِي الْبَيَان كَمَا سبق. قَوْله: {وَلَو بِإِشَارَة، أَو كِتَابَة} . قَالَ صَاحب " الْوَاضِح " من الْحَنَفِيَّة: لَا أعلم خلافًا فِي أَن الْبَيَان يَقع بِالْإِشَارَةِ، وَالْكِتَابَة. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2806 مِثَال الْإِشَارَة قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الشَّهْر هَكَذَا وَهَكَذَا " وَأَشَارَ بأصابعه الْعشْرَة، وَقبض الْإِبْهَام فِي الثَّالِثَة، يَعْنِي تِسْعَة وَعشْرين. وَمِثَال الْكِتَابَة الَّتِي كتبت وَبَين فِيهَا الزكوات، والديات، وَأرْسلت مَعَ عماله. قَوْله: {وَهُوَ أقوى من القولي} . أَي: الْبَيَان بِالْفِعْلِ أقوى من الْبَيَان بالْقَوْل؛ لِأَن الْمُشَاهدَة أدل على الْمَقْصُود من القَوْل وأسرع إِلَى الْفَهم وَأثبت فِي الذِّهْن، وَعون على التَّصَوُّر، وَقد تقدم قَرِيبا الحَدِيث الَّذِي فِيهِ: " لَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة "، وَقد عرف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثل ابْن آدم، وأجله، وأمله بالخط المربع كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي فِي البُخَارِيّ، وَقد تقدم تَنْبِيه للصَّلَاة وَالْحج وَغَيرهمَا، وَالله أعلم. قَوْله: {وَإِقْرَار على فعل} . يحصل الْبَيَان بِإِقْرَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على فعل بعض أمته؛ لِأَنَّهُ دَلِيل مُسْتَقل فصح أَن يكون بَيَانا لغيره، كَغَيْرِهِ من الْأَدِلَّة الْمُبين بهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2807 قَوْله: {وكل مُقَيّد من الشَّرْع بَيَان} ، ذكره الطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَذَلِكَ من وُجُوه: مِنْهَا: التّرْك، مثل أَن يتْرك فعلا قد أَمر بِهِ، أَو قد سبق مِنْهُ فعله فَيكون تَركه لَهُ مُبينًا لعدم وُجُوبه، وَذَلِكَ كَمَا أَنه قيل لَهُ: {وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم} [الْبَقَرَة: 282] ثمَّ إِنَّه كَانَ يُبَايع وَلَا يشْهد، بِدَلِيل الْفرس الَّذِي اشْتَرَاهُ من الْأَعرَابِي، ثمَّ أنكر البيع، فَعلم أَن الْإِشْهَاد فِي البيع غير وَاجِب. وَصلى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - التَّرَاوِيح فِي رَمَضَان، ثمَّ تَركهَا خشيَة أَن تفرض عَلَيْهِم، فَدلَّ على عدم الْوُجُوب؛ إِذْ يمْتَنع ترك الْوَاجِب. وَمِنْهَا: السُّكُوت بعد السُّؤَال عَن حكم الْوَاقِعَة فَيعلم أَنه لَا حكم للشَّرْع فِيهَا، كَمَا رُوِيَ أَن زَوْجَة سعد بن الرّبيع جَاءَت بابنتيها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2808 [إِلَى] النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَت: يَا رَسُول الله، هَاتَانِ ابنتا سعد قتل أَبوهُمَا مَعَك يَوْم أحد، وَقد أَخذ عَمهمَا مَالهمَا، وَلَا ينكحان إِلَّا بِمَال، فَقَالَ: " اذهبي حَتَّى يقْضِي الله فِيك "، فَذَهَبت، ثمَّ نزلت آيَة الْمِيرَاث: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] ، فَبعث خلف الْمَرْأَة وابنتيها وعمهما فَقضى فيهم بِحكم الْآيَة، فَدلَّ ذَلِك على أَن قبل نزُول الْآيَة لم يكن فِي الْمَسْأَلَة حكم، وَإِلَّا لما جَازَ تَأْخِيره عَن وَقت الْحَاجة إِلَيْهِ - كَمَا يَأْتِي -. وَمِنْهَا: أَن يسْتَدلّ الشَّارِع اسْتِدْلَالا عقليا فَتبين بِهِ الْعلَّة، أَو مَأْخَذ الحكم، أَو فَائِدَة مَا؛ إِذْ الْكَلَام فِي بَيَان الْمُجْمل ومحتملاته بِالْفَرْضِ مُتَسَاوِيَة فأدنى مُرَجّح يصلح بَيَانا، مُحَافظَة على الْمُبَادلَة إِلَى الِامْتِثَال، وَعدم الإهمال للدليل، قَالَه الطوفي فِي " شَرحه "، وَتَابعه الْعَسْقَلَانِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2809 فِي " شَرحه "، وَزَاد الْأَخير. قَوْله: {الْفِعْل وَالْقَوْل بعد الْمُجْمل إِن صلحا واتفقا، وَعرف أسبقهما فَهُوَ الْبَيَان، وَالثَّانِي تَأْكِيد} . الْفِعْل، وَالْقَوْل إِذا أَتَيَا بعد الْمُجْمل، واتفقا فِي غَرَض الْبَيَان بِلَا تناف، فَإِذا علم الأول فَهُوَ الْمُبين، قولا كَانَ، أَو فعلا بِلَا نزاع؛ لِأَنَّهُ قد حصل الْبَيَان بِالْأولِ، وَالثَّانِي حصل بِهِ التَّأْكِيد. قَوْله: {وَإِن جهل، فأحدهما} ، أَي الْمُبين، وَالْآخر تَأْكِيد. وَقَالَ الْآمِدِيّ: الْمُبين الْمَرْجُوح. وَقَالَ ابْن عقيل: الْمُبين القَوْل. وَقيل: الْمُبين الْفِعْل. إِذا لم يعلم السَّابِق من القَوْل وَالْفِعْل فأحدهما هُوَ الْمُبين فَلَا يقْضى على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2810 وَاحِد بِعَيْنِه بِأَنَّهُ الْمُبين، بل يقْضى بِحُصُول الْبَيَان بِوَاحِد مِنْهُمَا لم نطلع عَلَيْهِ وَهُوَ الأول فِي نفس الْأَمر، والتأكيد بِالثَّانِي. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر. وَقَالَ الْآمِدِيّ: يتَعَيَّن للتقديم غير الْأَرْجَح حَتَّى يكون هُوَ الْمُبين؛ لِأَن الْمَرْجُوح لَا يكون تَأْكِيدًا للراجح لعدم الْفَائِدَة. وَأَجَابُوا عَن ذَلِك بِأَن الْمُؤَكّد المستقل لَا يلْزم فِيهِ ذَلِك كَالْجمَلِ الَّتِي يذكر بَعْضهَا بعد بعض للتَّأْكِيد، وَأَن التَّأْكِيد يحصل بِالثَّانِيَةِ وَإِن كَانَت أَضْعَف بانضمامها إِلَى الأولى، وَإِنَّمَا يلْزم كَون الْمُؤَكّد أقوى فِي الْمُفْردَات نَحْو: جَاءَنِي الْقَوْم كلهم. وَقَالَ ابْن عقيل: يقدم القَوْل. وَقَالَهُ بعض الشَّافِعِيَّة أَيْضا لدلالته بِنَفسِهِ وعمومها لنا، وَبَيَانه عَمَّا فِي النَّفس. وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة - أَيْضا -: الْمُبين الْفِعْل؛ لِأَنَّهُ أقوى من القَوْل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2811 على مَا تقدم، وَيَأْتِي بعد ذَلِك مَا يردهُ. قَوْله: {وَإِن لم يتَّفقَا كَمَا لَو طَاف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد آيَة الْحَج قَارنا طوافين، وَأمر الْقَارِن بِطواف وَاحِد، فَقَوله بَيَان، وَفعله ندب أَو وَاجِب مُخْتَصّ بِهِ} . {وَعند} أبي الْحُسَيْن {الْبَصْرِيّ الْمُتَقَدّم مِنْهُمَا بَيَان} . الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَن الْمُبين هُوَ القَوْل سَوَاء كَانَ قبل الْفِعْل أَو بعده، وَيحمل الْفِعْل حِينَئِذٍ على النّدب، أَو على الْوُجُوب الْمُخْتَص بِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2812 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَذَلِكَ لِأَن القَوْل يدل على الْبَيَان بِنَفسِهِ بِخِلَاف الْفِعْل؛ فَإِنَّهُ لَا يدل إِلَّا بِوَاسِطَة انضمام القَوْل إِلَيْهِ، وَالدَّال بِنَفسِهِ أقوى من الدَّال بِغَيْرِهِ، لَا يُقَال: قد سبق أَن الْفِعْل أقوى فِي الْبَيَان؛ لأَنا نقُول: التَّحْقِيق أَن القَوْل أقوى فِي الدّلَالَة على الحكم، وَالْفِعْل أدل على الْكَيْفِيَّة، فَفعل الصَّلَاة أدل من وصفهَا بالْقَوْل؛ لِأَن فِيهِ الْمُشَاهدَة. وَأما استفادة وُجُوبهَا، أَو ندبها، أَو غَيرهمَا، فَالْقَوْل أقوى وأوضح لصراحته. وَخَالف فِي ذَلِك أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ فَقَالَ: الْمُتَقَدّم هُوَ الْبَيَان قولا كَانَ أَو فعلا. وَيلْزمهُ - كَمَا قَالَ ابْن الْحَاجِب، وَتَبعهُ ابْن مُفْلِح وَغَيره - نسخ الْفِعْل الْمُتَقَدّم كوجوب الطوافين وَرفع أَحدهمَا بالْقَوْل إِذا وَقع الْفِعْل مُتَقَدما مَعَ إِمْكَان الْجمع بَينهمَا؛ لأَنا إِذا حملنَا الْفِعْل على الْبَيَان أَو الخصوصية جَمعنَا بَين القَوْل وَالْفِعْل بِخِلَاف النّسخ؛ فَإِنَّهُ إبِْطَال للمنسوخ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2813 (قَوْله: فصل) {أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر يجوز كَون الْبَيَان أَضْعَف دلَالَة، وَاعْتبر الْكَرْخِي الْمُسَاوَاة، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب كَونه أقوى} . إِذا كَانَ الْمُجْمل مَعْلُوما، فَهَل يجوز أَن يكون الْبَيَان أَضْعَف دلَالَة مِنْهُ، أَو لَا بُد من التَّسَاوِي، أَو لَا بُد أَن الْبَيَان أقوى؟ على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه يجوز أَن يكون الْبَيَان أَضْعَف دلَالَة من الْمُبين، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر. قَالَ أَبُو الْخطاب: قَالَه الْأَكْثَر، وَنَقله الباقلاني عَن الْجُمْهُور أَيْضا، وَاخْتَارَهُ هُوَ، والرازي، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2814 قَالَ ابْن مُفْلِح: لنا تَبْيِين السّنة لمجمل الْقُرْآن. انْتهى. قلت: وَقد تقدم مِثَال ذَلِك، وَهُوَ كثير جدا، تقدم التَّنْبِيه عَلَيْهِ. وَالْقَوْل الثَّانِي - اخْتَارَهُ الْكَرْخِي -: أَنه لَا بُد من الْمُسَاوَاة فَلَا يبين الأضعف عِنْده. قَالَ الْهِنْدِيّ: وَلَا يتَوَهَّم فِي حق أحد أَنه ذهب إِلَى اشْتِرَاط أَنه كالمبين فِي قُوَّة الدّلَالَة، فَإِنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لما كَانَ بَيَانا لَهُ، بل كَانَ هُوَ مُحْتَاج إِلَى بَيَان آخر، نَقله الْبرمَاوِيّ عَنهُ. وَالْقَوْل الثَّالِث: لَا بُد وَأَن يكون الْبَيَان أقوى دلَالَة من الْمُبين، اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن حمدَان فِي " مقنعه "، وَابْن الْحَاجِب، وَهُوَ الَّذِي قواه شراحه. قَالَ الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": الْحق أَن الْبَيَان يجوز أَن يكون مظنونا، والمبين مَعْلُوما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2815 لنا: أَن الْبَيَان كالتخصيص فَكَمَا يجوز تَخْصِيص الْقطعِي بالظني كَخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس، فَكَذَلِك يجوز بَيَان الْمَعْلُوم، أَي مَا كَانَ مَتنه قَطْعِيا بالمظنون؛ لِأَن الْبَيَان يتَوَقَّف على وضوح الدّلَالَة [لَا] على قَطْعِيَّة الْمَتْن. هَذَا ظَاهر كَلَامه فِي " الْمَحْصُول ". وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام: أَن الْمُبين إِن كَانَ عَاما، أَو مُطلقًا اشْترط أَن يكون بَيَانه أقوى؛ لِأَنَّهُ يرفع الْعُمُوم الظَّاهِر، وَالْإِطْلَاق، وَشرط الرافع أَن يكون أقوى. وَأما الْمُجْمل فَلَا يشْتَرط أَن يكون بَيَانه أقوى، بل يحصل بِأَدْنَى دلَالَة؛ لِأَن الْمُجْمل لما كَانَ مُحْتملا لمعنيين على السوَاء، فَإِذا انْضَمَّ إِلَى أحد الِاحْتِمَالَيْنِ أدنى مُرَجّح كَفاهُ. انْتهى. وَنصر الْعَضُد اخْتِيَار ابْن الْحَاجِب، ثمَّ قَالَ: هَذَا كُله فِي الظَّاهِر، وَأما الْمُجْمل فَيَكْفِي فِي بَيَانه أدنى دلَالَة، وَلَو مرجوحا؛ إِذْ لَا تعَارض. انْتهى. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَسبق تَخْصِيص الْعَام، وَتَقْيِيد الْمُطلق، وَيعْتَبر كَون الْمُخَصّص، والمقيد أقوى عِنْد الْقَائِل بِهِ، وَإِلَّا لزمَه تَقْدِيم الأضعف أَو التحكم، وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ وَغَيره هَذَا التَّفْصِيل وَأَحْسبهُ اتِّفَاقًا. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2816 قَوْله: {وَلَا تعْتَبر مُسَاوَاة الْبَيَان للمبين فِي الحكم، قَالَه فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره خلافًا لقوم} . قَالَ ابْن مُفْلِح: لَا تعْتَبر مُسَاوَاة الْبَيَان للمبين فِي الحكم، قَالَه فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره لتَضَمّنه صفته وَالزَّائِد بِدَلِيل خلافًا لقوم. فَهَذِهِ الْمَسْأَلَة غير الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا؛ لِأَن الأولى فِي ضعف الدّلَالَة وقوتها، وَهَذِه فِي مُسَاوَاة الْبَيَان للمبين فِي الحكم وَعَدَمه. قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": " لما ذكر الْمَسْأَلَة الَّتِي قبل هَذِه وَذكر الْخلاف الَّذِي فِيهَا، وَاعْلَم أَن هَذِه لَيست مَسْأَلَة الْمُخْتَصر؛ لِأَن الْكَلَام فِي تَبْيِين الْأَقْوَى بالأضعف من جِهَة الدّلَالَة، وَمَسْأَلَة الْمُخْتَصر - أَي: مُخْتَصره - و " الرَّوْضَة " ممثلة بتبيين الْقُرْآن بِخَبَر الْوَاحِد، وَذَلِكَ أَضْعَف فِي الرُّتْبَة لَا فِي الدّلَالَة، وَلَا يلْزم من ضعف الرُّتْبَة ضعف الدّلَالَة لجَوَاز أَن يكون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2817 الأضعف رُتْبَة أقوى دلَالَة، كتخصيص عُمُوم الْقُرْآن بِخَبَر الْوَاحِد؛ لِأَنَّهُ أخص فَيكون أدل. فحاصل هَذَا أَن الضعْف إِن كَانَ فِي الدّلَالَة لم يجز تَبْيِين الْقوي بالضعيف لما سبق، وَإِن كَانَ فِي الرُّتْبَة جَازَ إِذا كَانَ أقوى دلَالَة. انْتهى. وَهَذَا الْبَحْث الَّذِي ذكره إِنَّمَا هُوَ فِي قُوَّة الرُّتْبَة وضعفها، وَالْأولَى، فِي قُوَّة الدّلَالَة وضعفها، وَقُوَّة الرُّتْبَة وضعفها قد يكون ضعفها مَوْجُودا لَكِن دلالتها قَوِيَّة، هَذَا مُرَاده قد بَينه، لَكِن مَسْأَلَة صَاحب " التَّمْهِيد " إِنَّمَا هِيَ فِي الحكم فَليعلم ذَلِك. قَوْله: {لَا يُؤَخر الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة إِلَّا على تَكْلِيف الْمحَال} ، فَمن أجَاز تَكْلِيف الْمحَال أجَاز تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة، وَمن مَنعه مَنعه. وَصورته: أَن يَقُول: صلوا غَدا، ثمَّ لَا يبين لَهُم فِي غَد كَيفَ يصلونَ، أَو آتوا الزَّكَاة عِنْد رَأس الْحول، ثمَّ لَا يبين لَهُم عِنْد رَأس الْحول كم يؤدون، وَلَا لمن يؤدون، وَنَحْو ذَلِك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2818 لِأَنَّهُ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق، والتفريع على امْتِنَاعه، هَذَا هُوَ الرَّاجِح عِنْد الْعلمَاء خلافًا للمعتزلة؛ لِأَن الْعلَّة فِي عدم وُقُوع التَّأْخِير عَن وَقت الْعَمَل أَن الْإِتْيَان بالشَّيْء مَعَ عدم الْعلم بِهِ مُمْتَنع، فالتكليف بذلك تَكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: إِن منعنَا التَّكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق فَلَا يجوز تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة، وَإِلَّا جَازَ، وَلَكِن لم يَقع. انْتهى. {قَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {ولمصلحة هُوَ الْبَيَان الْوَاجِب، أَو الْمُسْتَحبّ كتأخيره} للأعرابي {الْمُسِيء فِي صلَاته إِلَى ثَالِث مرّة} ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يجب لخوف فَوَات الْوَاجِب الْمُؤَقت فِي وقته. تَنْبِيه: ترددوا فِي المُرَاد بِوَقْت الْحَاجة، هَل هُوَ وَقت الْفِعْل أَو وَقت تضييقه بِحَيْثُ لَا يُمكن معاودته للْفِعْل كالظهر مثلا، هَل يجب بَيَانهَا بِمُجَرَّد دُخُول الْوَقْت، أَو لَا يجب إِلَّا إِذا ضَاقَ وَقتهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2819 صرح أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ فِي " الْمُعْتَمد "، وَغَيره بِالثَّانِي، والباقلاني بِالْأولِ وَاسْتشْكل تَعْلِيلهم الْمَنْع فِي أصل الْمَسْأَلَة بِأَنَّهُ من التَّكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق. وَيُمكن جَوَابه بِأَنَّهُ لما دخل الْوَقْت تعلق الطّلب بِهِ، فَكيف يطْلب مِنْهُ مَا لَا علم لَهُ بِهِ. قَوْله: {وَيجوز تَأْخِيره عِنْد أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، والأشعري، وَأكْثر أَصْحَابهم، وَبَعض الْحَنَفِيَّة، والمالكية} ، فَمن أَصْحَابنَا ابْن حَامِد، وَالْقَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، والحلواني، ِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2820 والموفق، وَابْن حمدَان، والطوفي، وَغَيرهم. وَحَكَاهُ ابْن عقيل عَن جُمْهُور الْفُقَهَاء، وَذكره الْمجد عَن أَكثر أَصْحَابنَا فَهُوَ جَائِز، وواقع مُطلقًا، سَوَاء كَانَ الْمُبين ظَاهرا يعْمل بِهِ كتأخير بَيَان التَّخْصِيص، وَبَيَان التَّقْيِيد، وَبَيَان النّسخ أَو لَا؟ كبيان الْمُجْمل. {وَعنهُ لَا} يجوز تَأْخِيره. {اخْتَارَهُ أَبُو بكر} عبد الْعَزِيز غُلَام الْخلال، {والتميمي} من أَصْحَابنَا، وَدَاوُد وَأَصْحَابه، وَأكْثر الْمُعْتَزلَة، نَقله ابْن مُفْلِح. وَنقل عَن أبي إِسْحَاق، وَأبي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2821 حَامِد المروزيين، والصيرفي، والدقاق، وَهُوَ قَول كثير من الْحَنَفِيَّة، فَلَا يَقع مُجملا إِلَّا وَالْبَيَان مَعَه، وَكَذَا غير الْمُجْمل. وَنقل الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق أَن الْأَشْعَرِيّ نزل بالصيرفي ضيفا فناظره فَلم يزل بِهِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى مَذْهَب الشَّافِعِي، {وَأَجَازَهُ} ، أَي: التَّأْخِير {أَكثر الْحَنَفِيَّة فِي الْمُجْمل} ، فَيجوز تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل دون غَيره، وَنقل عَن الصَّيْرَفِي. قَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ الْحَنَفِيّ: هُوَ عِنْدِي مَذْهَب أَصْحَابنَا؛ لأَنهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2822 يجْعَلُونَ الزِّيَادَة على النَّص نسخا إِذا تراخت عَنهُ فَلَا يجيزونها إِلَّا بِمثل مَا يجوز بِهِ النّسخ، وَلَو جَازَ عِنْدهم تَأْخِير الْبَيَان فِي مثله لما كَانَت الزِّيَادَة نسخا، بل بَيَانا. انْتهى. {و} أجَازه {أَبُو زيد} الدبوسي {إِن لم يكن تبديلا وَلَا تغييرا} ، حَكَاهُ ابْن السَّمْعَانِيّ عَنهُ، فَقَالَ: قَالَ أَبُو زيد: إِن بَيَان الْمُجْمل إِن لم يكن تبديلا، وَلَا تغييرا جَازَ مُقَارنًا وطارئا، وَإِلَّا فَيجوز مُقَارنًا لَا طارئا، ثمَّ ذكر أَن الِاسْتِثْنَاء من بَيَان التَّغْيِير. {و} أجَازه {قوم فِي الْخَبَر} ، لَا الْأَمر وَالنَّهْي، حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاق. {و} أجَازه {بعض الْمُعْتَزلَة} فِي الْأَمر وَالنَّهْي، لَا الْخَبَر كالوعد والوعيد عكس الَّذِي قبله، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ عَن الْكَرْخِي، وَبَعض الْمُعْتَزلَة. وَمنع السَّمْعَانِيّ ذَلِك عَن الْكَرْخِي. {و} أجَازه {الجبائي وَابْنه، وَعبد الْجَبَّار فِي النّسخ} دون غَيره، حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْن عَنْهُم فِي " الْمُعْتَمد "، وَظَاهره أَن النّسخ دَاخل فِي مَحل الْخلاف، لَكِن قَالَ بَعضهم: إِنَّه يجوز تَأْخِير النّسخ اتِّفَاقًا، وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الباقلاني، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2823 وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَصرح بِهِ ابْن برهَان، وَالْغَزالِيّ، وَغَيرهمَا. {و} أجَازه {أَبُو الْحُسَيْن فِيمَا لَيْسَ لَهُ ظَاهر كالمشترك} دون مَاله ظَاهر كالعام وَالْمُطلق والمنسوخ فَإِنَّهُ يجوز تَأْخِير بَيَانه التفصيلي دون الإجمالي، فَإِن الإجمالي يشْتَرط وجوده عِنْد الْخطاب؛ حَتَّى يكون مَانِعا من الْوُقُوع فِي الْخَطَأ فَيُقَال: هَذَا الْعَام مُرَاد بِهِ خَاص، وَهَذَا الْمُطلق مُرَاد بِهِ مُقَيّد، وَهَذِه النكرَة مُرَاد بهَا معِين، أَو هَذَا الحكم سينسخ. أما الْبَيَان التفصيلي فَلَيْسَ ذكره مَعَ الْخطاب شرطا، نقل هَذَا الْمَذْهَب الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعه عَن أبي الْحُسَيْن. {و} أجَاز {بَعضهم فِي الْعُمُوم} ، يَعْنِي: جوز بعض الْعلمَاء تَأْخِير بَيَان الْعُمُوم دون غَيره، فَإِنَّهُ قبل الْبَيَان مَفْهُوم بِخِلَاف الْمُجْمل؛ لِأَنَّهُ قبل الْبَيَان غير مَفْهُوم، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ وَجها للشَّافِعِيَّة، وَحَكَاهُ ابْن برهَان عَن عبد الْجَبَّار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2824 اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - بقوله تَعَالَى: {فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الْأَنْفَال: 41] ثمَّ بَين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَن السَّلب للْقَاتِل، وَلأَحْمَد وَأبي دَاوُد بِإِسْنَاد حسن أَنه لم يخمسه وَلما أعْطى بني الْمطلب مَعَ بني هَاشم من سهم ذِي الْقُرْبَى، وَمنع بني نَوْفَل وَبني عبد شمس، سُئِلَ فَقَالَ: " بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب شَيْء وَاحِد ". رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَلأَحْمَد وَأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح: " إِنَّهُم لم يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام ". وَلم ينْقل بَيَان إِجْمَال مُقَارن، وَلَو كَانَ نقل، وَالْأَصْل عَدمه، وَكَذَا الْحجَّة من إِطْلَاق الْأَمر بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاة، وَالْحج، وَالْجهَاد، ثمَّ بَين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2825 ذَلِك، وَكَذَا بيع، وَنِكَاح، وميراث، وسرقة، وكل عُمُوم قُرْآن وَسنة. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " من حَدِيث عَائِشَة أَن جبرئيل قَالَ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: اقْرَأ، قَالَ: مَا أَنا بقارئ، وَكرر ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: {اقْرَأ باسم رَبك} [العلق: 1] . وَاعْترض: هَذِه الْأَوَامِر ظَاهرهَا مَتْرُوك، لتأخير الْبَيَان عَن وَقت الْخطاب وَهُوَ وَقت الْحَاجة، إِن كَانَ للفور، أَو للتراخي؛ فالفعل جَائِز فِي الْوَقْت الثَّانِي فَيمْتَنع تَأْخِيره عَنهُ. رد: الْأَمر قبل بَيَان الْمَأْمُور بِهِ لَا يجب بِهِ شَيْء، وَهُوَ كثير عرفا كَقَوْل السَّيِّد: افْعَل فَقَط. وَاحْتج فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره بِقصَّة ابْن الزبعري وسبقت. وَاعْترض - أَيْضا - بِأَنَّهُ خبر وَاحِد، وَالْمَسْأَلَة علمية. وَجَوَابه الْمَنْع مَعَ أَنه متلقى بِالْقبُولِ، - وَأَيْضًا - لَو امْتنع لَكَانَ لعدم الْبَيَان، وَلَيْسَ بمانع بِدَلِيل النّسخ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2826 فَإِن قيل: يعْتَبر الْإِشْعَار بالناسخ. رد بِالْمَنْعِ وَبِأَنَّهُ خلاف الْوَاقِع. وَاسْتدلَّ بقوله: {أَن تذبحوا بقرة} [الْبَقَرَة: 67] وَالْمرَاد مُعينَة بِدَلِيل تَعْيِينهَا بسؤالهم الْمُتَأَخر عَن الْأَمر بذبحها، وبدليل أَنهم لم يؤمروا بمتجدد. وبدليل مُطَالبَة الْمَأْمُور بهَا لما ذبح. رد: بِمَنْع التَّعْيِين فَلم يتَأَخَّر بَيَان لتأخيره عَن وَقت الْحَاجة لفورية الْأَمر. وبدليل - بقرة - والنكرة غير مُعينَة ظَاهرا. وبدليل قَول الْمُفَسّرين: لَو ذَبَحُوا أَي بقرة أَجْزَأت، وَرُوِيَ نَحوه عَن ابْن عَبَّاس. وبدليل من طلب الْبَيَان لَا يعنف، وعنفه بقوله: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [الْبَقَرَة: 71] . وَاسْتدلَّ: لَو امْتنع لَكَانَ لذاته أَو لغيره، بضرورة أَو نظر، وهما منتفيان. رد: لَو جَازَ إِلَى آخِره. وَاسْتدلَّ لَو امْتنع مَعَ زمن قصير وَبعد جمل معطوفه وبكلام طَوِيل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2827 رد: لِأَنَّهُ لَيْسَ معرضًا عَن كَلَامه الأول فَهُوَ كجملة وَإِنَّمَا يجوز بِكَلَام طَوِيل للْمصْلحَة. وَاحْتج ابْن عقيل بِأَن الْمَسْأَلَة أولى من تَجْوِيز خطاب الْمَعْدُوم. الْقَائِل بِمَنْع تَأْخِير الظَّاهِر: لَو جَازَ لَكَانَ إِلَى مُدَّة مُعينَة، وَهُوَ تحكم لَا قَائِل بِهِ، أَو إِلَى الْأَبَد فَيلْزم التجهيل لعمل الْمُكَلف أبدا بعام أُرِيد بِهِ الْخَاص. رد إِلَى مُدَّة مُعينَة عِنْد الله، وَهُوَ وَقت وجوب الْعَمَل على الْمُكَلف وَقت الْحَاجة، وَقَبله لَا عمل لَهُ، بل هُوَ مُجَرّد اعْتِقَاد فَلَا يمْتَنع بِدَلِيل النّسخ. قَالُوا: لَو جَازَ لَكَانَ الشَّارِع مفهما بخطابه لاستلزامه الإفهام، وَظَاهره يُوقع فِي الْجَهْل لِأَنَّهُ غير مُرَاد، وباطنه لَا طَرِيق إِلَيْهِ. رد: يجْرِي الدَّلِيل فِي النّسخ لظُهُوره فِي الدَّوَام وَبِأَنَّهُ أُرِيد إفهام الظَّاهِر مَعَ تَجْوِيز التَّخْصِيص عِنْد الْحَاجة فَلَا يلْزم شَيْء. وَاعْترض: التَّخْصِيص يُوجب شكا فِي كل شخص هَل هُوَ مُرَاد من الْعَام بِخِلَاف النّسخ. رد: يُوجِبهُ على الْبَدَل، وَفِي النّسخ يُوجِبهُ فِي الْجَمِيع لاحْتِمَال الْمَوْت قبل وَقت الْعِبَادَة الْمُسْتَقْبلَة فَهُوَ أولى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2828 الْقَائِل بِمَنْع تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل؛ لِأَنَّهُ يخل بِفعل الْعِبَادَة فِي وَقتهَا للْجَهْل بصفتها بِخِلَاف النّسخ. رد: وَقتهَا وَقت بَيَانهَا. قَالُوا: لَو جَازَ لجَاز الْخطاب بالمهمل ثمَّ يُبينهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يفهم مِنْهُمَا شَيْء. رد: الْمُجْمل مُخَاطب بِأحد مَعَانِيه، فيطيع ويعصي بالعزم والمهمل لَا يُفِيد شَيْئا. ولأصحابنا منع وَتَسْلِيم فِي جَوَاز خطاب فَارسي بعربية لعدم الْفَائِدَة أَو لعلمه أَنه أَرَادَ مِنْهُ شَيْئا سيبينه؛ وَلِهَذَا خاطبهم عَلَيْهِ السَّلَام بِالْقُرْآنِ. قَوْله: {فعلى الْمَنْع، قَالَ أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر: يجوز تَأْخِير إسماع الْمُخَصّص الْمَوْجُود وَمنعه الجبائي، وَأَبُو الْهُذيْل، ووافقا على الْمُخَصّص الْعقلِيّ} . يجوز على الْمَنْع من جَوَاز التَّأْخِير تَأْخِير إسماع الْمُخَصّص الْمَوْجُود عندنَا، وَعند عَامَّة الْعلمَاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2829 وَمنعه أَبُو الْهُذيْل، والجبائي، ووافقا على الْمُخَصّص الْعقلِيّ. اسْتدلَّ للصحيح بِأَنَّهُ مُحْتَمل سَمَاعه بِخِلَاف الْمَعْدُوم، وَسمعت فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] وَلم تسمع الْمُخَصّص، وَسمع الصَّحَابَة الْأَمر بقتل الْكفَّار إِلَى الْجِزْيَة، وَلم يَأْخُذ عمر الْجِزْيَة من الْمَجُوس حَتَّى شهد عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخذهَا مِنْهُم. رَوَاهُ البُخَارِيّ. وروى مَالك فِي " الْمُوَطَّأ "، وَالشَّافِعِيّ عَنهُ عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه أَن عمر ذكرهم، فَقَالَ: مَا أَدْرِي كَيفَ أصنع فِي أَمرهم، فَشهد عبد الرَّحْمَن أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " سنوا بهم سنة أهل الْكتاب " مُنْقَطع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2830 وَمنع أَبُو الْهُذيْل، والجبائي فِي التَّخْصِيص بِالسَّمْعِ دون الْعقل. قَوْله: {وَعَلِيهِ أَيْضا، أَي: على الْمَنْع، قَالَ القَاضِي، وَالْأَكْثَر: يجوز تَأْخِير النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَبْلِيغ الحكم إِلَى وَقت الْحَاجة. وَمنعه عبد الْجَبَّار فِي الْقُرْآن، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل مُطلقًا} . يجوز على الْمَنْع تَأْخِير النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَبْلِيغ الحكم إِلَى وَقت الْحَاجة عِنْد القَاضِي أبي يعلى، والمالكية، والمعتزلة، وَأبي الْمَعَالِي، وَذكره الْآمِدِيّ قَول الْمُحَقِّقين؛ لِأَن وجوب مَعْرفَته إِنَّمَا هُوَ للْعَمَل فَلَا حَاجَة لَهُ قبل وَقت الْعَمَل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2831 وَلِأَنَّهُ لَا يلْزم مِنْهُ محَال، وَالْأَصْل الْجَوَاز عقلا، وَالْأَمر بالتبليغ بعد تَسْلِيم أَنه للْوُجُوب والفور المُرَاد بِهِ الْقُرْآن؛ لِأَنَّهُ الْمَفْهُوم من لفظ الْمنزل. وَحكى صَاحب المصادر عَن عبد الْجَبَّار أَن الْمنزل إِن كَانَ قُرْآنًا فَيجب تبليغه فِي الْحَال لقصد انتشاره، وإبلاغه، أَو غير قُرْآن لم يجب. وَمنعه أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل مُطلقًا؛ لِأَنَّهُ يخل أَن لَا يعْتَقد الْمُكَلف شَيْئا، وَهُوَ إهمال بِخِلَاف تَأْخِير الْبَيَان، وَلِهَذَا يجوز تَأْخِير النّسخ لَا تَبْلِيغ الْمَنْسُوخ؛ وَلِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} [الْمَائِدَة: 67] . قَوْله: {وعَلى الْجَوَاز قَالَ أَصْحَابنَا والمحققون: يجوز التدريج فِي الْبَيَان، وَقيل: فِي الْمُجْمل وَقيل: إِن توقع بَيَانا، وَقيل: لَا} . اخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز التدريج بِالْبَيَانِ بِأَن يبين تَخْصِيصًا بعد تَخْصِيص على أَقْوَال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2832 أَحدهَا - وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا، والمحققين مِنْهُم: القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني -: يجوز ذَلِك فِي الثَّانِي، وَالثَّالِث وَمَا بعدهمَا كَالْأولِ، فَيُقَال - مثلا -: اقْتُلُوا الْمُشْركين، ثمَّ يُقَال: سلخ الْأَشْهر، ثمَّ يُقَال: الْحَرْبِيين، ثمَّ يُقَال: إِذا كَانُوا رجَالًا. وَالْقَوْل الثَّانِي: يجوز ذَلِك فِي الْمُجْمل، وَأما فِي الْعُمُوم فعلى الْخلاف فِي الْبَيَان الأول. وَالْقَوْل الثَّالِث: يجوز إِذا علم الْمُكَلف أَن فِيهِ بَيَانا متوقعا. وَمِنْهُم من يَأْخُذ من هَذَا القَوْل قولا آخر مفصلا فِي أصل الْمَسْأَلَة فَيَقُول: يمْتَنع تَأْخِير بعض الْبَيَان دون بعض، وَلَا يمْتَنع تَأْخِير الْكل، ذكره فِي " جمع الْجَوَامِع " فِي أصل الْمَسْأَلَة. وَالْقَوْل الرَّابِع: لَا يجوز مُطلقًا فَيمْتَنع فِي الثَّانِي، وَمَا بعده؛ لِأَن قَضِيَّة الْبَيَان أَن يكمله أَو لَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2833 وَاسْتدلَّ للْأولِ بِوُقُوعِهِ وَالْأَصْل عدم مَانع. قَالُوا: تَخْصِيص بعض بِذكرِهِ يُوهم نفي غَيره، وَوُجُوب اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي الْبَاقِي، وَهُوَ تجهيل للمكلف. رد: بِذكر الْعَام بِلَا مُخَصص. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2834 (قَوْله: {فصل} ) {أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه، والمالكية، والصيرفي، والسرخسي: يجب اعْتِقَاد الْعُمُوم، وَالْعَمَل بِهِ فِي الْحَال} . وَهَذَا قَول أَكثر أَصْحَابنَا، مِنْهُم: أَبُو بكر، وَالْقَاضِي، وَابْن عقيل، والموفق، وَابْن حمدَان، والطوفي، والمالكية، والصيرفي، والسرخسي، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَغَيرهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2835 وَقَالَ الْجِرْجَانِيّ: يجب اعْتِقَاد الْعُمُوم، وَالْعَمَل بِهِ قبل الْبَحْث عَن مُخَصص {إِن سَمعه من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على طَرِيق تَعْلِيم الحكم} ، وَإِلَّا فَلَا يمْنَع بَيَان تَأْخِير التَّخْصِيص مِنْهُ. رد: يجوز، ثمَّ الرَّاوِي عَنهُ مثله. {وَقيل:} يجب ذَلِك {مَعَ ضيق الْوَقْت} ، وَإِلَّا فَلَا. هَذَا قَول مفرق بَين ضيق الْوَقْت، وَعَدَمه فَمَعَ ضيق الْوَقْت يجب، وَإِلَّا فَلَا. وَله نَظَائِر، مِنْهَا: هَل للمجتهد أَن يُقَلّد إِذا ضَاقَ الْوَقْت، أم لَا؟ على مَا يَأْتِي. {وَعنهُ لَا مُطلقًا} ، أَي: لَا يجب اعْتِقَاد الْعُمُوم {حَتَّى يبْحَث} عَن الْمُخَصّص، {اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، والحلواني} ، وَغَيرهمَا من أَصْحَابنَا، {وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَمَال إِلَيْهِ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين، وَذكر الْآمِدِيّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2836 عَن الصَّيْرَفِي يجب اعْتِقَاد عُمُومه جزما قبله، وَهُوَ خطأ لاحْتِمَال إِرَادَة خصوصه، قَالَ: وَلَا نَعْرِف خلافًا فِي امْتنَاع الْعَمَل قبل بَحثه عَن مُخَصص. {وَقَالَ الْأُسْتَاذ} أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ {وَغَيره: مَحل ذَلِك بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -} ، أما فِي حَيَاته فَلَا خلاف فِي وجوب الْمُبَادرَة إِلَى الْأَخْذ بِهِ وإجراء على عُمُومه؛ لِأَن أصُول الشَّرِيعَة لم تكن متقررة لجَوَاز أَن يحدث بعد وُرُود الْعَام مُخَصص، وَبعد النَّص نسخ، فَلَا يُفِيد الْبَحْث عَن ذَلِك شَيْئا. وَجه القَوْل الأول: الْمُوجب للاستغراق لفظ الْعُمُوم، والمخصص معَارض [و] الأَصْل عَدمه. أجَاب بعض أَصْحَابنَا: لَكِن النَّفْي لَا يحكم بِهِ قبل الْبَحْث. وَأجَاب فِي " التَّمْهِيد " إِنَّمَا يفِيدهُ بِشَرْط تجرده عَن مُخَصص وَمَا نعلمهُ إِلَّا أَن نبحث فَلَا نجده. وَكَذَا قَالَ بعض أَصْحَابنَا عدم الْمُخَصّص شَرط فِي الْعُمُوم، أَو هُوَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2837 من بَاب الْمعَارض، فِيهِ قَولَانِ كَمَا فِي تَخْصِيص الْعلَّة، ثمَّ ذكر قَول القَاضِي اللَّفْظ الدَّال على الْعُمُوم هُوَ الْمُجَرّد عَن قرينَة، فَلَا يُوجد إِلَّا وَهُوَ دَال عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يدل على الْخُصُوص بِقَرِينَة، ثمَّ ذكر أَيْضا الْمُوجب للْعُمُوم قصد الْمُتَكَلّم فَيَكْفِي فِي الْخُصُوص عدم قصد الْعُمُوم، أَو يُقَال: الْمُوجب للخصوص قصد الْمُتَكَلّم فَيَكْفِي فِي الْعُمُوم عدم قصد الْخُصُوص. كَلَام القَاضِي يَقْتَضِي أَن اللَّفْظ لَا يَتَّصِف فِي نَفسه بِعُمُوم، وَلَا خُصُوص إِلَّا بِقصد الْمُتَكَلّم. قَالَ: وَهَذَا جيد فَيُفَرق بَين إِرَادَة عدم الصُّورَة الْمَخْصُوصَة، أَو عدم إرادتها. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَأَيْضًا كَمَا يجب حمله على عُمُوم الزَّمَان وَإِن جَازَ نسخه فِي بعضه. أجَاب فِي " التَّمْهِيد ": مَا يخص الْأَعْيَان يرد مَعَه، وَقَبله، فَيجب الْبَحْث، والنسخ لَا يرد إِلَّا بعد وُرُود الصِّيغَة فَلَا يجب كَمَا لَا يتَوَقَّف فِيمَن ثبتَتْ عَدَالَته حَتَّى يرد عَلَيْهِ الْفسق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2838 قَالَ بعض أَصْحَابنَا: فَفِيهِ نظر بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لتقدم معرفَة النَّاسِخ والمنسوخ على الْفَتْوَى. وَقَالَ ابْن عقيل: النّسخ قد يخفى عَن الْبعيد عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا يلْزمه التَّوَقُّف، وَإِن كَانَ ذَلِك لَا يفوت أصل الْعَمَل عَن وُرُود النّسخ. وَاحْتج القَاضِي بأسماء الْحَقَائِق، وَذكر عَن خَصمه منعا وتسليما. وَاحْتج ابْن عقيل والموفق فِي " الرَّوْضَة " بهَا، وبالأمر، وَالنَّهْي. تَنْبِيه: تابعنا فِي حِكَايَة الْخلاف كثيرا من الْعلمَاء، بل مَذْهَب أَحْمد وَأَصْحَابه، والمالكية، وَكثير من الْعلمَاء كَمَا تقدم وجوب اعْتِقَاد الْعُمُوم، وَالْعَمَل بِهِ قبل الْبَحْث عَن مُخَصص كَمَا تقدم. وَحكى الكوراني وَابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره " وَغَيرهمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2839 الْإِجْمَاع على أَنه لَا يجوز الْعَمَل بِالْعَام قبل الْبَحْث عَن الْمُخَصّص، وَجعلُوا الْخلاف فِي اعْتِقَاد الْعُمُوم فِي الْعَام بعد وُرُوده، وَقبل وَقت الْعَمَل بِهِ. قَالَ الْبرمَاوِيّ بعد حِكَايَة الْخلاف: هَكَذَا أورد الْخلاف الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه وَسَبقه إِلَى ذَلِك الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَغَيرهمَا، لَكِن اقْتصر أَبُو الطّيب، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَابْن السَّمْعَانِيّ فِي النَّقْل عَن الصَّيْرَفِي على وجوب اعْتِقَاد الْعُمُوم فِي الْحَال قبل الْبَحْث، وَصرح غَيرهم عَنهُ بِأَنَّهُ قَالَ: يجب الِاعْتِقَاد وَالْعَمَل. وَلَك أَن تَقول: إِن دخل وَقت الْعَمَل لزم من وجوب الِاعْتِقَاد وجوب الْعَمَل فَلذَلِك اكْتفى من اقْتصر على وجوب الِاعْتِقَاد بذلك. وَأما الْغَزالِيّ، ثمَّ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب فحكوا الْخلاف على وَجه آخر، وَهُوَ أَنه يمْتَنع الْعَمَل قبل الْبَحْث قطعا، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي كَونه يَكْفِي الظَّن - وَهُوَ قَول الْأَكْثَر - أَولا بُد من الْقطع؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2840 قَالَ: وَيحصل ذَلِك بتكرير النّظر، والبحث عَن اشتهار كَلَام الْأَئِمَّة. قَالُوا: وَلَيْسَ خلاف الصَّيْرَفِي إِلَّا فِي اعْتِقَاد عُمُومه قبل دُخُول وَقت الْعَمَل بِهِ، وَإِذا ظهر مُخَصص تعين الِاعْتِقَاد. وَمِنْهُم من جمع بَين الطريقتين بِأَنَّهُمَا مَسْأَلَتَانِ: وجوب الْعَمَل وَهُوَ مَحل الْقطع، واعتقاد الْعُمُوم، وَهُوَ مَحل الْخلاف. وَفِيه نظر، فَإِن ذَلِك إِن كَانَ قبل دُخُول وَقت الْعَمَل فقد جعلُوا مَحل خلاف الصَّيْرَفِي فِيهِ، وَإِن كَانَ بعد دُخُول وَقت الْعَمَل فقد سبق أَنه لَا معنى لاعْتِقَاده إِلَّا وجوب الْعَمَل بِهِ. انْتهى. قَوْله: {وَظَاهر كَلَام الْأَصْحَاب، وَقَالَهُ الْأَكْثَر: يَكْفِي فِي الْبَحْث الظَّن، وَاعْتبر} القَاضِي أَبُو بكر {الباقلاني، وَمن تبعه الْقطع} . {و} اعْتبر {قوم اعتقادا جَازِمًا} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2841 قَالَ ابْن مُفْلِح: ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا، وَقَالَهُ الْأَكْثَر: يَكْفِي بحث يظنّ مَعَه انتفاؤه؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيق إِلَى الْقطع؛ فاشتراطه يبطل الْعَمَل بِالْعُمُومِ. وَاعْتبر ابْن الباقلاني، وَجَمَاعَة الْقطع، وَقَالُوا: مَا كثر الْبَحْث بَين الْعلمَاء فِيهِ يُفِيد الْقطع عَادَة، وَإِلَّا فبحث الْمُجْتَهد يفِيدهُ؛ لِاسْتِحَالَة أَن لَا ينصب الله عَلَيْهِ دَلِيلا ويبلغه للمكلف. رد الأول: بِمَنْع الِاطِّلَاع عَلَيْهِ، ثمَّ لَو اطلع بَعضهم فنقله غير قَاطع. ورد الثَّانِي: بِمَنْع نصب دَلِيل وَلُزُوم الِاطِّلَاع وَنَقله، وَقد يجد مُخَصّصا يرجع بِهِ عَن الْعُمُوم، وَلَو قطع لم يرجع. وَحكى الْغَزالِيّ قولا ثَالِثا متوسطا أَن الشَّرْط أَن يعْتَقد عَدمه اعتقادا جَازِمًا يسكن إِلَيْهِ الْقلب من غير قطع. تَنْبِيه: مثار الْخلاف فِي أصل الْمَسْأَلَة التَّعَارُض بَين الأَصْل وَالظَّاهِر، وَله مثار آخر، وَهُوَ أَن التَّخْصِيص هَل هُوَ مَانع، أَو عَدمه شَرط؟ فالصيرفي جعله مَانِعا فَالْأَصْل عَدمه، وَابْن سُرَيج ... ... الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2842 جعله شرطا فَلَا بُد من تحَققه. وَنَظِيره الشَّاهِد عِنْد الْحَاكِم الَّذِي لَا يعرف حَاله فيبحث عَنهُ حَتَّى يعْمل بِشَهَادَتِهِ إِذا عدل. وَنَظِيره أَيْضا صِيغَة الْعُمُوم المحتملة للْعهد، هَل يعْمل بهَا؛ لِأَن الْعَهْد مَانع وَالْأَصْل عَدمه، أَو عدم الْعَهْد شَرط فَلَا بُد من تحَققه. قَوْله: {وَكَذَا كل دَلِيل مَعَ معارضه، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد، وَقيل: لَا فِي حَقِيقَة ومجاز} . قَالَ ابْن مُفْلِح: قَالَ بعض أَصْحَابنَا: يجب أَن نقُول: جَمِيع الظَّوَاهِر كالعموم وَكَلَام أَحْمد فِي مُطلق الظَّاهِر من غير فرق، وَكَذَا جزم بِهِ الْآمِدِيّ، وَغَيره. وَفِي " التَّمْهِيد ": جَمِيع ذَلِك كمسألتنا، وَإِن سلمنَا أَسمَاء الْحَقَائِق فَقَط، فَإِن لفظ الْعُمُوم حَقِيقَة فِيهِ مَا لم نجد مُخَصّصا، وَحَقِيقَة فِيهِ وَفِي الْخُصُوص، وَأَيْضًا لَا يلْزمه طلب مَا لَا يُعلمهُ كَطَلَب هَل بعث الله رَسُولا؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2843 وَأجَاب فِي " التَّمْهِيد ": يلْزمه كَمَا يلْزمه هُنَا طلب الْمُخَصّص فِي بَلَده. قيل لَهُ: فَلَو ضَاقَ الْوَقْت عَن طلبه؟ قَالَ: الْأَشْبَه يلْزم الْعَمَل بِالْعُمُومِ، وَإِلَّا لما أسمعهُ الله إِيَّاه قبل تمكنه من الْمعرفَة بالمخصص لِأَنَّهُ وَقت الْحَاجة إِلَى الْبَيَان. قَالَ: وَيحْتَمل أَن لَا يعْمل حَتَّى يَطْلُبهُ كمجتهد ضَاقَ وَقت اجْتِهَاده لَا يُقَلّد غَيره. انْتهى. وَالْخلاف جَار عِنْد الشَّافِعِيَّة فِي لفظ الْأَمر وَالنَّهْي. قَالَه الشَّيْخ أَبُو حَامِد: قَالَ الْبرمَاوِيّ: نعم، مِنْهُم من نقل الْإِجْمَاع على أَنه لَا يجب عِنْد سَماع الْحَقِيقَة طلب الْمجَاز، وَإِن وَجب عِنْد سَماع الْعَام طلب الْمُخَصّص؛ لِأَن تطرق التَّخْصِيص إِلَى الْعَام أَكثر. انْتهى. وَقَالَهُ السُّبْكِيّ وَفرق بَينهمَا بفرق حسن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2844 (بَاب) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2845 فارغة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2846 (قَوْله: {بَاب} ) {الظَّاهِر لُغَة} خلاف الْبَاطِن، وَهُوَ {الْوَاضِح} المنكشف، وَمِنْه ظُهُور الْأَمر إِذا اتَّضَح وانكشف، وَيُطلق على الشَّيْء الشاخص الْمُرْتَفع، كَمَا أَن الظَّاهِر من الْأَشْخَاص هُوَ الْمُرْتَفع الَّذِي تتبادر إِلَيْهِ الْأَبْصَار، كَذَلِك فِي الْمعَانِي. قَوْله: {وَاصْطِلَاحا: مَا دلّ دلَالَة ظنية وضعا: كأسد، وَعرفا: كغائط} . قَالَه الْآمِدِيّ وَغَيره. فَالظَّاهِر الَّذِي يُفِيد معنى مَعَ احْتِمَال غَيره، لكنه ضَعِيف؛ فبسبب ضعفه خَفِي فَلذَلِك سمي اللَّفْظ لدلالته على مُقَابِله وَهُوَ الْقوي ظَاهرا كالأسد؛ فَإِنَّهُ ظَاهر فِي الْحَيَوَان فِي دلَالَة اللَّفْظ الْوَاحِد ليخرج الْمُجْمل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2847 مَعَ الْمُبين؛ لِأَنَّهُ وَإِن أَفَادَ معنى لَا يحْتَمل غَيره، فَإِنَّهُ لَا يُسمى مثله نصا. قَوْله: {والتأويل لُغَة الرُّجُوع} ، وَهُوَ من آل يؤول، أَي: رَجَعَ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وابتغاء تَأْوِيله} [آل عمرَان: 7] أَي: طلب مَا يؤول إِلَيْهِ مَعْنَاهُ، فَهُوَ مصدر أولت الشَّيْء فسرته من آل إِذا رَجَعَ؛ لِأَنَّهُ رُجُوع من الظَّاهِر إِلَى ذَلِك الَّذِي آل إِلَيْهِ فِي دلَالَته اللَّفْظ. قَالَ الله تَعَالَى: {هَل ينظرُونَ إِلَّا تَأْوِيله} [الْأَعْرَاف: 53] أَي: مَا يؤول إِلَيْهِ بَعثهمْ ونشورهم. فَائِدَة: للنَّاس كَلَام فِي الْفرق بَين التَّأْوِيل وَالتَّفْسِير. قَالَ الرَّاغِب: أَكثر مَا يسْتَعْمل التَّأْوِيل فِي الْمعَانِي، وَالتَّفْسِير فِي الْأَلْفَاظ، وَأكْثر التَّفْسِير فِي مُفْرَدَات الْأَلْفَاظ، والتأويل أَكْثَره فِي الْجمل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2848 قَوْله: {وَاصْطِلَاحا: حمل ظَاهر على مُحْتَمل مَرْجُوح} . أَي: تكون للفظ دلالتان راجحة ومرجوحة فَيحمل على المرجوحة، وَهَذَا يَشْمَل الصَّحِيح وَالْفَاسِد، فَإِن أردْت الصَّحِيح زِدْت فِي الْحَد {بِدَلِيل يصيره راجحا} على مَدْلُوله الظَّاهِر فيسمى تَأْوِيلا صَحِيحا. فَإِن ترك الظَّاهِر لَا لدَلِيل مُحَقّق، بل لشبه تخيل للسامع أَنَّهَا دَلِيل، وَعند التَّحْقِيق تضمحل يُسمى تَأْوِيلا فَاسِدا، وَرُبمَا قيل تَأْوِيلا بَعيدا، وَقد يكون التَّأْوِيل لَا لشَيْء من ذَلِك فَهَذَا لعب لَا يعبأ بِهِ. إِذا علم ذَلِك فَحمل اللَّفْظ على ظَاهره لَيْسَ تَأْوِيلا، وَكَذَا حمل الْمُشْتَرك وَنَحْوه من الْمسَاوِي على أحد محمليه، أَو محامله لدَلِيل لَا يُسمى تَأْوِيلا، وَحمله على الْمَجْمُوع لَا يُسمى تَأْوِيلا أَيْضا. وَقَالَ {الْمُوفق} تبعا للغزالي: حد التَّأْوِيل {احْتِمَال يعضده دَلِيل يصيره أغلب على الظَّن من الظَّاهِر} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2849 وَيرد عَلَيْهِ أَن الِاحْتِمَال شَرط التَّأْوِيل لَا نَفسه، وَلَيْسَ بِجَامِع لخُرُوج تَأْوِيل مَقْطُوع بِهِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد {الْجَوْزِيّ: صرف اللَّفْظ عَن الِاحْتِمَال الرَّاجِح إِلَى الِاحْتِمَال الْمَرْجُوح لاعتضاده بِدَلِيل} . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قلت الْحَد غير جَامع؛ لِأَن التَّأْوِيل قد يكون فِي الْفِعْل. قَوْله: {فَإِن قرب التَّأْوِيل ترجح بِأَدْنَى مُرَجّح، وَإِن بعد افْتقر إِلَى أقوى وَإِن تعذر رد} . التَّأْوِيل على ثَلَاثَة أَقسَام: قريب: فيترجح الطّرف الْمَرْجُوح بِأَدْنَى دَلِيل لقُرْبه مثل قَوْله تَعَالَى: {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} [الْمَائِدَة: 6] أَي: إِذا عزمتم. وبعيد: يَعْنِي الِاحْتِمَال الْمَرْجُوح بعيد من الْإِرَادَة لعدم قرينَة تدل عَلَيْهِ عقلية، أَو حَالية، أَو مقالية فَيحْتَاج فِي حمل اللَّفْظ عَلَيْهِ، وَصَرفه عَن الظَّاهِر إِلَى دَلِيل قوي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2850 ومتعذر: لَا يحْتَملهُ اللَّفْظ فَلَا يكون مَقْبُولًا، بل يجب رده وَالْحكم بِبُطْلَانِهِ. قَوْله: {فَمن} التَّأْوِيل {الْبعيد تَأْوِيل الْحَنَفِيَّة قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لغيلان بن سَلمَة وَقد أسلم على عشرَة نسْوَة: " اختر - وَفِي لفظ - أمسك مِنْهُنَّ أَرْبعا وَفَارق سائرهن " على ابْتِدَاء النِّكَاح، أَو إمْسَاك الْأَوَائِل} ، فَأَوَّلْته الْحَنَفِيَّة على ابْتِدَاء نِكَاح أَربع إِن كَانَ عقد عَلَيْهِنَّ مَعًا، وَإِن كَانَ تزوجهن متفرقات، على إمْسَاك الْأَوَائِل، وَهُوَ بعيد ومردود. وَوجه بعده ورده: بِأَن الْفرْقَة لَو وَقعت بِالْإِسْلَامِ لم يخيره وَقد خَيره، والمتبادر عِنْد السماع من الْإِمْسَاك الاستدامة وَالسُّؤَال وَقع عَنهُ وَحصر التَّزْوِيج فِيهِنَّ وَلم يبين لَهُ شُرُوط النِّكَاح مَعَ مَسِيس الْحَاجة إِلَيْهِ؛ لقرب إِسْلَامه. وَأَيْضًا لم ينْقل عَنهُ، وَلَا عَن غَيره مِمَّن أسلم على أَكثر من أَربع أَنه جدد النِّكَاح. وَأَيْضًا فالابتداء يحْتَاج إِلَى رضى من يبتدئها وَيصير التَّقْدِير فَارق الْكل وابتدئ بعد ذَلِك من شِئْت فيضيع قَوْله: " اختر أَرْبعا "؛ لِأَنَّهُ قد لَا يرضين، أَو بَعضهنَّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2851 وَأَيْضًا الْأَمر للْوُجُوب، وَكَيف يجب عَلَيْهِ ابتداؤه وَلَيْسَ بِوَاجِب فِي الأَصْل. وَمن ثمَّ قَالَ أَبُو زيد الدبوسي من الْحَنَفِيَّة: هَذَا الحَدِيث لَا تَأْوِيل فِيهِ وَلَو صَحَّ عِنْدِي لَقلت بِهِ. قَوْله: {وَأبْعد مِنْهُ تأويلهم قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لفيروز الديلمي وَقد أسلم على أُخْتَيْنِ: " اختر أَيَّتهمَا شِئْت " على أحد الْأَمريْنِ} إِمَّا الِابْتِدَاء أَو إمْسَاك الأولى. أولت الْحَنَفِيَّة هَذَا الحَدِيث بالتأويلين الْمَذْكُورين فِي الَّذِي قبله، وَإِنَّمَا كَانَ أبعد من الَّذِي قبله؛ لِأَن النَّافِي للتأويل الْمَذْكُور فِي الأول هُوَ الْأَمر الْخَارِج عَن اللَّفْظ، وَهُوَ شَهَادَة الْحَال، وَهنا قد انْضَمَّ إِلَى شَهَادَة الْحَال مَانع لفظا وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " أَيَّتهمَا شِئْت " فَإِن بِتَقْدِير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2852 نِكَاحهمَا على التَّرْتِيب تعْيين الأولى للاختيار، وَلَفظ: " أَيَّتهمَا شِئْت " يأباه. انْتهى. تَنْبِيه: للحنفية تَأْوِيل ثَالِث فيهمَا وَهُوَ أَنه لَعَلَّ أَن يكون هَذَا كَانَ قبل حصر النِّسَاء فِي أَربع وَقبل تَحْرِيم الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ، وَهُوَ مَرْدُود بِمَا سبق. قَوْله: {وتأويلهم: {فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا} [المجادلة: 4] على إطْعَام طَعَام سِتِّينَ} مِسْكينا؛ لِأَن الْمَقْصُود دفع الْحَاجة، وَدفع حَاجَة سِتِّينَ كحاجة وَاحِد فِي سِتِّينَ يَوْمًا، فَجعلُوا الْمَعْدُوم وَهُوَ طَعَام، مَذْكُورا مَفْعُولا بِهِ، وَالْمَذْكُور وَهُوَ قَوْله: سِتِّينَ، مَعْدُوما لم يَجْعَلُوهُ مَفْعُولا بِهِ، مَعَ ظُهُور قصد الْعدَد، لفضل الْجَمَاعَة، وبركتهم، وتظافرهم على الدُّعَاء للمحسن، وَهَذَا لَا يُوجد فِي الْوَاحِد. وَأَيْضًا حمله على ذَلِك تَعْطِيل للنَّص، ولهذه الْحِكْمَة شرعت الْجَمَاعَة فِي الصَّلَاة وَغَيرهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2853 وَأَيْضًا فَلَا يجوز استنباط معنى من النَّص يعود عَلَيْهِ بالإبطال. وانتصر الْمَازرِيّ للحنفية بِوَجْهَيْنِ، وَجه فقهي، وَوجه نحوي: فالفقهي أَنه لَا يلْزم من قَوْلهم إبِْطَال النَّص إِلَّا إِذا جوزوا إِعْطَاء الْمِسْكِين السِّتين مدا دفْعَة وَاحِدَة، أما فِي سِتِّينَ يَوْمًا فَكل يَوْم ذَلِك الْمُعْطى يصدق عَلَيْهِ أَنه مِسْكين، فَإِذا أطْعم فِي سِتِّينَ يَوْمًا كَانَ إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا؛ لأَنهم لم يعينوا الْمُعْطى، إِنَّمَا ذَلِك على سَبِيل الِاتِّفَاق مثلا، وَأما النَّحْوِيّ فَذكر أَن سِيبَوَيْهٍ يقدر الْمصدر ب (مَا) ويقدره ب (أَن) فَهُنَا يقدره ب (مَا) أَي: فَمَا يطعم سِتِّينَ مِسْكينا، وَإِلَيْهِ جنح أَبُو حنيفَة، وَغَيره يقدره بِأَن. ورد الأول بِأَن تَعْطِيل النَّص بالاتحاد حَاصِل، سَوَاء كَانَ فِي سِتِّينَ يَوْمًا أَو دفْعَة وَاحِدَة، وَقد سبق حِكْمَة الْجمع. ورد الثَّانِي بِأَن الَّذِي يقدره سِيبَوَيْهٍ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمصدر الْعَامِل يقدره بالحرف المصدري مَعَ الْفِعْل على تَفْصِيله الْمَشْهُور فِي الْمَاضِي وَالْحَال والاستقبال. قَالَ ابْن السُّبْكِيّ: وَقد أرْسلت إِلَى الشَّيْخ جمال الدّين، وَهُوَ أعلم هَذِه الأقاليم الْآن بِالْعَرَبِيَّةِ، فَقَالَ: لَا نَعْرِف مَا قَالَه الْمَازرِيّ فِي كَلَام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2854 سِيبَوَيْهٍ. انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَحِينَئِذٍ فَمَا قَالَه الْمَازرِيّ إِنَّمَا هُوَ إِذا كَانَت (مَا) مَوْصُولَة بِمَعْنى (الَّذِي) حَتَّى يكون معبرا [بِهِ] عَن الأمداد الَّتِي هِيَ الطَّعَام. انْتهى. قَوْله: {وَأبْعد مِنْهُ} حَدِيث أبي بكر فِي كتاب فَرِيضَة الصَّدَقَة فِي البُخَارِيّ وَفِي صَدَقَة الْغنم فِي سائمتها إِذا كَانَت أَرْبَعِينَ إِلَى عشْرين وَمِائَة شَاة شَاة، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عمر " فِي الْغنم {فِي أَرْبَعِينَ شَاة شَاة " على} أَن المُرَاد فِي أَرْبَعِينَ شَاة {قيمَة شَاة} ؛ لِأَن اندفاع الْحَاجة كَمَا يكون بِالشَّاة يكون بِالْقيمَةِ، وَهُوَ يُؤَدِّي إِلَى بطلَان الأَصْل؛ لِأَنَّهُ إِذا وَجَبت الْقيمَة لم تجب الشَّاة فَعَاد هَذَا الاستنباط على النَّص بالإبطال، وَذَلِكَ غير جَائِز. قيل: وَفِيه نظر؛ لأَنهم لم يبطلوا إِخْرَاج الشَّاة، بل قَالُوا بالتخيير بَين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2855 الشَّاة وَقِيمَة الشَّاة، وَهُوَ استنباط يعود بالتعميم، كَمَا فِي " وليستنج بِثَلَاثَة أَحْجَار " يعمم فِي الْخرق وَنَحْوهَا، وَفِي " لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان " يعمم فِي كل مَا يشوش الْفِكر، وَلَا يعود بالإبطال. وَأجِيب: بِأَن الشَّارِع لَعَلَّه رَاعى أَن يَأْخُذ الْفَقِير من جنس مَال الْغَنِيّ فيتشاركان فِي الْجِنْس فَتبْطل الْقيمَة فَعَاد بِالْبُطْلَانِ من هَذِه الْجِهَة، وَبَاب الزَّكَاة فِيهِ ضرب من التَّعَبُّد. قَالَ الْبرمَاوِيّ: قلت: وَأَيْضًا فَإِذا كَانَ التَّقْدِير قيمَة شَاة يكون قَوْلهم بإجزاء الشَّاة لَيْسَ بِالنَّصِّ، بل بِالْقِيَاسِ فَيتْرك الْمَنْصُوص ظَاهرا، وَيخرج ثمَّ يدْخل بِالْقِيَاسِ فَهَذَا عَائِد بِإِبْطَال النَّص لَا محَالة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2856 وَهُوَ حسن وَوجه كَونه أبعد مِمَّا قبله؛ لِأَنَّهُ يلْزم أَن لَا تجب الشَّاة كَمَا تقدم، وكل فرع استنبط من أصل يبطل بِبُطْلَانِهِ كَمَا تقدم. قَوْله: {وَمِنْه تأويلهم} قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -[فِيمَا] روه أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن ماجة، وَالدَّارَقُطْنِيّ عَن عَائِشَة: {" أَيّمَا امْرَأَة نكحت نَفسهَا بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل "} ، وَفِي رِوَايَة: " بَاطِل، بَاطِل، بَاطِل " {على الصَّغِيرَة، وَالْأمة، وَالْمُكَاتبَة} . وَوجه بعده: أَن الصَّغِيرَة لَيست بِامْرَأَة فِي لِسَان الْعَرَب، وَقد ألزموا بِسُقُوط هَذَا التَّأْوِيل على مَذْهَبهم؛ فَإِن الصَّغِيرَة لَو زوجت نَفسهَا كَانَ العقد عِنْدهم صَحِيحا لَكِن يتَوَقَّف على إجَازَة الْوَلِيّ، قَالَه الْبرمَاوِيّ. فَلَمَّا ألزموا بذلك فروا إِلَى حمله على الْأمة فألزموا بِبُطْلَانِهِ بقوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2857 عَلَيْهِ السَّلَام: " فلهَا الْمهْر " وَمهر الْأمة إِنَّمَا هُوَ لسَيِّدهَا، فَفرُّوا من ذَلِك إِلَى حمله على الْمُكَاتبَة، فَقيل لَهُم: هُوَ أَيْضا بَاطِل؛ لِأَن حمل صِيغَة الْعُمُوم الصَّرِيحَة، وَهِي أَي الْمُؤَكّدَة بِمَا مَعهَا فِي قَوْله: " أَيّمَا " على صُورَة نادرة لَا تخطر بالبال غَالِبا وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى المخاطبين فِي غَايَة الْبعد. قَالَ ابْن مُفْلِح: حملوه على الصَّغِيرَة وَالْأمة، وَالْمُكَاتبَة، وباطل لمصيره إِلَيْهِ غَالِبا لاعتراض الْوَلِيّ إِن تزوجت بِغَيْر كُفْء؛ لِأَنَّهَا مالكة لبعضها فَكَانَ كَبيع مَالهَا فالصغيرة لَا تسمى امْرَأَة ونكاحها مَوْقُوف عِنْدهم، وَمهر الْأمة للسَّيِّد، وَالْمُكَاتبَة نادرة فأبطلوا ظُهُور قصد التَّعْمِيم لظُهُور (أَي) مُؤَكدَة ب (مَا) ، وتكرير لفظ الْبطلَان، وَحمله على نَادِر يعد كاللغز، وَلَيْسَ مثل هَذَا من كَلَام الْعَرَب، وَلَا يجوز. [و] معنى كَلَام أَصْحَابنَا، وَقَالَهُ الْآمِدِيّ. لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء بِحَيْثُ لَا يبْقى إِلَّا النَّادِر مَعَ إِمْكَان قصد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - منع اسْتِقْلَال الْمَرْأَة فِيمَا يَلِيق بمحاسن الْعَادَات، وَهُوَ النِّكَاح. انْتهى. قَوْله: {و} من تأويلهم: {" لَا صِيَام لمن لم يبيت الصّيام من " اللَّيْل "} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة عَن ابْن عمر على خلاف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2858 فِي رَفعه وَوَقفه، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن عَائِشَة، حملوه {على} صَوْم {الْقَضَاء وَالنّذر} بِنَاء مِنْهُم على مَذْهَبهم فِي صِحَة الْفَرْض بنية من النَّهَار. قَالَ ابْن الْحَاجِب: فجعلوه كاللغز، أَي: فِي حملهمْ الْعَام على صُورَة نادرة، فَإِن ثَبت مَا ادعوهُ من الحكم بِدَلِيل كَمَا قَالُوا فليطلب لهَذَا الحَدِيث تَأْوِيل قريب غير هَذَا مثل نفي الْكَمَال. قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: وَهُوَ أقرب من التَّأْوِيل السَّابِق. قَالَ الكوراني: فَإِن قيل: إِنَّمَا حملوه على هَذَا لِأَنَّهُ ثَبت بِالدَّلِيلِ صِحَة الصَّوْم بنية النَّهَار فَيجب ذَلِك التَّأْوِيل. قُلْنَا: يحمل على نفي الْفَضِيلَة الَّذِي هُوَ معنى قريب؛ لِأَن [لَا] النافية ترد كثيرا لنفي الْفَضِيلَة كَمَا ذَكرُوهُ فِي قَوْله: " لَا صَلَاة لمن يقْرَأ بِأم الْكتاب ". انْتهى. قَوْله: {و} من تأويلهم حَدِيث رَوَاهُ أَحْمد، وَابْن حبَان من حَدِيث أبي سعيد مَرْفُوعا أَنه قَالَ: {" ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه "} وَهُوَ يرْوى بِالرَّفْع على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2859 الْمَحْفُوظ، وَبِه ينتهض اسْتِدْلَال من اسْتدلَّ على أَنه يحل بِذَكَاة أمه إِذا لم يقدر على ذبحه، وَهُوَ مَذْهَبنَا، وَمذهب الشَّافِعِي، وَأَصْحَابه، وَغَيرهم. وَعند الْحَنَفِيَّة تجب ذَكَاة الْجَنِين مُطلقًا، ويروون الحَدِيث بِنصب ذَكَاة أمه على تَقْدِير كذكاة أمه، فنصب على إِسْقَاط الْخَافِض، وعَلى هَذَا يحملون رِوَايَة الرّفْع على حذف مُضَاف، أَي: مثل ذَكَاة أمه، ويوجهون النصب بتوجيه آخر، وَهُوَ أَنه مَنْصُوب على الْمَفْعُول الْمُطلق الْمُبين للنوع، وَالْعَامِل فِيهِ ذَكَاة الأول، وَالْخَبَر مَحْذُوف، أَي: وَاجِبَة، أَو لَازِمَة، أَو نَحْو ذَلِك. لَكِن الْجُمْهُور وهموا رِوَايَة النصب، وَقَالُوا: الْمَحْفُوظ الرّفْع كَمَا قَالَه الْخطابِيّ وَغَيره، إِمَّا لِأَن ذَكَاة الأول خبر مقدم، وذكاة الثَّانِي هُوَ الْمُبْتَدَأ، أَي: ذَكَاة أم الْجَنِين ذَكَاة لَهُ، وَإِلَّا لم يكن للجنين مزية، وَحَقِيقَة الْجَنِين مَا كَانَ فِي الْبَطن [وذبحه فِي الْبَطن] لَا يُمكن فَعلم أَنه لَيْسَ المُرَاد أَنه يذكى كذكاة أمه، بل إِن ذَكَاة أمه ذَكَاة لَهُ [و] كَافِيَة عَن تذكيته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2860 وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: " ذَكَاة الْجَنِين فِي ذَكَاة أمه "، وَفِي رِوَايَة: " بِذَكَاة " فالنصب إِن ثَبت فَهُوَ على حذف هَذَا الْخَافِض، لَا على حذف الْكَاف كَمَا زَعَمُوا. قَالَ ابْن عمرون: تقديرهم حذف الْكَاف لَيْسَ بِشَيْء؛ لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ جَوَاز قَوْلك: زيد عمرا، أَي: كعمرو. وَأَيْضًا فَحذف حرف الْخَفْض من غير سبق فعل يدل على التَّوَسُّع فِيهِ، وعَلى تَقْدِير صِحَة النصب فَيجوز أَن يكون على الظَّرْفِيَّة، أَي: وَقت ذَكَاة أمه فَحذف الْمُضَاف، وأقيم الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه، وَهَذَا دَلِيل للْجَمَاعَة؛ لِأَن الثَّانِي إِنَّمَا يكون وقتا للْأولِ، إِذا أغْنى الْفِعْل الثَّانِي عَن الأول ويرجح هَذَا التَّقْدِير مُوَافَقَته لرِوَايَة الرّفْع. قَوْله: وَمِنْه تأويلهم قَوْله تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الْأَنْفَال: 41] فِي آيتي الْفَيْء وَالْغنيمَة على الْفُقَرَاء مِنْهُم دون الْأَغْنِيَاء؛ لِأَن الْمَقْصُود دفع الْخلَّة، وَلَا خلة مَعَ الْغنى فعطلوا لفظ الْعُمُوم مَعَ ظُهُور أَن الْقَرَابَة هِيَ سَبَب استحقاقهم وَلَو مَعَ الْغنى لتعظيمها وتشريفها مَعَ إِضَافَته بلام التَّمْلِيك، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2861 وَلَا يلْزمنَا نَحن، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة ذَلِك فِي الْيَتِيم للْخلاف فِيهِ. فَإِن عللوا بالفقر وَلم تكن قرَابَة عطلوا لفظ ذِي الْقُرْبَى، وَإِن اعتبروهما مَعًا فَلَا يبعد، وغايته تَخْصِيص عُمُوم، كَمَا فعله الشَّافِعِي فِي أحد الْقَوْلَيْنِ فِي تَخْصِيص الْيَتَامَى بذوي الْحَاجة، لَكِن هُوَ أنزل من صَنِيع الشَّافِعِي فِي الْيَتَامَى من وَجْهَيْن، أَحدهمَا: أَنه زِيَادَة، وَأَبُو حنيفَة يَرَاهَا نسخا، والنسخ لَا يكون بِالْقِيَاسِ، واستنباط الْمَعْنى بِخِلَاف مَا قَالَ الشَّافِعِي فِي الْيَتَامَى فَإِنَّهُ لَا يرى الزِّيَادَة نسخا. وَالثَّانِي: أَن لفظ الْيَتِيم مَعَ قرينَة إِعْطَاء المَال مشْعر بِالْحَاجةِ فاعتباره مَأْخُوذ من نفس الْآيَة، واليتيم إِذا تجرد عَن الْحَاجة غير صَالح للتَّعْلِيل بِخِلَاف الْقَرَابَة فَإِنَّهَا مُنَاسبَة للإكرام بِاسْتِحْقَاق خمس الْخمس. قَوْله: {وَتَأْويل الْمَالِكِيَّة وَالشَّافِعِيَّة: " من ملك ذَا رحم محرم فَهُوَ حر " على عمودي نسبه} . هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2862 وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة، وَالطَّبَرَانِيّ، وَالتِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: لَا نعرفه مُسْندًا إِلَّا من حَدِيث حَمَّاد عَن قَتَادَة عَن الْحسن، وَتكلم فِيهِ غير وَاحِد من الْحفاظ. وَرُوِيَ من قَول عمر وَمن قَول الْحسن، وَقَالَ النَّسَائِيّ: مُنكر. فعلى تَقْدِير صِحَّته حمله بعض الشَّافِعِيَّة على الْأُصُول وَالْفُرُوع؛ لِأَن مَذْهَب الشَّافِعِي اخْتِصَاص الْعتْق بذلك، لَا مُطلق الرَّحِم، وَنَقله الْآمِدِيّ، وَتَبعهُ ابْن مُفْلِح عَن الْمَالِكِيَّة وَالشَّافِعِيَّة. وَإِنَّمَا كَانَ بَعيدا لصرفه اللَّفْظ الْعَام على بعض مدلولاته من غير دَلِيل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2863 قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: لعُمُوم اللَّفْظ وَظُهُور قَصده للتّنْبِيه على حُرْمَة الْمحرم وصلته. قَالَ الكوراني: فَإِن قلت: فَمَا وَجه مَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي إِذا لم يكن هَذَا التَّأْوِيل صَحِيحا عنْدكُمْ؟ قلت: لما دلّ الدَّلِيل على أَن الرّقّ لَا يَزُول إِلَّا بِالْعِتْقِ قَاس عتق الْأُصُول وَالْفُرُوع على وجوب النَّفَقَة؛ إِذْ لَا تجب عِنْده إِلَّا لِلْأُصُولِ وَالْفُرُوع، أَو بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح الْوَارِد فِي مُسلم: " لَا يُجزئ ولد وَالِده إِلَّا أَن يجده عبدا فيشتريه فيعتقه " أَي: بِنَفس الشِّرَاء وَقد وَافقه الْخصم على هَذَا، وبالآية الْكَرِيمَة فِي عتق الْوَلَد وَهِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا سُبْحَانَهُ بل عباد مكرمون} [الْأَنْبِيَاء: 26] وَجه الدّلَالَة أَنه تَعَالَى أبطل إِثْبَات الولدية بِإِثْبَات الْعُبُودِيَّة فَعلم أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ. انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ عَن أصل الْحمل: لَكِن لَيْسَ للشَّافِعِيّ احْتِيَاج إِلَى هَذَا الْحمل لثُبُوت الحكم، إِنَّمَا لَهُ أَدِلَّة أُخْرَى مَشْهُورَة فِي الْفُرُوع، مَعَ ضعف الحَدِيث من الأَصْل فَلَيْسَ هَذَا الْحمل بمرضي عِنْد الحذاق. تَنْبِيه: عِنْد الْعلمَاء أَمَاكِن كَثِيرَة من الْأَحَادِيث تأولت بتآويل غير مرضية يطول الْكتاب بذكرها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2864 (بَاب الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2865 فارغة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2866 (قَوْله: {بَاب الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم} ) اعْلَم أَن الْمَعْنى الْمُسْتَفَاد من اللَّفْظ إِن اسْتُفِيدَ من حَيْثُ النُّطْق بِهِ سمي منطوقا، أَو من حَيْثُ السُّكُوت اللَّازِم للفظ سمي مفهوما. قَوْله: {الدّلَالَة مَنْطُوق، وَمَفْهُوم} ، تقدم معنى الدّلَالَة وَأَنَّهَا مصدر دلّ، وَهِي كَون الشَّيْء يلْزم من فهمه فهم شَيْء آخر. وَمَا يفهم قد يكون من بَاب النُّطْق، وَقد يكون من بَاب غير النُّطْق، فالمنطوق هُوَ: مَا دلّ عَلَيْهِ اللَّفْظ فِي مَحل النُّطْق. وَهُوَ نَوْعَانِ: صَرِيح إِن وضع اللَّفْظ لَهُ، فَيدل عَلَيْهِ بالمطابقة أَو التضمن حَقِيقَة ومجازا على مَا تقدم من أَن التضمن لَفْظِي، وَتقدم الْخلاف فِيهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2867 وَغير صَرِيح، وَهُوَ مَا يلْزم عَنهُ، أَي: مَا دلّ عَلَيْهِ فِي غير مَا وضع لَهُ، وَإِنَّمَا يدل من حَيْثُ إِنَّه لَازم لَهُ، فَهُوَ دَال عَلَيْهِ بالالتزام، وَهُوَ ثَلَاثَة أَقسَام: اقْتِضَاء، وَإِشَارَة، وإيماء؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يكون مَقْصُودا للمتكلم، وَلَكِن يتَوَقَّف على مَا يُصَحِّحهُ، أَو لَا يتَوَقَّف، أَو يكون غير مَقْصُود للمتكلم. فَالْأول وَهُوَ مَا توقفت دلَالَته على مُقَدّر آخر، وجهات التَّوَقُّف ثَلَاث: مَا يتَوَقَّف فِيهِ صدق اللَّفْظ، وَمَا يتَوَقَّف فِيهِ صِحَة الحكم عقلا وَمَا يتَوَقَّف فِيهِ صِحَة الحكم شرعا. الأول: مثل قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ: " رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان "، فَإِن ذَات الْخَطَأ وَالنِّسْيَان لم يرتفعا فيتضمن مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الصدْق من لفظ الْإِثْم، والمؤاخذة، وَنَحْو ذَلِك. وَالثَّانِي: مثل قَوْله تَعَالَى: {وَسُئِلَ الْقرْيَة} [يُوسُف: 82] (واسأل العير) أَي: أهل الْقرْيَة وَأهل العير؛ إِذْ لَو لم يقدر ذَلِك لم يَصح ذَلِك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2868 عقلا؛ إِذْ الْقرْيَة، وَالْعير لَا يسألان. وَمثله: {أَن اضْرِب بعصاك الْبَحْر فانفلق} [الشُّعَرَاء: 63] أَي: فَضرب فانفلق، وَمثله: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} [الْبَقَرَة: 184] أَي: فَأفْطر فَعدَّة من أَيَّام أخر. وَالثَّالِث: كَقَوْل الْقَائِل: اعْتِقْ عَبدك عني على كَذَا، أَو مجَّانا، فَإِنَّهُ فِي الأول بيع ضمني، وَفِي الثَّانِي هبة ضمنية؛ لاستدعائه سبق الْملك لتوقف الْعتْق عَلَيْهِ فدلالة اللَّفْظ دلَالَة اقْتِضَاء. وَأما الثَّانِي - وَهُوَ مَا يكون غير مَقْصُود للمتكلم - فَهُوَ كَمَا رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " النِّسَاء ناقصات عقل وَدين "، قيل: وَمَا نُقْصَان دينهن؟ قَالَ: " تمكث إِحْدَاهُنَّ شطر عمرها لَا تصلي " لم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2869 يقْصد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَان أَكثر الْحيض وَأَقل الطُّهْر، لكنه لزم من اقْتِضَاء الْمُبَالغَة ذكر ذَلِك. وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} [الْأَحْقَاف: 15] مَعَ قَوْله تَعَالَى: {وفصاله فِي عَاميْنِ} [لُقْمَان: 14] يلْزم أَن أقل مُدَّة الْحمل سِتَّة أشهر، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم} [الْبَقَرَة: 187] يلْزم مِنْهُ جَوَاز الإصباح جنبا. وَقد حُكيَ هَذَا الاستنباط عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ من أَئِمَّة التَّابِعين. وَمثله قَوْله تَعَالَى: {فالئن باشروهن} إِلَى قَوْله: {حَتَّى يتَبَيَّن لكم} كل ذَلِك يُسمى دلَالَة إِشَارَة. قَوْله: {وَإِن لم يتَوَقَّف واقترن بِحكم لَو لم يكن لتعليله كَانَ بَعيدا} فيفهم مِنْهُ التَّعْلِيل، وَيدل عَلَيْهِ، وَإِن لم يُصَرح بِهِ؛ {وَيُسمى تَنْبِيها وإيماء} ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2870 وَسَيَأْتِي فِي بَاب الْقيَاس فِي الثَّانِي من مسالك الْعلَّة بأقسام مفصلة. تَنْبِيه: جعل دلَالَة الِاقْتِضَاء، وَالْإِشَارَة من أَقسَام الْمَنْطُوق، وَكَذَلِكَ دلَالَة التَّنْبِيه والإيماء، وَهِي طَريقَة ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح وَجَمَاعَة، وَنحن تابعناهم على ذَلِك، وَهُوَ خلاف مَا صرح بِهِ الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى "، وَجرى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره من كَونهَا أقساما للمفهوم. وقوى هَذَا بَعضهم، وَتعقب على ابْن الْحَاجِب مَا صنع مَعَ قَوْلنَا: أَن الْمَنْطُوق مَا دلّ فِي مَحل النُّطْق، وَالْمَفْهُوم فِي غير مَحل النُّطْق فَأَيْنَ دلَالَة مَحل النُّطْق فِي هَذَا؟ وَقد وَقع بَين القونوي والأصفهاني بحث فِي ذَلِك وكتبا فِيهِ رسالتين، وانتصر الْأَصْفَهَانِي لِابْنِ الْحَاجِب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2871 قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ الظَّاهِر؛ لِأَن للفظ دلَالَة عَلَيْهَا من حَيْثُ هُوَ مَنْطُوق بِخِلَاف الْمَفْهُوم فَإِنَّهُ إِنَّمَا يدل من [حَيْثُ] هُوَ قَضِيَّة عقلية خَارِجَة عَن اللَّفْظ. قَالَ بعض شُيُوخنَا: وَيُمكن أَن يَجْعَل ذَلِك وَاسِطَة بَين الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم؛ وَلِهَذَا اعْترف بهَا من يُنكر الْمَفْهُوم. قَوْله: {وَسمي فِي " الْعدة " الْإِضْمَار} إِلَى آخِره. قَالَ ابْن مُفْلِح: {وسمى فِي " الْعدة " الْإِضْمَار مَفْهُوم الْخطاب وفحواه، ولحنه، وَسَماهُ فِي " التَّمْهِيد " لحن الْخطاب، قَالَ: وَمعنى الْخطاب الْقيَاس، وسمى الْمُوفق} فِي " الرَّوْضَة " {مَا فهم مِنْهُ التَّعْلِيل إِيمَاء، وَإِشَارَة، وفحوى الْخطاب، ولحنه} . قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": فهم التَّعْلِيل من إِضَافَة الحكم إِلَى الْوَصْف الْمُنَاسب ك {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] يفهم مِنْهُ كَون السّرقَة عِلّة فَلَيْسَ بمنطوق، وَلَكِن يسْبق إِلَى الْفَهم من فحوى الْكَلَام، وَكَذَا قَوْله: {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم (13) وَإِن الْفجار لفي جحيم} [الانفطار: 13، 14] أَي: لبرهم، وفجورهم، وَهَذَا قد يُسمى إِيمَاء، وَإِشَارَة، وفحوى الْكَلَام ولحنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2872 وَهَذَا كُله مُجَرّد اصْطِلَاح. قَوْله: {فَائِدَتَانِ: الأولى: النَّص الصَّرِيح، زَاد القَاضِي، وَابْن الْبَنَّا: وَإِن احْتمل غَيره} . {و} قَالَ {الْمجد} بن تَيْمِية: {مَا أَفَادَ الحكم يَقِينا أَو ظَاهرا، وَنقل عَن أَحْمد وَالشَّافِعِيّ. وَقيل: يَقِينا} . {و} قَالَ {الْمُوفق} فِي " الرَّوْضَة ": {مَا أَفَادَ الحكم بِنَفسِهِ بِلَا احْتِمَال أَو احْتِمَال لَا دَلِيل عَلَيْهِ} . وَيُطلق على الظَّاهِر، وَلَا مَانع مِنْهُ فَإِنَّهُ فِي اللُّغَة الظُّهُور، فالنص لُغَة: الْكَشْف والظهور وَمِنْه: نصت الظبية رَأسهَا، أَي: رفعته وأظهرته، وَمِنْه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2873 منصة الْعَرُوس، وَقَالَهُ المطرزي. قَالَ أَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي: حد النَّص فِي الشَّرْع مَا عري لَفظه عَن الشّركَة وَمَعْنَاهُ عَن الشَّك. وَقَالَ آخَرُونَ: النَّص هُوَ الْخطاب الْوَاقِع على غير وَاحِد. قَالَ الْقَرَافِيّ: للنَّص ثَلَاثَة اصْطِلَاحَات: أَحدهَا: مَا لَا يحْتَمل التَّأْوِيل. الثَّانِي: مَا احتمله احْتِمَالا مرجوحا كَالظَّاهِرِ، وَهُوَ الْغَالِب فِي إِطْلَاق الْفُقَهَاء. الثَّالِث: مَا دلّ على معنى كَيفَ [مَا] كَانَ. انْتهى. وَزَاد ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره رَابِعا، وَهُوَ: دلَالَة الْكتاب وَالسّنة مُطلقًا، وَهُوَ اصْطِلَاح كثير من متأخري الخلافيين، وَعَلِيهِ مَشى الْبَيْضَاوِيّ فِي الْقيَاس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2874 قَالَ الْبرمَاوِيّ: كَمَا يُطلق النَّص فِي مُقَابلَة الظَّاهِر يُطلق أَيْضا فِي مُقَابلَة الاستنباط، فَيُقَال مثلا: دلّ عَلَيْهِ النَّص وَالْقِيَاس، فَهُوَ أَعم من أَن لَا يكون مَعَه احْتِمَال آخر، أَو مَعَه. وَهَذَا كَمَا سَيَأْتِي أَن الْعلَّة إِمَّا منصوصة، أَو مستنبطة، وَفِي أَن شَرط الْفَرْع أَن لَا يكون مَنْصُوصا، وَنَحْو ذَلِك، وَمن هَذَا قَوْلهم: نَص الشَّافِعِي [على] كَذَا فِي مُقَابلَة قَول مَرْجُوح أَو نَحوه يعنون أَعم من النَّص، وَالظَّاهِر. انْتهى. قَوْله: {الثَّانِيَة: قَالَ} أَبُو مُحَمَّد {الْجَوْزِيّ} فِي كتاب " الْإِيضَاح ": {الْمَقْطُوع بِهِ اللَّفْظ الدَّال دلَالَة لَا تحْتَمل التَّأْوِيل} . قَوْله: {وَمَفْهُوم} . هَذَا مَعْطُوف على قَوْلنَا فِي أول الْبَاب: الدّلَالَة مَنْطُوق، أَي: الدّلَالَة مَنْطُوق، وَمَفْهُوم. وَهُوَ {مَا دلّ عَلَيْهِ} اللَّفْظ {لَا فِي مَحل النُّطْق} ، وَإِن كَانَ فِي الأَصْل لكل مَا فهم من نطق، أَو غَيره؛ لِأَنَّهُ اسْم مفعول فهم يفهم، لَكِن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2875 اصْطَلحُوا على اخْتِصَاصه بِهَذَا، أَو هُوَ الْمَفْهُوم الْمُجَرّد الَّذِي لَا يسْتَند إِلَى النُّطْق، لَكِن فهم من غير تَصْرِيح بالتعبير عَنهُ، بل لَهُ استناد إِلَى طَرِيق عَقْلِي. ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي اسْتَفَادَ الحكم من الْمَفْهُوم مُطلقًا، هَل هُوَ بِدلَالَة الْعقل من جِهَة التَّخْصِيص بِالذكر، أم مُسْتَفَاد من اللَّفْظ؟ على قَوْلَيْنِ. قطع أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان " بِالثَّانِي فَإِن اللَّفْظ لَا يشْعر بِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا دلَالَته بِالْوَضْعِ، لَا شكّ أَن الْعَرَب لم تضع اللَّفْظ ليدل على شَيْء مسكوت عَنهُ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يشْعر بِهِ بطرِيق الْحَقِيقَة، أَو بطرِيق الْمجَاز، وَلَيْسَ الْمَفْهُوم وَاحِدًا مِنْهُمَا. وَلَا خلاف أَن دلَالَته لَيست وضعية، إِنَّمَا هِيَ إشارات ذهنية من بَاب التَّنْبِيه بِشَيْء على شَيْء. إِذا علم ذَلِك فالمفهوم نَوْعَانِ: أَحدهمَا: مَفْهُوم الْمُوَافقَة. وَالثَّانِي: مَفْهُوم الْمُخَالفَة. فمفهوم الْمُوَافقَة أَن يكون الْمَسْكُوت مُوَافقا لمنطوق فِي الحكم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2876 {وَيُسمى فحوى الْخطاب، ولحن الْخطاب} . فلحن الْخطاب مَا لَاحَ فِي أثْنَاء اللَّفْظ، قَالَ الْآمِدِيّ: أَي معنى الْخطاب. {زَاد} القَاضِي {فِي " الْعدة " و} أَبُو الْخطاب فِي {" التَّمْهِيد ": وَمَفْهُوم الْخطاب، وَسَماهُ الْمُوفق فحواه، وسمى جمَاعَة} - مِنْهُم: التَّاج السُّبْكِيّ، والبيضاوي - {لحن الْخطاب} . {وَالْأولَى فحواه} ، وَيَأْتِي قَرِيبا، مِثَال فحوى الْخطاب مَا يفهم مِنْهُ بطرِيق الْقطع، كدلالة تَحْرِيم التأفيف على تَحْرِيم الضَّرْب، فَهُوَ أولى مِنْهُ بِالتَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ أَشد مِنْهُ. وَمِثَال لحن الْخطاب أَي: معنى الْخطاب مَأْخُوذ من قَوْله تَعَالَى: {ولتعرفنهم فِي لحن القَوْل} [مُحَمَّد: 30] أَي: فِي مَعْنَاهُ، كتحريم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2877 إحراق مَال الْيَتِيم الدَّال عَلَيْهِ نظرا فِي الْمَعْنى قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال الْيَتَامَى ظلما} [النِّسَاء: 10] فالإحراق مسَاوٍ لأكل مَالهم بِوَاسِطَة الْإِتْلَاف فِي الصُّورَتَيْنِ. فَسَماهُ بَعضهم كَمَا تقدم لحن الْخطاب، وَالَّذِي قبله فحوى الْخطاب. قَالَ الْبرمَاوِيّ: أما تَسْمِيَة الأولوي بفحوى الْخطاب، والمساوي بلحن الْخطاب فَعَلَيهِ قوم من أَصْحَابنَا، وَبَعْضهمْ يُسَمِّي الأولوي بالاسمين مَعًا. وَحكى الْمَاوَرْدِيّ فِي الْفرق بَينهمَا وَجْهَيْن: أَحدهمَا: مَا سبق. وَالثَّانِي: أَن الفحوى مَا نبه عَلَيْهِ اللَّفْظ، واللحن مَا يكون محالا على غير المُرَاد فِي الأَصْل والوضع، وَالْمَفْهُوم مَا يكون المُرَاد بِهِ الْمظهر والمسقط. انْتهى. إِذا عرفت ذَلِك فتحريم الضَّرْب من قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} [الْإِسْرَاء: 23] من بَاب التَّنْبِيه بالأدنى، وَهُوَ التأفيف على الْأَعْلَى وَهُوَ الضَّرْب، وتأدية مَا دون القنطار من قَوْله تَعَالَى: {يؤده إِلَيْك} [آل عمرَان: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2878 75 - ] فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن أهل الْكتاب من إِن تأمنه بقنطار يؤده إِلَيْك} من بَاب التَّنْبِيه بالأعلى وَهُوَ تأدية القنطار على الْأَدْنَى، وَهُوَ تأدية مَا دونه. هَكَذَا قَالَ جمَاعَة، مِنْهُم الْآمِدِيّ فِي " الْمُنْتَهى ". وَقَالَ الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": حَقِيقَة مَفْهُوم الْمُوَافقَة لَا تنفك عَن التَّنْبِيه بالأدنى على الْأَعْلَى، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} ، {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره (7) وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} [الزلزلة: 7، 8] ، {وَمن أهل الْكتاب من إِن تأمنه بقنطار يؤده إِلَيْك وَمِنْهُم من إِن تأمنه بِدِينَار لَا يؤده إِلَيْك} فَإِن التأفيف والذرة وَالدِّينَار تدل على أَن الحكم فِي الْأَعْلَى بِالطَّرِيقِ الأولى. وَفِي " الْمُنْتَهى " هُوَ التَّنْبِيه بالأدنى على الْأَعْلَى، وبالأعلى على الْأَدْنَى، وَحذف الثَّانِي فِي " الْمُخْتَصر "، وَاقْتصر على الْقسم الأول؛ لِأَنَّهُ يُوجد معنى الْأَدْنَى على وَجه يَشْمَل معنى الْأَعْلَى كالمناسبة، مثلا يُقَال: التأفيف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2879 أدنى مُنَاسبَة بِالتَّحْرِيمِ من الضَّرْب، والذرة أدنى مُنَاسبَة بالجزاء من الدِّينَار وَالدِّرْهَم، وَالْقِنْطَار، وَإِن كَانَ أَعلَى من الدِّينَار لكنه أدنى مُنَاسبَة للتأدية من الدِّينَار، فيكتفي بالأدنى على الْأَعْلَى؛ لاندراج الْكل تَحْتَهُ، وَإِذا كَانَ الْمَذْكُور أدنى مُنَاسبَة كَانَ الْمَسْكُوت عَنهُ أَشد مُنَاسبَة بالحكم، وَهَذَا مَبْنِيّ على أَن لَا تعد الْمُسَاوَاة من مَفْهُوم الْمُوَافقَة كالاستدلال بِحرْمَة أكل مَال الْيَتِيم على حُرْمَة إحراق مَاله؛ إِذْ لَا مزية فِي اسْتِحْقَاق الْإِثْم لأَحَدهمَا على الآخر، وَقد عدده الْغَزالِيّ مِنْهُ. قَوْله: {وَشَرطه فهم الْمَعْنى فِي مَحل النُّطْق، وَأَنه أولى، أَو مسَاوٍ، وَقيل: لَا يكون مُسَاوِيا وَهُوَ لَفْظِي} . نَص الْغَزالِيّ وَغَيره أَنه مُجَرّد ذكر الْأَدْنَى لَا يحصل مِنْهُ التَّنْبِيه على الْأَعْلَى مَا لم يعلم الْمَقْصُود من الْكَلَام، وَمَا سيق لَهُ فلولا معرفتنا بِأَن الْآيَة إِنَّمَا سيقت لتعظيم الْوَالِدين لما فهمنا حُرْمَة الضَّرْب من قَوْله: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} إِذْ قد يَأْمر السُّلْطَان بقتل إِنْسَان وَيَقُول لَهُ: لَا تقل لَهُ أُفٍّ، وَلَكِن اضْرِب عُنُقه. انْتهى. وَقَالَ الشَّيْخ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " والطوفي وَغَيرهمَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2880 وَالصَّحِيح أَن مَفْهُوم الْمُوَافقَة قِسْمَانِ: قسم يكون أولى بالحكم، وَهُوَ الْأَكْثَر، وَقسم يكون مُسَاوِيا، وَقد تقدم مثالهما. وَهَذَا عَلَيْهِ الْأَكْثَر، مِنْهُم: الْغَزالِيّ، والرازي، وَأَتْبَاعه، وَهُوَ ظَاهر استدلالات الْأَئِمَّة. وَقيل: لَا يكون مَفْهُوم الْمُوَافقَة مُسَاوِيا للمنطوق، وَهُوَ مُقْتَضى نقل إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن الشَّافِعِي، وَعَزاهُ الْهِنْدِيّ للْأَكْثَر، وَبِه قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَغَيره من الشَّافِعِيَّة وَإِن كَانَ مثل الأولى فِي الِاحْتِجَاج بِهِ قَالُوا: وَالْخلاف فِي التَّسْمِيَة فَقَط، وَأما الِاحْتِجَاج فيحتج بالمساوي كاحتجاجهم بِالْأولَى، وَلذَلِك قُلْنَا وَهُوَ لَفْظِي، أَي: الْخلاف فِي اللَّفْظ لَا فِي الْمَعْنى. قَوْله: {وَهُوَ حجَّة عِنْد الْعلمَاء} . قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ حجَّة، ذكره بَعضهم إِجْمَاعًا لتبادر فهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2881 الْعُقَلَاء، وَاخْتلف النَّقْل عَن دَاوُد. قَوْله: {ودلالته لفظية} . اخْتلف الْعلمَاء فِي دلَالَة مَفْهُوم الْمُوَافقَة هَل هِيَ لفظية، أَو قِيَاس؟ على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَن دلَالَته لفظية، وَهُوَ الصَّحِيح، نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَقَالَهُ من أَصْحَابه القَاضِي أَبُو يعلى، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَابْن عقيل، وَحَكَاهُ عَن أَصْحَابنَا، وَاخْتَارَهُ أَيْضا الْحَنَفِيَّة، والمالكية، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2882 وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَجَمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين، والظاهرية، وَجرى عَلَيْهِ ابْن الْحَاجِب، والبيضاوي تبعا لأصليهما، وَنَقله سليم فِي " التَّقْرِيب " عَن الْمُتَكَلِّمين بأسرهم من الأشعرية والمعتزلة، وَسَماهُ الْحَنَفِيَّة دلَالَة النَّص. وَاسْتدلَّ لهَذَا الْمَذْهَب بِأَنَّهُ يفهم لُغَة قبل شرع الْقيَاس ولاندراج أَصله فِي فَرعه، نَحْو: لَا تعطه ذره. وَاحْتج ابْن عقيل وَغَيره بِأَنَّهُ لَا يحسن الِاسْتِفْهَام، ويشترك فِي فهمه اللّغَوِيّ وَغَيره بِلَا قرينَة. ثمَّ لَهُم على هَذَا القَوْل مذهبان: أَحدهمَا: أَنَّهَا لفظية فهمت من السِّيَاق والقرائن، وَهُوَ قَول الْغَزالِيّ والآمدي، وَقَوله فِي " جمع الْجَوَامِع " عَنْهُمَا فهمت من السِّيَاق والقرائن، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2883 وَهِي مجازية من إِطْلَاق الْأَخَص على الْأَعَمّ، هُوَ مِمَّا تصرف فِيهِ من نَفسه، وَإِلَّا فَلَيْسَ هَذَا من كَلَام الْغَزالِيّ والآمدي، وَإِنَّمَا كَلَامهمَا أَنَّهَا فهمت من السِّيَاق والقرائن لَا غَيره. وَقد رَأَيْت كَلَام الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى " فَلَيْسَ فِيهِ ذكر الْمجَاز أَلْبَتَّة، وَلِهَذَا قَالَ الكوراني: وَلَيْسَ فِي كَلَام الْغَزالِيّ ذكر الْمجَاز لَا صَرِيحًا، وَلَا كِنَايَة، قَالَ: وَمَا زَعمه المُصَنّف - يَعْنِي ابْن السُّبْكِيّ - من أَن الدّلَالَة الْمَذْكُورَة مجازية غير مُسْتَقِيم؛ لِأَن الْمجَاز اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي غير مَا وضع لَهُ لعلاقة بَين الْمَعْنيين، أَو الْكَلِمَة المستعملة فِي غير مَا وضع لَهُ، لعلاقة مَعَ قرينَة دَالَّة على عدم جَوَاز إِرَادَة مَا وضع لَهُ وَلَا شكّ أَن قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} مُسْتَعْمل فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ، غَايَته أَنه علم مِنْهُ حُرْمَة الضَّرْب بقرائن الْأَحْوَال، وَسِيَاق الْكَلَام، وَاللَّفْظ لَا يصير بذلك مجَازًا، فَكَأَنَّهُ لم يفرق بَين الْقَرِينَة المفيدة للدلالة والقرينة الْمَانِعَة من إِرَادَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ، وَالثَّانيَِة هِيَ اللَّازِمَة للمجاز دون الأولى. انْتهى. وَقد أَجَاد ثمَّ قَالَ: وَالْعجب أَن شرَّاح كَلَامه لم ينتبهوا لهَذَا مَعَ ظُهُوره. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2884 وَظَاهر كَلَام ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شَرحه " أَنه جعل قَوْله: (وَهِي مجازية) إِلَى آخِره من كَلَام الْغَزالِيّ، والآمدي، وَلَيْسَ كَذَلِك لما ذكرنَا. وَأما الْمحلي فِي " شَرحه " فتردد فِي ذَلِك هَل هُوَ من كَلَامهمَا أَو من كَلَام المُصَنّف؟ وَلَو عاود كَلَام الْغَزالِيّ، والآمدي؛ لعلم أَن هَذَا الْكَلَام لَيْسَ من كَلَامهمَا، وَإِنَّمَا هُوَ من تَصَرُّفَات المُصَنّف. الْمَذْهَب الثَّانِي: أَن اللَّفْظ لَهَا عرفا، فَهِيَ لفظية حَقِيقَة. نقل اللَّفْظ فِي الْعرف من وَضعه الْأَصْلِيّ لثُبُوت الحكم فِي الْمَذْكُور خَاصَّة إِلَى ثُبُوت الحكم فِي الْمَذْكُور، والمسكوت مَعًا. قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ. ثمَّ قَالَ: قَالَ الشَّارِح - وَهُوَ الزَّرْكَشِيّ -: وَهَذَا الَّذِي أَخّرهُ المُصَنّف وَضَعفه هُوَ الَّذِي ذكره المُصَنّف فِي الْعُمُوم حَيْثُ قَالَ: وَقد يعم اللَّفْظ عرفا كالفحوى. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: قلت لَعَلَّه مثل بِهِ هُنَاكَ لهَذَا الْقسم على رَأْي مَرْجُوح. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2885 لَكِن قَالَ الكوراني عَن هَذَا القَوْل: يَعْنِي ذهبت طَائِفَة إِلَى أَن اللَّفْظ صَار حَقِيقَة عرفية فِي الْمَعْنى الالتزامي الَّذِي هُوَ الضَّرْب فِي مثل قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره} صَار اللَّفْظ حَقِيقَة فِي المجازاة فِي الْأَكْثَر. ثمَّ قَالَ: وَهَذَا القَوْل بَاطِل؛ لِأَن الْمُفْردَات كلهَا مستعملة فِي مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّة بِلَا ريب مَعَ إِجْمَاع السّلف على أَن فِي الْأَمْثِلَة الْمَذْكُورَة إِلْحَاقًا لفرع بِأَصْل، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي أَن ذَلِك بِالشَّرْعِ أَو باللغة، وَعند الْحَنَفِيَّة، يُسمى دلَالَة النَّص وهم مجمعون على أَن هَذِه الدّلَالَة تفهم لُغَة، وَلَا حَاجَة إِلَى مُلَاحظَة الشَّرْع فِي ذَلِك. انْتهى. {وَعند الشَّافِعِي وَأكْثر أَصْحَابه، وَابْن أبي مُوسَى، والجوزي، وَأبي الْخطاب، والحلواني، وَالْفَخْر} إِسْمَاعِيل، والطوفي من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2886 أَصْحَابنَا {قِيَاس جلي} ؛ لِأَنَّهُ لم يلفظ بِهِ، وَإِنَّمَا حكم بِالْمَعْنَى الْمُشْتَرك فَهُوَ من بَاب الْقيَاس قيس الْمَسْكُوت على الْمَذْكُور قِيَاسا جليا؛ فَإِنَّهُ إِلْحَاق فرع بِأَصْل لَعَلَّه مستنبطة فَيكون قِيَاسا شَرْعِيًّا لصدق حَده عَلَيْهِ كَمَا سَمَّاهُ الشَّافِعِي بذلك فَإِنَّهُ يشْتَرط فِي الْقيَاس الْجَلِيّ كَون الحكم فِي الْمَقِيس أولى من الْمَقِيس عَلَيْهِ. ورد: بِأَن الْمَعْنى شَرط لدلَالَة الملفوظ عَلَيْهِ لُغَة بِخِلَاف الْقيَاس. وَقَالَ الْمجد بن تَيْمِية: إِن قصد التَّنْبِيه فَلَيْسَ قِيَاسا؛ لِأَنَّهُ المُرَاد، وَإِن قصد الْأَدْنَى فَقِيَاس. قَالَ الْبرمَاوِيّ: الِاحْتِجَاج فِي مثل صُورَة الفحوى الْمَذْكُورَة على الْمَسْكُوت بِحكم الْمَذْكُور هَل هُوَ بطرِيق الْمَفْهُوم، أَو بطرِيق آخر؟ وَإِذا قُلْنَا بطرِيق آخر فَمَا هُوَ؟ وَحَاصِل مَا فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال، مَعَ الأول تصير أَرْبَعَة: الأول مِنْهَا: بِالْمَفْهُومِ، وَهُوَ الْمَشْهُور. وَالثَّانِي: إِنَّه من بَاب الْقيَاس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2887 وَالثَّالِث: إِن اللَّفْظ الدَّال على الْأَخَص نقل عرفا إِلَى الْأَعَمّ، فَنقل: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} إِلَى معنى وَلَا تؤذهما. وَالرَّابِع: إِنَّه أطلق على الْأَعَمّ إطلاقا مجازيا من بَاب إِطْلَاق الْأَخَص على الْأَعَمّ، وَلم يبلغ فِي الاشتهار أَن يصير حَقِيقَة عرفية، وَإِنَّمَا دلّ على إِرَادَة الْمجَاز فِيهِ السِّيَاق والقرائن. وَقَالَ بِهِ كثير من الْمُحَقِّقين كالغزالي فِي مَوضِع، وَإِن كَانَ فِي مَوضِع أطلق أَن النَّص دلّ عَلَيْهِ بالفحوى، فَإِنَّهُ جرى هُنَا على الْمَشْهُور، وحقق هُنَاكَ، قَالَ: وَالْحق أَن لَهُ جِهَتَيْنِ: جِهَة هُوَ بهَا قِيَاس حَقِيقَة، وجهة هُوَ بهَا مُسْتَند إِلَى اللَّفْظ، وَلَا امْتنَاع أَن يكون للشَّيْء اعتباران، فَلذَلِك أجمع على القَوْل بِهِ مثبتو الْقيَاس ومنكروه كل نظر إِلَى جِهَة. فَائِدَة: اخْتلف هَل لهَذَا الْخلاف - أَعنِي هَل هُوَ لَفْظِي أَو قِيَاس - فَائِدَة، أَو الْخلاف لَفْظِي؟ قيل: الْخلاف لَفْظِي، وَالصَّحِيح خِلَافه، بل من فَوَائده أَنه إِذا قُلْنَا دلَالَته لفظية يجوز النّسخ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا. وَمِنْهَا: أَنه يقدم عَلَيْهِ الْخَبَر إِن كَانَ قِيَاسا، وَإِلَّا فَلَا، قَالَه فِي " المنخول ". وَقَالَ الْأُسْتَاذ: وَهُوَ قِيَاس، وَلَا يقدم عَلَيْهِ الْخَبَر، وَهُوَ أقوى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2888 قَوْله: {وَهُوَ قَطْعِيّ كرهن مصحف عِنْد ذمِّي، وظني كشفعة ذمِّي، وَنفي الْفَخر الْقطعِي} . مِثَال الْقطعِي: مَا احْتج بِهِ الإِمَام أَحْمد فِي رهن الْمُصحف عِنْد الذِّمِّيّ بنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن السّفر بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض الْعَدو مَخَافَة أَن تناله أَيْديهم فَهَذَا قَاطع، وَكَذَلِكَ الْأَمْثِلَة الْمُتَقَدّمَة فَإِنَّهَا قَطْعِيَّة. والقطعي كَون التَّعْلِيل بِالْمَعْنَى، وَكَونه أَشد مُنَاسبَة للفرع قطعيين. وَمِثَال الظني: مَا احْتج بِهِ الإِمَام أَحْمد فِي أَنه لَا شُفْعَة لذِمِّيّ على مُسلم، بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " وَإِذا لقيتموهم فِي طَرِيق فاضطروهم إِلَى أضيقه " فَهَذَا مظنون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2889 وَكَذَا شَهَادَة الْكَافِر، وَإِيجَاب الْكَفَّارَة فِي قتل الْعمد، وَيَمِين الْغمُوس على مَا يَأْتِي بعد هَذَا. وَزعم أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ الْفَخر إِسْمَاعِيل من أَصْحَابنَا فِي جدله أَنه لَيْسَ فِيهِ قَطْعِيّ؛ لاحْتِمَال أَن يكون المُرَاد فِي مَفْهُوم الْمُوَافقَة غير مَا عللوه بِهِ. وَالْأَكْثَر على خِلَافه. قَوْله: {وَإِذا ردَّتْ شَهَادَة فَاسق فكافر أولى، فظني وَقيل: فَاسد} . تقدم حد الْقطعِي، وَأما الظني فَهُوَ مَا إِذا كَانَ التَّعْلِيل فيهمَا ظنيا، وَكَونه أَشد مُنَاسبَة للفرع ظنيا، فَإِن كَانَا قطعيين فقطعي وَإِن كَانَ أَحدهمَا ظنيا فظني. مِثَال الظني قَوْلهم: إِذا ردَّتْ شَهَادَة الْفَاسِق فالكافر أولى برد شَهَادَته؛ إِذْ الْكفْر فسق وَزِيَادَة، فَهُوَ ظَنِّي على الصَّحِيح، اخْتَارَهُ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي فِي " مُخْتَصره "، و " شَرحه "، وَابْن الْحَاجِب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2890 وَغَيرهم؛ لِأَنَّهُ وَاقع فِي مَحل الِاجْتِهَاد، إِذْ يجوز أَن يكون الْكَافِر عدلا فِي دينه فيتحرى الصدْق، وَالْأَمَانَة، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِن الْكَافِر الْعدْل فِي دينه يَلِي مَال وَلَده على الصَّحِيح من الْوَجْهَيْنِ، بِخِلَاف الْمُسلم الْفَاسِق، فَإِن مُسْتَند قبُول شَهَادَته الْعَدَالَة، وَهِي مفقودة، فَهُوَ فِي مَظَنَّة الْكَذِب؛ إِذْ لَا وازع لَهُ عَنهُ، فَهَذَا ظَنِّي غير قَاطع. وَقيل: فَاسد، ذكره ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "؛ لِأَن التَّعْلِيل بِكَوْن الْكَافِر أولى بِالرَّدِّ مَرْدُود لما تقدم. قَوْله: {وَكَذَا إِيجَاب كَفَّارَة فِي قتل عمد، وَيَمِين غموس} ، يَعْنِي: أَن ذَلِك ظَنِّي، واختصاص قتل الْعمد بِسُقُوط الْكَفَّارَة دون الْخَطَأ إِنَّمَا كَانَ ذَلِك لمسقط مُنَاسِب وَهُوَ عظم الذَّنب، فَهُوَ أعظم من أَن يكفر، كاليمين الْغمُوس، وَهِي الْيَمين الكاذبة؛ لِأَنَّهَا أعظم من أَن تكفر، وَلذَلِك سميت غموسا؛ لِأَنَّهَا تغمس صَاحبهَا فِي النَّار، بِخِلَاف بَقِيَّة الْأَيْمَان، فَإِن الْحَالِف لم يتَعَمَّد الْكَذِب فِيهَا حَتَّى يحصل لَهُ ذَلِك، فَهَذَا أَيْضا ظَنِّي غير قَاطع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2891 وَقيل: فَاسد، ذكره ابْن مُفْلِح، وَعند الإِمَام الشَّافِعِي تجب الْكَفَّارَة فِي قتل الْعمد، وَالْيَمِين الْغمُوس، وَقَالَهُ أَصْحَابه. وَقَالُوا: إِن الْكَفَّارَة شرعت للرجز لَا للجبر، وزجر الْمُتَعَمد أَحَق من الْمُخطئ. قَوْله: {وَإِذا جَازَ السّلم مُؤَجّلا فحال أولى لبعده من الْغرَر وَهُوَ الْمَانِع فَاسد} . مَفْهُوم الْمُوَافقَة إِمَّا قَاطع كآية التأفيف، وَنَحْوهَا، أَو ظَنِّي، ثمَّ الظني إِمَّا صَحِيح وَاقع فِي مَحل الِاجْتِهَاد كرد الشَّهَادَة، وَوُجُوب الْكَفَّارَة كَمَا ذكر، أَو فَاسد، كَقَوْلِه: إِذا جَازَ السّلم مُؤَجّلا فَهُوَ حَال أجوز لبعده من الْغرَر؛ إِذْ الْمُؤَجل على غرر، هَل يحصل أَو لَا يحصل؟ وَالْحَال مُتَحَقق الْحُصُول فِي الْحَال فَهُوَ أولى بِالصِّحَّةِ، لَكِن هَذَا مَرْدُود بِأَن الْغرَر فِي الْعُقُود مَانع من الصِّحَّة لَا مُقْتَض لَهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2892 وَالْحكم إِنَّمَا يثبت لوُجُود مقتضيه ومصححه، لَا لانْتِفَاء مانعه؛ إِذْ قد سبق أَن الْمَانِع يلْزم من وجوده الْعَدَم، وَلَا يلْزم من عَدمه وجود وَلَا عدم، والمقتضى لصِحَّة السّلم هُوَ الارتفاق بالأجل على مَا قرر فِي كتب الْفُرُوع: كالأجل فِي الْكِتَابَة، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْحَال، وَالْغرر مَانع لَهُ، لكنه احْتمل فِي الْمُؤَجل رخصَة وتحقيقا للمقتضي وَهُوَ الارتفاق. وَالله أعلم. وَعند الشَّافِعِي وَأَصْحَابه يَصح؛ لِأَن بيع مَا فِي الذِّمَّة لَهُ فَوَائِد، جوز السّلم لأَجلهَا، وَتلك مَوْجُودَة فِي الْحَال، كَمَا فِي الْمُؤَجل مَعَ كَونه أقل خطرا وغررا. قَوْله: {وَإِن خَالف فمفهوم مُخَالفَة وَيُسمى دَلِيل الْخطاب} . قد تقدم أَن الْمَفْهُوم نَوْعَانِ: مَفْهُوم مُوَافقَة تقدّمت أَحْكَامه، وَمَفْهُوم مُخَالفَة، وَهُوَ أَن الْمَسْكُوت مُخَالف فِي الحكم، وَيُسمى هَذَا النَّوْع دَلِيل الْخطاب، وَإِنَّمَا سمى بذلك؛ لِأَن دلَالَته من جنس دلالات الْخطاب، أَو لِأَن الْخطاب دَال عَلَيْهِ، أَو لمُخَالفَته منظوم الْخطاب. وَمِنْهُم من يُسَمِّيه لحن الْخطاب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2893 وَقَوله: {وَشَرطه أَن لَا تظهر أَوْلَوِيَّة وَلَا مُسَاوَاة} ، أَي: يشْتَرط فِي الْعَمَل بِمَفْهُوم الْمُخَالفَة وَهُوَ إِثْبَات خلاف الْمَذْكُور للمسكوت شُرُوط بَعْضهَا رَاجع للمسكوت، وَبَعضهَا للمذكور. فَمن الأول مَا بَدَأَ بِهِ ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهمَا، وتابعناهم أَن لَا تظهر فِيهِ أَوْلَوِيَّة بالحكم من الْمَذْكُور، وَلَا مُسَاوَاة، فَإِن كَانَ كَذَلِك كَانَ حِينَئِذٍ مَفْهُوم الْمُوَافقَة - كَمَا سبق - لَا مَفْهُوم الْمُخَالفَة. {و} من الثَّانِي أَن {لَا} يكون {خرج مخرج الْغَالِب} ، أَي: لَا يكون ذكر لكَونه الْغَالِب عَادَة، فَأَما إِن جرى على الْغَالِب فَإِنَّهُ لَا يعْتَبر مَفْهُومه، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم من نِسَائِكُم} [النِّسَاء: 23] فتقييد تَحْرِيم الربيبة بِكَوْنِهَا فِي حجره لكَونه الْغَالِب، فَلَا يدل على حل الربيبة الَّتِي لَيست فِي حجره عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء، مِنْهُم الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2894 وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَمن قَتله مِنْكُم مُتَعَمدا} [الْمَائِدَة: 95] ، {فَإِن خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا} [الْبَقَرَة: 229] ، وَقَوله: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت نَفسهَا بِغَيْر إِذن وَليهَا " وَنَحْوه. قَالَ الْآمِدِيّ: وَلَا خرج مخرج الْغَالِب اتِّفَاقًا. وَقَالَ دَاوُد: إِنَّه شَرط فِي تَحْرِيم الربيبة، وَمِمَّنْ قَالَ بذلك أَيْضا عَليّ بن أبي طَالب، نَقله عَنهُ ألكيا الطَّبَرِيّ فِي أَحْكَامه. {وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: لَهُ مَفْهُوم} تَرْجِيحا لما اسْتَقر بِهِ اللَّفْظ على أكثريته الْعُرْفِيَّة. وَقَالَ: الْمَفْهُوم من مقتضيات اللَّفْظ فَلَا يسْقطهُ مُوَافقَة الْغَالِب. وَقد قَالَ مَالك بِاعْتِبَارِهِ فَلم يحرم الربيبة الْكَبِيرَة وَقت التَّزَوُّج بأمها فِي قَوْله لَهُ؛ لِأَنَّهَا لَيست فِي حجره، وَقَالَ بِهِ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - فِيمَا أخرجه ابْن أبي حَاتِم فِي تَفْسِيره. وَقَالَ ابْن عبد السَّلَام: الْقَاعِدَة تَقْتَضِي الْعَكْس، وَهُوَ أَن الْوَصْف إِذا خرج مخرج الْغَالِب يكون لَهُ مَفْهُوم بِخِلَاف مَا إِذا لم يكن غَالِبا؛ وَذَلِكَ لِأَن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2895 الْوَصْف الْغَالِب على الْحَقِيقَة تدل الْعَادة على ثُبُوته لَهَا عِنْد ذكر اسْمه، فَذكره لَهُ إِنَّمَا هُوَ ليدل على سلب الحكم عَمَّا عداهُ؛ لانحصار غَرَضه فِيهِ، ذكره السُّيُوطِيّ فِي شرح منظومته " جمع الْجَوَامِع "، فَليُرَاجع ويكمل. وَقَالَ الْمجد فِي " المسودة ": يظْهر أَنه من مسالك التَّأْوِيل فيخف على المتأول مَا يبديه من الدَّلِيل العاضد. قَوْله: {فعلى الأول لَا يعم} ، وَهُوَ القَوْل بِأَن من شَرطه أَن لَا يكون خرج مخرج الْغَالِب فَإِنَّهُ لَا يعم، وَلِهَذَا احْتج الْعلمَاء من أَصْحَابنَا وَغَيرهم لداود على اخْتِصَاص تَحْرِيم الربيبة بِالْحجرِ لِلْآيَةِ، وَأَجَابُوا بِأَنَّهُ لَا حجَّة فِيهَا؛ لخروجها على الْغَالِب. وَقَالَ الْمُوفق فِي " الْمُغنِي ": تجوز خطْبَة مُسلم على ذمِّي، فَقيل لَهُ النَّهْي على الْغَالِب، فَقَالَ: هُوَ خَاص بِالْمُسلمِ وإلحاق غَيره بِهِ إِنَّمَا يَصح إِذا كَانَ مثله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2896 وَاحْتج أَبُو الْخطاب فِي الِانْتِصَار [على نشر الْحُرْمَة] بِلَبن الْميتَة بقوله: {وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم} [النِّسَاء: 23] فَقيل لَهُ الْآيَة حجتنا؛ لاقتضائها تعلق التَّحْرِيم بِفِعْلِهَا للإرضاع، فَقَالَ: علقه؛ لِأَنَّهُ الْغَالِب كالربيبة، وَلِهَذَا لَو حلب مِنْهَا ثمَّ سقِِي نشر. وَأجَاب أَبُو الْفَتْح ابْن الْمَنِيّ من أَصْحَابنَا من احْتج لصِحَّة نِكَاح بِلَا إِذن بِالْمَفْهُومِ بِأَن الْمَفْهُوم لَيْسَ بِحجَّة على أصلنَا، ثمَّ هَذَا خرج مخرج الْغَالِب فَيعم، وَيصير كَقَوْلِه: {وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم من نِسَائِكُم} [النِّسَاء: 23] لما خرج مخرج الْغَالِب عَم. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ. قَوْله: {وَلَا خرج جَوَابا لسؤال} ، فَإِن خرج جَوَابا لسؤال فَلَا مَفْهُوم لَهُ. ذكره الْمجد فِي " شرح الْهِدَايَة " فِي صَلَاة التَّطَوُّع اتِّفَاقًا. مثل أَن يسْأَل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هَل فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة؟ فَلَا يلْزم من جَوَاب السُّؤَال عَن إِحْدَى الصفتين أَن يكون الحكم على الضِّدّ فِي الْأُخْرَى؛ لظُهُور فَائِدَة فِي الذّكر غير الحكم بالضد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2897 وَذكر القَاضِي فِي ذَلِك احْتِمَالَيْنِ أَحدهمَا كَالْأولِ، وَالِاحْتِمَال الثَّانِي أَنه من بَاب وُرُود الْعَام على سُؤال أَو حَادِثَة صارفا لَهُ عَن عُمُومه. قَوْله: {زَاد الشَّيْخ أَو حَاجَة إِلَى بَيَان} . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: إِن تقدم مَا يَقْتَضِي التَّخْصِيص من سُؤال أَو حَاجَة إِلَى بَيَان، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن الله قد أعْطى كل ذِي حق حَقه فَلَا وَصِيَّة لوَارث " فَلَا مَفْهُوم لَهُ. وَاحْتج بِهِ القَاضِي وَغَيره من الْمَالِكِيَّة وَالشَّافِعِيَّة على الْوَصِيَّة للْقَاتِل، وَهِي دلَالَة ضَعِيفَة، هَذَا كَلَامه. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ حسن. تَنْبِيه: هُنَا سُؤال، وَهُوَ أَنه: لم جعلُوا هُنَا السُّؤَال والحادثة قرينَة صارفة عَن القَوْل بضد الحكم فِي الْمَسْكُوت، وَلم يجْعَلُوا ذَلِك فِي وُرُود الْعَام على سُؤال أَو حَادِثَة صارفا لَهُ عَن عُمُومه على الْأَرْجَح، بل لم يجروا هُنَا مَا أجروه هُنَاكَ من الْخلاف فِي أَن الْعبْرَة بِعُمُوم اللَّفْظ، أَو بِخُصُوص السَّبَب، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2898 وَإِن كَانَ حكى عَن القَاضِي أبي يعلى فِيهِ احْتِمَالَيْنِ. وَقد يُجَاب بِأَن الْمَفْهُوم لما ضعف عَن الْمَنْطُوق فِي الدّلَالَة انْدفع بذلك، وَنَحْوه، وَقُوَّة اللَّفْظ فِي الْعَام بِخِلَاف ذَلِك حَتَّى إِن الْحَنَفِيَّة ادعوا أَن دلَالَة الْعَام على كل فَرد من أَفْرَاده قَطْعِيَّة، كَمَا تقدم فَلم ينْدَفع بذلك على الطَّرِيقَة الراجحة. قَوْله: {وَلَا مخرج التفخيم} ، أَي: لم يخرج مخرج التفخيم والتأكيد كَحَدِيث: " لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن تحد على ميت " الحَدِيث، فقيد الْإِيمَان للتفخيم فِي الْأَمر، وَأَن هَذَا لَا يَلِيق بِمن كَانَ مُؤمنا. قَوْله: {وَلَا لزِيَادَة امتنان} ، من الشُّرُوط أَن لَا يقْصد بِذكرِهِ زِيَادَة امتنان على الْمَسْكُوت، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لتأكلوا مِنْهُ لَحْمًا طريا} [النَّحْل: 14] فَلَا يدل على منع القديد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2899 قَوْله: {وَلَا لحادثة} ، أَي: وَلَا خرج لبَيَان حكم حَادِثَة اقْتَضَت بَيَان الحكم فِي الْمَذْكُور، كَمَا رُوِيَ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مر بِشَاة لميمونة، فَقَالَ: " دباغها طهورها "، وكما لَو قيل بِحَضْرَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لزيد: غنم سَائِمَة، فَقَالَ: فِي السَّائِمَة الزَّكَاة؛ إِذْ الْقَصْد الحكم على تِلْكَ الْحَادِثَة لَا النَّفْي عَمَّا عَداهَا. وَمن هَذَا قَوْله تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أضعافا مضاعفة} [آل عمرَان: 130] فَإِنَّهُ ورد على مَا كَانُوا يتعاطونه فِي الْآجَال أَنه إِذا حل الدّين يَقُول للمديون: إِمَّا أَن تُعْطِي، وَإِمَّا أَن تزيد فِي الدّين فيتضاعف بذلك مضاعفة كَثِيرَة. قَوْله: {وَلَا لتقدير جهل الْمُخَاطب} بِأَن علم وجوب زَكَاة المعلوفة، ويجهل حكم السَّائِمَة فيذكر حكمهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2900 قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَمِنْه أَن لَا يكون سكت عَنهُ لكَون الْمُخَاطب غير جَاهِل بِهِ. وَيُمكن جعل هَذَا من شُرُوط الْمَذْكُور على معنى أَن يكون ذكره لأجل جَهَالَة الْمُخَاطب إِيَّاه بِخِلَاف الْمَسْكُوت فَإِنَّهُ يُعلمهُ، كَمَا لَو قيل: صَلَاة السّنة فروضها كَذَا وَكَذَا، فَلَا يُقَال: مَفْهُومه أَن الْفَرْض لَيْسَ كَذَلِك؛ لِأَن ذَلِك مَعْلُوم، وَرُبمَا قدر أَن الْمُتَكَلّم جَاهِل بِحكم الْمَسْكُوت، وَذَلِكَ فِي غير الشَّارِع فَيكون الْمُتَكَلّم غير الشَّارِع إِنَّمَا ترك حكم الْمَسْكُوت جهلا فَظهر للتخصيص بِالذكر سَبَب آخر. وَرُبمَا يدعى أَن ذَلِك من شُرُوط الْمَذْكُور على معنى أَنه خص بِالذكر لجهل حكم غَيره. قَوْله: {وَلَا لرفع خوف وَنَحْوه} . من الشُّرُوط أَن لَا يكون الْمَسْكُوت ترك ذكر حكمه لخوف على الْمُخَاطب أمرا مَا، فَإِن الظَّاهِر أَن هَذَا فَائِدَة التَّخْصِيص للمذكور بِالذكر أَو يكون الْمُتَكَلّم يخَاف من التَّصْرِيح بِحكم الْمَسْكُوت أمرا من ذَلِك، وَهَذَا فِي الْمُتَكَلّم إِذا كَانَ غير الشَّارِع. وَكَلَام ابْن الْحَاجِب وَغَيره يَقْتَضِي أَن هَذَا من شُرُوط الْمَذْكُور، لَكِن على معنى أَن الْمَذْكُور صرح [بِهِ] لدفع الْخَوْف، كَقَوْلِك لمن يخَاف من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2901 ترك الصَّلَاة الموسعة: تَركهَا فِي أول الْوَقْت جَائِز، لَيْسَ مَفْهُومه عدم الْجَوَاز فِي بَاقِي الْوَقْت، وَهَكَذَا إِلَى أَن يتضيق. قَوْله: {وَلَا علق حكمه على صفة غير مَقْصُوده، ذكره القَاضِي، وَغَيره} . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَإِن كَانَت الصّفة غير مَقْصُوده، فَلَا مَفْهُوم، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا جنَاح عَلَيْكُم إِن طلّقْتُم النِّسَاء} [الْبَقَرَة: 236] الْآيَة، أَرَادَ نفي الْحَرج عَمَّن طلق وَلم يمس وَإِيجَاب الْمُتْعَة تبعا، ذكره القَاضِي وَغَيره من الْمُتَكَلِّمين. فَوَائِد: إِحْدَاهَا: من الشُّرُوط أَيْضا أَن لَا يكون عهدا، فَإِن كَانَ فَهُوَ بِمَنْزِلَة الِاسْم اللقب الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ فِي التَّعْرِيف، فَلَا يدل على نفي الحكم عَمَّا عداهُ. وَمِمَّا يذكر من شُرُوط الْعَمَل بِالْمَفْهُومِ أَن لَا يعود على الأَصْل الَّذِي هُوَ الْمَنْطُوق فِيهِ بالإبطال، كَحَدِيث: " لَا تبع مَا لَيْسَ عنْدك " لَا يُقَال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2902 مَفْهُومه صِحَة بيع الْغَائِب إِذا كَانَ عِنْده؛ إِذْ لَو صَحَّ فِيهِ لصَحَّ فِي الْمَذْكُور وَهُوَ الْغَائِب الَّذِي لَيْسَ عِنْده؛ لِأَن الْمَعْنى فِي الْأَمريْنِ وَاحِد، وَلم يفرق أحد بَينهمَا، وَقد ذكرت شُرُوط أُخْرَى غير مَا ذكر لَا حَاجَة إِلَى ذكرهَا. الثَّانِيَة: مَا تقدم من الشُّرُوط يَقْتَضِي تَخْصِيص الْمَذْكُور بِالذكر، لَا نفي الحكم عَن غَيره، وَلَكِن وَرَاء هَذَا من بعد الشُّرُوط بحث آخر، وَهُوَ أَن المقترن من المفاهيم بِمَا يمْنَع القَوْل بِهِ لوُجُود فَائِدَة تَقْتَضِي التَّخْصِيص فِي الْمَذْكُور بِالذكر، هَل يدل اقترانه بذلك على الْغَايَة وَجعله كَالْعدمِ فَيصير المعروض لقيد المفاهيم إِذا كَانَ فِيهِ لفظ عُمُوم شَامِلًا للمذكور والمسكوت حَتَّى لَا يجوز قِيَاس الْمَسْكُوت بالمذكور لعِلَّة جَامِعَة؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوص فَلَا حَاجَة لإثباته بِالْقِيَاسِ، أَو لَا يدل، بل غَايَته الحكم على الْمَذْكُور، وَأما غير الْمَذْكُور فمسكوت عَن حكمه فَيجوز حِينَئِذٍ قِيَاسه. مِثَاله فِي الصّفة مثلا لَو قيل: هَل فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة؟ فَيَقُول الْمَسْئُول: فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة، فَغير السَّائِمَة مسكوت عَن حِكْمَة فَيجوز الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2903 قِيَاسه على السَّائِمَة بِخِلَاف مَا لَو ألغى لفظ السَّائِمَة، وَصَارَ التَّقْدِير فِي الْغنم زَكَاة، فَلَا حَاجَة حِينَئِذٍ لقياس المعلوفة بالسائمة؛ لِأَن لفظ الْغنم شَامِل لَهما، فِي ذَلِك خلاف. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالْمُخْتَار الثَّانِي حَتَّى إِن بَعضهم حكى فِيهِ الْإِجْمَاع، وَهُوَ ظَاهر مَا أوردهُ ابْن الْحَاجِب فِي أثْنَاء مَسْأَلَة مَفْهُوم الصّفة. الثَّالِثَة: الضَّابِط لهَذِهِ الشُّرُوط، وَمَا فِي مَعْنَاهَا أَن لَا يظْهر لتخصيص الْمَنْطُوق فَائِدَة غير نفي الحكم عَن الْمَسْكُوت عَنهُ، وعَلى ذَلِك اقْتصر الْبَيْضَاوِيّ. قَوْله: {وَهُوَ أَقسَام} - أَعنِي مَفْهُوم الْمُخَالفَة -: {أَحدهَا} : مَفْهُوم {الصّفة} ، إِنَّمَا بَدَأَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ رَأس المفاهيم. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: لَو عبر معبر عَن جَمِيع المفاهيم بِالصّفةِ كَانَ ذَلِك متجها؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2904 لِأَن الْمَعْدُود والمحدود موصوفان بعددها وَحدهَا، وَكَذَا سَائِر المفاهيم. انْتهى. وَمرَاده أَن معنى الوصفية يدعى رُجُوع الْكل إِلَيْهِ بِاعْتِبَار، وَإِن كَانَ الْمَقْصُود هُنَا نوعا من ذَلِك خَاصّا بِاعْتِبَار الْآتِي بَيَانه. قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره {وَهُوَ أَن يقْتَرن بعام صفة خَاصَّة} كَقَوْلِه فِي الْغنم: فِي سائمتها الزَّكَاة. وَقَالَ الطوفي وَغَيره: هِيَ تعقيب ذكر الِاسْم الْعَام بِصفة خَاصَّة فِي معرض الِاسْتِدْلَال نَحْو: فِي الْغنم السَّائِمَة الزَّكَاة. فَمثل كل مِنْهُمَا بمثال، وَلذَلِك قَالَ كثير من الْعلمَاء: هُوَ تَعْلِيق الحكم بِإِحْدَى صِفَتي الذَّات، فَشَمَلَ المثالين، وهما: فِي الْغنم السَّائِمَة الزَّكَاة، وَفِي سَائِمَة الْغنم، وَهَذَا لفظ الحَدِيث، وَمثل بهما فِي " الرَّوْضَة "، وَبَين الصيغتين فرق فِي الْمَعْنى فَمُقْتَضى الْعبارَة الأولى عدم الْوُجُوب فِي الْغنم المعلوفة الَّتِي لَوْلَا الْقَيْد بالسوم لشملها لفظ الْغنم، وَمُقْتَضى الْعبارَة الثَّانِيَة عدم الْوُجُوب فِي سَائِمَة غير الْغنم كالبقر - مثلا - الَّتِي لَوْلَا تَقْيِيد السَّائِمَة بإضافتها إِلَى الْغنم لشملها لفظ السَّائِمَة، كَذَا قَالَ التَّاج السُّبْكِيّ فِي منع الْمَوَانِع، وَقَالَ: هُوَ التَّحْقِيق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2905 قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَالْحق عِنْدِي أَنه لَا فرق بَينهمَا، فَإِن قُلْنَا: سَائِمَة الْغنم من إِضَافَة الصّفة إِلَى موصوفها فَهِيَ فِي الْمَعْنى كالأولى وَالْغنم مَوْصُوفَة، والسائمة صفة على كل حَال، وَقد علم أَنه لَيْسَ المُرَاد بِالصّفةِ هُنَا النَّعْت، وَلِهَذَا مثلُوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مطل الْغَنِيّ ظلم " وَالتَّقْيِيد فِيهِ بِالْإِضَافَة، لكنه فِي معنى الصّفة، فَإِن المُرَاد بِهِ المطل الْكَائِن من الْغَنِيّ، لَا من الْفَقِير. وَقدره الْبرمَاوِيّ فَقَالَ: مطل الشَّخْص الْغَنِيّ. ورده أَيْضا الْبرمَاوِيّ بِنَحْوِ ذَلِك وَغَيره، وَهُوَ ظَاهر مَا مثل بِهِ أَصْحَابنَا، فَإِنَّهُ مثلوه تَارَة بالعبارة الأولى، وَتارَة بِالثَّانِيَةِ، وظاهرهم أَن الحكم فيهمَا وَاحِد، وَمثله فِي " الرَّوْضَة " بهما، وَهَذَا الصَّحِيح. وَمن الْأَمْثِلَة أَيْضا: " من بَاعَ نخلا مؤبرا فثمرتها للْبَائِع ". وَمثله تَعْلِيق نَفَقَة الْبَائِن على الْحمل. قَوْله: {وَهُوَ حجَّة عِنْد الثَّلَاثَة، وَالْأَكْثَر} . فِي كَون مَفْهُوم الصّفة حجَّة مَعْمُولا بِهِ مَذَاهِب، أَصَحهَا أَنه حجَّة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2906 مَعْمُول بِهِ، وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد، وَمَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَأبي عُبَيْدَة معمر بن مثنى. وَنَقله الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن السَّمْعَانِيّ عَن أبي عبيد، وَالْفُقَهَاء، والمتكلمين، وَحَكَاهُ ابْن الْحَاجِب عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَحَكَاهُ سليم الرَّازِيّ عَن الْمُزنِيّ، والاصطخري، وَأبي إِسْحَاق الْمروزِي، وَابْن خيران، وَأبي ثَوْر، وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ، وَذكره فِي " الرَّوْضَة " عَن أَكثر الْمُتَكَلِّمين، وَنَقله ابْن مُفْلِح عَن أَكثر أَصْحَاب الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة، وَحَكَاهُ الباقلاني عَن الْأَشْعَرِيّ، وَجرى عَلَيْهِ أَكثر أَصْحَابه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2907 قَوْله: {لُغَة، وَقَالَ أَبُو الْخطاب، وَأَبُو الْفرج، وَحَكَاهُ إِجْمَاع أهل اللُّغَة عقلا، وَفِي المعالم عرفا، وَقيل: شرعا} . هَذِه الْأَقْوَال مَبْنِيَّة على أَنه حجَّة مَعْمُول بِهِ، فَإِذا قُلْنَا إِن الْمَفْهُوم حجَّة على معنى نفي الحكم الْمَذْكُور فِي الْمَنْطُوق عَن الْمَسْكُوت، سَوَاء مَفْهُوم [الصّفة] وَغَيرهَا فَهُوَ من حَيْثُ دلَالَة اللُّغَة، وَوضع اللِّسَان. وَهُوَ قَول أَكثر الْأَصْحَاب، وَقَالَهُ أَكثر الشَّافِعِيَّة. وَقيل: من حَيْثُ دلَالَة الْعقل، حَكَاهُ الْبرمَاوِيّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، وَأَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي، وَحَكَاهُ إِجْمَاع أهل اللُّغَة، وَيُوَافِقهُ مَا تقدم فِي بَاب الْعُمُوم أَن عُمُوم الْمَفْهُوم عِنْد بَعضهم بِالْعقلِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2908 بل نسبه أَبُو الْفرج إِلَى الْأَصْحَاب، فَإِنَّهُ قَالَ: عندنَا يثبت بِالْعقلِ. وَقَالَ الرَّازِيّ فِي " المعالم ": إِن ذَلِك من قبيل الْعرف الْعَام؛ لِأَن أهل الْعرف يقصدون مثل ذَلِك. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا هُوَ من قبيل الشَّرْع متصرف فِيهِ زَائِد على وضع اللُّغَة، وَهُوَ وَجه للشَّافِعِيَّة، حَكَاهُ الرَّوْيَانِيّ فِي الْبَحْر. قَوْله: {وَيحسن الِاسْتِفْهَام، جزم بِهِ فِي " الْوَاضِح "، وَقيل: لَا} . ذكر الْأَصْحَاب فِي ذَلِك: هَل يحسن الِاسْتِفْهَام أم لَا؟ منعا كَالصَّرِيحِ وتسليما لرفع الِاحْتِمَال، وَجزم بِهِ فِي " الْوَاضِح "؛ لِأَن معنى الْخطاب مقدم عَلَيْهِ عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء، وَيحسن الِاسْتِفْهَام فِيهِ، نَحْو: لَا تشرب الْخمر؛ لِأَنَّهُ يُوقع الْعَدَاوَة، فَيَقُول: فَهَل أشْرب النَّبِيذ؟ وَلَا يُنكر أحد استفهامه هَذَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2909 وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": يحْتَمل أَن لَا يحسن؛ وَلِهَذَا يحسن الْإِنْكَار عَلَيْهِ. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ تَخْرِيج حسن إِنْكَاره على الْخلاف. انْتهى. قَوْله: {ثمَّ مَفْهُومه عِنْد الْمُعظم لَا زَكَاة فِي معلوفة الْغنم، فالغنم والسوم عِلّة، وَظَاهر كَلَام أَحْمد، وَاخْتَارَهُ ابْن عقيل، وَأَبُو حَامِد، والرازي: لَا زَكَاة فِي معلوفة كل حَيَوَان، فالسوم عِلّة} . اخْتلفُوا فِي المثالين السَّابِقين فِي مَفْهُوم الصّفة: هَل الْمَنْفِيّ فيهمَا غير سَائِمَة الْغنم، أَو غير مُطلق السوائم؟ فعلى قَوْله: فِي الْغنم السَّائِمَة الزَّكَاة، إِنَّمَا يدل على نفي الزَّكَاة عَن معلوفة الْغنم، وعَلى قَوْله: فِي سَائِمَة الْغنم الزَّكَاة، يدل على نفي الزَّكَاة عَن كل معلوفة من الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم. قَالَ الْبرمَاوِيّ: اخْتلفُوا، هَل دلّ على النَّفْي عَمَّا عداهُ مُطلقًا سَوَاء كَانَ من جنس المنعوت فِيهِ، أَو لم يكن، أَو تخْتَص دلَالَته بِمَا كَانَ من جنسه؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2910 فَفِي نَحْو: فِي الْغنم السَّائِمَة الزَّكَاة، هَل الزَّكَاة منفية عَن المعلوفة مُطلقًا، سَوَاء كَانَت من الْإِبِل أَو الْبَقر أَو الْغنم أَو معلوفة الْغنم فَقَط؟ على قَوْلَيْنِ، حَكَاهُمَا الرَّازِيّ وَغَيره، وَصحح أَبُو حَامِد الثَّانِي. وَوَجهه: أَن الْمَفْهُوم نقيض الْمَنْطُوق، والمنطوق سَائِمَة الْغنم دون غَيرهَا. انْتهى. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": ثمَّ مَفْهُومه عِنْد الْجَمِيع لَا زَكَاة فِي معلوفة الْغنم لتَعلق الحكم بالسوم، وَالْغنم، فهما الْعلَّة. وَلنَا وَجه اخْتَارَهُ ابْن عقيل، وَذكره القَاضِي. ظَاهر كَلَام أَحْمد لَا زَكَاة فِي معلوفة كل حَيَوَان، وَقَالَهُ بعض الشَّافِعِيَّة بِنَاء على أَن السّوم عِلّة، فعلى هَذَا قَالَ القَاضِي: يلْزم لَا زَكَاة فِي غير سَائِمَة الْغنم من حَيَوَان، أَو غَيره، وَقد لَا يلْزم. انْتهى. وتابعناه على ذَلِك. قَوْله: {وَهُوَ فِي الْبَحْث عَمَّا يُعَارضهُ كالعام، ذكره فِي " التَّمْهِيد " الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2911 وَغَيره، وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَا يعْتَبر} عِنْد من قَالَ بِهِ، قَالَ ذَلِك ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ". قَوْله: {وَمِنْهَا الْعلَّة، والظرف، وَالْحَال} ، ذكره ابْن قَاضِي الْجَبَل وَكثير من الْأُصُولِيِّينَ. من مَفْهُوم الصّفة الْعلَّة والظرف وَالْحَال. فمفهوم الْعلَّة: تَعْلِيق الحكم بعلة، كحرمت الْخمر لشدتها، وَالسكر لحلاوته، فَيدل على أَن غير الشَّديد، وَغير الحلو لَا يحرم. وَهُوَ أخص من مَفْهُوم الصّفة؛ لِأَن الْوَصْف قد يكون تتميما لِلْعِلَّةِ كالسوم، فَإِنَّهُ تتميم للمعنى الَّذِي هُوَ عِلّة، فَالْخِلَاف فِيهِ هُوَ الْخلاف فِي مَفْهُوم الصّفة كَمَا قَالَه الباقلاني وَالْغَزالِيّ وَغَيرهمَا، بل هُوَ يلْحق بِدلَالَة الْإِشَارَة. وَمِنْهَا مَفْهُوم: الظّرْف، أما الزَّمَان فنحو: {الْحَج أشهر مَعْلُومَات} [الْبَقَرَة: 197] ، {إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} [الْجُمُعَة: 9] ، وَهُوَ حجَّة عِنْد الشَّافِعِي وَغَيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2912 وَأما الْمَكَان فنحو: {فاذكروا الله عِنْد الْمشعر الْحَرَام} [الْبَقَرَة: 198] ، وَهُوَ حجَّة أَيْضا نَقله أَبُو الْمَعَالِي وَالْغَزالِيّ. وَمِنْهَا: مَفْهُوم الْحَال: كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد} [الْبَقَرَة: 187] ذكره ابْن السَّمْعَانِيّ فِي " القواطع "، وَإِن لم يذكرهُ أَكثر الْمُتَأَخِّرين، وَقَالَ: إِنَّه كالصفة، وَهُوَ ظَاهر؛ لِأَن الْحَال صفة فِي الْمَعْنى قيد بهَا. وَالْمذهب الثَّانِي فِي أصل الْمَسْأَلَة: أَنه لَيْسَ بِحجَّة، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، وَابْن سُرَيج، والقفال، وَأَبُو بكر الْفَارِسِي، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2913 وَجَمَاعَة من الْمَالِكِيَّة، وَابْن دَاوُد، وَابْن الباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ، والشاشي، وَكثير من الْمُعْتَزلَة، والآمدي، وَأَبُو الْحسن التَّمِيمِي من أَصْحَابنَا. وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " الِانْتِصَار " فِي مَسْأَلَة الْوَلِيّ: هُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، وَذكره فِي " التَّمْهِيد " عَن أَكثر الْمُتَكَلِّمين. وَاخْتلف النَّقْل عَن الْأَشْعَرِيّ. وَقَالَ أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ: إِنَّه حجَّة فِي ثَلَاث صور: إِحْدَاهَا: أَن يكون الْخطاب ورد للْبَيَان كالسائمة فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة " فَإِنَّهُ ورد بَيَانا لآيَة الزَّكَاة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2914 الثَّانِيَة: أَن يكون ورد للتعليم، أَي: الِابْتِدَاء بِمَا لم يسْبق حكمه لَا مُجملا، وَلَا مُبينًا كَحَدِيث: " إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ تحَالفا - فَإِن فِي رِوَايَة - إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ والسلعة قَائِمَة تحَالفا "، مَفْهُومه: أَن السّلْعَة إِذا لم تكن قَائِمَة لَا تحالف، وَهُوَ من مَفْهُوم الْحَال الَّذِي تقدم، والْحَدِيث بِهَذِهِ الزِّيَادَة رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. الثَّالِثَة: أَن يكون مَا عدا الصّفة دَاخِلا تحتهَا كَالْحكمِ بالشاهدين؛ لِأَن الْمَفْهُوم، وَهُوَ الشَّاهِد الْوَاحِد دَاخل تَحت لفظ الشَّاهِدين، وَمثله حَدِيث الْقلَّتَيْنِ، فَإِن الْقلَّة الْوَاحِدَة دَاخِلَة تَحت الْقلَّتَيْنِ، أَي: فَلَو لم يكن الحكم فِي الْوَاحِد مُخَالفا لما كَانَ لذكر الِاثْنَيْنِ فَائِدَة، وَالله أعلم. اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - لَو لم يدل عَلَيْهِ لُغَة لما فهمه أَهلهَا، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لي الْوَاجِد يحل عرضه وعقوبته " حَدِيث حسن، رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة. أَي: مطل الْغَنِيّ، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " مطل الْغَنِيّ ظلم " وَفِيهِمَا: " لِأَن يمتلئ جَوف أحدكُم قَيْحا خير لَهُ من أَن يمتلئ شعرًا ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2915 قَالَ أَبُو عبيد: فِي الأول يدل على أَن لي من لَيْسَ بواجد لَا يحل عُقُوبَته، وَفِي الثَّانِي مثله، وَقيل لَهُ: فِي الثَّالِث المُرَاد الهجاء، وهجاء النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: لَو كَانَ كَذَلِك لم يكن لذكر الامتلاء معنى؛ لِأَن قَلِيله كَذَلِك. فألزم أَبُو عبيد من تَقْدِير الصّفة الْمَفْهُوم، قدر الامتلاء صفة للهجاء وَهُوَ وَالشَّافِعِيّ من أَئِمَّة اللُّغَة. وَذكره الْآمِدِيّ قَول جمَاعَة من أهل الْعَرَبيَّة. فَالظَّاهِر أَنهم فَهموا ذَلِك لُغَة فثبتت اللُّغَة بِهِ، وَاحْتِمَال الْبناء على الِاجْتِهَاد مَرْجُوح، وَإِنَّمَا ذكره فِي كتب اللُّغَة لَا الْأَحْكَام وَهِي نقل، وَقد حَكَاهُ القَاضِي أَبُو يعلى عَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء، وثعلب، وَأَن أَبَا عبيد حكى عَن الْعَرَب القَوْل بِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2916 عورض بِمذهب الْأَخْفَش قَالَ: قَول الْقَائِل مَا جَاءَنِي غير زيد لَا يدل على مَجِيء زيد. رد بِمَنْع ثُبُوته. ثمَّ هُوَ نحوي، ثمَّ من ذَكَرْنَاهُمْ أَكثر، وَبَعْضهمْ أفضل، ثمَّ الْمُثبت أولى. وَأَيْضًا لَو لم يدل كَانَ تَخْصِيص مَحل النُّطْق بِالذكر بِلَا فَائِدَة، وَهُوَ مُمْتَنع من آحَاد البلغاء فالشارع أولى. وَاعْترض بِأَن هَذَا إِثْبَات للوضع بِمَا فِيهِ من الْفَائِدَة، والفائدة مرتبَة عَلَيْهِ. رد: يعرف بالاستقراء إِذا لم يكن للفظ فَائِدَة غير وَاحِدَة تعيّنت إرادتها بِهِ، وَبِأَن دلَالَة الْإِيمَاء ثبتَتْ بالاستبعاد كَمَا سبق فِي الصَّرِيح، فَهَذَا أولى. وَاعْترض بِمَفْهُوم اللقب. رد: بِأَنَّهُ حجَّة، ثمَّ فَائِدَته حُصُول الْكَلَام بِهِ؛ لِأَنَّهُ يخْتل بِعَدَمِهِ بِخِلَاف الصّفة، أَو لم يحضرهُ الْمَسْكُوت، أَو قِيَاس فِي اللُّغَة. وَاعْترض: فَائِدَته تَقْوِيَة دلَالَة مَا جعل الْوَصْف وَصفا لَهُ حَتَّى لَا يتَوَهَّم تَخْصِيصه. رد: بِأَن هَذَا إِذا كَانَ الِاسْم الْمُقَيد بِالصّفةِ عَاما، وَلَا قَائِل بِهِ، ثمَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2917 الْفَرْض لَا شَيْء يَقْتَضِي تَخْصِيصه سوى الْمُخَالفَة، كَذَا أجَاب بَعضهم والآمدي: إِنَّمَا اعْترض بِأَن فَائِدَته معرفَة حكم الْمَنْطُوق والمسكوت بنصين مُخْتَلفين؛ لِأَنَّهُ أدل للْخلاف فِي الْعُمُوم، وَإِمْكَان تَخْصِيص مَحل الصّفة وَغَيره بِاجْتِهَاد وَلَيْسَ مُرَاد التَّخْصِيص. وَجَوَابه: أَن الْعُمُوم لُغَة الْعَرَب، وَالْخلاف فِيهِ حَادث فَمثل هَذَا لَا يقْصد، ثمَّ الْعَرَب لَا تقصد قطع التَّوَهُّم، وَلِهَذَا يتَكَلَّم بِالْحَقِيقَةِ مَعَ توهم غَيرهَا. وَاعْترض: فَائِدَته ثَوَاب الِاجْتِهَاد بِالْقِيَاسِ، فَإِن تَخْصِيصه يشْعر بِأَنَّهُ عِلّة. رد: إِن سَاوَى الْفَرْع الأَصْل خرج، وَإِلَّا فَهُوَ مِمَّا لَا فَائِدَة لَهُ سوى الْمُخَالفَة، وَفِيه نظر؛ لِأَنَّهُ لَا يخرج إِلَّا مَعَ ثُبُوته لُغَة وَالْقِيَاس يُثبتهُ عقلا. وَأجَاب فِي " التَّمْهِيد ": الْكَلَام فِي اللُّغَة، وَقَالَ أَيْضا: الظَّاهِر مَا ذكرنَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2918 وَأجَاب فِي " الرَّوْضَة ": النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث لتبيين الْأَحْكَام وَالِاجْتِهَاد ثَبت ضَرُورَة. وَأَيْضًا التَّرْتِيب يدل على الْعلية، وانتفاؤها يدل على انْتِفَاء معلولها. وَاسْتدلَّ: لَو لم يدل لزم مُشَاركَة الْمَسْكُوت للمنطوق لعدم وَاسِطَة بَينهمَا، وَلَا مُشَاركَة اتِّفَاقًا. ورد بِالْمَنْعِ فَلَا يدل على حصر وَلَا اشْتِرَاك، وَبِأَنَّهُ يجْرِي فِي اللقب، وَأما لفظ السَّائِمَة فَلَا يتَنَاوَل المعلوفة اتِّفَاقًا. وَاسْتدلَّ: لَو لم يدل لم تنفر الشَّافِعِيَّة من قَول: الْفُقَهَاء الْحَنَفِيَّة فضلاء. رد: النفرة لتركهم على الِاحْتِمَال كتقديم الْحَنَفِيَّة عَلَيْهِم، أَو لتوهم ذَلِك من يرى الْمَفْهُوم. وَاسْتدلَّ بِمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما قَامَ يُصَلِّي على عبد الله بن أبي، فَقَالَ لَهُ عمر، فَقَالَ: " خيرني الله وسأزيد على السّبْعين ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2919 وَفِي البُخَارِيّ: " خيرت فاخترت، لَو أعلم أَنِّي [إِن] زِدْت على السّبْعين يغْفر لَهُ لزدت عَلَيْهَا " ففهم أَن مَا زَاد بِخِلَافِهِ. رد بِالْمَنْعِ؛ لِأَن الْآيَة مُبَالغَة فِي أَن السّبْعين وَمَا فَوْقهَا سَوَاء، وَقَالَ: (لأزيدن) استمالة للإحياء، أَو فهم لبَقَاء وُقُوع الْمَغْفِرَة بِالزِّيَادَةِ على أَصله فِي الْجَوَاز قبل الْآيَة. وَيُجَاب بِأَنَّهُ خلاف الظَّاهِر. قَالَ ابْن عقيل: لم يقْصد، بل بعد هَذَا فِي سُورَة الْمُنَافِقين. وَفِيه نظر. وَاسْتدلَّ بقول يعلى بن أُميَّة لعمر: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا إِن الْكَافرين كَانُوا لكم عدوا مُبينًا} [النِّسَاء: 101] فقد أَمن النَّاس، فَقَالَ: عجب مِمَّا عجبت مِنْهُ، فَسَأَلت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " صدقه تصدق الله بهَا عَلَيْكُم فاقبلوا صدقته " الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2920 رَوَاهُ مُسلم، ففهما عدم الْقصر لعدم الخو، وَأقر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. رد: لَا يتَعَيَّن من الْمَفْهُوم لجَوَاز استصحابهما وجوب الْإِتْمَام فَعجب لمُخَالفَة الأَصْل. أُجِيب: لم يدل الْقُرْآن على أَنه الأَصْل، وَعند الْمُخَالف الأَصْل الْقصر، وَقد قَالَ عمر: " صَلَاة السّفر رَكْعَتَانِ تَمام غير قصر على لِسَان مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " حَدِيث حسن، رَوَاهُ أَحْمد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن عَائِشَة: " فرضت رَكْعَتَيْنِ، فأقرت صَلَاة السّفر وأتمت صَلَاة الْحَضَر "، وَفِي مُسلم عَن ابْن عَبَّاس: " فرضت فِي الْحَضَر أَرْبعا، وَفِي السّفر رَكْعَتَيْنِ " ثمَّ هُوَ خلاف الظَّاهِر. وَاسْتدلَّ: دلَالَته على الْمَسْكُوت فِيهِ فَائِدَة، فَهُوَ أولى تكثيرا للفائدة وَهِي تدل على الْوَضع على مَا سبق فِي الْمُجْمل فِي اللَّفْظ لِمَعْنى تَارَة، ولمعنيين أُخْرَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2921 ورد بِأَنَّهُ دور لتوقف دلَالَته على الْمَسْكُوت على الْوَضع، وَهُوَ على تَكْثِير الْفَائِدَة، وَهِي على دلَالَته على الْمَسْكُوت. أُجِيب: يلْزم فِي كل مَوضِع، فَيُقَال: دلَالَة اللَّفْظ تتَوَقَّف على الْوَضع، وَهُوَ على الْفَائِدَة لوضع اللَّفْظ لَهَا، وَهِي [على] الدّلَالَة لعدم الْفَائِدَة بِعَدَمِ اللَّفْظ، وَبِأَن دلَالَة اللَّفْظ على الْمَسْكُوت تتَوَقَّف على تعقل تَكْثِير الْفَائِدَة، لَا على حُصُولهَا وتعقلها لَا يتَوَقَّف بل حُصُولهَا. وَاسْتدلَّ: لَو لم يكن مُخَالفا لم تكن السَّبع فِيمَا رَوَاهُ مُسلم " طهُور إِنَاء أحدكُم إِذا ولغَ فِيهِ الْكَلْب يغسلهُ سبعا " مطهرة لتطهيره بِمَا دونهَا. رد: لَا يلْزم الْجَوَاز عدم الطَّهَارَة فِيمَا دونهَا بِدَلِيل. وَجَوَابه: خلاف الظَّاهِر، وَالْأَصْل عَدمه، وَمثله: " خمس رَضعَات يحرمن " رَوَاهُ مُسلم. وَاحْتج ابْن عقيل وَغَيره: بِأَنَّهُ إِجْمَاع الصَّحَابَة، فَإِن بَعضهم لم ير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2922 الْغسْل بِدُونِ إِنْزَال لقَوْله: " المَاء من المَاء " وَخَالفهُم غَيرهم بِأَنَّهُ مَنْسُوخ. وَجه القَوْل الثَّانِي - وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمن وَافقه -: لَو ثَبت بِدَلِيل وَهُوَ عَقْلِي أَو نقلي إِلَى آخِره. رد: تثبت اللُّغَة بالآحاد، وَذكره بعض أَصْحَابنَا عَن الْجُمْهُور، وَذكره ابْن عقيل عَن جمَاعَة من الْعلمَاء؛ لِأَن التَّوَاتُر فِي الْبَعْض تحكم لَا قَائِل بِهِ، وَفِي الْجَمِيع مُتَعَذر، فيتعطل أَكثر الْكتاب، وَالسّنة، واللغة، وَهُوَ فَوق مَحْذُور قبُول خبر الْوَاحِد، وَذكر الْآمِدِيّ: لم يزل الْعلمَاء عَلَيْهِ، وَذكره أَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي من أَصْحَابنَا إِجْمَاع أهل اللُّغَة فَإِن عندنَا تثبت بِالْعقلِ، وَذكر الْآمِدِيّ منعا، وَذكر القَاضِي فِي مَسْأَلَة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2923 الْعُمُوم عَن السمناني لَا تثبت بالآحاد. وَفِي " التَّمْهِيد ": ثَبت ذَلِك باستقرار كَلَامهم، وَمَعْرِفَة مُرَادهم، وفهمته الصَّحَابَة، وهم أهل اللِّسَان. قَالُوا: لَو ثَبت لثبت فِي الْخَبَر لتقييد كل مِنْهُمَا بِصفة، نَحْو: " فِي الْغنم السَّائِمَة " أَو زيد الطَّوِيل فِي الدَّار. رد بالتزامه، وَقَالَهُ فِي " الْعدة " و " التَّمْهِيد ". وَذكر ابْن عقيل: أَن الْمَذْهَب القَوْل بِهِ فِي الْخَبَر، وَفِي الْأَسْمَاء، وَالْحكم كالاستثناء والتخصيص، ثمَّ فرق هُوَ وَغَيره بَين الْأَمر، وَالْخَبَر بِأَنَّهُ قد لَا يعلم غَيره، ويقصد بِالْأَمر الْبَيَان والتمييز، وَبِأَن هَذَا قِيَاس لُغَة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2924 وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ بِهِ. وَفرق بعض أَصْحَابنَا بَين أَسمَاء الْأَعْلَام والأجناس، وَفرق فِي " التَّمْهِيد " بِأَنَّهُ لَا يخبر عَنهُ لِئَلَّا ينضر. وَفرق بَعضهم بِأَن الْخَبَر لَا يلْزم عدم حُصُوله للمسكوت؛ لِأَن لَهُ خارجيا بِخِلَاف الحكم، فَإِنَّهُ إِذا لم يدل على الْمُخَالفَة لم يحصل للمسكوت؛ لِأَنَّهُ [لَا] خارجي لَهُ. قَالَ: لَو دلّ امْتنع، أد زَكَاة السَّائِمَة والمعلوفة لعدم الْفَائِدَة، وللتناقض، كَمَا يمْتَنع لَا تقل أُفٍّ واضربهما. رد: الْفَائِدَة عدم تَخْصِيص المعلوفة بِاجْتِهَاد، والتناقض فِي الْقَاطِع. قَالُوا: لَو دلّ لما ثَبت خِلَافه للتعارض، وَالْأَصْل عَدمه، وَقد ثَبت فِي نَحْو: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أضعافا مضاعفة} [آل عمرَان: 130] وَاعْتمد عَلَيْهِ الْآمِدِيّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2925 وعَلى على بَيَان دَلِيل، وَالْأَصْل عَدمه. رد: هُوَ دَلِيل عَارضه قَاطع وَالْأَصْل مُخَالف لدَلِيل. قَالُوا: لَو كَانَ دَلِيلا لم يبطل بِبُطْلَان الْمَنْطُوق. رد: ذكر القَاضِي وَجْهَيْن، قَالَ: وبطلانه أشبه. جزم بِهِ فِي " الرَّوْضَة " فِي نسخ الْمَنْطُوق؛ لِأَنَّهُ فَرعه وَعَدَمه كالخطابين، وَاخْتَارَهُ ابْن فورك. قَوْله: {فَائِدَة الصّفة الْمُجَرَّدَة كفي السَّائِمَة الزَّكَاة، وَالثَّيِّب أَحَق بِنَفسِهَا، كَالْأولِ عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَالْأول أقوى دلَالَة. وَقيل: سَوَاء، وَقَالَ بِهِ أَبُو الْمَعَالِي مَعَ مُنَاسبَة الصّفة للْحكم وَإِلَّا فَلَا. وَحكي عَن القَاضِي} . الصّفة الْعَارِضَة الْمُجَرَّدَة، كَقَوْلِه: السَّائِمَة فِيهَا الزَّكَاة، كالصفة المقترنة بِالْعَام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2926 قَالَ ابْن مُفْلِح: عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَذكر الْآمِدِيّ، وَغَيره؛ ذَلِك لِأَن غَايَته أَن الْمَوْصُوف فِيهَا مَحْذُوف. قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: جُمْهُور أَصْحَاب الشَّافِعِي عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة "، وَتَبعهُ الطوفي: تَخْصِيص وصف غير قار بالحكم نَحْو: الثّيّب أَحَق بِنَفسِهَا، حجَّة، وَهُوَ قَول أَكثر الشَّافِعِيَّة كَذَلِك، خلافًا للتميمي وَأكْثر الْفُقَهَاء والمتكلمين لاحْتِمَال الْغَفْلَة عَن غير الْوَصْف الْمَذْكُور بِخِلَاف مَا إِذا ذكر مَعَه الْعَام. لَكِن الأول أقوى دلَالَة فِي الْمَفْهُوم؛ لِأَن الأول - وَهُوَ الْمُقَيد بِالْعَام - كالنص بِخِلَاف هَذَا. قَالَ ابْن مُفْلِح: مَعَ أَن ظَاهر كَلَام جمَاعَة من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم التَّسْوِيَة، وَقَالَ بِهِ أَبُو الْمَعَالِي مَعَ مُنَاسبَة الصّفة للْحكم، وَإِلَّا فَلَيْسَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2927 بِحجَّة، وَذكره بعض أَصْحَابنَا ظَاهر اخْتِيَار القَاضِي فِي مَوضِع. انْتهى. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان ": يفصل بَين أَن يكون الْوَصْف مناسبا فَيكون حجَّة، نَحْو: " فِي الْغنم السَّائِمَة الزَّكَاة " فَإِن خفَّة الْمُؤْنَة مُنَاسبَة للمواساة بِالزَّكَاةِ، وَبَين مَا لَا مُنَاسبَة فِيهِ فَلَا يجوز: الْإِنْسَان الْأَبْيَض ذُو إِرَادَة. قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وَهُوَ خلاف مَذْهَب الشَّافِعِي، فَإِن الْعلَّة لَيْسَ من شَرطهَا الانعكاس، لَكِن أَبُو الْمَعَالِي أورد هَذَا على نَفسه. وَأجَاب بِأَن قَضِيَّة اللِّسَان هِيَ الدَّالَّة عِنْد إِحَالَة الْوَصْف على مَا عداهُ بِخِلَافِهِ، وَقَالَ: إِن هَذَا وضع اللِّسَان وَمُقْتَضَاهُ بِخِلَاف الْعِلَل المستنبطة. انْتهى. وَهَذَا القَوْل يَنْبَغِي أَن يكون فِي أصل الْمَسْأَلَة، لَا هُنَا، وَلَكِن تابعنا ابْن مُفْلِح عَلَيْهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2928 قَوْله: {الثَّانِي التَّقْسِيم، ك " الثّيّب أَحَق بِنَفسِهَا وَالْبكْر تستأذن " كَالْأولِ، ذكره الْمُوفق وَغَيره} ، وَتَابعه من بعده. وَذَلِكَ لِأَن تقسيمه إِلَى قسمَيْنِ، وَتَخْصِيص كل وَاحِد بِحكم يدل على انْتِفَاء ذَلِك الحكم عَن الْقسم الأول الآخر، إِذْ لَو عَمهمَا لم يكن للتقسيم فَائِدَة، فَهُوَ من جملَة مَفْهُوم الصّفة. قَوْله: {الثَّالِث: الشَّرْط} . أَي: الثَّالِث من أَقسَام مَفْهُوم الْمُخَالفَة الشَّرْط، وَالْمرَاد بِهِ مَا علق من الحكم على شَيْء بأداة الشَّرْط، ك (إِن) و (إِذا) وَنَحْوهمَا، وَهُوَ الْمُسَمّى بِالشّرطِ اللّغَوِيّ، لَا الشَّرْط الَّذِي هُوَ قسيم السَّبَب وَالْمَانِع الْمُتَقَدّم ذكره. مِثَال الشَّرْط اللّغَوِيّ قَوْله: (وَإِن كن أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضعن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2929 حَملهنَّ} [الطَّلَاق: 6] . دلّ منطوقه على وجوب النَّفَقَة على أولات الْحمل، فَهَل دلّ بِالْمَفْهُومِ بِالْعدمِ على الْعَدَم حَتَّى يسْتَدلّ بِهِ على منع وجوب النَّفَقَة للمعتدة غير الْحَامِل، أَو لَا. ذهب الْأَكْثَر إِلَى دلَالَته عَلَيْهِ، وكل من قَالَ بِمَفْهُوم الصّفة يَقُول بِهِ؛ لِأَنَّهُ أقوى. وَأما المنكرون لمَفْهُوم الصّفة فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بِهِ، مِنْهُم: ابْن سُرَيج، وَابْن الصّباغ، والكرخي، وَغَيره من الْحَنَفِيَّة، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، وَنَقله إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن أَكثر الْعلمَاء وَبَالغ فِي الرَّد على منكره، وَنَقله ابْن الْقشيرِي عَن مُعظم أهل الْعرَاق، وَنَقله السُّهيْلي عَن أَكثر الْحَنَفِيَّة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2930 وَمِمَّنْ مَنعه كمفهوم الصّفة أَكثر الْمُعْتَزلَة، وَقَالُوا: لَا يَنْتَفِي بِعَدَمِهِ، بل هُوَ بَاقٍ على الأَصْل الَّذِي كَانَ قبل التَّعْلِيق، وَرجحه الْمُحَقِّقُونَ من الْحَنَفِيَّة الْجِرْجَانِيّ، وَغَيره، وَنقل عَن أبي حنيفَة، وَنَقله التلمساني عَن مَالك، وَاخْتَارَهُ ابْن الباقلاني، وَالْغَزالِيّ، والآمدي. فتلخص أَنه لَا خلاف فِي انْتِفَاء الحكم عِنْد انْتِفَاء الشَّرْط، لَكِن هَل الدَّال على الانتفاء صِيغَة الشَّرْط، أَو الْبَقَاء على الأَصْل؟ فَمن جعل الشَّرْط حجَّة قَالَ بِالْأولِ، وَمن أنكرهُ قَالَ بِالثَّانِي. حجَّة الْقَائِل بِهِ مَا سبق من الْأَدِلَّة فِي مَفْهُوم الصّفة؛ وَلِأَنَّهُ يلْزم من عدم الشَّرْط عدم الْمَشْرُوط. فَإِن قيل: يحْتَمل أَنه سَبَب لمسبب فَلَا تلازم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2931 رد: خلاف الظَّاهِر، ثمَّ إِن قيل: باتحاد السَّبَب فَأولى بِالنَّفْيِ؛ لِأَنَّهُ مُوجب للمسبب، وَإِن قيل: بتعدده فَالْأَصْل عَدمه. وَقَوله: {إِن أردن تَحَصُّنًا} [النُّور: 33] أَي: تعففا شَرط إِرَادَته فِي الْإِكْرَاه، لَا فِي تَحْرِيمه؛ لِاسْتِحَالَة الْإِكْرَاه إِلَّا عِنْد إِرَادَته، وَإِلَّا فَهِيَ تبغي طبعا. وَقيل: النَّهْي لسَبَب، قَالَ جَابر كَانَ عبد الله بن أبي يَقُول لجارية لَهُ: اذهبي فابغينا شَيْئا، فَنزلت الْآيَة. وَقيل: عَارض ظَاهر الْآيَة إِجْمَاع قَاطع. وَبني صَاحب " الْمَحْصُول " الْخلاف على أصل وَهُوَ أَن عندنَا وَعند الشَّافِعِيَّة الشَّرْط مَانع من الحكم، وَعند الْحَنَفِيَّة من انْعِقَاد السَّبَب فالتعليق سَبَب. وَعِنْدهم عِنْد وجود الشَّرْط، فَعدم الحكم مُضَاف إِلَى انْتِفَاء شَرطه مَعَ وجوب سَببه، وَعِنْدهم إِلَى عدم سَببه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2932 وَقَالُوا: شَرط الْخِيَار فِي البيع خلاف الْقيَاس؛ لعدم إِمْكَان تَعْلِيق البيع؛ لِأَنَّهُ إِيجَاب، وَالْغَرَض التَّدَارُك فَجعل دَاخِلا على الحكم لمنع اللُّزُوم. وَقَالُوا: لَو علق طَلاقهَا بقيامها، ثمَّ قَالَ: إِن طَلقتهَا فَعَبْدي حر ثمَّ قَامَت، فَالْقِيَاس يعْتق؛ لِأَنَّهُ طَلقهَا، لَكِن تَرَكْنَاهُ؛ لِأَن الْأَيْمَان تحمل على الْعرف، وَالْعَادَة إِنَّمَا يعْقد يَمِينه على مَا يُمكنهُ الِامْتِنَاع مِنْهُ. وبنوا على هَذَا صِحَة تَعْلِيق الطَّلَاق بِالْملكِ، وَامْتِنَاع تَعْجِيل كَفَّارَة الْيَمين، وَأَن طول الْحرَّة، لَا يمْنَع من نِكَاح الْأمة. وَبني صَاحب " الْمَحْصُول " الْخلاف فِي الصّفة؛ على هَذَا لمنعها من عمل اللَّفْظ الْمُطلق فَهِيَ كالشرط، وَعند الْحَنَفِيَّة غايتها عِلّة، وَلَا أثر لَهَا فِي النَّفْي. قَوْله: {فَائِدَة: يسْتَعْمل الشَّرْط للتَّعْلِيل ك} قَوْله لوَلَده: {أَطْعمنِي إِن كنت ابْني} ، أَي: لِأَنَّك ابْني، وَإِذا كنت ابْني، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ} [الْبَقَرَة: 172] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2933 قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: لفظ الشَّرْط أَصله التَّعْلِيق، ويستعمله الْعَرَب كثيرا للتَّعْلِيل، لَا للتعليق، فَهُوَ تَنْبِيه على السَّبَب الْبَاعِث على الْمَأْمُور بِهِ، لَا لتعليق الْمَأْمُور بِهِ، فالمقصود التَّنْبِيه على الصّفة الباعثة، لَا التَّعْلِيق. انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَإِنَّمَا يعْتَبر مَفْهُوم الشَّرْط وَغَيره حَيْثُ لم يظْهر للتخصيص فَائِدَة، كَمَا قدمْنَاهُ، وَمثله: (واشكروا نعْمَة الله إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ) ، وَقَول الْقَائِل لِابْنِهِ: أطعني إِن كنت ابْني، فَإِن المُرَاد التَّنْبِيه على السَّبَب الْبَاعِث للْحكم، لَا تَقْيِيد الحكم بِهِ. انْتهى. قَوْله: {الرَّابِع: الْغَايَة، ك {حَتَّى تنْكح زوجا غَيره} [الْبَقَرَة: 230] وَهُوَ أقوى من الشَّرْط} ، أَي: الرَّابِع من مَفْهُوم الْمُخَالفَة مَفْهُوم الْغَايَة، وَهُوَ مد الحكم بأداة الْغَايَة ك (إِلَى) و (حَتَّى) و (اللَّام) . فمثال الْغَايَة قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} [الْبَقَرَة: 187] ، {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} [الْبَقَرَة: 222] ، (فَلَا تحل لَهُ [من بعد] حَتَّى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2934 تنْكح زوجا غَيره} [الْبَقَرَة: 230] ، وَحَدِيث: " لَا زَكَاة فِي مَال حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول ". وَهُوَ حجَّة عِنْد الْجُمْهُور، وَقد نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَغَيره من الْأَئِمَّة. وَقد اعْترف بِهِ من أنكر مَفْهُوم الشَّرْط كَابْن الباقلاني، وَالْغَزالِيّ، وَالْقَاضِي عبد الْجَبَّار، وَأبي الْحُسَيْن، وَإِلَيْهِ ذهب مُعظم نفاة الْمَفْهُوم كَمَا قَالَه الباقلاني فِي " التَّقْرِيب "، قَالَ: كُنَّا نصرنَا إبِْطَال حكم الْغَايَة وَالأَصَح عندنَا القَوْل بِهِ. وَلِهَذَا أَجمعُوا على تَسْمِيَتهَا حُرُوف الْغَايَة، وَغَايَة الشَّيْء نهايته فَلَو ثَبت الحكم بعْدهَا لم يفد تَسْمِيَتهَا غَايَة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2935 وَذهب أَكثر الْحَنَفِيَّة وَجَمَاعَة من الْفُقَهَاء، والمتكلمين، والتميمي من أَصْحَابنَا - ذكره عَنهُ ابْن شهَاب - والآمدي إِلَى الْمَنْع. قَالَ الْحَنَفِيَّة: هُوَ من قبيل الْإِشَارَة، وَهِي مَا اسْتُفِيدَ من اللَّفْظ غير مَقْصُود بِهِ، كَمَا سبق لَا الْمَفْهُوم. قَالَ ابْن عقيل، وَالْمجد: لَيْسَ لَهَا مَفْهُوم مُوَافقَة. قَالَ الباقلاني: وَاقع الِاتِّفَاق على تَقْدِير ضد الحكم بعْدهَا فَفِي: {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} يقدر: فاقربوهن، وَفِي {حَتَّى تنْكح زوجا غَيره} يقدر: فَتحل، وَنَحْو ذَلِك، وَلَا شكّ أَن الْمُضمر كالملفوظ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أضمر لسبقه إِلَى فهم الْعَارِف بِاللِّسَانِ فَكَأَنَّهُ نَص أهل اللُّغَة على أَنه مَنْطُوق. وَهَذَا من الباقلاني يدل على أَن انْتِفَاء الحكم فِيمَا بعد الْغَايَة من جِهَة الْمَنْطُوق لَا الْمَفْهُوم على خلاف مَا نَقله ابْن الْحَاجِب عَنهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2936 وَلِهَذَا قَالَ ابْن الْعَبدَرِي، وَابْن الْحَاج، وَصَاحب " البديع " من الْحَنَفِيَّة: ذهب طَائِفَة من الْحَنَفِيَّة إِلَى عدم اعْتِبَار مَفْهُوم الْغَايَة. اسْتدلَّ الْقَائِل بِهِ بِمَا سبق فِي مَفْهُوم الصّفة [و] اسْتدلَّ بِأَن معنى: صُومُوا إِلَى أَن تغيب الشَّمْس: صُومُوا صوما آخِره غيبوبة الشَّمْس، فَلَو وَجب صَوْم بعْدهَا كَانَت وسطا، لَا آخرا. ورده الْآمِدِيّ بِأَن هَذَا مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا الْخلاف هَل نفي الحكم بعد الْغَايَة لَازم من التَّقْيِيد بهَا، وَهِي غَايَة للصَّوْم الْمَأْمُور بِهِ أَو لَا. وَإِنَّمَا تصير وسطا لَو اسْتندَ الصَّوْم بعْدهَا إِلَى الْخطاب قبلهَا، وَلَيْسَ كَذَلِك. وَجَوَابه: أَن هَذَا ظَاهر التَّقْيِيد مَا لم يُعَارضهُ دَلِيل، وَلِهَذَا يتَبَادَر إِلَى الْفَهم، وَلَا يحسن الِاسْتِفْهَام فِيمَا بعْدهَا. وَسلم الْآمِدِيّ أَنه لَا يحسن، لَكِن لعدم دلَالَة اللَّفْظ عَلَيْهِ، وَفِيه نظر لاحْتِمَاله عِنْده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2937 وَقَالَ ابْن عقيل: لَا يحسن التَّصْرِيح بِأَن مَا بعْدهَا كَمَا قبلهَا، وَهُوَ خلاف مَا فِي " التَّمْهِيد " فِيهِ، وَفِي الشَّرْط وَنقض بهما فِي الصّفة. وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَا مَانع مِنْهُ إِجْمَاعًا. فَائِدَة: إِذا تصور فِي الْغَايَة تطاول: هَل يتَعَلَّق الحكم بأولها، أَو يتَوَقَّف الحكم على تَمامهَا؟ الْأَكْثَر على الأول. تظهر فَائِدَته فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي} [الْبَقَرَة: 196] فَيجب دم التَّمَتُّع إِذا فرغ من الْعمرَة وَأحرم بِالْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ يُسمى حِينَئِذٍ مُتَمَتِّعا فيكتفي بأولها، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي، وَرِوَايَة عَن أَحْمد، وَقَالَ مَالك: مَا لم يقف بِعَرَفَة لَا يجب دم التَّمَتُّع، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2938 وَعَن أَحْمد رِوَايَة: يلْزم الدَّم بِالْوُقُوفِ. وَقَالَ عَطاء: مَا لم يرم جَمْرَة الْعقبَة. منشأ ذَلِك أَنه لَا يَكْتَفِي بِأول الْغَايَة، وَالصَّحِيح عندنَا وجوب الدَّم بِطُلُوع فجر يَوْم النَّحْر. قَوْله: {الْخَامِس: الْعدَد لغير مُبَالغَة كثمانين جلدَة، قَالَ بِهِ أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَمَالك، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَحكي عَن الشَّافِعِي. ونفاه ابْن شاقلا، وَالْقَاضِي، وَالْحَنَفِيَّة، والأشعرية، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2939 وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَجعله أَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو الطّيب وَجمع من قسم الصِّفَات} . أَي: الْخَامِس من أَنْوَاع مَفْهُوم الْمُخَالفَة مَفْهُوم الْعدَد، أَي: تَعْلِيق الحكم بِعَدَد مَخْصُوص، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة} [النُّور: 4] وَهُوَ كالصفة. قَالَ بِهِ الإِمَام أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَمَالك، وَدَاوُد، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَمِنْهُم: الشَّيْخ أَبُو حَامِد، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ، وَابْن الصّباغ فِي " الْعدة "، وسليم، قَالَ: وَهُوَ دليلنا فِي نِصَاب الزَّكَاة وَالتَّحْرِيم بِخمْس رَضعَات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2940 وَنَقله أَبُو حَامِد، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَالْمَاوَرْدِيّ عَن نَص الشَّافِعِي. قَالَ ابْن الرّفْعَة: القَوْل بِمَفْهُوم الْعدَد هُوَ الْعُمْدَة عندنَا فِي [عدم] تنقيص الْحِجَارَة فِي الِاسْتِنْجَاء من الثَّلَاثَة. ونفاه الْحَنَفِيَّة، والمعتزلة، والأشعرية، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَاخْتَارَهُ القَاضِي أَبُو يعلى فِي جُزْء صنفه فِي الْمَفْهُوم. وَذكره أَبُو الْخطاب عَن أبي إِسْحَاق من أَصْحَابنَا فِي مَسْأَلَة الزِّيَادَة على النَّص: هَل هِيَ نسخ أم لَا؟ اسْتدلَّ الْقَائِل بِهِ بِمَا سبق فِي الصّفة من قَوْله: " لأزيدن على السّبْعين " وَلِئَلَّا يعرى عَن فَائِدَة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2941 فَائِدَة: مَحل الْخلاف فِي ذَلِك فِي عدد لم يقْصد بِهِ التكثير كالألف وَالسبْعين، وَنَحْوهمَا مِمَّا يسْتَعْمل فِي لُغَة الْعَرَب للْمُبَالَغَة. قَالَ ابْن فورك وَغَيره: فَإِن قَوْلهم الْعدَد نُصُوص إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ لَا قرينَة تدل على إِرَادَة الْمُبَالغَة، نَحْو: جئْتُك ألف مرّة فَلم أجدك. قَالَ: وَبِذَلِك يعلم ضعف الِاحْتِجَاج بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما نزل: {إِن تستغفر لَهُم سبعين مرّة فَلَنْ يغْفر الله لَهُم} [التَّوْبَة: 80] : " لأزيدن على السّبْعين "، فَعمل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْمَفْهُومِ فِيهِ، وَذَلِكَ من أشهر حجج المعتبرين لمَفْهُوم الْعدَد. بل وَيُجَاب عَنهُ بِأَمْر آخر وَهُوَ: أَنه لَعَلَّه قَالَه رَجَاء لحُصُول الْمَغْفِرَة بِنَاء على بَقَاء حكم الأَصْل، وَهُوَ الرَّجَاء الَّذِي كَانَ ثَابتا قبل نزُول الْآيَة، لَا لِأَنَّهُ فهمه من التَّقْيِيد. وَجَوَاب الباقلاني، وَأبي الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ، وَمن تَبِعَهُمْ بالطعن فِي الحَدِيث غير سديد؛ فَإِنَّهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " بِلَفْظ " سأزيد ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2942 قَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ: وَمَا رَوَاهُ أَبُو عبيد: " لأزيدن على السّبْعين " لَا يَصح؛ فَإِنَّهُ يمْتَنع غفران ذَنْب الْكَافِر، وَإِنَّمَا الْمَرْوِيّ: " لَو علمت أَنه يغْفر لَهُ إِذا زِدْت على السّبْعين لزدت ". انْتهى. وَهَذِه الزِّيَادَة فِي البُخَارِيّ فِي الْجَنَائِز بِلَفْظ: " لَو أعلم أَنِّي إِن زِدْت على سبعين يغْفر لَهُ لزدت عَلَيْهَا "، وَهِي فِي البُخَارِيّ أَيْضا فِي تَفْسِير سُورَة بَرَاءَة. قَالَ ابْن فورك: وَلَيْسَ بمستنكر استغفاره - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -؛ لِأَنَّهَا لَا تستحيل عقلا، والإجابة مُمكنَة. وتلطف ابْن الْمُنِير فَقَالَ: لَعَلَّ الْقَصْد بالاستغفار التَّخْفِيف كَمَا فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2943 الدُّعَاء بِهِ لأبي طَالب وَقَوله: " لأزيدن على السّبْعين " أَي: أفعل ذَلِك؛ لأثاب على الاسْتِغْفَار، فَإِنَّهُ عبَادَة. قلت: وَهُوَ عَجِيب، فَإِنَّهُ خلاف مُقْتَضى سِيَاق الْآيَة، وَقد تقدم مَا فِي الْآيَة من الْبَحْث فِي مَفْهُوم الصّفة فليعاود. قَوْله: {وَجعله أَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو الطّيب وَجمع من قسم الصِّفَات} ؛ لِأَن قدر الشَّيْء صفته. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَاخْتِيَار أبي الْمَعَالِي أَنه من قسم الصِّفَات، وَكَذَا قَالَ أَبُو الطّيب وَغَيره؛ لِأَن قدر الشَّيْء صفته. قَوْله: {وَنفى السُّبْكِيّ مَفْهُوم الْمَعْدُود} ، فَقَالَ: التَّحْقِيق عِنْدِي أَن الْخلاف فِي مَفْهُوم الْعدَد إِنَّمَا هُوَ عِنْد ذكر نفس الْعدَد، وَأما الْمَعْدُود الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2944 فَلَا يكون مَفْهُومه حجَّة، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أحلّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ " فَلَا يكون فِيهِ تَحْرِيم ميتَة ثَالِثَة. قَالَ بَعضهم كَذَا فِي " شرح الْبَيْضَاوِيّ " للسبكي، وَصَوَابه: عدم حل ميتَة ثَالِثَة، وَهُوَ الصَّوَاب. قَوْله: {السَّادِس اللقب، وَهُوَ تَخْصِيص اسْم بِحكم، حجَّة عِنْد أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَمَالك، وَدَاوُد، والصيرفي، والدقاق، وَابْن فورك، وَابْن خويزمنداد، وَابْن الْقصار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2945 ونفاه القَاضِي} فِي الْجُزْء الَّذِي صنفه فِي الْمَفْهُوم، {وَابْن عقيل} فِي تَقْسِيم الْأَدِلَّة، {وَأكْثر الْعلمَاء، و} كَذَلِك {الْمُوفق، وَقَالَ: وَلَو كَانَ مشتقا كالطعام. وَقَيده بعض أَصْحَابنَا بِغَيْر الْمُشْتَقّ} . قَالَ بعض أَصْحَابنَا: فَيصير فِي الْمُشْتَقّ اللَّازِم كالطعام، هَل هُوَ من الصّفة أَو اللقب؟ وَجْهَان. وَقَالَ الْمجد بن تَيْمِية، وَغَيره من أَصْحَابنَا وَقَالَ: أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو الطّيب فِي مَوضِع أَنه حجَّة بعد سَابِقَة مَا يعمه كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ترابها طهُور " بعد قَوْله: " جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا "، كَمَا لَو قيل: يَا رَسُول الله، أَفِي بَهِيمَة الْأَنْعَام زَكَاة؟ فَقَالَ: فِي الْإِبِل زَكَاة. أَو: هَل نبيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ؟ فَقَالَ: لَا تَبِيعُوا الْبر بِالْبرِّ تَقْوِيَة للخاص بِالْعَام كالصفة بالموصوف. قَالَ: وَأكْثر مَا جَاءَ عَن أَحْمد فِي مَفْهُوم اللقب لَا يخرج عَن هَذَا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2946 وَجعله الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: [حجَّة] فِي اسْم الْجِنْس، لَا اسْم عين؛ لِأَن خطاب الشَّارِع إِنَّمَا يَجِيء عَاما، لَا شخصا. انْتهى. وَجه القَوْل الأول: لَو تعلق الحكم بِالْعَام لم يعلق بالخاص؛ لِأَنَّهُ أخص وأعم؛ وَلِأَنَّهُ يُمَيّز مُسَمَّاهُ كالصفة. فَإِن قيل: الصّفة يجوز جعلهَا عِلّة. قيل: وَكَذَا الِاسْم، فالتراب عِلّة. وَاحْتج ابْن عقيل: لَو قَالَ لمن يخاصمه: مَا أُمِّي بزانية، فهم نِسْبَة الزِّنَا إِلَى أمه، وحد عِنْد مَالك وَأحمد. رد: هَذِه للقرينة. الْقَائِل بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحجَّة - مَا سبق من الْفرق بَينه وَبَين الصّفة - اسْتدلَّ: يلْزم كفر من قَالَ: مُحَمَّد رَسُول الله، وَزيد مَوْجُود، ظَاهرا. رد: لَا يكفر؛ لِأَنَّهُ لم ينتبه للدلالة، أَو لم يردهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2947 وَاسْتدلَّ: يلْزم إبِْطَال الْقيَاس لظُهُور الأَصْل فِي مُخَالفَة الْفَرْع لَهُ ظَاهرا. رد: سبق فِي تَخْصِيص الْعَام بِالْمَفْهُومِ يقدم الْقيَاس، أَو يتعارضان، وَسبق فِي الصّفة أَن مَعَ الْمُسَاوَاة لَا مَفْهُوم. وَأجَاب فِي " الْعدة ": يبطل بِالصّفةِ تمنع الْقيَاس كَذَا هُنَا. وَأجَاب أَيْضا هُوَ، وَصَاحب " التَّمْهِيد " بِأَنَّهُ يدل لُغَة ويمنعه شرعا، وَبِأَنَّهُ حجَّة مَا لم يسْقط الْقيَاس. وَاسْتدلَّ: لَو دلّ لم يحسن الْخَبَر عَن أكل زيد إِلَّا بعد علمه بنفيه عَن غَيره. رد: للقرينة. وَاسْتدلَّ: لَا يدل على نَفْيه عَن عَمْرو. أجَاب فِي " التَّمْهِيد " بِمَنْعه إِن أخبر عَنْهُمَا، نَحْو: دعوتهما فَأكل زيد، ثمَّ هَذَا فِي الْخَبَر بِخِلَاف التَّكْلِيف. قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره " تبعا لغيره قَالَ: الْمَانِع من مَفْهُوم الْمُخَالفَة لَو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2948 دلّ الْمَفْهُوم على نفي مَا عدا الْمَنْطُوق لدل: زيد عَالم، وَمُحَمّد رَسُول الله على نفي الْعلم، والرسالة عَن غَيرهمَا. قُلْنَا: مَفْهُوم اللقب، وَفِي كَونه حجَّة خلاف وَإِن سلم فلدلالة الْعقل والحس على عدم اخْتِصَاصه. انْتهى. قَوْله: {وَنفى قوم الْمَفْهُوم فِي الْخَبَر، والسبكي فِي غير الشَّرْع} . إِذا كَانَ الْمَفْهُوم فِي الْأَمر وَالنَّهْي عمل بِهِ، وَإِن كَانَ فِي الْخَبَر، كَقَوْلِه: زيد الطَّوِيل فِي الدَّار، فَسلم القَاضِي فِي " الْكِفَايَة " أَنه لَا يدل على الْقصر بِنَفْي، وَلَا إِثْبَات، وَقد قَالَ قبل هَذَا: إِن تَعْلِيق هَذَا الْوُجُوب والإخبار بِالْأَلْقَابِ يَقْتَضِي النَّفْي. وَأخذ هَذَا القَوْل أَيْضا من كَلَام الْحَاجِب بالاستدلال. وَقَالَ السُّبْكِيّ: لَا يعْمل بهَا فِي كَلَام الْآدَمِيّين، وَلَيْسَت بِحجَّة فِي كَلَامهم كالأوقاف والأقارير وَغَيرهمَا؛ لغَلَبَة ذهولهم، وَإِنَّمَا هِيَ حجَّة فِي خطاب الشَّرْع خَاصَّة؛ لعلمه ببواطن الْأُمُور وظواهرها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2949 قَالَ: فَلَو وقف على الْفُقَرَاء، لَا نقُول: إِن الْأَغْنِيَاء خارجون بِالْمَفْهُومِ، بل عدم استحقاقهم بِالْأَصْلِ. قَوْله: {إِذا خص نوع بِالذكر بمدح، أَو ذمّ، أَو غَيره، مِمَّا لَا يصلح للمسكوت فَلهُ مَفْهُوم} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {كلا إِنَّهُم عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون} [المطففين: 15] فالحجاب عَذَاب، فَلَا يحجب من لَا يعذب، وَلَو حجب الْجَمِيع لم يكن عذَابا. قَالَ الإِمَام مَالك: لما حجب أعداءه تجلى لأوليائه حَتَّى رَأَوْهُ. وَقَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: لما حجب هَؤُلَاءِ فِي السخط كَانَ فِي هَذَا دَلِيل على أَن أولياءه يرونه فِي الرضى. وَقَالَ أَيْضا: فِي الْآيَة دلَالَة على أَن أولياءه يرونه يَوْم الْقِيَامَة بأبصار وُجُوههم. وبهذه الْآيَة اسْتدلَّ الإِمَام أَحْمد، وَغَيره من الْأَئِمَّة على الرُّؤْيَة للْمُؤْمِنين. قَالَ الزّجاج: لَوْلَا ذَلِك لم يكن فِيهَا فَائِدَة، وَلَا خست ... الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2950 مَنْزِلَتهمْ بحجبهم. قَوْله: {وَإِذا اقْتضى الْحَال، أَو اللَّفْظ عُمُوم الحكم، لَو عَم فتخصيص بعض بِالذكر لَهُ مَفْهُوم، ذكره الشَّيْخ وَغَيره} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وفضلناهم على كثير} ، وَقَوله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَن الله يسْجد لَهُ} - إِلَى قَوْله: - {وَكثير من النَّاس} [الْحَج: 18] . قَوْله: {وَفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ دَلِيل كدليل الْخطاب عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا، وَمنعه ابْن عقيل وَغَيره} . قَالَ ابْن مُفْلِح: فعله عَلَيْهِ السَّلَام لَهُ دَلِيل، ذكره أَصْحَابنَا، مِنْهُم: القَاضِي، وَأَخذه من قَول أَحْمد: لَا يصلى على ميت بعد شهر لحَدِيث أم سعد، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَرُوَاته ثِقَات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2951 عَن سعيد بن الْمسيب: (أَن أم سعد مَاتَت وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَائِب، فَلَمَّا قدم صلى عَلَيْهَا وَقد مضى لذَلِك شهر) . وَضعف هَذِه الدّلَالَة بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَأكْثر كَلَام ابْن عقيل مثله، وَجوز أَن الْمُسْتَند اسْتِصْحَاب الْحَال، وَقَالَ: لَيْسَ للْفِعْل صِيغَة تخص، وَلَا تعم فضلا على أَن نجْعَل لَهَا دَلِيل خطاب. وَذكر بَعضهم مَفْهُوم قرَان الْعَطف، وسبقت الْمَسْأَلَة فِي الْعُمُوم. قَوْله: فَائِدَة: كل دلَالَة الْمَفْهُوم بالالتزام، أخذت ذَلِك من كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل، بِمَعْنى أَن النَّفْي فِي الْمَسْكُوت لَازم للثبوت فِي الْمَنْطُوق مُلَازمَة ظنية، لَا قَطْعِيَّة. انْتهى. قَوْله { (إِنَّمَا) بِالْكَسْرِ تفِيد الْحصْر نطقا عِنْد أبي الْخطاب، وَابْن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2952 الْمَنِيّ، والموفق، وَالْفَخْر، وَبَعض الْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة. وَعند القَاضِي، وَابْن عقيل، والحلواني، وَالْأَكْثَر فهما، وَعند أَكثر الْحَنَفِيَّة، والآمدي، والطوفي، وَغَيرهم: لَا تفيده، بل تؤكد الْإِثْبَات} . أَكثر الْعلمَاء قَالُوا: إِن (إِنَّمَا) تفِيد الْحصْر، وَهُوَ إِثْبَات الحكم فِي الْمَذْكُور ونفيه عَمَّا عداهُ، فَقَالَ أَبُو الْخطاب، وَابْن الْمَنِيّ، وَالشَّيْخ الْمُوفق، وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل أَبُو مُحَمَّد، وَغَيرهم من أَصْحَابنَا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2953 والجرجاني وَغَيره من الْحَنَفِيَّة، وَأَبُو حَامِد الْمروزِي وَغَيره من الشَّافِعِيَّة: إِنَّهَا تفيده نطقا. وَعند القَاضِي أبي يعلى، وَابْن عقيل، والحلواني، وَأكْثر الْعلمَاء: تفيده بِالْمَفْهُومِ، مِنْهُم جمَاعَة من الشَّافِعِيَّة، وَجَمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين. وَأطلق الإفادة الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وألكيا، والرازي وَأَتْبَاعه. وَعند أَكثر الْحَنَفِيَّة، والآمدي، والطوفي من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم: لَا تفيده، بل تؤكد الْإِثْبَات فَلَا تفِيد الْحصْر، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَيَّان، وَقَالَ: كَمَا لَا يفهم ذَلِك من أخواتها المكفوفة ب (مَا) مثل: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2954 ليتما، ولعلما، وَإِذا فهم من (إِنَّمَا) حصر فَإِنَّمَا هُوَ من السِّيَاق، لَا أَنَّهَا تدل عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ، وَبَالغ فِي إِنْكَار ذَلِك، وَنَقله عَن الْبَصرِيين. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَفِيه نظر، فَإِن إِمَام اللُّغَة نقل عَن أهل اللُّغَة أَنَّهَا تفيده، نَحْو: إِنَّمَا الْمَرْء بأصغريه، بِمَعْنى: قلبه وَلسَانه، أَي: كَمَا لَهُ بِهَذَيْنِ العضوين، لَا بهيئته ومنظره، ثمَّ قَالَ: نعم، لَهُم طرق فِي إفادتها، أقواها: نقل أهل اللُّغَة، واستقراء استعمالات الْعَرَب إِيَّاهَا فِي ذَلِك، وأضعفها طَريقَة الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه: أَن (إِن) للإثبات و (مَا للنَّفْي، وَلَا يَجْتَمِعَانِ فَيجْعَل الْإِثْبَات للمذكور، وَالنَّفْي للمسكوت. ورد: بِمن كل من الْأَمريْنِ؛ لِأَن (إِن) لتوكيد النِّسْبَة نفيا كَانَ أَو إِثْبَاتًا، نَحْو: إِن زيدا قَامَ، وَإِن زيدا لم يقم. و (مَا) كَافَّة لَا نَافِيَة على الْمُرَجح، وَبِتَقْدِير التَّسْلِيم فَلَا يلْزم اسْتِمْرَار الْمَعْنى فِي حَالَة الْإِفْرَاد [أَو] حَالَة التَّرْكِيب. وَقَالَ السكاكي: لَيْسَ الْحصْر فِي (إِنَّمَا) لكَون (مَا) للنَّفْي كَمَا يفهمهُ من لَا وقُوف لَهُ على النَّحْو؛ لِأَنَّهَا لَو كَانَت للنَّفْي لَكَانَ لَهَا الصَّدْر. ثمَّ حكى عَن الربعِي أَن التَّأْكِيد إِثْبَات الْمسند للمسند إِلَيْهِ، و (مَا) مُؤَكدَة فَنَاسَبَ معنى الْحصْر، ورضيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2955 دَلِيل الْقَائِل بالحصر: تبادر الْفَهم بِلَا دَلِيل. عورض: هَذَا لَو انحصر دَلِيل الْحصْر فِي (إِنَّمَا) . وَجَوَابه: الأَصْل عدم غَيره، وَالْفَرْض فِيهِ، وَاحْتج ابْن عَبَّاس على إِبَاحَة رَبًّا الْفضل بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة " وَهُوَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، وشاع فِي الصَّحَابَة، وَلم يُنكر، وَعدل إِلَى دَلِيل. لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: فِيهِ نظر؛ إِن ابْن عَبَّاس رَوَاهُ عَن أُسَامَة بِلَفْظ: " لَيْسَ الرِّبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَة " كَمَا فِي مُسلم، فَيحْتَمل أَنه مُسْتَند ابْن عَبَّاس. وَقد يُجَاب بِأَنَّهُم قد رووا أَنه اسْتدلَّ بذلك وَأَنَّهُمْ لما وافقوه كَانَ كالإجماع، وَإِن كَانَ قد رَوَاهُ مرّة أُخْرَى بِصِيغَة (إِلَّا) وغايته أَن الصيغتين سَوَاء فاستدل بِهَذِهِ تَارَة، وبهذه أُخْرَى. انْتهى. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَيْضا: " لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة ". ثمَّ قَالَ: وَاسْتدلَّ بِأَن (إِن) للإثبات و (مَا) للنَّفْي. رد: تحكم؛ لِأَن (مَا) لَهَا أَقسَام، ثمَّ يلْزم نفي طلب الْمجد فِي قَول امْرِئ الْقَيْس: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2956 (ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... ) وَهُوَ يُنَاقض مَا قبله وَمَا بعده. ثمَّ (مَا) هُنَا زَائِدَة عِنْد النُّحَاة، تكف (إِن) عَن الْعَمَل، وَأَن كلا مِنْهُمَا لَهُ صدر الْكَلَام فَلَا يجمع بَينهمَا ك (لَام) الِابْتِدَاء مَعَ إِن، لَكِن تدخل لَام الِابْتِدَاء على خَبَرهَا، وَتدْخل عَلَيْهِ (مَا) إِن كَانَ جملَة و (إِن) لتأكيد مضمونها. وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد " و " الرَّوْضَة " وَغَيرهمَا: (إِنَّمَا) كأداة الِاسْتِثْنَاء، رد: عين الدَّعْوَى. الْقَائِل بِعَدَمِهِ: إِنَّمَا زيد قَائِم بِمَعْنى إِن زيدا قَائِما و (مَا) زَائِدَة فَهِيَ كَالْعدمِ؛ وَلِأَنَّهَا ترد للحصر وَغَيره فَيلْزم مِنْهُ الْمجَاز أَو الِاشْتِرَاك، وهما خلاف الأَصْل. رد: بِمَا سبق وَيُخَالف الأَصْل لدَلِيل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2957 قَوْله: {وَقد ترد لتحقيق الْمَنْصُوص لَا لنفي غَيره، نَحْو: إِنَّمَا الْكَرِيم يُوسُف} بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. قَوْله: {وَالأَصَح أَن الْمَفْتُوحَة كالمكسورة} ، ذكره الزَّمَخْشَرِيّ وَغَيره، وَادّعى إفادتها للحصر فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوحى إِلَيّ أَنما إِلَهكُم إِلَه وَاحِد} [الْأَنْبِيَاء: 108] وَقَالَ: إِن الْقصر فِي (إِنَّمَا) الْمَكْسُورَة الأولى فِي الْآيَة قصر الحكم على الشَّيْء، وَفِي (إِنَّمَا) الثَّانِيَة الْمَفْتُوحَة قصر الشَّيْء على الحكم. يُرِيد بذلك قصر الصّفة على الْمَوْصُوف، وَعَكسه. وَبِنَاء الْمَسْأَلَة على أَن الْمَفْتُوحَة فرع الْمَكْسُورَة على أصح الْمذَاهب، وَقد عد سِيبَوَيْهٍ الْمَكْسُورَة والمفتوحة وَاحِدًا. وَقد رد أَبُو حَيَّان على الزَّمَخْشَرِيّ ذَلِك، رد: كَلَام أبي حَيَّان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2958 وَقيل: الْمَكْسُورَة فرع الْمَفْتُوحَة. وَقيل: كل مِنْهُمَا أصل بِرَأْسِهِ، حكاهن ابْن الخباز، وَهُوَ مِمَّا يُقَوي كَلَام الزَّمَخْشَرِيّ. قَوْله: {" تَحْرِيمهَا التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم "، والعالم زيد، وصديقي زيد، وَلَا قرينَة عهد تفِيد الْحصْر نطقا، عِنْد القَاضِي، والموفق، وَالْمجد، والمحققين، وَقيل: فهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2959 وَعند أَكثر الْحَنَفِيَّة، والباقلاني والآمدي: لَا تفيده} . من صِيغ الْحصْر الْمُعْتَبر مَفْهُومه حصر الْمُبْتَدَأ فِي الْخَبَر، وَله صيغتان: إِحْدَاهمَا: نَحْو: صديقي زيد، قَالَه الْمُحَقِّقُونَ مستدلين بِأَن صديقي عَام فَإِذا أخبر عَنهُ بخاص وَهُوَ زيد كَانَ حصرا لذَلِك الْعَام، وَهُوَ الأصدقاء كلهم فِي الْخَبَر، وَهُوَ زيد؛ إِذْ لَو نفى من أَفْرَاد الْعُمُوم مَا لم يدْخل فِي الْخَبَر لزم أَن يكون الْمُبْتَدَأ أَعم من الْخَبَر، وَذَلِكَ لَا يجوز. قَالَ الْغَزالِيّ: لَا لُغَة وَلَا عقلا، فَلَا نقُول: الْحَيَوَان إِنْسَان، وَلَا الزَّوْج عشرَة، بل أَن يكون الْمُبْتَدَأ أخص أَو مُسَاوِيا. انْتهى. وَقد حكى ابْن الْحَاجِب فِي أَمَالِيهِ فِي ذَلِك ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: هَذَا. وَالثَّانِي: مثله، إِلَّا أَن أَيهمَا قَدمته فَهُوَ الْمُبْتَدَأ، لَكِن تَقْدِيم (صديقي) يُفِيد الْحصْر، وَتَقْدِيم زيد لَا يفِيدهُ. وَالثَّالِث: اسْتِوَاء التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير فَحِينَئِذٍ إِمَّا أَن تُرِيدُ بصديقي خَاصّا، أَو عَاما، إِن أردْت عَاما فَلَا حصر سَوَاء قدمت، أَو أخرت. وَإِن أدرت خَاصّا أَفَادَ الْحصْر سَوَاء قدمت أَو أخرت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2960 إِذا علم ذَلِك فَالصَّحِيح أَنه يُفِيد ذَلِك نطقا عِنْد القَاضِي، والموفق، وَالْمجد، والرازي، وَأَتْبَاعه، وَغَيرهم. وَعند الْغَزالِيّ، وَبَعض الْفُقَهَاء إِنَّمَا يفِيدهُ من الْمَفْهُوم. والصيغة الثَّانِيَة: قَوْلنَا: الْعَالم زيد، وَزيد الْعَالم، إِذا جعلت اللَّام للْحَقِيقَة، أَو للاستغراق لَا للْعهد. وَالْحكم فيهمَا كالصيغ الَّتِي قبلهَا، وَكَذَلِكَ قَوْله: تَحْرِيمهَا التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم؛ لِأَنَّهُ مُضَاف إِلَى ضمير عَائِد إِلَى الصَّلَاة، وفيهَا اللَّام. وَبِه احْتج أَصْحَابنَا، وَأَصْحَاب الشَّافِعِي على تعْيين لَفْظِي التَّكْبِير، وَالتَّسْلِيم بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَحْرِيمهَا التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم ". وَمنعه الْحَنَفِيَّة لمنعهم المفاهيم. ورد: بِأَن التَّعْيِين مُسْتَفَاد من الْحصْر الْمَدْلُول عَلَيْهِ بالمبتدأ وَالْخَبَر، فَإِن التَّحْرِيم منحصر فِي التَّكْبِير: كانحصار زيد فِي صداقتك إِذا قلت: صديقي زيد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2961 وَأما إِذا كَانَ الْخَبَر نكرَة، نَحْو: زيد قَائِم، فَالْأَصَحّ أَنَّهَا لَا تفِيد الْحصْر، كَمَا فِي الحَدِيث: " الصّيام جنَّة "، فَإِنَّهُ لَا يمْنَع أَن غَيره أَيْضا جنَّة، وَلِهَذَا جَاءَ: " فليتق النَّار وَلَو بشق تَمْرَة ". وَقيل: يفِيدهُ. فَقيل: نطقا. وَقيل: فهما، كَمَا فِي الَّتِي قبلهَا. قَوْله: {وَمثله حصر بِنَفْي وَنَحْوه، واستثناء تَامّ، ومفرغ، وَفصل الْمُبْتَدَأ من الْخَبَر بضمير الْفَصْل، وَتَقْدِيم الْمَعْمُول} . فَحصل الْحصْر بِالنَّفْيِ وَنَحْوه، وبالاستثناء التَّام، والمفرغ، وَسَوَاء كَانَ النَّفْي ب (مَا) أَو (لَا) أَو (لَيْسَ) أَو (لم) أَو (إِن) أَو (أما) ، وَهُوَ فِي معنى النَّفْي، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَهَل يهْلك إِلَّا الْقَوْم الْفَاسِقُونَ} [الْأَحْقَاف: 35] ، و {يَأْبَى الله إِلَّا أَن يتم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ} [التَّوْبَة: 32] ، وَلذَا قُلْنَا فِي الْمَتْن بِنَفْي وَنَحْوه، وَسَوَاء كَانَت أَدَاة الِاسْتِثْنَاء (إِلَّا) أَو غَيرهَا نَحْو: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَمَا لي سوى الله، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2962 (رضيت بك اللَّهُمَّ رَبًّا فَلَنْ أرى ... أدين إِلَهًا غَيْرك الله وَاحِدًا) وَمَا قَامَ الْقَوْم إِلَّا زيدا، وَمَا رَأَيْت إِلَّا زيدا، وَنَحْوه، وَهُوَ وَاضح. وَقد اعْترف أَكثر منكري الْمَفْهُوم كالباقلاني، وَالْغَزالِيّ بِاعْتِبَار الْمَفْهُوم هُنَا، وأصر الْحَنَفِيَّة على نفيهم. وَالصَّحِيح أَن الدّلَالَة هُنَا بالمنطوق بِدَلِيل مَا لَو قَالَ: مَاله عَليّ إِلَّا دِينَار كَانَ ذَلِك إِقْرَارا بالدينار، وَلَو كَانَ بِالْمَفْهُومِ لم يُؤَاخذ بِهِ لعدم اعْتِبَار الْمَفْهُوم فِي الأقارير، وَبِذَلِك صرح ابْن الْقطَّان فِي نَحْو: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي "، و " لَا صِيَام لمن لم يبيت الصّيام من اللَّيْل " فَقَالَ: إِن النَّفْي وَالْإِثْبَات كِلَاهُمَا بالمنطوق، وَلَيْسَ أَحدهمَا بِالْمَفْهُومِ؛ لِأَنَّك لَو قلت: لَا تعط زيدا شَيْئا إِلَّا إِن دخل الدَّار، كَانَ الْعَطاء وَالْمَنْع مَنْصُوصا عَلَيْهِمَا. وَمن جزم بِأَنَّهُ مَنْطُوق أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " الملخص ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2963 وَرجحه الْقَرَافِيّ فِي " الْقَوَاعِد ". وَإِنَّمَا ذَكرْنَاهُ فِي الْمَفْهُوم تبعا للمشهور فِي كتب الْأُصُول. وَمن الْحصْر أَيْضا: الْحصْر بضمير الْفَصْل، نَحْو: زيد هُوَ الْعَالم، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إِن شانئك هُوَ الأبتر} [الْكَوْثَر: 3] ، {فَالله هُوَ الْوَلِيّ} [الشورى: 9] ذكره البيانيون. قَالَ ابْن الْحَاجِب: صَار إِلَيْهِ بعض الْعلمَاء لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِن جندنا لَهُم الغالبون} [الصافات: 173] فَإِنَّهُ لم يسق إِلَّا للإعلام بِأَنَّهُم الغالبون دون غَيرهم، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَن المسرفين هم أَصْحَاب النَّار} [غَافِر: 43] ، و {إِن الله هُوَ الغفور الرَّحِيم} [الشورى: 5] . وَالثَّانِي: أَنه لم يوضع للإفادة، وَلَا فَائِدَة فِي مثل قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِن كَانُوا هم الظَّالِمين} [الزخرف: 76] سوى الْحصْر. ويفيد الِاخْتِصَاص الْحصْر أَيْضا وَهُوَ تَقْدِيم الْمَعْمُول. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} [الْفَاتِحَة: 5] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2964 أَي: نخصك بِالْعبَادَة والاستعانة، وَهَذَا معنى الْحصْر، وَسَوَاء فِي الْمَفْعُول وَالْحَال، والظرف وَالْخَبَر بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُبْتَدَأ، نَحْو: تميمي أَنا، وَبِه صرح صَاحب " الْمثل السائر "، وَأنْكرهُ عَلَيْهِ صَاحب " الْفلك "، وَقَالَ: لم يقل بِهِ أحد. وإنكاره عَجِيب فَكَلَام البيانيين طافح بِهِ، وَبِه احْتج أَصْحَابنَا، وَأَصْحَاب الشَّافِعِي على تعْيين لَفْظِي التَّكْبِير وَالتَّسْلِيم بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَحْرِيمهَا التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم " كَمَا تقدم. قَوْله: {وَهُوَ يُفِيد الِاخْتِصَاص} ، قَالَه البيانيون، وَخَالفهُم فِي ذَلِك ابْن الْحَاجِب وَأَبُو حَيَّان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2965 فَقَالَ ابْن الْحَاجِب فِي " شرح الْمفصل ": إِن توهم النَّاس لذَلِك وهم، وتمسكهم بِنَحْوِ: {بل الله فاعبد} [الزمر: 66] ضَعِيف لوُرُود {فاعبد الله} ، فَيلْزم أَن الْمُؤخر يُفِيد عدم الْحصْر - إِفَادَة نَفْيه - لكَونه نقيضه. وَأجِيب: لَا يسْتَلْزم حصرا، وَلَا عَدمه، وَلَا يلْزم من عدم إِفَادَة الْحصْر إِفَادَة نَفْيه، لَا سِيمَا ومخلصا فِي قَوْله تَعَالَى: {فاعبد الله مخلصا} مغن عَن إِفَادَة الْحصْر. وَقَالَ أَبُو حَيَّان فِي أول تَفْسِيره فِي رد دَعْوَى الِاخْتِصَاص: إِن سِيبَوَيْهٍ قَالَ: إِن التَّقْدِيم للاهتمام والعناية، فَهُوَ فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير كَمَا فِي (ضرب زيد عمرا) ، و (ضرب عمرا زيد) فَكَمَا أَن هَذَا لَا يدل على الِاخْتِصَاص فَكَذَلِك مثالنا. وَأجِيب: بِأَن تَشْبِيه سِيبَوَيْهٍ إِنَّمَا هُوَ أصل الْإِسْنَاد، وَأَن التَّقْدِيم يشْعر بالاهتمام والاعتناء وَلَا يلْزم من ذَلِك نفي الِاخْتِصَاص. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2966 وَقَالَ صَاحب " الْفلك الدائر ": الْحق أَنه لَا يدل على الِاخْتِصَاص إِلَّا بالقرائن وَالْأَكْثَر فِي الْقُرْآن التَّصْرِيح بِهِ مَعَ عدم الِاخْتِصَاص، نَحْو: {إِن لَك أَلا تجوع فِيهَا وَلَا تعرى} [طه: 118] وَلم يكن ذَلِك خَاصّا بِهِ، فَإِن حَوَّاء كَذَلِك. قَوْله: {وَهُوَ الْحصْر} ، كَون الِاخْتِصَاص هُوَ الْحصْر هُوَ رَأْي جُمْهُور الْعلمَاء، وَخَالف السُّبْكِيّ فِي ذَلِك، فَقَالَ: لَيْسَ معنى الِاخْتِصَاص الْحصْر خلافًا لما يفهم كثير من النَّاس؛ لِأَن الْفُضَلَاء كالزمخشري لم يعبروا فِي نَحْو ذَلِك إِلَّا با [لَا] ختصاص، وَالْفرق بَينه وَبَين الْحصْر أَن الِاخْتِصَاص افتعال من الْخُصُوص، وَالْخَاص مركب من عُمُوم، وَمعنى يفصله، فالضرب - مثلا - عَام، فَإِذا قلت: ضربت، خصصته بِإِشَارَة لَك، فَإِذا قلت: زيدا، خصصت ضربك بِوُقُوعِهِ على زيد، فالمتكلم إِمَّا أَن يكون مَقْصُوده الثَّلَاثَة، أَو بَعْضهَا، فتقديمه أَحدهَا باختصاصه لَهَا من مُطلق الضَّرْب لدلَالَة الِابْتِدَاء بالشَّيْء على الاهتمام، وَيبقى ذكر الْبَاقِي بالتبعية فِي قَصده، وَلَيْسَ فِيهِ حِينَئِذٍ مَا فِي الْحصْر من نفي غَيره، وَإِنَّمَا جَاءَ الْحصْر فِي {إياك نعْبد} وَنَحْوه للْعلم بِهِ من خَارج لَا من نفس اللَّفْظ بِدَلِيل أَن بَقِيَّة الْآيَات لَا يطرد فِيهَا ذَلِك، أَلا ترى أَن قَوْله تَعَالَى: (أفغير دين الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2967 يَبْغُونَ} [آل عمرَان: 83] لَيْسَ المُرَاد إِنْكَار كَونهم لَا يَبْغُونَ إِلَّا غير دين الله، بل كَونهم يَبْغُونَ غير دين الله مُطلقًا. انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَقد يحْتَج للتغاير بقوله تَعَالَى: {وَالله يخْتَص برحمته من يَشَاء} [الْبَقَرَة: 105] فَإِن رَحْمَة الله لَا تَنْحَصِر. فَائِدَة: الْمَفْهُوم أَقسَام - كَمَا تقدم -، وَهِي مرتبَة بِاعْتِبَار الْقُوَّة والضعف، وَتظهر فَائِدَته فِي التراجيح، فأقواها مَا كَانَ من الْحصْر بِالنَّفْيِ، وَنَحْوه، وَالِاسْتِثْنَاء إِن قُلْنَا: إِنَّه بِالْمَفْهُومِ، وَسبق الْخلاف فِيهِ، ويليه كل مَا قيل: إِنَّه من قبيل الْمَنْطُوق، وَإِن كَانَ القَوْل بذلك ضَعِيفا؛ إِذْ لَوْلَا قوته لما جعل منطوقا على قَول، وَذَلِكَ كالغاية والحصر بإنما فهما سَوَاء، وبعدهما حصر الْمُبْتَدَأ فِي الْخَبَر، ثمَّ مَفْهُوم الشَّرْط، ثمَّ الصّفة، وَتقدم التَّنْبِيه على ذَلِك. وَالصّفة لَهَا مَرَاتِب: أَعْلَاهَا الْمُنَاسبَة، ثمَّ غير الْمُنَاسبَة سوى الْعدَد، فَدخلت الْعلَّة، والظرف، وَالْحَال فهم فِي مرتبَة وَاحِدَة، لَكِن يَنْبَغِي تَقْدِيم الْعلَّة، ثمَّ الْعدَد، ثمَّ مَفْهُوم تَقْدِيم الْمَعْمُول. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2968 (بَاب النّسخ) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2969 فارغة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2970 (قَوْله: {بَاب النّسخ} ) {لُغَة: الرّفْع والإزالة، نسخت الشَّمْس الظل، وَالنَّقْل، نسخت الْكتاب} . الِاسْتِدْلَال بِالْكتاب وَالسّنة مُتَوَقف على معرفَة بَقَاء الحكم أَو ارتفاعه، وَهُوَ بَيَان النّسخ وَأَحْكَامه. والنسخ لَهُ مَعْنيانِ: معنى فِي اللُّغَة، وَمعنى فِي الشَّرْع. فالنسخ فِي اللُّغَة يُطلق على الرّفْع، والإزالة: كنسخت الشَّمْس الظل، أَي: رفعته وأزالته، وَنسخت الرّيح الْأَثر كَذَلِك. وَيُطلق - أَيْضا - على النَّقْل، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحدهمَا: النَّقْل مَعَ عدم بَقَاء الأول كالمناسخات فِي الْمَوَارِيث، فَإِنَّهَا تنْتَقل من قوم إِلَى قوم مَعَ بَقَاء الْمَوَارِيث فِي نَفسهَا، وَمِنْه قَول بعض المبتدعة بالتناسخ فِي الْأَرْوَاح، يَزْعمُونَ أَن الْأَرْوَاح تنْتَقل من هيكل إِلَى هيكل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2971 وَالنَّوْع الثَّانِي: النَّقْل مَعَ بَقَاء الأول فَيكون المُرَاد مماثلته، كنسخ الْكتاب، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] . قَوْله: {فأصحابنا وَالْأَكْثَر: حَقِيقَة فِي الأول مجَاز فِي الثَّانِي، والقفال عَكسه، والباقلاني وَالْغَزالِيّ وَجمع: مُشْتَرك، وَابْن الْمُنِير متواطئ} . قد علمت أَن اللُّغَة وَردت بالإزالة وَالرَّفْع وبالنقل، فَذهب أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر أَنه حَقِيقَة فِي الأول، أَي: فِي الرّفْع والإزالة، مجَاز فِي الثَّانِي وَهُوَ النَّقْل، قَالَ الْهِنْدِيّ: وَهُوَ قَول الْأَكْثَر، مِنْهُم: أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ الْمُخْتَار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2972 وَذهب الْقفال الشَّاشِي إِلَى عَكسه، وَهُوَ: أَنه حَقِيقَة فِي النَّقْل، مجَاز فِي الرّفْع والإزالة، لاستلزامة الْإِزَالَة. وَقَالَ الباقلاني، وَالْغَزالِيّ، وَغَيرهمَا: مُشْتَرك بَين الْإِزَالَة وَالنَّقْل. وَقيل: الْقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا وَهُوَ الرّفْع، فَيكون متواطئا، وَبِه قَالَ ابْن الْمُنِير فِي " شرح الْبُرْهَان ". وَلَكِن لَا يَتَأَتَّى ذَلِك فِي نَحْو: نسخت الْكتاب؛ إِذْ لَا رفع فِيهِ. قَالَ الطوفي فِي شَرحه فِي نصْرَة كَلَام أَصْحَابنَا وَغَيرهم فِي أَنه حَقِيقَة فِي الرّفْع مجَاز فِي الْإِزَالَة: وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك؛ لِأَن التَّعَارُض فِي الْأَقْوَال الثَّلَاثَة قد وَقع بَين الِاشْتِرَاك على القَوْل الأول، وَبَين الْمجَاز على الْقَوْلَيْنِ الآخرين، فالمجاز أولى من الِاشْتِرَاك فَيبقى الْأَمر دائرا بَين الْقَوْلَيْنِ الآخرين، وَهُوَ أَن النّسخ حَقِيقَة فِي الرّفْع، مجَاز فِي النَّقْل، أَو بِالْعَكْسِ. وَالْأول أظهر، وَوَجهه: أَن الرّفْع أخص من النَّقْل فَيكون أولى بِحَقِيقَة النّسخ، أما أَن الرّفْع أخص من النَّقْل فَلِأَن الرّفْع يسْتَلْزم النَّقْل، وَالنَّقْل لَا يسْتَلْزم الرّفْع، فَيكون أخص فَيكون أولى بِحَقِيقَة اللَّفْظ؛ لِأَن الْأَخَص أبين، وأدل، وأوضح، فَيكون بِالْحَقِيقَةِ أولى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2973 ثمَّ ردد القَوْل فِي ذَلِك، وَذكر طَريقَة أُخْرَى فِي التقوية. قَالَ الْبرمَاوِيّ: ثمَّ قيل: الْخلف لَفْظِي، وَقيل: معنوي. تظهر فَائِدَته فِي جَوَاز النّسخ بِلَا بدل، وَفِيه نظر؛ لِأَن الْمدَار على الْحَقَائِق الْعُرْفِيَّة لَا اللُّغَوِيَّة، وَأَيْضًا فَهُوَ يبْنى على أَن الاصطلاحي نقل من اللُّغَوِيَّة كَمَا نقلت الصَّلَاة إِلَى الشَّرْعِيَّة، وَإِلَيْهِ ذهب بعض الْمُتَكَلِّمين، لَكِن الْأَظْهر أَنه كنقل الدَّابَّة، فَنقل من الْأَعَمّ إِلَى الْأَخَص. انْتهى. قَوْله: {وَشرعا} ، أَي: معنى النّسخ فِي الشَّرْع، وَاخْتلف فِيهِ: هَل هُوَ رفع، أَو بَيَان انْتِهَاء مُدَّة الحكم؟ على قَوْلَيْنِ: ذهب أَكثر الْعلمَاء إِلَى أَنه رفع الحكم، فَهُوَ: {رفع حكم شَرْعِي بِدَلِيل شَرْعِي متراخ} . ذكر مَعْنَاهُ ابْن الْحَاجِب وَغَيره. قَالَ ابْن مُفْلِح: بقول الشَّارِع أَو فعله، يخرج الْمُبَاح بِحكم الأَصْل عِنْد الْقَائِل بِهِ فَإِن ذَلِك بِحكم عَقْلِي، لَا شَرْعِي، فَإِذا أخرج فَرد من تِلْكَ الْأَفْرَاد فَلَا يُسمى نسخا، وَالرَّفْع لعدم الْفَهم، وَبِنَحْوِ: صل إِلَى آخر الشَّهْر. وَالْمرَاد بالحكم مَا تعلق بالمكلف بعد وجوده أَهلا، فالتكليف الْمَشْرُوط بِالْعقلِ عدم عِنْد عَدمه فَلَا يرد: الحكم قديم لَا يرْتَفع وَلَا ينْتَقض عَكسه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2974 بتخصيص مُتَأَخّر؛ لِأَنَّهُ بَيَان، لَا رفع عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيرهم خلافًا لبَعْضهِم، وَهَذَا معنى حد أبي الْخطاب. {وَزَاد: رفع مثل الحكم} ، لِئَلَّا يرد البداء، وَهُوَ ظُهُور مَا لم يكن؛ لِأَنَّهُ رفع نفس الحكم. وَقَالَ أَبُو الْخطاب: على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا. وأبطله الْآمِدِيّ بِأَن إِزَالَة الْمثل قبل وجوده، وَبعد عَدمه محَال، وَكَذَا مَعَه؛ لِأَنَّهَا إعدام. قَالَ: وَفِيه نظر، لَكِن يلْزم منع نسخ أَمر مُقَيّد بِمرَّة قبل فعله. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: وَزَاد ابْن الْحَاجِب: مُتَأَخّر، ليخرج مَا لَو قَالَ: صل عِنْد كل زَوَال إِلَى آخر الشَّهْر، وَنَحْوه المخصصات الْمُتَّصِلَة كلهَا فَإِنَّهَا إِخْرَاج بِدَلِيل شَرْعِي مُقَارن، لَا مُتَأَخّر. قَالَ: وَإِنَّمَا لم أذكر هَذَا الْقَيْد فِي التَّعْرِيف؛ لِأَن الرّفْع يَسْتَدْعِي ثُبُوت حكم، وَالْحكم لم يثبت بِأول الْكَلَام؛ إِذْ الْكَلَام بِآخِرهِ، فَكيف يرفع؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2975 وَأَيْضًا: يسْتَغْنى عَن قيد الْمُتَأَخر بقولنَا: بخطاب شَرْعِي فَإِنَّهُ إِذا لم يتَأَخَّر فَكيف يكون رَافعا. وَأَيْضًا فالمخصصات الْمُتَّصِلَة مُتَأَخِّرَة لفظا فَلَا يُخرجهَا قَوْله: (مُتَأَخّر) ؛ وَلِهَذَا أبدل بَعضهم (مُتَأَخّر) بمتراخ ليخرج المخصصات الْمُتَّصِلَة، وَالْكل لَا يحْتَاج إِلَيْهِ فَمَا قَرَّرْنَاهُ. وَمِمَّا يخرج بقولنَا بخطاب شَرْعِي من سَقَطت رِجْلَاهُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَال فِيهِ: رفع بِدَلِيل شَرْعِي، بل بِالْعقلِ، وَمَا وَقع للرازي فِي " الْمَحْصُول " من جعل ذَلِك نسخا فضعيف. انْتهى. تَنْبِيه: قَوْلنَا: {بِدَلِيل شَرْعِي} أولى من قَول من قَالَ: بخطاب شَرْعِي لدُخُول الْفِعْل فِي الأول، لَا الثَّانِي؛ إِذْ لَا يُقَال: للْفِعْل خطاب. وَعبر الْبَيْضَاوِيّ: بطرِيق شَرْعِي. وَهُوَ حسن، فقد جعل الْأَئِمَّة من النّسخ بِالْفِعْلِ، نسخ الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار بِأَكْلِهِ من الشَّاة، وَلم يتَوَضَّأ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2976 {و} قَالَ {ابْن حمدَان} فِي " مقنعه ": {منع اسْتِمْرَار حكم خطاب شَرْعِي بخطاب شَرْعِي متراخ عَنهُ} . قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ مُرَاد الْآمِدِيّ بحده، وَكَذَا فِي " الرَّوْضَة ": رفع حكم ثَابت بخطاب متراخ عَنهُ. قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": وَمعنى الرّفْع إِزَالَة الشَّيْء على وَجه لولاه لبقي ثَابتا، على مِثَال رفع حكم الْإِجَارَة بِالْفَسْخِ، فَإِن ذَلِك يُفَارق زَوَال حكمهَا بِانْقِضَاء مدَّتهَا. قَالَ: وَقَيَّدنَا الْحَد بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدّم؛ لِأَن ابْتِدَاء الْعِبَادَات فِي الشَّرْع مزيل لحكم الْعقل من بَرَاءَة الذِّمَّة، وَلَيْسَ بنسخ، وقيدناه بِالْخِطَابِ الثَّانِي؛ لِأَن زَوَال الحكم بِالْمَوْتِ وَالْجُنُون لَيْسَ بنسخ، وَقَوْلنَا: مَعَ تراخيه عَنهُ؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ مُتَّصِلا بِهِ كَانَ بَيَانا وإتماما لِمَعْنى الْكَلَام وتقديرا لَهُ بِمدَّة وَشرط. انْتهى. {و} قَالَ: {القَاضِي: إِخْرَاج مَا لم يرد بِاللَّفْظِ الْعَام فِي الْأَزْمَان مَعَ تراخيه عَنهُ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2977 وَغلط من قَالَ: مَا أُرِيد بِاللَّفْظِ لإفضائه إِلَى البداء، وَهُوَ خلاف مَا قَالَه هُوَ، وَقَالَهُ كثير من الْأَصْحَاب وَغَيرهم. {و} وَقَالَ {الباقلاني، وَابْن عقيل، وَالْغَزالِيّ: خطاب دَال على ارْتِفَاع حكم ثَابت بخطاب مُتَقَدم على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا مَعَ تراخيه عَنهُ} . وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: لفظ دَال على ظُهُور انْتِفَاء شَرط دوَام الحكم الأول. فَيرد عَلَيْهِ أَن اللَّفْظ دَلِيل النّسخ لَا نَفسه، وَنقض طرده بقول الْعدْل: نسخ حكم كَذَا وَعَكسه بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. ثمَّ حَاصله: اللَّفْظ الدَّال على النّسخ؛ لِأَنَّهُ فسر شَرط دوَام الحكم بِانْتِفَاء النّسخ، فانتفاء شَرط دَوَامه حُصُوله، وَأورد الثَّلَاثَة السَّابِقَة على حد الباقلاني وَمن مَعَه، وَأَن قَوْلهم على وَجه إِلَى آخِره، زِيَادَة. وَأجَاب الْآمِدِيّ عَن الأول بِمَنْع أَن النّسخ ارْتِفَاع الحكم لَا نفس الرّفْع وَهُوَ الْفِعْل صفة الرافع، وَهُوَ الْخطاب الدَّال على الِارْتفَاع ومستلزم لَهُ وَهُوَ الانفعال صفة الْمَرْفُوع الْمَفْعُول على نَحْو فسخ العقد وانفساخه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2978 وَأَن فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يدل على الِارْتفَاع، بل على الْخطاب الدَّال عَلَيْهِ وَالزِّيَادَة لَا تخل بِصِحَّة الْحَد، وفيهَا فَائِدَة. انْتهى. {و} قَالَ {القَاضِي} أَبُو يعلى، {والأستاذ} أَبُو إِسْحَاق، {وَأَبُو الْمَعَالِي} ، وَأكْثر الْفُقَهَاء: {بَيَان انْتِهَاء مُدَّة الحكم الشَّرْعِيّ مَعَ التَّأَخُّر عَن زَمَنه} . وَتقدم حد أبي الْمَعَالِي، وَهَذَا هُوَ القَوْل الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَة، الْمُقَابل لما قُلْنَاهُ أَولا، وَهُوَ أَنه بَيَان. وَمَعْنَاهُ: أَن النَّاسِخ يبين أَن الأول انْتهى التَّكْلِيف بِهِ، وأنكروا كَونه رفعا بِنَاء على أَن الحكم رَاجع إِلَى كَلَام الله تَعَالَى، وَهُوَ قديم، وَالْقَدِيم لَا يرْتَفع، لَكِن جَوَابه أَن الْمَرْفُوع هُوَ تعلق الحكم، والتعلق حَادث كَمَا سبق، فقد اتّفق الْقَوْلَانِ على أَن الحكم الأول انْعَدم تعلقه لَا ذَاته، وعَلى أَن الْخطاب الثَّانِي هُوَ الَّذِي حقق زَوَال الأول، وَإِنَّمَا اخْتلفَا فِي أَن الرافع هُوَ الثَّانِي، لَو لم يَجِيء لبقي الأول، أَو يُقَال: إِن الأول لَهُ غَايَة لَا نعلمها فَلَمَّا جَاءَ الدَّلِيل بَين انتهاءها حَتَّى لَو لم يَجِيء كَانَ الحكم للْأولِ وَإِن لم نعلمهُ. لَكِن سبق أَنه لَا يجوز تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة فَرجع القَوْل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2979 الثَّانِي إِلَى الأول وينحل الْفرق بَينهمَا إِلَى أَنه زَالَ بِهِ، أَو زَالَ عِنْده لَا بِهِ، لَكِن لما لم نعلم الزَّوَال إِلَّا بِهِ اسْتَوَى الْقَوْلَانِ. وَنَظِير هَذَا الْخلاف عِنْد الْمُتَكَلِّمين فِي أَن زَوَال الْأَعْرَاض بِالذَّاتِ أَو بالضد، فَإِن من قَالَ ببقائها قَالَ: إِنَّمَا يَنْعَدِم الضِّدّ الْمُتَقَدّم بطريان الطَّارِئ، ولولاه لبقي، وَمن لم يقل ببقائها قَالَ: إِنَّه يَنْعَدِم بِنَفسِهِ وَيحدث الضِّدّ الطَّارِئ، وَلَيْسَ لَهُ تَأْثِير فِي إعدام الضِّدّ الأول. وَنَظِيره فِي الفقهيات: الزائل الْعَائِد كَالَّذي لم يزل، أَو كَالَّذي لم يعد، فَالَّذِي يَقُول بِالْأولِ يَجْعَل الْعود بَيَانا لاستمرار حكم الأول، وَالْقَائِل بِالثَّانِي يَقُول ارْتَفع الحكم الأول بالزوال فَلَا يرجع حكمه بِالْعودِ. وَقد ظهر بِهَذَا التقرر أَن النزاع لَيْسَ لفظيا من كل وَجه، بل معنوي، لَكِن يعود الْقَوْلَانِ إِلَى مقصد وَاحِد بِالِاعْتِبَارِ الَّذِي سبق. قَالَ: وَمِمَّا يشبه ذَلِك تعبيرهم عَن الْحَدث بنواقض الْوضُوء، كَمَا قَالَه جمع وَإِن فر مِنْهُ الْأَكْثَر لعدم الرّفْع فِيهِ، لَكِن الأول أَيْضا صَحِيح لما سبق، وَنَحْوه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2980 الْفَسْخ للعقود: هَل هُوَ من حِين الْفَسْخ، أَو من الأَصْل؟ فَمن قَالَ من حِينه جعله كالنسخ هُنَا؛ لِأَن المُرَاد انْتِهَاء الْمدَّة لَا الرّفْع من الأَصْل؛ لِأَن الْوَاقِع لَا يرْتَفع، فَمن أفسد هَذِه الْعبارَة لهَذِهِ الشُّبْهَة أُجِيب بذلك. انْتهى. وَقَالَ ابْن مُفْلِح عَن القَوْل الثَّانِي: وَحكي عَن الْفُقَهَاء أَن حد النّسخ: النَّص الدَّال على انْتِهَاء أمد الحكم الشَّرْعِيّ مَعَ التَّأَخُّر عَن زمن وُرُوده. فَيرد الْإِيرَاد الأول وَالثَّالِث على هَذَا الْحَد فَإِن فروا من الرّفْع لقدم الحكم وتعلقه عقلا فانتهاء أمد الْوُجُوب يُنَافِي بَقَاء الْوُجُوب على الْمُكَلف، وَهُوَ معنى الرّفْع، وَإِن فروا؛ لِأَنَّهُ لَا يرْتَفع تعلق بمستقبل لزم منع النّسخ قبل الْفِعْل، وَإِن فروا لِأَنَّهُ يُنَافِي أمد تعلق الحكم بالمستقبل المظنون دَوَامه فَلَا بُد من زَوَال التَّعَلُّق فصح إِطْلَاق الرّفْع علبه. انْتهى. {و} قَالَت {الْمُعْتَزلَة: خطاب دَال على أَن مثل الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ الْمُتَقَدّم زائل على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا} . فَيرد عَلَيْهِ مَا ورد على حد الْغَزالِيّ، وَأوردهُ الْأَمر الْمُقَيد بِمرَّة ينْسَخ قبل فعله وهم يمنعونه. وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": حَدهمْ يُصَرح بِأَن النَّاسِخ يزِيل مَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2981 ثَبت بِالْخِطَابِ الأول، وَكلهمْ يَقُول: مَا أزاله لم يثبت بِالْأولِ، وَلَو ثَبت بِهِ لم يجز زَوَاله للبداء على الله، وَهَذَا مناقضة. انْتهى. قَوْله: {والمنسوخ الحكم الْمُرْتَفع بالناسخ} . لنا نَاسخ وَنسخ وتقدما، ومنسوخ وَهُوَ الحكم الْمُرْتَفع بناسخه كالمرتفع من وجوب تَقْدِيم الصَّدَقَة بَين يَدي مُنَاجَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقد تقدم ذَلِك فِي ضمن الْحُدُود الْمُتَقَدّمَة، بل هَذَا الْكَلَام هُنَا تكْرَار منا. قَوْله: {أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر لَا يكون النَّاسِخ أَضْعَف} . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: تَنْبِيه: يشْتَرط فِي النَّاسِخ عِنْد الْأَكْثَر أَن يكون أقوى من الْمَنْسُوخ أَو مُسَاوِيا، وَلذَلِك ذكره أَبُو الْخطاب عَن أَصْحَابنَا. انْتهى. وَقَالَ ابْن مُفْلِح: يعْتَبر فِي النَّاسِخ أَن لَا يكون أَضْعَف من الْمَنْسُوخ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2982 وَفِي " التَّمْهِيد " اشْتَرَطَهُ أَصْحَابنَا لنسخ قُرْآن بآحاد، كَذَا قَالَ. انْتهى. قَوْله: {فَائِدَتَانِ: الأولى: لَا نسخ مَعَ إِمْكَان الْجمع} ؛ لأَنا إِنَّمَا نحكم بِأَن الأول مَنْسُوخ إِذا تعذر علينا الْجمع بَينهمَا، فَإِذا لم يتَعَذَّر وجمعنا بَينهمَا بمقبول فَلَا نسخ. قَالَ الْمجد فِي " المسودة " وَغَيره: لَا يتَحَقَّق النّسخ إِلَّا مَعَ التَّعَارُض، فَأَما مَعَ إِمْكَان الْجمع فَلَا، وَقَول من قَالَ: نسخ صَوْم عَاشُورَاء برمضان، أَو نسخت الزَّكَاة كل صَدَقَة سواهَا، فَلَيْسَ يَصح إِذا حمل على ظَاهره؛ لِأَن الْجمع بَينهمَا لَا مُنَافَاة فِيهِ، وَإِنَّمَا وَافق نسخ عَاشُورَاء صَوْم فرض رَمَضَان، وَنسخ سَائِر الصَّدقَات فرض الزَّكَاة فَحصل النّسخ مَعَه، لَا بِهِ، وَهُوَ قَول القَاضِي وَغَيره. انْتهى. قَوْله: {الثَّانِيَة: أَصْحَابنَا والأشعرية: النَّاسِخ حَقِيقَة هُوَ الله تَعَالَى، والمعتزلة: هُوَ طَرِيق مَعْرفَته من نَص أَو غَيره، وَهُوَ لَفْظِي} . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: النَّاسِخ يُطلق على الله تَعَالَى، يُقَال: نسخ فَهُوَ نَاسخ، قَالَ الله تَعَالَى: {مَا ننسخ من آيَة} [الْبَقَرَة: 106] ، وَيُطلق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2983 على الطَّرِيق الْمعرفَة؛ لارْتِفَاع الحكم من الْآيَة وَخبر الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَفعله وَتَقْرِيره، وَالْإِجْمَاع على الحكم، كَقَوْلِنَا: وجوب صَوْم رَمَضَان نسخ صَوْم عَاشُورَاء وعَلى من يعْتَقد نسخ الحكم كَقَوْلِهِم: فلَان ينْسَخ الْقُرْآن بِالسنةِ، أَي: يعْتَقد ذَلِك فَهُوَ نَاسخ. والاتفاق على أَن إِطْلَاقه على الآخرين مجَاز، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الْأَوَّلين فَعِنْدَ الْمُعْتَزلَة حَقِيقَة فِي الطَّرِيق، لَا فِيهِ تَعَالَى، وَعند الْجُمْهُور حَقِيقَة فِي الله تَعَالَى، مجَاز فِي الطَّرِيق، والنزاع لَفْظِي. انْتهى. قَوْله: {أهل الشَّرَائِع على جَوَازه عقلا، ووقوعه شرعا، وَخَالف أَكثر الْيَهُود فِي الْجَوَاز، وَأَبُو مُسلم فِي الْوُقُوع، وَسَماهُ تَخْصِيصًا} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2984 أهل الشَّرَائِع من النَّصَارَى وَالْمُسْلِمين وَغَيرهمَا على جَوَاز النّسخ عقلا، ووقوعه فِي الشَّرْع، وَلم يُخَالف فِي ذَلِك إِلَّا الْيَهُود فِي الْجُمْلَة. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: اتّفقت الشَّرَائِع على جَوَاز النّسخ عقلا، سوى الشمعثية من الْيَهُود، فَإِنَّهُم قَالُوا بامتناعه عقلا، وسمعا، وَكَذَا على جَوَازه سمعا سوى الْفرْقَة الْمَذْكُورَة، والعنانية مِنْهُم؛ لتجويزهم عقلا، لَا سمعا، وَوَافَقَهُمْ أَبُو مُسلم الْأَصْفَهَانِي. وجوزته طَائِفَة من الْيَهُود عقلا، وَشرعا، لكِنهمْ لَا يُؤمنُونَ بنبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. انْتهى. قَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ": أنكر طَائِفَة من الْيَهُود - وهم العنانية أَتبَاع عنان - وُقُوعه عقلا، لَا شرعا، وَأنْكرت الشمعثية مِنْهُم - أَتبَاع شمعثا - الْأَمريْنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2985 وَحكى ابْن الزَّاغُونِيّ عَنْهُم عَكسه. وَقَالَ بَعضهم: يجوز نسخ عبَادَة بأثقل مِنْهَا عُقُوبَة، وَقَالَ أَكْثَرهم: يجوز شرعا لَا عقلا، وَأَن مُحَمَّدًا وَعِيسَى لم يأتيا بمعجزة، وَقَالَت العيسوية - أَتبَاع غير النَّبِي -: إنَّهُمَا أَتَيَا بالمعجزة وبعثا إِلَى الْعَرَب والأمييين. انْتهى. وتابع بعض غلاة الرافضة الْيَهُود فِي عدم الْجَوَاز، وَنَقله أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وسليم الرَّازِيّ، وَالْفَخْر الرَّازِيّ عَن أبي مُسلم الْأَصْفَهَانِي المعتزلي إِلَّا أَنه صرح بِأَن الْمَنْع إِنَّمَا هُوَ فِي الْقُرْآن خَاصَّة، لَا على الْإِطْلَاق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2986 وَنقل الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب أَنه يُخَالف فِي الْوُقُوع، لَا فِي الْجَوَاز، ثمَّ الْمَانِع من جَوَازه مِنْهُم من قَالَ: لِأَنَّهُ يسْتَلْزم البداء، وَهُوَ محَال، وَإِن جوزه الرافضة، وَمِنْهُم من سَمَّاهُ تَخْصِيصًا، وَقيل غير ذَلِك، وَالْكل بَاطِل، وَالْحق الَّذِي لَا محيد عَنهُ وَلَا شكّ فِيهِ جَوَازه عقلا وَشرعا. وَأما الْوُقُوع فواقع لَا محَالة وَورد فِي الْكتاب وَالسّنة قطعا، وَأَيْضًا الْقطع بِعَدَمِ اسْتِحَالَة تَكْلِيف فِي وَقت، وَرَفعه. وَإِن قيل: أَفعَال الله تَابِعَة لمصَالح الْعباد كالمعتزلة، فالمصلحة قد تخْتَلف باخْتلَاف الْأَوْقَات، وَفِي التَّوْرَاة أَنه أَمر آدم بتزويج بَنَاته من بنيه، وَقد حرم ذَلِك، وَاسْتدلَّ بِتَحْرِيم السبت وَكَانَ مُبَاحا، وبجواز الْخِتَان مُطلقًا ثمَّ وَجب فِي ثامن الْولادَة عِنْدهم، وبجواز جمع الْأُخْتَيْنِ، ثمَّ حرم. رد: رفع مُبَاح الأَصْل لَيْسَ بنسخ إِجْمَاعًا. قَالُوا: لَو صَحَّ بَطل قَول مُوسَى الْمُتَوَاتر أَن شَرِيعَته مُؤَبّدَة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2987 رد: مَوْضُوع للْقطع عَادَة بِأَنَّهُ لَو صَحَّ عارضوا بِهِ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلما أسلم علماؤهم كَابْن سَلام، وَكَعب، ووهب، وَغَيرهم، ثمَّ المُرَاد نَحْو التَّوْحِيد، أَو مُؤَبّدَة مَا لم تنسخ. قَالُوا: إِن نسخ لحكمة ظَهرت بعد أَن لم تكن فَهُوَ البداء، وَلَا يجوز البداء على الله وَهُوَ تجدّد الْعلم، إِلَّا عِنْد الرافضة - عَلَيْهِم لعائن الله تَعَالَى تترا -، وَهُوَ كفر بِإِجْمَاع أَئِمَّة الْمُسلمين المعتبرين لَا يشك فِيهِ مُسلم. قَالَ الإِمَام أَحْمد: من قَالَ: إِن الله تَعَالَى لم يكن عَالما حَتَّى خلق لنَفسِهِ علما فَعلم بِهِ فَهُوَ كَافِر. وَقَالَ ابْن الزَّاغُونِيّ: البداء هُوَ أَن يُرِيد الشَّيْء دَائِما ثمَّ ينْتَقل من الدَّوَام لأمر حَادث، لَا بِعلم سَابق. قَالَ: أَو يكون سَببه دَالا على فَسَاد الْمُوجب لصِحَّة الْأَمر الأول بِأَن يَأْمُرهُ لمصْلحَة لم تحصل فيبدو لَهُ مَا يُوجب رُجُوعه عَنهُ. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2988 وَمن كذب الرافضة فِي ذَلِك حكايتهم ذَلِك عَن مُوسَى بن جَعْفَر، وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -، وَذكره ابْن عقيل عَن الْمُخْتَار وَغَيره، وَأَن بَعضهم جوزه فِيمَا لم يطلعنا عَلَيْهِ، وَإِلَّا فعبث. رد: إِن سلم اعْتِبَار الْمصلحَة فَهُوَ لحكمة علمهَا قَدِيما تكون عِنْد نسخه لاخْتِلَاف الْأَوْقَات وَالْأَحْوَال فَلم يظْهر مَا لم يكن. قَالُوا: إِن قيد الأول بِوَقْت فَلَا نسخ لانتهائه بانتهاء وقته، وَإِن دلّ على التَّأْبِيد فَلَا نسخ لِاجْتِمَاع الْأَخْبَار بالتأبيد ونفيه، وَهُوَ تنَاقض؛ وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى تعذر الْإِخْبَار بالتأييد لاحْتِمَال النّسخ، وَإِلَى أَنه لَا يوثق بتأبيد حكم، وَإِلَى نسخ شريعتكم. رد: مُطلق فَيدل على تعلق الْوُجُوب، لَا على الْبَقَاء ونفيه، ثمَّ لَو دلّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2989 على التَّأْبِيد فَالْأَمْر بِشَيْء فِي الْمُسْتَقْبل أبدا لَا يسْتَلْزم دَوَامه بل إِن الْفِعْل فِيهِ مُتَعَلق الْوُجُوب، فزوال التَّعَلُّق بِهِ بنسخ لَيْسَ مناقضة كالموت، إِنَّمَا التَّنَاقُض فِي خَبره بِبَقَاء الْوُجُوب أبدا، ثمَّ ينسخه وَنسخ شريعتنا محَال للتواتر بِأَن مُحَمَّدًا خَاتم النَّبِيين. قَالُوا: لَو جَازَ لَكَانَ قبل الْفِعْل، وَلَا رفع لما لم يُوجد، وَلَا بعده لعدمه، وَلَا مَعَه، وَإِلَّا ارْتَفع حَال وجوده. رد: المُرَاد زَوَال التَّكْلِيف الثَّابِت بعد أَن لم يكن: كزواله بِالْمَوْتِ؛ لارْتِفَاع الْفِعْل. قَالُوا: إِن علم دَوَامه أبدا فَلَا نسخ، أَو إِلَى مُدَّة مُعينَة فارتفاع الحكم بِوُجُود غَايَته، لَيْسَ بنسخ. رد: يُعلمهُ مستمرا إِلَى وَقت ارتفاعه بالنسخ، وَعلمه بارتفاعه [بِهِ] يُحَقّق النّسخ. ورد مَذْهَب أبي مُسلم الْأَصْفَهَانِي بِالْإِجْمَاع أَن شريعتنا ناسخة لما خالفها، وَنسخ التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَتَقْدِيم الصَّدَقَة لمناجاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَصَوْم عَاشُورَاء، وَغَيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2990 قَالَ السُّبْكِيّ: وقفت على تَفْسِير أبي مُسلم، وَلَيْسَ هُوَ الجاحظ كَمَا توهمه بَعضهم، قَالَ: وَأَنا أَقُول الْإِنْصَاف أَن الْخلاف بَين أبي مُسلم، وَالْجَمَاعَة لَفْظِي، وَذَلِكَ [أَن] أَبَا مُسلم يَجْعَل مَا كَانَ مغيا فِي علم الله كَمَا هُوَ مغيا فِي اللَّفْظ، وَيُسمى الْجَمِيع تَخْصِيصًا، وَلَا فرق عِنْده بَين أَن يَقُول: {أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} [الْبَقَرَة: 187] وَبَين أَن يَقُول: صُومُوا، مُطلقًا، وَعلمه مُحِيط بِأَنَّهُ سينزل: لَا تَصُومُوا وَقت اللَّيْل. وَالْجَمَاعَة يجْعَلُونَ الأول تَخْصِيصًا، وَالثَّانِي نسخا، وَلَو أنكر أَبُو مُسلم النّسخ لزم إِنْكَار شَرِيعَة الْمُصْطَفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَإِنَّمَا يَقُول: كَانَت شَرِيعَة السَّابِقين مغياة إِلَى مبعث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَبِهَذَا يَتَّضِح لَك الْخلاف الَّذِي حَكَاهُ بَعضهم فِي أَن هَذِه الشَّرِيعَة مخصصة للشرائع السَّابِقَة أَو ناسخة، فَهِيَ منتهية إِلَى مبعث نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قطعا، وَمَا تجدّد من شرعنا مُوَافق لبَعض شرائعهم فَلَيْسَ لكَونهَا بَاقِيَة؛ بل كل مَشْرُوع مفتتح التشريع، وَمَا ادَّعَاهُ ابْن الْحَاجِب من الْإِجْمَاع أَن شريعتنا ناسخة فَصَحِيح، وَلَا يُنَافِيهِ حِكَايَة بَعضهم الْخلاف فِي كَونه تَخْصِيصًا، أَو نسخا لما قَرَّرْنَاهُ فَالْخِلَاف لَفْظِي. انْتهى. تَنْبِيه: أَبُو مُسلم هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن بَحر الْأَصْفَهَانِي، قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وَهُوَ رجل مَعْرُوف بِالْعلمِ، وَإِن كَانَ قد انتسب إِلَى الْمُعْتَزلَة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2991 ويعد مِنْهُم، وَله كتاب كَبِير فِي التَّفْسِير، وَله كتب كَثِيرَة، فَلَا أَدْرِي كَيفَ وَقع هَذَا الْخلاف مِنْهُ. انْتهى. وَلَيْسَ بالجاحظ، وَقَالَ أَبُو الْخطاب: أَبُو مُسلم عمر بن يحيى الْأَصْفَهَانِي. انْتهى. وَقَالُوا: اسْم الجاحظ عمر بن بَحر، وَلَعَلَّه تصحف عمر بِمُحَمد. وَقَالَ الْمجد فِي " المسودة ": أَبُو مُسلم يحيى بن عمر بن يحيى الْأَصْفَهَانِي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2992 (قَوْله: فصل) {أَكثر أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر: بَيَان الْغَايَة المجهولة ك {حَتَّى يتوفاهن الْمَوْت أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا} [النِّسَاء: 15] لَيْسَ بنسخ، وَابْن عقيل وَغَيره: بلَى، فالناسخ: {الزَّانِيَة وَالزَّانِي} [النُّور: 2] الْآيَة، وللقاضي الْقَوْلَانِ} . قَالَ ابْن مُفْلِح: بَيَان الْغَايَة المجهولة ك {حَتَّى يتوفاهن الْمَوْت أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا} اخْتلف كَلَام أَصْحَابنَا وَغَيرهم هَل هُوَ نسخ أم لَا؟ وَالْأَظْهَر النَّفْي. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": بَيَان الْغَايَة المجهولة مثل الَّتِي فِي قَوْله: {الْبيُوت حَتَّى يتوفاهن الْمَوْت أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا} نسخ عِنْد القَاضِي وَغَيره، وَقَالَ القَاضِي: النَّاسِخ {الزَّانِيَة وَالزَّانِي} الْآيَة؛ لِأَن هَذِه الْغَايَة مَشْرُوطَة فِي حكم مُطلق؛ لِأَن غَايَة كل حكم إِلَى موت الْمُكَلف أَو إِلَى النّسخ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2993 وَكَذَلِكَ ذكر فِي مَسْأَلَة نسخ الأخف بالأثقل: أَن حد الزَّانِي فِي أول الْإِسْلَام كَانَ الْحَبْس ثمَّ نسخ، وَجعل حد الْبكر الْجلد والتغريب وَالثَّيِّب الْجلد وَالرَّجم، وَكَذَا قَالَ القَاضِي أَيْضا لما احْتج الْيَهُود بِمَا حكوه عَن مُوسَى أَنه قَالَ: شريعتي مُؤَبّدَة مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَأجَاب بالتكذيب وبجواب آخر وَهُوَ: أَنه لَو ثَبت لَكَانَ مَعْنَاهُ: إِلَّا أَن يَدْعُو صَادِق إِلَى تَركهَا، وَهُوَ من ظَهرت المعجزة على يَده وَثبتت نبوته بِمثل مَا ثبتَتْ نبوة مُوسَى بِهِ، وَالْخَبَر يجوز تَخْصِيصه كَمَا يجوز تَخْصِيص الْأَمر وَالنَّهْي. قلت: وعَلى هَذَا يَسْتَقِيم أَن شريعتنا ناسخة، وَهَذَا قَول أبي الْحُسَيْن وَغَيره، ثمَّ ذكر القَاضِي فِي مَسْأَلَة نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ أَن الْحَبْس فِي الْآيَة لم ينْسَخ؛ لِأَن النّسخ أَن يرد لفظ عَام يتَوَهَّم دَوَامه، ثمَّ يرد مَا يرفع بعضه، وَالْآيَة لم ترد بِالْحَبْسِ على التَّأْبِيد، وَإِنَّمَا وَردت بِهِ إِلَى غَايَة هُوَ أَن يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا فَأثْبت الْغَايَة فَوَجَبَ الْحَد بعد الْغَايَة بالْخبر. انْتهى. فَائِدَة: للنسخ شُرُوط: - مِنْهَا: كَون الْمَنْسُوخ حكما شَرْعِيًّا، لَا عقليا، وَأَن يكون مُنْفَصِلا مُتَأَخِّرًا عَن الْمَنْسُوخ. - وَأَن يكون النّسخ بخطاب شَرْعِي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2994 - وَأَن لَا يكون الْمَنْسُوخ مُقَيّدا بِوَقْت يَنْتَهِي بانتهائه على خلاف تقدم قَرِيبا. - وَمِنْهَا: أَن يكون النَّاسِخ أقوى من الْمَنْسُوخ، أَو مثله، لَا أَضْعَف مِنْهُ على خلاف تقدم. - وَمِنْهَا: أَن يكون الْمَنْسُوخ، مِمَّا يجوز أَن يكون مَشْرُوعا، وَأَن لَا يكون فَلَا يدْخل النّسخ أصل التَّوْحِيد بِحَال؛ لِأَن الله تَعَالَى بأسمائه، وَصِفَاته لم يزل، وَلَا يزَال. - وَمِنْهَا: مَا علم بِالدَّلِيلِ أَنه متأبد كشريعة نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. - وَمِنْهَا: أَن لَا يكون مِمَّا هُوَ على صفة وَاحِدَة لَا يتَغَيَّر كمعرفة الله تَعَالَى بِمَا يجب لَهُ ويستحيل عَلَيْهِ وَيجوز لَهُ، وَلِهَذَا يمْتَنع نسخ الْأَخْبَار كَمَا سَيَأْتِي؛ إِذْ لَا يتَصَوَّر وُقُوعهَا على خلاف مَا وَقعت عَلَيْهِ، أما الْمُعَلق بِلَفْظ (أبدا) وَنَحْوه فَيَأْتِي بَيَانه. - وَمِنْهَا: أَن يكون بَين النَّاسِخ والمنسوخ تعَارض، وَقد يُقَال: لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا الشَّرْط؛ لِأَن هَذَا من ضَرُورَة تصور النّسخ؛ لِأَنَّهُ إِذا أمكن الْجمع فَلَا تعَارض كَمَا تقدم، وَلِهَذَا لَا يُقَال: نسخ صَوْم يَوْم عَاشُورَاء وجوب صَوْم رَمَضَان، وَوَافَقَ رفع فرض غير الزَّكَاة فرض الزَّكَاة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2995 فالنسخ رَافع عِنْد ذَلِك، لَا بِهِ، وَقد تقدم ذَلِك محررا فِي كَلَام الْمجد، وَغَيره فِي الْفَائِدَة. فَائِدَة أُخْرَى: قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: التَّخْصِيص والنسخ يَشْتَرِكَانِ فِي كَون كل مِنْهُمَا يُوجب اخْتِصَاص بعض متناول اللَّفْظ، ويفترقان من أوجه: مِنْهَا: أَن النَّاسِخ يشْتَرط تراخيه، والتخصيص يجوز اقترانه. وَمِنْهَا: أَن النّسخ يدْخل فِي الْأَمر بمأمور بِخِلَاف التَّخْصِيص. وَمِنْهَا: أَن النّسخ لَا يكون إِلَّا بِدَلِيل خطابي أَو مُقْتَضَاهُ، والتخصيص يجوز بأدلة الْعقل وقرائنه. وَمِنْهَا: أَن النّسخ لَا يدْخل الْأَخْبَار، والتخصيص بِخِلَافِهِ. وَمِنْهَا: أَن النّسخ لَا يبْقى مَعَه دلَالَة اللَّفْظ على مَا تَحْتَهُ والتخصيص يبْقى مَعَه ذَلِك. وَمِنْهَا: أَن النّسخ فِي الْمَقْطُوع لَا يجوز إِلَّا بِمثلِهِ كَمَا تقدم، والتخصيص جَائِز فِيهِ بِخَبَر الْوَاحِد، وَالْقِيَاس. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2996 (قَوْله {فصل} ) {يجوز النّسخ قبل الْفِعْل بعد دُخُول الْوَقْت إِجْمَاعًا} . ذكره القَاضِي، وَابْن عقيل، وَحَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان "، وَابْن برهَان فِي " الْوَجِيز "، والآمدي اتِّفَاقًا. قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": لَا أعلم فِيهِ خلافًا. قَالَ: وَلَا فرق عقلا بَين أَن يَعْصِي أَو يُطِيع، وَجزم بَعضهم بِالْمَنْعِ لعصيانه. انْتهى. قَوْله: {وَقبل وَقت الْفِعْل} ، أَي: يجوز النّسخ قبل دُخُول وَقت الْفِعْل {عِنْد أَصْحَابنَا، والأشعرية، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة} ، وَذكره الْآمِدِيّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2997 قَول أَكثر الْفُقَهَاء، وَذكره القَاضِي ظَاهر كَلَام أَحْمد إِذا شَاءَ الله نسخ من كِتَابه مَا أحب. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَفِيه نظر، {وَمنعه أَكثر الْحَنَفِيَّة والمعتزلة} ، والصيرفي، وَابْن برهَان، {وللتميمي} من أَصْحَابنَا {قَولَانِ} . قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَنقل غير ابْن السَّمْعَانِيّ الْمَنْع عَن أَكثر الْحَنَابِلَة. اسْتدلَّ للْأولِ - وَهُوَ الصَّحِيح - بِمَا تَوَاتر فِي ذَلِك، فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيرهمَا من نسخ فرض خمسين صَلَاة فِي السَّمَاء لَيْلَة الْإِسْرَاء بِخمْس قبل تمكنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْفِعْل. وَفِي البُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعثه فِي بعث، وَقَالَ: " إِن وجدْتُم فلَانا وَفُلَانًا فأحرقوهما بالنَّار "، ثمَّ قَالَ حِين أردنَا الْخُرُوج: " إِن النَّار لَا يعذب بهَا إِلَّا الله، فَإِن وجدتموهما فاقتلوهما ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2998 وَأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِكَسْر قدور من لحم حمر إنسية، فَقَالَ رجل: أَو نغسلهَا؟ فَقَالَ: " اغسلوا " مُتَّفق عَلَيْهِ. وَلأَحْمَد أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث أَبَا بكر يبلغ بَرَاءَة، فَسَار ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ لعَلي: " الحقة، وَبَلغهَا أَنْت ". وَأَيْضًا كَمَا يجوز رَفعه بِالْمَوْتِ وَغَيره؛ وَلِأَن كل نسخ قبل الْفِعْل لاستحالته بعده لتَحْصِيل الْحَاصِل، وَمَعَهُ لِامْتِنَاع الْفِعْل ونفيه. وَاحْتج أَصْحَابنَا وَغَيرهم بِأَن إِبْرَاهِيم أَمر بِذبح الْوَلَد بِإِجْمَاع عُلَمَاء النَّقْل بِدَلِيل: {افْعَل مَا تُؤمر} [الصافات: 102] ولإقدامه عَلَيْهِ، وَنسخ قبل وقته، وَإِلَّا لعصي بِتَأْخِيرِهِ. رد: لم ينْسَخ؛ لِأَن الْأَمر قَائِم لم ينْتَه، وَلم يتَّصل بمحله للْفِدَاء لَا النّسخ. وَجَوَابه: منع بَقَاء الْأَمر بذَبْحه، بل نسخ بِالْفِدَاءِ. وَسلم الْآمِدِيّ أَنه نسخ لَكِن بعد تمكنه، وَإِنَّمَا يكون قبله، لَو اقْتضى الْأَمر الْفَوْر، وتضيق وَقت الْإِمْكَان. ورد: لَو كَانَ موسعا قَضَت الْعَادة بِتَأْخِيرِهِ رَجَاء نسخه، أَو مَوته لعظم الْأَمر، وَلم يمْنَع رفع تعلق الْوُجُوب بالمستقبل لبَقَاء الْأَمر على الْمُكَلف لعدم فعله، وَبَقَاء الْأَمر هُوَ الْمَانِع عِنْدهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2999 قَالُوا: لم يُؤمر، وَلِهَذَا قَالَ: {افْعَل مَا تُؤمر} [الصافات: 102] أَو أَمر بمقدمات الذّبْح بقوله:: {صدقت الرُّؤْيَا} [الصافات: 105] . رد: مَنَام النَّبِي وَحي، وَأَرَادَ ب أرى رَأَيْت، وَلِهَذَا أقدم. وَقيل: {افْعَل مَا تُؤمر} أَي: مَا أمرت، أَو وقتا بعد وَقت، وَلَو أَمر بمقدماته لم يقل: {أذبحك} [الصافات: 102] وَلم يحْتَج إِلَى فدَاء، وَصدق الرُّؤْيَا باعتقاد جَازَ، وَبِكُل فعل أمكنه، وَهُوَ جَوَاب قَوْلهم: ذبحه والتحم مَعَ أَنه كَانَ يشْتَهر؛ لِأَنَّهُ معْجزَة. قَالُوا: صفح عُنُقه بنحاس مَنعه مِنْهُ. رد: فَيكون تكليفا بِمَا لَا يُطَاق، ونسخا قبل الْفِعْل وَكَانَ يشْتَهر. قَالُوا: إِن أَمر بِالْفِعْلِ وَقت نسخه توارد النَّفْي وَالْإِثْبَات، وَإِلَّا فَلَا نسخ لعدم [رفع] شَيْء. رد: يبطل بصم رَمَضَان ونسخه فِيهِ، وَبِأَنَّهُ لَيْسَ مَأْمُورا ذَلِك الْوَقْت، بل قبله، وَانْقطع بالناسخ عِنْد وقته كالموت. قَالَ الْبرمَاوِيّ: دَلِيل الْمَسْأَلَة أَن إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - أمره الله تَعَالَى بِذبح وَلَده، ثمَّ نسخ ذَلِك عَنهُ قبل الْفِعْل بِدَلِيل أمره بِالذبْحِ قَوْله: {يَا أَبَت افْعَل مَا تُؤمر} جَوَابا لقَوْله: {يَا بني إِنِّي أرى فِي الْمَنَام أَنِّي أذبحك} ، وَلقَوْله: {إِن هَذَا لَهو الْبلَاء الْمُبين} [الصافات: 106] وَذَلِكَ الذّبْح؛ لِأَن مقدماته لَا تُوصَف بِمثل ذَلِك، وَلقَوْله: {وفديناه} [الصافات: 107] فَلَو لم يكن أَمر بذَبْحه لما احْتَاجَ للْفِدَاء، وَأما كَونه نسخ فَلِأَنَّهُ لَو لم ينْسَخ لوجد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3000 الذّبْح لضَرُورَة الِامْتِثَال، لَكِن لم يذبح، فَدلَّ على النّسخ، وَشَاهده {وفديناه بِذبح عَظِيم} وَهَذَا كُله جلي. انْتهى. فَائِدَة: عبرنا عَن الْمَسْأَلَة بِمَا عبر بِهِ الْأَكْثَر بقولنَا: (قبل وَقت الْفِعْل) ، لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهِي قَاصِرَة عَن الْغَرَض، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال: نسخ الشَّيْء قبل مضى مِقْدَار مَا يَسعهُ من وقته؛ ليدْخل فِيهِ مَا إِذا حضر وَقت الْعَمَل، وَلَكِن لم يمض مِقْدَار مَا يَسعهُ، فَإِن هَذِه الصُّورَة فِي مَحل النزاع. وَيُجَاب بِأَن المُرَاد بِمَا قبل الْوَقْت مَا قبل خُرُوجه، لَا قبل دُخُول وقته فَقَط، وَحِينَئِذٍ فَيشْمَل الْأَمريْنِ، وَيكون المُرَاد بِالْوَقْتِ مَا يُمكن فِيهِ الْفِعْل حسا وَشرعا، لَا الْوَقْت الْمُقدر حَتَّى تكون الْمَسْأَلَة خَاصَّة بِالْوَقْتِ فَقَط. وَعبر الْبَيْضَاوِيّ بقوله: يجوز نسخ الْوُجُوب قبل الْعَمَل. فَيرد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا فرق بَين الْوَاجِب وَغَيره، ويشمل مَا قبل دُخُول وَقت الْعَمَل، وَمَا بعده قبل مُضِيّ زمن يَسعهُ، وَفِي مَعْنَاهُ إِذا لم يكن لَهُ وَقت، وَلَكِن أَمر بِهِ على الْفَوْر، ثمَّ نسخ قبل التَّمَكُّن، وإجراء الْخلاف فِي هَذِه الثَّلَاث صُورَة وَاضح ويشمل مَا بعد خُرُوج الْوَقْت، وَلَيْسَ ذَلِك من مَحل الْخلاف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3001 قَوْله: {وَلَا نسخ قبل علم الْمُكَلف بِهِ، وَجوزهُ الْآمِدِيّ} . قَالَ ابْن مُفْلِح: لَا يجوز النّسخ قبل علم الْمُكَلف بالمأمور؛ بِهِ لعدم الْفَائِدَة باعتقاد الْوُجُوب والعزم على الْفِعْل، وَجوزهُ الْآمِدِيّ؛ لعدم مُرَاعَاة الحِكَم فِي أَفعاله تَعَالَى. انْتهى. قَوْله: {وَيجوز فِي السَّمَاء وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُنَاكَ} ، ذكره ابْن عقيل، وَالْمجد، وَكثير من الْعلمَاء، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قد بلغ بعض الْمُكَلّفين، وَهُوَ سيد الْبشر، فَإِنَّهُ قد اعْتقد وُجُوبه وَعلمه، وَعَلِيهِ يدل كَلَام السَّمْعَانِيّ حِين قَالَ: إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد علمه واعتقد وُجُوبه فَلم يَقع النّسخ لَهُ إِلَّا بعد علمه واعتقاده. انْتهى. فَسَماهُ نسخا. وَقد اسْتدلَّ ابْن مُفْلِح على جَوَاز النّسخ قبل وَقت الْفِعْل بنسخ الْخمسين صَلَاة بِخمْس كَمَا تقدم، وَلم يحك فِيهِ خلافًا، وَصرح بِهِ الْكرْمَانِي، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3002 وَابْن حجر فَقَالَ: قَالَ ابْن بطال وَغَيره: أَلا ترى أَنه - عز وَجل - نسخ الْخمسين قبل أَن تصلى، وَتعقبه ابْن الْمُنِير فَقَالَ: هَذَا ذكره طوائف من الْأُصُولِيِّينَ، والشراح، وَهُوَ مُشكل على من أثبت النّسخ قبل الْفِعْل كالأشاعرة أَو مَنعه كالمعتزلة لكَوْنهم اتَّفقُوا جَمِيعًا على أَن النّسخ لَا يتَصَوَّر قبل الْبَلَاغ، وَحَدِيث الْإِسْرَاء وَقع النّسخ فِيهِ قبل الْبَلَاغ فَهُوَ مُشكل عَلَيْهِم جَمِيعًا. قَالَ: وَهَذِه نُكْتَة مبتكرة، قَالَ ابْن حجر: قلت: إِن أَرَادَ قبل الْبَلَاغ على وَاحِد فَمَمْنُوع، وَإِن أَرَادَ قبل الْبَلَاغ على الْأمة فَمُسلم، لَكِن قد يُقَال: لَيْسَ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم نسخا، لَكِن هُوَ نسخ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَنَّهُ مُكَلّف بذلك قطعا، ثمَّ نسخ بعد أَن بلغه، وَقبل أَن يفعل فَالْمَسْأَلَة صَحِيحَة التَّصَوُّر فِي حَقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. انْتهى. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: إِذا بلغ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي السَّمَاء قبل النُّزُول إِلَى الأَرْض كفرض خمسين صَلَاة لَيْلَة الْإِسْرَاء لم يتَعَلَّق بِهِ حكم، وَلذَلِك كَانَ رَفعه بِخمْس صلوَات لَيْسَ بنسخ على مَا هُوَ الظَّاهِر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3003 وَحكى الأول احْتِمَالا، وَحكى الْمجد مَا قَالَه الْبرمَاوِيّ عَن الْمُعْتَزلَة، فَإِنَّهُ قَالَ: يجوز النّسخ فِي السَّمَاء إِذا كَانَ هُنَاكَ مُكَلّف مثل الْإِسْرَاء بنبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا يكون ذَلِك بداء، ذكره ابْن عقيل خلافًا للمعتزلة. وَمن منع كَون الْإِسْرَاء يقظة فِي جحدهم لوُقُوع ذَلِك، ومنعهم مِنْهُ عقلا. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3004 (قَوْله: {فصل} ) {ينْسَخ الْإِنْشَاء، وَالأَصَح لَو بِلَفْظ الْقَضَاء أَو الْخَبَر أَو قيد بالتأبيد أَو الحتم} . لَا شكّ فِي جَوَاز نسخ الْإِنْشَاء إِذا كَانَ بِلَفْظ الْإِنْشَاء، وَقد تقدم لَهُ صور، وَهَذَا إِجْمَاع فِي الْجُمْلَة، أما إِذا كَانَ الْإِنْشَاء بِلَفْظ الْخَبَر، أَي: تكون صُورَة اللَّفْظ خَبرا، وَمَعْنَاهُ إنْشَاء وَذَلِكَ فِي صور: إِحْدَاهَا: أَن يكون بِلَفْظ الْقَضَاء، كَقَوْلِك: قضى بِكَذَا، أَو كَذَا، قَالَ الله تَعَالَى: {وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه} [الْإِسْرَاء: 23] ، أَي: أَمر، وَهَذَا يجوز نسخه عِنْد الْجُمْهُور. وَقَالَ بَعضهم: لَا يجوز نسخه؛ لِأَن الْقَضَاء إِنَّمَا يسْتَعْمل فِيمَا لَا يتَغَيَّر كالآية الْمُتَقَدّمَة. قَالَ الزَّرْكَشِيّ شَارِح " جمع الْجَوَامِع ": وَهَذَا القَوْل غَرِيب لَا يعرف فِي كتب الْأُصُول، إِنَّمَا أَخذه المُصَنّف من كتب التَّفْسِير. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3005 الصُّورَة الثَّانِيَة: أَن يكون بِصِيغَة الْخَبَر، سَوَاء كَانَ بِمَعْنى الْأَمر أَو النَّهْي، نَحْو: {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ} [الْبَقَرَة: 233] ، {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [الْبَقَرَة: 228] ، {لَا تضار وَالِدَة بِوَلَدِهَا} [الْبَقَرَة: 233] ، فَقَالَ الْجُمْهُور: يجوز نسخه بِاعْتِبَار مَعْنَاهُ، فَإِن مَعْنَاهُ الْإِنْشَاء. وَقَالَ أَبُو بكر الدقاق: يمْتَنع نسخه بِاعْتِبَار لَفظه. وَنقل أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب عَنهُ فِيهِ خلافًا، وَلَا وَجه لَهُ إِلَّا أَن يُقَال: لكَونه على صُورَة الْخَبَر. الصُّورَة الثَّالِثَة: إِذا قيد الحكم بِلَفْظ التَّأْبِيد، وَنَحْوه بجملة فعلية مثل: صُومُوا يَوْم عَاشُورَاء أبدا، أَو حتما، أَو غَيره مِمَّا فِي مَعْنَاهُ، وَكَذَا دَائِما، أَو مستمرا، فَيجوز بعد ذَلِك نسخه عِنْد الْجُمْهُور. وَخَالف بعض الْمُتَكَلِّمين، وَقَالَ بِهِ من الْحَنَفِيَّة أَبُو بكر الْجَصَّاص، وَأَبُو مَنْصُور الماتريدي، وَأَبُو زيد الدبوسي، والبزدويان الأخوان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3006 قَالُوا: لمناقضته الأبدية، فَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى البداء. وَجَوَابه: أَن ذَلِك إِنَّمَا يقْصد بِهِ الْمُبَالغَة، لَا الدَّوَام، كَمَا يَقُول: لَازم غريمك أبدا، وَإِنَّمَا يُرِيد لَازمه إِلَى وَقت الْقَضَاء، فَيكون المُرَاد هُنَا لَا تخل بِهِ إِلَى أَن يتقضى وقته، وكما يجوز تَخْصِيص عُمُوم مُؤَكد بِكُل وَيمْنَع التَّأْبِيد عرفا، وبالإلزام بتخصيص عُمُوم مُؤَكد، وَالْجَوَاب وَاحِد. قَالُوا: إِذا كَانَ الحكم لَو أطلق الْخطاب مستمرا إِلَى النّسخ فَمَا الْفَائِدَة فِي التَّقْيِيد بالتأبيد؟ قُلْنَا: فَائِدَته التَّنْصِيص، والتأكيد، وَأَيْضًا فَلفظ الْأَبَد إِنَّمَا مَدْلُوله الزَّمَان المتطاول. الصُّورَة الرَّابِعَة: أَن يُقيد بالتأبيد بجملة اسمية كَالصَّوْمِ وَاجِب مُسْتَمر أبدا، إِذا قَالَه على مَسْأَلَة الْإِنْشَاء فالجمهور على جَوَاز نسخه؛ لِأَن الْخَبَر عَن الحكم كالإنشاء فِي جَوَاز النّسخ بِهِ، لَكِن هَل يجوز مَا قيد بِهِ بالتأبيد، أَو يمْتَنع؟ الْجُمْهُور - كَمَا قُلْنَا - على الْجَوَاز؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة بِمَنْزِلَة الْفِعْل، كَذَا أبدا، وَوَقع فِي ابْن الْحَاجِب عبارَة تحْتَمل الْمَنْع فِي ذَلِك وتحتمل أَن يُرَاد بهَا غَيره. فَقَالَ: الْجُمْهُور جَوَاز نسخ مثل: صُومُوا أبدا بِخِلَاف الصَّوْم مُسْتَمر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3007 أبدا. هَذَا لَفظه، ففهم بعض شراحه شَيْئا، وَقد اخْتلف الْأَصْفَهَانِي، والعضد فِي حل لَفظه، وَالصَّوَاب مَا قَالَه القَاضِي عضد الدّين وَوَافَقَهُ ابْن السُّبْكِيّ وَغَيره ثمَّ قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَبِالْجُمْلَةِ فَالْخَبَر إِذا كَانَ بِمَعْنى الْإِنْشَاء جَازَ أَن ينْسَخ كَمَا سبق، فمسألتا ابْن الْحَاجِب مستويتان. انْتهى. قَوْله: {وَيجوز نسخ إِيقَاع الْخَبَر مُطلقًا، ونسخه بنقيضه خلافًا للمعتزلة} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3008 قَالَ القَاضِي عضد الدّين فِي " شرح الْمُخْتَصر ": نسخ الْخَبَر لَهُ صُورَتَانِ: إِحْدَاهمَا: نسخ إِيقَاع الْخَبَر بِأَن يُكَلف الشَّارِع أحدا بِأَن يخبر بِشَيْء من عَقْلِي أَو عادي أَو شَرْعِي، كوجود الْبَارِي، وإحراق النَّار، وإيمان زيد، ثمَّ ينسخه فَهَذَا جَائِز اتِّفَاقًا، وَهل يجوز نسخه بنقيضه؟ أَي: بِأَن يكون الْإِخْبَار بنقيضه، الْمُخْتَار جَوَازه خلافًا للمعتزلة، ومبناه أصلهم فِي حكم الْعقل؛ لِأَن أَحدهمَا كذب فالتكليف بِهِ قَبِيح، وَقد علمت فَسَاده. قَالَ الْبرمَاوِيّ: الثَّالِث: أَن يُرَاد مَعَ نسخه التَّكْلِيف بالإخبار بضد الأول، إِلَّا أَن الْمخبر بِهِ مِمَّا لَا يتَغَيَّر كالإخبار بِكَوْن السَّمَاء فَوق الأَرْض ينْسَخ بالإخبار بِأَن السَّمَاء تَحت الأَرْض، وَذَلِكَ جَائِز، وَخَالفهُ الْمُعْتَزلَة فِيهِ - كَمَا قَالَ الْآمِدِيّ - محتجين بِأَن أَحدهمَا كذب، والتكليف بِهِ قَبِيح فَلَا يجوز عقلا، وَهُوَ بِنَاء على قاعدتهم الْبَاطِلَة فِي التحسين والتقبيح العقليين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3009 فَإِن قيل: الْكَذِب نقص وقبحه بِاتِّفَاق فَلم لَا يمْتَنع ذَلِك؟ وَالْجَوَاب: أَن الْقبْح فِيهِ بِالنِّسْبَةِ لفَاعِله، لَا بِاعْتِبَار التَّكْلِيف بِهِ، بل إِذا كلف بِهِ صَار جَائِزا فَلَا يكون قبيحا؛ إِذْ لَا حسن، وَلَا قبح إِلَّا بِالشَّرْعِ لَا سِيمَا إِذا تعلق بِهِ غَرَض شَرْعِي فَإِنَّهُ من حَيْثُ ذَلِك يكون حسنا. انْتهى. وَقد اسْتشْهد لذَلِك بمسائل. قَوْله: {لَا نسخ مَدْلُول خبر لَا يتَغَيَّر} . إِذا كَانَ ذَلِك الحكم فَمَا لَا يتَغَيَّر، فَلَا يجوز فِيهِ النّسخ بِالْإِجْمَاع، حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاق الْمروزِي، وَابْن برهَان، وَذَلِكَ كصفات الله تَعَالَى، وأخبار مَا كَانَ وَمَا يكون، وأخبار الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، وأخبار الْأُمَم السالفة، وَالْأَخْبَار عَن السَّاعَة وأمارتها وَنَحْوه. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَنسخ مَدْلُول خبر لَا يتَغَيَّر محَال إِجْمَاعًا. قَوْله: {وَلَا خبر يتَغَيَّر كَإِيمَانِ زيد، وكفره} . إِذا كَانَ ذَلِك الحكم مِمَّا يتَغَيَّر كَإِيمَانِ زيد - مثلا - وكفره فَلَا يجوز نسخه أَيْضا على الْأَصَح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3010 قَالَ ابْن مُفْلِح: مَنعه جُمْهُور الْفُقَهَاء والأصوليين، فَمن أَصْحَابنَا ابْن الْأَنْبَارِي، وَابْن الْجَوْزِيّ، والموفق، وَجزم بِهِ فِي " الرَّوْضَة ". وَمن الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم كالصيرفي، وَأبي إِسْحَاق الْمروزِي، والباقلاني، والجبائي، وَابْنه أبي هَاشم، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَابْن الْحَاجِب، قَالَ الْأَصْفَهَانِي: هُوَ الْحق. وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى، وَالْفَخْر الرَّازِيّ، وَأَبُو عبد الله، وَأَبُو الْحُسَيْن البصريان، وَعبد الْجَبَّار، وَنسبه ابْن برهَان للمعظم: يجوز نسخ ذَلِك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3011 وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين. يخرج عَلَيْهِ نسخ المحاسبة بِمَا فِي النُّفُوس فِي قَوْله: {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم} [الْبَقَرَة: 284] كَقَوْل جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَهُوَ فِي " صَحِيح مُسلم " عَن أبي هُرَيْرَة، وَفِي البُخَارِيّ عَن ابْن عمر. قَالَ الْخطابِيّ: النّسخ يجْرِي فِيمَا أخبر الله أَنه يَفْعَله؛ لِأَنَّهُ يجوز تَعْلِيقه على شَرط بِخِلَاف إخْبَاره عَمَّا لَا يَفْعَله؛ إِذْ لَا يجوز دُخُول الشَّرْط فِيهِ. قَالَ: وعَلى هَذَا تَأَول ابْن عمر النّسخ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} [الْبَقَرَة: 284] فَإِنَّهُ نسخهَا بعد ذَلِك بِرَفْع حَدِيث النَّفس. انْتهى. وَالْقَوْل الثَّالِث: التَّفْصِيل بَين الْخَبَر عَن الْمَاضِي فَيمْتَنع نسخه؛ لِأَنَّهُ يكون تَكْذِيبًا، دون الْمُسْتَقْبل؛ لجريانه مجْرى الْأَمر وَالنَّهْي، فَيجوز أَن يرفع بِهِ، وَهَذَا القَوْل بِاخْتِيَار ابْن عقيل، والخطابي، وَابْن الْقطَّان، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3012 وسليم الرَّازِيّ، والبيضاوي فِي " مُخْتَصره ". قَالَ ابْن مُفْلِح: وَاخْتَارَ ابْن عقيل إِن تعلق بمستقبل جَازَ فِيهِ نوع احْتِمَال كعفو فِي وَعِيد، وَصفه وَشرط. وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي مَوضِع آخر: وَنسخ مَدْلُول خبر لَا يتَغَيَّر محَال إِجْمَاعًا كَمَا تقدم، وَإِلَّا جَازَ، أَي: وَإِن تغير جَازَ عِنْد عبد الْجَبَّار وَأبي عبد الله الْبَصْرِيّ، وَأبي الْحُسَيْن من الْمُعْتَزلَة، والآمدي؛ لتكرر مَدْلُوله كَمَا فِي الْأَمر وكالخبر بِمَعْنى الْأَمر. وَمنعه ابْن الباقلاني، والجبائية، وَجَمَاعَة من الْفُقَهَاء والمتكلمين، وَمنعه بَعضهم فِي الْخَبَر الْمَاضِي. انْتهى. تَنْبِيه: هَذَا التَّفْصِيل مَبْنِيّ على أَن الْكَذِب لَا يكون فِي الْمُسْتَقْبل، بل فِي الْمَاضِي، وَهُوَ قَول مَشْهُور تقدم ذكر، وَذكره مُقَابِله فِي أَحْكَام الْخَبَر فِي أَوَائِل أَحْكَام الحَدِيث، وَأَن مَنْصُوص أَحْمد أَنه يكون فِي الْمُسْتَقْبل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3013 كالماضي على مَا سبق تحريره. وَفِي نسخ الْخَبَر قَول رَابِع بالتفصيل بَين أَن يكون الْخَبَر الأول مُعَلّقا بِشَرْط أَو اسْتثِْنَاء فَيجوز نسخه، وَإِلَّا فَلَا، قَالَه ابْن مقلة فِي كتاب " الْبُرْهَان "، قَالَ: كَمَا وعد قوم يُونُس بِالْعَذَابِ إِن لم يتوبوا، فَلَمَّا تَابُوا كشف عَنْهُم. وَقَول خَامِس، اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ: يجوز مُطلقًا إِذا كَانَ مِمَّا يتَكَرَّر، وَالْخَبَر عَام فيتبين بالناسخ إِخْرَاج مَا لم يتَنَاوَلهُ اللَّفْظ. قَوْله: {وَإِن كَانَ الْخَبَر عَن حكم جَازَ قطعا} . مَحل الْخلاف الْمُتَقَدّم فِي غير الْخَبَر عَن الحكم، نَحْو: هَذَا الْفِعْل جَائِز، أَو حرَام، فَهَذَا يجوز نسخه بِلَا خلاف؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة إنْشَاء، قَالَه الْبرمَاوِيّ وَغَيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3014 قَوْله: {وَلَو قيدنَا الْخَبَر بالتأبيد لم يجز، خلافًا للآمدي، وَمَال إِلَيْهِ فِي " التَّمْهِيد "} . قَالَ ابْن مُفْلِح: فَلَو قيدنَا الْخَبَر بالتأبيد لم يجز خلافًا للآمدي. وَفِي " التَّمْهِيد ": إِفَادَة الدَّوَام فيهمَا لَا يمْنَع من دَلِيل أَن المُرَاد بِهِ غير ظَاهره كالعموم، ثمَّ مُطلق الْخَبَر كالمقيد بالتأبيد فَالْأَمْر مثله ثمَّ مُطلق الْأَمر ينْسَخ فَكَذَا مقيده، وَإِن كَانَ الْخَبَر المُرَاد بِهِ إِذا كَانَ بِمَعْنى الْإِنْشَاء فَهُوَ الصُّورَة الرَّابِعَة الَّتِي تقدّمت، وَإِن كَانَ المُرَاد بتقييده الْخَبَر وَهُوَ على مَا بِهِ فَهِيَ مَسْأَلَة أُخْرَى، وتابعت فِي ذَلِك ابْن مُفْلِح. قَوْله: {وَجَوَاز تأبيد التَّكْلِيف بِلَا غَايَة مَبْنِيّ على وجوب الْجَزَاء، وَجوزهُ ابْن عقيل وَغَيره، وَأَنه قَول الْفُقَهَاء والأشعرية، وَخَالف بعض أَصْحَابنَا والمعتزلة} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3015 قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": وَتَبعهُ من بعده: يجوز أَن يرد الْأَمر وَالنَّهْي دَائِما إِلَى غير غَايَة فَيَقُول: صلوا مَا بَقِيتُمْ أبدا، وصوموا رَمَضَان مَا حييتُمْ أَيْضا، فَيَقْتَضِي الدَّوَام مَعَ بَقَاء التَّكْلِيف، وَبِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاء والأشاعرة من الْأُصُولِيِّينَ، وَحَكَاهُ ابْن عقيل فِي أَوَاخِر كِتَابه. قَالَ الْمجد: ومنعت الْمُعْتَزلَة مِنْهُ، وَقَالُوا: مَتى ورد اللَّفْظ بذلك لم يقتض الدَّوَام، وَإِنَّمَا هُوَ حث على التَّمَسُّك بِالْفِعْلِ. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وحرف الْمَسْأَلَة أَنهم لَا يمْنَعُونَ الدَّوَام مُطلقًا، وَيَقُولُونَ: لَا بُد من دَار ثَوَاب غير دَار التَّكْلِيف وجوبا على الله فَيكون قَوْله: أبدا مجَازًا، وَمُوجب قَوْلهم: أَن الْمَلَائِكَة غير مكلفين، وَقد اسْتدلَّ ابْن عقيل باستعباد الْمَلَائِكَة وإبليس. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3016 (قَوْله: {فصل} ) {الْأَكْثَر على جَوَاز النّسخ بِلَا بدل، وَمنعه جمع، وَجمع فِي الْعِبَادَة} . الَّذِي ذهب إِلَيْهِ جَمَاهِير الْعلمَاء أَنه يجوز النّسخ بِلَا بدل، وَمنعه قوم وَذكره أَبُو الْمَعَالِي عَن جُمْهُور الْمُعْتَزلَة، وَنَقله الباقلاني عَن الْمُعْتَزلَة، وَنَقله الْبرمَاوِيّ عَن بعض أهل الظَّاهِر، وَمنعه بعض الْعلمَاء فِي الْعِبَادَة بِنَاء على أَن النّسخ يجمع معنى الرّفْع وَالنَّقْل، نَقله ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ". اسْتدلَّ الْجُمْهُور بِمَا اعْتمد عَلَيْهِ فِي إِثْبَات النّسخ؛ وَلِأَنَّهُ نسخ تَقْدِيم الصَّدَقَة أما الْمُنَاجَاة، وَتَحْرِيم ادخار لُحُوم الْأَضَاحِي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3017 وَفِي البُخَارِيّ أَنه كَانَ إِذا دخل وَقت الْفطر فَنَامَ قبل أَن يفْطر حرم الطَّعَام وَالشرَاب، وإتيان النِّسَاء إِلَى اللَّيْلَة الْآتِيَة، ثمَّ نسخ. وَاحْتج الْآمِدِيّ على عَادَته أَنه لَو فرض وُقُوعه لم يلْزم مِنْهُ محَال. ورده بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم بِأَنَّهُ مُجَرّد دَعْوَى، وَأَن إِمْكَان هَذَا ذهني بِمَعْنى عدم الْعلم بالامتناع، لَيْسَ إِمْكَانه خارجيا بِمَعْنى الْعلم بِهِ خَارِجا فَإِنَّهُ يكون للْعلم بِوُجُودِهِ، أَو نَظِيره أَو أولى مِنْهُ كَمَا يذكر فِي الْقُرْآن، قَالُوا: {نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} [الْبَقَرَة: 106] . رد: الْخلاف فِي الحكم لَا فِي اللَّفْظ، ثمَّ لَيْسَ عَاما فِي كل حكم، ثمَّ مَخْصُوص بِمَا سبق، ثمَّ يكون نسخه بِغَيْر بدل خيرا لمصْلحَة علمهَا، ثمَّ إِنَّمَا تدل الْآيَة أَنه لم يَقع لَا أَنه لَا يجوز. وَأَيْضًا الْمصلحَة قد تكون فِيمَا نسخ، ثمَّ تصير الْمصلحَة فِي عَدمه، هَذَا عِنْد من يعْتَبر الْمصَالح، وَأما من لَا يَعْتَبِرهَا فَلَا إِشْكَال فِيهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالله تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3018 قَالَ الباقلاني: كَمَا يجوز أَن الله تَعَالَى يرفع التكاليف كلهَا يجوز أَن يرفع بَعْضهَا بِلَا بدل من بَاب أولى. قَوْله: {فعلى الأول وَقع عِنْد الْأَكْثَر، وَخَالف الشَّافِعِي وَأول} . وَالدَّلِيل على الْوُقُوع مَا تقدم من الْآيَات، وَنفى الشَّافِعِي إِيقَاع ذَلِك. قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَيْسَ المُرَاد أَن الشَّافِعِي نفى أَن لَا ينْسَخ حكم إِلَّا وَيثبت حكم آخر متجدد، بل على معنى آخر نذكرهُ بعد حِكَايَة النَّص فَقَالَ فِي الرسَالَة فِي ابْتِدَاء النَّاسِخ والمنسوخ: وَلَيْسَ ينْسَخ فرض أبدا إِلَّا أثبت مَكَانَهُ فرض كَمَا نسخت قبْلَة بَيت الْمُقَدّس فَأثْبت مَكَانهَا الْكَعْبَة. انْتهى. قَالَ الصَّيْرَفِي فِي " شَرحه ": مُرَاده أَن ينْقل من حظر إِلَى إِبَاحَة، أَو من إِبَاحَة إِلَى حظر، أَو تَخْيِير على حسب أَحْوَال الْفُرُوض. قَالَ: كنسخ الْمُنَاجَاة فَإِنَّهُ تَعَالَى لما فرض تَقْدِيم الصَّدَقَة أَزَال ذَلِك بردهمْ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِن شَاءُوا تقربُوا إِلَى الله تَعَالَى بِالصَّدَقَةِ، وَإِن شَاءُوا ناجوه من غَيره صَدَقَة. قَالَ: فَهَذَا معنى قَول الشَّافِعِي فرض فتفهمه. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3019 فَظهر أَن المُرَاد الشَّافِعِي بِالْبَدَلِ أَعم من حكم آخر ضد الْمَنْسُوخ كالقبلة أَو الرَّد لما كَانُوا عَلَيْهِ قبل شرع الْمَنْسُوخ كالمناجاة، فالمدار على ثُبُوت حكم شَرْعِي فِي الْمَنْسُوخ فِي الْجُمْلَة حَتَّى لَا يتْركُوا هملا إِلَى أَمر آخر وَلَو أَنه إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل ذَلِك، فَلم يُغَادر الرب - تَعَالَى - عباده هملا، فالصور أَربع: إِحْدَاهَا: الْجَوَاز بِلَا بدل، وَلَا يُخَالف فِيهِ إِلَّا بعض الْمُعْتَزلَة، والظاهرية. وَالثَّانيَِة: الْوُقُوع بِلَا بدل أصلا، وَيصير ذَلِك بِلَا حكم أصلا، بل يبْقى كالأفعال قبل وُرُود الشَّرْع، وَهَذَا مَعَ جَوَازه، لم يقل بِهِ أحد، وَلَا حفظ فِيهِ شَيْء من الشَّرْع يكون مِثَالا لَهُ. وَالثَّالِثَة: وُقُوعه بِبَدَل، إِمَّا بإحداث أَمر كالكعبة، أَو إِبَاحَة مَا كَانَ وَاجِبا كالمناجاة، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّافِعِي بقوله السَّابِق فَلَا يفهم مِمَّا أَرَادَ من الْبَدَل إِلَّا ذَلِك، وَهُوَ قَضِيَّة كَلَام القَاضِي أبي بكر أَيْضا، وَهُوَ الْحق كَمَا قَرَّرْنَاهُ. وَالرَّابِعَة: وُقُوعه بِبَدَل متجدد أصل كالكعبة بعد بَيت الْمُقَدّس، يكون شرطا لَا بُد مِنْهُ، وَهِي مَسْأَلَة الْوُقُوع الَّتِي فِيهَا الْخلاف، وَالْجُمْهُور على عدم اشْتِرَاط مثل ذَلِك، وَلَيْسَ ذَلِك مَحل كَلَام الشَّافِعِي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3020 وَمِمَّنْ أَشَارَ إِلَى مَا قَرَّرْنَاهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيص " " مُخْتَصر التَّقْرِيب ". انْتهى كَلَام الْبرمَاوِيّ. قَوْله: {وَيجوز بأثقل عِنْد الْأَكْثَر، وَخَالف قوم مُطلقًا، وَقوم شرعا، وَقوم عقلا، وَاخْتَارَهُ ابْن عقيل} . قد تقرر أَن النّسخ جَائِز، وواقع بِبَدَل، وَبِغير بدل، فَإِذا كَانَ بِبَدَل فالبدل إِمَّا مسَاوٍ أَو أخف، أَو أثقل، والأولان جائزان بِاتِّفَاق. مِثَال الْمسَاوِي: نسخ اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس بِالْكَعْبَةِ. وَمِثَال الأخف: وجوب مصابرة الْعشْرين من الْمُسلمين مِائَتَيْنِ من الْكفَّار وَالْمِائَة ألفا كَمَا فِي الْآيَة نسخ بقوله تَعَالَى: {الئن خفف الله عَنْكُم وَعلم أَن فِيكُم ضعفا فَإِن يكن مِنْكُم مائَة صابرة يغلبوا مِائَتَيْنِ وَإِن يكن مِنْكُم ألف يغلبوا أَلفَيْنِ} [الْأَنْفَال: 66] فَأوجب مصابرة الضعْف، وَهُوَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3021 أخف من الأول، وَمثله نسخ الْعدة بالحول فِي الْوَفَاة بالعدة بأَرْبعَة أشهر وَعشر. وَأما النّسخ بالأثقل فَهُوَ مَحل الْخلاف، وَالْجُمْهُور على الْجَوَاز وَدَلِيل وُقُوعه: أَن الْكَفّ عَن الْكفَّار كَانَ وَاجِبا بقوله تَعَالَى: {ودع أذاهم} [الْأَحْزَاب: 48] فنسخ بِإِيجَاب الْقِتَال وَهُوَ أثقل، أَي: أَكثر مشقة، وَكَذَا نسخ وجوب صَوْم يَوْم عَاشُورَاء بِصَوْم رَمَضَان، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة: إِنَّه كَانَ وَاجِبا، وَظَاهر كَلَام الإِمَام أَحْمد والأثرم صَاحبه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3022 وَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنه لم يكن وَاجِبا، وَإِنَّمَا كَانَ متأكد الِاسْتِحْبَاب، وَبِه قَالَ كثير من أَصْحَابنَا وَغَيرهم. لَكِن يظْهر لي فِي ذَلِك إِشْكَال وَهُوَ أَنه قد تقدم أَن عَاشُورَاء مَا نسخ برمضان، وَإِنَّمَا وَافق نسخ عَاشُورَاء وجوب صِيَام رَمَضَان فَمَا نسخ بأثقل وَلَا بأخف وَإِنَّمَا نسخ عَاشُورَاء وَأوجب الله صِيَام رَمَضَان من غير أَن ينْسَخ بِهِ. وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة، وَابْن دَاوُد وَغَيره من الظَّاهِرِيَّة وَذكره ابْن برهَان عَن الْمُعْتَزلَة: لَا يجوز النّسخ بأثقل. قَالَ ابْن مُفْلِح: الْجُمْهُور جَوَاز النّسخ بأثقل خلافًا لبَعض الشَّافِعِيَّة وَابْن دَاوُد، وَغَيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3023 وَأما الْبرمَاوِيّ فَقَالَ: قَالَ بعض أهل الظَّاهِر بِمَنْعه، ثمَّ مِنْهُم من أجَاز ذَلِك عقلا، وَمنع مِنْهُ سمعا، وَهُوَ رَأْي أبي بكر بن دَاوُد الظَّاهِرِيّ، وَمِنْهُم من مَنعه عقلا، وَمِنْهُم من قَالَ بِجَوَاز ذَلِك وَلم يَقع. وَالْمَقْصُود أَن فِي الْمَسْأَلَة أقوالا: الْجَوَاز مُطلقًا، وَعَدَمه مُطلقًا، وجوازه عقلا لَا سمعا، وَمنعه عقلا لَا شرعا - وَقُلْنَا اخْتَارَهُ ابْن عقيل - وجوازه مُطلقًا وَإِن لم يَقع. وَاسْتدلَّ للْمَذْهَب - وَهُوَ الصَّحِيح - بِمَا سبق، وَبِأَنَّهُ لَا يمْتَنع لذاته وَلَا لتَضَمّنه مفْسدَة ولوقوعه، كنسخ تَخْيِير الصَّحِيح بَين صَوْم رَمَضَان والفدية بصومه وعاشوراء برمضان. إِن قيل: إِنَّه كَانَ وَاجِبا كَمَا تقدم، وَالْحَبْس فِي الْبيُوت بِالْحَدِّ، والصفح عَن الْكفَّار بقتل مُقَاتلَتهمْ، ثمَّ بقتالهم كَافَّة كَمَا تقدم. قَالُوا: أبعد من الْمصلحَة وأشق. رد: لَازم فِي ابْتِدَاء التَّكْلِيف، وَإِن اعْتبرت الْمصلحَة فقد تكون فِي الأثقل كَمَرَض وَغَيره. قَالُوا: {نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} قَالَ ابْن عَبَّاس: بأيسر على النَّاس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3024 وَقَالَ غَيره: {أَو مثلهَا} أَي: فِي الثَّوَاب، وَالْحكمَة فِي تبديلها الِاخْتِيَار. وَجَوَابه مَا سبق فِي الَّتِي قبلهَا، فَإِن ثَبت عَن ابْن عَبَّاس فَمَعْنَاه غَالِبا كَمَا سبق وَهُوَ خير بِاعْتِبَار الثَّوَاب، وَقَالَهُ القَاضِي. قَالُوا: تَشْدِيد فَلَا يَلِيق برأفة الله تَعَالَى: {الئن خفف الله عَنْكُم} [الْأَنْفَال: 66] ، {يُرِيد الله بكم الْيُسْر} [الْبَقَرَة: 185] ، {يُرِيد الله أَن يُخَفف عَنْكُم} [النِّسَاء: 28] . قُلْنَا: منقوض بتسليطه الْمَرَض، والفقر، وأنواع الآلام، والمؤذيات. فَإِن قيل: لمصَالح علمهَا. قُلْنَا: قد أجبتم عَنَّا. {فَائِدَة: تتَعَلَّق بهَا} . وَجه كَونهَا تتَعَلَّق بِالْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا لِأَن فِيهَا الْخَيْرِيَّة لقَوْله: {نأت بِخَير مِنْهَا} فَدلَّ أَن فِيهِ مَا هُوَ خير من الْمَنْسُوخ، أَو مثله، وَهِي: هَل يتفاضل الْقُرْآن وثوابه، أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء: أَحدهمَا: أَنه يتفاضل، وثواب بعضه أَكثر من بعض، وَقد وَردت النُّصُوص الصَّرِيحَة الصَّحِيحَة بذلك. وَهَذَا عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء، مِنْهُم: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3025 الإِمَام إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، والقرطبي، وَابْن عقيل، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، والحليمي، وَالْبَيْهَقِيّ، وَابْن الْعَرَبِيّ، وَابْن الْحصار، والقرطبي وَالنَّوَوِيّ، وَغَيرهم، وَالْقَاضِي من أَصْحَابنَا أَيْضا. وَقَالَ هُوَ أَيْضا وَجَمَاعَة من الْعلمَاء: لَا يجوز أَن يتفاضل ثَوَابه؛ لِأَنَّهُ جَمِيعه صفة لله تَعَالَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3026 قَالَ الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن دَاوُد الْحَنْبَلِيّ القادري فِي أَدِلَّة أوراده: فِي تَفْضِيل بعض الْآيَات والسور على بعض خلاف، رجح إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَابْن الْعَرَبِيّ، وَابْن الْحصار من الْمَالِكِيَّة، والقرطبي التَّفْضِيل؛ لِأَن مَا تضمنه قَوْله تَعَالَى: {وإلهكم إِلَه وَاحِد} [الْبَقَرَة: 163] ، وَآيَة الْكُرْسِيّ، وَسورَة الْإِخْلَاص، وَنَحْوهَا من الدلالات على وحدانيته وَصِفَاته لَيْسَ مَوْجُودا - مثلا - فِي سُورَة تبت، وَمَا كَانَ مثلهَا، فالتفضيل إِنَّمَا هُوَ بالمعاني العجيبة، وَكَثْرَتهَا، لَا من حَيْثُ الصّفة، وَهَذَا هُوَ الْحق، قَالَه الْقُرْطُبِيّ. قَالَ ابْن الْحصار: عجبي مِمَّن يذكر الْخلاف مَعَ هَذِه النُّصُوص. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3027 قَالَ بَعضهم: إِطْلَاق أعظم وَأفضل فِي بعض السُّور بِمَعْنى فَاضل وعظيم، وَهُوَ رَاجع إِلَى عظم أجر قَارِئ ذَلِك، وجزيل ثَوَابه. قَالَ النَّوَوِيّ: وَالْمُخْتَار جَوَاز قَول هَذِه الْآيَة أَو هَذِه السُّورَة أعظم وَأفضل بِمَعْنى أَن الثَّوَاب الْمُتَعَلّق بهَا أكبر، وَأعظم. انْتهى. وَقَالَ القَاضِي من أَصْحَابنَا، وَغَيره: لَا يُقَال ذَلِك، وَذَلِكَ لِأَن جَمِيع الْقُرْآن صفة من صِفَات الله تَعَالَى، وَهِي لَا تَتَفَاوَت. قَوْله: {تَنْبِيه: لم تنسخ إِبَاحَة إِلَى إِيجَاب، وَلَا إِلَى كَرَاهَة} ، رَأَيْت ذَلِك فِي بعض كتب أَصْحَابنَا) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3028 (قَوْله: {فصل} ) الْأَرْبَعَة وَغَيرهم يجوز نسخ التِّلَاوَة دون الحكم وَعَكسه، خلافًا لبَعض الْمُعْتَزلَة، ونسخهما مَعًا} . يَعْنِي: نسخ التِّلَاوَة وَالْحكم خلافًا للمعتزلة. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلم تخَالف الْمُعْتَزلَة فِي نسخهما مَعًا لما حَكَاهُ الْآمِدِيّ عَنْهُم. انْتهى. نسخ جَمِيع الْقُرْآن مُمْتَنع بِالْإِجْمَاع؛ لِأَنَّهُ معْجزَة نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - المستمرة على التَّأْبِيد {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد (42) } [فصلت: 42] فِي بعض التفاسير: لَا يَأْتِي مَا يُبطلهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3029 ثمَّ فِي كَيْفيَّة وُقُوع النّسخ فِي بعضه ثَلَاثَة أَنْوَاع: - مَا نسخ تِلَاوَته وَحكمه بَاقٍ. - وَمَا نسخ حكمه فَقَط وتلاوته بَاقِيَة. - وَمَا جمع فِيهِ نسخ التِّلَاوَة الحكم. مِثَال الأول: مَا رَوَاهُ مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَابْن ماجة عَن عمر أَنه قَالَ: " إيَّاكُمْ أَن تهلكوا عَن آيَة الرَّجْم، أَو يَقُول قَائِل: لَا نجد حَدَّيْنِ فِي كتاب الله، فَلَقَد رجم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَن يَقُول النَّاس زَاد عمر فِي كتاب الله لأثبتها: (الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّة) فَإنَّا قد قرأناها ". وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن عمر أَنه قَالَ: " كَانَ فِيمَا أنزل آيَة الرَّجْم فقرأناها وعقلناها ورجم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ورجمنا بعده ". قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " فِي قَوْله: (الشَّيْخ وَالشَّيْخَة) : علقه على الشَّيْخَيْنِ لإحصانهما غَالِبا، فَالْمُرَاد بالشيخ وَالشَّيْخَة المحصنان، حدهما الرَّجْم بِالْإِجْمَاع، وَقد تَابع عمر جمع من الصَّحَابَة على ذَلِك كَأبي ذَر، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3030 فِيمَا رَوَاهُ أَحْمد، وَابْن حبَان، وَالْحَاكِم، وَصَححهُ. وَفِي رِوَايَة أَحْمد، وَابْن حبَان: أَنَّهَا كَانَت فِي سُورَة الْأَحْزَاب. وروى زيد بن ثَابت فِي " مُعْجم الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير "، وَأبي فِيمَا رَوَاهُ ابْن حبَان قَالَ: كَانَت توازي سُورَة الْبَقَرَة، فَكَانَ فِي (الشَّيْخ وَالشَّيْخَة) إِلَى آخِره (إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّة) وَالْمرَاد بِمَا قضيا من اللَّذَّة. فَهَذَا الحكم فِيهِ بَاقٍ، وَاللَّفْظ مُرْتَفع، لرجم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ماعزا، والغامدية، واليهوديين. وَمِثَال الثَّانِي: مَا نسخ حكمه وَبَقِي لَفظه عكس الَّذِي قبله: آيَة الْمُنَاجَاة وَالصَّدَََقَة بَين يَديهَا، وَلم يعْمل بِهَذِهِ الْآيَة إِلَّا عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3031 فَفِي التِّرْمِذِيّ عَنهُ: أَنَّهَا لما نزلت قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا ترى؟ دِينَارا. قَالَ: لَا يطيقُونَهُ. قَالَ: نصف دِينَار. قَالَ: لَا يطيقُونَهُ. قَالَ: مَا ترى؟ قَالَ: شعيرَة. قَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّك لَزَهِيد. قَالَ عَليّ: حَتَّى خفف الله عَن هَذِه الْأمة بترك الصَّدَقَة. وَمعنى قَوْله: (شعيره) من ذهب. وروى الْبَزَّار عَن عبد الرَّزَّاق عَن مُجَاهِد، قَالَ: قَالَ عَليّ: مَا عمل بهَا أحد غَيْرِي حَتَّى نسخت، وَأَحْسبهُ قَالَ: وَمَا كَانَت إِلَّا سَاعَة من نَهَار. وَفِي " مُعْجم الطَّبَرَانِيّ ": أرى الَّذِي قدم بَين يَدي الْمُنَاجَاة سعد، وَقَالَ: قدمت شعيرَة، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّك لَزَهِيد. وَمِثَال آخر لهَذَا الْقسم: الِاعْتِدَاد فِي الْوَفَاة بالحول نسخ بقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} [الْبَقَرَة: 234] على مَا ذهب إِلَيْهِ جُمْهُور الْمُفَسّرين. وَمِثَال الثَّالِث: وَهُوَ مَا نسخ لَفظه، وَحكمه: مَا رَوَاهُ مُسلم عَن عَائِشَة: كَانَ مِمَّا أنزل عشر رَضعَات مَعْلُومَات فنسخن بِخمْس مَعْلُومَات، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3032 فَلم يبْق لهَذَا اللَّفْظ حكم الْقُرْآن لَا فِي الِاسْتِدْلَال، وَلَا فِي غَيره؛ فَلذَلِك كَانَ الصَّحِيح عندنَا جَوَاز مس الْمُحدث مَا نسخ لَفظه أَعم من أَن ينْسَخ حكمه أَولا. وَوجه ابْن عقيل: الْمَنْع لبَقَاء حرمته كبيت الْمُقَدّس نسخ كَونه قبْلَة وحرمته بَاقِيَة، وَالْجَوَاز لعدم حُرْمَة كتبه فِي الْمُصحف. وَجه الْجَوَاز فِي الْكل أَن التِّلَاوَة حكم وَمَا تعلق بهَا من الْأَحْكَام حكم آخر فَجَاز نسخهما، وَنسخ أَحدهمَا كغيرهما، وَقد وَقع ذَلِك كَمَا تقدم فِي الْمُنَاجَاة. وَقَالَ الْمَانِع من ذَلِك: التِّلَاوَة مَعَ حكمهَا متلازمان كَالْعلمِ مَعَ العالمية وَالْحَرَكَة مَعَ المتحركية، والمنطوق مَعَ الْمَفْهُوم. رد ذَلِك: بِأَن الْعلم هُوَ العالمية، وَالْحَرَكَة هِيَ المتحركية، وَمنع أَن الْمَنْطُوق لَا يَنْفَكّ عَن الْمَفْهُوم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3033 سلمنَا الْمُغَايرَة وَأَن الْمَنْطُوق لَا يَنْفَكّ فالتلاوة أَمارَة الحكم ابْتِدَاء لَا دواما فَلَا يلْزم من نَفيهَا نَفْيه، وَبِالْعَكْسِ. قَالُوا: بَقَاء التِّلَاوَة توهم بَقَاء الحكم فَيُؤَدِّي إِلَى التجهيل، أَو إبِْطَال فَائِدَة الْقُرْآن. رد ذَلِك بِأَنَّهُ مَبْنِيّ على التحسين الْعقلِيّ، ثمَّ لَا جهل مَعَ الدَّلِيل للمجتهد، وَفرض الْمُقَلّد التَّقْلِيد، والفائدة الإعجاز، وَصِحَّة الصَّلَاة بِهِ. فَوَائِد: إِحْدَاهَا: هَذِه الْأَقْسَام الْمُتَقَدّمَة فِيهَا خلاف سوى مَا تقدم. فَمنع بعض الْأُصُولِيِّينَ نسخ الحكم دون التِّلَاوَة؛ لِأَن الْقَصْد من التِّلَاوَة حكمهَا فَإِذا انْتَفَى الحكم فَلَا فَائِدَة فِي بَقَائِهَا، حَكَاهُ جمَاعَة من الْحَنَفِيَّة، وَبَعض أَصْحَابنَا، وَمنع بَعضهم نسخ التِّلَاوَة مَعَ بَقَاء الحكم، وَبِه صرح شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ، وَمنع بَعضهم الْقسمَيْنِ؛ لِأَن أَحدهمَا فِيهِ بَقَاء الدَّلِيل بِلَا مَدْلُول، وَالْآخر بَقَاء الْمَدْلُول بِلَا دَلِيل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3034 وَالصَّحِيح الْجَوَاز؛ لِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ متغايران فَيجوز رفع أَحدهمَا وَبَقَاء الآخر. الثَّانِيَة: قسم كثير من الْعلمَاء النّسخ فِي الْقُرْآن سِتَّة أَقسَام: أَحدهَا: مَا نسخ حكمه وَبَقِي رسمه، وَحكم النَّاسِخ ورسمه باقيان، كنسخ آيَة الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين بِآيَة الْمَوَارِيث، وَنسخ عدَّة الْوَفَاة حولا بأَرْبعَة أشهر وَعشر. الثَّانِي: مَا نسخ حكمه ورسمه، وهما فِي النَّاسِخ ثابتان كنسخ اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس باستقبال الْكَعْبَة، وَصِيَام عَاشُورَاء برمضان على رَأْي، وَقيل: إِنَّمَا كَانَ اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس بِالسنةِ فنسخ بِالْقُرْآنِ. الثَّالِث: مَا نسخ حكمه وَبَقِي رسمه، وَرفع رسم النَّاسِخ وَبَقِي حكمه، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فأمسكوهن فِي الْبيُوت} [النِّسَاء: 15] الْآيَة ب (الشَّيْخ وَالشَّيْخَة) إِلَى آخِره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3035 فَإِن قيل: رجم الْمُحصن إِنَّمَا أَخذ من حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت فِي مُسلم مَرْفُوعا: " خُذُوا عني، خُذُوا عني، قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا: الْبكر بالبكر جلد مائَة، وتغريب عَام، وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ جلد مائَة وَالرَّجم ". قيل: النّسخ بالشيخ وَالشَّيْخَة، والْحَدِيث مُقَرر أَنه لم ينْسَخ. وَضعف بِأَن التأسيس أرجح من التَّأْكِيد، وَبِأَن الحَدِيث إِنَّمَا ورد مُبينًا للسبيل فِي {أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا} فَهُوَ إِمَّا مُسْتَقل، أَو مُبين للسبيل لَا مُتَعَلق بِآيَة الرَّجْم. الرَّابِع: مَا نسخ حكمه ورسمه وَبَقِي حكم النَّاسِخ لَا رسمه، كَحَدِيث عَائِشَة فِي الْعشْر رَضعَات، فَإِن الْخمس حكمهَا بَاقٍ دون لَفظهَا، وَأما قَول عَائِشَة: (فَتوفي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهن مِمَّا يُتْلَى فِي الْقُرْآن) فمؤول كَمَا قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: بِأَن مرادها يُتْلَى حكمه، أَو أَن من لم يبلغهُ نسخ تِلَاوَته يتلوه، وَهُوَ مَعْذُور. وَإِنَّمَا أول بذلك لإِجْمَاع الصَّحَابَة على تَركهَا من الْمُصحف حِين جمعُوا الْقُرْآن، وَأجْمع عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ بعدهمْ. الْخَامِس: مَا نسخ رسمه وَبَقِي حكمه، وَلَكِن لَا يعلم ناسخه، فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " من حَدِيث أنس: أَنه كَانَ فِي الْقُرْآن: " لَو أَن لِابْنِ آدم وَاديا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3036 من ذهب لابتغى أَن يكون لَهُ ثَان، وَلَا يمْلَأ فَاه إِلَّا التُّرَاب وَيَتُوب الله على من تَابَ ". رَوَاهُ أَحْمد، وَقَالَ: كَانَ هَذَا قُرْآنًا فنسخ خطه. قَالَ ابْن عبد الْبر فِي " التَّمْهِيد ": قيل: إِنَّه من سُورَة ص، لَكِن ورد فِي رِوَايَة: لَا نَدْرِي أَشَيْء نزل، أَو شَيْء كَانَ يَقُوله. ويمثل لَهُ - أَيْضا - بِمَا فِي البُخَارِيّ فِي السّبْعين الَّذين قتلوا ببئر مَعُونَة وَنزل فيهم: " بلغُوا قَومنَا بِأَنا قد لَقينَا رَبنَا فَرضِي عَنَّا وأرضانا ". قَالَ أنس: فقرأنا فيهم قُرْآنًا. وَذكره ثمَّ رفع بعده. وَبِالْجُمْلَةِ فَمثل هَذَا كثير؛ وَلِهَذَا قيل فِي سُورَة الْأَعْرَاف: إِنَّهَا كَانَت نَحْو الْبَقَرَة، وَكَذَا سُورَة الْأَحْزَاب، كَمَا تقدم. وَلَكِن مثل بَعضهم بذلك مَا نسخ لَفظه وَبَقِي حكمه. السَّادِس: نَاسخ صَار مَنْسُوخا، وَلَيْسَ بَينهمَا لفظ متلو، كَالْإِرْثِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3037 بِالْحلف والنصرة نسخ بالتوارث بِالْإِسْلَامِ وَالْهجْرَة، ثمَّ نسخ التَّوَارُث بذلك. قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وَهَذَا يدْخل فِي النّسخ من وَجه، قَالَ: وَعِنْدِي أَن الْقسمَيْنِ الْأَخيرينِ فِي إدخالهما فِي النّسخ تكلّف. الثَّالِثَة: تَمْثِيل مَا نسخ تِلَاوَته وَبَقِي حكمه بالشيخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا، اسْتشْكل من حَيْثُ يلْزم من ذَلِك أَن يثبت قُرْآن بالآحاد، وَأَن ذَلِك الْقُرْآن نسخ حَتَّى لَو أنكرهُ شخص كفر، وَمن أنكر مثل هَذَا لَا يكفر، وَإِذا لم تثبت قرآنيته لم يثبت نسخ قُرْآن. بل يجْرِي هَذَا الِاعْتِرَاض فِي مِثَال مَا نسخ حكمه وَبَقِي تِلَاوَته، ونسخهما مَعًا؛ وَذَلِكَ لِأَن نسخ الْمُتَوَاتر بالآحاد لَا يجوز كَمَا يَأْتِي. وَأجَاب الْهِنْدِيّ: عَن أصل السُّؤَال بِأَن التَّوَاتُر إِنَّمَا هُوَ شَرط فِي الْقُرْآن الْمُثبت بَين الدفتين، أما الْمَنْسُوخ فَلَا، سلمنَا لَكِن الشَّيْء قد يثبت ضمنا بِمَا لَا يثبت بِهِ أَصله كالنسب بِشَهَادَة القوابل على الْولادَة، وَقبُول الْوَاحِد فِي [أَن] أحد المتواترين بعد الآخر وَنَحْو ذَلِك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3038 قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَجَوَاب آخر، وَهُوَ: أَن الصَّدْر الأول يجوز أَن يَقع فِيهِ التَّوَاتُر ثمَّ يَنْقَطِع فِيهِ التَّوَاتُر فَيصير آحادا، فَمَا رُوِيَ لنا بالآحاد إِنَّمَا هُوَ حِكَايَة عَمَّا كَانَ مَوْجُودا بِشُرُوطِهِ فَتَأَمّله. انْتهى. الرَّابِعَة: وَقع إِشْكَال فِي قَول عمر - رَضِي الله عَنهُ -: لَوْلَا أَن يَقُول النَّاس: زَاد عمر فِي كتاب الله لكتبتها كَمَا هُوَ ظَاهر اللَّفْظ فَهُوَ قُرْآن متلو، وَلَكِن لَو كَانَ متلوا لوَجَبَ على عمر الْمُبَادرَة لكتابتها؛ لِأَن مقَال النَّاس لَا يصلح مَانِعا من فعل الْوَاجِب. قَالَ السُّبْكِيّ: وَلَعَلَّ الله أَن ييسر علينا حل هَذَا الْإِشْكَال، فَإِن عمر - رَضِي الله عَنهُ - إِنَّمَا نطق بِالصَّوَابِ، ولكنانتهم فهمنا. قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَكِن تَأْوِيله بِأَن مُرَاده لكتبتها منبها على أَنَّهَا نسخت تلاوتها ليَكُون فِي كتَابَتهَا فِي محلهَا أَمن من نسيانها بِالْكُلِّيَّةِ، لَكِن قد تكْتب من غير بَيِّنَة فَيَقُول النَّاس: زَاد عمر، فَتركت كتَابَتهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ من دفع أعظم المفسدتين بأخفهما. انْتهى. قلت: وَيُمكن أَن يُقَال: إِن هَذَا مِمَّا نسخ رسمه وَبَقِي حكمه، وَلَكِن عمر - رَضِي الله عَنهُ - لشدَّة حرصه على إِظْهَار الْأَحْكَام هم بِأَن يَكْتُبهَا خوفًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3039 من أَن ينسى حكمهَا لكَونهَا غير مَكْتُوبَة وَنسخ رسمها فيضلوا بترك فَرِيضَة لَا سِيمَا وَالزِّنَا مِمَّا يتواهن النَّاس ويتساهلون فِيهِ وَالله أعلم، وَلذَلِك وَالله أعلم بدلت الْيَهُود ذَلِك مَعَ كَونه فِي التَّوْرَاة، وَلِلنَّاسِ ميل إِلَى رَحْمَة الزَّانِي، وَلذَلِك قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تأخذكم بهما رأفة فِي دين الله} [النُّور: 2] . قَوْله: {وَنسخ} ، أَي: وَيجوز نسخ {قُرْآن وَسنة متواترة بمثلهما وآحاد بِمثلِهِ وبمتواتر} . يجوز نسخ الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ، وَقد وَقع ذَلِك فنسخ الِاعْتِدَاد بالحول فِي الْوَفَاة بأَرْبعَة أشهر وَعشر، كَمَا سبق. وَأما نسخ متواتر السّنة بمتواترها فَجَائِز عقلا وَشرعا، وَلَكِن وقوعهما مُتَعَذر فِي هَذِه الْأَزْمِنَة، وَقد تقدّمت الْأَحَادِيث، وَأَنَّهَا قَليلَة جدا، بل كلهَا آحَاد إِمَّا فِي أَولهَا وَإِمَّا فِي آخرهَا وَإِمَّا من أول إسنادها إِلَى آخِره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3040 وَأما نسخ آحَاد السّنة بِمِثْلِهَا فَكَمَا فِي " صَحِيح مُسلم " عَن بُرَيْدَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِزِيَادَة: " تذكركم الْآخِرَة "، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَوجه الشَّاهِد فِي الحَدِيث أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كنت نَهَيْتُكُمْ " فَصرحَ بِأَن النَّهْي من السّنة، وَله أَمْثِلَة كَثِيرَة كنسخ الْمُتْعَة وَنسخ الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار، وَغَيره. وَلابْن الْجَوْزِيّ كتاب لطيف جمع فِيهِ أحد وَعشْرين موضعا وَتعقب فِي بَعْضهَا، وَتعقب كثيرا مِنْهَا. وَأما نسخ الْآحَاد من السّنة بالمتواترة فَجَائِز، وَلَكِن لم يَقع. قَوْله: {ومتواترة بآحاد عقلا اتِّفَاقًا} ، ذكره الْآمِدِيّ، وَذكر الْبَاجِيّ الْمَالِكِي فِيهِ خلافًا، وَلَا يجوز شرعا عِنْد الجماهير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3041 وَحَكَاهُ ابْن برهَان وَأَبُو الْمَعَالِي إِجْمَاعًا؛ لجَوَاز قَول الشَّارِع: تعبدتكم بالنسخ بِخَبَر الْوَاحِد. وَقَالَ دَاوُد والظاهرية والطوفي من أَصْحَابنَا: يجوز، وَهُوَ ظَاهر كَلَام القَاضِي وَابْن عقيل. قَالَ الطوفي: وَأَجَازَهُ بعض الظَّاهِرِيَّة مُطلقًا، وَلَعَلَّه أولى؛ إِذْ الظَّن قدر مُشْتَرك بَين الْكل، وَهُوَ كَاف فِي الْعَمَل، وَالِاسْتِدْلَال الشَّرْعِيّ، وَقَول عمر: (لَا نَدع كتاب رَبنَا وَسنة نَبينَا لقَوْل امْرَأَة لَا نَدْرِي أحفظت أم نسيت) يُفِيد أَنه إِنَّمَا رده لشُبْهَة، وَلَو أَفَادَ خَبَرهَا الظَّن لعمل بِهِ. وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل الْبَاجِيّ وَلَكِن فِي زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقَالَ: لَا يجوز بعده إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يبْعَث الْآحَاد بالناسخ إِلَى أَطْرَاف الْبِلَاد. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَاخْتَارَهُ الْقُرْطُبِيّ الْمَالِكِي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3042 قَوْله: {وَلَا ينْسَخ قُرْآن بِخَبَر آحَاد} . قدمه ابْن مُفْلِح تبعا لِابْنِ الْحَاجِب، وَعَزاهُ للْأَكْثَر، {وجوزوه القَاضِي، وَقَالَ: نَص عَلَيْهِ، قَالَ: وَيجب الْعَمَل بِهِ. وَقَالَ ابْن عقيل: إِنَّه مَذْهَب أَحْمد} ، وَاسْتشْهدَ لذَلِك بِقصَّة قبَاء فِي الاستدارة فِي الصَّلَاة وَخبر الْخمر لقَوْل أبي طَلْحَة لما سمع مُجَرّد الْخَبَر: " اهريقوها " وَلم ينْظرُوا غَيره. قَالَ: فاحتج بِقصَّة قبَاء، وَأَن الصَّحَابَة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3043 أخذت بالْخبر وَإِن كَانَ فِيهِ نسخ. وَكَذَا قَالَ ابْن عقيل، وَأَنه مَذْهَب أَحْمد، وَقَالَ: وَهِي تشبه مذْهبه فِي إِثْبَات الصِّفَات بهَا، وَهُوَ أَكثر من النّسخ، وَقَررهُ فِي " فنونه " وَقَالَ فِيهِ: وَفِي الْقيَاس نظر، كَأَن الشَّارِع قَالَ: اقْطَعُوا بِحكم كَلَامي مَا لم يضاده خبر وَاحِد أَو قِيَاس هَذَا هُوَ التَّحْقِيق، وبناه على أَن الْعَمَل بهما قَطْعِيّ. وَقدمه فِي جمع الْجَوَامِع وشراحه، وَاخْتَارَهُ القَاضِي الباقلاني وَغَيره أَيْضا، وَجعلُوا القَوْل بِالْمَنْعِ سَاقِطا، وَإِن عزاهُ بَعضهم للْأَكْثَر وَأَنَّهُمْ فرقوا بَينه وَبَين التَّخْصِيص بِأَنَّهُ رفع، والتخصيص بَيَان وَجمع بَين الدَّلِيلَيْنِ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: نعم، الْأَكْثَر على عدم الْوُقُوع خلافًا لجمع من الظَّاهِرِيَّة. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره: وَالْمَشْهُور جَوَازه عقلا، وَحكى الْآمِدِيّ وَغَيره الِاتِّفَاق عَلَيْهِ، لَكِن نقل الباقلاني وَغَيره الْخلاف فِيهِ، وَالْمَشْهُور عدم وُقُوعه، حَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي إِجْمَاعًا، لَكِن خَالف فِيهِ بعض الظَّاهِرِيَّة. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3044 وَفصل القَاضِي الباقلاني وَالْغَزالِيّ بَين زَمَانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيجوز، وَبعده لَا يجوز، نقل القَاضِي الباقلاني الْإِجْمَاع على الْمَنْع فِيمَا بعده. انْتهى. احْتج الْمَانِع من الْجَوَاز بِمَا سبق من منع التَّخْصِيص بِهِ. وَأَيْضًا قَاطع فَلَا يرفع بِالظَّنِّ. رد: خبر الْوَاحِد دلَالَته قَطْعِيَّة فيرفع دلَالَة ظنية، فَإِن قيل: فَيكون مُخَصّصا. رد: يكون نسخا إِذا ورد بعد الْعَمَل بقرآن أَو متواتر عَاميْنِ. وَاحْتج ابْن عقيل: أَن رد الصَّحَابَة بعض قِرَاءَة ابْن مَسْعُود تَنْبِيه لرد رِوَايَته فِي نسخه. احْتج المجوز بِقصَّة قبَاء السَّابِقَة فِي خبر الْوَاحِد، وَيحْتَمل أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ وعدهم، أَو أخْبرهُم بنسخه إِذا جَاءَهُم رَسُوله، أَو أعلن النَّاس بِهِ وَهُوَ بِقرب مَسْجده. وَأَيْضًا سبق أَنه كَانَ يبْعَث الْآحَاد لتبليغ الْأَحْكَام. رد: إِن كَانَ مِنْهَا نَاسخ لمتواتر فمعلوم بالقرائن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3045 وَأَيْضًا: {قل لَا أجد فِي مَا أُوحِي إِلَيّ محرما} [الْأَنْعَام: 145] نسخ بنهيه عَن أكل كل ذِي نَاب من السبَاع. رد: لَيْسَ فِيهَا إِبَاحَة الْجَمِيع وبالتخصيص، وَبِأَن (لَا أجد) للْحَال، وَتَحْرِيم مُبَاح الأَصْل لَيْسَ بنسخ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3046 (قَوْله: {فصل} ) {الْأَرْبَعَة، وَالْأَكْثَر} مِنْهُم عَامَّة الْفُقَهَاء، والمتكلمين {تنسخ سنة بقرآن، وَعَن أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهمَا لَا} مِثَاله: مَا كَانَ من تَحْرِيم مُبَاشرَة الصَّائِم أَهله لَيْلًا نسخ بقوله تَعَالَى: {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم} [الْبَقَرَة: 187] كَمَا تقدم هُوَ وَغَيره. اسْتدلَّ للْأولِ - وَهُوَ الصَّحِيح - بِأَنَّهُ لَا يمْتَنع لذاته وَلَا لغيره؛ إِذْ التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَتَحْرِيم الْمُبَاشرَة ليَالِي رَمَضَان، وَجَوَاز تَأْخِير صَلَاة الْخَوْف ثبتَتْ بِالسنةِ وَنسخت بِالْقُرْآنِ بِالْإِجْمَاع. احْتج الْمُخَالف بِأَن السّنة مبينَة للْكتاب فَكيف يبطل مبينه؟ وَلِأَن النَّاسِخ يضاد الْمَنْسُوخ وَالْقُرْآن لَا يضاد السّنة، وَمنع الْوُقُوع الْمَذْكُور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3047 وَأجِيب: بِأَن بعض السّنة مُبين لَهُ وَبَعضهَا مَنْسُوخ بِهِ. قلت: حكى الْحَازِمِي قَوْلَيْنِ للْعُلَمَاء فِي أَن التَّوَجُّه للقدس هَل كَانَ بِالْقُرْآنِ أَو بِالسنةِ؟ قَالَ الْبرمَاوِيّ: بل القَوْل بِأَنَّهُ كَانَ بِالْقُرْآنِ هُوَ ظَاهر كَلَام الشَّافِعِي، وَعَلِيهِ يدل قَوْله: {وَمَا جعلنَا الْقبْلَة الَّتِي كنت عَلَيْهَا} [الْبَقَرَة: 143] الْآيَة. فَإِن الضَّمِير فِي (جعلنَا) لله تَعَالَى، فَالظَّاهِر أَن الْجعل كَانَ بِالْقُرْآنِ، لَكِن فِيهِ نظر؛ فَإِن مَا فِي السّنة هُوَ من جعل الله تَعَالَى وَحكمه. قَوْله: {وَيجوز عقلا نسخ قُرْآن بِخَبَر متواتر، قَالَه القَاضِي وَغَيره، وَظَاهر كَلَام الإِمَام أَحْمد: لَا} . قَالَ ابْن مُفْلِح: يجوز عقلا نسخ قُرْآن بِخَبَر متواتر، قَالَه القَاضِي، وَقَالَ: ظَاهر كَلَام أَحْمد مَنعه، وَاخْتلفت الشَّافِعِيَّة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3048 قَالَ ابْن الباقلاني: مِنْهُم من مَنعه تبعا للقدرية فِي الْأَصْلَح. انْتهى. وَمِمَّنْ قَالَ بِنَفْي الْجَوَاز الْعقلِيّ الْحَارِث المحاسبي، وَعبد الله بن سعيد، والقلانسي، وَغَيرهم. قَالَ الْبرمَاوِيّ: ويروى - أَيْضا - عَن أَحْمد، وَهُوَ مَا ذكره القَاضِي ظَاهر كَلَام أَحْمد. وَمِمَّنْ قَالَ بِالْجَوَازِ أَبُو حَامِد الإِسْفِرَايِينِيّ. وَقيل: الْمُمْتَنع الْوُقُوع فَقَط، وَهُوَ الْمَفْهُوم من كَلَام الشَّافِعِي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3049 قَوْله: {وَلَا يجوز شرعا عِنْد أَحْمد فِي الْأَشْهر عَنهُ، وَابْن أبي مُوسَى، وَالْقَاضِي، والموفق، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أَصْحَابه} ، والظاهرية، وَغَيرهم. {وَعنهُ: بلَى، اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَالْأَكْثَر} من الْفُقَهَاء والمتكلمين، مِنْهُم الْحَنَفِيَّة، وَأكْثر الْمَالِكِيَّة، وَغَيرهم، وَهُوَ الَّذِي نَصره ابْن الْحَاجِب، وَحَكَاهُ عَن الْجُمْهُور. {وَقَالَ ابْن عقيل، وَابْن حمدَان، وَحَكَاهُ} فِي " الْمُغنِي " {عَن الْأَصْحَاب} فِي حد الزِّنَا، {وَقع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3050 وَقيل: لم يَقع، اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب} . اسْتدلَّ للْجُوَاز بِمَا سبق بِأَنَّهُ لَا يلْزم عَنهُ محَال. وَأَيْضًا: {لتبين للنَّاس} [النَّحْل: 44] ، وللقطع بِأَن الْقَاطِع يرفع الْقَاطِع، وَلَا أثر للفصل ككلام النَّبِي المسموع مِنْهُ، والمتواتر. وَاسْتدلَّ بِأَن: " لَا وَصِيَّة لوَارث " نسخ الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين ورجم الْمُحصن نسخ الْجلد. أُجِيب: آحَاد، وبنسخ الْوَصِيَّة بِآيَة الْمِيرَاث، أَو بقوله بعْدهَا: {تِلْكَ حُدُود الله} [النِّسَاء: 13] إِلَى قَوْله: {وَمن يعْص} الْآيَة [النِّسَاء: 14] ، وَالْجَلد لم ينْسَخ، أَو دلّ عدم فعله على نَاسخ. قَالُوا: {نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} . أُجِيب: لَا عُمُوم، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل أَن مَا يَأْتِي هُوَ النَّاسِخ، وَلَا أَنه من جنس الْمَنْسُوخ، وَالْمرَاد حكم أَنْفَع للمكلف والجميع من الله. رد: الْأَوَّلَانِ خلاف الظَّاهِر. قَالَ ابْن عقيل: والمماثلة تَقْتَضِي إِطْلَاقهَا من كل وَجه. وَقَالَهُ القَاضِي وَغَيره مَعَ قَول بَعضهم قد تتفاوتان شدَّة كالحركتين والسوادين. قَالَ الْجَوْهَرِي: مثل: كلمة تَسْوِيَة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3051 قَالُوا: {قل مَا يكون لي أَن أبدله} [يُونُس: 15] . أُجِيب: أَي الْوَحْي، ثمَّ السّنة بِوَحْي، وَبِه يُجَاب عَن قَوْلهم الْقُرْآن أصل، ثمَّ الحكم الْمَنْسُوخ لَيْسَ أصلا. قَالُوا: الْقُرْآن أقوى لإعجازه ويثاب بعد حفظه على تِلَاوَته بِخِلَاف السّنة. قَالَ القَاضِي: بِلَا خلاف، فَلَا مماثلة، وَكَذَا ذكر ابْن عقيل وَغَيره: يُثَاب على تِلَاوَته دونهَا، وَاقْتصر بَعضهم على أَنَّهَا دونه. رد: الْخلاف فِي الحكم، جزم بِهِ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والآمدي، وَغَيرهمَا، وَقَالَهُ فِي " التَّمْهِيد ". لِأَن اللَّفْظ لَا يُمكن رَفعه إِلَّا أَن يَشَاء الله، قَالَ: وَيحْتَمل أَن يجوز بِأَن يَقُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تقرؤوا هَذِه الْآيَة "، وَجزم القَاضِي بِهَذَا، وَأَن الْخلاف فِي الْجَمِيع، وَمَعْنَاهُ لِابْنِ عقيل. وَفِي " التَّمْهِيد ": بعض آيَة لَا إعجاز فِيهَا، وَيجوز نسخ آيَة فِيهَا إعجاز الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3052 بِآيَة لَا إعجاز فِيهَا، وَمن سلم اعْتبر الْمُمَاثلَة. قَالُوا: عَن جَابر مَرْفُوعا: " كَلَامي لَا ينْسَخ كَلَام الله، وَكَلَام الله ينْسَخ كَلَامي، وَكَلَام الله ينْسَخ بعضه بَعْضًا " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. رد: ذَلِك بِأَنَّهُ مَوْضُوع [فِيهِ] جبرون بن وَاقد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3053 (قَوْله: {فصل} ) {يعلم النّسخ بتأخره يَقِينا، وَفِي " الْمقنع " وَغَيره: أَو ظنا} . إِذا تقرر أَن حكم النّسخ لَا يتَعَلَّق بالمكلف حَتَّى يعرفهُ، فَلَا بُد من بَيَان الطَّرِيق إِلَى مَعْرفَته، وَذَلِكَ بِأَن يعلم، أَو يظنّ أَنه مُتَأَخّر عَن دَلِيل الحكم الْمُقَرّر الَّذِي هُوَ ضِدّه، وَذَلِكَ الطَّرِيق من وُجُوه: أَحدهَا: أَن يعرف بِالْإِجْمَاع على أَن هَذَا نَاسخ لهَذَا، كالنسخ بِوُجُوب الزَّكَاة سَائِر الْحُقُوق الْمَالِيَّة. وَمثله مَا ذكره الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ: أَن زر بن حبيس قَالَ لِحُذَيْفَة: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3054 أَي سَاعَة تسحرت مَعَ رَسُول الله؟ قَالَ: هُوَ النَّهَار إِلَّا أَن الشَّمْس لم تطلع، وَأجْمع الْمُسلمُونَ على أَن طُلُوع الْفجْر يحرم الطَّعَام وَالشرَاب، مَعَ بَيَان ذَلِك من قَوْله تَعَالَى: {وكلوا وَاشْرَبُوا} الْآيَة [الْبَقَرَة: 187] . قَالَ الْعلمَاء فِي مثل هَذَا: إِن الْإِجْمَاع مُبين للمتأخر، وَأَنه نَاسخ؛ لَا أَن الْإِجْمَاع هُوَ النَّاسِخ. الْوَجْه الثَّانِي: أَن يَقُول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هَذَا نَاسخ لذَلِك، أَو هَذَا بعده، أَو مَا فِي معنى ذَلِك كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها ". الْوَجْه الثَّالِث: أَن ينص الشَّارِع على خلاف مَا كَانَ مقررا بِدَلِيل بِحَيْثُ لَا يُمكن الْجمع بَين الدَّلِيلَيْنِ على تَأَخّر أَحدهمَا فَيكون نَاسِخا للمتقدم وَهُوَ كثير، وَهُوَ قريب من الثَّانِي. الْوَجْه الرَّابِع: فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ظَاهر كَلَام الإِمَام أَحْمد، {وَاخْتَارَهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3055 القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَبَعض الشَّافِعِيَّة} . وَقد جعل الْعلمَاء من ذَلِك نسخ الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار بِأَكْلِهِ من الشَّاة وَلم يتَوَضَّأ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهُوَ ظَاهر مَا قدمه ابْن قَاضِي الْجَبَل. وَحكى القَاضِي عَن التَّمِيمِي منع نسخ القَوْل بِالْفِعْلِ، وَكَذَا منع ابْن عقيل نسخ القَوْل بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَن دلَالَته دونه، وَاخْتَارَهُ أَيْضا الْمجد فِي " المسودة ". الْوَجْه الْخَامِس: أَن يَقُول الرَّاوِي، رخص لنا فِي كَذَا ثمَّ نهينَا عَنهُ، كَقَوْلِه: رخص لنا فِي الْمُتْعَة، ثمَّ نهينَا عَنْهَا. أَو يَقُول الرَّاوِي: هَذَا مُتَأَخّر الْوُرُود عَن الأول، فَيكون نَاسِخا لَهُ، وَذَلِكَ كَقَوْل جَابر - رَضِي الله عَنهُ -: كَانَ آخر الْأَمريْنِ من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ترك الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3056 وَقَول عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْقيامِ للجنازة ثمَّ قعد. وَفِي معنى ذَلِك كثير. فَإِن قيل: قَول الرَّاوِي هَذَا ينْسَخ بِهِ الْقُرْآن أَو غَيره من السّنة المتواترة على تَقْدِير وجودهَا مَعَ أَنه خبر آحَاد، والآحاد لَا ينْسَخ بِهِ الْمُتَوَاتر. قيل: هَذَا حِكَايَة للنسخ لَا نسخ، والحكاية بالآحاد يجب الْعلم بهَا كَسَائِر أَخْبَار الْآحَاد. وَأَيْضًا: فاستفادة النّسخ من قَوْله إِنَّمَا هُوَ بطرِيق التضمن والضمني يغْتَفر فِيهِ مَا لَا يغْتَفر فِيمَا إِذا كَانَ أصلا كَمَا فِي مسَائِل كَثِيرَة أصولية وفقهية، كثبوت الشُّفْعَة فِي الشّجر تبعا للعقار، وَنَحْوه. قَوْله: {وَلَا يقبل قَوْله: هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة حَتَّى يبين النَّاسِخ. أَوْمَأ إِلَيْهِ أَحْمد كالحنفية وَالشَّافِعِيَّة، وَعنهُ: بلَى، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3057 كالكرخي، وَأبي الْخطاب، وَقَالَ الْمجد إِن كَانَ هُنَاكَ نَص يُخَالِفهَا قبل قَوْله} . قَالَ ابْن مُفْلِح: وَإِن قَالَ صَحَابِيّ: هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة لم يقبل حَتَّى يخبر بِمَاذَا نسخت. قَالَ القَاضِي: أَوْمَأ إِلَيْهِ أَحْمد كَقَوْل الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة، قَالُوا فِي ذَلِك؛ لِأَنَّهُ قد يكون عَن اجْتِهَاد فَلَا يقبل. وَذكر ابْن عقيل رِوَايَة أَنه يقبل كَقَوْل بَعضهم؛ لعلمه فَلَا احْتِمَال؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُول غَالِبا إِلَّا عَن نقل. وَقَالَ الْمجد ابْن تَيْمِية فِي " المسودة ": إِن كَانَ هُنَاكَ نَص يُخَالِفهَا عملا بِالظَّاهِرِ. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَذكر الْبَاجِيّ فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3058 عدم الْقبُول حَتَّى يبين النَّاسِخ، وَاخْتَارَهُ، وَهُوَ قَول الباقلاني، والسمناني. وَالثَّانِي: إِن ذكر النَّاسِخ لم يَقع بِهِ نسخ. وَالثَّالِث: يَقع النّسخ بِكُل حَال. قَوْله: {كَقَوْلِه: نزلت هَذِه بعد هَذِه، ذكره القَاضِي وَغَيره، وَمنعه الْآمِدِيّ، وَتردد بَعضهم، وَقيل: إِن ذكر النَّاسِخ لم يَقع بِهِ نسخ، وَإِلَّا وَقع} . هَذَا الْقيَاس فِي قَوْلنَا كَقَوْلِه لَيْسَ مِثَال لما تقدم، وَإِنَّمَا هُوَ أصل قيس عَلَيْهِ القَوْل الَّذِي قبله، وَالله أعلم. إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ: نزلت هَذِه الْآيَة بعد هَذِه قبل قَوْله، ذكره القَاضِي وَغَيره، وَهُوَ ظَاهر قَول من سبق، وَجزم بِهِ الشَّافِعِيَّة، وَقطع بِهِ الْبرمَاوِيّ وَغَيره، وَجزم الْآمِدِيّ بِالْمَنْعِ لتَضَمّنه نسخ متواتر بآحاد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3059 وَذكره بَعضهم ترددا للْعلم بنسخ أَحدهمَا، وَخبر الْوَاحِد معِين للناسخ. وَذكر الْبَاجِيّ الْمَالِكِي قولا إِن ذكر النَّاسِخ لم يَقع بِهِ نسخ، وَإِلَّا وَقع. قَوْله: {وَهَذَا الْخَبَر مَنْسُوخ كالآية} ، وَهَذَا الصَّحِيح قدمه ابْن مُفْلِح، وَغَيره، وَجزم أَبُو الْخطاب بِأَنَّهُ يقبل، كالرواية الثَّانِيَة الَّتِي ذكرهَا ابْن عقيل فِي قَوْله هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة. {وَقَالَ القَاضِي} : خبر الْوَاحِد إِذا أخبر بِهِ صَحَابِيّ، وَقَالَ: مَنْسُوخ، {يقبل عِنْد من جوز رِوَايَة الْخَبَر بِالْمَعْنَى، وَإِلَّا فَلَا} . قَوْله: {وَكَانَ كَذَا وَنسخ يقبل فِي قِيَاس الْمَذْهَب، قَالَه الْمجد، وَالْحَنَفِيَّة} ، وَهَذَا أولى بِالصِّحَّةِ من الَّذِي قبله. {وَقَالَ ابْن برهَان: لَا يقبل عندنَا، وَجزم بِهِ الْآمِدِيّ} . قَوْله: {وَلَا يثبت بقبليته فِي الْمُصحف} ؛ لِأَن الْعبْرَة بالنزول لَا بالترتيب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3060 فِي الْوَضع؛ لِأَن النُّزُول بِحَسب الحكم وَالتَّرْتِيب للتلاوة. قيل: لَيْسَ فِي الْقُرْآن آيَة مَنْسُوخَة متلوة قبل الناسخة إِلَّا آيتي الْعدة. قلت: وَآيَة فِي الْأَحْزَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِنَّا أَحللنَا لَك أَزوَاجك} الْآيَة [الْأَحْزَاب: 50] ، ناسخة لقَوْله تَعَالَى: {لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد} [الْأَحْزَاب: 52] فَهِيَ مَنْسُوخَة، وَهِي بعد الْآيَة الناسخة. وَهَذَا الَّذِي قدمه ابْن مُفْلِح فِي " فروعه "، وعاكسه ابْن حمدَان فِي " رعايته ". قَوْله: {وَلَا بصغر صَحَابِيّ، أَو تَأَخّر إِسْلَامه، خلافًا للموفق والرازي فِيهِ} ؛ لِأَن صغر الصَّحَابِيّ لَا يُؤثر فِي ذَلِك، وَكَذَلِكَ تَأَخّر إِسْلَامه؛ لِأَن تَأَخّر رَاوِي أحد الدَّلِيلَيْنِ لَا يدل على أَن مَا رَوَاهُ نَاسخ للْآخر لجَوَاز أَن تحمله قبل الْإِسْلَام. قَوْله: {وَلَا بموافقة الأَصْل} ، إِذا ورد نصان - فِي حكم - متضادان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3061 وَلم يُمكن الْجمع بَينهمَا، لَكِن أحد النصين مُوَافق للبراءة الْأَصْلِيَّة، وَالْآخر مُخَالف، فَزعم بَعضهم أَن ذَلِك الَّذِي خَالف الأَصْل وَلم يُوَافق نَاسخ للَّذي وَافق؛ لِأَن الْمُخَالف اسْتَفَادَ من الشَّرْع وَهُوَ المضاد للبراءة الْأَصْلِيَّة؛ لِأَن الِانْتِقَال من الْبَرَاءَة لاشتغال الذِّمَّة يَقِين، وَالْعود إِلَى الْإِبَاحَة ثَانِيًا شكّ فَقدم ذَلِك الَّذِي لم يُوَافق الأَصْل. قيل: لَكِن هَذَا بِنَاء على أَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْإِبَاحَة. قَالَ الْبرمَاوِيّ: قلت: وَفِيه نظر، فَإنَّا وَلَو قُلْنَا بِأَن الأَصْل التَّحْرِيم وَكَانَ أحد النصين تَحْرِيمًا، وَالْآخر إِبَاحَة صدق أَن التَّحْرِيم مُوَافق للْأَصْل إِلَّا أَن تفرض الْمَسْأَلَة فِي خُصُوص الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة، وَلَا يَجْعَل ذَلِك مِثَالا فَقَط. قَوْله: {وَلَا بعقل وَقِيَاس} ؛ لِأَنَّهُ لَا يكون نَاسِخا إِلَّا بتأخره عَن زمَان الْمَنْسُوخ، وَلَا يدْخل الْعقل، وَلَا الْقيَاس فِي معرفَة الْمُتَقَدّم من الْمُتَأَخر، بل إِنَّمَا يعرف بِالنَّقْلِ الْمُجَرّد، لَا غير أَو المشوب باستدلال عَقْلِي كالإجماع على أَن هَذَا الحكم مَنْسُوخ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3062 (قَوْله: {فصل} ) {أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر: الْإِجْمَاع لَا ينْسَخ وَلَا ينْسَخ بِهِ} . لما انْتهى من الْكَلَام فِي نسخ الْقُرْآن وَالسّنة شرعنا فِي نسخ الْإِجْمَاع والنسخ بِهِ. فَأَما الْإِجْمَاع فَإِنَّهُ لَا ينْسَخ، وَذَلِكَ وَاضح الْمَنْع؛ لِأَن الْإِجْمَاع لَا يكون فِي حَيَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى ينسخه، وَإِذا وَقع بعد وَفَاته فَلَا يُمكن أَن يَأْتِي بعده نَاسخ. وَأما النّسخ بِالْإِجْمَاع [لشَيْء] مِمَّا سبق من كتاب أَو سنة فَيَقَع صُورَة لَكِن فِي الْحَقِيقَة حَيْثُ وجد إِجْمَاع على خلاف نَص فَيكون قد تضمن نَاسِخا لَا أَنه هُوَ النَّاسِخ؛ وَلِأَن الْإِجْمَاع مَعْصُوم من مُخَالفَة دَلِيل شَرْعِي لَا معَارض لَهُ وَلَا مزيل عَن دلَالَته فَتعين إِذا وَجَدْنَاهُ خَالف شَيْئا أَن ذَلِك إِمَّا غير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3063 صَحِيح إِن أمكن ذَلِك أَو أَنه مؤول أَو نسخ بناسخ؛ لِأَن إِجْمَاعهم حق فالإجماع دَلِيل على النّسخ لَا رَافع للْحكم. كَمَا قَرَّرَهُ القَاضِي أَبُو يعلى، والصيرفي، والأستاذ أَبُو مَنْصُور، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَغَيرهم. قَالَ ابْن مُفْلِح: الْإِجْمَاع لَا ينْسَخ؛ لِأَنَّهُ إِن نسخ بِنَصّ أَو إِجْمَاع قاطعين فَالْأول خطأ. وَهُوَ بَاطِل، وَإِلَّا فالقاطع يقدم. قَالُوا: أَجمعُوا على قَوْلَيْنِ فَهِيَ اجتهادية إِجْمَاعًا، فَلَو اتَّفقُوا على أَحدهمَا كَانَ نسخا لحكم الْإِجْمَاع. رد: بِمَنْع انْعِقَاد إِجْمَاع ثَان، ثمَّ شَرط الْإِجْمَاع الأول عدم إِجْمَاع ثَان فَانْتفى لانْتِفَاء شَرطه. ثمَّ قَالَ: الْإِجْمَاع لَا ينْسَخ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِن كَانَ عَن نَص فَهُوَ النَّاسِخ، وَإِن كَانَ عَن قِيَاس فالمنسوخ إِن كَانَ قَطْعِيا فالإجماع خطأ لانعقاده بِخِلَافِهِ، وَإِن كَانَ ظنيا زَالَ شَرط الْعَمَل بِهِ، وَهُوَ رجحانه على معارضه الَّذِي هُوَ سَنَد الْإِجْمَاع، وَإِلَّا يكون الْإِجْمَاع خطأ، وَمَعَ زَوَاله لَا ثُبُوت لَهُ فَلَا نسخ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3064 قَالُوا: مَا سبق فِي أقل الْجمع من قَول ابْن عَبَّاس لعُثْمَان ورده عَلَيْهِ. أُجِيب: حجب الْأُم عَن الثُّلُث إِنَّمَا يكون نسخا لَو ثَبت الْمَفْهُوم وَأَن الْأَخَوَيْنِ ليسَا بإخوة قطعا، فَيجب تَقْدِير نَص دلّ على حجبها عَن الثُّلُث، وَإِلَّا كَانَ الْإِجْمَاع خطأ، فالنص النَّاسِخ. انْتهى. قَوْله: {وَلَا نسخ بِالْقِيَاسِ، وَجوزهُ بِهِ جمع إِن نَص على علته، وَجمع بِقِيَاس جلي، وَقوم فِي زَمَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَطَائِفَة مَا خص ينْسَخ وَنقض} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3065 لما فرغت من النّسخ الْمُتَعَلّق بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع شرعت فِي الْمُتَعَلّق بِالْقِيَاسِ، وَفِيه مَسْأَلَتَانِ: النّسخ بِهِ، والنسخ لَهُ. أما النّسخ بِهِ - وَهِي مَسْأَلَتنَا - فَالصَّحِيح أَنه لَا ينْسَخ بِالْقِيَاسِ، وَعَلِيهِ أَصْحَابنَا وَالْجُمْهُور، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَاخْتَارَهُ ابْن الباقلاني، وَنَقله عَن الْفُقَهَاء والأصوليين. قَالَ: لِأَن الْقيَاس يسْتَعْمل مَعَ عدم النَّص فَلَا ينْسَخ النَّص؛ وَلِأَنَّهُ دَلِيل مُحْتَمل، والنسخ إِنَّمَا يكون بِغَيْر مُحْتَمل. وَأَيْضًا: فَشرط صِحَة الْقيَاس أَن لَا يُخَالف الْأُصُول، فَإِن خَالف فسد. قَالَ: بل، وَلَا ينْسَخ قِيَاسا آخر؛ لِأَن الْعَارِض إِن كَانَ بَين أُصَلِّي القياسين فَهُوَ نسخ نَص بِنَصّ، وَإِن كَانَ بَين العلتين فَهُوَ من بَاب الْمُعَارضَة فِي الأَصْل وَالْفرع، لَا من بَاب الْقيَاس. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَجه هَذَا القَوْل أَن الْمَنْسُوخ إِن كَانَ قَطْعِيا لم ينْسَخ بمظنون، وَإِن كَانَ ظنيا فَالْعَمَل بِهِ مُقَيّد برجحانه على معارضه وَتبين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3066 بِالْقِيَاسِ زَوَال [شَرط] الْعَمَل بِهِ، وَهُوَ رجحانه فَلَا ثُبُوت لَهُ. وَالْقَوْل الثَّانِي: إِن كَانَت علته منصوصة جَازَ النّسخ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ الْبَاجِيّ: هَذَا هُوَ الْحق. وَالْقَوْل الثَّالِث: قَالَ الْآمِدِيّ: إِن كَانَت منصوصة جَازَ، وَإِلَّا فَإِن كَانَ الْقيَاس قَطْعِيا كقياس الْأمة على العَبْد فِي السَّرَايَة فَهُوَ مقدم، لَكِن لَا من بَاب النّسخ، أَو كَانَ ظنيا بِأَن كَانَت علته مستنبطة فَلَا. وَسَبقه إِلَى هَذَا التَّفْصِيل صَاحب المصادر. وَالْقَوْل الرَّابِع: ينْسَخ بالجلي، لَا بالخفي، حَكَاهُ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور عَن الْأنمَاطِي، وَحَكَاهُ صَاحب المصادر عَن ابْن سُرَيج، وَحَكَاهُ ابْن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3067 برهَان عَن أَصْحَابه، وَكَذَا حَكَاهُ الْبَاجِيّ عَنهُ، لَكِن قَالَ: إِنَّه رَجَعَ إِلَى القَوْل بِالْمَنْعِ مُطلقًا؛ لِأَن الْجَلِيّ عِنْده من بَاب الفحوى وَهُوَ جَار مجْرى النَّص فَلَيْسَ نسخا بِقِيَاس. القَوْل الْخَامِس: إِن كَانَ فِي حَيَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَازَ. قَالَ الْهِنْدِيّ: على الْأَصَح، بل هُوَ مَحل الْخلاف، وَإِن كَانَ بعده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا يجوز قطعا. القَوْل السَّادِس: إِن كل مَا خص الْعُمُوم نسخ. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَعَن طَائِفَة مَا جَازَ التَّخْصِيص بِهِ جَازَ النّسخ، وَنقض بِالْعقلِ والحس. انْتهى. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَمثله ابْن عقيل بِأَن ينص على إِبَاحَة التَّفَاضُل فِي الْأرز بالأرز فَإِنَّهُ لَا ينْسَخ بالمستنبطة من نَهْيه عَن بيع الْأَعْيَان السِّتَّة، أَو عَن بعض الطَّعَام مثلا بِمثل. القَوْل السَّابِع: الْجَوَاز مُطلقًا حَتَّى ينْسَخ بِهِ الْقُرْآن، وَالسّنة المتواترة، كَمَا فِي التَّخْصِيص، وَلَكِن الْفرق ظَاهر؛ لِأَن التَّخْصِيص بَيَان، والنسخ رفع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3068 وَجرى التَّاج السُّبْكِيّ على القَوْل الضَّعِيف. وَهَذَا القَوْل هُوَ المنطوي فِي قَوْلنَا (أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر) فَهَذَا القَوْل ضِدّه. القَوْل الثَّامِن: إِن الْقيَاس ينْسَخ بِهِ الْآحَاد فَقَط، لَا الْمُتَوَاتر. وَهُوَ فَاسد أَيْضا؛ لِأَن الْمعَارض الْمَانِع من الْقيَاس لَا فرق فِيهِ بَين الْمُتَوَاتر والآحاد. القَوْل التَّاسِع: حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْن بن الْقطَّان وَغَيره عَن الْأنمَاطِي إِن الْقيَاس الْمُسْتَخْرج من الْقُرْآن ينْسَخ بِهِ الْقُرْآن، والمستخرج من السّنة تنسخ بِهِ السّنة. فَهَذِهِ تِسْعَة آراء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَّا أَن يكون القَوْل السَّادِس هُوَ السَّابِع. قَوْله: {أما الْقيَاس فَلَا ينْسَخ، ذكره القَاضِي، وَحكي عَن الْأَصْحَاب، وَقَالَهُ أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَابْن برهَان، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3069 إِلَّا أَن يثبت فِي زَمَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بنصه على الْعلَّة أَو تنبيهه فَيجوز. والموفق: مَا يثبت بِقِيَاس نَص على علته ينْسَخ وينسخ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا. وَقيل: يجوز، والآمدي وَجمع بِقِيَاس أمارته أقوى، وَقوم: يكون تَخْصِيصًا لِلْعِلَّةِ} . قَالَ ابْن مُفْلِح: أما الْقيَاس فَلَا ينْسَخ، ذكره القَاضِي، وَذكره الْآمِدِيّ عَن أَصْحَابنَا لبَقَائه بِبَقَاء أَصله. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: مَنعه بعض أَصْحَابنَا، وَعبد الْجَبَّار فِي قَول محتجين بِأَن الْقيَاس إِذا كَانَ مستنبطا من أصل، فَالْقِيَاس بَاقٍ بِبَقَاء أَصله، فَلَا يتَصَوَّر رفع حكمه مَعَ بَقَاء أَصله، وَهُوَ اخْتِيَار ابْن الْحَاجِب وَغَيره، وَمِنْهُم من جوز ذَلِك فِي الْقيَاس الْمَوْجُود زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دون مَا بعده، وَهُوَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3070 اخْتِيَار أبي الْخطاب، وَابْن عقيل، وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، وَابْن برهَان، وَابْن الْخَطِيب، قَالَ أَبُو الْخطاب: مَا ثَبت قِيَاسا فإمَّا فِي زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بنصه على الْعلَّة أَو تنبيهه عَلَيْهَا فَيجوز نسخه بنصه أَيْضا. مِثَاله: أَن ينص على تَحْرِيم الرِّبَا فِي الْبر، وينص على أَن عِلّة تَحْرِيمه الْكَيْل، ثمَّ ينص بعد ذَلِك على إِبَاحَته فِي الْأرز، وَيمْنَع من قِيَاسه على الْبر، فَيكون ذَلِك نسخا، وَإِمَّا قِيَاس مُسْتَفَاد بعد وَفَاته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَلَا يَصح نسخه؛ لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يَتَجَدَّد بعد وَفَاته نَص من كتاب أَو سنة. انْتهى. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: يجوز عِنْد الْجُمْهُور فِي زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لَا فِيمَا بعده، فَينْسَخ، إِمَّا بِنَصّ، أَو قِيَاس آخر لَا بِإِجْمَاع لعدم انْعِقَاده. وَهَذَا القَوْل غير قَول أبي الْخطاب. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن: وَأَيْضًا يجوز نسخه بِقِيَاس أمارته أقوى من أَمارَة الأول. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3071 وَقَالَ الْآمِدِيّ وَقَالَ: إِلَّا أَن من ذهب إِلَيْهِ بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ بَان ناسخه نتبين أَنه كَانَ مَنْسُوخا، قَالَ: وَسَوَاء قُلْنَا كل مُجْتَهد مُصِيب، أَو لَا. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَكَذَا لم يفرق أَصْحَابنَا، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن: من لم يقل بِهِ لَا يَقُول بتعبده بِالْقِيَاسِ الأول فرفعه لَا يعلم، وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": مَا ثَبت بِالْقِيَاسِ إِن نَص على علته فكالنص ينْسَخ وينسخ بِهِ وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ ابْن عقيل - لما قَالَ: كَقَوْل أبي الْخطاب -: وَإِن قوما قَالُوا: يكون تَخْصِيصًا لِلْعِلَّةِ بالطعم فِي الْبر. انْتهى. وَهِي القَوْل الَّذِي حكيناه، وَقَالَ عبد الْجَبَّار أَيْضا يجوز نسخه. قَوْله: {وَلَو نسخ حكم الأَصْل تبعه حكم الْفَرْع عِنْد أَصْحَابنَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3072 وَالشَّافِعِيَّة، وَخَالف القَاضِي وَالْحَنَفِيَّة، وَاخْتَارَ الْمجد إِن نَص على الْعلَّة يتبعهُ الْفَرْع إِلَّا أَن يُعلل فِي نسخه بعلة فَيثبت النّسخ} . إِذا ورد النّسخ على الأَصْل الْمَقِيس عَلَيْهِ ارْتَفع الْقيَاس عَلَيْهِ بالتبعية عندنَا وَعند الشَّافِعِيَّة، وَخَالف فِي ذَلِك القَاضِي وَالْحَنَفِيَّة. قَالَ القَاضِي فِي إِثْبَات الْقيَاس عقلا: لَا يمْتَنع عندنَا بَقَاء حكم الْفَرْع مَعَ نسخ حكم الأَصْل. وَمثله أَصْحَابنَا - وَذكره ابْن عقيل عَن الْمُخَالف أَيْضا - بِبَقَاء حكم النَّبِيذ الْمَطْبُوخ فِي الْوضُوء بعد نسخ النيء، وَصَوْم رَمَضَان بنية من النَّهَار بعد نسخ عَاشُورَاء عِنْدهم. وَقَالَ الْمجد فِي " المسودة ": وَعِنْدِي إِن كَانَت الْعلَّة مَنْصُوصا عَلَيْهَا لم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3073 يتبعهُ الْفُرُوع إِلَّا أَن يُعلل فِي نسخه بعلة فَيثبت النّسخ حَيْثُ وجدت. انْتهى. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: الْمَنْسُوخ عِنْدهم تَجْوِيز شربه فتبعته الطّهُورِيَّة فَإِنَّهَا نفس الْمَسْأَلَة وَقَالَ: جَازَ الْوضُوء بهما، ثمَّ حرم الأَصْل فَالْمَعْنى النَّاسِخ اخْتصَّ بِهِ. قَالَ: وَالصَّحِيح فِي الثَّانِيَة أَن ذَلِك لَا يُوجب نسخ ذَلِك الحكم، والمنسوخ وجوب صَوْم عَاشُورَاء فَسقط إجزاؤه بنية من النَّهَار لعدم الْمحل، فَأَما كَون الْوَاجِب يُجزئ بنية من النَّهَار فَلم يتَعَرَّض لنسخه. وَقَالَ أَيْضا: التَّحْقِيق أَن هَذَا من بَاب نسخ الأَصْل نَفسه لَا حكمه، فَالْمَسْأَلَة ذَات صُورَتَيْنِ: نسخ حكم الأَصْل، وَهنا يظْهر أَن تتبعه الْفُرُوع المتشعبة الأَصْل، وَأما نسخ نفس الأَصْل الَّذِي هُوَ حكم، هَل هُوَ نسخ لصفاته؟ انْتهى. وَضعف أَيْضا فِي " الِانْتِصَار ". منع أَصْحَابنَا من نسخ عَاشُورَاء وَبَقَاء حكمه فِي رَمَضَان فَإِنَّهُ إِذا ثَبت جَوَاز النِّيَّة نَهَارا فِي صَوْم وَاجِب لَا يَزُول بِنَقْل الْوَاجِب من مَحل إِلَى مَحل، وزمن إِلَى زمن. وَفرق ابْن عقيل وَغَيره بِأَن رَمَضَان وجد سَبَب إِيجَابه قبل شُرُوعه فِيهِ فالنية فِيهِ كَحكم وَضعهَا فِي كل وَاجِب. وَإِن قُلْنَا بقول أَصْحَابنَا ومحققي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3074 الشَّافِعِيَّة إِن عَاشُورَاء كَانَ نفلا فَوَاضِح. قَالَ: وَيُشبه نسخ نفس الأَصْل قرعَة يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهَا لَا تجوز فِي شرعنا؛ لِأَن المذنب لَو عَرفْنَاهُ لم نتلفه، فَهَل نسخ الْقرعَة فِي هَذَا الأَصْل نسخ لجنس الْقرعَة؟ قد احْتج أَصْحَابنَا بهَا على الْقرعَة وقرعة زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام، كَانُوا أجانب، وَكَانَ لَهُم فِي شرعهم ولَايَة حضَانَة المحررة، فارتفاع الحكم فِي غير الأَصْل لارْتِفَاع الأَصْل لَا يكون رفعا لَهُ فِي مثل ذَلِك الأَصْل إِذا وجد. قَالَ: وَمثله نَهْيه لِمعَاذ عَن الْجمع بَين الائتمام وإمامة قومه إِذا كَانَ للتطويل عَلَيْهِم، هَل هُوَ نسخ لما دلّ الْجمع عَلَيْهِ من ائتمام مفترض بمتنفل؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3075 وَذكر فِي " التَّمْهِيد " فِي آخر مَسْأَلَة الْقيَاس مَا سبق عَن الْأَصْحَاب احْتِمَالا، ثمَّ سلم. وَاخْتَارَ بعض أَصْحَابنَا إِن نَص على الْعلَّة لم يتبعهُ الْفَرْع إِلَّا أَن يُعلل فِي نسخه بعلة فيتبعها النّسخ. وَجه الأول: خُرُوج الْعلَّة عَن اعْتِبَارهَا فَلَا فرع وَإِلَّا وجد الْمَعْلُول بِلَا عِلّة. فَإِن قيل: أَمارَة فَلم يحْتَج إِلَيْهَا دواما. رد: باعثة. قَالُوا: الْفَرْع تَابع للدلالة، لَا للْحكم. رد: زَالَ الحكم بِزَوَال حكمته. وَفِي " التَّمْهِيد " أَيْضا: لَا يُسمى نسخا كزوال حكمه بِزَوَال علته. وَمَعْنَاهُ فِي " الْعدة ". قَالَ الْبرمَاوِيّ: إِذا ورد النّسخ على الأَصْل الْمَقِيس عَلَيْهِ ارْتَفع الْقيَاس مَعَه بالتبعية، والمخالف فِيهِ الْحَنَفِيَّة جوزوا صَوْم رَمَضَان بنية من النَّهَار بِالْقِيَاسِ على مَا كَانَ فِي صَوْم يَوْم عَاشُورَاء من الِاكْتِفَاء نِيَّة من النَّهَار حِين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3076 كَانَ وَاجِبا على معتقدهم ذَلِك مَعَ زَوَال فرضيته بالنسخ، وأبقوا الْفَرْع على حَاله، لَكِن لَيْسَ هَذَا نسخا للْقِيَاس، بل رفض لنَصّ فَلَا يكون إِلَّا بِنَصّ؛ لِأَن النَّص لَا ينْسَخ بِقِيَاس. قَالَ: وَمَا أحسن تَعْبِير ابْن الْحَاجِب عَن هَذِه الْمَسْأَلَة بقوله: الْمُخْتَار أَن نسخ حكم أصل الْقيَاس لَا يبْقى حكم الْفَرْع، فَعبر بقوله: لَا يبْقى وَلم يعبر بالنسخ كَمَا وَقع فِي كَلَام بَعضهم، وَلَيْسَ بجيد؛ لِأَن الحكم إِذا زَالَ بِزَوَال علته لَا يُقَال إِنَّه مَنْسُوخ. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3077 (قَوْله: {فصل} ) {الْأَرْبَعَة، والمعظم ينْسَخ بالفحوى، وَقيل: لَا} . قد سبق فِي بَاب الْمَفْهُوم أَن مَفْهُوم الْمُوَافقَة، هُوَ مَا يكون الْمَسْكُوت عَنهُ مُوَافقا للمذكور فِي حكمه، وَسبق فِي طَرِيق دلَالَته أَقْوَال: أَحدهَا: بطرِيق الْمَفْهُوم وَهُوَ المُرَاد هُنَا فِي نسخه والنسخ بِهِ لَا على قَول أَنه بِالْقِيَاسِ؛ لِأَن ذَلِك دَاخل فِي قَاعِدَة النّسخ للْقِيَاس بِهِ، وَلَا على أَن دلَالَته مجازية بِقَرِينَة، وَلَا على أَنه نقل اللَّفْظ لَهَا عرفا. إِذا علم ذَلِك فالنسخ إِمَّا أَن يتَوَجَّه على الفحوى، أَو على أَصله، وكل مِنْهُمَا إِمَّا مَعَ التَّعَرُّض لبَقَاء الآخر، أَو مَعَ عدم التَّعَرُّض لذَلِك، وَإِمَّا أَن ينسخا مَعًا، وَإِمَّا أَن يكون النّسخ بالفحوى، فَهَذِهِ سِتّ مسَائِل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3078 وكلامنا هُنَا هُوَ نسخ الفحوى من غير تعرض لبَقَاء الأَصْل، أَو رَفعه، والنسخ بِهِ، فَقَالَ ابْن مُفْلِح: الفحوى ينْسَخ وينسخ بِهِ، ذكره الْآمِدِيّ اتِّفَاقًا، وَفِي " التَّمْهِيد " الْمَنْع عَن بعض الشَّافِعِيَّة، وَذكره فِي " الْعدة " عَن الشَّافِعِيَّة، قَالَ فِيمَا حَكَاهُ الإِسْفِرَايِينِيّ: وَاخْتَارَهُ بعض أَصْحَابنَا. لنا: أَنه كالنص وَإِن قيل: قِيَاس، فقطعي. انْتهى. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ عَن الْمَسْأَلَة الأولى: من الْعلمَاء من منع ذَلِك. وَقَالَ عَن الثَّانِيَة: وَهُوَ النّسخ بِهِ. انتقد على الإِمَام، والآمدي ادعاؤهما الِاتِّفَاق على الْجَوَاز، فقد حكى الْخلاف أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " شرح اللمع " بِنَاء على [أَن] الفحوى قِيَاس، وَالْقِيَاس لَا ينْسَخ النَّص. قَالَ الْبرمَاوِيّ: قلت: فَإِن كَانَت حكايته الِاتِّفَاق بِنَاء على أَنه لَيْسَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3079 من بَاب الْقيَاس فَلَا انتقاد عَلَيْهِمَا بِالْمَنْعِ تَفْرِيعا على أَنه قِيَاس، وَقد نَص الباقلاني على الْمَنْع أَيْضا، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق. انْتهى. قَوْله: {وَيجوز نسخ أصل الفحوى كالتأفيف دونه كالضرب عِنْد القَاضِي، وَابْن عقيل، وَالْفَخْر، وَغَيرهم، وَمنعه الْمُوفق، والطوفي، والأثر} . يجوز نسخ أصل الفحوى كالتأفيف، كَمَا لَو قَالَ: رفعت عَنْك تَحْرِيم التأفيف دون بَقِيَّة أَنْوَاع الْإِيذَاء؛ لِأَنَّهُ لَا يلْزم من إِبَاحَته الْخَفِيف إِبَاحَة الشَّديد. وَهَذَا اخْتِيَار القَاضِي أبي يعلى، وَابْن عقيل، وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل الْبَغْدَادِيّ، وَحكى عَن الْحَنَفِيَّة، وَغَيرهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3080 وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، وَتَبعهُ الطوفي بِالْمَنْعِ، وَذكره الْآمِدِيّ قَول الْأَكْثَر وَذَلِكَ لِأَن الْفَرْع يتبع الأَصْل، فَإِذا ارْتَفع الأَصْل فَكيف يبْقى الْفَرْع؟ قَوْله: {وَيجوز عَكسه، فِي ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا، وَمنعه الْمجد، وَابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهم} . عَكسه هُوَ نسخ الفحوى وَهُوَ - مثلا - الضَّرْب دون أَصله وَهُوَ التأفيف كَمَا لَو قَالَ: رفعت تَحْرِيم كل إِيذَاء غير التأفيف، فَيجوز فِي ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَعَلِيهِ أَكثر الْمُتَكَلِّمين، قَالَه الْبرمَاوِيّ. وَلِأَن الفحوى وَأَصله مدلولان متغايران فَجَاز نسخ كل مِنْهُمَا. وَمنع الْمجد، وَابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَابْن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3081 الْحَاجِب، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ مَنْقُول عَن أَكثر الْفُقَهَاء، وَحكي عَن الْحَنَفِيَّة وَغَيرهم، وَاخْتلف كَلَام عبد الْجَبَّار المعتزلي. قيل: وَلَعَلَّ مأخذه أَن دلَالَته لفظية، أَو قياسية. وَمنع بَعضهم هُنَا، وَإِن لم يمْنَع فِي الَّتِي قبلهَا؛ لِأَن تَحْرِيم التأفيف يسْتَلْزم تَحْرِيم الضَّرْب لِأَنَّهُ مَعْلُوم مِنْهُ وجوازه لَا يسْتَلْزم جَوَازه؛ لِأَنَّهُ أَكثر أَذَى. قَالُوا: دلالتان فَجَاز رفع كل مِنْهُمَا. رد: بِمَنْعه مَعَ الاستلزام لِامْتِنَاع بَقَاء ملزوم بِدُونِ لَازمه. قَالُوا: الفحوى تَابع لأصله فيرتفع بِهِ. رد: لدلَالَة الْمَنْطُوق على حكمه، لَا لحكمه، ودلالته بَاقِيَة. قَوْله: {وَقيل: نسخ أَحدهمَا يسْتَلْزم الآخر. وَقيل: هُنَا} . قَالَ الْبَيْضَاوِيّ: نسخ الأَصْل يسْتَلْزم نسخ الفحوى وَعَكسه؛ لِأَن نفي اللَّازِم يسْتَلْزم نفي الْمَلْزُوم. انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3082 قَالَ الْبرمَاوِيّ: إِلَّا أَنه لم يسْتَدلّ إِلَّا لإحدى الْمَسْأَلَتَيْنِ دون الْأُخْرَى، وَهِي أَن نسخ الأَصْل يلْزم مِنْهُ رفع الفحوى، لَكِن دليلها أَن الفحوى تَابع وَالْأَصْل متبوع، فَإِذا رفع الْمَتْبُوع ارْتَفع التَّابِع. وَهَذَا الَّذِي رَجحه فيهمَا هُوَ الْمُخْتَار عِنْد الْأَكْثَر. لذَلِك قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": وَالْأَكْثَر أَن نسخ أَحدهمَا يسْتَلْزم الآخر. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَفِي الْحَقِيقَة المسألتان مفرعتان على الْجَوَاز فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الأولتين؛ لأَنا إِذا قُلْنَا بِالْجَوَازِ عِنْد التَّقْيِيد بِبَقَاء الآخر فَعِنْدَ الْإِطْلَاق يعْمل بالاستلزام لعدم مَا يَقْتَضِي خِلَافه، على أَن الرَّازِيّ قد جزم بِأَن نسخ الأَصْل يسْتَلْزم، وَأما استلزام نسخ الفحوى نسخ الأَصْل فنقله عَن اخْتِيَار أبي الْحُسَيْن، وَسكت عَلَيْهِ، فَيحْتَمل أَنه مُوَافقَة، وَلِهَذَا جرى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيّ، وَيحْتَمل أَنه ذكره على وَجه التَّضْعِيف فَيكون من الْقَائِلين بالتفصيل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3083 وَأما الْآمِدِيّ فَقَالَ: وَالْمُخْتَار أَن تَحْرِيم الضَّرْب فِي مَحل السُّكُوت إِن جَعَلْنَاهُ من بَاب الْقيَاس فنسخ الأَصْل يُوجب نسخ الْفَرْع؛ لِاسْتِحَالَة بَقَاء الْفَرْع بِدُونِ الأَصْل، وَإِن جَعَلْنَاهُ بِدلَالَة اللَّفْظ فَلَا شكّ أَن إِحْدَى الدلالتين المختلفتين [بِاللَّفْظِ وَالْأُخْرَى بالفحوى، وهما مُخْتَلِفَتَانِ فَلَا يلْزم من رفع إِحْدَى الدلالتين المختلفتين] رفع الْأُخْرَى فَيكون قولا بِعَدَمِ الاستلزام فِي المحلين. ثمَّ قَالَ: فَإِن قيل: الفحوى تَابع فَكيف يبْقى مَعَ ارْتِفَاع الْمَتْبُوع؟ قيل: التّبعِيَّة إِنَّمَا هِيَ فِي الدّلَالَة فِي الحكم، والنسخ إِنَّمَا [هُوَ] وَارِد على الحكم فقد يرْتَفع الحكم وَالدّلَالَة بَاقِيَة. انْتهى. قَالَ الْمحلي فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": وَقيل: نسخ الفحوى لَا يسْتَلْزم نظرا إِلَى أَنه تَابع بِخِلَاف نسخ الأَصْل، وَقيل: نسخ الأَصْل لَا يسْتَلْزم نظرا إِلَى أَنه ملزوم بِخِلَاف نسخه الفحوى. قَالَ ابْن برهَان: نسخ الفحوى يسْتَلْزم نسخ أَصله وَلَا عكس. قَالَ فِي " الْأَوْسَط ": وَالْمذهب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3084 ثمَّ قَالَ الْمحلي: وَاعْلَم أَن استلزام كل مِنْهُمَا للْآخر يُنَافِي مَا صَححهُ فِي " جمع الْجَوَامِع " من جَوَاز نسخ كل مِنْهُمَا دون الآخر، فَإِن الِامْتِنَاع مَبْنِيّ على الاستلزام، وَالْجَوَاز مَبْنِيّ على عَدمه، وَقد اقْتصر ابْن الْحَاجِب على الْجَوَاز مَعَ مُقَابِله، والبيضاوي على الاستلزام، وَجمع المُصَنّف بَينهمَا، كَأَنَّهُ مَأْخُوذ من قَول الْآمِدِيّ: وَاخْتلفُوا فِي جَوَاز نسخ الأَصْل دون الفحوى والفحوى دون الأَصْل غير أَن الْأَكْثَر على أَن نسخ الأَصْل يُفِيد نسخ الفحوى. إِلَى آخِره الْمُشْتَمل على الْعَكْس أَيْضا فَكَأَنَّهُ سرى إِلَى ذهن المُصَنّف من غير تَأمل أَن الْخلاف الثَّانِي مُفَرع على الْجَوَاز من الأول، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ بل هُوَ بَيَان لمأخذ الأول الْمُفِيد أَن الْأَكْثَر على الِامْتِنَاع فيتأمل. انْتهى. قَوْله: {وَلَو ثَبت حكم مَفْهُوم الْمُخَالفَة جَازَ نسخه، وَإِلَّا فَلَا، وَيبْطل بنسخ أَصله عِنْد القَاضِي، والموفق، والطوفي، وَغَيرهم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3085 وَقيل: لَا، وَلَا ينْسَخ بِهِ فِي الْأَصَح} . مَفْهُوم الْمُخَالفَة هَل ينْسَخ أَو ينْسَخ بِهِ؟ أما نسخه وَهِي الْمَسْأَلَة الأولى فَيجوز نسخ حكم الْمَسْكُوت الَّذِي هُوَ مُخَالف للمذكور مَعَ نسخ الأَصْل ودونه، قَالَه كثير من الْعلمَاء. وَقد قَالَت الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - أَن قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " المَاء من المَاء " عَنْهُم مَنْسُوخ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا التقى الختانان فقد وَجب الْغسْل " مَعَ أَن الأَصْل بَاقٍ وَهُوَ وجوب الْغسْل بالإنزال. وَقَوْلنَا: وَيبْطل بنسخ أَصله هِيَ الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة، وَهَذَا الصَّحِيح، اخْتَارَهُ القَاضِي، وَجزم بِهِ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، وَكَذَلِكَ الطوفي؛ لِأَن فَرعه وَعَدَمه كالخطابين، وَاخْتَارَهُ ابْن فورك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3086 وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّه لَا يبطل، وَهُوَ وَجه لِأَصْحَابِنَا، ذكره القَاضِي. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَأما نسخ الأَصْل بِدُونِ مَفْهُومه الَّذِي هُوَ مُخَالف لَهُ حكما. فَذكر الصفي الْهِنْدِيّ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ، قَالَ: وأظهرهما أَنه لَا يجوز؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يدل على ضد الحكم فاعتبار ذَلِك بِاعْتِبَار الْقَيْد الْمَذْكُور، فَإِذا بَطل تَأْثِير ذَلِك الْقَيْد بَطل مَا يبْنى عَلَيْهِ. انْتهى. وعَلى هَذَا فنسخ الأَصْل نسخ للمفهوم مِنْهُ، وَالْمعْنَى أَنه يرْتَفع الحكم الشَّرْعِيّ الَّذِي حكم بِهِ على الْمَسْكُوت بضد حكم الْمَذْكُور. وَأما النّسخ بِهِ - وَهِي الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة - فَالصَّحِيح أَنه لَا ينْسَخ بِمَفْهُوم الْمُخَالفَة، وَقطع بِهِ فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَصرح بِهِ السَّمْعَانِيّ لِضعْفِهَا عَن مقاومة النَّص. وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ: الصَّحِيح الْجَوَاز؛ لِأَنَّهُ فِي معنى الْمَنْطُوق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3087 (قَوْله: {فصل} ) {لَا حكم للناسخ مَعَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام اتِّفَاقًا} . الحكم قبل نزُول النّسخ وَقبل تبليغه للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يثبت لَهُ حكمه فِي الْجُمْلَة، وَتَحْته ثَلَاث صور: إِحْدَاهَا: أَن يبلغ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي السَّمَاء قبل نزُول الأَرْض، وَقد تقدم حكم ذَلِك محررا. الثَّانِيَة: أَن يوحيه الله تَعَالَى إِلَى جِبْرِيل، وَلم ينزل بِهِ إِلَى الأَرْض بعد. الثَّالِثَة: أَن يكون ذَلِك بعد النُّزُول من السَّمَاء، وَقبل أَن يبلغهُ جِبْرِيل إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَهَاتَانِ الصورتان لَا يتَعَلَّق بهما حكم اتِّفَاقًا. قَوْله: {فَإِذا بلغه لم يثبت حكمه فِي حق من لم يبلغهُ عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد} ؛ لِأَنَّهُ أَخذ بِقصَّة أهل قبَاء، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3088 والقبلة وَإِن جَازَ تَركهَا لعذر. {وَقيل: يثبت فِي الذِّمَّة، اخْتَارَهُ أَبُو الطّيب، وَابْن برهَان. وَالْخلاف معنوي فِي الْأَصَح، وخرجه أَبُو الْخطاب من عزل الْوَكِيل قبل علمه، وَلَيْسَ بدور خلافًا للطوفي} . إِذا بلغ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام الحكم إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَبت حكمه فِي حَقه، وَحقّ كل من بلغه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِيَّاه بطرِيق من الطّرق، وَكَذَا من لم يبلغهُ مَعَ التَّمَكُّن من علمه، وَأما من لم يبلغهُ وَلَا تمكن من علمه فَلَا يتَعَلَّق بِهِ حكمه على الْمَشْهُور الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء لَا بِمَعْنى وجوب الِامْتِثَال، وَلَا بِمَعْنى ثُبُوته فِي الذِّمَّة، وَجرى عَلَيْهِ أَصْحَابنَا وَغَيرهم. وَقيل: يثبت فِي الذِّمَّة، اخْتَارَهُ جمَاعَة من الشَّافِعِيَّة كالنائم وَقت الصَّلَاة. لَكِن عزى الأول ابْن برهَان فِي " الْأَوْسَط " للحنفية، وَحكى الثُّبُوت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3089 عَن الشَّافِعِيَّة وَنَصره قيل وَهُوَ الْمَوْجُود لأَصْحَاب الشَّافِعِي الْمُتَقَدِّمين، وَاخْتَارَهُ أَبُو الطّيب أَيْضا. قَالَه ابْن مُفْلِح. قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: لَا شكّ أَنه لَا يثبت فِي حكمه التأثيم، وَهل يثبت فِي حكمه الْقَضَاء؟ أَو هُوَ من الْأَحْكَام الوضعية؟ هَذَا فِيهِ تردد؛ لِأَنَّهُ مُمكن بِخِلَاف الأول؛ لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق. انْتهى. وَذكر الباقلاني فِي " التَّقْرِيب " أَن الْخلاف لَفْظِي، وَذكر فِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب " أَن الْقَائِلين بِثُبُوتِهِ يَقُولُونَ: لَو قدر أَن من لم يبلغهُ النَّاسِخ أقدم على الحكم الأول كَانَ زللا، وَخطأ لَا يُؤَاخذ بِهِ ويعذر لجهله. انْتهى. فَهَذَا دَلِيل على أَن الْخلاف غير لَفْظِي، وَهُوَ الَّذِي صححناه بِدَلِيل مَا يذكر فِي دَلِيل الْمَسْأَلَة. وَخرج أَبُو الْخطاب لُزُومه على انعزال الْوَكِيل قبل علمه بِالْعَزْلِ. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَيْسَ بتخريج دوري. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3090 وَقَالَ الطوفي: وَهُوَ تَخْرِيج دوري؛ لِأَن هَذِه الْمَسْأَلَة أصولية وَمَسْأَلَة عزل الْوَكِيل فروعية فَهِيَ فرع على مَسْأَلَة النّسخ؛ لِأَن الْعَادة تَخْرِيج الْفُرُوع على الْأُصُول فَلَو خرجنَا هَذَا الأَصْل الْمَذْكُور فِي النّسخ على الْفَرْع الْمَذْكُور فِي الْوكَالَة لزم الدّور؛ لتوقف الأَصْل على الْفَرْع المتوقف عَلَيْهِ فَيصير من بَاب توقف الشَّيْء على نَفسه بِوَاسِطَة. وَفرق الْأَصْحَاب بَين الْوكَالَة والنسخ بِأَن أوَامِر الله - تَعَالَى - ونواهيه مقرونة بالثواب وَالْعِقَاب فَاعْتبر فِيهَا الْعلم بالمأمور بِهِ والمنهي عَنهُ، وَلَيْسَ كَذَلِك الْإِذْن فِي التَّصَرُّف، وَالرُّجُوع فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يتَعَلَّق بِهِ ثَوَاب وَلَا عِقَاب، وَلَيْسَ الحكم مُخْتَصًّا بالناسخ بل يَشْمَل الحكم الْمُبْتَدَأ. وَفِيه أَيْضا الْخلاف ذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدّين. وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب ": هَذِه الْمَسْأَلَة قَطْعِيَّة، وَذهب بَعضهم إِلَى إلحاقها بالمجتهدات حَتَّى نقلوا فِيهَا قَوْلَيْنِ من الْقَوْلَيْنِ فِي الْوَكِيل إِذا عزل وَلم يبلغهُ الْعَزْل، فَقيل: يَنْعَزِل فِي الْحَال، وَقيل: لَا، كالنسخ، وَمِنْهُم من عكس فَخرج مَسْأَلَة النّسخ على قولي الْوكَالَة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ القَاضِي الباقلاني فِي " التَّقْرِيب ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3091 وَفرق بَعضهم بَين النّسخ وَالْوكَالَة - أَيْضا - أَن الِاعْتِدَاد بِالْعبَادَة حق الله تَعَالَى، وَالله تَعَالَى قد شَرط الْعلم فِي الْأَحْكَام بِدَلِيل أَنه لَا يَقع مِنْهُ التَّكْلِيف بالمستحيل، والعقود حق الْمُوكل، وَلم يشْتَرط الْعلم. اسْتدلَّ للْأولِ - وَهُوَ الصَّحِيح - بِأَنَّهُ لَو ثَبت لزم وجوب الشَّيْء وتحريمه فِي وَقت وَاحِد؛ لِأَنَّهُ لَو نسخ وَاجِب بِمحرم أَثم بترك الْوَاجِب اتِّفَاقًا. وَأَيْضًا يَأْثَم بِعَمَلِهِ بِالثَّانِي اتِّفَاقًا. قَالُوا: إِسْقَاط حق لَا يعْتَبر فِيهِ رضى من سقط عَنهُ فَكَذَا علمه كَطَلَاق وإبراء. رد: إِنَّمَا هُوَ تَكْلِيف تضمن رفع حكم خطاب، ثمَّ يلْزم قبل تَبْلِيغ جِبْرِيل. قَالُوا: كَمَا يثبت حكم إِبَاحَة الْآدَمِيّ قبل الْعلم فِيمَن حلف لَا خرجت إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَإِبَاحَة مَاله. رد: بِالْمَنْعِ. قَالُوا: رفع الحكم بالناسخ. رد: بِشَرْط الْعلم. قَالُوا: النَّاسِخ حكم فَلم يتَوَقَّف ثُبُوته على علم الْمُكَلف كَبَقِيَّة الْأَحْكَام. رد: إِن أُرِيد بِثُبُوتِهِ تعلقه بالمكلف توقف لاعْتِبَار التَّمَكُّن من الِامْتِثَال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3092 (قَوْله: {فصل} ) {زِيَادَة عبَادَة مُسْتَقلَّة من غير الْجِنْس لَيست نسخا إِجْمَاعًا} كزيادة وجوب الزَّكَاة على وجوب الصَّلَاة، وَكَذَا الصَّوْم وَالْحج وَغَيرهَا، {وَكَذَا من الْجِنْس عِنْد الْأَرْبَعَة والمعظم} كزيادة صَلَاة على الصَّلَوَات الْخمس. اعْلَم أَنه إِذا زيد شَيْء على مَا تقرر بِنَصّ الشَّرْع إِمَّا أَن يكون عبَادَة مُسْتَقلَّة وَإِمَّا أَن يكون غير مُسْتَقلَّة، فَإِن كَانَ الْعِبَادَة مُسْتَقلَّة فَلهُ نَوْعَانِ: أَحدهمَا: أَن تكون من غير جنس الْمَزِيد كَمَا تقدم مِثَاله. وَالثَّانِي: أَن يكون من جنس مَا سبق كزيادة صَلَاة على الْخمس فالأئمة الْأَرْبَعَة وَالْجُمْهُور أَنه لَيْسَ بنسخ، وَقَالَ بعض أهل الْعرَاق: يكون نسخا بِزِيَادَة صَلَاة سادسة، نسخ لتغير الْوسط. رد ذَلِك: بِزِيَادَة عبَادَة، قَالَ ذَلِك جمع فبينوا أَن سَبَب قَوْلهم: إِنَّه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3093 نسخ كَونه تغير الْوسط، لَكِن الْمُدعى عَام وَهُوَ مُطلق الزِّيَادَة من الْجِنْس سَوَاء فِي الصَّلَاة، أَو غَيرهَا فِيمَا لَهُ وسط، وَمَا لَا وسط لَهُ وَالدَّلِيل خَاص وَهُوَ زِيَادَة صَلَاة سادسة على خمس حَتَّى أَن الْوسط يتَغَيَّر بذلك، فَإِن كَانَ مَحل خلافهم فِي الْأَعَمّ فدليلهم هَذَا سَاقِط؛ لِأَن كَون الشَّيْء لَهُ وسط أَو آخر ويتغير ذَلِك بِالزِّيَادَةِ، فَهُوَ لَيْسَ بشرعي؛ لِأَن الْوسط وَالْآخر أَمر اعتباري عَقْلِي لَا يرد النّسخ عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ مَحل خلافهم هَذِه الصُّورَة الْخَاصَّة فَلَا يَنْبَغِي تغبيرهم بِمُطلق الزِّيَادَة واعتلالهم بتغيير الْوسط بِغَيْر كَونه متوسطا بَين متساويين فَهُوَ أَمر حَقِيقِيّ عَقْلِي لَا شَرْعِي حَتَّى تكون إِزَالَته نسخا، وَأَيْضًا فَلَا يخْتَص بِصَلَاة سادسة، بل يجْرِي فِي كل مزِيد، وَإِن أَرَادوا أَن الْوُسْطَى مَأْمُور بالمحافظة عَلَيْهَا فبزوالها يَزُول ذَلِك، فَإِن كَانَ الْمُسَمّى بالوسطى صَلَاة مُعينَة من عصر، أَو غَيرهَا وَأَن ذَلِك كَالْعلمِ عَلَيْهَا فَالْأَمْر بالمحافظة عَلَيْهَا، وَلَو زيد على الْخمس أَو نقص مِنْهَا، وَإِن كَانَ الْوُسْطَى الْمَأْمُور بالمحافظة عَلَيْهَا مرَادا بهَا المتوسطة كَيفَ كَانَت فَالَّذِي يظْهر حِينَئِذٍ أَن الْأَمر يخْتَلف بِمَا يُزَاد، فَإِن زيد وَاحِدَة فَهِيَ ترفع الْوسط بِالْكُلِّيَّةِ، وَيتَّجه مَا ذَكرُوهُ؛ لِأَن الْوسط حِينَئِذٍ وَإِن كَانَ أمرا حَقِيقِيًّا إِلَّا أَن الشَّرْع ورد عَلَيْهِ وَقَررهُ فَتكون الزِّيَادَة نسخا لِلْأَمْرِ الشَّرْعِيّ، وَإِن زيد ثِنْتَانِ أَو نَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يرفع الْوسط فَلَا نسخ، وَيكون الْأَمر بالمحافظة على تِلْكَ الصَّلَاة لذاتها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3094 ولكونها وسطا أَمر اتفاقي، وَإِن كَانَ الْأَمر بالمحافظة عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ من حَيْثُ كَونهَا وسطا لَيْسَ بشرعي فَهُوَ لم يزل بِالزِّيَادَةِ الثَّانِيَة. قَوْله: {وَزِيَادَة جُزْء مشترط، أَو شَرط، أَو زِيَادَة ترفع مَفْهُوم الْمُخَالفَة لَيست نسخا عِنْد أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَعند الْحَنَفِيَّة نسخ. وَفِي معالم الرَّازِيّ فِي الثَّالِث، الْكَرْخِي إِن غيرت حكم الْمَزِيد عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبل كتغريب على [الْحَد] وَزِيَادَة عدد جلد فنسخ، وَإِلَّا فَلَا. عبد الْجَبَّار إِن غيرته حَتَّى صَار وجوده كَعَدَمِهِ شرعا كركعة فِي الْفجْر وَزِيَادَة عدد جلد وتخيير فِي ثَالِث بعد اثْنَيْنِ فنسخ، وَإِلَّا فَلَا. الْغَزالِيّ إِن غيرته حَتَّى ارْتَفع التَّعَدُّد بَينهمَا كركعة فِي الْفجْر فنسخ، وَإِلَّا فَلَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3095 الْآمِدِيّ وَجمع إِن رفعت حكما شَرْعِيًّا بعد ثُبُوته بِدَلِيل شَرْعِي فنسخ، وَإِلَّا فَلَا وَمَعْنَاهُ لِأَصْحَابِنَا} . إِذا زيد فِي الْمَاهِيّة الشَّرْعِيَّة جُزْء مشترط، أَو شَرط أَو زِيَادَة لم يكن ذَلِك نسخا على الْمُرَجح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، مِنْهُم أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، والجبائية، كنسخ سنة من الصَّلَاة كستر الرَّأْس وَنَحْوه. فَائِدَة: توصلت الْحَنَفِيَّة بقَوْلهمْ: إِن الزِّيَادَة على الْمَنْصُوص نسخ لمسائل كَثِيرَة كرد أَحَادِيث وجوب قِرَاءَة الْفَاتِحَة فِي الصَّلَاة، وَأَحَادِيث الشَّاهِد وَالْيَمِين، وَاشْتِرَاط الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة، وَالنِّيَّة فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3096 الْوضُوء، وَغير ذَلِك، وخالفوا أصولهم فِي اشتراطهم فِي ذَوي الْقُرْبَى الْحَاجة، وَهُوَ زِيَادَة على الْقُرْآن، وَمُخَالفَة للمعنى الْمَقْصُود فِيهِ، وَفِي أَن القهقهة تنقض الْوضُوء مستندين لأخبار ضَعِيفَة، وَهِي زِيَادَة على نواقض الْوضُوء الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن. وَالْمذهب الثَّانِي: أَنه يكون نسخا مُطلقًا، وَبِه قَالَت الْحَنَفِيَّة مَعَ اعتبارهم الْفقر فِي ذَوي الْقُرْبَى قِيَاسا، وَقَالَهُ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي وَادّعى أَنه مَذْهَب الشَّافِعِي. الْمَذْهَب الثَّالِث: وَبِه قَالَ الرَّازِيّ فِي المعالم: يكون نسخا فِي الزِّيَادَة، وَهُوَ بالثالث، لَا فِي الْجُزْء الْمُشْتَرط، وَلَا فِي الشَّرْط، وَالثَّالِث هُوَ الزِّيَادَة الَّتِي ترفع مَفْهُوم الْمُخَالفَة أَنَّهَا إِن أفادت خلاف مَا اسْتُفِيدَ من مَفْهُوم الْمُخَالفَة كَانَت نسخا كإيجاب الزَّكَاة فِي معلوفة الْغنم فَإِنَّهُ يُفِيد خلاف مَفْهُوم (فِي السَّائِمَة الزَّكَاة) وَإِلَّا فَلَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3097 الْمَذْهَب الرَّابِع: وَبِه قَالَ الْكَرْخِي، وَأَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ إِن كَانَت الزِّيَادَة مُغيرَة لحكم الْمَزِيد عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبل، كزيادة التَّغْرِيب، وَزِيَادَة عشْرين جلدَة على الْقَاذِف مثلا كَانَ نسخا، وَإِلَّا فَلَا، وَسَوَاء كَانَت الزِّيَادَة لَا تنفك عَن الْمَزِيد عَلَيْهِ كَمَا لَو أوجب علينا ستر الْفَخْذ، فَإِنَّهُ يجب ستر بعض الرّكْبَة؛ لِأَنَّهَا مُقَدّمَة الْوَاجِب لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ، أَو كَانَت الزِّيَادَة عِنْد تعذر الْمَزِيد عَلَيْهِ كإيجاب قطع رجل السَّاق بعد قطع يَده. الْمَذْهَب الْخَامِس: وَبِه قَالَ عبد الْجَبَّار، إِن غيرت الزِّيَادَة الْمَزِيد عَلَيْهِ تغييرا شَرْعِيًّا بِحَيْثُ صَار الْمَزِيد عَلَيْهِ لَو فعل بعد الزِّيَادَة كَمَا كَانَ يفعل قبلهَا كَانَ وجوده كَعَدَمِهِ، وَوَجَب استئنافه كزيادة رَكْعَة على رَكْعَتي الْفجْر كَانَ ذَلِك نسخا، أَو كَانَ قد خير بَين فعلين فزيد فعل ثَالِث فَإِنَّهُ يكون نسخا، وَإِلَّا فَلَا، كزيادة التَّغْرِيب على الْجلد، وَزِيَادَة عشْرين جلدَة على حد الْقَاذِف، وَزِيَادَة شَرط مُنْفَصِل فِي شَرَائِط الصَّلَاة كاشتراط الْوضُوء. كَذَا نَقله الْآمِدِيّ عَنهُ خلافًا لما فِي " مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب " فِي نَقله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3098 الْمَذْهَب السَّادِس: وَبِه قَالَ الْغَزالِيّ، إِن كَانَ الزِّيَادَة مُتَّصِلَة بالمزيد عَلَيْهِ اتِّصَال اتِّحَاد رَافع للتعدد والانفصال كزيادة رَكْعَتَيْنِ فنسخ، وَإِلَّا فَلَا، كزيادة عشْرين جلدَة. الْمَذْهَب السَّابِع: وَبِه قَالَ أَبُو الْحُسَيْن، والآمدي إِن رفعت الزِّيَادَة حكما شَرْعِيًّا بعد ثُبُوته بِدَلِيل شَرْعِي فنسخ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ الْبرمَاوِيّ: قَالَ الباقلاني فِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب ": إِن تَضَمَّنت الزِّيَادَة رفعا فَهِيَ نسخ، وَإِلَّا فَلَا. وَذكر فِي " التَّقْرِيب " نَحوه، وحذا حذوه أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، فَقَالَ فِي " الْمُعْتَمد ": مَا حَاصله: إِن كَانَ الزَّائِد رَافعا لحكم شَرْعِي كَانَ نسخا سَوَاء أثبت بالمنطوق، أم بِالْمَفْهُومِ بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ ثَابتا بِدَلِيل عَقْلِي كالبراءة الْأَصْلِيَّة. وَاسْتَحْسنهُ الإِمَام الرَّازِيّ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَهُوَ قَضِيَّة اخْتِيَار إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَيْضا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3099 وَحَاصِله: أَن المزاد إِن كَانَ حكما شَرْعِيًّا كَانَ نسخا، وَإِلَّا فَلَا. قيل: وَلَا حَاصِل لذَلِك للاتفاق على أَن رفع الحكم الشَّرْعِيّ نسخ، وَرفع غَيره لَيْسَ بنسخ فينحل ذَلِك إِلَّا أَن الزِّيَادَة إِن كَانَ نسخا فَهِيَ نسخ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنَّمَا مَحل النزاع أَن ذَلِك هَل هُوَ رفع حَتَّى يكون نسخا، أَو لَا؟ انْتهى. قَوْله: {وَمَعْنَاهُ لِأَصْحَابِنَا} . يَعْنِي: معنى مَا قَالَه الْآمِدِيّ وَغَيره. قَالَ ابْن مُفْلِح - بعد قَول الْآمِدِيّ -: وَمَعْنَاهُ لبَعض أَصْحَابنَا وَكَلَام البَاقِينَ نَحوه. وَقَوْلنَا: {وتتفرع عَلَيْهِ مسَائِل} ، يَعْنِي تتفرع على قَول هَؤُلَاءِ مسَائِل: مِنْهَا: قَوْله: فِي السَّائِمَة زَكَاة، ثمَّ قَوْله: فِي المعلوفة زَكَاة، نسخ للمفهوم إِن علم أَنه مُرَاد وَإِلَّا فَلَا. وَمثله: اجلدوا مائَة. قَالَ فِي " الْعدة " و " الرَّوْضَة ": اسْتِقْرَار بِتَأْخِير الْبَيَان نسخ. وَفِي " التَّمْهِيد "، و " الْوَاضِح ": نسخ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3100 لمنع الزِّيَادَة وَالْمَفْهُوم ينْسَخ بِخَبَر الْوَاحِد، وَالْقِيَاس. وَفِي " الْعدة ": رُبمَا قَالَ الْقَائِل تَخْصِيص لرفعه بِقِيَاس وَخبر وَاحِد، قَالَ: وَالصَّحِيح نسخ كالخطاب. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: تراخي الْبَيَان لَا يُوجب أَنه مُرَاد فِي ظَاهر الْمَذْهَب لجوازه، وَإِلَّا وَجب. وَمِنْهَا: لَو زيد رَكْعَة فِي الْفجْر فَلَيْسَ بنسخ عِنْد أَصْحَابنَا وَأبي الْحُسَيْن وَغَيرهم لعدم رفع حكم شَرْعِي، بل ضم إِلَيْهِ حكم. وَعند الْآمِدِيّ نسخ لرفع وجوب التَّشَهُّد عقب الرَّكْعَتَيْنِ. رد: التَّشَهُّد آخر الصَّلَاة لِلْخُرُوجِ مِنْهَا فَلَا نسخ، ثمَّ يلْزم زِيَادَة التَّغْرِيب على الْحَد. وَقيل: نسخ لتَحْرِيم الزِّيَادَة. رد: لم تحرم بِالْأَمر بالركعتين، بل لدَلِيل. وَقيل: نسخ لرفع الصِّحَّة والإجزاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3101 رد: لم يثبتا بِالْخِطَابِ، بل بالاستصحاب، زَاد بعض أَصْحَابنَا: وَالْمَفْهُوم. وَأجَاب فِي " الرَّوْضَة " بِأَن النّسخ رفع جَمِيع مُوجب الْخطاب لَا رفع بعضه وَبِأَنَّهُ إِنَّمَا يكون نسخا إِذا اسْتَقر، وَثَبت. وَمن الْمُحْتَمل أَن دَلِيل الزِّيَادَة كَانَ مُقَارنًا، كَذَا قَالَ. وَمِنْهَا: زِيَادَة التَّغْرِيب على الْجلد لَيست نسخا، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ لما سبق خلافًا لبَعْضهِم. قَالَ بعض أَصْحَابنَا: قصد بِالزِّيَادَةِ تعبد الْمُكَلف بهَا لَا رفع اسْتِقْلَال مَا كَانَ قبلهَا، بل حصل ضَرُورَة وتبعا، والمنسوخ مَقْصُود بِالرَّفْع، وَلَا يلْزم من قَصدهَا قصد لازمها، وَهُوَ رفع الِاسْتِقْلَال لتصور الْمَلْزُوم غافل عَن لَازمه، وَالله أعلم. مِنْهَا: لَو وَجب غسل الرجل عينا، ثمَّ خير بَينه وَبَين الْمسْح، فَذكر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3102 الْآمِدِيّ أَنه نسخ؛ لِأَن التَّخْيِير رفع الْوُجُوب، وَلَعَلَّ المُرَاد: عينه مَعَ الْخُف، وَإِلَّا فَلَا. وَمِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [الْبَقَرَة: 282] ، ثمَّ حكمه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِشَاهِد وَيَمِين لَيْسَ بنسخ؛ لِأَنَّهُ لم يرفع شَيْئا، وَلَو ثَبت مَفْهُومه وَمَفْهُوم {فَإِن لم يَكُونَا رجلَيْنِ فَرجل} [الْبَقَرَة: 282] الْآيَة؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ منع الحكم بِغَيْرِهِ، بل حصر الاستشهاد. وَقَالَ الْآمِدِيّ: إِن كَانَ الْمَفْهُوم حجَّة فرفعه نسخ، وَلَا يجوز بِخَبَر الْوَاحِد، كَذَا قَالَ. وَمِنْهَا: لَو زيد فِي الْوضُوء اشْتِرَاط غسل عُضْو، أَو شَرط فِي الصَّلَاة، فَلَا نسخ كَمَا سبق. وَمِنْهَا: فَرضِيَّة الْفَاتِحَة، وَاشْتِرَاط الطَّهَارَة للطَّواف لَيْسَ بنسخ خلافًا للحنفية فِي جَمِيع ذَلِك وَغَيره. انْتهى كَلَام ابْن مُفْلِح وَغَيره. فَائِدَة: قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: اتَّفقُوا على أَن نسخ سنة من سنَن الصَّلَاة كنسخ ستر الرَّأْس لَا يكون نسخا لتِلْك الْعِبَادَة وَنسخ الْحَبْس فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3103 الْبيُوت لَا ينْسَخ استشهاد الْأَرْبَعَة. انْتهى. وَظَاهر كَلَام الْغَزالِيّ جَرَيَان الْخلاف فِيهِ، وأوله بَعضهم. قَالَ الْبرمَاوِيّ: نعم، للْخلاف وَجه فَإِن الْعِبَادَة مركبة من الْفُرُوض وَالسّنَن، وَلِهَذَا يُقَال: فروضها كَذَا، وسننها كَذَا، وَإِذا كَانَت السّنَن أَجزَاء مِنْهَا بِهَذَا الِاعْتِبَار فَلَا يبعد أَن يجْرِي فِيهَا خلاف نقص الرُّكْن فَيكون دَاخِلا فِي قَوْله: (زِيَاد جُزْء أَو نقص جُزْء) . انْتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3104 (قَوْله: {فصل} ) {أَصْحَابنَا، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم نسخ جُزْء عبَادَة أَو شَرطهَا نسخ لَهُ فَقَط، وَالْغَزالِيّ وَغَيره} نسخ {للْكُلّ، وَعبد الْجَبَّار ينْسَخ الْجُزْء، وَالْمجد الْخلاف فِي شَرط مُتَّصِل كالتوجه، والمنفصل كَالْوضُوءِ لَيْسَ نسخا لَهَا إِجْمَاعًا، وَقَالَهُ الْآمِدِيّ فيهمَا} . وتعدد مَا تقدم فِي زِيَادَة جُزْء، أَو شَرط، وَالْكَلَام هُنَا فِي نقص جُزْء، أَو شَرط، فنقص جُزْء لِلْعِبَادَةِ، أَو شَرط من شُرُوطهَا نسخ لذَلِك فَقَط، لَا لأصل تِلْكَ الْعِبَادَة على الصَّحِيح، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا، نَقله ابْن مُفْلِح وَغَيره، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، نَقله أَيْضا عَنْهُم، وَكَذَلِكَ ابْن السَّمْعَانِيّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3105 وَهُوَ مَذْهَب الْكَرْخِي، وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ. وَعَن بعض الْمُتَكَلِّمين وَالْغَزالِيّ، وَحَكَاهُ ابْن برهَان عَن الْحَنَفِيَّة: تنسخ قَالَ عبد الْجَبَّار: تنسخ بنسخ جزئها، لَا إِن كَانَ شرطا. وَوَافَقَهُ الْغَزالِيّ أَيْضا فِي الْجُزْء وَتردد فِي الشَّرْط. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَالتَّحْقِيق أَنه نسخ لعدم الْإِجْزَاء بالاقتصار عَلَيْهَا دونهَا وَهُوَ مُسْتَفَاد من الشَّرْع، وَكَذَلِكَ فِي الشَّرْط الْخَارِج إِذا نسخ، فَهُوَ نسخ لنفي الْإِجْزَاء بِدُونِهِ، وَإِن نسخا لوُجُوبهَا. انْتهى. وَقَالَ الْمجد: مَحل الْخلاف فِي شَرط مُتَّصِل كالتوجه، ومنفصل كوضوء لَيْسَ نسخا لَهَا إِجْمَاعًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3106 وَذكر الْآمِدِيّ الْخلاف فيهمَا، وَهُوَ ظَاهر كَلَام غَيره، وَوَافَقَ الْهِنْدِيّ الْمجد، فَقَالَ: الْخلاف فِي الشَّرْط الْمُتَّصِل كاستقبال الْقبْلَة فِي الصَّلَاة لَا الْمُنْفَصِل كالطهارة. وَقَالَ: فإيراد الإِمَام وَغَيره يشْعر بِأَنَّهُ لَا خلاف، وَكَلَام غَيره يَقْتَضِي إِثْبَات الْخلاف فِي الْكل. انْتهى. وَصرح ابْن السَّمْعَانِيّ بِأَنَّهُ فِي جَانب الشَّرْط لَيْسَ نسخا، وَأما فِي الْجُزْء كإسقاط رُكُوع فَيَنْبَغِي أَن يكون على مَا ذكرنَا فِيمَا إِذا زيدت رَكْعَة على رَكْعَتَيْنِ. اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - بِأَن وُجُوبهَا بَاقٍ، وَلَا يفْتَقر إِلَى دَلِيل ثَان إِجْمَاعًا، وَلم يَتَجَدَّد وجوب، وكنسخ سنتها اتِّفَاقًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3107 (قَوْله: {فصل} ) {يَسْتَحِيل تَحْرِيم معرفَة الله تَعَالَى إِلَّا على تَكْلِيف الْمحَال} ، وَذَلِكَ لتوقفه على مَعْرفَته وَهُوَ دور، {وَمَا حسن، أَو قبح لذاته كمعرفته وَالْكفْر وَنَحْوه يجوز نسخ وُجُوبه وتحريمه عِنْد من نفى الْحسن والقبح ورعاية الْحِكْمَة فِي أَفعاله، وَمن أثْبته مَنعه، ذكره الْآمِدِيّ وَغَيره. وَقَالُوا: يجوز نسخ جَمِيع التكاليف، وَمنعه الْغَزالِيّ، وَابْن حمدَان، وَلم يقعا إِجْمَاعًا. وَقَالَ الْمجد: يجوز نسخهَا كلهَا سوى معرفَة الله تَعَالَى على أصل أَصْحَابنَا وَأهل الحَدِيث خلافًا للقدرية} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3108 أما تَحْرِيم معرفَة الله تَعَالَى فمستحيل عِنْد الْعلمَاء إِلَّا على القَوْل بتكليف الْمحَال، وَذَلِكَ لتوقفه على مَعْرفَته، وَهُوَ دور. وَقد تقدم من شَرط الْمَنْسُوخ أَن يكون مَا يجوز أَن يكون مَشْرُوعا، وَأَن لَا يكون اعتقادا، فَلَا يدْخل النّسخ التَّوْحِيد بِحَال؛ لِأَن الله تَعَالَى بأسمائه وَصِفَاته لم يزل وَلَا يزَال. وَكَذَلِكَ مَا علم أَنه متأبد وَنَحْو ذَلِك تقدم. وَأما مَا قبح وَحسن لذاته كمعرفة الله تَعَالَى، وَتَحْرِيم الْكفْر، وَالظُّلم، وَالْكذب، والقبائح الْعَقْلِيَّة، وشكر الْمُنعم، فَهَل يجوز نسخ وُجُوبه وتحريمه أم لَا؟ فَمن نفى الْحسن والقبح، ورعاية الْحِكْمَة فِي أَفعاله يجوز نسخ ذَلِك وَمن أثبت ذَلِك منع النّسخ، ذكره الْآمِدِيّ وَغَيره؛ لِأَن الْمُقْتَضى لِلْحسنِ والقبح حِينَئِذٍ صِفَات وَأَحْكَام لَا تَتَغَيَّر بِتَغَيُّر الشَّرَائِع فَامْتنعَ النّسخ لِاسْتِحَالَة الْأَمر بالقبيح، وَالنَّهْي عَن الْحسن. وَأما من نفى ذَلِك - وَهُوَ الصَّحِيح - فَإِنَّهُ يجوز نسخ هَذِه الْأُمُور لقَوْل الله تَعَالَى: {يمحوا الله مَا يَشَاء وَيثبت} [الرَّعْد: 39] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَيفْعل الله مَا يَشَاء} [إِبْرَاهِيم: 27] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3109 وَاخْتلف أَيْضا فِي جَوَاز نسخ جَمِيع التكاليف، فَقَالَ الْآمِدِيّ، وَغَيره: يجوز، وَهُوَ الَّذِي نَصره ابْن الْحَاجِب وَغَيره، وَاخْتَارَهُ أَصْحَاب الشَّافِعِي. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: ذهب أَصْحَابنَا إِلَى أَن كل حكم شَرْعِي يقبل النّسخ. وَقيل للْقَاضِي أبي يعلى: لَو جَازَ النّسخ لجَاز فِي اعْتِقَاد التَّوْحِيد! فَقَالَ: التَّوْحِيد مصلحَة لجَمِيع الْمُكَلّفين فِي جَمِيع الْأَوْقَات، وَلِهَذَا لَا يجوز الْجمع بَين إِيجَابه وَالنَّهْي عَن مثله فِي الْمُسْتَقْبل بِخِلَاف الْفِعْل الشَّرْعِيّ، وَمَعْنَاهُ لِابْنِ عقيل. قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": وَيجوز نسخ جَمِيع التكاليف سوى معرفَة الله تَعَالَى على أصل أَصْحَابنَا، وَسَائِر أهل الحَدِيث خلافًا للقدرية فِي قَوْلهم: [الْعِبَادَات] مصَالح، فَلَا يجوز رَفعهَا. وَقَالَهُ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " اللمع ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3110 ورد الْقَرَافِيّ كَلَام أبي إِسْحَاق، ورد على الْقَرَافِيّ ابْن قَاضِي الْجَبَل. قَالَ ابْن عقيل: وَإِن قُلْنَا بالمصالح فَلَا يمْتَنع لعلمه أَن التكاليف تفسدهم وكجنون بَعضهم وَمَوته وكنسخه مِنْهَا بِحَسب الْأَصْلَح. قَالَ الْآمِدِيّ: وَبعد تَكْلِيف العَبْد بهَا اخْتلفُوا فِي جَوَاز نسخ جَمِيع التكاليف. وَاسْتدلَّ لجَوَاز النّسخ بِأَن جَمِيع التكاليف أَحْكَام فَكَمَا جَازَ نسخ بَعْضهَا جَازَ نسخ جَمِيعهَا. وَخَالف الْغَزالِيّ، وَابْن حمدَان - من أَصْحَابنَا - والمعتزلة فمنعوا نسخ جَمِيع التكاليف لتوقف الْعلم بذلك الْمَقْصُود مِنْهُ بِتَقْدِير وُقُوعه على معرفَة النّسخ والناسخ، وَهِي من التكاليف فَلَا يَتَأَتَّى نسخهَا. قُلْنَا: لَا نسلم ذَلِك؛ لِأَن بحصولها يَنْتَهِي التَّكْلِيف بهَا فَيصدق أَنه لم ينتف تَكْلِيف، وَهُوَ الْقَصْد بنسخ جَمِيع التكاليف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3111 قَالَ الْمحلي: فَلَا نزاع فِي الْمَعْنى. انْتهى. وَاتَّفَقُوا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة على عدم الْوُقُوع، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الْجَوَاز الْعقلِيّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3112 قَوْله: {بَاب الْقيَاس} {لُغَة: التَّقْدِير والمساواة} . لما فَرغْنَا من المباحث الْمُتَعَلّقَة بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع، شرعنا فِي الْقيَاس ومباحثه، وَهُوَ ميزَان الْعُقُول، قَالَ الله: {لقد أرسلنَا رسلنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأنزلنا مَعَهم الْكتاب وَالْمِيزَان ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ} [الْحَدِيد: 25] . وَالْقِيَاس فِي اللُّغَة: التَّقْدِير والمساواة، يُقَال: قَاس [النَّعْل بالنعل] ، أَي: حاذاه وساواه، وَتقول: قست الثَّوْب بالذراع، أَي: قدرته بِهِ، وقست الْجراحَة بالمسبار، وَهُوَ شَيْء يشبه الْميل، يعرف بِهِ عمق الْجرْح. وَتقول: قست الشَّيْء بِغَيْرِهِ وعَلى غَيره. تَقول: قست أَقيس وأقوس، قيسا وقوساً وَقِيَاسًا فِي اللغتين، إِذا قدرته على مِثَاله، أَي: يُقَال بِالْيَاءِ وبالواو، فَيُقَال على اللُّغَة بِالْوَاو: قِيَاسا أَيْضا كلغة الْيَاء، لِأَن أَصله قواساً، لَكِن لما انْكَسَرَ مَا قبل الْوَاو قلبت يَاء كقيام، وَصِيَام، وصيال إِذْ أَصله الْوَاو. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3115 وَيُقَال فيهمَا: قيس رمح، وقاس رمح، أَي: قدر رمح. وَإِنَّمَا قيل فِي الشَّرْع: قَاس عَلَيْهِ ليدل على الْبناء، فَإِن انْتِقَال الصِّلَة للتضمين، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بني عَلَيْهِ. فَالْقِيَاس فِي اللُّغَة يدل على معنى التَّسْوِيَة على الْعُمُوم، لِأَنَّهُ نِسْبَة وَإِضَافَة بَين شَيْئَيْنِ، وَلِهَذَا يُقَال: فلَان يُقَاس بفلان وَلَا يُقَاس بفلان، أَي: يُسَاوِي فلَانا وَلَا يُسَاوِي فلَانا. وَأما فِي الِاصْطِلَاح: فَيدل على تَسْوِيَة خَاصَّة بَين الأَصْل وَالْفرع، فَهُوَ [كتخصيص] لفظ الدَّابَّة بِبَعْض مسمياتها، فَهُوَ حَقِيقَة عرفية مجَاز الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3116 لغَوِيّ، [قَالَه] الطوفي فِي " شَرحه " وَغَيره. قَوْله: {وَاصْطِلَاحا} ، أَي: فِي اصْطِلَاح عُلَمَاء الشَّرِيعَة. اخْتلف الْعلمَاء فِي تَعْرِيفه اخْتِلَافا كثيرا جدا، وَقل أَن يسلم / مِنْهَا تَعْرِيف. فَقَالَ القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن الْبَنَّا: هُوَ رد فرع إِلَى أَصله بعلة جَامِعَة. وَفِي " التَّمْهِيد " أَيْضا: تَحْصِيل حكم الأَصْل فِي الْفَرْع لاشتباههما فِي عِلّة الحكم، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3117 قَالَ ابْن مُفْلِح: وَمرَاده تَحْصِيل مثل حكم الأَصْل، وَمَعْنَاهُ فِي " الْوَاضِح "، وَقَالَ: إِنَّه أَسد مَا رَآهُ. قَالَ ابْن مُفْلِح: لَكِن هُوَ نتيجة الْقيَاس لَا نَفسه. انْتهى. وَذَلِكَ كرد النَّبِيذ إِلَى الْخمر فِي التَّحْرِيم بعلة الْإِسْكَار، [ونعني] بِالرَّدِّ: الْإِلْحَاق والتسوية بَينهمَا فِي الحكم. وَقَرِيب مِنْهُ مَا قَالَه الْمُوفق، والطوفي، وَغَيرهمَا: حمل فرع على أصل فِي حكم بِجَامِع [بَينهمَا] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3118 فَإنَّا نحمل النَّبِيذ على الْخمر فِي التَّحْرِيم بِجَامِع الْإِسْكَار، فالحمل هُوَ الْإِلْحَاق والتسوية بَينهمَا فِي الحكم كَمَا تقدم. فالجامع بَينهمَا هُوَ عِلّة حكم الأَصْل وَهُوَ التَّحْرِيم بِجَامِع الْإِسْكَار، وَهُوَ الْوَصْف الْمُنَاسب لِأَن يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الحكم فِي نظر الشَّارِع. وَهُوَ هُنَا الْإِسْكَار الَّذِي هُوَ عِلّة تَحْرِيم الْخمر. لَا يُقَال: الأَصْل وَالْفرع لَا يعرفان إِلَّا بعد معرفَة حَقِيقَة الْقيَاس، فَأَخذهُمَا فِي تَعْرِيفه دور. لأَنا نقُول: إِنَّمَا نعني بالفرع صُورَة أُرِيد إلحاقها بِالْأُخْرَى فِي الحكم، لوُجُود الْعلَّة الْمُوجبَة للْحكم فيهمَا، وبالأصل: الصُّورَة الملحق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3119 بهَا، فَلَا يلْزم دور من كَون لفظ الْفَرْع وَالْأَصْل، يشْعر أَن لَا يكون هَذَا فرع وَذَاكَ أصل، إِلَّا أَن يكون هَذَا مقيساً على ذَلِك. وَقَالَ ابْن الْمَنِيّ، وَابْن حمدَان: مُسَاوَاة مَعْلُوم لمعلوم فِي مَعْلُوم ثَالِث، يلْزم من ماواة الثَّانِي للْأولِ فِيهِ مساواته فِي حكمه. قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَهُوَ معنى من قَالَ مُسَاوَاة فرع لأصل فِي عِلّة حكمه ". انْتهى. وَهُوَ قريب أَيْضا من الأول فَإِن مُرَاده بمساواة [مَعْلُوم] : الْفَرْع، وَمرَاده " لمعلوم ": الأَصْل، وَمرَاده " فِي مَعْلُوم ": الْإِسْكَار مثلا، فَيلْزم على ذَلِك الْمُسَاوَاة فِي الحكم. وَقَالَ الباقلاني وَمن تبعه: حمل مَعْلُوم على مَعْلُوم فِي إِثْبَات حكم لَهما أَو نَفْيه عَنْهُمَا بِأَمْر / جَامع بَينهمَا من إِثْبَات حكم أَو صفة أَو نفيهما. وَتَبعهُ على ذَلِك أَكثر الشَّافِعِيَّة. لَكِن رد: بِأَن المُرَاد من " الْحمل " إِثْبَات الحكم وَهُوَ ثَمَرَة الْقيَاس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3120 ورد أَيْضا: بِأَن قَوْله: " فِي إِثْبَات حكم لَهما " يشْعر بِأَن الحكم فِي الأَصْل وَالْفرع بِالْقِيَاسِ. وَبِأَن قَوْله: " بِجَامِع " كَاف، لِأَنَّهُ الْمُعْتَبر فِي مَاهِيَّة الْقيَاس لَا أقسامه. وَأجَاب الْآمِدِيّ عَن الأول: بِالْمَنْعِ لما علم مِمَّا يتركب مِنْهُ الْقيَاس، وَعَن الثَّانِي: بِأَنَّهُ زِيَادَة إِيضَاح، وَلَا يلْزم مِنْهُ ذكر أَقسَام الحكم وَالصّفة لعدم وُجُوبه. قَالَ: لَكِن يرد إِشْكَال لَا محيص عَنهُ، وَهُوَ: أَنه أَخذ فِي الْحَد ثُبُوت حكم الْفَرْع، وَهُوَ فرع الْقيَاس، وَهُوَ دور. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3121 ورد ذَلِك: بِأَن الْمَحْدُود الْقيَاس الذهْنِي، وَثُبُوت [حكم] الْفَرْع الذهْنِي، والخارجي لَيْسَ فرعا للْقِيَاس الذهْنِي. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَأورد الْآمِدِيّ عَلَيْهِ أَن، إِثْبَات الحكم هُوَ أثر الْقيَاس وناشئ عَنهُ، وَأَخذه فِي تَعْرِيفه، وتوقفه عَلَيْهِ دور ". وَضَعفه الْهِنْدِيّ: بِأَن الْمَأْخُوذ فِي التَّعْرِيف إِثْبَات، وَالَّذِي هُوَ أثر الْقيَاس ومتفرع عَنهُ الثُّبُوت لَا الْإِثْبَات وَنَحْوه من الْحمل. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " قلت: وَفِيه نظر، فَإِن الْقيَاس لَا يثبت حكما إِنَّمَا يظهره بقياسه، إِلَّا أَن يُقَال: إِنَّه على كل حَال غير الثُّبُوت ". انْتهى. وَقَالَ الطوفي: " وزيف بِأَن قَوْله " فِي إِثْبَات حكم لَهما " غير صَحِيح، لِأَن الْقيَاس لَا يطْلب بِهِ معرفَة حكم الأَصْل، إِذْ حكمه مَعْلُوم، وَإِنَّمَا يطْلب بِهِ حكم الْفَرْع ". انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3122 وَقَالَ الْآمِدِيّ: اسْتِوَاء فرع وأصل فِي عِلّة مستنبطة [من] حكم الأَصْل فَيحْتَاج: " أَو غَيرهَا ". وَمن صوب كل مُجْتَهد زَاد: فِي نظر الْمُجْتَهد. قَالَ القَاضِي عضد الدّين: " وَاعْلَم أَن المُرَاد بالمساواة الْمَذْكُورَة فِي الْحَد: الْمُسَاوَاة فِي نفس الْأَمر، فَيخْتَص بِالْقِيَاسِ الصَّحِيح، وَهَذَا عِنْد من يثبت مَا لَا مُسَاوَاة فِيهِ فِي نفس الْأَمر: قِيَاسا فَاسِدا. وَأما المصوبة وهم الْقَائِلُونَ: بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب، فَالْقِيَاس الصَّحِيح عِنْدهم: مَا حصلت فِيهِ الْمُسَاوَاة فِي / نظر الْمُجْتَهد، سَوَاء [ثبتَتْ] فِي نفس الْأَمر أم لَا، حَتَّى لَو تبين غلطه وجوب الرُّجُوع عَنهُ، فَإِنَّهُ لَا يقْدَح فِي صِحَّته عِنْدهم، بل ذَلِك انْقِطَاع [لحكمه] لدَلِيل آخر حدث وَكَانَ قبل حُدُوثه الْقيَاس الأول صَحِيحا وَإِن زَالَ صِحَّته، بِخِلَاف المخطئة فَإِنَّهُم لَا يرَوْنَ مَا ظهر غلطه وَالرُّجُوع عَنهُ مَحْكُومًا بِصِحَّتِهِ إِلَى زمَان ظُهُور غلطه، بل كَانَ فَاسِدا وَتبين فَسَاده، فَإِذا لَا يشْتَرط] المصوبة الْمُسَاوَاة إِلَّا فِي نظر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3123 الْمُجْتَهد، فحقهم أَن يَقُولُوا: هُوَ مُسَاوَاة فرع الأَصْل فِي نظر الْمُجْتَهد، هَذَا إِذا حددنا الْقيَاس الصَّحِيح. وَلَو أردنَا دخلو الْقيَاس الْفَاسِد مَعَه فِي الْحَد لم نشترط الْمُسَاوَاة لَا فِي نفس الْأَمر وَلَا فِي نظر الْمُجْتَهد وَقُلْنَا بدلهَا: إِنَّه تَشْبِيه فرع بِالْأَصْلِ، لِأَنَّهُ قد يكون مطابقاً لحُصُول الشّبَه وَقد لَا يكون لعدمه، وَقد يكون الْمُشبه يرى ذَلِك وَقد لَا يرَاهُ ". انْتهى. وَقيل: الْقيَاس إصابه الْحق. وَقيل: بذل الْمُجْتَهد فِي استخراجه. وَقيل: الْعلم عَن نظر. وتبطيل ذَلِك بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع. وَبِأَن إِصَابَة الْحق، وَالْعلم، فرع الْقيَاس وثمرته مَعَ أَن أَكْثَره ظن والبذل حَال القائس. وَقَالَ أَبُو هَاشم: حمل الشَّيْء على غَيره بإجراء حكمه عَلَيْهِ وَزَاد عبد الْجَبَّار: بِضَرْب من الشّبَه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3124 وأبطل: بِخُرُوج قِيَاس فَرعه مَعْدُوم مُمْتَنع لذاته فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْء وَيحْتَاج الأول لجامع. وَقيل: إِثْبَات مثل حكم فِي غير مَحَله لمقْتَضى مُشْتَرك. كإثبات مثل تَحْرِيم الْخمر فِي النَّبِيذ، وَهُوَ غير مَحل النَّص على التَّحْرِيم إِذْ مَحَله الْخمر لعِلَّة الْإِسْكَار، وَهُوَ الْمُقْتَضِي للتَّحْرِيم الْمُشْتَرك بَين الْخمر والنبيذ. وَقيل: تَعديَة حكم الْمَنْصُوص عَلَيْهِ إِلَى غَيره بِجَامِع. كتعدية تَحْرِيم الْخمر الْمَنْصُوص عَلَيْهِ إِلَى النَّبِيذ الَّذِي لم ينص على تَحْرِيمه للجامع الْمَذْكُور الْمُشْتَرك. وَالْحُدُود لذَلِك كَثِيرَة قل أَن يسلم مِنْهَا حد، وحاصلها يرجع إِلَى اعْتِبَار الْفَرْع الأَصْل فِي حكمه وَالْحكم. قَوْله: {تَنْبِيه: لم يرد بِالْحَدِّ قِيَاس الدّلَالَة وَهُوَ الْجمع بَين أصل وَفرع بِدَلِيل الْعلَّة كالجمع بَين الْخمر والنبيذ بالرائحة الدَّالَّة على الشدَّة المطربة. وَلَا قِيَاس الْعَكْس: وَهُوَ تَحْصِيل نقيض حكم الْمَعْلُوم فِي غَيره لافتراقهما فِي عِلّة الحكم، مثل: لما وَجب الصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف بِالنذرِ وَجب بِغَيْر نذر، عَكسه الصَّلَاة لما تجب فِيهِ بِالنذرِ لم تجب بِغَيْر نذر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3125 وَقيل: بلَى، وَقيل: ليسَا بِقِيَاس} قَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع " وَغَيره: الْمَحْدُود هُنَا هُوَ قِيَاس الطَّرْد فَقَط. وَقَالَ القَاضِي عضد الدّين وَغَيره: (الْقيَاس الْمَحْدُود هُوَ قِيَاس الْعلَّة) انْتهى. قَالَ الْآمِدِيّ فِي " الْمُنْتَهى " الْقيَاس [فِي] اصْطِلَاح الْأُصُولِيِّينَ يَنْقَسِم إِلَى قِيَاس الْعَكْس وَحده بِالْحَدِّ الْمَذْكُور، وَإِلَى قِيَاس الطَّرْد هُوَ: عبارَة عَن الاسْتوَاء بَين الْفَرْع وَالْأَصْل فِي الْعلَّة المستنبطة من حكم الأَصْل. وَقَالَ ابْن مُفْلِح: " وَقِيَاس الدّلَالَة لم يرد بِالْحَدِّ. وَقيل: لَيْسَ بِقِيَاس حَقِيقَة. وَقيل: دَاخل لتَضَمّنه الْمُسَاوَاة فِي الْعلَّة كالجمع بَين الْخمر والنبيذ بالرائحة الدَّالَّة على الشدَّة المطربة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3126 وَقِيَاس الْعَكْس لم يرد بِالْحَدِّ. وَقيل: لَيْسَ بِقِيَاس حَقِيقَة. وَفِي " التَّمْهِيد ": لَا يُسمى قِيَاسا لاخْتِلَاف الحكم وَالْعلَّة. قَالَ: وَسَماهُ بعض الْحَنَفِيَّة قِيَاسا مجَازًا. قَالَ: وحد أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ الْقيَاس بِحَدّ يشْتَمل على قِيَاس الطَّرْد وَالْعَكْس، فَقَالَ: الْقيَاس إِثْبَات الحكم فِي الشَّيْء بِاعْتِبَار تَعْلِيل غَيره، لِأَن الطَّرْد يثبت فِيهِ الحكم [فِي] الْفَرْع بِاعْتِبَار تَعْلِيل الأَصْل، وَالْعَكْس يعْتَبر فِيهِ تَعْلِيل الأَصْل لينتفي حكمه عَن الْفَرْع لافتراقهما فِي الْعلَّة فَيكون حد قِيَاس الطَّرْد مَا ذكرنَا أَولا، وحد قِيَاس الْعَكْس: هُوَ إِثْبَات نقيض حكم الشَّيْء فِي غَيره لافتراقهما فِي عِلّة الحكم " انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3127 وَلَكِن الأولى فِي حد الْعَكْس مَا ذَكرْنَاهُ فِي الْمَتْن تبعا للآمدي وَبَعض أَصْحَابنَا. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ أولى. وَقيل: قِيَاس الْعَكْس دَاخل فِي حد الْقيَاس، لِأَن الْقَصْد مُسَاوَاة الِاعْتِكَاف بِغَيْر نذر الصَّوْم فِي اشْتِرَاط الصَّوْم لَهُ بِنذر الصَّوْم، بِمَعْنى لَا فَارق بَينهمَا. أَو بالسبر / فَيُقَال: الْمُوجب للصَّوْم الِاعْتِكَاف لَا نَذره بِدَلِيل الصَّلَاة، فَالصَّلَاة ذكرت لبَيَان إِلْغَاء النّذر، فَالْأَصْل اعْتِكَاف بِنذر صَوْم، وَالْفرع بِغَيْر نَذره، وَالْحكم اشْتِرَاطه، وَالْعلَّة الِاعْتِكَاف، أَو أَن الْقَصْد قِيَاس الصَّوْم بِنذر على الصَّلَاة بِنذر، فَيُقَال بِتَقْدِير عدم وجوب الصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف لَا يجب فِيهِ بِنذر كَصَلَاة، وَالْعلَّة: أَنَّهُمَا عبادتان. قَالَ الْبرمَاوِيّ: فِي حجية قِيَاس الْعَكْس، خلاف وَكَلَام الشَّيْخ أبي حَامِد يَقْتَضِي الْمَنْع، لَكِن الْجُمْهُور على خِلَافه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3128 قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " الملخص ": " اخْتلف أَصْحَابنَا فِي الِاسْتِدْلَال بِهِ على وَجْهَيْن، أصَحهمَا - وَهُوَ الْمَذْهَب - أَنه يَصح، اسْتدلَّ بِهِ الشَّافِعِي فِي عدَّة مَوَاضِع. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَن الِاسْتِدْلَال بِالْعَكْسِ اسْتِدْلَال بِقِيَاس مَدْلُول على صِحَّته بِالْعَكْسِ، وَإِذا صَحَّ الْقيَاس فِي الطَّرْد وَهُوَ غير مَدْلُول على صِحَّته، فَلِأَن يَصح الِاسْتِدْلَال بِالْعَكْسِ وَهُوَ قِيَاس مَدْلُول على صِحَّته أولى ". قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَيدل عَلَيْهِ أَن الِاسْتِدْلَال بِهِ وَقع فِي الْقُرْآن وَالسّنة وَفعل الصَّحَابَة: فَأَما الْقُرْآن: فنحو قَوْله تَعَالَى: {لَو كَانَ فيهمَا إلهة إِلَّا الله لفسدتا} [الْأَنْبِيَاء: 22] . فَدلَّ على أَنه لَيْسَ إِلَه إِلَّا الله لعدم فَسَاد السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} [النِّسَاء: 82] . وَلَا اخْتِلَاف فِيهِ فَدلَّ على أَن الْقُرْآن من عِنْد الله بِمُقْتَضى قِيَاس الْعَكْس. وَأما السّنة: فكحديث: " يَأْتِي أَحَدنَا شَهْوَته ويؤجر؟ قَالَ أَرَأَيْتُم لَو وَضعهَا فِي حرَام؟ - يَعْنِي: أَكَانَ يُعَاقب؟ - قَالُوا: نعم، قَالَ: فَمه! ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3129 فقاس وَضعهَا فِي حَلَال فيؤجر على وَضعهَا فِي حرَام فيؤزر بنقيض الْعلَّة. وَأما الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من مَاتَ يُشْرك بِهِ شَيْئا دخل النَّار، وَقلت أَنا: وَمن مَاتَ لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا دخل الْجنَّة ". وَفِي بعض أصُول مُسلم رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من مَاتَ لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا دخل الْجنَّة. قَالَ: وَقلت أَنا: من مَاتَ يُشْرك بِهِ شَيْئا دخل النَّار ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3130 قلت: وَالَّذِي يغلب على [الظَّن] أَن هَذَا اللَّفْظ فِي البُخَارِيّ. وكل مِنْهُمَا يحصل بِهِ الْمَقْصُود، وَلم يُنكر ذَلِك أحد من الصَّحَابَة عَلَيْهِ. لَكِن رَوَاهُمَا مُسلم عَن جَابر مَرْفُوعا، فَلَا حَاجَة إِلَى الْقيَاس. وَيجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ أَنه عِنْد ذكر كل لَفْظَة] كَانَ نَاسِيا لِلْأُخْرَى كَمَا جمع بِهِ النَّوَوِيّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3131 فَظهر بذلك كُله أَنه حجَّة إِلَّا أَنه هَل يُسمى قِيَاسا حَقِيقَة أَو مجَازًا؟ ثَلَاثَة أَقْوَال، أرجحها الثَّانِي، لِأَن بعضه تلازم، وَنقل عَن صَاحب الْمُعْتَمد. وَقيل: لَا يُسمى قِيَاسا أصلا، وَبِه صرح ابْن االصباغ فِي " الْعدة ". قَالَ: لِأَن غَايَته أَنه من نظم التلازم) انْتهى. قَوْله: {وأركانه: أصل، وَفرع، وَعلة، وَحكم} . المُرَاد بالأركان هُنَا: مَا لَا يتم الْقيَاس إِلَّا بِهِ، لِأَن الْقيَاس إِذا كَانَ رد فرع إِلَى أصل، أَو حمل مَعْلُوم على مَعْلُوم - على مَا بَيناهُ - فالرد أَو الْحمل مصدر، وَهُوَ معنى من الْمعَانِي، فَكيف يكون أَرْكَانه؟ وأركان الشَّيْء: هُوَ مَا يتألف ذَلِك الشَّيْء مِنْهُ، فإطلاق الْأَركان على هَذِه الْأُمُور مجَاز، إِلَّا أَن يَعْنِي بِالْقِيَاسِ: مَجْمُوع هَذِه الْأُمُور مَعَ الْحمل تَغْلِيبًا فَيصير كل من الْأَرْبَعَة شطراً لَا شرطا، وَنَظِيره فِي الْفِقْه: إِطْلَاق أَن البيع أَرْكَانه ثَلَاثَة: عَاقد، ومعقود، وَصِيغَة، وَالْمرَاد مَا لَا بُد مِنْهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3132 أَرْكَان الْقيَاس أَرْبَعَة وَهِي: الأَصْل، وَالْفرع، وَالْعلَّة الجامعة، وَالْحكم. وَأما مَا حُكيَ أَن الْقيَاس يجوز من غير أصل. فَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: " هُوَ قَول من خلط الِاجْتِهَاد بِالْقِيَاسِ " أَي سمى الِاجْتِهَاد قِيَاسا وَالْحق أَنه نوع من الِاجْتِهَاد. وَالَّذِي لَا يحْتَاج إِلَى أصل هُوَ مَا سواهُ من أَنْوَاع الِاجْتِهَاد، وَأما الْقيَاس فَلَا بُد لَهُ من أصل. وَحكي أَيْضا خلاف شَاذ فِي أَن الْعلَّة لَيست من أَرْكَان الْقيَاس، وَأَنه يَصح الْقيَاس بِدُونِهَا إِذا لَاحَ بعض الشّبَه. وَهُوَ بَاطِل، لَا سِيمَا إِذا قُلْنَا إِن الْعلَّة هِيَ الدَّالَّة على الحكم فِي الأَصْل مَعَ وجود النَّص على الحكم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3133 وَقَوله: " بَينهمَا بعض الشّبَه " هُوَ غير الْعلَّة فِي الْجُمْلَة. قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": " ركن الشَّيْء هُوَ جزؤه الدَّاخِل فِي [حَقِيقَته] ، ثمَّ قَالَ: لم كَانَت أَرْكَان الْقيَاس أَرْبَعَة؟ وَله توجيهات إقناعية وَحَقِيقَة: أَحدهَا: أَنه الْقيَاس معنى مَعْقُول والمعاني المعقولة مَحْمُولَة على الْأَعْيَان المحسوسة، وَقد تقرر أَن اركان المحسوسات هِيَ العناصر، وَهِي أَرْبَعَة، فَكَذَلِك المعقولات تَقْتَضِي بِحكم هَذَا أَن تكون أَرْكَانهَا أَرْبَعَة، فَإِن زَاد شَيْء مِنْهَا أَو نقص عَن ذَلِك فَهُوَ خَارج عَن مُقْتَضى الأَصْل لمقْتَضى خَاص. الثَّانِي: أَنه قد سبق أَن مدَار المحدثات على عللها الْأَرْبَع المادية، والصورية، والفاعلية، والغائية، وَهِي أَرْكَان لَهَا، وَذَلِكَ بَين فِي المحسوسات، والمعقولات مُلْحقَة بهَا كَمَا سبق آنِفا. الثَّالِث: أَن الْقيَاس الشَّرْعِيّ رَاجع فِي الْحَقِيقَة إِلَى الْقيَاس الْعقلِيّ المنطقي الْمُؤلف من الْمُتَقَدِّمين، لِأَن قَوْلنَا: النَّبِيذ مُسكر فَكَانَ حَرَامًا كَالْخمرِ، مُخْتَصر من قَوْلنَا: النَّبِيذ مُسكر وكل مُسكر حرَام، وَقَوْلنَا: الْأرز مَكِيل فَحرم فِيهِ التَّفَاضُل كالبر، مُخْتَصر من قَوْلنَا: الْأرز مَكِيل، وكل مَكِيل يحرم فِيهِ التَّفَاضُل. وَلَيْسَ فِي الأول زِيَادَة على الثَّانِي إِلَّا ذكر الأَصْل الْمَقِيس عَلَيْهِ على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3134 جِهَة التنظير بِهِ والتأنس، وَلِهَذَا لَو قُلْنَا: النَّبِيذ مُسكر فَهُوَ حرَام، والأرز مَكِيل فَهُوَ رِبَوِيّ لحصل الْمَقْصُود. وَإِذا ثَبت أَن الْقيَاس الشَّرْعِيّ رَاجع إِلَى الْعقلِيّ لزم فِيهِ مَا لزم فِي الْعقلِيّ من كَونه على أَرْبَعَة أَرْكَان. وَبَيَانه: أَن المقدمتين والنتيجة تشْتَمل على سِتَّة أَجزَاء من بَين مَوْضُوع ومحمول، فَسقط مِنْهَا بالتكرار جزءان، وَهُوَ الْحَد الْوسط، يبْقى أَرْبَعَة أَجزَاء هِيَ أَرْكَان الْمَقْصُود، وَهِي الَّتِي يقْتَصر عَلَيْهَا الْفُقَهَاء فِي أقيستهم. مِثَاله: قَوْلنَا /: النَّبِيذ مُسكر، جزءان: مَوْضُوع وَهُوَ النَّبِيذ، ومحمول وَهُوَ مُسكر، ثمَّ نقُول: وكل مُسكر حرَام، فهذان جزءان وَيلْزم عَن ذَلِك النَّبِيذ حرَام وهما جزءان آخرَانِ، صَارَت سِتَّة أَجزَاء هَكَذَا: النَّبِيذ مُسكر وكل مُسكر حرَام فالنبيذ حرَام، يسْقط مِنْهَا لفظ " مُسكر " مرَّتَيْنِ، لِأَنَّهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3135 مَحْمُول فِي الْمُقدمَة الأولى، مَوْضُوع فِي الثَّانِيَة يبْقى هَكَذَا: النَّبِيذ مُسكر، فَهُوَ حرَام، وَهُوَ صُورَة قِيَاس الْفُقَهَاء. فقد بَان بِهَذَا: أَن الْقيَاس الشَّرْعِيّ مَحْمُول على الْعقلِيّ فِي بنائِهِ على أَرْبَعَة أَرْكَان بِالْجُمْلَةِ. الرَّابِع: أَن الْقيَاس معنى إضافي يفْتَقر فِي تَحْقِيقه إِلَى مقيس، وَهُوَ الْمُسَمّى فرعا، وَإِلَى مقيس عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُسَمّى أصلا، وَإِلَى مقيس لَهُ، وَهُوَ الْمُسَمّى عِلّة، وَإِلَى مقيس فِيهِ، وَهُوَ الْمُسَمّى حكما، فَلَمَّا تعلق بِهَذِهِ الْمعَانِي الْأَرْبَعَة وافتقر فِي تَحْقِيقه إِلَيْهَا لَا جرم كَانَت أركاناً لَهُ " انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " المُرَاد بالأركان هُنَا مَا لَا يتم الْقيَاس إِلَّا بِهِ، لِأَن الْقيَاس إِذا كَانَ هُوَ " حمل مَعْلُوم على مَعْلُوم "، " فالحمل " مصدر، وَهُوَ معنى من الْمعَانِي، فَكيف تكون أَرْكَانه؟ وأركان الشَّيْء مَا يتألف ذَلِك الشَّيْء مِنْهُ، فإطلاق الْأَركان على هَذِه الْأُمُور مجَاز، إِلَّا أَن يَعْنِي بِالْقِيَاسِ مَجْمُوع هَذِه الْأُمُور مَعَ الْحمل تَغْلِيبًا، فَيصير كل من الْأَرْبَعَة شطراً لَا شرطا " انْتهى. قَوْله: {فَالْأَصْل مَحل الحكم الْمُشبه بِهِ عِنْد الْفُقَهَاء، وَعند الْمُتَكَلِّمين: دَلِيله، وَعند الرَّازِيّ: حكم الْمحل وَهُوَ لَفْظِي، وَقَالَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3136 الشَّيْخ: يَقع على الْجَمِيع، وَابْن عقيل هُوَ الحكم وَالْعلَّة} إِذا تقرر أَن أَرْكَان الْقيَاس أَرْبَعَة: فَلَا بُد من تَعْرِيف كل مِنْهُمَا وَبَيَان شَرطه بوفاق أَو خلاف. وَإِنَّمَا بدأنا بِالْأَصْلِ لما لَا يخفى من تَفْرِيع غَيره عَلَيْهِ فَهُوَ أولى من تَأْخِيره. وَقد سبق فِي أول هَذَا الشَّرْح أَن الأَصْل فِي اللُّغَة: مَا يبْنى عَلَيْهِ الشَّيْء أَو نَحْو ذَلِك. وَأَن لَهُ فِي الِاصْطِلَاح إطلاقات: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3137 أَحدهَا: مَا يذكر فِي الْقيَاس وَهُوَ المُرَاد وَقد اخْتلف فِيهِ على أَقْوَال: أَحدهَا: وَهُوَ الْمُرَجح، وَقَول الْأَكْثَر، وَبِه قَالَ الْفُقَهَاء وَكثير من الْمُتَكَلِّمين أَنه: مَحل الحكم الْمُشبه بِهِ، كَالْخمرِ فِي الْمِثَال السَّابِق. وَذكره الْآمِدِيّ عَن الْفُقَهَاء وَأَنه أشبه لَا فتقار الحكم وَالنَّص إِلَيْهِ. وَالْقَوْل الثَّانِي: / أَن الأَصْل دَلِيل الحكم. قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَحكي عَن الْمُتَكَلِّمين ". وَحَكَاهُ فِي " الملخص " عَن الباقلاني. وَحَكَاهُ صَاحب " الْوَاضِح " عَن الْمُعْتَزلَة فَيكون فِي الْمِثَال فِي قَوْله - تعالي - {فَاجْتَنبُوهُ} [الْمَائِدَة: 90] . وَمَا فِي مَعْنَاهُ من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه نفس حكم الْمحل، فَهُوَ نفس الحكم الَّذِي فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3138 الأَصْل كالتحريم فِي الْمِثَال، لِأَنَّهُ الَّذِي يتَفَرَّع عَلَيْهِ الحكم فِي الْفَرْع، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ. وَذكر الْآمِدِيّ: أَنه لَيْسَ بِالْوَصْفِ الْجَامِع اتِّفَاقًا وَحكى قولا فِي ذَلِك. وَالْخلاف فِي ذَلِك لَفْظِي. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: والنزاع لَفْظِي، لصِحَّة إِطْلَاق الأَصْل على كل مِنْهَا. وَيَأْتِي كَلَام ابْن مُفْلِح، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهمَا. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: الأَصْل يَقع على الْجَمِيع، فَيَقَع الأَصْل على مَحل الحكم الْمُشبه بِهِ عِنْد الْفُقَهَاء وَهُوَ الْخمر، وَيَقَع على دَلِيل الحكم وَهُوَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنبُوهُ} ، وَيَقَع على نفس الحكم الَّذِي فِي الأَصْل كالتحريم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3139 وَاخْتَارَ ابْن عقيل: أَنه الحكم وَالْعلَّة. قَوْله: {وَالْفرع: الْمُشبه عِنْد الْفُقَهَاء، وَعند الْمُتَكَلِّمين، وَابْن قَاضِي الْجَبَل حكمه} . وَإِنَّمَا قدم على الحكم وَالْعلَّة، لِأَن الْفَرْع مُقَابل الأَصْل، فَنَاسَبَ أَن يذكر عقبه لما بَين الضدين من اللُّزُوم الذهْنِي. وَفِي المُرَاد بِهِ فِي الْقيَاس قَولَانِ. أَحدهمَا: وَهُوَ الْأَرْجَح أَنه: الْمحل الْمُشبه، وَذَلِكَ كالنبيذ فِي الْمِثَال السَّابِق، وَبِه قَالَ الْفُقَهَاء، حَكَاهُ ابْن الْعِرَاقِيّ عَنْهُم. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه الحكم الْمُشبه بِهِ، وَهُوَ التَّحْرِيم. وَبِه قَالَ المتكلمون، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَهُوَ الْأَصَح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3140 وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مرتبان على القَوْل فِي تَعْرِيف الأَصْل. فَمن قَالَ: الْمحل هُنَاكَ قَالَ هُنَا الْمحل، وَمن قَالَ هُنَالك الحكم قَالَ هُنَا الحكم، وَأما من قَالَ هُنَاكَ: إِن الأَصْل هُوَ الدَّلِيل، فَلَا يُمكن أَن يَقُول هُنَا دَلِيل الْفَرْع، لِأَن دَلِيله إِنَّمَا هُوَ الْقيَاس وَلذَلِك لم يَجْعَل حكم الْفَرْع من أَرْكَان الْقيَاس، لِأَنَّهُ ثمراته وناشئ عَنهُ كَمَا سبق. قَالَ ابْن مُفْلِح تبعا لِابْنِ الْحَاجِب وَغَيره: " والأقوال متوجهة لِأَن الأَصْل مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيره، وَلِهَذَا كَانَ الْجَامِع فرعا للْأَصْل لأَخذه مِنْهُ، وَهُوَ أصل للفرع اتِّفَاقًا لبِنَاء حكمه عَلَيْهِ. قَالَ ابْن عقيل: والمعلول الحكم لَا الْمَحْكُوم فِيهِ، خلافًا لأبي عَليّ الطَّبَرِيّ الشَّافِعِي، لِأَنَّهَا أثارته، وَيُقَال: بِمَ تعلل الحكم؟ واعتل فلَان لحكمه بِكَذَا وَعلة الْمَرِيض تقوم بِهِ وتؤثر فِيهِ، فَلهَذَا كَانَ الْجِسْم معلولاً " انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3141 قَالَ الْبرمَاوِيّ: " فِي الْكَلَام على الأَصْل: أَشَارَ ابْن الْحَاجِب إِلَى أَن الأَصْل فِي اللُّغَة مَا نَبْنِي عَلَيْهِ غَيره، فَهُوَ يساعد إِطْلَاقه اصْطِلَاحا على كل من الْأَقْوَال الثَّلَاثَة يَعْنِي الَّتِي فِي الأَصْل، فَلَا بعد فِي الْجَمِيع، لَكِن هَذَا وَإِن كَانَ مُسلما لَكِن الأول من الْأَقْوَال الثَّلَاثَة أرجح من حَيْثُ إِن بَاب الْقيَاس مرجعه إِلَى الْفُقَهَاء، وَقد ساعدهم الأصوليون فِيهِ على [مصطلحهم] وجروا فِي ذَلِك على مُقْتَضى قَوْلهم، فَلَا يطلقون الأَصْل إِلَّا على مَا يُطلقهُ الْفُقَهَاء، وَهُوَ مَحل الحكم الْمُشبه بِهِ لِئَلَّا يختبط الذِّهْن بَين الاصطلاحات. ثمَّ قَالَ ابْن الْحَاجِب: وَكَذَا، أَي: وَلأَجل أَن الأَصْل مَا يبْنى عَلَيْهِ غَيره كَانَ الْوَصْف الْجَامِع فرعا للْأَصْل أصلا للفرع. وَمرَاده أَن الشَّيْء الْوَاحِد يكون أصلا بِاعْتِبَار، فرعا بِاعْتِبَار، وَهُوَ معنى قَول الرَّازِيّ: إِن الحكم أصل فِي مَحل الْوِفَاق فرع فِي مَحل الْخلاف وَالْعلَّة بِالْعَكْسِ. وَتَحْقِيق ذَلِك: أَن الأَصْل إِمَّا أَن يكون بِالذَّاتِ، أَي: بِلَا وَاسِطَة، أَو بِالْعرضِ، أَي: بِوَاسِطَة أَمر آخر، فَلَا خلاف فِي الْمَعْنى بل فِي الِاصْطِلَاح ". انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3142 قَوْله: {فصل} {شَرط حكم الأَصْل كَونه إِن استلحق شَرْعِيًّا} . وَذَلِكَ لِأَنَّهُ الْقَصْد من الْقيَاس الشَّرْعِيّ. قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": (والعقلي ومسائل الْأُصُول قَطْعِيَّة لَا تثبت بظني، وَكَذَا لَا يثبت بِهِ أصل الْقيَاس، وأصل خبر الْوَاحِد) انْتهى. قَالَ الْجُمْهُور: من شَرط حكم الأَصْل أَن يكون شَرْعِيًّا. أَي: تَفْرِيعا على أَن الْقيَاس لَا يجْرِي فِي اللُّغَات والعقليات. (وَوَافَقَهُمْ فِي " جمع الْجَوَامِع " على اشْتِرَاط كَونه شَرْعِيًّا، لَكِن قَالَ: إِذا استحلق شَرْعِيًّا [فَإِن] اللّغَوِيّ والعقلي على تَقْدِير أَن يجْرِي الْقيَاس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3143 فيهمَا فَلَيْسَ قِيَاسا شَرْعِيًّا، وَالْكَلَام إِنَّمَا هُوَ فِي الْقيَاس الشَّرْعِيّ، مَعَ أَن الْقيَاس فيهمَا صَحِيح يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الحكم الشَّرْعِيّ، كقياس تَسْمِيَة اللائط زَانيا /، والنباش سَارِقا، والنبيذ خمرًا ليثبت الْحَد، وَالْقطع، وَالتَّحْرِيم. فَإِذا قيل: بِأَن ذَلِك إِنَّمَا هُوَ فِي استلحاق نفس الحكم الشَّرْعِيّ، فَلَا بُد من اشْتِرَاط كَونه شَرْعِيًّا) . قَالَه الْبرمَاوِيّ. وتابعنا صَاحب " جمع الْجَوَامِع " فِي ذَلِك، وَقد وَافقه شراحه. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: " وَهُوَ مَفْهُوم من تَعْلِيلهم ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3144 قَوْله: {وَغير مَنْسُوخ} . يَعْنِي شَرط حكم الأَصْل أَن لَا يكون مَنْسُوخا، لِأَن الْمَنْسُوخ لم يبْق لَهُ وجود فِي الشَّرْع، فَيلْحق فِيهِ الْأَحْكَام بِقِيَاس وَغَيره، وَلذَلِك لم يذكرهُ بَعضهم فِي الشُّرُوط، لِأَنَّهُ زَالَ اعْتِبَار [الْجَامِع] . قَوْله: {وَلَا شَامِلًا لحكم الْفَرْع} (إِذْ لَو كَانَ شَامِلًا لحكم الْفَرْع لم يكن جعل أَحدهمَا أصلا وَالْآخر فرعا أولى من الْعَكْس، ولكان الْقيَاس ضائعاً، وتطويلاً بِلَا طائل، مِثَاله فِي الذّرة: مطعوم فَلَا يجوز بَيْعه بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا، قِيَاسا على الْبر، فَيمْنَع فِي الْبر، فَيَقُول: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا يدا بيد سَوَاء بِسَوَاء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3145 فَإِن الطَّعَام يتَنَاوَل الذّرة كَمَا يتَنَاوَل الْبر. وأ نت تعلم مِمَّا ذكر أَن دَلِيل الْعلَّة إِذا كَانَ نصا وَجب أَلا يتَنَاوَل الْفَرْع بِلَفْظِهِ، مثل أَن يَقُول: النباش يقطع، لِأَنَّهُ سَارِق، كالسارق من الْحَيّ إِنَّمَا يقطع لِأَنَّهُ سَارِق، فَيَقُول: لقَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] . رتب الْقطع على السّرقَة بفاء التعقيب، فَدلَّ على أَنه الْمُقْتَضِي للْقطع. فَيُقَال: فَهَذَا يُوجب ثُبُوت الحكم فِي الْفَرْع بِالنَّصِّ، فَإِن ثُبُوت الْعلَّة بعد ثُبُوت الحكم، وَلَا مخلص للمستدل إِلَّا منع كَونه عَاما) قَالَه الْعَضُد. قَوْله: {وَلَا معدولاً بِهِ عَن سنَن الْقيَاس كعدد الرَّكْعَات، أَو لَا نَظِير لَهُ، لَهُ معنى ظَاهر كرخص السّفر للْمَشَقَّة، أَو لَا كالقسامة} . من شَرط حكم الأَصْل الْمَقِيس عَلَيْهِ أَن لَا يكون معدولاً بِهِ عَن سنَن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3146 الْقيَاس، أَي عَن طَرِيقه الْمُعْتَبر فِيهِ / لتعذر التَّعْدِيَة حِينَئِذٍ وَذَلِكَ على ضَرْبَيْنِ. أَحدهمَا: لكَونه لم يعقل مَعْنَاهُ، إِمَّا لكَونه اسْتثْنِي من قَاعِدَة عَامَّة كالعمل [بِشَهَادَة] خُزَيْمَة وَحده فِيمَا لَا يقبل شَهَادَة الْوَاحِد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3147 فِيهِ، أَو لم يسْتَثْن كتقدير نصب الزكوات، وأعداد الرَّكْعَات، ومقادير الْحُدُود وَالْكَفَّارَات. وَالضَّرْب الثَّانِي: مَا عقل مَعْنَاهُ وَلَكِن لَا نَظِير لَهُ، سَوَاء كَانَ لَهُ معنى ظَاهر، كرخص السّفر، أَو لَا معنى لَهُ ظَاهر كالقسامة. كَذَا مثلت بِهِ تبعا لِابْنِ مُفْلِح تبعا لِابْنِ الْحَاجِب وَغَيره. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " لَكِن فِي جعله الْقسَامَة معقولة الْمَعْنى وَهُوَ خَفِي، بِخِلَاف شَهَادَة خُزَيْمَة، ومقادير الْحُدُود، نظر ظَاهر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3148 قلت: قد بَين الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَابْن الْقيم الْمَعْنى فِي الْقسَامَة وعللاه بعلل جَيِّدَة. أما إِذا شرع ابْتِدَاء، فَجعله من الْخَارِج عَن سنَن الْقيَاس مجَاز، لِأَنَّهُ لم يدْخل حَتَّى يخرج، وَإِذا كَانَ أَيْضا خَارِجا عَن الْمَعْنى لِمَعْنى كالعرايا المخرجة من الربويات لحَاجَة الْفُقَرَاء فِي الأَصْل، لَا يُقَال فِيهِ خَارج عَن سنَن الْقيَاس إِلَّا مجَازًا، نبه عَلَيْهِ الْغَزالِيّ وَغَيره، نعم يَقع الْبَحْث فِي أُمُور جعلت خَارِجَة عَن سنَن الْقيَاس من وَجه آخر. مِنْهَا رخص السّفر، قَالُوا: لَا يدْخل فِيهَا الْقيَاس لعدم النظير، فَيمْنَع لوُجُود الْمَشَقَّة فِي غير السّفر من الْأَعْمَال الشاقة كالحمالين. وَجَوَابه: أَن التَّعْلِيل بمظنة الْمَشَقَّة لعدم انضباط الْحِكْمَة، وَهِي الْمَشَقَّة. وَمِنْهَا: قَوْلهم: يجْرِي الْقيَاس فِي الْحُدُود وَالْكَفَّارَات الرُّخص والتقديرات، وَالْمرَاد بهَا نَفسهَا، أما مقاديرها فَلَا يجْرِي فِيهَا الْقيَاس ". قَوْله: {وَمَا خص من الْقيَاس يجوز الْقيَاس عَلَيْهِ وَقِيَاسه على غَيره، عِنْد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3149 أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة وَبَعض الْحَنَفِيَّة والمالكية /، وَمنعه أكثرهما إِلَّا أَن يكون مُعَللا أَو مجمعا على قِيَاسه كوجه لنا. قَالَ القَاضِي: لَا يُقَاس على غَيره فِي إِسْقَاط حكم النَّص وَيُقَاس عَلَيْهِ غَيره} قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَاخْتلف فِي الْقيَاس على أصل مَخْصُوص من جملَة الْقيَاس، وَهُوَ تَارَة لَا تفهم علته كجعل شَهَادَة خُزَيْمَة شهادتين فَلَا يُقَاس، وَتارَة تفهم. قَالَ أَبُو يعلى: " الْمَخْصُوص من جملَة الْقيَاس يُقَاس عَلَيْهِ وَيُقَاس [على] غَيره، أما الأول لِأَن أَحْمد قَالَ فِيمَن نذر ذبح نَفسه: يفدى نَفسه بكبش، فقاس من نذر ذبح نَفسه على من نذر ذبح وَلَده " انْتهى. قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَبَعض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3150 الْحَنَفِيَّة، وَإِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق الْمَالِكِي، لِأَن الظَّن الْخَاص أرجح، وَلِهَذَا قدم أَصله. وَمنع ذَلِك أَكثر الْحَنَفِيَّة، والمالكية، والمتكلمين، إِلَّا أَن يكون مُعَللا لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّهَا من الطوافين "، أَو مجمعا على جَوَاز الْقيَاس عَلَيْهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3151 كالتحالف فِي الْإِجَارَة كَالْبيع ". قَالَ مُحَمَّد بن شُجَاع من الْحَنَفِيَّة: إِن ثَبت الْمُسْتَثْنى بِدَلِيل قَطْعِيّ جَازَ الْقيَاس عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا. والكرخي إِن كَانَت عِلّة الْمُسْتَثْنى منصوصة أَو مجمعا عَلَيْهَا أَو مُوَافقَة لبَعض الْأُصُول جَازَ الْقيَاس وَإِلَّا فَلَا. والرازي: يطْلب الرتجيح بَينه وَبَين غَيره. " وَلنَا وَجه كأكثر الْحَنَفِيَّة، ذكره أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " قَالَ: وَلِهَذَا لَا نقيس على لحم الْإِبِل فِي نقض الْوضُوء وَغير ذَلِك من أصولنا. قَالَ ابْن فلح: كَذَا قَالَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3152 وَفِيه نظر، لعدم فهم الْمَعْنى أَو مساواته، وَلِهَذَا نقيس فِي الْأَشْهر لنا: الْعِنَب على الْعَرَايَا، وَقد قَاس الْحَنَفِيَّة الْمُقدر كالموضحة على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3153 دِيَة النَّفس فِي حمل الْعَاقِلَة ". قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: لنا أَن الِاعْتِبَار لوُجُود الْقيَاس بِشُرُوطِهِ وَكَونه مَخْصُوصًا لَا يمْنَع إِلْحَاق مَا فِي مَعْنَاهُ بِهِ. قَالُوا: لَا نَظِير. قُلْنَا: لَا يَخْلُو من نَظِير. وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة ": المستثى عَن قَاعِدَة الْقيَاس يُقَاس عَلَيْهِ إِذا وجدت فِيهِ الْعلَّة، كقياس الْعِنَب على الرطب فِي الْعَرَايَا للْحَاجة، لِأَنَّهُ فِي / مَعْنَاهُ، وَكَذَلِكَ إِيجَاب صَاع من تمر فِي لبن الْمُصراة، مُسْتَثْنى عَن قَاعِدَة الضَّمَان بِالْمثلِ، فنقيس على مَا لَو رد الْمُصراة بِعَيْب آخر، وكقياس بَقِيَّة الْمُحرمَات على أكل الْميتَة للضَّرُورَة. وَأما [الثَّانِي] : فتجويز أَحْمد شِرَاء أَرض السوَاد لَا بيعهَا، قَالَ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3154 اسْتِحْسَان، وَاحْتج بتجويز الصَّحَابَة شِرَاء الْمَصَاحِف لَا بيعهَا. وَذكر القَاضِي فِي أثْنَاء الْمَسْأَلَة: لَا يُقَاس على غَيره فِي إِسْقَاط حكم النَّص، وَيُقَاس عَلَيْهِ غَيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3155 قَوْله: {وَكَونه غير فرع فِي ظَاهر كَلَام أَحْمد، وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة. وَاخْتَارَهُ القَاضِي، وَقَالَ يجوز أَن تستنبط من الْفَرْع الْمُتَوَسّط عِلّة لَيست فِي الأَصْل وَيُقَاس عَلَيْهِ. وَقَالَ - أَيْضا -: " يجوز كَون الشَّيْء أصلا لغيره فِي حكم وفرعاً لغيره فِي حكم آخر ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3156 وَجوزهُ الْفَخر، وَأَبُو الْخطاب، وَمنعه أَيْضا. وَقَالَ - ايضاً - هُوَ، وَابْن عقيل، والبصري، وَبَعض الشَّافِعِيَّة: يُقَاس عَلَيْهِ بِغَيْر الْعلَّة الَّتِي يثبت بهَا، وَحكي عَن أَصْحَابنَا. وَمنعه الْمُوفق، وَالْمجد، والطوفي، وَغَيرهم مُطلقًا إِلَّا بِاتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ، وَالشَّيْخ فِي قِيَاس الْعلَّة فَقَط} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3157 قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (وَمِنْه كَونه غير فرع، اخْتَارَهُ القَاضِي فِي مُقَدّمَة " الْمُجَرّد "، وَقَالَ: هُوَ ظَاهر قَول أَحْمد، وَقيل لَهُ: يقيس الرجل بِالرَّأْيِ؟ فَقَالَ: لَا، هُوَ أَن يسمع الحَدِيث فيقيس عَلَيْهِ. ثمَّ ذكر أَنه يجوز أَن يستنبط من الْفَرْع الْمُتَوَسّط عِلّة لَيست فِي الأَصْل وَيُقَاس عَلَيْهِ. وَذكر - أَيْضا - فِي مَسْأَلَة الْقيَاس جَوَاز كَون الشَّيْء أصلا لغيره فِي حكم، وفرعاً لغيره فِي حكم آخر، لَا فِي حكم وَاحِد. وَجوزهُ القَاضِي - أَيْضا -، وَأَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ، وَقَالَ: لِأَنَّهُ لَا يخل بنظم الْقيَاس وَحَقِيقَته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3158 وَكَذَا أَبُو الْخطاب، وَمنعه أَيْضا، وَقَالَ فِي سُؤال الْمُعَارضَة: يُقَاس عَلَيْهِ بِغَيْر الْعلَّة الَّتِي ثَبت بهَا وَإِلَّا كَانَ بَاطِلا. وَقَالَهُ ابْن عقيل وَقَالَ: [على] أصلنَا، وَأَنه قَول أبي عبد الله الْبَصْرِيّ، وَأحد وَجْهي الشَّافِعِيَّة. كأصل ثَبت بِنَصّ لصِحَّة تَعْلِيله بعلتين، وَلِأَنَّهُ لَا مزية لأَحَدهمَا كمنصوص على مثله. وَاخْتَارَ فِي " الرَّوْضَة ": مَنعه مُطلقًا إِلَّا بِاتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ، وَذكره بعض أَصْحَابنَا عَن أَكثر الجدليين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3159 وَقَالَ أَيْضا: إِن كَانَ قِيَاس عِلّة لم يجز، وَإِلَّا جَازَ. وَالْمَنْع قَالَه الْكَرْخِي، والآمدي، وَذكره / عَن أَكثر أَصْحَابهم. وَالْجَوَاز قَالَه الرَّازِيّ، والجرجاني، وَأَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ. وَقَالَ ابْن برهَان: يجوز عندنَا خلافًا للحنفية، والصيرفي من أَصْحَابنَا، قَالَ: وحرف الْمَسْأَلَة تَعْلِيل الحكم بعلتين) انْتهى كَلَام ابْن مُفْلِح. لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: (الْمَشْهُور عِنْد الْأَصْحَاب الْمَنْع مُطلقًا، وَهُوَ ظَاهر نَص الشَّافِعِي فِي " الْأُم ") انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3160 وَقَالَ التَّاج السُّبْكِيّ فِي " شرح مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب ": أطلق الأصوليون هَذَا الشَّرْط وَهُوَ مَخْصُوص عِنْدِي بِمَا إِذا لم يظْهر للوسط فَائِدَة، كقياس السفرجل على التفاح، والتفاح على الْبر، أما إِذا ظَهرت لَهُ فَائِدَة فَلَا يمْتَنع عِنْدِي أَن يُقَاس فرع على فرع، إِذا كَانَ حكم الْفَرْع الْمَقِيس عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ وسط أظهر وَأولى، بِحَيْثُ إِنَّه لَو قيس الْفَرْع الأول الَّذِي هُوَ فرع الْفَرْع على الأَصْل [لاستنكر] فِي بادئ الرَّأْي جدا. بِخِلَاف مَا إِذا جعل مندرجاً. مِثَاله: التفاح رِبَوِيّ قِيَاسا على الزَّبِيب، وَالزَّبِيب رِبَوِيّ قِيَاسا على التَّمْر وَالتَّمْر رِبَوِيّ قِيَاسا على الْأرز، والأرز رِبَوِيّ قِيَاسا على الْبر، إِذا كَانَ الْجَامِع فِي قِيَاس التفاح على الزَّبِيب الطّعْم، وَفِي قِيَاس الزَّبِيب على التَّمْر الطّعْم مَعَ الْكَيْل، والتمرعلى الْأرز الطّعْم والكيل والقوت الْغَالِب. إِذْ لَو قيس ابْتِدَاء التفاح على الْبر لم يسلم من مَانع يمْنَع عِلّة الطّعْم وَحده. وَكَذَا فِي الأقيسة الَّتِي بعده ليتخلص بِمَا يُزَاد فِيهَا من مَانع يمْنَع اسْتِقْلَال ذَلِك بِالْعِلَّةِ بِدُونِ تِلْكَ الزِّيَادَة. انْتهى. وَجه الْمَنْع فِي أصل الْمَسْأَلَة: إِن اتّحدت الْعلَّة فالوسط لَغْو، كَقَوْل الشَّافِعِي: السفرجل مطعوم فَيكون ربوياً كالتفاح ثمَّ نقيس التفاح على الْبر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3161 وَإِن لم تتحد فسد الْقيَاس، لِأَن الْجَامِع بَين الْفَرْع الْأَخير والمتوسط لم يثبت اعْتِبَاره، لثُبُوت الحكم فِي الأَصْل الأول بِدُونِهِ، وَالْجَامِع بَين الْمُتَوَسّط وَأَصله / لَيْسَ فِي فَرعه، كَقَوْلِه الشَّافِعِي: الجذام عيب يفْسخ بِهِ البيع فَكَذَا النِّكَاح كالرتق، ثمَّ يقيس الرتق على الْجب بِفَوَات الِاسْتِمْتَاع. وَهَذَا الْمِثَال مثل بِهِ ابْن مُفْلِح تبعا لِابْنِ الْحَاجِب. لَكِن قَالَ التَّاج السُّبْكِيّ: هُوَ على سَبِيل ضرب الْمِثَال، وَإِلَّا فَرد الْمَجْبُوب عندنَا إِنَّمَا هُوَ لنُقْصَان عين الْمَبِيع نقصا يفوت بِهِ غَرَض صَحِيح، لَا لفَوَات الِاسْتِمْتَاع، وَأما إِثْبَات الْفَسْخ بالجب فِي النِّكَاح فلفوات الِاسْتِمْتَاع، فالعلتان متغايرتان على كل حَال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3162 وَهُوَ كَمَا قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَجه كَلَام ابْن الْحَاجِب. قَوْله: {فَإِن كَانَ فرعا يُخَالِفهُ الْمُسْتَدلّ، كَقَوْل حَنَفِيّ فِي صَوْم رَمَضَان بنية نفل: أَتَى بِمَا أَمر بِهِ فصح كحج ففاسد} . مَا ذكرنَا قبل ذَلِك كَانَ فرعا يُوَافقهُ الْمُسْتَدلّ وَيُخَالِفهُ الْمُعْتَرض. وَأما إِذا كَانَ فرعا يُخَالِفهُ الْمُسْتَدلّ وَيُوَافِقهُ الْمُعْتَرض. فمثاله: قَول الْحَنَفِيّ فِي الصَّوْم بنية النَّفْل: أَتَى بِمَا أَمر بِهِ فَيصح كفريضة الْحَج، وَهُوَ لَا يَقُول بِصِحَّة فَرِيضَة الْحَج بنية النَّفْل بل خَصمه هُوَ الْقَائِل بِهِ. فَهَذَا قِيَاس فَاسد، لِأَنَّهُ اعْترف ضمنا بخطئه فِي الأَصْل وَهُوَ إِثْبَات الصِّحَّة فِي فَرِيضَة الْحَج، وَالِاعْتِرَاف بِبُطْلَان إِحْدَى مُقَدمَات دَلِيله اعْتِرَاف بِبُطْلَان دَلِيله، وَلَا يسمع من الْمُدَّعِي مَا هُوَ معترف بِبُطْلَانِهِ وَلَا يُمكن من دَعْوَاهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3163 مِثَال آخر: أَن يَقُول حنبلي فِي قتل الْمُسلم بالذمي: تمكنت الشُّبْهَة، فَلَا يُوجب الْقصاص، كالمثقل، فَإِنَّهُ فرع يُخَالِفهُ الْمُسْتَدلّ، وَهُوَ على مَذْهَب الْمُعْتَرض وَفرع من فروعه، فَلَا يُمكن الْمُسْتَدلّ من تَقْرِير مذْهبه بِهِ مَعَ اعترافه بِبُطْلَانِهِ. فَإِن قيل: فَذَلِك يصلح إلزاماً للخصم، إِذْ لَو لزمَه لزم الْمَقْصُود، وَإِلَّا كَانَ مناقضاً فِي مذْهبه [لعمله] بِالْعِلَّةِ فِي مَوضِع دون مَوضِع. فَالْجَوَاب: أَن الْإِلْزَام مندفع بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يَقُول: الْعلَّة فِي الأَصْل عِنْدِي غير ذَلِك وَلَا يجب ذكري لَهَا. وَثَانِيهمَا: بِأَن يَقُول: يلْزم مِنْهُ خطؤك فِي الأَصْل أَو فِي الْفَرْع، وَلَا يلْزم مِنْهُ الْخَطَأ فِي الْفَرْع معينا وَهُوَ مطلوبك، وَرُبمَا اعْترف بخطئه فِي الأَصْل وَلَا يضر من / ذَلِك فِي الْفَرْع. قَالَ القَاضِي عضد الدّين وَغَيره قَوْله: {وَكَونه مُتَّفقا عَلَيْهِ بَين الْخَصْمَيْنِ. قَالَ الْآمِدِيّ: مَعَ اخْتِلَاف الْأمة، وَقيل: بَين الْأمة، وَسموا مَا اتّفق عَلَيْهِ قِيَاسا مركبا} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3164 وَمن شُرُوط حكم الأَصْل - أَيْضا - توَافق الْخَصْمَيْنِ على حكم الأَصْل، فَإِن كَانَ أَحدهمَا يمنعهُ فَلَا يسْتَدلّ عَلَيْهِ بِالْقِيَاسِ فِيهِ. وَإِنَّمَا شَرط ذَلِك لِئَلَّا يحْتَاج القائس عِنْد الْمَنْع إِلَى إثْبَاته، فَيكون انتقالاً من مَسْأَلَة إِلَى أُخْرَى. وَلَا يشْتَرط اتِّفَاق الْأمة، بل يَكْفِي اتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ لحُصُول الْمَقْصُود بذلك، هَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه يشْتَرط اتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ وَاخْتِلَاف الْأمة، حَتَّى لَا يكون مجمعا عَلَيْهِ، وَهُوَ اخْتِيَار الْآمِدِيّ. وَالْقَوْل الثَّالِث: يشْتَرط اتِّفَاق الْأمة على ذَلِك مَعَ الْخَصْمَيْنِ، فَمنع قوم الْقيَاس على مُخْتَلف فِيهِ لنقل الْكَلَام إِلَى التسلسل. وَضعف الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " وَغَيره هَذَا القَوْل لندرة الْمجمع عَلَيْهِ، أَو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3165 بِأَن كلا مِنْهُمَا مقلد، فَلَيْسَ لَهُ منع حكم ثَبت مذهبا لإمامه، لِأَنَّهُ لَا يعلم مأخذه، ثمَّ لَا يلْزم من عَجزه عَجزه، ثمَّ لَا يتَمَكَّن أَحدهمَا من إِلْزَام مَا لم يجمع عَلَيْهِ. وَكَذَا قَالَ الْآمِدِيّ: " الْمُخْتَار - بعد إبِْطَال مُعَارضَة الْخصم فِي الأول وَتَحْقِيق وجود مَا يَدعِيهِ فِي الأَصْل فِي الثَّانِي - أَن الْمُقَلّد لَيْسَ لَهُ الْمَنْع وتخطئه إِمَامه " انْتهى. قَوْله: {وَسموا مَا اتّفق عَلَيْهِ قِيَاسا مركبا} . فَإِن كَانَ لعلتين مُخْتَلفين فمركب الأَصْل: العَبْد فَلَا يقتل بِهِ حر كَالْمكَاتبِ. فَيَقُول الْحَنَفِيّ: الْعلَّة جَهَالَة الْمُسْتَحق من السَّيِّد وَالْوَرَثَة، فَإِن صحت بَطل قياسكم، وَإِن بَطل منعت حكم الأَصْل. وَلَعَلَّه يمْنَع وجودهَا فِي الأَصْل فمركب الْوَصْف، كتعليق طَلَاق، فَلَا يَصح قبل النِّكَاح، كفلانة الَّتِي أَتَزَوَّجهَا طَالِق، فَيَقُول الْحَنَفِيّ: الْعلَّة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3166 تَعْلِيق وَفِي الأَصْل تَنْجِيز، فَإِن صَحَّ هَذَا بَطل قياسكم، وَإِن بطلت منعت حكم الأَصْل. سمى بَعضهم مَا كَانَ مُتَّفقا بَين خصمين فَقَط قِيَاسا مركبا. وَالصَّحِيح: أَن / الْقيَاس الْمركب إِنَّمَا هُوَ بِقَيْد أَن يتَّفق الخصمان، لَكِن لعلتين مختلفتين، أَو لعِلَّة يمْنَع الْخصم وجودهَا فِي الأَصْل، كَمَا قَالَه الْآمِدِيّ، وَغَيره. فيكتفي الْمُسْتَدلّ بموافقة خَصمه فِي الأَصْل مَعَ مَنعه عِلّة الأَصْل، وَمنعه وجودهَا فِي الأَصْل. فَالْأول [مركب الأَصْل] سمي بذلك لاختلافهما فِي تركيب الحكم، فالمستدل يركب الْعلَّة على الحكم، والخصم بِخِلَافِهِ. قَالَ القَاضِي عضد الدّين: " وَالظَّاهِر أَنه إِنَّمَا سمي مركبا لإثباتهما الحكم كل بِقِيَاس فقد اجْتمع قياسهما. ثمَّ إِن الأول اتفقَا فِيهِ على الحكم، وَهُوَ الأَصْل بالاصطلاح دون الْوَصْف، الَّذِي يُعلل بِهِ الْمُسْتَدلّ، فَسُمي مركب الأَصْل. وَالثَّانِي: اتفقَا فِيهِ على الْوَصْف الَّذِي يُعلل بِهِ الْمُسْتَدلّ فَسُمي مركب الْوَصْف تمييزاً لَهُ عَن صَاحبه بِأَدْنَى مُنَاسبَة ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3167 قَالَ ابْن مُفْلِح: " قيل: سمي مركبا لاختلافهما فِي علته، وَقيل: فِي تركيب الحكم عَلَيْهَا فِي الأَصْل، فَعِنْدَ الْمُسْتَدلّ هِيَ فرع لَهُ، والمعترض بِالْعَكْسِ، وَسمي مركب الأَصْل للنَّظَر فِي عِلّة حكمه " انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: " فَإِن كَانَ الْخصم يُوَافق على الْعلَّة وَلَكِن يمْنَع وجودهَا فِي الأَصْل الْوَصْف، فَسُمي بذلك لاختلافهما فِي نفس الْوَصْف الْجَامِع. مِثَال الأول وَهُوَ مركب الأَصْل: قَول الْحَنْبَلِيّ فِيمَا إِذا قتل الْحر عبدا الْمَقْتُول عبد، فَلَا يقتل بِهِ الْحر، كَالْمكَاتبِ، إِذا قتل وَترك وَفَاء ووارثاً مَعَ الْمولى. فَإِن أَبَا حنيفَة يَقُول هُنَا: إِنَّه لَا قصاص، فَيلْحق العَبْد بِهِ هُنَا بِجَامِع الرّقّ، فَلَا يحْتَاج الْحَنْبَلِيّ فِيهِ إِلَى إِقَامَة دَلِيل على عدم الْقصاص فِي هَذِه الصُّورَة لموافقة خَصمه. فَيَقُول الْحَنَفِيّ فِي منع ذَلِك: إِن الْعلَّة إِنَّمَا هِيَ جَهَالَة الْمُسْتَحق من السَّيِّد وَالْوَرَثَة لَا الرّقّ، لِأَن السَّيِّد وَالْوَارِث وَإِن إجتمعا على طلب الْقصاص، لَا يَزُول الِاشْتِبَاه، لاخْتِلَاف الصَّحَابَة فِي مكَاتب يَمُوت عَن وَفَاء: قَالَ بَعضهم /: يَمُوت عبدا، وَتبطل الْكِتَابَة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3168 وَقَالَ بَعضهم: تُؤَدّى [الْكِتَابَة] من أكسابه، وَيحكم بِعِتْقِهِ فِي آخر جُزْء من حَيَاته. فقد اشْتبهَ الْوَلِيّ مَعَ هَذَا الِاخْتِلَاف فَامْتنعَ الْقصاص. فَإِن اعْترض عَلَيْهِم: بأنكم لَا بُد أَن تحكموا فِي هَذِه الْحَالة بِأحد هذَيْن الْقَوْلَيْنِ إِمَّا بِمَوْتِهِ عبدا أَو حرا، وأيا مَا كَانَ فالمستحق مَعْلُوم. فَيَقُول الْحَنَفِيّ: نَحن نحكم بِمَوْتِهِ حرا، بِمَعْنى أَنه يُورث، لَا بِمَعْنى وجوب الْقصاص على قَاتله الْحر، لِأَن حكمنَا بِمَوْتِهِ حرا ظَنِّي، لاخْتِلَاف الصَّحَابَة، وَالْقصاص يَنْتَفِي بِالشُّبْهَةِ، فَهَذِهِ جَهَالَة تصلح لدرء الْقصاص، وَلَا يمْتَنع علمنَا بمستحق الْإِرْث ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3169 وَمِثَال آخر: قِيَاس حلي الْبَالِغَة على حلي الصبية، فِي أَنه لَا زَكَاة فِيهِ، فَإِن ذَلِك مُتَّفق عَلَيْهِ فِي حلي الصبية لَكِن بعلتين مُخْتَلفين، فَعِنْدَ الْحَنَابِلَة وَالشَّافِعِيَّة لكَونه حليا مُبَاحا، وَعند الْحَنَفِيَّة لكَونه مَال صبية. وَمِثَال الثَّانِي: وَهُوَ مركب الْوَصْف: أَن يُقَال فِي مَسْأَلَة تَعْلِيق الطَّلَاق قبل النِّكَاح: تَعْلِيق للطَّلَاق فَلَا يَصح، كَمَا لَو قَالَ: زَيْنَب الَّتِي أَتَزَوَّجهَا طَالِق. فَيَقُول الْحَنَفِيّ: الْعلَّة الَّتِي هِيَ كَونه تَعْلِيقا مفقودة فِي الأَصْل، فَإِن قَوْله: زَيْنَب الَّتِي أَتَزَوَّجهَا طَالِق، تَنْجِيز لَا تَعْلِيق، فَإِن صَحَّ هَذَا بَطل إِلْحَاق التَّعْلِيق بِهِ لعدم الْجَامِع، وَإِلَّا منع حكم الأَصْل، وَهُوَ عدم الْوُقُوع فِي قَوْله: زَيْنَب الَّتِي أَتَزَوَّجهَا طَالِق، لِأَنِّي إِنَّمَا منعت الْوُقُوع، لِأَنَّهُ تَنْجِيز، فَلَو كَانَ تَعْلِيقا لَقلت بِهِ. وَحَاصِله: أَن الْخصم فِي هَذِه الصُّورَة لَا يَنْفَكّ عَن منع الْعلَّة فِي الأَصْل، كَمَا لَو لم يكن التَّعْلِيق ثَابتا فِيهِ، أَو منع حكم الأَصْل كَمَا إِذا كَانَ ثَابتا، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يتم الْقصاص. قَوْله: {وَلَيْسَ بِحجَّة عندنَا، وَعند الْأَكْثَر، وَجوزهُ الْأُسْتَاذ، وَالْقَاضِي وَابْن عقيل، وَجمع} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3170 الْمَشْهُور عِنْد الْأُصُولِيِّينَ: أَن هذَيْن النَّوْعَيْنِ غير مقبولين. أما الأول: فَلِأَن الْخصم لَا يَنْفَكّ عَن منع الْعلَّة فِي الْفَرْع أَو منع الحكم فِي الأَصْل، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ / فَلَا يتم الْقيَاس. وَأما الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ لَا يَنْفَكّ عَن منع الأَصْل، كَمَا لَو لم يكن التَّعْلِيق ثَابتا فِيهِ، أَو منع حكم الأَصْل إِذا كَانَ ثَابتا، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يتم الْقيَاس كَمَا تقدم. قَالَ الصفي الْهِنْدِيّ: وَخَالف الخلافيون فِي النَّوْعَيْنِ فَقَالُوا: يقبلان قَالَ ابْن مُفْلِح: " أصل الْقيَاس الْمركب لَيْسَ بِحجَّة عِنْد محققي الشَّافِعِيَّة، وَالْحَنَفِيَّة، وَأَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو الْخطاب، وَجوزهُ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ، وَجَمَاعَة من الطرديين، وَهُوَ كثير فِي كَلَام القَاضِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3171 وَغَيره من أَصْحَابنَا ". وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": يجوز جعل وصف مركب عِلّة، وَهُوَ أولى من أصل مركب، نَحْو: الْحلِيّ لَا زَكَاة فِيهِ لصغير، فَكَذَا كَبِير كجوهر، لَكِن يقف صِحَة كَونه حجَّة على دَلِيل لغيره، وَهل تجب مُسَاوَاة كَبِير وصغير فِي زَكَاة؟ انْتهى. قَوْله: {وَقَالَ جمع: لَو سلم الْعلَّة فَأثْبت الْمُسْتَدلّ وجودهَا، أَو سلمه انتهض الدَّلِيل، قَالَه ابْن الْحَاجِب، وَجَمَاعَة كَثِيرَة} . أَي: لَو سلم الْخصم الْعلَّة للمستدل أَنَّهَا مَا ذكر، فَأثْبت الْمُسْتَدلّ وجودهَا حَيْثُ اخْتلفُوا فِيهِ، أَو سلمه، أَي: سلم وجودهَا المناظر، انتهض الدَّلِيل عَلَيْهِ لتسليمه فِي الثَّانِي وَقيام الدَّلِيل عَلَيْهِ فِي الأول. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " نعم إِذا سلم الْخصم الْعلَّة فَأثْبت الْمُسْتَدلّ فِي الْقسم الثَّانِي أَنَّهَا مَوْجُودَة فِي الأَصْل، أَو سلم أَن الْعلَّة الَّتِي عينهَا الْمُسْتَدلّ فِي الأول هِيَ الْعلَّة، وَأَنَّهَا مَوْجُودَة فِي الْفَرْع انتهض الدَّلِيل عَلَيْهِ، فَيُصْبِح الْقيَاس لاعتراف الْخصم بالمقتضي لصِحَّته، وَذَلِكَ كَمَا لَو كَانَ مُجْتَهدا، اَوْ غلب على ظَنّه صِحَة الْقيَاس، فَإِنَّهُ لَا يكابر نَفسه فِيمَا أوجبه عَلَيْهِ ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3172 قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَجزم بَعضهم بِأَن الْمُقَلّد إِن سلم دَلِيل الْمُسْتَدلّ، أَو أثبت الْمُسْتَدلّ وجود الْعلَّة فِي الأَصْل فِي الثَّانِي، قَامَت الْحجَّة عِنْده لاعْتِرَافه كَمَا لَو كَانَ مُجْتَهدا " انْتهى. وَإِنَّمَا قلت: (وَقَالَ: جمع) ، لكَلَام ابْن مُفْلِح، فَإِنَّهُ ذكر أَولا كَلَام الشَّيْخ موفق الدّين / فِي " الرَّوْضَة "، وَكَلَام الْآمِدِيّ الَّذِي قدمْنَاهُ، ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك: " وَجزم بَعضهم بِكَذَا ". قَوْله: {وَلم يتَّفقَا، فَأثْبت الْمُسْتَدلّ حكمه بِنَصّ، ثمَّ أثبت الْعلَّة قبل ذَلِك بِإِجْمَاع} . مَا تقدم فِيمَا إِذا كَانَ حكم الأَصْل مُتَّفقا عَلَيْهِ بَينهمَا، إِمَّا بِالْإِجْمَاع مُطلقًا، أَو بَين الْخَصْمَيْنِ، فَإِذا لم يكن مجتمعاً عَلَيْهِ مُطلقًا، وَلَا بَين الْخَصْمَيْنِ، بل حاول إِثْبَات حكم الأَصْل بِنَصّ، ثمَّ أثبت الْعلَّة بطرِيق من طرقها من إِجْمَاع أَو نَص أَو سبر أَو إخالة، فَكَذَلِك يقبل مِنْهُ فِي الْأَصَح. وَقيل: لَا يقبل بل لَا بُد من إِجْمَاع إِمَّا مُطلقًا، أَو بَين الْخَصْمَيْنِ كَمَا ذكرنَا، وَذَلِكَ لضم نشر الْجِدَال. قَالَ ابْن مُفْلِح: " لَو أثبت الْمُسْتَدلّ حكم الأَصْل بِنَصّ، ثمَّ أثبت الْعلَّة بِأحد طرقها جَازَ، ونهض دَلِيله على الْخصم، زَاد بَعضهم: " الْمُجْتَهد " لجَوَاز اعْتِقَاد الْمُقَلّد دفع إِمَامه دَلِيل الْمُسْتَدلّ. انْتهى ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3173 مِثَاله أَن يَقُول فِي الْمُتَبَايعين إِذا كَانَت السّلْعَة تالفة: متبايعان تخالفاً، فيتحالفان، ويترادان، كَمَا لَو كَانَت السّلْعَة قَائِمَة لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ فليتحالفا وليترادا) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3174 بَيَان الْمُلَازمَة: أَن من يمْنَع ذَلِك يشْتَرط فِي حكم الأَصْل الْإِجْمَاع، إِنَّمَا قَالَ، لِئَلَّا يحصل الِانْتِقَال من مَطْلُوب إِلَى آخر وانتشار كَلَام يُوجب تسلسل الْبَحْث، وَيمْنَع من حُصُول مَقْصُود المناظرة، وَهَذَا لَا يخص بِحكم الأَصْل بل هُوَ ثَابت فِي كل مُقَدّمَة تقبل الْمَنْع. قَالَ القَاضِي عضد الدّين: " وَرُبمَا يفرق بِأَن هَذَا حكم شَرْعِي مثل الأول يَسْتَدْعِي مَا يستدعيه بِخِلَاف الْمُقدمَات الْأُخَر. قَالَ: وَبِالْجُمْلَةِ هَذِه اصْطِلَاحَات، وَلكُل نظر فِيمَا يصطلح عَلَيْهِ لَا يُمكن المشاحة فِيهِ ". قَوْله: {وَيُقَاس على عَام خص كاللائط، وَمن أَتَى بَهِيمَة على الزَّانِي فِي الْأَصَح} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3175 قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَيجوز الْقيَاس على عَام خص كاللائط، وَمن أَتَى بَهِيمَة على الزَّانِي. قَالَ ابْن عقيل: هُوَ الْأَصَح لنا وللشافعية. وَقيل: لَا، لضعف مَعْنَاهُ للْخلاف فِيهِ " انْتهى. وَقد تقدم أَن من شَرط حكم الأَصْل أَن يكون شَرْعِيًّا، وزدنا / تبعا ل " جمع الْجَوَامِع ": إِن استلحق شَرْعِيًّا، احْتِرَاز من الْقيَاس فِي اللُّغَات والعقليات، مَعَ أَن الْقيَاس فِي اللُّغَات صَحِيح يتَوَصَّل بِهِ إِلَى حكم شَرْعِي، كقياس تَسْمِيَة اللائط زَانيا، والنباش سَارِقا، والنبيذ خمرًا، ليثبت الْحَد، وَالْقطع، وَالتَّحْرِيم. لَكِن هَذِه الْمَسْأَلَة تَأتي بِعَينهَا فِي كلامنا فِي شُرُوط الْعلَّة. أَو لغوياً فِي الْأَصَح، فَإنَّا تابعنا هُنَا ابْن مُفْلِح، وتابعنا [هُنَاكَ] صَاحب " جمع الْجَوَامِع " فَحصل التّكْرَار، إِلَّا أَن يُقَال هَذِه لَيست تِلْكَ فَتحَرَّر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3176 قَوْله: {فصل} {تقدّمت الْعلَّة وَهِي: الْعَلامَة والمعرف عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، لَا الْمُؤثر فِيهِ، [وَقَالَت] الْمُعْتَزلَة: الْمُؤثر بِذَاتِهِ، وَالْغَزالِيّ وسليم، والهندي: بِإِذن الله تَعَالَى، والرازي: بِالْعرْفِ، والآمدي وَمن تبعه الْبَاعِث} . الْعلَّة من أَرْكَان الْقيَاس كَمَا تقدم، وَتَقَدَّمت أَحْكَامهَا فِي خطاب الْوَضع مستوفاة بأقسامها. وَأما تَعْرِيفهَا فَهِيَ وصف ظَاهر منضبط معرف للْحكم. فَخرج بِقَيْد (الظُّهُور) : الْخَفي كالبخر فِي الْأسد. (وبالانضباط) المُرَاد بِهِ: تميز الشَّيْء عَن غَيره: مَا هُوَ منتشر لَا ضَابِط لَهُ كالمشقة، فَلذَلِك لَا يُعلل إِلَّا بِوَصْف منضبط يشْتَمل عَلَيْهَا. وبقولنا: (معرف للْحكم) : مَا يعرف نقيضه وَهُوَ الْمَانِع، أَو مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْمُعَرّف، وَهُوَ الشَّرْط، كَمَا سبق تَقْرِير ذَلِك فِي تَقْسِيم الحكم الوضعي إِلَى: سَبَب، وَشرط، ومانع. فتقييد الْوَصْف الظَّاهِر المنضبط بِكَوْنِهِ (مُعَرفا) وحكاية الْخلاف فِيهِ، فقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3177 فأصحابنا وَالْأَكْثَر بل هُوَ قَول أهل السّنة: أَن الْعلَّة هِيَ الْمعرفَة للْحكم لَا مُؤثر، لِأَن الحكم قديم فَلَا مُؤثر لَهُ، فَإِن أُرِيد تعلق الحكم بالمكلف فَهُوَ بِإِرَادَة الله - تَعَالَى -، لَا بتأثير شَيْء من الْعَالم. وَمعنى كَونهَا (معرفَة) : أَنَّهَا نصبت أَمارَة وعلامة ليستدل بهَا الْمُجْتَهد على وجدان الحكم إِذا لم يكن عَارِفًا بِهِ. وَيجوز أَن يتَخَلَّف، كالغيم الرطب أَمارَة على الْمَطَر، وَقد يتَخَلَّف، وَهَذَا لَا يخرج الأمارة عَن كَونهَا أَمارَة. وَالْقَوْل الثَّانِي وَبِه قَالَت الْمُعْتَزلَة: إِن الْعلَّة مُؤثرَة / فِي الحكم بِنَاء على قاعدتهم فِي التحسين والتقبيح العقليين. ثمَّ قَالَ بَعضهم: إِنَّهَا أثرت بذاتها. وَقَالَ بَعضهم: بِصفة ذاتية فِيهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3178 وَقَالَ بَعضهم: بِوُجُوه واعتبارات. وَقد تقدم ذَلِك محرراً فِي أول الْأَحْكَام فِي الْمَتْن، وَالشَّرْح. وَلَيْسَ عِنْد أهل السّنة شَيْء من الْعَالم مؤثراً فِي شَيْء، بل كل مَوْجُود فِيهِ فَهُوَ بِخلق الله تَعَالَى وإرادته. القَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا مُؤثرَة لَا بذاتها وَلَا بِصفة ذاتية فِيهَا وَلَا غير ذَلِك، بل بِجعْل الشَّارِع إِيَّاهَا مُؤثرَة، وَهُوَ قَول الْغَزالِيّ، وسليم الرَّازِيّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3179 قَالَ الْهِنْدِيّ: وَهُوَ قريب لَا بَأْس بِهِ. ورده الْفَخر الرَّازِيّ: بِأَن الحكم قديم، فَلَا يتَصَوَّر أَن يُؤثر فِيهِ شَيْء. وَأَيْضًا: فَإِذا وجد الْمَعْلُول فإمَّا أَن يكون موجده الله تَعَالَى، أَو تِلْكَ الْعلَّة، أَو هما، والأخيران باطلان، لما يلْزم أَن غير الله خَالق. أَو أَن لَهُ شَرِيكا فِي خلقه، وَذَلِكَ محَال، فَتعين الأول. القَوْل الرَّابِع: أَنا مُؤثرَة بِالْعرْفِ، وَبِه قَالَ الْفَخر الرَّازِيّ فِي " الرسَالَة " القَوْل الْخَامِس: وَبِه قَالَ الْآمِدِيّ وَمن تبعه كَابْن الْحَاجِب وَغَيره: أَنَّهَا الْبَاعِث، أَي: على التشريع، بِمَعْنى اشْتِمَال الْوَصْف على مصلحَة صَالِحَة أَن يكون الْمَقْصُود للشارع من شرع الحكم، وَهُوَ مَبْنِيّ على جَوَاز تَعْلِيل أَفعَال الْبَارِي - تَعَالَى - بالغرض. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3180 فارغة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3181 قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: " وَهُوَ محكي عَن الْفُقَهَاء، والمنصور عِنْد الأشاعرة خِلَافه، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يَبْعَثهُ شَيْء على شَيْء ". قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " فِي أول [مَسْأَلَة] التحسين والتقبيح: " وَمن أهل السّنة من يُسَمِّي الْحِكْمَة غَرضا، حَتَّى من الْمُفَسّرين كَالثَّعْلَبِيِّ، كَقَوْل الْمُعْتَزلَة. وَمِنْهُم من لَا يُطلقهُ، لِأَنَّهُ يُوهم الْمَقْصُود الْفَاسِد ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3182 وَتقدم الْكَلَام عَلَيْهِ هُنَاكَ بأبسط من هَذَا. وَفسّر الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب بتفسير حسن فَليُرَاجع. فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهمَا: سبق أَن الْعلَّة قسم من السَّبَب، فالسبب أَعم مِنْهَا، فَإِنَّهَا تعْتَبر فِيهَا الْمُنَاسبَة، وَالسَّبَب أَعم من ذَلِك فقد يكون زَمَانا / ومكاناً وَغير ذَلِك، وَيفرق بَينهمَا فِي اللُّغَة، وَالْكَلَام، وَالْأُصُول، وَالْفِقْه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3183 فَأَما اللُّغَة: فالسبب مَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى غَيره وَلَو بوسائط، كتسمية الْحَبل سَببا، وَذكروا لِلْعِلَّةِ مَعَاني يَدُور الْأَمر الْمُشْتَرك فِيهَا على أَن يكون أمرا مستمراً، وَلِهَذَا يَقُول أَكثر النُّحَاة: اللَّام للتَّعْلِيل، وَالْبَاء للسَّبَبِيَّة وَالتَّعْلِيل فغاير بَينهمَا. وَأما الْكَلَام: فالسبب: مَا يحصل الشي عِنْده لَا بِهِ، وَالْعلَّة مَا يحصل بِهِ، وَأَيْضًا الْعلَّة: مَا يتأثر بهَا الْمَعْلُول بِلَا وَاسِطَة وَلَا شَرط، وَالسَّبَب: مَا يُفْضِي للْحكم بِوَاسِطَة وبشرط، وَلذَلِك يتراخى حَتَّى تُوجد وسائطه وَشَرطه وتنتفي موانعه. وَأما فِي الْأُصُول: فَقَالَ الْآمِدِيّ فِي " جدله ": الْعلَّة: مَا تكون للمظنة وللحكمة. [وَأما السَّبَب فللمظنة دَائِما، إِذْ بالمظنة يتَوَصَّل إِلَى الحكم لأجل الْحِكْمَة] ، وَأما فِي [الْفِقْه] فَذكر لَهُ مسَائِل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3184 الثَّانِيَة: قد يعبر عَن الْعلَّة بِأَلْفَاظ ذكرهَا المقترح: السَّبَب: الأمارة، الدَّاعِي، المستدعي، الْحَامِل، المناط، الدَّلِيل، الْمُقْتَضِي، الْمُوجب الْمُؤثر. وَزَاد غَيره: الْمَعْنى، وكل ذَلِك اصْطِلَاح سهل. قَوْله: (وَلها شُرُوط مِنْهَا: أَن تكون مُشْتَمِلَة على حِكْمَة مَقْصُودَة للشارع عِنْد الْأَكْثَر، وَقَالَ مُعظم الْأَصْحَاب هِيَ مُجَرّد أَمارَة وعلامة نصبها الشَّارِع دَلِيلا على الحكم، زَاد ابْن عقيل وَغَيره مَعَ أَنَّهَا مُوجبَة لمصَالح دافعة لمفاسد لَيست من جنس الأمارة الساذجة) . مَا تقدم شُرُوط حكم الأَصْل، وَهَذِه شُرُوط عِلّة الأَصْل، ونعني بِهِ: مَا يُعلل بِهِ الحكم فِي الأَصْل. وَاشْترط الْأَكْثَر: أَن تكون مُشْتَمِلَة على حِكْمَة مَقْصُودَة للشارع من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3185 شرع الحكم من تَحْصِيل مصلحَة أَو تكميلها، أَو دفع مفْسدَة أَو تقليلها، لَكِن على معنى أَنَّهَا تبْعَث الْمُكَلف على الِامْتِثَال لَا أَنَّهَا باعثة للشَّرْع على ذَلِك الحكم. أَو أَنه على [وفْق] مَا جعله اللَّهِ - تَعَالَى - مصلحَة للْعَبد تفضلا عَلَيْهِ وإحسانا لَهُ لَا وجوبا على اللَّهِ تَعَالَى. فَفِي ذَلِك بَيَان قَول الْفُقَهَاء: الْبَاعِث على الحكم / بِكَذَا هُوَ كَذَا. وَأَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ بعث الشَّارِع بل بعث الْمُكَلف على الِامْتِثَال. مثل: حفظ النَّفس باعث على تعَاطِي فعل الْقصاص الَّذِي هُوَ من فعل الْمُكَلف، أما حكم الشَّرْع فَلَا عِلّة وَلَا باعث عَلَيْهِ، فَإِذا انْقَادَ الْمُكَلف لَا متثال أَمر اللَّهِ فِي أَخذ الْقصاص مِنْهُ وَكَونه وَسِيلَة لحفظ النُّفُوس كَانَ لَهُ أَجْرَانِ: أجر على الانقياد، وَأجر على قصد حفظ النَّفس، وَكِلَاهُمَا أَمر اللَّهِ، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم الْقصاص} [الْبَقَرَة: 178] ، {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة} [الْبَقَرَة: 179] . وَمن أجل كَون الْعلَّة لابد من اشتمالها على حِكْمَة تَدْعُو إِلَى الِامْتِثَال، كَانَ مانعها وَصفا وجوديا يخل بحكمتها، وَيُسمى: مَانع السَّبَب، فَإِن لم يخل بحكمتها بل بالحكم فَقَط وَالْحكمَة بَاقِيَة، سمي: مَانع الحكم، وَقد تقدم ذَلِك فِي خطاب الْوَضع. مِثَال الْمَقْصُود هُنَا وَهُوَ مَانع السَّبَب: الدّين، إِذا قُلْنَا إِنَّه مَانع لوُجُوب الزَّكَاة؛ لن حكمته السَّبَب، وَهُوَ ملك النّصاب، غنى مَالِكه، فَإِذا كَانَ مُحْتَاجا إِلَيْهِ لوفاء الدّين فَلَا غنى، فاختلت حِكْمَة السَّبَب بِهَذَا الْمَانِع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3186 وَقَالَ أَصْحَابنَا: الْعلَّة مُجَرّد أَمارَة وعلامة نصبها الشَّارِع دَلِيلا على الحكم. زَاد ابْن عقيل وَغَيره: مَعَ أَنَّهَا مُوجبَة لمصَالح ودافعة لمفاسد لَيْسَ من جنس الأمارة الْفَاسِدَة. قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ الأول؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي الأمارة سوى تَعْرِيف الحكم، وَقد عرف بِالْخِطَابِ، وَلِأَنَّهَا معرفَة لحكم الأَصْل، فَهُوَ فرعها وَهِي مستنبطة مِنْهُ، فَهِيَ فَرعه فَيلْزم الدّور. وَفِيه نظر لجَوَاز كَون فائدتها تَعْرِيف حكم الْفَرْع. فَإِن قيل: يلْزم مِنْهُ تَعْرِيفهَا لحكم الأَصْل، وَإِلَّا لم يكن للْأَصْل مدْخل فِي الْفَرْع لعدم توقف ثُبُوت الْوَصْف فِيهِ وتعريفه لحكمه على حكم الأَصْل لعدم تَعْرِيفه لحكم الأَصْل. قيل: إِلَّا أَن الْوَصْف مُسْتَفَاد من الأَصْل " انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3187 قَوْله: (وَبنى عَلَيْهَا الْأَصْحَاب: صِحَة / التَّعْلِيل باللقب، وَنَصّ عَلَيْهِ، وَقَالَهُ الْأَكْثَر كالمشتق اتِّفَاقًا، وَمنعه الرَّازِيّ وَغَيره كوجه لنا) . قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَبنى الْأَصْحَاب على قَوْلهم صِحَة التَّعْلِيل بِالِاسْمِ وَأَنه ظَاهر قَول أَحْمد: " يجوز الْوضُوء بِمَاء الباقلاء والحمص لِأَنَّهُ مَاء ". وَعلل الشَّافِعِيَّة أَيْضا بِمثل ذَلِك، وَقَول أَكثر الْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة. وَذكره الْجِرْجَانِيّ، والإسفرييني عَن أصحابهما. وَذكر ابْن برهَان الْجَوَاز عِنْدهم، قَالَ: وَقَالَ أَبُو حنيفَة لَا يجوز. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3188 وَقَالَ ابْن الْبَنَّا من أَصْحَابنَا: اخْتلف فِي التَّعْلِيل بِالِاسْمِ اللقب على وَجْهَيْن: قَالَ: ومذهبنا جَوَازه نَص عَلَيْهِ أَحْمد، كَمَا لَو نَص عَلَيْهِ الشَّارِع بقوله: حرمت التَّفَاضُل فِي الْبر لكَونه برا فَإِنَّهُ اتِّفَاق، وَلَيْسَت مُوجبَة بِخِلَاف الْعلَّة الْعَقْلِيَّة. قَالَ ابْن عقيل وَغَيره: الْعقُوبَة لما لم يجز كَونهَا معللة بِإِحْسَان المحسن، لم يجز وُرُود الشَّرْع بهَا " انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " التَّعْلِيل بِالِاسْمِ اللقب وَالْمرَاد بِهِ مَا لَيْسَ بمشتق، لَا الَّذِي هُوَ أحد أَقسَام الْعلم فَقَط، كَمَا عبر فِي المفاهيم بِمَفْهُوم اللقب، وَالْمرَاد بِهِ الْأَعَمّ من الْعلم وَاسم الْجِنْس الْجَامِع. وَمِثَال التَّعْلِيل باللقب: تَعْلِيل الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ بكونهما ذَهَبا وَفِضة، وتعليل مَا يتَيَمَّم بِهِ بِكَوْنِهِ تُرَابا، وَمَا يتَوَضَّأ بِهِ بِكَوْنِهِ مَاء ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3189 وَالْقَوْل الثَّانِي: الْمَنْع من التَّعْلِيل باللقب، اخْتَارَهُ الرَّازِيّ بل نقل الِاتِّفَاق عَلَيْهِ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَوَقع فِي " الْمَحْصُول " حِكَايَة الِاتِّفَاق على أَنه لَا يجوز التَّعْلِيل بِالِاسْمِ، كتعليل تَحْرِيم الْخمر بِأَنَّهُ يُسمى خمرًا، قَالَ: فَإنَّا نعلم بِالضَّرُورَةِ أَن هَذَا اللَّفْظ لَا أثر لَهُ، فَإِن أُرِيد بِهِ تَعْلِيل الْمُسَمّى هَذَا الِاسْم من كَونه مخامرا لِلْعَقْلِ، فَذَلِك تَعْلِيل بِالْوَصْفِ لَا بِالِاسْمِ، فَيصير مَا قَالَه طَريقَة أُخْرَى لعدم الْخلاف وَالْقطع بِالْمَنْعِ، لَكِن الْأَصَح الْجَوَاز كَيفَ فرض الْخلاف، وَقد وَقع للشَّافِعِيّ وَغَيره التَّعْلِيل بذلك) كَالْإِمَامِ. / وَقَوْلنَا: [كالمشتق اتِّفَاقًا] . حَكَاهُ فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَذَلِكَ كاسم الْفَاعِل وَالْمَفْعُول وَالصّفة المشبهة وَنَحْو ذَلِك، فَهُوَ جَائِز على معنى أَن الْمَعْنى الْمُشْتَقّ ذَلِك مِنْهُ هُوَ عِلّة الحكم نَحْو {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] ، {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3190 " مطل الْغَنِيّ ظلم "، وَغير ذَلِك مِمَّا لَا ينْحَصر. قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَفِي مَعْنَاهُ الْمَوْصُول فَإِن صلته تكون عِلّة للْحكم سَوَاء كَانَت صلته فِيهَا مُشْتَقّ كالفعل وَنَحْوه أم لَا. قَالَ: وَحكى بَعضهم فِيهِ الِاتِّفَاق وَفِيه نظر: فَإِن سليما فِي " التَّقْرِيب " حكى قولا بِمَنْع التَّعْلِيل فِي الِاسْم مُطلقًا جَامِدا كَانَ أَو مشتقا) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3191 قَوْله: (وَقد تكون دافعة، أَو رَافِعَة، أَو فاعلة للأمرين، [وَتَكون] وَصفا حَقِيقِيًّا ظَاهرا منضبطا، أَو عرفيا مطردا، أَو لغويا فِي الْأَصَح) . الْوَصْف المجعول عِلّة ثَلَاثَة أَقسَام، فَإِنَّهُ تَارَة يكون دافعا لَا رَافعا، وَيكون رَافعا لَا دافعا، وَيكون دافعا رَافعا، وَله أَمْثِلَة كَثِيرَة. فَمن الأول: الْعدة فَإِنَّهَا دافعة للنِّكَاح إِذا وجدت فِي ابْتِدَائه لَا رَافِعَة لَهُ إِذا طرأت فِي أثْنَاء النِّكَاح، فَإِن الْمَوْطُوءَة بِشُبْهَة تَعْتَد وَهِي بَاقِيَة على الزَّوْجِيَّة. وَمن الثَّانِي: الطَّلَاق فَإِنَّهُ يرفع حل الِاسْتِمْتَاع وَلَا يَدْفَعهُ؛ لِأَن الطَّلَاق إِلَى استمراره لَا يمْنَع وُقُوع نِكَاح جَدِيد بِشَرْطِهِ. وَمن الثَّالِث الرَّضَاع فَإِنَّهُ يمْنَع من ابْتِدَاء النِّكَاح، وَإِذا طَرَأَ فِي أثْنَاء الْعِصْمَة رَفعهَا، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا وَشبهه من مَوَانِع النِّكَاح يمْنَع من الِابْتِدَاء والدوام لتأبده واعتضاده؛ لِأَن الأَصْل فِي الِارْتفَاع: الْحُرْمَة. وَتَكون الْعلَّة أَيْضا وَصفا حَقِيقِيًّا وَهُوَ مَا تعقل بِاعْتِبَار نَفسه، وَلَا يتَوَقَّف على وضع، كَقَوْلِنَا: مطعوم فَيكون ربويا، فالطعم مدرك بالحس، وَهُوَ أَمر حَقِيقِيّ، أَي: لَا تتَوَقَّف معقوليته على معقوليةغيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3192 وَيعْتَبر أَمْرَانِ: أحداهما: أَن يكون ظَاهرا لَا خفِيا. الثَّانِي: أَن يكون / منضبطا أَي: يتَمَيَّز عَن غَيره. وَلَا خلاف فِي التَّعْلِيل بِهِ. وَتَكون الْعلَّة أَيْضا وَصفا عرفيا وَيشْتَرط فِيهِ أَن يكون مطردا لَا يخْتَلف بِحَسب الْأَوْقَات، وَإِلَّا لجَاز أَن يكون ذَلِك الْعرف فِي زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دون غَيره، فَلَا يُعلل بِهِ. مِثَاله: الشّرف والخسة فِي [الْكَفَاءَة] وَعدمهَا، فَإِن الشّرف يُنَاسب التَّعْظِيم وَالْإِكْرَام، والخسة تناسب ضد ذَلِك فيعلل بِهِ بِالشّرطِ الْمُتَقَدّم. وَتَكون الْعلَّة أَيْضا وَصفا لغويا، مِثَاله: تَعْلِيل تَحْرِيم النَّبِيذ لِأَنَّهُ يُسمى خمرًا فَحرم كعصير الْعِنَب. وَفِي التَّعْلِيل بِهِ خلاف، وَالصَّحِيح صِحَة التَّعْلِيل بِهِ. قطع بِهِ ابْن الْبَنَّا فِي " الْعُقُود والخصال " قَالَ كَقَوْلِنَا فِي النباش: هُوَ سَارِق فَيقطع، وَفِي النَّبِيذ خمر فَيحرم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3193 وَصَححهُ غَيره من الْعلمَاء. قَالَ الْمحلي: بِنَاء على ثُبُوت اللُّغَة بِالْقِيَاسِ، وَمُقَابل الْأَصَح قَول بِأَنَّهُ لَا يُعلل الحكم الشَّرْعِيّ بِالْأَمر اللّغَوِيّ. [وَلَعَلَّ] هَذِه الْمَسْأَلَة هِيَ الَّتِي تقدّمت قَرِيبا قبيل أَحْكَام الْعلَّة فَينْظر فِيهَا وَيُحَرر لاحْتِمَال التّكْرَار. قَوْله: [فَلَا يَصح التَّعْلِيل بحكمة مُجَرّدَة عَن وصف ضَابِط لَهَا عِنْد ابْن حمدَان وَابْن قَاضِي الْجَبَل وَالْأَكْثَر، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا والرازي والبيضاوي: يَصح، و [قَالَ] بعض أَصْحَابنَا والمالكية والآمدي وَغَيرهم: يَصح بحكمة ظَاهِرَة منضبطة وَإِلَّا فَلَا] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3194 مَا سبق هُوَ الْوَصْف الْمُشْتَمل على الْحِكْمَة، أما نفس الْحِكْمَة فَهَل يجوز التَّعْلِيل بهَا أم لَا؟ وَهِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وفيهَا ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه لَا يَصح التَّعْلِيل بهَا مُطلقًا لخفائها كالرضى فِي البيع، وَلذَلِك أنيطت صِحَة البيع بالصيغ الدَّالَّة عَلَيْهِ، وَلعدم انضباطها كالمشقة؛ فَلذَلِك أنيطت بِالسَّفرِ. اخْتَارَهُ ابْن حمدَان وَابْن قَاضِي الْجَبَل من أَصْحَابنَا. قَالَ الْآمِدِيّ: مَنعه الْأَكْثَر. وَظَاهر الْكَلَام " جمع الْجَوَامِع ": تَرْجِيحه وَالْقَوْل الثَّانِي: يجوز التَّعْلِيل بهَا مُطلقًا؛ لِأَنَّهَا الْمَقْصُود فِي التَّعْلِيل، وَهَذَا / اخْتِيَار بعض أَصْحَابنَا، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَالْفَخْر الرَّازِيّ، والبيضاوي. وَالْقَوْل الثَّالِث وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، والمالكية، وَصَححهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3195 ابْن الْحَاجِب، وَاخْتَارَهُ الْهِنْدِيّ، والبرماوي: التَّفْصِيل بَين أَن تكون الْحِكْمَة أَي الْمصلحَة الْمَقْصُودَة لشرع الحكم ظَاهِرَة منضبطة فَيجوز التَّعْلِيل بهَا، وَبَين أَلا تكون كَذَلِك فَيمْتَنع. وَوجه ذَلِك: أَنا نعلم أَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَة للشارع، وَإِنَّمَا عدل عَن اعْتِبَارهَا لخفائها واضطرابها فِي الْأَغْلَب، فَإِذا زَالَ هَذَا الْمَانِع لظهورها وانضباطها صَحَّ أَن يُعلل بهَا. قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: " وَجه الأول وَهُوَ الْمَنْع: رد الشَّارِع فِي ذَلِك إِلَى المظان الظَّاهِرَة دفعا للعسر وَاخْتِلَاف الْأَحْكَام؛ وَلِهَذَا لم يرخص للحمال وَنَحْوه للْمَشَقَّة. وَلِأَنَّهُ يكون الْوَصْف الظَّاهِر المنضبط عديم التَّأْثِير اسْتغْنَاء بِأَصْل الْحِكْمَة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3196 وَلِأَن فِيهِ حرجا بالبحث عَنْهَا فتنتفي بقوله تَعَالَى: {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} [الْحَج: 78] . ورد: بِأَنَّهُ يلْزم فِي الْوَصْف للُزُوم مَعْرفَتهَا فِي جعله عِلّة. بل الْمَشَقَّة أَكثر، والإطلاع على الْوَصْف أسهل فَلَا يمْنَع مِنْهُ الْمَنْع. وَأجِيب: يعْتَبر معرفَة كميتها وخصوصيتها؛ لِئَلَّا يخْتَلف الأَصْل وَالْفرع فِيهَا وَلَا يُمكن، بِخِلَافِهِ فِي الْوَصْف، لذا قيل: وَيلْزم من كَونه أسهل تَأْخِير الحكم لَو علل بهَا وَهُوَ مُمْتَنع. وَوجه الثَّالِث: أَنَّهَا مَعَ ظُهُورهَا وانضباطها كالوصف أَو أولى؛ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودَة من شرع الحكم كَمَا تقدم فِي تَعْلِيله. ورد: لَا يُمكن ذَلِك لرجوعها إِلَى الْحَاجة إِلَى الْمصلحَة وَدفع الْمفْسدَة، وَهِي مُخْتَلفَة، ثمَّ نَادِر، وَفِيه حرج فَيَنْتَفِي بِالْآيَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3197 أُجِيب: الْفَرْض أَنَّهَا [ظَاهِرَة] منضبطة فَلَا مَحْذُور فِيهِ وَفِيه نظر " انْتهى. قَوْله: [ويعلل الثبوتي بِالْعدمِ عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَقَالَهُ الشَّيْخ فِي قِيَاس الدّلَالَة، وَمنعه الْحَنَفِيَّة والآمدي وَغَيرهم] . يَصح تَعْلِيل / الحكم الثبوتي بِالْعدمِ عِنْد أَصْحَابنَا، والرازي، وَأَتْبَاعه، وَذكره ابْن برهَان عَن الشَّافِعِيَّة. وَالْمَنْع عَن الْحَنَفِيَّة، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهمَا. وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ فِي " المعالم ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3198 وَلم يذكرهُ فِي " التَّمْهِيد " إِلَّا عَن بعض الشَّافِعِيَّة. وَاسْتثنى بعض الْحَنَفِيَّة مثل قَول مُحَمَّد بن الْحسن فِي ولد الْمَغْصُوب: لم يغصب، وَفِيمَا لَا خمس فِيهِ من اللُّؤْلُؤ، لم يوجف عَلَيْهِ بخيل وَلَا ركاب. اسْتدلَّ للْأولِ وَهُوَ الصَّحِيح: بِأَنَّهُ كنص الشَّارِع عَلَيْهِ. وكالأحكام تكون نفيا. وكالعلة الْعَقْلِيَّة مَعَ أَنَّهَا مُوجبَة. وكتعليل الْعَدَم بِهِ ذكره بَعضهم اتِّفَاقًا، نَحْو: لم أفعل لعدم الدَّاعِي إِلَيْهِ، وَلم أسلم على فلَان لعدم رُؤْيَته؛ لِأَن نفي الحكم لنفي مقتضيه أَكثر من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3199 نَفْيه لوُجُود منافيه، وَلِأَنَّهُ يَصح تَعْلِيل ضربه لعَبْدِهِ بِعَدَمِ امتثاله. وَلِأَن الْعلَّة أَمارَة فالعدمية تعرف الحكم كالوجودية، وَإِن اعْتبر الْبَاعِث فالعدم الْمُقَابل للوصف الوجودي الظَّاهِر المنضبط الْمُشْتَمل على مصلحَة أَو دفع مفْسدَة مُشْتَمل على نقيض مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ، فَإِن اشْتَمَل الوجودي على مصلحَة فَعدم عدمهَا وَهُوَ مُشْتَقّ، وَإِلَّا فَعدم الْمفْسدَة مصلحَة وَهُوَ مَقْدُور على الْمُكَلف، فَيصح التَّعْلِيل بِهِ كالوجودي. وَقد نجيب عَن الأول وَالثَّانِي وَالثَّالِث: بالمطالبة بِصِحَّة الْقيَاس، وبالمانع، أَو بِالْمَنْعِ. وَأجَاب الْآمِدِيّ عَن الرَّابِع: بِأَن وجود الْعلَّة والداعي شَرط لَا عِلّة، وأضيف عدم الْأَثر إِلَيْهِ بلام التَّعْلِيل مجَاز، لافتقار الْأَمر إِلَى كل مِنْهُمَا جمعا بَين الْأَدِلَّة. وَعَن الْخَامِس: بِأَن تَعْلِيله بامتناعه وكف نَفسه عَنهُ وَهُوَ ثبوتي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3200 وَعَن السَّادِس: بِأَنَّهُ تَعْلِيل بالإعدام الْمَقْدُور وَهُوَ جودي، لَا عدم مَحْض لَا قدرَة للمكلف عَلَيْهِ وَلَيْسَ مَحل النزاع، كَذَا قَالَ. وَخَالفهُ ابْن الْحَاجِب فاحتج بِهِ للْمَنْع فَقَالَ: لَو كَانَ عدما لَكَانَ مناسبا [أَو مظنته] ، وَتَقْرِير الثَّانِيَة أَن الْعَدَم إِن كَانَ مُطلقًا فَبَاطِل؛ لِأَنَّهُ لَا يخْتَص بِبَعْض الْأَحْكَام الثبوتية، وَإِن كَانَ / مُخَصّصا بِأَمْر أَي مُضَافا إِلَيْهِ، فَإِن كَانَ وجوده منشأ مصلحَة فَبَاطِل؛ لِأَن عَدمه عدمهَا، وَإِن كَانَ منشأ مفْسدَة فمانع وَعدم الْمَانِع لَيْسَ عِلّة، زَاد بَعضهم اتِّفَاقًا، وَإِن كَانَ وجوده يُنَافِي وجود الْمُنَاسب للْحكم الثبوتي لم يصلح عَدمه مَظَنَّة وَإِلَّا لنقيضها الْمُنَاسب؛ لِأَن الْمُنَاسب إِن كَانَ ظَاهرا فَهُوَ عِلّة بِلَا مَظَنَّة وَإِلَّا لَا جتمع عِلَّتَانِ على مَعْلُول وَاحِد، وَإِن كَانَ خفِيا فنقيضه الْأَمر الْعَدَم خَفِي والخفي لَيْسَ مَظَنَّة للخفي وَإِن لم يناف وجوده وجود الْمُنَاسبَة فوجوده كَعَدَمِهِ فَلَيْسَ مناسبا وَإِلَّا مَظَنَّة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3201 وَجَوَابه: بِمَنْع الْمُقدمَة الأولى، وَبِأَن الْمُنَاسب هُوَ الظَّاهِر المنضبط، فَكيف يَقُول: فَإِن كَانَ خفِيا، وَلَا يلْزم من خَفَاء أحد المتقابلين خَفَاء الآخر، وَإِنَّمَا يلْزم فِي المتضايفين يلْزم من تصور أَحدهمَا تصور الآخر. فَإِن ادّعى أَنه المُرَاد بَطل قَوْله: وَإِن لم يكن فوجوده كَعَدَمِهِ، وَقد جعل فِي الدَّلِيل النَّافِي للمناسب قسما لما هُوَ منشأ مفْسدَة وَهُوَ مِنْهُ. قَالُوا: لَا عِلّة عدم، فنقيضه وجود، فَلَو كَانَ الْعَدَم عِلّة اتّصف بالوجودي. رد: سبق مثله فِي التحسين. قَالُوا: فَيلْزم سبر الأعدام. أجَاب بعض أَصْحَابنَا: يلْزم، ثمَّ لعدم تناهيها لَا لعدم صلاحيتها عِلّة. وَجزم بِهِ بَعضهم قَالُوا: الأعدام لَا تتَمَيَّز. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3202 رد: بِالْمَنْعِ لتميز عدم لَازم عَن عدم ملزوم، فعلى هَذَا لَا يكون الْعَدَم جُزْءا مِنْهَا، لما سبق. قَالُوا: انْتِفَاء مُعَارضَة المعجزة جُزْء من الْمُعَرّف بهَا، لِأَنَّهَا فعل خارق مَعَ التَّحَرِّي، وَنفي الْمعَارض والدوران جزؤه وَهُوَ الْعَكْس عدم. رد: شَرط لَا جُزْء. قَالَ بعض الْعلمَاء: الْعَدَم عِلّة فِي قِيَاس الدّلَالَة لَا قِيَاس الْعلَّة. ذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي قَاعِدَة لَهُ فِي التَّوْحِيد وَقَالَ ك هَذَا فصل الْخطاب، فَلَا يكون الْعَدَم عِلّة تَامَّة فِي قِيَاس الْعلَّة بل جُزْءا مِنْهَا. وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ شَارِح " جمع الْجَوَامِع ": " فِي ثُبُوت الْخلاف بَين الرَّازِيّ / والآمدي نظر لعدم تواردهما على مَحل وَاحِد، فَإِن الرَّازِيّ بناه على رَأْيه: أَن الْعلَّة بِمَعْنى الْمُعَرّف، وَهُوَ بِهَذَا التَّفْسِير لَا يَنْبَغِي أَن يَقع فِيهِ خلاف، إِذْ لَا امْتنَاع فِي أَن يكون الْمَعْدُوم عِلّة للموجود، والآمدي بناه على أَنَّهَا بِمَعْنى الْبَاعِث ". انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3203 قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ والبرماوي: على كل حَال الْخلاف بَينهمَا ثَابت وَلَو كَانَ مدركهما مُخْتَلف. وَقَالَ ابْن التلمساني: الْمَسْأَلَة مَبْنِيَّة على تَخْصِيص الْعلَّة، فَمن منع التَّخْصِيص جوز هُنَا، وَمن جوز التَّخْصِيص يَقُول: الْعلَّة ضَابِط الْمصلحَة وَهِي شَيْء، والعدم لَا شَيْء، فَكيف يُعلل بِهِ الشَّيْء. تَنْبِيه: يدْخل فِي الْخلاف مَا إِذا كَانَ الْعَدَم لَيْسَ تَمام الْعلَّة بل جُزْءا مِنْهَا، فَإِن العدمي أَعم من أَن يكون كلا أَو بَعْضًا. وَمن جملَة العدمي أَيْضا: إِذا كَانَ الْوَصْف إضافيا وَهُوَ مَا تعلقه بِاعْتِبَار غَيره كالبنوة، والأبوة، والتقدم، والتأخر، والمعية، والقبلية، والبعدية، فَفِيهِ الْخلاف، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّه عدمي؛ لِأَن وجوده إِنَّمَا هُوَ فِي الأذهان لَا فِي الْخَارِج، وَالصَّحِيح أَنه عدمي. قَوْله: (وَمِنْهَا أَن لَا تكون مَحل الحكم وَلَا جزءه الْخَاص عِنْد الْأَكْثَر، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3204 وَجوزهُ قوم، وَمنع الْآمِدِيّ الْمحل من الْعِلَل القاصرة) . مَحل الحكم: كَقَوْلِنَا: الذَّهَب رِبَوِيّ لكَونه ذَهَبا، وَالْخمر حرَام؛ لِأَنَّهُ مُسكر معتصر من الْعِنَب. وجزء الْمحل الْخَاص بِهِ: كالتعليل باعتصاره من الْعِنَب فَقَط. وَالْوَصْف اللَّازِم: كالتعدية فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة فَإِنَّهُ وصف لَازم لَهما. وَقَيَّدنَا الْجُزْء بالخاص تَحَرُّزًا من الْمُشْتَرك بَين الْمحل وَغَيره، فَإِن ذَلِك لَا يكون إِلَّا فِي النقدية كتعليل إِبَاحَة البيع بِكَوْنِهِ عقد مُعَاوضَة، فَإِن جزءه الْمُشْتَرك وَهُوَ عقده الَّذِي هُوَ شَامِل للمعاوضة وَغَيرهَا لَا يُعلل بِهِ. وَجعل الْهِنْدِيّ الْخلاف هُنَا مَبْنِيا على جَوَاز التَّعْلِيل بِالْعِلَّةِ القاصرة، فَمن منع هُنَاكَ منع هُنَا، وَمن أجَاز هُنَاكَ أجَاز هُنَا. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " لَكِن الْمُتَّجه أَنه من صور القاصرة، فَلَا حَاجَة لجعله مَبْنِيا عَلَيْهِ، فَإِن ذَلِك مشْعر بالمغايرة وَلَيْسَ كَذَلِك ". اسْتدلَّ للْأولِ: بِأَنَّهَا لَو كَانَت للمحل كَانَت قَاصِرَة؛ لِأَنَّهُ لَو تحقق بِخُصُوصِهِ فِي الْفَرْع اتحدا، وَكَذَا جزؤه، أطلقهُ بَعضهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3205 قَالَ / ابْن مُفْلِح: " وَلَعَلَّ مُرَاده الْخَاص بِهِ كَقَوْل بَعضهم قلت: صَرَّحُوا بِهِ كَمَا تقدم لِإِمْكَان وجود الْجُزْء الْمُشْتَرك فِي الْفَرْع، وَتجوز القاصرة لجَوَاز استلزام مَحل الحكم لحكمة دَاعِيَة إِلَيْهِ، زَاد الْآمِدِيّ: كاستلزام التَّعْلِيل بِهِ لاحْتِمَال عُمُومه للْأَصْل وَالْفرع. وَقَالَ بعض الْحَنَفِيَّة فِي القاصرة: نَحن منعناه مُطلقًا. وَأطلق بَعضهم: لَا يُعلل بِالْمحل؛ لِأَن الْقَائِل لَا يفعل. رد: بِالْمَنْعِ ثمَّ الْعلَّة الْمُعَرّف. قَوْله (وَلَا قَاصِرَة مستنبطة عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا وَالْحَنَفِيَّة، وَعنهُ: يَصح كمالك، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أصحابهما، وَأبي الْخطاب، وَالْمجد، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَغَيرهم كالثابتة بِنَصّ أَو إِجْمَاع فِي الْأَصَح) . الْعلَّة لَا تَخْلُو إِمَّا أَن تكون متعدية أَو قَاصِرَة، فَإِن كَانَت متعدية عمل بهَا، وَإِن كَانَت قَاصِرَة لَا تَخْلُو إِمَّا أَن تكون عليتها ثَابِتَة بِنَصّ أَو إِجْمَاع، اَوْ تكون مستنبطة. فَأَما الأول فأطبق الْعلمَاء كَافَّة على جَوَاز التَّعْلِيل بهَا، وَأَن الْخلاف إِنَّمَا هُوَ فِي المستنبطة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3206 وَأغْرب القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي فِي " الملخص " بحكاية قَول يمْنَع التَّعْلِيل بهَا مُطلقًا منصوصة كَانَت أَو مستنبطة. وَقَالَ: إِنَّه قَول أَكثر فُقَهَاء الْعرَاق. وَأما الثَّانِي وَهُوَ أَن تكون مستنبطة، فَاخْتلف الْعلمَاء فِيهَا على قَوْلَيْنِ هما رِوَايَتَانِ عَن الإِمَام أَحْمد. أَحدهمَا: أَنه لَا يُعلل بهَا وَعَلِيهِ أَكثر أَصْحَابنَا، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَأَبُو حنيفَة، وَأَصْحَابه، مِنْهُم الْكَرْخِي، وَبِه قَالَ أَبُو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3207 قَالَ ابْن مُفْلِح: " مَنعه أَبُو حنيفَة " وَأكْثر أَصْحَابه ". وَهُوَ وَجه لأَصْحَاب الشَّافِعِي. وَالْقَوْل الثَّانِي: يُعلل بهَا، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، مِنْهُم: مَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أصحابهما، وَأَبُو بكر الباقلاني، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَعبد الْجَبَّار، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، والرازي، وَأَتْبَاعه، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3208 والآمدي وَذكره عَن أَكثر الْفُقَهَاء والمتكلمين، وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة عَن أَحْمد، واختارها أَبُو الْخطاب، وَالْمجد، وَابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيرهم من أَصْحَابنَا. قَالَ الْمجد: ثَبت مذهبا لِأَحْمَد حَيْثُ علل الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ بالثمنية. اسْتدلَّ لصِحَّة التَّعْلِيل بهَا: بِحُصُول الظَّن بِأَن الحكم لأَجلهَا، وَلَا معنى للصِّحَّة سوى ذَلِك كالثابتة بِنَصّ أَو إِجْمَاع. ورده الْآمِدِيّ بتحققها إِذا وَبِأَنَّهُ / قِيَاس فِي الْأَسْبَاب. وَأجِيب: بِأَن الظَّن كَاف، وَهُوَ إِلْحَاق بِعَدَمِ الْفَارِق؛ وَلِأَن دوران الحكم مَعَ الْوَصْف الْقَاصِر عِلّة كالمتعدي. وَاسْتدلَّ: لَو وقفت صِحَّتهَا على تعديتها لم تنعكس للدور، وتنعكس اتِّفَاقًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3209 رد: إِنَّمَا يلْزم لَو كَانَ التَّوَقُّف مَشْرُوطًا بتقدم كل مِنْهُمَا على الآخر لَا فِي توقف الْمَعِيَّة كالمتضايفين. قَالُوا: لَو صحت لأفادت، وَالْحكم فِي الأَصْل بِنَصّ أَو إِجْمَاع وَلَا فرع لتصورها. رد: يلْزم فِي القاصرة بِنَصّ. وَبِأَن فَائِدَته معرفَة الْبَاعِث ليَكُون أسْرع قبولا. وَبِأَنَّهُ يمْتَنع لأَجلهَا تَعديَة الحكم إِلَى الْفَرْع، وَبِأَنَّهُ إِذا قدر فِي محلهَا وصف آخر مُتَعَذر اعْتبر دَلِيل لاستقلاله. وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد ": " وَرُبمَا حدث جنس يَجْعَل ثمنا فَتكون تِلْكَ علته ". وَقيل: ثَبت حكم الأَصْل بهَا، وَالنَّص أَو الْإِجْمَاع دَلِيل الدَّلِيل. ورد: ثَبت بِالنَّصِّ ثمَّ هِيَ بِهِ فَلَو ثَبت بهَا دَار. قَوْله: (وفائدتها معرفَة الْمُنَاسبَة، وَمنع الْإِلْحَاق، وتقوية النَّص، قَالَ السُّبْكِيّ: وَزِيَادَة الْأجر عِنْد قصد الِامْتِثَال لأَجلهَا) . إِنَّمَا قيل ذَلِك؛ لِأَن الْمَانِع احْتج بِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي التَّعْلِيل بهَا؛ لِأَن الحكم مُقَرر بِالنَّصِّ، وَغير النَّص لَا تُوجد فِيهِ تِلْكَ الْعلَّة، فَأَي فَائِدَة بهَا؟ ! فَقيل فِي الْجَواب: إِن القاصرة المنصوصة، أَو الْمجمع عَلَيْهَا مُتَّفق عَلَيْهَا، وَمَا قَالُوهُ مَوْجُود فِيهَا، فَلَو صَحَّ مَا قَالُوهُ لَكَانَ النَّص عَلَيْهَا عَبَثا وَالْإِجْمَاع عَلَيْهَا خطأ، وَنفي الْفَائِدَة أَو حصرها فِيمَا نفوه مَمْنُوع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3210 وَلها فَوَائِد مِنْهَا: معرفَة مُنَاسبَة الحكم للحكمة إِذْ بِالتَّعْلِيلِ تعرف الْحِكْمَة، وَأَن الحكم على وفْق الْحِكْمَة والمصلحة، فَيكون أدعى إِلَى الْقبُول والانقياد مِمَّا لم تعلم مناسبته. لَكِن قَالَ فِي " المقترح ": إِن السَّبَبِيَّة إِنَّمَا جعلت لتعريف الحكم لَا لما ذكر. وَجَوَابه: إِنَّه لَا يُنَافِي فِي الْإِعْلَام طلب الانقياد لحكمته. وَمِنْهَا: إِفَادَة الْمَنْع لإلحاق فرع بذلك لعدم حُصُول الْجَامِع الَّذِي هُوَ عِلّة فِي الأَصْل. وَاعْترض: بِأَن ذَلِك من الْمَعْلُوم وموضوع الْقيَاس فَأَيْنَ الْفَائِدَة المتجددة. وَأجِيب / بِأَنَّهُ لَو وجد وصف آخر مُتَعَدٍّ لَا يُمكن الْقيَاس بِهِ حَتَّى يقوم دَلِيل على أَنه أرجح من تِلْكَ الْعلَّة القاصرة، بِخِلَاف مَا لَو لم يكن سوى الْعلَّة المتعدية، فَإِنَّهُ لَا يفْتَقر الْإِلْحَاق بهَا إِلَى دَلِيل على تَرْجِيح. وَسَيَأْتِي فِي التَّرْجِيح إِذا تَعَارضا من غير مُرَجّح: قدمت المتعدية، وَقيل: القاصرة، وَقيل: بِالْوَقْفِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3211 فَلَا يعْتَرض بِهِ على مَا قرر للْحكم بِسَبَب تِلْكَ الْعلَّة الْمَقْصُودَة للشارع من شَرعه، فَيكون لَهُ أَجْرَانِ: أجر فِي امْتِثَال النَّص، وَأجر بامتثال الْمَعْنى فِيهِ. وَذكر بَعضهم معنى خَامِسًا: أَن معرفَة الْعلَّة زِيَادَة فِي الْعلم، وَلَا شكّ أَنه فضل على من لم يعلم. وَفِيه نظر؛ لِأَن الْمَانِع يمْنَع أَن يكون هَذَا علية حَتَّى يكون الْعلم بِهِ فَضِيلَة، بِخِلَاف الْفَوَائِد الْمَذْكُورَة. لِأَن الْقَصْد أَنَّهَا إِذا رجحت القاصرة بِدَلِيل قدمت، أَو كَانَ للقاصرة مُرَجّح يُقَابل المتعديلة تعادلا، فظهرت الْفَائِدَة. وَمِنْهَا: أَن النَّص يزْدَاد قُوَّة بهَا، فيصيران كدليلين يتقوى كل مِنْهُمَا بِالْآخرِ، قَالَه الباقلاني. وَهُوَ مَخْصُوص بِمَا يكون دَلِيل الحكم فِيهِ ظنيا، اما الْقطعِي فَلَا يحْتَاج لتقوية، نبه عَلَيْهِ أَبُو الْمَعَالِي. وَمِنْهَا: مَا قَالَه السُّبْكِيّ: أَن الْمُكَلف يزْدَاد أجرا بانقياده. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3212 وَذكر أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ من الْفَوَائِد: لَو حدث فرع فِيهِ تِلْكَ الْعلَّة ألحق بِالْأَصْلِ لأَجلهَا، فَلَو لم تكن مَعْلُومَة من قبل حُدُوثه لما ألحقناه. وَضعف: بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يتَبَيَّن أَن الْعلَّة غير قَاصِرَة، وَالْكَلَام فِي القاصرة، فَلذَلِك لم يتَعَرَّض لَهما. قَوْله: [النَّقْض وجود الْعلَّة بِلَا حكم، وَسَماهُ الْحَنَفِيَّة: تَخْصِيص الْعلَّة، فَالْقَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَأكْثر الْحَنَفِيَّة، والمالكية، وَحكي عَن أَكثر أَصْحَابنَا: لَا قدح مُطلقًا، وَيكون حجَّة فِي غير مَا خص. وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أَصْحَابه، وَابْن حَامِد، والخرزي، وَالْقَاضِي، والماتريدي: يقْدَح مُطلقًا. والموفق: فِي مستنبطة فَقَط إِلَّا لمَانع أَو فَوَات شَرط، وَقوم عَكسه، وَابْن الْحَاجِب: فِي منصوصة إِلَّا بِظَاهِر عَام، وَفِي مستنبطه إِلَّا إِن تخلف لمَانع أَو انْتِفَاء شَرط، وَالْفَخْر: إِلَّا فِي منصوصة أَو مَا اسْتثْنِي / من الْقَوَاعِد، كالمصراة، والعاقلة والرازي: إِلَّا أَن يرد على سَبِيل الِاسْتِثْنَاء، والبيضاوي والهندي: إِلَّا لمَانع أَو فقد شَرط وَبَعض الْمُعْتَزلَة: فِي عِلّة حظر، والآمدي: إِلَّا لمَانع أَو فقد شَرط، أَو فِي معرض الِاسْتِثْنَاء، أَو فِي منصوصة لَا تقبل التَّأْوِيل] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3213 قد يعد من شُرُوط الْعلَّة أَن تكون مطردَة، أَي: كلما وجدت وجد الحكم، وَعدم الاطراد يُسمى نقضا. وَهُوَ: أَن يُوجد الْوَصْف الَّذِي يدعى أَنه عِلّة فِي مَحل [مَا، مَعَ] عدم الحكم وتخلف عَنْهَا. وَاعْلَم أَن النَّقْض وَالْكَلَام فِيهِ من مشكلات علم الْأُصُول والجدل، فلنقتصر على مَا يتَبَيَّن بِهِ الْمَقْصُود. وَهُوَ أَن الْوَصْف الْمُدعى عِلّة يُوجد فِي بعض الصُّور ويتخلف عَنهُ الحكم، فَهَل يكون ذَلِك قادحا فِي عليته أَو لَا؟ مِثَاله: أَن يُقَال فِي تَعْلِيل وجوب تبييت النِّيَّة فِي الصَّوْم الْوَاجِب: صَوْم عري أَوله عَن النِّيَّة فَلَا يَصح كَالصَّلَاةِ، فتنتقص الْعلَّة وَهِي: العري، فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3214 أَوله بِصَوْم التَّطَوُّع، فَإِنَّهُ يَصح من غير تبييت. ثمَّ تخلف الحكم عَن الْوَصْف، إِمَّا فِي وصف ثبتَتْ عليته بِنَصّ قَطْعِيّ، أَو ظَنِّي، أَو باستنباط، والتخلف إِمَّا لمَانع، أَو فقد شَرط، أَو غَيرهمَا، فَهِيَ تِسْعَة من ضرب ثَلَاثَة فِي ثَلَاثَة. وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي بَقَاء الْعلَّة حجَّة بعد النَّقْض، فلأحمد رِوَايَتَانِ، وللقاضي أبي يعلى قَولَانِ، وَفِي الْمَسْأَلَة عشرَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن النَّقْض لَا يقْدَح ملطقا، بل يكون حجَّة فِي غير مَا خص كالعام إِذا خص بِهِ، وَهَذَا قَول القَاضِي، وَأبي الْخطاب، وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن أَكثر أَصْحَابنَا. قَالَ القَاضِي: وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3215 وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَكثر الْحَنَفِيَّة، والمالكية، وشهرته عَن الْحَنَفِيَّة أَكثر، غير أَنهم مَا سمحوا بتسميته نقضا، وسموه بتخصيص الْعلَّة. لَكِن قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: إِنَّه قَول الْعِرَاقِيّين مِنْهُم. وَقَالَ أَبُو زيد: إِنَّه مَذْهَب أبي حنيفَة وَأَصْحَابه. وَالْقَوْل الثَّانِي: يقْدَح، اخْتَارَهُ / من أَصْحَابنَا: ابْن حَامِد، وَأَبُو الْحسن الخرزي، وَالْقَاضِي أَبُو يعلى أَيْضا، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3216 وَأَصْحَابه إِلَّا الْقَلِيل مِنْهُم، وَهُوَ قَول كثير من الْمُتَكَلِّمين، وَاخْتَارَهُ من الْحَنَفِيَّة الماتريدي. وَقَالَ: تَخْصِيص الْعلَّة بَاطِل، قَالَ: وَمن قَالَ بتخصيصها فقد وصف اللَّهِ - تَعَالَى - بالسفه والعبث، فَأَي فَائِدَة فِي وجود الْعلَّة وَلَا حكم. وَنَقله أَبُو زيد عَن الخراسانيين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3217 فَصَاحب هَذَا القَوْل يَقُول: تخصيصها نقض لَهَا، ونقضها يتَضَمَّن إِبْطَالهَا. وعَلى هَذَا القَوْل: فَالْفرق بَين هَذَا وَبَين جَوَاز تَخْصِيص الْعُمُوم، وَيبقى فِي الْبَاقِي حجَّة على الْمُرَجح كَمَا تقدم: أَن الْعَام يجوز إِطْلَاقه على بعض مَا يتَنَاوَلهُ، فَإِذا خص فَلَا مَحْذُور فِيهِ، وَأما الْعلَّة فَهِيَ الْمُقْتَضِيَة للْحكم، فَلَا يخْتَلف مقتضاها عَنْهَا، فَشرط فِيهَا الاطراد. وَالْقَوْل الثَّالِث: يقْدَح فِي المستنبطة إِلَّا لمَانع أَو فَوَات شَرط، وَلَا يقْدَح فِي المنصوصة. مِثَال الْقدح فِي المستنبطة: تَعْلِيل الْقصاص بِالْقَتْلِ الْعمد الْعدوان مَعَ انتفائه فِي قتل الْأَب. وَعدم الْقدح فِي المنصوصة: كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا ذَلِك عرق "، مَعَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3218 القَوْل بِعَدَمِ النَّقْض بالخارج النَّجس من غير السَّبِيلَيْنِ على رَأْي. وَهَذَا اخْتِيَار الشَّيْخ موفق الدّين فِي " الرَّوْضَة ". القَوْل الرَّابِع عكس هَذَا القَوْل وَهُوَ: الْقدح فِي المنصوصة وَعَدَمه فِي المستنبطة، إِلَّا إِذا كَانَ لمَانع أَو فَوَات شَرط، قَيده بذلك فِي المستنبطة السُّبْكِيّ فِي " شرح مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب ". قَالَ: وَإِن لم يقْدَح بذلك حصل فِي كَلَام مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب التّكْرَار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3219 القَوْل الْخَامِس: يقْدَح فِي المنصوصة، إِلَّا إِذا كَانَ بِظَاهِر عَام، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ بقاطع لم يتَخَلَّف الحكم، وَإِذا كَانَ خَاصّا بِمحل الحكم لم يثبت التَّخَلُّف، وَهُوَ خلاف الْفَرْض، وَأما فِي المستنبطة فَيجوز فِيمَا إِذا كَانَ التَّخَلُّف لمَانع أَو انْتِفَاء شَرط، فيقدح فِيمَا إِذا كَانَ التَّخَلُّف دونهمَا، وَهُوَ مُخْتَار ابْن الْحَاجِب. فَإِنَّهُ قَالَ: " وَالْمُخْتَار: إِن كَانَت مستنبطة لم يجز إِلَّا بمانع أَو عدم شَرط؛ لِأَنَّهَا / لَا تثبت عليتها إِلَّا بِبَيَان أَحدهمَا، لِأَن انْتِفَاء الحكم إِذا لم يكن ذَلِك مَانع لعدم الْمُقْتَضى، وَإِن [كَانَت] منصوصة بِظَاهِر عَام فَيجب تَخْصِيصه كعام وخاص، وَيجب تَقْدِير الْمَانِع " انْتهى. قَالَ القَاضِي عضد الدّين: " وَحَاصِل هَذَا الْمَذْهَب أَنه لَا بُد من مَانع أَو عدم شَرط، لَكِن فِي المستنبطة: يجب الْعلم بِعَيْنِه، وَإِلَّا لم تظن الْعلية، وَفِي المنصوصة: لَا يجب، وَيَكْفِي فِي ظن الْعلية تَقْدِيره، وَفِي الصُّورَتَيْنِ لَا تبطل الْعلية بالتخلف " انْتهى. القَوْل السَّادِس: الْمَنْع فِي المنصوصة أَو مَا اسْتثْنِي من الْقَوَاعِد كالمصراة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3220 والعاقلة، اخْتَارَهُ الْفَخر إِسْمَاعِيل من اصحابنا. القَوْل السَّابِع: الْقدح مُطلقًا إِلَّا أَن يرد على سَبِيل الِاسْتِثْنَاء ويعترض على جَمِيع الْمذَاهب كالعرايا، حَكَاهُ فِي " جمع الْجَوَامِع " الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3221 عَن الْفَخر الرَّازِيّ. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (وَقد حَكَاهُ فِي " الْمَحْصُول " عَن قوم، وَاقْتضى كَلَامه موافقتهم، وَقَالَ فِي الْحَاصِل: إِنَّه الْأَصَح) . القَوْل الثَّامِن: يقْدَح إِلَّا لمَانع أَو فقد شَرط، وَبِه قَالَ الْبَيْضَاوِيّ والهندي. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " إِذا كَانَ التَّخَلُّف لمَانع أَو فقد شَرط فَلَا يقْدَح مُطلقًا سَوَاء كَانَ فِي الْعلَّة المنصوصة والمستنبطة، وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيّ والهندي " انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3222 وَظَاهر كَلَام الْعِرَاقِيّ: فِي شَرحه: أَن مُخْتَار الْبَيْضَاوِيّ مُخْتَار الْفَخر الرَّازِيّ. فَإِنَّهُ ذكر مَا قَالَه الْفَخر ثمَّ قَالَ: (وَقَالَ فِي الْحَاصِل: إِنَّه الْأَصَح، وَجزم بِهِ فِي " الْمِنْهَاج "، وَاقْتضى كَلَامه أَنه لَيْسَ من مَحل الْخلاف) انْتهى. إِلَّا أَن تكون النُّسْخَة مغلوطة. القَوْل التَّاسِع: إِن كَانَ عِلّة حظر لم يجز تخصيصها، وَإِلَّا جَازَ، حَكَاهُ الباقلاني عَن بعض الْمُعْتَزلَة. القَوْل الْعَاشِر: إِن كَانَ التَّخَلُّف لمَانع أَو فقد شَرط، أَو فِي معرض الِاسْتِثْنَاء، أَو كَانَت منصوصة بِمَا لَا يقبل التاويل لم يقْدَح، وَإِلَّا قدح، اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3223 وَإِنَّمَا حكم على النَّص بِقبُول التَّأْوِيل؛ لِأَن مُرَاده بِهِ مَا هُوَ أَعم من الصَّرِيح وَالظَّاهِر. وَحكى / الْخلاف فِي " أصُول ابْن مُفْلِح " على خلاف هَذِه الصُّورَة فَقَالَ: " وَاخْتلف قَول أَحْمد وَأَصْحَابه فِي جَوَاز تَخْصِيص الْعلَّة المستنبطة ونقضها بِهِ، وَالْمَنْع: اخْتَارَهُ أَبُو الْحسن الخرزي، وَابْن حَامِد، وَقَالَهُ أَكثر الْحَنَفِيَّة، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَذكره ابْن برهَان عَن الشَّافِعِي. وَالْجَوَاز: اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، وَبَعض الْحَنَفِيَّة، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَذكره الْآمِدِيّ عَن اكثر أَصْحَابنَا. وَاخْتلف اخْتِيَار القَاضِي: فعلى الأول فِي المنصوصة قَولَانِ لنا ولغيرنا. وعَلى الثَّانِي: إِن لم يكن فِي مَحل التَّخْصِيص مَانع وَلَا عدم شَرط، اخْتلف كَلَام أبي الْخطاب وَغَيره. وَالْمَنْع قَالَه الْأَكْثَر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3224 وَعَكسه أَيْضا: يجوز تَخْصِيص المنصوصة، ذكره الْآمِدِيّ اتِّفَاقًا، وَخَالف بَعضهم ". ثمَّ ذكر اخْتِيَار الْمُوفق وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل، فَخَالف فِي النَّقْل عَن الْمذَاهب، وَبنى الْأَقْوَال على الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين. وَالَّذِي نَقَلْنَاهُ عَن الْمذَاهب من " شرح الْبرمَاوِيّ "، وَابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيرهمَا. قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَجه مَا قَالَه الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": أَن المنصوصة كظاهر عَام وَلَا تبطل بالتخصيص، وَلِأَنَّهُ جمع بَين دَلِيلين، وكما لَا تبطل الْعلَّة القاطعة كعلل الْقصاص. والمستنبطة لَا يثبت كَونهَا عِلّة عِنْد تخلف الحكم إِلَّا بمانع، لبَقَاء الظَّن مَعَه، أَو عدم شَرط وَإِلَّا فلعدم الْمُقْتَضِي، وَيمْتَنع تخلف الحكم عَن الْعلَّة عِنْد الشَّرْط وَعدم الْمَانِع. استدال الْقَائِل بِالْمَنْعِ: النَّقْض يلْزم فِيهِ مَانع أَو عدم شَرط وَإِلَّا فَلَا عِلّة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3225 ونقيض أَحدهمَا جُزْء من الْعلَّة لتوقف الحكم عَلَيْهِ، وَالْكل وَهُوَ الْعلَّة يَنْتَفِي بِعَدَمِ جزئه. رد: إِن أُرِيد بِالْعِلَّةِ الْبَاعِث فَلَيْسَ جُزْء أَحدهمَا مِنْهَا وَلَا يقْدَح، وَإِن أُرِيد بِمَا يثبت الحكم فِيهَا ويقدح فالنزاع لَفْظِي. قَالُوا: لَو جَازَ لزم الحكم فِي صُورَة النَّقْض لاستلزام الْعلَّة معلولها. رد: بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّهَا باعثة. وَإِن قيل: تَامَّة، فلفظي. قَالُوا: سقط دَلِيل اعْتِبَارهَا، وإبطالها تبعا فيهمَا. رد: انْتِفَاء الحكم لعَارض / لَا يُنَافِي دَلِيل اعْتِبَارهَا. قَالُوا: كالعقلية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3226 رد: باقتضائها معلوها بِالذَّاتِ. قَالَ ابْن عقيل: فَلَا يجوز تخصيصها عِنْد أحد، وَلَا تفْتَقر إِلَى شَرط، وتنعكس كالحركة على كَون الْمحل الْقَائِم بِهِ متحرك فَمَا لم يقم بِهِ لَيْسَ متحركا. وَهِي مُقَارنَة لحكمها، مُوجبَة لَهُ بِنَفسِهَا فَلَا توجب حكمين، والشرعية بِوَضْع الشَّارِع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3227 وَجوز الْآمِدِيّ تخلف حكم الْعَقْلِيَّة عَنْهَا عِنْد عدم الْقَابِل لَهُ. وَكَذَا منعهَا فِي " التميهد "؛ لِأَن عِلّة هبوط الْحجر ثقله ثمَّ، قد لَا يهْبط فِي مَوضِع لمَانع. وَفِي " الْوَاضِح ": لَا يجوز تخصيصها عِنْد أحد. اسْتدلَّ الْقَائِل بِالْجَوَازِ فِي المنصوصة: بِأَن صِحَة المستنبطة تتَوَقَّف على الْمَانِع، وَإِلَّا لم يتَخَلَّف الحكم وَهُوَ علتها؛ لِأَن الْمَانِع إِنَّمَا يكون مَانِعا مَعَ الْمُقْتَضِي فدار. رد: توقف معية، وَبِأَن صِحَّتهَا لَا تتَوَقَّف على الْمَانِع بل دوَام ظَنّهَا عِنْد تخلف الحكم، وَتحقّق الْمَانِع يتَوَقَّف على ظُهُور صِحَّتهَا فَلَا دور، كإعطاء فَقير يظنّ أَنه لفقره، فَإِن لم يُعْط آخر وقف الظَّن، فَإِن بَان مَانع عَاد وَإِلَّا فَلَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3228 اسْتدلَّ الْقَائِل بِالْجَوَازِ فِي المستنبطة: بِأَن دَلِيل الْمَنْصُوص عَام. رد: إِن دلّ على الْعلَّة قطعا لم يقبل النَّقْض وَإِلَّا قبل. اسْتدلَّ الْقَائِل بِالْجَوَازِ فِي المستنبطة: لِأَنَّهَا عِلّة بِدَلِيل ظَاهر وَهُوَ الْمُنَاسبَة، وَيحْتَمل الحكم يحْتَمل لعدم الْعلَّة ولمعارض، فَلَا يُعَارض الظَّاهِر. رد: بتساوي الِاحْتِمَال؛ لِأَن الشَّك فِي أحد المتقابلين شكّ فِي الآخر. قَالُوا: لَا يتَوَقَّف كَونهَا أَمارَة على ثُبُوت الحكم فِي مَحل النَّقْض؛ لِأَنَّهُ إِن انعكس فدور وَإِلَّا تحكم. رد: دور معية، وَبِأَن دوَام الظَّن بِكَوْنِهِ أَمارَة يتَوَقَّف على الْمَانِع فِي مَحل النَّقْض، وَثُبُوت الحكم فِيهِ على ظُهُور كَونه أَمارَة فَلَا دور. وَفِي " التَّمْهِيد ": أَمارَة فَلَا يجب اطرادها، كغيم رطب شتاء أَمارَة على الْمَطَر، ومركوب القَاضِي على بَاب أَمِير، أَمارَة على كَونه عِنْده. قَالَ: وَهَذَا عُمْدَة الْمَسْأَلَة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3229 \ وَمن هُنَا قَالَ: يجوز زَوَال الحكم وَبَقَاء / الْعلَّة كالعكس، وَالله أعلم) . قَوْله: [وَلَيْسَ الْخلاف لفظيا، خلافًا لأبي الْمَعَالِي، وَتَأْتِي أَحْكَام النَّقْض فِي القوادح] . قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان "، وَابْن الْحَاجِب: [الْخلاف] فِي هَذِه الْمَسْأَلَة لَفْظِي. وَقد تقدم فِي بحثها مَا يدل على ذَلِك. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِيهِ، لِاتِّفَاق المجوز وَالْمَانِع على أَن اقْتِضَاء الْعلَّة للْحكم لابد فِيهِ من عدم التَّخْصِيص، وسلموا أَن الْمُعَلل لَو ذكر الْقَيْد فِي ابْتِدَاء التَّعْلِيل لاستقامت الْعلَّة، فَرجع الْخلاف إِلَى ذَلِك الْقَيْد العدمي هَل يُسمى جُزْء الْعلَّة أَو لَا؟ لَكِن رد ذَلِك الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول ": " بِأَنا إِذا فسرنا الْعلَّة بالداعي أَو الْمُوجب لم نجْعَل الْعَدَم جُزْءا من الْعلَّة بل كاشفا عَن حُدُوث جُزْء الْعلَّة، وَمن جوز التَّخْصِيص لَا يَقُول بذلك، وَإِن فسرنا الْعلَّة بالأمارة ظهر الْخلاف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3230 بِالْمَعْنَى أَيْضا؛ لِأَن من يثبت الْعلَّة بالمناسبة يبْحَث عَن ذَلِك الْقَيْد العدمي، فَإِن وجد فِيهِ مُنَاسبَة صحّح الْعلَّة وَإِلَّا أبطلها، وَمن يجوز التَّخْصِيص لَا يبطل الْمُنَاسبَة أصلا من هَذَا الْقَيْد العدمي ". وَأما نفي الْفَائِدَة فمردود بِأَن للْخلاف فَوَائِد. مِنْهَا: جَوَاز التَّعْلِيل بعلتين. وَمِنْهَا: انْقِطَاع الْخصم، وَإِذا ادّعى بعد ذَلِك أَنه أَرَادَ بِالْعُمُومِ الْخُصُوص، وباللفظ الْمُطلق مَا وَرَاء مَحل النَّقْض لَا تسمع دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهُ يشبه الدَّعْوَى بعد الْإِقْرَار، فَلَا يسمع إِلَّا مِمَّن لَهُ قدرَة على الْإِنْشَاء، والقائلون بِجَوَاز التَّخْصِيص يقبلُونَ دَعْوَاهُ. لَكِن قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: لَو ذكر لفظا مُقْتَضَاهُ عُمُوم الْعلَّة، فورد نقض فَقَالَ: خصص لَفْظِي، نظر فَإِن كَانَ النَّقْض مُبْطلًا لم يقبل مِنْهُ التَّخْصِيص، وَإِن [كَانَ] غير مُبْطل، فَمن الجدليين من جعله مُنْقَطِعًا إِذا لم يَفِ بِظَاهِر لَفظه. قَالَ: وَالْمُخْتَار لَا يكون مُنْقَطِعًا، لكنه خَالف الْأَحْسَن، إِذْ كَانَ يَنْبَغِي أَن يُشِير إِلَيْهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3231 قَوْله: [ثمَّ الْعلَّة عِنْد من [لَا] يخصصها إِن كَانَ لجنس الحكم اعْتبر طردها وعكسها، وَإِن كَانَت لعَينه، فَإِن كَانَت لإلحاقه انتقضت بأعيان / الْمسَائِل، وَإِن كَانَت لإِثْبَات حكم مُجمل لم تنْتَقض إِلَّا بِنَفْي مُجمل، ولإثبات مفصل تنْتَقض بِنَفْي مُجمل، ولنفي مُجمل بِإِثْبَات مُجمل أَو مفصل، ولنفي مفصل بِإِثْبَات مُجمل] . هَذِه الْمسَائِل نقلهَا ابْن مُفْلِح عَن أبي الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَأَنا رَأَيْتهَا فِي " التَّمْهِيد "، وأنقلها هُنَا بحروفها ومثالاتها. فَقَالَ: " النَّقْض وجود الْعلَّة وَلَا حكم، وَهُوَ لَا يفْسد الْعلَّة على قَول من يرى تَخْصِيص الْعلَّة، لِأَن ذَلِك كتخصيص اللَّفْظ الْعَام لَا يبطل التَّخْصِيص دلَالَته كَذَلِك تَخْصِيص الْعلَّة. وَهَذَا إِنَّمَا يجوز إِذا كَانَ التَّخْصِيص بِدَلِيل، فَأَما إِذا أخل من الْعلَّة بِوَصْف فَانْتقضَ كَانَت فَاسِدَة عِنْده فِي هَذَا الْموضع. وَذَلِكَ مثل: أَن يُعلل ثُبُوت الرِّبَا فِي الْمكيل: بِأَنَّهُ مَكِيل يحرم فِيهِ التَّفَاضُل. دَلِيله: الْبر فنقض علته بِبيع الجنسين وَإِن كَانَ مَكِيلًا وَلَا يحرم فِيهِ التَّفَاضُل، فَيكون نقضا صَحِيحا؛ لِأَنَّهُ ذكر بعد الْعلَّة. فَأَما من لَا يَقُول بتخصيص الْعلَّة، فَإِن النَّقْض عِنْده [مُفسد] لَهَا بِكُل حَال، وَالْعلَّة عِنْده على ضَرْبَيْنِ: عِلّة وضعت لجنس الحكم، وَعلة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3232 وضعت [للعين، فالموضوعة] للْجِنْس تجْرِي مجْرى الْحَد، إِن يطرد وينعكس، وتفسد بِأَن ينْتَقض طردها وعكسها. وَذَلِكَ مثل أَن يَقُول: الشّركَة هِيَ الْمُوجبَة للشفعة، والعمد الْمَحْض هُوَ الْمُوجب للقود، فَمَتَى تعلّقت الشُّفْعَة بِغَيْر الشّركَة فِي مَوضِع، أَو ثَبت الْقود فِي غير الْعمد الْمَحْض بطلت الْعلَّة. وَكَذَلِكَ لَو قَالَ: الْمُبِيح للدم الرِّدَّة، كَانَ ذَلِك منتقضا؛ لِأَنَّهُ يستباح بِغَيْرِهِ من زنا الْمُحصن، وَالْقَتْل، وَغير ذَلِك. فَأَما إِن كَانَت الْعلَّة للأعيان نظرت، فَإِن كَانَت الْعلَّة لوُجُوب الحكم فَمَتَى وجدت الْعلَّة دون حكمهَا كَانَت منتقضة. مثل: أَن يَقُول الْحَنَفِيّ: الْوضُوء طَهَارَة فَلَا يفْتَقر إِلَى النِّيَّة كإزالة النَّجَاسَة. فينتقض ذَلِك بِالتَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّهُ / طَهَارَة ويفتقر إِلَى النِّيَّة بإجماعنا ". ثمَّ قَالَ: فصل: " فَإِن كَانَ التَّعْلِيل لإِثْبَات حكم مُجمل لم ينْتَقض إِلَّا بِالنَّفْيِ [الْمُجْمل فَأَما بِالنَّفْيِ] فِي مَوضِع فَلَا ينْتَقض ذَلِك. كَقَوْل الْحَنَفِيّ فِي قتل الْمُسلم بالذمي: إنَّهُمَا محقونا الدَّم، فَجرى بَينهمَا الْقصاص كالمسلمين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3233 فَيَقُول الْمُعْتَرض: تنْتَقض الْعلَّة إِذا قَتله الْمُسلم خطأ لَا يجْرِي الْقصاص فَهَذَا لَيْسَ بِنَقْض؛ لِأَنَّهُ علل بجريان الْقصاص فِي الْجُمْلَة، فَلَا ينْتَقض بانتفائه فِي مَوضِع آخر، وَلَكِن إِن نقض بِالْأَبِ مَعَ الابْن، كَانَ نقضا، لِأَنَّهُ لَا يقْتَصّ من الْأَب بِكُل حَال ". ثمَّ قَالَ: فصل: " فَإِن كَانَ التَّعْلِيل لنفي حكم مُجمل انْتقض بِإِثْبَات حكم فِي مَوضِع. مِثَال ذَلِك: أَن يُعلل نفي الْقصاص فِي الْأَطْرَاف من الْعَبْدَيْنِ فَيَقُول: مملوكان فَلم يجر بَينهمَا الْقصاص كالصغيرين. فتنقض علته بجريان الْقصاص بَينهمَا فِي النَّفس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3234 فَلذَلِك نقض صَحِيح، لِأَنَّهُ نفى أَن يُوجد الْقصاص بَينهمَا فِي مَوضِع، فأري موضعا يجْرِي فِيهِ، فَبَطل تَعْلِيله بِأَنَّهُ لَا يصدق أَنه لَا قصاص بَينهمَا ". ثمَّ قَالَ: فصل: " فَإِن كَانَ التَّعْلِيل للنَّفْي الْمفصل [لم] ينْتَقض بالإثبات الْمُجْمل. مِثَاله: أَن يَقُول: محقونا الدَّم فَلم يجر بَينهمَا الْقصاص فِي الْخَطَأ. فَيَقُول الْمُعْتَرض: ينْتَقض بِوُجُود الْقصاص بَينهمَا فِي الْعمد، فَإِن ذَلِك لَيْسَ بِنَقْض؛ لِأَن ثُبُوت الْقصاص بَينهمَا فِي الْجُمْلَة لَا يمْنَع من انتفائه عَنْهُمَا فِي بعض الْمَوَاضِع. ثمَّ قَالَ: فصل: فَإِن كَانَ التَّعْلِيل للإثبات الْمفصل فَإِنَّهُ ينْتَقض بِالنَّفْيِ الْمُجْمل. مِثَاله: أَن يَقُول الْمُعَلل فِي الْأَب مَعَ الابْن: إنَّهُمَا محقونا الدَّم، فَوَجَبَ بَينهمَا الْقصاص فِي الْقَتْل الْعمد، فينتقض عَلَيْهِ بِالْحرِّ مَعَ العَبْد لَا يثبت بَينهمَا قصاص فِي الْجُمْلَة. [فَيكون] : نقضا صَحِيحا؛ لِأَن الانتفاء على الْإِطْلَاق يزِيل ثُبُوت الْقصاص فِي بعض الْمَوَاضِع " انْتهى كَلَام صَاحب " التَّمْهِيد ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3235 قَوْله: [وَالتَّعْلِيل لجَوَاز الحكم لَا ينْتَقض بأعيان الْمسَائِل، كَالصَّبِيِّ: حر مُسلم، فَجَاز أَن تجب زَكَاة مَاله كبالغ، فَلَا ينْتَقض بِغَيْر الزكوي] . / قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": " فَإِن كَانَ التَّعْلِيل للْجُوَاز لم ينْتَقض بأعيان الْمسَائِل، كَقَوْلِنَا فِي الزَّكَاة فِي مَال الصَّبِي: بِأَنَّهُ حر مُسلم، فَجَاز أَن تجب الزَّكَاة فِي مَاله كَالْبَالِغِ. فَقَالَ الْمُعْتَرض: ينْتَقض إِذا [كَانَت إبِله] معلوفة، أَو عوامل، أَو مَاله دون نِصَاب، فَإِن ذَلِك لَيْسَ بِنَقْض؛ لِأَن الْمُعَلل أثبت بِالْجَوَازِ حَالَة وَاحِدَة، وَانْتِفَاء الزَّكَاة فِي حَالَة لَا يمْنَع وُجُوبهَا فِي حَالَة أُخْرَى " انْتهى. قَوْله: [وَالتَّعْلِيل بِنَوْع الحكم لَا ينْتَقض بِعَين مَسْأَلَة، كالنقض بِلَحْم الْإِبِل نوع عبَادَة تفْسد بِالْحَدَثِ فتفسد بِالْأَكْلِ كَالصَّلَاةِ فَلَا تنْتَقض بِالطّوافِ؛ لِأَنَّهُ بعض النَّوْع] . قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": " فَإِن علل بالنوع لم ينْتَقض بِعَين مَسْأَلَة كَمَا قَالَ أَصْحَابنَا فِي أكل لحم الْجَزُور: إِنَّه ينْقض الْوضُوء؛ لِأَنَّهُ عبَادَة تفْسد بِالْحَدَثِ، ففسدت بِالْأَكْلِ، أَصله الصَّلَاة. فَيَقُول: فتنتقض بِالطّوافِ، فَإِنَّهُ نوع يفْسد بِالْحَدَثِ وَلَا يفْسد بِالْأَكْلِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3236 فَقَالُوا: عللنا نوع هَذِه الْعِبَادَة الَّتِي تفْسد بِالْحَدَثِ فَلَا ينْتَقض بأعيان الْمسَائِل؛ لِأَن الطّواف بعض نوعها، فَإِذا لم يُوجد الحكم فِيهِ وجد فِي بَقِيَّة [النَّوْع] " انْتهى. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة " - بعد أَن ذكر الْمَسْأَلَتَيْنِ وعللهما بِمَا قَالَ أَبُو الْخطاب -: " وَعِنْدِي فِي هَذَا نظر؛ لِأَن التَّعْلِيل إِن كَانَ لكل نوع انْتقض، وَإِن كَانَ لمُطلق النَّوْع لم يلْزم [دُخُول] [الْفَرْع] ، بل يَكْفِي الأَصْل إِلَّا أَن يُقَال: مَقْصُوده إِثْبَات الحكم فِي نوع آخر " انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3237 (قَوْله [فصل] ) [الْكسر: وجود الْحِكْمَة بِلَا حكم، لَا يبطل الْعلَّة عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، كَقَوْل حَنَفِيّ فِي عَاص بِسَفَرِهِ: مُسَافر فيترخص كَغَيْر العَاصِي، ثمَّ يبين مُنَاسبَة السّفر بالمشقة، فيعترض بِمن صَنعته شاقة حضرا لَا يترخص إِجْمَاعًا. وَقَالَ القَاضِي: سُؤال الْكسر صَحِيح، وَجَوَابه بالتسوية يَصح اتِّفَاقًا. قَالَ أَبُو الْخطاب وَغَيره: فَإِن الْتزم الْمُعَلل الْكسر لزمَه أَن يُجيب عَنهُ بفرق تضمنته علته نطقا أَو معنى كجواب النَّقْض. وَقَالَ الشَّيْخ وَغَيره /: يَكْفِيهِ وَلَو لم تتضمنه] . قد شَرط قوم فِي عِلّة الحكم إِذْ لم تكن حِكْمَة بل مَظَنَّة حِكْمَة أَن تكون حكمتها مطردَة، أَي: كلما وجدت الْحِكْمَة وجد الحكم، فَإِذا وجدت فِي مَحل بِدُونِ الْعلَّة وَلم يُوجد الحكم فِيهِ سمي كسرا، ويعبر عَنهُ بِأَن الْكسر يبطل الْعلَّة. وَالصَّحِيح أَن الْكسر لَا يبطل الْعلَّة عِنْد أَصْحَابنَا. وَذكره الْآمِدِيّ عَن الْأَكْثَر. مِثَاله: أَن يَقُول الْحَنَفِيّ فِي الْمُسَافِر العَاصِي بِسَفَرِهِ مُسَافر فيترخص بِسَفَرِهِ كَغَيْر العَاصِي. فَإِذا قيل لَهُ: لم قلت إِن السّفر عِلّة للترخص؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3238 قَالَ: الْمُنَاسبَة لما فِيهِ من الْمَشَقَّة الْمُقْتَضِيَة للترخص؛ لِأَنَّهُ تَخْفيف، وَهُوَ يَقع للمرخص. فيعترض عَلَيْهِ: بصنعة شاقة فِي الْحَضَر كحمل الأثقال وَضرب المعاول. اسْتدلَّ للصحيح: بِأَنَّهُ قد سبق عدم التَّعْلِيل بالحكمة، وَالْعلَّة السّفر، وَلَا نقض عَلَيْهِ. قَالُوا: الْحِكْمَة هِيَ الْمَقْصُودَة من شرع الحكم. رد: مُسَاوَاة قدر حِكْمَة النَّقْض حِكْمَة الأَصْل مظنون؛ ثمَّ لَعَلَّ انْتِفَاء حِكْمَة لمعارض وَالْعلَّة فِي الأَصْل مَوْجُودَة قطعا، وَلَا تعَارض بَين قطع وَظن. فَإِن قيل: وَلَو وجد قدرهَا قطعا. قيل: إِن وَقع، يذكر الْآمِدِيّ عَن بعض أَصْحَابهم لَا أثر لَهُ لندرته وعسره، ثمَّ اخْتَار هُوَ وَمن تبعه أَنه يبطل لتعارضهما حِينَئِذٍ؛ لِأَن مَحْذُور نفي الحكم مَعَ وجود حكمته قطعا، وَالْعَكْس فَوق الْمَحْذُور اللَّازِم للمجتهد من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3239 الْبَحْث عَن الْحِكْمَة فِي آحَاد الصُّور، إِلَّا أَن يثبت حكم آخر فِي مَحل النَّقْض أليق بالحكمة فَلَا يبطل. كَمَا لَو علل قطع الْيَد قصاصا بحكمة الزّجر. فيعترض: بِأَنَّهَا فِي الْقَتْل الْعمد الْعدوان أعظم. فَيَقُول الْمُعْتَرض: ثَبت مَعهَا حكم أليق بهَا، وَهُوَ الْقَتْل، وَالله أعلم. وَذكر القَاضِي ضمن جَوَاب التَّسْوِيَة: أَن سُؤال / الْكسر صَحِيح، وَأَن جَوَابه بالتسوية يَصح وفَاقا. قَالَ أَبُو الْخطاب وَغَيره: فَإِن الْتزم الْمُعَلل الْكسر لزمَه أَن يُجيب عَنهُ بفرق تضمنته عِلّة [نطقا] أَو معنى لجواب النَّقْض، وَعند بَعضهم يَكْفِيهِ وَلَو تضمنه، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: اخْتلفُوا فِي الْكسر، قَالَ أَبُو الْخطاب: لَيْسَ بسؤال صَحِيح، وَذكر شَيخنَا فَسَاده. قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": " وَالْكَسْر غير لَازم، لِأَن الحكم مِمَّا لَا تنضبط بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَاد فَتعين النّظر إِلَى مرد الشَّارِع فِي ضبط مقدارها. وَقيل: الْكسر: نقض على حِكْمَة الْعلَّة دون ضابطها " انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3240 قَوْله: [النَّقْض المكسور نقض بعض الْأَوْصَاف لَا يُبْطِلهَا عندنَا وَعند الْأَكْثَر، كمبيع مَجْهُول الصّفة عِنْد الْعَاقِد، فَلَا يَصح كبعتك عبدا، فيعترض بِمَا لَو تزوج امْرَأَة لم يرهَا] . إِذا نقض الْعلَّة بترك بعض الصِّفَات سمي نقضا مكسورا. وَهُوَ بِالْحَقِيقَةِ نقض بعض الصِّفَات، وَأَنه بَين النَّقْض وَالْكَسْر، كَأَنَّهُ قَالَ الْحِكْمَة الْمُعْتَبرَة تحصل بِاعْتِبَار هَذَا الْبَعْض، وَقد وجد فِي الْمحل وَلم يُوجد الحكم فِيهِ، فَهُوَ نقض لما ادَّعَاهُ عِلّة بِاعْتِبَار الْحِكْمَة. تابعنا فِي هَذَا المصطلح - وَقد ذكرنَا النَّقْض المكسور بعد ذكر الْكسر - لِابْنِ مُفْلِح، وَهُوَ تَابع ابْن الْحَاجِب، وَابْن الْحَاجِب تَابع الْآمِدِيّ. لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَأما تَفْسِير ابْن الْحَاجِب الْكسر الَّذِي ذكرنَا مُسَمَّاهُ تبعا للآمدي: بِالنَّقْضِ المكسور، هِيَ تَسْمِيَة لَا يعرفهَا الجدليون. وَذكر قبل ذَلِك الْكسر وَأَحْكَام الْكسر فَقَالَ: قَالَ أَكثر الْأُصُولِيِّينَ والجدليين: إِنَّه إِسْقَاط وصف من أَوْصَاف الْعلَّة المركبة، وإخراجه من الِاعْتِبَار بِبَيَان أَنه لَا أثر [لَهُ] ، وَله صُورَتَانِ: إِحْدَاهمَا: أَن يُبدل ذَلِك الْوَصْف الْخَاص الَّذِي يبين أَنه لَغْو بِوَصْف أَعم مِنْهُ، ثمَّ ينْقضه على الْمُسْتَدلّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3241 كَقَوْل الشَّافِعِي فِي إِثْبَات صَلَاة الْخَوْف: صَلَاة يجب قَضَاؤُهَا فَيجب أَدَاؤُهَا كَصَلَاة / الآمن. فَيَقُول الْمُعْتَرض: خُصُوص كَونهَا صَلَاة ملغي لَا أثر لَهُ؛ لِأَن الْحَج وَالصَّوْم كَذَلِك، فَلم يبْق إِلَّا الْوَصْف الْعَام وَهُوَ كَونهَا عبَادَة، فينقضه عَلَيْهِ بِصَوْم الْحَائِض فَإِنَّهُ عبَادَة، يجب قَضَاؤُهَا وَلَا يجب أَدَاؤُهَا، بل يحرم. الصُّورَة الثَّانِيَة: أَن لَا يُبدل خُصُوص الصَّلَاة فَلَا يبْقى عِلّة للمستدل إِلَّا قَوْله: يجب قَضَاؤُهَا، فَيُقَال عَلَيْهِ: وَلَيْسَ كل مَا يجب قَضَاؤُهُ يُؤدى، دَلِيله الْحَائِض فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهَا قَضَاء الصَّوْم دون أَدَائِهِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " الملخص ": " وَهُوَ سُؤال مليح والاشتغال بِهِ يَنْتَهِي إِلَى بَيَان الْفِقْه وَتَصْحِيح الْعلَّة، وَقد اتّفق أَكثر أهل الْعلم على صِحَّته وإفساد الْعلَّة بِهِ، ويسمونه النَّقْض من طَرِيق الْمَعْنى، والإلزام من طَرِيق الْفِقْه، وَأنكر ذَلِك طَائِفَة من الخراسانيين " انْتهى. وَمن أمثله ذَلِك: أَن يَقُول شَافِعِيّ فِي بيع مَا لم يره المُشْتَرِي: بيع مَجْهُول الصّفة عِنْد الْعَاقِد فَلَا يَصح، كَمَا لَو قَالَ: بِعْتُك عبدا. فَيَقُول الْمُعْتَرض: ينكسر بِمَا إِذا نكح امْرَأَة لم يرهَا، فَإِنَّهُ يَصح مَعَ كَونهَا مَجْهُولَة الصّفة عِنْد الْعَاقِد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3242 فَهَذَا كسر؛ لِأَنَّهُ نقض من جِهَة الْمَعْنى، إِذْ النِّكَاح فِي الْجَهَالَة كَالْبيع، بِدَلِيل أَن الْجَهْل بِالْعينِ فِي كل مِنْهُمَا يُوجب الْفساد، فوصف كَونه مَبِيعًا ملغى، بِدَلِيل أَن الرَّهْن وَنَحْوه كَذَلِك، وَيبقى عدم الرُّؤْيَة، فينتقض بِنِكَاح من لم يرهَا. وَإِن نزلته على الصُّورَة الأولى وَهِي الْإِبْدَال بالأعم، فَيَقُول: عقد على من لم يره الْعَاقِد فينتقض بِالنِّكَاحِ. ثمَّ قَالَ: هَذَا تَمام تَقْرِير الْكسر وَقد وضح أَنه نقض وَارِد على [الْمَعْنى] كَمَا ذكر الشِّيرَازِيّ، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَغَيرهمَا. اسْتدلَّ لقَوْل أَصْحَابنَا وألأكثر: أَن الْعلَّة مَجْمُوع الْأَوْصَاف وَلم [ننقضها] . فَإِن بَين الْمُعْتَرض بِأَنَّهُ لَا أثر لكَونه مَبِيعًا، / فَإِن أصر الْمُسْتَدلّ على التَّعْلِيل بالوصفين بَطل مَا علل بِهِ لعدم تَأْثِيره لَا بِالنَّقْضِ، وَإِن اقْتصر على الْوَصْف المنقوض بَطل النَّقْض؛ لِأَنَّهُ ورد على كل الْعلَّة، وَإِن أَتَى بِوَصْف لَا أثر لَهُ فِي الأَصْل ليحترز بِهِ عَن النَّقْض لم يجز. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3243 وَفِي مُقَدّمَة " الْمُجَرّد " للْقَاضِي أبي يعلى: يحْتَمل أَن لَا يجوز وَيحْتَمل أَن يجوز، لِأَن الْأَوْصَاف يحْتَاج إِلَيْهَا للتأثير والاحتراز، وَالْحكم تعلق بالمؤثر فَكَذَا المحترز بِهِ. رد: بِمَنْع مَا لَا تَأْثِير لَهُ. وَأَجَازَهُ من صحّح الْعلَّة بالطرد وَبَعْضهمْ مُطلقًا، ذكره أَبُو الْمَعَالِي، ثمَّ اخْتَار تَفْصِيلًا. قَوْله: [الْعَكْس عدم الحكم لعدم الْعلَّة، فأصحابنا وَالْأَكْثَر لَيْسَ شرطا، وَقيل بلَى، وَالْحق أَنه مَبْنِيّ على تَعْلِيل الحكم بعلتين فَمن مَنعه اشْتَرَطَهُ وَمن لَا فَلَا، قَالَ الشَّيْخ هَذَا إِن كَانَ التَّعْلِيل لنَوْع الحكم، فَأَما لجنسه فالعكس شَرط] . اخْتلفُوا فِي اشْتِرَاط الْعَكْس فِي صِحَة الْعلَّة وَهِي نفي الحكم لنفي الْعلَّة. قَالَ فِي " المسودة ": لَيْسَ الْعَكْس شرطا فِي صِحَة الْعلَّة لجَوَاز الحكم بعلل، وَهَذَا قَول أَصْحَابنَا، وَمُقْتَضى قَول إمامنا، وَكَذَلِكَ قَول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3244 الْجُمْهُور والأصوليين. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: الْعَكْس لُغَة: رد أول الشَّيْء إِلَى آخِره وَآخره إِلَى أَوله، وَأَصله شدّ رَأس الْبَعِير بخطامه إِلَى ذراعه. وَفِي اصْطِلَاح الْحُكَمَاء: جعل اللَّازِم ملزوما والملزوم لَازِما مَعَ بَقَاء الْقَضِيَّة بِحَالِهَا من السَّلب والإيجاب. كَقَوْلِنَا: لَا شَيْء من الْإِنْسَان بِحجر، فعكسه: لَا شَيْء من الْحجر بِإِنْسَان. وَعند الْفُقَهَاء والأصوليين لَهُ اعتباران: أَحدهمَا: مثل قَول الْحَنَفِيّ: لما لم يجب الْقصاص بصغير المثقل لم يجب بكبيره بِدَلِيل عَكسه فِي المحدد لما وَجب بكبيره وَجب بصغيره. ثَانِيهمَا: انْتِفَاء الحكم عِنْد انْتِفَاء الْعلَّة وَهُوَ الْمَقْصُود هُنَا. أثْبته قوم، ونفاه أَصْحَابنَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3245 وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الإِمَام أَحْمد، وَكَذَلِكَ جُمْهُور الْفُقَهَاء والأصوليين الشَّافِعِيَّة، / والمعتزلة. وَالْحق أَن اشْتِرَاطه مَبْنِيّ على منع تَعْلِيل الحكم بعلتين إِلَى آخِره. ثمَّ قَالَ: قَالَ شَيخنَا: لَا يرد الْعَكْس إِذا كَانَ تعليلا لنَوْع الحكم وَإِن كَانَ التَّعْلِيل لجنسه فالعكس شَرط. مِثَال الأول قَوْلنَا: الرِّدَّة عِلّة لإباحة الدَّم، فَهُوَ صَحِيح فَلَيْسَ ينعكس. وَمِثَال الثَّانِي قَوْلنَا: الرِّدَّة عِلّة لجنس إِبَاحَة الدَّم، فَلَيْسَ بِصَحِيح لفَوَات الْعَكْس. انْتهى كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل. تَنْبِيه: تابعنا فِي ذكر الْعَكْس ابْن مُفْلِح، وَابْن الْحَاجِب، وَصَاحب " الْمَحْصُول " وَغَيرهم. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَرُبمَا عبر عَن ذَلِك بِأَنَّهُ هَل يشْتَرط فِي الْعلَّة الانعكاس كَمَا يشْتَرط فِي الاطراد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3246 ثمَّ قَالَ: فتسمية صَاحب " الْمَحْصُول " ذَلِك بِالْعَكْسِ فِيهِ نظر إِلَّا أَن يؤول، وَأما هُوَ فسماها عدم الْعَكْس، فَقَالَ: فَأَما عدم الْعَكْس فَالْمُرَاد بِهِ أَن لَا يَنْتَفِي الحكم بِانْتِفَاء الْمُدَّعِي أَنه عِلّة فَهُوَ مُقَابل للطرد وَهُوَ أ، يُوجد بوجدوه، فالعلة إِن كَانَت مطردَة منعكسة فَوَاضِح، أَو غير مطردَة فَهُوَ الِاعْتِرَاض بِالنَّقْضِ، أَو غير منعكسة فَهُوَ المُرَاد هُنَا. انْتهى. قَالَ الْعَضُد: شَرط قوم فِي عِلّة حكم الأَصْل الانعكاس وَهُوَ: أَنه كلما عدم الْوَصْف عدم الحكم، وَلم يَشْتَرِطه آخَرُونَ. وَالْحق أَنه مَبْنِيّ على جَوَاز تَعْلِيل الحكم الْوَاحِد بعلتين مختلفتين؛ لِأَنَّهُ إِذا جَازَ ذَلِك صَحَّ أَن يَنْتَفِي الْوَصْف وَلَا يَنْتَفِي الحكم لوُجُود [الْوَصْف] الآخر وقيامه مقَامه. وَأما إِذا لم يجز فثبوت الحكم دون الْوَصْف يدل على أَنه لَيْسَ عِلّة لَهُ وأمارة عَلَيْهِ وَإِلَّا لانتفى الحكم بانتفائه، لوُجُوب انْتِفَاء الحكم عِنْد انْتِفَاء دَلِيله، وَيَعْنِي بذلك انْتِفَاء الْعلم أَو الظَّن لَا انْتِفَاء نفس الحكم؛ إِذْ لَا يلْزم من انْتِفَاء دَلِيل الشَّيْء انتفاؤه، وَإِلَّا لزم من انْتِفَاء الدَّلِيل على الصَّانِع انْتِفَاء الصَّانِع تَعَالَى وَأَنه بَاطِل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3247 نعم يلْزم انْتِفَاء الْعلم أَو الظَّن بالصانع، فَإنَّا نعلم قطعا أَن الصَّانِع تَعَالَى لَو لم يخلق الْعَالم أَو لم يخلق فِيهِ الدّلَالَة لما لزم انتفاؤه قطعا. / هَذَا بِنَاء على رَأينَا، يَعْنِي أَن بعض الْمُجْتَهدين مُصِيب وَبَعْضهمْ مخطىء. وَأما عِنْد المصوبة فَلَا حَاجَة إِلَى هَذَا الْعذر؛ لِأَن منَاط الحكم عِنْدهم الْعلم أَو الظَّن، فَإِذا انتفيا انْتَفَى الحكم، وعَلى رَأينَا يُمكن أَن يُقَال بِسُقُوط الحكم؛ لِئَلَّا يلْزم تَكْلِيف الْمحَال، وَقد يُقَال: الْعلَّة الدَّلِيل الْبَاعِث على الحكم، وَقد يُخَالف مُطلق الدَّلِيل، فَيلْزم من عَدمه عدم الحكم، وَكَيف لَا وَالْحكم لَا يكون إِلَّا الْبَاعِث إِمَّا وجوبا وَإِمَّا تفضلا. وَقَالَ ابْن مُفْلِح: " اشْتِرَاطه مَبْنِيّ على منع تَعْلِيل الحكم بعلتين. فَمن مَنعه اشْتَرَطَهُ كَعَدم الحكم لعدم دَلِيله، وَالْمرَاد بِعَدَمِ الحكم عدم الظَّن، أَو الظَّن بِهِ لتوقفه على النّظر الصَّحِيح فِي الدَّلِيل وَلَا دَلِيل، وَإِلَّا فالصنعة دَلِيل وجود الصَّانِع وَلَا يلْزم من عدمهَا عَدمه. وَمن جوزه لم يَشْتَرِطه لجَوَاز دَلِيل آخر هَذَا إِن كَانَ التَّعْلِيل لنَوْع آخر، هَذَا إِن كَانَ التَّعْلِيل لنَوْع الحكم نَحْو: الرِّدَّة عِلّة لإباحة الدَّم، فَأَما جنسه فالعكس شَرط نَحْو: الرِّدَّة عِلّة لجنس إِبَاحَة الدَّم فَلَا يَصح لفَوَات الْعَكْس. وَظَاهر مَا سبق أَن الْخلاف فِي تَعْلِيل الحكم الْوَاحِد بعلتين مَعًا وعَلى الْبَدَل، وَكَذَا لم يُقيد جمَاعَة الْمَسْأَلَة بالمعية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3248 وقيدها الْآمِدِيّ وَقَالَ فِي الْعَكْس: أثْبته قوم ونفاه أَصْحَابنَا والمعتزلة ثمَّ اخْتَار أَنه [إِنَّمَا] يكون مُعَللا بعلة على الْبَدَل فَلَا يلْزم من نَفيهَا لجَوَاز بدلهَا " انْتهى كَلَام ابْن مُفْلِح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3249 (قَوْله: [فصل] ) [يجوز تَعْلِيل حكم بعلل كل صُورَة بعلة اتِّفَاقًا، وَفِي صُورَة وَاحِدَة بعلتين، أَو علل مُسْتَقلَّة عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر ويقتضيه كَلَام أَحْمد، وَقيل فِي التَّعَاقُب، وَمنعه بعض الْمَالِكِيَّة والأشعرية مُطلقًا، وَابْن فورك، وَالْغَزالِيّ، والرازي فِي المستنبطة، وَقيل عسكه، وَأَبُو الْمَعَالِي شرعا مُطلقًا] . الْمُعَلل بالعلل المتعددة لَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يكون وَاحِدًا بالنوع أَو وَاحِدًا بالشخص. فالواحد بالنوع يجوز تعدد علله بِحَسب تعدد أشخاصه بِلَا خوف كتعليل قتل زيد بردته، وَقتل عَمْرو بِالْقصاصِ، وَقتل بكر بِالزِّنَا، وَقتل خَالِد / بترك الصَّلَاة. وَأما الْوَاحِد بالشخص فَلَا خلاف فِي امْتنَاع تعدد الْعِلَل الْعَقْلِيَّة فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنى تَأْثِير كل وَاحِد، والمؤثرات على أثر وَاحِد محَال كَمَا قرر فِي مَحَله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3250 وَأما الْعِلَل الشَّرْعِيَّة فَهِيَ مَحل الْخلاف، وَالصَّحِيح فِيهَا من الْمذَاهب الْجَوَاز والوقوع كتحريم وَطْء الْحَائِض الْمُعْتَدَّة الْمُحرمَة، وكالحدث لخُرُوج من فرج، وَزَوَال عقل، وَمَسّ فرج، ولمس أُنْثَى، فَإِن كل وَاحِد من المتعددين الْمَذْكُورين يثبت الحكم مُسْتقِلّا. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِك؛ لِأَن الْعلَّة الشَّرْعِيَّة بِمَعْنى الْمُعَرّف كَمَا تقدم، وَلَا يمْتَنع تعدد الْمُعَرّف؛ لِأَن من شَأْن كل وَاحِد أَن يعرف، لَا الَّذِي وجد بِهِ التَّعْرِيف حَتَّى تكون الْوَاحِدَة إِذا عرفت فَلَا تعرف الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيل الْحَاصِل، وَهَذَا قَول أَصْحَابنَا. قَالَ بَعضهم: ويقتضيه كَلَام أَحْمد فِي خِنْزِير ميت وَغَيره، وَذكره ابْن عقيل عَن جُمْهُور الْفُقَهَاء والأصوليين. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه غير جَائِز، فبالضرورة يكون غير وَاقع، وَأَن مَا ذكرُوا من الْوُقُوع يعود إِلَى الْقسم الأول وَهُوَ أَن الْمُعَلل بهَا وَاحِد بالنوع، وَأما الشَّخْص فمتعذر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3251 فالقتل بِأَسْبَاب أشخاص: الْقَتْل مُتعَدِّدَة وَالنَّوْع وَاحِد فِي الْمحل الْوَاحِد، فَأَما الْقَتْل فِي صُورَة وَاحِدَة: محَال تعدده إِذْ هُوَ إزهاق الرّوح، وَكَذَلِكَ أَسبَاب الْحَدث إِنَّمَا هِيَ أَحْدَاث فِي مَحل لَا حدث وَاحِد. مثل: لَو ارتضعت صَغِيرَة بِلَبن زَوْجَة أَخِيك، وبلبن أختك، كَانَت مُحرمَة عَلَيْك لكونك خالها وعمها، وَلَا يُقَال فِيهِ تحريمان تَحْرِيم الْعم وَتَحْرِيم الْخَال، فَهَذَا يزِيل مَا تعلقوا فِيهِ من الشُّبْهَة. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَفِيه نظر، فقد يُقَال فِيهِ بذلك بِحَسب التَّقْدِير، إِذْ لَا مَانع من ذَلِك. [وَبِهَذَا] القَوْل قَالَ الباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي، من تابعهما، والآمدي، وَابْن برهَان، ومتقدمو الْمَالِكِيَّة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3252 القَوْل الثَّالِث: إِن ذَلِك جَائِز فِي الْعلَّة المنصوصة دون المستنبطة؛ لِأَن المنصوصة دلّ الشَّرْع على تعددها فَكَانَت أَمَارَات / وَأما المستنبطة فَمَا فَائِدَة استخراجها عِلّة؟ إِلَّا أَنه لَا عِلّة غَيرهَا تتخيل. وَجَوَابه: أَنَّهَا إِذا كَانَت أَمَارَات فاستنبطت مُتعَدِّدَة فَلَا فرق. وَهَذَا قَول الشَّيْخ موفق الدّين فِي " الرَّوْضَة "، وَالْغَزالِيّ، وَابْن فورك، والرازي، وَأَتْبَاعه. قَالَ الْبرمَاوِيّ: والأستاذ. قَالَ ابْن الْحَاجِب: القَوْل الرَّابِع: أَن ذَلِك جَائِز فِي الْعلَّة المستنبطة دون المنصوصة عكس الَّذِي قبله، ذكره ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره "، وَلم يذكرهُ فِي " جمع الْجَوَامِع ". القَوْل الْخَامِس: إِن المتعدد جَائِز عقلا وممتنع شرعا، على معنى أَنه لم يَقع فِي الشَّرْع لَا على معنى أَن الشَّرْع دلّ على مَنعه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3253 نَقله ابْن الْحَاجِب عَن أبي الْمَعَالِي وَنقل الْآمِدِيّ عَنهُ خلاف ذَلِك. لَكِن الْهِنْدِيّ قَالَ: إِن هَذَا هُوَ الْأَشْهر فِي النَّقْل عَنهُ، قيل: وَهُوَ الصَّحِيح فَإِن عِبَارَته فِي " الْبُرْهَان ": لَيْسَ مُمْتَنعا عقلا وتسويغا ونظرا إِلَى الْمصَالح الْكُلية، لكنه مُمْتَنع شرعا، وَقَوْلنَا: مُطلقًا، أَي: فِي المنصوصة والمستنبطة. القَوْل السَّادِس: جَوَاز التَّعْلِيل بعلتين متعاقبتين، أَي: إِحْدَاهمَا فِي وَقت وَالْأُخْرَى فِي وَقت آخر، وَلَا يجوز التَّعْلِيل بهما فِي حَالَة وَاحِدَة. وأدخلنا هَذَا القَوْل فِي مَحل الْخلاف تبعا ل " جمع الْجَوَامِع ". وَفِي ذَلِك رد على ابْن الْحَاجِب حَيْثُ اقْتضى كَلَامه: أَن مَحل الْخلاف فِي حَال الْمَعِيَّة، وَأَنه يجوز مَعَ التَّعَاقُب قطعا، قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ لما حكى الْخلاف: " نعم هَل يجْرِي الْخلاف فِي التَّعْلِيل نعلتين سَوَاء كَانَتَا متعاقبتين أَو مَعًا، أَو مُخْتَصّ بالمعية؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3254 كَلَام ابْن الْحَاجِب يَقْتَضِي الأول وَرجح غَيره الثَّانِي، لما يلْزم من شُمُوله حَالَة التَّعَاقُب، أَن يكون أحد من الْأمة يمْنَع أَن اللَّمْس والمس ليسَا بعلتين، وَإِن وجد أَحدهمَا بمفرده بل لَا / عِلّة إِلَّا وَاحِد، فَلَا يكون للْحَدَث مثلا غير عِلّة وَاحِدَة، وَلَا قَائِل بذلك " انْتهى. اسْتدلَّ لِلْقَوْلِ الأول وَهُوَ الصَّحِيح: بِأَن وُقُوعه دَلِيل جَوَازه وَقد وَقع فللحدث علل مُسْتَقلَّة كالبول وَالْغَائِط والمذي وَكَذَلِكَ للْقَتْل وَغَيره. وَاعْترض الْآمِدِيّ: بِأَن الحكم أَيْضا مُتَعَدد شخصا مُتحد نوعا، وَلِهَذَا يَنْتَفِي الْقَتْل بِالرّدَّةِ، وَبَان ارْتَدَّ بعد الْقَتْل ثمَّ أسلم وَيبقى الْقصاص، وينفى الْقَتْل بِالْقصاصِ بِأَن عَفا الْوَلِيّ، وَيبقى بِالرّدَّةِ. وَالْإِبَاحَة لجِهَة الْقَتْل حق الْآدَمِيّ، وبالردة لله، وَلَا يتَصَوَّر ذَلِك فِي شَيْء وَاحِد، وَيقدم الْآدَمِيّ فِي الِاسْتِيفَاء. وَقَالَهُ قبله أَبُو الْمَعَالِي. وَاخْتَارَهُ بعض أَصْحَابنَا قَالَ: وَعَلِيهِ نَص الْأَئِمَّة كَقَوْل أَحْمد فِي بعض مَا ذكره: هَذَا مثل خِنْزِير ميت حرَام من وَجْهَيْن، فَأثْبت تحريمين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3255 وَحل الدَّم مُتَعَدد لَكِن ضَاقَ الْمحل، وَلِهَذَا يَزُول وَاحِد وَيبقى الآخر، وَلَو اتَّحد الْحل بَقِي بعض حل فَلَا يُبِيح. وَقَول الْفُقَهَاء: وتتداخل هَذِه الْأَحْكَام هُوَ دَلِيل تعددها وَإِلَّا شَيْء وَاحِد لَا يعقل فِيهِ تدَاخل. قَالَ: وَقَول أبي بكر من أَصْحَابنَا - فِي مَسْأَلَة الْأَحْدَاث: إِذا نوى أَحدهَا ارْتَفع وَحده - يَقْتَضِي ذَلِك. وَالْأَشْهر لنا وللشافعية: يرْتَفع الْجَمِيع، وَقَالَهُ الْمَالِكِيَّة. و [رد] ذَلِك بِأَن الشَّيْء لَا يَتَعَدَّد فِي نَفسه بِتَعَدُّد إِضَافَته وَإِلَّا غاير حدث الْبَوْل حدث الْغَائِط، وتعدده باخْتلَاف الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة، بِدَعْوَى خَاصَّة لَا يُفِيد. وَأجَاب فِي " الرَّوْضَة ": باستحالة اجْتِمَاع مثلين. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالُوا وَأَيْضًا الْعلَّة دَلِيل فَجَاز تعددها كالأدلة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3256 الْقَائِل بِالْمَنْعِ: لَو جَازَ كَانَت كل مِنْهُمَا مُسْتَقلَّة غير مُسْتَقلَّة؛ لِأَن معنى استقلالها ثُبُوت الحكم فتتناقض [بتعددها] . رد: مُسْتَقلَّة حَالَة الِانْفِرَاد فَقَط فَلَا يتناقض. أُجِيب: الْكَلَام فِي حَالَة الِاجْتِمَاع، وَأَيْضًا لَو جَازَ فَإِن كَانَتَا مَعًا اجْتمع مثلان للُزُوم كل / مِنْهُمَا مَا لزم من الْأُخْرَى وَهُوَ معلولها فَيلْزم التَّنَاقُض؛ لِأَن الحكم يكون مستغنيا غير مستغن لثُبُوته بِكُل مِنْهُمَا، وَإِن ترتبا فَفِيهِ تَحْصِيل الْحَاصِل. رد: إِنَّمَا يلْزم فِي الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، وَيجوز لمدلول وَاحِد أَدِلَّة. وَأَيْضًا: لَو جَازَ لم يقل الْأَئِمَّة فِي عِلّة الرِّبَا بالترجيح لصِحَّة اسْتِقْلَال كل مِنْهُمَا وَالتَّرْجِيح يُنَافِيهِ وَإِلَّا لَكَانَ الْجَمِيع عِلّة. رد: إِنَّمَا تعرضوا للإبطال، سلمنَا فَلَا تحاد عَلَيْهِ الرِّبَا إِجْمَاعًا فتعرضوا للترجيح؛ لِئَلَّا يلْزم جعلهَا أَجزَاء عِلّة؛ لِأَن جعل أَحدهمَا عِلّة بِلَا مُرَجّح محَال. قَالُوا: لَا يجْتَمع مؤثران على أثر وَاحِد كمقدور بَين قَادِرين أجَاب ابْن عقيل: تستقل مُنْفَرِدَة، وَمَعَ الِاجْتِمَاع الْعلَّة وَاحِدَة، لِأَنَّهَا بِوَضْع الشَّارِع كشدة الْخمر، والمقدور بَينهمَا لَيْسَ الْجعل والوضع، فَمن أَحَالهُ فلمعنى يعود إِلَى نَفسه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3257 وَقَالَ ابْن عقيل - أَيْضا - فِي مناظراته: التَّحْقِيق أَن الحكم إِذا اسْتَقل بعلة تعطلت الْأُخْرَى كمكان امْتَلَأَ بجسم، وَفعل وَقع بِوَاحِد، وكما لَا يَصح فعل من فاعلين هَذَا مَعَ تساويهما، وَإِلَّا فالعلة الضعيفة لَا تعْمل مَعَ القوية بِلَا خلاف. الْقَائِل بالمنصوصة: لاستقلال كل مِنْهُمَا بنصه، فَكل وَاحِد عَلامَة، والمستنبطة إِن عين بِنَصّ اسْتِقْلَال كل وصف فمنصوصة، وَإِلَّا فإسناد الحكم إِلَى أَحدهمَا تحكم وَإِلَى كل مِنْهُمَا تنَاقض؛ لِأَنَّهُ يكون مستغنيا عَن كل مِنْهُمَا غير مستغن، فَتعين إِلَيْهِمَا مَعًا كل مِنْهُمَا جُزْء عِلّة. رد: يستنبط استقلالها بِثُبُوت الحكم فِي مَحل كل مِنْهُمَا مُنْفَردا. الْقَائِل بالمستنبطة: لاستقلالها لما سبق فِيمَا قبله والمنصوصة قَطْعِيَّة فَفِي استقلالها اجْتِمَاع المثلين، أَو تَحْصِيل الْحَاصِل. رد: لَيست قَطْعِيَّة، ثمَّ يجوز اجْتِمَاع أَدِلَّة قَطْعِيَّة على مَدْلُول وَاحِد. قَوْله: [فعلى الْجَوَاز كل / وَاحِدَة عِلّة عِنْد الْأَكْثَر، وَعند ابْن عقيل جُزْء عِلّة، وَقيل وَاحِدَة لَا بِعَينهَا] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3258 اسْتدلَّ للْأولِ: بِأَنَّهُ ثَبت اسْتِقْلَال كل مِنْهُمَا مُنْفَرِدَة. رد: لم ثبتَتْ مجتمعة، وَأَيْضًا: لَو لم تكن كل وَاحِدَة عِلّة لَا لامتنع اجْتِمَاع الْأَدِلَّة؛ لِأَنَّهَا أَدِلَّة. وَاسْتدلَّ للثَّانِي: بِأَنَّهُ يلْزم من الِاسْتِقْلَال اجْتِمَاع مثلين، وَسبق دَلِيلا للقائل بِالْمَنْعِ، أَو التحكم إِن ثَبت بِوَاحِدَة فَتعين الْجُزْء. رد: ثَبت بِكُل وَاحِدَة كأدلة عقلية وسمعية [فَيثبت] الْمَدْلُول بِكُل مِنْهُمَا. اسْتدلَّ [للثَّالِث] : بِمَا يلْزم من التحكم أَو الْجُزْئِيَّة. وَجَوَابه: مَا سبق. وَقد ذكر فِي " التَّمْهِيد ": جَوَاز تَعْلِيل الحكم بعلتين وَإِن دلّت إِحْدَاهمَا على حكم الأَصْل وَالْأُخْرَى لم تدل. كَقَوْلِنَا فِي الطَّلَاق قبل النِّكَاح: من لَا ينفذ طَلَاقه الْمُبَاشر لَا ينفذ الْمُعَلق كَالصَّبِيِّ، فَيَقُول الْحَنَفِيّ: الْعلَّة فِي الصَّبِي أَنه غير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3259 مُكَلّف، فَيَقُول الْحَنْبَلِيّ: أَقُول بالعلتين. فَقَالَ بَعضهم: يجوز تَعْلِيله بِالْعِلَّةِ الَّتِي لَا تدل عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا طَرِيق فِيهِ كالنص حكمه لَا يمْنَع التَّعْلِيل بِبَعْض أَوْصَافه المؤثرة. وَمنعه بَعضهم: لِأَنَّهَا لَو وجدت وَحدهَا فِي الأَصْل لم يثبت حكمه لَهَا. قَالَ: وَالْأول أشبه بأصولنا. وبناه بعض أَصْحَابنَا على فرع ثَبت بِالْقِيَاسِ بعلة غير علته، وَسبق لنا فِيهِ قَولَانِ. انْتهى. قَوْله: [وَيجوز تَعْلِيل حكمين بعلة بِمَعْنى الأمارة اتِّفَاقًا، وَبِمَعْنى الْبَاعِث إِثْبَاتًا ونفيا وَثَالِثهَا إِن لم يتضادا] . هَذِه الْمَسْأَلَة مُقَابلَة للمسألة السَّابِقَة وَهِي أَن تتحد الْعلَّة ويتعدد الْمَعْلُول فَيكون أحكاما مُخْتَلفَة، وَله صُورَتَانِ: إِحْدَاهمَا: أَن لَا يكون المتعدد من الحكم فِيهِ تضَاد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3260 وَالثَّانيَِة: أَن يكون فِيهِ تضَاد. فَأَما الأولى: فَذهب الْجُمْهُور: إِلَى أَن الْعلَّة الْوَاحِدَة الشَّرْعِيَّة يجوز أَن يَتَرَتَّب عَلَيْهَا حكمان شرعيان مُخْتَلِفَانِ. لِأَن الْعلَّة إِن فسرت بالمعرف فجوازه ظَاهر؛ إِذْ لَا يمْتَنع عقلا وَلَا شرعا نصب أَمارَة وَاحِدَة على حكمين مُخْتَلفين. بل قَالَ الْآمِدِيّ: " لَا نَعْرِف فِي ذَلِك خلافًا، كَمَا لَو قَالَ الشَّارِع: جعلت / طُلُوع الْهلَال أَمارَة على وجوب الصَّوْم وَالصَّلَاة ". أَو طُلُوع فجر رَمَضَان أَمارَة لوُجُوب الْإِمْسَاك وَصَلَاة الصُّبْح، وَسَوَاء كَانَت فِي الْإِثْبَات أَو فِي النَّفْي. فَمن الْإِثْبَات: السّرقَة فَإِنَّهَا عِلّة فِي الْقطع لمناسبة زجر السَّارِق حَتَّى لَا يعود، وَفِي غَرَامَة المَال الْمَسْرُوق لصَاحبه لمناسبته لجبره. وَمن الْعلَّة فِي النَّفْي: الْحيض، فَإِنَّهُ عِلّة لمنع الصَّلَاة، وَالطّواف، وَقِرَاءَة الْقُرْآن، وَمَسّ الْمُصحف، وَوَطئهَا، وَطَلَاق الزَّوْج، وَغير ذَلِك لمناسبته للْمَنْع من كل ذَلِك. وَلَا يعد فِي مُنَاسبَة وصف وَاحِد لعدد من الْأَحْكَام كَمَا مثلناه. وَذهب جمع يسير إِلَى الْمَنْع من ذَلِك قَالُوا: لما فِيهِ من تَحْصِيل الْحَاصِل؛ لِأَن الْحِكْمَة الَّتِي اشْتَمَل عَلَيْهَا الْوَصْف اسْتَوْفَاهُ أحد الْحكمَيْنِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3261 ورد: بِأَنَّهُ يتَوَقَّف الْمَقْصُود عَلَيْهِمَا، فَلَا يحصل جَمِيعهَا إِلَّا بهما، أَو يحصل الحكم الثَّانِي حِكْمَة أُخْرَى فتتعدد الْحِكْمَة، وَالْوَصْف ضَابِط لأَحَدهمَا. " وَأما الصُّورَة الثَّانِيَة: هِيَ: أَن يكون بَين المتعدد من الحكم الْمُعَلل تضَاد، وَلم يُصَرح بهَا ابْن الْحَاجِب وَلَا ابْن مُفْلِح وَغَيرهمَا، وَلكنهَا دَاخِلَة فِي إِطْلَاقهم تَعْلِيل حكمين بعلة وَاحِدَة، وَلَكِن لَا يجوز هُنَا إِلَّا بِشَرْطَيْنِ متضادين كالجسم يكون عِلّة للسكون بِشَرْط الْبَقَاء فِي الحيز، وَعلة للحركة بِشَرْط الِانْتِقَال عَنهُ. وَإِنَّمَا اعْتبر فِيهِ الشرطان؛ لِأَنَّهُ لَا يُمكن اقتضاؤها لَهما بِدُونِ ذَلِك، لِئَلَّا يلْزم اجْتِمَاع الضدين وَهُوَ محَال. وَإِنَّمَا شَرط التضاد فِي الشَّرْطَيْنِ، لِأَنَّهُ لَو أمكن اجْتِمَاعهمَا كالبقاء فِي الحيز مَعَ الِانْتِقَال مثلا، فَعِنْدَ حُصُول ذَيْنك الشَّرْطَيْنِ: إِن حصل الحكمان - أَعنِي السّكُون وَالْحَرَكَة - لزم اجْتِمَاع الضدين، وَإِن حصل أَحدهمَا دون الآخر لزم التَّرْجِيح بِلَا مُرَجّح، وَإِن [لم] يحصل وَاحِدَة مِنْهُمَا خرجت الْعلَّة عَن أَن تكون عِلّة، فَتعين التضاد فِي الشَّرْطَيْنِ " قَالَه الْبرمَاوِيّ. وَقَالَ الكوراني: " عِنْد قوم لَا يجوز إِذا كَانَا متضادين؛ لِأَن الشي الْوَاحِد لَا يُنَاسب الضدين. وَالْجَوَاب / منع ذَلِك لجَوَاز تعدد الْجِهَات فيهمَا. قَالَ الإِمَام: تَعْلِيل المتضادين بعلة وَاحِدَة إِنَّمَا يجوز إِذا كَانَا مشروطين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3262 بِشَرْطَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَأما إِذا جَازَ اجْتِمَاع الشَّرْطَيْنِ فالتعليل محَال؛ لِأَنَّهُمَا إِذا اجْتمعَا لم تكن الْعلَّة بِأَحَدِهِمَا أولى من الْأُخْرَى " انْتهى. وَقَالَ الْمحلي: " وَالْقَوْل الثُّلُث: يجوز تَعْلِيل حكمين بعلة إِن لم يتضادا، الْخلاف مَا إِذا تضادا، كالتأبيد لصِحَّة البيع وَبطلَان الْإِجَارَة؛ لِأَن الشَّيْء الْوَاحِد لَا يُنَاسب المتضادين " انْتهى. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: " القَوْل الثَّالِث: الْجَوَاز إِن لم يتضادا، الْحيض لتَحْرِيم الصَّلَاة وَالصَّوْم، وَالْمَنْع إِن تضادا، كَأَن يكون مُبْطلًا لبَعض الْعُقُود مصححا لبعضها، كالتأبيد يصحح البيع وَيبْطل الْإِجَارَة " انْتهى. وَهَذَا القَوْل الثَّالِث الَّذِي ذَكرْنَاهُ. قَوْله: [وَمِنْهَا أَن لَا تتأخر عِلّة الأَصْل عَن حكمه فِي الْأَصَح] . من جملَة شُرُوط الْعلَّة: أَن لَا يكون ثُبُوت الْعلَّة مُتَأَخِّرًا عَن ثُبُوت حكم الأَصْل، وَخَالف فِي ذَلِك قوم من أهل الْعرَاق. كَمَا لَو قيل فِيمَن أَصَابَهُ عرق الْكَلْب، أَصَابَهُ عرق حَيَوَان نجس فَكَانَ نجسا كلعابه، فَيمْنَع السَّائِل كَون عرق الْكَلْب نجسا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3263 فَيَقُول الْمُسْتَدلّ: لِأَنَّهُ مستقذر شرعا، أَي: أَمر الشَّرْع بالتنزه عَنهُ فَكَانَ نجسا كالبول. فَيَقُول الْمُعْتَرض: هَذِه الْعلَّة ثُبُوتهَا مُتَأَخّر عَن حكم الأَصْل فَتكون فَاسِدَة؛ لِأَن حكم الأَصْل وَهُوَ [نَجَاسَته] يجب أَن تكون سَابِقَة على استقذاره؛ لِأَن الحكم باستقذاره إِنَّمَا هُوَ مُرَتّب على ثُبُوت [نَجَاسَته] ، وَإِنَّمَا [كَانَت] هَذِه الْعلَّة فَاسِدَة لتأخرها عَن حكم الأَصْل [لما] يلْزم من ثُبُوت الحكم بِغَيْر باعث على تَقْدِير تَفْسِير الْعلَّة بالباعث، وَقد فَرضنَا تأخرها عَن الحكم وَهُوَ محَال؛ لِأَن الْفَرْض أَن الحكم قد عرف قبل ثُبُوت علته، لَكِن إِنَّمَا يَتَأَتَّى هَذَا إِذا قُلْنَا إِن معنى الْمُعَرّف الَّذِي يحصل التَّعْرِيف بِهِ، أما إِذا قُلْنَا إِن الَّذِي من شَأْنه التَّعْرِيف فَلَا كَذَلِك. قَالَ الْهِنْدِيّ: الْحق الْجَوَاز إِن أُرِيد بِالْعِلَّةِ الْمُعَرّف / أَي: لِأَن الْمُعَرّف يتَأَخَّر، بل الْحَادِث تَعْرِيف الْقَدِيم كَمَا فِي تَعْرِيف الْعَالم لوُجُود الصَّانِع، واتصافه بِصِفَات ذَاته السّنيَّة، وَإِن أُرِيد بهَا الْمُوجب أَو الْبَاعِث فَلَا. انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3264 قَالَ ابْن مُفْلِح: " اخْتلفُوا فِي جَوَاز تَأْخِير عِلّة الأَصْل عَن حكمه، كتعليل ولَايَة الْأَب على صَغِير عرض لَهُ جُنُون: بالجنون. وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ وَغَيره: الْمَنْع لِاسْتِحَالَة ثُبُوت الحكم بِلَا باعث، وَإِن جَازَ التَّعْلِيل بالأمارة فتعريف الْمُعَرّف كتعريف الحكم بِالنَّصِّ. وَفِيه نظر؛ لجَوَاز كَون فائدتها تَعْرِيف حكم الْفَرْع فَيتَوَجَّه قَول ثَالِث " انْتهى. قَوْله: [وَأَن لَا ترجع عَلَيْهِ بالإبطال، وَإِن عَادَتْ عَلَيْهِ بالتخصيص فَالْخِلَاف] . من الشُّرُوط أَن لَا تعود على حكم الأَصْل الَّذِي استنبطت مِنْهُ بالإبطال حَتَّى لَو استنبطت من نَص وَكَانَت تُؤدِّي إِلَى ذَلِك كَانَ فَاسِدا؛ وَذَلِكَ لِأَن الأَصْل منشئها، فإبطالها لَهُ إبِْطَال لَهَا لِأَنَّهَا فَرعه وَالْفرع لَا يبطل أَصله، إِذْ لَو أبطل أَصله لأبطل نَفسه. كتعليل الْحَنَفِيَّة وجوب الشَّاة فِي الزَّكَاة بِدفع حَاجَة الْفَقِير، فَإِنَّهُ مجوز لإِخْرَاج قيمَة الشَّاة، مفض إِلَى عدم وُجُوبهَا بالتخيير بَينهَا وَبَين قيمتهَا. وَلَهُم أَن يَقُولُوا: مَا الْفرق بَين هَذَا وَبَين تجويزكم [الِاسْتِنْجَاء] بِكُل جامد طَاهِر قالع غير مُحْتَرم استنباطا من أمره عَلَيْهِ السَّلَام: " فِي الِاسْتِنْجَاء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3265 بِثَلَاثَة أَحْجَار "، فَإِنَّكُم أبطلتم هَذَا التوسيع بِعَين الْأَحْجَار الْمَأْمُور بهَا. لَكنا نقُول: إِنَّمَا فهمنا إبِْطَال تَعْيِينهَا من قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد مَا أمره بالاستنجاء بِثَلَاثَة أَحْجَار: " وَلَا يستنجي برجيع وَلَا عظم "، فَدلَّ على أَنه أَرَادَ أَولا الْأَحْجَار وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَإِلَّا لم يكن فِي النَّهْي عَن الرجيع والعظم فَائِدَة. وَأما إِذا عَادَتْ عَلَيْهِ بالتخصيص فللعلماء فِيهِ قَولَانِ. قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَإِن عَادَتْ عَلَيْهِ بالتخصيص فَالْخِلَاف " انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَأما عودهَا بتخصيص النَّص فللشافعي فِيهِ قَولَانِ مستنبطان من اخْتِلَاف / قَوْله فِي نقض الْوضُوء بِمَسّ الْمَحَارِم، فَلهُ قَول: ينْتَقض، [تمسكا بِالْعُمُومِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَو لامستم النِّسَاء} [النِّسَاء: 43] . وَفِي قَول وَهُوَ الرَّاجِح: لَا ينْقض] ؛ نظرا إِلَى كَون الملموس مَظَنَّة الِاسْتِمْتَاع، فَعَادَت الْعلَّة على عُمُوم النِّسَاء بالتخصيص بِغَيْر الْمَحَارِم. وَمثله: حَدِيث " النَّهْي عَن بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3266 شَامِل للمأكول وَغَيره، وَالْعلَّة فِيهِ وَهُوَ معنى الرِّبَا، تَقْتَضِي تَخْصِيصه بالمأكول؛ لِأَنَّهُ بيع رِبَوِيّ بِأَصْلِهِ، فَمَا لَيْسَ بربوي لَا مدْخل لَهُ فِي النَّهْي، فقد عَادَتْ الْعلَّة على أَصْلهَا بالتخصيص. فَلذَلِك جرى للشَّافِعِيّ قَولَانِ فِي بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ غير الْمَأْكُول مأخذهما ذَلِك) . قلت: ولأصحابنا فِي كل من الْمَسْأَلَتَيْنِ قَولَانِ، وَالصَّحِيح النَّقْض بِمَسّ الْمَحَارِم، وَصِحَّة البيع فِي بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ مُطلقًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3267 (وَأما عودهَا بالتعميم فَإِنَّهُ جَائِز بِلَا خلاف كَمَا يستنبط من قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان " أَن الْعلَّة تشويش الْفِكر، فيتعدى إِلَى كل مشوش من شدَّة فَرح وَنَحْوه. الْعجب من قَول القَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ: أَجمعُوا على أَنه لَيْسَ لنا عِلّة تعود على أَصْلهَا بالتعميم إِلَّا هَذَا الْمِثَال، وَذَلِكَ جَائِز بِالْإِجْمَاع. فقد وجد من ذَلِك كثير نَحْو: النَّهْي عَن الصَّلَاة وَهُوَ يدافع أحد الأخبثين، وَالْأَمر بِتَقْدِيم الْعشَاء على الصَّلَاة، فَإِن الْعلَّة ترك الْخُشُوع، فَيعم كل مَا يحصل ذَلِك، بل بَاب الْقيَاس كُله من تَعْمِيم النَّص بِالْعِلَّةِ) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3268 قَوْله: [فَائِدَة: مَا حكم بِهِ الشَّارِع مُطلقًا، أَو فِي عين أَو فعله، أَو أقره لَا يُعلل بعلة مُخْتَصَّة بذلك الْوَقْت، بِحَيْثُ يَزُول الحكم مُطلقًا عِنْد أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة، وَجوزهُ الْحَنَفِيَّة والمالكية، وَقَالَ الشَّيْخ وَغَيره: قد تَزُول الْعلَّة وَيبقى الحكم كالرمل، أما تَعْلِيله بعلة زَالَت لَكِن إِذا عَادَتْ عَاد، فَفِيهِ نظر، وَعَكسه: تَعْلِيل النَّاسِخ بعلة مُخْتَصَّة بذلك الزَّمن بِحَيْثُ إِذا زَالَت زَالَ، وَيَقَع الْفُقَهَاء فِيهِ كثيرا، ووقوعه فِي خطاب عَام فِيهِ نظر، وَألْحق الْحَنَفِيَّة النّسخ بِزَوَال الْعلَّة] . قَالَ ابْن مُفْلِح عقيب الْمَسْأَلَة الْمُتَقَدّمَة كالمستشهد لَهَا بذلك: (وَقد قَالَ بعض أَصْحَابنَا / - وعنى بِهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين -: مَا حكم بِهِ الشَّارِع مُطلقًا أَو فِي عين، أَو فعله، أَو أقره، هَل يجوز تَعْلِيله بعلة مُخْتَصَّة بذلك الْوَقْت بِحَيْثُ يَزُول الحكم مُطلقًا؟ جوزه الْحَنَفِيَّة، والمالكية ذَكرُوهُ فِي مَسْأَلَة التَّخْلِيل، وَذكره الْمَالِكِيَّة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3269 فِي حكمه بِتَضْعِيف الْغرم على سَارِق الثَّمر الْمُعَلق، والضالة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3270 المكتومة، ومانع الزَّكَاة، وتحريق مَتَاع ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3271 الغال، وَهُوَ شبهتهم أَن حكم الْمُؤَلّفَة انْقَطع. وَمنعه أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، ثمَّ قَالَ بَعضهم - يَعْنِي بِهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَيْضا -: قد تَزُول الْعلَّة وَيبقى الحكم كالرمل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3272 وَقَالَ بَعضهم: النُّطْق حكم مُطلق وَإِن كَانَ سَببه خَاصّا، قد ثبتَتْ الْعلَّة مُطلقًا. وَهَذَانِ جوابان لَا حَاجَة إِلَيْهِمَا. وَاحْتج: بِأَن هَذَا رَأْي مُجَرّد، وَتمسك الصَّحَابَة بنهيه عَن ادخار لُحُوم الْأَضَاحِي فِي الْعَام الْقَابِل، وَمرَاده أَنه صَحَّ عَن ابْن عمر، وَأبي سعيد، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3273 وَقَتَادَة بن النُّعْمَان، وَقَول جَابر: " كُنَّا لَا نَأْكُل فأرخص لنا ". قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَالْحكم هُنَا أَقسَام: أَعْلَاهَا: أَن يكون بخطاب مُطلق. الثَّانِي: أَن يثبت فِي أَعْيَان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3274 الثَّالِث: أَن يكون فعلا وإقرارا. فَإِن كَانَ الحكم مُطلقًا، فَهَل يجوز تَعْلِيله بعلة قد زَالَت، لَكِن إِذا عَادَتْ يعود، فَهَذَا أخف من الأول وَفِيه نظر. قلت: نَظِيره قَول من يَقُول: بِانْقِطَاع نصيب الْمُؤَلّفَة عِنْد عدم الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ، فَإِن وجدت الْحَاجة إِلَى التَّأْلِيف عَاد جَوَاز الدّفع لعود الْعلَّة. أما تَعْلِيله بعلة زَالَت، لَكِن إِذا عَادَتْ فَفِيهِ نظر. وَعَكسه: تَعْلِيل النَّاسِخ بعلة مُخْتَصَّة بذلك الزَّمن بِحَيْثُ إِذا زَالَت زَالَت وَيَقَع الْفُقَهَاء فِيهِ كثيرا وَالله أعلم. وَيَأْتِي فِي كَلَام أبي الْخطاب فِي اسْتِصْحَاب حكم الْإِجْمَاع. وَفِي " وَاضح " ابْن عقيل: ألحق الْحَنَفِيَّة النّسخ بِزَوَال الْعلَّة، كَالْخمرِ حرمت أَولا وألفوا شربهَا، فَنهى عَن تخليلها تَغْلِيظًا، وزالت باعتياد التّرْك فَزَالَ الحكم، ثمَّ أبْطلهُ بِأَنَّهُ نسخ بِالِاحْتِمَالِ كمنعه حد وَفسق ونجاستها. انْتهى نقل ابْن مُفْلِح غير كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل. / الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3275 قَوْله: [وَمِنْهَا أَن لَا يكون للمستنبطة معَارض فِي الأَصْل، وَقيل: رَاجِح، وَقيل: وَلَا فِي الْفَرْع، وَقيد الْآمِدِيّ الْمعَارض بِكَوْنِهِ راجحا عِنْد من جوز تَخْصِيص الْعلَّة، قَالَ: وَيَكْفِي الظَّن فِي نفي معَارض فِي أصل وَفرع] . يشْتَرط فِي الْعلَّة إِذا كَانَت مستنبطة أَن لَا تكون مُعَارضَة بمعارض منَاف مَوْجُود فِي الأَصْل صَالح للعلية، وَلَيْسَ مَوْجُودا فِي الْفَرْع؛ لِأَنَّهُ مَتى كَانَ فِي الأَصْل وصفان متنافيان يَقْتَضِي كل وَاحِد مِنْهُمَا نقيض الآخر، لم يصلح أَن يَجْعَل أَحدهمَا عِلّة إِلَّا بمرجح. مِثَال ذَلِك: أَن يَقُول حَنَفِيّ فِي صَوْم الْفَرْض: صَوْم عين فيتأدى بِالنِّيَّةِ قبل الزَّوَال كالنفل. فَيُقَال لَهُ: صَوْم فرض، فيحتاط فِيهِ، وَلَا يبْنى على السهولة. وَبَعْضهمْ اشْترط أَن لَا يكون فِي الْفَرْع وصف معَارض، مَتى وجد فِيهِ وصف منَاف يَقْتَضِي إِلْحَاقه بِأَصْل آخر تَعَارضا. مِثَاله: قَول الشَّافِعِي فِي مسح الرَّأْس ركن فِي الْوضُوء فَيسنّ تثليثه كَغسْل الْوَجْه. فيعارضه الْخصم فَيَقُول: مسح فِي وضوء فَلَا يسن تثليثه كالمسح على الْخُفَّيْنِ؛ وَذَلِكَ لِأَن انْتِفَاء التَّعَارُض فِي الْفَرْع إِنَّمَا هُوَ بِشَرْط ثُبُوت حكم الْعلَّة فِي الْفَرْع لَا شَرط فِي صِحَة الْعلَّة نَفسهَا، فَيجوز أَن تكون صَحِيحَة، سَوَاء ثَبت الحكم فِي الْفَرْع أم تخلف لسَبَب من الْأَسْبَاب اقْتضى تخلفه، فَمن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3276 ادَّعَاهُ شرطا فِي الْعلَّة فقد وهم، فالمعارضة فِي الْفَرْع تقدح فِي الْقيَاس لَا فِي خُصُوص الْعلَّة. فَإِن قيل: قيد الْمعَارض بالمنافي، وَمَفْهُوم الْمُعَارضَة تَقْتَضِي الْمُنَافَاة. قيل: لِأَن المعرض قد يكون غير منَاف، وَذَلِكَ فِي غير الْعلَّة فَأُرِيد تَحْقِيق أَن المُرَاد هُنَا الْمنَافِي؛ لِأَن مَالا يُنَافِي من الأصاف غَايَته أَن يكون عِلّة أُخْرَى. مِثَاله: أَن يتَّفقَا على أَن الْبر رِبَوِيّ، ويعلل أَحدهمَا بالطعم وَيذكر مناسبته، ويعلل الآخر بِالْكَيْلِ وَيذكر مناسبته. وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث: وَهُوَ أَن الْمعَارض فِي الأَصْل إِنَّمَا يكون شرطا إِذا كَانَ الْمعَارض راجحا، وَهُوَ مَمْنُوع؛ إِذْ الْمعَارض الْمسَاوِي يمْنَع الْعلَّة أَيْضا، قَالَه الْأَصْفَهَانِي. قَالَ الْعَضُد: " وَقيل: أَن يكون الْمعَارض / فِي الْفَرْع مَعَ تَرْجِيح الْمعَارض، وَلَا بَأْس بالمساوي لِأَنَّهُ لَا يبطل، وَإِنَّمَا يحوج إِلَى التَّرْجِيح وَهُوَ دَلِيل الصِّحَّة بِخِلَاف الرَّاجِح فَإِنَّهُ يبطل " انْتهى. قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَقيل معَارض رَاجِح وَفِيه نظر، قَالَ: وَقيد الْآمِدِيّ الْمعَارض بِكَوْنِهِ راجحا عِنْد من جوز تَخْصِيص الْعلَّة ليقيد الْقيَاس، قَالَ: وَيَكْفِي الظَّن فِي نفي معَارض فِي أصل وَفرع " انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3277 قَوْله: [وَأَن لَا تخَالف نصا وَلَا إِجْمَاعًا] . مِمَّا اشْترط فِي الْعلَّة أَن تكون عرية عَن مُخَالفَة كتاب أَو سنة، أَو مُخَالفَة إِجْمَاع؛ لِأَن النَّص وَالْإِجْمَاع لَا يقاومهما الْقيَاس، بل يكون إِذا خالفهما بَاطِلا. مِثَال مُخَالفَة النَّص: أَن يَقُول حَنَفِيّ: امْرَأَة مالكة لبضعها، فَيصح نِكَاحهَا بِغَيْر إِذن وَليهَا، قِيَاسا على مَا لَو باعت سلعتها. فَيُقَال لَهُ: هَذِه عِلّة مُخَالفَة لقَوْل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت نَفسهَا بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل ". وَمِثَال مُخَالفَة الْإِجْمَاع: أَن يُقَال: مُسَافر فَلَا تجب عَلَيْهِ الصَّلَاة فِي السّفر، قِيَاسا على صَوْمه فِي عدم الْوُجُوب فِي السّفر بِجَامِع الْمَشَقَّة. فَيُقَال: هَذِه الْعلَّة مُخَالفَة، الْإِجْمَاع على عدم اعْتِبَارهَا فِي الصَّلَاة، وَأَن الصَّلَاة وَاجِبَة على الْمُسَافِر مَعَ وجود مشقة السّفر. وَمِثَال آخر: لَو قيل الْملك لَا يعْتق فِي الْكَفَّارَة لسهولته عَلَيْهِ، بل يَصُوم، وَهُوَ يصلح مِثَالا لَهما، قَالَه الْعَضُد. قَوْله: [وَلَا تَتَضَمَّن زِيَادَة على النَّص، وَقَالَ الْآمِدِيّ: إِن نافت مُقْتَضَاهُ] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3278 من شُرُوط الْعلَّة المستنبطة أَيْضا: أَن لَا تَتَضَمَّن زِيَادَة على النَّص، أَي حكما فِي الأَصْل غير مَا أثْبته النَّص؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تعلم مِمَّا أثبت فِيهِ. مِثَاله: " لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء "، فتعلل الْحُرْمَة بِأَنَّهُ رَبًّا فِيمَا يُوزن كالنقدين، فَيلْزم التَّقَابُض مَعَ أَن النَّص لم يتَعَرَّض لَهُ، وَهَذَا قدمه ابْن الْحَاجِب، وشراحه وَغَيرهم. وَقيل: لَا يشْتَرط، إِلَّا أَن تكون الزِّيَادَة مُنَافِيَة للنَّص، وَهَذَا / اخْتِيَار الْآمِدِيّ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَهُوَ الْمُخْتَار، لِأَنَّهَا إِذا لم تناف لَا يضر وجودهَا ". قَالَ الْعَضُد: " وَقيل: إِن كَانَت الزِّيَادَة مُنَافِيَة لحكم الأَصْل، لِأَنَّهُ نسخ لَهُ فَهُوَ مِمَّا يكر على أَصله بالإبطال وَإِلَّا جَازَ ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3279 قَوْله: [وَأَن يكون دليلها شَرْعِيًّا] . أَي: من شُرُوط عِلّة الأَصْل أَن يكون دليلها شَرْعِيًّا؛ وَذَلِكَ لِأَن دليلها لَو كَانَ غير شَرْعِي للَزِمَ أَن لَا يكون الْقيَاس شَرْعِيًّا، وَهَذَا فِي بعض نسخ " مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب "، وَلذَلِك شرحها الْأَصْفَهَانِي، وَبَعض النّسخ لَيْسَ هِيَ فِيهَا، وَلذَلِك لم يشرحها الْعَضُد. قَوْله: [وَلَا يعم دليلها حكم الْفَرْع بِعُمُومِهِ أَو خصوصه] . أَي: من شَرط صِحَّتهَا أَن لَا يكون دَلِيل الْعلَّة شَامِلًا لحكم الْفَرْع بِعُمُومِهِ، كقياس التفاح على الْبر بِجَامِع الطّعْم. فَيُقَال: الْعلَّة دليلها حَدِيث: " الطَّعَام بِالطَّعَامِ مثلا بِمثل " رَوَاهُ مُسلم، وَأما تَمْثِيل ابْن الْحَاجِب ب " لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا مثلا بِمثل " فَلَا يعرف، بِهَذَا اللَّفْظ فالفرع دَاخل فِي الطَّعَام. أَو بِخُصُوص لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " من قاء أَو رعف فَليَتَوَضَّأ "، وَإِن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3280 كَانَ الحَدِيث ضَعِيفا لَكِن يذكر للتمثيل. فَلَو قيل فِي الْقَيْء: خَارج من غير السَّبِيلَيْنِ فينتقض كالخارج مِنْهُمَا، ثمَّ اسْتدلَّ على أَن الْخَارِج مِنْهُمَا ينْقض بِهَذَا الحَدِيث، لم يَصح؛ لِأَنَّهُ تَطْوِيل بِلَا فَائِدَة، بل فِي الثَّانِي مَعَ كَونه تَطْوِيلًا رُجُوع عَن الْقيَاس؛ لِأَن الحكم حِينَئِذٍ يثبت بِدَلِيل الْعلَّة لَا بِنَفس الْعلَّة، فَلم يثبت الحكم بِالْقِيَاسِ. قَالَ الْعَضُد: " لنا: أَنه يُمكن إِثْبَات الْفَرْع بِالنَّصِّ كَمَا يُمكن إِثْبَات الأَصْل بِهِ، فالعدول عَنهُ إِلَى إِثْبَات الأَصْل ثمَّ الْعلَّة، ثمَّ بَيَان وجودهَا فِي الْفَرْع، ثمَّ بَيَان ثُبُوت الحكم: تَطْوِيل بِلَا فَائِدَة، وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ رُجُوع من الْقيَاس إِلَى النَّص ". ثمَّ ذكر الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب: أَنه قيل إِن هَذِه مناقشة جدلية وَهِي لَا تقدح فِي صِحَة الْقيَاس؛ لِأَن المناقشة الجدلية ترجع إِلَى بَيَان أوضاع / الْأَدِلَّة وَلَيْسَ فِيهَا بحث فقهي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3281 قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَلم يجيبا عَن ذَلِك، وَلَكِن جَوَابه: أَن لَهَا فَائِدَة فقهية، وَذَلِكَ لِأَن الحكم فِي الْمَسْأَلَة الأولى كَانَ مُسْتَندا [للنَّص] فَجعله المناظر مُسْتَندا للْقِيَاس، وَحكم العمومين وَالْقِيَاس مُخْتَلف، وَفِي الثَّانِي كَانَ قِيَاسا فَعَاد مَنْصُوصا، وَلَا يَخْلُو مثل ذَلِك من غَرَض، فَيُقَال: إِن كَانَ فِي التَّطْوِيل مقصد فقهي [قبل] وَإِلَّا فَلَا. قلت: وَأَيْضًا فقد سبق أَن اجْتِمَاع النَّص وَالْقِيَاس فِي الْفَرْع اجْتِمَاع دَلِيلين، وَلَا يمْنَع من ذَلِك لما فِيهِ من التَّرْجِيح لَو عورض لِكَثْرَة الْأَدِلَّة " انْتهى. وَقَالَ الْعَضُد: " وَقَالُوا إِنَّهَا مناقشة جدلية؛ إِذْ الْغَرَض الظَّن بِأَيّ طَرِيق حصل، فَلَا معنى لتعيين الطَّرِيق. الْجَواب: أَنه رُجُوع عَن الْقيَاس. وَاعْلَم أَنه رُبمَا يكون النَّص مُخَصّصا، والمستدل أَو الْمُعْتَرض لَا يرَاهُ حجَّة إِلَّا فِي أقل الْجمع، فَلَو أَرَادَ إدراج الْفَرْع فِيهِ تعسر، فَيثبت بِهِ الْعلَّة فِي الْجُمْلَة، ثمَّ يعم بِهِ الحكم فِي جَمِيع موارد وجود الْعلَّة. وَأَيْضًا: فقد يكون دلَالَته على الْعلية أظهر من دلَالَته على الْعُمُوم، كَمَا يَقُول: حرمت الرِّبَا فِي الطَّعَام للطعم، فَإِن الْعلَّة فِي غَايَة الوضوح، والعموم فِي الْمُفْرد الْمُعَرّف مَحل خلاف الظَّاهِر " انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3282 قَوْله: [وَأَن تتَعَيَّن فِي الْأَصَح] . من الشُّرُوط أَن تكون الْعلَّة مُعينَة لَا مُبْهمَة، بِمَعْنى: شائعة، خلافًا لمن اكْتفى بذلك تعلقا بقول عمر - رَضِي اللَّهِ عَنهُ -: " اعرف الْأَشْبَاه والنظائر، وَقس الْأُمُور بِرَأْيِك "، فَيَكْفِي عِنْدهم كَون الشَّيْء مشبها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3283 للشَّيْء شبها مَا. قَالَ الْهِنْدِيّ: لَكِن أطبق الجماهير على فَسَاده. لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى أَن الْعَاميّ والمجتهد سَوَاء فِي إِثْبَات الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فِي الْحَوَادِث، إِذْ مَا من عَامي جَاهِل إِلَّا وَعِنْده معرفَة بِأَن هَذَا النَّوْع أصل من الْأُصُول فِي أَحْكَام كَثِيرَة. وَأجْمع السّلف على أَنه لَا بُد فِي الْإِلْحَاق من الِاشْتِرَاك بِوَصْف خَاص. [قَوْله] : [وَلَا تكون وَصفا مُقَدرا خلافًا لقوم، وَتَكون حكما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3284 شَرْعِيًّا عِنْد ابْن عقيل وَالْأَكْثَر، وَحكي عَن أَصْحَابنَا، وَمنع جمَاعَة وَحكي عَن ابْن عقيل وَابْن الْمَنِيّ، وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ الْجَوَاز بِمَعْنى الأمارة فِي غير أصل الْقيَاس. وَتَكون صفة الِاتِّفَاق وَالِاخْتِلَاف عِلّة عِنْد أَصْحَابنَا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3285 وَالْأَكْثَر، وَمنعه القَاضِي وَغَيره. ويتعدد الْوَصْف وَيَقَع عندنَا، وَعند الْأَكْثَر وَعند الْجِرْجَانِيّ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3286 إِلَى خَمْسَة، وَحكي: سَبْعَة، وَقيل: لَا] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3287 ( [قَوْله] : (فصل)) ( [لَا يشْتَرط الْقطع بِحكم الأَصْل، وَلَا بوجودها فِي الْفَرْع، وَلَا انْتِفَاء مُخَالفَة مَذْهَب صَحَابِيّ إِن لم يكن حجَّة فِي الْأَصَح فِيهِنَّ] ) . [اشْترط بَعضهم فِي المستنبطة أَن تكون من أصل مَقْطُوع] بِحكمِهِ. وَالصَّحِيح لَا؛ إِذْ يجوز الْقيَاس على مَا ثَبت حكمه بِدَلِيل ظَنِّي كَخَبَر الْوَاحِد والعموم وَالْمَفْهُوم وَغَيرهَا؛ لِأَنَّهُ غَايَة الِاجْتِهَاد فِيمَا يقْصد بِهِ الْعَمَل. وَالصَّحِيح أَيْضا الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنه لَا يشْتَرط الْقطع بِوُجُود الْعلَّة فِي الْفَرْع. وَشرط بَعضهم ذَلِك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3288 وَالصَّحِيح الأول؛ لِأَن الْقيَاس إِذا كَانَ ظنيا فَلَا يضر كَون مقدماته أَو شَيْء مِنْهَا ظنيا. وَلَا يشْتَرط أَيْضا انْتِفَاء مُخَالفَة مَذْهَب صَحَابِيّ إِن لم يكن حجَّة على الصَّحِيح. وَإِن قُلْنَا هُوَ حجَّة فيتقدم على الْقيَاس على مَا يَأْتِي بَيَانه فِي مذْهبه. واشترطه بَعضهم. وَالصَّحِيح خِلَافه كَمَا تقدم. [قَوْله] : (وَلَا يشْتَرط النَّص على الْعلَّة، وَلَا الْإِجْمَاع على تَعْلِيله خلافًا لبشر المريسي) . الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْعلمَاء المعتبرون أَنه لَا يشْتَرط: أَن يرد نَص دَال على عين تِلْكَ الْعلَّة، وَلَا الِاتِّفَاق على أَن حكم الأَصْل مُعَلل. وَخَالف فِي ذَلِك بشر المريسي، فَاشْترط أَحدهمَا، هَذَا ظَاهر كَلَامه فِي " جمع الْجَوَامِع ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3289 وَالَّذِي ذكره هُنَا الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " عَن بشر: اشْتِرَاط الْأَمريْنِ مَعًا، وَهُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ هُنَا تبعا لِابْنِ مُفْلِح. وَحكى الْبَيْضَاوِيّ عَنهُ: أَنه شَرط إِمَّا قيام الْإِجْمَاع عَلَيْهِ، أَو كَون علته منصوصة، وَهُوَ مُخَالف لكَلَام الرَّازِيّ من وَجْهَيْن، وَكَلَامه فِي " جمع الْجَوَامِع " يخالفهما. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَشرط بَعضهم فِي الأَصْل أَن يجمعوا على أَن حكمه مُعَلل لَا تعبدي، وَنقل عَن بشر المريسي، والشريف المرتضي، وَمِنْهُم من شَرط الِاتِّفَاق على وجود الْعلَّة فِي الأَصْل، وَخَالف الْجُمْهُور فاكتفوا بانتهاض الدَّلِيل على ذَلِك ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3290 فَظَاهره أَن مُخَالفَة بشر فِي الثَّانِيَة فَقَط، وعَلى كل حَال يَكْفِي إِثْبَات التَّعْلِيل بِدَلِيل على الصَّحِيح. قَوْله: [وَإِذا كَانَت عِلّة انْتِفَاء الحكم وجود مَانع، أَو عدم شَرط، لزم وجود الْمُقْتَضِي عِنْد الْأَكْثَر، وَقَالَ الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه: لَا، وَصحح ابْن عقيل وَجمع كَون الْعلَّة صُورَة الْمَسْأَلَة / نَحْو: يَصح رهن مشَاع كرهنه من شَرِيكه، وَمنعه قوم] . إِذا علل حكم عدمي بِوُجُود مَانع أَو انْتِفَاء شَرط كَمَا يُقَال: عدم شَرط صِحَة البيع وَهُوَ الرُّؤْيَة، أَو وجد الْمَانِع وَهُوَ الْجَهْل بِالْمَبِيعِ فَلَا يَصح، وَكَذَا يُقَال: عدم الشَّرْط كَعَدم الرَّجْم لعدم الْإِحْصَان، أَو وجد الْمَانِع لعدم الْقصاص كَعَدم الْقصاص على الْأَب لمَانع وَهُوَ الْأُبُوَّة. فَهَل يجب وجود الْمُقْتَضِي مثل بيع من [أَهله] فِي مَحَله أَو لَا يجب؟ أَكثر الْعلمَاء على أَنه يجب وجود الْمُقْتَضِي. قَالَ الْآمِدِيّ: لِأَن الحكم شرع لمصْلحَة الْخلق فَمَا لَا فَائِدَة فِيهِ لم يشرع، فَانْتفى لنفي فَائِدَته. قَالَ الْمُخَالف: أَدِلَّة مُتعَدِّدَة، وَإِذا اسْتَقل الْمَانِع وَعدم الشَّرْط مَعَ وجود معارضه الْمُقْتَضِي فَمَعَ عَدمه أولى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3291 رد: لَا يلْزم لما سبق. قَالُوا: يلْزم التَّعَارُض بَينهمَا وَهُوَ خلاف الأَصْل. رد: وَهُوَ أَهْون. وَلِهَذَا اتّفق من خصص الْعلَّة على نفي الحكم بالمانع وَعدم الشَّرْط مَعَ وجود الْمُقْتَضِي، وَاخْتلفُوا فِيهِ مَعَ عَدمه. قَالُوا: لَو أُحِيل نفي الحكم عِنْد انْتِفَاء الْمُقْتَضِي على نَفْيه مَعَ مُنَاسبَة نَفْيه من الْمَانِع وَعدم الشَّرْط لزم إهمالها، وَهُوَ خلاف الأَصْل. رد: هُوَ أولى وَلِهَذَا يسْتَقلّ بنفيه عِنْد عدم الْمعَارض اتِّفَاقًا، وَفِي اسْتِقْلَال الْمَانِع ونفيه الْخلاف فِي تَخْصِيص الْعلَّة. وَإِن قيل: يُحَال نَفْيه عَلَيْهِمَا مَعًا. رد: إِن اسْتَقل كل مِنْهُمَا بنفيه فَفِيهِ تَعْلِيل حكم وَاحِد فِي صُورَة بعلتين، وَإِلَّا امْتنع لِلْخُرُوجِ المستقل بِالنَّفْيِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3292 وَهُوَ نفي الْمُقْتَضِي عِنْد نفي معارضه عِنْد الِاسْتِقْلَال. قَالَ ابْن عقيل: هَل يَصح كَون الْعلَّة صُورَة الْمَسْأَلَة، نَحْو: يَصح رهن مشَاع كرهن من شَرِيكه؟ مَنعه بَعضهم لإفضائه إِلَى تَعْلِيل الْمَسْأَلَة وَعَدَمه. وَصَححهُ بَعضهم، وَقَالَ: وَهُوَ أصح. قَالَ بَعضهم: يسْتَدلّ بِوُجُود الْعلَّة على الحكم لَا بعليتها لتوقفها عَلَيْهِ لِأَنَّهَا نِسْبَة. قَوْله: [تَنْبِيه: أَصْحَابنَا وَالْحَنَفِيَّة [حكم] الأَصْل ثَابت بِالنَّصِّ، وَالشَّافِعِيَّة بِالْعِلَّةِ وَهُوَ الْمُعَرّف، وَالْخلاف / لَفْظِي وَقيل: لَا] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3293 قَالَ ابْن مُفْلِح: " حكم الأَصْل ثَابت بِالنَّصِّ عندنَا، وَعند الْحَنَفِيَّة؛ لِأَنَّهُ قد يثبت تعبدا، فَلَو ثَبت بِالْعِلَّةِ لم يثبت مَعَ عدمهَا؛ وَلِأَنَّهَا مظنونة، وَفرع عَلَيْهِ ومرادهم أَنه معرف لَهُ. وَعند الشَّافِعِيَّة: بِالْعِلَّةِ، ومرادهم الباعثة عَلَيْهِ، فَالْخِلَاف لَفْظِي " انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3294 ذكر التَّاج السُّبْكِيّ والبرماوي هَذِه الْمَسْأَلَة من أول أَحْكَام الْعلَّة عِنْد حَدهَا، فَقَالُوا: قَالَ أهل الْحق الْعلَّة الْمُعَرّف، وَحكم الأَصْل ثَابت بهَا لَا بِالنَّصِّ، خلافًا للحنفية. (قَالُوا: وَوجه ذكر هَذِه الْمَسْأَلَة بعد هَذَا التَّعْرِيف: التَّنْبِيه على خطأ ابْن الْحَاجِب فِي قَوْله: إِن أَصْحَابنَا بنوا قَوْلهم: إِن حكم الأَصْل ثَابت بِالْعِلَّةِ على تَفْسِيرهَا بالباعث. فَأَشَارَ التَّاج فِي " جمع الْجَوَامِع " إِلَى أَنهم قَالُوا هَذَا مَعَ تفسيرهم الْعلَّة بالمعرف. وَوجه توهم [ابْن الْحَاجِب] أَنه جعل الْعلَّة فرعا للْأَصْل أصلا للفرع، خوفًا من لُزُوم الدّور، فَإِنَّهَا مستنبطة من النَّص، فَلَو كَانَت معرفَة لَهُ، وَهِي إِنَّمَا عرفت بِهِ لزم الدّور. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3295 وَالْحق تَفْسِيرهَا بالمعرف بِمَعْنى أَنَّهَا نصبت أَمارَة يسْتَدلّ بهَا الْمُجْتَهد على وجود الحكم إِذا لم يكن عَارِفًا بِهِ، وَيجوز تخلفه فِي حق الْعَارِف، كالغيم الرطب أَمارَة الْمَطَر، وَقد يتَخَلَّف، وتخلف التَّعْرِيف بِالنِّسْبَةِ للعارف لَا يُخرجهَا عَن كَونهَا أَمارَة، فاتضح أَن الْعلَّة هِيَ الْمُعَرّف فِي الأَصْل وَالْفرع، وَلَا يلْزم الدّور) هَذَا لفظ ابْن الْعِرَاقِيّ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " اقْتضى نقل الْحَنَفِيَّة عَن الشَّافِعِيَّة ذَلِك: أَنهم يفسرون الْعلَّة بالمؤثر أَو الْبَاعِث، حَتَّى لَا يكون النَّص على الحكم منافيا لتعليله، بِخِلَاف مَا لَو فسرت بالمعرف فَإِنَّهُ يُنَافِي النَّص؛ لِأَن النَّص أَيْضا معرف، وَهُوَ قد عرف من التَّعْلِيل فَأَي فَائِدَة فِي النَّص، وَلَكِن الشَّافِعِيَّة لَيْسَ عِنْدهم الْعلَّة إِلَّا معرفَة لَا مُؤثرَة، أَي: أَنَّهَا أَمارَة دَالَّة على الحكم، وغايته أَن / يكون للْحكم معرفان: النَّص، وَالْعلَّة ". ثمَّ ذكر مَا قَالَه ابْن الْحَاجِب وَغَيره ثمَّ قَالَ: وللخلاف بَينهمَا فَوَائِد كَثِيرَة، يظْهر أثر اخْتِلَاف الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة فِيهِ، خلافًا لمن زعم أَن الْخلاف لَفْظِي كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام الْآمِدِيّ، وَابْن برهَان، وَابْن الْحَاجِب، والهندي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3296 - وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ تبعا لما جزم بِهِ ابْن مُفْلِح - مِنْهَا: التَّعْلِيل بِالْعِلَّةِ القاصرة، وَذكر غَيرهَا بِمَا يطول. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3297 (قَوْله: [فصل] ) [شَرط الْفَرْع أَن تُوجد فِيهِ الْعلَّة بِتَمَامِهَا فِيمَا يقْصد من عين الْعلَّة، أَو جِنْسهَا، فَإِن كَانَت قَطْعِيَّة فقطعي، وَهُوَ قِيَاس الأولى والمساواة، أَو ظنية فظني وَهُوَ قِيَاس الأدون، وَعَن بعض الْحَنَفِيَّة يَكْفِي مُجَرّد الشّبَه] . لما فَرغْنَا من شُرُوط الْعلَّة شرعنا فِي شُرُوط الْفَرْع، وَقد تقدم حَده وَأَن الصَّحِيح فِيهِ [أَنه] الْمحل الْمُشبه. فَمن شُرُوطه أَن يشْتَمل على عِلّة حكم الأَصْل بِتَمَامِهَا حَتَّى لَو كَانَت ذَات أَجزَاء، فَلَا بُد من اجْتِمَاع الْكل فِي الْفَرْع، وَهَذِه الْعبارَة أحسن من عبارَة ابْن الْحَاجِب وَمن تبعه: " أَن يُسَاوِي الْفَرْع فِي الْعلَّة عِلّة الأَصْل "، لِأَن لفظ الْمُسَاوَاة قد يفهم منع الزِّيَادَة، فَيخرج قِيَاس الأولى، بِخِلَاف هَذِه الْعبارَة فَإِن الزِّيَادَة لَا تنافيه، وَهِي شَامِلَة لقياس الأولى، والمساوي، والأدون. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3298 إِذا علم ذَلِك فَإِن كَانَ وجودهَا بِتَمَامِهَا فِيهِ قَطْعِيا كقياس الضَّرْب للْوَالِدين على قَول " أُفٍّ " بِجَامِع أَنه إِيذَاء، وكالنبيذ يُقَاس على الْخمر بِجَامِع الْإِسْكَار، وَيُسمى الأول قِيَاس الأولى، وَالثَّانِي قِيَاس الْمُسَاوَاة، وكل مِنْهُمَا قَطْعِيّ. وَإِن كَانَ وجود الْعلَّة بِتَمَامِهَا ظنيا فَالْقِيَاس ظَنِّي، وَيُسمى قِيَاس الأدون كقياس التفاح على الْبر فِي أَنه لَا يُبَاع إِلَّا يدا بيد وَنَحْو ذَلِك بِجَامِع الطّعْم، فَالْمَعْنى الْمُعْتَبر وَهُوَ الطّعْم مَوْجُود فِي الْفَرْع بِتَمَامِهِ، وَإِنَّمَا سمي قِيَاس أدون؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُلْحقًا بِالْأَصْلِ / إِلَّا على تَقْدِير أَن الْعلَّة فِيهِ الطّعْم، فَإِن كَانَت فِيهِ تركب من الطّعْم مَعَ التَّقْدِير بِالْكَيْلِ، أَو كَانَت الْعلَّة الْقُوت أَو غير ذَلِك لم يلْحق بالتفاح. وَظهر بذلك أَنه لَيْسَ المُرَاد بالأدون أَن لَا يُوجد فِيهِ الْمَعْنى بِتَمَامِهِ، بل أَن تكون الْعلَّة فِي الأَصْل ظنية. قَالَ ابْن مُفْلِح تبعا لِابْنِ الْحَاجِب: " من شُرُوط الْفَرْع مُسَاوَاة عِلّة الأَصْل فِيمَا يقْصد من عين الْعلَّة أَو جِنْسهَا، كالشدة المطربة فِي النَّبِيذ، وكالجناية فِي قِيَاس قصاص طرف على النَّفس ". أما الْعين: فكقياس النَّبِيذ على الْخمر بِجَامِع الشدَّة المطربة، وَهِي بِعَينهَا مَوْجُودَة فِي النَّبِيذ. وَأما الْجِنْس: فكقياس الْأَطْرَاف على الْقَتْل فِي الْقصاص بِجَامِع الْجِنَايَة الْمُشْتَركَة بَينهمَا، فَإِن جنس الْجِنَايَة هُوَ جنس لإتلاف النَّفس والأطراف، وَهُوَ الَّذِي قصد الِاتِّحَاد فِيهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3299 " وَعَن بعض الْحَنَفِيَّة يَكْفِي مُجَرّد الشّبَه ". لنا: اعْتِبَار الصَّحَابَة الْمَعْنى الْمُؤثر فِي الحكم، ولاشتراك الْعَاميّ والعالم فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ هَذَا الشّبَه بِأولى من عَكسه، وكالقياس الْعقلِيّ. قَالُوا: لم تعْتَبر الصَّحَابَة سوى مُجَرّد الشّبَه. رد: بِالْمَنْعِ " انْتهى. وَقد تقدّمت هَذِه الْمَسْأَلَة فِي قَوْلنَا: من شُرُوط الْعلَّة وَأَن تتَعَيَّن فِي الْأَصَح، فَالظَّاهِر أَنه وَقع فِيهِ منا تكْرَار. قَوْله: [وَأَن تُؤثر فِي أَصْلهَا الْمَقِيس عَلَيْهِ عِنْد أَصْحَابنَا، وَالْحَنَفِيَّة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3300 وَالشَّافِعِيَّة، وَاكْتفى الْحلْوانِي وَأَبُو الطّيب بتأثيرها فِي أصل مَا، وَقيل فِي أَصْلهَا، (وَفِي بَقِيَّة الْمَوَاضِع كَقَوْل الْمَالِكِيَّة فِي الْكَلْب: حَيَوَان فَكَانَ طَاهِرا كالشاة، تَأْثِيره فِي الْحَيَوَان إِذا مَاتَ، وَلَا تَأْثِير لَهُ فِي الجماد، فالحياة تُؤثر فِي مَحل دون مَحل) وَتَأْتِي الْمُعَارضَة فِيهِ] . نقلت ذَلِك من كَلَام ابْن مُفْلِح فِي أُصُوله. قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي أَوَائِل أَحْكَام الأَصْل. " إِن بَعضهم شَرط شُرُوطًا فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3301 الأَصْل وَلَيْسَت شُرُوطًا فِيهِ، فَقَالَ: وَمِنْهُم من شَرط كَونه مؤثرا فِي كل مَوضِع كَمَا قَالَه القَاضِي أَبُو الطّيب: فِي إبِْطَال بيع الْغَائِب: بَاعَ عينا لم ير مِنْهَا شَيْئا فَبَطل كَبيع النَّوَى فِي الثَّمر. فَقيل: إِذا كَانَ يرى بعضه يَصح؟ فَيُقَال: لَيْسَ من شَرط / تَأْثِيره فِي كل مَوضِع " انْتهى. قَوْله: [وَأَن يُسَاوِي حكمه حكم الأَصْل فِيمَا يقْصد كَونه وَسِيلَة للحكمة من عين الحكم، أَو جنسه، وَيَأْتِي فِي الاعتراضات] . وَذَلِكَ كَالْقصاصِ فِي النَّفس بالمثقل على المحدد، وكالولاية فِي نِكَاح الصَّغِيرَة على الْولَايَة فِي مَالهَا. فالمثال الأول: مِثَال لعين الحكم فَالْحكم فِي الْفَرْع هُوَ الحكم فِي الأَصْل بِعَيْنِه وَهُوَ الْقَتْل. وَمِثَال الثَّانِي مِثَال لجنس الحكم، فَإِن ولَايَة النِّكَاح مُسَاوِيَة لولاية المَال فِي جنس الْولَايَة لَا فِي عين تِلْكَ الْولَايَة، فَإِنَّهَا سَبَب لنفاذ التَّصَرُّف وَلَيْسَت عينهَا لاخْتِلَاف التصرفين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3302 وَلم يذكر بَعضهم هَذَا الشَّرْط هُنَا قَالَ: لِأَنَّهُ من إِثْبَات الحكم فِي الْفَرْع بِالْقِيَاسِ [أَي] تعْيين مَا يحكم على الْفَرْع بِهِ من حكم الأَصْل. وَأما إِذا اخْتلف الحكم لم يَصح كَقَوْلي الْحَنْبَلِيّ: يُوجب الظِّهَار الْحُرْمَة فِي حق الذِّمِّيّ كَالْمُسلمِ. قَالَ الْحَنَفِيَّة: الْحُرْمَة فِي الْمُسلم متناهية بِالْكَفَّارَةِ، وَالْحُرْمَة فِي الذِّمِّيّ مُؤَبّدَة؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل الْكَفَّارَة وَيخْتَلف الحكم فيهمَا. وَجَوَابه: أَن يبين الْمُسْتَدلّ الِاتِّحَاد، فَيمْنَع كَون الذِّمِّيّ لَيْسَ من أهل الْكَفَّارَة بل عَلَيْهِ الصَّوْم، بِأَن يسلم وَيَأْتِي بِهِ، وَيصِح إِعْتَاقه وإطعامه مَعَ الْكفْر اتِّفَاقًا، فَهُوَ من أهل الْكَفَّارَة، فَالْحكم مُتحد وَالْقِيَاس صَحِيح. قَوْله: [وَأَن لَا يكون مَنْصُوصا على حكمه بموافق، خلافًا للغزالي، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3303 والآمدي، وَجمع] . لَا يشْتَرط انْتِفَاء نَص مُوَافق الحكم الَّذِي يُرَاد إثْبَاته بِالْقِيَاسِ عِنْد الْأَكْثَر، خلافًا للغزالي والآمدي. قَالَا: للاستغناء بِالنَّصِّ، وَلِهَذَا فِي قصَّة معَاذ كَانَ الْقيَاس فِيهَا مُرَتبا بإن الشّرطِيَّة على فقدان النَّص، وَهِي أصل فِي مَشْرُوعِيَّة الْقيَاس. وَأجِيب: أَن المُرَاد تعين الْقيَاس عِنْد الْفَقْد، وَأما عِنْد وجوده فَيكون من اجْتِمَاع دَلِيلين، إِذْ لَا يمْتَنع ترادف الْأَدِلَّة على مَدْلُول وَاحِد. وَأَيْضًا: فبالقياس يعرف عِلّة الحكم /. وَقد فهم من القيدين الْمَذْكُورين فِي الْمَسْأَلَة أَمْرَانِ: الأول: أَن يكون النَّص الدَّال على حكم الأَصْل هُوَ الدَّال على ذَلِك الْفَرْع بِعَيْنِه فَهَذَا قِيَاس بَاطِل؛ إِذْ لَيْسَ مَا ادعِي بِهِ أصل وَأَن الآخر فرع بِأولى من عَكسه، كَمَا لَو قيس السفرجل على الْعِنَب فِي جَرَيَان الرِّبَا فِيهِ بعلة الطّعْم، فَيُقَال: النَّهْي عَن بيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ شَامِل للأمرين، فَجعل أَحدهمَا أصلا وَالْآخر فرعا تحكم. الْأَمر الثَّانِي: أَن يكون النَّص فِي الْفَرْع على خلاف الحكم المُرَاد إثْبَاته الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3304 بِالْقِيَاسِ؛ لِأَن الْقيَاس حِينَئِذٍ بَاطِل إِذْ الْقيَاس لَا يقدم على النَّص، لَكِن الْقيَاس فِي نَفسه صَحِيح إِلَّا أَنه ملغي لَا يعْمل بِهِ، وَلذَلِك يُقَال: إِذا تعَارض النَّص وَالْقِيَاس فالنص مقدم؛ لِأَن التَّعَارُض إِنَّمَا يكون عِنْد صِحَة المتعارضين، ففائدة الْقيَاس التمرين ورياضة الذِّهْن. قَالَ الْعَضُد: " وَمِنْهَا: أَن لَا يكون الْفَرْع مَنْصُوصا عَلَيْهِ لَا إِثْبَاتًا وَإِلَّا ضَاعَ الْقيَاس، وَلَا نفيا، وَإِلَّا لم يجز الْقيَاس ". وَقَالَ الكوراني: " من شُرُوط الْفَرْع أَن لَا يكون حكمه مَنْصُوصا عَلَيْهِ بِنَصّ مُوَافق؛ لِأَن وجود النَّص يُغني عَن الْقيَاس لتقدمه عَلَيْهِ، خلافًا لمن يجوز قيام دَلِيلين على مَدْلُول وَاحِد، فَإِنَّهُ يجْتَمع عِنْده النَّص وَالْقِيَاس على حكم وَاحِد. فالتحقيق: أَنه أَرَادَ أَن طَائِفَة جوزت قيام دَلِيلين، بِمَعْنى أَن كلا مِنْهُمَا يُفِيد الْعلم بالمدلول فَهَذَا غير مَعْقُول؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيل الْحَاصِل، وَإِن أَرَادَ إيضاحا واستظهرا، فَلم يُخَالف فِيهِ أحد أَلا تراهم يَقُولُونَ: الدَّلِيل على الْمَسْأَلَة الْإِجْمَاع وَالنَّص وَالْقِيَاس، وَأما إِذا كَانَ النَّص مُخَالفا فقد علمت أَنه مقدم على الْقيَاس " انْتهى. قَوْله: [قَالَ الْحَنَفِيَّة، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3305 حمدَان: وَلَا مُتَقَدما على حكم الأَصْل، زَاد الْآمِدِيّ: إِلَّا أَن يذكرهُ إلزاما للخصم، وَقَالَ الرَّازِيّ: يجوز عِنْد دَلِيل آخر، والموفق، وَالْمجد، والطوفي: يشْتَرط لقياس الْعلَّة لَا لقياس الدّلَالَة] . قَالَ من منع: لِأَن الْمُسْتَفَاد / لَا بُد من تَأَخره على الْمُسْتَفَاد مِنْهُ، وَإِلَّا لتناقض فرض مَعَ تَأَخره، فَلَا يُقَاس الْوضُوء على التَّيَمُّم فِي فِي وجوب النِّيَّة؛ لِأَن وُرُود التَّيَمُّم بعد الْهِجْرَة، وَالْوُضُوء قبلهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3306 ورد: بِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن الشَّيْء علته أَمَارَات مُتَقَدّمَة ومتأخرة، كمعجزات النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْهَا مَا هُوَ مُقَارن لنبوته، وَمِنْهَا مَا هُوَ بعد ذَلِك. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: إِنَّمَا يشْتَرط هَذَا إِذا كَانَ طَرِيق حكم الْفَرْع مُتَعَيّنا فِي استناده للْأَصْل. وَقَالَ ابْن الْحَاجِب تبعا للآمدي: لَا يمْتَنع أَن يكون إلزاما للخصم. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَلَا يخفى مَا فِي المقالتين من نظر. قَالَ الكوراني: (وَمن شُرُوطه أَن لَا يتَقَدَّم على حكم الأَصْل، كقياس الْوضُوء على التَّيَمُّم، فِي وجوب النِّيَّة، فَإِن التَّيَمُّم مُتَأَخّر عَنهُ، فَلَو ثَبت بِهِ ثَبت حكم شَرْعِي بِلَا دَلِيل، إِذْ الْفَرْض أَنه لَا دَلِيل عَلَيْهِ سوى الْقيَاس، نعم لَو قيل ذَلِك إلزاما صَحَّ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِي للحنفية: طهارتان أَنى يفترقان؟ هَكَذَا قيل، وَفِيه نظر؛ لِأَن الْحَنَفِيَّة لَيْسَ عِنْدهم فِي الْمَسْأَلَة قِيَاس حَتَّى يلزموا، وَلَا الشَّافِعِي قَائِل بِالْقِيَاسِ، بل وجوب النِّيَّة فيهمَا إِنَّمَا ثَبت بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ ". وَقَوله: جوزه الرَّازِيّ عِنْد دَلِيل آخر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3307 مِمَّا لَا وَجه لَهُ، إِلَّا أَن يكون الْقيَاس استظهارا وإيضاحا؛ لِأَنَّهُ محَال أَن يعلم شَيْء بدليلين وَذَلِكَ لَا يُخَالف أحد فِيهِ، واستنادهم فِي ذَلِك على تَأَخّر معجزاته عَن ثُبُوت نبوته لَيْسَ بِشَيْء؛ إِذْ المعجزات الْمُتَأَخِّرَة لَيست مثبتة للنبوة بل هِيَ إِمَّا لمعاند لم يقنع بِنَوْع مِنْهَا، أَو لطَالب مسترشد لم يسْبق لَهُ رُؤْيَة، أَو إِظْهَارًا لكرامته لتكاثر معجزاته، وَلِهَذَا ترى من كَانَ مِنْهُم أعظم شَأْنًا كَانَ أَكثر معْجزَة وأنور برهانا، وَلَو كَانَ الدَّلِيل الْأَخير [مثبتا] كَانَ الْمَفْضُول مِنْهُم أَحْرَى / بِتِلْكَ المعجزات) انْتهى. وَقَالَ الرَّازِيّ تبعا [لأبي] الْحُسَيْن: يجوز إِن كَانَ لحكم الْفَرْع دَلِيل آخر مقدم، لجَوَاز أَن يدلنا اللَّهِ تَعَالَى على الحكم بأدلة مترادفة، كَمَا يترادف معجزات النُّبُوَّة بعد المعجزة الْمُقَارنَة لابتداء الدعْوَة. قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَلَا مُتَقَدما على حكم الأَصْل كقياس أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة: الْوضُوء على التَّيَمُّم فِي اشْتِرَاط النِّيَّة لثُبُوت حكم الْفَرْع قبل ثُبُوت الْعلَّة لتأخر الأَصْل. وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": يشْتَرط لقياس الْعلَّة لَا الدّلَالَة، فيقاس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3308 الْوضُوء على التَّيَمُّم، لجَوَاز تَأَخّر الدَّلِيل على الْمَدْلُول، كحدث الْعَالم دَلِيل على الْقَدِيم، والأثر على الْمُؤثر. وَذكر أَبُو الْخطاب وَابْن عقيل: من الأسئلة الْفَاسِدَة تَأَخّر حكم الأَصْل عَن حكم الْفَرْع؛ لِأَن الأمارة وَالدَّلِيل يتَأَخَّر ويتقدم كالمعجزة مَعَ النُّبُوَّة والعالم على الصَّانِع، وَيمْتَنع فِي الْعلَّة الْعَقْلِيَّة كتحرك الْجِسْم أَو سوَاده لحركة، أَو سَواد يتَأَخَّر) انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3309 قَوْله: [وَلَا يشْتَرط ثُبُوت حكمه بِنَصّ جملَة خلافًا لأبي زيد، وَأبي [هَاشم] . لَا يشْتَرط فِي الْفَرْع أَن يدل النَّص على حكمه فِي الْجُمْلَة لَا بالتفصيل، خلافًا لأبي هَاشم: أَنه يشْتَرط، وَأَن التَّفْصِيل يُطلق بِالْقِيَاسِ، وَحَكَاهُ أَيْضا الكيا، عَن أبي زيد. مثل ذَلِك: إِذا قُلْنَا فِي اجْتِمَاع الْجد مَعَ الْأُخوة يَرث مَعَهم قِيَاسا على أحدهم؛ لِأَن كلا من الْجد وَالْأَخ يُدْلِي بِالْأَبِ، فلولا دلّ الدَّلِيل على إِرْث الْجد فِي الْجُمْلَة لما سَاغَ الْقيَاس فِي هَذِه الصُّورَة. ورد عَلَيْهِم: بِأَن الْعلمَاء قاسوا: " أَنْت عَليّ حرَام " إِمَّا على الطَّلَاق لَا فِي تَحْرِيمهَا، أَو على الظِّهَار فِي وجوب الْكفَّار، أَو على الْيَمين فِي كَونه إِيلَاء، وَلم يجد فِي ذَلِك نَص يدل على الحكم، لَا جملَة وَلَا تَفْصِيلًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3310 (قَوْله: [مسالك الْعلَّة] ) [الأول: الْإِجْمَاع كالصغر للولاية فِي المَال، فَيلْحق بِهِ الْولَايَة فِي النِّكَاح] . لما فَرغْنَا من شُرُوط الْعلَّة وَغَيرهَا من أَرْكَان الْقيَاس شرعنا فِي بَيَان الطّرق الَّتِي تدل على كَون الْوَصْف عِلّة / ويعبر عَنْهَا أَيْضا بمسالك الْعلَّة، وَذَلِكَ إِمَّا إِجْمَاع، أَو نَص، أَو استنباط، أَو غَيرهَا، وَالنَّص إِمَّا صَرِيح أَو ظَاهر أَو إِيمَاء. فَأَما الأول: وَهُوَ الْإِجْمَاع. فَإِنَّمَا قدم؛ لِأَنَّهُ أقوى قَطْعِيا كَانَ أَو ظنيا؛ وَلِأَن النَّص تفاصيله كَثِيرَة. وَبَعْضهمْ كالبيضاوي يقدم النَّص لكَونه أصل الْإِجْمَاع. وَالْمرَاد [بثبوتها] بِالْإِجْمَاع: أَن تجمع الْأمة على أَن هَذَا الحكم علته كَذَا، [كإجماعهم] فِي " لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان " على أَن علته شغل الْقلب، وَمِمَّنْ حكى فِيهِ الْإِجْمَاع القَاضِي أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3311 " وكإجماعهم على تَعْلِيل تَقْدِيم الْأَخ من الْأَبَوَيْنِ فِي الْإِرْث على الْأَخ للْأَب، بامتزاج النسبين، أَي: وجودهما فِيهَا، فيقاس عَلَيْهِ تَقْدِيمه فِي ولَايَة النِّكَاح، وَصَلَاة الْجِنَازَة، وَتحمل الْعقل وَالْوَصِيَّة لأَقْرَب الْأَقَارِب، وَالْوَقْف عَلَيْهِ وَنَحْوه. فَإِن قلت: إِذا أَجمعُوا على هَذَا التَّعْلِيل فَكيف يتَّجه الْخلاف فِي هَذِه الصُّور؟ قلت: لَعَلَّ منشأ الْخلاف التَّنَازُع فِي وجود الْعلَّة فِي الأَصْل وَالْفرع، أَو حُصُول شَرطهَا أَو مانعها لَا فِي كَونهَا عِلّة "، قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره. وكإجماعهم على تَعْلِيل الْولَايَة على الصَّغِير كَونه صَغِيرا، فيقاس عَلَيْهِ، الْولَايَة عَلَيْهِ فِي النِّكَاح. قَوْله: [الثَّانِي: النَّص فَمِنْهُ صَرِيح مثل الْعلَّة كَذَا، أَو السَّبَب [كَذَا] ، أَو لأجل كَذَا، أَو من أجل كَذَا، أَو كي، أَو إِذن] . الثَّانِي من المسالك: النَّص. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3312 أَي: من الْكتاب أَو السّنة، فَمِنْهُ صَرِيح وَمِنْه ظَاهر، فالصريح: مَا وضع لإِفَادَة التَّعْلِيل بِحَيْثُ لَا يحْتَمل غير الْعلية، وَلذَلِك عبر عَنهُ الْبَيْضَاوِيّ بِالنَّصِّ الْقَاطِع. فالصريح الَّذِي لَا يحْتَمل غير الْعلَّة مثل أَن يُقَال: الْعلَّة كَذَا، أَو بِسَبَب كَذَا، أَو لأجل كَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى: {من أجل ذَلِك كتبنَا على بنى إِسْرَائِيل} [الْمَائِدَة: 32] ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّمَا جعل الاسْتِئْذَان من أجل الْبَصَر " مُتَّفق عَلَيْهِ. وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ - يَعْنِي عَن ادخار لُحُوم الْأَضَاحِي - من أجل الدافة الَّتِي دفت عَلَيْكُم فَكُلُوا وَادخرُوا " / رَوَاهُ مُسلم، أَي: لأجل التَّوسعَة على الطَّائِفَة الَّتِي قدمت الْمَدِينَة أَيَّام التَّشْرِيق. والدافة: الْقَافِلَة السائرة مُشْتَقَّة من الدفيف وَهُوَ السّير اللين، وَمِنْه قَوْلهم: دفت علينا من بني فلَان دافة، قَالَه الْجَوْهَرِي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3313 وَنَحْو " [كي] "، سَوَاء كَانَت مُجَرّدَة عَن لَا كَقَوْلِه: {كى تقر عينهَا وَلَا تحزن} [طه: 40] ، أَو مقرونة كَقَوْلِه تَعَالَى: {لكيلا تأسوا} [الْحَدِيد: 23] ، {كى لَا يكون دولة بَين الْأَغْنِيَاء مِنْكُم} [الْحَشْر: 7] ، أَي: إِنَّمَا وَجب [تخميسه] لِئَلَّا يتَنَاوَلهُ الْأَغْنِيَاء مِنْكُم فَلَا يحصل للْفُقَرَاء شَيْء. وَذكر ابْن السَّمْعَانِيّ: أَن لأجل وكي دون مَا قبلهَا فِي الصراحة. وَمثل: " إِذا " فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأبي بن كَعْب وَقد قَالَ لَهُ: " أجعَل لَك صَلَاتي كلهَا؟ قَالَ: إِذا يغْفر اللَّهِ لَك ذَنْبك كُله "، وَفِي رِوَايَة: " إِذا يَكْفِيك اللَّهِ هم الدُّنْيَا وَالْآخِرَة "، {إِذا لأمسكتم خشيَة الْإِنْفَاق} [الْإِسْرَاء: 100] ، {إِذا لأذقناك ضعف الْحَيَاة وَضعف الْمَمَات} [الْإِسْرَاء: 75] وَالله أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3314 قَوْله: [وَظَاهر كاللام ظَاهِرَة ومقدرة، وَالْبَاء، قَالَه جمع، [وَجعلهَا] ابْن الْحَاجِب، والموفق، والطوفي من الصَّرِيح، وَزَاد الْمَفْعُول لَهُ] . هَذَا قسم من النَّص؛ لِأَن النَّص تَارَة يكون صَرِيحًا كَمَا تقدم، وَتارَة يكون ظَاهرا وَهَذَا قسم الظَّاهِر. وَالظَّاهِر: الَّذِي يحْتَمل غير الْعلية احْتِمَالا مرجوحا، وَله أَلْفَاظ: أَحدهَا: اللَّام، وَهِي تَارَة تكون ظَاهِرَة أَي: ملفوظا بهَا كَقَوْلِه تَعَالَى: {كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك لتخرج النَّاس من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} [إِبْرَاهِيم: 1] ، {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} [الْإِسْرَاء: 78] ، {لنعلم} ، {إِلَّا لنعلم} ، {ليذوق وبال أمره} [الْمَائِدَة: 95] ، وَنَحْوه كثير. وَتارَة تكون مقدرَة كَقَوْلِه تَعَالَى: {عتل بعد ذَلِك زنيم أَن كَانَ ذَا مَال وبنين} [الْقَلَم: 13، 14] ، أَي: لِأَن كَانَ، وكما يُقَال فِي الْكَلَام أَن كَانَ كَذَا، فالتعليل مُسْتَفَاد من اللَّام الْمقدرَة لَا من أَن. وَمن هَذَا مَا فِي " الصَّحِيح " فِي قصَّة الزبير من قَول الْأنْصَارِيّ لما خاصمه فِي شراج الْحرَّة: " أَن كَانَ ابْن عَمَّتك! ". وَيدخل فِي هَذَا إِذا كَانَ الْوَاقِع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3315 بعد " أَن " " كَانَ " وحذفت وَاسْمهَا وَبَقِي خَبَرهَا، وَعوض عَن ذَلِك " مَا " كَقَوْلِه: (أَبَا خراشة أما أَنْت ذَا نفر / ... فَإِن قومِي لم تأكلهم الضبع) أَي: لِأَن كنت ذَا نفر. وَإِنَّمَا لم تجْعَل اللَّام وَمَا سَيَأْتِي بعْدهَا من الصَّرِيح، لِأَن كلا مِنْهَا لَهُ معَان غير التَّعْلِيل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3316 وَالثَّانِي: الْبَاء، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فبمَا رَحْمَة من اللَّهِ لنت لَهُم} [آل عمرَان: 159] أَي: بِسَبَب الرَّحْمَة، وَقَوله تَعَالَى: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التَّوْبَة: 82] ، فَهِيَ وَإِن كَانَ أصل مَعْنَاهَا الإلصاق، وَلها معَان أخر، لَكِن كثر اسْتِعْمَالهَا فِي التَّعْلِيل. تكون اللَّام للْملك وللاختصاص أَو لبَيَان الْعَاقِبَة أَو نَحْو: ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . . لدوا للْمَوْت وَابْنُوا للخراب وَنَحْو ذَلِك. وَقيل: لِأَن فِي التَّعْلِيل أَيْضا إلصاقا، كَمَا قَرَّرَهُ الرَّازِيّ بِأَنَّهَا لما اقْتَضَت وجود الْمَعْلُول حصل معنى الإلصاق فَحسن اسْتِعْمَاله فِيهِ مجَازًا بِكَثْرَة. وَعند ابْن الْحَاجِب وَغَيره: أَن هَذَا من الصَّرِيح، ويقويه إِذا كَانَ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3317 الْكَلَام صَرِيح شَرط أَو معنى شَرط كالنكرة الموصوفة وَالِاسْم الْمَوْصُول كَمَا يَأْتِي، لَكِن جَعلهمَا الْعَضُد من الظَّاهِر، وَهُوَ الصَّوَاب لما تقدم من الِاحْتِمَالَات. وَقَالَهُ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي فِي " مختصرها " وَغَيرهمَا، وَزَادا: الْمَفْعُول لأَجله، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: [ {لأمسكتم خشيَة الْإِنْفَاق} ] [الْإِسْرَاء: 100] ، {يجْعَلُونَ أَصَابِعهم فِي ءاذانهم من الصَّوَاعِق حذر الْمَوْت} [الْبَقَرَة: 19] أَي: لخشية الْإِنْفَاق، وحذر الْمَوْت؛ لِأَن هَذَا من بَاب الْمَفْعُول لَهُ، وَهُوَ عِلّة الْفِعْل. قَوْله: [أما إِنَّهَا رِجْس وَنَحْوه، فَالْقَاضِي وَأَبُو الْخطاب والآمدي وَابْن الْحَاجِب: صَرِيح، وَإِن لحقته الْفَاء تَأَكد، والبيضاوي وَغَيره: ظَاهر، وَابْن الْبَنَّا: إِيمَاء، وَابْن الْأَنْبَارِي، وَابْن الْمَنِيّ، وَالْفَخْر والجوزي: توكيد] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3318 اخْتلفُوا فِي التَّعْلِيل " بإن " الْمُشَدّدَة الْمَكْسُورَة هَل هُوَ صَرِيح أَو ظَاهر أَو إِيمَاء فِي نَحْو قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما ألْقى الروثة: " إِنَّهَا رِجْس "، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْهِرَّة: " إِنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم والطوافات " مُعَللا طَهَارَتهَا بذلك، وَقَوله فِي الْمحرم الَّذِي وقصته رَاحِلَته: " فَإِنَّهُ يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة / ملبيا ". وَقَوله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3319 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الشُّهَدَاء: " زملوهم بكلومهم وَدِمَائِهِمْ، فَإِنَّهُم يبعثون يَوْم الْقِيَامَة وأوداجهم تشخب دَمًا ". فَهَذَا كُله صَرِيح فِي التَّعْلِيل عِنْد القَاضِي، وَأبي الْخطاب، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهم، خُصُوصا فِيمَا لحقته الْفَاء كَمَا تقدم. فَإِنَّهُ يبْعَث ويبعثون، فَإِنَّهَا يُزَاد بهَا تَأْكِيدًا لدلالتها على أَن مَا بعْدهَا سَبَب للْحكم قبلهَا. وَعند ابْن الْبناء وَغَيره: إِيمَاء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3320 قَالَ الطوفي: " وَعند غيرأبي الْخطاب: إِيمَاء، ثمَّ قَالَ: قلت: النزاع فِي هَذَا لَفْظِي؛ لِأَن أَبَا الْخطاب يَعْنِي بِكَوْنِهَا صَرِيحًا فِي التَّعْلِيل كَونه يُبَادر فِيهِ إِلَى الذِّهْن بِلَا توقف فِي عرف اللُّغَة، وَغير أبي الْخطاب يَعْنِي بِكَوْنِهِ لَيْسَ بِصَرِيح أَن حرف (إِن) لَيست مَوْضُوعَة للتَّعْلِيل فِي اللُّغَة. قَالَ: وَهَذَا أقرب إِلَى التَّحْقِيق وَإِنَّمَا فهم التَّعْلِيل مِنْهُ فهما ظَاهرا متبادرا بِقَرِينَة سِيَاق الْكَلَام، وصيانة لَهُ عَن الإلغاء ". وَعند الْبَيْضَاوِيّ، وَابْن السُّبْكِيّ، وَغَيرهمَا: ظَاهر، وَهُوَ فِي عبارَة الطوفي الْمُتَقَدّمَة، وَهُوَ الظَّاهِر والأقوى. وَعند ابْن الْمَنِيّ: أَنَّهَا توكيد. فَإِن قيل لَهُ فِي زَوَال الْبكارَة بِالزِّنَا أَن " إِن " مَوْضُوعَة للتَّعْلِيل كَقَوْلِه: " إِنَّهَا من الطوافين ". فَقَالَ: لَا نسلم، وَإِنَّمَا هِيَ مَوْضُوعَة للتَّأْكِيد، وَإِنَّمَا كَانَ الطّواف عِلّة لعسر الِاحْتِرَاز عَنهُ لَا لَفْظَة " إِن ". وَكَذَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ: " أجمع عُلَمَاء الْعَرَبيَّة أَنَّهَا لم تأت للتَّعْلِيل بل للتَّأْكِيد، أَو بِمَعْنى نعم، وَإِنَّمَا جعلنَا الطّواف عِلّة لِأَنَّهُ قرنه بِحكم الطَّهَارَة وَهُوَ مُنَاسِب " انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3321 قَالَ التبريزي فِي " التَّنْقِيح ": وَالْحق أَن " إِن " لتأكيد مَضْمُون الْجُمْلَة، وَلَا إِشْعَار لَهَا بِالتَّعْلِيلِ، وَلِهَذَا يحسن اسْتِعْمَالهَا ابْتِدَاء من غير سبق حكم. وَسَبقه إِلَى ذَلِك ابْن الْأَنْبَارِي. قَوْله: [وَسبق بعض حُرُوف التَّعْلِيل] ك " إِذا " و " حَتَّى " و " على " و " فِي " و " من " وَغَيرهَا لما تكلمنا على الْحُرُوف. قَوْله: [وَعند الْأَصْحَاب وَغَيرهم: إِن قَامَ دَلِيل أَنه لم يقْصد التَّعْلِيل فمجاز نَحْو: لم فعلت؟ فَيَقُول: لِأَنِّي أردْت] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3322 معنى هَذَا الْكَلَام / أَن الْفِعْل بِحكم الأَصْل فِي وضع اللُّغَة أَو اسْتِعْمَالهَا إِنَّمَا يُضَاف إِلَى علته وَسَببه، فَإِن أضيف إِلَى مَا لَا يصلح عِلّة فَهُوَ مجَاز، وَيعرف [ذَلِك] [بِقِيَام] الدَّلِيل على عدم صلاحيته عِلّة، مثل أَن يُقَال للْفَاعِل لم فعلت؟ فَيَقُول: لِأَنِّي أردْت، فَإِن هَذَا لَا يصلح أَن يكون عِلّة فَهُوَ اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي غير مَحَله، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِن الْإِرَادَة لَيست عِلّة للْفِعْل [وَإِن] كَانَت هِيَ الْمُوجبَة لوُجُوده أَو المصححة لَهُ؛ لِأَن المُرَاد بِالْعِلَّةِ فِي الِاصْطِلَاح هُوَ الْمُقْتَضِي الْخَارِجِي للْفِعْل، أَي: الْمُقْتَضِي لَهُ من خَارج، والإرادة لَيست معنى خَارِجا عَن الْفَاعِل. قَوْله: [وإيماء وتنبيه] . قسمنا النَّص إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام: إِلَى صَرِيح، وَظَاهر، وإيماء وتنبيه. وتبعنا فِي ذَلِك ابْن الْبناء فِي " عقوده "، والبيضاوي، والسبكي، والبرماوي، وَغَيرهم. وَلم يذكر أَكثر الْأَصْحَاب تَقْسِيم النَّص إِلَى: صَرِيح، وَظَاهر، وإيماء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3323 بل يذكرُونَ النَّص ويقسمونه إِلَى صَرِيح وإيماء، كَأبي الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، والموفق فِي " الرَّوْضَة "، وَابْن حمدَان، والطوفي، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَابْن الْحَاجِب وَغَيرهم. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَغير الصَّرِيح، وَهُوَ الْمعبر عَنهُ بِالْإِيمَاءِ والتنبيه، ولاشك أَن النَّص فِيهِ صَرِيح فِي الْعلَّة وَظَاهر فِيهَا، فإطلاق من أطلق النَّص أَرَادَ ذَلِك، وَأَنه مُشْتَمل عَلَيْهِمَا. قَوْله [وَهُوَ أَنْوَاع: الْإِيمَاء: هُوَ اقتران الْوَصْف بِحكم لَو لم يكم هُوَ أَو نَظِيره للتَّعْلِيل لَكَانَ ذَلِك الاقتران بَعيدا من فصاحة كَلَام الشَّارِع، وإتيانه بالألفاظ [فِي غير] موَاضعهَا لتنزه كَلَامه عَن الحشو الَّذِي لَا فَائِدَة فِيهِ. وَهُوَ أَنْوَاع: مِنْهَا: ترَتّب حكم عقب وصف بِالْفَاءِ من كَلَام الشَّارِع وَغَيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3324 فَإِنَّهَا للتعقيب ظَاهرا وَيلْزم مِنْهُ السببيه نَحْو: {قل هُوَ أَذَى فاعتزلوا} [الْبَقَرَة: 222] " وسها فَسجدَ ". وَقَالَ ابْن الْحَاجِب: صَرِيح، وَقوم: ظَاهر] . الْفَاء لَهَا ثَلَاثَة / أَحْوَال مرتبَة: الأولى: أَن تكون فِي كَلَام الشَّارِع دَاخِلَة على الْعلَّة وَالْحكم مُتَقَدم، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمحرم الَّذِي وقصته نَاقَته كَمَا تقدم. الثَّانِيَة: أَن تدخل فِي كَلَام الشَّارِع على الحكم نَحْو {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا} [الْمَائِدَة: 38] ، {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا} [النُّور: 2] ، {قل هُوَ أَذَى فاعتزلوا} [الْبَقَرَة: 222] . قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَمَا ذكرته من أَن تقدم الْعلَّة ثمَّ مَجِيء الحكم بِالْفَاءِ أقوى من عَكسه هُوَ مَا قَالَه الرَّازِيّ: لِأَن إِشْعَار الْعلَّة بالمعلول أقوى من إِشْعَار الْمَعْلُول بِالْعِلَّةِ؛ لِأَن الطَّرْد وَاجِب فِي الْعِلَل دون الْعَكْس. ونازعه النقشواني وَقَالَ: بل تَقْدِيم الْمَعْلُول على الْعلَّة أقوى؛ لِأَن الحكم إِذا تقدم طلبت النَّفس علته، فَإِذا ذكر وصف ركنت إِلَى أَنه هُوَ الْعلَّة، بِخِلَاف مَا لَو تقدّمت الْعلَّة ثمَّ جَاءَ الحكم فقد تكتفي النَّفس بِأَن مَا سبق [علته] ، وَقد تطلب لَهُ عِلّة بطرِيق أُخْرَى وَأطَال فِي ذَلِك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3325 وَلَا يخفى ضعفه وَقُوَّة مَا قَالَه الإِمَام، وَهل مَا دخلت عَلَيْهِ الْفَاء فِي نَص الْكتاب أقوى مِمَّا فِي نَص السّنة، أَو متساويان؟ فبالأول: قَالَ الْآمِدِيّ، وَبِالثَّانِي: قَالَ الْهِنْدِيّ. قيل: وَهُوَ الْحق لِاسْتِوَائِهِمَا فِي عدم تطرق الْخَطَأ إِلَيْهِمَا. الثَّالِثَة، أَن تكون الْفَاء من كَلَام الرَّاوِي، وَلَا تكون إِلَّا دَاخِلَة على الحكم وَالْعلَّة مَا قبلهَا نَحْو: " سَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسجدَ " كَقَوْل عمرَان بن حُصَيْن: " سَهَا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسجدَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3326 " وزنا مَاعِز فرجم ". وَسَوَاء كَانَ الرَّاوِي فَقِيها أَو لَا، لكنه إِذا كَانَ فَقِيها كَانَ أقوى. قيل: وَيَنْبَغِي قصره على الصَّحَابِيّ أَو من بعده إِذا كَانَ عَالما بمدلولات الْأَلْفَاظ وَهُوَ ظَاهر. فَإِن قيل: إِذا قَالَ الرَّاوِي هَذَا مَنْسُوخ، أَو حمل حَدِيثا رَوَاهُ على غير ظَاهره لَا يعْمل بِهِ لجَوَاز أَن يكون عَن اجْتِهَاد، فَكيف إِذا قَالَ الرَّاوِي: " سَهَا فَسجدَ " وَنَحْوه يعْمل بِهِ مَعَ احْتِمَال أَن يكون عَن اجْتِهَاد؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3327 فَالْجَوَاب: / أَن هَذَا من قبيل فهم الْأَلْفَاظ من حَيْثُ اللُّغَة، لَا أَنه يرجع للِاجْتِهَاد، بِخِلَاف قَوْله: هَذَا مَنْسُوخ، وَنَحْوه، وَلِهَذَا لَو قَالَ: أَمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِكَذَا وَنهى عَن كَذَا، يعْمل بِهِ حملا على الرّفْع لَا على الِاجْتِهَاد. إِذا علم ذَلِك: فَإِذا رتب الشَّارِع حكما عقب اوصف بالفاءء كَمَا تقدم من الْأَمْثِلَة إِذْ الْفَاء للتعقيب، فتفيد تعقيب الحكم الْوَصْف وَأَنه سَببه، إِذْ السَّبَب مَا ثَبت الحكم عقبه، وَلِهَذَا تفهم السببيه مَعَ عدم الْمُنَاسبَة ك " من مس ذكره فَليَتَوَضَّأ ". وَالصَّحِيح أَن هَذَا من الْإِيمَاء، قَالَه الْمُوفق، والطوفي، وَابْن مُفْلِح، والآمدي، والبيضاوي، وَغَيرهم، فَيُفِيد الْعلَّة بِالْإِيمَاءِ. وَقَالَ ابْن الْحَاجِب وَغَيره: من أَقسَام الصَّرِيح. وَقَالَ السُّبْكِيّ وَغَيره: من أَقسَام الظَّاهِر، وَقَالَهُ الْبَيْضَاوِيّ؛ لِأَن لَهَا معَان غير ذَلِك فَإِن الْفَاء تكون بِمَعْنى الْوَاو وَغَيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3328 قَالَ الْبرمَاوِيّ: " [ويقوى] كَلَام ابْن الْحَاجِب إِذا كَانَ فِي الْكَلَام صَرِيح شَرط أَو معنى شَرط، كالنكرة الموصوفة، وَالِاسْم الْمَوْصُول، فَإِنَّهُ لَا يُمكن حمل الْفَاء فيهمَا على معنى الْوَاو العاطفة، إِذْ الْعَطف لَا يحسن قبل تَمام الْجُمْلَة ". والفقيه وَغَيره سَوَاء؛ لِأَنَّهُ ظَاهر حَاله مَعَ دينه وَعلمه. قَالَ الطوفي: وَاشْترط بَعضهم الْمُنَاسبَة وَإِلَّا لفهم من " صلى فَأكل " سَبَبِيَّة الصَّلَاة للْأَكْل، وَذكره الْبَيْضَاوِيّ قولا. قَوْله: [وَمِنْهَا ترَتّب حكم على وصف بِصِيغَة الْجَزَاء نَحْو: {وَمن يتق اللَّهِ يَجْعَل لَهُ مخرجا} أَي: لتقواه] . قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": " الثَّانِي: تَرْتِيب الحكم على الْوَصْف بِصِيغَة الْجَزَاء يدل على التَّعْلِيل بِهِ كَقَوْلِه تَعَالَى: {من يَأْتِ مِنْكُن بِفَاحِشَة مبينَة يُضَاعف لَهَا الْعَذَاب ضعفين} [الْأَحْزَاب: 30] ، {وَمن يقنت مِنْكُم لله وَرَسُوله وتعمل صَالحا نؤتها أجرهَا مرَّتَيْنِ} [الْأَحْزَاب: 31] ، {وَمن يتق اللَّهِ يَجْعَل لَهُ مخرجا} [الطَّلَاق: 2] . أَي: لتقواه. وَقَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من اتخذ كَلْبا إِلَّا كلب مَاشِيَة أَو صيد نقص من أجره الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3329 كل يَوْم قيراطان / وَكَذَا مَا أشبهه، فَإِن الْجَزَاء يتعقب شَرطه ويلازمه وَلَا معنى للسبب إِلَّا مَا يستعقب الحكم وَيُوجد بِوُجُودِهِ " انْتهى. وَلم يذكر ابْن مُفْلِح هَذَا النَّوْع فِي أُصُوله. قَوْله: [وَمِنْه اقتران وصف بِحكم لَو لم يكن هُوَ أَو نَظِيره عِلّة للْحكم كَانَ اقترانه بَعيدا شرعا ولغة. فَالْأول: كَقَوْل الْأَعرَابِي: " وَقعت على أَهلِي فِي رَمَضَان فَقَالَ: أعتق رقبه " فَإِن حذف بعض الْأَوْصَاف كَكَوْنِهِ أَعْرَابِيًا، وَتلك الْمَرْأَة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3330 والشهر، فتنقيح المناط أقرّ بِهِ أَكثر منكري الْقيَاس، حَتَّى أَبُو حنيفَة فِي الْكَفَّارَة، وَقيل: إِنَّه أحد مسالك الْعلَّة بِأَن يبين إِلْغَاء الْفَارِق، وَكَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما سُئِلَ عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ " أينقص إِذا يبس؟ قَالُوا: نعم، فَنهى عَنهُ ". وَالثَّانِي: كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للسائلة، " أَرَأَيْت لَو كَانَ على أمك دين أَكنت قاضيته؟ قَالَت: نعم، قَالَ: اقضوا اللَّهِ فَالله أَحَق بِالْوَفَاءِ ".] . من الْإِيمَاء أَن يقْتَرن الْوَصْف بِحكم لَو لم يكن هُوَ وَنَظِيره عِلّة للْحكم كَانَ اقترانه بَعيدا شرعا ولغة. فَالْأول وَله مثالان: الْمِثَال الأول: أَن يحكم عقب علمه بِصفة الْمَحْكُوم عَلَيْهِ وَقد أنهى إِلَيْهِ الْمَحْكُوم عَلَيْهِ حَاله، كَقَوْل الْأَعرَابِي: " واقعت أَهلِي فِي رَمَضَان، فَقَالَ: أعتق رَقَبَة "، أخرجه السِّتَّة، وَهَذَا لفظ ابْن مَاجَه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3331 فَكَأَنَّهُ قيل: كفر لكونك واقعت فِي نَهَار رَمَضَان، فَكَانَ الْحَذف الَّذِي ترَتّب بِهِ الحكم لفظا مَوْجُودا هُنَا، فَيكون مَوْجُودا تَقْديرا، هَذَا هُوَ الَّذِي يغلب على الظَّن من ذَلِك. وَأَيْضًا: لَو كَانَ المُرَاد غير ذَلِك يلْزم خلو السُّؤَال عَن الْجَواب، وَتَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة. فَإِن حذف شَيْء من الْأَوْصَاف الْمُرَتّب عَلَيْهَا الْجَواب لكَونه لَا مدْخل لَهُ فِي الْعلَّة لكَونه أَعْرَابِيًا أَو زيدا، وَكَون المجامعة زَوْجَة أَو أمة، أَو فِي قبلهَا، وَكَونه شهر تِلْكَ السّنة وَنَحْوه، فيسمى إِخْرَاج ذَلِك عَن الِاعْتِبَار تَنْقِيح المناط. والتنقيح لُغَة: التخليص والتهذيب، يُقَال: نقحت الْعظم إِذا استخرجت مخه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3332 والمناط: مفعل من ناط نياطا، أَي: علق. وَالْمرَاد: / أَن الحكم تعلق بذلك الْوَصْف. فَمَعْنَى تَنْقِيح المناط: الِاجْتِهَاد فِي تَحْصِيل المناط الَّذِي ربط بِهِ الشَّارِع الحكم، فَيبقى من الْأَوْصَاف مَا يصلح، ويلغى مَا لَا يصلح. وَقد أقرّ بِهِ أَكثر منكري الْقيَاس، وأجراه أَبُو حنيفَة فِي الْكَفَّارَات، مَعَ مَنعه الْقيَاس فِيهَا. وَذكر جمَاعَة كالتاج السُّبْكِيّ، والبرماوي، وَغَيرهمَا: أَنه أَجود مسالك الْعلَّة بِأَن يبين إِلْغَاء الْفَارِق. وَقد يُقَال الْعلَّة الْمُشْتَرك أَو الْمُمَيز، وَالثَّانِي بَاطِل فَيثبت الأول. وَلَا يَكْفِي أَن يُقَال: مَحل الحكم إِمَّا الْمُشْتَرك أَو مُمَيّز الأَصْل؛ لِأَنَّهُ لَا يلْزم من ثُبُوت الْمحل ثُبُوت الحكم. قيل: لَا دَلِيل على عدم عليته فَهُوَ عِلّة. رد: لَا دَلِيل لعليته وَلَيْسَ بعلة. قيل: لَو كَانَ عِلّة لتأتى الْقيَاس الْمَأْمُور بِهِ. رد: هُوَ دور. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3333 وَسَيَأْتِي لهَذَا مزِيد بَيَان عَن ذكرنَا تَنْقِيح المناط وتحقيقه وتخريجه عقب المسالك. الْمِثَال الثَّانِي: أَن يقدر فِي كَلَام الشَّارِع وصف لَو لم يكن للتَّعْلِيل، لَكَانَ بَعيدا، أَو يكون التَّقْدِير فِي مَحل السُّؤَال، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: وَقد سُئِلَ عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ: " أينقص إِذا يبس؟ قَالُوا: نعم، قَالَ: فَلَا إِذا "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، وَابْن خُزَيْمَة، وَالْحَاكِم. فَلَو لم يكن تَقْدِير نُقْصَان الرطب بالجفاف لأجل التَّعْلِيل لَكَانَ تَقْدِيره بَعيدا؛ إِذْ لَا فَائِدَة فِيهِ حِينَئِذٍ وَالْجَوَاب يتم دونه. الثَّانِي: التَّقْدِير فِي نَظِير مَحل السُّؤَال مِثَاله: مَا رُوِيَ فِي الْكتب السِّتَّة أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما سَأَلته الْمَرْأَة الخثعمية: أَن أبي أَدْرَكته الْوَفَاة وَعَلِيهِ فَرِيضَة الْحَج، أينفعه إِن حججْت عَنهُ؟ قَالَ: " أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين فقضيتيه أَكَانَ يَنْفَعهُ؟ " قَالَت: نعم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3334 فنظيره فِي الْمَسْئُول عَنهُ كَذَلِك، وَفِيه تَنْبِيه على الأَصْل: الَّذِي هُوَ دين الْآدَمِيّ على الْمَيِّت، وَالْفرع وَهُوَ الْحَج الْوَاجِب عَلَيْهِ، وَالْعلَّة وَهُوَ قَضَاء دين الْمَيِّت / فقد جمع فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْكَان الْقيَاس كلهَا. وَنَحْو ذَلِك فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " جَاءَت امْرَأَة إِلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَت: يَا رَسُول اللَّهِ إِن أُمِّي مَاتَت وَعَلَيْهَا صَوْم نذر، أفأصوم؟ [فَقَالَ] : أ {أيت لَو كَانَ على أمك دين فقضيتيه أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِك عَنْهَا؟ قَالَت: نعم، قَالَ: فصومي عَن أمك ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3335 وَقَالَ ابْن مُفْلِح: مِثَال التَّقْدِير فِي نَظِير مَحل السُّؤَال " قَول امْرَأَة من جُهَيْنَة لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِن أُمِّي نذرت أَن تحج فَلم تحج حَتَّى مَاتَت أفأحج عَنْهَا؟ قَالَ: حجي عَنْهَا، أَرَأَيْت لَو كَانَ على أمك دين أَكنت قاضيته، قَالَت: نعم، قَالَ: اقضوا اللَّهِ فَالله أَحَق بِالْوَفَاءِ " مُتَّفق عَلَيْهِ، وتابعناه فِي التَّمْثِيل بذلك، وَالْكل صَحِيح وَفِي الصَّحِيح. وَذكر أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَابْن حمدَان فِي " الْمقنع "، وَغَيرهمَا: أَن من هَذَا قَول عمر للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: صنعت الْيَوْم أمرا عَظِيما قبلت وَأَنا صَائِم، فَقَالَ: " أَرَأَيْت لَو تمضمضت بِمَاء وَأَنت صَائِم أتفطر؟ قَالَ لَا، قلت: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3336 لَا بَأْس. قَالَ: فَفِيمَ "، وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ بِلَفْظ: " لما سَأَلَهُ عَن قبْلَة الصَّائِم [قَالَ] أَرَأَيْت لَو تمضمضت من المَاء وَأَنت صَائِم أتفطر؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمه ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3337 وَذَلِكَ أَنه ذكر الْوَصْف فِي نَظِير السُّؤَال عَنهُ وَهُوَ الْمَضْمَضَة الَّتِي هِيَ مُقَدّمَة الشّرْب، ورتب عَلَيْهَا الحكم وَهُوَ عدم الْإِفْسَاد، وَنبهَ على [الأَصْل] وَهُوَ: الصَّوْم مَعَ الْمَضْمَضَة، وَالْفرع وَهُوَ: الصَّوْم مَعَ الْقبْلَة. وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَيْسَ هَذَا من ذَلِك وَإِنَّمَا هُوَ نقض لما توهمه عمر من إِفْسَاد الْقبْلَة الَّتِي هِيَ مُقَدّمَة الْجِمَاع الَّذِي هُوَ مُفسد، فَإِن عمر _ رَضِي اللَّهِ عَنهُ - توهم أَن الْقبْلَة تفْسد كَمَا يفْسد الْجِمَاع، فنقض - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - توهمه بالمضمضة؛ لِأَن ذَلِك تَعْلِيل لمنع الْإِفْسَاد. قَوْله: [وَمِنْهَا أَن يفرق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَين حكمين بِصفة مَعَ ذكرهمَا نَحْو : " للراجل سهم وللفارس سَهْمَان "، / أَو مَعَ ذكر أَحدهمَا نَحْو: " الْقَاتِل لَا يَرث "، أَو بِشَرْط وَجَزَاء نَحْو: " فَإِذا اخْتلفت هَذِه الْأَوْصَاف فبيعوا "، أَو بغاية {حَتَّى يطهرن} ، أَو اسْتثِْنَاء {فَنصف مَا فرضتم إِلَّا أَن يعفون} ، أَو اسْتِدْرَاك {وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} .] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3338 من الْإِيمَاء أَن يفرق بَين حكمين بصفتين كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " للراجل سهم وللفارس سَهْمَان ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3339 قَالَ الْبرمَاوِيّ: كَذَا يمثلون بِهِ وَالَّذِي فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " جعله للْفرس سَهْمَيْنِ ولصاحبه سَهْما "، وَفِي البُخَارِيّ: " للْفرس سَهْمَيْنِ وللراجل سَهْما، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3340 وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِلَفْظ: " جعل للفارس سَهْمَيْنِ وللراجل سَهْما ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3341 أَو بِصفة مَعَ أحد الْحكمَيْنِ دون الآخر كَحَدِيث: " الْقَاتِل لَا يَرث، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: لَا يَصح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3342 فَإِن مُقَابِله وَهُوَ من لَيْسَ بِقَاتِل من الْوَرَثَة يكون مَحْكُومًا عَلَيْهِ بضد هَذَا الحكم وَهُوَ منع الْإِرْث فَيكون وَارِثا. وَفِي معنى التَّفْرِيق بَين الْحكمَيْنِ بِصفة التَّفْرِقَة بَينهمَا بِشَرْط كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا اخْتلفت هَذِه الْأَجْنَاس فبيعوا كَيفَ شِئْتُم إِذا كَانَ يدا بيد ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3343 وبغاية كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} [الْبَقَرَة: 222] ، فقد فرق فِي الحكم بَين الْحيض وَالطُّهْر. أَو اسْتثِْنَاء كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَنصف مَا فرضتم إِلَّا أَن يعفون} [الْبَقَرَة: 237] . أَو لفظ دَال على الِاسْتِدْرَاك كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذكُم اللَّهِ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} [الْمَائِدَة: 89] . وَجه استفادة الْعلَّة من ذَلِك كُله: أَن التَّفْرِقَة لَا بُد لَهَا من فَائِدَة، وَالْأَصْل عدم غير الْمُدَّعِي وَهُوَ إِفَادَة كَون ذَلِك عِلّة. قَوْله: [وَمِنْهَا تعقيب الْكَلَام أَو تَضْمِينه مَا لَو لم يُعلل بِهِ لم يَنْتَظِم، نَحْو {فَاسْعَوْا إِلَى ذكر اللَّهِ وذروا البيع} ، " لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان ".] تابعنا فِي ذَلِك الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي، فَمن أَنْوَاع الْإِيمَاء / تعقيب الشَّارِع الْكَلَام الَّذِي أنشأه لبَيَان حكم أَو تَضْمِينه لَهُ بِمَا لَو لم يُعلل الحكم الْمَذْكُور لم يَنْتَظِم الْكَلَام وَلم يكن لَهُ بِهِ تعلق. فالمتعقب للْكَلَام [نَحْو] قَوْله تَعَالَى: {يأيها الَّذين ءامنوا إِذا نُودي للصلواة من يَوْم الْجُمُعَة فاسعو إِلَى ذكر اللَّهِ وذروا البيع} [الْجُمُعَة: 9] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3344 وَالَّذِي تضمنه الْكَلَام نَحْو قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان رَوَاهُ الشَّافِعِي بِلَفْظ: " لَا يحكم الْحَاكِم أَو لَا يقْضِي بَين اثْنَيْنِ "، وَرَوَاهُ أَصْحَاب الْكتب بِلَفْظ: " لَا يقضين حَاكم بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان ". فالآية إِنَّمَا سيقت لبَيَان أَحْكَام الْجُمُعَة لَا لبَيَان أَحْكَام البيع، فَلَو لم يُعلل النَّهْي عَن البيع حِينَئِذٍ بِكَوْنِهِ شاغلا عَن السَّعْي لَكَانَ ذكره لاغيا لكَونه غير مُرْتَبِط بِأَحْكَام الْجُمُعَة. وَلَو لم يُعلل النَّهْي [عَن] الْقَضَاء عِنْد الْغَضَب بِكَوْنِهِ يتَضَمَّن اضْطِرَاب المزاج الْمُقْتَضِي تشويش الْفِكر المفضي إِلَى الْخَطَأ فِي الحكم غَالِبا، لَكَانَ ذكره لاغيا، إِذْ البيع وَالْقَضَاء لَا يمنعان مُطلقًا لجَوَاز البيع فِي غير وَقت النداء، وَالْقَضَاء مَعَ عدم الْغَضَب أَو مَعَ يسيره فَلَا بُد إِذا من مَانع، وَلَيْسَ إِلَّا مَا فهم من سِيَاق النَّص ومضمونه من شغل البيع عَن السَّعْي إِلَى الْجُمُعَة فتفوت، واضطراب الفكرة لأجل الْغَضَب فَيَقَع الْخَطَأ فَوَجَبَ إِضَافَة النَّهْي إِلَيْهِ. وَأما الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم، فَجعلُوا الحَدِيث وَنَحْوه من النَّوْع الْآتِي: وَهُوَ قَوْله: [وَمِنْهَا اقتران الحكم بِوَصْف مُنَاسِب كأكرم الْعلمَاء وأهن الْجُهَّال] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3345 فَهُوَ وصف مُنَاسِب وَمِنْه: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا} [الْمَائِدَة: 38] ، {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا} [النُّور: 2] ، {إِن الْأَبْرَار لفى نعيم} وَإِن الْفجار لفى جحيم} [الانفطار: 13، 14] . فالإكرام للْعلم، والإهانة للْجَهْل، وَالْقطع للسرقة، وَالْجَلد للزِّنَا وَالنَّعِيم للبر، والجحيم للفجور، وَنَحْوه؛ لِأَن الْمَعْلُوم من تَصَرُّفَات الْعُقَلَاء تَرْتِيب الْأَحْكَام على الْأُمُور الْمُنَاسبَة، وَالشَّرْع لَا يخرج عَن تَصَرُّفَات الْعُقَلَاء؛ وَلِأَنَّهُ قد ألف من الشَّارِع اعْتِبَار / المناسبات دون إلغائها، فَإِذا قرن بالحكم فِي لَفظه وَصفا مناسبا غلب على الظَّن اعْتِبَاره. فَفِي قَوْله: " لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان "، تَنْبِيه على أَن عِلّة ذَلِك مَا فِيهِ تشويش الْفِكر فيطرد ذَلِك فِي كل مشوش؛ لِأَن خُصُوص كَونه غَضْبَان لَيْسَ هُوَ الْمُنَاسب للْحكم فَيلْحق بِهِ الجائع والحاقن وَنَحْوه. وَقَالَ الرَّازِيّ: لَا مُلَازمَة بَين التشويش وَالْغَضَب؛ لِأَن التشويش إِنَّمَا ينشأ عَن الْغَضَب الشَّديد لَا مُطلق الْغَضَب. وَأجِيب عَنهُ: بِأَن الْغَضَب مَظَنَّة التشويش فَكَانَ هُوَ الْعلَّة، كالسفر مَعَ الْمَشَقَّة، وَكلما كَانَ مَظَنَّة من جوع وَنَحْوه يكون كَذَلِك. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَاعْلَم أَن هَذَا سبق التَّمْثِيل بِهِ لما أَجمعُوا على أَنه عِلّة، فَالْمُرَاد بالتمثيل بِهِ هُنَا أَن يكون فِي الِابْتِدَاء قبل أَن يجمعوا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3346 قَوْله: [فَإِن ذكر الْوَصْف صَرِيحًا وَالْحكم مستنبط مِنْهُ ك {وَأحل اللَّهِ البيع} صِحَّته مستنبطة من حلّه، فمومى إِلَيْهِ فِي الْأَصَح، وَعَكسه بعكسه كحرمت الْخمر، الْوَصْف مستنبط من تَحْرِيمه] . إِذا كَانَ الحكم مَقْرُونا بِوَصْف لم يشْتَرط فِي وَاحِد مِنْهُمَا أَن يكون مَذْكُورا، بل قد يكون وَاحِد مِنْهُمَا مستنبطا. مِثَال كَون الْوَصْف مَذْكُورا مُصَرحًا بِهِ وَالْحكم مستنبطا قَوْله تَعَالَى: {وَأحل اللَّهِ البيع} [الْبَقَرَة: 275] ، فَإِن الْوَصْف الَّذِي هُوَ حل البيع مُصَرح بِهِ، وَالْحكم وَهُوَ الصِّحَّة مستنبط من الْحل، فَإِنَّهُ يلْزم من حلّه صِحَّته. وَأما الْعَكْس وَهُوَ كَون الحكم مَذْكُورا وَالْوَصْف مستنبطا، فَهُوَ الَّذِي فِي أَكثر الْعِلَل المستنبطة كَقَوْلِه: حرمت الْخمر، فَإِن الحكم وَهُوَ التَّحْرِيم مُصَرح بِهِ، وَالْوَصْف وَهُوَ الْإِسْكَار مستنبط [مِنْهُ] ، وكعلة الرِّبَا مستنبطة من حكمه فَفِي هذَيْن النَّوْعَيْنِ خلاف. وَالصَّحِيح أَن النَّوْع الأول من الْإِيمَاء، اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَغَيره، وَذكره عَن الْمُحَقِّقين، للُزُوم الصِّحَّة للْحلّ لذكره، لِأَن التَّلَفُّظ بِالْوَصْفِ إِيمَاء إِلَى تَعْلِيل الحكم الْمُصَرّح بِهِ، وَاخْتَارَهُ الْهِنْدِيّ أَيْضا. وَلنَا قَول آخر أَنه لَيْسَ / من الْإِيمَاء، لِأَن الْعلَّة غير مُصَرح بهَا فِيهِ كَمَا لَو صرح بالحكم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3347 وَالصَّحِيح: أَن النَّوْع الثَّانِي لَيْسَ من الْإِيمَاء، جزم بِهِ الْآمِدِيّ، والطوفي فِي " شَرحه "، وَمَال إِلَيْهِ الْهِنْدِيّ، وَقَالَ: الْخلاف فِيهِ بعيد نقلا وَمعنى؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَن يكون الْعلَّة والإيماء متلازمين لَا يَنْفَكّ أَحدهمَا، وَادّعى بَعضهم الِاتِّفَاق عَلَيْهِ. وَلنَا قَول آخر أَنه من الْإِيمَاء، لِأَن الْإِيمَاء اقتران الْوَصْف بالحكم وَهُوَ حَاصِل هُنَا ثمَّ لاستلزام، وَهُوَ ظَاهر مَا نَصره ابْن مُفْلِح. قَوْله: [وَلَا يشْتَرط مُنَاسبَة الْوَصْف المومى إِلَيْهِ عِنْد ابْن الْمَنِيّ وَالْأَكْثَر، وَعند الْغَزالِيّ والجوزي بلَى، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب: إِن فهم التَّعْلِيل من الْمُنَاسبَة، وَمَعْنَاهُ للموفق وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3348 لَا يشْتَرط مُنَاسبَة الْوَصْف المومى إِلَيْهِ عِنْد الْأَكْثَر بِنَاء على أَن الْعلَّة الْمُعَرّف. وَقيل: يشْتَرط بِنَاء على أَنَّهَا بِمَعْنى الْبَاعِث. قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَهل يشْتَرط مُنَاسبَة الْوَصْف المومى إِلَيْهِ؟ أطلق بعض أَصْحَابنَا وَجْهَيْن. وَقَالَ الْآمِدِيّ: اشْتَرَطَهُ قوم، ونفاه آخَرُونَ، ثمَّ اخْتَار إِن فهم التَّعْلِيل من الْمُنَاسبَة اشْترط؛ لِأَن الْمُنَاسبَة فِيهِ منشأ للإيماء مثل " لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان ". وَإِلَّا، فَلَا لِأَنَّهُ بِمَعْنى الأمارة. وَمَعْنَاهُ فِي الرَّوْضَة، وجدل أبي مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3349 وَقَالَ الْمجد: تَرْتِيب الحكم على اسْم مُشْتَقّ يدل أَن مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاق عِلّة فِي قَول [أَكثر] الْأُصُولِيِّينَ وَاخْتَارَهُ ابْن الْمَنِيّ. وَقَالَ قوم: إِن كَانَ مناسبا، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب فِي تَعْلِيل الرِّبَا من الِانْتِصَار، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ وَإِنَّمَا ذكر أَبُو الْخطاب منعا وتسليما. اسْتدلَّ لعدم الِاشْتِرَاط: أَنه لَو اشْترط لم يفهم التَّعْلِيل من تَرْتِيب الحكم على وصف غير مُنَاسِب كأهن الْعَالم، وَأكْرم الْجَاهِل، وَلم يلم عَلَيْهِ. / رد: لم يفهم مِنْهُ واللوم للإساءة فِي الْجَزَاء، وَلِهَذَا توجه اللوم لَو سكت عَن الْجَزَاء فِي مَوضِع يفهم من السُّكُوت ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3350 (قَوْله: [فصل] ) [الثَّالِث: السّير والتقسيم: حصر الْأَوْصَاف وَإِبْطَال مَا لَا يصلح، فَيتَعَيَّن الْبَاقِي عِلّة] . الثَّالِث من مسالك الْعلَّة وَهِي الطّرق الدَّالَّة على الْعلية: السبر والتقسيم. وَهُوَ: ذكر أَوْصَاف فِي الأَصْل الْمَقِيس [عَلَيْهِ] محصورة وَإِبْطَال بَعْضهَا بِدَلِيل، فَيتَعَيَّن الْبَاقِي للعلية. سمي بذلك؛ لِأَن النَّاظر يقسم الصِّفَات ويختبر صَلَاحِية كل وَاحِد مِنْهَا للعلية، فَيبْطل مَا لَا يصلح ويبقي مَا يصلح. والسبر فِي اللُّغَة: هُوَ الاختبار، فالتسمية بِمَجْمُوع الاسمين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3351 وَاضِحَة، وَقد يقْتَصر على السبر فَقَط. والتقسيم مقدم فِي الْوُجُود عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تعداد الْأَوْصَاف الَّتِي يتَوَهَّم صلاحيتها للتَّعْلِيل ثمَّ يسبرها، أَي: يختبرها ليميز الصَّالح للتَّعْلِيل من غَيره، فَكَانَ الأولى أَن يُقَال: التَّقْسِيم والسبر؛ لِأَن الْوَاو وَإِن لم تدل على التَّرْتِيب لَكِن الْبدَاءَة بالمقدم أَجود، وَقَالَهُ ابْن الْعِرَاقِيّ. وَأجِيب عَنهُ: بِأَن السبر وَإِن تَأَخّر عَن التَّقْسِيم فَهُوَ مقدم عَلَيْهِ أَيْضا، لِأَنَّهُ أَولا يسبر الْمحل، هَل فِيهِ أَوْصَاف أم لَا؟ ثمَّ يقسم، ثمَّ يسبر ثَانِيًا، فَقدم السبر فِي اللَّفْظ بِاعْتِبَار السبر الأول. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَفِيه نظر؛ لِأَن لنا تقسيما سَابِقًا على هَذَا السبر الْمُدعى وَهُوَ أَن يَقُول: إِن هَذَا الحكم إِمَّا لَهُ عِلّة أَو تعبدي لَا عِلّة [لَهُ] ، ثمَّ يسبر بِنَفْي كَونه تعبدا، ثمَّ يقسم الْأَوْصَاف إِلَيْهَا، فكونه علما بِاعْتِبَار السبر الأول والتقسيم من غير نظر إِلَى السبر الثَّانِي خلاف الظَّاهِر. وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يُجَاب: بِأَن الْمُؤثر فِي علم الْعلية إِنَّمَا هُوَ السبر، وَأما التَّقْسِيم فَإِنَّمَا هُوَ لاحتياج السبر إِلَى شَيْء يسبر، وَرُبمَا سمي بالتقسيم / الحاصر " انْتهى. قَوْله: [وَيَكْفِي المناظر بحثت فَلم أجد غَيره، أَو الأَصْل عَدمه] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3352 يَكْفِي المناظر فِي بَيَان الْحصْر إِذا منع أَن يَقُول: بحثت فَلم أجد غير هَذِه الْأَوْصَاف فَيقبل قَوْله؛ لِأَنَّهُ ثِقَة أهل للنَّظَر، فَالْحكم بِنَفْي مَا سوى هَذَا مُسْتَندا إِلَى [ظن] عَدمه، لَا إِلَى عدم الْعلم بِوَصْف آخر؛ لِأَن الْأَوْصَاف الْعَقْلِيَّة والشرعية لَو كَانَت لما خفيت على الباحث عَنْهَا. مِثَاله: أَن يَقُول فِي قِيَاس الذّرة على الْبر فِي الربوية: بحثت عَن أَوْصَاف الْبر فَمَا وجدت مَا يصلح عِلّة للربوية فِي بادىء الرَّأْي إِلَّا الطّعْم أَو الْقُوت أَو الْكَيْل، لَكِن الطّعْم والقوت لَا يصلح لذَلِك عِنْد التَّأَمُّل، فَيتَعَيَّن الْكَيْل. أَو يَقُول: الأَصْل عدم مَا سواهَا فَإِن بذلك يحصل الظَّن الْمَقْصُود. قَوْله: [فَإِن بَين الْمُعْتَرض وَصفا آخر لزم إِبْطَاله] . مثل أَن يَقُول: هُنَا وصف آخر، وَهُوَ كَونه خير قوت، فَإِذا بَين ذَلِك، لزم الْمُسْتَدلّ إِبْطَاله؛ إِذْ لَا يثبت الْحصْر الَّذِي قد ادَّعَاهُ بِدُونِهِ. قَوْله: [وَلَا يلْزم الْمُعْتَرض بَيَان صلاحيته للتَّعْلِيل] . للمعترض بعد إتْمَام الْمُسْتَدلّ السبر والتقسيم إبداء وصف زَائِد على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3353 الْأَوْصَاف [الَّتِي] ذكرهَا الْمُسْتَدلّ كَمَا تقدم، لَكِن لَا يلْزمه أَن يبين أَن الْوَصْف الْمَذْكُور صَالح للتَّعْلِيل، بل إبِْطَال صلاحيته لذَلِك وَظِيفَة الْمُسْتَدلّ لَا يتم دَلِيله إِلَّا بذلك. قَوْله [وَلَا يَنْقَطِع الْمُسْتَدلّ فِي الأَصْل إِلَّا بعجزه عَن إِبْطَاله، والمجتهد يعْمل بظنه] , لَا يَنْقَطِع الْمُسْتَدلّ بِمُجَرَّد إبداء الْمُعْتَرض الْوَصْف بِظُهُور بطلَان مَا ادَّعَاهُ من الْحصْر، وَإِلَّا كَانَ كل منع قطعا والاتفاق على خِلَافه، وَهَذَا الصَّحِيح وَعَلِيهِ عَمَلهم. وَقيل: يَنْقَطِع؛ لِأَنَّهُ ادّعى حصرا وَقد ظهر بُطْلَانه. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَجَوَابه: أَنه لَا يظْهر بُطْلَانه إِلَّا إِن عجز عَن دَفعه ". قَالَ الْعَضُد: " وَالْحق: أَنه إِذا أبْطلهُ فقد سلم حصره، وَكَانَ لَهُ أَن يَقُول: هَذَا مِمَّا علمت أَنه لَا يصلح فَلم أدخلهُ فِي حصري. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لم يدع الْحصْر قطعا، بل قَالَ: إِنِّي مَا وجدت أَو [أَظن] الْعَدَم وَهُوَ فِيهِ صَادِق، فَيكون كالمجتهد إِذا ظهر لَهُ مَا كَانَ خافيا عَلَيْهِ وَإنَّهُ غير مستنكر / " انْتهى. وَقَالَ ابْن السُّبْكِيّ: " وَعِنْدِي أَنه يَنْقَطِع إِن كَانَ مَا اعْترض بِهِ الْمُعْتَرض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3354 مُسَاوِيا فِي الْعلَّة لما ذكره الْمُسْتَدلّ فِي حصر الْأَوْصَاف، وأبطله؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ ذكر الْمَذْكُور وإبطاله أولى من ذَلِك الْمَسْكُوت عَنهُ الْمسَاوِي لَهُ، وَإِن كَانَ دونه فَلَا انْقِطَاع لَهُ، إِلَّا أَن لَهُ أَن يَقُول: هَذَا لم يكن عِنْدِي مختلا أَلْبَتَّة بِخِلَاف مَا ذكرته وأبطلته ". قَالَ الْبرمَاوِيّ: " قلت: مَا من وصف يَأْتِي بِهِ الْمُعْتَرض إِلَّا والمستدل يُنَازع فِي مساواته، وَلِهَذَا يَدْفَعهُ، فَأَيْنَ مَحل هَذَا التَّفْصِيل " انْتهى. وَأما النَّاظر الْمُجْتَهد، فَإِنَّهُ يعْمل بظنه فَيرجع إِلَيْهِ، فَإِذا حصل لَهُ الظَّن عمل بذلك وَكَانَ مؤاخذا بِمَا اقْتَضَاهُ ظَنّه، فَيلْزمهُ الْأَخْذ بِهِ وَلَا يكابر نَفسه قَوْله: [وَمَتى كَانَ الْحصْر والإبطال قَطْعِيا فالتعليل قَطْعِيّ وَإِلَّا فظني] . السبر والتقسيم ضَرْبَان: أَحدهمَا: مَا يكون الْحصْر فِي الْأَوْصَاف وَإِبْطَال مَا يبطل مِنْهَا قَطْعِيا فَيكون دلَالَته قَطْعِيَّة بِلَا خلاف، وَلَكِن هَذَا قَلِيل فِي الشرعيات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3355 وَالثَّانِي: مَا يكون حصر الْأَوْصَاف ظنيا أَو السبر ظنيا، أَو كِلَاهُمَا، وَهُوَ الْأَغْلَب، فَلَا يُفِيد إِلَّا الظَّن وَيعْمل بِهِ فِيمَا لَا يتعبد فِيهِ بِالْقطعِ من العقائد وَنَحْوهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3356 قَوْله: [وَمن طرق الْحَذف الإلغاء وَهُوَ إِثْبَات الحكم بِالْبَاقِي فَقَط فِي صُورَة وَلم يثبت دونه فَيظْهر استقلاله وَحده، وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَا يَكْفِي فِي استقلاله بِدُونِ طَرِيق من طرق إِثْبَات الْعلَّة] . إبِْطَال بعض الْأَوْصَاف لَهُ طرق يعرف بهَا: أَحدهَا: أَن يدل بِدَلِيل شَرْعِي على إلغائه كَمَا تقدم، فالإلغاء من الطّرق وَهُوَ بَيَان الْمُسْتَدلّ إِثْبَات الحكم بِالْبَاقِي فَقَط فِي صُورَة وَلم يثبت دونه فَيظْهر استقلاله وَحده. وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَا يَكْفِي ذَلِك فِي استقلاله بِدُونِ طَرِيق من طرق إِثْبَات الْعلَّة، وَإِلَّا لكفى فِي أصل الْقيَاس، فَإِن ثَبت فِي صُورَة الإلغاء بالسبر فَالْأَصْل الأول تَطْوِيل / بِلَا فَائِدَة، وَإِن بَينه بطرِيق آخر لزم مَحْذُور آخر وَهُوَ الِانْتِقَال. وَعلل، بَعضهم: بِجَوَاز أَن الْوَصْف [الْمَحْذُوف] جُزْء عِلّة وأعم من الْمَعْلُوم، فَلَا يلْزم من وجود الحكم دونه وَعدم الحكم عِنْد وجوده اسْتِقْلَال الْبَاقِي. قَوْله: [وَيُشبه الإلغاء نفي الْعَكْس، وَلَيْسَ هُوَ] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3357 يشبه الإلغاء نفي الْعَكْس الَّذِي لَا يقبل، لِأَن كلا مِنْهُمَا إِثْبَات الحكم بِدُونِ الْوَصْف، وَلَيْسَ هُوَ؛ لِأَنَّهُ لم يقْصد فِي الإلغاء لَو كَانَ الْمَحْذُوف عِلّة لَا نتفى عِنْد انتفائه، بل لَو قصد أَن الْبَاقِي جُزْء عِلّة لما اسْتَقل. قَوْله: [وَمِنْهَا] ، أَي: من طرق الْحَذف. [طرد الْمَحْذُوف مُطلقًا [كطول وَقصر، أَو بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِك الحكم كالذكورية فِي الْعتْق. وَمِنْهَا: عدم ظُهُور مناسبته. وَيَكْفِي المناظر: بحثت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3358 فَلَو قَالَ معترض: الْبَاقِي كَذَلِك بعد تَسْلِيمه مناسبته لم يقبل، وَإِلَّا فسبر الْمُسْتَدلّ أرجح وَلَيْسَ لَهُ بَيَان الْمُنَاسبَة. وَاخْتَارَ الْمُوفق: لَيْسَ مِنْهَا لمعارضة خَصمه لَهُ بِمثلِهِ وَلَا يَكْفِيهِ نقضه. والسبر الظني حجَّة مُطلقًا فِي ظَاهر كَلَام القَاضِي وَغَيره، وَقَالَهُ ابْن عقيل وَالْأَكْثَر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3359 وَخَالف الْحَنَفِيَّة. قَالَ أَبُو الْخطاب، والموفق، والطوفي: لَا يَصح لجَوَاز التَّعَبُّد. وَأَبُو الْمَعَالِي: حجَّة إِن أجمع على تَعْلِيل الحكم. وَقيل: للنَّاظِر دون المناظر] ) . فَائِدَة: يَكْفِي فِي حصر الْأَوْصَاف اتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نفي مَا عَداهَا، وَأما إِذا اتفقَا مثلا على أَن الحكم مُعَلل، وَأَن الْعلَّة فِيهِ أحد الْمَعْنيين، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3360 وَاخْتَارَ الْمُسْتَدلّ وَاحِدَة والمعترض الْأُخْرَى، فَقَالَ الْمُسْتَدلّ: لعلتي مُرَجّح، وَهُوَ كَذَا فَهَل يَكْفِي ذَلِك؟ قَالَ أَبُو الطّيب فِي مناظرته مَعَ أبي الْحسن الْقَدُورِيّ: لَا يَكْفِي، فَإِن اتفاقي مَعَك على أَن الْعلَّة أحد الْمَعْنيين لَيْسَ دَلِيلا، فَإِن إجماعنا لَيْسَ بِحجَّة، وَإِنَّمَا الْحجَّة فِي إِجْمَاع الْأمة. وَقَالَ الْقَدُورِيّ: يَكْفِي لقطع الْمُنَازعَة. قَوْله: [وَلَو أفسد حنبلي عِلّة شَافِعِيّ لم يدل على صِحَة علته، لكنه طَرِيق لإبطال مَذْهَب خَصمه وإلزام لَهُ صِحَة علته، وَقيل: لَا تثبت عِلّة الأَصْل باستنباط وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد. وَقيل: لَا يقبل سبر فِي ظَنِّي، وَقيل: وَلَا فِي التَّعْلِيل إِلَّا الْإِيمَاء وَمَا علم بِغَيْر نظر كبوله فِي إِنَاء ثمَّ صبه فِي مَاء] . قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَأما إِن أفسد حنبلي عِلّة شَافِعِيّ فِي الرِّبَا لم يدل على صِحَة علته لتعليل بعض الْفُقَهَاء بِغَيْرِهِمَا، وَلَيْسَ إجماعهما دَلِيلا على من خالفهما، لَكِن يكون طَرِيقا فِي إبِْطَال مَذْهَب خَصمه وإلزاما لَهُ صِحَة علته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3361 وَفِي " الرَّوْضَة ": فِي هَذِه الصُّورَة / الْخلاف فِي الَّتِي قبلهَا وَفِيه نظر. وَقد ذكر القَاضِي عَن ابْن حَامِد أَن عِلّة الأَصْل كعلة الرِّبَا لَا تثبت بالاستنباط، قَالَ: وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد فَسَأَلَهُ مهنا: " هَل نقيس بِالرَّأْيِ؟ قَالَ: لَا هُوَ أَن يسمع الحَدِيث فيقيس عَلَيْهِ ". وَعلله بِعَدَمِ الْقطع بِصِحَّتِهَا. ثمَّ اخْتَار أَنه يَصح، وَذكر كَلَام أَحْمد فِي عِلّة الرِّبَا. قَالَ بعض أَصْحَابنَا: لَا يُخَالف ابْن حَامِد فِي استنباط سَمْعِي وَهُوَ التَّنْبِيه والإيماء، وَهَذِه أشهر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3362 وَعَن [البخاريين] : لَا يقبل السبر [فِي ظَنِّي] ، وَذكره أَبُو الْمَعَالِي عَن بعض الْأُصُولِيِّينَ. وَذكر أَيْضا عَن النهرواني والقاشاني: لَا يقبل فِي التَّعْلِيل إِلَّا الْإِيمَاء وَمَا علم بِغَيْر نظر كبوله فِي إِنَاء ثمَّ يصبهُ فِي مَاء، وافقهما أَبُو هَاشم) . انْتهى. قَوْله: [فَائِدَة: لكل حكم عِلّة عِنْد الْفُقَهَاء تفضلا، وَعند الْمُعْتَزلَة وجوبا، قَالَ: أَبُو الْخطاب كلهَا معللة وتخفى نَادرا، قَالَ القَاضِي: هِيَ الأَصْل وَترك نَادرا، وَيجب الْعَمَل بِالظَّنِّ فِيهَا إِجْمَاعًا، وَقيل: الأَصْل عدمهَا، قَالَ ابْن عقيل: أَكثر الْأَحْكَام غير معللة] . لما فَرغْنَا من السبر والتقسيم ذكرنَا دَلِيل وجوب الْعَمَل بالطرق الدَّالَّة على الْعلية من السبر، وَكَذَا تَخْرِيج المناط، والشبه، وَتَقْرِيره: أَنه لابد للْحكم من عِلّة للْإِجْمَاع على أَن أَحْكَام اللَّهِ مقترنة بِالْعِلَّةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3363 وَإِن اخْتلفُوا فِي اقترانها بِالْعِلَّةِ بطرِيق الْوُجُوب أَو بطرِيق اللطف، قَالَه الْأَصْفَهَانِي شَارِح " الْمُخْتَصر "، تبعا للآمدي. وَهَذِه الْفَائِدَة الَّتِي ذَكرنَاهَا إِنَّمَا هِيَ كالاستدلال للمسألة الْمُتَقَدّمَة وَهِي صِحَة مَسْلَك السبر والتقسيم. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَجه الأول يَعْنِي أَن السبر مَسْلَك صَحِيح، لابد للْحكم من عِلّة. وَذكر الْآمِدِيّ: إِجْمَاع الْفُقَهَاء بطرِيق الْوُجُوب عِنْد الْمُعْتَزلَة، وبطريق اللطف والاتفاق عِنْد الأشعرية وَسبق فِي مَسْأَلَة التحسين. / وَكَذَا ذكر أَبُو الْخطاب: وَإِنَّمَا ثَبت حكمه بِنَصّ أَو إِجْمَاع كُله مُعَلل وَيخْفى علينا علته نَادرا. وَاحْتج الْآمِدِيّ بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة للْعَالمين} [الْأَنْبِيَاء: 107] ، فَظَاهره جَمِيع مَا جَاءَ بِهِ، فَلَو خلا حكم عَن عِلّة لم يكن رَحْمَة، لِأَن التكاليف بِهِ بِلَا حِكْمَة وَفَائِدَة: مشقة، كَذَا قَالَ. ثمَّ لَو سلم فالتعليل الْغَالِب، قَالَ القَاضِي: التَّعْلِيل الأَصْل، ترك نَادرا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3364 لِأَن تعقل الْعلَّة أقرب إِلَى الْقبُول من التَّعَبُّد؛ وَلِأَنَّهُ المألوف عرفا وَالْأَصْل مُوَافقَة الشَّرْع لَهُ، فَيحمل مَا نَحن فِيهِ على الْغَالِب وَيجب الْعَمَل بِالظَّنِّ فِي علل الْأَحْكَام إِجْمَاعًا على مَا يَأْتِي فِي الْعَمَل بِالْقِيَاسِ. وَقيل: الأَصْل عدم التَّعْلِيل؛ لِأَن الْمُوجب الصِّيغَة، وبالتعليل ينْتَقل حكمه إِلَى مَعْنَاهُ، فَهُوَ كالمجاز من الْحَقِيقَة. وَنَصره بعض الْحَنَفِيَّة؛ لِأَن التَّعْلِيل لَا يجب للنَّص دَائِما فَيعْتَبر لدعواه دَلِيل. وَفِي " وَاضح ابْن عقيل " فِي مَسْأَلَة الْقيَاس أَكثر الْأَحْكَام غير مُعَلل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3365 وَقَالَ فِي " فنونه " لمن قَاس الزَّكَاة فِي مَال الصَّبِي على الْعشْر وَبَين الْعلَّة، فأبطلها ابْن عقيل فَقَالَ لَهُ: مَا الْعلَّة إِذن؟ فَقَالَ: لَا يلْزم، ويتبرع، فَيَقُول: سؤالك عَن الْعلَّة قَول من من يُوجب لكل حِكْمَة عِلّة، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ لِأَن من النَّاس من يَقُول: الْأُصُول معللة، وَبَعْضهمْ يَقُول غير معللة، وَبَعْضهمْ يَقُول: بَعْضهَا مُعَلل وَبَعضهَا غير مُعَلل، فَيجوز أَن هَذَا لَا عِلّة [لَهُ] ، أَوله عِلّة خافية عَنَّا. قَالُوا: شرع الحكم لَا يسْتَلْزم الْحِكْمَة وَالْمَقْصُود؛ لِأَنَّهُ من صَنِيعَة، وَهُوَ لَا يسْتَلْزم ذَلِك كخلق العَاصِي، وَمَوْت الْأَنْبِيَاء، وإنظار إِبْلِيس، وَالتَّخْلِيد فِي النَّار، وتكليف من علم عدم إيمَانه، وَخلق الْعَالم فِي وقته الْمَحْدُود وشكله الْمُقدر. رد: لَيست الْحِكْمَة قَطْعِيَّة وَلَا مُلَازمَة لجَمِيع أَفعاله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3366 سلمنَا لُزُومهَا لَكِن قد تخفى علينا) انْتهى كَلَام ابْن مُفْلِح. وَزَاد مَسْأَلَة تعلق الْقُدْرَة بالحدوث والإرادة وَالْحَال فِي ذَلِك. وَقد بحث الْمَسْأَلَة / الْأَصْفَهَانِي، والعضد وَغَيرهمَا من شرَّاح " الْمُخْتَصر ". قَوْله: [الرَّابِع: الْمُنَاسبَة والإخالة واستخراجها يُسمى تَخْرِيج المناط، وَهُوَ تعْيين عِلّة الأَصْل بإبداء الْمُنَاسبَة من ذَات الْوَصْف لَا بِنَصّ وَغَيره الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3367 كالإسكار والمناسبة لغوية فَلَا دور] . من الطّرق الدَّالَّة على الْعلية الْمُنَاسبَة، وَيُقَال: الإخالة، وَهُوَ: أَن يكون الأَصْل مُشْتَمِلًا على وصف مُنَاسِب للْحكم، فَيحكم الْعقل بِوُجُود تِلْكَ الْمُنَاسبَة أَن ذَلِك الْوَصْف هُوَ عِلّة الحكم كالإسكار للتَّحْرِيم، وَالْقَتْل الْعمد الْعدوان للْقصَاص. وَالْمرَاد بالمناسبة اللُّغَوِيَّة بِخِلَاف الْمُعَرّف، وَهُوَ الْمُنَاسبَة، فَإِنَّهَا بِالْمَعْنَى الاصطلاحي حَتَّى لَا يكون تعريفا للشَّيْء بِنَفسِهِ. وَتسَمى الْمُنَاسبَة أَيْضا: " الإخالة " بِكَسْر الْهمزَة وبالخاء الْمُعْجَمَة من خَال إِذا ظن، لِأَنَّهُ بِالنّظرِ إِلَيْهِ يخال أَنه عِلّة. وَتسَمى أَيْضا: تَخْرِيج المناط، لما فِيهِ من [إبداء] مَا نيط بِهِ الحكم، أَي علق عَلَيْهِ. قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: وَيُزَاد فِيهَا الإخالة وَتَخْرِيج المناط. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3368 وَهَذَا هُوَ الَّذِي عظم فِيهِ الْخلاف بَين الْعلمَاء على مَا يَأْتِي بعد الْفَرَاغ من المسالك. قَوْله: [ويتحقق الِاسْتِقْلَال بِعَدَمِ مَا سواهُ بالسبر] . يتَحَقَّق الِاسْتِقْلَال على أَن الْوَصْف الَّذِي أبداه هُوَ الْعلَّة بِعَدَمِ مَا سواهُ بطرِيق السبر، وَلَا يَكْفِي أَن يَقُول: بحثت فَلم اجد غَيره، وَإِلَّا يلْزم الِاكْتِفَاء بِهِ ابْتِدَاء، وَلَا قَائِل بِهِ بِخِلَاف مَا سبق فِي طَرِيق السبر والتقسيم، فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بذلك؛ لِأَن الْمدَار هُنَاكَ على الْحصْر، فَاكْتفى فِيهِ ببحثه فَلم يجد، وَهنا على أَنه ظفر بِوَصْف فِي الأَصْل مُنَاسِب، فَافْتَرقَا. قَوْله: [وَالْمُنَاسِب: مَا تقع الْمصلحَة عقبه، قَالَ الْمُوفق والطوفي، وَزَاد لرابط عَقْلِي، وَقوم: الملائم لأفعال الْعُقَلَاء عَادَة، والبيضاوي وَغَيره: مَا يجلب نفعا أَو يدْفع ضَرَرا، وَأَبُو زيد: مَا لَو عرض على الْعُقُول لتلقته بِالْقبُولِ، والآمدي وَمن تبعه /: وصف ظَاهر منضبط يلْزم من ترَتّب الحكم عَلَيْهِ مَا يصلح كَونه مَقْصُودا من شرع الحكم من حُصُول مصلحَة أَو دفع مفْسدَة] . قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": " وَمعنى الْمُنَاسب: أَن يكون فِي إِثْبَات الحكم عَقِبَيْهِ مصلحَة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3369 وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": الْمُنَاسب هُوَ مَا تتَوَقَّع الْمصلحَة عَقِيبه لرابط مَا عَقْلِي ". قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": " اخْتلف فِي تَعْرِيف الْمُنَاسب، واستقصاء القَوْل [فِيهِ] من الْمُهِمَّات؛ لِأَن عَلَيْهِ مدَار الشَّرِيعَة، بل مدَار الْوُجُود؛ إِذْ لَا وجود إِلَّا وَهُوَ على وفْق الْمُنَاسبَة الْعَقْلِيَّة، لَكِن أَنْوَاع الْمُنَاسبَة تَتَفَاوَت فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص والخفاء والظهور، فَمَا خفيت عَنَّا مناسبته سمي تعبدا، وَمَا ظَهرت مناسبته سمي مُعَللا. وَقَوْلنَا: الْمُنَاسب مَا تتَوَقَّع الْمصلحَة عقبه، أَي: إِذا وجد أَو إِذا سمع، أدْرك الْعقل السَّلِيم كَون ذَلِك الْوَصْف سَببا مفضيا إِلَى مصلحَة من الْمصَالح لرابط من الروابط الْعَقْلِيَّة بَين تِلْكَ الْمصلحَة، وَذَلِكَ الْوَصْف، وَهُوَ معنى قولي: لرابط مَا عَقْلِي. مِثَاله: إِذا قيل: الْمُسكر حرَام، أدْرك الْعقل أَن تَحْرِيم الْمُسكر مفض إِلَى مصلحَة وَهِي حفظ الْعقل من الِاضْطِرَاب، وَإِذا قيل: الْقصاص مَشْرُوع، أدْرك الْعقل أَن مَشْرُوعِيَّة الْقصاص سَبَب مفض إِلَى مصلحَة وَهِي حفظ النُّفُوس. ثمَّ قَالَ: قلت لرابط عَقْلِي، أخذا من النّسَب الَّذِي هُوَ الْقَرَابَة، فَإِن الْمُنَاسب هُنَا مستعار ومشتق من ذَلِك، وَلَا شكّ أَن المتناسبين فِي بَاب النّسَب كالأخوين وَابْني الْعم وَنَحْوه، إِنَّمَا كَانَا متناسبين لِمَعْنى رابط بَينهمَا وَهُوَ الْقَرَابَة، فَكَذَلِك الْوَصْف الْمُنَاسب هُنَا، لابد وَأَن يكون بَينه وَبَين مَا يُنَاسِبه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3370 من الْمصلحَة رابط عَقْلِي، وَهُوَ كَون الْوَصْف صَالحا للإفضاء إِلَى تِلْكَ الْمصلحَة عقلا " انْتهى. وَقَالَ جمَاعَة: الْمُنَاسب الْوَصْف الملائم لأفعال / الْعُقَلَاء. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ الْأَرْجَح، وَهَذِه الملائمة تدْرك بِوَاسِطَة الْعَادة الَّتِي أجراها اللَّهِ تَعَالَى. أَي: يَقْصِدهُ الْعُقَلَاء لتَحْصِيل الْمَقْصُود كَمَا يُقَال: هَذِه اللؤلؤة تناسب هَذِه اللؤلؤة، وَهَذِه الْجُبَّة تناسب الْعِمَامَة، وَلها تَفْصِيل لِأَنَّهَا إِمَّا لجلب مصلحَة أَو دفع مفْسدَة، وَإِمَّا بِأَنَّهَا ضَرُورِيّ، أَو حاجي، أَو تحسيني وَنَحْوه مِمَّا يَأْتِي مفصلا وموضحا. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وعَلى هَذَا يحمل قَول ابْن الْحَاجِب فِي تَعْرِيف الْمُنَاسب وَبَين ذَلِك ثمَّ قَالَ: وَلَيْسَ مغايرا لتعريفه بل بِهَذَا التَّقْدِير يكون بسطا لَهُ وإيضاحا وَإِن غاير بَينهمَا فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَلَكِن هَذَا عِنْدِي أَجود. انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3371 وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره: " الْمُنَاسب مَا يجلب للْإنْسَان نفعا أَو يدْفع عَنهُ ضَرَرا ". وَقيد بالأنسان لتعالي الرب - سُبْحَانَهُ - عَن الضَّرَر وَالِانْتِفَاع. وَقد اعْترض على هَذَا التَّعْرِيف: بِأَن فِيهِ تَفْسِير الْعلَّة بالحكم؛ لِأَن الْوَصْف الْمُنَاسب من أَقسَام الْعلَّة كَالْقَتْلِ يُنَاسب إِيجَاب الْقصاص، والجالب للنفع الدَّافِع لضررهو الحكم، كإيجاب الْقصاص جالب لنفعه بَقَاء الْحَيَاة، ودافع لضَرَر التَّعَدِّي. وَلذَلِك قَالَ بَعضهم: إِنَّه الْوَصْف المفضي إِلَى مَا يجب للْإنْسَان نفعا أَو يدْفع عَنهُ ضَرَرا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3372 قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَهَذَا التَّعْرِيف مُغَاير لتعريف الْبَيْضَاوِيّ؛ لِأَن هَذَا لم يَجْعَل الْمَقْصُود فِي جلب النَّفْع وَدفع الضَّرَر نفس الْوَصْف بل الَّذِي يُفْضِي إِلَيْهِ الْوَصْف، والبيضاوي جعله نفس الْوَصْف ". وَهَذَا التَّعْرِيف وَالَّذِي قبله جَار على طَريقَة [من يُعلل] أَفعَال اللَّهِ تَعَالَى بالمصالح، أَي: لمراعاة الْمصَالح للعباد تفضلا وإحسانا لَا لُزُوما كَمَا يَقُوله الْمُعْتَزلَة، وَتسَمى الْمُنَاسبَة أَيْضا. قَالَ ذَلِك فِي " الْمَحْصُول ". قَالَ أَبُو زيد الدبوسي من الْحَنَفِيَّة: الْمُنَاسب مَا لَو عرض / على الْعُقُول لتلقته بِالْقبُولِ. قَالَ صَاحب " البديع ": وَهُوَ أقرب إِلَى اللُّغَة، وَبني عَلَيْهِ الِاحْتِجَاج بِهِ على الْعلَّة فِي مقَام المناظرة دون مقَام النّظر، لِإِمْكَان أَن يَقُول الْخصم: هَذَا لَا يتلقاه عَقْلِي بِالْقبُولِ، وَلَيْسَ الِاحْتِجَاج على تلقي غَيْرِي لَهُ بِأولى من الِاحْتِجَاج على ذَلِك الْغَيْر، لعدم تلقي عَقْلِي لَهُ بِالْقبُولِ. وَمِنْهُم من أجَاب عَن ذَلِك: أَنه لَيْسَ الِاعْتِبَار بتلقي عقله وَلَا عقل مناظره فَقَط، بل المُرَاد الْعُقُول السليمة والطباع المستقيمة إِذا عرض عَلَيْهَا وَتَلَقَّتْهُ انتهض دَلِيلا على مناظره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3373 وَقَالَ الْآمِدِيّ وَأَتْبَاعه: الْمُنَاسب: وصف ظَاهر منضبط يلْزم من ترَتّب الحكم عَلَيْهِ مَا يصلح كَونه مَقْصُودا، من شرع الحكم من حُصُول مصلحَة أَو دفع مفْسدَة. تقديرهم: بِالْوَصْفِ جرى على الْغَالِب، لما سبق من أَن الْعلَّة تكون حكما شَرْعِيًّا وأمرا عرفيا أَو لغويا، فَلَو قَالَ: مَعْلُوم، لتناول ذَلِك، فَخرج بِالظَّاهِرِ: الْخَفي، وبالمنضبط: مَا لَا يَنْضَبِط فَلَا يُسمى مناسبا، وَبِمَا يصلح: الْوَصْف المستبقى فِي السبر والمدار فِي الدوران وَغَيرهمَا من الْأَوْصَاف الَّتِي تصلح للعلية، وَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا مَا ذكر، وَقَوْلهمْ: من حُصُول مصلحَة أَو دفع مفْسدَة بَيَان لما فِي مَا يصلح، وَالله أعلم. قَوْله: [فَإِن كَانَ الْوَصْف خفِيا أَو غير منضبط اعْتبر الْمُلَازمَة وَهِي المظنة] . هَذَا تَفْرِيع على تَعْرِيف الْآمِدِيّ أَنه مَتى كَانَ الْوَصْف خفِيا أَو غير منضبط اعْتبر بلازمه، وَهُوَ وصف ظَاهر منضبط ملازم للوصف الْخَفي، وَهُوَ المظنة، أَي: مَظَنَّة الْمُنَاسب، كالسفر، فَإِنَّهُ ملازم للْمَشَقَّة لَكِن اعْتِبَارهَا مُتَعَذر لعدم انضباطها؛ لِأَنَّهَا ذَات مَرَاتِب تخْتَلف بالأشخاص، وَلَا يناط التَّرَخُّص بِالْكُلِّ، وَلَا يمتاز الْبَعْض بِنَفسِهِ فنيط التَّرَخُّص بملازمها وَهُوَ السّفر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3374 قَوْله: [وَالْمَقْصُود من شرع الحكم قد يعلم حُصُوله كَبيع، ويظن: / كقصاص، ويشك فِيهِ: كَحَد خمر، ويتوهم: كَنِكَاح آيسة للتوالد] . حُصُول الحكم فِي الْوَصْف الْمُنَاسب قد يكون يَقِينا كَالْبيع، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ صَحِيحا حصل مِنْهُ الْملك الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود. وَقد يكون ظنا كَالْقصاصِ فَإِن حُصُول الانزجار عَن الْقَتْل لَيْسَ قَطْعِيا، بِدَلِيل وجود الْإِقْدَام مَعَ علمهمْ بِأَن الْقصاص مَشْرُوع. وَقد يتساوى حُصُول الْمَقْصُود وَعدم حُصُوله، فَلَا يُوجد يَقِين وَلَا ظن بل يكونَانِ متساويين. قَالَ صَاحب " البديع ": " وَلَا مِثَال لَهُ على التَّحْقِيق ". وَيقرب مِنْهُ مَا مثل بِهِ ابْن الْحَاجِب من حد شَارِب الْمُسكر لحفظ الْعقل، فَإِن المقدمين كثير، والمتجنبين كثير، فتساوى الْمَقْصُود وَعَدَمه فِيهِ. وَقد يكون عدم حُصُول الْمَقْصُود أرجح من حُصُوله، كَنِكَاح الآيسة لمصْلحَة التوالد؛ لِأَنَّهُ مَعَ إِمْكَانه عقلا بعيد عَادَة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3375 قَوْله: [وَقيل: لَا يُعلل بِهَذَيْنِ، وَالْأَظْهَر بلَى اتِّفَاقًا إِن ظهر الْمَقْصُود فِي غَالب صور الْجِنْس، وَإِلَّا فَلَا وَكَذَا قَول ابْن عقيل وَغَيره: السّفر مشقته عَامَّة وَيخْتَلف قدرهَا] . اخْتلف فِي التَّعْلِيل فِي هذَيْن الْأَخيرينِ. فَمنهمْ من منع فِي الأول للتردد بَين حُصُول الْمَقْصُود وَعَدَمه من غير تَرْجِيح وَفِي الثَّانِي أَيْضا لرجحان نفي الْمَقْصُود على حُصُوله. لَكِن الْأَظْهر مَا ذكره الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب [وَتَبعهُ] فِي " جمع الْجَوَامِع " وَغَيرهم: جَوَاز التَّعْلِيل بالقسمين الْأَخيرينِ، بِدَلِيل جَوَاز الْقصر للْملك المترفة فِي السّفر. قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَأنكر بَعضهم جَوَاز التَّعْلِيل بِهَذَا وَالَّذِي قبله، ذكره بَعضهم. وَاحْتج عَلَيْهِ: بِأَن البيع مَظَنَّة الْحَاجة إِلَى التعاوض، وَالسّفر مَظَنَّة الْمَشَقَّة واعتبرا، وَإِن انْتَفَى الظَّن فِي بعض الصُّور، كَذَا قَالَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3376 ثمَّ قَالَ: وَالْأَظْهَر مَا ذكره الْآمِدِيّ: أَنه يَصح التَّعْلِيل بهما اتِّفَاقًا إِذا / ظهر الْمَقْصُود فِي غَالب صور الْجِنْس وَإِلَّا فَلَا، أَي: الِاحْتِمَال الترتب وَعَدَمه سَوَاء أَو عَدمه أرجح. - ثمَّ قَالَ: الْأَظْهر أَيْضا مَا فِي " الْفُنُون " وَغَيرهَا: السّفر مشقة عَامَّة وَيخْتَلف قدرهَا، وَكَذَا يحسن التهنئة بالقدوم للْجَمِيع، كالمرضى بالسلامة) انْتهى. وَقَالَ فِي " البديع ": " إِن هذَيْن الْأَخيرينِ مُتَّفق على اعتبارهما إِذا كَانَ الْمَقْصُود ظَاهرا من الْوَصْف فِي غَالب صور الْجِنْس وَإِلَّا فَلَا ". وَهَذَا كَلَام الْآمِدِيّ بِعَيْنِه. قَوْله: (وَلَو فَاتَ يَقِينا كلحوق نسب مشرقي بمغربية وَنَحْوه، لم يُعلل بِهِ خلافًا للحنفية) . لَو كَانَ الْمَقْصُود فائتا قطعا لم يعْتَبر عِنْد الْجُمْهُور. وَخَالف فِي ذَلِك الْحَنَفِيَّة، فَيلْحق عِنْدهم النّسَب لَو تزوج بطرِيق التَّوْكِيل مشرقي بمغربية فَأَتَت بِولد، مَعَ الْقطع بِانْتِفَاء اجْتِمَاعهمَا، فاعتبره الْحَنَفِيَّة لاقْتِضَاء الزواج ذَلِك فِي الْأَغْلَب، فعمم ذَلِك حفظا للنسب وألحقوا بِهِ النّسَب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3377 وَأما الْجُمْهُور فَلم يلحقوه بِهِ. فَإِن قيل: قد [اعْتَبرهُ] أَكثر أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة أَيْضا، فأوجبوا الِاسْتِبْرَاء على من بَاعَ جَارِيَة ثمَّ اشْتَرَاهَا من المُشْتَرِي مِنْهُ فِي مجْلِس العقد، مَعَ الْقطع بِانْتِفَاء شغل رَحمهَا من الثَّانِي. وَالْجَوَاب: أَن ذَلِك تعبد غير مَعْقُول الْمَعْنى، وَلَيْسَ مُعَللا بِاحْتِمَال الشّغل، لَكِن الْآمِدِيّ مثل بالمتزوج وَالْمُشْتَرِي، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّة لَا تستبرأ، وَعند الشَّافِعِيَّة تستبرأ. وَلنَا خلاف، وَالْمَشْهُور تستبرأ، وهما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3378 قَوْله: (وَالْمُنَاسِب دُنْيَوِيّ ضَرُورِيّ أصلا، وَهُوَ أَعلَى مراتبها، وَهِي الْخَمْسَة الَّتِي روعيت فِي كل مِلَّة: حفظ الدّين، فَالنَّفْس، فالعقل، فالنسل، فَالْمَال وَالْعرض) . لما ذكرنَا فِي تَعْرِيف الْمُنَاسب أَنه الملائم لفعل ذَوي الْعُقُول، وَفِي مَعْنَاهُ مَا ذَكرْنَاهُ من التعاريف. ثَبت هُنَا مَا اشير إِلَيْهِ من جَمِيع ذَلِك من وَجه الملائمة والمناسبة، وَهِي لَا تَخْلُو عَن ثَلَاثَة أُمُور مرتبَة فِي الملائمة: ضَرُورِيّ: وَهُوَ مَا كَانَت مصْلحَته فِي مَحل الضَّرُورَة /. وحاجي: وَهُوَ مَا كَانَت مصْلحَته فِي مَحل الْحَاجة. وتحسيني: وَهُوَ مَا كَانَت مصْلحَته مستحسنة فِي الْعَادَات. فالضروري الَّذِي يكون فِي مَحل ضَرُورَة الْعباد لابد مِنْهُ، وَذَلِكَ خَمْسَة أَنْوَاع وَهِي الْمَقَاصِد [الَّتِي] اتّفق أهل الْملَل فِي حفظهَا وَهِي: الدّين، فَالنَّفْس، فالعقل، فَالْمَال، فالنسل، وَعند كثير فالنسب، وَالْمعْنَى وَاحِد، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3379 وَهَذِه أَعلَى الْمَرَاتِب فِي إِفَادَة ظن الِاعْتِبَار، وَهِي فِي إِفَادَة الظَّن مترتبة على مَا أَتَيْنَا بهَا بِالْفَاءِ ليدل على ذَلِك. فَأَما حفظ الدّين: فبقتال الْكفَّار قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه} [التَّوْبَة: 29] ، وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّهِ ". وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ ". وَأما حفظ النَّفس: فبمشروعية الْقصاص قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة} [الْبَقَرَة: 179] ، وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا أنس كتاب اللَّهِ الْقصاص ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3380 وَأما حفظ الْعقل: فبتحريم المسكرات وَنَحْوهَا قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَن يُوقع بَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء فِي الْخمر وَالْميسر} [الْمَائِدَة: 91] ، وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كل مُسكر حرَام ". وَأما حفظ المَال ك فبقطع السَّارِق وتضمينه وتضمين الْغَاصِب وَنَحْوه، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] ، وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن أَمْوَالكُم عَلَيْكُم حرَام "، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} [الْبَقَرَة: 188] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3381 وَأما النَّسْل أَو النّسَب: فبوجوب حد الزِّنَى، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} [النُّور: 2] ، وَقد جلد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ورجم. وَقد أُشير إِلَى هَذِه الْأَرْبَعَة بقوله تَعَالَى: {على أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا وَلَا يَسْرِقن وَلَا يَزْنِين وَلَا يقتلن أَوْلَادهنَّ وَلَا يَأْتِين بِبُهْتَان بفترينه} [الممتحنة: 12] /. إِذا لَا تعرض فِي الْآيَة لحفظ الْعُقُول. وَزَاد الطوفي من أَصْحَابنَا فِي " مختصرة ": سادسا هُوَ: الْعرض، وَتَبعهُ فِي " جمع الْجَوَامِع "، وشراحه، والبرماوي، وَغَيرهم، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي خطبَته فِي حجَّة الْوَدَاع: " إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُم حرَام " الحَدِيث، وَالْأَحَادِيث فِي ذَلِك كَثِيرَة وَأَحْكَام حفظه شهيرة فِي الشَّرْع، فَهُوَ من الضروريات الْمَعْلُومَة فِي الدّين وَحفظه بِحَدّ الْقَذْف أَيْضا، وترتيبها كَمَا ذكرنَا بِالْفَاءِ فِي الْوُجُوب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3382 وَأما الْعرض فَجعله فِي جمع الْجَوَامِع، و " منظومة " الْبرمَاوِيّ فِي رُتْبَة المَال لعطفه بِالْوَاو، وتابعناه فَيكون من أدنى الكليات، وَيحْتَمل أَن لَا يَجْعَل من الكليات وَإِنَّمَا يكون مُلْحقًا بهَا، وَيحْتَمل أَن يفصل فِي ذَلِك: قيل: وَهُوَ الظَّاهِر؛ لِأَن الْأَعْرَاض تَتَفَاوَت، فَمِنْهَا مَا هُوَ من الكليات وَهُوَ الْأَنْسَاب وَهِي أرفع من الْأَمْوَال، فَإِن حفظ النّسَب بِتَحْرِيم الزِّنَا تَارَة، وبتحريم الْقَذْف الْمُؤَدِّي إِلَى الشَّك فِي انساب الْخلق، وبنسبتهم إِلَى غير آبَائِهِم تَارَة وَتَحْرِيم الْأَنْسَاب مقدم على الْأَمْوَال، وَمِنْهَا مَا هُوَ دونهَا وَهُوَ مَا يكون من الْأَعْرَاض غير الْأَنْسَاب. قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَيتَوَجَّهُ من الضَّرُورِيّ حفظ الْعرض بشرع عُقُوبَة المفتري ". وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَنْبَغِي إهمال الْأَعْرَاض من الكليات. وَالله أعلم. قَوْله: (ومكمله كحفظ الْعقل بِالْحَدِّ بِقَلِيل مُسكر) . أَي: وَيلْحق بالضروري مكمله فِي حكمه، وَمعنى كَونه مكملا لَهُ أَنه لَا يسْتَقلّ ضَرُورِيًّا بِنَفسِهِ بل بطرِيق الانضمام، فَلهُ تَأْثِير فِيهِ لَكِن لَا بِنَفسِهِ فَيكون فِي حكم الضَّرُورَة مُبَالغَة فِي مراعاته. كالمبالغة فِي حفظ الْعقل: بِتَحْرِيم شرب قَلِيل الْمُسكر وَالْحَد عَلَيْهِ. وَالْمُبَالغَة فِي حفظ الدّين: بِتَحْرِيم الْبِدْعَة وعقوبة المبتدع الدَّاعِي إِلَيْهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3383 وَالْمُبَالغَة فِي حفظ النَّفس: بإجراء الْقصاص فِي الْجِرَاحَات وَنَحْو ذَلِك. وَذَلِكَ لِأَن الْكثير الْمُسكر مُفسد / لِلْعَقْلِ؛ وَلَا يحصل إِلَّا بإفساد كل وَاحِد من أَجْزَائِهِ بِحَدّ شَارِب الْقَلِيل؛ لِأَن الْقَلِيل متْلف لجزء من الْعقل وَإِن قل. وَكَذَلِكَ الْمُبَالغَة فِي حفظ المَال وَالْعرض وَغَيرهَا: بتعزير الْغَاصِب وَنَحْوه، وتعزير الساب بِغَيْر الْقَذْف وَنَحْو ذَلِك. وَالْمُبَالغَة فِي حفظ النّسَب: بِتَحْرِيم النّظر والمس، وَالتَّعْزِير عَلَيْهِ. وَقد نبه الشَّارِع على إِلْحَاق ذَلِك بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كَالرَّاعِي يرْعَى حول الْحمى يُوشك أَن يرتع فِيهِ "، ثمَّ قَالَ: " أَلا وَإِن حمى اللَّهِ مَحَارمه ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3384 قَوْله: (وحاجي: كَبيع وَنَحْوه، وَبَعضهَا أبلغ، وَقد يكون ضَرُورِيًّا كَشِرَاء ولي مَا يَحْتَاجهُ طِفْل وَنَحْوه) . الثَّانِي من الْأَقْسَام وَالثَّلَاثَة: الحاجي، وَهُوَ الَّذِي لَا يكون فِي مَحل الضَّرُورَة بل مَحل الْحَاجة، وَيُقَال لَهُ: المصلحي، كَمَا عبر بِهِ الْبَيْضَاوِيّ. كَالْبيع وَالْإِجَارَة وَنَحْوهمَا كالمساقاة وَالْمُضَاربَة؛ لِأَن مَالك الشَّيْء قد لَا يعيره وَلَا يَهبهُ، وَلَيْسَ كل أحد يعرف عمل الْأَشْجَار وَلَا التِّجَارَة، وَقد يعرف ذَلِك، لكنه مَشْغُول بأهم من ذَلِك. فَهَذِهِ الْأَشْيَاء وَمَا أشبههَا لَا يلْزم من فَوَاتهَا فَوَات شَيْء من الضروريات [الْخمس] . وَادّعى أَبُو الْمَعَالِي أَن البيع ضَرُورِيّ. وَلَعَلَّه أَرَادَ مَا ةكثر الْحَاجة إِلَيْهِ بِحَيْثُ صَار ضَرُورِيًّا؛ لِأَن النَّاس لَو لم يتبادلوا مَا بِأَيْدِيهِم لجر ذَلِك ضَرُورَة، فعلى الأول بَعْضهَا أبلغ. وَقد يكون ضَرُورِيًّا كَالْإِجَارَةِ على تَرْبِيَته الطِّفْل، أَو شِرَاء المطعوم والملبوس لَهُ، حَيْثُ كَانَ فِي معرض التّلف من الْجُوع وَالْبرد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3385 وَحَاصِله: أَن الحاجي متفاوت حَتَّى إِن بعضه يَنْتَهِي إِلَى رُتْبَة الضَّرُورِيّ قَالَ فِي جمع الْجَوَامِع ": " وَقد يكون ضَرُورِيًّا كالإجازة لتربية الطِّفْل ". قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: " قلت: تحصل تَرْبِيَته بِمُبَاشَرَة الْوَلِيّ لذَلِك، وبشراء جَارِيَة لَهُ، وبمتبرع / بِهِ، وبمن جعل لَهُ عَلَيْهِ جعل، فَلَا ينْحَصر الْأَمر فِي الِاسْتِئْجَار فَلَيْسَ ضَرُورِيًّا، وَلَو مثل بشرَاء الْوَلِيّ لَهُ المطعوم والملبوس لَكَانَ أولى " انْتهى. قلت: يرد عَلَيْهِ أَيْضا مَا أوردهُ على الأَصْل، فَإِن المطعوم والملبوس قد يحصل بِهِبَة، وبمتبرع بِهِ. لَكِن الصَّوَاب فِي الْجَمِيع تضييق الْغَرَض بِحَيْثُ لَا يُوجد مَا ذكر فَيكون ضَرُورِيًّا، وعبارتنا فِي الْمَتْن سَالِمَة من ذَلِك. قَوْله: (ومكمله كرعاية كفاءة، وَمهر مثل فِي تَزْوِيج صَغِيرَة) . مثل ذَلِك ابْن مُفْلِح وَقَالَ: " لِأَنَّهُ أفْضى إِلَى دوَام النِّكَاح ". وَزَاد الْبرمَاوِيّ: " وتكميل مقاصده، وَإِن حصلت أصل الْحَاجة بِدُونِ ذَلِك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3386 وَمثله: إِثْبَات الْخِيَار فِي البيع بأنواعه لما فِيهِ من التروي، وَإِن كَانَ أصل الْحَاجة حَاصِلا بِدُونِهِ ". قَوْله: (وتحسيني [غير معَارض الْقَوَاعِد، كتحريم النَّجَاسَة وسلب الْمَرْأَة عبارَة عقد النِّكَاح] ) . وَهَذَا هُوَ الْقسم الثَّالِث وَهُوَ التحسيني. وَهُوَ: مَا لَيْسَ ضَرُورِيًّا وَلَا حاجيا، وَلكنه من مَحل التحسين وَذَلِكَ ضَرْبَان: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3387 أَحدهمَا: مَا لَيْسَ فِيهِ مُنَافَاة لقاعدة من قَوَاعِد الشَّرْع. كتحريم القاذورات، فَإِن نفرة الطباع معنى يُنَاسب تَحْرِيمهَا، حَتَّى يحرم التضمخ بِالنَّجَاسَةِ بِلَا عذر. وكاعتبار الْوَلِيّ فِي النِّكَاح لاستحياء النِّسَاء من مُبَاشرَة الْعُقُود على فروجهن، لإشعاره بتوقان نفوسهن إِلَى الرِّجَال وَهُوَ غير لَائِق بالمروءة. وَكَذَلِكَ اعْتِبَار الشَّهَادَة فِي النِّكَاح لتعظيم شَأْنه وتميزه عَن السفاح بالإعلام والإظهار. قَوْله: (لَا العَبْد أَهْلِيَّة الشَّهَادَة على أصلنَا) . مثل أَصْحَابنَا بِعقد النِّكَاح، وَمثل الْآمِدِيّ وَمن بعده بسلب العَبْد أَهْلِيَّة الشَّهَادَة لانحطاطه عَنْهَا. لِأَنَّهُ منصب شرِيف جَريا على مَا ألف من محَاسِن [الْعَادَات] . لَكِن لَا يتمشى ذَلِك على أصلنَا، فَإِن عندنَا شَهَادَة العَبْد مَقْبُولَة فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3388 كل شَيْء إِلَّا فِي الْحُدُود وَالْقصاص على خلاف فِيهِ، لَكِن لَو مثل بِقَضَائِهِ وَنَحْوه صَحَّ. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: نعم سلب الْولَايَة عَنهُ من الحاجي؛ لِأَنَّهَا تستدعي فراغا وَالرَّقِيق مُسْتَغْرق فِي خدمَة سَيّده، وَأما رِوَايَته وفتواه فَإِنَّمَا جَازَ / مِنْهُ لعدم الضَّرَر بِمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِمَا فَلذَلِك فارقا الْقَضَاء وَنَحْوه. قَوْله: (أَو معَارض كالكتابة) . هَذَا الضَّرْب الثَّانِي من التحسين وَهُوَ مَا يُنَافِي قَاعِدَة شَرْعِيَّة كالكتابة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3389 فَإِنَّهَا من حَيْثُ كَونهَا مكرمَة فِي [الْعَادة] مستحسنة احْتمل الشَّرْع فِيهَا خرم قَاعِدَة مهمة، وَهِي امْتنَاع بيع الْإِنْسَان مَال نَفسه بِمَال نَفسه ومعاملة عَبده، وَمن ثمَّ لم تجب الْكِتَابَة عِنْد الْمُعظم. وَقيل: تجب إِذا طلبَهَا العَبْد وَعلم السَّيِّد فِيهَا خيرا، عملا بِالْأَمر الْوَارِد فِي الْإِيجَاب، والمعظم حملوه على النّدب؛ لما تقدم من الْمَعْنى. " وَمثل أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ تَتِمَّة الضَّرُورِيّ أَيْضا: بمراعاة الْمُمَاثلَة فِي الْقصاص. والحاجي: بتسليط الْوَلِيّ على تَزْوِيج صَغِيرَة وتتمته كَمَا سبق. وَمثل التحسيني هُوَ وَغَيره أَيْضا: بِتَحْرِيم تنَاول القاذورات وسلب الْمَرْأَة عبارَة النِّكَاح ". وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": " مَا لم يشْهد الشَّرْع بإبطاله أَو اعْتِبَاره، مِنْهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3390 حاجي كتسليط الْوَلِيّ على تَزْوِيج صَغِيرَة تحصيلا للكفء، وَمِنْه تحسيني كاعتبار الْوَلِيّ فِي نِكَاح، فَلَا يحْتَج بهما، لَا نعلم فِيهِ خلافًا، فَإِنَّهُ وضع للشَّرْع بِالرَّأْيِ " انْتهى. قَوْله: (وَكَون حفظ الْعقل ضَرُورِيًّا فِي كل مِلَّة [فِيهِ] نظر، فَإِن الْكِتَابِيّ لَا يحد عندنَا على الْأَصَح وَلَا عِنْدهم) . قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ وَاضح، وَزَاد: لاعتقاد إِبَاحَته. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: " قلت ": فِي كَون الْملَل اتّفقت على مَا ذكر من حفظ الْعقل، فالحد فِي المسكرات قَلِيله وَكَثِيره نظر، فَإِن أهل الْكتاب لَا تحرم الْقَلِيل، قيل: وَلَا مَا أسكر، وَكَذَلِكَ كثير من أهل الْملَل ". انْتهى. قَوْله: (وَلَيْسَت هَذِه الْمصلحَة بِحجَّة خلافًا لمَالِك وَبَعض الشَّافِعِيَّة) . اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذِه الْمصلحَة، وَتسَمى الْمصلحَة الْمُرْسلَة. فَذهب الْأَكْثَر: إِلَى أَنَّهَا لَيست بِحجَّة. قَالَ / فِي " الرَّوْضَة ": " وَالصَّحِيح أَنَّهَا لَيست بِحجَّة ". قَالَ ابْن مُفْلِح: (فَلَيْسَ هَذِه الْمصلحَة بِحجَّة خلافًا لمَالِك وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَفِي " الْوَاضِح " مَا يُسَمِّيه الْفُقَهَاء: الذرائع، وَأهل الجدل: الْمُؤَدِّي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3391 إِلَى المستحيل عقلا أَو شرعا، وَمثل بِمَسْأَلَة الْوَلِيّ وَغَيرهَا، ثمَّ اعْترض على هَذِه الدّلَالَة بِوَجْهَيْنِ) . انْتهى. وَاحْتج لهَذَا الْمَذْهَب: بِأَنا لم نعلم مُحَافظَة الشَّرْع عَلَيْهَا؛ وَلذَلِك لم يشرع فِي زواجرها أبلغ مِمَّا شرع، كالمثلة فِي الْقصاص، فَإِنَّهَا أبلغ فِي الزّجر عَن الْقَتْل، وَكَذَا الْقَتْل فِي السّرقَة وَشرب الْخمر فَإِنَّهُ أبلغ فِي الزّجر عَنْهُمَا، وَلم يشرع شَيْء من ذَلِك، لَو كَانَت هَذِه [الْمصلحَة] حجَّة لحافظ الشَّرْع على تَحْصِيلهَا بأبلغ الطّرق؛ لكنه لم يعلم بِفعل ذَلِك فَلَا تكون حجَّة، فإثباتها حجَّة بِوَضْع الشَّرْع بِالرَّأْيِ. كَمَا يحْكى أَن مَالِكًا أجَاز قتل ثلث الْخلق لاستصلاح الثُّلثَيْنِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3392 ومحافظة الشَّرْع على مصلحتهم بِهَذَا الطَّرِيق غير مَعْلُوم. قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": " قلت: لم أجد هَذَا مَنْقُولًا فِيمَا وقفت عَلَيْهِ من كتب الْمَالِكِيَّة، وَسَأَلت عَنهُ بعض فضلائهم فَقَالُوا: لَا نعرفه، قلت: مَعَ أَنه إِذا دعت إِلَيْهِ الضَّرُورَة مُتَّجه جدا، وَقد حَكَاهُ عَن مَالك جمَاعَة: مِنْهُم الْحوَاري، [والبروي] فِي جدلهما. ثمَّ قَالَ: قلت: الْمُخْتَار اعْتِبَار الْمصلحَة الْمُرْسلَة " انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3393 وَاحْتج من اعتبرها: بِأَن قد علمنَا أَنَّهَا من مَقَاصِد الشَّرْع بأدلة كَثِيرَة لَا حصر لَهَا فِي الْكتاب وَالسّنة، وقرائن الْأَحْوَال والأمارات. وسموها مصلحَة مُرْسلَة وَلم يسموها قِيَاسا؛ لِأَن الْقيَاس يرجع إِلَى أصل معِين، بِخِلَاف هَذِه الْمصلحَة فَإِنَّهَا لَا ترجع إِلَى أصل معِين، بل رَأينَا الشَّارِع اعتبرها فِي مَوَاضِع من الشَّرِيعَة، فاعتبرناها حَيْثُ وجدت بعلمنا أَن جِنْسهَا مَقْصُود لَهَا، وَبِأَن الرُّسُل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعثوا لتَحْصِيل / مصَالح الْعباد، فَيعلم ذَلِك بالاستقراء، فمهما وجدنَا مصلحَة غلب على الظَّن أَنَّهَا مَطْلُوبَة للشَّرْع، فنعتبرها؛ لِأَن الظَّن منَاط الْعَمَل. وَقَالَ الْقَرَافِيّ: الْمصَالح بِالْإِضَافَة إِلَى شَهَادَة الشَّرْع لَهَا بِالِاعْتِبَارِ ثَلَاثَة أَقسَام: مَا شهد الشَّرْع بِاعْتِبَارِهِ وَهُوَ الْقيَاس. وَمَا شهد الشَّرْع بِعَدَمِ اعْتِبَاره: كالمنع من زراعة الْعِنَب؛ لِئَلَّا يعصر مِنْهُ الْخمر، وَالشَّرِكَة فِي سُكْنى الدَّار خشيَة الزِّنَا. وَمَا لم يشْهد بِاعْتِبَارِهِ وَلَا إلغائه وَهِي الْمصلحَة الْمُرْسلَة، وَعند مَالك حجَّة. انْتهى. وَقَالَ الطوفي: " رَأَيْت مِمَّن وقفت على كَلَامه من أَصْحَابنَا حَتَّى الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد فِي كتبه، إِذا استغرقوا فِي تَوْجِيه الْأَحْكَام يتمسكون بمناسبات [مصلحية] ، يكَاد الشَّخْص يجْزم بِأَنَّهَا لَيست مُرَادة للشارع، والتمسك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3394 بهَا يشبه التَّمَسُّك بحبال الْقَمَر " انْتهى. وَقَالَ الْقَرَافِيّ: " وَأما الْمصَالح الْمُرْسلَة فغيرنا يُصَرح بإنكارها، وَلَكنهُمْ عِنْد التَّفْرِيع تجدهم يعللون بِمُطلق الْمصلحَة، وَلَا يطالبون أنفسهم عِنْد الفروق والجوامع بإبداء الشَّاهِد لَهَا بِالِاعْتِبَارِ، بل يعتمدون على مُجَرّد الْمُنَاسبَة ". انْتهى. وَقَالَ: الْمصلحَة الْمُرْسلَة فِي جَمِيع الْمذَاهب؛ لأَنهم يقيسون ويعرفون بالمناسبات وَلَا يطْلبُونَ شَاهدا بِالِاعْتِبَارِ، وَلَا يَعْنِي الْمصلحَة الْمُرْسلَة إِلَّا ذَلِك. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي الِاسْتِدْلَال: " الْمصَالح الْمُرْسلَة سبقت فِي المسلك الرَّابِع إِثْبَات الْعلَّة بالمناسبة. قَالَ بعض أَصْحَابنَا: أنكرها متأخرو أَصْحَابنَا من أهل الْأُصُول والجدل، وَابْن الباقلاني، وَجَمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين، وَقَالَ بهَا مَالك) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3395 [قَوْله] : ((وأخروي كتزكية النَّفس ورياضتها، وتهذيب الْأَخْلَاق، وَقد يتَعَلَّق بهما كإيجاب الْكَفَّارَة وإقناعي يَنْتَفِي ظن مناسبته بتأمله] ) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3396 ( [ فصل ] ) ( [إِذا اشْتَمَل وصف على مصلحَة ومفسدة راجحة أَو مُسَاوِيَة، لم تنخرم مناسبته عِنْد الْمُوفق، وَالْفَخْر، وَالْمجد /، والجوزي، والرازي، والبيضاوي. وَعند الْآمِدِيّ، وَأَتْبَاعه، وَابْن قَاضِي الْجَبَل: بلَى] ) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3397 [قَالَ ابْن قدامَة فِي " الرَّوْضَة "] : [" مَتى لزم من تَرْتِيب الحكم على الْوَصْف المتضمن للْمصْلحَة مفْسدَة مُسَاوِيَة للْمصْلحَة أَو راجحة عَلَيْهَا: فَقيل: إِن الْمُنَاسبَة تَنْتفِي، فَإِن تَحْصِيل الْمصلحَة على وَجه يتَضَمَّن فَوَات مثلهَا أَو أكبر مِنْهَا لَيْسَ من شَأْن الْعُقَلَاء؛ لعدم الْفَائِدَة على تَقْدِير التَّسَاوِي وَكَثْرَة الضَّرَر على تَقْدِير الرجحان فَلَا يكون مناسبا، إِذْ الْمُنَاسب إِذا عرض على الْعُقُول السليمة تَلَقَّتْهُ بِالْقبُولِ، فَيعلم أَن الشَّارِع لم يرد بالحكم تحصيلا للْمصْلحَة فِي ضمن الْوَصْف الْمعِين. وَهَذَا غير صَحِيح: فَإِن الْمُنَاسب المتضمن للْمصْلحَة والمصلحة أَمر حَقِيقِيّ لَا يَنْعَدِم بمعارض، إِذْ يَنْتَظِم من الْعَاقِل أَن يَقُول: لي مصلحَة فِي كَذَا يصدني عَنهُ مَا فِيهِ من الضَّرَر من وَجه آخر، وَقد أخبر اللَّهِ - تَعَالَى - أَن فِي الْخمر وَالْميسر مَنَافِع، وَأَن إثمهما أكبر من نفعهما، فَلم ينف منافعهما مَعَ رُجْحَان إثمهما، والمصلحة جلب الْمَنْفَعَة أَو دفع الْمضرَّة، وَلَو أفردنا النّظر إِلَيْهَا غلب على الظَّن ثُبُوت الحكم من أجلهَا] . وَإِنَّمَا يخْتل ذَلِك الظَّن مَعَ النّظر إِلَى الْمفْسدَة اللَّازِمَة من اعْتِبَار الْوَصْف الآخر فَيكون هَذَا مُعَارضا، إِذْ هَذَا حَال كل دَلِيل لَهُ معَارض، ثمَّ ثُبُوت الحكم مَعَ وجود / الْمعَارض لَا يعد بَعيدا، وَنَظِيره مَا لَو ظفر الْملك بجاسوس لعَدوه فَإِنَّهُ يتعارض فِي النّظر اقتضاءان: أَحدهمَا: قَتله دفعا لضرره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3398 وَالثَّانِي: إحسانا إِلَيْهِ استمالة لتكشف حَال عدوه، فسلوكه أحد الطَّرِيقَيْنِ لَا يعد عَبَثا جَريا على مُوجب الْعقل. وَلذَلِك ورد الشَّرْع بِالْأَحْكَامِ الْمُخْتَلفَة فِي الْفِعْل الْوَاحِد نظرا إِلَى الْجِهَات الْمُخْتَلفَة، كَالصَّلَاةِ فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة، فَإِنَّهَا سَبَب للثَّواب من حَيْثُ إِنَّهَا صَلَاة، وللعقاب من حَيْثُ إِنَّه غصب، نظرا إِلَى الْمصلحَة والمفسدة مَعَ أَنه لَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يتساويا أَو يرجح أَحدهمَا، فعلى تَقْدِير التَّسَاوِي لَا تبقى الْمصلحَة مصلحَة وَلَا الْمفْسدَة مفْسدَة، فَيلْزم انْتِفَاء الصِّحَّة وَالْحُرْمَة، وعَلى تَقْدِير رُجْحَان الْمصلحَة يلْزم انْتِفَاء الْحُرْمَة، وعَلى تَقْدِير رُجْحَان الْمفْسدَة يلْزم انْتِفَاء الصِّحَّة، فَلَا يجْتَمع الحكمان مَعًا، وَمَعَ ذَلِك اجْتمعَا فَدلَّ على بطلَان مَا ذَكرُوهُ. ثمَّ لَو قَدرنَا توقف الْمُنَاسبَة على رُجْحَان الْمصلحَة فدليل الرجحان أَنا لم نجد فِي مَحل الْوِفَاق مناسبا سوى مَا ذكرنَا، فَلَو قَدرنَا الرجحان يكون الحكم ثَابتا معقولا، وعَلى تَقْدِير عَدمه يكون تعبدا، وَاحْتِمَال التَّعَبُّد أبعد وأندر، فَيكون احْتِمَال الرجحان أظهر. وَمِثَال ذَلِك: تعليلنا وجوب الْقصاص على المشتركين فِي الْقَتْل بحكمة الردع والزجر؛ كَيْلا يُفْضِي إِسْقَاطه إِلَى فتح بَاب الدِّمَاء. فيعارض الْخصم بِضَرَر إِيجَاب الْقَتْل الْكَامِل على من لم يصدر مِنْهُ ذَلِك، فَيكون جَوَابه مَا ذَكرْنَاهُ " انْتهى كَلَامه فِي " الرَّوْضَة ". قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره: " الْخلاف فِي ذَلِك لَفْظِي يرجع إِلَى أَن هَذَا الْوَصْف هَل يبْقى فِيهِ مَعَ ذَلِك مُنَاسبَة أم لَا، مَعَ الِاتِّفَاق على أَنَّهَا غير مَعْمُول بهَا " انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3399 قَوْله: (وللمعلل / تَرْجِيح وَصفه بطرِيق تفصيلي يخْتَلف باخْتلَاف الْمسَائِل، وإجمالي: وَهُوَ لَو لم يقدر رُجْحَان الْمصلحَة ثَبت الحكم تعبدا) . قَالَ ابْن مُفْلِح بعد مَا ذكر مَا قُلْنَا هُنَا: " ذكره بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَسبق فِي السبر. وَذكر الْآمِدِيّ: أَن لقَائِل أَن يُعَارضهُ [بِعَدَمِ] الِاطِّلَاع على مَا بِهِ يكون راجحا مَعَ الْبَحْث عَنهُ. فَإِن قيل: بحثنا عَن وصف صَالح للتَّعْلِيل لَا يتَعَدَّى مَحل الحكم فَهُوَ أولى. قيل: إِن خرج مَا بِهِ التَّرْجِيح عَن مَحل الحكم يتَحَقَّق بِهِ تَرْجِيح وَإِلَّا اتَّحد مَحلهمَا فَلَا تَرْجِيح، وَإِن سلم اتِّحَاد مَحل بحث الْمُسْتَدلّ فَقَط، فَإِنَّمَا يتَرَجَّح ظَنّه بِتَقْدِير كَون ظَنّه راجحا لَا الْعَكْس وَلَا مُسَاوِيا، وَوُقُوع احْتِمَال من اثْنَيْنِ أقرب. قَالَ: وَاشْتِرَاط التَّرْجِيح فِي تحقق الْمُنَاسبَة إِنَّمَا هُوَ عِنْد من يخصص الْعلَّة وَإِلَّا فَلَا ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3400 (قَوْله: [فصل] ) (الْمُنَاسب إِن اعْتبر بِنَصّ كتعليل الْحَدث بِمَسّ الذّكر، أَو إِجْمَاع كتعليل ولَايَة المَال بالصغر، فالمؤثر إِن اعْتبر بترتب الحكم على الْوَصْف فَقَط، إِن ثَبت بِنَصّ أَو إِجْمَاع اعْتِبَار عينه فِي جنس الحكم، أَو بِالْعَكْسِ، أَو جنسه فِي جنس الحكم، فالملائم وَهُوَ حجَّة عِنْد الْمُعظم، وَإِلَّا فالغريب وَهُوَ حجَّة، وَمنعه أَبُو الْخطاب وَالْحَنَفِيَّة، وَإِن اعْتبر الشَّارِع جنسه الْبعيد فِي جنس الحكم فمرسل ملائم، وَإِلَّا فمرسل غَرِيب مَنعه الْجُمْهُور، أَو مُرْسل ثَبت إلغاؤه كإيجاب الصَّوْم على واطىء قَادر فِي رَمَضَان، مَرْدُود اتِّفَاقًا) . لابد فِي كَون الْوَصْف الْمُنَاسب الْمُعَلل بِهِ أَن يعلم من الشَّارِع الْتِفَات إِلَيْهِ، وَيظْهر ذَلِك بتقسيم الْمُنَاسب، وَهُوَ يَنْقَسِم إِلَى: مُؤثر، وملائم، وغريب، ومرسل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3401 وَهُوَ: مُرْسل ملائم، ومرسل غَرِيب، ومرسل ثَبت إلغاؤه؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يعلم أَن الشَّرْع اعْتَبرهُ / أَو يعلم أَنه ألغاه، أَو لَا يعلم أَنه اعْتَبرهُ وَلَا ألغاه. وَالْمرَاد بِالْعلمِ هُنَا ": مَا هُوَ أَعم من الْيَقِين وَالظَّن، وَذَلِكَ إِمَّا بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاع. وَالْمرَاد بِاعْتِبَار الشَّرْع أَن يُورد الْفُرُوع على وَفقه لَا أَن ينص على الْعلَّة أَو يُومِئ إِلَيْهَا، وَإِلَّا لم تكن الْعلَّة مستفادة بالمناسبة. وَالْمرَاد بِالْعينِ النَّوْع لَا الشَّخْص من النَّوْع، فَالْمُعْتَبر بِنَصّ كتعليل الْحَدث بِمَسّ الذّكر، اعْتبر عينه فِي عين الحكم وَهُوَ الْحَدث لحَدِيث: " من مس ذكره " فَليَتَوَضَّأ "، وَمثله تعْيين السكر عِلّة التَّحْرِيم فِي الْخمر، اعْتبر عينه فِي عين الحكم وَهُوَ التَّحْرِيم، حَيْثُ حرم الْخمر فَيلْحق بِهِ النَّبِيذ. وَالْمُعْتَبر بِالْإِجْمَاع كتعليل ولَايَة المَال بالصغر فَإِنَّهُ اعْتبر عين الصغر فِي عين الْولَايَة فِي المَال بِالْإِجْمَاع. فهذان النوعان يسميان مؤثرا، وَسمي مؤثرا لحُصُول التَّأْثِير فِيهِ عينا وجنسا فَظهر تَأْثِيره فِي الحكم. وَالْمُعْتَبر بترتب الحكم على الْوَصْف فَقَط أَن يثبت بِنَصّ أَو إِجْمَاع اعْتِبَار عينه فِي جنس الحكم، أَو بِالْعَكْسِ، أَو جنسه فِي جنس الحكم، يُسمى ملائما؛ لكَونه مُوَافقا لما اعْتَبرهُ الشَّارِع، وَهُوَ ثَلَاثَة أَنْوَاع: مِثَال مَا اعْتبر الشَّارِع عين الْوَصْف فِي جنس الحكم من الملائم: امتزاج النسبين فِي الْأَخ من الْأَبَوَيْنِ، اعْتبر تَقْدِيمه على الْأَخ من الْأَب فِي الْإِرْث، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3402 وقسنا عَلَيْهِ تَقْدِيمه فِي ولَايَة النِّكَاح وَغَيرهَا من الْأَحْكَام الَّذِي قدم عَلَيْهِ فِيهَا، فَإِنَّهُ وَإِن لم يعتبره الشَّارِع فِي عين هَذِه الْأَحْكَام، لَكِن اعْتَبرهُ فِي جِنْسهَا وَهُوَ التَّقْدِيم فِي الْجُمْلَة. وَمِثَال مَا اعْتبر فِيهِ جنس الْوَصْف فِي عين الحكم عكس الَّذِي قبله، مِنْهُ: الْمَشَقَّة الْمُشْتَركَة بَين الْحَائِض وَالْمُسَافر فِي سُقُوط الْقَضَاء، فَإِن الشَّارِع اعتبرها فِي عين سُقُوط الْقَضَاء فِي الرَّكْعَتَيْنِ من الرّبَاعِيّة، فَسقط بهَا الْقَضَاء فِي صَلَاة الْحَائِض قِيَاسا. وَإِنَّمَا جعل [الْوَصْف] هُنَا جِنْسا والإسقاط نوعا؛ لِأَن مشقة السّفر نوع مُخَالف لمَشَقَّة / الْحيض، وَأما السُّقُوط فَأمر وَاحِد وَإِن اخْتلف محاله. وَمِثَال مَا اعْتبر جنس الْوَصْف فِي جنس الحكم مِنْهُ: مَا رُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي اللَّهِ عَنهُ - فِي شَارِب الْخمر: " أَنه إِذا شرب هذى وَإِذا هذى افترى، فَيكون عَلَيْهِ حد المفتري "، أَي: الْقَاذِف. وَوَافَقَهُ الصَّحَابَة عَلَيْهِ، فأوجبوا حد الْقَذْف على الشَّارِب، لَا لكَونه شرب بل لكَون الشّرْب مَظَنَّة الْقَذْف، فأقاموه مقَام الْقَذْف قِيَاسا على إِقَامَة الْخلْوَة بالأجنبية مقَام الْوَطْء فِي التَّحْرِيم؛ لكَون الْخلْوَة مَظَنَّة لَهُ. فَظهر أَن الشَّارِع إِنَّمَا اعْتبر المظنة الَّتِي هِيَ جنس لمظنة الْوَطْء، ومظنة الْقَذْف فِي الحكم الَّذِي هُوَ جنس لإِيجَاب حد الْقَذْف وَحُرْمَة الْوَطْء. وَقَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3403 " الأول: كالتعليل بالصغر فِي قِيَاس النِّكَاح على المَال فِي الْولَايَة، فَإِن الشَّرْع اعْتبر عين الصغر فِي عين ولَايَة المَال بِهِ، منبها على الصغر، وَثَبت اعْتِبَار عين الصغر فِي جنس حكم الْولَايَة إِجْمَاعًا. وَالثَّانِي: كالتعليل بِعُذْر الْحَرج فِي قِيَاس الْحَضَر بِعُذْر الْمَطَر على السّفر فِي الْجمع، فجنس الْحَرج مُعْتَبر فِي عين رخصَة الْجمع إِجْمَاعًا. وَالثَّالِث: كالتعليل بِجِنَايَة الْقَتْل الْعمد الْعدوان فِي قِيَاس المثقل على المحدد فِي الْقصاص، فجنس الْجِنَايَة مُعْتَبرَة فِي جنس قصاص النَّفس، لاشْتِمَاله على قصاص [النَّفس] وَغَيرهَا كالأطراف " انْتهى. وَأما الْغَرِيب من الْمُعْتَبر فَهُوَ كالتعليل بالإسكار فِي قِيَاس النَّبِيذ على الْخمر بِتَقْدِير عدم نَص بعلية الْإِسْكَار، فعين الْإِسْكَار مُعْتَبر فِي عين التَّحْرِيم بترتيب الحكم عَلَيْهِ فَقَط، كاعتبار جنس الْمَشَقَّة الْمُشْتَركَة بَين الْحَائِض وَالْمُسَافر فِي جنس التَّخْفِيف. وَهَذَا الْمِثَال دون مَا قبله لرجحان النّظر بِاعْتِبَار الْخُصُوص لِكَثْرَة مَا بِهِ الِاخْتِصَاص، قَالَه ابْن مُفْلِح، والأصبهاني. / قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَمِثَال الْغَرِيب - وَسمي بذلك؛ لِأَنَّهُ لم يشْهد لَهُ غير أَصله بِالِاعْتِبَارِ: الطّعْم فِي الرِّبَا فَإِن نوع الطّعْم مُؤثر فِي حُرْمَة الرِّبَا وَلَيْسَ جنسه مؤثرا فِي جنسه ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3404 وَمِثَال الملائم الْمُرْسل: تَعْلِيل تَحْرِيم قَلِيل الْخمر بِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى كثيرها، فجنسه الْبعيد مُعْتَبر فِي جنس الحكم كتحريم الْخلْوَة بِتَحْرِيم الزِّنَا. وَمِثَال الْغَرِيب الْمُرْسل: التَّعْلِيل بِالْفِعْلِ الْمحرم لغَرَض فَاسد فِي قِيَاس البات فِي مَرضه، على الْقَاتِل فِي الحكم بالمعرضة بنقيض مَقْصُوده، وَصَارَ تَوْرِيث المبتوتة كحرمان الْقَاتِل. وَإِنَّمَا كَانَ غَرِيبا مُرْسلا؛ لِأَنَّهُ [لم] يعْتَبر الشَّارِع عين الْفِعْل الْمحرم لغَرَض فَاسد فِي عين الْمُعَارضَة بنقيض الْمَقْصُود بترتيب الحكم عَلَيْهِ، وَلم يثبت بِنَصّ أَو إِجْمَاع اعْتِبَار عينه فِي جنس الْمُعَارضَة بنقيض الْمَقْصُود وَلَا جنسه فِي عينهَا، وَلَا جنسه فِي جِنْسهَا. وَمِثَال الْمُرْسل الملغى وَهُوَ الَّذِي علم من الشَّارِع إلغاؤه مَعَ أَنه [متخيل] : الْمُنَاسبَة، وَلَا يجوز التَّعْلِيل بِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3405 وَذَلِكَ كإيجاب صَوْم شَهْرَيْن ابْتِدَاء فِي الظِّهَار، أَو الْوَطْء فِي رَمَضَان على من يسهل عَلَيْهِ الْعتْق، كَمَا أفتى يحيى بن يحيى بن كثير اللَّيْثِيّ صَاحب [مَالك، إِمَام أهل الأندلس حَيْثُ أفتى بعض مُلُوك المغاربة بذلك وَهُوَ] . الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن الحكم الْأمَوِي الْمَعْرُوف بالربضي، صَاحب الأندلس، وَكَانَ قد [نظر] فِي [رَمَضَان] إِلَى جَارِيَة لَهُ كَانَ يُحِبهَا حبا شَدِيدا، [فعبث] بهَا، فَلم يملك نَفسه أَن وَقع عَلَيْهَا، ثمَّ نَدم ندما شَدِيدا، فَسَأَلَ الْفُقَهَاء عَن تَوْبَته وكفارته فَقَالَ يحيى بن يحيى: تَصُوم شَهْرَيْن مُتَتَابعين، فَلَمَّا بدر يحيى بذلك [سكت] بَقِيَّة الْفُقَهَاء حَتَّى خَرجُوا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3406 فَقَالُوا ليحيى: مَالك لم تفته بِمذهب مَالك وَهُوَ التَّخْيِير بَين الْعتْق وَالْإِطْعَام، [وَالصِّيَام] ؟ فَقَالَ: لَو فتحنا لَهُ هَذَا الْبَاب سهل عَلَيْهِ أَن يطَأ كل يَوْم وَيعتق رَقَبَة، وَلَكِن حَملته على أصعب الْأُمُور؛ لِئَلَّا يعود. فَهَذَا أَمر مَرْدُود إِجْمَاعًا، ذكره جمَاعَة. لَكِن رَأَيْت الطوفي فِي " شَرحه " قَالَ: " أما تعين الصَّوْم فِي كَفَّارَة رَمَضَان على الْمُوسر / فَلَيْسَ يبعد إِذا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاد مُجْتَهد، وَلَيْسَ ذَلِك من بَاب وضع الشَّرْع بِالرَّأْيِ بل من بَاب الِاجْتِهَاد بِحَسب الْمصلحَة، أَو من بَاب تَخْصِيص الْعَام الْمُسْتَفَاد من ترك الاستفصال فِي حَدِيث الْأَعرَابِي، وَهُوَ عَام ضَعِيف فيخص بِهَذَا الِاجْتِهَاد المصلحي الْمُنَاسب وَتَخْصِيص الْعُمُوم طَرِيق مهيع، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3407 وَقد فرق الشَّرْع بَين الْغَنِيّ وَالْفَقِير فِي غير مَوضِع فَلْيَكُن هَذَا من تِلْكَ الْمَوَاضِع " انْتهى. إِذا علم ذَلِك فَالْمُرَاد بِالْجِنْسِ دَائِما هُوَ الْقَرِيب لَا الْبعيد، وَأَعْلَى الملائم الثَّلَاثَة مَا أثر عين الْوَصْف فِي جنس الحكم، لِأَن الْإِبْهَام فِي الْعلَّة أَكثر محذورا من الْإِبْهَام فِي الْمَعْلُول ثمَّ عَكسه ثمَّ الْجِنْس فِي الْجِنْس. وأقسام الملائم كلهَا يسوغ التَّعْلِيل بهَا عِنْد الْجُمْهُور. لِأَن اللَّهِ - تَعَالَى - شرع أَحْكَامه لمصَالح الْعباد وَعلم ذَلِك بطرِيق الاستقراء، وَذَلِكَ من فضل اللَّهِ تَعَالَى وإحسانه، فَإِذا وجد وصف صَالح للعلية وَقد اعْتَبرهُ الشَّرْع بِوَجْه من الْوُجُوه السَّابِقَة [غلب] على الظَّن أَنه عِلّة للْحكم. قَوْله: (والمرسل الملائم لَيْسَ بِحجَّة عِنْد الْأَكْثَر، وَقيل: فِي الْعِبَادَات، وَقَالَ مَالك: حجَّة، وَأنْكرهُ أَصْحَابه، وَقَالَهُ الْغَزالِيّ بِشَرْط كَون الْمصلحَة ضَرُورِيَّة قَطْعِيَّة كُلية كتترس كفار بِمُسلم، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ لاعتباره فَهُوَ حق قطعا، وَمعنى كَلَام الْمُوفق وَالْفَخْر والطوفي [أَن] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3408 غير الملغي حجَّة، وَقيل: لَا يشْتَرط [فِي] الْمُؤثر كَونه مناسبا) . قَالَ ابْن مُفْلِح: قَالَ الْآمِدِيّ: (الملائم الأول مُتَّفق عَلَيْهِ مُخْتَلف فِيمَا عداهُ. [وَاخْتَارَ] اعْتِبَار الرَّابِع وَهُوَ الْغَرِيب من الْمُعْتَبر. وَأَن مَا بعده وَهُوَ الْمُنَاسب الْمُرْسل لم يشْهد الشَّرْع بِاعْتِبَارِهِ وإلغائه لَيْسَ بِحجَّة عِنْد الْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة وَغَيرهم، وَهُوَ الْحق لتردده بَين مُعْتَبر وملغى، فَلَا بُد من شَاهد قريب بِالِاعْتِبَارِ. فَإِن قيل: هُوَ من جنس مَا اعْتبر. قيل: وَمن جنس مَا ألغي، فَيلْزم اعْتِبَار وصف وَاحِد وإلغاؤه بِالنّظرِ إِلَى حكم وَاحِد، وَهُوَ محَال. وَعَن مَالك: القَوْل بِهِ وَأنْكرهُ أَصْحَابه. / الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3409 قَالَ: فَإِن صَحَّ عَنهُ فالأشبه أَنه فِي مصلحَة ضَرُورِيَّة كُلية قَطْعِيَّة كَمَسْأَلَة التترس. وَمعنى اخْتِيَاره فِي " الرَّوْضَة "، وَاخْتِيَار أبي مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ من أَصْحَابنَا: أَن غير الملغي حجَّة، وَذكره بعض أَصْحَابنَا عَنْهُمَا. وَيُوَافِقهُ مَا احْتج بِهِ الْأَصْحَاب فِي الْفُرُوع كَالْقَاضِي، وَأَصْحَابه بالقسم الْخَامِس، وَالسَّادِس، لما سبق، وَلما يَأْتِي. وَمنع فِي " الِانْتِصَار " - فِي أَن عِلّة الرِّبَا الطّعْم - التَّعْلِيل بالقسم الرَّابِع وَهُوَ الْغَرِيب الْمُعْتَبر، غير الْغَرِيب الْمُرْسل، كَقَوْل الْحَنَفِيَّة. ثمَّ قَالَ: الْأَقْوَى أَن لَا تنَازع فِي الْمُنَاسبَة وَمَا يظنّ تَعْلِيق الحكم عَلَيْهِ. وَسبق قَول ابْن حَامِد فِي السبر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3410 وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: لَا يشْتَرط فِي الْمُؤثر كَونه مناسبا وَجعله فِي " الرَّوْضَة " من قسم الْمُنَاسب. قَالَ: وَنَظِيره تَعْلِيق الحكم بِوَصْف مُشْتَقّ فِي [اشْتِرَاط مناسبته] وَجْهَان. قَالَ: وَكَلَام القَاضِي والعراقيين: يَقْتَضِي أَنه لَا يحْتَج بالمناسب الْغَرِيب ويحتج بالمؤثر مناسبا أَو لَا. قَالَ: فَصَارَ الْمُؤثر الْمُنَاسب لم يُخَالف فِيهِ إِلَّا ابْن حَامِد، والمؤثر غير الْمُنَاسب، أَو الْمُنَاسب غير الْمُؤثر فيهمَا أوجه. وذكرن ابْن الْحَاجِب: أَن الْقسم السَّادِس وَهُوَ الْغَرِيب الْمُرْسل مَرْدُود اتِّفَاقًا، وَتَبعهُ شراحه، لَكِن فِيهِ خلاف ضَعِيف. وَقيل أَبُو الْمَعَالِي الْقسم الْخَامِس، وَذكره عَن الْمُحَقِّقين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3411 وَيذكر عَن مَالك، وَالشَّافِعِيّ. ورده بَعضهم. وَقَبله الْغَزالِيّ بِشَرْط كَون الْمصلحَة ضَرُورِيَّة قَطْعِيَّة كُلية، كتترس كفار بمسلمين مَعَ الْجَزْم لَو لم نقتلهم ملكوا جَمِيع بِلَاد الْإِسْلَام، وَقتلُوا جَمِيع الْمُسلمين حَتَّى الترس، فَقتل الترس مصلحَة ضَرُورِيَّة قَطْعِيَّة كُلية. قَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي تَفْسِير سُورَة الْفَتْح: " قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِه الْمصلحَة لَا يَنْبَغِي أَن نَخْتَلِف فِيهَا، وَنَفر من لم يمعن النّظر للمفسدة " انْتهى. وَيجوز قتل الترس عِنْد إمامنا أَحْمد، وَالْأَكْثَر، للخوف على الْمُسلمين، ومذهبه من مَاتَ بِموضع لَا حَاكم فِيهِ، فلرجل مُسلم بيع مَا فِيهِ مصلحَة؛ / لِأَنَّهُ ضَرُورَة كولاية تكفينه) . فتخلص لنا فِي الْمُرْسل الملائم أَرْبَعَة أَقْوَال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3412 أَحدهَا: الْمَنْع مُطلقًا وَعَلِيهِ الْأَكْثَر. وَالثَّانِي: الْقبُول مُطلقًا؛ لإفادته ظن الْعلية، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن مَالك، وَبَالغ أَبُو الْمَعَالِي فِي الرَّد عَلَيْهِ. وَالثَّالِث: الْقبُول فِي غير الْعِبَادَات كَبيع وَنِكَاح وحدود وقصاص نَحْوهَا، لِأَن الملاحظ فِيهَا المناسبات اللائحة من مصالحها، وَعدم الْقبُول فِي الْعِبَادَات فَلَا يجوز التَّعْلِيل بِهِ لما فِيهَا من مُلَاحظَة التَّعَبُّد؛ وَلِأَنَّهُ لَا نظر فِيهَا للْمصْلحَة اخْتَارَهُ [الأبياري] فِي " شرح الْبُرْهَان "، وَزعم أَنه يَقْتَضِيهِ مَذْهَب مَالك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3413 وَالرَّابِع: قَول الْغَزالِيّ، وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيّ أَنه يُعلل بِهِ بِثَلَاثَة قيود: أَن يشْتَمل ذَلِك الْمُنَاسب الْمُرْسل على مصلحَة ضَرُورِيَّة كُلية قَطْعِيَّة - كَمَا تقدم -، فَإِن فَاتَ من الثَّلَاثَة لم يعْتَبر، فالضرورية: مَا يكون من الضروريات الْخمس السَّابِقَة، والكلية: مَا تكون وَاجِبَة لفائدة تعم الْمُسلمين، والقطعية: مَا يجْزم بِحُصُول الْمصلحَة فِيهَا كَمَسْأَلَة التترس. تَنْبِيه: تَقْسِيم الْمُرْسل إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام. مُرْسل ملائم، ومرسل غَرِيب، ومرسل ثَبت إلغؤه. تابعنا فِيهِ ابْن مُفْلِح، وَتبع هُوَ ابْن الْحَاجِب، وَجَمَاعَة كَثِيرَة. وَأكْثر الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم إِنَّمَا يذكرُونَ الْمُؤثر والملائم بأقسامه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3414 والمرسل وَهُوَ مَا لم يعلم أَن الشَّرْع ألغاه وَلَا اعْتَبرهُ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ الْأَقْوَال الْأَرْبَعَة فَهُوَ مَحل الْخلاف، وَهُوَ الَّذِي يُسمى بالمصالح الْمُرْسلَة، ويذكرون الملغى، فَلَيْسَ عِنْدهم تَقْسِيم الْمُرْسل إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام كَمَا ذكر ابْن الْحَاجِب وَغَيره. قَوْله: (فَائِدَة: أَعم الجنسية فِي الْوَصْف: كَونه وَصفا، ثمَّ مناطا، ثمَّ مصلحَة [خَاصَّة] ، وَفِي الحكم: كَونه حكما، ثمَّ وَاجِبا وَنَحْوه، ثمَّ عبَادَة، ثمَّ صَلَاة، ثمَّ ظهرا، وتأثير الْأَخَص فِي الْأَخَص أقوى، وتأثير الْأَعَمّ فِي الْأَعَمّ / يُقَابله، والأخص فِي الْأَعَمّ وَعَكسه واسطتان) . اعْلَم أَن كلا من الْوَصْف وَالْحكم نوع، وَمَا هُوَ أَعم مِنْهُ: جنس، وَله مَرَاتِب: عَال، وسافل، ومتوسط، وَالْعبْرَة دَائِما بالأسفل الْقَرِيب من الْمعِين فِي الْوَصْف وَفِي الحكم. فأعم الْأَوْصَاف وصف يناط بِهِ الحكم، ثمَّ كَونه مناسبا، ثمَّ كَونه مثلا ضَرُورِيًّا، ثمَّ كَونه لحفظ النُّفُوس. وأعم أَجنَاس الحكم كَونه حكما شَرْعِيًّا، ثمَّ كَونه وَاجِبا، ثمَّ كَونه عبَادَة، ثمَّ كَونه صَلَاة، ثمَّ كَونه ظهرا. قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": " لما تقرر أَن الْوَصْف مُؤثر فِي الحكم، وَالْحكم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3415 ثَابت بِالْوَصْفِ، [ومسمى] الْوَصْف وَالْحكم جنس تخْتَلف أَنْوَاع مَدْلُوله بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوص، كاختلاف أَنْوَاع مَدْلُول الْجِسْم وَالْحَيَوَان، وَلِهَذَا اخْتلف تَأْثِير الْوَصْف فِي الحكم تَارَة بِالْجِنْسِ، وَتارَة بالنوع، احتجنا إِلَى بَيَان مَرَاتِب جنس الْوَصْف وَالْحكم، وَمَعْرِفَة الْأَخَص مِنْهَا من الْأَعَمّ ليتَحَقَّق لنا معرفَة أَنْوَاع تَأْثِير الْأَوْصَاف فِي الْأَحْكَام. فأعم مَرَاتِب الْوَصْف كَونه وَصفا؛ لِأَنَّهُ أَعم من أَن يكون مناطا للْحكم أَو لَا يكون، إِذْ بِتَقْدِير أَن يكون طرديا غير مُنَاسِب لَا يصلح أَن يناط بِهِ حكم، فَكل منَاط وصف وَلَيْسَ كل وصف مناطا، ثمَّ كَونه مناطا أَعم من أَن يكون مصلحَة أَو لَا، فَكل مصلحَة منَاط الحكم وَلَيْسَ كل منَاط مصلحَة، لجَوَاز أَن يناط الحكم بِوَصْف تعبدي، لَا يظْهر وَجه الْمصلحَة فِيهِ، ثمَّ كَون الْوَصْف مصلحَة؛ لِأَنَّهَا قد تكون عَامَّة بِمَعْنى أَنَّهَا متضمنة لمُطلق النَّفْع، وَقد تكون خَاصَّة بِمَعْنى كَونهَا من بَاب الضرورات والحاجات والتكملات. وَأما الحكم فأعم مراتبه كَونه حكما؛ لِأَنَّهُ أَعم من أَن يكون وجوبا أَو تَحْرِيمًا، أَو صِحَة، أَو فَسَادًا، ثمَّ كَونه وَاجِبا وَنَحْوه، أَي من الْأَحْكَام الْخَمْسَة، وَهِي: الْوَاجِب، وَالْحرَام، وَالْمَنْدُوب، وَالْمَكْرُوه، والمباح، وَمَا يلْحق / بذلك من الْأَحْكَام الوضعية، إِذْ الْوَاجِب أَعم من أَن يكون عبَادَة اصطلاحية أَو غَيرهَا، ثمَّ كَونه عباده؛ لِأَنَّهُ أَعم من الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَغَيرهمَا من الْعِبَادَات، ثمَّ كَونهَا صَلَاة؛ إِذْ كل صَلَاة عبَادَة وَلَيْسَ كل عبَادَة صَلَاة ". انْتهى. ثمَّ كَونهَا ظهرا؛ لِأَن الصَّلَاة أَعم من الظّهْر، إِذْ كل ظهر صَلَاة وَلَيْسَ كل صَلَاة ظهرا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3416 إِذا علم ذَلِك أَعنِي الْأَعَمّ والأخص من الْأَوْصَاف وَالْأَحْكَام، فَليعلم أَن تَأْثِير بَعْضهَا فِي بعض يتَفَاوَت فِي الْقُوَّة والضعف. فتأثير الْأَخَص فِي الْأَخَص أقوى أَنْوَاع التَّأْثِير، كمشقة التّكْرَار فِي سُقُوط الصَّلَاة، والصغر فِي ولَايَة النِّكَاح. وتأثير الْأَعَمّ فِي الْأَعَمّ يُقَابل ذَلِك، فَهُوَ أَضْعَف أَنْوَاع التَّأْثِير. وتأثير الْأَخَص فِي الْأَعَمّ، وَعَكسه وَهُوَ تَأْثِير الْأَعَمّ فِي الْأَخَص بَين ذَيْنك الطَّرفَيْنِ؛ إِذْ فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا قُوَّة من جِهَة الأخصية، وَضعف من جِهَة الأعمية، بِخِلَاف الطَّرفَيْنِ؛ إِذْ الأول تمحضت فِيهِ الأخصية، فتمحضت لَهُ الْقُوَّة، وَالثَّانِي تمحضت فِيهِ الأعمية فتمحض لَهُ الضعْف قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": فَمَا ظهر تَأْثِيره فِي الصَّلَاة الْوَاجِبَة أخص مِمَّا ظهر فِي الْعِبَادَة، وَمَا ظهر فِي الْعِبَادَة أخص مِمَّا ظهر فِي الْوَاجِب، وَمَا ظهر فِي الْوَاجِب أخص مِمَّا ظهر فِي الْأَحْكَام. ثمَّ قَالَ: فلأجل تفَاوت دَرَجَات الجنسية فِي الْقرب والبعد تَتَفَاوَت دَرَجَات الظَّن، والأعلى مقدم على مَا دونه انْتهى. تَنْبِيه: للْعُلَمَاء خلاف فِي التَّسْمِيَة لَا فَائِدَة فِيهِ إِلَّا مُجَرّد اصْطِلَاح. قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (قلت: مَا تضمنه " الْمُخْتَصر " وَأَصله - أَي " الرَّوْضَة " -: أَن الْوَصْف الْمُنَاسب ثَلَاثَة أَنْوَاع: مُؤثر، وملائم، وغريب، وَفِي جَمِيعهَا خلاف. أما الْمُؤثر فَفِيهِ قَولَانِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3417 أَحدهمَا: أَنه مَا تُؤثر عينه فِي عين الحكم أَو فِي جنسه بِنَصّ أَو إِجْمَاع. الثَّانِي: أَن الْمُؤثر هَذَانِ / القسمان وَقسم ثَالِث: وَهُوَ مَا ظهر [تَأْثِير جنسه] فِي عين الحكم. والملائم فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: مَا ظهر تَأْثِير جنسه فِي عين الحكم. وَالثَّانِي: مَا ظهر تَأْثِير جنسه فِي جنس الحكم. والغريب فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: مَا ظهر تَأْثِير جنسه فِي جنس الحكم. وَالثَّانِي: مَا لم يظهره تَأْثِيره وَلَا ملاءمته لجنس تَصَرُّفَات الشَّارِع. وَذكر [البروي] فِي " المقترح ": أَن الْمُؤثر مَا دلّ النَّص أَو الْإِجْمَاع على اعْتِبَار عينه فِي عين الحكم، والملائم هُوَ الْأَقْسَام الثَّلَاثَة الْأُخْرَى) انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3418 (قَوْله: (فصل)) (الْخَامِس: إِثْبَات الْعلَّة بالشبه) وَهُوَ بِفَتْح الشين وَالْبَاء الْمُوَحدَة، أصل مَعْنَاهُ الشّبَه يُقَال: هَذَا شبه هَذَا وَشبهه بِكَسْر الشين وَسُكُون الْبَاء، وشبيهه كَمَا تَقول: مثله وَمثله ومثيله، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنى يُطلق على كل قِيَاس؛ لِأَن [الْفَرْع] لابد أَن يشبه الأَصْل، لَكِن غلب إِطْلَاقه فِي الِاصْطِلَاح الأصولي على هَذَا النَّوْع. أَي الْخَامِس، من مسالك الْعلَّة إِثْبَاتهَا بالشبه. وَاخْتلف فِي تَعْرِيف الشّبَه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3419 فَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى وَالْقَاضِي يَعْقُوب، وَابْن عقيل، وَغَيرهم تردد الْفَرْع بَين أصلين فِيهِ منَاط كل مِنْهُمَا، إِلَّا أَنه يشبه أَحدهمَا فِي أَوْصَاف أَكثر، فإلحاقه بِهِ هُوَ الشّبَه. كَالْعَبْدِ هَل يملك؟ وَهل يضمنهُ قَاتله بِأَكْثَرَ من ديه الْحر؟ فَإِن العَبْد مُتَرَدّد بَين الْحر والبهيمة، والمذي المتردد بَين الْبَوْل والمني. وَتظهر فَائِدَة العَبْد فِي التَّمْلِيك لَهُ، فَمن قَالَ: يملك بالتمليك، قَالَ: هُوَ إِنْسَان يُثَاب ويعاقب، وينكح وَيُطلق، ويكلف بأنواع من الْعِبَادَات، وَيفهم وَيعْقل، وَهُوَ ذُو نفس ناطقة، فَأشبه الْحر. وَمن قَالَ: لَا يملك، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3420 قَالَ: هُوَ حَيَوَان يجوز بَيْعه، وَرَهنه، وهبته، وإجارته، وإرثه، وَنَحْوهَا، أشبه الدَّابَّة. والمذي تردد بَين الْبَوْل والمني، فَمن حكم / بِنَجَاسَتِهِ قَالَ: وَهُوَ خَارج من الْفرج لَا يخلق مِنْهُ الْوَلَد، وَلَا يجب بِهِ الْغسْل أشبه الْبَوْل، وَمن حكم بِطَهَارَتِهِ قَالَ: هُوَ خَارج تحلله الشَّهْوَة وَيخرج أمامها أشبه الْمَنِيّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3421 قَالَ الْآمِدِيّ: لَيْسَ هَذَا من الشّبَه فِي شَيْء، فَإِن كل منَاط مُنَاسِب، وَكَثْرَة المشابهة للترجيح. وَقيل: هُوَ منزلَة بَين الْمُنَاسب والطردي، يَعْنِي أَنه وصف يشبه الْمُنَاسب فِي إشعاره بالحكم، لَكِن لَا يُسَاوِيه بل دونه، وَيُشبه الطردي فِي كَونه لَا يَقْتَضِي الحكم مُنَاسبَة بَينهمَا فَهُوَ بَين الْمُنَاسب والطردي. وَالْحَاصِل: أَن الشّبَه منزلَة بَين منزلتين، فَهُوَ يشبه الْمُنَاسب الذاتي من حَيْثُ الْتِفَات الشَّرْع إِلَيْهِ، وَيُشبه الْوَصْف الطردي من حَيْثُ إِنَّه غير مُنَاسِب، فَهُوَ يتَمَيَّز عَن الْمُنَاسب بِأَنَّهُ غير مُنَاسِب بِالذَّاتِ، وَبِأَن مُنَاسبَة الْمُنَاسب عقلية وَإِن لم ترد بشرع كالإسكار فِي التَّحْرِيم، بِخِلَاف الشّبَه، ويتميز عَن الطردي بِأَن وجود الطردي كَالْعدمِ، بِخِلَاف الشّبَه فَإِنَّهُ يعْتَبر فِي بعض الْأَحْكَام. وَقَالَ الباقلاني: هُوَ قِيَاس الدّلَالَة. قَالَه ابْن مُفْلِح تبعا للآمدي، وَفَسرهُ الباقلاني بِقِيَاس الدّلَالَة. و [قَالَ] ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره: " وعرفه القَاضِي أَبُو بكر بِأَنَّهُ الْمُنَاسب بالتبع، أَي: بالالتزام كالطهارة لاشْتِرَاط النِّيَّة، فَإِنَّهَا من حَيْثُ هِيَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3422 لَا تناسب اشْتِرَاط النِّيَّة، لَكِن تناسبها من حَيْثُ هِيَ عبَادَة وَالْعِبَادَة مُنَاسبَة اشْتِرَاط النِّيَّة ". قَالَ الْبرمَاوِيّ: (حَاصِل تَفْسِير القَاضِي الشّبَه أَنه وصف مُقَارن للْحكم مُنَاسِب لَهُ بالتبع، أَو يُقَال: مُسْتَلْزم لما يُنَاسِبه، هَذَا مَا نقل فِي " الْبُرْهَان " عَن القَاضِي. لَكِن الَّذِي فِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب " و " الْإِرْشَاد ": أَن قِيَاس الشّبَه إِلْحَاق فرع بِأَصْل لِكَثْرَة اشتباهه للْأَصْل فِي الْأَوْصَاف، من غير أَن يعْتَقد أَن الْأَوْصَاف / الَّتِي يشابه الْفَرْع فِيهَا الأَصْل عِلّة حكم الأَصْل) . وَقَالَ القر افي: قَالَ القَاضِي أَبُو بكر: الشّبَه الْوَصْف الَّذِي لَا يُنَاسب لذاته ويستلزم الْمُنَاسب لذاته، كَقَوْلِنَا: الْخلّ مَائِع وَلَا تبنى القنطرة على جنسه، لَيْسَ مناسبا فِي ذَاته، لكنه مُسْتَلْزم للمناسب، إِذْ الْعَادة أَن القنطرة لَا تبنى على ألأشياء القليلة بل على الْكَثِيرَة كالأنهار وَنَحْوهَا. قَالَ القَاضِي أَبُو بكر: فالوصف إِمَّا مُنَاسِب بِذَاتِهِ أَو لَا، فَالْأول هُوَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3423 الْمُنَاسب الْمُعْتَبر، وَالثَّانِي إِمَّا أَن يكون مستلزما للمناسب أَو لَا، فَالْأول الشّبَه وَالثَّانِي الطَّرْد. قَالَ الطوفي: " هَذَا التَّقْسِيم يتَّجه أَن يكون صَحِيحا، لَكِن تمثيله بِمَا يسْتَلْزم الْمُنَاسب بقوله: مَائِع لَا تبنى على جنسه القناطر فِيهِ، وَمَا وَجه بِهِ مناسبته تمحل بعيد، وَالْأَكْثَر على أَن ذَلِك طرد مَحْض لَا مُنَاسِب وَلَا مُسْتَلْزم للمناسب، وَكَذَلِكَ قَوْلهم: مَائِع لَا تجْرِي فِيهِ السفن، أَو لَا يصاد مِنْهُ السّمك وَنَحْوه ". وَقَالَ الْجَمَاعَة: الشّبَه مَا يُوهم الْمُنَاسبَة. قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَفَسرهُ بَعضهم بِمَا يُوهم [الْمُنَاسبَة] . كَأَنَّهُ أَرَادَ أَن الْمُنَاسبَة لَيست مُخْتَصَّة فِيهِ، وَإِنَّمَا يحصل التَّوَهُّم بهَا. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: الْعبارَة الثَّالِثَة أَي القَوْل الثَّالِث: أَن الْوَصْف الَّذِي لَا يُنَاسب الحكم، إِن علم اعْتِبَار جنسه الْقَرِيب فِي جنس الحكم الْقَرِيب فَهُوَ الشّبَه؛ لِأَنَّهُ من حَيْثُ كَونه غير مُنَاسِب يظنّ عدم اعْتِبَاره، وَمن حَيْثُ إِنَّه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3424 عرف تَأْثِير جنسه الْقَرِيب فِي الْجِنْس الْقَرِيب للْحكم يظنّ أَنه أولى بِالِاعْتِبَارِ مُتَرَدّد بَين أَن يكون مُعْتَبرا أَو لَا. الْعبارَة الرَّابِعَة: أَن الشّبَه هُوَ الْوَصْف الَّذِي لَا تظهر فِيهِ الْمُنَاسبَة بعد الْبَحْث التَّام، وَلَكِن ألف من الشَّارِع الِالْتِفَات إِلَيْهِ فِي بعض الْأَحْكَام. فَهُوَ دون الْمُنَاسب وَفَوق الطَّرْد؛ فَلذَلِك سمي شبها لشبهه لكل مِنْهُمَا، وَهَذَا القَوْل نَقله الْآمِدِيّ عَن أَكثر الْمُحَقِّقين وَهُوَ الْأَقْرَب / إِلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3425 قَوَاعِد الْأُصُول، وَهُوَ قريب من الأولى بل الْعبارَات كلهَا تكَاد أَن تتحدد. لَكِن قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: إِنَّه لَا يتحرر فِيهِ عبارَة مستمرة فِي صناعَة الْحُدُود. قَوْله: (وَالِاعْتِبَار بالشبه حكما لَا حَقِيقَة خلافًا لِابْنِ علية) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3426 إِذا قُلْنَا إِن الشّبَه حجَّة فلنا خلاف: فَذهب الشَّافِعِي، وَأَصْحَابه وأصحابنا، وَغَيرهم: إِلَى أَن المشابهة فِي الحكم، وَلِهَذَا ألْحقُوا العَبْد الْمَقْتُول بِسَائِر الْأَمْوَال الْمَمْلُوكَة فِي لُزُوم قِيمَته على الْقَاتِل بِجَامِع أَن كلا مِنْهَا يُبَاع ويشترى. وَمن أمثلته عِنْد الشَّافِعِيَّة أَن يَقُول فِي التَّرْتِيب فِي الضَّوْء: عبَادَة يُبْطِلهَا الْحَدث فَكَانَ التَّرْتِيب فِيهَا مُسْتَحبا، أَصله الصَّلَاة والمشابهة فِي الحكم الَّذِي هُوَ الْبطلَان بِالْحَدَثِ وَلَا تعلق [لَهُ] بالترتيب وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرّد شبه. وَاعْتبر أَبُو بشر إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن علية المشابهة فِي الصُّورَة دون الحكم، كقياس الْخَيل على البغال وَالْحمير فِي سُقُوط الزَّكَاة، وَقِيَاس الْحَنَفِيَّة فِي حُرْمَة اللَّحْم، وكرد وَطْء الشُّبْهَة إِلَى النِّكَاح فِي سُقُوط الْحُدُود الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3427 وَوُجُوب الْمهْر، لشبهه بِالْوَطْءِ فِي النِّكَاح فِي الْأَحْكَام. وَمُقْتَضى ذَلِك قتل الْحر بِالْعَبدِ كَمَا يَقُوله أَبُو حنيفَة. وَلِهَذَا نقل عَنهُ أَبُو الْمَعَالِي [فِي] " الْبُرْهَان " كَابْن علية وَقَالَ إِنَّه ألحق التَّشَهُّد الثَّانِي بِالْأولِ فِي عدم الْوُجُوب فَقَالَ: تشهد فَلَا يجب كالتشهد الأول. وَنَحْو ذَلِك عَن أَحْمد إِذْ قَالَ بِوُجُوب الْجُلُوس للتَّشَهُّد الأول؛ لِأَنَّهُ أحد الجلوسين فِي تشهد الصَّلَاة، فَوَجَبَ كالتشهد الْأَخير. وَقَالَ الرَّازِيّ: الْمُعْتَبر حُصُول المشابهة فِيمَا يظنّ أَنه مُسْتَلْزم لعِلَّة الحكم، أَو أَنه عِلّة للْحكم سَوَاء كَانَت المشابهة فِي الصُّورَة أَو الْمَعْنى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3428 ثمَّ الَّذين قَالُوا بعلية الشّبَه فِي الحكم وَفِي الصُّورَة اخْتلفُوا أَيهمَا أولى: فَقيل: فِي الحكم أولى. وَقيل: هُوَ والصوري سَوَاء. قَوْله: (وَلَا يُصَار إِلَيْهِ مَعَ قِيَاس الْعلَّة إِجْمَاعًا) . / قَالَه القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني فِي " التَّقْرِيب " فَحَيْثُ كَانَ هُنَاكَ وصف مُنَاسِب يُعلل بِهِ فَقَالَ: أجمع النَّاس على أَنه لَا يُصَار إِلَى قِيَاس الشّبَه مَعَ إِمْكَان قِيَاس الْعلَّة انْتهى. قَوْله: (فَإِن عدم فحجة عندنَا، وَعند الشَّافِعِيَّة، وَخَالف الْحَنَفِيَّة، وَالْقَاضِي، والصيرفي، والباقلاني، وَجمع، وَلأَحْمَد، وَالشَّافِعِيّ: قَولَانِ) . إِذا عرف معنى الشّبَه فَهَل يجوز التَّعْلِيل بِهِ وَيكون حجَّة أم لَا؟ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه يُعلل بِهِ وَيكون حجَّة، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَعَلِيهِ أَصْحَابنَا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3429 وَالشَّافِعِيَّة، حَتَّى قَالَ ابْن عقيل: لَا عِبْرَة بالمخالف لما سبق فِي السبر. وَهُوَ الْمَنْقُول عَن الإِمَام الشَّافِعِي. وَالْقَوْل الثَّانِي: لَيْسَ بِحجَّة وَالتَّعْلِيل بِهِ فَاسد، اخْتَارَهُ القَاضِي من أَصْحَابنَا قَالَه فِي " الرَّوْضَة ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3430 وَهُوَ قَول الْحَنَفِيَّة، والصيرفي، والباقلاني، و [أبي] إِسْحَاق الْمروزِي، وَالشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، لكنه عِنْد الباقلاني صَالح لِأَن يرجح بِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3431 وَذكر القَاضِي عَن أَحْمد رِوَايَتَيْنِ. وَذكر الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": أَن للشَّافِعِيّ قَوْلَيْنِ. قَالَ الإِمَام أَحْمد: " إِنَّمَا يُقَاس الشَّيْء على الشَّيْء إِذا كَانَ مثله فِي كل أَحْوَاله ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3432 وَالْقَوْل الثَّالِث: إِنَّمَا يحْتَج بِهِ فِي التَّعْلِيل إِذا كَانَ فِي قِيَاس فرع قد اجتذبه أصلان، فَيلْحق بِأَحَدِهِمَا بعلة الِاشْتِبَاه، ويسمونه قِيَاس عِلّة الِاشْتِبَاه، وَهُوَ مَا يدل عَلَيْهِ نَص الشَّافِعِي. قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَذكر الْآمِدِيّ عَن بعض أَصْحَابهم صِحَة الشّبَه إِن اعْتبر عينه فِي عين الحكم فَقَط، لعدم الظَّن؛ وَلِأَنَّهُ دون الْمُنَاسب الْمُرْسل. وَأجَاب بِالْمَنْعِ لاعْتِبَار الشَّارِع لَهُ فِي بعض الْأَحْكَام انْتهى. وَاكْتفى بعض الْحَنَفِيَّة بِضَرْب من الشّبَه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3433 قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَيلْزم من كَونه حجَّة على تَفْسِير القَاضِي التَّسْوِيَة بَين شَيْئَيْنِ مَعَ الْعلم بافتراقهما فِي صفة أَو صِفَات مُؤثرَة لَكِن لضَرُورَة إِلْحَاقه بِأَحَدِهِمَا، كَفعل الْقَافة بِالْوَلَدِ، قَالَه بعض أَصْحَابنَا. وَقَالَ الْقَائِلُونَ / بالأشبه كَالْقَاضِي: سلمُوا أَن الْعلَّة لم تُوجد فِي الْفَرْع، وَأَنه حكم بِغَيْر قِيَاس، بل إِنَّه أشبه بِهَذَا من غَيره، وَيَقُولُونَ: لَا يعْطى حكمهمَا، ذكره الشَّافِعِي وأصحابنا، وَكَذَا من قَالَ: لَيْسَ بِحجَّة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3434 وَعند الْحَنَفِيَّة يعْطى حكمهمَا، وَقَالَهُ الْمَالِكِيَّة وَهِي طَريقَة [الشبهين] . وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: هُوَ كثير فِي مَذْهَب مَالك وَأحمد كتعلق الزَّكَاة بِالْعينِ أَو بِالذِّمةِ، وَالْوَقْف هَل هُوَ ملك لله أَو للْمَوْقُوف عَلَيْهِ.؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3435 وَملك العَبْد. وسلك القَاضِي وَغَيره هَذَا فِي تَعْلِيل إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا إِذا أقرّ اثْنَان بِنسَب أَو دين: لَا يعْتَبر لفظ الشَّهَادَة وَالْعَدَالَة [لِأَنَّهُ] يشبه [الشَّهَادَة] ؛ لِأَنَّهُ إِثْبَات حق على غَيره، وَالْإِقْرَار لثُبُوت الْمُشَاركَة فِيمَا بِيَدِهِ من المَال فأعطيناه حكم الْأَصْلَيْنِ فاشترطنا الْعدَد كَالشَّهَادَةِ لَا غير كَالْإِقْرَارِ. وَكَذَا قالالحنفية وَقَالَ الْمَالِكِيَّة فِي شبه مَعَ فرَاش. وَقَالَهُ بعض أَصْحَابنَا وَأَنه يعْمل بهما إِن أمكن وَإِلَّا بالأشبه "، نقل ذَلِك ابْن مُفْلِح ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3436 (قَوْله: (فصل)) (السَّادِس الدوران: ترَتّب حكم على وصف وجودا وعدما، يُفِيد الْعلَّة ظنا عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَبَعض الْحَنَفِيَّة، وَقيل: قطعا، وَلنَا وَجه، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد، لَا يفيدها كأكثر الْحَنَفِيَّة والآمدي وَغَيره) . السَّادِس من مسالك الْعلَّة: الدوران. وَسَماهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب: الطَّرْد وَالْعَكْس لكَونه بِمَعْنَاهُ، وَكَذَا قَالَ ابْن مُفْلِح. الطَّرْد وَالْعَكْس وَهُوَ: الدوران، وَهُوَ أَن يُوجد الحكم، أَي: تعلقه عِنْد وجود وصف وينعدم عِنْد عَدمه، وَيُسمى ذَلِك الْوَصْف حِينَئِذٍ مدارا وَالْحكم دائرا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3437 ثمَّ الدوران: إِمَّا فِي مَحل وَاحِد كالإسكار فِي الْعصير، فَإِن الْعصير قبل أَن يُوجد الْإِسْكَار كَانَ حَلَالا، فَلَمَّا / حدث الْإِسْكَار حرم، فَلَمَّا زَالَ الْإِسْكَار وَصَارَ خلا صَار حَلَالا، فدار التَّحْرِيم مَعَ الْإِسْكَار وجودا وعدما. وَإِمَّا فِي محلين كالطعم مَعَ تَحْرِيم الرِّبَا، فَإِنَّهُ لما وجد الطّعْم فِي التفاح كَانَ ربويا، وَلما لم يُوجد فِي الْحَرِير مثلا لم يكن ربويا، فدار جَرَيَان الرِّبَا مَعَ الطّعْم. قَالَ الطوفي: " لَكِن الدوران فِي صُورَة أقوى مِنْهُ فِي صُورَتَيْنِ على مَا هُوَ مدرك ضَرُورَة أَو نظرا ظَاهرا ". إِذا علم ذَلِك فَهَل يُفِيد الدوران ظن الْعلية، أَو الْقطع، أَو لَا يُفِيد مُطلقًا؟ أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه يُفِيد ظن الْعلية فَقَط، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، قَالَه أَكثر أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، والجرجاني، والسرخسي، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3438 والرازي، وَأَتْبَاعه، [وَقَالَهُ] الجدليون. وَأهل [الْعرَاق] من الشَّافِعِيَّة مشغوفون بِإِثْبَات الْعِلَل، حَتَّى كَانَ أَبُو الطّيب يَدعِي فِيهِ الْقطع. وَالْقَوْل الثَّانِي: يُفِيد الْقطع بالعلية، وَعَلِيهِ بعض الْمُعْتَزلَة، وَرُبمَا قيل: لَا دَلِيل فَوْقه. قيل: وَلَعَلَّ من يَدعِي الْقطع إِنَّمَا هُوَ من يشْتَرط ظُهُور الْمُنَاسبَة فِي قِيَاس الْعِلَل مُطلقًا، وَلَا يَكْتَفِي بالسبر وَلَا بالدوران بِمُجَرَّدِهِ، فَإِذا انْضَمَّ الدوران. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3439 إِلَى الْمُنَاسبَة ارْتقى بِهَذِهِ الزِّيَادَة إِلَى الْيَقِين، وَإِلَّا فَأَي وَجه لتخيل الْقطع فِي مُجَرّد الدوران. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه لَا يُفِيد بِمُجَرَّدِهِ ظنا وَلَا قطعا، أَي: لَا يُفِيد ظن الْعلية وَلَا الْقطع بهَا، لَا أَنه لَا يُفِيد الحكم، بل قد يثبت الحكم بالدوران، بل وبالطرد وَحده، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَاب الْأَدِلَّة الْمُخْتَلف فِيهَا، فِي الْكَلَام على الِاسْتِدْلَال فِي التلازم. وَهَذَا قَول أَكثر الْحَنَفِيَّة، كالكرخي، وَأبي زيد، وَأكْثر الْمُعْتَزلَة، وَهُوَ اخْتِيَار ابْن السَّمْعَانِيّ، وَالْغَزالِيّ، وَابْن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3440 الْحَاجِب، والآمدي، وَذكره قَول الْمُحَقِّقين من أَصْحَابهم. اسْتدلَّ للْأولِ - وَهُوَ الصَّحِيح -: لَو دعِي رجل باسم فَغَضب، وَبِغَيْرِهِ لم يغْضب، وتكرر وَلَا مَانع، دلّ أَنه سببب الْغَضَب. رد: بِالْمَنْعِ بل بطرِيق السبر، لجَوَاز مُلَازمَة الْوَصْف الْعلَّة كرائحة الْخمر / مَعَ الشدَّة المطربة، وَلِهَذَا الدوران فِي المتضايفين وَلَا عِلّة، فَإِن المتضايفين يُوجد أَحدهمَا مَعَ وجود الآخر وينتفي مَعَ انتفائه، وَلَيْسَ أَحدهمَا عِلّة فِي الآخر. أُجِيب: الْجَوَاز لَا يمْنَع الظُّهُور كالقطع بِأَن الرَّائِحَة لَيست عِلّة، وَكَذَا الدوران فِي المتضايفين كالأبوة والبنوة؛ وَلِأَن كلا مِنْهُمَا مَعَ الآخر. وَأجَاب أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ عَن الْعلَّة: بِأَن الْعلَّة الأمارة الْمعرفَة للْحكم، فالمدار مَعَه عِلّة، لَكِن التَّعْلِيل بالشدة المطربة مقدم على الطَّرْد الْمَحْض. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3441 وقاس أَصْحَابنَا على الْعلَّة الْعَقْلِيَّة. قَالَ الْغَزالِيّ: الطَّرْد سَلَامَته من النَّقْض، وسلامته من مُفسد لَا يُوجب سَلَامَته من كل مُفسد، [وَلَو] سلم فالصحة بمصحح وَلَا أثر للعكس؛ لِأَنَّهُ غير شَرط فِيهَا. رد: للاجتماع تَأْثِير، كأجزاء الْعلَّة. قَالَ فِي " التَّمْهِيد "، و " الرَّوْضَة ": وَيُشبه ذَلِك شَهَادَة الْأُصُول، نَحْو الْخَيل لَا زَكَاة فِي ذكورها مُنْفَرِدَة، فَكَذَا فِي إناثها كَبَقِيَّة الْحَيَوَان وَصَححهُ القَاضِي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3442 وللشافعية وَجْهَان. . قَوْله: (وَلَا يلْزم الْمُسْتَدلّ نفي مَا هُوَ أولى مِنْهُ، فَإِن أبدى الْمُعْتَرض وَصفا آخر ترجح جَانب الْمُسْتَدلّ بالتعدية، وَإِن كَانَ مُتَعَدِّيا إِلَى الْفَرْع ضرّ عِنْد مَانع علتين أَو إِلَى فرع آخر طلب التَّرْجِيح) . تبِعت فِي ذَلِك " جمع الْجَوَامِع " وَتَبعهُ شراحه، وَسَيَأْتِي كَلَام الْبرمَاوِيّ. إِذا ثَبت أَنه يُفِيد الظَّن فَهَل يشْتَرط نفي مَا هُوَ أولى مِنْهُ بالعلية أم لَا يشْتَرط؟ الْمُخْتَار عدم الِاشْتِرَاط؛ لِأَنَّهُ لَو لزمَه ذَلِك للَزِمَ نفي سَائِر القوادح، وينتشر الْبَحْث، وَيخرج الْكَلَام عَن الضَّبْط. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3443 وَمن ادّعى وَصفا أَصْلِيًّا فَعَلَيهِ إبداؤه، أطبق على ذَلِك الجدليون. وَذهب القَاضِي أَبُو بكر: إِلَى أَنه يلْزمه ذَلِك. قَالَ الْغَزالِيّ: وَهُوَ بعيد فِي حق المناظر مُتَّجه فِي حق الْمُجْتَهد، فَإِن عَلَيْهِ تَمام النّظر لتحل لَهُ الْفَتْوَى فَهَذَا مَذْهَب ثَالِث. فَإِن أبدى الْمُعْتَرض وَصفا آخر، / فَإِن كَانَ قاصرا يرجح الْوَصْف الَّذِي أبداه الْمُسْتَدلّ بِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ، وَهُوَ بِنَاء على تَرْجِيح المتعدية على القاصرة. وَإِن كَانَ مُتَعَدِّيا إِلَى الْفَرْع الْمُتَنَازع فِيهِ بني على جَوَاز التَّعْلِيل بعلتين، فَإِن منعناه ضرّ، وَإِلَّا فَلَا، لجَوَاز اجْتِمَاع معرفين على معرف وَاحِد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3444 وَإِن كَانَ مُتَعَدِّيا إِلَى فرع آخر غير الْمُتَنَازع فِيهِ طلب تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر بِدَلِيل خارجي، فَلَو كَانَ وصف الْمُسْتَدلّ غير مُنَاسِب وَوصف الْمُعْتَرض مناسبا قدم قطعا. لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَزَاد فِي " جمع الْجَوَامِع " هُنَا أَنه لَا يلْزم الْمُسْتَدلّ نفي مَا هُوَ أولى مِنْهُ، وَأَنه إِذا أبدى الْمُعْتَرض وَصفا آخر ترجح جَانب الْمُسْتَدلّ بالتعدية، وَلَكِن هَذَا مَعَ كَونه من مبَاحث الجدل، لَا يخْتَص بِالْوَصْفِ الَّذِي أثْبته الْمُسْتَدلّ بالدوران) انْتهى. قَوْله: (والطرد: مُقَارنَة الحكم للوصف بِلَا مُنَاسبَة) . الطَّرْد: مُقَارنَة الحكم للوصف، وَلَيْسَ مناسبا لَا بِالذَّاتِ وَلَا بالتبع، كَمَا سبقت الْإِشَارَة فِي كَلَام الباقلاني وَغَيره. مِثَاله فِي قَول بَعضهم فِي إِزَالَة النَّجَاسَة بِنَحْوِ الْخلّ: مَائِع لَا يبْنى على جنسه القناطر، وَلَا يصاد مِنْهُ السّمك، وَلَا تجْرِي عَلَيْهِ السفن، أَو لَا ينْبت فِيهِ الْقصب، أَو لَا تعوم فِيهِ الجواميس، أَو لَا يزرع عَلَيْهِ الزَّرْع وَنَحْو ذَلِك، فَلَا يزَال بِهِ النَّجَاسَة كالدهن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3445 وَقَول بَعضهم: فِي عدم نقض الْوضُوء بِمَسّ الذّكر: طَوِيل ممشوق، فَلَا يجب بمسه الْوضُوء كالبوق. وَقَول بَعضهم فِي طَهَارَة الْكَلْب: حَيَوَان مألوف، لَهُ شعر كالصوف فَكَانَ طَاهِرا كالخروف. وَاعْلَم أَن الْمُقَارنَة لَهَا ثَلَاثَة أَحْوَال: أَحدهَا: أَن يقارن فِي جَمِيع الصُّور، وَعَلِيهِ جرى جمع مِنْهُم التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع "، ويشعر بِهِ كَلَام جمَاعَة أَيْضا حَيْثُ قَالُوا: إِنَّه وجود الحكم عِنْد وجود الْوَصْف. الثَّانِيَة: الْمُقَارنَة فِيمَا سوى صُورَة النزاع / وَهُوَ الَّذِي عزاهُ فِي " الْمَحْصُول " للأكثرين، وَجرى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيّ، وَيثبت حِينَئِذٍ الحكم فِي صُورَة النزاع إِلْحَاقًا للفرد بالأعم الْأَغْلَب، فَإِن الاستقراء يدل على إِلْحَاق النَّادِر بالغالب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3446 وَلَكِن هَذَا ضَعِيف فقد يمْنَع أَن كل نَادِر يلْحق بالغالب؛ لما يرد عَلَيْهِ من النقوض الْكَثِيرَة. وَأَيْضًا: فَلَا يلْزم من علية الاقتران كَونه عِلّة للْحكم. الثَّالِثَة: أَن يقارن فِي صُورَة وَاحِدَة. وَهُوَ ضَعِيف جدا؛ لِأَن من يَقُول بالطرد فَإِنَّمَا مُسْتَنده غَلَبَة الظَّن عِنْد التّكْرَار، وَالْفَرْض عَدمه. قَوْله: (وَلَيْسَ دَلِيلا وَحده عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، وَقيل: بلَى، وَجوزهُ الْكَرْخِي جدلا لَا عملا أَو فَتْوَى، وَقَالَ الرَّازِيّ وَغَيره: إِن قارنه فِيمَا عدا صُورَة النزاع أَفَادَ، وَقيل: تَكْفِي مقارنته فِي صُورَة، قَالَ الشَّيْخ وَغَيره: تَنْقَسِم الْعلَّة الْعَقْلِيَّة والشرعية: إِلَى مَا تُؤثر فِي معلولها كوجود عِلّة الأَصْل فِي الْفَرْع، وَإِلَى مَا يُؤثر فِيهَا معلولها كالدوران) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3447 قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَيْسَ الطَّرْد وَحده دَلِيلا فِي مَذْهَب الْأَرْبَعَة، والمتكلمين. قَالَ الْبرمَاوِيّ: هَذَا أرجح الْمذَاهب، وَعَلِيهِ الْجُمْهُور، كَمَا قَالَه أَبُو الْمَعَالِي وَغَيره، فَإِنَّهُ لَا يُفِيد علما وَلَا ظنا، فَهُوَ تحكم. وَبَالغ الباقلاني فِي الْإِنْكَار على الْقَائِل بِهِ، وَقَالَ: إِنَّه هازىء بالشريعة فَقَالَ هُوَ والأستاذ: من طرد عَن غرر فجاهل، وَمن مارس الشَّرِيعَة واستجازه فهازىء بالشريعة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3448 قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ وَغَيره: " قِيَاس الْمَعْنى تَحْقِيق، والشبه تقريب، والطرد تحكم ". وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه حجَّة مُطلقًا، وتكفي الْمُقَارنَة وَلَو فِي صُورَة وَاحِدَة، كَمَا سبق. وَالْقَوْل الثَّالِث: إِن قَارن فِي غير صُورَة النزاع وَهُوَ مَا سبق عَن الرَّازِيّ، والبيضاوي ألحاقا للفرد بالأعم الْأَغْلَب، وَتقدم. وَالْقَوْل الرَّابِع: أَنه يُفِيد [فِي] المناظرة المناظر، وَلَا يُفِيد النَّاظر الْمُجْتَهد لنَفسِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3449 قَالَ أَبُو الْمَعَالِي / فِي " الْبُرْهَان ": وَقد نَاقض، إِذْ المناظر بحث عَن المآخذ الصَّحِيحَة، فَإِذا كَانَ مذْهبه أَنه لَا يصلح مأخذا فَهَذَا مُرَاد خَصمه من الجدل، فَلَيْسَ فِي الجدل مَا يقبل، مَعَ الِاعْتِرَاف بِأَنَّهُ بَاطِل. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: تَنْقَسِم الْعلَّة الْعَقْلِيَّة والشرعية إِلَى: مَا تُؤثر فِي معلولها كوجود عِلّة الأَصْل فِي الْفَرْع مُؤثر فِي نقل حكمه. وَإِلَى مَا يُؤثر فِيهَا معلولها كالدوران. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3450 (قَوْله: (فَوَائِد)) (المناط مُتَعَلق الحكم، سبق تنقيحه فِي الْإِيمَاء، وتخريجه فِي الْمُنَاسبَة) . هَذَا إِشَارَة إِلَى أَنْوَاع الِاجْتِهَاد فِي الْعلَّة الشَّرْعِيَّة الْمُتَعَلّقَة بالأقيسة. وَهُوَ إِمَّا تَحْقِيق المناط، أَو تنقيحه، أَو تَخْرِيجه، وَقد جرت عَادَة أهل الْأُصُول والجدل إِذا ذكرُوا تَحْقِيق المناط أَن يتَعَرَّضُوا لتفسير مَا يُسمى [تَنْقِيح] المناط، وتخريجه، وَقد قدمنَا فِي الْإِيمَاء تَنْقِيح المناط، وَقدمنَا فِي الْمُنَاسبَة تَخْرِيج المناط، فَلم يبْق إِلَّا تَحْقِيق المناط. فالمناط: مفعل من ناط نياطا، أَي: علق فَهُوَ مَا نيط بِهِ الحكم، أَي: علق بِهِ، وَهُوَ الْعلَّة الَّتِي رتب عَلَيْهَا الحكم فِي الأَصْل. يُقَال: نطت الْحَبل بالوتد أنوطه نوطا: إِذا علقته، وَمِنْه ذَات أنواط: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3451 شَجَرَة كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يعلقون فِيهَا سِلَاحهمْ وَقد ذكرت فِي الحَدِيث. وَأما التَّنْقِيح: فَهُوَ فِي اللُّغَة التخليص والتهذيب، يُقَال: نقحت الْعظم: إِذا استخرجت مخه. وَأما التَّخْرِيج: فَهُوَ الاستخراج والاستنباط وَهُوَ إِضَافَة حكم لم يتَعَرَّض الشَّرْع لعلته إِلَى وصف يُنَاسب فِي نظر الْمُجْتَهد بالسبر والتقسيم. قَوْله: (وتحقيقه: إِثْبَات الْعلَّة فِي آحَاد صورها، فَإِن علمت الْعلَّة بِنَصّ كجهة الْقبْلَة منَاط وجوب استقبالها، ومعرفتها عِنْد الِاشْتِبَاه مظنون، أَو إِجْمَاع كالعدالة منَاط قبُول الشَّهَادَة، ومظنونة فِي الشَّخْص الْمعِين، وكالمثل فِي جَزَاء الصَّيْد) . تَحْقِيق المناط: هُوَ: / النّظر وَالِاجْتِهَاد فِي معرفَة وجود الْعلَّة فِي آحَاد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3452 الصُّور بعد مَعْرفَتهَا فِي نَفسهَا، سَوَاء عرفت بِالنَّصِّ، كجهة الْقبْلَة الَّتِي هِيَ منَاط وجود استقبالها الْمشَار إِلَيْهِ بقوله تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره} [الْبَقَرَة: 144] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَأشْهدُوا ذوى عدل مِنْكُم} [الطَّلَاق: 2] ، أَو بِالْإِجْمَاع، أَو الاستنباط، كالشدة المطربة الَّتِي هِيَ منَاط تَحْرِيم شرب الْخمر، فالنظر فِي كَون هَذِه الْجِهَة جِهَة الْقبْلَة فِي حَال الِاشْتِبَاه، وَكَون الشَّخْص عدلا، وَكَون النَّبِيذ خمرًا للشدة المطربة المظنونة بِالِاجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ تَحْقِيق الْمثل فِي قَوْله تَعَالَى: {فجزاء مثل مَا قتل من النعم} [الْمَائِدَة: 95] . قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: وَلَا نَعْرِف خلافًا فِي صِحَة الِاحْتِجَاج بِهِ إِذا كَانَت الْعلَّة مَعْلُومَة بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاع، إِنَّمَا الْخلاف فِيمَا إِذا كَانَ مدرك مَعْرفَتهَا الاستنباط. وَذكر الْمُوفق وَالْفَخْر والطوفي من جملَة تَحْقِيق المناط اعْتِبَار الْعلَّة الْمَنْصُوص عَلَيْهَا فِي أماكنها لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم "، فَيعْتَبر الْأَمر فِي كل طائف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3453 قَالَ الْمُوفق: وَهُوَ قِيَاس جلي أقرّ بِهِ جمَاعَة. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَلَيْسَ ذَلِك قِيَاسا للاتفاق عَلَيْهِ من منكري الْقيَاس انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " نعم! هَل يشْتَرط الْقطع بتحقيق المناط أم يَكْتَفِي بِالظَّنِّ؟ فِيهِ أَقْوَال، حَكَاهَا ابْن التلمساني. ثَالِثهَا: الْفرق بَين أَن تكون الْعلَّة وَصفا شَرْعِيًّا، فيكتفى فِيهِ بِالظَّنِّ، أَو حَقِيقِيًّا أَو عرفيا فَيشْتَرط الْقطع بِوُجُودِهِ. قَالَ: وَهَذَا أعدل الْأَقْوَال ". تَنْبِيه: حَاصِل الْفرق بَين الثَّلَاثَة أَن تَخْرِيج المناط اسْتِخْرَاج وصف مُنَاسِب يحكم عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عِلّة ذَلِك الحكم. وتنقيحه: أَن يبقي من الْأَوْصَاف مَا يصلح ويلغي بِالدَّلِيلِ مَا لَا يصلح. وتحقيقه: أَن يَجِيء إِلَى وصف دلّ على عليته نَص أَو إِجْمَاع أَو غَيرهمَا من الطّرق، وَلَكِن / يَقع الِاخْتِلَاف فِي وجوده فِي صُورَة النزاع فيحقق وجودهَا فِيهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3454 ومناسبة التَّسْمِيَة فِي الثَّلَاثَة ظَاهِرَة؛ لِأَنَّهُ أَولا استخرجها من مَنْصُوص حكم من غير نَص على علته، ثمَّ جَاءَ فِي اوصاف قد ذكرت فِي التَّعْلِيل، فنقح النَّص وَنَحْوه فِي ذَلِك، وَأخذ مِنْهُ مَا يصلح عِلّة، وألغى غَيره، ثمَّ لم نوزع فِي كَون الْعلَّة لَيست فِي الْمحل الْمُتَنَازع فِيهِ بَين أَنَّهَا فِيهِ وحقق ذَلِك، وَالله أعلم. قَوْله: (احْتج بِهِ الْأَكْثَر، وَقيل: لَا يقبل مِنْهُ إِلَّا قِسْمَانِ، وَزَاد أَبُو هَاشم ثَالِثا) . قَالَ الشَّيْخ موفق الدّين والآمدي وأتباعهما: لَا نَعْرِف خلافًا فِي صِحَة الِاحْتِجَاج بِهِ. وَذكر أَبُو الْمَعَالِي أَن النهرواني والقاشاني لم يقبلا من النّظر فِي مسالك الظَّن إِلَّا تَرْتِيب الحكم على اسْم مُشْتَقّ، كآية السّرقَة، وَقَول الرَّاوِي: " زنا مَاعِز فرجم "، وَمَا يعلم أَنه فِي معنى الْمَنْصُوص بِلَا نظر، كالبول فِي إِنَاء ثمَّ صبه فِي مَاء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3455 وَوَافَقَهُمَا أَبُو هَاشم وَزَاد قسما ثَالِثا وَمثله بِطَلَب الْقبْلَة عِنْد الِاشْتِبَاه، والمثل فِي الصَّيْد. ثمَّ رد عَلَيْهِم فِي [الْحصْر] . وَقَالَ: إِنَّه لم يُنكر إِلْحَاق معنى الْمَنْصُوص إِلَّا حشوية لَا يبالى بهم، دَاوُد وَأَصْحَابه، وَأَن ابْن الباقلاني قَالَ: لَا يخرقون الْإِجْمَاع. تَنْبِيه: ذكرنَا مسالك الْعلَّة سِتَّة تبعا لِابْنِ مُفْلِح، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهمَا، وَذكرهَا فِي " جمع الْجَوَامِع "، و " منظومة الْبرمَاوِيّ وَشَرحهَا "، وَغَيرهم عشرَة، فزادوا: إِلْغَاء الْفَارِق بَين الْفَرْع وَالْأَصْل، وتنقيح المناط، والطرد، والإيماء، وَهِي مَذْكُورَة ضمنا فِي المسالك السِّتَّة على مَا تقدم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3456 قَوْله: (الثَّانِيَة مدَار الحكم مُوجبَة أَو مُتَعَلّقه، ولازم الحكم مَا لَا يثبت الحكم مَعَ عَدمه، وملزوم الحكم مَا يسْتَلْزم وجوده وجود الحكم) . قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ فِي " الْإِيضَاح " فِي الجدل فَذكر مدَار الحكم، ولازمه، وملزومه فَقَالَ: مدَار الحكم: مُوجبه أَو مُتَعَلّقه، ولازم الحكم مَا لَا يثبت الحكم مَعَ عَدمه فَيكون أَعم من الشَّرْط لدُخُول الشَّرْط وَالْعلَّة / وَالسَّبَب وجزؤه وَمحل الحكم بِهِ، وملزوم الحكم: مَا يسْتَلْزم وجوده وجود الحكم. انْتهى. يُقَال: مدَار الحكم على كَذَا، أَي: يتَوَقَّف الحكم على وجود كَذَا. قَوْله: (الثَّالِثَة: الْقيَاس: جلي، وَهُوَ مَا قطع فِيهِ بِنَفْي الْفَارِق، كالأمة على العَبْد فِي السَّرَايَة، أَو علته منصوصة، أَو مجمع عَلَيْهَا، وخفي كالمثقل على المحدد) . الْقيَاس لَهُ اعتبارات، فَتَارَة يكون بِاعْتِبَار قوته وَضَعفه، وَتارَة بِاعْتِبَار علته، وكل مِنْهُمَا لَهُ أَقسَام. فَالْقِيَاس يَنْقَسِم بِاعْتِبَار قوته وَضَعفه إِلَى: جلي وخفي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3457 فالجلي: مَا قطع فِيهِ بِنَفْي الْفَارِق كقياس الْأمة على العَبْد فِي السَّرَايَة وَغَيرهَا، فِي الْعتْق وَغَيره فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أعتق شركا لَهُ فِي عبد، وَكَانَ لَهُ مَال يبلغ ثمن العَبْد قوم عَلَيْهِ قيمَة عدل ... ... الحَدِيث ".، فَإنَّا نقطع بِعَدَمِ اعْتِبَار الشَّارِع الذُّكُورَة وَالْأُنُوثَة فِيهِ. وَمثل قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيّمَا رجل أفلس فَصَاحب الْمَتَاع أَحَق بمتاعه "، نقطع أَن الْمَرْأَة فِي مَعْنَاهُ. وَمثله قِيَاس الصبية على الصَّبِي فِي حَدِيث: " مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لسبع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3458 وَاضْرِبُوهُمْ على تَركهَا لعشر "، فَإنَّا نقطع - أَيْضا - بِعَدَمِ اعْتِبَار الشَّرْع الذُّكُورَة وَالْأُنُوثَة، ونقطع بِأَن لَا فَارق بَينهمَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَأما الْخَفي: فَهُوَ خلاف الْجَلِيّ، وَهُوَ مَا كَانَ احْتِمَال تَأْثِير الْفَارِق فِيهِ قَوِيا، كقياس الْقَتْل بمثقل على الْقَتْل بمحدد فِي وجوب الْقصاص، وَقد قَالَ أَبُو حنفية بِعَدَمِ وُجُوبه فِي المثقل. وقسمه بَعضهم إِلَى: جلي وخفي [و] وَاضح. فالجلي: مَا تقدم، والخفي: قِيَاس الشّبَه، والواضح: مَا كَانَ بَينهمَا. وَقَالَ بَعضهم: الْجَلِيّ مَا كَانَ ثُبُوت الحكم فِيهِ فِي الْفَرْع أولى من الأَصْل كالضرب مَعَ التأفيف. قَالَ بَعضهم: وَيَنْبَغِي تمثيله بِقِيَاس العمياء على العوراء فِي منع التَّضْحِيَة بهَا. والواضح: مَا كَانَ مُسَاوِيا لَهُ كالنبيذ مَعَ الْخمر. / والخفي: مَا كَانَ دونه كقياس اللينوفر على الْأرز بِجَامِع الطّعْم، وَكَونه ينْبت فِي المَاء، وَيرجع ذَلِك إِلَى الِاصْطِلَاح وَلَا مشاحة فِيهِ. قَالَ فِي " الْمقنع ": وَقيل الْجَلِيّ قِيَاس الْمَعْنى، والخفي قِيَاس الشّبَه، وَقيل: الْجَلِيّ مَا فهمت علته كَقَوْلِه: " لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3459 قَوْله: (وَقِيَاس عِلّة بِأَن صرح فِيهِ بهَا، وَقِيَاس دلَالَة بِأَن جمع فِيهِ بِمَا [يلازم] الْعلَّة، أَو جمع بِأحد موجبي الْعلَّة فِي الأَصْل لملازمة الآخر، وَقِيَاس فِي معنى الأَصْل بِأَن جمع بِنَفْي الْفَارِق كالأمة فِي الْعتْق) . يَنْقَسِم الْقيَاس بِاعْتِبَار علته إِلَى قِيَاس عِلّة، وَقِيَاس دلَالَة، وَقِيَاس فِي معنى الأَصْل. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يكون بِذكر الْجَامِع أَو بإلغاء الْفَارِق، فَإِن كَانَ بِذكر الْجَامِع فالجامع إِن كَانَ هُوَ الْعلَّة سمي قِيَاس الْعلَّة. كَقَوْلِنَا فِي المثقل: قتل عمد عدوان فَيجب فِيهِ الْقصاص كالجارح. وَإِن كَانَ الْجَامِع وَصفا لَا زما من لَوَازِم الْعلَّة، أَو أثرا من آثارها، أَو حكما من أَحْكَامهَا، فَهُوَ قِيَاس الدّلَالَة؛ لِأَن الْمَذْكُور لَيْسَ عين الْعلَّة بل شَيْء يدل عَلَيْهَا. مِثَال الأول: قِيَاس النَّبِيذ على الْخمر بِجَامِع الرَّائِحَة الفائحة الْمُلَازمَة للشدة المطربة، وَلَيْسَت نفس الْعلَّة وَإِنَّمَا هِيَ لَازِمَة لَهَا. وَمِثَال الثَّانِي: قَوْلنَا فِي المثقل: قتل أَثم بِهِ فَاعله من حَيْثُ إِنَّه قتل فَوَجَبَ فِيهِ الْقصاص كالجارح، فالأثم بِهِ لَيْسَ نفس الْعلَّة بل أثر من أثارها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3460 وَمِثَال الثَّالِث: قَوْلنَا فِي قطع الْأَيْدِي بِالْيَدِ الْوَاحِد ة: قطع يَقْتَضِي وجوب الدِّيَة عَلَيْهِم فَيكون وُجُوبه كوجوب الْقصاص عَلَيْهِم، فوجوب الدِّيَة لَيْسَ عين عِلّة الْقصاص بل حكم من أَحْكَامهَا. فَإِن كَانَ بإلغاء الْفَارِق فَهُوَ الْقيَاس فِي معنى الأَصْل كإلحاق الْبَوْل فِي إِنَاء وصبه فِي المَاء الدَّائِم بالبول فِيهِ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَمثل ابْن الْحَاجِب مَا يكون الْجَامِع فِيهِ بِلَازِم الْعلَّة بِقِيَاس قطع الْجَمَاعَة بِالْوَاحِدِ على قَتلهمْ بِالْوَاحِدِ بِوَاسِطَة اشتراكهما فِي وجوب الدِّيَة على الْجَمِيع، فَإِن الْجَامِع / الَّذِي هُوَ وجوب الدِّيَة على الْجَمَاعَة لَازم الْعلَّة فِي الأَصْل، وَهِي الْقَتْل الْعمد الْعدوان، وَوُجُوب الدِّيَة عَلَيْهِم إِنَّمَا هُوَ أحد موجبي الْعلَّة الَّذِي هُوَ وجوب الدِّيَة، ليستدل بِهِ على مُوجبهَا الآخر وَهُوَ وجوب الْقصاص عَلَيْهِم. قَالَ: وَالْأولَى أَن يَجْعَل هَذَا مِثَالا لكَون الْجَامِع حكما من أَحْكَام الْعلَّة. ويمثل للجامع بِمَا يلازم الْعلَّة بِقِيَاس النَّبِيذ على [الْخمر] بِجَامِع الرَّائِحَة الْمُلَازمَة للسكر ". وَذكر ابْن حمدَان فِي " الْمقنع " للْقِيَاس تقاسيم فَذكر مَا ذَكرْنَاهُ. وَقَالَ: تَقْسِيم آخر: إِمَّا مُؤثر الْعلَّة الجامعة فِيهِ نَص أَو إِجْمَاع، أَو أثر عينهَا فِي عين الحكم أَو فِي جنسه، أَو جِنْسهَا فِي عين الحكم، أَو ملائم أثر جنس الْعلَّة فِيهِ فِي جنس الحكم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3461 ثمَّ قَالَ: تَقْسِيم آخر: وَهُوَ أَن طرق إِثْبَات الْعلَّة المستنبطة: [الْمُنَاسبَة] ، أَو الشّبَه أَو السبر والتقسيم، أَو الطَّرْد وَالْعَكْس، فَالْأول قِيَاس الإخالة، وَالثَّانِي قِيَاس الشّبَه، وَالثَّالِث قِيَاس السبر، وَالرَّابِع قِيَاس الطَّرْد. انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3462 (قَوْله (فصل)) (الْأَرْبَعَة وَغَيرهم يجوز التَّعَبُّد بِهِ عقلا، وَقيل: لَا، فَقيل: لعدم معرفَة الحكم مِنْهُ، وَقيل: [لوُجُوب] الحكم المتضاد، وَقيل: لِأَنَّهُ أدون البيانين مَعَ الْقُدْرَة على أعلاهما، وأوجبه القَاضِي وَأَبُو الْخطاب والقفال وَجمع) . قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: يجوز التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فِي الشرعيات عقلا عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3463 وَعَامة الْفُقَهَاء والمتكلمين، خلافًا للشيعة، وَجَمَاعَة من معتزلة بَغْدَاد، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3464 كالنظام، والجعفرين، وَيحيى الإسكافي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3465 فعلى قَول هَؤُلَاءِ. قيل: لعدم معرفَة الحكم مِنْهُ لبنائه على الْمصلحَة الَّتِي لَا تعرف بِهِ. وَقيل: لوُجُوب الحكم المتضاد. وَقيل: لِأَنَّهُ أدون البيانين مَعَ الْقُدْرَة على أعلاهما. وأوجبه أَبُو الْخطاب، والقفال، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3466 وَقَالَهُ القَاضِي أَيْضا. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَمِنْهُم من مَنعه عقلا. فَقيل: / لِأَنَّهُ قَبِيح فِي نَفسه فَيحرم. وَقيل: لِأَنَّهُ يجب على الشَّارِع أَن يستنصح لِعِبَادِهِ، وينص لَهُم على الْأَحْكَام كلهَا، وَهَذَا على رَأْي الْمُعْتَزلَة الْمَعْلُوم فَسَاده، وَذكر أقوالا غير ذَلِك. وَمعنى التَّعَبُّد بِهِ عقلا: أَنه يجوز أَن يَقُول الشَّارِع: إِذا ثَبت حكم فِي صُورَة، وَوجد فِي صُورَة أُخْرَى مُشَاركَة للصورة الأولى فِي وصف، وَغلب على ظنكم أَن هَذَا الحكم فِي الصُّورَة الأولى مُعَلل بذلك الْوَصْف، فقيسوا الصُّورَة الثَّانِيَة على الأولى. اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - بِأَنَّهُ لَا يمْتَنع عقلا نَحْو قَول الشَّارِع: حرمت الْخمر لإسكاره فقيسوا عَلَيْهِ مَا فِي مَعْنَاهُ. قَالَ ابْن عقيل والآمدي: لَا خلاف بَين الْعُقَلَاء فِي حسن ذَلِك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3467 وَلِأَنَّهُ وَقع شرعا كَمَا يَأْتِي. وَلِأَنَّهُ يتَضَمَّن دفع ضَرَر مظنون وَهُوَ وَاجِب عقلا، فَالْقِيَاس وَاجِب عقلا، وَالْوُجُوب يسْتَلْزم الْجَوَاز. قَالُوا: الْعقل يمْنَع وُقُوع مَا فِيهِ خطأ، لِأَنَّهُ مَحْذُور. رد: منع احْتِيَاطًا لَا إِحَالَة، ثمَّ لَا منع مَعَ ظن الصَّوَاب بِدَلِيل الْعُمُوم وَخبر الْوَاحِد وَالشَّهَادَة. قَالُوا: أَمر الشَّارِع بمخالفة الظَّن كَالْحكمِ بِشَاهِد وَاحِد، وَشَهَادَة النِّسَاء فِي الزِّنَا، وَنِكَاح أَجْنَبِيَّة من عشر فِيهِنَّ رضيعة مشتبهة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3468 رد: لمَانع شَرْعِي لَا عَقْلِي لما سبق. وَاحْتج النظام: بِأَن الشَّرْع فرق بَين المتماثلات كإيجاب الْغسْل بالمني لَا بالبول، وَغسل بَوْل صبية ونضح بَوْل صبي، وَالْجَلد بِنِسْبَة زنا لَا كفر، وَقطع سَارِق قَلِيل لَا غَاصِب كثير، وَالْقَتْل بِشَاهِدين لَا الزِّنَا، وعدتي موت وَطَلَاق. وَجمع بَين المختلفات: كردة وزنا فِي إِيجَاب قتل، وَقتل صيد عمدا أَو خطأ فِي ضَمَانه، وَقَاتل، وواطىء فِي صَوْم رمصان، وَمظَاهر فِي كَفَّارَة. رد: / فرق لعدم صَلَاحِية مَا وَقع جَامعا أَو لمعارض لَهُ فِي أصل أَو فرع، وَجمع لاشتراك المختلفات فِي معنى جَامع، أَو اخْتِصَاص كل مِنْهُمَا بعلة مثل حكم خِلَافه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3469 وألزمه فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره بِالْقِيَاسِ الْعقلِيّ كَقطع الْعرق، والرفق بِالصَّبِيِّ، كل مِنْهُمَا يكون حسنا وقبيحا وهما متفقان، فالرفق بِهِ وضربه حسنان، وهما مُخْتَلِفَانِ معنى. قَالُوا: الْقيَاس فِيهِ اخْتِلَاف لتَعَدد الأمارة والمجتهد فَيرد لقَوْله تَعَالَى: {وَلَو كَانَ من عِنْد غير اللَّهِ لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} [النِّسَاء: 82] . رد: بنقيضه بِالظَّاهِرِ. وَبِأَن مُرَاد الْآيَة تناقضه، أَو مَا يخل ببلاغته، للختلاف فِي الْأَحْكَام قطعا. قَالُوا: إِذا اخْتلف قِيَاس مجتهدين: فَإِن كَانَ كل مُجْتَهد مصيبا: لزم كَون الشَّيْء ونقيضه حَقًا، وَإِلَّا فتصويب أحد الظنين مَعَ استوائهما تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3470 رد: بِالظَّاهِرِ، وَحكم اللَّهِ يخْتَلف لتَعَدد الْمُجْتَهد والمقلد والزمن، فَلَا اتِّحَاد فَلَا تنَاقض، وَبِأَن أحد الْمُجْتَهدين لَا بِعَيْنِه مُصِيب فَلَا يلْزم تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح. قَالُوا: مُقْتَضى الْقيَاس إِن وَافق الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة فمستغنى عَنهُ، وَإِلَّا لم يرفع الْيَقِين بِالظَّنِّ. رد: بِالظَّاهِرِ. قَالُوا: حكم اللَّهِ يسْتَلْزم خبر اللَّهِ عَنهُ؛ لِأَنَّهُ مُفَسّر بخطابه، ويستحيل خَبره بِلَا تَوْقِيف. رد: الْقيَاس تَوْقِيف؛ لثُبُوته بِنَصّ أَو إِجْمَاع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3471 قَالُوا: إِن تعَارض عِلَّتَانِ، فَالْعَمَل بِأَحَدِهِمَا تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح، وَبِهِمَا تنَاقض. رد: بِالظَّاهِرِ، ثمَّ لَا تنَاقض إِن تعدد الْمُجْتَهد، وَإِلَّا رجح، فَإِن تعذر وقف. وَذكر الْآمِدِيّ: أَنه عرف من مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد يعْمل بِمَا شَاءَ. وَكَذَا خَيره ابْن عقيل كالكفارة قَالَ: وَهَذَا لَا يَجِيء على تصويب كل مُجْتَهد، وَنحن وكل من لم يصوبه على أَنه لَا بُد من تَرْجِيح فعدمه لتَقْصِيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3472 قَالُوا: كأصول الدّين. رد: لَا جَامع، ثمَّ / فِيهَا أَدِلَّة تَقْتَضِي الْعلم ذكره فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره. وَفِي " الْوَاضِح ": لَيْسَ فِي أصل صفة جعلت أَمارَة لإِثْبَات أصل آخر، وَلَو قُلْنَا بِهِ فمنعنا لعدم الطَّرِيق، كَمَا لَو عدمت فِي الْفُرُوع لَا لكَونه أصلا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3473 وَقَالَ الطوفي: فِي كل مِنْهُمَا قِيَاس بِحَسب مَطْلُوبَة قطعا، فِي الأول وظنا فِي الثَّانِي، ثمَّ هَذَا قِيَاس مِنْكُم، فَإِن صَحَّ صَحَّ قَوْلنَا. وَقيل: يجْرِي فِي العقليات عِنْد أَكثر الْمُتَكَلِّمين. قَالُوا: بَيَان بالأدون. رد: بِالظَّاهِرِ، ثمَّ قد يكون مصلحَة. قَالُوا: مَبْنِيّ على الْمصَالح وَلَا يعلمهَا إِلَّا اللَّهِ. رد: تعرف بِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3474 الْقَائِل " يجب ": النَّص متناه وَالْأَحْكَام لَا تتناهى، فَيجب؛ لِئَلَّا يَخْلُو بَعْضهَا عَن حكم، وَهُوَ خلاف الْقَصْد من بعثة الرُّسُل. رد: إِنَّمَا كلف النَّبِي بِمَا يُمكنهُ تبليغه خطابا، وَأَيْضًا الْعُمُوم يستوعبها نَحْو: كل مُسكر حرَام. أجَاب فِي " الرَّوْضَة ": إِن تصور فَلَيْسَ بواقع. قَالَ ابْن مُفْلِح: " كَذَا قَالَ، وَذكر بعض أَصْحَابنَا اخْتِلَاف النَّاس فِيهِ، فَقيل: لَا يُمكن، وَقيل: بلَى، فَقيل: وَقع. قَالَ: وَهُوَ الصَّوَاب. وَقيل: لَا، فَقيل النَّص يَفِي بِالتَّعْلِيلِ، وَقيل: بالكثير أَو أَكثر " انْتهى. قَوْله: (فعلى الْجَوَاز وَقع شرعا عندنَا وَعند الْمُعظم، وَمنعه دَاوُد وَبَعض أَصْحَابنَا وَجمع، وَعَن أَحْمد مثله، فأثبتها أَبُو الْخطاب، وَحملهَا القَاضِي وَابْن عقيل على قِيَاس خَالف نصا، وَابْن رَجَب على من لم يبْحَث عَن الدَّلِيل، أَو لم يحصل شُرُوطه، فَعَلَيهِ قيل: منع الشَّرْع مِنْهُ، وَقيل: لم يَأْتِ دَلِيل بِجَوَازِهِ، وعَلى الأول وُقُوعه بِدَلِيل السّمع لَا الْعقل، عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر قَطْعِيّ لَا ظَنِّي فِي الْأَصَح) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3475 قَالَ ابْن مُفْلِح: " الْقَائِل بِجَوَازِهِ عقلا قَالَ: وَقع شرعا. إِلَّا دَاوُد، وَابْنه، [و] القاشاني، والنهرواني، فَإِن عِنْدهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3476 منع الشَّرْع مِنْهُ. وَقيل: بل بِلَا دَلِيل فِيهِ بِجَوَازِهِ. وَأكْثر أَصْحَابنَا وَغَيرهم وَقع التَّعَبُّد بِهِ سمعا. وَقيل: وعقلا. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: " والقائلون بحجيته اخْتلفُوا هَل ذَلِك بِالشَّرْعِ / أَو بِالْعقلِ؟ قَالَ الْأَكْثَر بِالْأولِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3477 وَقَالَ الْقفال وَأَبُو الْحُسَيْن بِالثَّانِي، وَأَن الْأَدِلَّة السمعية وَردت مُؤَكدَة، وَلَو لم ترد لَكَانَ الْعَمَل بِهِ وَاجِبا. وَقَالَ [الدقاق] : يجب الْعَمَل بِهِ فِي الشَّرْع وَالْعقل حَكَاهُ فِي " اللمع ". ". وَفِي كَلَام القَاضِي، وَأبي الْخطاب، وَابْن عقيل: أَنه قَطْعِيّ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3478 وَعَلِيهِ الْأَكْثَر. وَفِي كَلَامهم أَيْضا: أَنه ظَنِّي. وَذكر الْآمِدِيّ: الْقطع عَن الْجَمِيع، وَعند أبي الْحُسَيْن ظَنِّي. قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3479 وَذكر ابْن حَامِد عَن بعض أَصْحَابنَا: لَيْسَ بِحجَّة لقَوْل أَحْمد فِي رِوَايَة الْمَيْمُونِيّ: " يجْتَنب الْمُتَكَلّم هذَيْن الْأَصْلَيْنِ الْمُجْمل وَالْقِيَاس ". وَحمله القَاضِي، وَابْن عقيل على قِيَاس عَارضه سنة. قَالَ أَبُو الْخطاب: وَالظَّاهِر خِلَافه. قَالَ ابْن رَجَب فِي آخر " شرح التِّرْمِذِيّ ": قَالَ أَحْمد للميموني: " خصلتان يَنْبَغِي أَن يتهيب الْكَلَام: الْمُجْمل وَالْقِيَاس، فَمن تكلم فِي الْفِقْه يجتنبهما فَإِنِّي أراهما يحْملَانِ الرجل على مَا يرغب لَهُ عَنهُ " انْتهى. قَالَ ابْن رَجَب: فَتَنَازَعَ أَصْحَابنَا فِي مَعْنَاهُ: فَقَالَ بعض الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين كَأبي الْخطاب وَغَيره: هَذَا يدل على الْمَنْع فِي اسْتِعْمَال الْقيَاس فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة بِالْكُلِّيَّةِ. وَأكْثر الْأَصْحَاب لم يثبتوا عَن أَحْمد فِي الْعَمَل بِالْقِيَاسِ خلافًا كَابْن أبي مُوسَى، وَالْقَاضِي، وَابْن عقيل وَغَيرهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3480 قَالَ ابْن رَجَب: وَهُوَ الصَّوَاب. ثمَّ مِنْهُم من قَالَ أَمر باجتناب الْقيَاس، إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْقيَاس الْمُخَالف للنَّص. وَهَذَا ضَعِيف وَلأَجل ضعفه حمل أَبُو الْخطاب الرِّوَايَة على [نفي] الْقيَاس جملَة. قَالَ ابْن رَجَب: وَالصَّوَاب أَنه أَرَادَ اجْتِنَاب الْعَمَل بِالْقِيَاسِ قبل الْبَحْث عَن السّنَن والْآثَار، وَعَن الْقيَاس قبل إحكام النّظر فِي استجماع شُرُوط صِحَّته، كَمَا يَفْعَله كثير من الْفُقَهَاء، وَيدل على هَذَا وُجُوه، وَذكرهَا. قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَالْمرَاد من الْإِنْكَار الْقيَاس الْبَاطِل بِأَن صدر عَن غير مُجْتَهد، أَو فِي / مُقَابلَة نَص، أَو فِيمَا اعْتبر فِيهِ الْعلم، أَو أَصله فَاسد، أَو على من غلب وَلم يعرف الْأَخْبَار، أَو احْتج بِهِ قبل طلب نَص لَا يعرفهُ مَعَ رجائه لَو طلب. فَإِنَّهُ لَا يجوز عندأحمد وَالشَّافِعِيّ وفقهاء الحَدِيث، وَلِهَذَا جَعَلُوهُ بِمَنْزِلَة التَّيَمُّم قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَطَرِيقَة الْحَنَفِيَّة تَقْتَضِي جَوَازه بِدَلِيل مَا سبق جمعا وتوفيقا " انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3481 وَقد احْتج القَاضِي وَغَيره على الْعَمَل بِالْقِيَاسِ بقول أَحْمد: " لَا يَسْتَغْنِي أحد عَن الْقيَاس "، وَقَوله " وَمَا تصنع بِهِ، وَفِي الْأَثر مَا يُغْنِيك عَنهُ ". وَقَوله فِي رِوَايَة الْمَيْمُونِيّ: " سَأَلت الشَّافِعِي عَنهُ فَقَالَ: ضَرُورَة وَأَعْجَبهُ ذَلِك ". اسْتدلَّ للْأولِ وَهُوَ الصَّحِيح بقوله تَعَالَى؛ {فأعتبروا يَا أولى الْأَبْصَار} [الْحَشْر: 2] ، وَالِاعْتِبَار اختبار شَيْء بِغَيْرِهِ وانتقال من شَيْء إِلَى غَيره، وَالنَّظَر فِي شَيْء ليعرف بِهِ آخر من جنسه. فَإِن قيل: هُوَ الاتعاظ لسياق الْآيَة. رد: مُطلق. فَإِن قيل: الدَّال على الْكُلِّي لَا يدل على الجزئي. رد: بلَى. ثمَّ مُرَاد الشَّارِع الْقيَاس الشَّرْعِيّ؛ لِأَن خطابه غَالِبا بِالْأَمر الشَّرْعِيّ. وَفِي كَلَام أَصْحَابنَا وَغَيرهم: عَام لجَوَاز الِاسْتِثْنَاء ثمَّ مُتَحَقق فِيهِ؛ لِأَن المتعظ بِغَيْرِهِ منتقل من الْعلم بِغَيْرِهِ إِلَى نَفسه فَالْمُرَاد قدر مُشْتَرك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3482 وَمنعه الْآمِدِيّ بِمَعْنى الاتعاظ، كَقَوْلِهِم: اعْتبر فلَان فاتعظ، وَالشَّيْء لَا يَتَرَتَّب على نَفسه. وَجَوَابه: منع صِحَّته. فَإِن قيل: لَو كَانَ بِمَعْنى الْقيَاس لما حسن ترتيبه فِي الْآيَة. رد: بِالْمَنْعِ مَعَ تحقق الِانْتِقَال فِي الاتعاظ. وَسبق فِي الْأَمر ظُهُور صِيغَة " افْعَل " فِي الطّلب. وَأَيْضًا سبق خبر الخثعمية وَغَيره فِي مسالك الْعلَّة. وَسبق خبر معَاذ فِي الْإِجْمَاع. وروى سعيد بِإِسْنَاد جيد معنى حَدِيث معَاذ عَن ابْن مَسْعُود قَوْله، وَعَن الشّعبِيّ عَن عمر قَوْله، وَولد لست سِنِين خلت من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3483 خِلَافَته. قَالَ أَحْمد الْعجلِيّ: مرسله صَحِيح، وبإسناد جيد مَعْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس فعله، وللنسائي قَول ابْن مَسْعُود. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3484 وَله عَن شُرَيْح عَن عمر / " بعد مَا قضى بِهِ الصالحون فَإِن شِئْت تقدم والتأخر خير لَك ". وَعَن أم سَلمَة مَرْفُوعا: " إِنَّمَا أَقْْضِي لكم برأيي فِيمَا لم ينزل عَليّ فِيهِ ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3485 حَدِيث حسن، رَوَاهُ أَبُو عبيد، وَأَبُو دَاوُد، وَكَذَا المعمري، وَالطَّبَرَانِيّ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3486 وَالْبَيْهَقِيّ وَغَيرهم، وَزَادُوا فِي [آخِره] " الْوَحْي ". وَاحْتج القَاضِي وَأَبُو الْخطاب وَغَيرهمَا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا اجْتهد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3487 الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِن أَخطَأ فَلهُ أجر " رَوَاهُ مُسلم. فَقيل [لَهُم] : يحْتَمل أَن اجْتِهَاده فِي تَأْوِيل أَو بِنَاء لفظ على لفظ. فَقَالُوا: عَام. وَفِي " الرَّوْضَة ": " يتَّجه عَلَيْهِ أَن يجْتَهد فِي تَحْقِيق المناط لَا تَخْرِيجه ". وَاحْتج أَصْحَابنَا وَغَيرهم: بِإِجْمَاع الصَّحَابَة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3488 قَالَ بعض أَصْحَابنَا والآمدي وَغَيرهم: هُوَ أقوى الْحجَج. فَمِنْهُ اخْتلَافهمْ الْكثير الشَّائِع المتباين فِي مِيرَاث الْجد مَعَ الْإِخْوَة، وَفِي الأكدرية، والخرقاء، وَلَا نَص عِنْدهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3489 وَلِهَذَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَن عمر قَالَ فِي الْخطْبَة على الْمِنْبَر " ثَلَاث " وددت أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عهد إِلَيْنَا فِيهِنَّ عهدا ننتهي إِلَيْهِ: الْجد، والكلالة، وأبواب من أَبْوَاب الرِّبَا ". وَصَحَّ عَن [ابْن] عمر: " أجرؤكم على الْجد أجرؤكم على جَهَنَّم "، وَصَحَّ عَن ابْن الْمسيب، عَن عمر وَعلي، وَرَوَاهُ سعيد فِي " سنَنه " الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3490 بِإِسْنَاد جيد عَن الْمسيب مَرْفُوعا. وَضرب زيد لعمر مثلا " بشجرة انشعب من أَصْلهَا غُصْن، ثمَّ انشعب من الْغُصْن خوطان، فالغصن يجمع الخوطين دون الأَصْل، وَأحد الخوطين أقرب إِلَى أَخِيه مِنْهُ إِلَى الأَصْل ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3491 وَضرب عَليّ وَابْن عَبَّاس لعمر مثلا مَعْنَاهُ: أَن سيلا سَالَ فخلج مِنْهُ خليج، ثمَّ خلج من ذَلِك الخليج شعْبَان. وَصَحَّ عَن عمر قَوْله لعُثْمَان: " رَأَيْت فِي الْجد رَأيا فَإِن رَأَيْتُمْ فَاتَّبعُوهُ، فَقلت: إِن نتبع رَأْيك فَهُوَ رشد، وَإِن نتبع رَأْي الشَّيْخ قبلك فَنعم ذُو الرَّأْي كَانَ ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3492 وَسُئِلَ عُبَيْدَة عَن مَسْأَلَة فِيهَا جد فَقَالَ: " حفظت / عَن عمر فِيهِ مائَة قصَّة مُخْتَلفَة ". قَالَ ابْن حزم: لَا إِسْنَاد أصح مِنْهُ. وَصَحَّ عَن ابْن عَبَّاس وَاحْتج بِهِ ابْن حزم - أَنه قَالَ لزيد عَن قَوْله فِي العمريتين: " أتقوله بِرَأْيِك، أم تَجدهُ فِي كتاب اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ: برأيي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3493 لَا افضل أما على أَب ". وَمِنْه اخْتلَافهمْ فِي قَوْله لزوجته: " أَنْت عَليّ حرَام ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3494 (صفحة فارغة) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3495 وَكتب عمر إِلَى أبي مُوسَى: " مَا لم يبلغك فِي الْكتاب وَالسّنة، اعرف الْأَمْثَال [والأشباه] ، ثمَّ قس الْأُمُور عِنْد ذَلِك فاعمد إِلَى أحبها إِلَى اللَّهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3496 وأشبهها بِالْحَقِّ " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، والخلال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3497 قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة أَحْمد بن الْحسن قَالَ عمر بن الْخطاب: " اعرف الْأَمْثَال [والأشباه] وقايس الْأُمُور ". وَقَالَ أَحْمد أَيْضا فِي رِوَايَة بكر: " على الإِمَام وَالْحَاكِم يرد عَلَيْهِ الْأَمر أَن يقيس وَيُشبه، كَمَا كتب عمر إِلَى شُرَيْح: أَن قس الْأُمُور وَكَذَا وَكَذَا، فَأَما رجل لم يُقَلّد إِلَيْهِ هَذَا فأرجو أَن لَا يلْزمه ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3498 وَسُئِلَ فِي رِوَايَة يُوسُف بن مُوسَى عَن الْقيَاس فَقَالَ: " ذهب قوم إِلَيْهِ؛ لِأَن عمر قَالَ: يشبه بالشَّيْء وَقَالَ آخَرُونَ: لَا. قيل: فَقَالَ فَمَا تَقول؟ قَالَ: أعفني. قيل: من فعله يعنف. قَالَ: إِذا وضع الْكتب وَأكْثر ". وَمرَاده مَا سبق أَنه ضَرُورَة. وَصَحَّ عَن عُثْمَان " الْقَضَاء بتوريث المبتوتة فِي مرض الْمَوْت " رَوَاهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3499 مَالك، وَالشَّافِعِيّ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3500 وَأحمد، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن عمر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3501 وَلما حصر عُثْمَان طلق أم الْبَنِينَ، فَورثَهَا عَليّ وَقَالَ: " تَركهَا حَتَّى أشرف على الْمَوْت طَلقهَا ". وَسبق قَول عَليّ: " إِذا سكر هذى، وَإِذا هذى افترى ". وَلم يُنكر شَيْء مِمَّا سبق. فَإِن قيل: آحَاد وَالْمَسْأَلَة قَطْعِيَّة. ثمَّ لَعَلَّ عَمَلهم بِغَيْر الْقيَاس. ثمَّ من عمل بعض الصَّحَابَة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3502 ثمَّ لَا نسلم عدم الْإِنْكَار فَلَعَلَّهُ لم ينْقل. ثمَّ قد نقل فَعَن الصّديق: " أَي أَرض تُقِلني؟ أَو أَي سَمَاء تُظِلنِي؟ أَو أَيْن أذهب؟ أَو كَيفَ أصنع؟ أَن قلت فِي آيَة من كتاب اللَّهِ برأيي أَو بِمَا لَا أعلم ". قَالَ ابْن حزم ثَبت عَنهُ. وَفِي " الصَّحِيح " عَن الْفَارُوق /: " اتهموا الرَّأْي على الدّين ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3503 وَكَذَا عَن سهل بن حنيف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3504 وَعَن عَليّ " لَو كَانَ الدّين بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَل الْخُف أولى بِالْمَسْحِ من أَعْلَاهُ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيره. عَن عمر: " إيَّاكُمْ وَأَصْحَاب الرَّأْي فَإِنَّهُم أَعدَاء السّنَن أعيتهم الْأَحَادِيث أَن يحفظوها فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فضلوا وأضلوا " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3505 وَابْن عبد الْبر. وَعَن [ابْن] مَسْعُود: " يَجِيء قوم يقيسون الْأُمُور بآرائهم "، رَوَاهُ الدَّارمِيّ، والخلال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3506 وَرَوَوْهُ أَيْضا بِإِسْنَاد جيد عَن ابْن سِيرِين: " أول من قَاس إِبْلِيس، وَمَا عبدت الشَّمْس وَالْقَمَر إِلَّا بالمقاييس ". وَرَوَوْهُ عَن الشّعبِيّ: " إيَّاكُمْ والمقايسه ". قَالَ ابْن حزم: القَوْل بِالْقِيَاسِ أَو بِالرَّأْيِ لَا يحل فِي الدّين. أبطلناه بِالنَّصِّ وَالْعقل، وَأجْمع الصَّحَابَة على إِبْطَاله؛ لأَنهم يصدقون بِالْكتاب وَفِيه: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} [الْمَائِدَة: 3] ، {فَإِن تنازعتم فِي شىء} الْآيَة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3507 وكل رَأْي جَاءَ عَنْهُم فَلَيْسَ أَنه إِلْزَام أَو حق لكنه إِشَارَة بِعَفْو أَو صلح أَو تورع. ثمَّ احْتج بِخَبَر عَوْف بن مَالك: " تفترق أمتِي على بضع وَسبعين فرقة، أعظمها فتْنَة على أمتِي قوم يقيسون الْأُمُور برأيهم، فيحللون الْحَرَام ويحرمون الْحَلَال ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3508 لَكِن الحَدِيث مُنكر رده الْحفاظ. سلمنَا عدم الْإِنْكَار لكنه لَا يدل على الْمُوَافقَة لاحْتِمَال خوف أَو غَيره. ثمَّ لَا حجَّة فِي إِجْمَاعهم. ثمَّ هِيَ أقيسة مَخْصُوصَة. ثمَّ يجوز لَهُم خَاصَّة. رد الأول: يتواتراها معنى، كشجاعة عَليّ وسخاء حَاتِم، ثمَّ هِيَ ظنية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3509 وَالثَّانِي: بِأَنَّهُ دلّ السِّيَاق والقرائن أَن الْعَمَل بِهِ، وَلَو كَانَ بِغَيْرِهِ لظهر واشتهر وَنقل، ولأصحابنا الجوابان. وَسبق الثَّالِث وَالرَّابِع وَالْخَامِس وَالسَّادِس فِي الْإِجْمَاع. وَالْمرَاد من الْإِنْكَار مَا تقدم قَرِيبا من مُرَاد الإِمَام أَحْمد وَحمل كَلَامه عَلَيْهِ. وَدَعوى ابْن حزم بَاطِلَة. وَجَوَاب مَا احْتج بِهِ من الْكتاب مَا سبق، وَمن الْبَاطِل حجَّته بقوله: {فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال} [النَّحْل: 74] ، ثمَّ الْقيَاس مَأْمُور بِهِ شرعا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3510 وَكَذَا جَوَاب من احْتج بقوله تَعَالَى: {لَا تقدمُوا بَين يَدي اللَّهِ / وَرَسُوله} [الحجرات: 1] ، {وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل اللَّهِ} [الْمَائِدَة: 49] ، {مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء} [الْأَنْعَام: 38] . وَقيل: الْكتاب اللَّوْح الْمَحْفُوظ. قَوْلهم: أقيسة مَخْصُوصَة. رد: بِمَا سبق، ثمَّ عمِلُوا لظهورها كالأدلة الظَّاهِرَة لَا لخصوصها. وَقَوْلهمْ: يجوز لَهُم خَاصَّة. رد: بِمَا سبق، ثمَّ لَا قَائِل بالتفرقة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3511 وَأَيْضًا: ظن تَعْلِيل حكم الأَصْل بعلة تُوجد فِي الْفَرْع يُوجب التَّسْوِيَة، والنقيضان لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يرتفعان، وَالْعَمَل بالمرجوح مَمْنُوع، فالراجح مُتَعَيّن. قَالُوا: يُؤَدِّي إِلَى التَّفَرُّق والمنازعة الْمنْهِي عَنْهُمَا. رد: بِالْمَنْعِ، ثمَّ بِخَبَر الْوَاحِد والعموم، وَالله أعلم. قَوْله: (وَهُوَ حجَّة فِي الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة اتِّفَاقًا) . قَالَ فِي " الْمَحْصُول " مَا مَعْنَاهُ: إِذا كَانَ تَعْلِيل الأَصْل قَطْعِيا وَوُجُود الْعلَّة فِي الأَصْل قَطْعِيا كَانَ الْقيَاس قَطْعِيا مُتَّفقا عَلَيْهِ، وَأَن الْقيَاس الظني حجَّة فِي الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة اتِّفَاقًا كمداواة الْأَمْرَاض، والأغذية، والأسفار والمتاجر وَغير ذَلِك. إِنَّمَا النزاع فِي كَونه حجَّة فِي الشرعيات ومستندات الْمُجْتَهدين. وَتَابعه فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيرهمَا. قَوْله: (وَفِي غَيرهَا أَيْضا عِنْد أَكثر الْقَائِل بِهِ - أَن الْقيَاس حجَّة فِي غير الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة كالشرعيات -، وَمنع الباقلاني فِي قِيَاس الْعَكْس، وَابْن عَبْدَانِ مَا لم يضْطَر إِلَيْهِ، وَقوم فِي أصُول الْعِبَادَات، وَجمع: الجزئي الحاجي إِذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3512 لم يرد نَص على وَفقه، وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: فِي حد، وَكَفَّارَة، وَبدل، وَرخّص، ومقدر، مَعَ تقديرهم الْجُمُعَة بأَرْبعَة، وخرق الْخُف بِثَلَاثَة أَصَابِع قِيَاسا، وَجمع: سَبَب وَشرط ومانع، وَفِي " الْمُغنِي ": لَا يجْرِي فِي المظان وَإِنَّمَا يتَعَدَّى الحكم بتعدي سَببه، وَطَائِفَة فِي العقليات، وَقَالَ الطوفي فِيهِ قِيَاس قَطْعِيّ بِحَسب مَطْلُوبه، وَقوم: فِي الْعَادَات والحقائق) . أَي الْقيَاس حجَّة فِي غير الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة كالشرعيات وَغَيرهَا، وَهَذَا عَلَيْهِ الْعلمَاء من الْقَائِلين بِالْقِيَاسِ للأدلة الْمُتَقَدّمَة. وَلَكِن اسْتثْنى طوائف من الْعلمَاء مسَائِل من ذَلِك وَمنع الْقيَاس فِيهِ، فَمنع القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني وَغَيره كَونه حجَّة فِي قِيَاس الْعَكْس. قَالَ ابْن مُفْلِح /: " فَإِن قيل: مَا حكم قِيَاس الْعَكْس؟ قيل: حجَّة، ذكره القَاضِي وَغَيره من أَصْحَابنَا والمالكية، وَهُوَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3513 الْمَشْهُور عَن الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة، كالدلالة لطهارة دم السّمك بِأَكْلِهِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ نجسا لما أكل بِهِ، كالحيوانات النَّجِسَة دَمهَا، وَنَحْو: لَو سنت السُّورَة فِي الْأُخْرَيَيْنِ لسن الْجَهْر كالأوليين. وَفِي مُسلم من حَدِيث أبي ذَر: " وَفِي بعض أحدكُم صَدَقَة، قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ أَيَأتِي أَحَدنَا شَهْوَته وَيكون لَهُ فِيهَا أجر؟ قَالَ: أَرَأَيْتُم لَو وَضعهَا فِي حرَام أَكَانَ عَلَيْهِ وزر؟ فَكَذَلِك إِذا وَضعهَا فِي الْحَلَال كَانَ لَهُ أجر ". وَمنع مِنْهُ قوم مِنْهُم الباقلاني، وَسبق بَيَانه فِي أول الْقيَاس وَحده " انْتهى. وَقد حررنا هَذَا هُنَاكَ فَليُرَاجع. وَمنع ابْن عَبْدَانِ من الشَّافِعِيَّة من الْقيَاس إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة، بِأَن تحدث حَادِثَة تَقْتَضِي الضَّرُورَة معرفَة حكمهَا لَيْسَ فِيهَا نَص، فيقيس إِذا للْحَاجة إِلَيْهِ، بِخِلَاف مَا لم تقع فَلَا يجوز الْقيَاس فِيهِ لانْتِفَاء فَائِدَته. قُلْنَا: فَائِدَته الْعَمَل بِهِ فِيمَا إِذا وَقعت تِلْكَ الْمَسْأَلَة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3514 حَكَاهُ عَنهُ ابْن الصّلاح فِي " طبقاته " وَقَالَ: يَأْبَى هَذَا وضع الْأَئِمَّة الْكتب الطافحة بالمسائل القياسية من غير تَقْيِيد بحادثة. وَمنع قوم الْقيَاس فِي إِثْبَات أصُول الْعِبَادَات، فنفوا جَوَاز الصَّلَاة بِالْإِيمَاءِ المقيسة على صَلَاة الْقَاعِد بِجَامِع الْعَجز. قَالُوا: لِأَن الدَّوَاعِي تتوفر على فعل أصُول الْعِبَادَات وَمَا يتَعَلَّق بهَا، وَعدم نقل الصَّلَاة بِالْإِيمَاءِ الَّتِي هِيَ من ذَلِك يدل على عدم جَوَازهَا، فَلَا يثبت جَوَازهَا بِالْقِيَاسِ وَدفع ذَلِك بِمَنْعه ظَاهر. وَمنع جمع: الجزئي الحاجي، أَي: الَّذِي تَدْعُو الْحَاجة إِلَى مُقْتَضَاهُ إِذا لم يرد نَص على وَفقه فِي مُقْتَضَاهُ، كضمان الدَّرك وَهُوَ ضَمَان الثّمن للْمُشْتَرِي إِن خرج الْمَبِيع مُسْتَحقّا. الْقيَاس يَقْتَضِي مَنعه؛ لِأَنَّهُ ضَمَان مَا لم يجب / وَعَلِيهِ ابْن [سُرَيج] . وَالأَصَح صِحَّته لعُمُوم الْحَاجة إِلَيْهِ لمعاملة الغرباء وَغَيرهم، لَكِن بعد قبض الثّمن الَّذِي هُوَ سَبَب الْوُجُوب حَيْثُ يخرج الْمَبِيع مُسْتَحقّا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3515 والمثال غير مُطَابق، فَإِن الْحَاجة إِلَيْهِ دَاعِيَة إِلَيْهِ أَو إِلَى خِلَافه، فَإِن الْمَسْأَلَة مَأْخُوذَة من ابْن الْوَكِيل، وَقد قَالَ: قَاعِدَة الْقيَاس الجزئي إِذا لم يرد من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَان على وَفقه مَعَ عُمُوم الْحَاجة إِلَيْهِ فِي زَمَانه وَعُمُوم الْحَاجة إِلَى خِلَافه، هَل يعْمل بذلك الْقيَاس؟ فِيهِ خلاف وَذكر لَهُ صورا: مِنْهَا: ضَمَان الدَّرك وَهُوَ مِثَال للشق الثَّانِي من الْمَسْأَلَة. وَمِنْهَا وَهُوَ مِثَال الأول: صَلَاة الْإِنْسَان على من مَاتَ من الْمُسلمين فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا، وغسلوا وكفنوا فِي ذَلِك الْيَوْم. الْقيَاس يَقْتَضِي جَوَازهَا وَعَلِيهِ الرَّوْيَانِيّ، لِأَنَّهَا صَلَاة على غَائِب وَالْحَاجة دَاعِيَة إِلَى ذَلِك لنفع الْمُصَلِّي والمصلى عَلَيْهِم، وَلم يرد من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَان ذَلِك. وَوجه منع الْقيَاس فِي الشق الأول الِاسْتِغْنَاء عَنهُ بِعُمُوم الْحَاجة، وَفِي الثَّانِي بمعارضة عُمُوم الْحَاجة لَهُ. والمجيز فِي الأول قَالَ: لَا مَانع من ضم دَلِيل إِلَى آخر، وَفِي الثَّانِي قدم الْقيَاس على عُمُوم الْحَاجة. " وَمنعه أَبُو حنفية وَأَصْحَابه فِي حد وَكَفَّارَة وَبدل وَرخّص ومقدر. قيل: لِأَنَّهَا لَا يدْرك الْمَعْنى فِيهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3516 وَأجِيب: أَنه يدْرك فِي بَعْضهَا فَيجْرِي فِيهِ الْقيَاس كقياس النباش على السَّارِق فِي وجوب الْقطع، بِجَامِع أَخذ مَال الْغَيْر من حرز خُفْيَة. وَقِيَاس الْقَاتِل عمدا على الْقَاتِل خطا فِي وجوب الْكَفَّارَة بِجَامِع الْقَتْل بِغَيْر حق. وَقِيَاس غير الْحجر عَلَيْهِ فِي جَوَاز الِاسْتِجْمَار بِهِ الَّذِي هُوَ رخصَة بِجَامِع الجامد الطَّاهِر المنقي. وَأخرج أَبُو حنيفَة ذَلِك عَن الْقيَاس لكَونه فِي معنى الْحجر، وَسَماهُ دلَالَة النَّص وَهُوَ لَا يخرج بذلك عَنهُ. وَقِيَاس نَفَقَة الزَّوْجَة على الْكَفَّارَة / فِي تقديرها على الْمُوسر بمدين كَمَا فِي فديَة الْحَج، والمعسر بِمد كَمَا فِي كَفَّارَة الوقاع، بِجَامِع أَن كلا مِنْهُمَا مَال يجب بِالشَّرْعِ ويستقر فِي الذِّمَّة، وأصل التَّفَاوُت من قَوْله تَعَالَى: {لينفق ذُو سَعَة من سعته ... ... ... ... ... ... ... ... الْآيَة} " قَالَه الْمحلي. قَالَ ابْن مُفْلِح: والرخص كقياس الْعِنَب على الرطب فِي الْعَرَايَا، إِن لم يكن ورد فِيهِ نَص. والتقديرات: كأعداد الرَّكْعَات، مَعَ تقديرهم الْجُمُعَة بأَرْبعَة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3517 وخرق الْخُف بِثَلَاث أَصَابِع قِيَاسا. وَمَا ذكر من جَرَيَان الْقيَاس فِي الرُّخص هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي حَكَاهُ الرَّازِيّ وَغَيره، وَنَصّ أَيْضا على أَنه لَا يجْرِي [فِيهَا] فَلَعَلَّ لَهُ قَوْلَيْنِ. وَأما مَذْهَبنَا: فَالَّذِي قدمه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " وَقَالَ: إِنَّه الْمَشْهُور جَوَاز قِيَاس الْعِنَب على الرطب فِي الْعَرَايَا. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر فِي الْفِقْه عدم الْجَوَاز. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3518 قَالَ ابْن مُفْلِح: يجْرِي الْقيَاس فِي الْكَفَّارَات وَالْحُدُود والأبدال والمقدرات عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة وَالْأَكْثَر، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد، خلافًا للحنفية. لنا: عُمُوم دَلِيل كَون الْقيَاس حجَّة، وَقَوله: " إِذا سكر هذى "، وكبقية الْأَحْكَام. قَالُوا: فهم الْمَعْنى شَرط. رد: الْفَرْض فهمه كَالْقَتْلِ بالمثقل وَقطع النباش. قَالُوا: فِيهِ شُبْهَة وَالْحَد يدْرَأ بهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3519 رد: بِخَبَر الْوَاحِد وَالشَّهَادَة. وَمنعه جمع فِي سَبَب وَشرط ومانع، كجعل الزِّنَا سَببا لإِيجَاب الْحَد، فَلَا يُقَاس عَلَيْهِ اللواط. قَالَ فِي " الْمَحْصُول ": وَهُوَ الْمَشْهُور فِي الْأَسْبَاب. وَصَححهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَجزم بِهِ الْبَيْضَاوِيّ، وَحَكَاهُ ابْن مُفْلِح عَن الْحَنَفِيَّة. لَكِن نقل الْآمِدِيّ عَن أَكثر الشَّافِعِيَّة جَرَيَانه فِيهَا، وَمَشى عَلَيْهِ فِي " جمع الْجَوَامِع ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3520 قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي الْكَلَام على اخْتِلَاف الضَّابِط: وَفِي " شرح المقترح " لأبي الْعِزّ: " أَن الْمُعْتَبر فِي الْقيَاس الْقطع بالجامع أَو ظن وجود الْجَامِع كَاف، وبنبني على ذَلِك الْقيَاس فِي الْأَسْبَاب، فَمن اعْتبر / الْقطع منع الْقيَاس فِيهَا، وَلَا يتَصَوَّر عَادَة الْقطع بتساوي المصلحتين، فَلَا يتَحَقَّق جَامع بَين الوصفين بِاعْتِبَار يثبت حكم السَّبَبِيَّة بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا، وَمن اكْتفى بِالظَّنِّ [صحّح] ذَلِك؛ إِذْ يجوز تَسَاوِي المصلحتين فَيتَحَقَّق الْجَامِع وَلَا يمْتَنع الْقيَاس ". انْتهى. وَتقدم هَذَا هُنَاكَ. وَيجْرِي الْخلاف فِي الشُّرُوط كَمَا ذكره الْآمِدِيّ وَغَيره. وَصرح بِهِ الكيا الهراسي فِي الشُّرُوط والموانع. وَفِي " الِانْتِصَار " لأبي الْخطاب فِي مَسْأَلَة الْمُوَالَاة: شُرُوط الصَّلَاة لَا مدْخل للْقِيَاس فِيهَا لعدم [فهم] [مَعْنَاهَا] ، ثمَّ سلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3521 قَالَ المانعون: لِأَن الْقيَاس فِيهَا يُخرجهَا عَن أَن تكون كَذَلِك؛ إِذْ يكون الْمَعْنى الْمُشْتَرك بَينهَا وَبَين الْمَقِيس عَلَيْهَا هُوَ السَّبَب وَالشّرط وَالْمَانِع، لَا خُصُوص الْمَقِيس عَلَيْهِ أَو الْمَقِيس. وَأجِيب: بِأَن الْقيَاس لَا يُخرجهَا عَمَّا ذكر، وَالْمعْنَى الْمُشْتَرك فِيهِ كَمَا هُوَ عِلّة لَهَا يكون عِلّة لما يَتَرَتَّب عَلَيْهَا. وَقَالَ الْمُوفق فِي " الْمُغنِي " فِي مَسْأَلَة اللوث: لَا يجوز الْقيَاس فِي المظان؛ لِأَنَّهُ جمع لمُجَرّد الْحِكْمَة وَإِنَّمَا يتَعَدَّى حكم بتعدي سَببه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3522 قَالَ ابْن مُفْلِح: (الْقَائِل بالجريان: إِطْلَاق الصَّحَابَة، وَقَول عَليّ: " إِذا سكر افترى " ولإفادته للظن وَأَيْضًا: لصِحَّته التَّعْلِيل بالحكمة أَو ضابطها. رد ذَلِك: مُسْتَقل بِثُبُوت الحكم، وَالْوَصْف الَّذِي جعل سَببا للْحكم مستغني عَنهُ. وَقد يُجَاب: بِأَنَّهُ لَا يمْنَع الْجَوَاز. الْقَائِل بِالْمَنْعِ: ثَبت الْقَتْل بالمثقل سَببا كالمحدد، واللواط سَببا كَالزِّنَا، وَنَحْو ذَلِك. رد: السَّبَب وَاحِد وَهُوَ الْقَتْل الْعمد الْعدوان،، وإيلاج فرج فِي فرج) . وَمنعه طَائِفَة فِي العقليات. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي بحث جَوَاز التَّعَبُّد بِهِ فِي الشرعيات: قَالَ الْمَانِع لَا يجوز الْقيَاس كالأصول. رد: لَا جَامع ثمَّ فِيهَا أَدِلَّة تَقْتَضِي الْعلم. ذكره فِي التَّمْهِيد " وَغَيره. وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": لَيْسَ فِي أصل صفة جعلت أَمارَة لإِثْبَات أصل آخر، وَلَو قُلْنَا / بِهِ فمنعنا لعدم الطَّرِيق، كَمَا لَو عدمت فِي الْفُرُوع لَا لكَونه أصلا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3523 وَقَالَ الطوفي: فِي كل مِنْهُمَا قِيَاس بِحَسب مَطْلُوبه قطعا فِي الأول، وظنا فِي الثَّانِي. وَقَالَ: أَكثر الْمُتَكَلِّمين يجْرِي فِي العقليات، كَمَا تَقول فِي الرُّؤْيَة للبارىء: لِأَنَّهُ مَوْجُود، وكل مَوْجُود مرئي. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَمنعه قوم من الحشوية وغلاة الظَّاهِرِيَّة فِي العقليات، وَالأَصَح الْجَوَاز، وَمثل بِمَا ذكرنَا. ثمَّ قَالَ: وَوَافَقَهُمْ على الْمَنْع ابْن برهَان فِي الْوَجِيز ". وَمنعه قوم فِي الْعَادَات والحقائق. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَابْن مُفْلِح تبعا للمسودة: " قَالَ قوم: الْقيَاس إِنَّمَا يجوز وَيثبت فِي الْأَحْكَام دون الْحَقَائِق، ذكرُوا ذَلِك فِي قَوْلهم فِي إِثْبَات حَيَاة الشّعْر أَنه جُزْء من الْحَيَوَان مُتَّصِل بِهِ اتِّصَال خلقَة، فَلم يُفَارق الْحَيَوَان فِي النَّجَاسَة بِالْمَوْتِ كالأعضاء. قَالُوا: وَالدَّلِيل على أَنه تحله الْحَيَاة أَنه نمى بِالْحَيَاةِ وَيَنْقَطِع نماؤه بِالْمَوْتِ، وَهَذَا من بَاب الِاسْتِدْلَال على الْحَيَاة بخصائصها لَا من بَاب إِثْبَات الْحَيَاة بِالْقِيَاسِ؛ لِأَن الْقيَاس إِنَّمَا يجوز فِي الْأَحْكَام لَا فِي إِثْبَات الْحَقَائِق كَمَا يسْتَدلّ بالحركة الاختيارية على الْحَيَاة. قَالَ شَيخنَا: وَهَذَا لَا طائل تَحْتَهُ بل الْقيَاس قِيَاس التأصيل وَالتَّعْلِيل والتمثيل يجْرِي فِي كل شَيْء، وعمدة الطِّبّ مبناها على الْقيَاس، وَإِنَّمَا هُوَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3524 لإِثْبَات حقائق الْأَجْسَام، وَكَذَلِكَ عَامَّة أُمُور النَّاس مبناها على الْقيَاس فِي الْأَعْيَان وَالصِّفَات وَالْأَفْعَال، وعمدة الطِّبّ مبناها على الْقيَاس، وَإِنَّمَا هُوَ لإِثْبَات حقائق الْأَجْسَام، وَكَذَلِكَ عَامَّة أُمُور النَّاس مبناها على الْقيَاس فِي الْأَعْيَان وَالصِّفَات وَالْأَفْعَال، وَمَتى ثَبت أَن الْأَمر الْفُلَانِيّ مُعَلل بِكَذَا ثَبت وجوده حَيْثُ وجدت الْعلَّة سَوَاء كَانَ عينا، أَو صفة، أَو حكما، أَو فعلا، وَكَذَلِكَ إِذا ثَبت أَن لَا فَارق بَين هذَيْن إِلَّا كَذَا، وَلَا تَأْثِير لَهُ فِي الْأَمر الْفُلَانِيّ. ثمَّ هُوَ منقسم إِلَى مَقْطُوع ومظنون كالقياس / فِي الْأَحْكَام، ثمَّ أَي فرق بَين الْقيَاس فِي خلق اللَّهِ أَو فِي أمره؟ نعم قد يمْنَع من الْقيَاس الظني حَيْثُ لَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْحَقَائِق. وَمن الْعُمْدَة فِي الْقيَاس قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للَّذي أَرَادَ الانتفاء من وَلَده لمُخَالفَة لَونه: " لَعَلَّه نَزعه عرق " وَهَذَا قِيَاس لجَوَاز مُخَالفَة الْوَلَد للوالد فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3525 أحد نَوْعي الْحَيَوَان على النَّوْع الآخر وَقِيَاس فِي الطبيعيات، لِأَن الأَصْل لَيْسَ فِيهِ نسب حَتَّى يُقَاس فِي الْأَنْسَاب " انْتهى. وصححت الشَّافِعِيَّة: أَنه لَا يحْتَج بِهِ فِي الْأُمُور العادية والخلقية وَقَالَهُ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَمثله: بِأَقَلّ الْحيض وَالنّفاس وأكثرهما وَأَقل مُدَّة الْحمل وَأَكْثَره فَلَا قِيَاس فِيهِ بل طَرِيقه خبر الصَّادِق. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (لَا يجْرِي الْقيَاس فِي الْأُمُور العادية والخلقية حَكَاهُ فِي " الْمَحْصُول " عَن الشَّيْخ أبي إِسْحَاق. لَكِن فصل فِي " شرح اللمع " بَين مَا لَا يكون عَلَيْهِ أَمارَة كأقل الْحيض وَأَكْثَره فَلَا يجْرِي فِيهِ الْقيَاس، لِأَن أشباهها غير مَعْلُومَة لَا قطعا وَلَا ظنا، وَبَين مَا عَلَيْهِ أَمارَة فَيجوز إثْبَاته بِالْقِيَاسِ كالخلاف فِي الشّعْر هَل تحله الرّوح أم لَا؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3526 وَذكر الْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ: أَن الصَّحِيح جَوَاز الْقيَاس فِي الْمَقَادِير كأقل الْحيض وَأَكْثَره " انْتهى. تَنْبِيه: تقدم الْخلاف فِي الْقيَاس فِي اللُّغَات قبيل الْكَلَام على الْحُرُوف وَالْقِيَاس فِي الْمجَاز، وَالْخلاف هَل يُقَاس على الْمَنْسُوخ فِي آوخر شُرُوط الْعلَّة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3527 (قَوْله (فصل)) (أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر وَأَشَارَ إِلَيْهِ أَحْمد: أَن النَّص على عِلّة حكم الأَصْل يَكْفِي فِي التَّعَدِّي. وَأَبُو الْخطاب والموفق وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، والسرخي والآمدي: إِن ورد التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ كفى وَإِلَّا فَلَا. والبصري: يَكْفِي فِي عِلّة التَّحْرِيم لَا غَيرهَا. قَالَ الشَّيْخ: هُوَ قِيَاس مَذْهَبنَا. وسمى ابْن عقيل [المنصوصة] اسْتِدْلَالا، وَقَالَ: مَذْهَبنَا لَيْسَ بِقِيَاس وَقَالَهُ بعض الْفُقَهَاء) . قَالَ ابْن مُفْلِح: (النَّص على عِلّة حكم الأَصْل يَكْفِي فِي التَّعَدِّي عِنْد أَصْحَابنَا. قَالَ القَاضِي وَابْن عقيل: أَشَارَ أَحْمد / إِلَيْهِ " لَا يجوز بيع رطب بيابس " الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3528 وَاحْتج بنهيه عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ، وَذكره بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم عَن الْأَكْثَر من مثبتي الْقيَاس كالرازي، والكرخي، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة وَمن منكريه كالنظام، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3529 والقاشاني، والنهرواني. وَفِي " الرَّوْضَة ". إِن ورد التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ كفى وَإِلَّا فَلَا. وَذكره فِي " التَّمْهِيد " ضمن مَسْأَلَة تَخْصِيص الْعلَّة. وَاخْتَارَهُ السَّرخسِيّ، وَذكره عَن بعض شُيُوخه. وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَذكره عَن أَكثر الشَّافِعِيَّة، وَقَالَهُ الجعفران الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3530 وَبَعض الظَّاهِرِيَّة. وَذكر عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي وَبَعض أَصْحَابنَا قَول الْجُمْهُور ونصروه. وَعَن أبي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيّ: يَكْفِي فِي عِلّة التَّحْرِيم لَا غَيرهَا. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (هُوَ قِيَاس مَذْهَبنَا فِي الْأَيْمَان وَغَيرهَا؛ لِأَنَّهُ يجب ترك الْمَفَاسِد كلهَا بِخِلَاف الْمصَالح فَإِنَّهَا يجب تَحْصِيل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ) . وسمى ابْن عقيل الْعلَّة المنصوصة اسْتِدْلَالا، وَقَالَ: مَذْهَبنَا لَيْسَ بِقِيَاس، وَأَنه قَول جمَاعَة من الْفُقَهَاء؛ لِأَن الْفَأْرَة كالهرة فِي الطّواف الْمُصَرّح بِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3531 وَذكر القَاضِي: التَّنْبِيه وَالْعلَّة [المنصوصة] وَمَا فِي معنى الأَصْل كالزيت مَعَ السّمن، وَالْأمة مَعَ العَبْد، [والجوع مَعَ الْغَضَب مَسْأَلَة وَاحِدَة. وَكَذَا ذكر أَبُو الْمَعَالِي الْأمة مَعَ العَبْد] ، وَالْبَوْل فِي إِنَاء وصبه فِي مَاء، وَنَحْوهمَا فِي تَسْمِيَته قِيَاسا مذهبان نَحْو الْخلاف فِي الْعلَّة المنصوصة، وَرجح تَسْمِيَته قِيَاسا، قَالَ وَهِي لفظية. وَفِي " التَّمْهِيد ": لَا يجوز الْمَنْع من هَذَا الْقيَاس؛ وَإِن نهى عَن الْقيَاس الشَّرْعِيّ. وقصره ابْن الباقلاني وَأَبُو حَامِد الإسفريني وَغَيرهمَا: على الصُّورَة المعللة تعبدنا بِالْقِيَاسِ أَو لَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3532 وَفِي " التَّمْهِيد ": لم يقلهُ أحد كَمَا قَالَ. وَفِي مُقَدّمَة " الْمُجَرّد ": احْتِمَالَانِ، [أَحدهمَا لَا يتَعَدَّى حَتَّى يَقُول قيسوا عَلَيْهِ وَالثَّانِي يتَعَدَّى. وَذكر الشِّيرَازِيّ احْتِمَالَيْنِ] : أَحدهمَا: يتَعَدَّى، وَالثَّانِي: كَالْوَكِيلِ فِيهِ وَرجحه. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يظْهر فِي " حرمت السكر لحلاوته "، التَّعْلِيل بالحلاوة الْخَاصَّة لَا الْمُطلقَة بِخِلَاف قَوْله: لِأَنَّهُ حُلْو. وَسوى ابْن عقيل وَغَيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3533 وَجه الثَّانِي: لَا دَلِيل، وَالْأَصْل عَدمه. وَأَيْضًا: أعتقت سالما لدينِهِ، أَو لِأَنَّهُ دين لَا يتَعَدَّى ومناقضة الْعُقَلَاء / لَهُ لطلب فَائِدَة التَّخْصِيص لَا الْعُمُوم. وَذكر الْآمِدِيّ عَن بَعضهم: إِن علم قَصده للدّين عَم. وَعَن بَعضهم يعم بِالنِّيَّةِ. وَعَن بَعضهم: يعم إِن قَالَ: قيسوا عَلَيْهِ كل دين، وَاخْتَارَهُ الصَّيْرَفِي الشَّافِعِي. وَفِي " الرَّوْضَة ": فِي هَذِه الصُّورَة لَا يعم. وَفِي " الْعدة " يعم. فَإِن احْتج بِهِ نفاة الْقيَاس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3534 رد: بِأَن التَّعَبُّد منع مِنْهُ مُبَالغَة فِي صِيَانة ملك الْآدَمِيّ بِخِلَاف الْأَحْكَام، وَيجوز أَن تنَاقض علته، وَلِهَذَا لَو قَالَ الشَّارِع قيسوا عَلَيْهِ عَم، وَلِهَذَا فهم الْقيَاس لُغَة وَعرفا فِي غير الْملك نَحْو: " لَا تشربه فَإِنَّهُ مسهل "، و " لَا تجالسه لبدعته "، وَلَو قَالَ لمُوكلِه: " أعْتقهُ لدينِهِ، أَو لِأَنَّهُ دين " لم يعم إِجْمَاعًا، ذكره الْآمِدِيّ. وَكَذَا لَو قَالَ: قس عَلَيْهِ، أَو كَانَ قَالَ لَهُ: إِذا أَمرتك بِشَيْء لعِلَّة فقس عَلَيْهِ لجَوَاز المناقضة والبداء؛ لِأَن الشَّارِع لم يدل عَلَيْهِ وَلم يُكَلف بِهِ. وَعند أبي الْخطاب يعم. وَفِي كَلَام القَاضِي والآمدي مَا يُوَافقهُ ككلام الشَّارِع، وَالْأَصْل عدم البداء، وَلِأَنَّهُ كجواز وُرُود النّسخ وَلَا يمْنَع الْقيَاس. قَالُوا: حرمت الْخمر لإسكاره كرمت كل مُسكر. رد: دَعْوَى بِلَا دَلِيل، ثمَّ لَو كَانَ عتق من سبق. فَإِن قيل: لِأَنَّهُ حق آدَمِيّ فَوقف على الصَّرِيح. رد: دَعْوَى، ثمَّ يلْزم التَّعَارُض وَهُوَ خلاف الأَصْل، ثمَّ الظَّاهِر فِيهِ كَالصَّرِيحِ. قَالُوا: قَوْله لِابْنِهِ: " لَا تَأْكُله؛ لِأَنَّهُ مَسْمُوم " يتَعَدَّى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3535 رد: لقَرِينَة شَفَقَة الْأَب، وَالْأَحْكَام يجمع فِيهَا بَين مُخْتَلفين وَيفرق بَين متماثلين؛ لِأَن الْمصلحَة إِن اعْتبرت فقد تخْتَلف بالأوقات. وألزم ابْن عقيل بِالزَّمَانِ. قَالُوا: إِن لم يعم فَلَا فَائِدَة. رد: فَائِدَته تعقل الْمَعْنى فَإِنَّهُ أدعى إِلَى الْقبُول، وَنفي الحكم عِنْد عَدمه. قَالُوا: كالتنبيه. رد: إِنَّمَا فهم مِنْهُ لقَرِينَة إكرام الْوَالِدين. قَالُوا: كَقَوْلِه الْإِسْكَار عِلّة التَّحْرِيم. رد: حكم بِالْعِلَّةِ على مُسكر فَلَا أَوْلَوِيَّة لتساوي نسبتهما إِلَى الْجَمِيع. وَاعْتمد فِي " التَّمْهِيد " على قَوْله: / أوجبت أكل السكر كل يَوْم؛ لِأَنَّهُ حُلْو، كَذَا قَالَ. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَفِيه نظر؛ لِأَنَّهُ يبطل إِيجَاب السكر. احْتج الْبَصْرِيّ: بِأَن من ترك رمانة لحموضتها لزمَه التَّعْمِيم بِخِلَاف صدقته على فَقير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3536 رد: لَا يلْزمه، ثمَّ لقَرِينَة الْأَذَى وَلَا قرينَة فِي الْأَحْكَام. احْتج من قصره: باحتماله الْجُزْئِيَّة. رد: ظَاهر اقْتِصَار الشَّارِع عَلَيْهِ استقلاله فَلَا يتْرك بِاحْتِمَال) وَالله أعلم. قَوْله: (وَالْحكم الْمُتَعَدِّي إِلَى الْفَرْع بعلة منصوصة مُرَاد بِالنَّصِّ، كعلة مُجْتَهد فِيهَا فرعها مُرَاد بِالِاجْتِهَادِ، وَقيل: لَا) . قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: " الحكم الْمُتَعَدِّي إِلَى الْفَرْع بعلة منصوصة مُرَاد بِالنَّصِّ، كعلة مُجْتَهد فِيهَا /، فرعها مُرَاد بِالِاجْتِهَادِ؛ لِأَن الأَصْل مستتبع لفرعه، خلافًا لبَعْضهِم، ذكره أَبُو الْخطاب. قَالَ الْمجد: كَلَامه يَقْتَضِي أَنَّهَا مُسْتَقلَّة، قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهَا مَبْنِيَّة على الْمَسْأَلَة قبلهَا. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَذكر القَاضِي أَعم من ذَلِك، فَقَالَ: الحكم بِالْقِيَاسِ على أصل مَنْصُوص عَلَيْهِ مُرَاد بِالنَّصِّ الَّذِي فِي الأَصْل خلافًا لبَعض الْمُتَكَلِّمين ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3537 قَوْله: (وَيجوز ثُبُوت كل الْأَحْكَام بِنَصّ من الشَّارِع لَا بِالْقِيَاسِ عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر) . فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الأولى: هَل يجوز ثُبُوت كل الْأَحْكَام بنصوص من الشَّارِع أم لَا؟ الْجُمْهُور: على الْجَوَاز. قَالَ شذوذ: لَا يجوز؛ لِأَن الْحَوَادِث لَا تتناهى، فَكيف تنطبق عَلَيْهَا نُصُوص متناهية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3538 رد ذَلِك: بِأَنَّهَا تتناهى لتناهي التكاليف بالقيامة، ثمَّ يجوز أَن تحدث نُصُوص غير متناهية. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قلت بل متناهية، لِأَن الْحَوَادِث المفتقرة إِلَى الْأَحْكَام هِيَ الْوَاقِعَة فِي دَار التَّكْلِيف، وَالْأَفْعَال فِيهَا متناهية ضَرُورَة تناهيها، أما الْجنَّة فدار جَزَاء لَا دَار تَكْلِيف. انْتهى. الثَّانِيَة: هَل يجوز ثُبُوت كل الْأَحْكَام بِالْقِيَاسِ أم لَا؟ الْجُمْهُور: على عدم الْجَوَاز؛ لِأَن / الْقيَاس لَا بُد لَهُ من أصل، وَلِأَن فِيهَا مَا لَا يعقل مَعْنَاهُ كضرب الدِّيَة على الْعَاقِلَة، فإجراء الْقيَاس فِي مثله مُتَعَذر، لما علم أَن الْقيَاس فرع تعقل الْمَعْنى الْمُعَلل بِهِ الحكم فِي الأَصْل، وَأَيْضًا: فَإِن فِيهَا مَا تخْتَلف أَحْكَامه فَلَا يجْرِي فِيهِ. وَجوزهُ قوم قَالُوا: كَمَا يجوز إِثْبَاتهَا كلهَا بِالنَّصِّ، وَمَعْنَاهُ: أَن كلا من الْأَحْكَام صَالح لِأَن يثبت بِالْقِيَاسِ بِأَن يدْرك مَعْنَاهُ، وَوُجُوب الدِّيَة على الْعَاقِلَة لَهُ معنى يدْرك، وَهُوَ إِعَانَة الْجَانِي فِيهَا هُوَ مَعْذُور فِيهِ، كَمَا يعان الْغَارِم لإِصْلَاح ذَات الْبَين بِمَا يصرف إِلَيْهِ من الزَّكَاة. قلت: قد ذكر الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَتَبعهُ ابْن الْقيم فِي " أَعْلَام الموقعين ": أَنه لَيْسَ فِي الشَّرِيعَة مَا يُخَالف الْقيَاس وَلَا مَا لَا يعقل مَعْنَاهُ، وبينوا ذَلِك بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ، وَالله أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3539 قَوْله: (فَائِدَتَانِ: الأولى: مَعْرفَته فرض كِفَايَة، وَيكون فرض عين على بعض الْمُجْتَهدين) . مِمَّا يُسْتَفَاد أَن الْقيَاس فرض كِفَايَة عِنْد تعدد الْمُجْتَهدين، لَكِن إِذا احْتَاجَ الْمُجْتَهد - وَكَانَ وَاحِدًا فَقَط مَعَ ضيق الْوَقْت - يصير فرض عين. وغاير ابْن حمدَان فِي " الْمقنع " بَين الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ: فرض كِفَايَة، وَقيل فرض عين. وَالصَّوَاب مَا قُلْنَاهُ أَولا. قَوْله: (وَهُوَ من الدّين خلافًا للْقَاضِي وَأبي الْهُذيْل، وَقَالَ الجبائي الْوَاجِب مِنْهُ) . قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": " هَل يُسمى دينا مَأْمُورا بِهِ أم لَا؟ أما كَونه مَأْمُورا بِهِ فَصَحِيح، وَأما كَونه مَأْمُورا بِهِ بِصِيغَة " افْعَل " فَصَحِيح أ] أَيْضا من قَوْله: {فاعتبروا يَا أولى الْأَبْصَار} [الْحَشْر: 2] . وَأما من وَصفه بِأَنَّهُ دين فَلَا شُبْهَة فِيهِ؛ لِأَن مَا تعبدنا اللَّهِ بِهِ فَهُوَ دين. وَقد امْتنع أَبُو الْهُذيْل من إِطْلَاق اسْم الدّين عَلَيْهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3540 وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَنا متعبدون بِهِ بِمَا دلّ عَلَيْهِ الدَّلِيل، وَلِأَن من نزلت بِهِ حَادِثَة - وَكَانَ فِيهَا قَاض أَو مفت أَو مُجْتَهد لنَفسِهِ وضاق عَلَيْهِ الْوَقْت -، وَجب عَلَيْهِ / أَن يقيس " انْتهى. قَالَ ابْن مُفْلِح: " الْقيَاس دين، وَعند أبي الْهُذيْل: لَا يُطلق عَلَيْهِ اسْم دين، وَهُوَ فِي بعض كَلَام القَاضِي، وَعند الجبائي: الْوَاجِب مِنْهُ دين " انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: الْقيَاس لَيْسَ ببدعة، بل هُوَ من الدّين على الْأَصَح من الْأَقْوَال الثَّلَاثَة. قَالَ أَبُو الْحُسَيْن فِي " الْمُعْتَمد ": كَون الْقيَاس دين اللَّهِ لَا ريب فِيهِ إِذا عني لَيْسَ ببدعة، فَإِن أُرِيد غير ذَلِك فَذكر الْخلاف. قَالَ الرَّوْيَانِيّ فِي " الْبَحْر ": الْقيَاس عندنَا دين اللَّهِ وحجته وشرعه. قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: إِنَّه دين اللَّهِ وَدين رَسُوله بِمَعْنى أَنه دلّ عَلَيْهِ، وَلَا يجوز أَن يُقَال: هُوَ قَول اللَّهِ تَعَالَى. فَالْقَوْل الَّذِي قدمْنَاهُ فِي الْمَتْن هُوَ الصَّحِيح، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو الْحُسَيْن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3541 وَعبد الْجَبَّار، وَقدمه ابْن مُفْلِح، وَغَيره، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر. قَوْله: (الثَّانِيَة: النَّفْي أُصَلِّي [يجْرِي] فِيهِ قِيَاس الدّلَالَة فيؤكد بِهِ الِاسْتِصْحَاب، وطارىء كبراءة الذِّمَّة يجْرِي فِيهِ [هُوَ] وَقِيَاس الْعلَّة) . النَّفْي ضَرْبَان: أُصَلِّي، وطارئ. فالأصلي: هُوَ الْبَقَاء على مَا كَانَ قبل وُرُود الشَّرْع، كانتفاء صَلَاة سادسة، فَهُوَ مبقى باستصحاب مُوجب الْعقل، فَلَا يجْرِي فِيهِ قِيَاس الْعلَّة؛ لِأَنَّهُ لَا مُوجب لَهُ قبل وُرُود السّمع، فَلَيْسَ بِحكم شَرْعِي حَتَّى يطْلب لَهُ عِلّة شَرْعِيَّة بل هُوَ نفي حكم الشَّرْع وَلَا عِلّة، وَإِنَّمَا الْعلَّة لما يَتَجَدَّد لَكِن يجْرِي فِيهِ قِيَاس الدّلَالَة / وَهُوَ أَن يسْتَدلّ بِانْتِفَاء حكم سيء على انتفائه عَن مثله وَيكون ذَلِك ضم دَلِيل إِلَى دَلِيل هُوَ اسْتِصْحَاب الْحَال وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، أَعنِي الْفرق بِكَوْنِهِ لَا يجْرِي فِيهِ قِيَاس الْعلَّة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3542 وَيجْرِي فِيهِ قِيَاس الدّلَالَة اخْتَارَهُ الْغَزالِيّ والرازي وَعَزاهُ الْهِنْدِيّ للمحققين. فَقَالُوا: يجوز بِقِيَاس الدّلَالَة وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِانْتِفَاء آثاره وخواصه على عَدمه دون قِيَاس الْعلَّة، لِأَن الْعَدَم الْأَصْلِيّ أولى، وَالْعلَّة حَادِثَة بعده فَلَا يُعلل بهَا. وَالنَّفْي الطَّارِئ كبراءة الذِّمَّة من الدّين وَنَحْوه، حكم شَرْعِي يجْرِي فِيهِ قِيَاس الْعلَّة وَقِيَاس الدّلَالَة اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ حكم شَرْعِي حَادث فَهُوَ كَسَائِر الْأَحْكَام الوجودية. قَالَ ابْن مُفْلِح عقب الْمَسْأَلَة: " وَيسْتَعْمل الْقيَاس على وَجه التلازم فَيجْعَل حكم الأَصْل فِي الثُّبُوت ملزوما وَفِي النَّفْي نقيضه لَازِما نَحْو: لما وَجَبت زَكَاة مَال الْبَالِغ للمشترك بَينه وَبَين مَال الصَّبِي وَجَبت فِيهِ، وَلَو وَجَبت فِي حلي وَجَبت فِي جَوْهَر قِيَاسا، وَاللَّازِم مُنْتَفٍ فَيَنْتَفِي ملزومه " انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3543 (قَوْله: (فصل القوادح) لما فَرغْنَا من الطّرق الدَّالَّة على الْعلية شرعنا فِي ذكر مَا يحْتَمل أَنه من مبطلاتها. فإيراد القوادح مَا يقْدَح فِي الدَّلِيل بجملته سَوَاء الْعلَّة وَغَيرهَا، لِأَنَّهُ قد يطْرَأ على من يثبت عَلَيْهِ الحكم اعْتِرَاض يقْدَح فِي علية مَا ادَّعَاهُ عِلّة، وَذَلِكَ من أحد وُجُوه يعبر عَنْهَا بالقوادح، وَرُبمَا كَانَت قادحة لَا فِي خُصُوص الْعلَّة فَلذَلِك ترجمها ابْن الْحَاجِب وَغَيره بالاعتراضات. وَإِنَّمَا ترجمت [لَهَا] بقوادح الْعلَّة تبعا لجَماعَة؛ لِأَنَّهَا ترجع إِلَى الْقدح فِي الْعلَّة كَمَا ستعرفه، وَلِأَن أغلبها موجه إِلَى الْعلَّة بالخصوص. قَوْله: (ترجع إِلَى الْمَنْع فِي الْمُقدمَات أَو الْمُعَارضَة فِي الحكم عِنْد الْمُعظم، وَقيل: إِلَى الْمَنْع وَحده) . قَالَ أهل الجدل: الاعتراضات رَاجِعَة إِمَّا إِلَى منع فِي مُقَدّمَة فِي الْمُقدمَات، أَو مُعَارضَة فِي الحكم، فَمَتَى حصل الْجَواب عَنْهَا فقد تمّ الدَّلِيل، وَلم يبْق للمعترض مجَال، فَيكون مَا سوى ذَلِك من الأسئلة بَاطِلا فَلَا يسمع. وَقَالَ بَعضهم، وَتَبعهُ التَّاج السُّبْكِيّ فِي " شرح مُخْتَصر ابْن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3544 الْحَاجِب "، وَقطع بِهِ فِي " جمع الْجَوَامِع ": إِنَّهَا ترجع إِلَى الْمَنْع؛ لِأَن الْكَلَام إِذا كَانَ مُجملا لَا يحصل غَرَض الْمُسْتَدلّ بتفسيره، فالمطالبة بتفسيره تَسْتَلْزِم منع تحقق الْوَصْف، وَمنع لُزُوم الحكم عَنهُ. وَقد ذكرنَا هُنَا تبعا لِابْنِ مُفْلِح، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهمَا خَمْسَة وَعشْرين قادحا، وَذكرهَا فِي " مُخْتَصر الرَّوْضَة " للطوفي فِي اثْنَي عشر بِصِيغَة: قيل. وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة ": " قَالَ بعض أهل الْعلم يتَوَجَّه على الْقيَاس اثْنَا عشر سؤالا ". وَهَذِه القوادح لم يذكرهَا الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى " بل أعرض عَنْهَا، وَقَالَ: إِنَّهَا كالعلاوة على أصُول الْفِقْه، وَإِن مَوضِع ذكرهَا علم الجدل. الَّذِي ذكرهَا يَقُول: إِنَّهَا من مكملات الْقيَاس الَّذِي هُوَ من أصُول الْفِقْه، ومكمل الشَّيْء من ذَلِك الشَّيْء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3545 ولهذه [الشُّبْهَة] أَكثر قوم من ذكر الْمنطق والعربية وَالْأَحْكَام الكلامية؛ [لِأَنَّهَا] من مواده ومكملاته. قَوْله: (ومقدمها) . أَي: القوادح. (الاستفسار) . أَي: هُوَ طَلِيعَة لَهَا، كطليعة الْجَيْش؛ لِأَنَّهُ الْمُقدم على كل اعْتِرَاض، وَإِنَّمَا كَانَ مقدم الاعتراضات؛ لِأَنَّهُ إِذا لم يعرف مَدْلُول اللَّفْظ اسْتَحَالَ توجه الْمَنْع أَو الْمُعَارضَة، وهما مُرَاد الاعتراضات كلهَا. وَكَانَ الْإِسْنَوِيّ يَقُول: فِي [كَونه] من الاعتراضات نظر؛ لِأَنَّهُ طَلِيعَة جنس الاعتراضات لَا بهَا، لِأَنَّهَا خدش كَلَام الْمُسْتَدلّ، والاستفسار لَيْسَ فِيهِ خدش بل تعرف للمراد، ويتبين الْمَطْلُوب ليتوجه عَلَيْهِ السُّؤَال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3546 وَيقرب مِنْهُ حِكَايَة الْهِنْدِيّ عَن بعض متأخري أهل الجدل: أَنه أنكر هَذَا السُّؤَال. وَهَذَا وَاضح؛ لِأَن غَايَته اسْتِفْهَام لَا اعْتِرَاض، وَهُوَ من الفسر، وَهُوَ لُغَة: طلب الْكَشْف والإظهار، وَمِنْه التَّفْسِير. قَوْله: (وَهُوَ طلب معنى لفظ الْمُسْتَدلّ لإجماله أَو غرابته، وبيانها على الْمُعْتَرض فِي الْأَصَح باحتماله، / أَو بِجِهَة الغرابة بطريقة، وَلَا يلْزمه بَيَان تَسَاوِي الِاحْتِمَالَات) . والاستفسار: طلب معنى اللَّفْظ الَّذِي قَالَه الْمُسْتَدلّ، وَإِنَّمَا يسمع إِذا كَانَ فِي اللَّفْظ إِجْمَال أَو غرابة، وَإِلَّا فَهُوَ تعنت مفوت لفائدة المناظرة؛ إِذْ يَأْتِي فِي كل لفظ يُفَسر بِهِ لفظ ويتسلسل. وَلذَلِك قَالَ الباقلاني: مَا يُمكن فِيهِ [الاستبهام] حسن فِيهِ الِاسْتِفْهَام. وَذَلِكَ [إِمَّا] لإجماله كَمَا لَو قَالَ الْمُسْتَدلّ: الْمُطلقَة تَعْتَد بالإقراء، فَلفظ الإقراء مُجمل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3547 فَيَقُول الْمُعْتَرض: مَا مرادك بِالْأَقْرَاءِ؟ فَإِذا قَالَ: الْحيض أَو الْأَطْهَار. أجَاب: بِحَسب ذَلِك من تَسْلِيم أَو منع. وَإِمَّا لغرابته؛ إِمَّا من حَيْثُ الْوَضع كَقَوْلِنَا: لَا يحل السبد أَي: الذِّئْب، وكما لَو قَالَ فِي الْكَلْب الَّذِي لم يعلم: خرَاش لم يبل، فَلَا يُطلق فريسته كالسبد. وَمعنى: لم يبل: لم يختبر. قَالَ الْجَوْهَرِي: بلاه وأبلاه بلَاء حسنا وابتلاه اختبره. والفريسة: الصَّيْد، من فرس الْأسد فريسته: إِذا دق عُنُقهَا، ثمَّ كثر حَتَّى أطلق على كل قَتِيل فرسا. والسبد: الذِّئْب، وَهُوَ بِكَسْر السِّين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة. والخراش: الْكَلْب، وَهُوَ بِكَسْر الْخَاء، وَقبل الْألف رَاء بعْدهَا شين مُعْجمَة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3548 وَإِمَّا من حَيْثُ الِاصْطِلَاح، أَي: من الغرابة خلط اصْطِلَاح باصطلاح، كَمَا يُقَال فِي القياسات الْفِقْهِيَّة لفظ الدّور، أَو التسلسل أَو الهيولى، أَو الْمَادَّة، أَو المبدأ، أَو الْغَايَة. نَحْو أَن يُقَال فِي شُهُود الْقَتْل إِذا رجعُوا: لَا يجب الْقصاص؛ لِأَن وجوب الْقصاص تجرد مبداه عَن غَايَة مَقْصُوده فَوَجَبَ أَن لَا يثبت. وَكَذَا مَا أشبه ذَلِك من اصْطِلَاح الْمُتَكَلِّمين إِلَّا أَن يعرف من حَال خَصمه أَنه يعرف ذَلِك فَلَا غرابة حِينَئِذٍ. إِذا علم ذَلِك فبيان كَونه مُجملا أَو غَرِيبا حَتَّى يحْتَاج إِلَى تَفْسِير على الْمُعْتَرض على الْأَصَح بطريقه، إِلَّا أَن الأَصْل عدم الْإِجْمَال وَعدم الغرابة، فيبين أَن / اللَّفْظ مُجمل لكَونه مُتَعَددًا وَلَا يُكَلف بَيَان التَّسَاوِي لعسره. فَإِن قَالَ: إِن الأَصْل عدم رُجْحَان بَعْضهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3549 فَهُوَ جيد، وَيكون ذَلِك تَبَرعا من الْمُعْتَرض، هَذَا الصَّحِيح، وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ. وَقيل: لِأَنَّهُ سلمه لما سلم الِاسْتِعْمَال، وَالْأَصْل عدم الِاشْتِرَاك. رد: لَا ينْحَصر سَبَب الْإِجْمَال فِي الِاشْتِرَاك. قَوْله: (وَجَوَاب الْمُسْتَدلّ بِمَنْع احْتِمَاله أَو بَيَان ظُهُوره فِي مَقْصُوده بِنَقْل، أَو عرف، أَو قرينَة، أَو تَفْسِيره إِن تعذر إبِْطَال غرابته، وَلَو قَالَ: يلْزم ظُهُوره فِي أَحدهمَا دفعا للإجمال، أَو فِيمَا قصد بِهِ لعدم ظُهُوره [فِي الآخر] اتِّفَاقًا كفى فِي الْأَصَح، بِنَاء على أَن الْمجَاز أولى، وَلَا يعْتد بتفسيره بِمَا لَا يحْتَملهُ لُغَة) . بَيَان أَنه لَيْسَ بمجمل وَلَا غَرِيب على الْمُسْتَدلّ؛ لِأَن شَرط الدّلَالَة على المُرَاد عدم إجماله أَو غرابته. فَيَقُول الْمُسْتَدلّ فِي جَوَابه: هَذَا ظَاهر فِي مقصودي، وَيبين ذَلِك: إِمَّا بِنَقْل من اللُّغَة، كَمَا لَو اعْترض عَلَيْهِ فِي قَوْله: الْوضُوء قربَة فَتجب لَهُ النِّيَّة، فَيَقُول الْوضُوء يُطلق على النَّظَافَة وعَلى الْأَفْعَال الْمَخْصُوصَة، فَمَا الَّذِي تُرِيدُ بِالَّذِي تجب لَهُ النِّيَّة؟ فَيَقُول: حَقِيقَته الشَّرْعِيَّة، وَهِي الْأَفْعَال الْمَخْصُوصَة. وَإِمَّا من الْعرف، كالدابة. أَو بقول ظَاهر لقَرِينَة مَعَه، مثل قَوْله: قرء تحرم فِيهِ الصَّلَاة فَيحرم الصَّوْم، فقرينة تَحْرِيم الصَّلَاة فِيهِ يدل [أَن] المُرَاد بِهِ الْحيض. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3550 وَفِي الغرابة، مثل: قَوْله طلة زوجت نَفسهَا، فَلَا يَصح، فالطلة: الْمَرْأَة بِدَلِيل قَوْله زوجت نَفسهَا، لَا صفة الْخمر. أَو يُفَسر مَقْصُوده إِن تعذر إبِْطَال غرابته بِأَن يَقُول: مرادي الْمَعْنى الْفُلَانِيّ، لَكِن لابد أَن يفسره بِمَا يحْتَملهُ اللَّفْظ وَإِن بعد، كَمَا يَقُول: يخرج فِي الْفطْرَة الثور، ويفسره بالقطعة من الأقط. فَلَو قَالَ: الْمُسْتَدلّ: هُوَ غير ظَاهر فِي غير مرادي بِاتِّفَاق مني ومنك، فَيكون ظَاهرا فِي مرادي؛ / لِئَلَّا يكون الْإِجْمَال. فَمنهمْ من رده بِرُجُوعِهِ إِلَى قَوْله إِن الأَصْل عدم الْإِجْمَال وَالْفَرْض أَن الْمُعْتَرض بَين أَنه مُجمل، وَأَيْضًا فَلَا يلْزم من عدم [ظُهُوره] فِي الآخر ظُهُوره فِي مَقْصُوده؛ لجَوَاز عدم الظُّهُور فِيهَا جَمِيعًا. وَصَوَّبَهُ بَعضهم دفعا لمحذور الْإِجْمَال، وَذَلِكَ حَيْثُ [لَا يكون] اللَّفْظ مَشْهُورا بالإجمال، أما إِذا اشْتهر باللإجمال كَالْعَيْنِ والقرء والجون وَنَحْوهَا، فَلَا يَصح فِيهِ دَعْوَى الظُّهُور أصلا. وَأما إِذا فسره بِمَا لَا يحْتَمل فلعب، فَلَا يسمع؛ لِأَن غَايَته أَنه ينْطق بلغَة [غَيره] مَعْرُوفَة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3551 قَالَ الْحوَاري: وَهَذَا الْحق. وَقَالَ [العميدي] : لَا يلْزمه التَّفْسِير أصلا. قَالَ ابْن مُفْلِح وَابْن الْحَاجِب وتابعناه: " وَلَو قَالَ يلْزم ظُهُوره فِي أَحدهمَا دفعا للإجمال وَفِيمَا قصدته؛ لعدم ظُهُوره فِي الآخر اتِّفَاقًا كفى، بِنَاء على أَن الْمجَاز أولى " انْتهى. لَكِن هَذَا كُله إِذا لم يكن اللَّفْظ مَشْهُورا، فَإِن كَانَ مَشْهُورا فالجزم تبكيت الْمُعْتَرض. وَيُقَال: مر فتعلم ثمَّ ارْجع فَتكلم، وَهَذَا معنى قَوْلنَا: وَلَا يعْتد بتفسيره بِمَا لَا يحْتَملهُ لُغَة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3552 قَوْله (فَسَاد الِاعْتِبَار: مُخَالفَة الْقيَاس نصا، أَو إِجْمَاعًا، وَجَوَابه: بضعفه، أَو منع ظهروه، أَو تَأْوِيله، أَو القَوْل بِمُوجبِه، أَو معارضته بِمثلِهِ، وَهُوَ أَعم من فَسَاد الْوَضع، وَفَسرهُ ابْن الْمَنِيّ: بتوجيه الْمُنَازعَة فِي دلَالَة الْقيَاس) . الثَّانِي من القوادح والاعتراضات: فَسَاد الِاعْتِبَار. هَذَا نوع ثَان من القوادح، وَهُوَ الْمُسَمّى بِفساد الِاعْتِبَار، وَهُوَ كَون الْقيَاس مُخَالفا للنَّص أَو الْإِجْمَاع؛ فَإِن ذَلِك يدل على فَسَاده. سَوَاء كَانَ النَّص نَص الْقُرْآن، كَمَا يُقَال فِي تبييت الصَّوْم: صَوْم مَفْرُوض، فَلَا يَصح بنية من النَّهَار كالقضاء. فَيُقَال: هَذَا فَاسد الِاعْتِبَار [لمُخَالفَته] قَوْله تَعَالَى {والصائمين والصائمات} [الْأَحْزَاب: 35] ، فَإِنَّهُ يدل على أَن كل صَائِم يحصل لَهُ أجر عَظِيم، وَذَلِكَ يسْتَلْزم الصِّحَّة. أَو كَانَ النَّص سنة، كَمَا يُقَال: لَا يَصح السّلم فِي الْحَيَوَان؛ لِأَنَّهُ يشْتَمل على غرر فَلَا يَصح فِي الْمُخْتَلط. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3553 فَيُقَال: هَذَا فَاسد / الِاعْتِبَار لمُخَالفَة مَا فِي السّنة: " أَن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رخص فِي السّلم ". أما مُخَالفَة الْإِجْمَاع فكقول حَنَفِيّ: لَا يجوز للرجل أَن يغسل امْرَأَته؛ لِأَنَّهُ يحرم النّظر إِلَيْهَا كالأجنبية. فَيُقَال: هَذَا فَاسد الِاعْتِبَار لمُخَالفَة الْإِجْمَاع السكوتي، وَهُوَ أَن عليا غسل فَاطِمَة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3554 ٍ وَفِي حكم مُخَالفَة النَّص وَالْإِجْمَاع: أَن تكون إِحْدَى مُقَدمَات الْقيَاس هِيَ الْمُخَالفَة للنَّص أَو الْإِجْمَاع، وَيَدعِي دُخُوله فِي إِطْلَاق مُخَالفَة النَّص أَو الْإِجْمَاع. وَفِي معنى ذَلِك أَن يكون الحكم مِمَّا لَا يُمكن إثْبَاته بِالْقِيَاسِ، كإلحاق الْمُصراة بغَيْرهَا من الْمَعِيب فِي حكم الرَّد وَعَدَمه، وَوُجُوب بدل لَبنهَا الْمَوْجُود فِي الضَّرع؛ لِأَن هَذَا الْقيَاس مُخَالف لصريح النَّص الْوَارِد فِيهَا، أَو كَانَ تركيبه مشعرا بنقيض الحكم الْمَطْلُوب. وَإِنَّمَا سمي هَذَا النَّوْع بذلك؛ لِأَن اعْتِبَار الْقيَاس مَعَ النَّص وَالْإِجْمَاع اعْتِبَار لَهُ مَعَ دَلِيل أقوى مِنْهُ، وَهُوَ اعْتِبَار فَاسد لحَدِيث معَاذ، فَإِنَّهُ أخر الِاجْتِهَاد عَن النَّص. قَالَ الْعَسْقَلَانِي: " سمي بذلك؛ لِأَن الْفساد لَيْسَ فِي وضع الْقيَاس وتركيبه، بل لأمر من خَارج وَهُوَ عدم صِحَة الِاحْتِجَاج بِهِ مَعَ وجود النَّص الْمُخَالف لَهُ، لحَدِيث معَاذ حَيْثُ أخر الْعَمَل بِالْقِيَاسِ. وَصَوَّبَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَدلَّ على أَن رُتْبَة الْقيَاس بعد النَّص. وَلِأَن الظَّن الْمُسْتَفَاد من النَّص أقوى من الظَّن الْمُسْتَفَاد من الْقيَاس ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3555 وَكَذَا الصَّحَابَة لم يقيسوا إِلَّا مَعَ عدم النَّص، وَتقدم أَنه لَا يجوز الحكم بِالْقِيَاسِ إِلَّا بعد طلبه من النُّصُوص. فَإِن قيل: هَذَا النَّوْع يؤول إِلَى فَسَاد الْوَضع - على مَا يَأْتِي - لِأَن كلا مِنْهُمَا اجْتِهَاد فِي مُقَابلَة النَّص، فَمَا وَجه تَمْيِيزه عَنهُ؟ وَلذَلِك جَعلهمَا أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَاحِدًا. وَالْجَوَاب: أَن من انواع فَسَاد الِاعْتِبَار كَون تركيبه مشعرا بنقيض الحكم الْمَطْلُوب، فَهُوَ أَعم من فَسَاد الْوَضع، وَقد صرحنا بِهِ فِي الْمَتْن. وَلذَلِك قَالَ الجدليون فِي تَرْتِيب الأسئلة: _ إِن فَسَاد الِاعْتِبَار مقدم على فَسَاد الْوَضع على مَا يَأْتِي -. لِأَن فَسَاد الِاعْتِبَار نظر فِي فَسَاد الْقيَاس / من حَيْثُ الْجُمْلَة، وَفَسَاد الْوَضع أخص بِاعْتِبَار؛ لِأَنَّهُ يسْتَلْزم عدم اعْتِبَار الْقيَاس؛ لِأَنَّهُ قد يكون بِالنّظرِ إِلَى أَمر خَارج عَنهُ. وَمِمَّنْ قَالَ إِن فَسَاد الِاعْتِبَار أَعم: الْهِنْدِيّ، والتاج السُّبْكِيّ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3556 " جمع الْجَوَامِع " وَجَمَاعَة. وَقَالَ الْعَضُد: " النَّوْع الثَّانِي من الاعتراضات وَهُوَ اعْتِبَار تمكنه من الِاسْتِدْلَال بِالْقِيَاسِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة، فَإِن منع تمكنه من الْقيَاس مُطلقًا فَهُوَ فَسَاد الِاعْتِبَار، [كَأَن] يَدعِي أَن الْقيَاس لَا يعْتَبر فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة، وَإِن مَنعه من الْقيَاس الْمَخْصُوص فَهُوَ من فَسَاد الْوَضع؛ لِأَنَّهُ يَدعِي أَنه وضع فِي الْمَسْأَلَة قِيَاسا لَا يَصح ". وَقَالَ الْعَسْقَلَانِي: " وَاعْلَم أَن فَسَاد الْوَضع أَعم من فَسَاد الِاعْتِبَار؛ لِأَن الْقيَاس قد يكون صَحِيح الْوَضع، وَإِن كَانَ اعْتِبَاره فَاسِدا بِالنّظرِ إِلَى أَمر من خَارج، فَكل فَسَاد الْوَضع فَسَاد الِاعْتِبَار لَا عكس " انْتهى. وَفَسرهُ ابْن الْمَنِيّ من أَصْحَابنَا بتوجيه الْمُنَازعَة فِي دلَالَة الْقيَاس. قَوْله: (وَجَوَابه: بضعفه، أَو منع ظُهُوره، أَو تَأْوِيله، أَو القَوْل بِمُوجبِه، أَو معارضته بِمثلِهِ) . يحصل جَوَاب ذَلِك بأوجه مِنْهَا: بالطعن فِي سَنَده فَيمْنَع صِحَّته أويمنع دلَالَته. قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (منع النَّص الَّذِي ادّعى أَن الْقيَاس على خِلَافه إِمَّا منع دلَالَة أَو منع صِحَة. مِثَال الأول: أَن يَقُول فِي الصَّوْم: لَا نسلم أَن الْآيَة تدل على صِحَة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3557 الصَّوْم بِدُونِ تبييت النِّيَّة، [لِأَنَّهَا] مُطلقَة، وقيدناها بِحَدِيث: " لَا صِيَام لمن لم يبيت الصّيام من اللَّيْل ". أَو يَقُول: إِنَّهَا دلّت على أَن الصَّائِم يُثَاب، وَأَنا أَقُول بِهِ، لَكِنَّهَا لَا تدل على أَنه لَا يلْزمه الْقَضَاء والنزاع فِيهِ. أَو يَقُول: إِنَّهَا دلّت على ثَوَاب الصَّائِم، وَأَنا لَا أسلم أَن الممسك بِدُونِ تبييت النِّيَّة صَائِم. وَمِثَال الثَّانِي: أَن يَقُول فِي مَسْأَلَة السّلم: لَا نسلم صِحَة الترخيص فِي السّلم، وَإِن سلمنَا فَلَا نسلم أَن اللَّام فِيهِ للاستغراق، فَلَا يتَنَاوَل الْحَيَوَان وَإِن صَحَّ السّلم فِي غَيره. وَأما مَسْأَلَة غسل الزَّوْجَة: فبأن يمْنَع صِحَة ذَلِك عَن عَليّ، وَإِن سلم فَلَا نسلم أَن ذَلِك اشْتهر، وَإِن سلم فَلَا نسلم أَن الْإِجْمَاع السكوتي حجَّة، وَإِن سلم فَالْفرق بَين عَليّ وَغَيره / أَن فَاطِمَة زَوجته فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، فالموت لم يقطع النِّكَاح بَينهمَا " بِإِخْبَار النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "، بِخِلَاف غَيرهمَا فَإِن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3558 الْمَوْت يقطع نِكَاحهمَا. الْوَجْه الثَّانِي: أَن يبين الْمُسْتَدلّ أَن مَا ذكره من الْقيَاس يسْتَحق التَّقْدِيم على النَّص، إِمَّا لضَعْفه فَيكون الْقيَاس أولى مِنْهُ، أَو لكَون النَّص عَاما فَيكون الْقيَاس مُخَصّصا لَهُ جمعا بَين الدَّلِيلَيْنِ،، أَو لكَون مَذْهَب الْمُسْتَدلّ يَقْتَضِي تَقْدِيم الْقيَاس على ذَلِك النَّص لكَونه حنفيا يرى تَقْدِيم الْقيَاس على الْخَبَر [إِذا خَالف الْأُصُول أَو فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى، أَو مالكيا يرى تَقْدِيم الْقيَاس على الْخَبَر] إِذا خَالفه خبر الْوَاحِد) . وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": اعْتِبَار مَا بِنَاؤُه على التَّوسعَة والتضييق على الآخر، أَو الِابْتِدَاء بالدوام، أَو الرّقّ بِالْعِتْقِ، أَو الْعتْق بِالْبيعِ، أَو الْمَرْأَة بِالرجلِ فِي الْقَتْل بِالرّدَّةِ مَعَ اخْتِلَافهمَا فِي كفر أُصَلِّي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3559 قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: " يحصل الْجَواب [بِوُجُوه] : مِنْهَا: الطعْن فِي النَّص الَّذِي ادّعى أَن الْقيَاس على خِلَافه، إِمَّا بِمَنْع صِحَّته لضعف إِسْنَاده، أَو منع دلَالَته، أَو غير ذَلِك. وَمِنْهَا: الْمُعَارضَة بِنَصّ آخر فَيسلم الْقيَاس حِينَئِذٍ. وَمِنْهَا: أَن يبين الْمُسْتَدلّ رُجْحَان قِيَاسه على النَّص الَّذِي ذكر أَنه معَارض بِمَا ذكر فِي خبر الْوَاحِد. كَقَوْلِنَا فِي مَتْرُوك التَّسْمِيَة: ذبح صَار من أَهله فِي مَحَله فَيحل كذبح ناسي التَّسْمِيَة. فيورد الْمُعْتَرض: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم اللَّهِ عَلَيْهِ وَإنَّهُ لفسق} [الْأَنْعَام: 121] ، وَيَقُول: قياسهم فَاسد الِاعْتِبَار لمعارضته هَذَا النَّص. فَيَقُول الْمُسْتَدلّ: هَذَا مَحْمُول على تَحْرِيم مَذْبُوح عَبدة الْأَوْثَان، فَإِن عدم ذكر اللَّهِ غَالب على أهل الشّرك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3560 وَمِنْهَا: عدم ظُهُور دلَالَته على مَا يلْزم مِنْهُ فَسَاد الْقيَاس. وَمِنْهَا: أَن يَدعِي أَن النَّص الْمعَارض بِهِ مؤول بِدَلِيل يرجحه على الظَّاهِر. وَمِنْهَا: أَن يَقُول بِمُوجبِه، أَي: يبقيه على ظَاهره، وَيَدعِي أَن مَدْلُوله لَا يُنَافِي الْقيَاس، إِلَى غير ذَلِك من الطّرق " انْتهى. قَوْله: (فَسَاد الْوَضع بِأَن يكون الْجَامِع ثَبت اعْتِبَاره بِنَصّ أَو إِجْمَاع فِي نقيض الحكم، كَقَوْل شَافِعِيّ فِي مسح الرَّأْس: مسح فسن تكراره كالاستجمار، فيعترض / بِكَرَاهَة تكْرَار مسح الْخُف) . قَالَ الطوفي وَغَيره: " إِنَّمَا سمي هَذَا فَسَاد الْوَضع؛ لِأَن وضع الشَّيْء جعله فِي مَحل على هَيْئَة أَو كَيْفيَّة، فَإِذا كَانَ ذَلِك الْمحل أَو تِلْكَ الْهَيْئَة لَا تناسبه كَانَ وَضعه على خلاف الْحِكْمَة يكون فَاسِدا. فَنَقُول هُنَا: إِن الْعلَّة إِذا اقْتَضَت نقيض الحكم الْمُدعى أَو خِلَافه كَانَ ذَلِك مُخَالفا للحكمة؛ إِذْ من شَأْن الْعلَّة أَن تناسب معلولها، لَا أَنَّهَا تخَالفه، فَكَانَ ذَلِك فَاسد الْوَضع بِهَذَا الِاعْتِبَار: " انْتهى. أَي: من القوادح فَسَاد الْوَضع، وَهُوَ اعْتِبَار الْجَامِع فِي نقيض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3561 الحكم، أَو بَيَان [أَن] الدَّلِيل مَوْضُوع على غير هَيئته الَّتِي يجب اعْتِبَارهَا فِي تَرْتِيب الحكم عَلَيْهِ واستنتاجه مِنْهُ، فَالْأول كَمَا مثلنَا. قَالَ الْمحلي: (مِثَال الْجَامِع ذِي النَّص قَول الْحَنَفِيَّة: الْهِرَّة سبع ذُو نَاب، فَيكون سؤره نجسا كَالْكَلْبِ. فَيُقَال السبعية اعتبرها الشَّارِع عِلّة للطَّهَارَة، حَيْثُ " دعِي إِلَى دَار فِيهَا كلب فَامْتنعَ، ودعي إِلَى أُخْرَى فِيهَا سنور فَأجَاب فَقيل لَهُ، فَقَالَ: السنور سبع "، رَوَاهُ أَحْمد، وَغَيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3562 وَمِثَال ذِي الْإِجْمَاع: قَول الشَّافِعِيَّة فِي مسح الرَّأْس فِي الْوضُوء: يسْتَحبّ تكراره كالاستجمار حَيْثُ اسْتحبَّ الإيتار فِيهِ. فَيُقَال: الْمسْح فِي الْخُف لَا يسْتَحبّ تكراره كالاستجمار إِجْمَاعًا، وَإِن حكى ابْن كج اسْتِحْبَاب تثليثه كمسح الرَّأْس) انْتهى. وَهَذَا الْمُعْتَمد. وَجَوَاب الْمُسْتَدلّ: بِبَيَان الْمَانِع لتعرضه لتلف الْخُف. وسؤال فَسَاد الْوَضع نقض خَاص لإثباته نقيض الحكم، فَإِن ذكر الْمُعْتَرض نقيض الحكم مَعَ أَصله فَقَالَ: لَا يسن تكْرَار مسح الرَّأْس كالخف، فَهُوَ الْقلب، لَكِن اخْتلف أَصلهمَا. وَإِن بَين الْمُعْتَرض مُنَاسبَة الْجَامِع للنقيض وَلم يذكر أَصله، فَإِن بَينهمَا من جِهَة دَعْوَى الْمُسْتَدلّ فَهُوَ: الْقدح فِي الْمُنَاسبَة، وَإِلَّا لم يقْدَح لجَوَاز أَن للوصف جِهَتَيْنِ، كمحل مشتهى يُنَاسب حلّه لإراحة الْقلب، وتحريمه لكف النَّفس. وَفسّر أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ فَسَاد الْوَضع: بجعله الْقيَاس دَلِيلا على منكره فيمنعه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3563 وَجَوَابه بَيَان كَونه / حجَّة، ورد التَّفْسِير السَّابِق إِلَى الْقلب. قَوْله: (وَمِنْه أَن لَا يكون الدَّلِيل على الْهَيْئَة الصَّالِحَة لاعتباره من تَرْتِيب الحكم) . كَأَن يكون صَالحا لضد ذَلِك الحكم أَو نقيضه. اقْتصر عَلَيْهِ ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهمَا، على هَذَا هُوَ خطاب الْوَضع فَقَط وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: وَمن فَسَاد الْوَضع فرع آخر، وَهُوَ مَا اقْتصر عَلَيْهِ ابْن الْحَاجِب ". فَدلَّ أَنَّهُمَا نَوْعَانِ لخطاب الْوَضع، وَقد ذكرهمَا فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَغَيره، فَلذَلِك جمعتهما. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3564 قَوْله: (كتلقي التَّخْفِيف من التَّغْلِيظ، كَقَوْل حَنَفِيّ: الْقَتْل جِنَايَة عَظِيمَة فَلَا تجب فِيهِ الْكَفَّارَة كَبَقِيَّة الْكَبَائِر، فجناية عَظِيمَة تناسب التَّغْلِيظ. أَو التوسيع من التضيق كَقَوْلِه فِي الزَّكَاة: مَال وَجب إرفاقا لدفع الْحَاجة، فَكَانَ على التَّرَاخِي كالدية على الْعَاقِلَة، فَدفع الْحَاجة يَقْتَضِي الْفَوْر. أَو الْإِثْبَات من النَّفْي: كالمعاطاة فِي الْيَسِير: بيع لم يُوجد فِيهِ سوى الرضى فَوَجَبَ أَن يبطل كَغَيْرِهِ، فالرضى يُنَاسب الِانْعِقَاد) . وَهَذَا هُوَ النَّوْع الثَّانِي. وَإِنَّمَا سمي هَذَا فَسَاد الْوَضع؛ لِأَن وضع الْقيَاس أَن يكون على هَيْئَة صَالِحَة لِأَن يَتَرَتَّب على ذَلِك الحكم الْمَطْلُوب إثْبَاته، فَمَتَى خلا عَن ذَلِك فسد وَضعه. قَوْله: (وجوابهما بتقرير كَونهمَا كَذَلِك) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3565 أَي: جَوَاب نَوْعي فَسَاد الْوَضع بتقرير كَونه كَذَلِك، فيقرر كَون الدَّلِيل صَالحا لاعتباره فِي تَرْتِيب الحكم عَلَيْهِ، كَأَن يكون لَهُ جهتان ينظر الْمُسْتَدلّ فِيهِ من إِحْدَاهمَا، والمعترض من الْأُخْرَى، كالارتفاق وَدفع الْحَاجة فِي مَسْأَلَة الزَّكَاة. وَيُجَاب عَن الْكَفَّارَة فِي الْقَتْل: بِأَنَّهُ غلظ فِيهِ بِالْقصاصِ فَلَا يغلظ فِيهِ بِالْكَفَّارَةِ. وَعَن المعاطاة: بِأَن عدم الِانْعِقَاد بهَا مُرَتّب على عدم الصِّيغَة لَا على الرضى. وتقرر النَّوْع الأول فِيمَا تابعنا فِيهِ ابْن الْحَاجِب كَون الْجَامِع مُعْتَبرا فِي ذَلِك الحكم، وَيكون تخلفه عَنهُ بِأَن وجد مَعَ نقيضه لمَانع كَمَا فِي مسح الْخُف / فَإِن تكراره يُفْسِدهُ تغسيله. قَوْله: (منع حكم الأَصْل يسمع فِي الْأَصَح فَلَا يَنْقَطِع بِمُجَرَّدِهِ عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، فَيدل عَلَيْهِ كمنع الْعلَّة أَو وجودهَا، وَقيل: بلَى. وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذ مَعَ ظُهُور الْمَنْع، وَاخْتَارَ الْغَزالِيّ اتِّبَاع عرف الْمَكَان. وَفِي " الْوَاضِح ": إِن اعْترض على حكم الأَصْل: بِأَنِّي لَا أعرف مذهبي فِيهِ، فَإِن أمكن الْمُسْتَدلّ بَيَانه وَإِلَّا دلّ على إثْبَاته) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3566 من القوادح منع حكم الأَصْل، فَيمْنَع الْمُعْتَرض حكم الأَصْل. كَأَن يَقُول حنبلي: الْخلّ مَائِع لَا يرفع الْحَدث فَلَا يزِيل النَّجَاسَة كالدهن. فَيَقُول حَنَفِيّ: لَا أسلم الحكم فِي الأَصْل فَإِن الدّهن عِنْدِي يزِيل النَّجَاسَة، فَهَل يسمع منع حكم الأَصْل أم لَا؟ فالجمهور قَالُوا: يسمع. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ: لَا يسمع أصلا، وَلَا يلْزم الْمُسْتَدلّ ذكر دَلِيل الأَصْل، بل يَقُول: قست على أُصَلِّي وَهُوَ بعيد، فَإِن الْقيَاس على أصل لَا يُقَام عَلَيْهِ دَلِيل وَلَا يَعْتَقِدهُ الْخصم، لَا ينتهض دَلِيلا على الْخصم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3567 لَكِن الَّذِي فِي " الملخص " لَهُ، أَن لَهُ سَماع الْمَنْع. فعلى الأول هُوَ الصَّحِيح الْمُعْتَمد هَل يَنْقَطِع الْمُسْتَدلّ بذلك أم لَا؟ على مَذَاهِب: أَصَحهَا: لَا يَنْقَطِع بِمُجَرَّد ذَلِك، اخْتَارَهُ الْأَصْحَاب، وَالْأَكْثَر؛ لِأَنَّهُ منع مُقَدّمَة من مُقَدمَات الْقيَاس، فَلهُ إثْبَاته كَسَائِر الْمُقدمَات وكمنع الْعلَّة، أَو وجودهَا بِأَنَّهُ إِجْمَاع، ذكره الْآمِدِيّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3568 وَالثَّانِي: يَنْقَطِع [للانتقال] عَن إِثْبَات حكم الْفَرْع الَّذِي هُوَ بصدده إِلَى غَيره وَهُوَ حكم الأَصْل. وَالثَّالِث: إِن كَانَ الْمَنْع ظَاهرا يعرفهُ أَكثر الْفُقَهَاء صَار مُنْقَطِعًا؛ لبنائه الْمُخْتَلف فِيهِ على الْمُخْتَلف فِيهِ، وَإِن كَانَ خفِيا بِحَيْثُ لَا يعرفهُ إِلَّا الْخَواص فَلَا، وَهَذَا اخْتِيَار الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ. وَنقل ابْن برهَان فِي " الْأَوْسَط " عَنهُ: أَنه اسْتثْنى من الظَّاهِر مَا إِذا قَالَ فِي نفس الِاسْتِدْلَال: إِن سلمت، وَإِلَّا انْقَلب الْكَلَام عَلَيْهِ فَلَا يعد مُنْقَطِعًا. وَالرَّابِع - وَبِه قَالَ الْغَزالِيّ -: يعْتَبر عرف ذَلِك الْمَكَان، فَإِن عدوه مُنْقَطِعًا فَذَلِك، وَإِلَّا لم يَنْقَطِع، / فَإِن للجدل عرفا ومراسم فِي كل مَكَان فَيتبع. وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": فَإِن اعْترض على حكم الأَصْل: بِأَنِّي لَا أعرف مذهبي فِيهِ، فَإِن أمكن الْمُسْتَدلّ بَيَانه، وَإِلَّا دلّ على إثْبَاته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3569 هَذَا الْكَلَام زَائِد على مَا نَحن فِيهِ؛ لِأَن الْكَلَام هُنَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذا اعْترض على الْمُسْتَدلّ وَمنع حكم أَصله؟ هَل يدل الْمُسْتَدلّ على حكم أَصله، وَكَلَام ابْن عقيل إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُعْتَرض إِذا قَالَ: لَا أعرف مذهبي فِيمَا قست عَلَيْهِ، فَأَما إِن بَينه الْمُسْتَدلّ فالأدلة على إثْبَاته. قَوْله: (ثمَّ الْأَصَح لَا يَنْقَطِع الْمُعْتَرض بِدلَالَة الْمُسْتَدلّ فَلهُ الِاعْتِرَاض، وَلَيْسَ بِخَارِج عَن الْمَقْصُود) . يَعْنِي: إِذا فرعنا على سَماع الْمَنْع، وَأَنه لَا يَنْقَطِع الْمُسْتَدلّ، بل لَهُ إِقَامَة الدَّلِيل على حكم الأَصْل، فَإِذا أَقَامَ الدَّلِيل عَلَيْهِ فَهَل يَنْقَطِع الْمُعْتَرض أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ: أصَحهمَا: لَا يَنْقَطِع بِمُجَرَّد دلَالَة الْمُسْتَدلّ، فَلهُ الِاعْتِرَاض على ذَلِك الدَّلِيل بطريقه، إِذْ لَا يلْزم من وجود صُورَة دَلِيل صِحَّته. وَالْقَوْل الثَّانِي: يَنْقَطِع؛ لِأَن اشْتِغَاله بذلك خُرُوج عَن الْمَقْصُود الْأَصْلِيّ، فَلَيْسَ لَهُ أَن يَعْتَرِضهُ. قَوْله: (فَيتَوَجَّه [سَبْعَة] [منوع] مترتبة) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3570 فِي هَذِه الْجُمْلَة [سَبْعَة] اعتراضات: ثَلَاثَة تتَعَلَّق بِالْأَصْلِ، وَثَلَاثَة بِالْعِلَّةِ، وَوَاحِد بالفرع: فَيُقَال فِي الْإِثْبَات بمنوع مرتبَة: لَا نسلم حكم الأَصْل. سلمنَا ذَلِك، وَلَا نسلم أَنه مِمَّا يُقَاس فِيهِ، لم لَا يكون مِمَّا اخْتلف فِي جَوَاز الْقيَاس فِيهِ؟ سلمنَا ذَلِك، وَلَا نسلم أَنه مُعَلل، لم لَا يُقَال إِنَّه تعبدي؟ سلمنَا ذَلِك / وَلَا نسلم أَن هَذَا الْوَصْف علته، لم لَا يُقَال: الْعلَّة غَيره؟ سلمنَا ذَلِك، وَلَا نسلم وجود الْوَصْف فِي الأَصْل. سلمنَا ذَلِك، وَلَا نسلم أَن الْوَصْف مُتَعَدٍّ، لم لَا يُقَال: إِنَّه قَاصِر؟ سلمنَا ذَلِك، وَلَا نسلم وجوده فِي الْفَرْع. وَظَاهر إيرادها على هَذَا / التَّرْتِيب وُجُوبه لمناسبة ذَلِك التَّرْتِيب الطبيعي، فَيقدم مِنْهَا مَا يتَعَلَّق بِالْأَصْلِ من منع حكمه، أَو كَونه مِمَّا لَا يُقَاس عَلَيْهِ، أَو كَونه غير مُعَلل، ثمَّ مَا يتَعَلَّق بِالْعِلَّةِ؛ لِأَنَّهَا فَرعه، لاستنباطها مِنْهُ من منع كَون ذَلِك الْوَصْف عِلّة أَو منع وجوده فِي الأَصْل، أَو منع كَونه مُتَعَدِّيا، ثمَّ مَا يتَعَلَّق بالفرع لابتنائه عَلَيْهِمَا، كمنع وجود الْوَصْف الْمُدعى عليته فِي الْفَرْع. وَجَوَاب هَذِه الاعتراضات بِدفع مَا يُرَاد دَفعه مِنْهَا بطريقة المفهومة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3571 وَقد أَجَاد فِي ذَلِك الْعَلامَة أَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ فِي كتاب " الْإِيضَاح "، فَإِنَّهُ فِي فن الجدل، وَهُوَ فِي غَايَة الْحسن. وَيَأْتِي بعد تَمام القوادح فِي الخاتمة حكم تعدد الاعتراضات من جنس أَو أَجنَاس. قَوْله: (قَالَ أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة وَغَيرهم: للمستدل أَن يسْتَدلّ بِدَلِيل عِنْده فَقَط، كمفهوم وَقِيَاس، فَإِن مَنعه خَصمه دلّ عَلَيْهِ وَلم يَنْقَطِع، خلافًا لأبي عَليّ إِن كَانَ الأَصْل خفِيا، وَأطلق قوم الْمَنْع، وَلَيْسَ للمعترض أَن يلْزمه مَا يَعْتَقِدهُ هُوَ، وَلَا أَن يَقُول: إِن سلمت وَإِلَّا دللت عَلَيْهِ، خلافًا للكيا، وَقَالَ الشَّيْخ: لم يَنْقَطِع وَاحِد مِنْهُمَا) . هَذَا من تَمام الْمَسْأَلَة. قَالَ ابْن مُفْلِح: " قَالَ أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة وَغَيرهم: للمستدل أَن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3572 يحْتَج بِدَلِيل عِنْده فَقَط كمفهوم وَقِيَاس، فَإِن مَنعه خَصمه دلّ عَلَيْهِ وَلم يَنْقَطِع خلافًا لأبي عَليّ الطَّبَرِيّ الشَّافِعِي إِن كَانَ الأَصْل خفِيا. وَأطلق أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ الْمَنْع عَن قوم. وَلَيْسَ للمعترض أَن يلْزمه مَا يَعْتَقِدهُ هُوَ فَقَط، وَلَا أَن يَقُول: إِن سلمته وَإِلَّا دللت عَلَيْهِ، خلافًا لبَعض الشَّافِعِيَّة. قَالَ: لِأَنَّهُ بالمعارضة كالمستدل - وعنى بِهِ الكيا -. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا - وعنى بِهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين - لَا يَنْقَطِع وَاحِد مِنْهُمَا فَيكون الِاسْتِدْلَال فِي مهلة النّظر فِي الْمُعَارضَة " انْتهى كَلَام ابْن مُفْلِح. قَوْله: (التَّقْسِيم: احْتِمَال لفظ الْمُسْتَدلّ لأمرين فَأكْثر على السوَاء، بَعْضهَا مَمْنُوع / [وَهُوَ] وَارِد عندنَا وَعند الْأَكْثَر، وَبَيَانه على الْمُعْتَرض: كَالصَّحِيحِ فِي الْحَضَر وجد السَّبَب بتعذر المَاء فَجَاز التَّيَمُّم، فَيُقَال: السَّبَب تعذره مُطلقًا، أَو فِي سفر، أَو فِي مرض. الأول مَمْنُوع فَهُوَ منع بعد تَقْسِيم، وَجَوَابه كالاستفسار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3573 من جملَة القوادح التَّقْسِيم. وَهُوَ كَون اللَّفْظ مترددا بَين احْتِمَالَيْنِ متساويين: أَحدهمَا: مُسلم لَا يحصل الْمَقْصُود. وَالْآخر: مَمْنُوع وهوالذي يحصل الْمَقْصُود. وأهملنا هَذَا الْقَيْد الْأَخير تبعا لِابْنِ الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، والتاج السُّبْكِيّ، وَلَا بُد مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمَا لَو كَانَا مُسلمين يحصلان الْمَقْصُود أَو لَا يحصلان لم يكن للتقسيم معنى؛ لِأَن الْمَقْصُود حَاصِل أَو غير حَاصِل على التَّقْدِيرَيْنِ مَعًا وَمَعَ زِيَادَته. فَيرد عَلَيْهِ مَا لَو حصلا الْمَقْصُود وَورد على أَحدهمَا من القوادح مَا لَا يرد على الآخر، فَإِنَّهُ من التَّقْسِيم - أَيْضا - لحُصُول غَرَض الْمُعْتَرض بِهِ. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: " وَقَوْلنَا على السوَاء لِأَنَّهُ لَو كَانَ ظَاهرا فِي أَحدهمَا لوَجَبَ تَنْزِيله عَلَيْهِ ". ومثاله فِي اكثر من اثْنَيْنِ لَو قيل: امْرَأَة بَالِغَة عَاقِلَة يَصح مِنْهَا النِّكَاح كَالرّجلِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3574 فَيَقُول الْمُعْتَرض: إِمَّا بِمَعْنى أَن لَهَا تجربة، أَو أَن لَهَا حسن رَأْي وتدبير، أَو أَن لَهَا عقلا غريزيا، فَالْأول وَالثَّانِي ممنوعان، وَالثَّالِث مُسلم، لَكِن لَا يَكْفِي؛ لِأَن الصَّغِيرَة لَهَا عقل غريزي، وَلَا يَصح مِنْهَا النِّكَاح. وَذكرنَا فِي الْمَتْن مِثَال الْأَمريْنِ. وَاخْتلف الْعلمَاء فِي قبُول هَذَا السُّؤَال. وَالصَّحِيح: أَنه يقبل، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، لَكِن بعد مَا يبين الْمُعْتَرض مَحل التَّرَدُّد. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن سُؤال الاستفسار يُغني عَنهُ، فَلَا حَاجَة إِلَيْهِ. وَجَوَاب هَذَا الِاعْتِرَاض: أَن يَقُول الْمُسْتَدلّ لَفْظِي الَّذِي ذكرته مَحْمُول على الْمَعْنى الَّذِي يُؤَدِّي للدلالة، وَالدَّال لَهَا على حمله على ذَلِك: اللُّغَة، أَو الْعرف الشَّرْعِيّ، اَوْ الْعرف الْعَام، أَو كَونه مجَازًا راجحا بعرف الِاسْتِعْمَال، أَو يكون / أحد الِاحْتِمَالَات ظَاهرا بِسَبَب مَا انْضَمَّ إِلَيْهِ من الْقَرِينَة من لفظ الْمُسْتَدلّ، إِن كَانَ هُنَاكَ قرينَة لفظية أَو حَالية أَو عقلية، بِحَيْثُ لَا يحْتَاج إِلَى إثْبَاته لُغَة وَلَا عرفا. قَالَ ابْن مُفْلِح بعد ذَلِك: " وَلَو نذْكر الْمُعْتَرض احْتِمَالَيْنِ لم يدل عَلَيْهِمَا لفظ الْمُسْتَدلّ كَقَوْل الْمُسْتَدلّ: وجد سَبَب اسْتِيفَاء الْقصاص فَيجب، فَيَقُول: مَتى منع مَانع الالتجاء إِلَى الْحرم أَو عَدمه؟ الأول مَمْنُوع. فَإِن أوردهُ على لفظ الْمُسْتَدلّ لم يقبل لعدم تردد لفظ السَّبَب بَين الِاحْتِمَالَيْنِ، وَإِن أوردهُ على دَعْوَاهُ الْمُلَازمَة بَين الحكم وَدَلِيله فَهُوَ مُطَالبَة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3575 بِنَفْي الْمَانِع، وَلَا يلْزم الْمُسْتَدلّ. فَإِن اسْتدلَّ الْمُعْتَرض مَعَ ذَلِك على وجود الْمعَارض فيعارضه " انْتهى. قَوْله: (منع وجود الْمُدعى عِلّة فِي الأَصْل، كَالْكَلْبِ حَيَوَان يغسل من ولوغه سبعا، فَلَا يطهر بدبغ كخنزير فَيمْنَع، وَجَوَابه: ببيانه بِدَلِيل من عقل أَو حس أَو شرع بِحَسب حَال الْوَصْف، وَله تَفْسِير لَفظه بمحتمل) . من الأسئلة والقوادح: منع كَون مَا يدعى عِلّة لحكم الأَصْل مَوْجُودا فِي الأَصْل، فضلا عَن أَن تكون هِيَ الْعلَّة. مِثَال أَن يَقُول فِي الْكَلْب: حَيَوَان يغسل من ولوغه سبعا فَلَا يقبل جلده الدّباغ كالخنزير. فَيَقُول الْمُعْتَرض: لَا نسلم أَن الْخِنْزِير يغسل من ولوغه سبعا. وَالْجَوَاب عَن هَذَا الِاعْتِرَاض: بِإِثْبَات وجود الْوَصْف فِي الأَصْل بِمَا هُوَ طَرِيق ثُبُوت مثله، لِأَن الْوَصْف قد يكون حسيا فبالحس، أَو عقليا فبالعقل، أَو شَرْعِيًّا فبالشرع. مِثَال لجَمِيع الثَّلَاثَة: إِذا قَالَ فِي الْقَتْل بالمثقل: قتل عمد عدوان، فَلَو قَالَ: لَا نسلم أَنه قتل، قَالَ: بالحس، وَلَو قيل: لَا نسلم أَنه عمد، قَالَ: مَعْلُوم عقلا بأمارته، وَلَو قيل: لَا نسلم أَنه عدوان، قَالَ: لِأَن الشَّرْع حرمه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3576 وَله تَفْسِير لَفظه بمحتمل. وَذكر الْآمِدِيّ عَن بَعضهم: يقبل بِمَالِه وجوده فِي الأَصْل وَلَو لم يحْتَملهُ. وَلَيْسَ بِشَيْء. قَوْله: (منع كَونه / عِلّة: أعظم الأسئلة، وَيقبل عندنَا وَعند الْأَكْثَر، وَجَوَابه ببيانه باحد مسالك الْعلَّة) . وَهُوَ هُنَا منع الْعلَّة فِي الْوَصْف الَّذِي علل بِهِ الْمُسْتَدلّ، والمطالبة بتصحيح ذَلِك. قَالَ الْآمِدِيّ وَمن تبعه: هُوَ أعظم الأسئلة؛ لعُمُوم وُرُوده وتشعب مسالكه. وَيقبل؛ لِئَلَّا يحْتَج الْمُسْتَدلّ بِكُل طرد، وَهُوَ لعب، وَلِأَن الأَصْل عدم دَلِيل الْقيَاس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3577 خُولِفَ فِي مَا نقل عَن الصَّحَابَة وَأفَاد الظَّن. وَلَيْسَ الْقيَاس رد فرع إِلَى أصل بِجَامِع " مَا "، بل بِجَامِع مظنون، وَلَيْسَ عجز الْمعَارض دَلِيل صِحَّته للُزُوم صِحَة كل صُورَة دَلِيل لعَجزه. فَهَذَا السُّؤَال يعم كل مَا يدعى أَنه عِلّة. فطرقه كَثِيرَة مُخْتَلفَة، وَيُقَال لَهُ: سُؤال الْمُطَالبَة، وَحَيْثُ أطلقت الْمُطَالبَة فَلَا يقْصد فِي الْعرف سوى ذَلِك، وَمَتى أُرِيد غَيره ذكر مُقَيّدا، فَيُقَال: الْمُطَالبَة بِكَذَا. وَلَو لم يقبل لَأَدَّى الْحَال إِلَى اللّعب فِي التَّمَسُّك بِكُل طرد من الْأَوْصَاف كالطول وَالْقصر، فَإِن الْمُسْتَدلّ يَأْمَن الْمَنْع فَيتَعَلَّق بِمَا شَاءَ من الْأَوْصَاف. وَقيل: لَا يقبل؛ لِأَن الْقيَاس رد فرع إِلَى أصل بِجَامِع، وَقد وجد، فَفِيمَ الْمَنْع؟ ورده: أَن ذَلِك مظنون الصِّحَّة، وَالْوَصْف الطردي مظنون الْفساد. وَجَوَاب هَذَا السُّؤَال: بِأَن يثبت الْمُسْتَدلّ علية الْوَصْف بِأحد الطّرق المفيدة لِلْعِلَّةِ: من إِجْمَاع، أَو نَص، أَو مُنَاسبَة، أَو غير ذَلِك من مسالك الْعلَّة. قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (وَلما ظهر أَن هَذَا الْمَنْع مسموع. فَالْجَوَاب: إِثْبَات الْعلية بمسلك من مسالكها الْمَذْكُورَة من قبل، وكل مَسْلَك تمسك بهَا فَيرد عَلَيْهِ مَا هُوَ شَرطه، أَي: بِمَا يَلِيق بِهِ من الأسئلة الْمَخْصُوصَة بِهِ، وَقد نبه - أَي: ابْن الْحَاجِب - هَهُنَا على اعتراضات الْأَدِلَّة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3578 الْأُخْرَى [بتبعية] اعتراضات الْقيَاس على سَبِيل الإيجاز، وَلَا بَأْس أَن نبسط فِيهِ الْكَلَام بعض الْبسط؛ لِأَن الْبَحْث كَمَا يَقع فِي الْقيَاس يَقع فِي سَائِر الْأَدِلَّة، وَمَعْرِفَة هَذِه الأسئلة نافعة فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَنَقُول: الأسئلة بِحَسب مَا يرد عَلَيْهِ من الْإِجْمَاع وَالْكتاب / وَالسّنة وَتَخْرِيج المناط أَرْبَعَة أَصْنَاف: الصِّنْف الأول: على الْإِجْمَاع، وَلم يذكرهُ ابْن الْحَاجِب لقلته. مِثَاله: مَا قَالَت الْحَنَفِيَّة فِي وَطْء الثّيّب: الْإِجْمَاع على أَنه لَا يجوز الرَّد مجَّانا، فَإِن عمر وزيدا أوجبا نصف عشر الْقيمَة وَفِي الْبكر عشرهَا، وعَلى منع الرَّد، من غير نَكِير، وَهُوَ ظَنِّي فِي دلَالَته وَفِي نَقله، وَلَوْلَا أَحدهمَا لما تصور فِي مَحل الْخلاف. والاعتراض على وُجُوه: الأول: منع وجود الْإِجْمَاع بِصَرِيح مُخَالفَة، أَو منع دلَالَة السُّكُوت على الْمُوَافقَة. الثَّانِي: الطعْن فِي السَّنَد بِأَن نَقله فلَان وَهُوَ ضَعِيف إِن أمكنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3579 الثَّالِث: الْمُعَارضَة، وَلَا يجوز بِالْقِيَاسِ، مثل: الْعَيْب يثبت الرَّد، وَيثبت عَلَيْهِ الْعَيْب للرَّدّ بالمناسبة أَو غَيرهَا، وَلَا بِخَبَر وَاحِد إِلَّا إِذا كَانَت دلَالَته قَاطِعَة، وَلَكِن بِإِجْمَاع آخر أَو بمتواتر. الصِّنْف الثَّانِي: على ظَاهر الْكتاب كَمَا إِذا اسْتدلَّ فِي مَسْأَلَة بيع الْغَائِب بقوله: {وَأحل اللَّهِ البيع} [الْبَقَرَة 275] ، وَهُوَ يدل على صِحَة كل بيع. والاعتراض على وُجُوه: الأول: الاستفسار، وَقد عَرفته. الثَّانِي: منع ظُهُوره فِي الدّلَالَة، فَإِنَّهُ خرج صور لَا تحصى، أَو لَا نسلم أَن اللَّام للْعُمُوم فَإِنَّهُ يَجِيء للْعُمُوم وَالْخُصُوص. الثَّالِث: التَّأْوِيل، وَهُوَ أَنه وَإِن كَانَ ظَاهرا فِيمَا ذكرت، لَكِن يجب صرفه عَنهُ إِلَى محمل مَرْجُوح بِدَلِيل يصيره راجحا، نَحْو قَوْله: " نهى عَن بيع الْغرَر "، وَهَذَا أقوى؛ لِأَنَّهُ عَام لم يتَطَرَّق إِلَيْهِ تَخْصِيص أَو التَّخْصِيص [فِيهِ أقل] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3580 الرَّابِع: الْإِجْمَال، فَإِن مَا ذَكرْنَاهُ من وَجه التَّرْجِيح وَإِن لم يصيره راجحا فَإِنَّهُ يُعَارض الظُّهُور، فَيبقى مُجملا. الْخَامِس: الْمُعَارضَة بِآيَة أُخْرَى نَحْو قَوْله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} [الْبَقَرَة: 188] ، وَهَذَا لم يتَحَقَّق فِيهِ الرضى فَيكون بَاطِلا، أَو لحَدِيث متواتر كَمَا ذكرنَا. السَّادِس: منع القَوْل بِمُوجبِه، وَهُوَ تَسْلِيم مُقْتَضى النَّص مَعَ بَقَاء الْخلاف، مثل أَن يَقُول: سلمنَا حل البيع وَالْخلاف فِي صِحَّته بَاقٍ، فَإِنَّهُ مَا أثْبته. [الصِّنْف] الثَّالِث / مَا يرد على ظَاهر السّنة، كَمَا إِذا اسْتدلَّ بقوله: " أمسك أَرْبعا وَفَارق سائرهن "، على أَن النِّكَاح لَا يَنْفَسِخ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3581 والاعتراض عَلَيْهِ بالوجوه السِّتَّة الْمَذْكُورَة: الأول: الاستفسار. الثَّانِي: منع الظُّهُور، إِذْ لَيْسَ فِيمَا ذكرت من الْخَبَر صِيغَة عُمُوم، أَو لِأَنَّهُ خطاب لخاص، أَو لِأَنَّهُ ورد على سَبَب خَاص. الثَّالِث: التَّأْوِيل بِأَن المُرَاد: تزوج مِنْهُنَّ أَرْبعا بِعقد جَدِيد، فَإِن الطَّارِئ كالمبتدأ فِي إِفْسَاد النِّكَاح كالرضاع. الرَّابِع: الْإِجْمَال، كَمَا ذكرنَا. الْخَامِس: الْمُعَارضَة بِنَصّ آخر. السَّادِس: بِالْمُوجبِ. وَهَهُنَا أسئلة تخْتَص بأخبار الْآحَاد، وَهُوَ الطعْن فِي السَّنَد بِأَن يَقُول: هَذَا الْخَبَر مُرْسل، أَو ضَعِيف، أَو فِي رِوَايَته قدح، فَإِن رَاوِيه ضَعِيف لخلل فِي عَدَالَته، أَو ضَبطه، أَو بِأَنَّهُ كذبه الشَّيْخ فَقَالَ: لم يرو عني. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3582 مِثَاله: إِذا قَالَ الْأَصْحَاب: " الْمُتَبَايعَانِ كل وَاحِد مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا " قَالَ الْحَنَفِيَّة: لَا يَصح لِأَن رَاوِيه مَالك وَقد خَالفه. وَإِذا قُلْنَا: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت نَفسهَا بِغَيْر إِذن وَليهَا، فنكاحها بَاطِل " قَالُوا: لَا يَصح؛ لِأَنَّهُ يرويهِ سُلَيْمَان بن مُوسَى الدِّمَشْقِي عَن الزُّهْرِيّ، فَسئلَ؟ فَقَالَ: لَا أعرفهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3583 الصِّنْف الرَّابِع: مَا يرد على تَخْرِيج المناط، وَهُوَ مَا تقدم من عدم الْإِفْضَاء والمعارضة، أَو عدم الظُّهُور، أَو عدم الانضباط لَهُ، وَمَا تقدم مِنْهُ أَنه مُرْسل أَو غَرِيب أَو شبه) انْتهى كَلَام الْعَضُد وَقد أَجَاد. وَهَذَا بِعَيْنِه كُله فِي " الْإِيضَاح " لأبي مُحَمَّد الْجَوْزِيّ. قَوْله: (عدم التَّأْثِير بِأَن الْوَصْف لَا مُنَاسبَة لَهُ، لَا يُؤثر فِي قِيَاس الدّلَالَة فِي الْأَصَح، وَفِي " الِانْتِصَار " لَا يرد على قِيَاس ناف للْحكم) . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: لَا يُؤثر فِي قِيَاس الدّلَالَة على الصَّحِيح فِيهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3584 وَقَالَ ابْن عقيل: لِأَنَّهُ لَا يلْزم من عدم الدَّلِيل عدم الْمَدْلُول. وَذكره أَبُو الْخطاب فِي " الِانْتِصَار " فِي مَسْأَلَة عَدَالَة الشُّهُود وَالنِّكَاح بِلَفْظ الْهِبَة. وَقَالَ أَيْضا: لَا يرد على الْقيَاس النَّافِي للْحكم، لتَعَدد سَبَب انتفائه لعدم الْعلَّة، أَو جزئها، أَو وجود مَانع، / أَو فَوَات شَرط، بِخِلَاف سَبَب ثُبُوته؛ لِأَن عدم التَّأْثِير إِنَّمَا يَصح إِذا لم تخلف الْعلَّة عِلّة أُخْرَى؛ وَلِأَنَّهُ يرجع إِلَى قِيَاس الدّلَالَة، وَالْقَاضِي يفْسد كثيرا الْجمع وَالْفرق بِعَدَمِ التَّأْثِير فِي النَّفْي، وَهُوَ ضَعِيف، كالفرق فِي لبن الآدميات بَين الْحَيَّة وَالْميتَة بِالنَّجَاسَةِ. فَيَقُول: لَا تَأْثِير لهَذَا، فَإِن لبن الرجل وَالصَّيْد طَاهِر، وَلَا يجوز بَيْعه. وكالفرق بَين اللَّبن وَبَين الدمع والعرق لعدم الْمَنْفَعَة. فَيَقُول: الْوَقْف وَأم الْوَلَد فِيهِ مَنْفَعَة، وَلَا يجوز بَيْعه. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: " من القوادح فِي الْعلَّة عدم التَّأْثِير، كَأَن يَقُول الْمُعْتَرض: هَذَا الَّذِي علل بِهِ غير مُنَاسِب للتَّعْلِيل؛ لكَونه طرديا، أَو لاختلال شَرط من شُرُوط الْعلَّة فِيهِ، فَلَا يكْتَفى بِهِ فِي التَّعْلِيل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3585 وَوجه تَسْمِيَته بذلك أَن المُرَاد بالتأثير هُنَا اقتضاؤه ذَلِك إِمَّا بِمَعْنى [الْمُعَرّف] أَو الْمُؤثر على مَا سبق من الْخلاف؛ فَإِذا لم يفد أثرا فَلَا تَأْثِير لَهُ. وعرفه الرَّازِيّ، والبيضاوي: بِثُبُوت الحكم بِدُونِ الْوَصْف فِي ذَلِك الأَصْل بِخُصُوصِهِ بِخِلَاف عدم الْعَكْس فَإِنَّهُ فِي صُورَة أُخْرَى، لَكِن تَعْرِيفه بِمَا ذكرنَا أَعم من هَذَا التَّفْسِير؛ لِأَن تفسيرنا أَن يُوجد الْوَصْف وَلكنه غير مُنَاسِب سَوَاء وجد الحكم أَو لم يُوجد، مَعَ أَن الحكم إِذا وجد قد لَا يُوجد مَعَه الْوَصْف، وَيَنْبَنِي على التعريفين بَيَان مَا يقْدَح فِيهِ من الْعِلَل، فعلى تفسيرنا لَا يكون قادحا إِلَّا فِي قِيَاس الْمَعْنى دون قِيَاس الشّبَه والطرد، وَأَن لَا يكون إِلَّا فِي الْعلَّة المستنبطة الْمُخْتَلف فِيهَا دون المنصوصة أَو المستنبطة الْمجمع عَلَيْهَا " انْتهى. قَوْله: (وَقسم أَرْبَعَة أَقسَام) . أَي: قسم الجدليون عدم التَّأْثِير أَرْبَعَة أَقسَام: مَا لَا تَأْثِير لَهُ أصلا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3586 وَمَا لَا تَأْثِير لَهُ فِي حكم ذَلِك الأَصْل. وَمَا اشْتَمَل على قيد لَا تَأْثِير لَهُ. وَمَا لَا يظْهر فِيهِ شَيْء من ذَلِك، وَلَكِن لَا يطرد فِي مَحل النزاع. فَيعلم / من ذَلِك عدم تَأْثِيره، وَلكُل قسم اسْم يعرف بِهِ. فَالْأول قَوْلنَا: (عدم التَّأْثِير فِي الْوَصْف) . أَي: فِي ذَلِك الْوَصْف، أَي: لَا تَأْثِير لَهُ أصلا لكَونه طرديا. مِثَاله: صَلَاة الصُّبْح صَلَاة لَا تقصر فَلَا يقدم أذانها على وَقتهَا كالمغرب، فَعدم الْقصر هُنَا بِالنِّسْبَةِ لعدم التَّقْدِيم طردي، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يقدم الْأَذَان على الْفجْر لِأَنَّهَا لَا تقصر، واطرد ذَلِك فِي الْمغرب، لكنه لم ينعكس فِي بَقِيَّة الصَّلَوَات، إِذْ مُقْتَضى هَذَا الْقيَاس أَن مَا يقصر من الصَّلَوَات يجوز تَقْدِيم أَذَانه على وقته من حَيْثُ انعكاس الْعلَّة، وَيرجع حَاصله إِلَى سُؤال الْمُطَالبَة بصلاحية كَونه عِلّة، كَمَا سبق. وَالثَّانِي قَوْلنَا: (عدم التَّأْثِير فِي الأَصْل) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3587 بِأَن يسْتَغْنى عَنهُ بِوَصْف آخر لثُبُوت حكمه بِدُونِهِ. مِثَال فِي بيع الْغَائِب: بيع غير مرئي فَبَطل كالطير فِي الْهَوَاء. فيعارض بِأَن الْعلَّة الْعَجز عَن التَّسْلِيم، وَهُوَ كَاف فِي الْبطلَان. وَعدم التَّأْثِير هُنَا جِهَة الْعَكْس، لِأَن [تَعْلِيل عدم] صِحَة بيع الْغَائِب بِكَوْنِهِ غير مرئي، يَقْتَضِي أَن كل مرئي يجوز بَيْعه، وَقد بَطل بيع الطير فِي الْهَوَاء، وَحَاصِله مُعَارضَة فِي الأَصْل، أَي: بإبداء عِلّة أُخْرَى وَهِي الْعَجز عَن التَّسْلِيم. وَلذَلِك بناه الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره على جَوَاز التَّعْلِيل بعلتين، فَإِن قُلْنَا بِجَوَازِهِ لم يقْدَح وَإِلَّا قدح. قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره (وقبوله ورده مَبْنِيّ على تَعْلِيل الحكم بعلتين وَلم يقبله أَبُو مُحَمَّد الْفَخر إِسْمَاعِيل؛ بِنَاء على هَذَا. وَقَبله الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، وَغَيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3588 وَهُوَ مُعَارضَة فِي الأَصْل) . وَقرر الْمِثَال القَاضِي أَبُو الطّيب بتقرير آخر فَقَالَ: " لنا أَنه بَاعَ عينا لم ير مِنْهَا شَيْئا فَلَا يَصح، كَمَا لَو بَاعَ النَّوَى فِي التَّمْر. قَالَ: فَإِن قيل: قَوْلكُم لم ير مِنْهَا شَيْئا لَا تَأْثِير لَهُ فِي الأَصْل؛ لِأَن بعض النَّوَى إِذا كَانَ ظَاهرا يرى، وَبَعضه غير ظَاهر، فَلَا يَصح البيع. فَالْجَوَاب: أَنه لَيْسَ من شُرُوط التَّأْثِير أَن يكون مَوْجُودا فِي كل مَوضِع، وَإِنَّمَا يكون وجود التَّأْثِير فِي مَوضِع وَاحِد، [وتأثيره] فِي بيع الْبِطِّيخ واللوز / فَإِنَّهُ يرى بَعْضهَا وَيكون بيعهَا صَحِيحا ". وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان ": عدم التَّأْثِير فِي الأَصْل هُوَ تَقْيِيد عِلّة الأَصْل بِوَصْف لَا أثر لأَجله فِي الأَصْل. كَقَوْل الشَّافِعِي فِي منع نِكَاح الْأمة الْكِتَابِيَّة: أمة كَافِرَة فَلَا تنْكح كالأمة الْمَجُوسِيَّة، فَلَا أثر للرق فِي الأَصْل قَالَ: والمحققون على فَسَاد الْعلَّة بذلك. وَقيل بِصِحَّتِهَا؛ إِذْ الرّقّ فِي الْجُمْلَة أثر فِي الْمَنْع، وَشبهه بِالشَّاهِدِ الثَّالِث المستظهر بِهِ، وَهُوَ ضَعِيف؛ إِذْ الثَّالِث مبقى لوُقُوعه ركنا عِنْد تعذر أحد الشَّاهِدين بِخِلَاف الرّقّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3589 ثمَّ قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: إِذا لم يكن لذَلِك الْوَصْف أثر وَلَا غَرَض فِيهِ فَهُوَ لَغْو، وَلَا تبطل الْعلَّة لاستقلالها مَعَ حذف الْقَيْد. قَوْله: (وَعَدَمه فِي الحكم) . أَي: عدم التَّأْثِير فِي الحكم، فَيكون من جملَة مَا علل بِهِ قيد لَا تَأْثِير لَهُ فِي حكم الأَصْل الَّذِي قد علل لَهُ، وَهُوَ ثَلَاثَة أَنْوَاع: أَحدهَا قَوْلنَا: (أَن لَا يكون لذكره فَائِدَة) . مِثَاله: فِي الْمُرْتَدين مشركون أتلفوا مَالا فِي دَار الْحَرْب، فَلَا ضَمَان عَلَيْهِم كالحربي فقيد دَار الْحَرْب طردي لَا فَائِدَة فِي ذكره، فَإِن من أوجب الضَّمَان أوجبه مُطلقًا، وَمن نَفَاهُ نَفَاهُ مُطلقًا، فَيرجع إِلَى مَا رَجَعَ إِلَيْهِ الْقسم الأول، وَهُوَ الْمُطَالبَة بتأثير كَونه فِي دَار الْحَرْب. وَمثله بعض أَصْحَابنَا بقولنَا فِي تَخْلِيل الْخمر: مَائِع لَا يطهر بِالْكَثْرَةِ؛ فَلَا يطهر بالصنعة: كالدهن وَاللَّبن. فَقيل للْقَاضِي: قَوْلك لَا يطهر بالصنعة لَا أثر لَهُ فِي الأَصْل. فَقَالَ: هَذَا حكم الْعلَّة، والتأثير يعْتَبر فِي الْعلَّة دون الحكم. قَالَ بعض أَصْحَابنَا: هَذَا ضَعِيف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3590 وَذكر أَبُو الْخطاب فِيهِ مذهبين، وَمثله بِهَذَا. قَوْلنَا: (أَوله فَائِدَة ضَرُورِيَّة) . هَذَا هُوَ النَّوْع الثَّانِي: لَا تَأْثِير لذَلِك الْقَيْد، وَلَكِن لَهُ فَائِدَة فِي الْقيَاس. كَمَا يُقَال فِي اشْتِرَاط الْعدَد فِي الْأَحْجَار المستجمر بهَا: عبَادَة مُتَعَلقَة بالأحجار لم يتقدمها مَعْصِيّة، فَاعْتبر فِيهَا الْعدَد كرمي الْجمار، وَقيد لم يتقدمها مَعْصِيّة لَا تَأْثِير لَهُ، لَكِن لذكره فَائِدَة إِذْ لَو حذفه لانتقضت علته بِالرَّجمِ. وَهَذَا أَيْضا رَاجع إِلَى الأول كَالَّذي قبله. قَوْلنَا: (أَو غير ضَرُورِيَّة) . هَذَا هُوَ النَّوْع / الثَّالِث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3591 وَهُوَ أَن لَهُ فَائِدَة، لَكِن الْمُعَلل لَا يضْطَر إِلَيْهِ فِي ذَلِك الْقيَاس، وَلِهَذَا يُسمى الحشو، كَمَا لَو قيل /: إِن الْجُمُعَة تصح بِغَيْر إِذن الإِمَام: صَلَاة مَفْرُوضَة، فَلم تفْتَقر إِقَامَتهَا إِلَى إِذْنه كالظهر. فَذكر الْفَرْض لَا فَائِدَة فِيهِ؛ لِأَن النَّفْل كَذَلِك، وَإِنَّمَا ذكر لتقريب الْفَرْع من الأَصْل وتقوية الشّبَه بَينهمَا؛ إِذْ الْفَرْض بِالْفَرْضِ أشبه من غَيره. وَقيل: لَا يضر، للتّنْبِيه على أَن غير الْمَفْرُوض أولى أَن لَا يفْتَقر. قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": فمفروضة، قيل: يضر دُخُوله؛ لِأَنَّهُ بعض الْعلَّة. وَقيل: لَا، فَإِن فِيهِ تَنْبِيها على أَن غير الْفَرْض أولى أَن لَا يفْتَقر، وَلِأَنَّهُ يزِيد تقريبه من الأَصْل فَالْأولى ذكره انْتهى. قَوْلنَا: (الرَّابِع: عَدمه) . أَي: عدم التَّأْثِير فِي الْفَرْع لَكِن لَهُ تَأْثِير، وَلَا يطرد فِي ذَلِك الْفَرْع وَنَحْوه من محَال النزاع. مِثَاله فِي ولَايَة الْمَرْأَة: زوجت نَفسهَا فَلَا يَصح، كَمَا لَو زَوجهَا وَليهَا بِغَيْر كُفْء. فالتزويج من غير كُفْء وَإِن ناسب الْبطلَان، إِلَّا أَنه لَا اطراد لَهُ فِي صُورَة النزاع الَّتِي هِيَ تَزْوِيجهَا نَفسهَا مُطلقًا، فَبَان أَن الْوَصْف لَا أثر لَهُ فِي الْفَرْع الْمُتَنَازع فِيهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3592 وَحَاصِل هَذَا أَنه كالثاني، من حَيْثُ إِن حكم الْفَرْع هُنَا مُضَاف إِلَى غير الْوَصْف الْمَذْكُور، قَالَه ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، والتاج السُّبْكِيّ. وَقَالَ ابْن الْحَاجِب فِي " الْمُخْتَصر الْكَبِير ": إِنَّه كالثالث. وَقيل: إِنَّه الصَّوَاب. قَالَ الْآمِدِيّ: عدم التَّأْثِير فِي مَحل النزاع رده قوم، لمنعهم جَوَاز الْفَرْض فِي الدَّلِيل، وَقَبله من لم يمنعهُ، وَهُوَ الْمُخْتَار. وَمَعَ ذَلِك كُله فالوصف قد يُقيد لقصد دفع النَّقْض، أَو لقصد الْفَرْض فِي الدَّلِيل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3593 قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ. قَوْله: (وَهَذَا مَبْنِيّ على جَوَاز الْفَرْض فِي بعض صور الْمَسْأَلَة، من جوزه رده، وَمن مَنعه قبله، فالجواز للموفق، وَالْمجد، وَالْأَكْثَر، وَالْجَوَاز بِشَرْط بِنَاء مَا خرج عَن مَحل الْفَرْض عَلَيْهِ لقوم، وَالْمَنْع لِابْنِ فورك، أَي: الْمَنْع مُطلقًا، وَالْمَنْع إِن كَانَ الْوَصْف طردا لِابْنِ الْحَاجِب) . وَاعْلَم / أَن هَذَا الْقسم الرَّابِع كَيفَ كَانَ مَبْنِيا على قبُول الْفَرْض، من قبل الْفَرْض رد هَذَا، وَمن مَنعه قبل هَذَا. كَمَا لَو قَالَ الْمَسْئُول عَن نُفُوذ عتق الرَّاهِن: أفرض الْكَلَام فِي الْمُعسر، أَو عَمَّن زوجت نَفسهَا، أَو أفرض فِي من زوجت بِغَيْر كُفْء، فَإِذا خص الْمُسْتَدلّ تَزْوِيجهَا نَفسهَا من غير الْكُفْء بِالدَّلِيلِ فقد فرض دَلِيله فِي بعض صور النزاع. إِذا علم ذَلِك فحاصل الْخلاف فِي الْفَرْض مَذَاهِب: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3594 أَحدهَا: الْجَوَاز، وَبِه قَالَ الْمُوفق، وَالْمجد، وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل، وَجُمْهُور الْعلمَاء. قَالَ الشَّيْخ مجد الدّين: يجوز الْفَرْض فِي بعض صور الْمَسْئُول عَنْهَا عِنْد عَامَّة الْأُصُولِيِّينَ. وَلذَلِك قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": لَهُ أَن يخص الدَّلِيل، فيقيد لغَرَض الْفَرْض بِبَعْض صور الْخلاف إِلَّا أَن يعم الْفتيا فَلَا. انْتهى. وَقَالَ الْفَخر إِسْمَاعِيل: وَالْمُخْتَار جَوَاز الْفَرْض من غير بِنَاء، وعلته الِاصْطِلَاح لإرفاق الْمُسْتَدلّ وتقريب الْفَائِدَة. وَاسْتدلَّ للْجُوَاز بِأَنَّهُ قد لَا يساعده الدَّلِيل على الْكل، أَو يساعده غير أَنه لَا يُعلل على دفع كَلَام الْخصم بِأَن يكون كَلَامه فِي بعض الصُّور أشكل، فيستفيد بِالْفَرْضِ غَرضا صَحِيحا، وَلَا يفْسد بذلك جَوَابه؛ لِأَن من سَأَلَ عَن الْكل فقد سَأَلَ عَن الْبَعْض. الْمَذْهَب الثَّانِي: الْجَوَاز بِشَرْط بِنَاء مَا خرج عَن مَحل الْفَرْض إِلَى الْفَرْض، أَي: يَبْنِي غير مَا فَرْضه، اخْتَارَهُ جمَاعَة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3595 الْمَذْهَب الثَّالِث: الْمَنْع، وَبِه قَالَ ابْن فورك. فَشرط أَن يكون الدَّلِيل عَاما لجَمِيع مواقع النزاع ليَكُون مطابقا للسؤال ودافعا لاعتراض الْخصم. الْمَذْهَب الرَّابِع: وَبِه قَالَ ابْن الْحَاجِب: الْمَنْع إِن كَانَ الْوَصْف المجعول فِي الْفَرْض طردا وَإِلَّا قبل. وَقَالَ ابْن التلمساني: الْوَجْه أَن يُقَال قد يُسْتَفَاد بِالْفَرْضِ تضييق مجاري الِاعْتِرَاض على الْخصم، وَهُوَ من مَقْصُود الجدل، أَو وضوح التَّقْرِير. وَلِهَذَا الْمَعْنى عدل الْخَلِيل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - فِي تَقْرِير الِاسْتِدْلَال / على نمْرُود بالأثر على الْمُؤثر، أَي: الأوضح عِنْد نمْرُود بقوله تَعَالَى: {فَإِن اللَّهِ يَأْتِي بالشمس من الْمشرق} الْآيَة [الْبَقَرَة: 258] . وَيَأْتِي ذَلِك فِي فَائِدَة الجدل قبيل الاستدال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3596 قَوْله: (فعلى الْجَوَاز يكفى قَوْله: ثَبت الحكم فِي بعض الصُّور فَلَزِمَ ثُبُوته فِي الْبَاقِي، وَقيل: لَا، فلابد من رد مَا خرج عَن مَحل الْفَرْض إِلَيْهِ بِجَامِع، وَقيل: إِن كَانَ الْفَرْض فِي صُورَة السُّؤَال لم يحْتَج إِلَيْهِ، وَإِلَّا احْتِيجَ، وَاخْتَارَ الْفَخر جَوَاز الْفَرْض من غير بِنَاء، ومطابقة الْجَواب السُّؤَال، وَيجوز أَعم) . على جَوَاز الْفَرْض اخْتلف فِي كَيْفيَّة الْبناء: فَقيل: يَكْفِي أَن يَقُول: ثَبت الحكم فِي بعض الصُّور فَيلْزم القَوْل بِثُبُوتِهِ فِي الْبَاقِي ضَرُورَة أَن لَا قَائِل بِالْفرقِ، وَهَذَا الَّذِي قدمْنَاهُ فِي الْمَتْن. وَقيل: لَا يَكْفِيهِ ذَلِك، بل يحْتَاج إِلَى رد مَا خرج عَن مَحل الْفَرْض إِلَى مَحل الْفَرْض بِجَامِع صَحِيح، كَمَا هُوَ قَاعِدَة الْقيَاس. وَقيل: إِن كَانَ الْفَرْض فِي صُورَة السُّؤَال فَلَا يحْتَاج إِلَى الْبناء، وَإِن عدل عَن الْفَرْض إِلَى غير مَحل السُّؤَال فَلَا بُد حِينَئِذٍ من بِنَاء السُّؤَال على مَحل الْفَرْض بطرِيق الْقيَاس، وَالله أعلم. وَاخْتَارَ الْفَخر أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ: مُطَابقَة الْجَواب للسؤال وَيجوز أَعم، وَإِن كَانَ أخص. فَمنع ابْن فورك الْفَرْض فِي الْجَواب وَالدَّلِيل، وَجوزهُ غَيره. مثل: السُّؤَال عَن فسخ النِّكَاح بالعيوب الْخمس، فَيعرض فِي وَاحِد مِنْهَا؛ لِأَن الدَّلِيل قد يساعده فِي الرتق دون غَيره وَله غَرَض صَحِيح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3597 وَجوز قوم الْفَرْض فِي الدَّلِيل لَا الْجَواب ليطابق، وَهُوَ خطأ، انْتهى كَلَام الْفَخر. قَوْله: (وَعِنْدنَا وَعند الْأَكْثَر: إِن أَتَى بِمَا لَا أثر لَهُ فِي الأَصْل لدفع النَّقْض لم يجز، وَقيل: بِلَا وَقيل إِن صححت لعِلَّة بالطرد، وَفِي " التَّمْهِيد " مَا يقتضى منع الْإِتْيَان [بِهِ] تَأْكِيدًا، وَقَالَ ابْن عقيل: لَهُ ذكره تَأْكِيدًا، أَو لتأكيد الْعلَّة فيتأكد الحكم، وللبيان، ولتقريبه من الأَصْل، وَقَالَ: إِن جعل الْوَصْف مُخَصّصا لحكم الْعلَّة لم يَصح فِي الْأَصَح) . / وَقَالَ ابْن مُفْلِح: (وَعِنْدنَا الْأَكْثَر: إِن أَتَى بِمَا [لَا] أثر لَهُ فِي الأَصْل لقصد دفع النَّقْض لم يجز. وَفِي مُقَدّمَة " الْمُجَرّد ": يحْتَمل أَن لَا يجوز، وَيحْتَمل أَن يجوز؛ لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَيْهِ لتعليق الحكم بِالْوَصْفِ الْمُؤثر. وَذكر أَبُو الْمَعَالِي: أَنه أجَازه من صحّح الْعلَّة بالطرد، وَبَعْضهمْ مُطلقًا، ثمَّ اخْتَار تَفْصِيلًا) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3598 قَالَ ابْن مُفْلِح: " فَإِن أَتَى بِهِ تَأْكِيدًا فَكَلَامه فِي " التَّمْهِيد " يَقْتَضِي مَنعه بِخِلَافِهِ لزِيَادَة بَيَان. وَيَقْتَضِي كَلَام ابْن عقيل أَن لَهُ ذكره تَأْكِيدًا، أَو لتأكيد الْعلَّة فيتأكد الحكم، وللبيان، ولتقريبه من الأَصْل. وَقَالَ: إِن جعل الْوَصْف مُخَصّصا لحكم الْعلَّة: كتخليل الْخمر: مَائِع لَا يطهر بِكَثْرَة فَكَذَا بصنعة آدَمِيّ كخل نجس، فَلَا يطهر الأَصْل مُطلقًا. فصححه بعض الجدليين وَبَعض الشَّافِعِيَّة؛ لِأَن التَّأْثِير يُطَالب بِهِ فِي الْعلَّة لَا الحكم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3599 وَقيل: الحكم عدم الطَّهَارَة، وتعلقه بالصنعة من الْعلَّة فَيجب بَيَان تَأْثِيره، قَالَ: وَهَذَا أصح: انْتهى نقل ابْن مُفْلِح. وتابعناه على ذَلِك، وَهَذَا الْكَلَام لابد فِيهِ بعض التّكْرَار من النَّوْع الثَّالِث، من عدم التَّأْثِير فِي الحكم، وَمن عَدمه فِي الأَصْل فَليُحرر، فَإِنِّي نقلت هَذَا الْأَخير من كَلَام ابْن مُفْلِح، ونقلت ذَلِك من غَيره. قَوْله: (فَائِدَة الْفَرْض أَن يسْأَل عَاما فيجيب خَاصّا، أَو يُفْتِي عَاما وَيدل خَاصّا، وَقيل: تخصص بعض [الصُّور] النزاع بِالدَّلِيلِ، وَالتَّقْدِير: إِعْطَاء الْمَوْجُود حكم الْمَعْدُوم وَعَكسه، وَمحل النزاع: الْمحل الْمُفْتى بِهِ فِي الْمَسْأَلَة الْمُخْتَلف فِيهَا) . هَذِه فَائِدَة تدل على مَعَاني أَلْفَاظ متداولة بَين الجدليين لَا بَأْس بذكرها، نقلتها من " الْإِيضَاح " لأبي مُحَمَّد الْجَوْزِيّ. فَقَالَ: الْفَرْض آكِد من الْوَاجِب، وَالْفَرْض: أَن يسْأَل عَاما فيجيب خَاصّا، أَو يُفْتِي عَاما وَيدل خَاصّا. وَقَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": الْفَرْض: وَهُوَ تَخْصِيص بعض صور النزاع بالحجاج، أَي: وَإِقَامَة الدَّلِيل عَلَيْهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3600 وَإِنَّمَا تعرضنا لحد الْفَرْض هُنَا لقولنا قبل: وَهَذَا مَبْنِيّ على جَوَاز الْفَرْض، وَلذَلِك ذكره التَّاج السُّبْكِيّ وَغَيره هُنَا. وَهُوَ معنى كَلَام أبي مُحَمَّد / الْجَوْزِيّ: فَمَا فِي ذكر الْخلاف فَائِدَة. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ - أَيْضا -: " التَّقْدِير: هُوَ إِعْطَاء الْمَعْدُوم حكم الْمَوْجُود، وَالْمَوْجُود حكم الْمَعْدُوم ". وَهُوَ مُقَارن الْفَرْض؛ فَإِنَّهُ يُقَال: يقدر الْفَرْض فِي كَذَا، وَالْفَرْض مُقَدّر فِي كَذَا. مِثَال إِعْطَاء الْمَوْجُود حكم الْمَعْدُوم: المَاء للْمَرِيض الَّذِي يخَاف على نَفسه بِاسْتِعْمَالِهِ فَتَيَمم وَتَركه مَعَ وجوده حسا. وَمِثَال إِعْطَاء الْمَعْدُوم حكم الْمَوْجُود: الْمَقْتُول تورث عَنهُ الدِّيَة، وَإِنَّمَا تجب بِمَوْتِهِ وَلَا تورث عَنهُ إِلَّا إِذا دخلت فِي ملكه، فَيقدر دُخُولهَا قبل مَوته. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد: " مَحل النزاع هُوَ الحكم الْمُفْتى بِهِ فِي الْمَسْأَلَة الْمُخْتَلف فِيهَا "، وَهُوَ - أَيْضا - كالمقارن للْفَرض، وَالتَّقْدِير بِمحل النزاع هُوَ الْمُتَكَلّم فِيهِ من الْجَانِبَيْنِ بَين الْخَصْمَيْنِ، وَذَلِكَ كُله وَاضح، وَلَكِن لما كَانَ لَهُ بعض تعلق بِهَذَا الْموضع ذكرنَا ذَلِك فَائِدَة. قَوْله: (الْقدح فِي مُنَاسبَة الْوَصْف بِمَا يلْزم من مفْسدَة راجحة، أَو مُسَاوِيَة. وَجَوَابه بالترجيح الْقدح فِي إفضاء الحكم إِلَى الْمَقْصُود، كتعليل حُرْمَة الْمُصَاهَرَة أبدا بِالْحَاجةِ إِلَى رفع الْحجاب، فَإِذا تأبد انسد بَاب القمع، فَيُقَال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3601 سَده يُفْضِي إِلَى الْفُجُور، وَجَوَابه: أَن التَّأْبِيد يمْنَع عَادَة، فَيصير طبعيا كرحم محرم) . من القوادح [فِي] الْعلَّة - أَيْضا - مَا اشْتهر باسم الْقدح، وَذكرت مِنْهُ أَرْبَعَة أَنْوَاع، اثْنَان فِي هَذِه الْجُمْلَة، والاثنان الْآخرَانِ الآتيان بعد هَذَا، وَهَذِه الْأَرْبَعَة الْمَخْصُوصَة بالمناسبة، وَيخْتَص باسم الْقدح فِي الْمُنَاسبَة أحد القدحين الْأَوَّلين. الْقدح فِي مُنَاسبَة الْوَصْف للْحكم الْمُسْتَدلّ عَلَيْهِ بِمَا يلْزم فِيهِ من مفْسدَة راجحة على الْمصلحَة الَّتِي من أجلهَا قضي عَلَيْهِ بالمناسبة، أَو مُسَاوِيَة لَهَا، وَذَلِكَ لما سبق من أَن الْمُنَاسبَة تنخرم بالمعارضة، وَإِنَّمَا أعيدها لأجل التَّقْسِيم، وَبَيَان أَن ذَلِك من جملَة القوادح الْوَارِدَة / على الْمُسْتَدلّ حَتَّى يحْتَاج إِلَى الْجَواب عَنْهَا. وَالْجَوَاب عَن ذَلِك: بِبَيَان تَرْجِيح تِلْكَ [الْمصلحَة] الَّتِي هِيَ فِي الْعلَّة، على تِلْكَ الْمفْسدَة الَّتِي يعْتَرض بهَا تَفْصِيلًا وإجمالا. أما تَفْصِيلًا فبخصوص الْمَسْأَلَة بِأَن هَذَا ضَرُورِيّ وَذَلِكَ حاجي، أَو بِأَن هَذَا إفضاء قَطْعِيّ أَو أكثري وَذَلِكَ ظَنِّي أَو أقلي، أَو أَن هَذَا اعْتبر نَوعه فِي نوع الحكم، وَذَلِكَ اعْتبر نَوعه فِي جنس الحكم، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا تنبهت لَهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3602 وَأما إِجْمَالا فبلزوم التَّعَبُّد لَوْلَا اعْتِبَار الْمصلحَة، وَقد أبطلناه. مِثَاله: أَن يَقُول فِي الْفَسْخ فِي الْمجْلس: وجد سَبَب الْفَسْخ فيوجد الْفَسْخ، وَذَلِكَ دفع ضَرَر للمحتاج إِلَيْهِ من الْمُتَعَاقدين. فَيُقَال: معَارض بِضَرَر آخر. فَيَقُول: الآخر يجلب نفعا وَهَذَا يدْفع ضَرَرا، وَدفع الضَّرَر أهم عِنْد الْعُقَلَاء، وَلذَلِك يدْفع كل ضَرَر وَلَا يجلب كل نفع. مِثَال آخر: إِذا قُلْنَا: التخلي لِلْعِبَادَةِ أفضل لما فِيهِ من تَزْكِيَة النَّفس. فَيُقَال: لكنه يفوت أَضْعَاف تِلْكَ الْمصلحَة، مِنْهَا: إِيجَاد الْوَلَد، وكف النّظر، [وَكسر] الشَّهْوَة، وَهَذِه أرجح من مصَالح الْعِبَادَة. فَيَقُول: بل مصلحَة الْعِبَادَة أرجح؛ لِأَنَّهَا لحفظ الدّين، وَمَا ذكرْتُمْ لحفظ النَّسْل. القادح الثَّانِي: فِي صَلَاحِية إفضاء الحكم إِلَى الْمَقْصُود، وَهُوَ الْمصلحَة من شرع الحكم. كَمَا لَو علل الْمُسْتَدلّ حُرْمَة الْمُصَاهَرَة على التَّأْبِيد فِي حق الْمَحَارِم إِلَى ارْتِفَاع الْحجاب بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء الْمُؤَدِّي إِلَى الْفُجُور، فَإِذا تأبد التَّحْرِيم انسد بَاب الطمع المفضي إِلَى مُقَدمَات الْهم وَالنَّظَر المفضي إِلَى ذَلِك. فَيَقُول الْمُعْتَرض: بل سد بَاب النِّكَاح أَشد إفضاء للفجور؛ لِأَن النَّفس تميل إِلَى الْمَمْنُوع، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3603 (وَالْقلب يطْلب من يجور ويعتدي ... وَالنَّفس مائلة إِلَى الْمَمْنُوع) (وَلكُل شَيْء تشتهيه طلاوة ... مدفوعة إِلَّا عَن الْمَدْفُوع) وَالْجَوَاب عَن ذَلِك تَبْيِين أَن التَّأْبِيد يمْنَع عَادَة من ذَلِك، بانسداد بَاب الطمع، فَيصير بتطاول الْأَمر وتماديه / كالطبيعي، بِحَيْثُ لَا يبْقى الْمحل مشتهى كالأمهات. قَوْله: (كَون الْوَصْف خفِيا كتعليله صِحَة النِّكَاح بالرضى، فَيُقَال: خَفِي، والخفي لَا يعرف الْخَفي، وَجَوَابه: ضَبطه بِمَا يدل عَلَيْهِ من صِيغَة كإيجاب وَقبُول أَو فعل، كَونه غير منضبط كتعليله بالحكم والمقاصد كرخص السّفر بالمشقة، فيعترض: باختلافهما بالأشخاص والأزمان وَالْأَحْوَال، وَجَوَابه: بِأَنَّهُ منضبط بِنَفسِهِ أَو بضابط للحكمة) . هَذَانِ القادحان الْآخرَانِ. أَحدهمَا، وَهُوَ الثَّالِث: الْقدح فِي كَون الْوَصْف ظَاهرا بل هُوَ خَفِي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3604 كالرضى فِي الْعُقُود، وَالْقَصْد فِي الْأَفْعَال الدَّالَّة على إزهاق النَّفس فِي وجوب الْقصاص، فَإِن حكم الشَّرْع خَفِي، والخفي لَا يعرف الْخَفي. وَجَوَابه: بِأَن يبين ظُهُوره بِصفة ظَاهِرَة: كضبط الرضى بِمَا يدل عَلَيْهِ من الصِّيَغ، وَضبط الْعمد بِفعل يدل عَلَيْهِ عَادَة: كاستعمال الْجَارِح والمثقل، أَو غير ذَلِك مِمَّا هُوَ مَبْسُوط فِي الْفِقْه. القادح الثَّانِي، وَهُوَ الرَّابِع: الْقدح فِي أَن الْوَصْف منضبط بل هُوَ مُضْطَرب: كالتعليل بالحكمة والمصالح، كالمشقة فِي الْقصر /، والزجر فِي التَّعْزِير، والحرج فِي الْفطر. فَإِنَّهَا لَا تتَمَيَّز وتختلف بالأشخاص وَالْأَحْوَال والأزمان، فَلَا يُمكن تعْيين الْقدر الْمَقْصُود مِنْهَا. وَجَوَابه: بِبَيَان أَنه منضبط،، إِمَّا بِنَفسِهِ: كَمَا تَقول فِي الْمَشَقَّة والمضرة: إِنَّه منضبط عرفا بِنَاء على [جَوَاز] التَّعْلِيل بالحكمة إِذا انضبطت، وَقد سبق بَيَان ذَلِك، وَإِمَّا بوصفه بِأَن تكون الْعلَّة هِيَ الْوَصْف المنضبط الْمُشْتَمل على الْحِكْمَة: كالمشقة فِي السّفر، والزجر بِالْحَدِّ، وَنَحْو ذَلِك. قَوْله: (النَّقْض) . سبق من جملَة القوادح النَّقْض، وَقد سبق بَيَانه فِي أَحْكَام الْعلَّة، وَهل يقْدَح فِي الْعلَّة مُطلقًا أم لَا؟ ذكرنَا فِيهِ عشرَة أَقْوَال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3605 مِثَال ذَلِك إِذا قُلْنَا: الْحلِيّ مَال غير نَام فَلَا زَكَاة فِيهِ كثياب البذلة. فيعترض: / بالحلي الْمحرم. وَجَوَابه: منع وجود الْعلَّة فِي صُورَة النَّقْض، أَو منع الحكم فِيهَا، فَجَوَابه بِأحد وَجْهَيْن: إِمَّا أَن يمْنَع وجود الْعلَّة فِي صُورَة النَّقْض؛ لِأَن النَّقْض إِنَّمَا يتَحَقَّق بِوُجُود الْعلَّة وتخلف الحكم عَنْهَا، فَإِذا منع وجود الْعلَّة لم يتَحَقَّق النَّقْض، وَإِنَّمَا تخلف الحكم فِي الصُّورَة الْمَذْكُورَة لعدم علته فَهُوَ يدل على صِحَة علتي عكسا، وَهُوَ انْتِفَاء الحكم لانتفائها، كَقَوْلِه: لَا نسلم أَن الْحلِيّ كثياب البذلة، ويبرهن على ذَلِك. وَإِمَّا أَن يمْنَع الحكم فِيهَا فَيَقُول: حكم ثِيَاب البذلة مُخَالف لحكم الْحلِيّ، وَيبين الْفرق بَينهمَا. فَإِذا منع الْمُسْتَدلّ وجود الْعلَّة فِي صُورَة النَّقْض، فقد اخْتلف الْعلمَاء فِي تَمْكِين الْمُعْتَرض من الدّلَالَة على وجود الْعلَّة فِي صُورَة النَّقْض على أَقْوَال: أَحدهَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِك. وَهُوَ قَوْلنَا: (وَلَيْسَ للمعترض الدّلَالَة على وجود الْعلَّة فِيهَا، قَالَه الْمُوفق والطوفي، وَقَالَهُ القَاضِي وَأَبُو الطّيب إِلَّا أَن يبين مَذْهَب الْمَانِع، وَقيل: بلَى، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ إِن تعذر الِاعْتِرَاض بِغَيْرِهِ، وَاخْتَارَهُ بَعضهم إِن لم يكن طَرِيق أولى بالقدح، وَمنعه بَعضهم فِي الحكم الشَّرْعِيّ) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3606 أحد الْأَقْوَال: لَا يُمكن الْمُعْتَرض من الدّلَالَة على وجود الْعلَّة فِي صُورَة النَّقْض. وَهَذَا صَحِيح وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، مِنْهُم: الشَّيْخ الْمُوفق، والطوفي من أَصْحَابنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ انْتِقَال، وَيلْزم مِنْهُ أَن يكون الْمُعْتَرض مستدلا فَهُوَ قلب لقاعدة المصطلح؛ لكَونه يبْقى مستدلا والمستدل مُعْتَرضًا. وَذكره القَاضِي أَبُو يعلى، وَالْقَاضِي أَبُو الطّيب الشَّافِعِي، إِلَّا أَن يبين مَذْهَب الْمَانِع. وَقيل: لَهُ ذَلِك فَيمكن؛ لِأَن فِيهِ تَحْقِيق اعتراضه بِالنَّقْضِ فَهُوَ من تَمَامه وَإِنَّمَا يتفرد بِالْمَنْعِ بِالدّلَالَةِ. وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ إِن تعذر الِاعْتِرَاض بِغَيْرِهِ، فَقَالَ: يُمكن مَا لم يكن للمعترض دَلِيل، فَإِن أمكنه الْقدح بطرِيق آخر لم يُمكن. وَاخْتَارَهُ بَعضهم إِن لم يكن طَرِيق أولى بالقدح، حَكَاهُ ابْن الْحَاجِب، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3607 وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهمَا. وَكَأن هَذَا القَوْل أخص من قَول الْآمِدِيّ، فَعِنْدَ الْآمِدِيّ: يُمكن إِن تعذر الِاعْتِرَاض بِغَيْرِهِ مُطلقًا، وَعند صَاحب هَذَا القَوْل: إِن لم يكن طَرِيق أولى بالقدح. / قَالَ الْأَصْفَهَانِي: وَرَابِعهَا: يُمكن مَا لم تكن للمعترض طَرِيق أُخْرَى أولى بالقدح من النَّقْض، تَحْقِيقا لفائدة المناظرة، وَإِن كَانَ لَهُ طَرِيق أُخْرَى فَلَا يُمكن، وَلَكِن لم يذكر قَول الْآمِدِيّ. وَحكى ابْن الْحَاجِب وَغَيره قولا: يُمكن للمعترض فِي الحكم الْعقلِيّ؛ لِأَنَّهُ يقْدَح فِيهِ فَتحصل فَائِدَة، وَلَا يُمكن فِي الحكم الشَّرْعِيّ. لِأَن التَّمْكِين فِيهِ انْتِقَال من الِاعْتِرَاض إِلَى الِاسْتِدْلَال، وَلَا تَجِد بِهِ نفعا؛ لِأَنَّهُ بعد بَيَان الْمُعْتَرض وجود الْعلَّة فِي صُورَة النَّقْض يَقُول الْمُسْتَدلّ: يجوز أَن يكون تخلف الحكم لوُجُود مَانع أَو انْتِفَاء شَرط، فَيجب الْحمل عَلَيْهِ جمعا بَين الدَّلِيلَيْنِ: دَلِيل الاستنباط، وَدَلِيل التَّخَلُّف، فَلَا يبطل الْعلَّة بجلاوة الحكم الْعقلِيّ فَإِنَّهُ لَا يتمشى فِيهِ ذَلِك. " وَكَذَا ذكر أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ لَهُ الْجَواب بِجَوَاب: تخلف الحكم فيهمَا لمَانع أَو انْتِفَاء شَرط. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3608 وَإِن قيل: انْتِفَاء الحكم مَعَ علته خلاف الأَصْل. قيل: وانتفاؤها مَعَ دليلها خلاف الأَصْل. قيل: وَهَذَا أرجح؛ لِإِمْكَان إِحَالَة الحكم على مَانع أَو انْتِفَاء شَرط، فَهُوَ ترك للدليل وَأخذ بِغَيْرِهِ، وَإِذا لم يعْمل بِدَلِيل الْعلية ترك بِالْكُلِّيَّةِ من غير عدُول إِلَى غَيره. قَالَ: وَإِن أجَاب بِأَن انْتِفَاء الحكم لمَانع أَو انْتِفَاء شَرط لزمَه تَحْقِيقه؛ لِأَنَّهُ كَانَ من حَقه أَن يحْتَرز عَنهُ أَولا فَلَزِمَهُ ثَانِيًا " انْتهى. قَوْله: (قَالَ أهل الجدل وَقوم: لَو دلّ الْمُسْتَدلّ على وجود الْعلَّة بِدَلِيل مَوْجُود فِي صُورَة النَّقْض /، فَقَالَ الْمُعْتَرض: ينْتَقض دليلك فقد انْتقل من نقض الْعلَّة إِلَى نقض دليلها فَلَا يقبل، وَفِي " الرَّوْضَة ": انْتقل، وَيَكْفِي الْمُسْتَدلّ دَلِيل يَلِيق بِأَصْلِهِ) . قَالَ أهل الجدل، والآمدي، وَجمع غَيره: لَو اسْتدلَّ الْمُسْتَدلّ على وجود الْعلَّة فِي مَحل التَّعْلِيل بِدَلِيل مَوْجُود فِي مَحل النَّقْض فنقض الْمُعْتَرض الْعلَّة؛ فَمنع الْمُسْتَدلّ وجود الْعلَّة فِي مَحل النَّقْض. فَقَالَ الْمُعْتَرض: ينْتَقض دليلك حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُ مَوْجُود فِي مَحل النَّقْض، وَالْعلَّة غير مَوْجُودَة فِيهِ على زعمك. لم يسمع؛ / لِأَن الْمُعْتَرض انْتقل من نقض الْعلَّة إِلَى نقض دَلِيل الْعلَّة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3609 قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": انْتقل، وَيَكْفِي الْمُسْتَدلّ دَلِيل يَلِيق بِأَصْلِهِ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: لِأَنَّهُ انْتِقَال من نقض الْعلَّة نَفسهَا إِلَى نقض دليلها. ومثلوا لذَلِك: قَول الْحَنَفِيّ فِي مَسْأَلَة تبييت النِّيَّة: أَتَى بمسمى [الصَّوْم] فَيصح كَمَا فِي مَحل الْوِفَاق، وَاسْتدلَّ على وجود الصَّوْم بِأَنَّهُ إمْسَاك مَعَ النِّيَّة، وَهُوَ مَوْجُود فِي مَحل النزاع. فَيَقُول الْمُعْتَرض: تنْتَقض الْعلَّة بِمَا إِذا نوى بعد الزَّوَال. فَيَقُول الْمُسْتَدلّ: لَا نسلم وجود الْعلَّة فِيمَا إِذا نوى بعد الزَّوَال فَيَقُول الْمُعْتَرض: ينْتَقض دليلك الَّذِي استدللت بِهِ على وجود الْعلَّة فِي مَحل التَّعْلِيل. قَالَ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره ": وَفِيه نظر. لِأَن الْمُعْتَرض فِي معرض الْقدح فِي الْعلَّة فَتَارَة يقْدَح فِيهَا، وَتارَة يقْدَح فِي دليلها، والانتقال من الْقدح فِي الْعلَّة إِلَى الْقدح فِي دليلها جَائِز. والانتقال الَّذِي لَا يكون جَائِزا هُوَ الِانْتِقَال من الِاعْتِرَاض إِلَى الِاسْتِدْلَال. ورد ذَلِك - أَيْضا -. قَوْله: (وَلَو قَالَ الْمُعْتَرض ابْتِدَاء: يلزمك انْتِقَاض علتك أَو دليلها قبل) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3610 مَا تقدم إِذا ادّعى انْتِقَاض دَلِيل الْعلَّة مَعًا، أما لَو ادّعى أحد الْأَمريْنِ فَقَالَ: يلْزم إِمَّا انْتِقَاض الْعلَّة أَو انْتِقَاض دليلها، وَكَيف كَانَ فَلَا تثبت الْعلَّة، كَانَ مسموعا بالِاتِّفَاقِ. قَالَ الْأَصْفَهَانِي: " أما إِذا قَالَ الْمُعْتَرض ابْتِدَاء: يلزمك إِمَّا انْتِقَاض علتك أَو انْتِقَاض دَلِيل علتك، لِأَنَّك إِن اعتقدت وجود الْعلَّة فِي مَحل النَّقْض انْتقض علتك، وَإِن اعتقدت عدم الْعلَّة فِي مَحل النَّقْض انْتقض دليلك، كَانَ متجها مسموعا ". قَوْله: (وَلَو منع الْمُسْتَدلّ تخلف الحكم فِي صُورَة النَّقْض، فَفِي تَمْكِين الْمُعْتَرض من الدّلَالَة الْخلاف فِي تَمْكِينه ليدل على وجود الْعلَّة فِيهَا، وَقَالَ ابْن برهَان: إِن منع الحكم انْقَطع الناقض، وَإِن منع الْوَصْف فَلَا، وَحكي عَن أبي الْخطاب وَابْن عقيل: وَيَكْفِي الْمُسْتَدلّ، لَا أعرف الرِّوَايَة فِيهَا عِنْد الْأَصْحَاب، وَقيل: لَا، وَفِي " التَّمْهِيد ": إِن قَالَ: أَنا أحملها على مُقْتَضى الْقيَاس / وَأَقُول فِيهَا كَمَسْأَلَة الْخلاف، فَإِن كَانَ إِمَامه يرى تَخْصِيص الْعلَّة لم يجز، وَإِلَّا الْأَظْهر الْمَنْع _ أَيْضا -، وَفِي " الْوَاضِح ": [لَيْسَ] لَهُ إِلَّا أَن ينْقل عَنهُ أَنه علل بهَا فيجريها) . إِذا منع الْمُسْتَدلّ تخلف الحكم فِي صُورَة النَّقْض، فقد اخْتلفُوا فِي تَمْكِين الْمُعْتَرض من الدّلَالَة على تخلف الحكم فِي صُورَة النَّقْض على مَذَاهِب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3611 كالأقوال الْمُتَقَدّمَة فِي قَوْلنَا: وَلَيْسَ للمعترض الدّلَالَة على وجود الْعلَّة فِيهَا، على مَا تقدم. أَحدهَا: يُمكن مُطلقًا. وَالثَّانِي: لَا يُمكن مُطلقًا. وَالثَّالِث: يُمكن مَا لم يكن للمعترض طَرِيق أولى بالقدح من النَّقْض. وَدَلَائِل هَذِه الْمذَاهب الثَّلَاثَة مَا تقدم. مِثَاله: قَول الشَّافِعِي فِي مَسْأَلَة الثّيّب الصَّغِيرَة: ثيب فَلَا تجبر كالثيب الْكَبِيرَة. فَيَقُول الْمُعْتَرض: ينْتَقض بِالثَّيِّبِ الْمَجْنُونَة. فَيَقُول الْمُسْتَدلّ: لَا نسلم جَوَاز إِجْبَار الثّيّب الْمَجْنُونَة. وَذكر ابْن برهَان: إِن منع الحكم انْقَطع الناقض، وَإِن منع الْوَصْف فَلَا، فَيدل عَلَيْهِ. وَحَكَاهُ بعض أَصْحَابنَا عَن أبي الْخطاب، وَابْن عقيل. وَعلله فِي " التَّمْهِيد " بِأَنَّهُ بَيَان للنقض لَا من جِهَة الدّلَالَة عَلَيْهِ فَجَاز. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3612 وَيَكْفِي قَول الْمُسْتَدلّ فِي دفع النَّقْض: لَا أعرف الرِّوَايَة فِيهَا، ذكره أَصْحَابنَا للشَّكّ فِي كَونهَا من مذْهبه؛ إِذْ دَلِيله صَحِيح فَلَا يبطل بمشكوك فِيهِ. وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": " لقَائِل أَن يُجيب عَنهُ: لَا يثبت أَنه قِيَاس حَتَّى يعلم سَلَامَته من النَّقْض، بِخِلَاف اسْتِصْحَاب الْحَال، فَإِنَّهُ تمسك بِأَصْل مَوْضُوع ". وَكَذَا اخْتَارَهُ بعض الشَّافِعِيَّة. " وَإِن قَالَ: أَنا أحملها على مُقْتَضى الْقيَاس، وَأَقُول فِيهَا كَمَسْأَلَة الْخلاف، فَإِن كَانَ إِمَامه يرى تَخْصِيص الْعلَّة لم يجز، لِأَنَّهُ لَا يجب الطَّرْد عِنْده، وَإِلَّا احْتمل الْجَوَاز؛ لِأَنَّهُ طرد علته، وَاحْتمل الْمَنْع؛ لِئَلَّا يثبت لإمامه مذهبا بِالشَّكِّ، وَهُوَ الْأَظْهر عِنْدِي " ذكره فِي " التَّمْهِيد ". وَقَالَ فِي " الْوَاضِح ": " لَيْسَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إِثْبَات مَذْهَب بِقِيَاس، إِلَّا أَن ينْقل عَنهُ أَنه علل بهَا فيجريها ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3613 قَوْله: (وَإِن فسر الْمُسْتَدلّ لَفظه بِمَا يدْفع النَّقْض بِخِلَاف ظَاهره: كتفسير عَام بخاص، لم يقبل فِي الْأَصَح) . الصَّحِيح أَن الْمُسْتَدلّ لَو فسر لَفظه بِمَا يدْفع النَّقْض / لَكِن هُوَ خلاف ظَاهر لَفظه: كتفسير عَام بخاص وَنَحْوه مِمَّا هُوَ بعيد عَن اللَّفْظ لكنه مُحْتَمل، لم يقبل. ذكره القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَالْقَاضِي أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ، وَالشَّافِعِيّ، وَغَيرهم؛ لِأَنَّهُ يزِيد وَصفا لم يكن، وَذكره لِلْعِلَّةِ وَقت حَاجته فَلَا يُؤَخر عَنهُ بِخِلَاف تَأْخِير الشَّارِع الْبَيَان عَن وَقت خطابه. وَظَاهر كَلَام بعض أَصْحَابنَا: يقبل، كَقَوْل بَعضهم. وَكَذَا ذكر أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ، تَفْسِيرا للفظ بِمَا يحْتَملهُ: إِن قَالَ الْمُسْتَدلّ عللت لما سَأَلتنِي عَنهُ، فَيجْعَل سُؤَاله عَن تَمام الْعلَّة لوُجُوب استقلالها فَلَا يحْتَاج إِلَى قرينَة وَنِيَّة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3614 قَوْله: (وَإِن أجَاب بالتسوية بَين الأَصْل وَالْفرع لدفع النَّقْض قبل، عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا وَالْحَنَفِيَّة، وَخَالف ابْن عقيل وَالشَّافِعِيَّة، وَأَجَازَهُ أَبُو الْخطاب إِن جَازَ تَخْصِيص الْعلَّة) . إِذا أجَاب الْمُسْتَدلّ بالتسوية بَين الأَصْل وَالْفرع لدفع النَّقْض، جَازَ عِنْد القَاضِي، والحلواني، وَالْحَنَفِيَّة. وَمنعه الشَّافِعِيَّة، وَابْن عقيل وَذكره عَن الْمُحَقِّقين. وَالْأول عَن أَصْحَابنَا، وَعلل بِاشْتِرَاط الطَّرْد. وَأَجَازَهُ أَبُو الْخطاب إِن جَازَ تَخْصِيص الْعلَّة؛ لِأَن الطَّرْد لَيْسَ شرطا لِلْعِلَّةِ إِذا، وَإِلَّا لم يجز لاشتراطه فقد وجد النَّقْض، وَهُوَ وجود الْعلَّة بِلَا حكم فِي الأَصْل وَالْفرع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3615 فَإِن قيل: من شَرطه أَن لَا يَسْتَوِي الأَصْل وَالْفرع. رد: هَذَا بَاطِل. مِثَاله فِي الْمسْح على الْعِمَامَة: عُضْو يسْقط فِي التَّيَمُّم فَمسح حائله كالقدم. فينتقض بِالرَّأْسِ فِي الطَّهَارَة الْكُبْرَى. فَيُجِيبهُ: يَسْتَوِي فِيهَا الأَصْل وَالْفرع. وَمثل ذَلِك: بَائِن مُعْتَدَّة فلزمها الْإِحْدَاد كالمتوفى عَنْهَا زَوجهَا، فينتقض بالذمية وَالصَّغِيرَة. فَيُجِيبهُ: بالتسوية. قَوْله: (وَلَا يلْزم الْمُسْتَدلّ بِمَا لَا يَقُول بِهِ الْمُعْتَرض: كمفهوم وَقِيَاس، وَقَول صَحَابِيّ، إِلَّا النَّقْض وَالْكَسْر على قَول من التزمهما، قَالَه: أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة وَغَيرهم، وَجوز بَعضهم معارضته بعلة منتقضة على أصل الْمُعْتَرض، وَقَالَهُ الشَّيْخ إِن قصد إبِْطَال دَلِيل الْمُسْتَدلّ لإثباته مذْهبه، وَقَالَ ابْن عقيل: إِن احْتج بِمَا [لَا يرَاهُ: كحنفي] بِخَبَر وَاحِد فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى، فَقَالَ: أَنْت / لَا تَقول بِهِ، أجَاب: أَنْت تَقول بِهِ فيلزمك، فَهَذَا قد اسْتمرّ عَلَيْهِ اكثر الْفُقَهَاء. وَعِنْدِي لَا يحسن) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3616 لَيْسَ للمعترض أَن يلْزم الْمُسْتَدلّ مَا لَا يَقُول بِهِ الْمُعْتَرض، كمفهوم وَقِيَاس، وَمذهب صَحَابِيّ؛ لِأَنَّهُ احْتج وَأثبت الحكم بِلَا دَلِيل، ولاتفاقهما على تَركه؛ لِأَن أَحدهمَا لَا يرَاهُ دَلِيلا وَالْآخر لما خَالفه دلّ على دَلِيل أقوى مِنْهُ إِلَّا النَّقْض وَالْكَسْر على قَول من التزمهما؛ لِأَن الناقض لم يحْتَج بِالنَّقْضِ وَلَا أثبت الحكم بِهِ، ولاتفاقهما على فَسَاد الْعلَّة على أصل الْمُسْتَدلّ بِصُورَة الْإِلْزَام، وعَلى أصل الْمُعْتَرض بِمحل النزاع، ذكره أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم. وَجوز بعض الشَّافِعِيَّة معارضته بعلة منتقضة على أصل الْمُعْتَرض. وَقَالَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: " إِن قصد إبِْطَال دَلِيل الْمُسْتَدلّ لإِثْبَات مذْهبه، لِأَن الْمُسْتَدلّ إِنَّمَا يتم دَلِيله إِذا سلم عَن الْمُعَارضَة والمناقضة فَكيف يلْزم بِهِ غَيره ". وَقَالَ ابْن عقيل: إِن احْتج بِمَا لَا يرَاهُ: كحنفي بِخَبَر وَاحِد فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى. فَاعْترضَ عَلَيْهِ: لَا تَقول بِهِ. فَأجَاب: أَنْت تَقول بِهِ فيلزمك، فَهَذَا قد اسْتمرّ عَلَيْهِ أَكثر الْفُقَهَاء. وَعِنْدِي لَا يحسن مثل هَذَا لِأَنَّهُ إِذا إِنَّمَا هُوَ مستدل صُورَة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3617 قَالَ: وَمن نصر الأول قَالَ: على هَذَا لَا يحسن بِنَا أَن نحتج على نبوة نَبينَا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيل المبدلين، لَكِن نحتج بِهِ على أهل الْكتاب لتصديقهم بِهِ. انْتهى. قَوْله: (وَإِن نقض أَحدهمَا عِلّة الآخر بِأَصْل نَفسه لم يجز عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَقيل: بلَى، وَقَالَ الشَّيْخ: هُوَ كقياسه على أصل نَفسه) . لَو نقض الْمُعْتَرض أَو الْمُسْتَدلّ عِلّة الآخر بِأَصْل نَفسه لم يجز عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، خلافًا للجرجاني، وَبَعض الشَّافِعِيَّة. قَالَ ابْن الباقلاني: لَهُ وَجه، فَإِن سلمه خَصمه وَإِلَّا دلّ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: " نقض الْمُعْتَرض بِأَصْل نَفسه كقياسه على أصل نَفسه، وَحَاصِله أَن مُقَدّمَة الدَّلِيل الْمعَارض مَمْنُوعَة وَلَيْسَ / بِبَعِيد، كَمَا يجوز ذَلِك للمستدل ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3618 قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ. قَوْله: (وَلَو زَاد الْمُسْتَدلّ وَصفا معهودا مَعْرُوفا فِي الْعلَّة لم يجز، ذكره أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَقيل: بلَى) . لَو زَاد الْمُسْتَدلّ وَصفا معهودا مَعْرُوفا فِي الْعلَّة لم يجز، ذكره أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ". قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ احْتِمَال، وفَاقا لبَعض الجدليين، وَبَعض الشَّافِعِيَّة؛ لِأَنَّهُ تَركه سَهوا، أَو سبق لِسَان فعذر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3619 قَوْله: (وَلَا يقبل النَّقْض بمنسوخ وَلَا بخاص بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْأَصَح، وَلَا بِرُخْصَة ثَابِتَة على خلاف مُقْتَضى الْقيَاس، وَلَا بموضوع اسْتِحْسَان عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَعند الشَّيْخ: تنْتَقض المستنبطة إِن لم يبين مَانِعا) . قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَفِي قبُول النَّقْض بالمنسوخ وبخاص بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مذهبان فِي " التَّمْهِيد " و " الْوَاضِح ". وَلَا نقض بِرُخْصَة ثَابِتَة على خلاف مقتضي الدَّلِيل، ذكره جمَاعَة من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3620 وَقَالَ أَبُو الْخطاب: هَل تنْتَقض الْعلَّة بِموضع الِاسْتِحْسَان؟ يحْتَمل وَجْهَيْن، وَمثله بِمَا إِذا سوى بَين الْعمد والسهو فِيمَا يبطل الْعِبَادَة فينتقض بِأَكْل الصَّائِم. وَفِي " الْوَاضِح ": عَن أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة لَا نقض بِموضع اسْتِحْسَان، وَمثل بِهَذَا ثمَّ قَالَ: يَقُول الْمُعْتَرض: النَّص دلّ على انتقاضه فَيكون آكِد للنقض. وَعند الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: تنْتَقض المستنبطة إِن لم يبين مَانِعا: كالنقض بالعرايا فِي الرِّبَا، وَإِيجَاب الدِّيَة على الْعَاقِلَة لاقْتِضَاء الْمصلحَة الْخَاصَّة ذَلِك، أَو لدفع مفْسدَة آكِد: كحل الْميتَة للْمُضْطَر إِذا نقض بهَا عِلّة تَحْرِيم النَّجَاسَة) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3621 قَوْله: (وَيجب احْتِرَاز الْمُسْتَدلّ فِي دَلِيله عَن النَّقْض عِنْد ابْن عقيل، والموفق، والطوفي، وَالْفَخْر، وَذكره عَن مُعظم الجدليين، وَقيل: إِلَّا فِي المستثنيات، وَاخْتَارَ ابْن الْحَاجِب وَغَيره: لَا) . هَل يجب احْتِرَاز الْمُسْتَدلّ فِي دَلِيله عَن النَّقْض أم لَا؟ أم يجب إِلَّا فِي نقض؟ وطرد بطرِيق الِاسْتِثْنَاء ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: يجب، وَهُوَ الصَّحِيح، اخْتَارَهُ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، / وَالشَّيْخ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي فِي " مختصرها "، , أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ، وَذكره عَن مُعظم الجدليين لقُرْبه من الضَّبْط، وَدفع انتشار الْكَلَام وسد بَابه؛ فَكَانَ وَاجِبا لما فِيهِ من صِيَانة الْكَلَام عَن التبديل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3622 وَالْقَوْل الثَّانِي: لَا يجب؛ لِأَن انْتِفَاء الْمعَارض لَيْسَ من الدَّلِيل لحُصُول الْعلم أَو الظَّن بِدُونِ التَّعَرُّض لَهُ، وَلِأَن الدَّلِيل يتم بِدُونِهِ إِن لم يكن فِي نفس الْأَمر وَإِلَّا ورد وَإِن احْتَرز عَنهُ اتِّفَاقًا ومنعا وَضعف الْمَنْع. قَالَ الطوفي: " النَّقْض سُؤال خَارج عَن الْقيَاس؛ فَلَا يجب إِدْخَاله فِي صلب الْقيَاس، بل إِذا أوردهُ الْمُعْتَرض، لزم جَوَابه بِمَا يَدْفَعهُ كَسَائِر الأسئلة؛ وَلِأَن فِيهِ تَنْبِيها للمعترض على مَوضِع النَّقْض، وَفِي ذَلِك نشر الْكَلَام وتبدده، وَهُوَ خلاف الْمَطْلُوب من المناظرة ". وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل ابْن الْحَاجِب. وَالْقَوْل الثَّالِث: يجب إِلَّا فِي نقض وطرد بطرِيق الِاسْتِثْنَاء، وَهِي مَا يرد على كل عِلّة. فَإِذا قَالَ: فِي الذّرة مطعوم فَيجب فِيهِ التَّسَاوِي كالبر؛ فَلَا حَاجَة إِلَى أَن يَقُول: وَلَا حَاجَة تَدْعُو إِلَى التَّفَاضُل فِيهِ، فَيخرج الْعَرَايَا فَإِنَّهُ وَارِد على كل تَقْدِير، سَوَاء عللنا بالطعم، أَو الْقُوت، أَو الْكَيْل، فَلَا يتَعَلَّق بِهِ إبِْطَال مَذْهَب وَتَصْحِيح آخر. قَوْله: (وَإِن احْتَرز عَن النَّقْض بِشَرْط ذكره فِي الحكم، فَالْأَصَحّ: يَصح، اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، وَقَالَ: إِن احْتَرز بِحَذْف الحكم لم يَصح) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3623 لَو احْتَرز عَن النَّقْض بِشَرْط ذكره فِي الحكم نَحْو: حران مكلفان محقونا الدَّم، فَيجب الْقود بَينهمَا كالمسلمين. فَقيل: لَا يَصح؛ لاعْتِرَافه بِالنَّقْضِ، فَإِن الحكم يتَخَلَّف عَن الْأَوْصَاف فِي الْخَطَأ. وَقيل: يَصح؛ لِأَن الشَّرْط الْمُتَأَخر مُتَقَدم فِي الْمَعْنى: كتقديم الْمَفْعُول على الْفَاعِل، اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب. قَالَ: وَإِن احْتَرز بِحَذْف الحكم لم يَصح. كَقَوْل حَنَفِيّ فِي الْإِحْدَاد على الْمُطلقَة: بَائِن كالمتوفى عَنْهَا زَوجهَا. فينتقض بصغيرة وذمية. فَيَقُول: قصدت التسويه بَينهمَا. فَيُقَال: التَّسْوِيَة بَينهمَا حكم، فَيحْتَاج إِلَى أصل يُقَاس عَلَيْهِ كَمَا تقدم. قَوْله: / الْكسر: نقض الْمَعْنى، سبق، وَهُوَ كالنقض) . لَا شكّ أَن الْكسر قد تقدم حَده، وَحكمه، وَهل يبطل الْعلَّة أَو لَا يُبْطِلهَا؟ وَأَن هَذَا قَول أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، فِي أَحْكَام [الْعلَّة] وشروطها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3624 قَالَ ابْن مُفْلِح: (هُنَا الْكسر نقض الْمَعْنى، وَالْكَلَام فِيهِ كالنقض، وَقد سبق. قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": يشبه الْكسر من الأسئلة الْفَاسِدَة قَوْله: لَو كَانَ هَذَا عِلّة فِي كَذَا لَكَانَ عِلّة فِي كَذَا، نَحْو: لَو منع عدم الرُّؤْيَة صِحَة البيع، منع النِّكَاح. وَيُشبه ذَلِك قَوْلهم: أخذت النَّفْي من الْإِثْبَات أَو بِالْعَكْسِ فَلم يجز، كالقول فِي الْمَوْطُوءَة مغلوبة: مَا فطرها مَعَ الْعمد لم يفطرها مغلوبة كالقيء. وَجَوَابه: يجوز لتضاد حكمهمَا للاختيار وَعَدَمه، وَلِهَذَا للشارع تَفْرِيق الحكم بهما. وَمن ذَلِك قَوْلهم: هَذَا اسْتِدْلَال بالتابع على الْمَتْبُوع فَلم يجز، بِخِلَاف الْعَكْس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3625 كَقَوْلِنَا فِي نِكَاح مَوْقُوف: نِكَاح لَا يتَعَلَّق بِهِ أَحْكَامه المختصة بِهِ كالمتعة. فَيُقَال: الْأَحْكَام تَابعه وَالْعقد متبوع، فَهَذَا فَاسد بِدَلِيل بَقِيَّة الْأَنْكِحَة. وتناقضوا فأبطلوا ظِهَار الذِّمِّيّ وَيَمِينه لبُطْلَان تكفيره وَهُوَ فرع يَمِينه) . وَقد تقدم أَحْكَام الْكسر، والنقض المكسور، وَالْخلاف فِي تَفْسِيره، فِي أَحْكَام الْعلَّة فَليُرَاجع. قَوْله: (الْمُعَارضَة فِي الأَصْل بِمَعْنى آخر مُسْتَقل: كمعارضة عِلّة الطّعْم بِالْكَيْلِ أَو الْقُوت، أَو غير مُسْتَقل: كمعارضة الْقَتْل الْعمد الْعدوان بِوَصْف الْجَارِح، فَالثَّانِي مَقْبُول عندنَا وَعند الْأَكْثَر، وَخَالف قوم) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3626 معنى الْمُعَارضَة فِي الأَصْل: هُوَ أَن يُبْدِي الْمُعْتَرض معنى آخر يصلح للعلية غير مَا علل بِهِ الْمُسْتَدلّ. وَهِي: إِمَّا أَن تكون بِمَعْنى مُسْتَقل بِالتَّعْلِيلِ، كَمَا لَو علل الشَّافِعِي تَحْرِيم رَبًّا الْفضل فِي الْبر بالطعم، فعارضه الْحَنَفِيّ بتعليل تَحْرِيمه بِالْكَيْلِ، أَو الْجِنْس، أَو الْقُوت. وَإِمَّا أَن يكون بِمَعْنى غير مُسْتَقل بِالتَّعْلِيلِ، وَلكنه دَاخل فِيهِ وَصَالح لَهُ، كَمَا لَو علل الشَّافِعِي وجوب الْقصاص فِي الْقَتْل بالمثقل الْعمد الْعدوان، فعارضه الْحَنَفِيّ بتعليل وُجُوبه بالجارح. / وَقد اخْتلف الجدليون فِي قبُول هَذِه الْمُعَارضَة. وَهَذَا الْقسم الثَّانِي مَقْبُول عندنَا، وَعند أَكثر الشَّافِعِيَّة، وَالْجُمْهُور، لِئَلَّا يلْزم التحكم؛ لِأَن وصف الْمُسْتَدلّ لَيْسَ بِأولى بِكَوْنِهِ جُزْءا أَو مُسْتقِلّا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3627 فَإِن رجح استقلاله بتوسعة الحكم فِي الأَصْل وَالْفرع فتكثر الْفَائِدَة، فللمعترض منع دلَالَة الِاسْتِقْلَال عَلَيْهَا، ثمَّ لَهُ معارضته بِأَن الأَصْل انْتِفَاء الْأَحْكَام، وباعتبارهما مَعًا فَهُوَ أولى. قَالُوا: يلْزم مِنْهُ استقلالهما بالعلية فَيلْزم تعدد الْعلَّة المستقلة. رد: بِالْمَنْعِ لجَوَاز اعتبارهما مَعًا، كَمَا لَو أعْطى قَرِيبا عَالما. (وَمثل فِي " التَّمْهِيد " الْمُعَارضَة فِي الأَصْل: بِأَن الذِّمِّيّ يَصح طَلَاقه فصح ظِهَاره كَالْمُسلمِ. فيعترض: بِصِحَّة تكفيره. فَيُجِيبهُ: بِأَنَّهَا عِلّة واقفه لَا تصح، وَإِن قَالَ بِصِحَّتِهَا قَالَ: أَقُول بالعلتين فِي الأَصْل وتتعدى علتي إِلَى الْفَرْع. وَإِن قَالَ: أَقرَرت بِصِحَّة علتي، فَإِن ادعيت عِلّة أُخْرَى لزمك الدَّلِيل. قيل: هَذَا مُطَالبَة بتصحيح الْعلَّة، فَيجب تَقْدِيمه على الْمُعَارضَة وَإِلَّا خرجت عَن مُقْتَضى الجدل) . قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ. وَقَالَهُ قبله أَبُو الطّيب الشَّافِعِي: إِن عَارضه بعلة معلولها دَاخل فِي مَعْلُول علته، لم يَصح، كمعارضة الْمكيل بالقوت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3628 وَمعنى ذَلِك كُله فِي " الْوَاضِح ". قَالَ بعض أَصْحَابنَا: هِيَ: كمعارضة متعدية لقاصرة، وَهِي مُعَارضَة صَحِيحَة. قَوْله: (وَلَا يلْزم الْمُعْتَرض بَيَان نفي وصف الْمُعَارضَة عَن الْفَرْع، وَقيل: بلَى، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ: إِن قصد الْفرق وَإِلَّا فَلَا، وَقيل: إِن صرح بنفيه لزمَه) . هَذَا بحث يتَفَرَّع على قبُول الْمُعَارضَة، وَهُوَ أَنه هَل يلْزم الْمُعْتَرض بَيَان أَن الْوَصْف الَّذِي أبديته مُنْتَفٍ فِي الْفَرْع أَو لَا يقبل؟ لَا يلْزمه؛ لِأَن غَرَضه عدم اسْتِقْلَال مَا ادّعى الْمُسْتَدلّ أَنه مُسْتَقل، وَهَذَا الْقدر يحصل بِمُجَرَّد إبدائه، وَهَذَا الَّذِي قدمْنَاهُ تبعا لِابْنِ / مُفْلِح. وَقيل: يلْزمه؛ لِأَنَّهُ قصد الْفرق وَلَا يتم إِلَّا بِهِ. قَالَ الْعَضُد: يلْزمه لينفعه دَعْوَى التَّعْلِيل بِهِ؛ إِذْ لولاه لم [تنتف] الْعلَّة فِي الْفَرْع، فَيثبت الحكم فِيهِ وَحصل مَطْلُوب الْمُسْتَدلّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3629 وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل الْآمِدِيّ، لَكِن قَيده بِأَن قَالَ: إِن قصد الْفرق وَإِلَّا فَلَا يلْزمه بِأَن يَقُول: هُوَ من الْعلَّة، فَإِن لم يجد فِي الْفَرْع ثَبت الْفَرْع، وَإِلَّا فَالْحكم فِيهِ لَهما. وَلنَا قَول رَابِع: أَنه إِن صرح بنفيه لزمَه، وَهُوَ الَّذِي نَصره ابْن الْحَاجِب. قَالَ الْعَضُد: " وَقيل: إِن تعرض لعدمه فِي الْفَرْع صَرِيحًا لزمَه بَيَانه وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَار. أما أَنه إِذا لم يُصَرح فَلَيْسَ عَلَيْهِ بَيَانه؛ فَلِأَنَّهُ قد أَتَى بِمَا لَا يتم الدَّلِيل مَعَه، وَهَذَا غَرَضه، لَا بَيَان عدم الحكم فِي الْفَرْع، حَتَّى لَو ثَبت بِدَلِيل آخر لم يكن إلزاما لَهُ، وَرُبمَا سلمه. وَأما أَنه إِذا صرح بِهِ؛ فَلِأَنَّهُ الْتزم أمرا، وَإِن لم يجب عَلَيْهِ ابْتِدَاء فَيلْزمهُ بالتزامه وَيجب عَلَيْهِ الْوَفَاء بِمَا الْتَزمهُ ". قَوْله: (وَلَا يحْتَاج وصف الْمُعَارضَة إِلَى أصل عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر) . هَذَا بحث آخر يتَفَرَّع على قبُول الْمُعَارضَة، وَهُوَ أَنه: هَل يحْتَاج الْمعَارض إِلَى أصل يبين تَأْثِير وَصفه الَّذِي أبداه فِي ذَلِك الأَصْل حَتَّى يقبل مِنْهُ، بِأَن يَقُول: الْعلَّة الطّعْم دون الْقُوت كَمَا فِي الْملح، فقد اخْتلف فِيهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3630 وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابنَا وَالْجُمْهُور: أَنه لَا يحْتَاج؛ لِأَن حَاصِل هَذَا الِاعْتِرَاض أحد الْأَمريْنِ: إِمَّا نفي ثُبُوت الحكم فِي الْفَرْع بعلة الْمُسْتَدلّ، ويكفيه أَن لَا يثبت عليتها بالاستقلال، وَلَا يحْتَاج فِي ذَلِك إِلَى أَن يثبت علية مَا أبداه بالاستقلال، فَإِن كَونه جُزْء الْعلَّة يحصل مَقْصُوده، فقد لَا يكون عِلّة فَلَا يُؤثر فِي أصل أصلا. وَإِمَّا صد الْمُسْتَدلّ عَن التَّعْلِيل بذلك الْوَصْف الَّذِي ذكره الْمُسْتَدلّ، لجَوَاز أَن تَأْثِير هَذَا وَالِاحْتِمَال كَاف، / فَهُوَ لَا يَدعِي عليته حَتَّى يحْتَاج شَهَادَة أصل. وَأَيْضًا: فَإِن أصل الْمُسْتَدلّ أَصله؛ لِأَنَّهُ كَمَا يشْهد لوصف الْمُسْتَدلّ بِالِاعْتِبَارِ كَذَلِك يشْهد لوصف الْمُعْتَرض بِالِاعْتِبَارِ، لِأَن الوصفين موجودان فِيهِ، وَكَذَلِكَ الحكم مَوْجُود بِأَن يَقُول: الْعلَّة الطّعْم، أَو الْكَيْل، أَو كِلَاهُمَا، كَمَا فِي الْبر بِعَيْنِه، فَإِذا مُطَالبَته بِأَصْل مُطَالبَة لَهُ بِمَا قد يُحَقّق حُصُوله فَلَا فَائِدَة فِيهِ. قَوْله: (وجوابها بِمَنْع وجود الْوَصْف أَو الْمُطَالبَة بتأثيره إِن كَانَ مثبتا بمناسبة أَو بشبه لَا بسبر، أَو بخفائه، أَو لَيْسَ منضبطا، أَو منع ظُهُوره أَو انضباطه، أَو بَيَان أَنه عدم معَارض فِي الْفَرْع، أَو ملغى، أَو أَن مَا عداهُ مُسْتَقل فِي صُورَة بِظَاهِر نَص أَو إِجْمَاع) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3631 إِذا عرفت أَن الْمُعَارضَة مَقْبُولَة فَالْجَوَاب عَنْهَا من وُجُوه: مِنْهَا: منع وجود الْوَصْف، مثل أَن يُعَارض الْقُوت بِالْكَيْلِ، فَيَقُول: لَا نسلم أَنه مَكِيل؛ لِأَن الْعبْرَة بعادة زمن الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَ حِينَئِذٍ مَوْزُونا. وَمِنْهَا: الْمُطَالبَة بِكَوْن وصف الْمعَارض مؤثرا. يُقَال: وَلم قلت: إِن الْكَيْل مُؤثر وَهَذَا إِنَّمَا يسمع من الْمُسْتَدلّ إِذا كَانَ مثبتا للعلية بالمناسبة أَو الشّبَه، حَتَّى يحْتَاج الْمعَارض فِي معارضته إِلَى بَيَان مُنَاسبَة أَو شبه، بِخِلَاف مَا إِذا أثْبته بالسبر، فَإِن الْوَصْف يدْخل فِي السبر بِدُونِ ثُبُوت الْمُنَاسبَة بِمُجَرَّد الِاحْتِمَال. وَمِنْهَا: بَيَان خفائه. وَمِنْهَا: عدم انضباط هَذِه الْأَرْبَعَة؛ لما علمت أَن الظُّهُور والانضباط شَرط فِي الْوَصْف الْمُعَلل بِهِ، فَلَا بُد فِي دَعْوَى صلوح الْوَصْف عِلّة من بَيَانهَا، وللصاد عَنْهُمَا أَن يبين عدمهما، وَأَن يُطَالب بِبَيَان وجودهما. وَمِنْهَا: بَيَان أَن الْوَصْف عدم معَارض فِي الْفَرْع. مِثَاله: أَن يقيس الْمُكْره على الْمُخْتَار فِي الْقصاص بِجَامِع الْقَتْل. فَيَقُول الْمُعْتَرض: معَارض بالطواعية فَإِن الْعلَّة هِيَ الْقَتْل مَعَ الطواعية. فيجيب الْمُسْتَدلّ: بِأَن الطواعية عدم الْإِكْرَاه الْمُنَاسب لنقيض الحكم، وَهُوَ عدم الْقصاص، فحاصله عدم / معَارض، وَعدم الْمعَارض طرد لَا يصلح للتَّعْلِيل؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ من الْبَاعِث فِي شَيْء كَمَا علمت. وَمِنْهَا: أَن يبين كَون الْوَصْف الْمعَارض ملغى؛ إِذْ قد تبين اسْتِقْلَال الْبَاقِي بالعلية فِي صُورَة مَا بِظَاهِر نَص أَو إِجْمَاع. مِثَاله: إِذا عَارض فِي الرِّبَا الطّعْم بِالْكَيْلِ. فيجيب: بِأَن النَّص دلّ على اعْتِبَار الطّعْم فِي صُورَة مَا، وَهُوَ قَوْله: " لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3632 وَمِثَال آخر: أَن يَقُول فِي يَهُودِيّ صَار نَصْرَانِيّا، أَو بِالْعَكْسِ: بدل دينه فَيقْتل كالمرتد. فيعارضه بالْكفْر بعد الْإِيمَان. فيجيب: بِأَن التبديل مُعْتَبر فِي صُورَة مَا لقَوْله: " من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ ". وَهَذَا إِذا لم يتَعَرَّض للتعميم، فَلَو عمم وَقَالَ: فَيثبت ربوية كل مطعوم، أَو اعْتِبَار كل تَبْدِيل للْحَدِيث لم يسمع؛ لِأَن ذَلِك إِثْبَات للْحكم بِالنَّصِّ دون الْقيَاس، وَلَا تتميم للْقِيَاس بالإلغاء، وَالْمَقْصُود ذَلِك؛ لِأَنَّهُ لَو ثَبت الْعُمُوم لَكَانَ الْقيَاس ضائعا، وَلَا يضر كَونه عَاما إِذا لم يتَعَرَّض للتعميم وَلم يسْتَدلّ بِهِ. وَمعنى هَذَا ذكره ابْن الْحَاجِب وَلم يذكرهُ فِي الْمَتْن. قَوْله: (وَاكْتفى الشَّيْخ موفق الدّين فِي " الرَّوْضَة " وَغَيرهَا فِي بَيَان استقلاله، بِإِثْبَات الحكم فِي صُورَة دونه؛ لِأَن الأَصْل عدم غَيره، وَيدل عَلَيْهِ عجز الْمعَارض عَنهُ، وَقيل: لَا، لجَوَاز عِلّة أُخْرَى، قطع بِهِ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره "، فَلَو أبدى وَصفا آخر يقوم مقَام مَا ألغاه الْمُسْتَدلّ بِثُبُوت الحكم دونه فسد الإلغاء، وَيُسمى تعدد الْوَضع، لتَعَدد أصليهما، وَجَوَاب إِفْسَاد الإلغاء إِلَى أَن يقف أَحدهمَا) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3633 قَالَ: " رُبمَا يظنّ أَن إِثْبَات الحكم فِي صُورَة دون وصف الْمعَارض كَاف فِي فِي إلغائه. وَالْحق: أَنه لَيْسَ بكاف؛ لجَوَاز وجود عِلّة أُخْرَى، لما تقدم من جَوَاز تعدد الْعلَّة وَعدم وجوب الْعَكْس. وَلأَجل ذَلِك لَو أبدى الْمُعْتَرض فِي صُورَة عدم وصف الْمُعَارضَة وَصفا آخر يقوم مقَام مَا ألغاه الْمُسْتَدلّ، بِثُبُوت الحكم دونه فسد الإلغاء؛ لابتنائه على اسْتِقْلَال الْبَاقِي فِي تِلْكَ الصُّورَة، وَقد بَطل. وَتسَمى هَذِه الْحَالة تعدد / الْوَضع لتَعَدد أصليهما، وَالتَّعْلِيل فِي أَحدهمَا بِالْبَاقِي على وضع، أَي: مَعَ قيد، وَفِي الآخر على وضع آخر، أَي: مَعَ قيد آخر. مِثَاله: أَن يُقَال فِي مَسْأَلَة أَمَان العَبْد للحربي: أَمَان من مُسلم عَاقل فَيقبل كَالْحرِّ؛ لِأَن الْإِسْلَام وَالْعقل مظنتان لإِظْهَار مصلحَة الْإِيمَان، أَي: بذل الْأمان وَجعله آمنا. فَيَقُول الْمُعْتَرض: هُوَ معَارض بِكَوْنِهِ حرا، أَي: الْعلَّة كَونه مُسلما عَاقِلا حرا، فَإِن الْحُرِّيَّة مَظَنَّة فرَاغ قلبه للنَّظَر، لعدم اشْتِغَاله بِخِدْمَة السَّيِّد، فَيكون إِظْهَار مصَالح الْإِيمَان مَعَه أكمل. فَيَقُول الْمُسْتَدلّ: الْحُرِّيَّة ملغاة لاستقلال الْإِسْلَام وَالْعقل بِهِ فِي صُورَة العَبْد الْمَأْذُون لَهُ من قبل سَيّده فِي أَن يُقَاتل. فَيَقُول الْمُعْتَرض: إِذن السَّيِّد لَهُ خلف عَن الْحُرِّيَّة، فَإِنَّهُ مَظَنَّة لبذل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3634 الوسع فِيمَا تصدى لَهُ من مصَالح الْقِتَال، أَو لعلم السَّيِّد صَلَاحه، لإِظْهَار مصَالح الْإِيمَان. وَجَوَاب تعدد الْوَضع: أَن يلغي الْمُسْتَدلّ ذَلِك الْخلف، بإبداء صُورَة لَا يُوجد فِيهَا الْخلف. فَإِن أبدى الْمُعْتَرض خلفا آخر، فَجَوَابه: إلغاؤه، وعَلى هَذَا إِلَى أَن يقف أَحدهمَا فَتكون الدبرة عَلَيْهِ، فَإِن [ظَهرت] صُورَة لَا خلف فِيهِ تمّ الإلغاء، وَبَطل الِاعْتِرَاض، وَإِلَّا ظهر عجز الْمُعْتَرض ". قَوْله: (وَلَا يُفِيد الإلغاء لضعف المظنة بعد تَسْلِيمهَا) . " قد عرفت أَن من أجوبة الْمُعَارضَة الإلغاء، فالإلغاء [هَل] يثبت ضعف الْمَعْنى، إِذا سلم وجود المظنة المتضمنة لذَلِك الْمَعْنى؟ الْحق أَنه لَا يثبت. مِثَاله: أَن يَقُول: الرِّدَّة عِلّة الْقَتْل. فَيَقُول الْمُعْتَرض: بل مَعَ الرجولية؛ لِأَنَّهُ مَظَنَّة الْإِقْدَام على قتال الْمُسلمين، إِذْ يعْتَاد ذَلِك من الرِّجَال دون النِّسَاء. فيجيب الْمُسْتَدلّ: بِأَن الرجولية وَكَونهَا مَظَنَّة الْإِقْدَام لَا تعْتَبر، وَإِلَّا لم يقتل مَقْطُوع الْيَدَيْنِ؛ لِأَن احْتِمَال الْإِقْدَام فِيهِ ضَعِيف، بل أَضْعَف من احْتِمَاله فِي النِّسَاء. وَهَذَا لَا يقبل من حَيْثُ سلم أَن الرجولية مَظَنَّة اعتبرها الشَّارِع، وَذَلِكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3635 كترفه الْملك فِي السّفر، لَا يمْنَع رخص السّفر فِي / حَقه، إِذْ الْمُعْتَبر المظنة وَقد وجدت، لَا مِقْدَار الْحِكْمَة لعدم انضباطها ". قَوْله: (وَلَا يَكْفِي الْمُسْتَدلّ رُجْحَان وَصفه، خلافًا للآمدي، أما لَو اتفقَا على كَون الحكم مُعَللا بِأَحَدِهِمَا، قدم الرَّاجِح، وَلَا يَكْفِيهِ كَونه مُتَعَدِّيا) . قَالَ ابْن مُفْلِح: " لَا يَكْفِي الْمُسْتَدلّ رُجْحَان وَصفه خلافًا للآمدي، لقُوَّة بعض أَجزَاء الْعلَّة، كَالْقَتْلِ على الْعمد الْعدوان. أما لَو اتفقَا على كَون الحكم مُعَللا بِأَحَدِهِمَا، قدم الرَّاجِح، وَلَا يَكْفِيهِ كَونه مُتَعَدِّيا لاحْتِمَال جزئه الْقَاصِر ". لم يذكر ابْن الْحَاجِب الِاتِّفَاق على كَونه مُعَللا، إِنَّمَا ذكر الأول والأخير. فَلهَذَا قَالَ الْعَضُد: " هَذَانِ وَجْهَان توهما جَوَابا للمعارضة وَلَا يكفيان. الأول: رُجْحَان الْمعِين، وَهُوَ أَن يَقُول الْمُسْتَدلّ فِي جَوَاب الْمُعَارضَة: مَا عينته من الْوَصْف رَاجِح على مَا عارضت بِهِ، ثمَّ يظْهر وَجها من وُجُوه التَّرْجِيح وَهَذَا الْقدر غير كَاف؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يدل على أَن اسْتِقْلَال وَصفه أولى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3636 من اسْتِقْلَال وصف الْمُعَارضَة، إِذْ لَا يُعلل بالمرجوح مَعَ وجود الرَّاجِح، لَكِن احْتِمَال الْجُزْئِيَّة بَاقٍ، وَلَا بعد فِي تَرْجِيح بعض الْأَجْزَاء على بعض، فَيَجِيء التحكم. الثَّانِي: [كَون] مَا عينه الْمُسْتَدلّ مُتَعَدِّيا وَالْآخر قاصرا غير كَاف فِي جَوَاب الْمُعَارضَة، إِذْ مرجعه التَّرْجِيح بذلك، فَيَجِيء التحكم، هَذَا والشأن فِي التَّرْجِيح فَإِنَّهُ إِن رجحت المتعدية بِأَن اعْتِبَاره يُوجب الاتساع فِي الْأَحْكَام، وبأنها مُتَّفق على اعْتِبَارهَا، بِخِلَاف القاصرة، رجحت القاصرة بِأَنَّهَا مُوَافقَة للْأَصْل، إِذْ الأَصْل عدم الْأَحْكَام، وَبِأَن اعْتِبَارهَا إِعْمَال للدليلين مَعًا، دَلِيل الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة، وَدَلِيل القاصرة بِخِلَاف إلغائها ". قَوْله: (وَيجوز تعدد أصُول الْمُسْتَدلّ فِي الْأَصَح، فَيجوز اقْتِصَار الْمُعَارضَة على أصل وَاحِد، وَفِي " الْوَاضِح ": لَا، فَيجب اتِّحَاد الْمعَارض فِي الْجَمِيع، وَقيل: لَا، فللمستدل الِاقْتِصَار فِي جَوَابه على أصل وَاحِد، وَقيل: لَا) . قد اخْتلف فِي جَوَاز تعدد أصُول الْمُسْتَدلّ: فَقيل: لَا يجوز، بل يجب عَلَيْهِ [الِاكْتِفَاء] بِأَصْل وَاحِد إِذْ مَقْصُوده الظَّن، وَهُوَ يحصل بِوَاحِد، فيلغوا مَا زَاد عَلَيْهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3637 وَالصَّحِيح: أَنه جَائِز؛ لِأَن الظَّن يقوى بِهِ، وكما أَن أصل [الظَّن] مَقْصُود، فقوته - أَيْضا - مَقْصُودَة. فعلى هَذَا إِذا تعدد الأَصْل فَهَل يجوز للمعترض / أَن يقْتَصر فِي الْمُعَارضَة على أصل وَاحِد، وَلَا يتَعَرَّض لسَائِر الْأُصُول؟ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: يجوز الِاقْتِصَار على أصل وَاحِد؛ لِأَن إبِْطَال جُزْء من كَلَامه يبطل كَلَامه كُله. وَالْقَوْل الثَّانِي: لَا يجوز، وَجزم بِهِ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "؛ لِأَنَّهُ لَو سلم لَهُ أصل لكفاه الْمَقْصُود، فَلَا بُد من إبِْطَال الْجَمِيع. فعلى هَذَا القَوْل يجب اتِّحَاد الْمعَارض فِي الْجَمِيع للنشر. وَقيل: لَا، للتيسير على الْمُعْتَرض. وعَلى كَونه لَا يجوز الِاكْتِفَاء بِوَاحِد بل تجب الْمُعَارضَة فِي جَمِيع الْأُصُول، لَو عَارض فِي الْجَمِيع وَدفع الْمُسْتَدلّ معارضته عَن أصل وَاحِد، فَهَل يجوز وَيكون ذَلِك كَافِيا؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3638 فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: الْجَوَاز، وَجهه أَنه يحصل بِهِ مَطْلُوبه. وَالثَّانِي: الْمَنْع وَوَجهه أَنه الْتزم الْجَمِيع، فَلَزِمَهُ الذب عَن الْجَمِيع كَأَن الْجَمِيع صَار مدعى بِالْعرضِ. قَوْله: (التَّرْكِيب، سبق، كالبالغة أُنْثَى فَلَا تزوج نَفسهَا كَبِنْت خمس عشرَة، فالخصم يعْتَقد لصغرها، وَهُوَ صَحِيح فِي الْأَصَح، وَقَالَ الْفَخر: يرجع إِلَى منع الحكم فِي الأَصْل أَو الْعلَّة، ثمَّ هُوَ غير صَحِيح. يَعْنِي: هَذَا سُؤال التَّرْكِيب، وَهُوَ الْوَارِد على الْقيَاس الْمركب، وَقد تقدم فِي شُرُوط حكم الأَصْل. يَعْنِي: الْقيَاس الْمركب، وتقسيمه، وَوجه تَسْمِيَته بذلك، وتوجيه الْإِيرَاد عَلَيْهِ. قَالَ ابْن مُفْلِح: (التَّرْكِيب سبق فِي شُرُوط حكم الأَصْل، وَذكره فِي " الرَّوْضَة " من الأسئلة، وَقَالَ: هُوَ الْقيَاس الْمركب من اخْتِلَاف مَذْهَب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3639 الْخصم، نَحْو: الْبَالِغَة: أُنْثَى فَلَا تزوج نَفسهَا كابنة خمس عشرَة، فالخصم يعْتَقد لصغرها. فَقيل: فَاسد لرد الْكَلَام إِلَى سنّ الْبلُوغ وَلَيْسَ بِأولى من عَكسه. وَقيل: يَصح؛ لِأَن حَاصله مُنَازعَة فِي الأَصْل، فَيبْطل الْمُسْتَدلّ مَا يَدعِي الْمُعْتَرض تَعْلِيل الحكم بِهِ ليسلم مَا يَدعِيهِ جَامعا فِي الأَصْل. [وَاخْتَارَ] بعض أَصْحَابنَا الصِّحَّة. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ: يرجع إِلَى منع الحكم فِي الأَصْل أَو الْعلَّة. ثمَّ هُوَ غير صَحِيح؛ لاشْتِمَاله على منع حكم على مَذْهَب إِمَام نَصه / بِخِلَافِهِ، فَلَا يجوز) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3640 وَسَيَأْتِي كَلَام الْعَضُد قَرِيبا فِي التَّعْدِيَة. قَوْله: (التَّعْدِيَة: مُعَارضَة وصف الْمُسْتَدلّ بِوَصْف آخر مُتَعَدٍّ: كَقَوْلِه فِي بكر بَالغ: بكر فأجبرت كبكر صَغِيرَة، فيعترض: بالصغر ويعديه إِلَى ثيب صَغِيرَة، وَيرجع إِلَى الْمُعَارضَة فِي الأَصْل، وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَا يخرج عَنْهَا، وَلَا أثر لزِيَادَة التَّسْوِيَة فِي التَّعْدِيَة، خلافًا للداركي) . قَالَ القَاضِي عضد الدّين عَن التَّرْكِيب والتعدية: " هَذَانِ اعتراضان يعدهما الجدليون فِي عداد الاعتراضات، وهما راجعان إِلَى بعض من سَائِر الاعتراضات، وَنَوع مِنْهُ خص باسم، وَلَيْسَ شَيْء مِنْهُمَا سؤالا بِرَأْسِهِ. فَالْأول: سُؤال التَّرْكِيب، وَهُوَ مَا عَرفته حَيْثُ قُلْنَا: شَرط حكم [الأَصْل] أَن لَا يكون ذَا قِيَاس مركب، وَأَنه قِسْمَانِ: مركب الأَصْل ومركب الْوَصْف، وَأَن مرجع أَحدهمَا منع حكم الأَصْل، أَو منع الْعلَّة، ومرجع الآخر منع حكم الأَصْل، أَو منع وجود الْعلَّة، فِي الْفَرْع فَلَيْسَ، بِالْحَقِيقَةِ سؤالا بِرَأْسِهِ، وَقد عرفت الْأَمْثِلَة فَلَا معنى للإعادة. الثَّانِي: سُؤال التَّعْدِيَة، وَذكر فِي مِثَاله: أَن يَقُول الْمُسْتَدلّ فِي الْبكر الْبَالِغَة: بكر فتجبر كالصغيرة. فَيَقُول الْمُعْتَرض: هَذَا معَارض بالصغر. وَمَا ذكرته وَإِن تعدى بِهِ الحكم إِلَى الْبكر الْبَالِغَة، فَمَا ذكرته قد تعدى بِهِ الحكم إِلَى الثّيّب الصَّغِيرَة، وَهَذَا التَّمْثِيل يَجْعَل هَذَا السُّؤَال رَاجعا إِلَى الْمُعَارضَة فِي الأَصْل بِوَصْف آخر، وَهُوَ الْبكارَة بالصغر، مَعَ زِيَادَة تعرض للتساوي فِي التَّعْدِيَة، فَلَا يكون سؤالا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3641 النَّوْع الْخَامِس من الاعتراضات: مَا يرد بِاعْتِبَار الْمُقدمَة الثَّالِثَة، وَهِي دَعْوَى وجود الْعلَّة فِي الْفَرْع سَوَاء، وَهُوَ إِمَّا بِدفع وجودهَا بِالْمَنْعِ، أَو بالمعارضة، وَإِمَّا بِدفع الْمُسَاوَاة بِاعْتِبَار ضميمة شَرط فِي الأَصْل، أَو مَانع فِي الْفَرْع، وَيُسمى الْفرق، أَو بِاعْتِبَار نفس الْعلَّة، لاخْتِلَاف فِي الضَّابِط، أَو فِي الْمصلحَة، فَهَذِهِ خَمْسَة أَنْوَاع " انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: لم أذكر فِي الاعتراضات مَا ذكر ابْن الْحَاجِب من التَّرْكِيب؛ لِأَنَّهُ / قد تقدم فِي شُرُوط حكم الأَصْل، وَكَذَلِكَ لم أذكر مِنْهَا سُؤال التَّعْدِيَة. قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَلَا أثر لزِيَادَة التَّسْوِيَة فِي التَّعْدِيَة خلافًا للداركي ". قَوْله: (منع وجود وصف الْمُسْتَدلّ فِي الْفَرْع: كأمان عبد، [أَمَان] صدر من أَهله كالمأذون فَيمْنَع الْأَهْلِيَّة، فَيُجِيبهُ: بِوُجُود مَا عناه بالأهلية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3642 فِي الْفَرْع: كجواب مَنعه فِي الأَصْل، وَالأَصَح منع الْمُعْتَرض من تَقْرِير نفي الْوَصْف عَن الْفَرْع) . من الاعتراضات أَن نقُول: لَا نسلم وجود الْوَصْف الْمُعَلل بِهِ فِي الْفَرْع. مِثَاله أَن نقُول فِي أَمَان العَبْد: أَمَان صدر عَن أَهله كَالْعَبْدِ الْمَأْذُون لَهُ فِي الْقِتَال. فَيَقُول الْمُعْتَرض: لَا نسلم أَن العَبْد أهل للأمان. وَالْجَوَاب: بِبَيَان مَا يعنيه بالأهلية، ثمَّ بِبَيَان وجوده، بحس، أَو عقل، أَو شرع كَمَا تقدم، ثمَّ فِي منع وجوده من الأَصْل. فَيَقُول: أُرِيد بالأهلية كَونه مَظَنَّة لرعاية مصلحَة الْأمان، وَهُوَ بِإِسْلَامِهِ وبلوغه كَذَلِك عقلا. فَلَو تعرض الْمُعْتَرض لتقدير معنى الْأَهْلِيَّة بَيَانا لعدمه. فَالصَّحِيح أَنه لَا يُمكن مِنْهُ؛ لِأَن تَفْسِيرهَا وَظِيفَة من تلفظ بهَا؛ لِأَنَّهُ الْعَالم بمراده، وإثباتها وَظِيفَة من ادَّعَاهَا، فيتولى تعْيين مَا ادَّعَاهُ، كل ذَلِك لِئَلَّا ينتشر الْجِدَال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3643 قَوْله: (الْمُعَارضَة فِي الْفَرْع بِمَا يَقْتَضِي نقيض حكم الْمُسْتَدلّ، بِأحد طرق الْعلَّة، يقبل عندنَا وَعند الْأَكْثَر، وَجَوَاب الْمُسْتَدلّ بِمَا يعْتَرض بِهِ الْمُعْتَرض ابْتِدَاء، وَيقبل التَّرْجِيح بِوَجْه تَرْجِيح، عِنْد أَصْحَابنَا، وَغَيرهم، فَيتَعَيَّن الْعَمَل بِهِ، وَهُوَ الْمَقْصُود، وَلَا يلْزم الْمُسْتَدلّ الْإِيمَاء إِلَى التَّرْجِيح فِي دَلِيله، خلافًا لقوم فيهمَا) . [من الاعتراضات الْمُعَارضَة: فِي الْفَرْع بِمَا يَقْتَضِي الحكم فِيهِ بِأَن يَقُول مَا ذكرته من الْوَصْف] ، وَإِن اقْتضى ثُبُوت الحكم فِي الْفَرْع فعندي وصف آخر يَقْتَضِي نقيضه، فَيتَوَقَّف دليلك، وَهُوَ المعني بالمعارضة إِذا أطلقت، ولابد من بنائِهِ على أصل بِجَامِع ثَبت عليته، وَله الِاسْتِدْلَال فِي إِثْبَات عليته بِأَيّ مَسْلَك من مسالك الْعلَّة شَاءَ، على نَحْو طرق إِثْبَات الْمُسْتَدلّ للعلية سَوَاء فَيصير هُوَ مستدلا آنِفا، والمستدل مُعْتَرضًا؛ فتنقلب الوظيفتان. / وَقد اخْتلف فِي قبُول سُؤال الْمُعَارضَة. وَالصَّحِيح: أَنه يقبل، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر؛ لِئَلَّا تختل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3644 فَائِدَة المناظرة، وَهُوَ ثُبُوت الحكم، لِأَنَّهُ لَا يتَحَقَّق بِمُجَرَّد الدَّلِيل، مَا لم يعلم عدم الْمعَارض. قَالَ الْمُخَالف: فِيهِ قلب التناظر، لِأَنَّهُ [اسْتِدْلَال] من معترض، فَصَارَ الِاسْتِدْلَال إِلَى الْمُعْتَرض، والاعتراض إِلَى الْمُسْتَدلّ، وَهُوَ خُرُوج مِمَّا قصداه، من معرفَة صِحَة نظر الْمُسْتَدلّ فِي دَلِيله إِلَى أَمر آخر، وَهُوَ معرفَة صِحَة نظر الْمُعْتَرض فِي دَلِيله، والمستدل لَا تعلق لَهُ بذلك، وَلَا عَلَيْهِ أتم نظره أم لَا. وَالْجَوَاب: أَنه إِنَّمَا يكون قلبا للتناظر لَو قصد بِهِ إِثْبَات مَا يَقْتَضِيهِ دَلِيله، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل قَصده إِلَى هدم دَلِيل الْمُسْتَدلّ، وقصوره عَن إِفَادَة مَدْلُوله، فَكَأَنَّهُ يَقُول: دليلك لَا يُفِيد مَا ادعيت بِقِيَام الْمعَارض، وَهُوَ دليلي، فَعَلَيْك إبِْطَال دليلي ليسلم لَك دليلك فَيُفِيد، وَكَيف يقْصد بِهِ إِثْبَات مَا يَقْتَضِيهِ وَهُوَ معَارض بِدَلِيل الْمُسْتَدلّ فَإِن الْمُعَارضَة من الطَّرفَيْنِ، وكل يبطل حكم الآخر. وَالْجَوَاب عَن سُؤال الْمُعَارضَة جَمِيع مَا مر من الاعتراضات من قبل الْمُعْتَرض على الْمُسْتَدلّ ابْتِدَاء، وَالْجَوَاب: لَا فرق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3645 وَقد يُجَاب التَّرْجِيح بِوَجْه من وجوهه الَّتِي نذكرها فِي بَاب التراجيح. وَقد اخْتلف فِي قبُول التَّرْجِيح. وَالصَّحِيح: أَنه يقبل، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا، وَجَمَاعَة من الْعلمَاء، مِنْهُم: الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب؛ لِأَنَّهُ إِذا ترجح وَجب الْعَمَل بِهِ، للْإِجْمَاع على وجوب الْعَمَل بالراجح، وَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُود. وَقَالَ بعض الْعلمَاء: لَا يقبل؛ لِأَن تَسَاوِي الظَّن الْحَاصِل بهما غير مَعْلُوم، وَلَا يشْتَرط ذَلِك، وَإِلَّا لم تحصل الْمُعَارضَة، لِامْتِنَاع الْعلم بذلك. , نعم، الْمُعْتَبر حُصُول أصل الظَّن، وَأَنه لَا ينْدَفع بالترجيح. وعَلى الصَّحِيح: هَل يجب الْإِيمَاء إِلَى التَّرْجِيح فِي متن الدَّلِيل؟ بِأَن يَقُول: أَمَان من مُسلم عَاقل مُوَافق للبراءة الْأَصْلِيَّة فِيهِ خلاف: وَالصَّحِيح: أَنه لَا يجب؛ لِأَن التَّرْجِيح على مَا يُعَارضهُ خَارج عَن الدَّلِيل، وَتوقف الْعَمَل على التَّرْجِيح لَيْسَ جُزْء الدَّلِيل، بل شَرط لَهُ لَا مُطلقًا بل إِذا حصل الْمعَارض، واحتيج إِلَى دَفعه، فَهُوَ من تَوَابِع ظُهُور الْمعَارض لدفعه؛ / لِأَنَّهُ جُزْء من الدَّلِيل فَلَا يجب ذكره من الدَّلِيل. وَقيل: يجب؛ لِأَنَّهُ شَرط فِي الْعَمَل بِهِ فَلَا يثبت الحكم دونه، فَكَانَ كجزء الْعلَّة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3646 قَوْله: (الْفرق رَاجع إِلَى الْمُعَارضَة فِي الأَصْل أَو الْفَرْع وَقيل: بل إِلَيْهِمَا مَعًا، فَلهَذَا لَا يقبل، وَقيل: بلَى، فهما سؤالان جَازَ الْجمع بَينهمَا، وَقيل وَاحِد، وَقَالَ ابْن عقيل: يحْتَاج الْفرق القادح فِي الْجمع إِلَى دلَالَة وأصل كالجمع، وَإِلَّا فدعوى بِلَا دَلِيل، خلافًا لقوم، وَإِن أحب إِسْقَاطه عَنهُ، طَالب الْمُسْتَدلّ بِصِحَّة الْجمع) . من القوادح الْفرق، وَهُوَ: إبداء الْمُعْتَرض معنى يحصل بِهِ الْفرق بَين الأَصْل وَالْفرع حَتَّى لَا يلْحق بِهِ فِي حكمه، وَهُوَ نَوْعَانِ: الأول: أَن يَجْعَل الْمُعْتَرض تعين صُورَة الأَصْل الْمَقِيس عَلَيْهَا هُوَ الْعلَّة فِي الحكم:: كَقَوْل حنبلي فِي النِّيَّة فِي الْوضُوء طَهَارَة عَن حدث فَوَجَبَ لَهُ النِّيَّة كالتيمم. فَيَقُول الْمُعْتَرض بِالْفرقِ: الْعلَّة فِي الأَصْل كَون الطَّهَارَة بِتُرَاب، فَذكر لَهُ خُصُوصِيَّة لَا تعدوه. وكقول حَنَفِيّ فِي التبييت: صَوْم عين فيتأدى بِالنِّيَّةِ قبل الزَّوَال كالنفل. فَيُقَال: صَوْم نفل فينبني على السهولة، فَجَاز بنية مُتَأَخِّرَة بِخِلَاف الْفَرْض. وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الْقسم رَاجع إِلَى مُعَارضَة فِي الأَصْل، أَي: مُعَارضَة عِلّة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3647 الْمُسْتَدلّ فِيهِ لعِلَّة أُخْرَى، وَلِهَذَا بناه الْبَيْضَاوِيّ، وكثيسر من الْعلمَاء على تَعْلِيل الحكم بعلتين فَصَاعِدا. وَوجه الْبناء: أَن الْمُعْتَرض عَارض عِلّة الْمُسْتَدلّ بعلة أُخْرَى، فَمن منع التَّعْلِيل بعلتين رَآهُ اعتراضا يلْزم مِنْهُ تعدد الْعِلَل، وَهُوَ مُمْتَنع عِنْده، وَمن لم يمْنَع لم يره سؤالا قادحا لجَوَاز كَون الحكم لَهُ عِلَّتَانِ. وَذهب كثير من الْعلمَاء إِلَى عدم الْبناء. النَّوْع الثَّانِي: أَن يَجْعَل تعين الْفَرْع مَانِعا من ثُبُوت حكم الأَصْل فِيهِ، كَقَوْلِهِم: يُقَاد الْمُسلم بالذمي قِيَاسا على غير الْمُسلم، بِجَامِع الْقَتْل الْعمد الْعدوان. فَيَقُول الْمُعْتَرض: تعين الْفَرْع وَهُوَ الْإِسْلَام مَانع من وجوب الْقصاص عَلَيْهِ. وَلَعَلَّه - أَيْضا -: مَبْنِيّ على / جَوَاز التَّعْلِيل بالقاصرة. لَكِن بناه الْبَيْضَاوِيّ، وَغَيره على الْخلاف فِي النَّقْض إِذا كَانَ لمَانع: هَل يقْدَح فِي الْعلية أم لَا؟ فَإِن قُلْنَا لَا يقْدَح فَهَذَا كَذَلِك؛ لِأَن الْوَصْف الَّذِي ادّعى الْمُسْتَدلّ عليته لما وجد فِي الْفَرْع وتخلف فِيهِ الحكم لمَانع قَامَ بِهِ، فَهَذَا نقض لمَانع، فيقدح عِنْد الْقَائِل بالقدح بِالنَّقْضِ لمَانع، وَإِلَّا فَلَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3648 فَيكون مُخْتَار الْبَيْضَاوِيّ قدح النَّوْع الأول فِي المستنبطة دون المنصوصة، وَعدم قدح النَّوْع الثَّانِي مُطلقًا، لاختيار جَوَاز التَّعْلِيل بعلتين فِي المستنبطة دون المنصوصة، وَأَن النَّقْض لمَانع غير قَادِح. إِذا علم ذَلِك فالقدح رَاجع إِلَى الْمُعَارضَة فِي الأَصْل وَالْفرع، فَحكمه فِي الرَّد وَالْقَبُول حكمه، هَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر. وَذهب كثير من الْمُتَقَدِّمين: إِلَى أَن الْفرق مُعَارضَة فِي الأَصْل وَالْفرع مَعًا، حَتَّى لَو اقْتصر على أَحدهمَا لَا يكون فرقا. وَذكر أَبُو الْمَعَالِي " أَنه وَإِن اشْتَمَل على معَارض، وَلَكِن لَيْسَ الْمَقْصُود مِنْهُ الْمُعَارضَة، وَإِنَّمَا الْغَرَض مِنْهُ المناقضة للْجمع ". فَالْكَلَام فِي الْفرق وَرَاء الْمُعَارضَة وخاصته وسره، فقد تنَاقض أصل الْجمع، وَقد رده من يقبل الْمُعَارضَة. وَبِالْجُمْلَةِ فَفِي قبُول الْفرق مذهبان: أَحدهمَا: أَنه مَرْدُود، فَلَا يكون قادحا، وَعَزاهُ ابْن السَّمْعَانِيّ للمحققين، لِأَنَّهُ جمع بَين أسئلة مُخْتَلفَة. وأصحهما؛ أَنه مَقْبُول وَأَنه قَادِح؛ لِأَنَّهُ على أَي وَجه ورد يوهن غَرَض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3649 الْمُسْتَدلّ من الْجمع، وَيبْطل مَقْصُوده. وَذكر فِي " الملخص ": " أَنه " أفقه شَيْء يجْرِي فِي النّظر، وَبِه يعرف فقه الْمَسْأَلَة ". وَذكر أَبُو الْمَعَالِي: أَنه الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِير الْفُقَهَاء، لِأَن [شَرط] عِلّة الْخصم خلوها من الْمعَارض. وَعند ابْن السَّمْعَانِيّ: " أَنه عِنْد الْمُحَقِّقين أَضْعَف سُؤال يذكر، وَلَيْسَ [مِمَّا] يمس الَّتِي الْعلَّة وصفهَا الْمُعَلل بِوَجْه مَا ". ورد على أبي الْمَعَالِي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3650 قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَالْحق مَا سبق: أَنه إِذا كَانَ كعارضته فِي الْفَرْع فَهُوَ قَادِح، تَفْرِيعا على سَماع النَّقْض وقدحه مُطلقًا، وَإِن / كَانَ فِي الأَصْل فمبني على تعدد الْعِلَل. وَاخْتلف - أَيْضا - فِي أَنه سُؤال وَاحِد أَو سؤالان: فَقيل: وَاحِد، لِاتِّحَاد الْمَقْصُود مِنْهُ، وَهُوَ قطع الْجمع، فعلى هَذَا مَقْبُول قطعا. وَقَالَ ابْن سُرَيج: سؤالان، لاشْتِمَاله على مُعَارضَة عِلّة الأَصْل بعلة، ثمَّ على مُعَارضَة عِلّة الْفَرْع بعلة مستنبطة فِي جَانب الْفَرْع،، لِأَنَّهُ أدل على الْفرق. فعلى قَوْله فِي قبُوله خلاف: مِنْهُم من رده وَقَالَ: يَنْبَغِي أَن يُورد كل سُؤال على حياله. وَمِنْهُم من قبله، وَهُوَ الْأَصَح، وَلَو كَانَ فِيهِ جمع سؤالين؛ لِأَنَّهُ أضبط للغرض، وَأجْمع لتفرق الْكَلَام. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: حَاصِل مَذَاهِب الجدليين فِيهِ ثَلَاثَة: رده تَفْرِيعا على رد الْمُعَارضَة. وَهُوَ مَذْهَب سَاقِط. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3651 وَقَول ابْن سُرَيج، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق، أَنه لَيْسَ سؤالا وَاحِدًا إِنَّمَا هُوَ مُعَارضَة معنى الأَصْل بِمَعْنى، ومعارضة الْفَرْع لعِلَّة مُسْتَقلَّة، ومعارضة الْعلَّة بعلة مَقْبُولَة. قَالَ: وَالثَّالِث الْمُخْتَار: أَنه مَقْبُول مُطلقًا، وَهُوَ مَا ارْتَضَاهُ كل من ينتمي إِلَى التَّحْقِيق " انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " فَعلم أَن الْقَائِل بِأَنَّهُ سؤالان؛ لم يقبله على أَنه فرق، بل مُعَارضَة. وَإِذا قُلْنَا بِأَنَّهُ قَادِح. فَقيل: يجب على الْفَارِق نَفْيه عَن الْفَرْع؛ لِأَن قَصده افْتِرَاق صُورَتَيْنِ. وَقيل: لَا يجب. وَقيل: بالتفصيل بَين أَن يُصَرح فِي إِفْرَاد الْفرق بالافتراق بَين الأَصْل وَالْفرع، فَلَا بُد من نَفْيه عَنهُ، وَإِن لم يُصَرح بل قصد الْمُعَارضَة وَدَلِيله غير تَامّ فَلَا. قَالَ: المقترح: إِنَّه أقرب إِلَى الصَّوَاب. هَذَا إِن كَانَ الْمَقِيس عَلَيْهِ وَاحِدًا، فَإِن تعدد: فَقيل: بِالْمَنْعِ؛ لإفضائه بالانتشار، مَعَ [إِمْكَان] حُصُول الْمَقْصُود الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3652 بِوَاحِد مِنْهَا، وَهُوَ الْمُخْتَار عِنْد التَّاج السُّبْكِيّ، والبرماوي، وَغَيرهمَا، وَلَو جَازَ تعدد الْعِلَل. وَقيل: يجوز؛ لما فِيهِ من تَكْثِير الْأَدِلَّة، وَهُوَ أقوى فِي إِفَادَة الظَّن، وَهُوَ مُخْتَار ابْن الْحَاجِب وَغَيره. نعم، إِذا فرعنا على جَوَاز التَّعَدُّد. إِذا فرق الْمُعْتَرض بَين أصل وَاحِد وَبَين الْفَرْع هَل يَكْفِيهِ ذَلِك؟ الْأَصَح: - كَمَا قَالَ الْهِنْدِيّ - / نعم؛ لانخرام غَرَض الْمُسْتَدلّ فِي إِلْحَاقه لجَمِيع تِلْكَ الْأُصُول. وَالثَّانِي: يحْتَاج أَن يفرق بَين الْفَرْع وَبَين كل وَاحِد. وَقَالَ الْهِنْدِيّ: الْمُخْتَار إِن كَانَ غَرَض الْمُسْتَدلّ من الأقيسة المتعددة إِثْبَات الْمَطْلُوب بِصفة الرجحان، [وَغَلَبَة] الظَّن الْمَخْصُوص -[فَالْفرق] الْمَذْكُور قَادِح فِي غَرَضه وَيحصل لغَرَض الْمُعْتَرض، وَإِن كَانَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3653 غَرَضه إِثْبَات أصل الْمَطْلُوب كفى ". قَالَ ابْن عقيل: يحْتَاج الْفرق القادح فِي الْجمع إِلَى دلَالَة وأصل كالجمع، وَإِلَّا فدعوى بِلَا دَلِيل، خلافًا لبَعض الشَّافِعِيَّة، وَإِن أحب إِسْقَاطه عَنهُ، طَالب الْمُسْتَدلّ بِصِحَّة الْجمع. وَمثل: الصَّبِي غير الْمُكَلف فَلَا يزكّى كمن لم تبلغه [الدعْوَة] ، فينتقض بِعشر زرعه، والفطرة. فسؤال صَحِيح، بِخِلَاف التَّفْرِقَة بِالْفِسْقِ بَين النَّبِيذ وَالْخمر، لِأَنَّهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3654 لَيْسَ من حكم الْعلَّة، ثمَّ يجوز جلبها للتَّحْرِيم فَقَط، لِأَنَّهُ أَعم. وَمن يرى أَن الْعلَّة لَا تستدعي أَحْكَامهَا لَا يلْزم؛ لِأَنَّهَا تكون عِلّة فِي مَوضِع دون آخر. وَمثل: النِّكَاح الْمَوْقُوف لَا يبح فَبَطل. فَيُقَال: اعْتبرت فَسَاد الأَصْل بِفساد الْفَرْع؛ لِأَن الْإِبَاحَة حكم العقد: ففاسد لِأَن العقد يُرَاد لأحكامه، قَالَه ابْن مُفْلِح. قَوْله: (اخْتِلَاف الضَّابِط فِي الأَصْل وَالْفرع: كتسببوا بِالشَّهَادَةِ فَوَجَبَ الْقود كالمكره، فَيُقَال: ضباط الْفَرْع الشَّهَادَة، وَالْأَصْل الْإِكْرَاه، فَلَا يتَحَقَّق تساويهما، وَجَوَابه: بَيَان أَن الْجَامِع التَّسَبُّب الْمُشْتَرك بَينهمَا، وَهُوَ مضبوط عرفا أَو بِأَن إفضاءه فِي الْفَرْع مثله، أَو أرجح) . من القوادح اخْتِلَاف الضَّابِط. فَيَقُول الْمُعْتَرض: فِي قياسك اخْتِلَاف الضَّابِط من الأَصْل وَالْفرع، فَلَيْسَ ضَابِط الأَصْل فِيهِ هُوَ ضَابِط الْفَرْع، فَلَا وثوق بِمَا ادعيت جَامعا بَينهمَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3655 مِثَاله: قَوْلنَا فِي شَهَادَة الزُّور بِالْقَتْلِ: تسببوا بِالشَّهَادَةِ إِلَى الْقَتْل عمدا فَعَلَيْهِم الْقصاص كالمكره. فَيَقُول الْمُعْتَرض: الضَّابِط فِي الْفَرْع وَالشَّهَادَة، وَفِي الأَصْل الْإِكْرَاه، فَلَا يتَحَقَّق التَّسَاوِي بَينهمَا. وَحَاصِل هَذَا السُّؤَال يرجع إِلَى منع وجود الأَصْل فِي الْفَرْع. / وَفِي " شرح المقترح " لأبي الْعِزّ حِكَايَة قَوْلَيْنِ فِي قبُوله، قَالَ: " ومدار الْكَلَام فِيهِ يَنْبَنِي على شَيْء وَاحِد، وَهُوَ أَن الْمُعْتَبر فِي الْقيَاس الْقطع بالجامع، أَو ظن وجود الْجَامِع كَاف. وَيَنْبَنِي على ذَلِك الْقيَاس فِي الْأَسْبَاب، فَمن اعْتبر الْقطع منع الْقيَاس فِيهَا، إِذا لَا يتَصَوَّر عَادَة الْقطع بتساوي المصلحتين، فَلَا يتَحَقَّق جَامع بَين الوصفين بِاعْتِبَار يثبت حكم السَّبَبِيَّة بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا، وَمن اكْتفى بِالظَّنِّ صحّح ذَلِك، إِذْ يجوز تَسَاوِي المصلحتين، فَيتَحَقَّق الْجَامِع وَلَا يمْتَنع الْقيَاس ". وَجَوَابه: بَيَان أَن الْجَامِع التَّسَبُّب الْمُشْتَرك بَينهمَا وَهُوَ مضبوط عرفا. أَو بِأَن إفضاء ضَابِط الْفَرْع إِلَى الْمَقْصُود أَكثر، كَمَا لَو كَانَ أصل الْفَرْع المغري للحيوان بِجَامِع التَّسَبُّب، فَإِن انبعاث الْوَلِيّ على الْقَتْل بِسَبَب الشَّهَادَة للتشفي أَكثر من انبعاث الْحَيَوَان بالإغراء، لنفرته من الْإِنْسَان، وَعدم علمه بِجَوَاز الْقَتْل وَعَدَمه، فاختلاف أصل التَّسَبُّب لَا يضر، فَإِنَّهُ اخْتِلَاف أصل وَفرع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3656 وَلَا يُفِيد قَول الْمُسْتَدلّ فِي جَوَابه: التَّفَاوُت فِي الضَّابِط ملغى لحفظ النَّفس: كَمَا ألغي التَّفَاوُت بَين قطع الْأُنْمُلَة وَقطع الرَّقَبَة فِي قَود النَّفس؛ لِأَن الإلغاء المتفاوت فِي صُورَة لَا توجب عُمُومه: كإلغاء الشّرف وَغَيره دون الْإِسْلَام وَالْحريَّة. قَوْله: (وَمِنْه: أولج فِي فرج مشتهى طبعا محرم شرعا، فحد كزان، فَيُقَال: حكمه الْفَرْع الصيانة عَن رذيلة اللواط، وَحكمه الأَصْل دفع مَحْذُور اشْتِبَاه الْأَنْسَاب، وَقد يتفاوتان فِي نظر الشَّرْع، وَحَاصِله مُعَارضَة فِي الأَصْل، وَجَوَابه بحذفه عَن الِاعْتِبَار) . لم نذْكر من القوادح مَا ذكره ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهمَا: اخْتِلَاف جنس الْمصلحَة، اكْتِفَاء باخْتلَاف الضَّابِط؛ لِأَن تعدد الضَّابِط فِي الأَصْل وَالْفرع، تَارَة يكون مَعَ اتِّحَاد الْمصلحَة، وَتارَة يكون مَعَ اختلافها. فَإِذا قدح مَعَ الِاتِّحَاد، فَلِأَن يقْدَح مَعَ اخْتِلَاف الْجِنْس فِي التَّأْثِير أولى، فَإِنَّهُ يحصل جِهَتَيْنِ فِي التَّفَاوُت: جِهَة فِي كمية الْمصلحَة ومقدارها، وجهة فِي إفضاء / ضابطها إِلَيْهَا، فالتساوي يكون أبعد، قَالَ ذَلِك الْبرمَاوِيّ وتابعناه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3657 وَجَوَاب قَادِح اخْتِلَاف جنس الْمصلحَة بحذفه من الِاعْتِبَار، وَسبق فِي السبر. قَوْله: (مُخَالفَة حكم الْفَرْع لحكم الأَصْل، وَجَوَابه: بِبَيَان اتِّحَاد الحكم عينا: كصحة البيع على النِّكَاح، وَالِاخْتِلَاف عَائِد إِلَى الْمحل، واختلافه شَرط فِيهِ، أَو جِنْسا: كَقطع الْأَيْدِي بِالْيَدِ، كالأنفس بِالنَّفسِ) . بعد تَسْلِيم عِلّة الأَصْل فِي الْفَرْع. يَقُول الْمُعْتَرض: الحكم فِي الْفَرْع مُخَالف للْحكم فِي الأَصْل حَقِيقَة، وَإِن ساواه بدليلك صُورَة، وَالْمَطْلُوب مساواته لَهُ حَقِيقَة، فَمَا هُوَ مطلوبك غير مَا أَفَادَهُ دليلك إِذا نصب فِي غير مَحل النزاع كَانَ فَاسِدا؛ لِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ إِثْبَات مَحل النزاع. مِثَاله: أَن يُقَاس النِّكَاح على البيع، أَو البيع على النِّكَاح، فِي عدم الصِّحَّة لجامع فِي صُورَة. فَيَقُول الْمُعْتَرض: الحكم يخْتَلف، فَإِن عدم الصِّحَّة فِي البيع حُرْمَة الِانْتِفَاع بِالْمَبِيعِ، وَفِي النِّكَاح حُرْمَة الْمُبَاشرَة. وَالْجَوَاب: أَن الْبطلَان شَيْء وَاحِد، وَهُوَ عدم ترَتّب الْمَقْصُود من العقد عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا اخْتلف الْمحل بِكَوْنِهِ بيعا ونكاحا، وَاخْتِلَاف الْمحل لَا يُوجب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3658 اخْتِلَاف مَا حل فِيهِ، بل اخْتِلَاف الْمحل شَرط فِي الْقيَاس ضَرُورَة، فَكيف يَجْعَل شَرطه مَانِعا عَنهُ، فيستلزم امْتِنَاعه أبدا. قَوْله: (وَتعْتَبر مماثلة التَّعْدِيَة، ذكره القَاضِي، والموفق، وَغَيرهمَا، وَاخْتَارَ أَبُو الْخطاب، وَالْحَنَفِيَّة: لَا، وَحكي عَن القَاضِي) . قَالَ: ابْن مُفْلِح: (وَتعْتَبر مماثلة التَّعْدِيَة، ذكره فِي " الرَّوْضَة " وَغَيرهَا، وَذكره القَاضِي، وَمثله: بقول الْحَنَفِيَّة فِي ضم الذَّهَب إِلَى الْفضة فِي الزَّكَاة: كصحاح ومكسرة. فالضم فِي الأَصْل بالأجزاء، وَفِي الْفَرْع بِالْقيمَةِ عِنْدهم. ثمَّ لما نصر جَوَاز قلب التَّسْوِيَة، لِأَن الحكم التَّسْوِيَة فَقَط: كقياس الْحَنَفِيَّة طَلَاق الْمُكْره على الْمُخْتَار. فَيُقَال: فَيجب اسْتِوَاء حكم إِيقَاعه وَإِقْرَاره كالمختار. وَقَالَ: فعلى هَذَا يجوز قِيَاس الْحَنَفِيَّة الْمَذْكُور، وَمن منع هَذَا لتضاد حكم / الأَصْل وَالْفرع لم يجزه لاختلافهما. قَالَ بعض أَصْحَابنَا: فَصَارَ لَهُ قَولَانِ: وَالْمَنْع فيهمَا قَول بعض الشَّافِعِيَّة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3659 وَالْجَوَاز قَول الْحَنَفِيَّة. وَاخْتَارَهُ فِي " التَّمْهِيد " وَفِي " الْوَاضِح " فِي " مَسْأَلَة الضَّم ": إِن اعْترض بِأَن حكم الأَصْل لم يَتَعَدَّ، حَيْثُ ألحقت فِي وجوب الضَّم لَا صفته. وَيُمكن الْمُعْتَرض أَن يَقُول: الضَّم فِي الأَصْل بفرع غير الْفَرْع. وَجعله الْآمِدِيّ كالقلب الثَّالِث، وَسَيَأْتِي. وَجعله فِي " الْوَاضِح " كالقلب الثَّانِي) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3660 قَوْله: (وَإِن اخْتلف الحكم جِنْسا ونوعا، كوجوب على تَحْرِيم، وَنفي على إِثْبَات، وَبِالْعَكْسِ - فَبَاطِل) . وَذَلِكَ لِأَن الحكم إِنَّمَا شرع لإفضائه إِلَى مَقْصُود العَبْد، واختلافه مُوجب للمخالفة بَينهمَا فِي الْإِفْضَاء إِلَى الْحِكْمَة. فَإِن كَانَ بِزِيَادَة فِي إفضاء حكم الأَصْل إِلَيْهَا، لم يلْزمه من شَرعه شرع الحكم فِي الْفَرْع؛ لِأَن زِيَادَة الْإِفْضَاء مَقْصُودَة، وَيمْتَنع كَون حكم الْفَرْع أفْضى إِلَى الْمَقْصُود، وَإِلَّا كَانَ تنصيص الشَّارِع عَلَيْهِ أولى. فَإِن قيل: الحكم لَا يخْتَلف؛ لِأَنَّهُ كَلَام اللَّهِ وخطابه، بل يخْتَلف تعلقه ومتعلقه. قَوْلكُم: كَانَ النَّص عَلَيْهِ أولى إِنَّمَا يلْزم لَو لم يقْصد التَّنْبِيه بالأدنى على الْأَعْلَى، ثمَّ يحْتَمل أَنه لمَانع مُخْتَصّ بِهِ. رد الأول: بَان التَّعَلُّق دَاخل فِي مَفْهُوم الحكم، كَمَا سبق فِي حد الحكم، فَيلْزم من اختلافه اختلافه. وَالثَّانِي: بِأَنَّهُ لَو كَانَ لجَاز إِثْبَات الشَّرْع فِي الأَصْل. وَالثَّالِث: بِأَنَّهُ يلْزم فِيهِ امْتنَاع ثُبُوت حكم الأَصْل فِيهِ. قَوْله: (الْقلب: تَعْلِيق نقيض الحكم أَو لَازمه على الْعلَّة إِلْحَاقًا بِالْأَصْلِ، فَهُوَ نوع مُعَارضَة عِنْد أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَحكي عَن الْأَكْثَر، [وَقيل: إِفْسَاد] ، وَقيل: تَسْلِيم للصِّحَّة، اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَغَيره) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3661 الْقلب قِسْمَانِ: قلب الدَّعْوَى، وقلب الدَّلِيل. وَالْمرَاد هُنَا الثَّانِي، وَهُوَ على ضَرْبَيْنِ: قلب دلَالَة الْأَلْفَاظ، وقلب الْعِلَل. فَالْأول: أَن يبين الْمُعْتَرض أَن مَا ذكره الْمُسْتَدلّ من الدَّلِيل / يدل عَلَيْهِ لَا لَهُ، يَأْتِي مِثَاله. وَالثَّانِي قلب الْعِلَل، وَهُوَ تَعْلِيق الْمُعْتَرض نقيض الحكم الْمُسْتَدلّ الَّذِي ادَّعَاهُ على علته الَّتِي تثبت ذَلِك الحكم عَلَيْهَا بِعَينهَا. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " الْقلب: إِمَّا خَاص بِبَاب الْقيَاس، وَهُوَ الَّذِي ذكره الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره هُنَا؛ لِأَن كَلَامهم فِي الْقيَاس، وَإِمَّا أَعم مِمَّا يعْتَرض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3662 بِهِ على الْقيَاس وعَلى غَيره من الْأَدِلَّة ". فَهُوَ نوع الْمُعَارضَة عِنْد أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة. وَحَكَاهُ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " عَن اكثر الْعلمَاء بل أولى بِالْقبُولِ؛ لِأَنَّهُ اشْترك فِيهِ الأَصْل، وَالْجَامِع، وَإِن نَشأ من نفس دَلِيل الْمُسْتَدلّ، لَكِن لما الْتزم فِي دَلِيله وجود الْوَصْف لم يمنعهُ. وكالشركة فِي دلَالَة النَّص، كاستدلال الْحَنَفِيّ فِي " مَسْأَلَة الساجة "، وَعدم نقض بِنَاء الْغَاصِب بقوله: " لَا ضَرَر وَلَا ضرار " وَاسْتدلَّ غَيره لمنع الْمَغْصُوب أَخذ مَاله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3663 وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: الْقلب إِفْسَاد لَا مُعَارضَة، فَلَا يتَكَلَّم عَلَيْهِ بِمَا يتَكَلَّم على الْعلَّة المبتدأة؛ لِأَن الْعلَّة الْوَاحِدَة لَا يعلق عَلَيْهَا حكمان متضادان. رد: لَيْسَ الْقلب بحكمين متضادين من كل وَجه، بل لَا يُمكن الْخصم الْجمع بَينهمَا بِمَعْنى آخر، فالحجة مُشْتَركَة، ولابد لتَعلق الْحكمَيْنِ بِالْعِلَّةِ تَرْجِيح. وَمنع جمع من الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم من الْقلب، بل هُوَ تَسْلِيم للحجة، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَغَيره. لِأَنَّهُ لَيْسَ للمعترض فرض مَسْأَلَة على الْمُسْتَدلّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3664 رد: بالمشاركة فِي دلَالَة النَّص، ثمَّ إِنَّمَا شَاركهُ فِي علته وَأَصله فِي معنى الحكم الَّذِي فرض فِيهِ. قَالُوا: اعْترف الْمُعْتَرض باقتضاء الدَّلِيل لما رتبه عَلَيْهِ من الحكم، ومجال اقْتِصَاره لمقابل ذَلِك الحكم من جِهَة احْتج لَهَا الْمُسْتَدلّ لاقْتِضَاء الْعلَّة من جِهَة وَاحِدَة للْحكم ويقتضيه. وَمن جِهَة أُخْرَى لَيْسَ بقلب؛ لِأَنَّهُ لابد فِيهِ من اتِّحَاد الْعلَّة فِي القياسين، بل معارضته بِدَلِيل مُنْفَصِل. أجَاب فِي " التَّمْهِيد ": إِنَّمَا لَا يجْتَمع الشَّيْء وضده إِذا صرح بِهِ، وَإِلَّا جَازَ وَإِن أدّى أَحدهمَا إِلَى نفي الآخر. وَأجَاب غَيره: بِأَن التَّنَافِي حصل فِي الْفَرْع لما هُوَ بغرض الِاجْتِمَاع. قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: " وَفِي قَول: إِن الْقلب تَسْلِيم للصِّحَّة مُطلقًا. وَهَذَا / مَأْخُوذ من قَول بعض أَصْحَابنَا: الْقلب شَاهد زور كَمَا [يشْهد لَك] يشْهد عَلَيْك ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3665 قَوْله: (فَمِنْهُ اعْلَم أَن الْقلب أَنْوَاع: أَحدهَا: الْقلب لتصحيح مذْهبه مَعَ إبِْطَال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ تَصْرِيحًا. وَالثَّانِي: الْقلب لتصحيح مذْهبه مَعَ إبِْطَال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ من غير تَصْرِيح) . هَذِه أمثله لأنواع الْقلب. فمثال الأول - وَهُوَ الَّذِي لتصحيح مذْهبه مَعَ إبِْطَال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ تَصْرِيحًا -: مَا يُقَال فِي بيع الْفُضُولِيّ: عقد فِي حق الْغَيْر بِلَا ولَايَة، فَلَا يَصح كالشراء لَهُ. فَيَقُول الْمُعْتَرض: تصرف فِي مَال الْغَيْر فَيصح: كالشراء للْغَيْر فَإِنَّهُ يَصح للْمُشْتَرِي وَإِن لم يَصح لمن اشْترى لَهُ. وَمِثَال الثَّانِي - وَهُوَ الَّذِي لتصحيح مذْهبه مَعَ إبِْطَال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ من غير تَصْرِيح -: بِهِ قَول الْحَنَفِيّ فِي الصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف: لبث فِي مَحل مَخْصُوص، فَلَا يكون قربَة بِنَفسِهِ: كالوقوف بِعَرَفَة، وغرضه التَّعَرُّض لاشْتِرَاط، الصَّوْم فِيهِ، وَلَكِن لم يتَمَكَّن من التَّصْرِيح بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا أصل لَهُ يقيسه عَلَيْهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3666 فَيَقُول الْحَنْبَلِيّ أَو الشَّافِعِي الْمُعْتَرض: لبث فِي مَحل مَخْصُوص، فَلَا يشْتَرط فِيهِ الصَّوْم: كالوقوف بِعَرَفَة، فقد تعرض لِلْعِلَّةِ بتصريحه بنقيض الْمَقْصُود. قَوْله: (وقلب لإبطال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ فَقَط صَرِيحًا: كالرأس مَمْسُوح فَلَا يجب استيعابه كالخف، فَيُقَال: فَلَا يتَقَدَّر بِالربعِ: كالخف، أَو لُزُوما: كَبيع غَائِب عقد مُعَاوضَة، فَيصح مَعَ جهل المعوض: كَالنِّكَاحِ، فَيُقَال: فَلَا يعْتَبر خِيَار رُؤْيَة: كَالنِّكَاحِ، فَإِذا انْتَفَى اللَّازِم انْتَفَى الْمَلْزُوم) . هَذَا الْقلب لإبطال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ صَرِيحًا أَو لُزُوما. مِثَال الأول - وَهُوَ الثَّالِث -: كَقَوْل الْحَنَفِيّ فِي مسح الرَّأْس: عُضْو من أَعْضَاء الْوضُوء، فَلَا يَكْفِي أَقَله كَبَقِيَّة الْأَعْضَاء. فَيَقُول الْمُعْتَرض: فَلَا يتَقَدَّر بِالربعِ: كَبَقِيَّة الْأَعْضَاء. فَفِيهِ نفي مَذْهَب الْمُسْتَدلّ صَرِيحًا، وَلم يثبت مذْهبه لاحْتِمَال أَن يكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3667 الْحق فِي غير ذَلِك، وَهُوَ الِاسْتِيعَاب، كَمَا هُوَ قَول أَحْمد، وَمَالك. وَمِثَال الثَّانِي - وَهُوَ الرَّابِع -: كَقَوْل الْحَنَفِيّ فِي بيع الْمَجْهُول: عقد مُعَاوضَة فَيصح، مَعَ جهل المعوض: كَالنِّكَاحِ. فَيُقَال: عقد مُعَاوضَة فَلَا يعْتَبر فِيهِ خِيَار الرُّؤْيَة: كَالنِّكَاحِ، فثبوت خِيَار الرُّؤْيَة لَازم لصِحَّة بيع الْغَائِب عِنْدهم، / وَإِذا انْتَفَى اللَّازِم انْتَفَى الْمَلْزُوم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3668 قَوْله: (وقلب الْمُسَاوَاة خلافًا للباقلاني، والسمعاني: كالخل مَائِع طَاهِر مزيل كَالْمَاءِ، فَيُقَال: يَسْتَوِي فِيهِ الْحَدث والخبث) . هَذَا قلب الْمُسَاوَاة. وَمِثَال الْخَامِس: قِيَاس طَلَاق الْمُكْره على طَلَاق الْمُخْتَار. فَيُقَال: يجب اسْتِوَاء حكم إِيقَاعه وَإِقْرَاره كالمختار. وَمثله أَيْضا - قَول الْحَنَفِيَّة فِي إِزَالَة النَّجَاسَة بالخل: مَاء طَاهِر مزيل كَالْمَاءِ. فَيُقَال: فيستوي فِيهِ الْحَدث والخبث كَالْمَاءِ. وَهَذَا قَول الْأَكْثَر، وَمِنْهُم الْأُسْتَاذ. قَوْله: (وَمِنْه: قَول أبي الْخطاب، وَالشَّيْخ، وَغَيرهمَا: يَصح جعل الْمَعْلُول عِلّة، وَعَكسه: كمن صَحَّ طَلَاقه ظِهَاره، وَعَكسه، فَالسَّابِق عِلّة الآخر، وَهَذَا نوع ثَالِث من الْقلب لَا يفْسد الْعلَّة، عِنْد أَصْحَابنَا، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَخَالف الْحَنَفِيَّة، وَغَيرهم) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3669 قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": الْقلب ثَلَاثَة أَنْوَاع: الحكم بِحكم مَقْصُود غير حكم الْمُعَلل. وَالثَّانِي: قلب التَّسْوِيَة. " وَالثَّالِث: يَصح أَن يَجْعَل الْمَعْلُول عِلّة وَالْعلَّة معلولا. كَقَوْل أَصْحَابنَا فِي ظِهَار الذِّمِّيّ: من صَحَّ طَلَاقه صَحَّ ظِهَاره كَالْمُسلمِ. فَيَقُول الْحَنَفِيّ: أجعَل الْمَعْلُول عِلّة وَالْعلَّة معلولا، وَأَقُول: الْمُسلم. إِنَّمَا صَحَّ طَلَاقه؛ لِأَنَّهُ صَحَّ ظِهَاره، وَمَتى كَانَ الظِّهَار عِلّة للطَّلَاق لم يثبت ظِهَار الذِّمِّيّ بِثُبُوت طَلَاقه. فَقَالَ أَصْحَابنَا: هَذَا لَا يمْنَع الِاحْتِجَاج بِالْعِلَّةِ، وَهُوَ قَول أَكثر الشَّافِعِيَّة. وَقَالَ قوم: لَا يَصح أَن يكون عِلّة، وَهُوَ قَول الْحَنَفِيَّة، وَبَعض الْمُتَكَلِّمين. وَالدّلَالَة على صِحَة ذَلِك أَن علل الشَّرْع أَمَارَات على الْأَحْكَام بِجعْل جَاعل وَنصب ناصب، وَهُوَ صَاحب الشَّرْع عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَغير مُمْتَنع أَن يَقُول صَاحب الشَّرْع: من صَحَّ طَلَاقه فاعلموا أَنه يَصح ظِهَاره، فإيهما ثَبت مِنْهُ صِحَة أَحدهمَا حكمنَا بِصِحَّة الآخر مِنْهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3670 وَاحْتج الْمُخَالف: بِأَنَّهُ إِذا جعل كل وَاحِد مِنْهُمَا عِلّة الآخر وقف كل وَاحِد مِنْهُمَا على ثُبُوت الآخر، فَلَا يثبت وَاحِد مِنْهُمَا، كَمَا لَو قَالَ: لَا يدْخل زيد الدَّار حَتَّى / يدْخل بكر، وَلَا يدْخل بكر حَتَّى يدْخل زيد، فَلَا يُمكن دُخُول كل وَاحِد مِنْهُمَا هُنَا. الْجَواب: أَن هَذَا يعْتَبر فِي الْعِلَل الْعَقْلِيَّة؛ لِأَن الحكم لَا يجوز أَن يثبت فِي الْعقل بِأَكْثَرَ من عِلّة وَاحِدَة، وَأما فِي أَحْكَام الشَّرْع فَإِنَّهُ يجوز أَن يثبت بطرِيق آخر فيستدل بِهِ على الحكم الآخر " انْتهى. وَأطَال فِي ذَلِك. قَالَ ابْن مُفْلِح عَن كَلَامه: فَالسَّابِق فِي الثُّبُوت عِلّة للْآخر، وَهَذَا نوع من الْقلب لَا يفْسد الْعلَّة. قَوْله: (وَزيد قلب الدَّعْوَى مَعَ إِضْمَار الدَّلِيل فِيهَا: ككل مَوْجُود مرئي، فَيُقَال: كل مَا لَيْسَ فِي جِهَة لَيْسَ مرئيا، فدليل الرُّؤْيَة: الْوُجُود، وَكَونه لَا فِي جِهَة دَلِيل منعهَا، أَو مَعَ عَدمه: كشكر الْمُنعم وَاجِب لذاته فيقبله) . تابعنا فِي ذَلِك ابْن مُفْلِح فَإِنَّهُ قَالَ: أما قلب الدَّعْوَى مَعَ إِضْمَار الدَّلِيل فِيهَا فَمثل كل مَوْجُود مرئي، فَيُقَال: كل مَا لَيْسَ فِي جِهَة لَيْسَ مرئيا؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3671 فدليل الرُّؤْيَة الْوُجُود، وَكَونه لَا فِي جِهَة دَلِيل منعهَا. وَمَعَ عدم إضماره، مثل: شكر الْمُنعم وَاجِب لذاته. فيقبله فَيُقَال: شكر الْمُنعم لَيْسَ بِوَاجِب لذاته. قَوْله: (وقلب الاستبعاد كالإلحاق تحكيم الْوَلَد، فِيهِ تحكم بِلَا دَلِيل، فَيُقَال: تحكيم الْقَائِف تحكم بِلَا دَلِيل) . ذكر ذَلِك - أَيْضا - ابْن مُفْلِح، وَذكره قبله الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر " وَلم يزدْ تعليلا غير مَا ذكر وَذكر أَيْضا، الَّذِي قبله وَهُوَ قلب الدَّعْوَى، وَالظَّاهِر أَنه تَابع فِي ذَلِك الْآمِدِيّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3672 قَوْله: (وقلب الدَّلِيل على وَجه يكون مَا ذكره الْمُسْتَدلّ يدل عَلَيْهِ لَا لَهُ ك : " الْخَال وَارِث من لَا وَارِث لَهُ " فَيُقَال يدل على أَن لَا يَرث بطرِيق أبلغ، لِأَنَّهُ نفي عَام مثل: الْجُوع زَاد من لَا زَاد لَهُ، وَفِيه نظر) . هَذَا هُوَ أحد الضربين الَّذِي وعدنا بِذكر مِثَاله، لِأَنَّهُ قد تقدم أَنه ضَرْبَان: لِأَن مَا يَأْتِي بِهِ الْمُعْتَرض إِمَّا أَن يكون دَلِيلا على الْمُسْتَدلّ لَا لَهُ. وَإِمَّا أَن يدل لكل مِنْهُمَا، لَا للمستدل وَحده. فَيَقُول الْمُعْتَرض: هَذَا دَلِيل لي وَلَك، فَهُوَ لنا مَعًا. قَالَ الْآمِدِيّ: / وَالْأول قل مَا يتَّفق لَهُ مِثَال فِي الأقيسة. ومثاله من الْمَنْصُوص: اسْتِدْلَال من يُورث ذَوي الْأَرْحَام فِي تَوْرِيث الْخَال بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْخَال وَارِث من لَا وَارِث لَهُ ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3673 فَيَقُول الْمُعْتَرض: هَذَا يدل عَلَيْك لَا لَك، إِذْ مَعْنَاهُ: نفي تَوْرِيث الْخَال بطرِيق الْمُبَالغَة، أَي: الْخَال لَا يَرث: كَمَا يُقَال: الْجُوع زَاد من لَا زَاد لَهُ، وَالصَّبْر حِيلَة من لَا حِيلَة لَهُ، أَي: لَيْسَ الْجُوع زادا، وَلَا الصَّبْر حِيلَة. قَالَ ابْن حمدَان وَغَيره: وَقَوله " وَارِث من لَا ورث لَهُ " يَنْفِي إِرْثه، فَإِن أَرَادَ نفي كل وَارِث سوى الْخَال، بَطل بِإِرْث الزَّوْج وَالزَّوْجَة، وَإِن أَرَادَ نفي كل وَارِث عصبَة، فَلَا فَائِدَة فِي تَخْصِيص الْخَال بِالذكر دون بَقِيَّة ذَوي الْأَرْحَام، وَيُشبه فَسَاد الْوَضع انْتهى. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَيْسَ بمثال جيد. قَوْله: (القَوْل بِالْمُوجبِ تَسْلِيم مُقْتَضى الدَّلِيل مَعَ بَقَاء النزاع) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3674 من القوادح القَوْل بِالْمُوجبِ، وَهُوَ بِفَتْح الْجِيم، أَي: بِمَا أوجبه دَلِيل الْمُسْتَدلّ واقتضاه، وَأما الْمُوجب بِكَسْر الْجِيم، فَهُوَ الدَّلِيل، وَهُوَ غير مُخْتَصّ بِالْقِيَاسِ وَحده، أَي: القَوْل بِالْمُوجبِ تَسْلِيم مُقْتَضى الدَّلِيل مَعَ بَقَاء النزاع. قَالَ الطوفي وَغَيره: " القَوْل بِالْمُوجبِ تَسْلِيم الدَّلِيل مَعَ منع الْمَدْلُول، أَو تَسْلِيم مُقْتَضى الدَّلِيل مَعَ دَعْوَى بَقَاء الْخلاف " انْتهى. ومعانيها مُتَقَارِبَة، وَشَاهد ذَلِك من الْقُرْآن قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه الْعِزَّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ} [المُنَافِقُونَ: 8] ، جَوَابا لقَوْل عبد اللَّهِ بن أبي بن سلول، أَو غَيره {لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل} [المُنَافِقُونَ: 8] ، فَإِنَّهُ لما ذكر صفة وَهِي الْعِزَّة، وَأثبت بهَا حكما وَهُوَ الْإِخْرَاج من الْمَدِينَة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3675 رد عَلَيْهِ: بِأَن تِلْكَ الصّفة ثَابِتَة، لَكِن لما أَرَادَ غير ثُبُوتهَا لَهُ، فَإِنَّهَا ثَابِتَة على اقتضائها للْحكم وَهُوَ الْإِخْرَاج، فالعزة [الْمَوْجُودَة] لَكِن لَا لَهُ، بل لله وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ. وَمن أمثلته أَيْضا: (وإخوان حسبتهم دروعا ... فكانوها وَلَكِن للأعادي /) (وخلتهم سهاما صائبات ... فكانوها وَلَكِن فِي فُؤَادِي) (وَقَالُوا: قد صفت منا قُلُوب ... لقد صدقُوا وَلَكِن من ودادي) وَقَول آخر: (قلت: ثقلت إِذْ أتيت مرَارًا ... قَالَ: ثقلت كاهلي بالأيادي) وَهُوَ نوع من بديع الْكَلَام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3676 قَوْله: (وَهُوَ ثَلَاثَة أَنْوَاع: الأول: أَن يستنتج الْمُسْتَدلّ مَا يتوهمه مَحل النزاع، أَو لَازمه: كَالْقَتْلِ بالمثقل: قتل بِمَا يقتل غَالِبا، فَلَا يُنَافِي الْقود: كالمحدد، فَيُقَال: عدم الْمُنَافَاة لَيْسَ مَحل النزاع، وَلَا لَازمه. وَالثَّانِي: أَن يستنتج إبِْطَال مَا يتوهمه مَأْخَذ الْخصم: كالتفاوت فِي الْوَسِيلَة لَا يمْنَع الْقود كالمتوسل إِلَيْهِ، فَيُقَال: لَا يلْزم من إبِْطَال مَانع عدم كل مَانع، وَوُجُود الشُّرُوط والمقتضي، وَيصدق الْمُعْتَرض فِي قَوْله: لَيْسَ هَذَا مأخذي، وَقيل: لَا، وَأَجَازَهُ جمع من أَصْحَابنَا، مِنْهُم الْفَخر، وَقَالَ: فَإِن أبْطلهُ الْمُسْتَدلّ وَإِلَّا انْقَطع. الثَّالِث: أَن يسكت فِي دَلِيله عَن صغرى قِيَاسه، وَلَيْسَت مَشْهُورَة: ككل قربَة شَرطهَا النِّيَّة، ويسكت عَن: الْوضُوء قربَة، فَيَقُول الْمُعْتَرض: أَقُول بِمُوجبِه وَلَا ينْتج، وَلَو ذكرهَا لم يرد إِلَّا منعهَا. وَجَوَاب الأول: [بِأَنَّهُ] مَحل النزاع، أَو لَازمه، وَالثَّانِي: أَنه المأخذ لشهرته، وَالثَّالِث: لجَوَاز الْحَذف. وَيُجَاب فِي الْجَمِيع بِقَرِينَة أَو عهد، وَنَحْوه، انْتهى) . وُرُود القَوْل بِالْمُوجبِ فِي الْأَدِلَّة على ثَلَاثَة أَقسَام: أَحدهَا: أَن يستنتج الْمُسْتَدلّ من الدَّلِيل مَا يتَوَهَّم أَنه مَحل النزاع، أَو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3677 ملازمه، مثل: أَن يَقُول فِي الْقَتْل بالمثقل: قتل بِمَا يقتل غَالِبا، فَلَا يُنَافِي وجوب الْقصاص كالإحراق. فَيَقُول الْمُعْتَرض: عدم الْمُنَافَاة لَيْسَ مَحل النزاع وَلَا يَقْتَضِيهِ، وَأَنا أَقُول بذلك أَيْضا، وَلَا يكون ذَلِك دَلِيلا عَليّ فِي مَحل النزاع الَّذِي هُوَ وجوب الْقصاص، وَهُوَ لَيْسَ عدم الْمُنَافَاة وَلَا مُلَازمَة. الثَّانِي: أَن يستنتج مِنْهُ إبِْطَال مَا يتَوَهَّم مِنْهُ أَنه مَأْخَذ مَذْهَب الْخصم: كَقَوْلِنَا - أَيْضا - فِي الْقَتْل / بالمثقل: التَّفَاوُت فِي الْوَسِيلَة لَا يمْنَع وجوب الْقصاص، كالتفاوت فِي المتوسل إِلَيْهِ. فَيَقُول الْخصم: أَنا أَقُول بِمُوجب ذَلِك، وَلَكِن لَا يلْزم من ذَلِك وجوب الْقصاص الَّذِي هُوَ مَحل النزاع؛ إِذْ لَا يلْزم من إبِْطَال كَون التَّفَاوُت فِي الْوَسِيلَة مَانِعا انْتِفَاء كل مَانع، وَوُجُود الشَّرَائِط، فَيجوز أَن لَا يجب الْقصاص لمَانع آخر، أَو لفَوَات شَرط، أَو لعدم الْمُقْتَضِي. وَالصَّحِيح أَن الْمُعْتَرض إِذا قَالَ: إِن مَا ذهب إِلَيْهِ الْمُسْتَدلّ لَيْسَ ماخذ إمامي - يصدق، فَإِنَّهُ أعرف بمذهبه وَمذهب إِمَامه. ثمَّ لَو لزمَه إبداء المأخذ، فَإِن مكن الْمُسْتَدلّ من إِبْطَاله، صَار مُعْتَرضًا، وَإِلَّا فَلَا فَائِدَة. وَقيل: لَا يصدق إِلَّا بِبَيَان مَأْخَذ آخر، إِذْ رُبمَا كَانَ ذَلِك مأخذه، وَلكنه معاند. ورد: بِأَنَّهُ لَو أَوجَبْنَا عَلَيْهِ ذكر المأخذ فَإِن مكنا الْمُسْتَدلّ من إِبْطَاله، لزم قلب الْمُسْتَدلّ مُعْتَرضًا والمعترض مستدلا، وَإِن لم يُمكنهُ فَلَا فَائِدَة فِي إبداء المأخذ لِإِمْكَان ادعائه مَا لَا يصلح، ترويجا لكَلَامه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3678 وَأَجَازَهُ جمع من أَصْحَابنَا مِنْهُم: أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ. وَقَالَ: فَإِن أبْطلهُ الْمُسْتَدلّ وَإِلَّا انْقَطع. قَالَ ابْن الْحَاجِب: وَأكْثر القَوْل بِالْمُوجبِ هَذَا الْقسم، أَي: الَّذِي يستنتج فِيهِ مَا يتَوَهَّم أَنه مَأْخَذ الْخصم وَلم يكن كَذَلِك، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أَكثر لخفاء المأخذ، وَقلة العارفين بِهَذَا والمطلعين على أسرارها، بِخِلَاف محَال الْخلاف فَإِن ذَلِك مَشْهُور، فكم من يعرف مَحل الْخلاف وَلَكِن لَا يعرف المأخذ! الثَّالِث: أَن يكون دَلِيل الْمُسْتَدلّ مُقْتَصرا فِيهِ على الْمُقدمَة الْكُبْرَى، مسكوتا عَن الصُّغْرَى، فَيرد القَوْل بِالْمُوجبِ من أجل حذفهَا. مثل أَن يَقُول الْحَنْبَلِيّ أَو الشَّافِعِي فِي وجوب نِيَّة الْوضُوء: كل مَا ثَبت أَنه قربَة اشْتِرَاط فِيهِ النِّيَّة كَالصَّلَاةِ، ويسكت عَن قَوْله: وَالْوُضُوء قربَة. فَإِذا اعْترض بالْقَوْل بِالْمُوجبِ. قَالَ: هَذَا مُسلم، وَلَكِن من أَيْن يلْزم اشْتِرَاط النِّيَّة فِي الْوضُوء؟ فَإِنَّمَا ورد هَذَا لكَون الصُّغْرَى محذوفة، / فَلَو ذكرت لم يتَوَجَّه لَهُ اعْتِرَاض بالْقَوْل بِالْمُوجبِ. وَإِنَّمَا يرد الِاعْتِرَاض بِالْمَنْعِ للصغرى، بِأَن يُقَال: لَا نسلم أَن الْوضُوء قربَة، نعم يشْتَرط فِي الصُّغْرَى أَن تكون غير مَشْهُورَة، أما لَو كَانَت مَشْهُورَة فَإِنَّهَا تكون كالمذكورة، فَيمْنَع وَلَا يُؤْتى بالْقَوْل بِالْمُوجبِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3679 تَنْبِيهَانِ: الأول: قَالَ الجدليون: إِن فِي القَوْل بِالْمُوجبِ انْقِطَاعًا لأحد المتناظرين؛ لِأَن الْمُسْتَدلّ إِن أثبت مَا ادَّعَاهُ انْقَطع الْمُعْتَرض. وَمَا قَالُوهُ صَحِيح فِي الْقسمَيْنِ الْأَوَّلين كَمَا عرف، وَهُوَ بعيد فِي الْقسم الثَّالِث؛ لاخْتِلَاف المرادين، لِأَن مُرَاد الْمُسْتَدلّ أَن الصُّغْرَى وَإِن كَانَت محذوفة لفظا فَإِنَّهَا مَذْكُورَة تَقْديرا، وَالْمَجْمُوع يُفِيد الْمَطْلُوب، وَمُرَاد الْمُعْتَرض أَن الْمَذْكُور لما كَانَت الْكُبْرَى وَحدهَا وَهِي لَا تفِيد الْمَطْلُوب، توجه الِاعْتِرَاض. الثَّانِي: جَوَاب الْقسم الأول بِأَنَّهُ مَحل النزاع، أَو مُسْتَلْزم لمحل النزاع، كَمَا لَو قَالَ حنبلي، أَو شَافِعِيّ: لَا يجوز قتل الْمُسلم بالذمي، قِيَاسا على الْحَرْبِيّ. فَيُقَال بِالْمُوجبِ؛ لِأَنَّهُ يجب قَتله بِهِ، وقولكم: لَا يجوز نفي الْإِبَاحَة، الَّتِي مَعْنَاهَا اسْتِوَاء الطَّرفَيْنِ، ونفيها لَيْسَ نفيا للْوُجُوب، وَلَا مستلزما لَهُ. فَيَقُول الْحَنْبَلِيّ: المعني بِلَا يجوز تَحْرِيمه، وَيلْزم من ثُبُوت التَّحْرِيم نفي الْوُجُوب لِاسْتِحَالَة الْجمع بَين الْوُجُوب وَالتَّحْرِيم. وَجَوَاب الْقسم الثَّانِي: بِأَن يبين فِي المستنتج أَنه المأخذ بِالنَّقْلِ عَن أَئِمَّة الْمَذْهَب وشهرة المأخذ. وَجَوَاب الْقسم الثَّالِث بِأَن الْحَذف لإحدى المقدمتين سَائِغ عِنْد الْعلم بالمحذوف، والمحذوف مُرَاد وَمَعْلُوم فَلَا يضر حذفه، وَالدَّلِيل هُوَ الْمَجْمُوع لَا الْمَذْكُور وَحده، وَكتب الْفِقْه مشحونة بذلك، بل لَا يكَاد يُوجد ذكر المقدمتين فِي قِيَاس إِلَّا نَادرا؛ قصدا للاختصار والاستشهاد، أَو للقرينة وَنَحْوهمَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3680 فَائِدَة: كَون القَوْل بِالْمُوجبِ قادحا / فِي الْعلَّة ذكره الْآمِدِيّ، وَأَتْبَاعه، والهندي، ووجهوه بِأَنَّهُ إِذا كَانَ فِيهِ [تَسْلِيم] مُوجب مَا ذكره الْمُسْتَدلّ من الدَّلِيل، وَأَنه لَا يرفع الْخلاف علمنَا أَن مَا ذكره لَيْسَ بِدَلِيل الحكم. وَنَازع التَّاج السُّبْكِيّ فِي ذَلِك فَقَالَ: " إِن هَذَا يخرج لفظ القَوْل بِالْمُوجبِ عَن إجرائه على قَضيته، بل الْحق أَن القَوْل بِالْمُوجبِ تَسْلِيم لَهُ. وَهَذَا مَا اقْتَضَاهُ كَلَام الجدليين، وإليهم الْمرجع فِي ذَلِك، وَحِينَئِذٍ لَا يتَّجه عده من مبطلات الْعلَّة " انْتهى. وَبِذَلِك صرح - أَيْضا - أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان ". [فَقَالَ] : مَتى تحقق انْقَطع، وَلَيْسَ اعتراضا فِي الْحَقِيقَة لِاتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ فِيهِ على صِحَة الْعلَّة. وَسبق قَرِيبا أَن الجدليين قَالُوا: إِن فِيهِ انْقِطَاعًا لأحد المتناظرين. قَوْله: (وَفِي الْإِثْبَات: كالخيل حَيَوَان [يسابق] عَلَيْهِ فَفِيهِ الزَّكَاة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3681 كَالْإِبِلِ، فَيُقَال بِمُوجبِه فِي زَكَاة التِّجَارَة، فيجاب بلام الْعَهْد، وَالسُّؤَال [عَن] زَكَاة السّوم لَا يَصح عِنْد أبي الْخطاب، وَابْن عقيل وَصَححهُ الْمُوفق وَغَيره) . المثالان الْأَوَّلَانِ فِيمَا إِذا كَانَ ذَلِك فِي جَانب النَّفْي، وَلَكِن قد يكون ذَلِك فِي إِثْبَات، نَحْو: الْخَيل يسابق عَلَيْهَا فَتجب فِيهَا الزَّكَاة كَالْإِبِلِ. فَيَقُول بِالْمُوجبِ لَكِن زَكَاة التِّجَارَة والنزاع فِي زَكَاة الْعين، ودليلكم إِنَّمَا أنتج الزَّكَاة فِي الْجُمْلَة، فَإِن ادّعى أَنه أَرَادَ زَكَاة الْعين فَلَيْسَ هَذَا قولا بِالْمُوجبِ. فَيُقَال: الْعبْرَة بِدلَالَة اللَّفْظ لَا بِقَرِينَة، أجَاب بِهِ الْهِنْدِيّ. وَلَكِن قد يُقَال: إِذا كَانَت اللَّام للْعهد، فالعهد مقدم على الْجِنْس والعموم، وَالْعلَّة لَيست مُنَاسبَة لزكاة التِّجَارَة، إِنَّمَا الْمُنَاسب الْمُقْتَضِي هُوَ النَّمَاء الْحَاصِل. قَالَ ابْن مُفْلِح: - لما ذكر عَن " التَّمْهِيد " هَذِه الصُّورَة وَهِي صُورَة الْإِثْبَات -: (وَقيل: لَا يَصح، وَجزم بِهِ فِي " الْوَاضِح " لوُجُوب اسْتِقْلَال الْعلَّة بلفظها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3682 وَقيل: يَصح، وَجزم بِهِ فِي " الرَّوْضَة " وَغَيرهَا. ثمَّ قَالَ: أما مثل قَوْله فِي إِزَالَة النَّجَاسَة بالخل: مَائِع كالمرق. فَيُقَال بِمُوجبِه فِي خل نجس فَلَا يَصح. قَالَ أَبُو مُحَمَّد / الْبَغْدَادِيّ وَغَيره: لَو حكم الْعلَّة فَقَالَ بِهِ فِي صُورَة لم يقل بِالْمُوجبِ) انْتهى. قَوْله: (ترد الأسئلة على قِيَاس الدّلَالَة إِلَّا مَا تعلق بمناسبة الْجَامِع، وَكَذَا قِيَاس فِي معنى الأَصْل، وَلَا يرد عَلَيْهِ مَا تعلق بِنَفس الْجَامِع) . وَكَذَا قَالَ ابْن مُفْلِح: " ترد الأسئلة على قِيَاس الدّلَالَة إِلَّا مَا تعلق بمناسبة الْجَامِع، لِأَنَّهُ لَيْسَ بعلة فِيهِ، وَكَذَا الْقيَاس فِي معنى الأَصْل، وَلَا يرد عَلَيْهِ - أَيْضا - مَا تعلق بِنَفس الْجَامِع لعدم ذكره فِيهِ ". قَوْله: (خَاتِمَة: تَتَعَدَّد الاعتراضات من جنس اتِّفَاقًا /، وَكَذَا من أَجنَاس إِلَّا عِنْد أهل سَمَرْقَنْد، وَمنع الْأَكْثَر الْمرتبَة، وَيَكْفِي جَوَاب آخرهَا، قَالَه القَاضِي، وَجمع، وَجوزهُ الْأُسْتَاذ، وَالْفَخْر، والآمدي، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3683 وَابْن الْحَاجِب، فَيقدم الاستفسار، ثمَّ فَسَاد الِاعْتِبَار، ثمَّ الْوَضع، ثمَّ مَا تعلق بِالْأَصْلِ، ثمَّ بِالْعِلَّةِ، ثمَّ الْفَرْع، وَيقدم النَّقْض على الْمُعَارضَة. وَأوجب ابْن الْمَنِيّ وَالْفَخْر تَرْتِيب الأسئلة، وَاخْتَارَ فَسَاد الْوَضع، ثمَّ الِاعْتِبَار، ثمَّ الاستفسار، ثمَّ الْمَنْع، ثمَّ الْمُطَالبَة، وَهُوَ منع الْعلَّة فِي الأَصْل، ثمَّ الْفرق، ثمَّ النَّقْض، ثمَّ القَوْل بِالْمُوجبِ ثمَّ الْقلب، ثمَّ رد التَّقْسِيم إِلَى الاستفسار، أَو الْفرق. وَعَن ابْن عقيل، وَابْن الْبَنَّا، وَابْن الْمَنِيّ وَأكْثر الجدليين: لَا يُطَالِبهُ بطرد دَلِيل إِلَّا بعد تَسْلِيم مَا ادَّعَاهُ من دلَالَته، فَلَا ينقصهُ حَتَّى يُسلمهُ، فَلَا يقبل الْمَنْع بعد التَّسْلِيم وَعَن ابْن عقيل: الْجَواب إِذْ زَاد أَو نقص لم يُطَابق، ويجيب قوم بِمثلِهِ، ويعدونه جَوَابا، وَلَو سُئِلَ عَن الْمَذْهَب فَذكر دَلِيله، فَلَيْسَ بِجَوَاب مُحَقّق، كَمَا لَا يخلط السُّؤَال عَن الْمَذْهَب بالسؤال عَن دَلِيله، وَالصَّحِيح خلاف هَذَا، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر) . تقدم أَن الجدلين قَالُوا: الاعتراضات رَاجِعَة إِمَّا إِلَى منع فِي مُقَدّمَة من الْمُقدمَات، أَو مُعَارضَة فِي الحكم، فَمَتَى حصل الْجَواب عَنْهُمَا فقد تمّ الدَّلِيل، وَلم يبْق للمعترض مجَال، فَيكون مَا سوى ذَلِك من الأسئلة بَاطِلا، وَإِلَّا فَيسمع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3684 وَقَالَ بعض الجدليين: إِنَّهَا كلهَا ترجع إِلَى الْمَنْع فَقَط؛ لِأَن الْمُعَارضَة منع لِلْعِلَّةِ عَن الجريان. إِذا علم ذَلِك فالاعتراضات [إِمَّا] أَن تكون من جنس وَاحِد: كالنقوض والمعارضات فِي الأَصْل وَالْفرع، أَو من أَجنَاس مُخْتَلفَة: كالمنع، والمطالبة، والنقض، والمعارضة. / فَإِن كَانَت من جنس وَاحِد جَازَ إيرادها مَعًا اتِّفَاقًا، إِذْ لَا يلْزم مِنْهُ تنَاقض وَلَا انْتِقَال من سُؤال إِلَى آخر. وَإِن كَانَت من أَجنَاس فَإِن كَانَت غير مترتبة: فقد منع أهل سَمَرْقَنْد التَّعَدُّد فِيهَا للخبط اللَّازِم مِنْهَا والانتشار، وأوجبوا الِاقْتِصَار على سُؤال وَاحِد حرصا على الضَّبْط. قَالُوا: وَلَا يرد علينا إِذا كَانَت من جنس، فَإنَّا جَوَّزنَا تعددها وَإِن أدَّت إِلَى النشر؛ لِأَن النشر فِي الْمُخْتَلفَة أَكثر مِنْهُ فِي المتفقة. وَجوز الْجُمْهُور الْجمع بَينهمَا، وَهُوَ الْحق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3685 وَأما إِذا كَانَت مترتبة، فَأكْثر أهل المناظرة /: منع من التَّعَدُّد فِيهَا؛ لِأَن فِي تعددها تَسْلِيمًا للمقدم، لِأَن الْمُعْتَرض إِذا طَالبه بتأثير الْوَصْف بعد أَن منع وجود الْوَصْف - فقد نزل عَن الْمَنْع، وَسلم وجود الْوَصْف الَّذِي هُوَ الْمُقدم؛ لِأَنَّهُ لَو أصر على منع وجود الْوَصْف، لما طَالبه بتأثير الْوَصْف؛ لِأَن تَأْثِير مَا لَا وجود لَهُ محَال، فَلَا يسْتَحق الْمُعْتَرض غير جَوَاب الْأَخير، فَيتَعَيَّن الْأَخير للورود فَقَط. وَلِهَذَا قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى، وَغَيره من أَصْحَابنَا، وَالْقَاضِي أَبُو الطّيب: لَو أورد النَّقْض ثمَّ منع وجود الْعلَّة لم يقبل تَسْلِيمه للمتقدم. وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ، وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهم - جَوَاز التَّعَدُّد فِي الْمرتبَة؛ لِأَن تَسْلِيم الْمُتَقَدّم تَسْلِيم تقديري، إِذْ مَعْنَاهُ: لَو سلم وجود الْوَصْف، فَلَا نسلم تَأْثِيره، وَالتَّسْلِيم التقديري لَا يُنَافِي الْمَنْع، بِخِلَاف التَّسْلِيم تَحْقِيقا فَإِنَّهُ يُنَافِي الْمَنْع، فَلَو منع بعد التَّسْلِيم تَحْقِيقا لم يسمع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3686 قَالَ الْهِنْدِيّ عَن هَذَا القَوْل: وَهُوَ الْحق، وَعَلِيهِ الْعَمَل فِي المصنفات. وَإِذا كَانَ كَذَلِك فتترتب الأسئلة، وَإِلَّا لَكَانَ إيرادها بِلَا تَرْتِيب منعا بعد التَّسْلِيم. فَإِذا قلت: إِن الأَصْل مُعَلل، بِكَذَا فقد سلمت ضمنا فَيتَوَجَّه الحكم، فَكيف نمنعه بعد ذَلِك؟ قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَقد يُقَال: إِذا كَانَ التَّسْلِيم تقديريا فَلَا يضر ذَلِك / قَالَ ابْن السُّبْكِيّ فِي " شرح الْمُخْتَصر ": وَلم لَا يرقى الْمُسْتَدلّ فَيَقُول: لَا أسلم أَن الأَصْل مُعَلل بِكَذَا، بل لَا أسلم ثُبُوت الحكم فِيهِ؟ كَمَا يَقُول: لَا أسلم [الحكم] ، وَإِن سلمته فَلَا أسلم الْعلَّة، فَيكون الْأَظْهر تَجْوِيز ذَلِك) . إِذا تحرر هَذَا " فالاعتراضات بَعْضهَا مقدم طبعا على بعض، فليقدم وضعا، فَيقدم الاستفسار؛ لِأَن من لَا يعرف مَدْلُول اللَّفْظ لَا يعرف مَا يرد عَلَيْهِ، ثمَّ فَسَاد الِاعْتِبَار؛ لِأَنَّهُ نظر فِي فَسَاد الْقيَاس من حَيْثُ الْجُمْلَة. وَقيل: النّظر فِي تَفْصِيله، ثمَّ فَسَاد الْوَضع؛ لِأَنَّهُ أخص من فَسَاد الِاعْتِبَار، وَالنَّظَر فِي الْأَعَمّ مقدم على النّظر فِي الْأَخَص، ثمَّ مَا يتَعَلَّق بِالْأَصْلِ على مَا تعلق بِالْعِلَّةِ؛ لِأَن الْعلَّة مستنبطة من حكم الأَصْل، ثمَّ مَا يتَعَلَّق بِالْعِلَّةِ على مَا يتَعَلَّق بالفرع؛ لِأَن الْفَرْع يتَوَقَّف على الْعلَّة، وَيقدم النَّقْض على الْمُعَارضَة؛ لِأَن النَّقْض يُورد لإبطال الْعلَّة والمعارضة تورد لاستقلالها، وَالْعلَّة مُقَدّمَة على استقلالها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3687 وَأوجب أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ، وَشَيْخه ابْن الْمَنِيّ تَرْتِيب الأسئلة، فاختارا فَسَاد الْوَضع، ثمَّ الِاعْتِبَار، ثمَّ الاستفسار، ثمَّ الْمَنْع، ثمَّ الْمُطَالبَة: وَهُوَ منع الْعلَّة فِي الأَصْل، ثمَّ الْفرق، ثمَّ النَّقْض، ثمَّ القَوْل بِالْمُوجبِ، ثمَّ الْقلب، ورد التَّقْسِيم إِلَى الاستفسار أَو الْفرق، وَأَن عدم التَّأْثِير مناقشة لفظية " انْتهى. قَالَ الطوفي: " وترتيب الأسئلة: وَهُوَ جعل كل سُؤال فِي رتبته على وَجه لَا يُفْضِي بالتعرض إِلَى الْمَنْع بعد التَّسْلِيم أولى اتِّفَاقًا؛ لِأَن الْمَنْع بعد التَّسْلِيم قَبِيح، فَأَقل أَحْوَاله أَن يكون التَّحَرُّز مِنْهُ أولى، فَمنهمْ من أوجبه نفيا للْحكم الْمَذْكُور وَنفي الْقبْح وَاجِب، وَمِنْهُم من لم يُوجِبهُ نظرا إِلَى أَن كل سُؤال مُسْتَقل بِنَفسِهِ، وَجَوَابه مُرْتَبِط بِهِ، فَلَا فرق إِذا بَين تقدمه وتأخره " انْتهى. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَذكر ابْن عقيل، وَابْن الْمَنِيّ، وَجُمْهُور الجدليين: أَنه لَا يُطَالِبهُ بطرد دَلِيل إِلَّا بعد تَسْلِيم مَا ادَّعَاهُ من دلَالَته، فَلَا ينْقضه حَتَّى يُسلمهُ، فَلَا يقبل الْمَنْع بعد التَّسْلِيم. قَالَ: / وَهَذَا ضَعِيف؛ لِأَن السُّكُوت لَا يدل على التَّسْلِيم؛ وَلِأَنَّهُ لَو سلم صَرِيحًا؛ جَازَ، بل وَجب رُجُوعه للحق: كمفت، وحاكم، وَشَاهد، وَلَا عيب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3688 وَقد اعْتَرَفُوا بِالْفرقِ بَين أسئلة الجدل وأسئلة الاسترشاد لَا الْغَلَبَة وَالِاسْتِدْلَال وَالْوَاجِب رد الْجَمِيع إِلَى مَا دلّ عَلَيْهِ كتاب أَو سنة، وَإِلَّا فَلهم من الْحِيَل والاصطلاح الْفَاسِد أوضاع، كَمَا للفقهاء وَالْحَاكِم فِي الجدل الْحكمِي أوضاع. وَقد ذكر ابْن عقيل فِي الجدل: أَن الْجَواب إِذا زَاد أَو نقص لم يُطَابق السُّؤَال لعدوله عَن مَطْلُوبه، ويجيب قوم بِمثلِهِ، ويعدونه جَوَابا. وَلَو سُئِلَ عَن الْمَذْهَب فَذكر دَلِيله فَلَيْسَ بِجَوَاب مُحَقّق، كَمَا لَا يخلط السُّؤَال عَن الْمَذْهَب بالسؤال عَن دَلِيله، كَقَوْلِه: مذهبي كَذَا بِدَلِيل كَذَا، قَالَ: وَالدَّلِيل عَلَيْهِ كَذَا فَهُوَ الِاتِّبَاع بِجَوَاب مَا لم يسْأَل عَنهُ كالخلط بِمَا لم يسْأَل عَنهُ، وَالصَّحِيح خلاف هَذَا، وَعَلِيهِ عمل أَكثر الجدليين انْتهى. تَنْبِيهَانِ: الأول: تابعنا ابْن مُفْلِح فِي أَن الاعتراضات خَمْسَة وَعِشْرُونَ، وتابع هُوَ فِي ذَلِك ابْن الْحَاجِب، وتابع ابْن الْحَاجِب فِي ذَلِك الْآمِدِيّ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3689 " الْمُنْتَهى " لَكِن، نَحن أسقطنا مِنْهَا اخْتِلَاف جنس الْمصلحَة كَمَا تقدم، اكْتِفَاء باخْتلَاف الضَّابِط. وَذكر الشَّيْخ موفق الدّين أَنَّهَا اثْنَا عشر فتابعه الطوفي. وَذكر [البروي] أَنَّهَا خَمْسَة عشر. وَذكر النيلي أَنَّهَا أَرْبَعَة عشر. وَذكر الْآمِدِيّ فِي " جدله " أَنَّهَا وَاحِد وَعِشْرُونَ. وَبَعْضهمْ نقص عَن ذَلِك، وَبَعْضهمْ زَاد. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " لم أذكر مِنْهَا التَّرْكِيب؛ لِأَنَّهُ قد تقدم من شُرُوط حكم الأَصْل، وَلَا سُؤال التَّعْدِيَة، وَلَا سُؤال تعدد الْوَضع؛ لرجوعهما إِلَى الْمُعَارضَة فَإِنَّهَا مُعَارضَة خَاصَّة، وَلَا سُؤال اخْتِلَاف الْمصلحَة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3690 قَالَ: فَقَوْل ابْن الْحَاجِب: إِنَّهَا خَمْسَة وَعِشْرُونَ قد علمت تداخلها ". وَلما ذكر الطوفي فِي شَرحه الِاخْتِلَاف فِي عَددهَا قَالَ: " وَالْأَشْبَه أَن كل مَا قدح فِي الدَّلِيل اتجه إِيرَاده: كَمَا أَن كل سلَاح / صلح للتأثير فِي الْعَدو، يَنْبَغِي استصحابه، فَيَنْبَغِي إِيرَاد الأسئلة، وَلَا يضر تداخلها وَرُجُوع بَعْضهَا إِلَى بعض، لِأَن صناعَة الجدل اصطلاحية، وَقد اصْطلحَ الْفُضَلَاء على إِيرَاد هَذِه الأسئلة، فَهِيَ وَإِن تداخلت وَرجع بَعْضهَا إِلَى بعض أَجْدَر بِحُصُول الْفَائِدَة فِي إفهام الْخصم، وتهذيب الخواطر، وتمرين الأذهان على فهم السُّؤَال، واستحضار الْجَواب، وتكررها الْمَعْنَوِيّ لَا يضر: كَمَا لَو رمى الْقَاتِل بِسَهْم وَاحِد مرَّتَيْنِ أَو أَكثر " انْتهى. " التَّنْبِيه الثَّانِي: فِي ضَابِط لأهل الجدل، وَهُوَ: أَن الْمَنْع فِي الدَّلِيل إِمَّا أَن يكون لمقدمة من مقدماته قبل التَّمام أَو بعده، وَهُوَ أَن الْمَنْع فِي الدَّلِيل إِمَّا أَن يكون مُجَردا عَن الْمُسْتَند أَو مَعَ الْمُسْتَند، وَهُوَ المناقضة: فَهِيَ منع مُقَدّمَة فِي الدَّلِيل، سَوَاء ذكر مَعهَا مُسْتَندا أَو لَا؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3691 قَالَ الجدليون: ومستند الْمَنْع هُوَ مَا يكون الْمَنْع مَبْنِيا عَلَيْهِ، نَحْو: لَا نسلم كَذَا، أَو لم لَا يكون كَذَا؟ أَو لَا نسلم لُزُوم كَذَا، وَإِنَّمَا يلْزم هَذَا ان لَو كَانَ كَذَا، ثمَّ إِن احْتج لانْتِفَاء الْمُقدمَة، فيسمى عِنْدهم الْغَصْب، أَي: غصب منصب التَّعْلِيل، وَهُوَ غير مسموع عِنْد النظار لاستلزامه الْخبط فِي الْبَحْث. نعم، يتَوَجَّه ذَلِك من الْمُعْتَرض بعد إِقَامَة الْمُسْتَدلّ الدَّلِيل على تِلْكَ الْمُقدمَة. وَأما الثَّانِي: وَهُوَ الْمَنْع بعد تَمَامه، فإمَّا أَن يكون مَعَ منع الدَّلِيل بِنَاء على تخلف حكمه، فيسمى النَّقْض الإجمالي، لِأَن النَّقْض التفصيلي: هُوَ تخلف الحكم عَن الدَّلِيل للقدح فِي مُقَدّمَة مُعينَة من مقدماته، بِخِلَاف الإجمالي: فَإِنَّهُ تخلف الحكم عَن الدَّلِيل بالقدح من مقدماته على التَّعْيِين. وَإِمَّا أَن يكون مَعَ تَسْلِيم الدَّلِيل، وَالِاسْتِدْلَال بِمَا يُنَافِي ثُبُوت الْمَدْلُول فَهُوَ: الْمُعَارضَة، فَهِيَ تَسْلِيم الدَّلِيل فَلَا يسمع مِنْهُ بعْدهَا فضلا عَن سُؤال الاستفسار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3692 فَيَقُول الْمُعْتَرض: مَا ذكرت من الدَّلِيل وَإِن دلّ على مَا تدعيه، فعندي مَا يُنَافِيهِ أَو يدل على نقيضه، / ويبينه بطريقه، فَهُوَ يَنْقَلِب مستدلا. فَلهَذَا لم يقبله بَعضهم؛ لما فِيهِ من انقلاب دست المناظرة، إِذْ يصير الْمُسْتَدلّ مُعْتَرضًا، والمعترض مستدلا، لَكِن الصَّحِيح الْقبُول؛ لِأَن ذَلِك بِنَاء بِالْعرضِ هدم بِالذَّاتِ، فالمستدل مُدع بِالذَّاتِ معترض بِالْعرضِ، والمعترض بِالْعَكْسِ، فصارا كالمتخالفين. مِثَاله: الْمسْح ركن فِي الْوضُوء فَيسنّ تثليثه كالوجه. فيعارضه: بِأَنَّهُ مسح فَلَا يسن تثليثه كالمسح على الْخُفَّيْنِ. نعم، على الْمُعَلل دفع الِاعْتِرَاض عَنهُ بِدَلِيل، وَلَا يَكْفِيهِ الْمَنْع الْمُجَرّد، فَإِن ذكر دَلِيله وَمنع ثَانِيًا فَكَمَا سبق، وَهَكَذَا حَتَّى يَنْتَهِي الْأَمر إِمَّا إِلَى الإفحام أَو الْإِلْزَام. فالإفحام عِنْدهم: انْقِطَاع الْمُسْتَدلّ بِالْمَنْعِ، أَو بالمعارضة، على مَا يَأْتِي بِمَاذَا يحصل الِانْقِطَاع. والإلزام: انْتِهَاء دَلِيل الْمُسْتَدلّ إِلَى مُقَدمَات ضروية أَو يقينية مَشْهُورَة يلْزم الْمُعْتَرض الِاعْتِرَاف بهَا، وَلَا يُمكنهُ الْجحْد فَيَنْقَطِع بذلك، فَإِذا الْإِلْزَام من الْمُسْتَدلّ للمعترض، والإفحام من الْمُعْتَرض للمستدل ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3693 قَوْله: (فَائِدَة) . (الجدل: فتل الْخصم عَن قَصده لطلب صِحَة قَوْله وَإِبْطَال غَيره) . ذكرنَا هُنَا فَائِدَة فِي أَحْكَام الجدل، وآدابه، وَحده، وَصفته، لَا يسع طَالب الْعلم الْجَهْل بهَا، بل يَنْبَغِي لَهُ مَعْرفَتهَا والتخلق بهَا، لخصتها من " أصُول ابْن مُفْلِح "، وزدت عَلَيْهِ بعض شَيْء، وَهُوَ لخصها من " وَاضح ابْن عقيل "، وَزَاد عَلَيْهِ بعض شَيْء. أما حَده: فَهُوَ فتل الْخصم عَن قَصده لطلب صِحَة قَوْله وَإِبْطَال غَيره؛ لِأَن لَهُ مَعْنيين لُغَة وَاصْطِلَاحا. فاللغة كَمَا قَالَ فِي " الْقَامُوس ": " جدله يجدله ويجدله أحكم فتله "، " والجدل محركة: اللدد فِي الْخُصُومَة وَالْقُدْرَة عَلَيْهَا، جادله فَهُوَ جدل وَمجدل، ومجدال ومجدل كمنبر ومحراب ومقعد: الْجَمَاعَة منا) . وَنقل ابْن مُفْلِح عَن أهل اللُّغَة فَقَالَ: (الإجدال هُوَ الظفر عِنْدهم. وجدلت الْحَبل اجدله جدلا: فتلته فَتلا محكما. والجدالة: الأَرْض، يُقَال: طعنه فجدله: أَي رَمَاه فِي الأَرْض، فانجدل / أَي: فَسقط. وجادله، أَي: خاصمه، مجادلة وجدالا، وَالِاسْم: الجدل، وَهُوَ شدَّة فِي الْخُصُومَة ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3694 وَقَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن الْبَنَّا، وَغَيرهم: وَهُوَ تردد الْكَلَام بَين خصمين، يطْلب كل مِنْهُمَا تَصْحِيح قَوْله وَإِبْطَال قَول خَصمه، وَقيل: إحكام كَلَامه ليرد بِهِ كَلَام خَصمه. وَيَأْتِي كَلَام الْجَوْزِيّ فِي " الْإِيضَاح " وَتَفْسِير الفتل قَرِيبا. وَقَالَ ابْن عقيل - أَيْضا -: " اعْلَم أَن الجدل: هُوَ الفتل للخصم عَن الْمَذْهَب بالمحاجة فِيهِ، وَلَا يَخْلُو أَن يفتل عَنهُ بِحجَّة أَو شُبْهَة، وَأما الشغب فَلَيْسَ مِمَّا يعْتد بِهِ مَذْهَب. وَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يكون فَتلا على طَريقَة السُّؤَال، أَو على طَريقَة الْجَواب، فطريقة السُّؤَال: الْهدم للْمَذْهَب، كَمَا أَن طَريقَة الْجَواب: الْبناء للْمَذْهَب؛ لِأَن على الْمُجيب أَن يَبْنِي مذْهبه على الْأُصُول الصَّحِيحَة، وعَلى السَّائِل أَن يعجزه عَن ذَلِك أَو عَن ذَلِك الِانْفِصَال مِمَّا يلْزمه عَلَيْهِ من الْأُمُور الْفَاسِدَة، فأحدهما معجز عَن قِيَاس الْحجَّة على الْمَذْهَب، [و] الآخر مُبين لقِيَام الْحجَّة عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَا يَدعِيهِ كل وَاحِد إِلَى أَن يظْهر مَا يُوجب استعلاء أَحدهمَا على الآخر بِالْحجَّةِ. وكل جدل فَإِنَّمَا يحْتَاج إِلَيْهِ لأجل الْخلاف فِي الْمَذْهَب، وَلَو ارْتَفع الْخلاف لم يَصح جدل، وَذَلِكَ أَن السَّائِل إِذا لم يكن غَرَضه فتل الْمَسْئُول عَن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3695 مذْهبه فَلَيْسَ سُؤَاله بسؤال جدل، وَكَذَلِكَ الْمُجيب إِذا لم يكن غَرَضه فتل [السَّائِل] عَن مذْهبه لم يكن جَوَابه جدلا، وَلَا بُد من مَذْهَب يَخْتَلِفَانِ فِيهِ، فَيكون أَحدهمَا على الْإِيجَاب، وَالْآخر على السَّلب: كاختلاف اثْنَيْنِ فِي الِاسْتِطَاعَة هَل هِيَ قبل الْفِعْل أَو مَعَ الْفِعْل؟ " انْتهى. قَوْله: (وَهُوَ مَأْمُور بِهِ على وَجه الْإِنْصَاف وَإِظْهَار الْحق) . قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ فِي " الْإِيضَاح ": " اعْلَم وفقنا اللَّهِ وَإِيَّاك أَن معرفَة هَذَا الْعلم لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا نَاظر، وَلَا يتمشى بِدُونِهَا كَلَام مناظر؛ لِأَن بِهِ يتَبَيَّن صِحَة الدَّلِيل من / فَسَاده تحريرا وتقريرا، وتتضح الأسئلة الْوَارِدَة من الْمَرْدُودَة إِجْمَالا وتفصيلا، ولولاه لاشتبه التَّحْقِيق فِي المناظرة بالمكابرة، وَلَو خلي كل مُدع وَدَعوى مَا يرومه على الْوَجْه الَّذِي يخْتَار، وَلَو مكن كل مَانع من ممانعه مَا يسمعهُ مَتى شَاءَ - لَأَدَّى إِلَى الْخبط وَعدم الضَّبْط. وَإِنَّمَا المراسيم الجدلية تفصل بَين الْحق وَالْبَاطِل، وَتبين الْمُسْتَقيم من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3696 السقيم، فَمن لم يحط بهَا علما كَانَ فِي مناظرته كحاطب ليل. وَيدل عَلَيْهِ الِاشْتِقَاق، فَإِن الجدل من قَوْلك: جدلت الْحَبل أجدله جدلا: إِذا فتلته فَتلا محكما. وَله بِهَذَا الِاشْتِقَاق مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَن يكون استعمالك إِيَّاه فِي محافل النّظر سَببا لفتل خصمك إِلَى موافقتك بتوجيه أدلتك وَإِبْطَال شبهته. الثَّانِي: أَن يكون سمي بذلك لكَونه محكما للأدلة والأسئلة والأجوبة، مبرما لمنتشرها بقوانينه الْمُعْتَبرَة " انْتهى. وَقَالَ فِي " الْوَاضِح ": " قَالَ بعض أهل الْعلم: الْغَرَض بالجدل إِصَابَة الْحق بطريقه. فاعترضه حنبلي قَالَ: ذَلِك هُوَ النّظر؛ لِأَن غَرَض النَّاظر إِصَابَة الْحق بطريقة، لَكِن الْغَرَض بالجدل من الْمنصف نقل الْمُخَالف عَن الْبَاطِل إِلَى الْحق، وَعَن الْخَطَأ إِلَى الْإِصَابَة، وَمَا سوى هَذَا فَلَيْسَ بغرض صَحِيح، مثل: بَيَان غَلَبَة الْخصم، وصناعة المجادل " انْتهى. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ فِي " الْإِيضَاح ": " أول مَا يجب الْبدَاءَة بِهِ حسن الْقَصْد فِي إِظْهَار الْحق طلبا لما عِنْد اللَّهِ، فَإِن آنس من نَفسه الحيد عَن الْغَرَض الصَّحِيح، فليكفها بِجهْدِهِ، فَإِن ملكهَا، وَإِلَّا فليترك المناظرة فِي ذَلِك الْمجْلس: وليتق السباب والمنافرة؛ فَإِنَّهُمَا يضعان الْقدر، ويكسبان الْوزر. وَإِن زل خَصمه فليوقفه على الله، غير مخجل لَهُ بالتشنيع عَلَيْهِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3697 فَإِن أصر أمسك، إِلَّا أَن يكون ذَلِك الزلل مِمَّا يحاذر استقراره عِنْد السامعين، فينبههم على الصَّوَاب فِيهِ بألطف الْوُجُوه جمعا بَين المصلحتين " انْتهى. قَوْله: / (دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن، وَفعله الصَّحَابَة وَالسَّلَف، وَحكي إِجْمَاعًا) . الْجِدَال مَأْمُور بِهِ لقصد الْحق وإظهاره كَمَا تقدم، دلّ على ذَلِك الْقُرْآن، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وجادلهم بالتى هى أحسن} [النَّحْل: 125] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تجادلوا أهل الْكتاب إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن} [العنكبوت: 46] وَقَوله تَعَالَى: {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} [الْبَقَرَة: 111] . وَقد فعله الصَّحَابَة - رَضِي اللَّهِ عَنْهُم - كَمَا فعل ذَلِك ابْن عَبَّاس لما جادل الْخَوَارِج، والحرورية، وَرجع مِنْهُم عَن مقَالَته خلق كثير، وَكَذَلِكَ غَيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3698 وَفعله السّلف كعمر بن عبد الْعَزِيز، فَإِنَّهُ - أَيْضا - جادل الْخَوَارِج، وَرجع إِلَيْهِ فِي بعض الْمسَائِل، ذكره ابْن كثير فِي " تَارِيخه ". وَكَذَلِكَ غَيرهم، وهم السَّادة القادة المقتدى بهم فِي أَقْوَالهم وأفعالهم. وَقد أَجَاد الْعَلامَة أَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه " الْإِيضَاح " فِي الجدل، وَكَذَلِكَ الْآمِدِيّ فِي " جدله "، والنيلي، وَخلق لَا يُحصونَ قد صنفوا فِي ذَلِك التصانيف الرائقة الْحَسَنَة الجامعة، وَكلهمْ قصد بذلك إِظْهَار الْحق وإعلاءه، وَإِبْطَال غَيره وإخماده. قَالَ البربهاري - وَهُوَ الْحسن بن عَليّ من أَئِمَّة أَصْحَابنَا الْمُتَقَدِّمين - فِي " كتاب شرح السّنة " لَهُ: " وَاعْلَم أَنه لَيْسَ فِي السّنة قِيَاس، وَلَا يضْرب لَهَا الْأَمْثَال، وَلَا يتبع فِيهَا الْأَهْوَاء، بل هُوَ التَّصْدِيق بآثار رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلَا كَيفَ وَلَا شرح، وَلَا يُقَال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3699 لم؟ وَكَيف؟ فَالْكَلَام وَالْخُصُومَة والجدال والمراء مُحدث، يقْدَح الشَّك فِي الْقلب، وَإِن أصَاب صَاحبه السّنة وَالْحق ". إِلَى أَن قَالَ: " وَإِذا سَأَلَك رجل عَن مَسْأَلَة فِي هَذَا الْبَاب وَهُوَ مسترشد، فَكَلمهُ وأرشده، وَإِن جَاءَك يناظرك فاحذره، فَإِن فِي المناظرة: المراء، والجدال، والمغالبة، وَالْخُصُومَة، وَالْغَضَب، وَقد نهيت عَن جَمِيع هَذَا، وَهُوَ يزِيل عَن طَرِيق الْحق، وَلم يبلغنَا عَن أحد من فقهائنا وعلمائنا أَنه جادل أَو نَاظر أَو خَاصم ". / وَقَالَ - أَيْضا -: " المجالسة للمناصحة فتح بَاب الْفَائِدَة، والمجالسة للمناظرة غلق بَاب الْفَائِدَة ". وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْفُنُون ": (قَالَ بعض مَشَايِخنَا الْمُحَقِّقين: إِذا كَانَت مجَالِس النّظر الَّتِي تدعون أَنكُمْ عقدتموها لاستخراج الْحَقَائِق، والاطلاع على عوار الشّبَه، وإيضاح الْحجَج لصِحَّة المعتقد - مشحونة بالمحاباة لأرباب المناصب تقربا، وللعوام تخونا، وللنظراء تعملا وتجملا، فَهَذَا فِي النّظر الظَّاهِر. ثمَّ إِذا عولتم بالإنكار فلاح دَلِيل يردكم عَن مُعْتَقد الأسلاف والإلف وَالْعرْف، وَمذهب الْمحلة والمنشأ، خونتم اللائح، وأطفأتم مِصْبَاح الْحق الْوَاضِح، إخلادا إِلَى مَا ألفتم، فَمَتَى تستجيبون إِلَى دَاعِيَة الْحق؟ وَمَتى يُرْجَى الْفَلاح فِي دَرك البغية من مُتَابعَة الْأَمر، وَمُخَالفَة الْهوى وَالنَّفس، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3700 والخلاص من الْغِشّ؟ هَذَا وَالله هُوَ الْإِيَاس من الْخَيْر، والإفلاس من إِصَابَة الْحق، فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون من مُصِيبَة عَمت الْعُقَلَاء فِي أديانهم، مَعَ كَونهم فِي غَايَة التَّحْقِيق وَترك الْمُحَابَاة فِي أَمْوَالهم، وَمَا ذَاك إِلَّا لأَنهم لم يشموا ريح الْيَقِين، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْض الشَّك وَمُجَرَّد التخمين انْتهى. وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": " وكل جدل لم يكن الْغَرَض فِيهِ نصْرَة الْحق فَإِنَّهُ وبال على صَاحبه، والمضرة فِيهِ أَكثر من الْمَنْفَعَة؛ لِأَن الْمُخَالفَة توحش، وَلَوْلَا مَا يلْزم من إِنْكَار الْبَاطِل واستنقاذ الْهَالِك بِالِاجْتِهَادِ فِي رده عَن ضلالته، لما حسنت المجادلة للإيحاش فِيهَا غَالِبا، وَلَكِن فِيهَا أعظم الْمَنْفَعَة، إِذا قصد بهَا نصْرَة الْحق وَالتَّقوى على الِاجْتِهَاد ". ونعوذ بِاللَّه من قصد المغالبة، وَبَيَان الفراهة، وَيَنْبَغِي أَن تجتنبه. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: طلب الرِّئَاسَة والتقدم بِالْعلمِ يهْلك، ثمَّ ذكر اشْتِغَال أَكْثَرهم فِي الجدل، وَرفع أَصْوَاتهم فِي الْمَسَاجِد، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود الْغَلَبَة والرفعة، وإفتاء من لَيْسَ أَهلا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3701 وَقَالَ أَيْضا فِي قَوْله تَعَالَى: / {فَلَا ينازعنك فِي الْأَمر} [الْحَج: 67] ، أَي: فِي الذَّبَائِح، وَالْمعْنَى: فَلَا تنازعهم؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِن جادلوك فَقل اللَّهِ أعلم بِمَا تَعْمَلُونَ} [الْحَج: 68] . قَالَ: وَهَذَا أدب حسن، علمه اللَّهِ عباده ليردوا بِهِ من جادل تعنتا، وَلَا يحبيبوه. قَالَ ابْن هُبَيْرَة: " الجدل الَّذِي يَقع بَين الْمذَاهب أَو فق مَا يحمل الْأَمر فِيهِ: بِأَن يخرج مخرج الْإِعَادَة والدرس، فَأَما اجْتِمَاع جمع متجاذبين فِي مَسْأَلَة، مَعَ أَن كلا مِنْهُم لَا يطْمع أَن يرجع إِن ظَهرت حجَّة، وَلَا فِيهِ مؤانسة ومودة، وتوطئة الْقُلُوب لوعي حق، بل هُوَ على الضِّدّ، فتلكم فِيهِ الْعلمَاء - كَابْن بطة - وَهُوَ مُحدث ". قَالَ ابْن مُفْلِح: وَمَا قَالَه صَحِيح وَذكره بَعضهم عَن الْعلمَاء، وَعَلِيهِ يحمل مَا رَوَاهُ أَحْمد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَصَححهُ عَن أبي غَالب، وَهُوَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3702 مُخْتَلف فِيهِ، عَن أبي أُمَامَة مَرْفُوعا: " مَا ضل قوم بعد هدى كَانُوا عَلَيْهِ، إِلَّا أَتَوا الجدل "، ثمَّ تَلا: {مَا ضربوه لَك إِلَّا جدلا} [الزخرف: 58] . وَلأَحْمَد عَن مَكْحُول عَن أبي هُرَيْرَة - وَلم يسمع مِنْهُ - مَرْفُوعا: " لَا يُؤمن العَبْد الْإِيمَان كُله حَتَّى يتْرك المراء، وَإِن كَانَ محقا ". وللترمذي عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: " لَا تمار أَخَاك ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3703 وَلأبي دَاوُد بِإِسْنَاد حسن عَن أبي أُمَامَة مَرْفُوعا: " أَنا زعيم بَيت فِي ربض الْجنَّة لمن ترك المراء وَإِن كَانَ محقا ". وَلابْن مَاجَه، وَالتِّرْمِذِيّ - وَحسنه - عَن سَلمَة بن وردان - وَهُوَ ضَعِيف - عَن أنس مَرْفُوعا: " من ترك المراء، وَهُوَ محق بني لَهُ فِي وسط الْجنَّة ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3704 يُقَال: مارى يُمَارِي مماراة ومراء: جادل والمراء: اسْتِخْرَاج غضب المجادل، من قَوْلهم: مرئت الشَّاة، أَي: استخرجت لَبنهَا. قَوْله: (فَلَو بَان سوء قصد خَصمه، توجه فِي تَحْرِيم مجادلته خلاف) . قَالَ ابْن مُفْلِح: " يتَوَجَّه فِي تَحْرِيم مجادلته خلاف: كدخول من لَا جُمُعَة عَلَيْهِ فِي البيع مَعَ من تلْزمهُ، لنا فِيهِ وَجْهَان " انْتهى. قلت: الصَّحِيح من الْمَذْهَب التَّحْرِيم، وَقد تقدم كَلَام الْجَوْزِيّ فِي ذَلِك. قَوْله: (وَقَالَ قوم: يجوز أَن يطْلب الْمَذْهَب، لَا وضع مَذْهَب وَيطْلب لَهُ دَلِيلا) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3705 نَقله ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، وَقَالَ: لَكِن أهل مَذْهَبنَا يتبعُون مذهبا / بالعصبية ثمَّ يطْلبُونَ لَهُ أَدِلَّة، وَصَاحب العصبية يقنع بِأَيّ شَيْء يخيله دَلِيلا، لما قد حصل فِي نَفسه من نَفسه، ويسخر من نَفسه لتطلبه لما وَضعه بِمَا يقويه فِي نَفسه. قَوْله: (قَالَ ابْن عقيل: وَيبدأ كل مِنْهُمَا بِحَمْد اللَّهِ وَالثنَاء عَلَيْهِ) . قَالَ فِي " الْوَاضِح ": " وَمن أدب الجدل أَن يَجْعَل السَّائِل والمسؤول مبدأ كَلَامه حمد الله وَالثنَاء عَلَيْهِ، " فَإِن كل أَمر ذِي بَال لم يبْدَأ فِيهِ بِبسْم اللَّهِ فَهُوَ أَبتر "، ويجعلا قصدهما أحد أَمريْن، ويجتهدا فِي اجْتِنَاب الثَّالِث. فأعلى الثَّلَاثَة من الْمَقَاصِد: نصْرَة الله بِبَيَان الْحجَّة، ودحض الْبَاطِل بِإِبْطَال الشّبَه؛ لتَكون كلمة اللَّهِ هِيَ الْعليا. وَالثَّانِي: الإدمان للتقوى على الِاجْتِهَاد من مَرَاتِب الدّين المحمودة، فَالْأولى: كالجهاد، وَالثَّانيَِة: كالمناضلة الَّتِي يقْصد بهَا التَّقْوَى على الْجِهَاد. ونعوذ بِاللَّه من الثَّالِثَة وَهِي: المغالبة، وَبَيَان الفراهة على الْخصم، وَالتَّرْجِيح عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقَة " انْتهى. قلت: إِنَّمَا يبْدَأ كل مِنْهُمَا بِحَمْد اللَّهِ للْحَدِيث الْمَذْكُور وَغَيره؛ وَلِأَن الْحَمد وَالثنَاء عَلَيْهِ مِمَّا يعين على تَحْصِيل التَّوْفِيق للحق والإعانة على الصَّوَاب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3706 فَائِدَة: الْحجَّة لُغَة: الْقَصْد، وَمِنْه حج الْبَيْت. وَقد يُقَال للشُّبْهَة: " حجَّة داحضة "، وَلَا يجوز إِطْلَاقه حَتَّى يبين أَنه استعاره. وَمَا شهد بِمَعْنى حكم آخر: حجَّة، نَحْو: " الْجِسْم مُحدث " يشْهد بِأَن لَهُ مُحدثا، وَمَا لَا يشْهد: دلَالَة " كالجسم مَوْجُود " إِلَّا أَنه كثر فَوَقَعت مَعَ الْحجَّة، وَمن الْفرق: إِشَارَة الْهَادِي إِلَى الطَّرِيق، والنجم وَالرِّيح على الْقبْلَة: دلَالَة لَا حجَّة. قَوْله: (وللسائل إلجاؤه إِلَى الْجَواب، فيجيب أَو يبين عَجزه، وَلَيْسَ لَهُ الْجَواب تعريضا لمن أفْصح بِهِ، وَعَلِيهِ أَن يُجيب فِيمَا بَينه وَبَينه فِيهِ خلاف لتظهر حجَّته، وَالْكَلَام فِي هَذَا الشَّأْن إِنَّمَا يعول فِيهِ على الْحجَّة لتظهر، والشبهة لتبطل، وَإِلَّا فَهدر، وَهُوَ الَّذِي رفعت بشؤمه لَيْلَة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3707 الْقدر، وَإِلَيْهِ انْصَرف النَّهْي عَن " قيل وَقَالَ ") . / هَذَا الْكَلَام كُله وَاضح. قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": " يَنْبَغِي [للسَّائِل] أَن ينظر إِلَى الْمَعْنى الْمَطْلُوب فِي السُّؤَال، فَإِن عدل الْمُجيب لم يرض مِنْهُ إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى جَوَاب مَا سَأَلَهُ عَنهُ. مِثَاله: أَن يَقُول السَّائِل: هَل يحرم النَّبِيذ؟ فَيَقُول الْمُجيب: قد حرمه قوم من الْعلمَاء. هَذَا عِنْد أهل الجدل لَيْسَ بِجَوَاب، وللسائل أَن يضايقه فِي ذَلِك بِأَن يَقُول: لم أَسأَلك عَن هَذَا، وَلَا بَان من سُؤَالِي إياك جهلي بِأَن قوما حرمُوهُ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3708 وَلَا سَأَلتك عَن مَذْهَب النَّاس فِيهِ، بل سَأَلتك أحرام هُوَ؟ فجوابي أَن تَقول: حرَام أَو لَيْسَ بِحرَام، أَو لَا أعلم، فَإِذا ضايقه أَلْجَأَهُ إِلَى الْجَواب، أَو بِأَن جَهله بتحقيق الْجَواب، وَلَيْسَ لَهُ يُجيب أَن بالتعريض لمن سَأَلَهُ بالإفصاح، فَإِذا سَأَلَهُ السَّائِل بالإفصاح لم يقنع بِالْجَوَابِ إِلَّا بالإفصاح " انْتهى. وَقَالَ - أَيْضا -: " وَلَا يَصح الجدل مَعَ الْمُوَافقَة فِي الْمَذْهَب إِلَّا أَن يتكلما على طَريقَة المباحثة، فيتعدون الْخلاف لتصح [الْمُطَالبَة] ، ويتمكن من الزِّيَادَة، وَلَيْسَ على المسؤول أَن يُجيب السَّائِل عَن كل مَا سَأَلَهُ عَنهُ، إِنَّمَا عَلَيْهِ أَن يجِيبه فِيمَا بَينه وَبَينه فِيهِ خلاف، لتظهر حجَّته فِيهِ، وسلامته من المطاعن عَلَيْهِ، وَإِلَّا خرج عَن حد السُّؤَال الجدلي " انْتهى. قَوْله: (وللسائل أَن يَقُول: لم ذَاك؟ فَإِن قَالَ: لِأَنَّهُ لَا فرق، قَالَ: دعواك لعدم الْفرق كدعواك للْجمع، ونخالفك فيهمَا، فَإِن قَالَ: لَا أجد فرقا، قَالَ: لَيْسَ كل مَا لم تَجدهُ يكون بَاطِلا) . وَكَذَلِكَ لَو قَالَ الْمُجيب: لَو جَازَ كَذَا لجَاز كَذَا، فَهُوَ كَقَوْل السَّائِل: إِذا كَانَ كَذَا، فَلم لَا يجوز كَذَا؟ إِلَّا أَنه لَا يلْزمه أَن يَأْتِي بِالْعِلَّةِ الْمُوَافقَة بَينهمَا؛ لِأَنَّهَا من فرض الْمُجيب، وَيلْزم الْمُجيب أَن يبين لَهُ، فَلَو كَانَ للمجيب أَن يَقُول لَهُ: وَمن [أَيْن] اشتبها؟ لَكَانَ لَهُ أَن يصير سَائِلًا، وَكَانَ على السَّائِل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3709 / أَن يصير مجيبا، وَكَانَ لَهُ - أَيْضا - أَن يَقُول: وَلم يُنكر تشابهما والمجيب مدعيه؟ . اعْلَم أَن سُؤال الجدل على خَمْسَة أَقسَام: سُؤال عَن الْمَذْهَب، وسؤال عَن الدَّلِيل وسؤال عَن وَجه الدَّلِيل، وسؤال عَن تَصْحِيح الدَّعْوَى فِي الدَّلِيل، وسؤال عَن الْإِلْزَام. وتحسين الْجَواب وتحديده يقوى بِهِ الْعَمَل وَالْعلم. فَأول ضروب الْجَواب الْإِخْبَار عَن مَاهِيَّة الْمَذْهَب، ثمَّ الْإِخْبَار عَن مَاهِيَّة برهانه، ثمَّ وَجه دلَالَة الْبُرْهَان عَلَيْهِ، ثمَّ إِجْرَاء الْعلَّة فِي الْمَعْلُول وحياطته من الزِّيَادَة فِيهِ وَالنُّقْصَان مِنْهُ؛ لِئَلَّا يلْحق بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَيخرج عَنهُ مَا هُوَ مِنْهُ. وَالْحجّة فِي تَرْتِيب الْجَواب كالحجة فِي تَرْتِيب السُّؤَال؛ لِأَن كل ضرب من ضروبه مُقَابل لضرب من ضروب السُّؤَال. قَوْله: (وَقَالَ الْفَخر، والجوزي: يشْتَرط الانتماء إِلَى [مَذْهَب] ذِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3710 مَذْهَب للضبط، زَاد الْفَخر: وَإِن كَانَ الْأَلْيَق بِحَالهِ التجرد عَن الْمذَاهب وَأَن لَا يسْأَل عَن أَمر جلي فَيكون معاندا، قَالَ: وَيكرهُ اصْطِلَاحا تَأْخِير الْجَواب عَن السُّؤَال كثيرا، وَقيل: يَنْقَطِع، ويعزو الحَدِيث إِلَى أَهله) . قَالَ ابْن مُفْلِح: " قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ: لَا بُد للسَّائِل من الانتماء إِلَى مَذْهَب ذِي مَذْهَب للضبط، وَإِن كَانَ الْأَلْيَق بِحَالهِ التجرد عَن الْمذَاهب باسترشاده. قَالَ: كَذَا قَالَ، قَالَ: وَأَن لَا يسْأَل عَن أَمر جلي فَيكون معاندا. قَالَ المتنبي: (وَلَيْسَ يَصح فِي الأذهان شَيْء ... إِذا احْتَاجَ النَّهَار إِلَى دَلِيل) قَالَ: وَيكرهُ اصْطِلَاحا تَأْخِير الْجَواب عَن السُّؤَال كثيرا. وَعَن بعض الجدليين يَنْقَطِع. وَلَا يَكْفِيهِ عزو حَدِيث إِلَى كتب الْفُقَهَاء؛ لِأَن الْمَطْلُوب مِنْهُ صَنْعَة الْمُحدثين، بل إِلَى كتاب مِنْهُم غير مَشْهُور بِالسقمِ. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ ". وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ فِي " الْإِيضَاح ": " اعْلَم أَنه لابد من معرفَة السَّائِل، بالسؤال، والمسؤول، وَالْجَوَاب. أما السَّائِل: فَهُوَ الْقَائِل: مَا حكم اللَّهِ فِي هَذِه الْوَاقِعَة؟ وَبعد ذكر الحكم: مَا الدَّلِيل عَلَيْهِ؟ وَيلْزمهُ الانتماء إِلَى مَذْهَب ذِي مَذْهَب صِيَانة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3711 للْكَلَام / عَن النشر الَّذِي لَا يجدي، فَإِن الْمُسْتَدلّ إِذا ذكر مثلا الْإِجْمَاع دَلِيلا، فَلَا فَائِدَة فِي تَمْكِين السَّائِل من ممانعة كَونه حجَّة، بعد مَا اتّفق على التَّمَسُّك بِهِ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، وَيتَعَيَّن عَلَيْهِ قصد الِاسْتِفْهَام وَترك الْعَنَت. وَلَا يُمكن المداخل من إِيرَاد أَمر خَارج عَن الدَّلِيل، بِالنّظرِ إِلَيْهِ يفْسد الدَّلِيل: كالقلب، والمعارضة؛ لِأَن ذَلِك وَظِيفَة الْمُعْتَرض. وَأما السُّؤَال: فَهُوَ قَول الْقَائِل: مَا الحكم فِي كَذَا؟ مَا الدَّلِيل عَلَيْهِ؟ وَنَحْو ذَلِك. أما المسؤول: فَهُوَ المتصدي للاستدلال، وَيسْتَحب لَهُ أَن يَأْخُذ فِي الدَّلِيل عقب السُّؤَال عَنهُ، وَإِن أَخّرهُ لم يكن مُنْقَطِعًا إِلَّا إِن عجز عَنهُ مُطلقًا. وَأما الْجَواب: فَهُوَ الحكم الْمُفْتى بِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3712 وَالْأولَى: أَن يكون الْجَواب مطابقا للسؤال، وَإِن كَانَ أَعم مِنْهُ جَازَ. وَإِن كَانَ أخص، فَمنهمْ من جوزه فِي الْفَتْوَى دون الدَّلِيل، وَمِنْهُم من عكس، وَمِنْهُم من منع مُطلقًا، وَمِنْهُم من جوزه مُطلقًا "، وَاخْتَارَ هُوَ الأول. قلت: تقدم هَذَا محررا فِي القوادح فِي عدم التَّأْثِير. قَوْله: (وَيعرف انْقِطَاع السَّائِل بعجزه عَن بَيَان السُّؤَال، وَطلب الدَّلِيل، وَطلب وَجه الدَّلِيل، وطعنه فِي دَلِيل الْمُسْتَدلّ ومعارضته، وانتقاله إِلَى دَلِيل آخر، أَو مَسْأَلَة أُخْرَى قبل تَمام الأول، قَالَ أَبُو الْخطاب: من الِانْتِقَال مَا لَيْسَ انْقِطَاعًا، كمن سُئِلَ عَن رد الْيَمين، وبناه على الحكم بِالنّكُولِ، أَو عَن قَضَاء صَوْم نفل، فبناه على لُزُوم إِتْمَامه، وَإِن طَالبه السَّائِل بِدَلِيل على مَا سَأَلَهُ فانقطاع مِنْهُ لبِنَاء بعض الْأُصُول على بعض، وَلَيْسَ لكلها دَلِيل، يَخُصُّهُ، وَانْقِطَاع المسؤول بعجزه عَن الْجَواب، وَإِقَامَة الدَّلِيل وتقوية وَجه الدَّلِيل، وَدفع اعتراضه، وانقطاعهما بجحد مَا عرف من مذْهبه، أَو ثَبت بِنَصّ أَو إِجْمَاع، وَلَيْسَ مذْهبه خلاف النَّص، وعجزه عَن تَمام مَا شرع فِيهِ، وخلط كَلَامه على وَجه لَا يفهم، وسكوته سكُوت حيرة بِلَا عذر وتشاغله / بِمَا لَا يتَعَلَّق بِالنّظرِ، وغضبه أَو قِيَامه فِي غير مَكَانَهُ وسفهه على خَصمه) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3713 ذكر ذَلِك الْأَصْحَاب مِنْهُم صَاحب " التَّمْهِيد " وَغَيره، و " الْوَاضِح " وَأطَال، وصور لذَلِك صورا كَثِيرَة، وأجاد وَأفَاد، فجزاهم اللَّهِ خيرا، وَهَذَا كُله وَاضح للمتأمل. وَقد قَالَ فِي " الْوَاضِح ": " اعْلَم أَن الِانْقِطَاع هُوَ: الْعَجز عَن إِقَامَة الْحجَّة فِي الْوَجْه الَّذِي ابْتَدَأَ للمقالة. والانقطاع فِي الأَصْل: هُوَ بَيَان الانتفاء عَن الشَّيْء، وَذَلِكَ أَنه لابد من أَن يكون انْقِطَاع شَيْء [عَن شَيْء] . وَهُوَ على ضَرْبَيْنِ. أَحدهمَا: تبَاعد شَيْء عَن شَيْء: كانقطاع طرف الْحَبل عَن جملَته، وَانْقِطَاع المَاء عَن مجْرَاه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3714 وَالْآخر: عدم شَيْء عَن شَيْء: كانقطاع ثَانِي الْكَلَام عَن ماضيه. وَتَقْدِير الِانْقِطَاع فِي الجدل، على أَنه انْقِطَاع الْقُوَّة عَن النُّصْرَة للْمَذْهَب الَّذِي شرع فِي نصرته. وَذَلِكَ أَن الْمَسْأَلَة تكون مراتبها خَمْسَة، فَيكون مَعَ المجادل قُوَّة على الْمرتبَة الأولى وَالثَّانيَِة، ثمَّ يَنْقَطِع فَلَا يكون لَهُ قُوَّة على الْمرتبَة الثَّالِثَة وَمَا بعْدهَا من الْمَرَاتِب، وَانْقِطَاع الْقُوَّة عَن الثَّالِثَة عجز عَن الثَّانِيَة، فَلذَلِك قُلْنَا: الِانْقِطَاع فِي الجدل عجز عَنهُ، فَكل انْقِطَاع فِي الجدل عجز عَنهُ، وَلَيْسَ كل عجز عَنهُ انْقِطَاعًا فِيهِ، وَإِن كَانَ عَاجِزا عَنهُ ". وَأطَال فِي ذَلِك جدا. ثمَّ ذكر الِانْقِطَاع بالمكابرة، ثمَّ بالمناقضة، ثمَّ بالانتقال، ثمَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3715 بالمشاغبة، ثمَّ بالاستفسار، ثمَّ بِالرُّجُوعِ إِلَى التَّسْلِيم، ثمَّ بجحد الْمَذْهَب، ثمَّ بالمسابة، وَذكر لكل وَاحِد من ذَلِك فصلا. وَقَالَ أَيْضا: والانقطاع أَرْبَعَة أضْرب: أَحدهَا: السُّكُوت للعجز. وَالثَّانِي: جحد الضروريات، وَدفع المشاهدات، والمكابرة، والبهت، وَهَذَا الضَّرْب شَرّ من الأول. وَالثَّالِث: المناقضة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3716 وَالرَّابِع: الِانْتِقَال عَن الاعتلال بِشَيْء إِلَى الاعتلال بِغَيْرِهِ. وَيَأْتِي فِي انْتِقَال السَّائِل بأتم من هَذَا. قَوْله: (وَظهر من هَذَا الْقطع بالشغب بالإيهام بِلَا شُبْهَة، وَقَالَهُ ابْن عقيل وَغَيره، وَقَالَ: إِن تَمَادى أعرض [عَنهُ] ، وَهُوَ الأولى بِذِي الرَّأْي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3717 وَالْعقل، / ولاسيما إِن أوهم الْحَاضِرين أَنه سالك طَرِيق الْحجَّة بالاستفسار عَمَّا لَا يستفهم عَن مثله، وَفِي " الْفُصُول ": لَا يَنْبَغِي أَن يَصِيح على الْخصم فِي غير مَوْضِعه انْتهى) . قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": " فصل فِي الِانْقِطَاع بالمشاغبة، اعْلَم أَن الِانْقِطَاع بالمشاغبة عجز عَن الاستتمام، لما تضمن من نصْرَة الْمقَالة إِلَى الممانعة بالإيهام من غير حجَّة وَلَا شُبْهَة. وَحقّ مثل هَذَا إِذا وَقع: أَن يفصح فِيهِ بِأَنَّهُ شغب، وَأَن الشغب لَا يسْتَحق زِيَادَة. فَإِن كَانَ المشاغب مسؤولا، قيل لَهُ: إِن أجبْت عَن الْمَسْأَلَة وَإِلَّا زِدْنَا عَلَيْك، وَإِن لم تجب عَنْهَا أمسكنا عَنْك. وَإِن كَانَ سَائِلًا قيل لَهُ: إِن حصلت سؤالا سَمِعت جَوَابا، وَإِلَّا فَإِن الشغب لَا يسْتَحق جَوَابا. فَإِن لج وَتَمَادَى فِي غيه أعرض عَنهُ؛ لِأَن أهل الْعلم إِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ على مَا فِيهِ حجَّة أَو شُبْهَة، فَإِذا عرى الجدل عَن الْأَمريْنِ إِلَى الشغب لم يكن فِيهِ فَائِدَة، وَكَانَ الأولى بِذِي الرَّأْي الْأَصِيل وَالْعقل الرصين: أَن يصون نَفسه، ويرغب بوقته عَن التضييع مَعَه، وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ الِاشْتِغَال بِهِ مَا يُوهم الْحَاضِرين أَن صَاحبه سالك لطريق الْحجَّة، فَإِنَّهُ رُبمَا كَانَ فِي ذَلِك تشبه بِمَا يرى مِنْهُ من حسن الْعبارَة، واغترار بإقبال خَصمه عَلَيْهِ فِي المناظرة، فَحق مثل هَذَا: أَن يبين أَنه على جِهَة المشاغبة دون طَرِيق الْحجَّة أَو الشُّبْهَة " انْتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3718 وَقَالَ فِي " الْفُصُول " فِي طَرِيق الحكم: " لَا يَنْبَغِي أَن يَصِيح على الْخصم فِي غير مَوْضُوعه؛ لِأَنَّهُ يمنعهُ من إِقَامَة حجَّته، وَلِهَذَا منعناه فِي المناظرة والجدل، وجعلناه من الشغب " انْتهى. قَوْله: (وَفِي " الْوَاضِح ": احذر الْكَلَام فِي مجَالِس الْخَوْف، وَالَّتِي لَا إنصاف فِيهَا، وَكَلَام من تخافه، أَو تبْغضهُ، أَو لَا يفهم عَنْك، واستصغار الْخصم، وَلَا يَنْبَغِي كَلَام من عَادَته ظلم خَصمه، والهزء والتشفي لعدواته، والمترصد للمساوئ والتحريف والتزيد والبهت، وكل جدل وَقع فِيهِ ظلم الْخصم اخْتَلَّ فَيَنْبَغِي أَن يحْتَرز مِنْهُ، وَعَلَيْك [بِالصبرِ] والحلم، وَلَا تنقص بالحلم إِلَّا عِنْد الْجَاهِل، وَلَا بِالصبرِ / على الشغب للمسائل إِلَّا عِنْد غبي وترتفع عِنْد الْعلمَاء، وتنبل عِنْد أهل الجدل، وَمن خَاضَ فِي الشغب تعوده، وَمن تعوده حرم الْإِصَابَة، واستروح إِلَيْهِ، وَمن عرف بِهِ سقط سُقُوط الذّرة، وَمن عرف لرئيس فَضله، وَغفر زلَّة نَظِير، وَرفع نَفسه عَن دني مُسلم من الْغَضَب، وفاز بالظفر، وَلَا رَأْي لغضبان، مَعَ هَذَا لَا يسلم أحد من الِانْقِطَاع إِلَّا من عصمه اللَّهِ، وَلَيْسَ حد الْعَالم كَونه حاذقا بالجدل، فَإِنَّهُ صناعَة، وَالْعلم صناعَة، وَهُوَ مَادَّة الجدل، والمجادل يحْتَاج إِلَى الْعَالم وَلَا عكس، وَيَنْبَغِي أَن يحْتَرز فِي كل جدل من حِيلَة الْخصم. وآداب الجدل يزين صَاحبه، وَتَركه يشينه، وَلَا يَنْبَغِي أَن ينظر لما اتّفق لبَعض من تَركه من الحظوة فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ إِن كَانَ رفيعا عِنْد الْجُهَّال فَهُوَ سَاقِط عِنْد ذَوي الْأَلْبَاب، وَلَا تغتر بخطأ الْخصم فِي مَذْهَب، فَإِنَّهُ لَا يدل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3719 على الْخَطَأ فِي غَيره، وَإِن صد عَن الجدل آفَة كتقبيحه، وَعدم النَّفْع، والتقليد، والإلف وَالْعَادَة، ومحبته الرِّئَاسَة، والميل إِلَى الدُّنْيَا، والمفاخرة - أزالها. وَيجب لكل مِنْهُمَا الْإِجْمَال فِي خطابه، وإقباله عَلَيْهِ، وتأمله لما يَأْتِي بِهِ، وَترك قطع كَلَامه، والصياح فِي وَجهه، والضجر عَلَيْهِ، والإخراج لَهُ عَمَّا عَلَيْهِ، والاستصغار لَهُ، وَإِذا نفرت النُّفُوس، عميت الْقُلُوب، وخمدت الخواطر، وانسدت أَبْوَاب الْفَوَائِد، [ورياضة] الأدون وَاجِبَة على الْعلمَاء، وَتَركه سدى مضرَّة لَهُ، فَإِن عود لترك مَا يسْتَحقّهُ الْأَعْلَى أخلد إِلَى خطابه، وَلم يزعه عَن الْغَلَط وازع، ومقام التَّعْلِيم والتأدب تَارَة بالعنف، وَتارَة باللطف) . هَذَا الْكَلَام لخصه ابْن مُفْلِح من كَلَام ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، ولخصته من كَلَام ابْن مُفْلِح، وَلَا بَأْس بِذكر كَلَام ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، فَإِنَّهُ مطول وَفِيه فَوَائِد وَمَعَان كَثِيرَة. فقد قَالَ: فصل: " قَالَ الْعلمَاء: احذر الْكَلَام فِي مجَالِس الْخَوْف، فَإِن الْخَوْف يذهل الْعقل الَّذِي مِنْهُ يستمد المناظر حجَّته، ويستقي مِنْهُ الرَّأْي فِي دفع شُبُهَات الْخصم، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3720 وَإِنَّمَا يذهله ويشغله بِطَلَبِهِ حراسة نَفسه، / الَّتِي هِيَ أهم من مذْهبه، وَدَلِيل مذْهبه، فاجتنب مكالمة من تخَاف، فَإِنَّهَا مميتة للخواطر، مانعه من التثبيت. وَاحْذَرْ كَلَام من اشْتَدَّ بغضك إِيَّاه، فَإِنَّهَا دَاعِيَة إِلَى الضجر، وَالْغَضَب من قلَّة مَا يكون مِنْهُ، والضجر وَالْغَضَب مضيق للصدر، ومضعف لقوى الْعقل. وَاحْذَرْ المحافل الَّتِي لَا إنصاف فِيهَا فِي التَّسْوِيَة بَيْنك وَبَين خصمك فِي الإقبال وَالِاسْتِمَاع، وَلَا أدب لَهُم يمنعهُم من [التسرع] إِلَى الحكم عَلَيْك، وَمن إِظْهَار العصبية لخصمك. والاعتراض يخلق الْكَلَام، وَيذْهب بهجة الْمعَانِي بِمَا يلجأ إِلَيْهِ من كَثْرَة الترداد، وَمن ترك الترداد مَعَ الِاعْتِرَاض، انْقَطع كَلَامه وَبَطلَت مَعَانِيه. وَاحْذَرْ استصغار خصمك، فَإِنَّهُ يمْنَع من التحفظ، ويثبط عَن المغالبة، وَلَعَلَّ الْكَلَام يَحْكِي فيعتد عَلَيْك بالتقصير. وَاحْذَرْ كَلَام من لَا يفهم عَنْك؛ لِأَنَّهُ يضجرك ويغضبك، إِلَّا أَن يكون لَهُ غريزة صَحِيحَة، وَيكون الَّذِي بطأ بِهِ عَن الْفَهم فقد الاعتياد، فَهَذَا خَلِيل مسترشد تعلمه، وَلَيْسَ بخصم فتجادله، وتنازعه. وَقدر فِي نَفسك الصَّبْر والحلم؛ لِئَلَّا تستفزك بغتات الإغضاب، فَلَو لم يكن فِي الْحلم خَاصَّة لَهَا تجتلب، لكَانَتْ مَعُونَة على المناظرة توجب إِضَافَته إِلَيْهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3721 وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ يسلم أحد من الِانْقِطَاع إِلَّا من قرنه اللَّهِ تَعَالَى بالعصمة من الزلل، وَلَيْسَ حد الْعَالم: أَن يكون حاذقا بالجدل، فالعلم صناعَة، والجدل صناعَة، إِلَّا أَن الْعلم مَادَّة الجدل، والمجادل يحْتَاج إِلَى الْعلم، والعالم لَا يحْتَاج فِي علمه إِلَى المجادل، كَمَا يحْتَاج المجادل فِي جدله إِلَى الْعَالم وَلَيْسَ حد الجدل بالمجادلة: أَن يَنْقَطِع المجادل أبدا، وَلَا يكون مِنْهُ انْقِطَاع كثير إِذا كثرت مجادلته، وَلَكِن المجادل: من كَانَ طَرِيقه فِي الجدل مَحْمُودًا، وَإِن ناله الِانْقِطَاع لبَعض الْآفَات الَّتِي تعرف ". ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك: " فصل: فِيمَا يجب على الْخَصْمَيْنِ فِي الجدل. اعْلَم / أَنه يجب لكل وَاحِد على صَاحبه مثل الَّذِي يجب للْآخر عَلَيْهِ، من الْإِجْمَال فِي خطابه، وَترك التقطيع لكَلَامه، والإقبال عَلَيْهِ، وَترك الصياح فِي وَجهه، والتأمل لما يَأْتِي بِهِ، والتجنب للحدة والضجر عَلَيْهِ، وَترك الْحمل لَهُ على جحد الضَّرُورَة، إِلَّا من حَيْثُ يلْزمه ذَلِك بمذهبه وَترك الْإِخْرَاج لَهُ عَن الْحَد الَّذِي يَنْبَغِي أَن يكون عَلَيْهِ فِي السُّؤَال أَو الْجَواب، وَترك الاستصغار لَهُ، والاحتقار لما يَأْتِي بِهِ، إِلَّا من حَيْثُ يلْزمه الْحجَّة إِيَّاه، والتنبه لَهُ عَن ذَلِك إِن بدر عَنهُ، أَو مناقضة إِن ظَهرت فِي كَلَامه، وَأَن لَا يمانعه الْعبارَة إِذا أدَّت الْمَعْنى، وَكَانَ الْغَرَض إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَعْنى دون الْعبارَة، وَأَن لَا يخرج فِي عِبَارَته عَن الْعَادة، وَأَن لَا يدْخل فِي كَلَامه مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَلَا يسْتَعْمل مَا يَقْتَضِي التَّعَدِّي على خَصمه، والتعدي: خُرُوجه عَمَّا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3722 يَقْتَضِيهِ السُّؤَال وَالْجَوَاب، وَلَا يمنعهُ الْبناء على أَمْثِلَة، وَلَا يشنع مَا لَيْسَ بشنيع فِي مذْهبه، أَو يعود عَلَيْهِ من الشناعة مثله، وَلَا يَأْخُذ على شرف الْمجْلس للاستظهار عَلَيْهِ، وَلَا يسْتَعْمل الْإِيهَام بِمَا يخرج عَن حد الْكَلَام ". ثمَّ قَالَ: " فصل: فِي الْغَضَب الَّذِي يعتري فِي الجدل. اعْلَم أَنه أَدخل المجادل على توطين النَّفس على الْحلم عَن بادرة إِن كَانَت من الْخصم سلم من سُورَة الْغَضَب وَاعْلَم أَن تِلْكَ البادرة لَا تَخْلُو: إِمَّا أَن تكون من رَئِيس تعرف لَهُ فَضِيلَة أَو نَظِير لَهُ زللة، أَو وضيع ترفع النَّفس عَن مشاغبته ومقابلته فَإِذا عرفت ذَلِك وطنت النَّفس عَلَيْهِ سلمت من سُورَة الْغَضَب اعْلَم أَن الْغَضَب ظفر الْخصم إِذا كَانَ سَفِيها، وَالْغَالِب فِي السَّفه هُوَ الأسفه، كَمَا أَن الْغَالِب فِي الْعلم هُوَ الأعلم وَلَو لم يكن من شُؤْم الْغَضَب إِلَّا أَنه عزل بِهِ عَن الْقَضَاء فَقَالَ الشَّارِع عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا يقْضِي القَاضِي حِين يقْضِي وَهُوَ / غَضْبَان ". وكما أَن القَاضِي يحْتَاج إِلَى صحو من سكر الْغَضَب، يحْتَاج المناظر إِلَى ذَلِك؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاء فِي الِاحْتِيَاج إِلَى الِاجْتِهَاد، وأداة الِاجْتِهَاد الْعقل، وَلَا رَأْي لغضبان، فَيَعُود الوبال عَلَيْهِ عِنْد الْغَضَب بإرتاج طرق النّظر فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3723 وَجهه، وضلال رَأْيه عَن قَصده، فَمن أولى الْأَشْيَاء التحفظ من الْغَضَب فِي النّظر والجدل لما فِيهِ من الْعَيْب؛ وَلِأَنَّهُ يقطع عَن اسْتِيفَاء الْحجَّة وَالْبَيَان عَن حل الشُّبْهَة، وَلَا يقطع عَلَيْهِ كَلَامه فَإِنَّهُ مَانع من الْفَهم ". ثمَّ قَالَ: " فصل: اعْلَم أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يتَكَلَّم فِي الجدل بِحَضْرَة من دأبه التلهي والهزوء والتشفي، ولعداوة بَينه وَبَين الْخصم، وَلَا إِذا كَانَ متحفظا للمساوئ مترصدا لَهَا، والتحريف لِلْقَوْلِ والتزيد فِيهِ بِمَا يُفْسِدهُ، والمباهتة، فَإِن الْكَلَام مَعَ هَذَا تعرض للهجينة، وَالْخُرُوج عَن الطَّرِيقَة والديانة، والتعدي، واستطالة السَّفِيه، وانتصال الْعَالم، وزالت الْفَائِدَة، وَلم يحصل الْمَقْصُود ". ثمَّ قَالَ: " فصل: فِي تَرْتِيب الْخُصُوم فِي الجدل. اعْلَم أَنه لَا يَخْلُو الْخصم فِي الجدل من أَن يكون فِي طبقَة خَصمه، أَو أَعلَى، أَو أدون. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3724 فَإِن كَانَ فِي طبقته: كَانَ قَوْله لَهُ: الْحق فِي هَذَا كَذَا دون كَذَا، من قبل كَيْت وَكَيْت، وَلأَجل كَذَا، وعَلى الآخر: أَن يتحَرَّى لَهُ الموازنة فِي الْخطاب، فَذَلِك أسلم للقلوب، وَأبقى لشغلها عَن تَرْتِيب النّظر، فَإِن التطفيف فِي الْخطاب يعمي الْقلب عَن فهم السُّؤَال وَالْجَوَاب. وَإِن كَانَ أَعلَى: فليتحر، ويجتنب القَوْل لَهُ: هَذَا خطأ أَو غلط، وَلَيْسَ كَمَا تَقول، بل يكون قَوْله لَهُ: أَرَأَيْت إِن قَالَ قَائِل: يلْزم على مَا ذكرت كَذَا، إِن اعْترض على مَا ذكرت معترض بِكَذَا، فَإِن نفوس الْكِرَام الرؤساء المقدمين تأبى خشونة الْكَلَام، إِذْ لَا عَادَة لَهُم بذلك، وَإِذا نفرت النُّفُوس عميت الْقُلُوب، وخمدت الخواطر، وانسدت أَبْوَاب الْفَوَائِد، فَحرم / الْكل الْفَوَائِد بِسَفَه السَّفِيه، وتقصير الْجَاهِل فِي حُقُوق الصُّدُور، وَقد أدب اللَّهِ تَعَالَى أنبياءه للرؤساء من أعدائه، فَقَالَ لمُوسَى وَهَارُون فِي حق فِرْعَوْن: {فقولا لَهُ قولا لينًا} [طه: 44] . سَمِعت بعض المشاريخ فِي عُلُوم الْقُرْآن يَقُول: صفة هَذَا القَوْل اللين فِي قَوْله تَعَالَى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى (17) فَقل هَل لَك إِلَى أَن تزكّى} [النازعات: 17، 18] ، وَمَا ذَاك إِلَّا مُرَاعَاة لِقَلْبِهِ، حَتَّى لَا ينْصَرف بالْقَوْل الخشن عَن فهم الْخطاب، فَكيف برئيس تقدم فِي الْعلم، تطلب فَوَائده، ويرجى الْخَيْر فِي إِيرَاده، وَمَا تسنح لَهُ خواطره؟ فأحرى بِنَا أَن نذلل لَهُ الْعبارَة، ونوطئ لَهُ جَانب الْجِدَال لتنهال فَوَائده انهيالا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3725 وَفِي الْجُمْلَة وَالتَّفْصِيل: الْأَدَب معيار الْعُقُول، ومعاملة الْكِرَام، وَسُوء الْأَدَب مقطعَة للخير، ومدمغة للجاهل، فَلَا تتأخر إهانته، وَلَو لم يكن إِلَّا هجرانه وحرمانه. وَأما الأدون: فيكلم بِكَلَام اللطف والتفهيم، إِلَّا أَنه يجوز أَن يُقَال لَهُ إِذا أَتَى بالْخَطَأ: هَذَا خطأ، وَهَذَا غلط من قبل كَذَا، ليذوق مرَارَة سلوك الْخَطَأ فيجتنبه، وحلاوة الصَّوَاب فيتبعه، ورياضة هَذَا وَاجِبَة على الْعلمَاء، وَتَركه سدى مضرَّة لَهُ، فَإِن عود الْإِكْرَام الَّذِي يسْتَحقّهُ الْأَعْلَى طبقَة، أخلد إِلَى خطئه، وَلم يزعه عَن الْغَلَط وازع، ومقام التَّعْلِيم والتأديب تَارَة بالعنف، وَتارَة باللطف، وسلوك أَحدهمَا يفوت فَائِدَة الآخر، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأما السَّائِل فَلَا تنهر} [الضُّحَى: 10] ، وَقيل فِي التَّفْسِير: إِنَّه السَّائِل فِي الْعُلُوم دون سُؤال المَال، وَقيل: هُوَ عَام فيهمَا ". وَكَانَ قَالَ قبل ذَلِك: فصل: إِذا كَانَ أحد الْخَصْمَيْنِ فِي الْجِدَال أحسن عبارَة، وَالْآخر مقصرا عَنهُ فِي [البلاغة]- فَرُبمَا أَدخل ذَلِك الضيم على الْمعَانِي الصَّحِيحَة. وَالتَّدْبِير فِي ذَلِك: أَن يقْصد إِلَى الْمَعْنى الَّذِي قد رتبه صَاحبه بعبارته عَنهُ، فيعبر عَنهُ بِعِبَارَة أُخْرَى تدل عَلَيْهِ، من غير تَزْيِين لَهُ، فَإِنَّهُ يظْهر فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3726 نَفسه، وَيبين / العوار الَّذِي فِيهِ، وينكشف عِنْد الْحَاضِرين التمويه الَّذِي وَقع بِهِ. وَكَذَلِكَ إِذا أردْت أَن تمتحن معنى قد أَتَى بِهِ بليغ، فانقله إِلَى غير تِلْكَ الْعبارَة، ثمَّ تَأمله فَإِن كَانَ حسنا فِي نَفسه، فَإِنَّهُ لَا يبطل حسنه نَقله عَن عبارَة إِلَى عبارَة، كَمَا لَا يبطل حسنه نَقله من الفارسية إِلَى الْعَرَبيَّة. وَإِذا كَانَت عبارَة السَّائِل أَو الْمُسْتَدلّ [تقصره] عَن تَحْقِيق الْحجَّة و [الشُّبْهَة] ، وَكَانَ خَصمه قَادِرًا على إخْرَاجهَا إِلَى عبارَة تنكشف بهَا قُوَّة كَلَامه، فَيَنْبَغِي أَن يُخرجهَا بعبارته إِلَى الْإِيضَاح، فَإِن اتَّضَح فِيهَا الْحق اتبعهُ، وَإِن كَانَ شُبْهَة بعد إيضاحها زيفه وأبطله. وَإِذا كَانَ أحد الْخَصْمَيْنِ فِي الجدل قد [أَخطَأ] فِي بعض الْمذَاهب، فاحذر الاغترار بذلك، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي خطئه فِي مَذْهَب دَلِيل على أَنه قد أَخطَأ فِي مَذْهَب آخر، فَلَا تلْتَفت إِلَى التمويه، بِأَن بعض مَذَاهِب فلَان تتَعَلَّق بِبَعْض، فَإِن فسد وَاحِد مِنْهَا فسد جَمِيعهَا، فَإِن ذَلِك يحملك على التخطئة بِغَيْر بَصِيرَة لمن لَعَلَّه أَن يكون مصيبا فِيمَا أَتَى بِهِ، فَاعْتبر ذَلِك، وَلَا تتكل على مثل هَذَا الْمَعْنى، وَلَكِن إِذا كثر خَطؤُهُ أوجبت ذَلِك تُهْمَة لمذهبه، وَقلة سُكُون إِلَى اخْتِيَاره، من غير أَن يحصل ذَلِك دَلِيلا على فَسَاده لَا محَالة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3727 وَإِذا كَانَ الْخصم مَعْرُوفا بالمجون فِي الجدل، وَقلة الاكتراث بِمَا يَقُول وَمَا يُقَال لَهُ، لَيْسَ غَرَضه إِقَامَة حجَّة، وَلَا بَصِيرَة ديانَة، وَإِنَّمَا يُرِيد الْمُطَالبَة والمباهاة، وَأَن يُقَال: علا قرنه، وَغلب خَصمه، أَو قطع خَصمه، فَيَنْبَغِي أَن تجتنب وتحذر مكالمته، فَلَيْسَ يحصل بمناظرته دين وَلَا دينا، وَرُبمَا ورد على خَصمه مَا يخجله وَلَا يستحسن مكافأته عَلَيْهِ فَيَنْقَطِع فِي يَدَيْهِ، فَيكون فِي انْقِطَاعه فتْنَة لمن حَضَره. وَإِذا كَانَ الْغَرَض بالجدل إِدْرَاك الْحق بِهِ، وَكَانَ السَّبِيل إِلَى ذَلِك التثبت والتأمل، وَجب على كل وَاحِد من الْخَصْمَيْنِ / استعمالهما، وَإِلَّا حصلا على مُجَرّد الطّلب مَعَ [حرمَان] الظفر، وحاجة كل وَاحِد من الْخَصْمَيْنِ إِلَى التنبه عَن مَا يَأْتِي بِهِ صَاحبه كحاجة الآخر إِلَى ذَلِك ". ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك: وَإِذا كَانَ الصَّبْر على شغب الْمسَائِل فِي الجدل فَضِيلَة، والحلم عَن بادرة إِن كَانَت مِنْهُ رفْعَة - فَيَنْبَغِي لمن أحب اكْتِسَاب الْفَضَائِل أَن يسْتَعْمل ذَلِك بِحَسب علمه بِمَا لَهُ فِيهِ من الْحَظ الجزيل وَالْمحل الْجَلِيل، وَلَيْسَ ينقصهُ الْحلم إِلَّا عِنْد جَاهِل، وَلَا يضيع مِنْهُ الصَّبْر على شغب الْمسَائِل، إِلَّا عِنْد غبي يعْتَقد أَن ذَلِك من الذل والركاكة وقصور اللِّسَان فِي الشغب هُوَ الْفضل، فَإِن من خَاضَ تعوده، وَمن تعوده حرم الْإِصَابَة واستروح إِلَيْهِ، وَمن عرف بذلك سقط سُقُوط الذّرة، وَمن صَبر على ذَلِك وحلم عَنهُ ارْتَفع فِي نفوس الْعلمَاء، ونبل عِنْد أهل الجدل، وَبَانَتْ مِنْهُ الْقُوَّة على نَفسه، حَيْثُ منعهَا الْمُقَابلَة على الْجفَاء بِمثلِهِ وَالْقُوَّة على خَصمه، أحوجه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3728 إِلَى الشغب، لَا سِيمَا إِذا ظهر مِنْهُ أَنه فعل ذَلِك حرصا على الْإِرْشَاد إِلَى الْحق، ومحبة للاستنقاذ من الْبَاطِل الَّذِي أثارته الشُّبْهَة من الضلال الْمُؤَدِّي بِصَاحِبِهِ إِلَى العطب والهلاك، فَلهُ بِهَذِهِ النِّيَّة الجميلة الثَّوَاب من ربه، والمدحة من كل منصف حَضَره أَو سمع بِهِ. وَإِذا كَانَ الْمجْلس مجْلِس عصبية على أحد الْخَصْمَيْنِ بالتخليط عَلَيْهِ، وَقل فِيهِ التَّمْكِين من الْإِنْصَاف، فَيَنْبَغِي أَن يحذر من الْكَلَام فِيهِ، فَإِنَّمَا ذَلِك إثارة للطباع وجلب للأفحاش، ويفضي إِلَى انْقِطَاع الْقوي الْمنصف بِمَا يتداخله من الْغَضَب وَالْغَم الْمَانِع لَهُ من صِحَة النّظر، والصادين لَهُ عَن طَرِيق الْعلم، وكل صناعَة فَإِن الْعلم بهَا غير الجدل فِيهَا. وَذَلِكَ أَن الْعلم بهَا هُوَ الْمعرفَة بِجَوَاب مسَائِل الْفتيا فِيهَا الَّتِي ترد إِلَى المصادرة لَهَا. فَأَما الجدل فَإِنَّمَا هُوَ الْحجَّاج فِي مسَائِل الْخلاف مِنْهَا. / فالعلم صناعَة، والجدل صناعَة، إِلَّا أَن الْعلم مَادَّة الجدل؛ لِأَن الجدل بِغَيْر علم بِالْحجَّةِ والشبهة فَإِنَّمَا هُوَ شغب، وَإِنَّمَا الِاعْتِمَاد فِي الجدل على إِقَامَة الْحجَّة، أَو حل الشُّبْهَة فِيمَا وَقعت فِيهِ مُخَالفَة. وَإِذا كَانَ الجدل قد صد عَنهُ آفَة عرضت لبَعض من هُوَ مُحْتَاج إِلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَن يعْمل فِي إِزَالَة تِلْكَ الآفة ليرتفع الصَّاد عَنهُ، وَيظْهر للنَّفس الْحَاجة إِلَيْهِ وَمِقْدَار الْمَنْفَعَة بِهِ. فَمن الْآفَات فِيهِ: الشُّبْهَة الدَّاخِلَة على النَّفس فِي تقبيحه، أَو أَنه [لَا] يُؤَدِّي إِلَى حق، وَلَا يحصل بِهِ نفع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3729 وَمِنْهَا: التَّقْلِيد، والإلف وَالْعَادَة، وَالنَّظَر فِيمَا عَلَيْهِ الأسلاف، أَو الْآبَاء، أَو الأجداد. وَمِنْهَا: الْمحبَّة للرئاسة، والميل إِلَى الدُّنْيَا، والمفاخرة والمباهاة بهَا، والتشاغل بِمَا فِيهِ اللَّذَّة، وَمَا يَدْعُو إِلَى الشَّهْوَة، دون ماتوجبه الْحجَّة، وَيَقْضِي بِهِ الْعقل والمعرفة. فعلى نَحْو هَذَا من الْأَسْبَاب تكون الآفة الصارفة عَنهُ والموجبة لَهُ. وَيَنْبَغِي لمن عرف هَذِه الْآفَات أَن يجْتَهد فِي نَفيهَا وَمَا شاكلها، ويتحرز مِنْهَا وَمن أَمْثَالهَا، فَإِن الْمضرَّة بهَا عَظِيمَة، فَمن عرفهَا وتحرز مِنْهَا بصر رشده، وَأمن الزيغ. نسْأَل اللَّهِ أَن يوفقنا للصَّوَاب من القَوْل وَالْعَمَل برحمته " انْتهى. قَوْله: (وانتقال السَّائِل انْقِطَاع عِنْد الْأَكْثَر، وَخَالف الشَّيْخ والشاشي، وَقَالَ: لَو قَالَ: ظننته لَازِما فمكنوني من سُؤال آخر فخلاف، قَالَ: وَالأَصَح يُمكن من أدنى وَمن أَعلَى، قَولَانِ) . " اعْلَم أَن [الِانْقِطَاع] على أَرْبَعَة أضْرب. أَحدهَا: السُّكُوت للعجز. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3730 الثَّانِي: جحد الضرورات، وَدفع المشاهدات، والمكابرة، والبهت. وَالدَّلِيل على أَن هَذَا من الِانْقِطَاع أَن الْمُجيب إِنَّمَا يَبْنِي جَوَابه على تَصْحِيح الْمُشَاهدَة والاستشهاد [بالمعقول] ، وَهَذَا هُوَ الْمَفْهُوم عِنْد إجَابَته، فَإِذا لم يجد فِي الْعُقُول والضرورات شَيْئا يُحَقّق / بِهِ مذْهبه وَيتم بِهِ جَوَابه، فقد عجز عَمَّا ضمنه على نَفسه بِخُرُوجِهِ عَن الْمَعْقُول والضرورات إِلَى المكابرة والبهت، وَإِنَّمَا تَمام الشَّرْط أَن يكون مادته من هذَيْن الْمَوْضِعَيْنِ، أَعنِي: الْعقل والضرورة، دون مَا صَار إِلَيْهِ، وَهَذَا الضَّرْب شَرّ من الأول، أَعنِي: السُّكُوت؛ لِأَن أحسن الْأُمُور إِذا لم يجد حَقًا يتَكَلَّم بِهِ أَن يمسك عَن الْبَاطِل، وأقبح مَا ينْطق بِهِ من الْبَاطِل بهت الْعُقُول والطبائع والحواس ومكابرتها. الضَّرْب الثَّالِث: المناقضة، وَهُوَ: أَن يَنْفِي بآخر كَلَامه مَا أثْبته بأوله، أَو يثبت بِآخِرهِ مَا نَفَاهُ فِي أَوله. وَالدَّلِيل على أَن هَذَا الضَّرْب انْقِطَاع أَيْضا: أَن الْمُجيب لما ابْتَدَأَ بالإثبات كَانَ قد ضمن على نَفسه تَحْقِيقه وَالدّلَالَة على صِحَّته، وَبنى سَائِر الْجَواب عَلَيْهِ، و [ملاءمة] مَا يُورِدهُ بعده لَهُ، فَإِذا نَفَاهُ فقد عجز عَن تَصْحِيح مَا ضمنه من ذَلِك على نَفسه، وافتقر إِلَى نقضه عِنْد الْإِيَاس من صِحَّته. وَصَاحب هَذَا الضَّرْب احسن حَالا من المباهت؛ لِأَن الرُّجُوع عَن الْبَاطِل عِنْد انكشافه أحسن من المكابرة، وَالرُّجُوع إِلَى الْحق حسن جميل، وَلَا عيب فِي الْعَجز عَن نصْرَة الْبَاطِل كَمَا لَا عيب فِي الرُّجُوع عَنهُ. وَالضَّرْب الرَّابِع: الِانْتِقَال عَن الاعتلال بِشَيْء إِلَى الاعتلال بِغَيْرِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3731 وَالدّلَالَة على أَن هَذَا الضَّرْب انْقِطَاع: أَن الْمُعَلل إِذا ابْتَدَأَ بعلة فقد ضمن على نَفسه تَصْحِيح مذْهبه بهَا وَمَا تفرع عَنْهَا. وَذَلِكَ أَنه لم يُعلل بهَا إِلَّا وَهِي عِنْده صَحِيحَة مصححة لما علل لَهُ، فَإِذا انْتقل عَنْهَا إِلَى غَيرهَا فقد عجز عَن الْوَفَاء بِمَا وعد، والإيفاء بِمَا ضمن، وافتقر إِلَى غَيرهَا لتَقْصِيره عَمَّا ظَنّه بهَا ". إِذا علم هَذَا فانتقال السَّائِل انْقِطَاع عِنْد أَكثر الْعلمَاء. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء. وَقدمه ابْن عقيل فِي " واضحه " وَغَيره. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين والشاشي من الشَّافِعِيَّة: لَيْسَ الِانْتِقَال بِانْقِطَاع. قَالَ الشَّاشِي: فَإِن قَالَ: ظننته لَازِما فمكنوني من سُؤال آخر، فِيهِ خلاف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3732 قَالَ: وَالأَصَح: يُمكن من أدنى، فَأَما من أَعلَى: كانتقاله من الْمُعَارضَة إِلَى الْمَنْع. فَقيل: لَا يُمكن؛ لتكذيبه لنَفسِهِ. وَقيل: يُمكن؛ لِأَن قَصده الاسترشاد. / قَالَ: وَترك المسؤول الدَّلِيل لعجز فهم السَّائِل لَيْسَ انْقِطَاعًا لقصة إِبْرَاهِيم. وَقيل: بلَى؛ لِأَنَّهُ [الْتزم تفهيمه] . قَالَ ابْن عقيل فِي " الْفُنُون ": لما قَابل نمْرُود قَول الْخَلِيل فِي الْحَيَاة الْحَقِيقَة بِالْحَيَاةِ المجازية، انْتقل إِلَى دَلِيل لَا يُمكنهُ يُقَابل الْحَقِيقَة فِيهِ بالمجاز. وَمن انْتقل من دَلِيل غامض إِلَى دَلِيل وَاضح، فَذَلِك طلب للْبَيَان، وَلَيْسَ انْقِطَاعًا. قَالَ فِي " الْوَاضِح ": " فَإِن قيل: فقد انْتقل إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من عِلّة إِلَى غَيرهَا، وَكَانَ فِي مقَام المحاجة، كَمَا أخبر اللَّهِ تَعَالَى عَنهُ، وَبِهَذَا تعلق من رأى أَن الِانْتِقَال من دَلِيل إِلَى غَيره لَيْسَ بِانْقِطَاع، وَلَا خُرُوج عَن مُقْتَضى الْجِدَال وَالْحجاج. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3733 قيل: لم يكن انْتِقَاله للعجز؛ لِأَنَّهُ قد كَانَ يقدر أَن يُحَقّق مَعَ نمْرُود حَقِيقَة الْإِحْيَاء الَّذِي أَرَادَهُ، وَهُوَ إِعَادَة الرّوح إِلَى جَسَد الْمَيِّت، أَو إنْشَاء حَيّ من الْأَمْوَات، وَأَن الإماتة الَّتِي أرادها هِيَ إزهاق النَّفس من غير ممارسة بِآلَة وَلَا مُبَاشرَة، وَيَقُول لَهُ: إِذا فعلت ذَلِك كنت محيياً مميتاً، أَو أفعل ذَلِك إِن كنت صَادِقا، ومعاذ الله أَن يظنّ ذَلِك بذلك الْكَرِيم، وَمَا عدل عَمَّا ابْتَدَأَ بِهِ إِلَى غَيره عَجزا عَن استتمام النُّصْرَة، لكنه لما رأى نمْرُود غبيا أَو متغابيا بِمَا كشفه عَن نَفسه من الْإِحْيَاء، وَهُوَ الْعَفو عَن مُسْتَحقّ الْقَتْل، والإماتة وَهِي الْقَتْل الَّذِي [يُسَاوِيه فِيهِ] كل أهل مَمْلَكَته وأصاغر رَعيته؛ انْتقل إِلَى الدَّلِيل الأوضح فِي بَاب تعجيزه عَن دَعْوَاهُ فِيهِ الْمُشَاركَة لبادئه، بِحكم مَا رأى من الْحَال، فَلم يُوجد فِي حَقه الْعَجز عَن إتْمَام مَا بدا بِهِ بِخِلَاف مَا نَحن فِيهِ ". انْتهى. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: رأى ضعف فهمه لمعارضته اللَّفْظ بِمثلِهِ، مَعَ اخْتِلَاف الْفِعْلَيْنِ، فانتقل إِلَى حجَّة أُخْرَى قصدا لقطعه لَا عَجزا. قَالَ الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره ": " انْتِقَال إِبْرَاهِيم إِلَى حجَّة أُخْرَى لَيْسَ عَجزا؛ لِأَن حجَّته كَانَت لَازِمَة، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْإِحْيَاءِ: إحْيَاء الْمَيِّت، فَكَانَ لَهُ أَن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3734 يَقُول: فأحي من أمت إِن كنت صَادِقا، فانتقل إِلَى حجَّة أوضح من الأولى " انْتهى. / قَالَ أَبُو حَيَّان فِي " النَّهر ": " لما رأى إِبْرَاهِيم مغالطة الْكَافِر، وادعاءه مَا يُوهم أَنه إِلَه، ذكر لَهُ مَا لَا يُمكن أَن يغالط فِيهِ وَلَا أَن يَدعِيهِ، وَقد كَانَ لإِبْرَاهِيم أَن ينازعه فِيمَا ادَّعَاهُ، وَلكنه أَرَادَ قطع تشغيبه عَن قرب، وَأَن لَا يُطِيل مَعَه الْكَلَام، إِذْ شَاهد مِنْهُ مَا لَا يُمكن أَن يَدعِيهِ عَاقل " انْتهى. قَالَ الْبَيْضَاوِيّ فِي " تَفْسِيره ": " أعرض إِبْرَاهِيم عَن الِاعْتِرَاض على معارضته الْفَاسِدَة إِلَى الِاحْتِجَاج بِمَا لَا يقدر فِيهِ على نَحْو هَذَا التمويه دفعا للمشاغبة، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة عدُول عَن مِثَال خَفِي إِلَى مِثَال جلي من مقدوراته الَّتِي يعجز عَن الْإِتْيَان بهَا غَيره، لَا عَن حجَّة إِلَى أُخْرَى، وَلَعَلَّ نمْرُود [زعم] أَنه يقدر، أَن يفعل كل جنس يَفْعَله اللَّهِ فنقيضه إِبْرَاهِيم بذلك " انْتهى. قَالَ ابْن التلمساني: قد يُسْتَفَاد بِالْفَرْضِ تضييق مجاري الا عتراض على الْخصم، وَهُوَ من مَقْصُود الجدل، ووضوح التَّقْدِير. وَلِهَذَا الْمَعْنى عدل الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي تَقْرِير الِاسْتِدْلَال على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3735 نمْرُود بالأثر على الْمُؤثر، إِلَى الأوضح عِنْده انْتهى. وَتقدم ذَلِك بِلَفْظِهِ فِي آخر عدم التَّأْثِير فِي الْفَرْض. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين - بعد كَلَام الشَّاشِي، وَابْن عقيل، وَابْن الْجَوْزِيّ -: " حَاصله: أَنه يجوز الِانْتِقَال لمصْلحَة، وَلَيْسَ انْقِطَاعًا ". قَالَ ابْن عقيل: الِانْتِقَال عَن السُّؤَال هُوَ الْخُرُوج عَمَّا يُوجِبهُ أَوله من مُلَازمَة السّنَن فِيهِ، مثل قَوْله: هَل الْخمر مَال لأهل الذِّمَّة؟ فَيَقُول: نعم. فَيَقُول: وَمَا حد المَال؟ فَهَذَا انْتِقَال، فَإِن أَجَابَهُ عَن ذَلِك خرج مَعَه - أَيْضا -، وَهَذَا كثير يتم بَين المخلين بآداب الجدل انْتهى. تمّ بِحَمْد اللَّهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3736 (بَاب الِاسْتِدْلَال) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3737 فارغة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3738 (قَوْله: {بَاب الِاسْتِدْلَال} ) {لُغَة: طلب الدَّلِيل} . لما كَانَ طلب الِاسْتِدْلَال من جملَة الطّرق المفيدة للْأَحْكَام، ذَكرْنَاهُ بعد الْفَرَاغ من الْأَدِلَّة الْأَرْبَعَة وَهِي: الْكتاب، وَالسّنة، وَالْإِجْمَاع، وَالْقِيَاس. وَالِاسْتِدْلَال فِي اللُّغَة: طلب الدَّلِيل. وَفِي الِاصْطِلَاح: يُطلق على معنى عَام وَهُوَ ذكر الدَّلِيل نصا كَانَ، أَو إِجْمَاعًا، أَو قِيَاسا، أَو غَيره، وَيُطلق على معنى خَاص، وَهُوَ الْمَقْصُود هُنَا. وَعقد هَذَا الْبَاب للأدلة الْمُخْتَلف فِيهَا، وَإِنَّمَا عبر عَنْهَا بالاستدلال؛ لِأَن كل مَا ذكر فِيهِ إِنَّمَا قَالَه عَالم بطرِيق الِاسْتِدْلَال والاستنباط، وَلَيْسَ بِهِ دَلِيل قَطْعِيّ، وَلَا أَجمعُوا عَلَيْهِ. وتعريفه بِهَذَا الِاصْطِلَاح: إِقَامَة دَلِيل لَيْسَ بِنَصّ، وَلَا إِجْمَاع، وَلَا قِيَاس. أَي: شَرْعِي بِالْمَعْنَى الْخَاص الْمُتَقَدّم، فَإِن الْقيَاس الاقتراني والاستثنائي داخلان فِي هَذَا التَّعْرِيف كَمَا سَيَأْتِي، وَتقدم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3739 وَلَيْسَ فِي هَذَا التَّعْرِيف إفصاح عَن كل مَا دخل فِيهِ، وَإِنَّمَا ذكر ذَلِك إِجْمَالا، ويتبين الْأَمر فِيهِ بالتفصيل فَيدْخل فِي ذَلِك أُمُور: أَحدهَا: الْقيَاس الاقتراني، وَهُوَ قِيَاس مؤلف من قضيتين مَتى سلمتا لزم عَنْهُمَا لذاتهما قَول آخر، أَي: قَضِيَّة أُخْرَى نتيجة لَهما، كَقَوْلِنَا: الْعَالم متغير، وكل متغير حَادث، فَيلْزم مِنْهُ أَن الْعَالم حَادث، وكما يُقَال: هَذَا حكم دلّ عَلَيْهِ الْقيَاس، وكل مَا دلّ عَلَيْهِ الْقيَاس فَهُوَ حكم شَرْعِي، فَهَذَا حكم شَرْعِي، وكما يُقَال: مَا ذكرته معَارض بِالْإِجْمَاع، وكل معَارض بِالْإِجْمَاع بَاطِل، فَمَا ذكرته بَاطِل، وَقس على ذَلِك. الثَّانِي: الْقيَاس الاستثنائي يكون فِي الشرطيات، وَهُوَ مَا يذكر فِيهِ النتيجة أَو نقيضها. فَفِي المتصلات كَمَا يُقَال: إِن كَانَ هَذَا إنْسَانا فَهُوَ حَيَوَان، لكنه لَيْسَ بحيوان ينْتج أَنه لَيْسَ بِإِنْسَان، أَو أَنه إِنْسَان ينْتج أَنه حَيَوَان، فاستثناء عين الأول ينْتج عين الثَّانِي، واستثناء نقيض الثَّانِي ينْتج نقيض الْمُقدم، وَعين الثَّانِي لَا ينْتج عين الأول لاحْتِمَال كَونه عَاما، وَلَا يلْزم من إِثْبَات الْعَام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3740 إِثْبَات الْخَاص كَمَا فِي الْمِثَال الْمَذْكُور، فَإِن الْحَيَوَان لَا يسْتَلْزم وجود الْإِنْسَان، وَكَذَا نقيض الْإِنْسَان لَا يسْتَلْزم نقيض الْحَيَوَان لوُجُوده فِي الْفرس. وَفِي المنفصلات: الْعدَد إِمَّا زوج أَو فَرد، لكنه زوج ينْتج أَنه لَيْسَ بفرد، أَو فَرد ينْتج أَنه لَيْسَ بِزَوْج. مِثَاله فِي الشرعيات: الضَّب إِمَّا حَلَال أَو حرَام، لكنه حَلَال؛ لِأَنَّهُ " أكل على مائدته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "، فَلَيْسَ بِحرَام. مِثَال آخر: صيد الْمحرم إِمَّا حَلَال أَو حرَام، لكنه حرَام؛ لِأَنَّهُ نهي عَنهُ فَلَيْسَ بحلال. وَقد تقدم بَيَان ذَلِك فِي أَوَائِل الشَّرْح فَليُرَاجع، وَلِهَذَا تفاريع كَثِيرَة لَيست مَقْصُودَة تركناها خوف الإطالة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3741 الثَّالِث: الْعَكْس: وَهُوَ مَا يسْتَدلّ بِهِ على نقيض الْمَطْلُوب، ثمَّ يبطل فَيصح الْمَطْلُوب كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} [النِّسَاء: 82] ، فَإِنَّهُ اسْتدلَّ على حَقِيقَة القرين بِإِبْطَال نقيضه، وَهُوَ وجدان الِاخْتِلَاف فِيهِ فَتَأمل. قلت: قد تقدم قِيَاس الْعَكْس فِي أول الْقيَاس وَحده فليعاود. قَالَ الْمحلي: يدْخل فِيهِ قِيَاس الْعَكْس، وَهُوَ إِثْبَات عكس حكم شَيْء لمثله، لتعاكسهما فِي الْعلَّة كَمَا تقدم حَدِيث مُسلم: " أَيَأتِي أَحَدنَا شَهْوَته وَله فِيهَا أجر؟ قَالَ: أَرَأَيْتُم لَو وَضعهَا فِي حرَام أَكَانَ عَلَيْهِ وزر؟ " انْتهى. قَوْله: {وَقيل: وَلَا قِيَاس عِلّة، فعلى هَذَا القَوْل دخل نفي الْفَارِق، وَقِيَاس الدّلَالَة} . فَيكون نظم الْحَد: إِقَامَة دَلِيل لَيْسَ بِنَصّ، وَلَا إِجْمَاع، وَلَا قِيَاس عِلّة، فَيدْخل فِيهِ الْقيَاس بِنَفْي الْفَارِق، وَهُوَ الْقيَاس فِي معنى الأَصْل. مثل: أَن نقيس الْخَالَة على الْخَال لعدم الْفَارِق بَينهمَا لَا لوُجُود عِلّة، وَيدخل فِيهِ - أَيْضا - قِيَاس الدّلَالَة، وَهُوَ قِيَاس التلازم، ونعني بِهِ إِثْبَات أحد موجبي الْعلَّة بِالْآخرِ لتلازمهما، وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ قِيَاس الدّلَالَة، وهما غير داخلين فِي الْحَد الأول، فَالْأول أخص. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3742 قَوْله: {أما نَحْو: وجد السَّبَب فَثَبت الحكم، وَوجد الْمَانِع أَو فَاتَ الشَّرْط فَانْتفى الحكم، فالأكثر على أَنه دَعْوَى دَلِيل، وَابْن حمدَان: دَلِيل واستدلال - أَيْضا -، وَقيل: إِن أثبت بِغَيْر الثَّلَاثَة} . إِذا اقْتصر على إِحْدَى المقدمتين، اعْتِمَادًا على شهرة الْأُخْرَى، كَقَوْلِنَا: وجد الْمُقْتَضِي، أَي: السَّبَب فيوجد الحكم، أَو وجد الْمَانِع فَيَنْتَفِي الحكم، أَو فقد الشَّرْط فَيَنْتَفِي - أَيْضا -، فَإِنَّهُ ينْتج مَعَ مُقَدّمَة أُخْرَى مقدرَة، وَهِي قَوْلنَا: وكل سَبَب إِذا وجد وجد الحكم، فَلم تذكر لظهورها، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} [الْأَنْبِيَاء: 22] ، فَإِن حُصُول النتيجة مِنْهُ يتَوَقَّف على مُقَدّمَة أُخْرَى ظَاهِرَة وَهِي: وَمَا فسدتا. وَقد اخْتلف فِي هَذَا: فالأكثر على أَنه لَيْسَ بِدَلِيل، وَإِنَّمَا قطع دَعْوَى دَلِيل، فَإنَّا إِذا قُلْنَا: وجد الْمُقْتَضِي، مَعْنَاهُ الدَّلِيل، وَلم يقم على وجوده دَلِيل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3743 وَاخْتَارَ [ابْن حمدَان] وَغَيره: أَنه دَلِيل فَإِنَّهُ يلْزم من ثُبُوته ثُبُوت الْمَطْلُوب. ثمَّ اخْتلف الْقَائِلُونَ بِهَذَا القَوْل، وَهُوَ أَنه دَلِيل. فَقَالَ ابْن حمدَان وَغَيره: هُوَ اسْتِدْلَال لدُخُوله فِي تَعْرِيف الِاسْتِدْلَال؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَصّ، وَلَا إِجْمَاع، وَلَا قِيَاس، فالحد منطبق عَلَيْهِ. وَقيل: اسْتِدْلَال إِن ثَبت وجود السَّبَب أَو الْمَانِع، أَو فقد الشَّرْط، يَعْنِي النَّص، وَالْإِجْمَاع، وَالْقِيَاس، وَإِلَّا فَهُوَ من قبيل مَا ثَبت بِهِ. قَالَ الكوراني: " هَذَا مُخْتَار الْمُحَقِّقين؛ لِأَنَّهُ يَقُول: هَذَا حكم وجد سَببه، وكل مَا وجد سَببه فَهُوَ مَوْجُود، فكبرى الْقيَاس، وَهُوَ قَوْلنَا: كل مَا وجد سَببه فَهُوَ مَوْجُود قَطْعِيَّة لَا يُخَالف فِيهَا أحد " وَأطَال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3744 قَوْله: {وَقيل: هُوَ الْقيَاس الاقتراني، والاستثنائي، وَنفي الحكم لنفي مدركه، وَوُجُود الْمَانِع، أَو فَوَات الشَّرْط، أَو ثَبت الحكم لوُجُود السَّبَب. اخْتَارَهُ ابْن حمدَان، وَغَيره، وَالْفَخْر، وَزَاد: التلازم بَين حكمين بِلَا تعْيين عِلّة، والاستصحاب، وَقَول الْقَائِل: لَا فَارق بَين مَحل النزاع وَالْإِجْمَاع إِلَّا هَذَا، وَلَا أثر لَهُ، وَالْأَصْل فِي الْمَنَافِع الْإِذْن، وَفِي المضار الْمَنْع شرعا لَا عقلا} . هَذَانِ قَولَانِ - أَيْضا - فِي الِاسْتِدْلَال مَا هُوَ، وَقد تقدم الْقيَاس الاقتراني والاستثنائي فَذكر فِي هذَيْن الْقَوْلَيْنِ أَن: الِاسْتِدْلَال هُوَ الْقيَاس بنوعيه، وَمِنْه نفي الحكم لنفي مدركه. وَتَقْرِيره: أَن الحكم الشَّرْعِيّ لَا يُمكن ثُبُوته من غير دَلِيل، إِذْ لَو ثَبت من غير دَلِيل لزم الْمحَال، وَهُوَ وُقُوع تَكْلِيف [مَا لَا يُطَاق] ، لِأَن ذَلِك الحكم لَا بُد وَأَن يكون مُتَعَلقا بِأَفْعَال الْمُكَلّفين، وَقد فرض أَنه لَا دَلِيل لَهُ يعرفهُ، وَلَا معنى للمحال إِلَّا مَا لَا يُمكن تعلق قدرَة العَبْد بِهِ عَادَة، وَلَو كَانَ لَهُ دَلِيل لَكَانَ إِمَّا نصا أَو إِجْمَاعًا أَو قِيَاسا، وَقد سبرنا فَلم نجد من ذَلِك شَيْئا، أَولا يتَعَرَّض للسبر بل يَقُول: شَيْء من النَّص، وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس غير مَوْجُود، إِذْ الأَصْل الْعَدَم، وَالْأَصْل بَقَاء مَا كَانَ، وَهَذَا النَّفْي حكم شَرْعِي؛ لِأَنَّهُ مُسْتَفَاد دَلِيل شَرْعِي هُوَ انْتِفَاء سَبَب الحكم الَّذِي علم من الدَّلِيل ضَرُورَة حَيْثُ لَا دَلِيل، لَا حكم، لما قدمنَا من لُزُوم الْمحَال. وَمن أَنْوَاع الِاسْتِدْلَال على هَذَا القَوْل قَوْلنَا: وجد الْمَانِع، أَو فَاتَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3745 الشَّرْط، وانتفى الحكم، كَمَا تقدم، أَو ثَبت الحكم لوُجُود السَّبَب، وَقد تقدم - أَيْضا - ذَلِك قَرِيبا. وَهَذَا القَوْل اخْتَارَهُ ابْن حمدَان فِي " مقنعه " وَغَيره. وَاخْتَارَهُ الْفَخر أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ، وَزَاد: التلازم بَين حكمين بِلَا تعْيين عِلّة، والاستصحاب، كَمَا يَأْتِي شرح ذَلِك، وَقَول الْقَائِل: لَا فَارق بَين مَحل النزاع وَالْإِجْمَاع إِلَّا هَذَا، وَلَا أثر لَهُ، وَالْأَصْل فِي الْمَنَافِع الْإِذْن، وَفِي المضار الْمَنْع شرعا لَا عقلا. نَقله عَنهُ ابْن مُفْلِح، فأسقط شرع من قبلنَا هَل هُوَ شرع لنا، وَزَاد قَوْله: لَا فَارق. وَاخْتَارَ ابْن الْحَاجِب: أَن الِاسْتِدْلَال هُنَا هُوَ التلازم بَين حكمين بِلَا تعْيين عِلّة، والاستصحاب، وَشرع من قبلنَا، فَاخْتَارَ أَنه هَذِه الثَّلَاثَة. قد تقدم اخْتلَافهمْ فِي أَنْوَاع الِاسْتِدْلَال، وَقَول ابْن الْحَاجِب إِنَّهَا هَذِه الثَّلَاثَة، وَسَيَأْتِي قَول الْحَنَفِيَّة [فِي] الِاسْتِحْسَان، والمالكية فِي الْمصَالح الْمُرْسلَة، وَالِاخْتِلَاف فِي شرع من قبلنَا، وَغير ذَلِك. قَوْله: {الأول} . أَي: من الْأَنْوَاع الِاسْتِدْلَال على قَول من يَقُول ذَلِك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3746 {تلازم بَين ثبوتين: من صَحَّ طَلَاقه صَحَّ ظِهَاره، أَو عَكسه، لَو صَحَّ وضوء بِلَا نِيَّة صَحَّ تيَمّم. أَو ثُبُوت وَنفي: مَا يكون مُبَاحا لَا يكون حَرَامًا، أَو عَكسه: مَا لَا يكون جَائِزا يكون حَرَامًا} . الْكَلَام فِي التلازم وَهُوَ أَرْبَعَة أَقسَام، لِأَن التلازم إِنَّمَا يكون بَين حكمين، وَالْحكم إِمَّا إِثْبَات أَو نفي، وَيحصل بِحَسب التَّرْكِيب أَقسَام أَرْبَعَة: بَين ثبوتين، أَو بَين نفيين، أَو بَين ثُبُوت وَنفي، أَو بَين نفي وَثُبُوت، وَقد مثل لذَلِك من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة: فَالْأول تلازم بَين ثبوتين، كَقَوْلِهِم: من صَحَّ طَلَاقه صَحَّ ظِهَاره، وَهَذَا يثبت بالطرد، وَهُوَ أَنا تتبعنا فَوَجَدنَا كل شخص يَصح طَلَاقه يَصح ظِهَاره، ويقوى بِالْعَكْسِ وَإِن لم يكن دَلِيلا مُسْتقِلّا، فَهُوَ مقو للدليل، وَهُوَ أَنا تتبعنا فَوَجَدنَا كل شخص لَا يَصح طَلَاقه لَا يَصح ظِهَاره وَحَاصِله التَّمْثِيل بالدوران، وَلَكِن على أَن الْعَدَم لَيْسَ جَزَاء لما تقدم، ويقرر التلازم بِأَن الصحتين أثران لمؤثر، فَيلْزم من ثُبُوت أَحدهمَا ثُبُوت الآخر، للُزُوم ثُبُوت الْمُؤثر لثُبُوت أَحدهمَا. ويقرر - أَيْضا - بِأَن يُقَال: ثَبت الْمُؤثر فِي صِحَة الطَّلَاق فَثَبت الآخر؛ لِأَنَّهُمَا أثراه، وَلَا يعين الْمُؤثر، فَيكون انتقالا إِلَى قِيَاس الْعلَّة. وَالثَّانِي: عَكسه، وَهُوَ التلازم بَين نفيين كَقَوْلِهِم: لَو صَحَّ الْوضُوء بِلَا نِيَّة صَحَّ التَّيَمُّم؛ لِأَنَّهُ فِي قُوَّة قَوْلك: لَو لم تشْتَرط النِّيَّة فِي الْوضُوء لم تشْتَرط فِي التَّيَمُّم، وتساهل فِيهِ إِذْ لَا عبره بِالْعبَادَة، وَهَذَا - أَيْضا - يثبت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3747 بالطرد، ويقوى بِالْعَكْسِ كَمَا مر، ويقرر بِوَجْه آخر وَهُوَ أَن يُقَال: انْتَفَى أحد الأثرين فَيلْزم انْتِفَاء الآخر للُزُوم انْتِفَاء الْمُؤثر، أَو يُقَال: قد انْتَفَى أحد الأثرين فَيَنْتَفِي الْمُؤثر، فَيَنْتَفِي أَثَره الآخر، وللفرض أَن الثَّوَاب وَاشْتِرَاط النِّيَّة أثران لِلْعِبَادَةِ. وَالثَّالِث تلازم بَين ثُبُوت وَنفي: [مَا يكون] مُبَاحا لَا يكون حَرَامًا. وَالرَّابِع: عَكسه، وَهُوَ تلازم بَين نفي وَثُبُوت: مَا لَا يكون جَائِزا يكون حَرَامًا. وَهَذَا القسمان يقرران بِثُبُوت التَّنَافِي بَينهمَا أَو بَين لوازمهما؛ لِأَن تنَافِي اللوازم يدل على تنَافِي الملزومات. إِذا علم ذَلِك فَجَمِيع أَقسَام التلازم يرد عَلَيْهِ منع الْأَمريْنِ، وهما تحقق الْمَلْزُوم من نفي أَو إِثْبَات، وَتحقّق الْمُلَازمَة، وَيرد من الأسئلة الْخَمْسَة وَالْعِشْرين الْوَارِدَة على الْقيَاس جَمِيعهَا، مَا عدا الأسئلة الْمُتَعَلّقَة بِنَفس الْوَصْف الْجَامِع؛ لِأَنَّهُ لم يذكر فِيهِ وصف جَامع، وَيخْتَص بسؤال لَا يرد على الْقيَاس، وَقد مثل الْعَضُد لذَلِك مِثَالا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3748 قَوْله: {والمتلازمان طردا وعكسا: كالجسم والتأليف يلْزم من وجود كل [مِنْهُمَا] وجود الآخر، وَمن نَفْيه نَفْيه، إِلَى آخِره} . تقدم أَن التلازم أَرْبَعَة أَقسَام: بَين ثبوتين، أَو نفيين، أَو ثُبُوت وَنفي، أَو عَكسه. (وَمحل الحكم إِن لم يكن المحلان متلازمين، وَلَا متنافيين وهما الْعَام وَالْخَاص من وَجه: كالأسود وَالْمُسَافر، لم يجز فِيهِ شَيْئا مِنْهَا، فَلَا يَصح إِن كَانَ مُسَافِرًا فَهُوَ أسود وَلَا إِن لم يكن أسود فَلَيْسَ مُسَافِرًا، وَلَا إِن كَانَ أسود فَلَيْسَ مُسَافِرًا، وَلَا إِن لم يكن أسود فَهُوَ مُسَافر، وَإِنَّمَا يجْرِي فِيمَا فِيهِ تلازم أَو تناف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3749 إِذا علم ذَلِك فالتلازم إِمَّا أَن يكون طردا أَو عكسا [أَي: من الطَّرفَيْنِ، أَو طردا لَا عكسا، أَي: من طرف وَاحِد، والتنافي لَا بُد أَن يكون من الطَّرفَيْنِ، لكنه إِمَّا أَن يكون طردا وعكسا] . أَي: إِثْبَاتًا ونفيا، وَإِمَّا طردا فَقَط، أَي: إِثْبَاتًا، وَإِمَّا عكسا فَقَط، أَي: نفيا، فَهَذِهِ خَمْسَة أَقسَام فَلْينْظر مَاذَا يجْرِي فِيهَا من الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة. الأول من الْأَقْسَام الْخَمْسَة، أَي: مَا يصدق فِيهَا المتلازمان طردا أَو عكسا وَهُوَ: كالجسم والتأليف، إِذْ كل جسم مؤلف، وكل مؤلف جسم وَهَذَا يجْرِي فِيهِ الْأَوَّلَانِ، أَي: التلازم بَين الثبوتين وَبَين النفيين كِلَاهُمَا طردا وعكسا، فَيصدق كل مَا كَانَ جسما كَانَ مؤلفا، وكل مَا كَانَ مؤلفا كَانَ جسما، وكل مَا لم يكن جسما لم يكن مؤلفا، وكل مَا لم يكن مؤلفا لم يكن جسما. الثَّانِي: المتلازمان طردا فَقَط كالجسم والحدوث، إِذْ كل جسم حَادث، وَلَا ينعكس فِي الْجَوْهَر الْفَرد وَالْعرض، فهذان يجْرِي فيهمَا الأول، أَي: التلازم بَين ثبوتين طردا، فَيصدق كل مَا كَانَ جسما كَانَ حَادِثا لَا عكسا، وَلَا يصدق كل مَا كَانَ حَادِثا كَانَ جسما، ويجرى فيهمَا الثَّانِي، أَي: التلازم بَين النفيين عكسا، فَيصدق كل مَا لم يكن حَادِثا لم يكن جسما، لَا طردا، فَلَا يصدق كل مَا لم يكن جسما لم يكن حَادِثا. الثَّالِث: المتنافيان طردا وعكسا: كالحدوث وَوُجُوب الْبَقَاء، فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي ذَات فَيكون وَاجِب الْبَقَاء، وَلَا يرتفعان فَيكون قَدِيما غير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3750 وَاجِب الْبَقَاء، فهذان يجْرِي فيهمَا الأخيران، أَي: تلازم الثُّبُوت وَالنَّفْي، وَالنَّفْي والثبوت طردا وعكسا، أَي: من الطَّرفَيْنِ فَيصدق لَو كَانَ حَادِثا لم يجب بَقَاؤُهُ، وَلَو وَجب بَقَاؤُهُ لم يكن حَادِثا، وَلَو لم يكن حَادِثا فَلَيْسَ لَا يجب بَقَاؤُهُ، وَلَو لم يجب بَقَاؤُهُ فَلَيْسَ بحادث. الرَّابِع: المتنافيان طردا لَا عكسا، أَي: إِثْبَاتًا لَا نفيا، كالتأليف والقدم إِذْ لَا يَجْتَمِعَانِ، فَلَا يُوجد شَيْء [هُوَ] مؤلف وقديم، لكنهما قد يرتفعان كالجزء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ، وَهَذَانِ يجْرِي فيهمَا الثَّالِث: أَي: تلازم الثُّبُوت وَالنَّفْي طردا وعكسا، أَي: من الْجَانِبَيْنِ، فَيصدق: كل مَا كَانَ جسما لم يكن قَدِيما، وكل مَا كَانَ قَدِيما لم يكن جسما، لَا الرَّابِع، أَي: تلازم النَّفْي وَالْإِثْبَات من شَيْء من الْجَانِبَيْنِ، فَلَا يصدق: كل مَا لم يكن جسما كَانَ قَدِيما، أَو كل مَا لم يكن قَدِيما كَانَ جسما. الْخَامِس: المتنافيان عكسا، أَي: نفيا، كالأساس والخلل، فَإِنَّهُمَا لَا يرتفعان، فَلَا يُوجد مَا لَيْسَ لَهُ أساس وَلَا يخْتل، فقد يَجْتَمِعَانِ، وكل ذِي أساس يخْتل بِوَجْه آخر، وَهَذَانِ يجْرِي فيهمَا الرَّابِع، أَي: تلازم النَّفْي والثبوت طردا وعكسا، فَيصدق كل مَا لم يكن لَهُ أساس فَهُوَ مختل، وكل مَا لم يكن مختلا فَلهُ أساس، وَلَا يجْرِي فيهمَا الثَّالِث، فَلَا يصدق كل مَا كَانَ لَهُ أساس فَلَيْسَ بمختل، أَو كَانَ مَا كَانَ مختلا فَلَيْسَ لَهُ أساس ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3751 وَقد شرح ذَلِك شرَّاح " مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب "، وَغَيرهم. وتابعنا فِيهِ القَاضِي عضد الدّين لتحقيقه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3752 (قَوْله: {فصل} ) {الِاسْتِصْحَاب: التَّمَسُّك بِدَلِيل عَقْلِي أَو شَرْعِي، لم يظْهر عَنهُ ناقل مُطلقًا} . من [الْمُخْتَلف] فِي كَونه دَلِيلا مغايرا لِلْأُصُولِ الْمُتَقَدّمَة: الِاسْتِصْحَاب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3753 وَحَقِيقَة اسْتِصْحَاب الْحَال: التَّمَسُّك بِدَلِيل عَقْلِي تَارَة يكون بِحكم دَلِيل الْعقل: كاستصحاب حَال الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة، فَإِن الْعقل دَلِيل براءتها، وَعدم توجه الحكم إِلَى الْمُكَلف. وَتارَة يكون الِاسْتِصْحَاب بِحكم الدَّلِيل الشَّرْعِيّ: كاستصحاب حكم الْعُمُوم وَالْإِجْمَاع، إِلَى أَن يظْهر دَلِيل ناقل عَن حكم الدَّلِيل المستصحب، فَيجب الْمصير إِلَيْهِ: كالبينة الدَّالَّة على شغل الذِّمَّة، وَتَخْصِيص الْعُمُوم، وَنَحْو ذَلِك، وَالْمعْنَى إِذا كَانَ حكما مَوْجُودا، وَهُوَ مُحْتَمل أَن يتَغَيَّر، فَالْأَصْل بَقَاؤُهُ، وَنفي مَا يُغَيِّرهُ. وَمِنْه اسْتِصْحَاب الْعَدَم الْأَصْلِيّ، وَهُوَ الَّذِي عرف بِالْعقلِ انتفاؤه، وَأَن الْعَدَم الْأَصْلِيّ بَاقٍ على حَاله: كالأصل عدم وجوب صَلَاة سادسة، وَصَوْم شهر غير رَمَضَان، فَلَمَّا لم يرد السّمع بذلك حكم الْعقل بانتفائه لعدم الْمُثبت لَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3754 وَمِنْه اسْتِصْحَاب حكم دلّ الشَّرْع على ثُبُوته ودوامه لوُجُود سَببه: كالملك عِنْد حُصُول السَّبَب، وشغل الذِّمَّة عَن قرض أَو إِتْلَاف، فَهَذَا وَإِن لم يكن حكما أَصْلِيًّا فَهُوَ حكم دلّ الشَّرْع على ثُبُوته ودوامه جَمِيعًا، وَلَوْلَا أَن الشَّرْع دلّ على دَوَامه إِلَى أَن يُوجد السَّبَب المزيل والمبريء لما زَالَ استصحابه. قَوْله: {وَهُوَ دَلِيل عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَالْأَكْثَر، خلافًا لأبي الْخطاب، وَجمع، وَحكي عَن أَكثر الْحَنَفِيَّة، وعنهم حجَّة فِي الدّفع دون الرّفْع} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3755 ذهب أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة قاطبة، وَأكْثر الْعلمَاء. وَذكره القَاضِي أَبُو يعلى إِجْمَاعًا. وَكَذَا أَبُو الطّيب الشَّافِعِي، قَالَ: وَقد ذكره الْحَنَفِيَّة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3756 وَذكره السَّرخسِيّ مِنْهُم، وَقَالَ: عدم الدَّلِيل دَلِيل. ثمَّ ذكر عَن بعض الْفُقَهَاء بُطْلَانه. وَذكر الْآمِدِيّ بُطْلَانه عَن أَكثر الْحَنَفِيَّة، وَجَمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3757 كَأبي الْحُسَيْن، وَعَزاهُ أَيْضا الإِمَام للحنفية. وَكَذَا ذكره أَبُو الْخطاب فِي مَسْأَلَة الْقيَاس أَنه لَيْسَ دَلِيلا، وَاخْتَارَهُ بعض أَصْحَابنَا. فعلى هَذَا ذهب بعض الْعلمَاء: أَنه يجوز التَّرْجِيح بِهِ. وَعَن الْحَنَفِيَّة: أَنه حجَّة فِي الدّفع، أَي: فِي بَقَاء مَا كَانَ، وَأما فِي رفع بِإِثْبَات شَيْء رَافع لشَيْء يستدام حكم ذَلِك الرافع فَلَيْسَ بِحجَّة، وَهَذَا كالمفقود لَا يُورث لبَقَاء مَا كَانَ على مَا كَانَ وَهُوَ حَيَاته، وَلَا يَرث؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَالِكًا لمَال مُوَرِثه حَتَّى [يستصحب] ملكه قبل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3758 قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهَذَا القَوْل حسن، وَخرج عَلَيْهِ فرعا فِي مَذْهَبهم. قَوْله: {وَقيل: يشْتَرط أَن لَا يُعَارضهُ ظَاهر، وَقيل: ظَاهر غَالب} . قلت: لنا مسَائِل كَثِيرَة يقدم فِيهَا الظَّاهِر على الأَصْل، ومسائل فِيهَا خلاف، إِطْلَاق الِاحْتِجَاج بالاستصحاب شَامِل لمعارضة ظَاهر أَو لَا، وَلَكِن يرد علينا فِي النَّفْي وَالْإِثْبَات مسَائِل كَثِيرَة فِيمَا تعَارض فِي الأَصْل وَالظَّاهِر: كطين الشوارع، وَثيَاب مدمني الْخمر، وأواني الْكفَّار المتلبسين بِالنَّجَاسَةِ، وَثيَاب القصابين، وأفواه الصغار، وَغير ذَلِك من الْمسَائِل الَّتِي لَا تكَاد تحصى. وَقد ذكر الْعَلامَة ابْن رَجَب فِي " قَوَاعِده ": فِيمَا يغلب الأَصْل على الظَّاهِر، وَفِيمَا يغلب الظَّاهِر على الأَصْل ومسائل كَثِيرَة مترددة بَينهمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3759 وَالتَّرْجِيح مُخْتَلف فليعاود، فَإِنَّهُ فِي أَوَاخِر الْقَوَاعِد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3760 لَكِن إِذا قدمنَا الظَّاهِر على الأَصْل لَيْسَ تَقْدِيمه من حَيْثُ الِاسْتِصْحَاب، بل لمرجح من خَارج يَنْضَم إِلَى ذَلِك، وَقد صحّح الشَّافِعِيَّة الْأَخْذ بِالْأَصْلِ دَائِما. وَقيل: غَالِبا. قَالُوا: لِأَن الأَصْل أصدق وأضبط من الْغَالِب الَّذِي يخْتَلف باخْتلَاف الْأَزْمَان وَالْأَحْوَال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3761 قَالُوا: وَالنَّقْل يعضده " فقد حمل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُمَامَة فِي الصَّلَاة "، وَكَانَت بِحَيْثُ لَا تحترز عَن نَجَاسَة. قلت: وَهَذَا لَا يطرد فِي مَذْهَبنَا وَلَا فِي مَذْهَبهم، وَيَأْتِي قبيل التَّقْلِيد هَل يلْزم نافي الحكم الدَّلِيل عَلَيْهِ أم لَا؟ قَوْله: {وَلَيْسَ اسْتِصْحَاب حكم الْإِجْمَاع فِي مَحل الْخلاف حجَّة عِنْد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3762 الْأَكْثَر من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم، وَخَالف ابْن شاقلاء، وَابْن حَامِد، وَجمع} . اخْتلف الْعلمَاء فِي اسْتِصْحَاب حَال الْإِجْمَاع فِي مَحل الْخلاف، وَهُوَ أَن يحصل الْإِجْمَاع على حكم فِي حَال، فتتغير تِلْكَ الْحَال، وَيَقَع الْخلاف، فَلَا يستصحب حَال الْإِجْمَاع فِي مَحل الْخلاف، كَقَوْل من يَقُول فِي الْخَارِج من غير السَّبِيلَيْنِ: إِنَّه لَا ينْقض الْإِجْمَاع على أَنه قبله متطهر، وَالْأَصْل الْبَقَاء حَتَّى يثبت تعَارض، وَالْأَصْل عَدمه. وَالأَصَح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم من الْحَنَفِيَّة، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَجَمَاعَة من الْمَالِكِيَّة، وَذكر أَبُو الْخطاب وَابْن عقيل عَن عَامَّة محققي الْفُقَهَاء والمتكلمين أَنه لَيْسَ بِحجَّة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3763 وَعند أبي إِسْحَاق بن شاقلاء، وَابْن حَامِد، وَجمع، وأصحابنا، والمزني، وَأبي ثَوْر، والصيرفي، وَابْن سُرَيج، وَابْن خيران، وَدَاوُد، وَأَصْحَابه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3764 والآمدي، وَابْن الْحَاجِب إِلَى أَنه حجَّة. " لِأَن بَقَاء الحكم لَا يفْتَقر إِلَى دَلِيل إِن نزل منزلَة الْجَوْهَر، وَلَا نسلم أَنه كالعرض ثمَّ الِاسْتِصْحَاب دَلِيل، ثمَّ هُوَ دَلِيل الدَّلِيل؛ لِأَن بَقَاء الظَّن لَهُ دَلِيل. وَذكر أَبُو الْخطاب وَغَيره: أَنه يُؤَدِّي إِلَى التكافيء فِي الْأَدِلَّة، لِأَنَّهُ مَا من أحد يستصحب حَالَة الْإِجْمَاع فِي مَوضِع الْخلاف إِلَّا ولخصمه أَن يستصحب حَالَة الْإِجْمَاع فِي مُقَابِله. مِثَاله: لَو قَالَ فِي مَسْأَلَة التَّيَمُّم: قيل: أَجمعُوا أَن رُؤْيَة المَاء فِي غير الصَّلَاة تبطل تيَمّمه فَكَذَا فِي الصَّلَاة، قيل: أَجمعُوا على صِحَة تَحْرِيمه، فَمن أبْطلهُ لزمَه الدَّلِيل. وَجَوَابه: بِمَنْع التكافيء، وَإِن تَعَارضا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3765 وَاحْتج لَهُ أَيْضا: بِالْقِيَاسِ على قَول الشَّارِع. وَأجَاب بِمَا مَعْنَاهُ: أَنه لَا يجوز اسْتِصْحَاب حكم الدَّلِيل فِي الْحَالة الثَّانِيَة إِلَّا أَن يَتَنَاوَلهَا الدَّلِيل. قيل لَهُ: فَيجب قصره على الزَّمن الْوَاحِد فَالْتَزمهُ، إِلَّا أَن يكون دَلِيل الحكم وعلته قد عَم الْأَزْمِنَة. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَقَالَ: سبق خِلَافه فِي شُرُوط الْعلَّة [أَنه] لَا ترجع على الأَصْل بالإبطال. وَلَكِن جَوَابه أَن قَول الشَّارِع مُطلق فَيعم، وَالْإِجْمَاع إِنَّمَا هُوَ فِي صفة خَاصَّة، وَلِهَذَا يجوز تَركه فِي الْحَالة الثَّانِيَة بِدَلِيل غير الْإِجْمَاع، خلافًا لبَعض الشَّافِعِيَّة. ذكره عَنْهُم القَاضِي، وَابْن عقيل، وَهُوَ ضَعِيف) ، انْتهى نقل كَلَام ابْن مُفْلِح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3766 (قَوْله: {فصل} ) {شرع من قبلنَا} . من الْأَدِلَّة الْمُخْتَلف فِيهَا مَا ثَبت فِي شرع من مضى من الْأَنْبِيَاء - صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم - السَّابِقين على بعثة نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَل يكون شرعنا لنا حَتَّى يسْتَدلّ بِهِ فِي أَحْكَام شرعنا، إِذا لم نجد لَهُ دَلِيلا يقرره، وَلَا ورد مَا ينسخه، أَو لَيْسَ بشرع لنا حَتَّى يَأْتِي فِي شرعنا مَا يُقرر ذَلِك الحكم؟ فِيهِ قَولَانِ يأتيان قَرِيبا. قَوْله: {يجوز تعبد نَبِي بشريعة [نَبِي] قبله عقلا وَمنعه قوم} . يجوز تعبد نَبِي بشريعة نَبِي قبله عقلا على الصَّحِيح؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بمحال، وَلَا يلْزم مِنْهُ محَال. وَقدمه ابْن مُفْلِح وَقَالَ: " وَمنعه بَعضهم لعدم الْفَائِدَة ". رد فَائِدَته: إحياؤها وَلَعَلَّ فِيهِ مصلحَة. قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: ثمَّ قيل: إِنَّه مُمْتَنع عقلا لما فِيهِ من التنفير عَنهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3767 وَقيل: شرعا، وَعَزاهُ القَاضِي عِيَاض لحذاق أهل السّنة، وَيَأْتِي هَذَا قَرِيبا. قَوْله: {وَكَانَ نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل الْبعْثَة متعبدا فِي الْفُرُوع بشرع من قبله مُطلقًا عِنْد القَاضِي، والحلواني، وَغَيرهمَا، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد، وَقيل: معِين، فَقيل: أَدَم، أَو نوح، أَو إِبْرَاهِيم، اخْتَارَهُ ابْن عقيل، وَالْمجد، وَالْبَغوِيّ، وَابْن كثير، وَجمع، أَو مُوسَى، أَو عِيسَى، وَمنع الْحَنَفِيَّة، والمالكية، والباقلاني، وَغَيرهم، لاستحالته عقلا عِنْد الْمُعْتَزلَة، وَشرعا عِنْد الباقلاني، والرازي والآمدي، وَلأَحْمَد الْقَوْلَانِ، وَتوقف أَبُو الْخطاب، [وَالْغَزالِيّ] ، والآمدي، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَقَالَ هُوَ وَجمع: لفظية، وَعَن الْمُعْتَزلَة: تعبد بشريعة الْعقل، وَابْن حمدَان: بِوَضْع شَرِيعَة اخْتَارَهَا، والطوفي: بالإلهام} . اخْتلف الْعلمَاء - رَحْمَة الله عَلَيْهِم - فِي نَبينَا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَل كَانَ متعبدا - بِكَسْر الْبَاء - قبل الْبعْثَة فِي الْفُرُوع بشرع من قبله أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3768 أَحدهمَا: وَهُوَ الصَّحِيح أَنه كَانَ متعبدا بشرع من قبله، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر؛ لِأَن كل وَاحِد من الْأَنْبِيَاء قبله دَعَا إِلَى شَرعه كل الْمُكَلّفين، وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاحِد مِنْهُم، فيتناوله عُمُوم الدعْوَة. ثمَّ اخْتلفُوا على هَذَا القَوْل، هَل كَانَ متعبدا بشرع معِين أَو لَا؟ فِيهِ قَولَانِ. ثمَّ اخْتلف الْقَائِل بِأَنَّهُ متعبد بشرع معِين فِي الْمعِين: فَقيل: آدم - صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ -، وَلم يذكرهُ فِي " جمع الْجَوَامِع ". وَقيل: نوح. وَقيل: إِبْرَاهِيم، اخْتَارَهُ جمع كثير مِنْهُم: ابْن عقيل، وَالْمجد، وَالْبَغوِيّ فِي تَفْسِير سُورَة الشورى، وَابْن كثير فِي " تَارِيخه " - قبل الْبعْثَة - وَغَيرهم، وَحَكَاهُ ابْن عقيل عَن الشَّافِعِيَّة. وَقيل: مُوسَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3769 وَقيل: عِيسَى، صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ. وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب: أَنه كَانَ متعبدا بشرع من قبله مُطلقًا، أَي: من غير تعْيين وَاحِد مِنْهُم بِعَيْنِه، وَهَذَا [اخْتَارَهُ] أَبُو يعلى، والحلواني، وَغَيرهمَا من أَصْحَابنَا، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَذكره القَاضِي عَن الشَّافِعِيَّة. وَخَالف الْحَنَفِيَّة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3770 والمالكية، وَابْن الباقلاني، وَأَبُو الْحُسَيْن، وَذكره بعض أَصْحَابنَا عَن الْأَكْثَر: أَنه كَانَ غير متعبد بشرع لَا معِين وَلَا غير معِين، وَأَن عَن أَحْمد قَوْلَيْنِ، وَنَقله الباقلاني عَن أَكثر الْمُتَكَلِّمين. وَتوقف أَبُو هَاشم، وَعبد الْجَبَّار، وَأَبُو الْخطاب، وَالْغَزالِيّ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3771 وَابْن الْأَنْبَارِي. وَأَبُو الْمَعَالِي قَالَ هُوَ وَجَمَاعَة: لفظية. وَعَن الْمُعْتَزلَة: أَنه تعبد بشريعة الْعقل. [قَالَه ابْن مُفْلِح. وَقَالَ ابْن حمدَان: تعبد بِوَضْع شَرِيعَة اخْتَارَهَا. وَقَالَ الطوفي: تعبد بالإلهام. وَإِذا قُلْنَا: إِنَّه غير متعبد بشريعة أصلا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3772 فَقيل: لامتناعه عقلا، لما فِيهِ من التنفير عَنهُ. وَقيل: شرعا، وَعَزاهُ القَاضِي عِيَاض لحذاق أهل السّنة، إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لنقل ولتداولته الْأَلْسِنَة، وَاخْتَارَهُ الباقلاني، والرازي، والآمدي، وَغَيرهم. اسْتدلَّ من قَالَ: إِنَّه كَانَ متعبدا بشريعة من قبله بِمَا فِي مُسلم عَن عَائِشَة " أَنه كَانَ يَتَحَنَّث، وَهُوَ التَّعَبُّد فِي غَار حراء ". وَفِي البُخَارِيّ أَيْضا: " كَانَ يَتَحَنَّث بِغَار حراء ". رد: بِأَن مَعْنَاهُ التفكر وَالِاعْتِبَار، وَلم يثبت عَنهُ عبَادَة صَوْم وَنَحْوه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3773 ثمَّ فعله من قبل نَفسه [تشبها] بالأنبياء. وَأَيْضًا: الْأَنْبِيَاء قبْلَة لكل مُكَلّف. رد: بِالْمَنْعِ ثمَّ لم يثبت عِنْده وَلِهَذَا بعث. وَاعْتمد القَاضِي الباقلاني فِي كَونه غير متعبد بشرع من قبله وامتناعه: على أَنه لَو كَانَ على مِلَّة لاقتضى الْعرف ذكره لَهَا لما بعث، ولتحدثوا بذلك فِي زَمَانه، وَفِيمَا بعده. وعارض ذَلِك أَبُو الْمَعَالِي: بِأَنَّهُ لَو لم يكن على دين أصلا لنقل، فَإِن ذَلِك أبدع وَأبْعد عَن الْمُعْتَاد مِمَّا ذكره الباقلاني، فتعارض الْأَمْرَانِ. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: " وَفِيه نظر فَلَيْسَ انصراف النُّفُوس عَن نقل كَونه لَيْسَ على دين، كانصرافه عَن نقل دينه الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ ". ثمَّ قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: " الْوَجْه أَن يُقَال: انخرقت الْعَادة للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أُمُور: مِنْهَا: انصراف همم النَّاس عَن أَمر دينه والبحث عَنهُ " انْتهى. قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: وَجه الْمَنْع أَنه لَو كَانَ متعبدا بشرع لخالط أَهله عَادَة. رد: بِاحْتِمَال مَانع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3774 وَأجِيب - أَيْضا -: يعْمل بِمَا تَوَاتر فَقَط فَلَا يحْتَاج إِلَى مخالط. وَفِيه نظر. وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ": فَإِنَّمَا كَانَ متعبدا على وضع شَرِيعَة اخْتَارَهَا لعدم الْوَحْي قبل الْبعْثَة. وَقيل: يَقْتَضِي الْمُنَاسبَة لعلمه بِفساد مَا عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة. وَقَالَ: الْأَصَح [أَنه] متعبد - بِكَسْر الْبَاء -. قَالَ الْقَرَافِيّ: متعبدا بِكَسْر الْبَاء، وَلَا يجوز فتحهَا، وَكَلَام الْآمِدِيّ موهم بِخِلَاف مَا بعد الْبعْثَة، فَإِنَّهُ كَانَ متعبدا بِفَتْح الْبَاء. انْتهى. وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": " قلت: من الْمُتَّجه أَنه كَانَ متعبدا بالإلهام، أَي: يلهمه الله تَعَالَى عبادات يتعبد بهَا، ويخلق فِيهَا علما ضَرُورِيًّا بمشروعيتها لَهُ، وبمعرفة تفاصيلها، وَهَذَا أحسن مَا يُقَال فِي تعبده عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قبل الْبعْثَة ". تَنْبِيه: قَالَ الْقَرَافِيّ فِي " شرح التَّنْقِيح ": " حِكَايَة الْخلاف أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ متعبدا قبل نبوته بشرع من قبله، يجب أَن يكون مَخْصُوصًا بالفروع دون الْأُصُول، فَإِن قَوَاعِد العقائد كَانَ النَّاس مكلفين بهَا إِجْمَاعًا؛ وَلذَلِك كَانَ موتاهم فِي النَّار إِجْمَاعًا، لَوْلَا التَّكْلِيف مَا كَانُوا فِي النَّار، فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام متعبد بشرع من قبله، فَالْخِلَاف فِي الْفُرُوع خَاصَّة، فعموم إِطْلَاق الْعلمَاء مَخْصُوص بِالْإِجْمَاع ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3775 قَوْله: {وَلم يكن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على مَا كَانَ عَلَيْهِ قومه عِنْد الْأَئِمَّة، قَالَ أَحْمد: من زَعمه فَقَوْل سوء} . قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَلم يكن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على مَا كَانَ عَلَيْهِ قومه عِنْد أَئِمَّة الْإِسْلَام، كَمَا تَوَاتر عَنهُ، قَالَ الإِمَام أَحْمد: من زَعمه فَقَوْل سوء " انْتهى. وَهَذَا مِمَّا لَا يشك مُسلم بِهِ، وقر الْإِيمَان فِي قلبه، وَتقدم هَل هُوَ مَعْصُوم من الصَّغَائِر والكبائر؟ وَأما أَنه كَانَ على مَا كَانَ عَلَيْهِ قومه فحاشا وكلا. قَالَ فِي " نِهَايَة المبتدئين ": وَلم يكن على دين قومه قطّ بل ولد مُسلما مُؤمنا، قَالَه ابْن عقيل. وَقيل: بل على دين قومه، حَكَاهُ ابْن حَامِد عَن بَعضهم، وَهُوَ غَرِيب بعيد، انْتهى. قلت: الَّذِي نقطع بِهِ أَن هَذَا القَوْل خطأ. قَالَ ابْن عقيل: لم يكن قبل الْبعْثَة على دين سوى الْإِسْلَام، وَلَا كَانَ على دين قومه قطّ، بل ولد مُؤمنا نَبيا صَالحا على مَا كتبه الله وَعلمه من حَاله وخاتمته لَا بدايته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3776 قَوْله: {وَبعدهَا - أَي: بعد الْبعْثَة - تعبد بشرع من قبله عِنْد أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أصحابهما، وَالْحَنَفِيَّة، والمالكية، ثمَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3777 مِنْهُم من خصّه بشرع كَمَا سبق، وَلم يَخُصُّهُ أَصْحَابنَا والمالكية} . إِذا قُلْنَا: إِنَّه قبل الْبعْثَة غير متعبد بشرع من قبله فَبعد الْبعْثَة بطرِيق أولى. وَإِن قُلْنَا: إِنَّه كَانَ متعبدا فَاخْتَلَفُوا هَل كَانَ بعد الْبعْثَة متعبدا؟ فِيهِ خلاف. وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور الْعلمَاء أَنه متعبد بِمَا لم ينْسَخ من شريعتهم. فعلى هَذَا القَوْل من الْعلمَاء من خصّه بشرع نَبِي من الْأَنْبِيَاء، كَمَا تقدم بَيَانه. وَلم يَخُصُّهُ أَصْحَابنَا والمالكية، فعلى هَذَا هُوَ شرع لنا مَا لم ينْسَخ، وَهُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ أَكثر أَصْحَابنَا وَغَيرهم. قَالَ القَاضِي: " من حَيْثُ صَار شرعا لنبينا، لَا من حَيْثُ صَار شرعا لمن قبله ". قَالَ الْبرمَاوِيّ: " على معنى أَنه مُوَافق لَا متابع ". وَذكر القَاضِي - أَيْضا - كَمَا ذكر أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ - من أَصْحَابنَا -: أَنه شرع لم ينْسَخ فيعمنا لفظا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3778 وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: فيعمنا عقلا لتساوي الْأَحْكَام، وَهُوَ الِاعْتِبَار الْمَذْكُور فِي قصصهم، فيعمنا حكما. ثمَّ اعْتبر القَاضِي، وَابْن عقيل، وَغَيرهمَا ثُبُوته قطعا. قَالَ القَاضِي: وَإِنَّمَا يثبت كَونه شرعا لَهُم مَقْطُوع بِهِ، إِمَّا بِكِتَاب، أَو بِخَبَر الصَّادِق، أَو بِنَقْل متواتر، فَأَما الرُّجُوع إِلَيْهِم، أَو إِلَى كتبهمْ فَلَا. وَقد أَوْمَأ أَحْمد إِلَى هَذَا. وَمَعْنَاهُ فِي " الْمقنع " لِابْنِ حمدَان فَقَالَ: كَانَ هُوَ وَأمته متعبدين بشرع من تقدم بِالْوَحْي إِلَيْهِ، فِي الْكل أَو الْبَعْض، لَا من كتبهمْ المبدلة وَنقل أَرْبَابهَا، مَا لم ينْسَخ. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَغَيره: " وَيثبت - أَيْضا - بأخبار الْآحَاد عَن نَبينَا، وَأما بِالرُّجُوعِ إِلَى مساءلة أهل الْكتاب فَفِيهِ الْكَلَام " انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3779 وَعَن أَحْمد: لم يتعبد، وَلَيْسَ بشرع لنا، اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، والآمدي، والأشعرية، والمعتزلة. وَقيل: بِالْوَقْفِ: كَمَا قبل الْبعْثَة. وَجه القَوْل الأول: قَوْله تَعَالَى: {فبهداهم اقتده} [الْأَنْعَام: 90] . رد: أَرَادَ الْهدى الْمُشْتَرك وَهُوَ التَّوْحِيد، لاخْتِلَاف شرائعهم وَالْعقل هاد إِلَيْهِ، ثمَّ أَمر باتباعه بِأَمْر محدد لَا بالاقتداء. أُجِيب: الشَّرِيعَة من الْهدى، وَقد أَمر بالاقتداء وَإِنَّمَا يعْمل بالناسخ كشريعة وَاحِدَة. قَالَ مُجَاهِد: لِابْنِ عَبَّاس: " أأسجد فِي ص؟ فَقَرَأَ هَذِه الْآيَة فَقَالَ: نَبِيكُم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِمَّن أَمر أَن يقْتَدى بهم " رَوَاهُ البُخَارِيّ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3780 وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَوْحَينَا إِلَيْك أَن اتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم} [النَّحْل: 123] . رد: أَرَادَ التَّوْحِيد؛ لِأَن الْفُرُوع لَيست مِلَّة، وَلِهَذَا لم يبْحَث عَنْهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ من الْمُشْركين} [النَّحْل: 123] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَّا من سفه نَفسه} ، ثمَّ أمرنَا باتباعها بِمَا أُوحِي إِلَيْهِ. أُجِيب: الْفُرُوع من الْملَّة تبعا كملة نَبينَا؛ لِأَنَّهَا دينه عِنْد عَامَّة الْمُفَسّرين. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هُوَ الظَّاهِر. وَذكره الْبَغَوِيّ عَن الْأُصُولِيِّينَ، وَقد أمرنَا باتباعها مُطلقًا. وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا} الْآيَة، وَأَيْضًا: ظَاهر قَوْله تَعَالَى عَن التَّوْرَاة: {يحكم بهَا النَّبِيُّونَ} [الْمَائِدَة: 44] ، وَالْمرَاد من بعد مُوسَى. وَقَوله تَعَالَى: {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3781 وَالْقَوْل بتعارض الْآيَات دَعْوَى بِلَا دَلِيل. وَأَيْضًا فقد ورد فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْقصاصِ فِي السن، وَقَالَ: " كتاب الله الْقصاص "، وَإِنَّمَا هَذَا فِي التَّوْرَاة. وَسِيَاق قَوْله تَعَالَى: {فاعتدوا عَلَيْهِ} ، فِي غَيره، وَلِهَذَا لم يُفَسر لَهُ. وللترمذي، وَالنَّسَائِيّ، عَن عمرَان: " أَن رجلا عض يَد رجل فنزعها من فِيهِ، فَوَقَعت ثنيتاه، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا دِيَة لَك، فَأنْزل الله {والجروح قصاص} [الْمَائِدَة: 45] ، وَقُرِئَ فِي السَّبع بِرَفْع الجروح ونصبها. وَأَيْضًا: فِي " صَحِيح مُسلم " من حَدِيث أنس، وَأبي هُرَيْرَة: " من نسي صَلَاة فليصلها إِذا ذكرهَا، فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {وأقم الصَّلَاة لذكري} " الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3782 [طه: 14] ، وَهُوَ خطاب لمُوسَى وسياقه وَظَاهره: أَنه احْتج بِهِ؛ لِأَن أمته أمرت كموسى. وَاسْتدلَّ بتعبده بِهِ قبل بَعثه، وَالْأَصْل بَقَاؤُهَا وبالاتفاق على الِاسْتِدْلَال بقوله: {النَّفس بِالنَّفسِ} [الْمَائِدَة: 45] . رد: بِالْمَنْعِ. وَاسْتدلَّ " بِرُجُوعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى التَّوْرَاة فِي الرَّجْم ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3783 رد: لإِظْهَار كذبهمْ، وَلِهَذَا لم يرجع فِي غَيره. قَالُوا: {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا} [الْمَائِدَة: 48] . رد: اخْتلفت فِي شَيْء [فباعتباره] : هِيَ شرائع مُخْتَلفَة. قَالُوا: لم يذكر فِي خبر معَاذ السَّابِق فِي مَسْأَلَة الْإِجْمَاع. رد: إِن صَحَّ فلذكره فِي الْقُرْآن، أَو عَمه الْكتاب، أَو لقلته، أَو لعلمه بِعَدَمِ من يَثِق بِهِ. قَالُوا: أَتَاهُ عمر بِكِتَاب فَغَضب وَقَالَ: " أمتهوكون فِيهَا يَا ابْن الْخطاب، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لقد جِئتُكُمْ بهَا بَيْضَاء نقية " رَوَاهُ أَبُو بكر بن أبي عَاصِم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3784 وَالْبَزَّار، وَأحمد، وَزَاد: " وَلَو كَانَ مُوسَى حَيا مَا وَسعه إِلَّا اتباعي ". وَرَوَاهُ - أَيْضا - وَفِيه: " وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَو أصبح مُوسَى فِيكُم ثمَّ اتبعتموه وتركتموني لَضَلَلْتُمْ ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3785 رد: فِي الأول مجَالد، وَالثَّانِي: جَابر الْجعْفِيّ، وهما ضعيفان. ثمَّ لم يَثِق بِهِ. قَالُوا: لَو كَانَ لوَجَبَ تعلمهَا والبحث عَنْهَا ومراجعتها فِي الوقائع، وَاحْتج بِهِ الصَّحَابَة. رد: إِن اعْتبر الْمُتَوَاتر فَقَط لم يحْتَج، ثمَّ لعدم الوثوق لتبديلها وتحريفها إِجْمَاعًا وَعدم ضبط وتمييز. قَالُوا: يلْزم أَن يلْزم شرعنا، أَي: نَبينَا. رد: لَا يلْزم؛ لِأَنَّهُ شَرعه، أَو نظر إِلَى الْأَكْثَر. قَالُوا: شَرعه نَاسخ إِجْمَاعًا. رد: لما خَالفه؛ لِأَن النّسخ عِنْد التَّنَافِي، وَلِهَذَا لم ينْسَخ التَّوْحِيد وَلَا تَحْرِيم الْكفْر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3786 وَاحْتج الْآمِدِيّ: بِأَن فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " أَن كل نَبِي بعث إِلَى قومه "، وَلَيْسَ من قَومهمْ. رد: بِالْمَنْعِ، ثمَّ ثَبت بشرعنا. وَقَالَ الطوفي: " المأخذ الصَّحِيح لهَذِهِ الْمَسْأَلَة التحسين الْعقلِيّ فَإِن الْمُثبت يَقُول: الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة حسنها ذاتي لَا تخْتَلف باخْتلَاف شرع فَتَركهَا قَبِيح، والنافي يَقُول: حسنها لَهُ وقبحه لنا ". قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3787 (قَوْله: {فصل} ) {الاستقراء بالجزئي على الْكُلِّي إِن كَانَ ثَابتا، أَي: بِالْكُلِّ إِلَّا صُورَة النزاع فقطعي عَن الْأَكْثَر، وَهُوَ حجَّة بِلَا نزاع} . الاستقراء نوع من أَنْوَاع الِاسْتِدْلَال، وَهُوَ: تتبع أَمر كلي من جزئيات، ليثبت الحكم لذَلِك الْكُلِّي، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحدهمَا: استقراء تَامّ، وَهُوَ: إِثْبَات حكم فِي جزئي لثُبُوته فِي الْكُلِّي، نَحْو: كل جسم متحيز، فَإنَّا استقرأنا جَمِيع جزئيات الْجِسْم فَوَجَدْنَاهَا منحصرة فِي الجماد والنبات وَالْحَيَوَان، وكل من ذَلِك متحيز، فقد أَفَادَ هَذَا الاستقراء الحكم يَقِينا فِي كلي وَهُوَ الْجِسْم، الَّذِي هُوَ مُشْتَرك بَين الجزئيات، فَكل جزئي من ذَلِك كلي يحكم عَلَيْهِ بِمَا يحكم بِهِ على الْكُلِّي إِلَّا صُورَة النزاع، فيستدل بذلك على صُورَة النزاع، وَهُوَ مُفِيد للْقطع بِأَنَّهُ الْقيَاس، فَإِن الْقيَاس المنطقي الْمُفِيد للْقطع عِنْد الْأَكْثَر. قَالَ الْهِنْدِيّ: وَهُوَ حجَّة بِلَا خلاف. وَلذَلِك قُلْنَا فِي الْمَتْن: وَهُوَ حجَّة بِلَا نزاع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3788 قَوْله: {أَو نَاقِصا أَي: بِأَكْثَرَ الجزئيات [فظني] وَيُسمى إِلْحَاق الْفَرد بالأعم الْأَغْلَب، وَهُوَ حجَّة عِنْد بعض أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر: كالوتر يفعل رَاكِبًا فَلَيْسَ وَاجِبا لاستقراء الْوَاجِبَات} . هَذَا النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ الاستقراء النَّاقِص، وَهُوَ الَّذِي تتبع فِيهِ أَكثر الجزئيات لإِثْبَات الحكم الْكُلِّي الْمُشْتَرك بَين جَمِيع الجزئيات، بِشَرْط أَن لَا يتَبَيَّن الْعلَّة المؤثرة فِي الحكم، وَيُسمى هَذَا عِنْد الْفُقَهَاء بإلحاق الْفَرد بالأعم الْأَغْلَب، وَيخْتَلف فِيهِ الظَّن باخْتلَاف الجزئيات، فَكلما كَانَ الاستقراء فِي أَكثر، كَانَ أقوى ظنا. وَقد اخْتلف فِي هَذَا النَّوْع. فَاخْتَارَ بعض أَصْحَابنَا، وَصَاحب " الْحَاصِل "، والبيضاوي، والهندي، وَغَيرهم: أَنه حجَّة، لكنه يُفِيد الظَّن لَا الْقطع، لاحْتِمَال أَن يكون ذَلِك الجزئي مُخَالفا لباقي الجزئيات المستقرأة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3789 وَقَالَ الرَّازِيّ: الْأَظْهر أَنه لَا يُفِيد الظَّن إِلَّا بِدَلِيل مُنْفَصِل، ثمَّ بِتَقْدِير الْحُصُول يكون حجَّة. وَبِهَذَا يعلم أَن الْخلاف الْوَاقِع فِي أَنه يُفِيد الظَّن أَو لَا؟ أَن الظَّن الْمُسْتَفَاد مِنْهُ هَل يكون حجَّة. ورد الْبرمَاوِيّ كَلَام الرَّازِيّ. وَقد مثله ابْن مُفْلِح، والبيضاوي، وَغَيرهمَا بقولهمَا: الْوتر يصلى على الرَّاحِلَة فَلَا يكون وَاجِبا؛ لأَنا استقرأنا الْوَاجِبَات: الْقَضَاء وَالْأَدَاء من الصَّلَوَات الْخمس، فَلم نر شَيْئا مِنْهَا يُؤدى على الرَّاحِلَة. وَالدَّلِيل على أَنه يُفِيد الظَّن: أَنا إِذا وجدنَا صورا كَثِيرَة دَاخِلَة تَحت نوع واشتركت فِي حكم، وَلم نر شَيْئا مِمَّا يعلم أَنه مِنْهَا خرج عَن ذَلِك الحكم، أفادتنا تِلْكَ الْكَثْرَة قطعا ظن الحكم بِعَدَمِ الْأَدَاء على الرَّاحِلَة فِي مثالنا هَذَا من صِفَات ذَلِك النَّوْع، وَهُوَ الصَّلَاة الْوَاجِبَة، وَإِذا كَانَ مُفِيدا للظن، كَانَ الْعَمَل بِهِ وَاجِبا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3790 وَرُبمَا اسْتدلَّ على ذَلِك بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " نَحن نحكم بِالظَّاهِرِ، وَالله يتَوَلَّى السرائر "، كَمَا اسْتدلَّ بِهِ الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره. لكنه حَدِيث لَا يعرف، لَكِن رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو طَاهِر إِسْمَاعِيل بن عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن أبي الْقَاسِم الجنزوي فِي كِتَابه: " إدارة الْأَحْكَام " فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3791 قصَّة الْكِنْدِيّ والحضرمي الَّذين اخْتَصمَا إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وأصل حَدِيثهمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " فَقَالَ الْمقْضِي عَلَيْهِ: قضيت عَليّ وَالْحق لي، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا نقضي بِالظَّاهِرِ وَالله يتَوَلَّى السرائر " وَله شَوَاهِد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3792 مِنْهَا: حَدِيث المتلاعنين: " لَوْلَا مَا فِي كتاب الله لَكَانَ لي وَلها شَأْن ". وَفِي " الصَّحِيح " من حَدِيث أم سَلمَة: " إِنَّمَا أَنا بشر، وَإنَّهُ يأتيني الْخصم، فَلَعَلَّ بَعْضكُم أَلحن بحجته من بعض فأحسب أَنه صدق، فأقضي لَهُ بذلك، فَمن قضيت لَهُ بِحَق مُسلم فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَة من النَّار فليأخذها أَو ليتركها ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3793 وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " إِنِّي لم أُؤمر أَن أنقب عَن قُلُوب النَّاس وَلَا أشق بطونهم ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3794 وَقَول عمر: " إِن الْوَحْي قد انْقَطع، وَإِنَّمَا نأخذكم الْآن بِمَا ظهر لنا "، وَغير ذَلِك وَهُوَ كثير، مِمَّا يدل على أَن الْعَمَل بِالظَّنِّ وَاجِب. تَنْبِيه: ينشأ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ فِي الاستقراء أَن القياسات المنطقية تَدور على ذَلِك، فَإنَّا إِذا قُلْنَا: الْعَالم متغير، وكل متغير حَادث، فَيكون الْعَالم متغيرا، إِنَّمَا علم بالاستقراء التَّام، وَلذَلِك أَفَادَ الْقطع وَالْيَقِين. وَإِذا قُلْنَا: الْوضُوء وَسِيلَة لِلْعِبَادَةِ، وكل مَا هُوَ وَسِيلَة لِلْعِبَادَةِ عبَادَة، إِنَّمَا أثبتنا الْمُقدمَة الثَّانِيَة بالاستقراء، وَهُوَ ظَنِّي؛ لِأَنَّهُ من أَكثر الجزئيات. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَرُبمَا ينْدَرج فِيهِ - أَيْضا - مَا ذكره ابْن الْحَاجِب، وَغَيره: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3795 الِاسْتِدْلَال من قِيَاس التلازم، وَهُوَ تلازم بَين ثبوتين إِلَى آخِره، كَمَا تقدم مُسْتَوفى محررا. فَائِدَة: قَالَ ابْن حمدَان فِي آخر " نِهَايَة المبتدئين ": وأوجز من هَذَا أَن الِاسْتِدْلَال إِمَّا بالجزئي على الْكُلِّي وَهُوَ الاستقراء، أَو بالكلي على الجزئي وَهُوَ الْقيَاس، أَو بالجزئي على الجزئي وَهُوَ التَّمْثِيل، أَو بالكلي على الْكُلِّي وَهُوَ قِيَاس وتمثيل انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3796 (قَوْله: {فصل} ) {قَول صَحَابِيّ غير الْخُلَفَاء على صَحَابِيّ غير حجَّة اتِّفَاقًا} . ذكر الْآمِدِيّ أَن مَذْهَب الصَّحَابِيّ لَيْسَ بِحجَّة على صَحَابِيّ إِجْمَاعًا. وَكَذَا نقل ابْن عقيل وَزَاد: وَلَو كَانَ أعلم أَو إِمَامًا أَو حَاكما. وَفِي نقل الْإِجْمَاع فِي ذَلِك نظر، فقد تقدم لنا فِي الْإِجْمَاع: رِوَايَة عَن أَحْمد أَن قَول الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة حجَّة وَإِجْمَاع، وَاخْتَارَهُ ابْن الْبَنَّا من أَصْحَابنَا، وَأَبُو خازم من أَعْيَان الْحَنَفِيَّة الْمُتَقَدِّمين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3797 وَرِوَايَة: أَن قَوْلهم [لَيْسَ بِإِجْمَاع وَلَا] حجَّة. وَرِوَايَة: أَن قَول الشَّيْخَيْنِ حجَّة. وَرِوَايَة: أَن قَوْلهمَا إِجْمَاع. وَرِوَايَة: أَنه يحرم مُخَالفَة أحد الْأَرْبَعَة، اخْتَارَهُ الْبَرْمَكِي من أَصْحَابنَا وَبَعض الشَّافِعِيَّة. فَكيف نحكي الْإِجْمَاع مَعَ هَذَا الْخلاف؟ وَكَذَلِكَ قَالَ الْبرمَاوِيّ عَن حِكَايَة ابْن الْحَاجِب الِاتِّفَاق على ذَلِك فَقَالَ: (فِي حكايته الِاتِّفَاق نظر. فقد قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ - بعد تَقْرِير أَنه إِنَّمَا يكون حجَّة على قَول من يرَاهُ إِذا لم يخْتَلف الصَّحَابَة، وَلَكِن نقل عَن وَاحِد مِنْهُم وَلم يظْهر خِلَافه: أَن الشَّافِعِي قَالَ فِي مَوضِع: إِذا اخْتلف الصَّحَابَة فالتمسك بقول الْخُلَفَاء أولى، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3798 قَالَ: فَهَذَا كالدليل على أَنه لَا يسْقط الِاحْتِجَاج بأقوال الصَّحَابَة من أجل الِاخْتِلَاف انْتهى. وَفِي " الْمَحْصُول " فِي مَسْأَلَة الْإِجْمَاع السكوتي مَا يشْعر بِالْخِلَافِ فِي كَونه حجَّة على صَحَابِيّ آخر. وَفِي " اللمع " للشَّيْخ أبي إِسْحَاق أَن الصَّحَابَة إِذا اخْتلفُوا على قَوْلَيْنِ يَنْبَنِي على الْقَوْلَيْنِ فِي أَنه حجَّة أم لَا؟ فَإِن قُلْنَا لَيْسَ بِحجَّة لم يكن قَول بَعضهم حجَّة على بعض، وَلم يجز تَقْلِيد وَاحِد مِنْهُمَا، بل يرجع إِلَى الدَّلِيل، وَإِن قُلْنَا إِنَّه حجَّة فهما دليلان تَعَارضا يرجح أَحدهمَا على الآخر بِكَثْرَة الْعدَد من أحد الْجَانِبَيْنِ، أَو يكون فِيهِ إِمَام انْتهى. قَوْله: {فَإِن انْتَشَر وَلم يُنكر فَسبق} . فِي الْإِجْمَاع السكوتي محررا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3799 قَوْله: {وَإِن لم ينتشر فحجة مقدم على الْقيَاس عِنْد الْأَرْبَعَة، وَأكْثر أَصْحَابنَا، وَالْحَنَفِيَّة غير الْكَرْخِي، وَقَالَهُ [الشَّافِعِي] فِي الْقَدِيم والجديد} . نَقله ابْن مُفْلِح، وَنَقله - أَيْضا - عَن مَالك، وَإِسْحَاق، فَمن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3800 أَصْحَابنَا أَبُو بكر، [و] ابْن شهَاب، وَالْقَاضِي، والموفق، والطوفي، وَغَيرهم، وَنَقله أَبُو يُوسُف، وَغَيره عَن أبي حنيفَة. فعلى هَذَا القَوْل إِن اخْتلف صحابيان فكدليلين تَعَارضا على مَا يَأْتِي. وَقيل: إِن انْضَمَّ إِلَيْهِ قِيَاس تقريب كَانَ حجَّة مقدما على الْقيَاس وَإِلَّا فَلَا، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ قولا للشَّافِعِيّ، وَذَلِكَ: كَقَوْل عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - فِي البيع بِشَرْط الْبَرَاءَة من كل عيب " أَن البَائِع يبرأ بِهِ مِمَّا لم يعلم فِي الْحَيَوَان دون غَيره ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3801 قَالَ الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ -: لِأَنَّهُ يغتذي بِالصِّحَّةِ والسقم، أَي: فِي حالتيهما وتحول طبائعه. وقلما يَخْلُو من عيب ظَاهر أَو خَفِي، بِخِلَاف غَيره، فَيبرأ البَائِع فِيهِ من خَفِي لَا يُعلمهُ بِشَرْط الْبَرَاءَة الْمُحْتَاج هُوَ إِلَيْهِ ليثق [باستقرار] العقد. فَهَذَا قِيَاس تقريب، قرب قَول عُثْمَان الْمُخَالف لقياس التَّحْقِيق، وَالْمعْنَى من أَنه لَا يبرأ من شَيْء للْجَهْل بالمبرأ مِنْهُ. وَقيل: حجَّة دون الْقيَاس فَيقدم الْقيَاس عَلَيْهِ إِذا تَعَارضا. وَقيل: إِجْمَاع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3802 قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " فِي الْإِجْمَاع: " وَإِن لم ينتشر القَوْل فَلَا إِجْمَاع لعدم الدَّلِيل. وَعند بَعضهم إِجْمَاع؛ لِئَلَّا يَخْلُو الْعَصْر عَن الْحق. رد: بِجَوَازِهِ لعدم علمهمْ " انْتهى. وَعَن أَحْمد لَيْسَ بِحجَّة كَأبي حنيفَة نَقله عَنهُ ابْن برهَان، وَالشَّافِعِيّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3803 فِي الْجَدِيد، وَأكْثر أَصْحَابه، والأشعرية، وَأبي الْخطاب، وَابْن عقيل، وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل، وَجمع. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَإِلَيْهِ ذهب الأشاعرة والمعتزلة، والكرخي من الْحَنَفِيَّة، والرازي وَأَتْبَاعه، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب وَغَيرهم ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3804 فَيقدم الْقيَاس عَلَيْهِ عِنْد التَّعَارُض؛ لِأَنَّهُ لَا دَلِيل عَلَيْهِ وَالْأَصْل عَدمه. وَسبق فِي دَلِيل الْقيَاس: {فاعتبروا} [الْحَشْر: 2] ، وَاسْتدلَّ بقوله تَعَالَى: {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} [النِّسَاء: 59] . رد: إِن أمكن رده إِلَى الرَّسُول، ثمَّ قَوْله من الرَّسُول. وَاسْتدلَّ بِأَنَّهُ يلْزم من ذَلِك أَن قَول الأعلم حجَّة. رد: لَا يلْزم ذَلِك لمشاهدة التَّنْزِيل وَتَمام الْمعرفَة. وَاسْتدلَّ: بِأَنَّهُ يلْزم من ذَلِك التَّقْلِيد مَعَ إِمْكَان الِاجْتِهَاد. رد: لَا تَقْلِيد وَهُوَ حجَّة. وَاسْتدلَّ أَيْضا: يلْزم من القَوْل بِأَنَّهُ حجَّة تنَاقض الْحجَج. رد: بِأَن التَّرْجِيح يدْفع ذَلِك، أَو الْوَقْف، أَو التَّخْيِير كَبَقِيَّة الْأَدِلَّة. قَالُوا: قَالَ الله تَعَالَى: {كُنْتُم خير أمة} [آل عمرَان: 110] . رد: للْجَمِيع. قَالُوا: قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ "، رَوَاهُ عُثْمَان الدَّارمِيّ، وَابْن عدي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3805 رد: لَا يَصح عِنْد عُلَمَاء الحَدِيث، قَالَ أَحْمد: لَا يَصح، وَذكره فِي رِوَايَة حَنْبَل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3806 قَالَ القَاضِي: فقد احْتج بِهِ فَدلَّ على صِحَّته عِنْده. رد: سبق كَلَام الإِمَام فِي الْخَبَر الضَّعِيف، ثمَّ الرِّوَايَة الأولى أصح وأصرح. ثمَّ لَا يدل على عُمُوم الاهتداء فِي كل مَا يقْتَدى بِهِ، فَالْمُرَاد الِاقْتِدَاء فِي طَرِيق الِاجْتِهَاد، وَفِي روايتهم، أَو هُوَ خطاب الْعَامَّة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3807 وَبِه يعرف جَوَاب مَا سبق فِي الْإِجْمَاع: أَن الْحجَّة قَول الْخُلَفَاء أَو قَول أبي بكر وَعمر. وَأجَاب أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": بِأَنَّهَا لَا تفِيد الْعلم، وَأَن أحدا لم يُوجب الِاقْتِدَاء بِأبي بكر وَعمر فَقَط، كَذَا قَالَ. قَالُوا: فِي البُخَارِيّ " أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف قَالَ لعُثْمَان: أُبَايِعك على سنة الله وَرَسُوله والخليفتين من بعده، فَبَايعهُ عبد الرَّحْمَن وَبَايَعَهُ النَّاس ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3808 رد: إِنَّمَا ذَلِك فِي السياسية، وَلِهَذَا بَينهم خلاف فِي الْأَحْكَام. قَالُوا: يقدم مَعَ قِيَاس ضَعِيف على قِيَاس قوي فَقدم مُطلقًا كَقَوْل الشَّارِع. رد: بِالْمَنْعِ، ذكره فِي " الْوَاضِح "، وَكَذَا فِي " التَّمْهِيد " ثمَّ سلمه. وَقَالَهُ القَاضِي: لاجتماعهما كشاهدين، وَيَمِين مَعَ شَاهد. قَالُوا: قَالَ الزُّهْرِيّ لصالح بن كيسَان: " نكتب مَا جَاءَ عَن الصَّحَابَة فَإِنَّهُ سنة، فَقَالَ: لَيْسَ بِسنة فَلَا تكتبه، قَالَ: فأنجح وضيعت "، رَوَاهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3809 [عبد الرَّزَّاق] عَن معمر عَن صَالح. رد: لَا حجَّة فِيهِ. قَوْله: {وَقَوله فِيمَا يُخَالف الْقيَاس يحمل على التَّوْقِيف ظَاهرا عِنْد أَحْمد وَأكْثر الصَّحَابَة، وَالشَّافِعِيّ، وَالْحَنَفِيَّة، وَابْن الصّباغ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3810 والرازي، وَخَالف أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة} . قَالَ السُّبْكِيّ، وَتَبعهُ ابْنه التَّاج، وَالشَّيْخ صَلَاح الدّين العلائي: أَن الشَّافِعِي يَقُول: إِنَّه يحمل على التَّوْقِيف فِي الْجَدِيد. وَقَالَ السُّبْكِيّ أَيْضا: إِنَّه مَذْكُور فِي الْجَدِيد وَالْقَدِيم، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يصير فِي حكم الْمَرْفُوع. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَقد سبق أَن الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ مَا لَا يُمكن أَن يَقُوله عَن اجْتِهَاد بل عَن تَوْقِيف: أَنه يكون مَرْفُوعا، صرح بِهِ عُلَمَاء الحَدِيث وَالْأُصُول " انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3811 قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: هُوَ اخْتِيَار الشَّافِعِي، أَعنِي قَوْله فِيمَا يُخَالف الْقيَاس أَنه يحمل على التَّوْقِيف. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وبنينا عَلَيْهِ مسَائِل: كتغليظ الدِّيَة بالحرمات الثَّلَاث. قَوْله: {فعلى الأول يكون حجَّة حَتَّى على صَحَابِيّ عندنَا، وَقَالَهُ أَبُو الْمَعَالِي} . قَالَ ابْن مُفْلِح: " يلْزم على القَوْل بِأَنَّهُ توقيفي أَن يكون حجَّة على صَحَابِيّ. رد: نقُول بِهِ، وَقَالَهُ أَبُو الْمَعَالِي. وَأَيْضًا: يُعَارض خَبرا مُتَّصِلا. رد: نعم، يُعَارضهُ عِنْد أبي الْخطاب، ثمَّ الْمُتَّصِل ثَبت من النَّقْل فَقدم الْمُتَّصِل عَلَيْهِ، وَأَيْضًا: لَا يجوز إِضَافَته إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالظَّنِّ. رد: يمْنَع ذَلِك كَخَبَر الْوَاحِد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3812 وَأَيْضًا: لَو كَانَ حَدِيثا لنقله الصَّحَابِيّ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِئَلَّا يكون كَاتِما للْعلم. رد: يحْتَمل أَنه نَقله وَلم يبلغنَا، أَو ظن نقل غَيره لَهُ، فَاكْتفى بذلك الْغَيْر عَن نَقله، أَو كره الرِّوَايَة. قلت: كل هَذِه الِاحْتِمَالَات بعيدَة، بل يُقَال: لَا يلْزم أَنه إِذا [روى] ذَلِك وَكَانَ توقيفا أَن يُصَرح بِرَفْعِهِ. قَوْله: {وَمذهب التَّابِعِيّ لَيْسَ بِحجَّة عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، وَعنهُ: بلَى، فيخص بِهِ الْعُمُوم ويفسر بِهِ} . قَالَ ابْن مُفْلِح: " مَذْهَب التَّابِعِيّ لَيْسَ بِحجَّة عِنْد أَحْمد وَالْعُلَمَاء للتسلسل، وَذكر بعض الْحَنَفِيَّة عَنهُ رِوَايَتَيْنِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3813 وَقَالَ ابْن عقيل: لَا يخص بِهِ الْعُمُوم وَلَا يُفَسر بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحجَّة. قَالَ: وَعنهُ جَوَاز ذَلِك، ثمَّ ذكر قَول أَحْمد: لَا يكَاد يَجِيء شَيْء عَن التَّابِعين إِلَّا يُوجد عَن الصَّحَابَة. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: كَلَام أَحْمد يعم تَفْسِيره وَغَيره. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ على هَذَا رفع التسلسل ". قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": وَلَا يلْزم الرُّجُوع إِلَى تَفْسِير التَّابِعِيّ. قَالَ بَعضهم: وَلَعَلَّه مُرَاد غَيره إِلَّا أَن ينْقل ذَلِك عَن الْعَرَب. وَأطلق القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن وَغَيره رِوَايَتَيْنِ: الرُّجُوع، وَعَدَمه. نقل أَبُو دَاوُد: إِذا جَاءَ الشَّيْء عَن الرجل من التَّابِعين لَا يُوجد فِيهِ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يلْزم الْأَخْذ بِهِ. وَنقل الْمَرْوذِيّ: ينظر مَا كَانَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِن لم يكن فَعَن الصَّحَابَة فَإِن لم يكن فَعَن التَّابِعين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3814 قَالَ القَاضِي: وَيُمكن حمله على إِجْمَاعهم انْتهى. قَوْله: {وَكَذَا لَو خَالف الْقيَاس، وَذكره ابْن عقيل مَحل وفَاق، يَعْنِي: أَنه لَا يكون حجَّة، وَعند الْمجد: كصحابي} . يَعْنِي: أَنه إِذا قَالَ قولا يُخَالف الْقيَاس هَل يحمل على التَّوْقِيف أم لَا؟ الْمَذْهَب: لَا، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، وَذكره ابْن عقيل مَحل وفَاق. وَقَالَ الْمجد فِي " شرح الْهِدَايَة " " فِي - مَسْأَلَة من قَامَ من نوم اللَّيْل فَغمسَ يَده فِي الْإِنَاء قبل غسلهمَا -[وَزَوَال طهوريته] قَول الْحسن وَهُوَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3815 مُخَالف للْقِيَاس، والتابعي إِذا قَالَ مثل ذَلِك فَإِنَّهُ حجَّة، لِأَن الظَّاهِر أَنه تَوْقِيف عَن صَحَابِيّ، أَو نَص ثَبت عِنْده ". وَقَالَهُ - أَيْضا - عَن قَول أَسد بن ودَاعَة التَّخْفِيف بِقِرَاءَة " يس " عِنْد المحتضر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3816 وَذكر ابْن مُفْلِح فِي " فروعه " بعد أَن ذكر كَلَام الْمجد وَغَيره: وَيتَوَجَّهُ تَخْرِيج رِوَايَة من جعل تَفْسِيره كتفسير الصَّحَابِيّ. ثمَّ قَالَ: وَذكر صَاحب " الْمُحَرر " وَغَيره: كصحابي، فَلم ينْفَرد الْمجد بذلك وَالله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3817 (قَوْله: {فصل} ) {الِاسْتِحْسَان قَالَ بِهِ الْحَنَفِيَّة، وَأحمد فِي مَوَاضِع، وَكتب أَصْحَاب مَالك مَمْلُوءَة مِنْهُ، وَلم ينص عَلَيْهِ، وَأنْكرهُ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، وَرُوِيَ عَن أَحْمد، قَالَ أَبُو الْخطاب: أنكر مَا لَا دَلِيل لَهُ} . قَالَ ابْن مُفْلِح: أطلق أَحْمد القَوْل بِهِ فِي مَوَاضِع. قلت: قَالَ فِي رِوَايَة الْمَيْمُونِيّ: " اسْتحْسنَ أَنه يتَيَمَّم لكل صَلَاة، وَالْقِيَاس: أَنه بِمَنْزِلَة المَاء حَتَّى يحدث أَو يجد المَاء ". وَقَالَ فِي رِوَايَة بكر بن مُحَمَّد فِيمَن غصب أَرضًا فزرعها: " الزَّرْع لصَاحب الأَرْض وَعَلِيهِ النَّفَقَة، وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْء يُوَافق الْقيَاس، وَلَكِن اسْتحْسنَ أَن يدْفع إِلَيْهِ النَّفَقَة ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3818 وَقَالَ فِي رِوَايَة صَالح فِي الْمضَارب إِذا خَالف فَاشْترى غير مَا أَمر بِهِ صَاحب المَال: " فَالرِّبْح لصَاحب المَال، وَلِهَذَا أُجْرَة مثله، إِلَّا أَن يكون الرِّبْح يُحِيط بأجره مثله فَيذْهب، وَكنت أذهب إِلَى أَن الرِّبْح لصَاحب المَال ثمَّ استحسنت هَذَا ". وَيَأْتِي مثله غير ذَلِك قَرِيبا فِي التَّعْرِيف الأول. وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة. قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي: لم ينص عَلَيْهِ مَالك، وَكتب أَصْحَابنَا مَمْلُوءَة مِنْهُ، كَابْن قَاسم، وَأَشْهَب، وَغَيرهمَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3819 وَقَالَ الشَّافِعِي: " اسْتحْسنَ الْمُتْعَة ثَلَاثِينَ درهما ". وَثُبُوت الشُّفْعَة إِلَى ثَلَاث، وَترك شَيْء من الْكِتَابَة، وَأَن لَا تقطع يمنى السَّارِق أخرج يَده الْيُسْرَى فَقطعت، والتحليف على الْمُصحف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3820 وَالْأَشْهر عَنهُ: إِنْكَاره، وَقَالَهُ أَصْحَابه. وَقَالَ: " من اسْتحْسنَ فقد شرع ". وَهُوَ بتَشْديد الرَّاء، أَي: نصب شرعا على خلاف مَا أَمر الله بِهِ وَرَسُوله، وَأنْكرهُ على الْحَنَفِيَّة. وَعَن أَحْمد: " الْحَنَفِيَّة تَقول: نستحسن هَذَا وَنَدع الْقيَاس، فتدع مَا نزعمه الْحق بالاستحسان، وَأَنا أذهب إِلَى كل حَدِيث جَاءَ وَلَا أَقيس عَلَيْهِ ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3821 قَالَ القَاضِي: هَذَا يدل على إِبْطَاله. وَقَالَ أَبُو الْخطاب: إِنَّمَا أنكر اسْتِحْسَانًا بِلَا دَلِيل، قَالَ: وَمعنى " أذهب إِلَى مَا جَاءَ وَلَا أَقيس "، أَي: أترك الْقيَاس بالْخبر، وَهُوَ الِاسْتِحْسَان بِالدَّلِيلِ انْتهى. وأوّل أَصْحَاب الشَّافِعِي كَلَام الشَّافِعِي بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِك بِدَلِيل، لكنه سَمَّاهُ اسْتِحْسَانًا، لَا عده حسنا. وَلَا يُنكر التَّعْبِير بذلك، وَيُقَال لِلْقَائِلين بِهِ إِن عنيتم مَا يستحسنه الْمُجْتَهد بعقله من غير دَلِيل كَمَا حَكَاهُ الشَّافِعِي عَن أبي حنيفَة. قَالَ الشِّيرَازِيّ: " هُوَ الصَّحِيح فِي النَّقْل عَنهُ ". فَأمر عَظِيم، وَقَول فِي الشَّرِيعَة لمُجَرّد التشهي وتفويض الْأَحْكَام إِلَى عقول ذَوي الآراء، وَقد قَالَ تَعَالَى: {وَمَا اختلفتم فِيهِ من شَيْء فَحكمه إِلَى الله} [الشورى: 10] ، وَلَكِن أَصْحَابه يُنكرُونَ هَذَا التَّفْسِير عَنهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3822 وَإِن عنيتم جَوَاز لفظ الِاسْتِحْسَان فَقَط فَلَا إِنْكَار فِي ذَلِك، فَإِن الله تَعَالَى يَقُول: {الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه} [الزمر: 18] . وَفِي الحَدِيث: " مَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن "، وَالْكتاب وَالسّنة مشحونان بِنَحْوِ ذَلِك. لكِنهمْ لَا يقصدون هَذَا الْمَعْنى، فَلَيْسَ لكم أَن تحتجوا بِمثلِهِ على الِاسْتِحْسَان بِالْمَعْنَى الَّذِي تريدونه. وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد، والدارمي، عَن ابْن مَسْعُود مَوْقُوفا عَلَيْهِ، وَمن رَفعه فقد أَخطَأ، وَرَفعه من حَدِيث أنس سَاقِط لَا يحْتَج بِهِ، وعَلى تَقْدِير صِحَّته فَالْمُرَاد بِهِ إِجْمَاع الْأمة ورأيهم حسنه بِالدَّلِيلِ الَّذِي قَامَ لَهُم. قَوْله: {وَهُوَ لُغَة: اعْتِقَاد الشَّيْء حسنا} . الِاسْتِحْسَان، استفعال من الْحسن: اعْتِقَاد الشَّيْء حسنا. وَإِنَّمَا قُلْنَا [اعْتِقَاد] الشَّيْء حسنا، وَلم نقل الْعلم بِكَوْن الشَّيْء حسنا؛ لِأَن الِاعْتِقَاد لَا يلْزم مِنْهُ الْعلم الْجَازِم المطابق لما فِي نفس الْأَمر، إِذْ قد يكون الِاعْتِقَاد صَحِيحا إِذا طابق الْوَاقِع، وَقد يكون فَاسِدا إِذا لم يُطَابق، وَحِينَئِذٍ قد يستحسن الشَّخْص شَيْئا بِنَاء على اعْتِقَاده وَلَا يكون حسنا فِي نفس الْأَمر، وَقد يُخَالِفهُ غَيره فِي استحسانه، فَلَو قيل: الْعلم بِكَوْن الشَّيْء حسنا يخرج مِنْهُ مَا لَيْسَ حسنه حَقًا فِي نفس الْأَمر، وَإِذا قُلْنَا: اعْتِقَاد الشَّيْء حسنا تنَاول ذَلِك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3823 قَوْله: {وَعرفا، أَي فِي عرف الْأُصُولِيِّينَ واصطلاحهم الْعُدُول بِحكم الْمَسْأَلَة عَن نظائرها لدَلِيل شَرْعِي} . قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره " وَتَبعهُ بعض أَصْحَابه وتابعناهم: وأجود مَا قيل فِيهِ: إِنَّه الْعُدُول بِحكم الْمَسْأَلَة عَن نظائرها لدَلِيل شَرْعِي خَاص بِتِلْكَ الْمَسْأَلَة. قَالَ الطوفي: " مِثَاله قَول أبي الْخطاب فِي مَسْأَلَة الْعينَة: وَإِذا اشْترى مَا بَاعَ بِأَقَلّ مِمَّا بَاعَ قبل نقد الثّمن الأول: لم يجز اسْتِحْسَانًا، وَجَاز قِيَاسا، فَالْحكم فِي نَظَائِر هَذِه الْمَسْأَلَة من الربويات: الْجَوَاز، وَهُوَ الْقيَاس، لَكِن عدل بهَا عَن نظائرها بطرِيق الِاسْتِحْسَان، فمنعت، وَحَاصِل هَذَا يرجع إِلَى تَخْصِيص الدَّلِيل بِدَلِيل أقوى مِنْهُ فِي نظر الْمُجْتَهد. قَالَ ابْن المعمار الْبَغْدَادِيّ: مِثَال الِاسْتِحْسَان مَا قَالَه أَحْمد رَحمَه الله: إِنَّه يتَيَمَّم لكل صَلَاة، اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاس أَنه بِمَنْزِلَة المَاء حَتَّى يحدث. وَقَالَ: يجوز شِرَاء أَرض السوَاد وَلَا يجوز بيعهَا. قيل لَهُ: فَكيف يَشْتَرِي مِمَّن لَا يملك البيع؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3824 فَقَالَ: الْقيَاس هَكَذَا، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْسَان. وَكَذَلِكَ يمْنَع من بيع الْمُصحف وَيُؤمر بِشِرَائِهِ استحسانه ". وَقيل: دَلِيل ينقدح فِي نفس الْمُجْتَهد يعجز عَن التَّعْبِير عَنهُ، وَهُوَ لبَعض الْحَنَفِيَّة. قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": " مَا لَا يعبر عَنهُ لَا يدرى أوهم أَو تَحْقِيق ". قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَمرَاده مَا قَالَ الْآمِدِيّ: يرد إِن شكّ فِيهِ وَلَا عمل بِهِ اتِّفَاقًا. وَمرَاده النَّاظر لَا المناظر ". قَالَ الطوفي عَن هَذَا الْحَد: وَهُوَ هوس إِلَى طرف من الْجُنُون، حَيْثُ هُوَ كَلَام لَا فَائِدَة فِيهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3825 ورده ابْن الْحَاجِب: بِأَنَّهُ إِذا لم يتَحَقَّق بِكَوْنِهِ دَلِيلا فمردود اتِّفَاقًا، وَإِن تحقق فمعتبر اتِّفَاقًا. قيل: وَفِيمَا قَالَه نظر، لِأَنَّهُ قد يُقَال على الشَّك الأول لَا معنى لكَونه لم يتَحَقَّق، لِأَن الْغَرَض أَنه عِنْدهم دَلِيل على الشق الثَّانِي، لَا نسلم أَن مَا لَا يُمكن التَّعْبِير عَنهُ من الْأَدِلَّة يعْمل بِهِ. ورده الْبَيْضَاوِيّ: " بِأَنَّهُ لَا بُد من ظُهُوره ليتميز صَحِيحه من [فاسده] "، فَإِن مَا ينقدح فِي نفس الْمُجْتَهد قد يكون وهما لَا عِبْرَة بِهِ. قيل: وَفِيه نظر؛ لِأَن هَذَا إِنَّمَا يقْدَح فِيمَا يكون فِي المناظرة، وَأما بِالنِّسْبَةِ إِلَى عمل الْمُجْتَهد بِهِ فَإِنَّهُ انقدح عِنْده أَنه دَلِيل فَعمل بِهِ وَأفْتى بِهِ، وَإِن لم يقدر على التَّعْبِير عَنهُ فَيَنْبَغِي أَن يُقَال فِي الرَّد: إِن المنقدح فِي نفس الْمُجْتَهد إِنَّمَا يمتاز عَن غَيره من الْأَدِلَّة لكَونه لَا يُمكن التَّعْبِير عَنهُ، وَلَكِن ذَلِك لَا يقْدَح فِي كَونه دَلِيلا، فَيمكن التَّمَسُّك بِهِ وفَاقا فَأَيْنَ الِاسْتِحْسَان الْمُخْتَلف فِيهِ؟ فَقَالَ الْكَرْخِي، وَالْقَاضِي فِي " الْعدة "، وَالْقَاضِي يَعْقُوب: ترك الحكم لحكم أولى مِنْهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3826 وأبطله أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": بِأَن الْقُوَّة للأدلة لَا للْأَحْكَام. وَقَالَ القَاضِي - أَيْضا - والحلواني: القَوْل بأقوى الدَّلِيلَيْنِ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخطاب: أَن كَلَام أَحْمد يَقْتَضِي أَنه عدُول عَن مُوجب قِيَاس لقياس أقوى. وَاخْتَارَهُ فِي " الْوَاضِح ". وَقيل: الْعُدُول عَن حكم الدَّلِيل إِلَى الْعَادة لمصْلحَة النَّاس: كشرب المَاء من السقاة، وَدخُول الْحمام من غير تَقْدِير المَاء. ورد ذَلِك: بِأَن الْعَادة إِن ثَبت جريانها بذلك فِي زَمَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ ثَابت بِالسنةِ، أَو فِي زمانهم من غير إِنْكَار فَهُوَ إِجْمَاع، وَإِلَّا فَهُوَ مَرْدُود. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3827 وَقيل: ترك قِيَاس لقياس أقوى مِنْهُ. وأبطله فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: أَنه لَو تَركه لنَصّ كَانَ اسْتِحْسَانًا. وَفِي مُقَدّمَة " الْمُجَرّد ": ترك قِيَاس لما هُوَ أولى مِنْهُ أَوْمَأ إِلَيْهِ أَحْمد. وَقد ظهر مِمَّا تقدم أَنه لَا يتَحَقَّق اسْتِحْسَان مُخْتَلف فِيهِ، وَإِن تحقق اسْتِحْسَان مُخْتَلف فِيهِ، فَمن قَالَ بِهِ فقد شرع، كَمَا قَالَ الشَّافِعِي. قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: وَلَا نزاع معنوي فِي ذَلِك. قَوْله: {وَعند الْحَنَفِيَّة يثبت بالأثر: كسلم، وَإِجَارَة، وَبَقَاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3828 صَوْم نَاس، وبالإجماع وبالضرورة: كتطهير الْحِيَاض، وَسموا مَا ضعف أَثَره قِيَاسا وَالْقَوِي اسْتِحْسَانًا} . أَي: قِيَاسا مستحسنا لقُوَّة أَثَره: كتقديمه فِي طَهَارَة سِبَاع الطير، وَقدمُوا قِيَاسا ظهر فَسَاده واستتر أَثَره على اسْتِحْسَان ظهر أَثَره واستتر فَسَاده: كالركوع بدل سُجُود التِّلَاوَة للخضوع الْحَاصِل بِهِ، لِأَن السُّجُود لم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3829 يُؤمر بِهِ لعَينه فَلم يشرع قربَة مَقْصُودَة. وَفرقُوا بَين الِاسْتِحْسَان بِالثَّلَاثَةِ الأول، بِالْقِيَاسِ الْخَفي بِصِحَّة التَّعْدِيَة بِهِ دونهَا: كالاختلاف فِي ثمن مَبِيع قبل قَبضه لَا يحلف بَائِع قِيَاسا؛ لِأَنَّهُ مُدع، وَيحلف اسْتِحْسَانًا لإنكاره تَسْلِيمه بِمَا يَدعِيهِ مُشْتَر فيتعدى إِلَى الْوَارِث وَالْإِجَارَة، وَبعد قَبضه يثبت الْيَمين بالأثر فَلم يَتَعَدَّ إِلَى وَارثه وَإِلَى حَال تلف مَبِيع. وَكَذَا قَالُوا: وَلَا يخفى مَا فِيهِ، وَمثل هَذَا لم يقل بِهِ أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وَالله أعلم، قَالَه ابْن مُفْلِح. قَالَ: (وَإِن ثَبت اسْتِحْسَان مُخْتَلف فِيهِ فَلَا دَلِيل عَلَيْهِ، وَالْأَصْل عَدمه، وَقَوله تَعَالَى: {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} [الزمر: 55] ، لَا نسلم أَن هَذَا مَا أنزلهُ فضلا عَن كَونه أحسن وَلم يفسره بِهِ أحد. " وَمَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن " سبق فِي الْإِجْمَاع وَهُوَ المُرَاد قطعا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3830 وَنَازع ابْن عقيل الْحَنَفِيَّة وَقَالَ: الْقيَاس: هُوَ وضع الِاسْتِحْسَان، وَأَنه يتَصَوَّر الْخلاف مَعَهم فِي ترك الْقيَاس للْعُرْف وَالْعَادَة، وَاحْتج بِأَن الْقيَاس حجَّة فَلَا يجوز تَركه لعرف طاريء كَغَيْرِهِ) انْتهى. قَوْله: {سد أَحْمد وَمَالك الذرائع: وَهُوَ مَا ظَاهره مُبَاح، ويتوصل بِهِ إِلَى محرم، وأباحه أَبُو حنيفَة، وَالشَّافِعِيّ} . قَالَ الشَّيْخ الْمُوفق فِي " الْمُغنِي " وَمن تبعه: بل عَلَيْهِ الْأَصْحَاب " والحيل كلهَا مُحرمَة لَا تجوز فِي شَيْء من الدّين. وَهُوَ: أَن يظْهر عقدا مُبَاحا يُرِيد بِهِ محرما مخادعة وتوسلا إِلَى فعل مَا حرم الله، واستباحة محظوراته، أَو إِسْقَاط وَاجِب، أَو دفع حق، وَنَحْو ذَلِك. قَالَ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ رَحمَه الله: إِنَّهُم ليخادعون الله كَمَا يخادعون صَبيا، لَو كَانُوا يأْتونَ الْأَمر على وَجهه كَانَ أسهل عَليّ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3831 فَمن ذَلِك: لَو كَانَ لرجل عشرَة صحاحا وَمَعَ آخر خمس عشرَة مكسرة، فاقترض كل وَاحِد مِنْهُمَا مَا مَعَ صَاحبه، ثمَّ تباريا توصلا إِلَى بيع الصِّحَاح بالمكسرة مُتَفَاضلا، أَو بَاعه الصِّحَاح بِمِثْلِهَا من المكسرة، ثمَّ وهبه الْخَمْسَة الزَّائِدَة، أَو اشْترى مِنْهُ بهَا أُوقِيَّة صابون، وَنَحْوهَا مِمَّا يَأْخُذهُ بِأَقَلّ من قِيمَته، أَو اشْترى مِنْهُ بِعشْرَة إِلَّا حَبَّة من الصَّحِيح بِمِثْلِهَا من المكسرة، أَو اشْترى مِنْهُ بالحبة الْبَاقِيَة ثوبا قِيمَته خَمْسَة دَنَانِير، وَهَكَذَا لَو أقْرضهُ مِنْهُ شَيْئا، وَبَاعه سلْعَة بِأَكْثَرَ من قيمتهَا، أَو اشْترى مِنْهُ سلْعَة بِأَقَلّ من قيمتهَا توسلا إِلَى أَخذ عوض عَن الْقَرْض. فَكل مَا كَانَ من هَذَا على وَجه الْحِيلَة هُوَ خَبِيث محرم، وَبِهَذَا قَالَ مَالك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3832 وَقَالَ أَبُو حنيفَة، وَالشَّافِعِيّ: هَذَا كُله وأشباهه جَائِز إِذا لم يكن مَشْرُوطًا فِي العقد. وَقَالَ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي: يكره أَن يدخلا عَلَيْهِ. ثمَّ قَالَ الْمُوفق: وَلنَا أَن الله تَعَالَى عذب أمة بحيلة احتالوها فمسخهم قردة، وَسَمَّاهُمْ معتدين، وَجعل ذَلِك نكالا وموعظة لِلْمُتقين ليتعظوا بهم، ويمتنعو من مثل أفعالهم " وَأطَال فِي ذَلِك، ذكره فِي الشَّرْح آخر الرِّبَا وَالله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3833 (قَوْله: {فصل} ) {الْمصَالح الْمُرْسلَة: سبقت فِي المسلك الرَّابِع، وَذكر أَبُو الْخطاب أَن الاستنباط قِيَاس واستدلال بأمارة، أَو عِلّة بِشَهَادَة الأَصْل، قَالَ الشَّيْخ: هَذَا هُوَ الْمصَالح} . سبقت الْمصَالح الْمُرْسلَة فِي المسلك الرَّابِع بأقسامها، وتفاريعها، وأحكامها، وَالْخلاف فِيهَا، محررة مستوفاة فليعاود. وَذَلِكَ إِن شهد الشَّرْع باعتبارها: كاقتباس الحكم من مَعْقُول دَلِيل شَرْعِي فَقِيَاس، أَو ببطلانها: كتعيين الصَّوْم فِي كَفَّارَة وَطْء رَمَضَان على الْمُوسر كالملك وَنَحْوه فلغو. قَالَ بعض أَصْحَابنَا: " أنكرها متأخرو أَصْحَابنَا من أهل الْأُصُول، والجدل، وَابْن الباقلاني، وَجَمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين ". وَقَالَ بهَا مَالك، وَالشَّافِعِيّ فِي قَول قديم، وَحكي عَن أبي حنيفَة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3834 وَقَالَ ابْن برهَان: الْحق مَا قَالَه الشَّافِعِي: إِن لاءمت أصلا كليا أَو جزئيا قُلْنَا بهَا وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ: مَالك لَا يُخَالف هَذَا الْمَذْهَب. وَذكر أَبُو الْخطاب فِي تَقْسِيم أَدِلَّة الشَّرْع: أَن الاستنباط قِيَاس، واستدلال بأمارة أَو عِلّة، وبشهادة الْأُصُول. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: الِاسْتِدْلَال بأمارة أَو عِلّة هُوَ الْمصَالح. وَأنكر بعض أَصْحَابنَا مذهبا ثَالِثا فِيهَا وَالله أعلم. قَوْله: {فَائِدَة:} {من أَدِلَّة الْفِقْه: لَا يرفع يَقِين شكّ، وَالضَّرَر يزَال وَلَا يزَال بِهِ، ويبيح الْمَحْظُور، وَالْمَشَقَّة تجلب التَّيْسِير، وَدفع الْمَفَاسِد أولى من جلب الْمصَالح، وَدفع أَعْلَاهَا بأدناها، وتحكم الْعَادة، وَجعل الْمَعْدُوم كالموجود احْتِيَاطًا} . هَذِه كالأدلة وَالْقَوَاعِد للفقه ذَكرنَاهَا هُنَا من كتب أَصْحَابنَا وَغَيرهم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3835 فَإِن هَذَا الْبَاب مَوْضُوع الِاسْتِدْلَال، وَلذَلِك ذكرُوا هُنَا الإلهام هَل هُوَ دَلِيل أم لَا؟ وَكَذَلِكَ أقل مَا قيل: كدية الْكِتَابِيّ. فَهَذِهِ قَوَاعِد تشبه الْأَدِلَّة وَلَيْسَت بأدلة لَكِن ثَبت مضمونها بِالدَّلِيلِ، وَصَارَت يقْضى بهَا فِي جزئياتها كَأَنَّهَا دَلِيل على ذَلِك الجزئي، فَلَمَّا كَانَت كَذَلِك ناسب أَن نذْكر هُنَا شَيْئا من مهمات مَذْهَب أَحْمد وَأَصْحَابه الَّتِي صَارَت مَشْهُورَة بَين الْأَصْحَاب، وَهِي فِي الْحَقِيقَة رَاجِعَة إِلَى قَوَاعِد أصُول الْفِقْه، فنذكرها ونشير إِلَى مَا يرجع كل مِنْهَا إِلَيْهِ من قَوَاعِد أصُول الْفِقْه بِاخْتِصَار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3836 وَقد ذكر الْعَلامَة ابْن رَجَب قَوَاعِد جليلة عَظِيمَة لَكِنَّهَا فِي الْفِقْه. وَبعده تِلْمِيذه القَاضِي عَلَاء الدّين ابْن اللحام البعلي، ذكر قَوَاعِد فِي أصُول الْفِقْه، كل مِنْهُمَا أَتَى بأَشْيَاء كَثِيرَة حَسَنَة جدا نافعة لطَالب الْعلم. وَكَذَلِكَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين [ذكر] قَوَاعِد كَثِيرَة فِي الْمَذْهَب، وَكَذَلِكَ ابْن الْقيم وَغَيره. إِذْ يحب على كل من أَرَادَ إحكام علم أَن يضْبط قَوَاعِده ليرد إِلَيْهَا مَا ينتشر من الْفُرُوع، ثمَّ يُؤَكد ذَلِك بالاستكثار من حفظ الْفُرُوع ليرسخ فِي الذِّهْن؛ فيتميز على نظرائه بِحِفْظ ذَلِك واستحضاره. وَاعْلَم أَن قَوَاعِد مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه كَثِيرَة جدا لَا تَنْحَصِر، كَمَا تقدم ذكر بَعْضهَا عَن ابْن رَجَب وَغَيره، وَكَذَلِكَ جَمِيع الْمذَاهب الْأَرْبَعَة لكل أَصْحَاب مَذْهَب قَوَاعِد كَثِيرَة جليلة عَظِيمَة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3837 وَقد رد الْعَلامَة أَبُو الطَّاهِر الدباس الْحَنَفِيّ إِمَام الْحَنَفِيَّة بِمَا وَرَاء النَّهر جَمِيع مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله إِلَى سبع عشرَة قَاعِدَة، وَكَانَ يضن بتعليمها. وَلما بلغ ذَلِك الإِمَام الْعَلامَة القَاضِي الْحُسَيْن أحد أَئِمَّة الشَّافِعِيَّة رد جَمِيع مَذْهَب الشَّافِعِي إِلَى أَربع قَوَاعِد، وَهِي: الْيَقِين لَا يزَال بِالشَّكِّ، وَالضَّرَر يزَال، وَالْمَشَقَّة تجلب التَّيْسِير، وَالْعَادَة محكمَة. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: فِي كَون هَذِه الْأَرْبَع دعائم الْفِقْه نظر، فَإِن غالبه لَا يرجع إِلَيْهَا إِلَّا بوسائط وتكلف. قَالَ الْحَافِظ العلائي: (وَرَأَيْت فِيمَا علقت بِالْقَاهِرَةِ، وَعَن بعض الْفُضَلَاء أَنه ضم إِلَى الْأَرْبَع خَامِسَة وَهِي: الْأُمُور بمقاصدها، لحَدِيث: " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ "، وَقَالَ: بني الْإِسْلَام على خمس، وَالْفِقْه على خمس، وَهُوَ حسن) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3838 وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: أصُول الْإِسْلَام ثَلَاثَة أَحَادِيث: " الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ "، و " الْحَلَال بَين وَالْحرَام بَين " و " من أحدث فِي أمرنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد ". وَقَالَ أَبُو دَاوُد تلميذ الإِمَام أَحْمد: الْفِقْه يَدُور على خَمْسَة أَحَادِيث: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3839 " الْحَلَال بَين وَالْحرَام بَين "، و " الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ "، و " مَا نَهَيْتُكُمْ عَنهُ فَاجْتَنبُوهُ، وَمَا أَمرتكُم بِهِ فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم "، و " لَا ضَرَر وَلَا ضرار "، و " الدّين النَّصِيحَة ". وَقَالَ أَيْضا: كتبت عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خمس مائَة ألف حَدِيث، انتخبت مِنْهُ مَا ضمنته كتابي السّنَن، جمعت فِيهِ أَرْبَعَة آلَاف وَثَمَانمِائَة حَدِيث، ذكرت الصَّحِيح وَمَا يُشبههُ ويقاربه، وَيَكْفِي الْمُسلم لدينِهِ من ذَلِك أَرْبَعَة أَحَادِيث: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3840 " الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ "، و " من حسن إِسْلَام الْمَرْء تَركه مَا لَا يعنيه "، و " لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى يرضى لِأَخِيهِ مَا يرضى لنَفسِهِ "، و " الْحَلَال بَين وَالْحرَام بَين ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3841 وَقَالَ الرّبيع: سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول: يدْخل حَدِيث عمر، يَعْنِي " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " على سبعين بَابا من الْفِقْه، أَي: أنواعا، أَو مُبَالغَة، اعْتِبَارا أَنه دَاخل فِي أَكثر الْفِقْه. وَقَالَ أَيْضا: يدْخل فِي هَذَا الحَدِيث ثلث الْعلم. ورد بعض أهل الْعلم ذَلِك إِلَى أقل من الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة قبل. ورد ابْن عبد السَّلَام الْفِقْه كُله إِلَى اعْتِبَار الْمصَالح ودرء الْمَفَاسِد. وَلَو ضايقه مضايق لقَالَ: ورد الْكل إِلَى اعْتِبَار الْمصَالح، فَإِن دَرْء الْمَفَاسِد من جُمْلَتهَا، وكل هَذَا تعسف، وَفِيه إِجْمَال شَدِيد، بل الْقَوَاعِد تزيد على الْمِائَتَيْنِ، كَمَا ذكر بَعْضهَا ابْن اللحام من أَصْحَابنَا وَغَيره. وَذكر التَّاج السُّبْكِيّ قَوَاعِد كَثِيرَة جدا أَجَاد فِيهَا وَأفَاد. وَذكرنَا هُنَا بعض قَوَاعِد تشْتَمل على مسَائِل مهمة، وَهِي متسعة جدا، وَلذَلِك ذكر التَّاج السُّبْكِيّ الْأَرْبَعَة الأول. وَزَاد بَعضهم خَامِسَة، وزدنا عَلَيْهَا شَيْئا يَسِيرا. فَمن ذَلِك: " لَا يرفع يَقِين بشك ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3842 وَمعنى ذَلِك: أَن الْإِنْسَان إِذا تحقق شَيْئا ثمَّ شكّ: هَل زَالَ ذَلِك الشَّيْء الْمُحَقق أم لَا؟ الأَصْل بَقَاء المتحقق، فَيبقى الْأَمر على مَا كَانَ متحققا بِحَدِيث عبد الله بن زيد الْمَازِني: شكي إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الرجل يخيل إِلَيْهِ: أَنه يجد الشَّيْء فِي الصَّلَاة؟ قَالَ: " لَا ينْصَرف حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا " مُتَّفق عَلَيْهِ. وَلمُسلم: " إِذا وجد أحدكُم فِي بَطْنه شَيْئا فأشكل عَلَيْهِ: أخرج مِنْهُ شَيْء فَلَا يخْرجن من الْمَسْجِد حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3843 فَلَو شكّ فِي امْرَأَة هَل تزَوجهَا أم لَا؟ لم يكن لَهُ وَطْؤُهَا استصحابا لحكم التَّحْرِيم إِلَى أَن يتَحَقَّق تزَوجه بهَا اتِّفَاقًا. وَكَذَا لَو شكّ: هَل طلق زَوجته أم لَا؟ لم تطلق زَوجته، وَله أَن يطَأ حَتَّى يتَحَقَّق الطَّلَاق استصحابا للنِّكَاح. وَكَذَا لَو شكّ: هَل طلق وَاحِدَة أم ثَلَاثًا؟ الأَصْل الْحل. وَكَذَا لَو تحقق الطَّهَارَة ثمَّ شكّ فِي زَوَالهَا، أَو عَكسه، لم يلْتَفت إِلَى الشَّك فيهمَا، وَفعل فيهمَا مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِمَا. وَكَذَا لَو شكّ فِي طَهَارَة المَاء أَو نَجَاسَته، وَأَنه متطهر أَو مُحدث، أَو شكّ فِي عدد الرَّكْعَات وَالطّواف؟ وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يحصر. وَلَا تخْتَص هَذِه الْقَاعِدَة بالفقه، بل الأَصْل فِي كل حَادث عَدمه حَتَّى يتَحَقَّق كَمَا نقُول: الأَصْل انْتِفَاء الْأَحْكَام عَن الْمُكَلّفين، حَتَّى يَأْتِي مَا يدل على خلاف ذَلِك، وَالْأَصْل فِي الْأَلْفَاظ أَنَّهَا للْحَقِيقَة، وَفِي الْأَوَامِر: للْوُجُوب، والنواهي: للتَّحْرِيم، وَالْأَصْل: بَقَاء الْعُمُوم حَتَّى يتَحَقَّق وُرُود الْمُخَصّص، وَبَقَاء حكم النَّص حَتَّى يرد النَّاسِخ، وَغير ذَلِك مِمَّا لَا حصر لَهُ. وَقد تقدم فِي الْمَتْن وَشَرحه قبل مبدأ اللُّغَات مَا يتَعَلَّق بذلك. وَلأَجل هَذِه الْقَاعِدَة: كَانَ الِاسْتِصْحَاب حجَّة، بل يكَاد أَن يَكُونَا متحدين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3844 وَمِمَّا يَنْبَنِي على الْقَاعِدَة: أَن الْمَانِع لَا يُطَالب بِالدَّلِيلِ، لِأَنَّهُ مُسْتَند إِلَى الِاسْتِصْحَاب، كَمَا أَن الْمُدعى عَلَيْهِ لَا يُطَالب بِحجَّة، بل القَوْل فِي الْإِنْكَار قَول بِيَمِينِهِ: كَمَا قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي، وَالْيَمِين على الْمُدعى عَلَيْهِ "، وَفِي رِوَايَة: " على من أنكر ". قَوْله: {وَالضَّرَر يزَال} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3845 من أَدِلَّة الْفِقْه " أَن الضَّرَر يزَال "، أَي: تجب إِزَالَته. ودليلها: قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا ضَرَر وَلَا ضرار "، وَفِي رِوَايَة: " وَلَا إِضْرَار " بِزِيَادَة همزَة فِي أَوله وَألف بَين الراءين. وَقد علل أَصْحَابنَا بذلك فِي مسَائِل كَثِيرَة جدا. وَقد تقدم قَرِيبا أَن أَبَا دَاوُد قَالَ: الْفِقْه يَدُور على خَمْسَة أَحَادِيث، مِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا ضَرَر وَلَا ضرار ". وَهَذِه الْقَاعِدَة فِيهَا من الْفِقْه مَا لَا حصر لَهُ، ولعلها تَتَضَمَّن نصفه، فَإِن الْأَحْكَام إِمَّا لجلب الْمَنَافِع أَو لدفع المضار، فَيدْخل فِيهَا دفع الضروريات الْخمس الَّتِي هِيَ: حفظ الدّين، وَالنَّفس، وَالنّسب، وَالْمَال، وَالْعرض، كَمَا سبق ذَلِك وَشَرحه، وَغير ذَلِك. وَهَذِه الْقَاعِدَة ترجع إِلَى تَحْصِيل الْمَقَاصِد، وتقريرها بِدفع الْمَفَاسِد أَو تخفيفها. تَنْبِيه: مِمَّا يدْخل فِي هَذِه الْقَاعِدَة: قَوْلنَا: وَلَا يزَال بِهِ، أَي: الضَّرَر لَا يزَال بِالضَّرَرِ؛ لِأَن فِيهِ ارْتِكَاب ضَرَر، وَإِن زَالَ ضَرَر آخر، وَفِي هَذِه الْقَاعِدَة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3846 - أَيْضا - أَحْكَام كَثِيرَة ذكرهَا الْفُقَهَاء فِي كتبهمْ. وَمِمَّا يدْخل - أَيْضا - فِي هَذِه الْقَاعِدَة: الضرورات تبيح الْمَحْظُورَات، بِشَرْط عدم نقصانها عَنْهَا، وَمن ثمَّ جَازَ بل وَجب أكل الْميتَة عَنهُ المخمصة، وَكَذَلِكَ إساغة اللُّقْمَة بِالْخمرِ، وبالبول، وَقتل الْمحرم الصَّيْد دفعا عَن نَفسه إِذا صال عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يضمن، وَمِنْه الْعَفو عَن أثر الِاسْتِجْمَار، وَغير ذَلِك مِمَّا لَا حصر لَهُ. قَوْله: {وَالْمَشَقَّة تجلب التَّيْسِير} . من الْقَوَاعِد أَن الْمَشَقَّة تجلب التَّيْسِير. وَدَلِيله: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} [الْحَج: 78] . إِشَارَة إِلَى مَا خفف عَن هَذِه الْأمة من التَّشْدِيد على غَيرهم، من الإصر وَنَحْوه، وَمَا لَهُم من تخفيفات أخر دفعا للْمَشَقَّة: كَمَا قَالَ تَعَالَى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3847 {الْآن خفف الله عَنْكُم وَعلم أَن فِيكُم ضعفا} [الْأَنْفَال: 66] ، وَكَذَلِكَ تَخْفيف الْخمسين صَلَاة فِي الْإِسْرَاء إِلَى خمس صلوَات، وَغير ذَلِك مِمَّا لَا ينْحَصر، وَقد قَالَ تَعَالَى: {يُرِيد الله بكم الْيُسْر} [الْبَقَرَة: 185] ، {يُرِيد الله أَن يُخَفف عَنْكُم} [النِّسَاء: 28] ، وَقَالَ فِي صفة نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم} [الْأَعْرَاف: 157] ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} [الْبَقَرَة: 286] ، وَقَالَ تَعَالَى فِي دُعَائِهِمْ: {وَلَا تحمل علينا إصرا كَمَا حَملته على الَّذين من قبلنَا} [الْبَقَرَة: 286] ، وَغير ذَلِك، وَقَالَ: " بعثت بالحنيفية السمحة ". وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أحب الْأَدْيَان إِلَى الله الحنيفية السمحة " فِي أَحَادِيث الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3848 وآثار كَثِيرَة. وَيدخل تَحت هَذِه الْقَاعِدَة: أَنْوَاع من الْفِقْه، مِنْهَا فِي الْعِبَادَات: التَّيَمُّم عِنْد مشقة اسْتِعْمَال المَاء على حسب تفاصيل فِي الْفِقْه، وَالْقعُود فِي الصَّلَاة عِنْد مشقة الْقيام وَفِي النَّافِلَة مُطلقًا، وَقصر الصَّلَاة فِي السّفر، وَالْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ، وَنَحْو ذَلِك. وَمن ذَلِك: رخص السّفر وَغَيرهَا. وَمن التخفيفات أَيْضا: أعذار الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة، وتعجيل الزَّكَاة، والتخفيفات فِي الْعِبَادَات لَا تكَاد تَنْحَصِر، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3849 وَهِي فِي الْمُعَامَلَات كَثِيرَة جدا، وَفِي المناكحات، والجنايات، وَفِي كتاب الْقَضَاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3850 وَمن التخفيفات الْمُطلقَة: فروض الكفايات وسننها، وَالْعَمَل بالظنون لمَشَقَّة الِاطِّلَاع على الْيَقِين، إِلَى غير ذَلِك. وَهَاتَانِ القاعدتان تَرْجِعَانِ من قَوَاعِد أصُول الْفِقْه إِلَى مَا سبق من أَن الْأَحْكَام معللة بِدفع الْمَفَاسِد، والمضار الدِّينِيَّة والدنيوية، وَأَن الْعلَّة فِي ذَلِك إِمَّا أَن تكون دافعة للضَّرَر وَالْمَشَقَّة، أَو رَافِعَة لذَلِك، وَقد تقدم فِي الْقيَاس. قَوْله: {ودرء الْمَفَاسِد أولى من جلب الْمصَالح، وَدفع أَعْلَاهَا بأدناها} . من الْقَوَاعِد: إِذا دَار الْأَمر بَين دَرْء مفْسدَة وجلب مصلحَة، كَانَ دَرْء الْمفْسدَة أولى من جلب الْمصلحَة، قَالَه الْعلمَاء، وَإِذا دَار الْأَمر أَيْضا بَين دَرْء إِحْدَى المفسدتين، وَكَانَت إِحْدَاهمَا أَكثر فَسَادًا من الْأُخْرَى، فدرء الْعليا مِنْهُمَا أولى من دَرْء غَيرهَا، وَهَذَا وَاضح يقبله كل عَاقل، وَاتفقَ عَلَيْهِ أولو الْعلم. قَوْله: {وتحكيم الْعَادة} . من الْقَوَاعِد: أَن الْعَادة محكمَة، أَي: مَعْمُول بهَا شرعا لحَدِيث: " مَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3851 رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن "، لَكِن لَا يَصح، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْقُول عَن ابْن مَسْعُود مَوْقُوفا عَلَيْهِ. وللقاعدة أَدِلَّة أُخْرَى غير ذَلِك مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ} [الْأَعْرَاف: 199] ، قَالَ: [ابْن السَّمْعَانِيّ] : المُرَاد مَا يعرفهُ النَّاس ويتعارفونه فِيمَا بَينهم. قَالَ ابْن عَطِيَّة: " مَعْنَاهُ: كل مَا عَرفته النُّفُوس مِمَّا لَا ترده الشَّرِيعَة ". قَالَ ابْن ظفر فِي " الينبوع ": " الْعرف مَا عرفه الْعُقَلَاء بِأَنَّهُ حسن وأقرهم الشَّارِع عَلَيْهِ ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3852 وكل مَا تكَرر من لفظ الْمَعْرُوف فِي الْقُرْآن نَحْو: {وعاشروهن بِالْمَعْرُوفِ} [النِّسَاء: 19] ، فَالْمُرَاد مَا يتعارفه النَّاس من مثل ذَلِك الْأَمر. وَمِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ليستئذنكم الَّذين ملكت أَيْمَانكُم} الْآيَة [النُّور: 58] ، فَالْأَمْر بالاستئذان فِي الْأَوْقَات الَّتِي جرت الْعَادة فِيهَا بالابتذال وَوضع الثِّيَاب، فابتنى الحكم الشَّرْعِيّ على مَا كَانُوا يعتادونه. وَمِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لهِنْد: " خذي مَا يَكْفِي وولدك بِالْمَعْرُوفِ ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3853 وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لحمنة بنت جحش: " تحيضي فِي علم الله سِتا أَو سبعا كَمَا تحيض النِّسَاء، وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَصَححهُ الْحَاكِم. وَحَدِيث أم سَلمَة: أَن امْرَأَة كَانَت تهراق الدَّم على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فاستفتت أم سَلمَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: " لتنظر عدد اللَّيَالِي وَالْأَيَّام الَّتِي كَانَت تحيضهن من الشَّهْر قبل أَن يُصِيبهَا ذَلِك فلتترك الصَّلَاة " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن خُزَيْمَة، وَابْن حبَان فِي " صَحِيحَيْهِمَا ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3854 وَمِنْهَا قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد " رَوَاهُ مُسلم بِهَذَا اللَّفْظ، فَإِنَّهُ دَلِيل على اعْتِبَار مَا الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ إِمَّا من جِهَة الْأَمر الشَّرْعِيّ، أَو من جِهَة الْعَادة المستقرة، لشمُول قَوْله: لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا ذَلِك. وَمِنْهَا حَدِيث: " الْمِكْيَال مكيال أهل الْمَدِينَة، وَالْوَزْن وزن أهل مَكَّة "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَسَنَده صَحِيح. وَذَلِكَ أَن أهل الْمَدِينَة لما كَانُوا أهل نخل وَزرع اعْتبرت عَادَتهم فِي مِقْدَار الْكَيْل، وَأهل مَكَّة أهل تِجَارَة اعْتبرت عَادَتهم فِي الْوَزْن، وَالْمرَاد اعْتِبَار ذَلِك فِيمَا يتَقَدَّر شرعا: كنصب الزكوات، وَمِقْدَار الدِّيات، وَزَكَاة الْفطر، وَالْكَفَّارَات، وَالسّلم، والربا، وَغير ذَلِك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3855 وَمِنْهَا حَدِيث حرَام بن محيصة الْأنْصَارِيّ عَن الْبَراء بن عَازِب: " أَن نَاقَة الْبَراء دخلت حَائِطا فأفسدت فِيهِ، فَقضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أهل الْحَائِط حفظهَا بِالنَّهَارِ، وعَلى أهل الْمَوَاشِي حفظهَا بِاللَّيْلِ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَصَححهُ جمَاعَة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3856 وَهُوَ أدل شَيْء على اعْتِبَار الْعَادة فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إِذْ بنى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - التَّضْمِين على مَا جرت بِهِ الْعَادة. وَقيل: وَيَنْبَنِي على هَذِه الْقَاعِدَة مَا اعْتَمدهُ إمامنا وأصحابنا فِي أقل سنّ الْحيض للْمَرْأَة، وَأَقل الْحيض وَالطُّهْر، وأكثرهما، وَثمن الْمثل، وكفء النِّكَاح، وَأكْثر مُدَّة الْحمل وأقلها، وَسن الْيَأْس، وَمهر الْمثل. وَضَابِط كل فعل رتب عَلَيْهِ الحكم، وَلَا ضَابِط لَهُ فِي الشَّرْع وَلَا فِي اللُّغَة: كإحياء الْموَات، والحرز فِي السّرقَة، وَالْأكل من بَيت الصّديق، وَمَا يعد قبضا، وإيداعا، وَإِعْطَاء، وهدية، وغصبا، وَالْمَعْرُوف فِي المعاشرة، وانتفاع الْمُسْتَأْجر. وَمن ذَلِك أَيْضا: الرُّجُوع للْعَادَة فِي تَخْصِيص عين أَو فعل أَو مِقْدَار، يحمل اللَّفْظ عَلَيْهِ: كالألفاظ فِي الْأَيْمَان، والأوقاف، والوصايا، والأقارير، والتفويضات، وَإِطْلَاق الدِّينَار، وَالدَّرَاهِم، والصاع، وَالْمدّ، والوسق، والقلة، وَالْأُوقِية، وَإِطْلَاق النُّقُود فِي الْحمل على الْغَالِب، وَصِحَّة المعاطاة بِمَا يعده النَّاس بيعا، وَهَذَا كثير لَا ينْحَصر فِي عد. ومأخذ هَذِه الْقَاعِدَة وموضعها من أصُول الْفِقْه فِي قَوْلهم: الْوَصْف الْمُعَلل بِهِ قد يكون عرفيا، أَي: من مقتضيات الْعرف، وَفِي بَاب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3857 التَّخْصِيص فِي تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْعَادَةِ، وَتقدم ذَلِك مَبْسُوطا. قَوْله: {وَجعل الْمَعْدُوم كالموجود احْتِيَاطًا} . هَذِه من جملَة الْقَوَاعِد الْمُتَقَدّمَة. وَقد قَالَ الْقَرَافِيّ: إِعْطَاء الْمَعْدُوم حكم الْمَوْجُود، كالمقتول تورث عَنهُ الدِّيَة، وَإِنَّمَا تجب بِمَوْتِهِ، وَلَا تورث عَنهُ إِلَّا إِذا دخلت فِي ملكه، فَيقدر دُخُولهَا قبل مَوته. وَتقدم ذَلِك بعد عدم التَّأْثِير فِي الْوَصْف فِي الْفَائِدَة. تَنْبِيه: قيل: تدخل قَاعِدَة: " إدارة الْأُمُور فِي الْأَحْكَام على قَصدهَا ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3858 فِي قَاعِدَة: أَن الْعَادة محكمَة؛ فَهِيَ مَأْخُوذَة مِنْهَا، وَجعل من قَالَ ذَلِك عذرا للْقَاضِي حُسَيْن فِي عدم ذكرهَا. قَالُوا: لِأَن الْعَادة [محكمَة] فَإِن غير الْمَنوِي من غسل وَصَلَاة وَكِتَابَة مثلا لَا يُسمى فِي الْعَادة غسلا وَلَا قربَة وَلَا عقدا. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَلَا يخفى مَا فِي ذَلِك من نظر. وَقيل: مَأْخُوذ من قَاعِدَة: الضَّرَر يزَال؛ لِأَن من توجه عَلَيْهِ شَيْء بِدَلِيل إِذا تَركه أَو فعله لَا يقْصد امْتِثَال الْأَمر، حصل لَهُ الضَّرَر بِمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الذَّم فيزال بِالنِّيَّةِ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَلَا يخفى مَا فِي هَذَا الآخر من النّظر، بل لَو أخذت من قَاعِدَة: الْيَقِين لَا يرفع بِالشَّكِّ كَانَ أقرب؛ لِأَن الأَصْل عدم ذَلِك الشَّيْء، فَلَا يُصَار إِلَى جعله مُعْتَبرا إِلَّا بِوَاسِطَة تَرْجِيح المتردد فِيهِ بِقصد أَن يُخَالف الأَصْل ". وَقيل: هِيَ قَاعِدَة برأسها نقلهَا العلائي عَن بعض الْفُضَلَاء، كَمَا تقدم، ودليلها حَدِيث عمر: " الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ "، وَرُبمَا أخذت من قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} [الْبَيِّنَة: 5] ، وَمن قَوْله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3859 تَعَالَى: {إِلَّا ابْتِغَاء وَجه ربه الْأَعْلَى} [اللَّيْل: 20] ، وَمن هَذِه الْمَادَّة أَحَادِيث كَثِيرَة ذكر فِيهَا ابْتِغَاء وَجه الله، وَتقدم كَلَام أبي دَاوُد فِي الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَغَيره. وَحَدِيث " الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " أعمها وَأَعْظَمهَا؛ لِأَن أَفعَال الْعُقَلَاء إِذا كَانَت مُعْتَبرَة فَإِنَّمَا تكون عَن قصد. وَأَيْضًا: فقد ذهب كثير من الْعلمَاء إِلَى أَن [أول] الْوَاجِبَات على الْمُكَلف الْقَصْد إِلَى النّظر الْموصل إِلَى معرفَة الله تَعَالَى كَمَا تقدم ذَلِك، فالقصد سَابق دَائِما. وَسَوَاء فِي اعْتِبَار الْقَصْد فِي الْأَفْعَال الْمُسلم وَالْكَافِر، إِلَّا أَن الْمُسلم يخْتَص بِقصد التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى فَلَا تصح هَذِه النِّيَّة من كَافِر، بِخِلَاف نِيَّة الِاسْتِثْنَاء، وَالنِّيَّة فِي الْكِنَايَات، وَنَحْو ذَلِك. وَقد تكلم الْحَافِظ الْعَلامَة ابْن رَجَب وَغَيره على حَدِيث عمر كلَاما شافيا، ونشير إِلَى شَيْء من ذَلِك، فَمِنْهُ: أَنهم اخْتلفُوا فِي تَقْدِير مَعْنَاهُ، فَقيل: من دلَالَة الْمُقْتَضى لَا بُد فِيهِ من تَقْدِير لصِحَّة هَذَا الْكَلَام. وأرباب هَذَا القَوْل اخْتلفُوا: فَقَالَ بَعضهم: يقدر صِحَة الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، أَو اعْتِبَارهَا أَو نَحْو ذَلِك. وَقيل: يقدر كَمَال الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3860 وَقَالَ كثير من الْمُحَقِّقين: لَيْسَ من دلَالَة الْمُقْتَضى، وَلَا حَاجَة إِلَى تَقْدِير شَيْء أصلا؛ لِأَن الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة تَنْتفِي بِانْتِفَاء ركنها أوشرطها، فَإِذا لم يكن الْعَمَل بنية فَهُوَ صُورَة عمل لَا عمل شَرْعِي فصح النَّفْي، فَلَا حَاجَة لتقدير. وَبِالْجُمْلَةِ: فمما تدخل فِيهِ النِّيَّة: الْعِبَادَات جَمِيعهَا: الْوضُوء عندنَا، وَالتَّيَمُّم، وَالْغسْل، وَالصَّلَاة: فَرضهَا ونفلها، عينهَا وكفياتها، وَالزَّكَاة، وَالصِّيَام وَالِاعْتِكَاف، وَالْحج، فرض الْكل، ونفله، وَالْأُضْحِيَّة، وَالْهَدْي، وَالنُّذُور، وَالْكَفَّارَات، وَالْجهَاد، وَالْعِتْق، وَالتَّدْبِير، وَالْكِتَابَة، بِمَعْنى أَن حُصُول الثَّوَاب فِي هَذِه الْأَرْبَعَة يتَوَقَّف على قصد التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى. بل يسري هَذَا إِلَى سَائِر الْمُبَاحَات إِذا قصد بهَا التَّقْوَى على طَاعَة الله، أَو التَّوَصُّل إِلَيْهَا كَالْأَكْلِ، وَالنَّوْم، واكتساب المَال، وَالنِّكَاح، وَالْوَطْء فِيهِ، وَفِي الْأمة إِذا قصد بهَا الإعفاف، أَو تَحْصِيل الْوَلَد الصَّالح وتكثير الْأمة. وَقد ذكر الْبرمَاوِيّ أَحْكَام النِّيَّة واستقصاها فأجاد وَأفَاد، فَمن أرادها فليعاودها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3861 فارغة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3862 (بَاب الِاجْتِهَاد) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3863 فارغة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3864 (قَوْله: {بَاب الِاجْتِهَاد} ) {لُغَة: استفراغ الوسع لتَحْصِيل أَمر شاق} . قد نجز بِحَمْد الله تَعَالَى الْكَلَام على أَنْوَاع الِاسْتِدْلَال، وَهَذَا حِين الشُّرُوع فِي بَيَان أَحْكَام الْمُسْتَدلّ، وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من بَيَان الِاجْتِهَاد، والمجتهد، والتقليد، والمقلد، ومسائل ذَلِك. فَنَقُول: الِاجْتِهَاد افتعال من الْجهد بِالضَّمِّ وَالْفَتْح وَهُوَ: الطَّاقَة، سمي بذلك لاستفراغ الْقُوَّة والطاقة فِي تَحْصِيل الْمَطْلُوب، فَهُوَ بذل الوسع مِمَّا فِيهِ كلفة، وَلِهَذَا لَا يُقَال اجْتهد فِي حمل خردلة وَنَحْوهَا من الْأَشْيَاء الْخَفِيفَة، [وَيُقَال اجْتهد] فِي حمل الرَّحَى وَنَحْوهَا من الْأَشْيَاء الشاق حملهَا. قَوْله: {وَاصْطِلَاحا: استفراغ الْفَقِيه وَسعه لدرك حكم شَرْعِي} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3865 معنى استفراغ الوسع: بذل الوسع بِحَيْثُ تحس النَّفس بِالْعَجزِ عَن زِيَادَة، وَهُوَ جنس، وَكَون ذَلِك من الْفَقِيه قيد مخرج للمقلد، وَالْمرَاد ذُو الْفِقْه، وَقد سبق أول الْكتاب حَده وَتَفْسِيره. وَقَوْلنَا: (لدرك حكم شَرْعِي) وَبَعْضهمْ قَالَ: لتَحْصِيل ظن، احْتِرَاز من الْقطع، فَإِنَّهُ لَا اجْتِهَاد فِي القطعيات. وَقَوْلنَا: (حكم شَرْعِي) قيد مخرج للحسيات، والعقليات، وَنَحْو ذَلِك، لذا قيد ابْن الْحَاجِب وَغَيره الحكم بالشرعي وَلم يُقَيِّدهُ فِي " جمع الْجَوَامِع " وَجَمَاعَة بذلك، للاستغناء عَنهُ بِذكر الْفَقِيه؛ لِأَنَّهُ لَا يتَكَلَّم إِلَّا فِي الحكم الشَّرْعِيّ. وَأورد على ذَلِك: " اجْتِهَاد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّهُ لَا يُسمى فِي الْعرف فَقِيها وَلعدم الْإِذْن فِيهِ. إِلَّا أَن يُقَال: المُرَاد بِالْحَدِّ اجْتِهَاد الْفَقِيه لَا مُطلق الِاجْتِهَاد " قَالَه الْبرمَاوِيّ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3866 قَالَ فِي " الرَّوْضَة "، و " الْمُسْتَصْفى ": بذل المجهود فِي الْعلم بِأَحْكَام الشَّرْع. وَمَعْنَاهُ للطوفي، فَإِنَّهُ قَالَ: " بذل الْجهد فِي تعرف الحكم الشَّرْعِيّ، ثمَّ قَالَ: والتام مِنْهُ: مَا انْتهى إِلَى حَال الْعَجز عَن مزِيد طلب ". وَقَالَ الْآمِدِيّ: " هُوَ: استفراغ الوسع فِي طلب الظَّن بِشَيْء من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، على وَجه يحس من النَّفس الْعَجز عَن الْمَزِيد عَلَيْهِ ". وَقَالَ الْقَرَافِيّ: " هُوَ: استفراغ الوسع فِي الْمَطْلُوب لُغَة، واستفراغ الوسع فِي النّظر فِيمَا يلْحقهُ فِيهِ لوم شَرْعِي اصْطِلَاحا ". ومعانيها مُتَقَارِبَة إِن لم تكن مُتَسَاوِيَة. قَوْله: {وَشرط الْمُجْتَهد وَهُوَ الْفَقِيه، الْعلم بأصول الْفِقْه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3867 وَمَا يستمد مِنْهُ، والأدلة السمعية مفصلة، وَاخْتِلَاف مراتبها، فَمن الْكتاب وَالسّنة مَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ بِحَيْثُ يُمكنهُ استحضاره للاحتجاج بِهِ لَا حفظه، وَأوجب فِي " الْوَاضِح " معرفَة جَمِيع أصُول الْفِقْه وأدلة الْأَحْكَام، وَأوجب جمع وَنقل عَن الشَّافِعِي: حفظ جَمِيع الْقُرْآن، وَمَال إِلَيْهِ الشَّيْخ، وَمَعْرِفَة صِحَة الحَدِيث وَضَعفه، وَلَو تقليدا: كنقله من كتاب صَحِيح، والناسخ والمنسوخ مِنْهُمَا، وَمن النَّحْو واللغة مَا يَكْفِيهِ فِيمَا يتَعَلَّق بهما من نَص وَظَاهر، ومجمل، ومبين، وَحَقِيقَة، ومجاز، وَأمر، وَنهي، وعام، وخاص، ومستثنى ومستثنى مِنْهُ، وَمُطلق، ومقيد، وَدَلِيل الْخطاب، وَنَحْوه، وَالْمجْمَع عَلَيْهِ والمختلف فِيهِ، وَلم يذكرهُ فِي " التَّمْهِيد "، وَفِي " الْمقنع "، وَغَيره: و " أَسبَاب النُّزُول "، وَفِي " التَّمْهِيد " و " الْوَاضِح " و " الْمقنع "، وَغَيرهَا، وَمَعْرِفَة الله بصفاته الْوَاجِبَة لَهُ، وَمَا يجوز عَلَيْهِ وَيمْتَنع، لَا تفاريع الْفِقْه، وَعلم الْكَلَام، وَلَا معرفَة أَكثر الْفِقْه فِي الْأَشْهر} . قَالَ ابْن مُفْلِح: (الْمُفْتِي الْعَالم بأصول الْفِقْه وَمَا يستمد مِنْهُ، والأدلة السمعية مفصلة، وَاخْتِلَاف مراتبها - كَمَا سبق - أَي: غَالِبا ذكره جمَاعَة من أَصْحَابنَا وَغَيرهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3868 وَفِي " الْوَاضِح ": يجب معرفَة جَمِيع أصُول الْفِقْه وأدلة الْأَحْكَام. قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيرهم: يجب أَن يحفظ من الْقُرْآن مَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ. وَذكره فِي " الْوَاضِح " عَن الْمُحَقِّقين، وَأَن كثيرا من الْعلمَاء أوجب حفظ جَمِيعه. قَالَ أَصْحَابنَا: وَيعرف الْمجمع عَلَيْهِ والمختلف فِيهِ، وَلم يذكرهُ فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره. وَاعْتبر بعض أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة: معرفَة أَكثر الْفِقْه، وَالْأَشْهر: لَا؛ لِأَنَّهُ نتيجته، والمستفتي إِن كَانَ مُجْتَهدا أَو محصلا لعلم مُعْتَبر للِاجْتِهَاد، فقد سبق، أَو عاميا، والمستفتى فِيهِ: الْمسَائِل الاجتهادية) انْتهى. اشْترط فِي الْفَقِيه الْمُجْتَهد: أَن يكون بَالغا؛ لِأَن الصَّغِير لَيْسَ بكامل آلَة الْعلم حَتَّى يَتَّصِف بِمَعْرِِفَة الْفِقْه على وَجههَا، قَالَه فِي " جمع الْجَوَامِع " وشراحه، والبرماوي، وَغَيرهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3869 قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": " فصل: قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: الصَّبِي يتَصَوَّر مِنْهُ الِاجْتِهَاد وَيصِح، وَعند الْمُعْتَزلَة: يجب عَلَيْهِ إِذا ميز الْإِتْيَان بالمعارف الْعَقْلِيَّة، حَتَّى إِذا مَضَت مُدَّة يُمكن فِيهَا الِاسْتِدْلَال وَلم يَأْتِ بالمعارف مَاتَ كَافِرًا " انْتهى. وَأَن يكون عَاقِلا؛ لِأَن من لَا عقل لَهُ لَا يدْرك علما، لَا فقها وَلَا غَيره. وَأَن يكون فَقِيه النَّفس، أَي: لَهُ قدرَة على اسْتِخْرَاج أَحْكَام الْفِقْه من أدلتها كَمَا يعلم ذَلِك من حد الْفِقْه - الْمُتَقَدّم أول الْكتاب -، فتضمن ذَلِك أَن يكون عِنْده سجية وَقُوَّة يقتدر بهَا على التَّصَرُّف بِالْجمعِ، والتفريق، وَالتَّرْتِيب، والتصحيح، والإفساد؛ فَإِن ذَلِك ملاك صناعَة الْفِقْه. قَالَ الْغَزالِيّ: إِذا لم يتَكَلَّم الْفَقِيه فِي مَسْأَلَة لم يسْمعهَا ككلامه فِي مَسْأَلَة سَمعهَا فَلَيْسَ بفقيه. وَأَن يكون عَارِفًا بأصول الْفِقْه وَهِي: الْأَدِلَّة الَّتِي يسْتَخْرج مِنْهَا أَحْكَام الْفِقْه، - وَقد سبق أَن أَدِلَّة الْفِقْه الْكتاب، وَالسّنة، وَمَا تفرع عَنْهُمَا - وَلَيْسَ المُرَاد أَن يعرف سَائِر آيَات الْقُرْآن وَأَحَادِيث السّنة، وَإِنَّمَا المُرَاد معرفَة مَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ مِنْهُمَا، وَقد ذكر أَن الْآيَات خَمْسمِائَة، وَكَأَنَّهُم أَرَادوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3870 مَا هُوَ مَقْصُود بِهِ الْأَحْكَام بِدلَالَة الْمُطَابقَة، أما بِدلَالَة الِالْتِزَام: فغالب الْقُرْآن، بل كُله لَا يَخْلُو شَيْء مِنْهُ عَن حكم يستنبط مِنْهُ. قَالُوا: لَا يشْتَرط حفظهَا، بل يشْتَرط أَن يكون عَارِفًا بمواضعها حَتَّى يطْلب مِنْهَا الْآيَة الَّتِي يحْتَاج إِلَيْهَا عِنْد حُدُوث الْوَاقِعَة، وَبِذَلِك قَالَ جمَاعَة من الْعلمَاء. وَنقل عَن الإِمَام الشَّافِعِي: أَنه يجب حفظ جَمِيع الْقُرْآن، وَمَال إِلَيْهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين. قَالَ الطوفي: " وَالصَّحِيح أَن هَذَا التَّقْدِير غير مُعْتَبر، وَأَن مِقْدَار أَدِلَّة الْأَحْكَام غير منحصرة، فَإِن أَحْكَام الشَّرْع كَمَا تستنبط من الْأَوَامِر والنواهي؛ تستنبط من الْقَصَص والمواعظ وَنَحْوهَا، وَقل أَن يُوجد فِي الْقُرْآن آيَة إِلَّا ويستنبط مِنْهَا شَيْء من الْأَحْكَام، وَكَأن من حصرها فِي خَمْسمِائَة كالغزالي وَغَيره إِنَّمَا نظرُوا إِلَى مَا قصد مِنْهُ بَيَان الْأَحْكَام دون مَا استفيدت مِنْهُ، وَلم يقْصد بِهِ بَيَانهَا " انْتهى. وَقد قيل: إِن آيَات الْأَحْكَام مائَة آيَة، حَكَاهُ ابْن السُّيُوطِيّ فِي شرح منظومته " جمع الْجَوَامِع ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3871 وَحكى الْبَغَوِيّ عِنْد قَوْله تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَة من يَشَاء} [الْبَقَرَة: 269] " عَن الضَّحَّاك أَنه قَالَ: فِي الْقُرْآن مائَة آيَة وتسع آيَات ناسخة ومنسوخة، وَألف آيَة حَلَال وَحرَام، لَا يسع الْمُؤمنِينَ تركهن حَتَّى يتعلموهن " انْتهى. وَأوجب ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": معرفَة جَمِيع أصُول الْفِقْه وأدلة الْأَحْكَام. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ: من حصل أصُول الْفِقْه وفروعه فمجتهد، وعَلى الأول لَا بُد أَن يعرف أَحَادِيث الْأَحْكَام، أَي: يعرف موَاضعهَا، وَإِن لم يكن حَافِظًا لمتونها كَمَا قُلْنَا فِي الْقُرْآن. فَإِذا اجْتمعت فِيهِ الشُّرُوط، اشْترط فِيهِ أَن يعرف مواقع الْإِجْمَاع حَتَّى لَا يُفْتِي بِخِلَافِهِ، فَيكون قد خرق الْإِجْمَاع. وَلم يذكر ذَلِك أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3872 وَيَنْبَغِي أَيْضا: أَن يعرف كَلَام الصَّحَابَة، وفتاويهم ليعتمد الْأَقْوَى مِنْهَا لَا سِيمَا إِن قُلْنَا: إِن قَوْلهم حجَّة. وَأَن يعرف النَّاسِخ والمنسوخ فِيمَا يسْتَدلّ بِهِ على تِلْكَ الْوَاقِعَة الَّتِي يُفْتِي بهَا من آيَة أَو حَدِيث حتىلا يسْتَدلّ بِهِ إِن كَانَ مَنْسُوخا، وَلَا يشْتَرط أَن يعرف جَمِيع النَّاسِخ والمنسوخ فِي سَائِر الْمَوَاضِع، كَمَا سبق نَظِيره فِي الْإِجْمَاع. وَقد صنف فِي نَاسخ الْقُرْآن ومنسوخه: أَبُو جَعْفَر النّحاس، وَأَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ، ومكي صَاحب الْإِعْرَاب، وَمن الْمُتَقَدِّمين: هبة الله [بن سَلامَة] ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3873 وَمن أَصْحَابنَا: ابْن الزَّاغُونِيّ، وَابْن الْجَوْزِيّ. وَفِي نَاسخ الحَدِيث ومنسوخه: الإِمَام الشَّافِعِي، وَابْن قُتَيْبَة، وَابْن شاهين، وَابْن الْجَوْزِيّ، وَغَيرهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3874 وَأَن يعرف أَسبَاب النُّزُول، قَالَه ابْن حمدَان، وَغَيره من أَصْحَابنَا. وَغَيرهم: فِي الْآيَات، وَأَسْبَاب قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْأَحَادِيث؛ ليعرف المُرَاد من ذَلِك، وَمَا يتَعَلَّق بهما من تَخْصِيص أَو تَعْمِيم. وَأَن يعرف - أَيْضا - شُرُوط الْمُتَوَاتر والآحاد؛ ليقدم مَا يجب تَقْدِيمه عِنْد التَّعَارُض. وَأَن يعرف الصَّحِيح من الحَدِيث والضعيف سندا ومتنا؛ لِيطْرَح الضَّعِيف حَيْثُ لَا يكون فِي فَضَائِل الْأَعْمَال، ويطرح الْمَوْضُوع مُطلقًا. وَأَن يعرف حَال الروَاة فِي الْقُوَّة والضعف؛ ليعلم مَا ينجبر من الضعْف بطرِيق آخر، وَمَا لَا ينجبر. لَكِن يَكْفِي التعويل فِي هَذِه الْأُمُور كلهَا فِي هَذِه الْأَزْمِنَة على كَلَام أَئِمَّة الحَدِيث كأحمد، وَالْبُخَارِيّ، وَمُسلم، وَأبي دَاوُد، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَنَحْوهم؛ لأَنهم أهل الْمعرفَة بذلك، فَجَاز الْأَخْذ بقَوْلهمْ، كَمَا نَأْخُذ بقول المقومين فِي الْقيم. وَيكون عَارِفًا بلغَة الْعَرَب؛ لِأَن الْكتاب وَالسّنة عربيان، وَيعرف الْعَرَبيَّة، وَهِي تَشْمَل: اللُّغَة، والنحو، والتصريف، وَيعرف علم البلاغة، وَهُوَ الْمعَانِي، وَالْبَيَان، والبديع؛ لِأَنَّهُ وَإِن كَانَ دَاخِلا فِي علم الْعَرَبيَّة، إِلَّا أَنِّي أردْت التَّصْرِيح بذلك لِئَلَّا يظنّ خُرُوجه عَنْهَا، وَإِنَّمَا اعْتبر ذَلِك لِأَن الْكتاب وَالسّنة فِي الذرْوَة الْعليا من الإعجاز، فَلَا بُد من معرفَة طرق الإعجاز الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3875 وأساليبه ومواقعه، ليتَمَكَّن من الاستنباط، فَيَكْفِي معرفَة أوضاع الْعَرَب، بِحَيْثُ يُمَيّز الْعِبَادَة الصَّحِيحَة من الْفَاسِدَة، والراجحة من المرجوحة، فَإِنَّهُ يجب حمل كَلَام الله تَعَالَى وَكَلَام رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على مَا هُوَ الرَّاجِح، وَإِن جَازَ غَيره فِي كَلَام الْعَرَب. قَالَ الطوفي: " وَيشْتَرط أَن يعرف من النَّحْو واللغة مَا يَكْفِيهِ فِي معرفَة مَا يتَعَلَّق بِالْكتاب وَالسّنة من نَص، وَظَاهر، ومجمل، وَحَقِيقَة ومجاز، وعام وخاص، وَمُطلق ومقيد، وَدَلِيل الْخطاب، وَنَحْوه: كفحوى الْخطاب، ولحنه، وَمَفْهُومه، لِأَن بعض الْأَحْكَام يتَعَلَّق بذلك ويتوقف عَلَيْهِ توقفا ضَرُورِيًّا: كَقَوْلِه: {والجروح قصاص} [الْمَائِدَة: 45] ، يخْتَلف الحكم بِرَفْع الجروح ونصبها وَنَحْو ذَلِك ". وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، وَابْن حمدَان فِي " الْمقنع " وَغَيرهم: يشْتَرط فِيهِ معرفَة الله تَعَالَى بصفاته الْوَاجِبَة، وَمَا يجوز عَلَيْهِ وَيمْتَنع. قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": " وَيشْتَرط فِيهِ أَن يعرف من أَحْوَال الْمُخَاطب، مِمَّا يقف مَعَه إِلَى حُصُول مَدْلُول خطابه: كمعرفته بِأَن الله تَعَالَى حَكِيم، عَالم، غَنِي، قَادر، وَأَن الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعْصُوم عَن الْخَطَأ فِيمَا شَرعه، وَأَن إِجْمَاع الْأمة مَعْصُوم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3876 وَلَا يَصح مَعْرفَته بذلك من حَال الباريء سُبْحَانَهُ إِلَّا بعد مَعْرفَته بِذَاتِهِ وَصِفَاته. وَلَا يَصح مَعْرفَته بعصمة النَّبِي إِلَّا بعد مَعْرفَته بِكَوْنِهِ نَبيا. وَلَا يَصح مَعْرفَته بعصمة الْأمة حَتَّى يعلم أَنه يَسْتَحِيل اجْتِمَاعهم على خطأ) انْتهى. وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": " فصل فِي صفة الْمُفْتِي: وَهُوَ الَّذِي يعرف بالأدلة الْعَقْلِيَّة النظرية حدث الْعَالم، وَأَن لَهُ صانعا، وَأَنه وَاحِد، وَأَنه على صِفَات وَاجِبَة لَهُ، وَأَنه منزه عَن صِفَات الْمُحدثين، وَأَنه يجوز عَلَيْهِ إرْسَال الرُّسُل، وَأَنه قد أرسل رسلًا بِأَحْكَام شرعها، وَأَن صدقهم بِمَا جَاءُوا بِهِ ثَبت بِمَا أظهره على أَيْديهم من المعجزات " انْتهى. قَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ": والمجتهد من عرف الله بصفاته الْوَاجِبَة وَمَا يجوز عَلَيْهِ أَو يمْتَنع، وَصدق رَسُوله فِيمَا جَاءَ بِهِ من الشَّرْع إِجْمَالا. انْتهى. وَقَالَ الْآمِدِيّ: وَيشْتَرط فِيهِ أَن يكون عَالما بِوُجُود الرب تَعَالَى، وَمَا يجوز عَلَيْهِ وَمَا لَا يجوز عَلَيْهِ من الصِّفَات، مُصدقا بالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَبِمَا جَاءَ بِهِ من الشَّرْع الْمَنْقُول، كل بدليله من جِهَة الْجُمْلَة لَا من جِهَة التَّفْصِيل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3877 وَقَالَ الْغَزالِيّ: لَيْسَ معرفَة الْكَلَام بالأدلة المحررة فِيهِ، على عَادَة الْمُتَكَلِّمين شرطا فِي الِاجْتِهَاد، بل هُوَ من ضَرُورَة منصب الِاجْتِهَاد، إِذْ لَا يبلغ رُتْبَة الِاجْتِهَاد فِي الْعلم، إِلَّا وَقد قرع سَمعه أَدِلَّة الْكَلَام فيعرفها حَتَّى لَو تصور مقلد مَحْض فِي تَقْلِيد الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وأصول الْإِيمَان، لجَاز لَهُ الِاجْتِهَاد فِي الْفُرُوع. قَالَ: وَالْقدر الْوَاجِب من ذَلِك: اعْتِقَاد جازم إِذْ بِهِ يصير مُسلما، وَالْإِسْلَام شَرط الْمُفْتِي لَا محَالة. قَالَ الطوفي: " قلت: الْمُشْتَرط فِي الِاجْتِهَاد بِالْجُمْلَةِ معرفَة كل مَا يتَوَقَّف حُصُول ظن الحكم الشَّرْعِيّ عَلَيْهِ، سَوَاء انحصر ذَلِك فِي جَمِيع مَا ذكرُوا، أَو خرج عَنهُ شَيْء لم يذكر فمعرفته مُعْتَبرَة " انْتهى. قَوْله: {لَا تفاريع الْفِقْه وَعلم الْكَلَام، وَلَا معرفَة أَكثر الْفِقْه فِي الْأَشْهر} . هَذِه أُمُور أُخْرَى رُبمَا يتَوَهَّم أَنَّهَا شُرُوط فِي الْمُجْتَهد، وَلكنهَا لَيست بِشُرُوط لَهُ. مِنْهَا: معرفَة تفاريع الْفِقْه لَا يشْتَرط؛ لِأَن الْمُجْتَهد هُوَ الَّذِي يولدها ويتصرف فِيهَا، لَو كَانَ ذَلِك شرطا فِيهَا للَزِمَ الدّور، لِأَنَّهَا نتيجة الِاجْتِهَاد، فَلَا يكون الِاجْتِهَاد نتيجتها. وَالْخلاف فِي ذَلِك مَنْقُول عَن الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ شَرط فِي الْمُجْتَهد معرفَة الْفِقْه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3878 قيل: وَلَعَلَّه أَرَادَ ممارسته. وَإِلَيْهِ ميل الْغَزالِيّ فَقَالَ: " إِنَّمَا يحصل الِاجْتِهَاد فِي زَمَاننَا بممارسة الْفِقْه فَهُوَ طَرِيق تَحْصِيل [الدربة] فِي هَذَا الزَّمَان، وَلم يكن الطَّرِيق فِي زمن الصَّحَابَة ذَلِك " انْتهى. وَتقدم كَلَام أبي مُحَمَّد الْجَوْزِيّ فِي ذَلِك. وَمِنْهَا: معرفَة علم الْكَلَام، أَي: علم أصُول الدّين، قَالَه الأصوليون، لَكِن الرَّافِعِيّ قَالَ: إِن الْأَصْحَاب عدوا من شُرُوط الِاجْتِهَاد معرفَة أصُول العقائد. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَالْجمع بَين الْكَلَامَيْنِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْغَزالِيّ حَيْثُ قَالَ: وَعِنْدِي أَنه يَكْفِي اعْتِقَاد جازم، وَلَا يشْتَرط مَعْرفَتهَا على طَرِيق الْمُتَكَلِّمين ومادتهم الَّتِي يجرونها " انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3879 وَقد تقدم: كَلَامه. قَالَ ابْن مُفْلِح كَمَا تقدم: " وَاعْتبر بعض أَصْحَابنَا وَبَعض الشَّافِعِيَّة معرفَة أَكثر الْفِقْه، وَالْأَشْهر: لَا؛ لِأَنَّهُ نتيجته " انْتهى. وَقدم فِي " آدَاب الْمُفْتِي " من شَرطه أَن يحفظ أَكثر الْفِقْه. وَمِنْهَا: لَا يشْتَرط فِي الْمُجْتَهد أَن يكون ذكرا وَلَا حرا وَلَا عدلا، بل يجوز أَن يكون امْرَأَة، ورقيقا، وفاسقا، لَكِن لَا يستفتى الْفَاسِق وَلَا يعْمل بقوله بِخِلَاف الْمَرْأَة وَالرَّقِيق، فالعدالة شَرط فِي الْمُفْتِي لَا فِي الْمُجْتَهد؛ لِأَن الْمُفْتِي أخص فشروطه أغْلظ، أما مَسْتُور الْعَدَالَة فَتجوز فتواه فِي أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقيل: اشْترط فِي الْمُجْتَهد الْعَدَالَة حَتَّى إِذا أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى حكم لَا يَأْخُذ بِهِ من علم صدقه بقرائن، وَيَأْتِي ذَلِك فِي التَّقْلِيد محررا. قَوْله: {والمجتهد فِي مَذْهَب إِمَامه الْعَارِف بمداركه، الْقَادِر على تَقْرِير قَوَاعِده، وَالْجمع وَالْفرق، وَفِي آدَاب الْمُفْتِي لَهُ أَربع صِفَات} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3880 أَي: مَا سبق من الشُّرُوط فِي الِاجْتِهَاد إِنَّمَا ذَلِك فِي الْمُجْتَهد الْمُطلق الَّذِي يُفْتِي فِي جمع أَبْوَاب الشَّرْع. أما مُجْتَهد الْمَذْهَب، وَهُوَ: من ينتحل مَذْهَب إِمَام من الْأَئِمَّة فَلَا يعْتَبر فِيهِ مَا تقدم بل يعْتَبر فِيهِ بعض ذَلِك. قَالَ فِي " الْمقنع ": فَأَما الْمُجْتَهد فِي مَذْهَب إِمَامه: فنظره فِي بعض نُصُوص إِمَامه وتقريرها، وَالتَّصَرُّف فِيهَا كاجتهاد إِمَامه فِي نُصُوص الْكتاب وَالسّنة. وَقَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": أَحْوَال الْمُجْتَهد فِي مَذْهَب إِمَامه أَو غَيره أَرْبَعَة: الْحَالة الأولى: أَن يكون غير مقلد لإمامه فِي الحكم وَالدَّلِيل، لَكِن سلك طَرِيقه فِي الِاجْتِهَاد وَالْفَتْوَى، ودعا إِلَى [مذْهبه] ، وَقَرَأَ كثيرا مِنْهُ على أَهله، فَوَجَدَهُ صَوَابا، وَأولى من غَيره، وَأَشد مُوَافقَة فِيهِ وَفِي طَرِيقه. وَقد ادّعى هَذَا منا القَاضِي أَبُو عَليّ ابْن أبي مُوسَى الْهَاشِمِي فِي " شرح الْإِرْشَاد " الَّذِي لَهُ، وَالْقَاضِي أَبُو يعلى وَغَيرهمَا. وَمن الشَّافِعِيَّة خلق كثير. وَاخْتلف الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة فِي أبي يُوسُف، والمزني، وَابْن سُرَيج، هَل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3881 كَانُوا مجتهدين مستقلين، أَو فِي مَذْهَب الْإِمَامَيْنِ؟ وفتوى الْمُجْتَهد الْمَذْكُور كفتوى الْمُجْتَهد الْمُطلق فِي الْعَمَل بهَا والاعتداد بهَا فِي الْإِجْمَاع وَالْخلاف. الْحَالة الثَّانِيَة: أَن يكون مُجْتَهدا فِي مَذْهَب إِمَامه، مُسْتقِلّا فِي تَقْرِيره بِالدَّلِيلِ، لَكِن لَا يتَعَدَّى أُصُوله وقواعده، مَعَ إتقانه للفقه وأصوله، وأدلة مسَائِل الْفِقْه، عَارِفًا بِالْقِيَاسِ وَنَحْوه، تَامّ الرياضة، قَادِرًا على التَّخْرِيج والاستنباط وإلحاق الْفُرُوع بالأصول وَالْقَوَاعِد الَّتِي لإمامه. وَقيل: وَلَيْسَ من شَرطه معرفَة هَذَا علم الحَدِيث، واللغة، والعربية، لكَونه يتَّخذ بنصوص إِمَامه أصولا يستنبط مِنْهَا الْأَحْكَام كنصوص الشَّارِع، وَقد يرى حكما ذكره إِمَامه بِدَلِيل فيكتفي بذلك من غير بحث عَن معَارض أَو غَيره، وَهُوَ بعيد. وَهَذَا شَأْن أهل الْأَوْجه والطرق فِي الْمذَاهب، وَهُوَ حَال أَكثر عُلَمَاء الطوائف الْآن، فَمن عمل بِفُتْيَا هَذَا فقد قلد إِمَامه دونه؛ لِأَن معوله على صِحَة إِضَافَة مَا يَقُول إِلَى إِمَامه، لعدم استقلاله بتصحيح نسبته إِلَى الشَّارِع بِلَا وَاسِطَة إِمَامه، وَالظَّاهِر مَعْرفَته بِمَا يتَعَلَّق بذلك من حَدِيث، ولغة، وَنَحْوه. وَقيل: إِن فرض الْكِفَايَة لَا يتَأَدَّى بِهِ؛ لِأَن تَقْلِيده نقص وخلل فِي الْمَقْصُود. وَقيل: يتَأَدَّى بِهِ فِي الْفَتْوَى لَا فِي إحْيَاء الْعُلُوم الَّتِي يستمد مِنْهَا الْفَتْوَى؛ لِأَنَّهُ قد قَامَ فِي فتواه مقَام إِمَام مُطلق، وَقد يُوجد مِنْهُ اسْتِقْلَال بِالِاجْتِهَادِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3882 وَالْفَتْوَى فِي مَسْأَلَة خَاصَّة، أَو بَاب خَاص، وَأطَال فِي ذَلِك. الْحَالة الثَّالِثَة: أَن لَا يبلغ بِهِ رُتْبَة أَئِمَّة الْمذَاهب أَصْحَاب الْوُجُوه والطرق، غير أَنه فَقِيه النَّفس، حَافظ لمَذْهَب إِمَامه، عَارِف بأدلته، قَائِم بتقريره، ونصرته، يصور وَيُحَرر، ويمهد ويقرر، ويزيف ويرجح، لكنه قصر عَن دَرَجَة أُولَئِكَ إِمَّا لكَونه لم يبلغ فِي حفظ الْمَذْهَب مبلغهم، وَإِمَّا لكَونه غير متبحر فِي أصُول الْفِقْه وَنَحْوه، غير أَنه لَا يَخْلُو مثله فِي ضمن مَا يحفظه من الْفِقْه ويعرفه من أدلته عَن أَطْرَاف من قَوَاعِد أصُول الْفِقْه وَنَحْوه، وَإِمَّا لكَونه مقصرا فِي غير ذَلِك من الْعُلُوم الَّتِي هِيَ أدوات الِاجْتِهَاد الْحَاصِل لأَصْحَاب الْوُجُوه والطرق. وَهَذِه صفة كثير من الْمُتَأَخِّرين الَّذين رتبوا الْمذَاهب وحررورها، وصنفوا فِيهَا تصانيف بهَا يشْتَغل النَّاس غَالِبا، وَلم يلْحقُوا من يخرج الْوُجُوه ويمهد الطّرق فِي الْمذَاهب، وَأما فِي فتاويهم فقد كَانُوا يتبسطون فِيهَا كبسط أُولَئِكَ أَو نَحوه، ويقيسون غير الْمَنْقُول والمسطور على الْمَنْقُول والمسطور فِي الْمَذْهَب، غير مقتصرين فِي ذَلِك على الْقيَاس الْجَلِيّ، وَقِيَاس لَا فَارق، نَحْو: قِيَاس الْمَرْأَة على الرجل فِي رُجُوع البَائِع إِلَى عين مَاله عِنْد تعذر الثّمن، وَلَا تبلغ فتاويهم فَتَاوَى أَصْحَاب الْوُجُوه، وَرُبمَا تطرق بَعضهم إِلَى تَخْرِيج قَول، واستنباط وَجه وإجمال، وفتاويهم مَقْبُولَة أَيْضا. الْحَالة الرَّابِعَة: أَن يقوم بِحِفْظ الْمَذْهَب وَنَقله وفهمه، فَهَذَا يعْتَمد نَقله وفتواه بِهِ فِيمَا يحكيه من مسطورات مذْهبه من منصوصات إِمَامه، أَو تفريعات أَصْحَابه الْمُجْتَهدين فِي مَذْهَبهم وتخريجاتهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3883 وَأما مَا يجده مَنْقُولًا فِي مذْهبه فَإِن وجد فِي الْمَنْقُول مَا هَذَا فِي مَعْنَاهُ بِحَيْثُ يدْرك من غير فضل فكر وَتَأمل أَنه لَا فَارق بَينهمَا، كَمَا فِي الْأمة بِالنِّسْبَةِ إِلَى العَبْد الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي إِعْتَاق الشَّرِيك، جَازَ لَهُ إِلْحَاقه بِهِ وَالْفَتْوَى بِهِ، وَكَذَا مَا يعلم اندراجه تَحت ضَابِط ومنقول [ممهد] من الْمَذْهَب، وَمن لم يكن كَذَلِك فَعَلَيهِ الْإِمْسَاك عَن الْفتيا بِهِ. وَمثل هَذَا يَقع نَادرا فِي حق مثل الْفَقِيه الْمَذْكُور، إِذْ يبعد أَن تقع وَاقعَة لم ينص على حكمهَا فِي الْمَذْهَب، وَلَا هِيَ فِي معنى بعض الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِيهِ، من غير فرق وَلَا مندرجة تَحت شَيْء من ضوابط الْمَذْهَب المحررة فِيهِ. ثمَّ إِن هَذَا الْفَقِيه لَا يكون إِلَّا فَقِيه النَّفس؛ لِأَن تصور الْمسَائِل على وَجههَا، وَنقل أَحْكَامهَا بعده لَا يقوم بِهِ إِلَّا فَقِيه النَّفس، وَيَكْفِي استحضار أَكثر الْمَذْهَب مَعَ قدرته على مطالعة بَقِيَّته قَرِيبا. انْتهى كَلَامه فِي " آدَاب الْمُفْتِي ". وَقَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: " هُوَ أَن يعرف قَوَاعِد ذَلِك الْمَذْهَب وأصوله، ونصوص صَاحب الْمَذْهَب، بِحَيْثُ لَا يشذ عَنهُ شَيْء من ذَلِك، فَإِذا سُئِلَ عَن حَادِثَة، فَإِن عرف نصا لصَاحب الْمَذْهَب فِيهَا أجَاب بِهِ، وَإِلَّا اجْتهد فِيهَا على مذْهبه، وخرجها على أُصُوله. قَالَ ابْن أبي الدَّم: وَهَذَا - أَيْضا - يَنْقَطِع فِي زَمَاننَا بِهَذِهِ الْمرتبَة دون مرتبَة الِاجْتِهَاد الْمُطلق، ومرتبة ثَالِثَة دون الثَّانِيَة وَهِي مرتبَة مُجْتَهد الْفتيا، أَي: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3884 الَّذِي يسوغ لَهُ الْفتيا على مَذْهَب إِمَامه الَّذِي هُوَ مقلده، فَلَا يشْتَرط فِيهِ مَا يشْتَرط فِي مُجْتَهد الْمَذْهَب، بل يعْتَبر أَن يكون متبحرا فِي الْمَذْهَب مُتَمَكنًا من تَرْجِيح قَول على قَول، وَهَذَا أدنى الْمَرَاتِب، وَلم يبْق بعده إِلَّا الْعَاميّ، وَمن فِي مَعْنَاهُ " انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3885 (قَوْله: {فصل} ) {أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر الِاجْتِهَاد يتَجَزَّأ، وَثَالِثهَا: فِي بَاب لَا مَسْأَلَة، وَرَابِعهَا: فِي الْفَرَائِض} . هَل يجوز أَن يحصل للْإنْسَان منصب الِاجْتِهَاد فِي بعض الْمسَائِل دون بعض أم لَا؟ الْأَكْثَر مِنْهُم أَصْحَابنَا: على الْجَوَاز، إِذْ لَو لم يتَجَزَّأ لزم أَن يكون عَالما بِجَمِيعِ الجزئيات وَهُوَ محَال، إِذْ جَمِيعهَا لَا يُحِيط بهَا بشر. وَقد سُئِلَ كل من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم عَن مسَائِل فَأجَاب بِأَنَّهُ لَا يدْرِي، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3886 كَمَا ذكرنَا ذَلِك فِي أول هَذَا الشَّرْح فِي تَعْرِيف الْفِقْه. وَأجِيب عَن قَول الْأَئِمَّة ذَلِك: بِأَن الْعلم بِجَمِيعِ المآخذ لَا يُوجد الْعلم بِجَمِيعِ الْأَحْكَام، بل قد يجهل الْبَعْض بتعارض الْأَدِلَّة فِيهِ، وبالعجز عَن الْمُبَالغَة فِي الْحَال، إِمَّا لمَانع مَعَ تشويش الْفِكر أَو نَحْو ذَلِك. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد على الرافضي: " جُمْهُور الْعلمَاء الْمُسلمين على أَن الْقُدْرَة على الِاجْتِهَاد وَالِاسْتِدْلَال، مِمَّا يَنْقَسِم ويتبعض، فقد يكون الرجل قَادِرًا على الِاجْتِهَاد وَالِاسْتِدْلَال فِي مَسْأَلَة، أَو نوع من الْعلم دون الآخر، وَهَذَا حَال أَكثر عُلَمَاء الْمُسلمين، لَكِن يتفاوتون فِي الْقُوَّة وَالْكَثْرَة، فالأئمة المشهورون أقدر على الِاجْتِهَاد وَالِاسْتِدْلَال فِي أَكثر مسَائِل الشَّرْع من غَيرهم. وَأما أَن يَدعِي أَن وَاحِدًا مِنْهُم قَادر على أَن يعرف حكم الله فِي كل مَسْأَلَة من الدّين بدليلها، فَمن ادّعى هَذَا فقد ادّعى مَا لَا علم لَهُ بِهِ، بل ادّعى مَا يعرف أَنه بَاطِل " انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3887 وَقَالَ بعض الْعلمَاء: لَا يتَجَزَّأ الِاجْتِهَاد، وَقَالَ: كل مَا يفْرض أَن يكون قد جَهله، يجوز تعلقه بِمَا يفْرض أَنه مُجْتَهد فِيهِ. وَأجِيب: بِأَن الْفَرْض أَن مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة كُله مَوْجُود فِي ظَنّه. قَالَ الطوفي وَغَيره: وَمنعه قوم لجَوَاز تعلق بعض مداركها بِمَا يجهله. قَالَ: وَأَصله الْخلاف فِي تجزيء الِاجْتِهَاد. وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث: يجوز التجزؤ فِي بَاب لَا مَسْأَلَة، فَيجوز أَن يكون للْعَالم منصب الِاجْتِهَاد فِي بَاب دون بَاب، فالناظر فِي مَسْأَلَة المشركة يَكْفِيهِ معرفَة أصُول الْفَرَائِض، وَلَا يضرّهُ أَن لَا يعرف الْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي تَحْرِيم الْمُسكر مثلا. وفيهَا قَول رَابِع: يجوز التجزؤ فِي الْفَرَائِض لَا فِي غَيرهَا. قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": " فَإِن كَانَ عَالما بالمواريث وأحكامها دون بَقِيَّة الْفِقْه جَازَ لَهُ أَن يجْتَهد فِيهَا، ويفتي غَيره بهَا دون بَقِيَّة الْأَحْكَام؛ لِأَن الْمَوَارِيث لَا تنبني على غَيرهَا، وَلَا تستنبط من سواهَا إِلَّا فِي النَّادِر، والنادر لَا يقْدَح الْخَطَأ فِيهِ فِي الِاجْتِهَاد " انْتهى، وَاقْتصر عَلَيْهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3888 وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": " الْمُجْتَهد فِي نوع من الْعلم من عرف الْقيَاس وشروطه، فَلهُ أَن يُفْتِي فِي مسَائِل مِنْهُ قياسية لَا تتَعَلَّق بِالْحَدِيثِ، وَمن عرف الْفَرَائِض، فَلهُ أَن يُفْتِي فِيهَا وَإِن جهل بِأَحَادِيث النِّكَاح. وَقيل: يجوز ذَلِك فِي الْفَرَائِض دون غَيرهَا. وَقيل: بِالْمَنْعِ فيهمَا، وَهُوَ بعيد " انْتهى. فَذكر قولا مَخْصُوصًا بالفرائض كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَامه فِي " التَّمْهِيد " الْمُتَقَدّم. قَوْله: {يجوز اجْتِهَاده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَمر الدُّنْيَا، وَوَقع إِجْمَاعًا قَالَه ابْن مُفْلِح} . وَذَلِكَ " لقصته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ الْأَنْصَار لما رَآهُمْ يُلَقِّحُونَ نَخْلهمْ وَقَوله لَهُم: لَو تَرَكْتُمُوهُ، فَتَرَكُوهُ، فطلع شيصا، فَقَالَ لَهُم عَن ذَلِك، فأخبروه بِمَا قَالَ لَهُم قبل ذَلِك، فَقَالَ: أَنْتُم أعلم بدنياكم مَعَ أَنِّي لم أجد حِكَايَة الْإِجْمَاع إِلَّا لِابْنِ مُفْلِح، وَهُوَ الثِّقَة الْأمين وَلَكِن لَيْسَ بمعصوم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3889 قَوْله: {وَيجوز فِي أَمر الشَّرْع عقلا عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، وَيجوز شرعا وَوَقع عِنْد أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه، وَالْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة، وَمنعه أَكثر الأشعرية، وَأَبُو حَفْص، وَابْن حَامِد، وَقَالَ: هُوَ قَول أهل الْحق، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد، وَجوزهُ الشَّافِعِي فِي " رسَالَته " من غير قطع، وَأَبُو الْمَعَالِي وَغَيره، وَجوزهُ القَاضِي - أَيْضا - للحرب، وَقيل: بِالْوَقْفِ} . الْكَلَام على ذَلِك فِي أَمريْن: أَحدهمَا: هَل يجوز ذَلِك أم لَا؟ وَإِذا قُلْنَا بِالْجَوَازِ، فَهَل يجوز شرعا وعقلا أم شرعا فَقَط؟ وَالثَّانِي: هَل وَقع ذَلِك أم لَا؟ أما الأول: وَهُوَ الْجَوَاز وَعَدَمه فَقيل أَقْوَال: أَصَحهَا، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور: الْجَوَاز، وَعَلِيهِ أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3890 وَأكْثر أصحابهما، وَالْقَاضِي أَبُو يُوسُف، وَعبد الْجَبَّار، وَأَبُو الْحُسَيْن، وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعه كالبيضاوي. قَالَ ابْن الْحَاجِب: " إِنَّه الْمُخْتَار ". وَعَزاهُ الواحدي إِلَى سَائِر الْأَنْبِيَاء، قَالَ: وَلَا حجَّة للمانع فِي قَوْله: {إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ} [الْأَنْعَام: 50] ، فَإِن الْقيَاس على الْمَنْصُوص بِالْوَحْي: اتِّبَاع الْوَحْي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3891 وَمنعه أَكثر الْمُعْتَزلَة. [قَالَ] ابْن مُفْلِح، كَأبي عَليّ الجبائي وَابْنه أبي هَاشم، وَأكْثر الأشعرية. وَاخْتَارَهُ من أَصْحَابنَا أَبُو حَفْص العكبري، وَابْن حَامِد، وَقَالَ: هُوَ قَول أهل الْحق. وَذكر القَاضِي ظَاهر كَلَام أَحْمد فِي رِوَايَة عبد الله {وَمَا ينْطق عَن الْهوى} [النَّجْم: 3] . وَذكر الشَّافِعِي أول " رسَالَته " فِيهِ خلافًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3892 وَجوزهُ فِيهَا القَاضِي أَبُو يعلى أَيْضا: فِي أَمر الْحَرْب فَقَط. وَحَكَاهُ فِي " الْمَحْصُول " قولا: يجوز فِيمَا يتَعَلَّق بالحروب دون غَيرهَا كالجبائي. وَتوقف بعض أَصْحَابنَا، وَغَيرهم. وَحَكَاهُ فِي " الْمَحْصُول " عَن أَكثر الْمُحَقِّقين انْتهى. وشذ قوم فَقَالُوا: يمْتَنع عقلا، وَحَكَاهُ الباقلاني وَأَبُو الْمَعَالِي فِي " التَّلْخِيص " عَنْهُم. وَأما الثَّانِي: وَهُوَ الْوُقُوع، وَهُوَ قَوْلنَا فِي الْمَتْن {وَوَقع} . فِيهِ - أَيْضا - مَذَاهِب: أَحدهَا: أَنه وَقع، وَهُوَ الصَّحِيح، اخْتَارَهُ من أَصْحَابنَا ابْن بطة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3893 وَذكر عَن أَحْمد نَحوه. وَالْقَاضِي وَقَالَ: أَوْمَأ إِلَيْهِ أَحْمد. وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَابْن الْجَوْزِيّ، والموفق فِي " الرَّوْضَة "، وَابْن حمدَان، والطوفي، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه فِي الِاسْتِدْلَال بالوقائع وَغَيرهم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3894 وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه لم يَقع. وَالْقَوْل الثَّالِث: الْوَقْف، لتعارض الْأَدِلَّة، حَكَاهُ ابْن الْعِرَاقِيّ، وَغَيره. اسْتدلَّ للْجُوَاز والوقوع، وَهُوَ الصَّحِيح: بِأَنَّهُ لَا يلْزم مِنْهُ محَال، وَلأَجل مشاركته لأمته، فَظَاهر قَوْله تَعَالَى: {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} [الْحَشْر 2] ، فَيكون مَأْمُورا بِالْقِيَاسِ، وَأَيْضًا: فَالْعَمَل بِالِاجْتِهَادِ أشق على النَّفس؛ لأجل بذل الوسع فَيكون أَكثر ثَوابًا، فَلَا يكون ذَلِك حَاصِلا لبَعض الْأمة وَلَا يحصل لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَظَاهر قَوْله تَعَالَى: {وشاورهم فِي الْأَمر} [آل عمرَان: 159] ، وَطَرِيق الْمُشَاورَة الِاجْتِهَاد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3895 وَفِي " صَحِيح مُسلم ": " أَنه اسْتَشَارَ فِي أسرى بدر، فَأَشَارَ أَبُو بكر بِالْفِدَاءِ، فأعجبه، وَعمر بِالْقَتْلِ، فجَاء عمر من الْغَد وهما يَبْكِيَانِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أبْكِي للَّذي عرض عَليّ أَصْحَابك من أَخذهم الْفِدَاء "، فَأنْزل الله تَعَالَى: {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى حَتَّى يثخن فِي الأَرْض} [الْأَنْفَال: 67] ، وَأَيْضًا: {عَفا الله عَنْك لم أَذِنت لَهُم} [التَّوْبَة: 43] . قَالَ فِي " الْفُنُون ": هُوَ من أعظم دَلِيل لرسالته إِذْ لَو كَانَ من عِنْده ستر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3896 على نَفسه أَو صَوبه لمصْلحَة يدعيها، فَصَارَ رُتْبَة لهَذَا الْمَعْنى [كسلبه الْخط] . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت لما سقت الْهَدْي "، وَإِنَّمَا يكون ذَلِك فِيمَا لم يُوح إِلَيْهِ فِيهِ بِشَيْء. وَاسْتدلَّ: {بِمَا أَرَاك الله} [النِّسَاء: 105] ، أَي: بِمَا جعل الله لَك رَأيا، لِأَن [الإراءة] لَيست الْإِعْلَام، وَإِلَّا لذكر الْمَفْعُول الثَّالِث لذكر الثَّانِي. رد: مَا مَصْدَرِيَّة فَلَا ضمير، وَيجوز حذف المفعولين، وَلَو كَانَت مَوْصُولَة حذف الثَّالِث للثَّانِي. وَاسْتدلَّ أَيْضا: بقول الْعَبَّاس: " إِلَّا الْإِذْخر "، فَقَالَ: " إِلَّا الْإِذْخر ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3897 وَلما سَأَلَهُ الْأَقْرَع بن حَابِس عَن الْحَج ألعامنا هَذَا أم لِلْأَبَد؟ قَالَ: لِلْأَبَد، وَلَو قلت لِعَامِنَا لَوَجَبَتْ ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3898 وَلما قتل النَّضر بن الْحَارِث جَاءَت أُخْته وَقَالَت: (مُحَمَّد ولأنت نجل كَرِيمَة ... من قَومهَا والفحل فَحل معرق) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3899 (مَا كَانَ ضرك لَو مننت وَرُبمَا ... من الْفَتى وَهُوَ المغيظ المحنق) " فَقَالَ: لَو سَمِعت شعرهَا قبل قَتله لما قتلته ". وَلَو قَتله بِالنَّصِّ لما قَالَ ذَلِك. وَقَالَ لَهُ سعد بن معَاذ وَسعد بن عبَادَة لما أَرَادَ صلح الْأَحْزَاب على شطر نخل الْمَدِينَة وَقد كتب بعض الْكتاب بذلك: " إِن كَانَ بِوَحْي: فسمعا وَطَاعَة، وَإِن كَانَ بِاجْتِهَاد فَلَيْسَ هَذَا هُوَ الرَّأْي ". وَكَذَلِكَ الْحباب بن الْمُنْذر لما أَرَادَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن ينزل ببدر دون المَاء قَالَ لَهُ: " إِن كَانَ هَذَا بِوَحْي فَنعم، وَإِن كَانَ الرَّأْي والمكيدة فَأنْزل بِالنَّاسِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3900 على المَاء لتحول بَينه وَبَين الْعَدو، فَقَالَ لَهُم: لَيْسَ بِوَحْي إِنَّمَا هُوَ رَأْي واجتهاد رَأَيْته "، وَرجع إِلَى قَوْلهم، فَدلَّ على أَنه متعبد بِالِاجْتِهَادِ. وَاسْتدلَّ: اجْتِهَاده أثوب للْمَشَقَّة. رد: عَدمه لعلو دَرَجَته. قَالُوا: {وَمَا ينْطق عَن الْهوى} [النَّجْم: 3] . أُجِيب: رد على مُنكر بِالْقُرْآنِ، ثمَّ تعبده بِالِاجْتِهَادِ بِوَحْي، فنطقه عَن وَحي. قَالُوا: لَو اجْتهد لجَاز مُخَالفَته فِيهِ لجَوَاز مُخَالفَة الْمُجْتَهد، لكنه يكفر إِجْمَاعًا. رد: كفره لتكذيبه. قَالَ فِي " التَّمْهِيد " و " الْوَاضِح " وَغَيرهمَا: وكالإجماع عَن اجْتِهَاد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3901 قَالُوا: لَو جَازَ لم يتَأَخَّر فِي جَوَاب، وَلما انْتظر الْوَحْي فِي بعض الوقائع: كقصة بَنَات سعد بن الرّبيع فِي تَرِكَة سعد حَتَّى نزلت: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] . رد: لجَوَاز مَجِيء وَحي، أَو استفراغ وَسعه فِيهِ، أَو تعذره. قَالُوا: قَادر على الْعلم بِالْوَحْي فَلم يجز الظَّن. رد: الْقُدْرَة بعد الْوَحْي كحكمه بِالشَّهَادَةِ. قَالُوا: فِيهِ تُهْمَة وتنفير فيخل بمقصود الْبعْثَة. رد: بالنسخ، ثمَّ بنفيه لصدقه بالمعجزة القاطعة. وَاحْتج أَبُو حَفْص بِمَا رَوَاهُ عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يسألني الله عَن سنة أحدثتها فِيكُم لم يَأْمُرنِي بهَا "، وَاحْتج أَبُو الْقَاسِم بن مندة فِي ذمّ من فعل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3902 عبَادَة بِلَا شرع. رد: سبق جَوَابه إِن صَحَّ. وَللشَّافِعِيّ عَن عبيد بن عُمَيْر مُرْسلا: " إِنِّي وَالله لَا يمسك عَليّ النَّاس بِشَيْء، إِلَّا أَنِّي لَا أحل إِلَّا مَا أحل الله فِي كِتَابه، وَلَا أحرم إِلَّا مَا حرم الله فِي كِتَابه ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3903 قَوْله: {فعلى الْجَوَاز لَا يقر على خطأ إِجْمَاعًا، وَمنع القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَبَعض الشَّافِعِيَّة من الْخَطَأ} . هَذِه إِشَارَة إِلَى من يَقُول بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يجوز أَن يتعبد بِالِاجْتِهَادِ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: قَالَ أَكْثَرهم إِذا اجْتهد يكون دَائِما مصيبا، وَلَيْسَ كَغَيْرِهِ فِي أَنه تَارَة يُصِيب فِي نفس الْأَمر، وَتارَة يخطيء، بل اجْتِهَاده لَا يخطيء أبدا لعصمته، ولمنصب النُّبُوَّة عَن الْخَطَأ فِي الِاجْتِهَاد. قَالَ القَاضِي فِي " الْعدة ": مَعْصُوم فِي اجْتِهَاده كالأمة فَلَيْسَ طَرِيقه غَالب الظَّن. وَفِي " التَّمْهِيد ": حكمه مَعْصُوم بعصمته، فَإِن صدر عَن ظن كالإجماع. وَقَالَ قوم: يجوز أَن يخطيء وَلَكِن لَا يقر عَلَيْهِ. وَإِلَيْهِ يُشِير ابْن الْحَاجِب: لَا يقر على خطأ انْتهى. لَكِن الَّذِي قدمْنَاهُ: أَنه يجوز عَلَيْهِ الْخَطَأ وَلَا يقر عَلَيْهِ، اخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، والآمدي، وَنَقله " عَن أَكثر أَصْحَاب الشَّافِعِي، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3904 والحنابلة، وَأَصْحَاب الحَدِيث ". قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": " قَالَ أَصْحَابنَا، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَأهل الحَدِيث: يجوز ذَلِك لَكِن لَا يقر عَلَيْهِ ". وَالْقَوْل الثَّانِي: هُوَ الْمَنْع من الْخَطَأ، اخْتَارَهُ الرَّازِيّ، والتاج السُّبْكِيّ، والبرماوي وَعَزاهُ إِلَى الْأَكْثَر - كَمَا تقدم -، وَالْقَاضِي أَبُو يعلى، وَأَبُو الْخطاب. قَوْله: {كَانَ نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتَصَرَّف بالفتيا، والتبليغ، وَالْقَضَاء، وَالْإِقَامَة} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3905 وَزعم الْقَرَافِيّ أَن مَحل الْخلاف السَّابِق فِي الْفَتَاوَى، وَأَن الْقَضَاء يجوز الِاجْتِهَاد فِيهِ بِلَا نزاع. مِثَاله فِي الْقَضَاء مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث [أم] سَلمَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَاهُ رجلَانِ يختصمان فِي مَوَارِيث وَأَشْيَاء قد درست فَقَالَ: " إِنِّي إِنَّمَا أَقْْضِي بَيْنكُم برأيي فِيمَا لم ينزل عَليّ فِيهِ ". وَله أَيْضا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ منصب النُّبُوَّة الَّذِي أوتيه حَتَّى نزلت {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق} [العلق: 1] ، ومنصب الرسَالَة الَّذِي أوتيه بقوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا المدثر (1) قُم فَأَنْذر} [المدثر 1، 2] ، وَمَعَ التَّصَرُّفَات السَّابِقَة منصب الْإِمَامَة الْعُظْمَى الَّتِي هِيَ الرِّئَاسَة التَّامَّة، وَالرِّعَايَة الْعَامَّة الشاملة الْخَاصَّة والعامة، بتدبير مصَالح الْخَلَائق وضبطها بدرء الْمَفَاسِد وجلب الْمصَالح، إِلَى غير ذَلِك، وَهَذَا أَعم من منصب الْحَاكِم؛ لِأَن الْحَاكِم من حَيْثُ هُوَ حَاكم لَيْسَ لَهُ إِلَّا فصل الْخُصُومَات، وإنشاء الْإِلْزَام بِمَا يحكم بِهِ، وأعم من منصب الْفَتْوَى فَإِنَّهَا مُجَرّد الْإِخْبَار عَن حكم الله تَعَالَى، وَأما الرسَالَة والنبوة من حَيْثُ هما، فَلَا يستلزمان ذَلِك؛ لِأَن النُّبُوَّة وَحي بِخَاصَّة الموحى إِلَيْهِ، والرسالة تَبْلِيغ من الله تَعَالَى، فَهِيَ مناصب جمعهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، آثارها مُخْتَلفَة، فإقامة الْحُدُود، وترتيب الجيوش وَغير ذَلِك، من منصب الإِمَام، وَلَيْسَ لأحد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3906 بعده إِلَّا لمن يكون إِمَامًا، وَالْحكم، والإلزام، وَفسخ الْعُقُود، وَنَحْو ذَلِك من منصب الْقَضَاء، وتبليغه الْأَحْكَام، وَغَيرهَا من منصب الرسَالَة، والإخبار بِأَن ذَلِك حكم الله تَعَالَى من منصب الْفَتْوَى الَّتِي من جملَة الرسَالَة، وَمَا بَينه وَبَين ربه من أَنْوَاع الْعِبَادَات لَا سِيمَا الْخَاصَّة بِهِ من منصب النُّبُوَّة، فَإِذا تصرف وَعلم من أَي المناصب هُوَ فَأمره وَاضح، وَإِن شكّ طلب التَّرْجِيح من دَلِيل خَارج. وَقد وَقع خلاف بَين الْأمة فِي أُمُور لما ذَكرْنَاهُ من التَّرَدُّد. مِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3907 فَقَالَ أَبُو حنيفَة: هَذَا تصرف مِنْهُ بِالْإِمَامَةِ، فَلَا يجوز لأحد أَن يحيى بِدُونِ إِذن الإِمَام. وَقَالَ أَحْمد وَأَصْحَابه، وَالشَّافِعِيّ: بالفتوى لِأَنَّهُ الْأَغْلَب من تَصَرُّفَاته، فَلَا يتَوَقَّف الْإِحْيَاء على إِذن الإِمَام. وَمِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لهِنْد بنت عتبَة امْرَأَة أبي سُفْيَان بن حَرْب: " خذي من مَاله مَا يَكْفِيك وَيَكْفِي ولدك بِالْمَعْرُوفِ ". قَالَ الشَّافِعِي: هُوَ تصرف بالفتوى، فَمن ظفر بِجِنْس حَقه أَو بِغَيْر جنسه عِنْد التَّعَذُّر جَازَ أَن يَسْتَوْفِي مِنْهُ حَقه، وَهَذَا أحد الْقَوْلَيْنِ للموفق فَإِنَّهُ تَارَة قطع بِأَنَّهُ فَتْوَى، وَتارَة قطع بِأَنَّهُ حكم. قَالَ الزَّرْكَشِيّ من أَصْحَابنَا: " وَالصَّوَاب أَنه فَتْوَى ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3908 وَقَالَ مَالك: هُوَ تصرف بِالْقضَاءِ. قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: هُوَ حكم لَا فَتْوَى، وَقَالَهُ الْمُوفق تَارَة كَمَا تقدم. وَجعل بَعضهم هَذَا أصلا للْقَضَاء على الْغَائِب. وَضعف بِأَن أَبَا سُفْيَان كَانَ حَاضرا فِي الْبَلَد غير مُمْتَنع من الْحُضُور. واستنبط بَعضهم من كَونه قَضَاء: أَنه يجوز أَن يسمع لأحد الْخَصْمَيْنِ دون الآخر. وَمِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3909 قيل: تصرف بِالْإِمَامَةِ فَلَا يخْتَص الْقَاتِل بسلب الْمَقْتُول إِلَّا بِإِذن الإِمَام، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد. وَقَالَ الشَّافِعِي: تصرف بالفتوى، وَهَذَا الصَّحِيح من الْمَذْهَب فَلَا يشْتَرط فِي اسْتِحْقَاق السَّلب إِذن الإِمَام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3910 (قَوْله: {فصل} ) {يجوز الِاجْتِهَاد لمن عاصره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عقلا عِنْد الْأَكْثَر، وَخَالف أَبُو الْخطاب وَغَيره، وَيجوز شرعا، وَوَقع، ذكره فِي: " الْعدة "، و " الْوَاضِح "، والطوفي، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَمنعه فِي " الْمُجَرّد "، وَأَبُو الْفرج وَقوم: مَعَ الْقُدْرَة، وَقوم: مُطلقًا، وَابْن حَامِد وَجمع: لمن بِحَضْرَتِهِ، وَقيل: أَو قَرِيبا مِنْهُ، وَتوقف عبد الْجَبَّار فِيمَن حضر، وَبَعْضهمْ مُطلقًا، وَجوزهُ فِي " الرَّوْضَة ": للْغَائِب، وللحاضر بِإِذْنِهِ كالحنفية، وَجوزهُ فِي " التَّمْهِيد ": للْغَائِب أَو بِإِذْنِهِ، أَو يسمع حكمه فيقره لحاضر، أَو يُمكنهُ سُؤَاله قبل ضيق وَقت الْحَادِثَة، وَقيل: للولاة} . هَذَا حكم اجْتِهَاد غَيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي زَمَنه، فَاخْتَلَفُوا هَل يجوز ذَلِك عقلا أم لَا؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3911 فالجمهور على الْجَوَاز نَقله الْآمِدِيّ عَنْهُم؛ لِأَن ذَلِك لَيْسَ محالا، وَلَا مستلزما للمحال فَجَاز. وَخَالف قوم فَقَالُوا: لَا يجوز عقلا، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، قَالَه وَنَقله ابْن مُفْلِح فِي كِتَابه " الْأُصُول ". لَكِن رَأَيْت أَبَا الْخطاب قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": " مَسْأَلَة: وَلَا فرق بَين النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأمته فِي أَنه كَانَ يجوز لَهُ أَن يجْتَهد وَيحكم بِالْقِيَاسِ من جِهَة الْعقل. وَقَالَ بَعضهم: لَا يجوز ذَلِك عقلا. ثمَّ قَالَ: لنا أَنه إِذا جَازَ أَن يتعبد غَيره بِالنَّصِّ تَارَة، وبالاجتهاد أُخْرَى، جَازَ أَن يتعبد هُوَ بذلك، وَلَيْسَ فِي الْعقل مَا يحيله فِي حَقه ويصححه فِي حَقنا، وَلِهَذَا أوجب عَلَيْهِ وعلينا الْعَمَل على اجتهادنا فِي مضار الدُّنْيَا ومنافعها "، وَطول على ذَلِك، فَظَاهره أَنه نصر الْجَوَاز عقلا، خلافًا لما نَقله ابْن مُفْلِح فَليعلم. إِذا علم ذَلِك فَالْكَلَام فِي الْجَوَاز شرعا والوقوع. وَأما الْجَوَاز فَفِيهِ مَذَاهِب: أَحدهَا: الْجَوَاز مُطلقًا، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، مِنْهُم: القَاضِي فِي " الْعدة "، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3912 وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، وَغَيرهمَا، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، والرازي، وَأَتْبَاعه، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهم. وَالْمذهب الثَّانِي: الْمَنْع مُطلقًا، وَإِن كَانَ النَّص لَا يضاد الِاجْتِهَاد، إِنَّمَا المضاد لَهُ القَوْل بِخِلَافِهِ من غير أَن يتَأَوَّل بِدَلِيل. وَالثَّالِث: إِن ورد الْإِذْن بذلك جَازَ وَإِلَّا فَلَا. قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": " يجوز للْغَائِب، وَيجوز للحاضر بِإِذْنِهِ " كالحنفية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3913 وَالرَّابِع: [وَجوزهُ فِي " التَّمْهِيد " للْغَائِب، وَجوزهُ] إِن ورد إِذن صَرِيح، أَو يسمع حكمه فيقره لحاضر، أَو يُمكنهُ سُؤَاله قبل ضيق وَقت الْحَادِثَة، وَحَكَاهُ عَن الْحَنَفِيَّة. وَالْخَامِس: يجوز للغائبين، وَتقدم كَلَام " التَّمْهِيد "، و " الرَّوْضَة " فِيهِ لتعذر سُؤَاله دون الْحَاضِرين لإمكانه فَهُوَ قدرَة على النَّص، وَالْغَائِب لَو أخر الْحَادِثَة إِلَى لِقَائِه لفاتت الْمصلحَة. وَقد حكى الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور: الْإِجْمَاع على الْجَوَاز للْغَائِب. وَقَالَ فِي " الْمَحْصُول ": إِنَّه جَائِز بِلَا شكّ. وَجعله الْبَيْضَاوِيّ مَحل وفَاق، لَكِن الْمَشْهُور إِجْرَاء الْخلاف فِيهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3914 السَّادِس: إِن كَانَ الْغَائِب قَاضِيا: كعلي ومعاذ حِين بعثهما إِلَى الْيمن جَازَ لَهُ بِخِلَاف الْحَاضِر وَالْغَائِب إِذا لم يكن قَاضِيا، حَكَاهُ الْغَزالِيّ والآمدي. قلت: أما بعث عَليّ وَأبي مُوسَى ومعاذ قُضَاة وحكاما فَالَّذِي نقطع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3915 بِهِ جَوَاز الِاجْتِهَاد، وَقد قَالَ معَاذ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَيَأْتِي فِي الدَّلِيل على الْمَسْأَلَة. وَأما الثَّانِي: وَهُوَ الْوُقُوع فَفِيهِ - أَيْضا - مَذَاهِب: أَحدهَا: وَهُوَ الْأَصَح أَنه وَقع، وَسَيَأْتِي الْحَوَادِث بذلك. وَالثَّانِي: أَنه لم يَقع، إِذْ لَو وَقع لاشتهر. وَالثَّالِث: أَنه لم يَقع بَين الْحُضُور. وَالرَّابِع: الْوَقْف، وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيّ وَنسبه للْأَكْثَر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3916 وَالْخَامِس: الْوَقْف فِي حق الْحَاضِر، وَأما الْغَائِب فَالظَّاهِر وَقع تعبدهم بِهِ وَلَا قطع. اسْتدلَّ للْجُوَاز والوقوع: " بِأَن أَبَا قَتَادَة قَالَ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَزْوَة حنين إِنَّه قتل قَتِيلا، فَقَالَ رجل: صدق، وسلبه عِنْدِي فأرضه فِي حَقه، فَقَالَ أَبُو بكر: لَا هَا الله إِذا لَا يعمد إِلَى أَسد من أَسد الله يُقَاتل عَن الله وَرَسُوله فيعطيك سلبه، فَقَالَ: صدق " مُتَّفق عَلَيْهِ. وَالْمَعْرُوف لُغَة: لَا هَا الله ذَا، أَي: يَمِيني، وَقيل: زَائِدَة. وَأَبُو بكر إِنَّمَا قَالَ ذَلِك اجْتِهَادًا، وَإِلَّا لأسنده إِلَى النَّص، لِأَنَّهُ أدعى إِلَى الانقياد، وَأقرهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على ذَلِك، وَإِذا ثَبت هَذَا فِي الْحَاضِر فالغائب أولى. لَكِن قَالَ بَعضهم: هَذَا خبر آحَاد وَالْمَسْأَلَة علمية. فَقَالَ الْهِنْدِيّ: " وَإِن كَانَت أَخْبَار آحَاد لَكِن تلقتها الْأمة بِالْقبُولِ، فَجَاز أَن يُقَال: إِنَّهَا تفِيد الْقطع ". وَنزل بَنو قُرَيْظَة على حكم ابْن معَاذ، فَأرْسل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهِ فجَاء فَقَالَ: " نزل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3917 هَؤُلَاءِ على حكمك، قَالَ: فَإِنِّي أحكم بقتل مقاتلهم وَسبي ذَرَارِيهمْ، فَقَالَ: قضيت بِحكم الله " مُتَّفق عَلَيْهِ. وجاءه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجلَانِ فَقَالَ لعَمْرو بن الْعَاصِ: " اقْضِ بَينهمَا، فَقَالَ: وَأَنت هُنَا يَا رَسُول الله؟ قَالَ: [نعم] ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3918 (قَوْله: {فصل} ) { [من جهل وجود الرب، أَو علم وجوده، وَفعل فعلا أَو قَالَ قولا لَا يصدر إِلَّا من كَافِر إِجْمَاعًا فكافر. وَلَا يكفر مُبْتَدع غَيره فِي رِوَايَة اخْتَارَهَا القَاضِي، وَابْن عقيل، وَابْن الْجَوْزِيّ، والموفق، والأشعري وَأَصْحَابه كمقلد فِي الْأَصَح عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه وَغَيرهم. وَلَا يفسق، قَالَه ابْن عقيل وَغَيره. وَعنهُ: يكفر. وَالْأَشْهر عَن أَحْمد وَأَصْحَابه يكفر الداعية، وَلَا يكفر من لم يكفر من كفرناه على الْأَصَح. زَاد الْمجد: وَلَا يفسق] } . [يكفر بِكُل فعل أجمع الْمُسلمُونَ أَنه لَا يصدر إِلَّا من كَافِر وَإِن كَانَ مُصَرحًا بِالْإِسْلَامِ، مَعَ فعله ذَلِك الْفِعْل] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3919 فَأَما من جحد الْعلم بهَا فالأشبه لَا يكفر، وَيكفر فِي نَحْو الْإِسْرَاء وَالنُّزُول وَنَحْوه من الصِّفَات. وَقَالَ فِي إِنْكَار الْمُعْتَزلَة اسْتِخْرَاج قلبه لَيْلَة الْإِسْرَاء وإعادته: فِي كفرهم بِهِ وَجْهَان بِنَاء على أَصله فِي الْقَدَرِيَّة الَّذين يُنكرُونَ علم الله وَأَنه صفة لَهُ، وعَلى من قَالَ: لَا أكفر من لَا يكفر الْجَهْمِية. وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي شُرُوط من تقبل شَهَادَته: (وَمن قلد فِي خلق الْقُرْآن، وَنفي الرُّؤْيَة وَنَحْوهمَا: فسق اخْتَارَهُ الْأَكْثَر، قَالَه فِي " الْوَاضِح ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3920 وَعنهُ: يكفر كمجتهد. وَعنهُ: فِيهِ لَا، اخْتَارَهُ الشَّيْخ فِي رسَالَته إِلَى صَاحب " التَّلْخِيص "، كَقَوْل أَحْمد للمعتصم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. وَنقل يَعْقُوب الدَّوْرَقِي فِيمَن يَقُول الْقُرْآن مَخْلُوق: كنت لَا أكفره الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3921 حَتَّى قَرَأت: {أنزلهُ بِعِلْمِهِ} وَغَيرهَا، فَمن زعم أَنه لَا يدْرِي علم الله مَخْلُوق أَو لَا؟ كفر. وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْفُصُول " فِي - الْكَفَاءَة - فِي جهمية، وواقفيه وحرورية، وقدرية، ورافضة: إِن نَاظر ودعا: كفر وَإِلَّا لم يفسق؛ لِأَن أَحْمد قَالَ: يسمع حَدِيثه، وَيصلى خلقه، قَالَ: وَعِنْدِي أَن عَامَّة المبتدعة فسقة. قَالَ: وَالصَّحِيح: لَا كفر؛ لِأَن أَحْمد أجَاز الرِّوَايَة عَن الحرورية، والخوارج) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3922 قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَاخْتَارَ شَيخنَا: لَا يفسق أحد. وَقَالَهُ القَاضِي فِي " شرح الْخرقِيّ " فِي الْمُقَلّد، كالفروع، لِأَن التَّفْرِقَة بَينهمَا لَيست عَن أَئِمَّة الْإِسْلَام وَلَا تصح. وَقَالَ صَاحب " الْمُحَرر ": الصَّحِيح أَن كل بِدعَة لَا توجب الْكفْر لَا يفسق الْمُقَلّد فِيهَا لخفتها، مثل من يفضل عليا على سَائِر الصَّحَابَة، وَيقف عَن تَكْفِير من كفرناه من المبتدعة. ثمَّ ذكر قَول الْمَرْوذِيّ لأبي عبد الله: " إِن قوما يكفرون من لَا يكفر، فَأنكرهُ "، وَقَوله فِي رِوَايَة أبي طَالب: " من يجتريء أَن يَقُول إِنَّه كَافِر؟ يَعْنِي: من لَا يكفر وَهُوَ يَقُول: الْقُرْآن لَيْسَ بمخلوق ". وَقَالَ صَاحب " الْمُحَرر ": " وَالصَّحِيح أَن كل بِدعَة كفرنا فِيهَا الداعية، فَإنَّا نفسق الْمُقَلّد فِيهَا كمن يَقُول بِخلق الْقُرْآن، أَو بِأَن ألفاظنا بِهِ مخلوقة، أَو أَن علم الله مَخْلُوق، أَو أَن أسماءه مخلوقة، أَو أَنه لَا يرى فِي الْآخِرَة، أَو الصَّحَابَة تدينا، أَو أَن الْإِيمَان مُجَرّد الِاعْتِقَاد، وَمَا أشبه ذَلِك، فَمن كَانَ عَالما فِي شَيْء من هَذِه الْبدع يَدْعُو إِلَيْهِ، ويناظر عَلَيْهِ، فَهُوَ مَحْكُوم بِكُفْرِهِ، نَص أَحْمد على ذَلِك صَرِيحًا فِي مَوَاضِع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3923 قَالَ: وَاخْتلف عَنهُ فِي تَكْفِير الْقَدَرِيَّة بِنَفْي خلق الْمعاصِي على رِوَايَتَيْنِ، وَله فِي [الْخَوَارِج] كَلَام يَقْتَضِي فِي تكفيرهم رِوَايَتَيْنِ) . قَوْله: {والمصيب فِي العقليات وَاحِد إِجْمَاعًا، ونافي الْإِسْلَام مخطيء آثم كَافِر مُطلقًا عِنْد أَئِمَّة الْإِسْلَام، وَحكي أَقْوَال تخَالف الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع تنكبنا عَنْهَا} . اعْلَم أَنه إِذا حصل اخْتِلَاف فَتَارَة يكون فِي العقليات، وَتارَة يكون فِي غَيرهَا. فَإِن كَانَ فِي العقليات فالمصيب فِيهَا وَاحِد، كَمَا نقل الْآمِدِيّ وَغَيره الْإِجْمَاع عَلَيْهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3924 لَكِن قَالَ الكوراني: الْحق أَن الْأَمر مُخْتَلف فِي العقليات والشرعيات، وَهُوَ من صَادف الْحق فِيهَا لتعينه فِي الْوَاقِع: كحدث الْعَالم، وَثُبُوت الباريء، وَصِفَاته، وَبَعثه الرُّسُل، وَغير ذَلِك، فالأمور الْعَقْلِيَّة الْمُصِيب وَاحِد قطعا؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى أَن كلا من نقيضين أَو ضدين حق بل أَحدهمَا فَقَط، وَالْآخر بَاطِل، وَمن لم يُصَادف ذَلِك الْوَاحِد فِي الْوَاقِع فَهُوَ ضال آثم وَإِن بَالغ فِي النّظر. وَسَوَاء كَانَ مدرك ذَلِك عقلا مَحْضا: كحدث الْعَالم، وَوُجُود الصَّانِع، أَو شَرْعِيًّا مُسْتَندا إِلَى ثُبُوت أَمر عَقْلِي: كعذاب الْقَبْر، والصراط، وَالْمِيزَان. إِذا علم ذَلِك فالمخطيء لعدم إِصَابَة ذَلِك الْوَاحِد لَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يكون فِي إِنْكَار الْإِسْلَام كاليهود وَالنَّصَارَى إِذا قَالَ: أداني اجتهادي إِلَى إِنْكَاره، فَهَذَا ضال كَافِر عَاص لله وَلِرَسُولِهِ. وَإِن كَانَ فِي غير ذَلِك من العقائد الدِّينِيَّة الزَّائِدَة على أصل الْإِسْلَام فَهَذَا عَاص. وَمن هُنَا انفرقت المبتدعة فرقا مُقَابلَة لطريق السّنة، وَفِيهِمْ قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تفترق أمتِي على ثَلَاث وَسبعين فرقة، فرقة نَاجِية وَالْبَاقِي فِي النَّار "، وَقد تقدم قَرِيبا الْخلاف بَين الْعلمَاء فِي تَكْفِير المبتدعة، وَقد ذكر هُنَا أَقُول تقشعر مِنْهَا الْجُلُود وتنفر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3925 قَالَ ابْن مُفْلِح: " والمصيب وَاحِد. وَذكر أَبُو الْمَعَالِي أَن مَذَاهِب أَقوام: أَن المخطيء مَعْذُور مثاب فِي الْآخِرَة إِذا لم يعاند، وَفِي الدُّنْيَا كَافِر نقاتله. قَالَ: وَقد يتمسكون بقوله: {إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا} الْآيَة. وَقَالَ الجاحظ، وثمامة: المعارف ضَرُورِيَّة وَمَا أَمر الرب الْخَالِق بمعرفته، وَلَا بِالنّظرِ، مِمَّا حصلت لَهُ الْمعرفَة وفَاقا أَمر بِالطَّاعَةِ، فَإِن أطَاع أثيب وَإِلَّا فَالنَّار، وَأما من مَاتَ جَاهِلا، فَقيل: يصير تُرَابا، وَقيل: إِلَى الْجنَّة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3926 وَعَن عبيد الله بن الْحسن، الإِمَام الْمَشْهُور، قَالَه بعض أَصْحَابنَا، وَذكر الْآمِدِيّ أَنه معتزلي معتزلي: المجتهدون من أهل الْقبْلَة مصيبون مَعَ اخْتلَافهمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3927 قَالَ ابْن مُفْلِح: وَمرَاده وَالله أعلم بِمَا كلفوا فَلَا إِثْم، أَو يثابون لاجتهادهم، وَإِلَّا فَإِن أَرَادَ مُطَابقَة الِاعْتِقَاد للمعتقد فَجمع بَين النقيضين، وَلَا يُريدهُ عَاقل. ورده بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم: بمخالفة الْقَاطِع فقصر لتقليد، أَو عصبية، أَو إهمال، فَلم يعْذر كأصل التَّوْحِيد وَلَا فرق. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالُوا، وَلم يُقيد بَعضهم كَلَامه بِأَهْل الْقبْلَة، ففهم عَنهُ مَا لَا يَنْبَغِي. قلت: - صرح بِهِ الطوفي فِي " مُخْتَصره " عَنْهُمَا، والموفق فِي " الرَّوْضَة " عَن الجاحظ - فتأوله بعض الْمُعْتَزلَة، وَكَلَام الجاحظ على الْمسَائِل الكلامية: كالرؤية، وَالْكَلَام، وأعمال الْعباد، لتعارض الْأَدِلَّة الظنية. قَالَ الْآمِدِيّ: فَإِن صَحَّ أَنه المُرَاد فَلَا نزاع وَحكى هُوَ وَجَمَاعَة عَن الجاحظ: لَا يَأْثَم من خَالف الْملَّة ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3928 قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَنقل عَن الجاحظ والعنبري: أَن المخطيء فِي العقليات لَا يَأْثَم فِي خطئه. ثمَّ مِنْهُم من أطلق النَّقْل عَنْهُمَا بِمَا يَشْمَل الْكفَّار وَغَيرهم. وَمِنْهُم من قَالَ: إنَّهُمَا قَالَا ذَلِك بِشَرْط إِسْلَام الْمُجْتَهد، وَهَذَا هُوَ اللَّائِق بهما. وَفِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب " للباقلاني: أَن ذَلِك أشهر الرِّوَايَتَيْنِ عَن الْعَنْبَري. وَنقل ابْن قُتَيْبَة عَنهُ أَنه " سُئِلَ عَن أهل الْقدر وَعَن أهل الْجَبْر فَقَالَ: كل مِنْهُمَا مُصِيب، لِأَن هَؤُلَاءِ قوم عظموا الله، وَهَؤُلَاء قوم نزهوا الله ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3929 وَقَالَ الكيا: إِن الْعَنْبَري كَانَ يذهب إِلَى أَن الْمُصِيب فِي العقليات وَاحِد، وَلَكِن مَا تعلق بِتَصْدِيق الرُّسُل، وَإِثْبَات حدث الْعَالم، وَإِثْبَات الصَّانِع، فالمخطيء فِيهِ غير مَعْذُور، وَأما مَا يتَعَلَّق بِالْقدرِ والجبر، وَإِثْبَات الْجِهَة ونفيها، فالمخطيء فِيهِ مَعْذُور وَإِن كَانَ مُبْطلًا فِي اعْتِقَاده بعد الْمُوَافقَة فِي تَصْدِيق الرُّسُل والتزام الْملَّة ". قَالَ ابْن مُفْلِح بعد قَول الجاحظ الْمُتَقَدّم: " وَهَذَا وَقَوله السَّابِق، وَالْقَوْل قبله خلاف الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع قبله، وَلَيْسَ تكليفهم نقيض اجتهادهم محَال، بل مُمكن، غَايَته منَاف لما تعوده ". قَالَ الجاحظ: الْإِثْم بعد الِاجْتِهَاد قَبِيح لَا سِيمَا مَعَ كَثْرَة الآراء، واعتوار الشّبَه، وَعدم القواطع الجوازم. وَيلْزمهُ: رفع الْإِثْم عَن منكري الصَّانِع، والبعث، والنبوات، وَالْيَهُود، وَالنَّصَارَى، وَعَبدَة الْأَوْثَان، إِذا اجتهادهم أداهم إِلَى ذَلِك، وَله منع أَنهم استفرغوا الوسع فِي طلب الْحق، فإثمهم على ترك الْجد لَا على الْخَطَأ. وَقَوله على كل حَال مُخَالف الْإِجْمَاع، إِلَّا أَن يمْنَع كَونه حجَّة كالنظام، أَو قَطْعِيَّة فَلَا يلْزمه. قَالَ الْمُوفق: " وَمَا ذهب إِلَيْهِ الجاحظ بَاطِل يَقِينا، وَكفر بِاللَّه، ورد عَلَيْهِ وعَلى رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإنَّا نعلم قطعا: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر الْيَهُود وَالنَّصَارَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3930 بِالْإِسْلَامِ واتباعه، وذمهم على إصرارهم، وَيُقَاتل جَمِيعهم، وَيقتل الْبَالِغ مِنْهُم، ونعلم أَن المعاند الْعَارِف مِمَّا يقل " وَأطَال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3931 (قَوْله: {فصل} ) {الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة وَالْأَكْثَر الْمَسْأَلَة الظنية الْحق فِيهَا وَاحِد عِنْد الله تَعَالَى، وَعَلِيهِ دَلِيل، وعَلى الْمُجْتَهد طلبه، فَمن أصَاب فمصيب وَإِلَّا فمخطيء مثاب، زَاد فِي " التَّمْهِيد ": ويطلبه حَتَّى يظنّ أَنه وَصله، وثوابه على قَصده واجتهاده لَا على الْخَطَأ، وَقَالَهُ ابْن عقيل، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَبَعْضهمْ: على قَصده. وَفِي " الْعدة " وَغَيرهَا: مخطيء عِنْد الله تَعَالَى وَحكما، وَقَالَ أَيْضا: مُصِيب فِي اجْتِهَاده مخطيء فِي تَركه للزِّيَادَة، وَعنهُ مُصِيب حكما كَابْن عقيل، وَقَالَ الشَّيْخ: من لم يحْتَج بِنَصّ فمخطيء عِنْده وَإِلَّا فَلَا، نَص عَلَيْهِ، وَقيل: لَا دَلِيل عَلَيْهِ كدفين يصاب، والأستاذ، وَأَبُو الطّيب، وَجمع، وَحكي عَن الشَّافِعِي، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد: الدَّلِيل قَطْعِيّ ونقطع بخطأ مخالفنا، وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، والمزني، وَابْن شُرَيْح، كل مُجْتَهد مُصِيب، وَالْحق وَاحِد عِنْد الله، وَهُوَ الْأَشْبَه الَّذِي لَو نَص على الحكم لنَصّ عَلَيْهِ، وَعَلِيهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3932 دَلِيل، وَلم يُكَلف الْمُجْتَهد إِصَابَته، وَقَالَ بعض أَصْحَابه وَحكى عَن الشَّافِعِي: مُصِيب فِي الطّلب مخطيء فِي الْمَطْلُوب، والمعتزلة: كل مُجْتَهد مُصِيب، فَقيل: كالحنفية، وَقيل: حكم الله تَابع للظن لَا دَلِيل عَلَيْهِ، وَلم يُكَلف غير اجْتِهَاده، وَحكي عَن أبي حنيفَة، والأشعري، والباقلاني، وَنقل التصويب والتخطئة عَن الْأَرْبَعَة والأشعري} . لخصت ذَلِك من كَلَام ابْن مُفْلِح و " التَّمْهِيد " وَغَيرهمَا، وَكَلَام ابْن مُفْلِح أوسع وَأكْثر نقلا فَإِنَّهُ قَالَ: " الْمَسْأَلَة الظنية: الْحق عِنْد الله وَاحِد، وَعَلِيهِ دَلِيل، وعَلى الْمُجْتَهد طلبه، فَمن أصَاب فمصيب وَإِلَّا فمخطيء مثاب عِنْد أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه، وَقَالَهُ الْأَوْزَاعِيّ، وَمَالك، وَالشَّافِعِيّ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3933 وَإِسْحَاق، والمحاسبي وَابْن كلاب، وَذكره أَبُو الْمَعَالِي عَن مُعظم الْفُقَهَاء، وَذكره ابْن برهَان عَن الْأَشْعَرِيّ. زَاد فِي " التَّمْهِيد ": يَطْلُبهُ حَتَّى يعلم أَنه وَصله ظَاهرا، وَمرَاده يظنّ كَمَا ذكره هُوَ غَيره. قَالَ: ثَوَابه على قَصده واجتهاده لَا على الْخَطَأ، وَقَالَهُ ابْن عقيل وَغَيره، وَبَعض الشَّافِعِيَّة. وَبَعْضهمْ: على قَصده. وَفِي " الْعدة " وَغَيرهَا: مخطيء عِنْد الله، وَحكما. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3934 وَفِي " كتاب الرِّوَايَتَيْنِ " للْقَاضِي: مخطيء عِنْد الله. وَفِي الحكم رِوَايَتَانِ: إحدهما: مُصِيب. وَجزم بِهِ ابْن عقيل عَن حنبلي - يَعْنِي نَفسه - وَأَخذهَا القَاضِي من قَول أَحْمد: لَا يَقُول لمُخَالفَة: مخطيء. وَفِي " التَّمْهِيد " يَعْنِي لَا نقطع بخطئه. وَبَعض أَصْحَابنَا: من لم يحْتَج بِنَصّ فمخطيء وَإِلَّا فَلَا، قَالَ: وَهُوَ الْمَنْصُوص. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3935 ثمَّ ذكر القَاضِي اخْتِلَاف أَصْحَابنَا: فِي أَصْحَاب الْجمل وصفين: هَل كِلَاهُمَا مُصِيب أم وَاحِد لَا بِعَيْنِه، أم عَليّ؟ على أوجه، وَأَنه يجب الْبناء على هَذَا الأَصْل، وَأَن نَص أَحْمد الْوَقْف. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: لم يرد أَحْمد الْوَقْف الْحكمِي، بل الْإِمْسَاك خوف الْفِتْنَة؛ وَلِهَذَا بنى قتال الْبُغَاة على سيرة عَليّ. وَقَالَ القَاضِي فِي أثْنَاء الْمَسْأَلَة: هُوَ مُصِيب فِيمَا فعله من الِاجْتِهَاد، مخطيء فِي تكره للزِّيَادَة عَلَيْهِ. قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَبِه ينْحل الْإِشْكَال، وَعند المريسي، والأصم، وَابْن علية: الدَّلِيل قَطْعِيّ ونقطع بخطأ مخالفنا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3936 قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": حَكَاهُ بَعضهم عَن الشَّافِعِي. وَاخْتَارَهُ [أَبُو الطّيب] ، والأستاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ. وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد فِي حَاكم حكم فِي مُفلس أَن صَاحب الْمَتَاع أُسْوَة الْغُرَمَاء " يرد حكمه ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3937 وَفِي " الْعدة ": لاعْتِقَاده خلاف النَّص، لَا أَنه يقطع بِإِصَابَة وَخطأ. وَفِي " الْخلاف ": ظَاهره: لَا يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد. وَقَالَ فِيهَا فِي مَسْأَلَة الظفر: إِن سوغنا الِاجْتِهَاد فِيهِ لم يَأْخُذهُ بِلَا حكم وَإِلَّا أَخذه: كمغصوب، وَذكر - أَيْضا - أَنه لَا ينْقض بالآحاد لعدم الْقطع، وَفِي أثْنَاء الْمَسْأَلَة ذكر نقضه لمُخَالفَة النَّص. وجزموا فِي الْفُرُوع بنقضه: مِنْهُم " الرِّعَايَة " - إِلَّا ظَاهر " الْفُصُول "، واحتمالا فِي " الْكَافِي " فِي - مَسْأَلَة الْمُفلس - بنقضه بِنَصّ آحَاد خلاف الْأَشْهر هُنَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3938 وَجزم صَاحب " الرِّعَايَة " - فِي أصُول الْفِقْه -: لَا ينْقض إِلَّا بقاطع مَعَ أَنه ذكر نقضه بتقليد غَيره. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يقطع فِي بعض الْمسَائِل، وعَلى هَذَا يَنْبَنِي نقض الحكم، وَخَالف أَحْمد فِي مسَائِل وَتوقف فِي أُخْرَى. وَكَذَا قَالَه ابْن حَامِد: " لَا خلاف عَن أبي عبد الله أَن الْأَخْذ بِالرَّأْيِ مَعَ الْخَبَر مَقْطُوع بخطئه وَيرد عَلَيْهِ ". وَمَا قَالَه صَحِيح قَالَه أَحْمد فِي قتل مُؤمن بِكَافِر. وَقَالَ: إِنَّمَا لَا يرد حكم الْحَاكِم إِذا اعتدلت الرِّوَايَة وَذكر قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ مَرْدُود "، فَمن عمل خلاف السّنة رد عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو الطّيب: أمْنَعهُ من الحكم بِاجْتِهَادِهِ وَلَا أنقضه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3939 وَذكر الْآمِدِيّ عَن الإِسْفِرَايِينِيّ وَابْن فورك: أَنه ظَنِّي. وَقَالَ قوم: لَا دَلِيل عَلَيْهِ كدفين يصاب. وَعند أبي حنيفَة، وَأَصْحَابه، والمزني: كل مُجْتَهد مُصِيب، وَالْحق وَاحِد عِنْد الله، وَهُوَ الْأَشْبَه الَّذِي لَو نَص الله على الحكم لنَصّ عَلَيْهِ وَعَلِيهِ دَلِيل، وَلم يُكَلف الْمُجْتَهد إِصَابَته بل الِاجْتِهَاد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3940 قَالَ بعض أَصْحَابه: فَهُوَ مُصِيب ابْتِدَاء، أَي: فِي الطّلب، مخطيء انْتِهَاء، أَي: فِي الْمَطْلُوب، وَحَكَاهُ بَعضهم عَن الشَّافِعِي. وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: كل مُجْتَهد مُصِيب. فَقيل: كالحنفية. وَقيل: حكم تَابع لظن الْمُجْتَهد لَا دَلِيل عَلَيْهِ، وَلم يُكَلف عَن اجْتِهَاده، وَحكي عَن أبي حنيفَة، وَقَالَهُ الباقلاني. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3941 وَحكى عَن الْأَشْعَرِيّ قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: كَقَوْلِه، وَذكره أَبُو الْمَعَالِي عَن مُعظم الْمُتَكَلِّمين، وَابْن عقيل عَن أَكثر الأشعرية. وَبنى ابْن الباقلاني على هَذَا قَوْله: لَيْسَ فِي الأقيسة المظنونة تَقْدِيم وَلَا تَأْخِير، وَإِنَّمَا المظنون بِحَسب الاتفاقات. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَهِي هفوة عَظِيمَة هائلة. وَعَن الجبائي: لَا يجْتَهد وَيتَخَيَّر من الْأَقْوَال. واستنبطه ابْن الباقلاني من كَلَام الشَّافِعِي. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَهُوَ خرق للْإِجْمَاع. وَعَن بَعضهم: لصالح الْأمة الْإِفْتَاء بالتشهي. وَعَن قوم: إِن أفتى مُجْتَهد أَو غَيره وبذل وَسعه يُرِيد التَّقَرُّب إِلَى الله فمصيب. قَالَ: وطرده قوم فِي مسالك الْمَعْقُول. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3942 وَحَكَاهُ بَعضهم عَن دَاوُد، والظاهرية. وَذكر الْآمِدِيّ: أَنه نقل التصويب والتخطئة عَن الشَّافِعِي، وَأبي حنيفَة، وَأحمد، والأشعري. وخرجه ابْن عقيل من دلَالَته على استفتاء غَيره بِلَا حَاجَة، بِخِلَاف حكم أَحْمد بِصِحَّة الصَّلَاة خَلفهم للْحَاجة لصِحَّة صَلَاة عَامي خلف مُجْتَهد فِي الْقبْلَة، وَلَا يجوز أَن يدله إِلَى غَيرهَا. وَأَخذه بعض أَصْحَابنَا من قَول أَحْمد لمن سمى - كتاب الِاخْتِلَاف - سمه كتاب السعَة، وَهُوَ مَأْخَذ بعيد. فَهَذَا النَّقْل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة عَن الْعلمَاء. اسْتدلَّ لِلْقَوْلِ الأول وَهُوَ الصَّحِيح: بقوله تَعَالَى: {ففهمناها سُلَيْمَان} [الْأَنْبِيَاء: 79] فتخصيصه دَلِيل اتِّحَاد الْحق، وإصابته وَلَا نَص، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3943 وَإِلَّا لما اخْتلفَا، أَو ذكر فَنقل، وَلِأَنَّهُ وريث النُّبُوَّة بعده، وَإِنَّمَا يُوصف بالفهم المشتبه. وَفِي " صَحِيح الْحَاكِم ": أَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: " أَسأَلك حكما يُوَافق حكمك "، وَلما عزي إِلَى سُلَيْمَان وَلَا سمي باسم تفيهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3944 قَالَ الْحسن: أثني لصوابه، وَعذر بِاجْتِهَادِهِ. وَلمُسلم عَن بُرَيْدَة: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذا أَمر أَمِيرا على جَيش أَو سَرِيَّة قَالَ: إِذا حاصرت أهل حصن، وأرادوك أَن تنزلهم على حكم الله فَلَا تنزلهم على حكم الله، وَلَكِن أنزلهم على حكمك، فَإنَّك لَا تَدْرِي تصيب مِنْهُم حكم الله أم لَا؟ ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3945 وَاحْتج القَاضِي وَغَيره بالْخبر السَّابِق " وَإِن أَخطَأ فَلهُ أجر ". فَقيل لَهُم آحَاد. فَقَالُوا: قبلته الْأمة، وأجمعت على صِحَّته فَصَارَ كمتواتر، وَمَعْنَاهُ فِي " التَّمْهِيد "، وَغَيره. فَدلَّ أَن الْمَسْأَلَة عِنْدهم قَطْعِيَّة، وزعمه بعض المصوبة. وَقيل - لِابْنِ عقيل - يحمد على جَهله بكذب الشُّهُود، وَنَحْوه كإقرار الْخصم تهزؤا. فَقَالَ: هَذَا لَا يُضَاف إِلَى الْحَاكِم بِهِ، هَذَا خطأ، وَلِهَذَا من تَوَضَّأ مِمَّا جهل نَجَاسَته، وَأَخْطَأ جِهَة الْقبْلَة، لَا ينقص ثَوَابه وَأجر عمله. وَلِهَذَا قَالَ عمر: " يَا صَاحب الْمِيزَاب لَا تعلمهمْ ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3946 أَن اللَّفْظ عَام. وَأَيْضًا: أطلق الصَّحَابَة كثيرا الْخَطَأ فِي الِاجْتِهَاد وشاع وَلم يُنكر. وَأَيْضًا: لَو كَانَ كل مُجْتَهد مصيبا لاجتمع النقيضان، للْقطع بالحكم عِنْد ظَنّه، لعلمه [بإصابته] ، ودوام قِطْعَة مَشْرُوط بِبَقَاء ظَنّه؛ لِأَنَّهُ لَو تغير ظَنّه لزمَه الرُّجُوع إِلَى الثَّانِي إِجْمَاعًا، فَيلْزم علمه بِشَيْء وظنه لَهُ مَعًا. لَا يُقَال: يَنْتَفِي الظَّن بِالْعلمِ، لأَنا نقطع بِبَقَائِهِ لدوام الْقطع، وَإِلَّا كَانَ يَسْتَحِيل ظن النقيض مَعَ ذكر الحكم؛ لأجل الْعلم بالحكم وَلَا يَسْتَحِيل إِجْمَاعًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3947 فَإِن قيل: اجْتِمَاع النقيضين مُشْتَرك الْإِلْزَام؛ لِأَنَّهُ يجب الْفِعْل أَو يحرم قطعا عِنْد ظَنّه أَحدهمَا لاتباعه ظَنّه. رد: الظَّن مُتَعَلق بِالْوُجُوب أَو الْحُرْمَة وَالْعلم بِتَحْرِيم مُخَالفَته. فَإِن قيل: متعلقهما مُتحد لزوَال الْعلم بتحريمها بتبدل الظَّن. رد: لِأَن الظَّن شَرطه. فَإِن قيل: لَا يلْزم اجْتِمَاع النقيضين لتَعلق الظَّن بِكَوْن الدَّلِيل وَالْعلم بِثُبُوت مَدْلُوله وَهُوَ الحكم، وَزَوَال الْعلم بتبدل الظَّن لَا يُوجب اتحادهما؛ لِأَن الظَّن شَرطه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3948 رد: كَونه دَلِيل حكم، فَإِذا ظَنّه علمه، وَإِلَّا جَازَ تعبده بِغَيْرِهِ، فَلَا يكون كل مُجْتَهد مصيبا. وَأَيْضًا: الأَصْل عدم التصويب وَدَلِيله، وَصوب غير معِين للْإِجْمَاع، وَلم يحْتَج الْآمِدِيّ بِغَيْرِهِ. وَاسْتدلَّ: إِذا اخْتلف اجتهادهما، فَإِن كَانَ بدليلين تعين أرجحهما وَإِلَّا تساقطا. رد: الدَّلِيل الظني من الْأُمُور الإضافية، يتَرَجَّح بِالنِّسْبَةِ إِلَى من يرَاهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3949 وَاسْتدلَّ: بشرع المناظرة إِجْمَاعًا، وفائدتها إِصَابَة الْحق. رد: أَو تبين تَرْجِيح دَلِيل على الآخر، أَو تساويهما، أَو تمرين النَّفس. وَاسْتدلَّ: الْمُجْتَهد طَالب، ويستحيل طَالب وَلَا مَطْلُوب، فَلَا بُد من ثُبُوت حكم قبل طلبه، فَمن أخطأه فمخطيء. رد: مَطْلُوب كل مَا يَظُنّهُ، فَلَيْسَ معينا. وَأَيْضًا: يلْزم الْمحَال لَو قَالَ مُجْتَهد شَافِعِيّ لمجتهدة حنفية: أَنْت بَائِن، ثمَّ قَالَ رَاجَعتك، أَو تزوج امْرَأَة بِغَيْر ولي، ثمَّ تزَوجهَا بعده آخر بولِي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3950 رد: مُشْتَرك الْإِلْزَام لوُجُوب اتِّبَاع ظَنّه فيرفع إِلَى حَاكم فَيتبع حكمه، ذكره القَاضِي، وَابْن برهَان، والآمدي، وَغَيرهم. وَفِي انتصار أبي الْخطاب يعْمل بَاطِنا بظنه. قَالَ الباقلاني: وَمِنْهُم من قَالَ تسلم الْمَرْأَة إِلَى الزَّوْج الأول فَإِنَّهُ نَكَحَهَا نِكَاحا يعْتَقد صِحَّته وَهُوَ السَّابِق، فَلَا يبعد أَن يكون هَذَا هُوَ الحكم. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " التَّلْخِيص ": وَالَّذِي عندنَا أَنه يجْتَهد فيهمَا الْمُجْتَهد وَمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده فَهُوَ حكم الله من وقف أَو تَقْدِيم أَو غَيرهمَا. قَالُوا: {وكلا آتَيْنَا حكما وعلما} [الْأَنْبِيَاء: 79] ، وَلَو أَخطَأ أَحدهمَا لم يجز. رد: بِمَا سبق، وَبِأَنَّهُ غير مَانع ويحمله على الْعَمَل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3951 قَالُوا: " بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ "، وَلَا هدى مَعَ خطأ. رد: بِالْمَنْعِ لفعله مَا يلْزمه. قَالَ ابْن عقيل: أَو يحمل مُرَاده الْأَخْذ بالرواية والإمامة، لصلاحيتهم لَهَا، أَو تَقْلِيد من شَاءَ فِي حكم اتَّفقُوا عَلَيْهِ. قَالُوا: لَو كَانَ لم يتَّفق الصَّحَابَة على تسويغ الْخلاف، وتولية الْحُكَّام مَعَ مخالفتهم لَهُم. رد: لاتفاقهم أَن كل مُجْتَهد يتبع ظَنّه، وَلم يتَعَيَّن المخطيء فَلَا إِنْكَار. قَالُوا: لَو كَانَ لزم النقيضان إِن بَقِي الحكم الْمَطْلُوب على الْمُجْتَهد، وَإِن سقط عَنهُ لزم الْخَطَأ. رد: يلْزم الْخَطَأ لَا لَو كَانَ فِي الْمَسْأَلَة نَص أَو إِجْمَاع وَبدل، وسعة، فَلم يجد لزم مُخَالفَته فَهُنَا أولى لأَمره بالحكم بظنه فَحكم بِمَا أنزل الله) . قَوْله: {تَنْبِيه: الْجُزْئِيَّة الَّتِي فِيهَا نَص قَاطع الْمُصِيب فِيهَا وَاحِد وفَاقا، وَقيل: على الْخلاف} . إِذا كَانَ فِي الْجُزْئِيَّة نَص قَاطع فالمصيب فِيهَا وَاحِد بالِاتِّفَاقِ، وَإِن دق مَسْلَك ذَلِك الْقَاطِع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3952 وَقيل: على الْخلاف فِي الَّتِي قبلهَا وَهُوَ شَاذ غَرِيب. قَوْله: {وَلَا يَأْثَم مُجْتَهد فِي حكم شَرْعِي اجتهادي، ويثاب عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، وَخَالف الظَّاهِرِيَّة وَجمع، وَلَا يفسق عِنْدهم، وَقيل: بلَى، وَلَا يَأْثَم من بذل وَسعه وَلَو خَالف قَاطعا، وَإِلَّا أَثم لتَقْصِيره} . قَالَ ابْن مُفْلِح: لَا إِثْم على مُجْتَهد فِي حكم شَرْعِي اجتهادي، ويثاب عِنْد أهل الْحق مِنْهُم الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة. [وَيَأْثَم عِنْد المريسي] ، وَابْن علية، والأصم، والظاهرية، وَلَا يفسق عِنْدهم، ذكره الْآمِدِيّ، وَغَيره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3953 وَذكر ابْن برهَان: يفسق. وَاسْتدلَّ للْأولِ وَهُوَ الصَّحِيح: بِإِجْمَاع الصَّحَابَة، وَالتَّابِعِينَ، فَإِنَّهُم اخْتلفُوا فِي كثير من الْمسَائِل، وتكرر وشاع من غير نَكِير وَلَا تأثيم، مَعَ الْقطع بِأَنَّهُ لَو خَالف أحد فِي أحد أَرْكَان الْإِسْلَام الْخمس أَنْكَرُوا: كمانعي الزَّكَاة، والخوارج. وَلَا يَأْثَم من بذل وَسعه وَلَو خَالف قَاطعا وَلَا إِثْم لتَقْصِيره. أما عدم إثمه إِذا بذل وَسعه؛ فَلِأَنَّهُ مَعْذُور، وَلَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا، وَقد أَتَى بِمَا يقدر عَلَيْهِ. وَأما إِذا لم يبْذل وَسعه فَإِنَّهُ يَأْثَم لكَونه قصر فِي بذل الوسع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3954 (قَوْله: {فصل} ) {لَيْسَ لمجتهد أَن يَقُول فِي مَسْأَلَة فِي وَقت وَاحِد قَوْلَيْنِ متضادين عِنْد الْعلمَاء؛ لِأَن اعتقادهما محَال، وَفعله الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ - فِي سبع عشرَة مَسْأَلَة، فَقيل: للْعُلَمَاء، وَقيل: مَعْنَاهُمَا التَّخْيِير أَو الشَّك، وردا، وَقيل: على سَبِيل التجويز وَالِاحْتِمَال، قَالَ أَبُو حَامِد: فعله دَلِيل علو شَأْنه ودينا، وَلَا قَول لَهُ فيهمَا فِي الْأَصَح، وَفَائِدَته: حصر الْحق فيهمَا} . اسْتدلَّ للْأولِ وَهُوَ الْمَعْمُول عَلَيْهِ عِنْد الْعلمَاء: بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَكُونَا فاسدين، وَعلم ذَلِك، فَالْقَوْل بهما حرَام، فَلَا قَول أصلا، أَو يكون أَحدهمَا فَاسِدا فَكَذَلِك فَلَا وجود للقولين، أَو يَكُونَا صَحِيحَيْنِ، فَإِذا القَوْل بهما محَال لاستلزامهما التضاد الْكُلِّي أَو الجزئي، وَإِن لم يعلم الْفَاسِد مِنْهُمَا: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3955 فَلَيْسَ عَالما بِحكم الْمَسْأَلَة فَلَا قَول لَهُ فيهمَا، فَيلْزمهُ التَّوَقُّف والتخيير على مَا يَأْتِي، وَهُوَ قَول وَاحِد لَا قَولَانِ. قَالَ الطوفي: " فَأحْسن مَا يعْتَذر بِهِ عَن الشَّافِعِي: أَنه تعَارض عِنْده الدليلان فَقَالَ بمقتضاهما على شريطة التَّرْجِيح " انْتهى. وَاعْلَم أَن الشَّافِعِي إِذا نَص على قَوْلَيْنِ وَلَيْسَ فِي كَلَامه مَا يشْعر بترجيح أحد الْحكمَيْنِ، ثمَّ قَوْله: فيهمَا قَولَانِ، أَو أَقْوَال، يحْتَمل أَن يُرِيد على سَبِيل التجويز وَالِاحْتِمَال، وَيحْتَمل أَن يُرِيد فِيهَا مذهبان لمجتهدين أَو أَكثر، وعَلى كل حَال لَا ينْسب إِلَيْهِ شَيْء من الْقَوْلَيْنِ أَو الْأَقْوَال، قَالَه الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه. وَقَالَ الْآمِدِيّ: يجب اعْتِقَاد نِسْبَة أَحدهمَا إِلَيْهِ، وَإِن كُنَّا لَا نعلمهُ وَلَا ننسب إِلَيْهِ شَيْئا مِنْهَا لذَلِك. وَفِي رَأْي ثَالِث نَقله أَبُو الْمَعَالِي عَن الباقلاني أَنا نتخير فِي الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3956 قَالَ: وَهَذَا بناه القَاضِي على اعْتِقَاده أَن مَذْهَب الشَّافِعِي تصويب الْمُجْتَهدين، لَكِن الصَّحِيح من مذْهبه أَن الْمُصِيب وَاحِد، فَلَا يُمكن فِيهِ القَوْل بالتخيير، وَأَيْضًا فقد يكون الْقَوْلَانِ بِتَحْرِيم وَإِبَاحَة، ويستحيل التَّخْيِير بَينهمَا. وَاعْلَم أَن ذكر الشَّافِعِي قَوْلَيْنِ فِي مَوضِع وَاحِد من غير تَنْبِيه على مَا يشْعر بقوله بِأَحَدِهِمَا قَلِيل جدا. قَالَ أَبُو حَامِد: لَيْسَ للشَّافِعِيّ مثل ذَلِك إِلَّا فِي بضعَة عشر موضعا: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3957 سِتَّة عشرَة أَو سَبْعَة عشر، وَهُوَ دَلِيل على علو شَأْنه. وَفَائِدَة ذكر الْقَوْلَيْنِ من غير تَرْجِيح: التَّنْبِيه على أَن مَا سواهُمَا لَا يُؤْخَذ بِهِ، وَأَن الْجَواب منحصر فِيمَا ذكر فيطلب التَّرْجِيح فِيهِ، وَقد وَقع مثل ذَلِك لعمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - فِي الشورى حَيْثُ حصر [الْخلَافَة] فِي سِتَّة، أَي: فَلَا يكون اسْتِحْقَاقهَا لغَيرهم. قَوْله: {فَإِن قَالَه فِي وَقْتَيْنِ وَجَهل أسبقهما فمذهبه أقربهما من الْأَدِلَّة، أَو قَوَاعِده، وَعند الْأَصْحَاب، وَفِي " الرَّوْضَة " - أَيْضا - كخبرين تَعَارضا، وَمنع الْآمِدِيّ من الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا، وَإِن علم فَالثَّانِي مذْهبه، وَهُوَ نَاسخ عِنْد الْأَكْثَر، وَقَالَ ابْن حَامِد: وَالْأول، وَقيل: وَلَو رَجَعَ، قَالَ الْمجد: هُوَ مُقْتَضى كَلَامهم} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3958 نقُول: إِذا نقل عَن الإِمَام أَحْمد فِي مَسْأَلَة قَولَانِ أَو قَول فَنَنْظُر فَإِن أمكن الْجمع وَلَو بِحمْل عَام على خَاص أَو مُطلق على مُقَيّد على الْأَصَح، فالقولان مذْهبه، وَيحمل كل مِنْهُمَا على ذَلِك الْمحمل، وَإِن تعذر الْحمل فَتَارَة يعلم تَارِيخ الْقَوْلَيْنِ أَو الْأَقْوَال، وَتارَة يجهل، فَإِن جهل أسبقهما فَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَن مذْهبه من الْقَوْلَيْنِ أَو الْأَقْوَال أقربهما من الْأَدِلَّة، أَو قَوَاعِد مذْهبه، قدمه ابْن مُفْلِح فِي " فروعه " وَغَيره. قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: " نجتهد فِي الْأَشْبَه بأصوله الْأَقْوَى فِي الْحجَّة فنجعله مذْهبه ونشك فِي الآخر "، وَقَالَهُ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ". وَقيل: يَجْعَل الحكم فيهمَا مُخْتَلفا؛ لِأَنَّهُ لَا أولية بِالسَّبقِ، ذكره القَاضِي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3959 قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: ويحكى الْقَوْلَيْنِ عَنهُ، وَأَن أَقْوَال الشَّافِعِي كَذَلِك. وَكَذَا قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَأَنه إِجْمَاع كنقل أَقْوَال السّلف. وَقَالَ الْمُوفق - أَيْضا - فِي " الرَّوْضَة ": " إنَّهُمَا كخبرين عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَعَارضا ". وَكَذَا جزم الْآمِدِيّ: يمْتَنع الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا لاحْتِمَال [رُجُوعه] كنصين. وَإِن علم أسبقهما فَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَن الثَّانِي مذْهبه وَهُوَ نَاسخ للْأولِ، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر مِنْهُم: أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، والموفق فِي " الرَّوْضَة "، وَالْقَاضِي فِي " الْعدة "، وَذكر كَلَام الْخلال وَصَاحبه لقَوْله: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3960 " هَذَا قَول قديم رَجَعَ عَنهُ "، وَقدمه فِي " الرِّعَايَتَيْنِ "، و " آدَاب الْمُفْتِي "، وَابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، والطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَنَصره وَهُوَ وَصَاحب " الْحَاوِي الْكَبِير "، وَغَيرهم، وَلِأَنَّهُ الظَّاهِر. قَالَ الإِمَام أَحْمد: " إِذا رَأَيْت مَا هُوَ أقوى أخذت بِهِ وَتركت القَوْل الآخر ". وَجزم بِهِ الْآمِدِيّ وَغَيره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3961 وَالْقَوْل الثَّانِي: يكون الأول مذْهبه - أَيْضا - كالثاني، كَمَا لَو جهل رُجُوعه عَنهُ، اخْتَارَهُ ابْن حَامِد، وَغَيره: كمن صلى صَلَاتَيْنِ باجتهادين إِلَى جِهَتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ، وَلم يتَبَيَّن أَنه أَخطَأ، وَلِأَن الِاجْتِهَاد لَا ينْقض بِالِاجْتِهَادِ. قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَفِيه نظر، وَيلْزمهُ لَو صرح بِالرُّجُوعِ، وَبَعض أَصْحَابنَا خَالف وَقَالَ: وَلَو صرح بِالرُّجُوعِ ". قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": " قلت: وَقد تدبرت كَلَامهم فرأيته يَقْتَضِي أَن يُقَال بكونهما مذهبا لَهُ وَإِن صرح بِالرُّجُوعِ " انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3962 (قَوْله: {فصل} ) {مَذْهَب أَحْمد وَنَحْوه مَا قَالَه أَو جرى مجْرَاه من تَنْبِيه وَغَيره} . اعْلَم أَن الإِمَام أَحْمد - رَحمَه الله تَعَالَى - لم يؤلف كتابا مُسْتقِلّا فِي الْفِقْه كَمَا فعله غَيره من الْأَئِمَّة، وَإِنَّمَا أَخذ ذَلِك أَصْحَابه من فَتَاوِيهِ، وأجوبته، وأقواله، وأفعاله، وَبَعض تآليفه، فَإِن أَلْفَاظه إِمَّا صَرِيحَة فِي الحكم بِمَا لَا يحْتَمل، أَو ظَاهِرَة فِيهِ مَعَ احْتِمَال غَيره، أَو مُحْتَملَة لشيئين فَأكْثر على السوَاء، أَو تَنْبِيه كَقَوْلِهِم: أَوْمَأ إِلَيْهِ، أَو أَشَارَ إِلَيْهِ، وَدلّ كَلَامه عَلَيْهِ، أَو توقف عَلَيْهِ، وَنَحْو ذَلِك. إِذا علمت ذَلِك: فمذهب الإِمَام أَحْمد وَنَحْوه من الْمُجْتَهدين على الْإِطْلَاق كالأئمة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم: مَا قَالَه بِدَلِيل وَمَات قَائِلا بِهِ، قَالَه فِي " الرِّعَايَة ". وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": " مَذْهَب الْإِنْسَان مَا قَالَه أَو جرى مجْرَاه من تَنْبِيه أَو غَيره ". وَقد قسم أَصْحَابه دلَالَة أَلْفَاظه إِلَى أَنْوَاع كَثِيرَة، وَكَذَا فعله. فَلهَذَا قُلْنَا: {وَكَذَا فعله وَمَفْهُوم كَلَامه} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3963 يَعْنِي أَنه إِذا فعل فعلا قُلْنَا مذْهبه جَوَاز فعل ذَلِك الْمَفْعُول، وَإِلَّا لما كَانَ فعله، وَكَذَا لَو كَانَ لكَلَامه مَفْهُوم فَإنَّا نحكم على ذَلِك الْمَفْهُوم بِمَا يُخَالف الْمَنْطُوق، إِن كَانَ مَفْهُوم مُخَالفَة، أَو بِمَا يُوَافقهُ إِن كَانَ مَفْهُوم مُوَافقَة. ولأصحابنا فِي فعله وَمَفْهُوم كَلَامه وَجْهَان فِي كَونه مذهبا، وَأطلقهُمَا فِي " الرِّعَايَتَيْنِ "، و " آدَاب الْمُفْتِي "، و " أصُول ابْن مُفْلِح ": أَحدهَا: يكون مذهبا لَهُ وَهُوَ الصَّحِيح من الْمَذْهَب. قَالَ ابْن حَامِد فِي " تَهْذِيب الْأَجْوِبَة ": عَامَّة أَصْحَابنَا يَقُولُونَ: إِن فعله مَذْهَب لَهُ وَقدمه ورد غَيره. قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": اخْتَار الْخرقِيّ، وَابْن حَامِد، وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: أَن مَفْهُوم كَلَامه مذْهبه. وَاخْتَارَ أَبُو بكر: أَنه لَا يكون مذهبا لَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3964 فَإِن جعلنَا الْمَفْهُوم مذهبا لَهُ فنص فِي مَسْأَلَة على خلاف الْمَفْهُوم [بَطل] . وَقيل: لَا يبطل. فَتَصِير الْمَسْأَلَة على رِوَايَتَيْنِ إِن جعلنَا أول قوليه فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة مذهبا لَهُ. قَوْله: {فَإِن علله بعلة فَقَوله مَا وجدت فِيهِ، وَلَو قُلْنَا بتخصيص الْعلَّة فِي الْأَصَح} . الصَّحِيح: أَن مذْهبه فِي كل مَسْأَلَة تُوجد فِيهَا تِلْكَ الْعلَّة الَّتِي علل بهَا تِلْكَ الْمَسْأَلَة الَّتِي نَص عَلَيْهَا، وَذكر علتها قدمه فِي " الْفُرُوع " و " الرِّعَايَة ". وَقَالَ: سَوَاء قُلْنَا بتخصيص الْعلَّة أَو لَا؟ وَقيل: لَا يكون ذَلِك مذْهبه، وَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَة بعْدهَا مَا يدل على ذَلِك. وَقطع بِالْأولِ فِي " الرَّوْضَة "، و " مُخْتَصر الطوفي "، وَغَيرهمَا إِذْ الحكم يتبع الْعلَّة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3965 قَوْله: {وَكَذَا الْمَقِيس على كَلَامه فِي الْأَصَح} . اخْتلف الْأَصْحَاب فِي الْمَقِيس على كَلَامه هَل هُوَ مَذْهَب لَهُ أم لَا؟ وَالْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب: أَنه مَذْهَب لَهُ. قَالَ فِي " الْفُرُوع ": مذْهبه فِي الْأَشْهر. وَقدمه فِي " الرِّعَايَتَيْنِ "، و " الْحَاوِي "، وَغَيرهم. وَهُوَ مَذْهَب الْأَثْرَم، والخرقي، وَغَيرهمَا، قَالَه ابْن حَامِد فِي " تَهْذِيب الْأَجْوِبَة ". وَقيل: لَا يكون مذْهبه. قَالَ ابْن حَامِد: " قَالَ عَامَّة مَشَايِخنَا مثل الْخلال، وَأبي بكر عبد الْعَزِيز، وَأبي عَليّ، وَإِبْرَاهِيم، وَسَائِر من شاهدنا: أَنه لَا يجوز نسبته إِلَيْهِ، وأنكروا على الْخرقِيّ مَا رسمه فِي كِتَابه من حَيْثُ إِنَّه قَاس على قَوْله " انْتهى. وَنَصره الْحلْوانِي، ذكره فِي " المسودة "، وَأطلقهُمَا فِي " المسودة " وَابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3966 قَالَ ابْن حَامِد: " والأجود أَن يفصل، فَمَا كَانَ من جَوَاب لَهُ فِي أصل يحتوي مسَائِل خرج جَوَابه على بَعْضهَا، فَإِنَّهُ جَائِز أَن ينْسب إِلَيْهِ بَقِيَّة مسَائِل ذَلِك الأَصْل من حَيْثُ الْقيَاس ". وَقيل: إِن جَازَ تَخْصِيص الْعلَّة فَهُوَ مذْهبه وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ فِي " الرِّعَايَة الْكُبْرَى "، و " آدَاب الْمُفْتِي ": " وَقلت: إِن نَص الإِمَام على علته، أَو أَوْمَأ إِلَيْهِ كَانَ مذهبا وَإِلَّا فَلَا، إِلَّا أَن تشهد أَقْوَاله وأفعاله أَو أَحْوَاله لِلْعِلَّةِ المستنبطة بِالصِّحَّةِ وَالتَّعْيِين " انْتهى. قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي فِي " مختصرها "، وَغَيرهمَا: " إِن بَين الْعلَّة فمذهبه فِي كل مَسْأَلَة وجدت فِيهَا تِلْكَ الْعلَّة كمذهبه فِيمَا نَص عَلَيْهِ، وَإِن لم يبين الْعلَّة فَلَا، وَإِن أشبهتها إِذْ هُوَ إِثْبَات مَذْهَب بِالْقِيَاسِ، ولجواز ظُهُور الْفرق لَهُ لَو عرضت عَلَيْهِ " انْتهى. قَوْله: {فَلَو أفتى فِي مَسْأَلَتَيْنِ متشابهتين بحكمين مُخْتَلفين فِي وَقْتَيْنِ: لم يجز نَقله فِي كل مِنْهُمَا إِلَى الْأُخْرَى على الْأَصَح} . هَذَا هُوَ الصَّحِيح، أَعنِي: أَنه لَا يجوز النَّقْل والتخريج من كل وَاحِدَة إِلَى الْأُخْرَى كَقَوْل الشَّارِع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3967 ذكره أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَغَيره، وَاقْتصر عَلَيْهِ الْمجد، وَقدمه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، والطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَصَاحب " الْحَاوِي الْكَبِير " وَغَيرهم، وَجزم بِهِ فِي " الرَّوْضَة " وَغَيره، كَمَا لَو فرق بَينهمَا، أَو منع النَّقْل والتخريج. قَالَ فِي " الرِّعَايَتَيْنِ "، وآداب الْمُفْتِي ": أَو قرب الزَّمن بِحَيْثُ يظنّ أَنه ذَاكر حكم الأولى حِين أفتى بِالثَّانِيَةِ. وَالْقَوْل الثَّانِي: جَوَاز نقل الحكم وتخريجه من كل وَاحِدَة مِنْهُمَا إِلَى الْأُخْرَى، نَقله ابْن حَامِد عَن بعض الْأَصْحَاب، وَجزم بِهِ فِي " المطلع "، وَقدمه فِي " الرِّعَايَتَيْنِ ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3968 وَاخْتَارَهُ الطوفي فِي " مُخْتَصره " فِي الْأُصُول، و " شَرحه "، وَقَالَ: " إِذا كَانَ بعد الْجد والبحث، أَو خَفَاء الْفرق مَعَ ذَلِك، مُمْتَنع عَادَة "، لَكِن من شُرُوط جَوَاز التَّخْرِيج أَن لَا يُفْضِي إِلَى خرق الْإِجْمَاع. قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": أَو رفع مَا اتّفق عَلَيْهِ الجم الْغَفِير من الْعلمَاء، أَو عَارضه نَص كتاب أَو سنة. فعلى الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - يكون الْوَجْه الْمخْرج وَجها لمن خرجه، وعَلى القَوْل الثَّانِي يكون رِوَايَة مخرجة، ذكره ابْن حمدَان وَغَيره. وَقَالَ ابْن حمدَان أَيْضا: " قلت: إِن علم التَّارِيخ، وَلم يَجْعَل أول قوليه فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة مذهبا لَهُ جَازَ نقل حكم الثَّانِيَة إِلَى الأولى فِي الأقيس وَلَا عكس، إِلَّا أَن يَجْعَل أول قوليه فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة مذهبا لَهُ مَعَ معرفَة التَّارِيخ، وَإِن جهل التَّارِيخ جَازَ نقل حكم أقربهما من كتاب، أَو سنة، أَو إِجْمَاع، أَو أثر، وقواعد الإِمَام، وَنَحْوه إِلَى الْأُخْرَى فِي الأقيس وَلَا عكس، إِلَّا أَن يَجْعَل أول قوليه فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة مذهبا مَعَ معرفَة التَّارِيخ، وَأولى لجَوَاز كَونهَا الْأَخِيرَة دون الراجحة " انْتهى. قَوْله: {وَلَو نَص على حكم مَسْأَلَة ثمَّ قَالَ: لَو قَالَ قَائِل بِكَذَا، أَو ذهب ذَاهِب إِلَيْهِ، لم يكن مذهبا لَهُ فِي الْأَصَح} . إِذا نَص على حكم مَسْأَلَة ثمَّ قَالَ: وَلَو قَالَ قَائِل، أَو ذهب ذَاهِب إِلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3969 كَذَا يُرِيد حكما يُخَالف مَا نَص عَلَيْهِ، كَانَ مذهبا: لم يكن ذَلِك مذهبا للْإِمَام أَيْضا، كَمَا لَو قَالَ: وَقد ذهب قوم إِلَى كَذَا، قَالَه أَبُو الْخطاب وَمن بعده وَقدمه فِي " الْفُرُوع "، و " الرِّعَايَة "، و " آدَاب الْمُفْتِي "، وَغَيرهم. وَيحْتَمل أَن يكون مذهبا لَهُ ذكره فِي " الرِّعَايَة " من عِنْده. قلت: وَهُوَ مُتَوَجّه كَقَوْلِه: يحْتَمل وَجْهَيْن. قَالَ فِي " الْفُرُوع ": وَقد أجَاب الإِمَام أَحْمد فِيمَا إِذا سَافر بعد دُخُول الْوَقْت هَل يقصر، وَفِي غير مَوضِع بِمثل هَذَا، وَأثبت القَاضِي وَغَيره رِوَايَتَيْنِ انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3970 (قَوْله: {فصل} ) {الْأَرْبَعَة وَغَيرهم: لَا ينْقض حكم فِي مسالة اجتهادية، إِلَّا مَا سبق فِي أَن الْمُصِيب وَاحِد} . وَذَلِكَ للتساوي فِي الحكم بِالظَّنِّ، وَإِلَّا نقض بمخالفة قَاطع فِي مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، إِلَّا مَا سبق فِي مَسْأَلَة أَن الْمُصِيب وَاحِد، وَذكره الْآمِدِيّ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ عمل الصَّحَابَة، وللتسلسل فتفوت مصلحَة نصب الْحَاكِم. وَلنَا: خلاف فِيمَن حبس فِي ثمن كلب، أَو خمر ذمِّي أراقه، هَل يُطلقهُ حَاكم بعده أم لَا؟ أم يتَوَقَّف ويجتهد فِي الصُّلْح، وَللشَّافِعِيّ كالآخرين. وَلنَا: خلاف فِي نِكَاح بِلَا ولي، وَقَالَهُ بعض أَصْحَابنَا نَقله ابْن مُفْلِح، وَحَاصِله: أَنه يمْتَنع نقض حكم الِاجْتِهَاد بِغَيْرِهِ، بِاجْتِهَاد آخر، سَوَاء كَانَ من الْمُجْتَهد الأول أَو من غَيره، لما يلْزم على نقضه من التسلسل؛ إِذْ لَو جَازَ النَّقْض لجَاز نقض النَّقْض، وَهَكَذَا، فَيفوت مصلحَة حكم الْحَاكِم وَهُوَ قطع الْمُنَازعَة لعدم الوثوق حِينَئِذٍ بالحكم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3971 وَهُوَ معنى قَول الْفُقَهَاء فِي الْفُرُوع: لَا ينْقض الِاجْتِهَاد بِالِاجْتِهَادِ؛ لِأَن الصَّحَابَة أَجمعُوا على ذَلِك. فَإِن أَبَا بكر حكم فِي مسَائِل بِاجْتِهَادِهِ، وَخَالفهُ عمر فَلم ينْقض أَحْكَامه، وَعلي خَالف عمر فِي اجْتِهَاده فَلم ينْقض أَحْكَامه، وَخَالَفَهُمَا عَليّ فَلم ينْقض أحكامهما، فَإِن أَبَا بكر سوى بَين النَّاس فِي الْعَطاء، فَأعْطى العبيد، وَخَالفهُ عمر ففاضل بَين النَّاس، وَخَالَفَهُمَا عَليّ فسوى بَين النَّاس، وَحرم العبيد، وَلم ينْقض أحد مِنْهُم مَا فعله من قبله. قَوْله: {وينقض بمخالفة نَص كتاب أَو سنة، وَلَو آحَاد، خلافًا لقَوْل القَاضِي، أَو إِجْمَاع قَطْعِيّ لَا ظَنِّي فِي الْأَصَح، وَلَا قِيَاس وَلَو جليا خلافًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3972 لمَالِك، وَالشَّافِعِيّ، وَابْن حمدَان فِيهِ، زَاد مَالك: وَالْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة، وينقض مُطلقًا وَقطع فِي " الْمُجَرّد "، و " الْمُغنِي " بِطَلَب ربه، وَعَن دَاوُد وَأبي ثَوْر: ينْقض مَا بَان خطأ، وَجَوَاز ابْن الْقَاسِم: نقض مَا بَان غَيره أصوب} . لَا شكّ أَن الحكم ينْتَقض بمخالفة الْإِجْمَاع الْقطعِي، وَكَذَلِكَ بمخالفة النَّص من كتاب أَو سنة؛ لِأَنَّهُ قَضَاء لم يُصَادف شَرطه، فَوَجَبَ نقضه. وَبَيَان مُخَالفَته للشّرط: أَن شَرط الحكم بِالِاجْتِهَادِ عدم النَّص بِدَلِيل خبر معَاذ؛ وَلِأَنَّهُ إِذا ترك الْكتاب وَالسّنة فقد فرط، فَوَجَبَ نقض حكمه. إِذا علم ذَلِك فَإِنَّهُ ينْقض بمخالفة نَص كتاب الله أَو سنة وَلَو آحادا، كَقَتل مُسلم بالكافر، فَيلْزمهُ نقضه، نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد. وَقيل: لَا ينْقض حكمه إِذا خَالف غير سنة متواترة، وَهُوَ أحد قولي القَاضِي أبي يعلى. وَالْإِجْمَاع إجماعان. إِجْمَاع قَطْعِيّ فينقض بمخالفته قطعا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3973 وَإِجْمَاع لَا ينْقض بمخالفته على الصَّحِيح، قدمه فِي " الْفُرُوع "، و " الرِّعَايَة الْكُبْرَى "، وَغَيرهمَا. وَقيل: ينْقض، وَهُوَ ظَاهر كَلَام كثير من الْأَصْحَاب. وَلَا ينْقض إِذا خَالف قِيَاسا وَلَو جليا على الصَّحِيح من الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر وَقَطعُوا بِهِ. وَقيل: ينْقض إِذا خَالف قِيَاسا نصا جليا وفَاقا لمَالِك، وَالشَّافِعِيّ، وَابْن حمدَان فِي " الرِّعَايَتَيْنِ "، زَاد مَالك: ينْقض بمخالفة الْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة. وَعَن دَاوُد وَأبي ثَوْر: ينْقض جَمِيع مَا بَان لَهُ خَطؤُهُ؛ " لِأَن عمر رَضِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3974 الله عَنهُ كتب إِلَى أبي مُوسَى لَا يمنعك قَضَاء قَضيته بالْأَمْس، ثمَّ راجعت نَفسك فِيهِ الْيَوْم، فهديت لمرشد، أَن تراجع فِيهِ الْحق، فَإِن الرُّجُوع إِلَى الْحق خير من التَّمَادِي فِي الْبَاطِل. وَلِأَنَّهُ خطأ فَوَجَبَ الرُّجُوع عَنهُ. وَجوز ابْن الْقَاسِم بعض مَا بَان غَيره أصوب، وَهُوَ قريب من الَّذِي قبله. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " إِذا بَان أَن الحكم خَالف ذَلِك ارْتَفع حكم الِاجْتِهَاد. وَبَعْضهمْ يعبر عَن ذَلِك: بنقضه؛ وَهُوَ مجَاز؛ لِأَنَّهُ قد تبين أَن لَا حكم، بل وَلَا ارْتِفَاع؛ لِأَنَّهُ فرع الثُّبُوت إِلَّا أَن يُرَاد ارْتِفَاع ظن الحكم ". تَنْبِيه: حَيْثُ قُلْنَا: ينْقض، فَإِن كَانَ فِي حق الله تَعَالَى: كَالطَّلَاقِ، وَالْعتاق، وَنَحْوهمَا نقضه؛ لِأَن لَهُ النّظر فِي حُقُوق الله، وَإِن كَانَ يتَعَلَّق بِحَق آدَمِيّ فَالصَّحِيح أَنه - أَيْضا - ينْقضه، وَلَا يحْتَاج فِي نقضه إِلَى صَاحبه وَطَلَبه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3975 وَقَالَ القَاضِي فِي " الْمُجَرّد "، والموفق فِي " الْمُغنِي "، و " الشَّارِح "، وَابْن رزين: لم ينْقضه إِلَّا بمطالبة صَاحبه؛ لِأَن الْحَاكِم لَا يَسْتَوْفِي حَقًا لمن لَا ولَايَة عَلَيْهِ بِغَيْر مُطَالبَته، فَإِن طلب صَاحبه ذَلِك نقضه. قَوْله: {وَحكمه بِخِلَاف اجْتِهَاده بَاطِل وَلَو قلد غَيره عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، وَفِي " الْإِرْشَاد ": لَا، وَيَأْثَم، وَيَنْبَغِي هَذَا فِيمَن قضى بِخِلَاف رَأْيه نَاسِيا وَلَا إِثْم، وَينفذ كَأبي حنيفَة، وَعند أبي يُوسُف: يرجع عَنهُ وينقضه كالمالكية، وَالشَّافِعِيَّة} . قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَحكمه بِخِلَاف اجْتِهَاده بَاطِل وَلَو قلد غَيره، وَذكره الْآمِدِيّ اتِّفَاقًا. وَفِي " إرشاد ابْن أبي مُوسَى ": لَا، للْخلاف فِي الْمَدْلُول وَيَأْثَم. وَيَنْبَغِي هَذَا فِيمَن قضى بِخِلَاف رَأْيه نَاسِيا لَهُ لَا إِثْم وَينفذ كَقَوْل أبي حنيفَة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3976 وَعند أبي يُوسُف: يرجع عَنهُ وينقضه، كَقَوْل الْمَالِكِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة. وبناه فِي " شرح الْخصاف " على جَوَاز تَقْلِيد غَيره. نقل أَبُو طَالب إِذا أَخطَأ بِلَا تَأْوِيل فليرده وَيطْلب صَاحبه فَيَقْضِي بِحَق ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3977 قَوْله: {وَإِن حكم مقلد بِخِلَاف إِمَامه فَإِن صَحَّ حكم الْمُقَلّد انبنى نقضه على منع تَقْلِيد غَيره، قَالَه الْآمِدِيّ، وَابْن حمدَان، وَقَالَ ابْن حمدَان أَيْضا: مُخَالفَة الْمُفْتِي نَص إِمَامه كمخالفة نَص الشَّارِع، وَقَالَ ابْن هُبَيْرَة: عمله بقول الْأَكْثَر أولى} . قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَإِن حكم مقلد بِخِلَاف إِمَامه، فَإِن صَحَّ حكم الْمُقَلّد انبنى نقضه على منع تَقْلِيد غَيره، ذكره الْآمِدِيّ وَهُوَ وَاضح، وَمَعْنَاهُ لبَعض أَصْحَابنَا ". وَمرَاده ابْن حمدَان، وَذكر كَلَام ابْن هُبَيْرَة. وَاعْلَم أَنه لَيْسَ للمقلد أَن يحكم بِخِلَاف مَذْهَب إِمَامه، كَمَا أَن الْمُجْتَهد لَيْسَ لَهُ أَن يحكم بِغَيْر اجْتِهَاده سَوَاء، فَإِن حكم الْمُقَلّد بِخِلَاف قَول إِمَامه، انبنى على أَنه هَل يجوز لَهُ تَقْلِيد غَيره أم لَا؟ فَإِن منعنَا نقض، وَإِن جَوَّزنَا فَلَا، قَالَه الْآمِدِيّ، وَتَبعهُ ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح كَمَا تقدم. لَكِن قَالَ الْغَزالِيّ: إِنَّا إِذا منعنَا من قلد إِمَامًا أَن يُقَلّد غَيره، وَفعل وَحكم بقوله فَيَنْبَغِي أَن لَا ينفذ قَضَاؤُهُ؛ وَلِأَنَّهُ فِي ظَنّه أَن إِمَامه أرجح. انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3978 وَهَذَا مُوَافق لظَاهِر مَا قَالَه ابْن حمدَان: أَن مُخَالفَة الْمُفْتِي نَص إِمَامه كمخالفة نَص الشَّارِع. مَعَ أَن ظَاهره أَنه غير الْمُقَلّد بل هُوَ مفت؛ فَيكون الْمُقَلّد بطرِيق الأولى. قَوْله: {وَلَو اجْتهد فَتزَوج بِلَا ولي ثمَّ تغير اجْتِهَاده حرمت فِي الْأَصَح، وَقَالَهُ القَاضِي، والموفق، وَابْن حمدَان، والطوفي، والآمدي: إِن لم يكن حكم بِهِ، وَلَا يحرم على مقلد بِتَغَيُّر اجْتِهَاد إِمَامه، قَالَه أَبُو الْخطاب، والموفق والطوفي، كَحكم، وَعند الشَّافِعِيَّة، وَابْن حمدَان: يحرم، وَهُوَ مُتَّجه كالتقليد فِي الْقبْلَة} . إِذا قُلْنَا بِنَقْض الِاجْتِهَاد فالنظر فِيهِ حِينَئِذٍ فِي أَمريْن: أَحدهمَا: فِيمَا يتَعَلَّق بِنَفسِهِ. وَالثَّانِي: فِيمَا يتَعَلَّق بِغَيْرِهِ. أما الأول: فَهُوَ مَا يتَعَلَّق بِنَفسِهِ، فَإِذا أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى حكم فِي حق نَفسه، ثمَّ تغير اجْتِهَاده، كَمَا إِذا أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى صِحَة النِّكَاح بِلَا ولي، ثمَّ تغير اجْتِهَاده، فَرَأى أَنه بَاطِل فَالْأَصَحّ التَّحْرِيم مُطلقًا، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، وَحَكَاهُ الرَّافِعِيّ عَن الْغَزالِيّ، وَلم ينْقل غَيره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3979 وَقيل: لَا تحرم مُطلقًا، حَكَاهُ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ". وَالْقَوْل الثَّالِث: إِن حكم بِهِ لم تحرم وَإِلَّا حرمت وَهُوَ الَّذِي قَالَه القَاضِي أَبُو يعلى، والموفق ابْن قدامَة، وَابْن حمدَان، والطوفي، والآمدي، وَجزم بِهِ الْبَيْضَاوِيّ والهندي؛ لِئَلَّا يلْزم نقض الِاجْتِهَاد بِالِاجْتِهَادِ، وَأَيْضًا: اسْتِدَامَة حلهَا بِخِلَاف معتقده خلاف الْإِجْمَاع. وَأما الثَّانِي: وَهُوَ مَا يتَعَلَّق بِغَيْرِهِ، فَإِذا أفتى مُجْتَهد عاميا بِاجْتِهَاد، ثمَّ تغير اجْتِهَاده لم تحرم عَلَيْهِ على الْأَصَح، وَقَالَهُ أَبُو الْخطاب، وَالشَّيْخ موفق الدّين، والطوفي، وَظَاهر كَلَام ابْن مُفْلِح؛ لِأَن عمله بفتواه كَالْحكمِ، وَمَعْنَاهُ أَنه إِذا اجْتهد وَحكم فِي وَاقعَة، ثمَّ تغير اجْتِهَاده بعد ذَلِك: فَالْحكم بِالْأولِ بَاقٍ على مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَكَذَا إِذا أفتاه أَو قَلّدهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3980 وَعند الشَّافِعِيَّة، وَابْن حمدَان: تحرم. قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَهُوَ مُتَّجه كالتقليد فِي الْقبْلَة ". وَفِي " الرِّعَايَة ": احْتِمَال وَجْهَيْن. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره عَن هَذِه: " فَكَمَا سبق فِيمَا يتَعَلَّق بِنَفسِهِ. وَقَالَ الْهِنْدِيّ: إِن اتَّصل حكم قبل بِغَيْر اجْتِهَاده، فَكَمَا سبق فِي الْمُجْتَهد فِيمَا يتَعَلَّق بِنَفسِهِ. وَإِن لم يتَّصل بِهِ فَاخْتَلَفُوا، وَالْأولَى القَوْل بِالتَّحْرِيمِ، وَمِنْهُم من لم يُوجِبهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى نقض الِاجْتِهَاد بِالِاجْتِهَادِ ". قَوْله: {وَإِن لم يعْمل بفتواه لزم الْمُفْتِي إِعْلَامه، فَلَو مَاتَ قبله اسْتمرّ فِي الْأَصَح} . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": " أما إِن لم يعْمل بفتواه لزم الْمُفْتِي تَعْرِيفه. فَإِن لم يعْمل وَمَات الْمُفْتِي فاحتمالان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3981 فِي " التَّمْهِيد ": الْمَنْع لتردد بَقَائِهِ عَلَيْهَا لَو كَانَ حَيا. قَالَ بعض أَصْحَابنَا: فعلى هَذَا لَو كَانَ حَيا لم يجز، وَهُوَ بعيد. وَالْجَوَاز: للظَّاهِر) . وَقَالَ فِي " فروعه ": اسْتمرّ فِي الْأَصَح، وَهُوَ الْمُعْتَمد. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي " الرَّوْضَة ": يُعلمهُ سَوَاء كَانَ قبل الْعَمَل أَو بعده حَيْثُ يجب النَّقْض. وَقَالَ السَّمْعَانِيّ: إِن كَانَ عمل بِهِ لم يلْزمه إِعْلَامه، وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَن يعرفهُ إِن تمكن مِنْهُ، لِأَن الْعَاميّ إِنَّمَا يعْمل بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَول الْمُفْتِي، وَمَعْلُوم أَنه فِي تِلْكَ الْحَالة لَيْسَ ذَلِك قَوْله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3982 قَوْله: {وَله تَقْلِيد ميت: كحاكم، وَشَاهد، وَقيل: إِن فقد الْحَيّ، وَقَالَ الرَّازِيّ وَغَيره: لَا مُطلقًا، وَاخْتَارَهُ فِي " التَّمْهِيد ": فِي بَحثه} . يجوز تَقْلِيد الْمَيِّت كتقليد الْحَيّ؛ لِأَن قَوْله بَاقٍ فِي الْإِجْمَاع، وَهَذَا قَول جُمْهُور الْعلمَاء. وَفِيه يَقُول الإِمَام الشَّافِعِي: " الْمذَاهب لَا تَمُوت بِمَوْت أَرْبَابهَا " انْتهى. وكالحاكم وَالشَّاهِد لَا يبطل حكمه بِمَوْتِهِ، وَلَا شَهَادَته بِمَوْتِهِ. وَقيل: لَيْسَ لَهُ تَقْلِيده مُطلقًا وَهُوَ وَجه لنا وللشافعية، وَذكره ابْن عقيل عَن قوم من الْفُقَهَاء الْأُصُولِيِّينَ. وَاخْتَارَهُ فِي " التَّمْهِيد " فِي أَن عُثْمَان لم يشرط عَلَيْهِ تَقْلِيد أبي بكر وَعمر، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3983 قَالَ الْبرمَاوِيّ: (بل من [تَأمل] كَلَام " الْمَحْصُول " يخرج لَهُ مِنْهُ أَن يمْنَع التَّقْلِيد مُطلقًا. فعلى الأول: وَهُوَ جَوَاز التَّقْلِيد لَو كَانَ الْمُجْتَهد الْحَيّ دون الْمَيِّت، احْتمل أَن يُقَلّد الْمَيِّت لأرجحيته، وَاحْتمل أَن يُقَلّد الْحَيّ بحياته، وَاحْتمل التَّسَاوِي. وَحكى الْهِنْدِيّ قولا رَابِعا فِي الْمَسْأَلَة، وَهُوَ التَّفْصِيل بَين أَن يكون الحاكي عَن الْمَيِّت أَهلا للمناظرة، وَهُوَ مُجْتَهد فِي مَذْهَب الْمَيِّت فَيجوز، وَإِلَّا فَلَا) . قَوْله: {وَإِن عمل بفتياه فِي إِتْلَاف فَبَان خَطؤُهُ قطعا ضمنه، وَكَذَا إِن لم يكن أَهلا، خلافًا للأستاذ وَجمع} . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": " وَإِن بَان خَطؤُهُ فِي إِتْلَاف بمخالفة قَاطع ضمن لَا مستفتيه، وَفِي تضمين [مفت] لَيْسَ أَهلا وَجْهَان ". وَقَالَ فِي " أُصُوله ": " وَإِن عمل بفتياه فِي إِتْلَاف فَبَان خَطؤُهُ قطعا ضمنه لَا مستفتيه، وَإِن لم يكن أَهلا للفتيا وَجْهَان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3984 وَعند الإِسْفِرَايِينِيّ وَغَيره: يضمن الْأَهْل فَقَط. وَيتَوَجَّهُ فِيهِ: كمنتهب مَعَ غَاصِب " انْتهى. الصَّحِيح أَنه يضمن، إِذا لم يكن أَهلا بل أولى بِالضَّمَانِ مِمَّن لَهُ أَهْلِيَّة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه لَا يضمن، اخْتَارَهُ ابْن حمدَان فِي " آدَاب الْمُفْتِي "، وَهُوَ بعيد جدا. قَالَ ابْن الْقيم فِي " أَعْلَام الموقعين " عَن هَذَا القَوْل: " لم أعرف هَذَا القَوْل لأحد قبل ابْن حمدَان " انْتهى. قلت: الَّذِي يَنْبَغِي أَن ينظر إِن كَانَ المستفتي يعلم أَنه لَيْسَ أَهلا للفتيا واستفتاه لم يضمن؛ لِأَنَّهُ الْجَانِي على نَفسه، وَإِن لم يُعلمهُ ضمن الْمُفْتِي. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: " لَو عمل بفتواه فِي إِتْلَاف، ثمَّ بَان أَنه أَخطَأ، فَإِن لم يُخَالف الْقَاطِع لم يضمن؛ لِأَنَّهُ مَعْذُور، وَإِن خَالف الْقَاطِع ضمن. وَأما مَا نَقله النَّوَوِيّ عَن الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق: أَنه إِن كَانَ أَهلا للْفَتْوَى ضمن وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَن المستفتي حِينَئِذٍ مقصر، وَلَكِن لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا الْقَيْد هُنَا؛ لِأَن الْكَلَام فِي الْمُجْتَهد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3985 ثمَّ قَالَ النَّوَوِيّ: يَنْبَغِي أَن يتَخَرَّج على قَول الضَّمَان بالغرور، أَو يقطع بِعَدَمِ الضَّمَان مُطلقًا، إِذا لم يُوجد مِنْهُ إِتْلَاف وَلَا ألجيء إِلَيْهِ بإلزام " انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3986 (قَوْله: {فصل} ) {لَو أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى حكم حرم التَّقْلِيد إِجْمَاعًا، وَإِن لم يجْتَهد فَأَحْمَد، وَمَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَالْأَكْثَر كَذَلِك، وَقيل: فِيمَا لَا يَخُصُّهُ، وَأَبُو الْفرج، وَحكي عَن أَحْمد، وَالثَّوْري، وَإِسْحَاق: يجوز مُطلقًا} . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد على الرافضي فِي الْجُزْء الثَّانِي: " وَمَا حُكيَ عَن أَحْمد تَقْلِيد الْعَالم الْعَالم غلط عَلَيْهِ ". قَالَ أَبُو الْفرج الشِّيرَازِيّ: مَذْهَبنَا جَوَاز تَقْلِيد الْعَالم للْعَالم. قَالَ أَبُو الْخطاب: وَهَذَا لَا يعرف عَن أَصْحَابنَا، نَقله فِي " الْحَاوِي الْكَبِير " فِي الْخطْبَة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3987 قَوْله: {وَقيل: لحَاكم، وَابْن حمدَان وَبَعض الْمَالِكِيَّة: لعذر، وَابْن سُرَيج: لضيق الْوَقْت، وَمُحَمّد: لأعْلم مِنْهُ، وقديم الشَّافِعِي وَابْن الْبَنَّا وَابْن حمدَان - أَيْضا - وَجمع: لصحابي أرجح، وَلَا إِنْكَار مِنْهُم، فَإِن اسْتَووا تخير، وَقَالَهُ بعض الْمُتَكَلِّمين قبل الْفرْقَة، وَاخْتلف قَول الشَّافِعِي فِي اعْتِبَار انتشاره، وَقيل: وتابعي. وَعنهُ لصحابي وَعمر بن عبد الْعَزِيز فَقَط. وَله أَن يجْتَهد ويدع غَيره إِجْمَاعًا، وَلَو توقف فِي مَسْأَلَة نحوية، أَو فِي حَدِيث على أَهله فعامي فِيهِ، عِنْد أبي الْخطاب، والموفق، والآمدي، وَغَيرهم} . الْمُجْتَهد إِذا اجْتهد فأداه اجْتِهَاده إِلَى حكم فَهُوَ مَمْنُوع من تَقْلِيد لمجتهد آخر اتِّفَاقًا، وَأما قبل أَن يجْتَهد فَهَل هُوَ مَمْنُوع أم لَا؟ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه مَمْنُوع أَيْضا وَهُوَ الصَّحِيح، وَقَالَهُ الْأَمَام أَحْمد وَأكْثر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3988 أَصْحَابه، وجديد قولي الشَّافِعِي، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَذكره عَن أَكثر الْفُقَهَاء. وَقيل: مَمْنُوع فِيمَا لَا يَخُصُّهُ من الحكم، بل يُفْتِي بِهِ، غير مَمْنُوع فِيمَا يَخُصُّهُ. وَجوزهُ بعض أَصْحَابنَا، وَبَعض الْمَالِكِيَّة: لعذر. وَلأبي حنيفَة رِوَايَتَانِ، وللشافعية، وَجْهَان. الْمَنْع: قَالَه أَبُو يُوسُف. وَالْجَوَاز: حُكيَ عَن أَحْمد، وَالثَّوْري، وَإِسْحَاق، وَذكره بعض أَصْحَابنَا قولا لنا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3989 وَمُحَمّد: لأعْلم مِنْهُ. وَعَن ابْن سُرَيج مثله. وَمثل ضيق الْوَقْت. وَقيل: للْقَاضِي دون غَيره. وَجوز الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم، والجبائي وَابْنه، والسرخسي وَبَعض شُيُوخه: لغير صَحَابِيّ تَقْلِيد صَحَابِيّ أرجح وَلَا إِنْكَار مِنْهُم، فَإِن اسْتَووا تخير، وَقَالَهُ بعض الْمُتَكَلِّمين: قبل الْفرْقَة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3990 قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَحكى ابْن الْحَاجِب قولا سابعا وَعَزاهُ إِلَى الشَّافِعِي: أَنه لَا يُقَلّد إِلَّا صحابيا يكون أرجح من غَيره من بَقِيَّة الصَّحَابَة، فَإِن اسْتَووا تخير، ويعزى للقديم. قَالَ الْهِنْدِيّ: وَقَضيته: أَنه لَا يجوز للصحابة تَقْلِيد بَعضهم بَعْضًا ". وَاخْتلف قَول الشَّافِعِي فِي اعْتِبَار انتشاره، وَقيل تَابِعِيّ. وَذكره أَبُو الْمَعَالِي عَن أَحْمد: يُقَلّد صحابيا وَيتَخَيَّر فيهم، وَمن التَّابِعين عمر بن عبد الْعَزِيز فَقَط. وَلَكِن قَالَ ابْن رَجَب فِي " مَنَاقِب الإِمَام أَحْمد ": وَأما مَا نَقله طَائِفَة عَن أَحْمد أَنه جعل قَول عمر بن عبد الْعَزِيز وَحده حجَّة بَين التَّابِعين، فَلَا أعلم ثُبُوته عَنهُ، وَلَا رَأَيْته بِإِسْنَاد إِلَيْهِ، وَلَكِن قد يخرج على مذْهبه من أصلين: أَحدهمَا: أَن عمر بن عبد الْعَزِيز من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، وَنَصّ عَلَيْهِ أَحْمد. وَالثَّانِي: أَن قَول الْوَاحِد من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين حجَّة يقدم على قَول غَيره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3991 وَفِي هَذَا رِوَايَتَانِ عَنهُ، لَكِن وَقع فِي بعض نصوصه تَقْيِيده بالخلفاء الْأَرْبَعَة انْتهى. اسْتدلَّ للْأولِ وَهُوَ الصَّحِيح: بِأَن إِثْبَات التَّقْلِيد يعْتَبر دَلِيله، وَالْأَصْل عَدمه، ونفيه لانْتِفَاء دَلِيله، وَأَيْضًا: اجْتِهَاده أصل مُتَمَكن مِنْهُ فَلم يجز بدله كَغَيْرِهِ. فَإِن قيل: لَو توقف فِي مَسْأَلَة نحوية على سُؤَاله النُّحَاة، أَو فِي حَدِيث على أَهله مَا حكمه؟ قيل: قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": هُوَ عَامي فِيهِ. وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والآمدي: هُوَ الْأَشْبَه. وَأَيْضًا مِمَّا يدل على التَّقْلِيد: قَوْله تَعَالَى: {فاعتبروا} ، {فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} [النِّسَاء: 59] . وَأَيْضًا: كبعد اجْتِهَاده. رد: بِالْمَنْعِ؛ لِأَن الْمُجْتَهد حصل لَهُ ظن أقوى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3992 وَاسْتدلَّ أَيْضا: كالعقليات. رد: الْمَطْلُوب فِيهَا الْعلم وَلَا يحصل بتقليد. قَالُوا: {فسئلوا أهل الذّكر} [النَّحْل: 43] . رد: المُرَاد: ليسأل من لَيْسَ أَهلا، أهل الذّكر وَكلهمْ أهل فَلم يدخلُوا، وَقَوله أَيْضا: {إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} [النَّحْل: 43] ، وَأمره هُنَا للْوُجُوب، ولتخصيصه بِمَا بعد الِاجْتِهَاد، وَسبق: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ "، وكتعارض دَلِيلين، وَلم يسوغوا الْأَخْذ بِكُل من قَوْلهمَا بل بالراجح. قَالُوا: الظَّن كَاف. رد: ظَنّه مُتَعَيّن بِعِلْمِهِ بِشُرُوطِهِ كعلم على ظن؛ وَلِأَنَّهُ مبدل لتعينه بعد اجْتِهَاده. قَالُوا: عَاجز مَعَ الْعذر، كعامي. رد: اجْتِهَاده شَرط يُمكنهُ كَسَائِر الشُّرُوط فيؤخر الْعِبَادَة. وَفِي " التَّمْهِيد ": مثل الصَّلَاة يَفْعَله بِحَسبِهِ، ثمَّ يُعِيد كعادم مَاء وتراب، ومحبوس بِموضع نجس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3993 وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: لَا يُعِيد كظاهر مَذْهَبنَا فِي الأَصْل. وكالعقليات لَا يُقَلّد فِيهَا من خشِي الْمَوْت. قَالَه فِي " التَّمْهِيد "، وَكَذَا فِي " الْوَاضِح " مَعَ ضيق الْوَقْت. وَقَالَ فِي " الْفُصُول ": لَا يُقَلّد إِلَّا فِي التَّوْحِيد، مَعَ ضيقه، والعامي يلْزمه التَّقْلِيد مُطلقًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3994 (قَوْله: {فصل} ) {يجوز أَن يُقَال لنَبِيّ ومجتهد: احكم بِمَا شِئْت فَهُوَ صَوَاب، وَيكون مدْركا شَرْعِيًّا، وَيُسمى التَّفْوِيض عِنْد الْأَكْثَر، وَتردد الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة "، فَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي الْجَوَاز وَالْأَكْثَر فِي الْوُقُوع، وَقَالَ السَّمْعَانِيّ، وَابْن حمدَان: للنَّبِي فَقَط، وَمنعه فيهمَا السَّرخسِيّ، وَأَبُو الْخطاب، وَهَذَا أشبه بِالْمذهبِ، فعلى الأول لم يَقع فِي الْأَصَح} . اعْلَم أَن طَرِيق معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إِمَّا التَّبْلِيغ عَن الله تَعَالَى بِإِخْبَار رسله عَنهُ بهَا، وَهُوَ مَا سبق من كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَمَا تفرع عَن ذَلِك من إِجْمَاع أَو قِيَاس وَغَيرهمَا من الاستدلالات، وطرقها بِالِاجْتِهَادِ وَلَو من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا سبق آنِفا. وَإِمَّا أَن يكون طَرِيق معرفَة الحكم التَّفْوِيض إِلَى رَأْي نَبِي أَو عَالم فَيجوز أَن يُقَال لنَبِيّ، أَو لمجتهد غير نَبِي: احكم بِمَا شِئْت فَهُوَ صَوَاب عِنْد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3995 بَعضهم، وَيُؤْخَذ من كَلَام القَاضِي، وَابْن عقيل، وصرحا بِجَوَازِهِ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقَالَهُ الشَّافِعِي، وَأكْثر أَصْحَابه، وَجُمْهُور أهل الحَدِيث، فَيكون حكمه من جملَة المدارك الشَّرْعِيَّة، فَإِذا قَالَ: هَذَا حَلَال، عرفنَا أَن الله تَعَالَى فِي الْأَزَل حكم بحله، أَو هَذَا حرَام، أَو نَحْو ذَلِك، لَا أَنه ينشيء الحكم؛ لِأَن ذَلِك من خَصَائِص الربوبية. قَالَ ابْن الْحَاجِب وَتَبعهُ ابْن مُفْلِح: وَتردد الشَّافِعِي، أَي: فِي جَوَازه، كَمَا قَالَه إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَقَالَ: الْجُمْهُور فِي وُقُوعه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3996 وَلكنه قَاطع بِجَوَازِهِ. وَالْمَنْع إِنَّمَا هُوَ مَنْقُول عَن جُمْهُور الْمُعْتَزلَة. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَمِنْه السَّرخسِيّ وَجَمَاعَة من الْمُعْتَزلَة، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، وَذكره عَن أَكثر الْفُقَهَاء، وَأَنه أشبه بمذهبنا: الْحق عَلَيْهِ أَمارَة فَكيف تحكم بِغَيْر طلبَهَا. وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث: أَن ذَلِك يجوز فِي النَّبِي دون الْعَالم، وَاخْتَارَهُ ابْن حمدَان، وَابْن السَّمْعَانِيّ. قَالَ: وَذكر الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة " مَا يدل عَلَيْهِ. ثمَّ اخْتلف فِي وُقُوعه: فَقَالَ ابْن الْحَاجِب: الْمُخْتَار أَنه لم يَقع، وتبعناه فِي ذَلِك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3997 الْقَائِل بِالْأولِ اسْتدلَّ: بِأَن الله تَعَالَى قَادر عَلَيْهِ فَجَاز كالوحي وَلَا مَانع، الأَصْل عَدمه. وَاسْتدلَّ بتخييره فِي الْكَفَّارَة، والعامي فِي الْمُجْتَهدين. رد: لَا يلْزم؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصّ هُنَا بمجتهد الْقَائِل بِأَنَّهُ وَقع. احْتج القَاضِي، وَابْن عقيل، وَغَيرهمَا: بقوله تَعَالَى: {إِلَّا مَا حرم إِسْرَائِيل على نَفسه} [آل عمرَان: 93] ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يحرم على نَفسه إِلَّا بتفويض الله تَعَالَى لأمر إِلَيْهِ، لَا أَنه بإبلاغه ذَلِك الحكم؛ لِأَن الْمحرم يكون هُوَ الله تَعَالَى. رد: مُحْتَمل وللمفسرين قَولَانِ، هَل بِاجْتِهَاد، أَو بِإِذن الله تَعَالَى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " قلت: وعَلى كل حَال فالمحرم هُوَ الله تَعَالَى، فالاحتمال قَائِم وَلَا دَلِيل فِيهِ لذَلِك " انْتهى. وَأَيْضًا: فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن بلد مَكَّة:: " لَا يخْتَلى خلاه، فَقَالَ الْعَبَّاس: يَا رَسُول الله إِلَّا الْإِذْخر فَإِنَّهُ لغنمهم وَبُيُوتهمْ، فَقَالَ: إِلَّا الْإِذْخر ". رد: لَيْسَ الْإِذْخر من الْخَلَاء فإباحته بالاستصحاب واستثناؤه تَأْكِيد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3998 وَهُوَ من الْخَلَاء واستثناؤه لفهم ذَلِك، أَو أَرَادَهُ وَنسخ بِوَحْي سَرِيعا، أَو أَرَادَ استثناءه فسبقه السَّائِل. وَأَيْضًا فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة ". وَفِي مُسلم: " فرض عَلَيْكُم الْحَج فحجوا، فَقَالَ رجل: أكل عَام، فَقَالَ: لَو قلت: نعم لَوَجَبَتْ، وَلما اسْتَطَعْتُم ". رد: يجوز أَن الله خَيره فِي ذَلِك بِعَيْنِه، وَيجوز أَن قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - بِوَحْي. الْقَائِل بِالْمَنْعِ: وضعت الشَّرِيعَة لمصْلحَة العَبْد وَهُوَ يجهلها، وَقد يخْتَار الْمضرَّة، ثمَّ: يمْتَنع دوَام اخْتِيَاره الصّلاح كأفعال كَثِيرَة محكمَة بِلَا علم. ثمَّ يلْزم الْعَاميّ. رد: الأول مَبْنِيّ على رِعَايَة الْمصلحَة ثمَّ أمنا الْمفْسدَة. وَالثَّانِي مَمْنُوع، ثمَّ لَا مَانع فِي أَفعَال قَليلَة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3999 قَوْله: {وَيجوز لعامي عقلا، وَفِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: لَا إِجْمَاعًا، القَاضِي: لَا يمْتَنع فِي مُجْتَهد بِلَا اجْتِهَاد، وَفِي " التَّمْهِيد " يمْتَنع إِجْمَاعًا، وَقَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل: لَا يمْتَنع قَوْله: أخبر فَإنَّك لَا تخبر إِلَّا بصواب، وَمنعه أَبُو الْخطاب} . قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَيجوز للعامي عقلا، أَي: يجوز أَن يَقُول لَهُ: احكم بِمَا شِئْت فَهُوَ صَوَاب؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بمحال، قَالَه الْآمِدِيّ. وَفِيه، وَفِي " التَّمْهِيد ": بِأَن مَنعه فِيهِ إِجْمَاع. فَقيل: لفضل الْمُجْتَهد وإكرامه. رد: اسْتَويَا هُنَا فِي الصَّوَاب. وَقَالَ القَاضِي: لَا يمْتَنع فِي مُجْتَهد بِلَا اجْتِهَاد، أَي: أَن يُقَال لَهُ: احكم بِمَا شِئْت فَهُوَ صَوَاب، من غير أَن يجْتَهد لتخيير عَامي فِي تَقْلِيد من شَاءَ، والتخيير فِي الْكَفَّارَة وَغَيرهَا. وَفِي " التَّمْهِيد ": مَنعه بِلَا اجْتِهَاد إِجْمَاع. وَأَيْضًا: كَمَا لَا يجوز أخبر فَإنَّك لَا تخبر إِلَّا بصواب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4000 رد: لَا يمْتَنع، قَالَه القَاضِي، وَابْن عقيل. قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": لَو جَازَ خرج كَون الْإِخْبَار عَن الغيوب دَالَّة على ثُبُوت الْأَنْبِيَاء، وكلف تَصْدِيق النَّبِي وَغَيره من غير علم بذلك. كَذَا قَالَ، وَالْفرق بالمعجزة. قَالُوا: كجعل وضع الشَّرِيعَة إِلَى النَّبِي. رد: لَا يمْتَنع، قَالَه ابْن عقيل، وَغَيره. قَالَ القَاضِي: إِن أمكنه بفكر وَرَأى أَن علمه الله مصلحَة كحله لَهُ الْحل مَا شَاءَ أَن علمه لَا يخْتَار حَرَامًا) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4001 (قَوْله: {فصل} ) {أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَالْأَكْثَر: نافي الحكم عَلَيْهِ الدَّلِيل كمثبته، وَقيل: لَا كضرورين، وَقَالَ قوم: عَلَيْهِ فِي حكم عَقْلِي لَا شَرْعِي، وَعَكسه عَنْهُم فِي " الرَّوْضَة "} . قَالَ ابْن مُفْلِح: (الثَّانِي للْحكم عَلَيْهِ دَلِيل عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَذكره فِي " التَّمْهِيد "، عَن عَامَّة الْعلمَاء، وَابْن عقيل عَن محققي الْفُقَهَاء، والأصوليين. وَمنعه قوم مِنْهُم. وَقَالَهُ بعض الشَّافِعِيَّة: لَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4002 وَعند قوم [مِنْهُم] عَلَيْهِ فِي حكم شَرْعِي، وَعَكسه عَنْهُم فِي " الرَّوْضَة ") . قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَلَا يُطَالب النَّافِي لشَيْء بِدَلِيل إِذا دلّ عَلَيْهِ ذَلِك النَّفْي أَمر ضَرُورِيّ. أما إِذا لم يكن ضَرُورِيًّا فالأكثر على أَنه يُطَالب بِدَلِيل مُطلقًا. وَقيل: لَا مُطلقًا، ويعزى للظاهرية. لَكِن فِي " إحكام ابْن حزم " أَنه يجب عَلَيْهِ الدَّلِيل لقَوْله تَعَالَى: {قل هاتوا برهانكم} [الْبَقَرَة: 111] ، {وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} [الْأَعْرَاف: 33] . وَثَالِثهَا: يجب فِي العقليات دون الشرعيات. وَاسْتشْكل الْهِنْدِيّ جَرَيَان الْأَقْوَال على الْإِطْلَاق " انْتهى. قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: (لنا أَنه أثبت يَقِينا أَو ظنا بنفيه فَلَزِمَهُ كمثبت؛ وَلِئَلَّا يعبر كل أحد عَن مَقْصُوده بِنَفْي فَيَقُول: بدل: مُحدث: لَيْسَ بقديم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4003 يَعْنِي: أَنه لَو أَتَى بِقِيَاس منطقي فَقَالَ: الْعَالم متغير، وكل متغير مُحدث، فالعالم مُحدث، فَلَو أبدل مُحدث فَقَالَ: الْعَالم متغير، وكل متغير لَيْسَ بقديم، فالعالم لَيْسَ بقديم، وَلِأَنَّهُ كاتم للْعلم. وَاحْتج فِي " التَّمْهِيد ": بِأَنَّهُ يلْزم من نفي قدم الْأَجْسَام بِلَا خلاف، فَكَذَا غَيره. وَاحْتج الْآمِدِيّ: بِأَنَّهُ يلْزم مدعي الوحدانية والقدم إِجْمَاعًا، وحاصلها: نفي شريك وحدوث. قَالُوا: لَو لزمَه لزم مُنكر مدعي النُّبُوَّة، وَصَلَاة سادسة، ومنكر الدَّعْوَى، وَلَا يلْزمه إِجْمَاعًا. رد: الدَّلِيل الِاسْتِصْحَاب مَعَ عدم رافعه. قَالَ الْآمِدِيّ: قد يكْتَفى بِظُهُور دَلِيل عَن ذكره. قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": دَلِيله قَوْله: لَو كنت نَبيا لأيدك الله بالمعجزة فَلَا فرق. وَذكر فِي الْأَخِيرَتَيْنِ الِاسْتِصْحَاب. وَفِي " الْوَاضِح "، و " الرَّوْضَة ": الْيَمين دَلِيل. وَأجَاب بَعضهم: بِأَنَّهُ مَانع يدْفع الدَّعْوَى لَا مُدع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4004 ويستدل بِانْتِفَاء لَازم على انْتِفَاء ملزوم، وبقياس شَرْعِي على نفي يَجْعَل جَامع وجود مَانع أَو انْتِفَاء شَرط إِن جَازَ تَخْصِيص الْعلَّة) . قَوْله: {إِذا حدثت مَسْأَلَة لَا قَول فِيهَا، سَاغَ الِاجْتِهَاد فِيهَا، وَهُوَ أفضل، وَقيل التَّوَقُّف، وَقيل: فِي الْأُصُول، اخْتَارَهُ ابْن حمدَان، وَالشَّيْخ، وَصَاحب " الْحَاوِي "، وَقَالَ ابْن الْقيم قد يسن، أَو يجب عِنْد الْحَاجة، وَحكي ابْن حمدَان وَغَيره: الْخلاف فِي الْجَوَاز وَعَدَمه، وَأَوْمَأَ أَحْمد إِلَى الْمَنْع، وَفِي " الْإِرْشَاد " وَغَيره: لَا بُد من جَوَاب} . قَالَ ابْن مُفْلِح: (إِذا حدثت مَسْأَلَة لَا قَول فِيهَا فللمجتهد الِاجْتِهَاد فِيهَا وَالْفَتْوَى وَالْحكم) . وَهل هَذَا أفضل أم التَّوَقُّف؟ أم توقفه فِي الْأُصُول؟ فِيهِ أوجه لنا ذكرهَا ابْن حَامِد على مَا ذكره بَعضهم. وَذكرهَا بَعضهم فِي الْجَوَاز وَمَعْنَاهُ كَلَام القَاضِي أبي الْحُسَيْن فِي تَرْجَمَة ابْن حَامِد، وَذكر قَول أَحْمد: من قَالَ: الْإِيمَان غير مَخْلُوق: ابتدع ويهجر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4005 وَذكرهَا صَاحب " الرِّعَايَة ": وَأَن أَحْمد أَوْمَأ إِلَى الْمَنْع لقَوْله للميموني: إياك أَن تَتَكَلَّم فِي مَسْأَلَة لَيْسَ لَك فِيهَا إِمَام. وَفِي خطْبَة " الْإِرْشَاد " لِابْنِ أبي مُوسَى وَغَيره: لَا بُد من الْجَواب) انْتهى. قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": لَيْسَ لَهُ أَن يُفْتِي فِي شَيْء من مسَائِل الْكَلَام مفصلا، بل يمْنَع السَّائِل وَسَائِر الْعَامَّة من الْخَوْض فِي ذَلِك أصلا. وَقدمه فِي " مقنعه "، وَاخْتَارَهُ فِي " الرِّعَايَة ". وَقدم ابْن مُفْلِح أَن مَحل الْخلاف فِي الْأَفْضَلِيَّة لَا فِي الْجَوَاز وَعَدَمه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4006 وَقَالَ فِي " أَعْلَام الموقعين " بعد أَن حكى الْأَقْوَال: " وَالْحق التَّفْصِيل، وَأَن ذَلِك يجوز بل يسْتَحبّ، وَيجب عِنْد الْحَاجة، وأهلية الْمُفْتِي وَالْحَاكِم، فَإِن عدم الْأَمْرَانِ لم يجز، وَإِن وجد أَحدهمَا احْتمل الْجَوَاز وَالْمَنْع، وَالْجَوَاز عِنْد الْحَاجة دون عدمهَا " انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4007 فارغة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4008 (بَاب التَّقْلِيد) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4009 فارغة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4010 (قَوْله: {بَاب التَّقْلِيد} ) {لُغَة: وضع الشَّيْء فِي الْعُنُق محيطا بِهِ، وَعرفا: أَخذ مَذْهَب الْغَيْر بِلَا معرفَة دَلِيله، وَقيل: بِلَا حجَّة ملزمة} . لما فَرغْنَا من الِاجْتِهَاد ومباحثه شرعنا فِي مُقَابِله، وَهُوَ التَّقْلِيد وَأَحْكَامه. التَّقْلِيد فِي اللُّغَة: جعل الشَّيْء فِي الْعُنُق من دَابَّة وَغَيرهَا محيطا بِهِ، وَهَذَا احْتِرَاز مِمَّا لم يكن محيطا بالعنق، فَلَا يُسمى قلادة فِي عرف اللُّغَة وَلَا غَيرهَا، وَالشَّيْء الْمُحِيط بِشَيْء يُسمى قلادة وَجَمعهَا قلائد، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَلَا الْهَدْي وَلَا القلائد} [الْمَائِدَة: 2] ، يَعْنِي: مَا يقلده الْهَدْي فِي عُنُقه من النِّعَال وآذان الْقرب. وَمَعْنَاهُ فِي الْعرف أَي: فِي عرف الْأُصُولِيِّينَ: أَخذ مَذْهَب الْغَيْر بِلَا معرفَة دَلِيله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4011 أَي: المستوجب لَهُ، أَي: الَّذِي اقْتَضَاهُ وَأوجب القَوْل بِهِ. ف (أَخذ) جنس وَالْمرَاد بِهِ اعْتِقَاد ذَلِك، وَلَو لم يعْمل بِهِ لفسق أَو لغيره. وَقَوْلنَا: (مَذْهَب) يَشْمَل مَا كَانَ قولا لَهُ أَو فعلا، فَهُوَ أحسن من التَّعْبِير بِأخذ القَوْل لقصوره عَن الْفِعْل، إِلَّا أَن يُرَاد بالْقَوْل الرَّأْي فَيكون شَامِلًا. وَنسبَة الْمَذْهَب إِلَى الْغَيْر: يخرج بِهِ مَا كَانَ مَعْلُوما بِالضَّرُورَةِ، وَلَا يخْتَص بِهِ ذَلِك الْمُجْتَهد إِذا كَانَ من أَقْوَاله وأفعاله الَّتِي لَيْسَ لَهُ فِيهَا اجْتِهَاد، فَإِنَّهَا لَا تسمى مذْهبه. وَقَوْلنَا: (بِلَا معرفَة دَلِيله) يَشْمَل الْمُجْتَهد إِذا لم يجْتَهد، وَلَا عرف الدَّلِيل، وجوزنا لَهُ التَّقْلِيد، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ كالعامي فِي أَخذه بقول الْغَيْر من غير معرفَة دَلِيله. فَيخرج [عَنهُ] الْمُجْتَهد إِذا عرف الدَّلِيل وَوَافَقَ اجْتِهَاده اجْتِهَاد آخر، فَلَا يُسمى تقليدا، كَمَا يُقَال: أَخذ الشَّافِعِي بِمذهب مَالك فِي كَذَا، وَأخذ أَحْمد بِمذهب الشَّافِعِي فِي كَذَا. وَإِنَّمَا خرج ذَلِك؛ لِأَنَّهُ - وَإِن صدق عَلَيْهِ أَنه أَخذ بقول الْغَيْر - لكنه مَعَ معرفَة دَلِيله حق الْمعرفَة، فَمَا أَخذ حَقِيقَة إِلَّا من الدَّلِيل لَا من الْمُجْتَهد، فَيكون إِطْلَاق الْأَخْذ بمذهبه فِيهِ تجوز. وَعبر الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب بقولهمَا: (لغير حجَّة) ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4012 أَخذ القَوْل مِمَّن قَوْله حجَّة لَا يُسمى تقليدا، ومثلوا ذَلِك على هَذَا القَوْل: بِأخذ الْعَاميّ بقول مثله، وَأخذ الْمُجْتَهد بقول مثله فِي حكم شَرْعِي، قَالَه الْآمِدِيّ، وَغَيره، فالرجوع إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِلَى الْمُفْتِي وَإِلَى الْإِجْمَاع، وَالْقَاضِي إِلَى الْعُدُول لَيْسَ بتقليد، وَلَو سمي تقليدا سَاغَ. وَفِي " الْمقنع ": الْمَشْهُور أَن أَخذه بقول الْمُفْتِي تَقْلِيد، وَهُوَ أظهر، وَقدمه فِي " آدَاب الْمُفْتِي " فِي الْإِجْمَاع أَيْضا، وَقيل: وَالْقَاضِي. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": (التَّقْلِيد قبُول القَوْل بِغَيْر دَلِيل، فَلَيْسَ الْمصير إِلَى الْإِجْمَاع تقليدا؛ لِأَن الْإِجْمَاع دَلِيل، وَكَذَلِكَ يقبل قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا يُقَال: تقليدا بِخِلَاف فتيا الْفَقِيه. وَذكر فِي ضمن مَسْأَلَة التَّقْلِيد: أَن الرُّجُوع إِلَى قَول الصَّحَابِيّ لَيْسَ بتقليد؛ لِأَنَّهُ حجَّة، وَقَالَ فِيهَا: لما جَازَ تَقْلِيد الصَّحَابَة لزمَه ذَلِك، وَلم يجز مُخَالفَته بِخِلَاف الأعلم، وَقد قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة أبي الْحَارِث: " من قلد الْخَبَر رَجَوْت أَن يسلم إِن شَاءَ الله تَعَالَى "، فقد أطلق اسْم التَّقْلِيد على من صَار إِلَى الْخَبَر، وَإِن كَانَ حجَّة فِي نَفسه) انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4013 وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: رُجُوع القَاضِي إِلَى قَول الْبَيِّنَة لَا يُسمى تقليدا فِي أظهر الِاحْتِمَالَيْنِ؛ لِأَنَّهُ حجَّة شَرْعِيَّة وَجب فِي الْعَمَل بهَا. وَخَالف فِي ذَلِك [ابْن] الْقَاص، وشراحه كالقفال [فجعلوه] من التَّقْلِيد، وَذكر الرُّجُوع إِلَى خبر الْوَاحِد فِي حِكَايَة حَدِيث أَو إِجْمَاع، أَو فِي إِخْبَار عَن نَجَاسَة إِنَاء، أَو دُخُول فِي وَقت، أَو عين الْقبْلَة، لَا يُسمى تقليدا، وَجزم بِهِ الرَّافِعِيّ، وَصرح ابْن الْقَاص فِي " التَّلْخِيص " بِأَنَّهُ يُسمى تقليدا، وَتَبعهُ شراحه على ذَلِك، كالقفال وَغَيره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4014 وحكاهما ابْن السَّمْعَانِيّ وَجْهَيْن. وَلِهَذَا قَالَ ابْن الصّلاح: إِن التَّقْلِيد [قبُول] قَول من يجوز عَلَيْهِ الِاحْتِرَاز من الْخَطَأ بِغَيْر الْحجَّة، على غير مَا قبل قَوْله فِيهِ. ليخرج: أَقْوَال النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْإِجْمَاع. وَاحْترز بالنافي: عَن قبُول القَاضِي الْبَيِّنَة وَنَحْو ذَلِك. وَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ أرجح. ومثلوا على قَول الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب ذَلِك: بِأخذ الْعَاميّ والمجتهد بقول مثله كَمَا تقدم. قَالَ الْعَضُد: " فَلَا يكون الرُّجُوع إِلَى الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تقليدا، وَكَذَا إِلَى الْإِجْمَاع، وَكَذَا رُجُوع الْعَاميّ إِلَى الْمُفْتِي، وَكَذَا رُجُوع القَاضِي إِلَى الْعُدُول فِي شَهَادَتهم؛ وَذَلِكَ لقِيَام الْحجَّة فِيهَا. فَقَوْل الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالمعجز، وَالْإِجْمَاع بِمَا تقدم فِي حجيته، وَقَول الشَّاهِد والمفتي بِالْإِجْمَاع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4015 وَلَو سمي ذَلِك أَو بعض ذَلِك تقليدا - كَمَا يُسمى فِي الْعرف - أَخذ الْمُقَلّد الْعَاميّ قَول الْمُفْتِي تقليدا، فَلَا مشاحة فِي التَّسْمِيَة فِي الِاصْطِلَاح " انْتهى. وَلَو أفتى الْمُفْتِي الْعَاميّ بحادثة بِحكم. فَذهب مُعظم الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنه مقلد لانطباق تَعْرِيف التَّقْلِيد عَلَيْهِ. وَذهب الباقلاني فِي " التَّقْرِيب ": " إِلَى أَن الْمُخْتَار أَنه لَيْسَ بتقليد أصلا، فَإِن قَول الْعَالم حجَّة فِي حق المستفتي، نَصبه الله تَعَالَى علما فِي حق الْعَاميّ، وَأوجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِهِ كَمَا أوجب على الْمُجْتَهد الْعَمَل بِاجْتِهَادِهِ، وَخرج من هَذَا أَنه لَا يتَصَوَّر تقليدا مُبَاحا لَا فِي الْأُصُول وَلَا فِي الْفُرُوع. ثمَّ قَالَ الباقلاني: إِنَّه لَو جَازَ تَسْمِيَة هَذَا تقليدا لجَاز أَن يُسمى التَّمَسُّك بالنصوص وَغَيرهَا من الدَّلَائِل تقليدا " انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4016 (قَوْله: {فصل} ) {يحرم التَّقْلِيد فِي معرفَة الله تَعَالَى والتوحيد والرسالة عِنْد أَحْمد وَالْأَكْثَر، وَأَجَازَهُ: جمع، قَالَ بَعضهم: وَلَو بطرِيق فَاسد، وَقيل: يجب التَّقْلِيد فِيمَا لم يعلم بالحس، وَحكي عَن أَحْمد وَبَعض أَصْحَابه، وَظَاهر خطْبَة الْإِرْشَاد: جَوَازه، وَفِي " شرح الْمِنْهَاج " لمؤلفه عَن الْفُقَهَاء: يجوز مُطلقًا، وَأطلق الْحلْوانِي وَغَيره منع التَّقْلِيد فِي أصُول الدّين، وَقَالَهُ الْبَصْرِيّ والقرافي فِي أصُول الْفِقْه أَيْضا} . لَا يجوز التَّقْلِيد فِي معرفَة الله تَعَالَى والتوحيد والرسالة، ذكره القَاضِي وَابْن عقيل، وَأَبُو الْخطاب، وَذكره عَن عَامَّة الْعلمَاء، وَذكر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4017 غَيره أَنه قَول جُمْهُور الْعلمَاء. وَالْقَوْل الثَّانِي: يجوز، وَبِه قَالَ ابْن عبيد الله بن الْحسن الْعَنْبَري وَغَيرهمَا، ويعزى للحشوية. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَأَجَازَهُ بعض الشَّافِعِيَّة لإِجْمَاع السّلف على قبُول الشَّهَادَتَيْنِ من غير أَن يُقَال لقائلهما: هَل نظرت؟ وسَمعه ابْن عقيل من أبي الْقَاسِم بن التبَّان المعتزلي، وَأَنه يَكْفِي بطرِيق فَاسد. قَالَ هَذَا المعتزلي: إِذا عرف الله وَصدق رسله، وَسكن قلبه إِلَى ذَلِك، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4018 وَاطْمَأَنَّ بِهِ: فَلَا علينا من الطَّرِيق: تقليدا كَانَ، أَو نظرا، أَو اسْتِدْلَالا، حَتَّى إِن الطَّرِيق الْفَاسِد إِذا أَدَّاهُ إِلَى معرفَة الله تَعَالَى كفى، فَلَو قَالَ: أَنا أعرف الله تَعَالَى من طَرِيق أَنِّي دَعَوْت يَوْمًا فِي غَرَض لي فَكَانَ ذَلِك الْغَرَض، وَمَا دَعَوْت سواهُ فدلني على إثْبَاته. قَالَ ابْن عقيل: أوجب قوم من أهل الحَدِيث والظاهرية التَّقْلِيد فِيمَا لم يعلم بالحس، وأبطلوا حجج الْعُقُول. قَالَ الْغَزالِيّ فِي " المنخول ": (أثبت أَحْمد قِيَاس الشَّرْع دون قِيَاس الْعقل، وَعكس دَاوُد. وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان ": قيل يحرم الْقيَاس النظري وَيجب الْقيَاس، قَالَه أَحْمد بن حَنْبَل والمقتصدون من أَتْبَاعه، وَلَا يُنكرُونَ إفضاء النّظر إِلَى الْعلم، بل ينهون عَن ملابسته. قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله ": قَالَ ابْن عقيل: الْقيَاس [الْعقلِيّ] حجَّة يجب الْعَمَل بِهِ، وَيجب النّظر وَالِاسْتِدْلَال بِهِ بعد وُرُود الشَّرْع، وَلَا يجوز التَّقْلِيد، وَقد نقل عَن أَحْمد الِاحْتِجَاج بدلائل الْعُقُول، وَبِهَذَا قَالَ جمَاعَة الْفُقَهَاء والمتكلمين من أهل الْإِثْبَات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4019 وَذهب الْمُعْتَزلَة إِلَى وجوب النّظر وَالِاسْتِدْلَال قبل الشَّرْع، وَلما ورد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4020 بِهِ كَانَ تَأْكِيدًا. وَذهب قوم من أهل الحَدِيث، وَأهل الظَّاهِر إِلَى أَن حجج الْعُقُول بَاطِلَة، وَالنَّظَر حرَام، والتقليد وَاجِب انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4021 وَقَالَ أَبُو الْخطاب: " الْقيَاس الْعقلِيّ وَالِاسْتِدْلَال طَرِيق لإِثْبَات الْأَحْكَام الْعَقْلِيَّة، نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَبِه قَالَ عَامَّة الْعلمَاء ". قلت: كَلَام أَحْمد فِي الِاحْتِجَاج بأدلة عقلية كثير، وَقد ذكر كثيرا مِنْهَا فِي كِتَابه " الرَّد على الزَّنَادِقَة والجهمية "، فمذهب أَحْمد: القَوْل بِالْقِيَاسِ الْعقلِيّ والشرعي. انْتهى كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَاحْتج أَحْمد بحجج الْعُقُول وَعَامة الْفُقَهَاء والأصوليين. وَالْمَقْصُود أَن الْمَعْمُول بِهِ عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه اسْتِعْمَال الْقيَاس الْعقلِيّ فِي الْأَحْكَام الْعَقْلِيَّة كالقياس الشَّرْعِيّ، وَمَا نقل عَنهُ من إِنْكَاره فَهُوَ: مَا قَالَه وَرجع عَنهُ، أَو لم يَصح عَنهُ وَالله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4022 وَظَاهر خطْبَة إرشاد ابْن أبي مُوسَى: جَوَازه. وَفِي " شرح الْمِنْهَاج " لمؤلفه عَن الْفُقَهَاء: يجوز مُطلقًا؛ " لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم يسْأَل أحدا أسلم ". نَقله عَنهُ ابْن مُفْلِح. وَأطلق الْحلْوانِي وَغَيره من أَصْحَابنَا وَغَيرهم: منع التَّقْلِيد فِي أصُول الدّين، يَعْنِي فِي جَمِيع مَا يتَعَلَّق بأصول الدّين. وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي أَوَائِل كِتَابه: قَالَ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ فِي " شرح الْعمد ": لَا يجوز التَّقْلِيد فِي أصُول الْفِقْه، وَلَا يكون مُجْتَهد فِيهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4023 مصيبا والمخطيء فِيهَا [ملوم] كأصول الدّين انْتهى. وَقَالَهُ الْقَرَافِيّ. اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول وَهُوَ الصَّحِيح: بأَمْره تَعَالَى بالتدبر والتفكر وَالنَّظَر، وَفِي " صَحِيح ابْن حبَان ": " لما نزل فِي آل عمرَان:: {إِن الَّذين كفرُوا وماتوا وهم} الْآيَات [آل عمرَان: 190 - 195] قَالَ: ويل لمن قرأهن وَلم يتدبرهن ويل لَهُ ويل لَهُ ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4024 وَالْإِجْمَاع على وجوب معرفَة الله تَعَالَى وَلَا تحصل بتقليد، لجَوَاز كذب الْمخبر واستحالة حُصُوله كمن قلد فِي حدث الْعَالم، وَكَمن قلد فِي قدمه. وَلِأَن التَّقْلِيد لَو أَفَادَ علما إِمَّا بِالضَّرُورَةِ وَهُوَ بَاطِل، وَإِمَّا بِالنّظرِ فيستلزم الدَّلِيل وَالْأَصْل عَدمه، وَالْعلم يحصل بِالنّظرِ وَاحْتِمَال الْخَطَأ لعدم تَمام مُرَاعَاة القانون الصَّحِيح. وَلِأَنَّهُ ذمّ التَّقْلِيد بقوله: {إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة} [الزخرف: 22] ، وَهِي فِيمَا يطْلب الْعلم، فَلَا يلْزم الْفُرُوع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4025 وَلِأَنَّهُ يلْزم الشَّارِع لقَوْله تَعَالَى: {فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله} [مُحَمَّد: 19] ، فيلزمنا بقوله [فَاتَّبعُوهُ] . قَالُوا: لَو وَجب لما " نهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْكَلَام فِي الْقدر " وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة من رِوَايَة صَالح المري وَهُوَ ضَعِيف، وَرَوَاهُ أَحْمد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4026 وَابْن ماجة من رِوَايَة عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده، وَفِيه: " مَا لكم تضربون كتاب الله بعضه بِبَعْض، بِهَذَا هلك من كَانَ قبلكُمْ ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4027 فَإِن صَحَّ نهى عَن جِدَال بباطل لقَوْله تَعَالَى: {وجادلهم بِالَّتِي هِيَ أحسن} [النَّحْل: 125] . أَو فِيمَا لَا يَنْبَغِي كَمَا فِي " صَحِيح مُسلم " " أَنه سمع أصوات رجلَيْنِ اخْتلفَا فِي آيَة، فَغَضب فَقَالَ: إِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ باختلافهم فِي الْكتاب ". وَلِهَذَا روى ابْن ماجة وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ عَن أبي هُرَيْرَة: " أَن مُشْركي قُرَيْش أَتَوا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخاصمونه فِي الْقدر ". قَالُوا: لَو كَانَ، فعله الصَّحَابَة وَنقل كالفروع. رد: هُوَ كَذَلِك؛ لِئَلَّا يلْزم نسبتهم إِلَى الْجَهْل وَهُوَ بَاطِل لِأَنَّهُ غير ضَرُورِيّ، وَلم ينْقل لعدم الْحَاجة. قَالُوا: لَو كَانَ أنْكرت على الْعَامَّة تَركه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4028 رد: المُرَاد دَلِيل جملي، وَيحصل بأيسر نظر لَا تَحْرِير دَلِيل وَلَا جَوَاب عَن شُبْهَة. قَالُوا: النّظر مَظَنَّة وُقُوع فِي شُبْهَة وضلالة فَيحرم. أُجِيب: يجوز أَن يسْتَند إِلَى كشف ومشاهدة. رد: نمنعه طَرِيقا شَرْعِيًّا قبل الشَّرْع، وَسبق فِي مَسْأَلَة التحسين: أَن النّظر لَا يتَوَقَّف على وُجُوبه فَلَا دور. قَوْله: {وَيحرم التَّقْلِيد أَيْضا فِي أَرْكَان الْإِسْلَام الْخمس وَنَحْوهَا مِمَّا تَوَاتر واشتهر، وَحكي إِجْمَاعًا، وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ وَغَيره: يلْزمه وَيلْزم غير مُجْتَهد التَّقْلِيد فِي غَيره عندنَا وَعند الشَّافِعِيَّة وَالْأَكْثَر، وَمنعه قوم مَا لم يتَبَيَّن لَهُ صِحَة اجْتِهَاده بدليله، وَقوم: فِيمَا يسوغ فِيهِ اجْتِهَاد، وَقوم: فِي الْمسَائِل الظَّاهِرَة} . تقدم فِي الاحترازات فِي حد التَّقْلِيد: أَن مَا يعلم من الدّين بِالضَّرُورَةِ لَا يجوز التَّقْلِيد فِيهِ. قَالَ ابْن مُفْلِح: " لَا يجوز للعامي التَّقْلِيد فِي أَرْكَان الْإِسْلَام الْخمس، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4029 وَنَحْوهَا مِمَّا تَوَاتر واشتهر، ذكره القَاضِي، وَذكره أَبُو الْخطاب وَابْن عقيل إِجْمَاعًا لتساوي النَّاس فِي طريقها، وَإِلَّا لزمَه سَاغَ فِيهِ اجْتِهَاد أَولا، عندنَا وَعند الشَّافِعِيَّة وَالْأَكْثَر. وَمنعه قوم من الْمُعْتَزلَة البغداديين مَا لم يتَبَيَّن لَهُ صِحَة اجْتِهَاده بدليله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4030 وَذكره ابْن برهَان عَن الجبائي، وَعنهُ كَقَوْلِنَا. وَمنعه أَبُو عَليّ الشَّافِعِي فِيمَا لَا يسوغ فِيهِ اجْتِهَاد. وَبَعْضهمْ فِي الْمسَائِل الظَّاهِرَة. وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ لُزُومه فِي الْجَمِيع وَذكره عَن محققي الْأُصُول " انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4031 قَالَ الشَّيْخ موفق الدّين فِي " الرَّوْضَة ": وَأما التَّقْلِيد فِي الْفُرُوع فَهُوَ جَائِز إِجْمَاعًا. وَذهب بعض الْقَدَرِيَّة: إِلَى أَن الْعَامَّة يلْزمهُم النّظر فِي الدَّلِيل فِي الْفُرُوع. وَقَالَ الطوفي فِي مختصرها وَغَيره: " وَيجوز التَّقْلِيد فِي الْفُرُوع إِجْمَاعًا خلافًا لبَعض الْقَدَرِيَّة ". اسْتدلَّ لجَوَاز التَّقْلِيد فِي غير معرفَة الله تَعَالَى والتوحيد، والرسالة، وأركان الْإِسْلَام الْخمس وَغَيرهَا مِمَّا تَوَاتر واشتهر بقوله تَعَالَى: {فسئلوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} [النَّحْل: 43] وَهُوَ عَام لتكرره بِتَكَرُّر الشَّرْط، وَعلة الْأَمر بالسؤال الْجَهْل. وَأَيْضًا: الْإِجْمَاع بِأَن الْعَوام يقلدون الْعلمَاء من غير إبداء مُسْتَند من غير نَكِير. وَأَيْضًا: يُؤَدِّي إِلَى خراب الدُّنْيَا بترك المعائش والصنائع، وَلَا يلْزم التَّوْحِيد والرسالة ليسره وقلته، وَدَلِيله الْعقل. قَالُوا: ورد عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " طلب الْعلم فَرِيضَة على كل مُسلم ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4032 فارغة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4033 رد: لم يَصح، ثمَّ طلبه الشَّرْعِيّ، فتقليد الْمُفْتِي مِنْهُ، فَإِن الْعلم لَا يجب عِنْد أحد بل النّظر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4034 (قَوْله: {فصل} ) {لَهُ استفتاء من عرفه عَالما عدلا، وَلَو عبدا وَأُنْثَى وأخرس بِإِشَارَة مفهومة وَكِتَابَة، أَو رَآهُ منتصبا مُعظما، وَقَالَ ابْن عقيل والموفق وَجمع: يَكْفِيهِ قَول عدل خَبِير، والباقلاني: عَدْلَيْنِ، وَقيل: يعْتَمد على قَوْله: أَنا أهل لَهُ، وَاعْتبر الشَّيْخ وَابْن الصّلاح الاستفاضة، لَا مُجَرّد اعتزائه إِلَى الْعلم، وَلَو بِمنْصب تدريس أَو غَيره، والطوفي يُقَلّد من علمه أَو ظَنّه أَهلا بطرِيق مَا اتِّفَاقًا} . يجوز للعامي استفتاء من عرفه عَالما عدلا، أَو رَآهُ منتصبا مُعظما؛ لِأَنَّهُ إِذا عرف أَنه عَالم عدل كفى فِي جَوَاز استفتائه؛ لِأَن الْمَقْصُود من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4035 الاستفتاء سَوَاء الْعَالم الْعدْل، وَهَذَا كَذَلِك، وَيَأْتِي حكم المستور وَالْفَاسِق فِي فتياهما. وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ منتصبا للفتيا والتدريس مُعظما، فَإِن كَونه كَذَلِك يدل على علمه وَأَنه أهل للاستفتاء، وَلَا يجوز الاستفتاء فِي هَذِه عِنْد الْعلمَاء، وَذكره الْآمِدِيّ اتِّفَاقًا، هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَفسه. وَأما بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِخْبَار فَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " وَغَيره: يَكْفِيهِ قَول عدل. قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَمرَاده خَبِير "، وَهُوَ كَذَلِك وَإِلَّا لم يحصل الْمَقْصُود. وَكَذَا قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ: يقبل فِي معرفَة أَهْلِيَّته عدل وَاحِد. قَالَ النَّوَوِيّ: " وَهُوَ مَحْمُول على من عِنْده معرفَة يتَمَيَّز بهَا التلبيس من غَيره، وَلَا يقبل فِي ذَلِك خبر آحَاد الْعَامَّة لِكَثْرَة مَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ من التلبيس فِي ذَلِك ". وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني: لَا بُد من ثقتين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4036 وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: يعْتَمد على قَوْله أَنا أهل للْفَتْوَى لإِفَادَة التَّوَاتُر فِي المحسوس، واشتهار مَا لَا أصل لَهُ. وَاعْتبر الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَابْن الصّلاح: الاستفاضة بِأَنَّهُ أهل للفتيا، وَهُوَ الرَّاجِح فِي " رَوْضَة النَّوَوِيّ "، وَنَقله عَن أَصْحَابهم. فَلَا يَكْتَفِي بِوَاحِد وَلَا بِاثْنَيْنِ وَلَا مُجَرّد اعتزائه إِلَى الْعلم، وَلَو بِمنْصب تدريس أَو غَيره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4037 وَمرَاده فِي زَمَانه، بل هُوَ فِي هَذِه الْأَزْمِنَة أولى؛ لِأَن الدخيل قد دخل على الْفَقِيه والمدرسين. قَالَ ابْن عقيل: يجب سُؤال أهل الثِّقَة والخبرة عَنهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يجوز الرُّجُوع إِلَى غَيره إِلَّا بعد علمه بِأَنَّهُ أهل بِدَلِيل النَّبِي وَالْحَاكِم والمقوم والمخبر بِعَيْب. ثمَّ قَالَ: يَكْفِي خبر وَاحِد كَحكم شَرْعِي. وَقَالَ الطوفي: " يُقَلّد من علمه أَو ظَنّه أَهلا بطرِيق مَا اتِّفَاقًا "، وَهُوَ معنى القَوْل الأول فِي الْمَسْأَلَة. وَذكر ابْن عقيل عَن قَول: لَا يلْزمه فَيسْأَل من شَاءَ. وَهَذَا خطأ فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {فسئلوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} [النَّحْل: 43] . وروى عَن الشِّيعَة: منع تَقْلِيد غير الْمَعْصُوم، وَهُوَ مُقَابل لما قبله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4038 قَالَ ابْن مُفْلِح: وهما باطلان، وَحَيْثُ قُلْنَا بِالْقبُولِ فَإِنَّهُ يقبل من العَبْد وَالْأُنْثَى والأخرس، إِمَّا بِإِشَارَة مفهومة أَو كِتَابَة؛ لأَنهم كغيرهم فِي ذَلِك. قَوْله: {وَيمْنَع عندنَا وَعند الْأَكْثَرين من لم يعرف بِعلم، أَو جهل حَاله، وَيلْزم ولي الْأَمر مَنعه، قَالَ ربيعَة: بعض من يُفْتِي أَحَق بالسجن من السراق} . يمْنَع عندنَا وَعند أَكثر الْعلمَاء من الْفَتْوَى من لم يعرف [بِأَنَّهُ] عَالم أَو جهل حَاله؛ لِأَن الأَصْل وَالظَّاهِر الْجَهْل، فَالظَّاهِر أَنه مِنْهُ، وَلَا يلْزم الْجَهْل بِالْعَدَالَةِ لأَنا نمنعه. ونقول: لَا يقبل من جهلت عَدَالَته. ثمَّ سلمه فِي " الرَّوْضَة "، والآمدي، وَغَيرهمَا؛ لِأَن الْغَالِب عَدَالَة الْعلمَاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4039 قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: من عرف علم الِاجْتِهَاد، وَكَانَ عدلا لزمَه الِاجْتِهَاد، وَجَاز لَهُ أَن يُفْتِي. وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": صفة من يسوغ فتواه: الْعَدَالَة. وَكَذَا أطلق بعض أَصْحَابنَا، وَغَيرهم: يلْزم ولي الْأَمر منع من لَيْسَ أَهلا، وَكَذَا قَالَ الشَّافِعِي، وَغَيره: لَا يَنْبَغِي أَن يُفْتِي إِلَّا من كَانَ كَذَلِك. وَقَالَ ربيعَة: بعض من يُفْتِي أَحَق بالسجن من السراق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4040 وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة ": " الْعَدَالَة شَرط لجَوَاز اعْتِمَاد قَوْله ". وَمَعْنَاهُ للْقَاضِي فِي " الْعدة ". فَقَالَ: فِي " الْمُغنِي ": إِن من شهد مَعَ ظُهُور فسقه لم يُعَزّر؛ لِأَنَّهُ لَا يمْنَع صدقه. وَكَلَامه هُوَ وَغَيره يدل على أَنه لَا يحرم أَدَاء فَاسق مُطلقًا. قَوْله: {ويفتي فَاسق نَفسه عِنْد أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة وَغَيرهم، وَاخْتَارَ ابْن الْقيم وَغَيره: وَلغيره مَا لم يكن مُعْلنا أَو دَاعِيَة} . الصَّحِيح أَن الْفَاسِق لَا تتعدى فتياه إِلَى غَيره، بل يُفْتِي نَفسه فَقَط، وَهَذَا مَذْهَبنَا، وَمذهب الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بأمين على مَا يَقُول. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4041 وَقَالَ ابْن الْقيم فِي " أَعْلَام الموقعين ": " قلت: الصَّوَاب جَوَاز استفتاء الْفَاسِق، إِلَّا أَن يكون مُعْلنا بِفِسْقِهِ دَاعيا إِلَى مذْهبه، فَحكم استفتائه حكم إِمَامَته وشهادته " انْتهى. وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَغَيره: وَلَا تشْتَرط عَدَالَته فِي اجْتِهَاده، بل فِي قبُول فتياه وَخَبره، وَهَذَا مُوَافق لقَوْل الْأَصْحَاب. قَوْله: {وَلَا تصح من مَسْتُور الْحَال عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَقيل: بلَى، وَهُوَ أظهر، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: لَا يُفْتِي على عدوه كَالْحكمِ عَلَيْهِ} . لَا تصح الْفَتْوَى وَلَا تقبل من مَسْتُور الْحَال، بل لَا بُد أَن يكون عدلا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ أَكثر الْأَصْحَاب، وَقدمه فِي " الْفُرُوع "، وَغَيره، كَمَا لَا تقبل رِوَايَته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4042 وَقيل: تصح، وَهَذَا أظهر، وَعمل النَّاس عَلَيْهِ لَا سِيمَا فِي هَذِه الْأَزْمِنَة، وَقدمه فِي " آدَاب الْمُفْتِي "، وَصَححهُ فِي " الرِّعَايَة الْكُبْرَى "، وَاخْتَارَهُ ابْن الْقيم فِي " أَعْلَام الموقعين ". وَقيل: تصح إِن اكتفينا بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَة، وَإِلَّا فَلَا. وَالصَّحِيح أَن الْفتيا تصح من الْعَدو قدمه فِي " الْفُرُوع " فِي بَاب أدب القَاضِي، و " الرِّعَايَة الْكُبْرَى "، و " آدَاب الْمُفْتِي "، وَغَيرهم. وَقيل: لَا يُفْتِي عَلَيْهِ، اخْتَارَهُ الْمَاوَرْدِيّ كَالْحكمِ وَالشَّهَادَة عَلَيْهِ. قَوْله: {ويفتي حَاكم} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4043 هَذَا الصَّحِيح وَأَنه كَغَيْرِهِ فِيهَا. وَذكر بعض أَصْحَابنَا قولا: لَا يُفْتِي الْحَاكِم. وَقد قَالَ القَاضِي شُرَيْح: " أَنا أَقْْضِي وَلَا أُفْتِي ". وَقيل: يُفْتِي فِيمَا لَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ: كالطهارة، وَالصَّلَاة، وَنَحْوهمَا، وَلَا يُفْتِي فِيمَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ يصير كَالْحكمِ مِنْهُ على الْخصم، فَلَا يُمكن نقضه وَقت المحاكمة إِذا ترجح عِنْده ضِدّه بقول خَصمه أَو حجَّته أَو قَرَائِن حَالهمَا. وَكَرِهَهُ ابْن الْمُنْذر فِيمَا يتَعَلَّق بالحكم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4044 إِذا علم ذَلِك فَالصَّحِيح أَن فتيا الْحَاكِم لَيست بِحكم. قَالَ فِي " أَعْلَام الموقعين ": " فتيا الْحَاكِم لَيست حكما مِنْهُ، فَلَو حكم غَيره بِغَيْر مَا أفتى لم يكن نقضا لحكمه، وَلَا هِيَ كَالْحكمِ، وَلِهَذَا يجوز أَن يُفْتِي الْحَاضِر وَالْغَائِب وَمن يجوز حكمه لَهُ وَمن لَا يجوز " انْتهى. وَقَالَ القَاضِي فِي " التَّعْلِيق "، وَالْمجد فِي " محرره "، وَمن تَبِعَهُمْ: فعل الْحَاكِم حكم إِن حكم بِهِ أَو غَيره وفَاقا كفتياه. فَجعلَا الْفتيا حكما إِن حكم بِهِ هُوَ أَو غَيره. قَوْله: {وَلَا يُفْتِي فِي حَال لَا يحكم فِيهَا كغضب وَنَحْوه، وَظَاهره يحرم كَالْحكمِ، وَفِي " الرِّعَايَة ": إِن أصَاب صَحَّ وَكره، وَقيل لَا يَصح} . الَّذِي يظْهر أَن حكم الْمُفْتِي حكم القَاضِي فِي ذَلِك، وَالصَّحِيح التَّحْرِيم فِي القَاضِي وَكَذَا فِي الْمُفْتِي، وَالصَّحِيح أَن حكم الْحَاكِم الْمُوَافق للحق ينفذ وَيصِح، فَكَذَلِك فِي الْفتيا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4045 وَمثل الْغَضَب: إِذا كَانَ حاقنا، أَو حاقبا، أَو بِهِ ريح محتشية، أَو فِي شدَّة مرض، أَو خوف، أَو فَرح غَالب، أَو ملل، أَو كسل، وَشدَّة جوع وعطش، وهم، ووجع، ونعاس، وَبرد مؤلم، وحر مزعج، ومرادهم بِالْغَضَبِ: الْغَضَب الْكثير وَكَذَا غَيره. قَوْله: {وَله أَخذ رزق من بَيت المَال، وَإِن تعين أَن يُفْتِي وَله كِفَايَة لم يَأْخُذهُ، وَقيل: بلَى كعادمها فِي الْأَصَح، وَمن أَخذ مِنْهُ لم يَأْخُذ وَإِلَّا أَخذ أُجْرَة خطه، وَقيل: بلَى، وَإِن جعل لَهُ أهل بلد رزقا ليتفرغ لَهُم جَازَ فِي الْأَصَح} . للمفتي أَخذ الرزق من بَيت المَال؛ لِأَن لَهُ فِيهِ حَقًا على الْفتيا، فَجَاز لَهُ أَخذ حَقه. وَإِن تعين أَن يُفْتِي لعدم غَيره فَلهُ حالتان: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4046 إِحْدَاهمَا: أَن يكون لَهُ كِفَايَة، فَهَل لَهُ أَن يَأْخُذ إِذا لم يكن لَهُ شَيْء من بَيت المَال أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِك، وَهُوَ الصَّحِيح، اخْتَارَهُ فِي " أَعْلَام الموقعين "، وَهُوَ الْمُخْتَار. وَالْوَجْه الثَّانِي: لَهُ الْأَخْذ. وَأطلقهُمَا فِي " الرِّعَايَة "، و " آدَاب الْمُفْتِي "، و " أصُول ابْن مُفْلِح " و " فروعه ". وَالْحَالة الثَّانِيَة: أَن لَا يكون لَهُ كِفَايَة لَا من مَاله وَلَا من بَيت المَال، فَهَذَا إِذا قَالَ: لَا أَقْْضِي بَيْنكُمَا إِلَّا بِجعْل جَازَ لَهُ الْأَخْذ على الصَّحِيح؛ لِأَنَّهُ إِن لم يَأْخُذ أفْضى إِلَى ضَرَر يلْحقهُ فِي عائلته - إِن كَانُوا - وحرج، وَهُوَ منفي شرعا، وَإِن لم يفت حصل أَيْضا للمستفتى ضَرَر، فَتعين الْجَوَاز، وَقدمه ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ". قَالَ فِي " الْكَافِي ": " وَإِذا قُلْنَا بِجَوَاز أَخذ الرزق فَلم يحصل لَهُ شَيْء فَقَالَ: لَا أَقْْضِي بَيْنكُم إِلَّا بِجعْل: جَازَ ". وَقَالَ فِي " الْمُغنِي "، و " الشَّرْح ": " فَإِن لم يكن للْقَاضِي رزق فَقَالَ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4047 لَا أَقْْضِي بَيْنكُمَا حَتَّى تجعلا لي جعلا: جَازَ، وَيحْتَمل أَن لَا يجوز " انْتهى. وَالْقَوْل الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ الْأَخْذ. قلت: وَهُوَ ضَعِيف، وَهُوَ احْتِمَال فِي " الْمُغنِي "، وَاخْتَارَهُ فِي " الرِّعَايَتَيْنِ "، وَالنّظم. وَمن أَخذ من بَيت المَال لم يَأْخُذ فِي الْحَالَتَيْنِ، لَكِن هَل لَهُ أَخذ أُجْرَة خطه أم لَا؟ فِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا: يجوز، وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ هُنَا تبعا لِابْنِ مُفْلِح فِي " أُصُوله ". وَالْوَجْه الثَّانِي: لَا يجوز لَهُ الْأَخْذ، وَاخْتَارَهُ فِي " أَعْلَام الموقعين ". وَإِن جعل لَهُ أهل بلد رزقا ليتفرغ لَهُم جَازَ على الصَّحِيح، كالمسألة الَّتِي قبلهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4048 لَكِن ظَاهر هَذَا: وَلَو كَانَ لَهُ كِفَايَة وَمَا يقوم بِهِ، فيشكل، أَو يُقَال: يفهم من قَوْله: ليتفرغ لَهُم، أَنه كَانَ مَشْغُولًا بِمَا يقوم بالعيال، وَهُوَ الظَّاهِر. وَقيل: لَا يجوز لَهُ ذَلِك، وَمَال إِلَيْهِ فِي " الرِّعَايَة "، وَاخْتَارَهُ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ". قَوْله: {وَله قبُول الْهَدِيَّة، وَعنهُ: لَا، إِلَّا أَن يكافيء، قَالَ أَحْمد: لَا يَنْبَغِي أَن يُفْتِي حَتَّى تكون لَهُ نِيَّة ووقار وسكينة، قَوِيا على مَا هُوَ فِيهِ ومعرفته، والكفاية، وَإِلَّا مضغه النَّاس، وَمَعْرِفَة النَّاس، قَالَ ابْن عقيل: هَذِه الْخِصَال مُسْتَحبَّة} . قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": " وَله قبُول هَدِيَّة، وَالْمرَاد لَا يفتيه بِمَا يُريدهُ وَإِلَّا حرمت، زَاد بَعضهم: أَو لينفعه بجاهه أَو مَاله، وَفِيه نظر " انْتهى. قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": " وَله قبُول الْهَدِيَّة، وَقيل: يحرم إِذا كَانَ رشوة على أَن يفتيه بِمَا يُرِيد. قلت: أَو يكون لَهُ فِيهِ نفع من جاه أَو مَال فيفتيه لذَلِك بِمَا لَا يُفْتِي بِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4049 غَيره مِمَّا لَا ينْتَفع بِهِ كنفع الأول " انْتهى. وَهُوَ مُرَاد ابْن مُفْلِح بقوله: وَفِيه نظر. فَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر من الْأَصْحَاب: جَوَاز قبُول الْهَدِيَّة للمفتي. وَنقل الْمَرْوذِيّ: " لَا يقبل الْهَدِيَّة إِلَّا أَن يكافيء ". قَالَ أَحْمد: " الدُّنْيَا دَاء وَالسُّلْطَان [دَاء] ، والعالم طبيبه، فَإِذا رَأَيْت الطَّبِيب يجر الدَّاء إِلَى نَفسه فاحذره ". قَالَ بعض أَصْحَابنَا: فِيهِ التحذير من استفتاء من يرغب فِي مَال وَشرف بِلَا حَاجَة. قَالَ أَحْمد: " لَا يَنْبَغِي أَن يُفْتِي إِلَّا أَن يكون لَهُ نِيَّة، فَإِن لم يكن لَهُ نِيَّة لم يكن عَلَيْهِ نور وَلَا على كَلَامه نور، وحلم، ووقار، وسكينة، قَوِيا على مَا هُوَ فِيهِ وعَلى مَعْرفَته، والكفاية وَإِلَّا مضغه النَّاس، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4050 وَمَعْرِفَة النَّاس ". قَالَ ابْن عقيل: هَذِه الْخِصَال مُسْتَحبَّة، فيقصد الْإِرْشَاد وَإِظْهَار أَحْكَام الله لَا رِيَاء وَلَا سمعة، والتنويه باسمه. والسكينة وَالْوَقار: ترغب المستفتي، وهم وَرَثَة الْأَنْبِيَاء فَيجب أَن يتخلقوا بأخلاقهم. والكفاية: لِئَلَّا ينْسبهُ النَّاس إِلَى التكسب بِالْعلمِ وَأخذ الْعِوَض عَلَيْهِ، فَيسْقط قَوْله. وَمَعْرِفَة النَّاس: تحْتَمل حَال الرِّوَايَة وتحتمل حَال المستفتين، فالفاجر لَا يسْتَحق الرُّخص، فَلَا يفتيه بالخلوة بالمحارم مَعَ علمه بِأَنَّهُ يسكر، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4051 وَلَا يرخص لجند وقتنا لمعرفتنا لسفرهم، والتسهيل على معتدات على صِفَات وقتنا؛ لِئَلَّا يضع الْفَتْوَى فِي غير محلهَا. وَكَذَا قَالَ والخصلة الأولى وَاجِبَة. وَعَن عمرَان مَرْفُوعا: " وَإِن أخوف مَا أَخَاف على أمتِي: كل مُنَافِق عليم اللِّسَان "، حَدِيث حسن رَوَاهُ أَحْمد، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4052 مَوْقُوفا أشبه. وَعَن عمر قَالَ: " كُنَّا نتحدث إِنَّمَا يهْلك هَذِه الْأمة كل مُنَافِق عليم اللِّسَان "، رَوَاهُ أَبُو يعلى، وَفِيه مُؤَمل بن إِسْمَاعِيل، وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4053 وَقَالَ معَاذ: " احذر زلَّة الْعَالم وجدال الْمُنَافِق ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4054 قَوْله: {وَمن عدم مفتيا فَلهُ حكم مَا قبل الشَّرْع من إِبَاحَة، أَو حظر، أَو وقف} . قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": " فَإِن لم يجد الْعَاميّ من يسْأَله عَنْهَا فِي بَلَده وَلَا غَيره، فَقيل: لَهُ حكم مَا قبل الشَّرْع، على الْخلاف فِي الْحَظْر، وَالْإِبَاحَة، وَالْوَقْف، وَهُوَ أَقيس " انْتهى. وَقطع بِهِ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ". قَوْله: {وَيلْزم الْمُفْتِي تَكْرِير النّظر عِنْد تكْرَار الْوَاقِعَة فِي الْأَصَح، وَلُزُوم السُّؤَال ثَانِيًا على الْخلاف، وَعند أبي الْخطاب والآمدي: إِن ظن طَرِيق الِاجْتِهَاد لم يلْزمه، وَإِلَّا لزمَه} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4055 قَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل، وَغَيرهمَا من الْأَصْحَاب: يلْزم الْمُفْتِي تَكْرِير النّظر عِنْد تكْرَار الْوَاقِعَة. قَالَ ابْن عقيل: وَإِن لم يُكَرر النّظر كَانَ مُقَلدًا لنَفسِهِ لاحْتِمَال تغير اجْتِهَاده إِذا كرر، قَالَ: وكالقبلة يجْتَهد لَهَا ثَانِيًا. وَاعْترض: فَيجب تكريره أبدا. رد: نعم، وَغلط بَعضهم فِيهِ. وَذكر بعض أَصْحَابنَا: لَا يلْزم؛ لِأَن الأَصْل بَقَاء مَا اطلع عَلَيْهِ وَعدم غَيره. وَلُزُوم السُّؤَال ثَانِيًا فِيهِ الْخلاف، فَلَا يَكْتَفِي السَّائِل بِالْجَوَابِ الأول على الصَّحِيح كَمَا قُلْنَا فِي تكَرر النّظر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4056 وَعند أبي الْخطاب والآمدي: إِن ذكر الْمُفْتِي طَرِيق الِاجْتِهَاد لم يلْزمه، وَإِلَّا لزمَه. وَهُوَ ظَاهر. وَقَالَ كثير من الْعلمَاء: للمسألة أَحْوَال: لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يَتَجَدَّد لَهُ مَا يَقْتَضِي رُجُوعه عَمَّا ظهر لَهُ بِالِاجْتِهَادِ الأول أَو لَا، وكل مِنْهُمَا إِمَّا مَعَ كَونه ذَاكِرًا لدَلِيل ذَلِك الْمَاضِي أَو لَا. الأول من الْأَرْبَعَة: أَن يَتَجَدَّد مَا يَقْتَضِي الرُّجُوع، وَلكنه ذَاكر الدَّلِيل الأول، فَإِن كَانَ راجحا على مَا يَقْتَضِي الرُّجُوع عمل بِالْأولِ، وَلَا يُعِيد الِاجْتِهَاد. الثَّانِي: أَن لَا يكون ذَاكِرًا للدليل الأول فَيجب أَن يُعِيد الِاجْتِهَاد قطعا، قَالَه الشَّافِعِيَّة، لِأَنَّهُ لَا ثِقَة بِبَقَاء الظَّن، وَإِن كَانَ الأصوليون حكوا فِيهِ قولا بِالْمَنْعِ، بِنَاء على أَن الظَّن السَّابِق قوي فَيعْمل بِهِ؛ لِأَن الأَصْل عدم رُجْحَان غَيره عَلَيْهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4057 الثَّالِث: أَن لَا يَتَجَدَّد لَهُ مَا يَقْتَضِي رُجُوعه، وَهُوَ ذَاكر الدَّلِيل الأول، فَلَا يلْزمه أَن يُعِيد الِاجْتِهَاد قطعا. الرَّابِع: أَن يَتَجَدَّد مَا يَقْتَضِي الرُّجُوع وَلَا هُوَ ذَاكر للدليل الأول، فَهَذَا يلْزمه أَن يُعِيد الِاجْتِهَاد ثَانِيًا، فَإِن وَافق مُقْتَضَاهُ الأول فَظَاهر، وَإِن خَالفه عمل بِالثَّانِي. وَأما المستفتي إِذا أفتاه الْمُفْتِي بِحكم ثمَّ تَجَدَّدَتْ الْوَاقِعَة، وَقُلْنَا إِن الْمُجْتَهد يُعِيد اجْتِهَاده، يجب على السَّائِل أَن يُعِيد السُّؤَال؛ لِأَنَّهُ قد يتَغَيَّر نظر الْمُفْتِي وَهَذَا الصَّحِيح، لَكِن مَحل الْخلاف إِذا عرف المستفتي أَن جَوَاب الْمُفْتِي مُسْتَند إِلَى الرَّأْي كالقياس أَو شكّ فِي ذَلِك، وَالْغَرَض أَن الْمُقَلّد حَيّ، فَإِن عرف استناد الْجَواب إِلَى نَص أَو إِجْمَاع فَلَا حَاجَة إِلَى إِعَادَة السُّؤَال ثَانِيًا قطعا، وَكَذَا لَو كَانَ الْمُقَلّد مَيتا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4058 (قَوْله: {فصل} ) {أَصْحَابنَا وَعبد الْوَهَّاب وَجمع، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَبُو الْمَعَالِي، وَابْن برهَان: لَا يجوز خلو عصر عَن مُجْتَهد، وَاخْتَارَهُ ابْن دَقِيق الْعِيد مَا لم يتداع الزَّمَان بِنَقْض الْقَوَاعِد، وَقَالَ الْأَكْثَر: يجوز، قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ أَن قَول أَصْحَابنَا: مَعَ بَقَاء الْعلمَاء فَلَا اخْتِلَاف إِذا، وَاخْتَارَ التَّاج السُّبْكِيّ: أَنه لم يَقع} . قَالَ ابْن مُفْلِح: لَا يجوز خلو الْعَصْر عَن مُجْتَهد عِنْد أَصْحَابنَا وَطَوَائِف. قَالَ بعض أَصْحَابنَا: ذكره أَكثر من تكلم فِي الْأُصُول فِي مسَائِل الْإِجْمَاع، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4059 وَلم يذكر ابْن عقيل خِلَافه إِلَّا عَن بعض الْمُحدثين. وَاخْتَارَهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي، وَجمع مِنْهُم، وَمن غَيرهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4060 قَالَ الْكرْمَانِي فِي " شرح البُخَارِيّ " فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين " إِلَى آخِره. (قَالَ ابْن بطال: لِأَن أمته آخر الْأُمَم وَعَلَيْهَا تقوم السَّاعَة، وَإِن ظَهرت أشراطها وَضعف الدّين فَلَا بُد أَن يبْقى من أمته من يقوم بِهِ. قَالَ: فَإِن قيل: قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى لَا يَقُول أحد: الله الله "، وَقَالَ - أَيْضا -: " لَا تقوم السَّاعَة إِلَّا على شرار النَّاس ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4061 قُلْنَا: هَذِه الْأَحَادِيث لَفظهَا على الْعُمُوم، وَالْمرَاد مِنْهَا الْخُصُوص، فَمَعْنَاه: لَا تقوم على أحد يوحد الله إِلَّا بِموضع كَذَا؛ إِذْ لَا يجوز أَن تكون الطَّائِفَة الْقَائِمَة بِالْحَقِّ الَّتِي توَحد الله إِلَّا بِموضع كَذَا، فَإِن بِهِ طَائِفَة قَائِمَة على الْحق، وَلَا تقوم السَّاعَة إِلَّا على شرار النَّاس بِموضع كَذَا. إِذْ لَا يجوز أَن تكون الطَّائِفَة الْقَائِمَة بِالْحَقِّ الَّتِي توَحد الله هِيَ شرار الْخلق. وَقد جَاءَ ذَلِك مُبينًا فِي حَدِيث أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ، أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق، لَا يضرهم من خالفهم "، قيل: وَأَيْنَ هم يَا رَسُول الله؟ قَالَ: " بِبَيْت الْمُقَدّس، أَو أكناف بَيت الْمُقَدّس ") . انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4062 فَاخْتَارَ مَا اخْتَارَهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَاخْتَارَ ابْن دَقِيق الْعِيد فِي " شرح العنوان " مَذْهَب الْحَنَابِلَة، وَكَذَا فِي أول " شرح الْإِلْمَام "، بل أَشَارَ إِلَى ذَلِك إِمَام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4063 الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَان "، وَكَذَا ابْن برهَان فِي " الْأَوْسَط "، لَكِن كَلَامهم مُحْتَمل الْحمل على عمَارَة الْوُجُود بالعلماء لَا على خُصُوص الْمُجْتَهدين) انْتهى. قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (قَالَ فِي " شرح العنوان ": الْمُخْتَار عدم خلو الْعَصْر عَن مُجْتَهد، لَكِن إِلَى الْحَد الَّذِي تنْتَقض بِهِ الْقَوَاعِد بِسَبَب زَوَال الدُّنْيَا فِي آخر الزَّمَان. وَيُوَافِقهُ قَوْله فِي " شرح خطْبَة الْإِلْمَام ": وَالْأَرْض لَا تَخْلُو من قَائِم لله بِالْحجَّةِ وَالْأمة الشَّرِيفَة لَا بُد لَهَا من سالك [إِلَى الْحق] إِلَى أَن يَأْتِي أَمر الله فِي أَشْرَاط السَّاعَة الْكُبْرَى وتتابع بعده مَا لَا يبْقى مَعَه إِلَّا قدوم الْأُخْرَى) انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4064 وَاخْتَارَ صَاحب " جمع الْجَوَامِع ": جَوَاز ذَلِك إِلَّا أَنه لم يَقع. وَقَالَ الْآمِدِيّ: يجوز خلو الْعَصْر عَن مُجْتَهد عِنْد جمَاعَة، قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَار؛ لِأَنَّهُ لَو امْتنع لَكَانَ بِغَيْرِهِ، وَالْأَصْل عَدمه. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " إِن الله لَا يقبض الْعلم انتزاعا ينتزعه، وَلَكِن يقبض الْعلمَاء حَتَّى إِذا لم يبْق عَالم اتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا، فسئلوا فأفتوا بِغَيْر علم، فضلوا وأضلوا ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4065 اسْتدلَّ للْأولِ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق ". رد: الْخَبَر الأول أدل على الْمَقْصُود، وَلَو تَعَارضا سلم الأول. وَأَيْضًا: التفقه فرض كِفَايَة، فَفِي تَركه اتِّفَاق الْأَمر على بَاطِل. رد: مَنعه الْآمِدِيّ إِن أمكن تَقْلِيد الْعَصْر السَّابِق، ثمَّ فرض عِنْد إِمْكَانه، فَإِذا مَاتَ الْعلمَاء لم يُمكن. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ أَن هَذَا مُرَاد أَصْحَابنَا وَغَيرهم، فَلَا اخْتِلَاف لقَوْله: " لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى لَا يبْقى فِي الأَرْض من يَقُول: الله الله "، وَقَوله: " إِن الله يبْعَث ريحًا، فَلَا تدع أحدا فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة من إِيمَان إِلَّا قَبضته " رَوَاهُمَا مُسلم. وَلأَحْمَد وَأبي دَاوُد عَن عمرَان مَرْفُوعا: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي يُقَاتلُون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4066 على الْحق، ظَاهِرين على من ناوأهم، حَتَّى يُقَاتل آخِرهم الدَّجَّال ". وَأما قَوْله فِي " التَّمْهِيد ": قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَخْلُو عصر من حجَّة لله "، وَذكره القَاضِي أَيْضا. وَقَوله: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق حَتَّى يردوا عَليّ " فَلَا يَصح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4067 قَوْله: {قَالَ ابْن حمدَان وَالنَّوَوِيّ: عدم الْمُجْتَهد الْمُطلق من زمن طَوِيل} . قَالَ ابْن حمدَان: " وَمن زمن طَوِيل عدم الْمُجْتَهد الْمُطلق، مَعَ أَنه الْآن أيسر مِنْهُ فِي الزَّمن الأول؛ لِأَن الحَدِيث وَالْفِقْه قد دونا، وَكَذَا مَا يتَعَلَّق بِالِاجْتِهَادِ من الْآيَات، والْآثَار، وأصول الْفِقْه، والعربية وَغير ذَلِك، لَكِن الهمم قَاصِرَة، والرغبات فاترة، ونار الْجد والحذر خامدة، وَعين الخشية وَالْخَوْف جامدة، اكْتِفَاء بالتقليد واستغناء من التَّعَب الوكيد، وهربا من الأثقال وأربا، فِي تمشية الْحَال، وبلوغ الآمال وَلَو بِأَقَلّ الْأَعْمَال ". وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي " شرح الْمُهَذّب ": فقد الْآن الْمُجْتَهد الْمُطلق وَمن دهر طَوِيل، نَقله عَنهُ ابْن السُّيُوطِيّ فِي " شرح منظومته جمع الْجَوَامِع ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4068 وَقَالَ الرَّافِعِيّ: (لِأَن النَّاس الْيَوْم كالمجمعين أَن لَا مُجْتَهد الْيَوْم، نَقله الأردبيلي فِي " الْأَنْوَار " فِي بَاب أدب الْقَضَاء) . قَالَ ابْن مُفْلِح لما نقل كَلَامهمَا: وَفِيه نظر. وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُ وجد من الْمُجْتَهدين بعد ذَلِك جمَاعَة، مِنْهُم: الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية، وَنَحْوه، وَمِنْهُم: الشَّيْخ تَقِيّ الدّين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4069 السُّبْكِيّ، والبلقيني، قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ. قَوْله: {أَكثر أَصْحَابنَا وَغَيرهم لَا يُفْتِي إِلَّا مُجْتَهد، وَمَعْنَاهُ عَن أَحْمد، وَجوزهُ فِي " التَّرْغِيب وَالتَّلْخِيص " لمجتهد فِي مَذْهَب إِمَامه ضَرُورَة، وَالْأَكْثَر: بلَى إِن كَانَ مطلعا على المأخذ أَهلا للنَّظَر، والقفال: من حفظ مَذْهَب إِمَام أفتى، والجويني يُفْتِي المتبحر فِيهِ، وَابْن حمدَان عِنْد عدم مُجْتَهد، وَظَاهر كَلَام أَحْمد جَوَاز تَقْلِيد أهل الحَدِيث وَلَعَلَّه للْحَاجة، وَظَاهر كَلَام ابْن شاقلا الْجَوَاز، وَقَالَهُ ابْن بشار، وَاخْتَارَهُ فِي " الْإِيضَاح "، و " الرِّعَايَة "، و " الْحَاوِي " كالحنفية، وَرجح فِي هَذِه الْأَزْمِنَة، فَيكون مخبرا لَا مفتيا، ذكره أَبُو الْخطاب وَابْن عقيل والموفق وَغَيرهم، فيخبر عَن معِين وَيعْمل بِخَبَرِهِ لَا بفتياه، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ لَو عرف حكم حَادِثَة بدليلها لم يفت فِي الْأَصَح، وَقيل: بلَى إِن كَانَ من كتاب أَو سنة} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4070 ذكر القَاضِي، وَأَصْحَابه، والموفق فِي " الرَّوْضَة "، وَغَيرهم، بل جَمَاهِير الْأَصْحَاب، وَقَالَهُ أَبُو الْحُسَيْن، وَجَمَاعَة: لَا يجوز أَن يُفْتِي إِلَّا مُجْتَهد. قَالَ الْحَلِيمِيّ وَالرُّويَانِيّ من الشَّافِعِيَّة: لَا يُفْتِي مقلد. قَالَ القَاضِي: وَمَعْنَاهُ عَن أَحْمد، فَإِنَّهُ قَالَ: " يَنْبَغِي للمفتي أَن يكون عَالما بِوُجُوه الْقُرْآن والأسانيد الصَّحِيحَة وَالسّنَن "، وَقَالَ: " يَنْبَغِي أَن يكون عَالما بقول من تقدم ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4071 وَقَالَ أَيْضا: " لَا يجوز الِاخْتِيَار إِلَّا لعام بِكِتَاب وَسنة ". قَالَ بعض أَصْحَابنَا: الِاخْتِيَار تَرْجِيح قَول، وَقد يُفْتِي بالتقليد. انْتهى. وَقَالَ صَاحب " التَّلْخِيص وَالتَّرْغِيب ": يجوز للمجتهد فِي مَذْهَب إِمَامه لأجل الضَّرُورَة. قَالَ فِي " التَّلْخِيص ": [عز] الْمُجْتَهد، والمقلد لَا يَصح قَضَاؤُهُ، فَيبقى الْمُجْتَهد فِي مَذْهَب إِمَام ألجأت الضَّرُورَة إِلَى الِاكْتِفَاء بِهِ وَقد عز. وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ للْإِجْمَاع على قبُوله، فَيدل أَنه لَيْسَ كعامي، ولبعده عَن الْخَطَأ. وَقَالَ أَكثر الْعلمَاء: يجوز لغير الْمُجْتَهد أَن يُفْتِي إِن كَانَ مطلعا على المأخذ أَهلا للنَّظَر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4072 قَالَ الْبرمَاوِيّ: " يجوز أَن يُفْتِي بِمذهب الْمُجْتَهد من عرف مذْهبه، وَقَامَ بتفريع الْفِقْه على أُصُوله، وَقدر على التَّرْجِيح فِي مَذْهَب ذَلِك الْمُجْتَهد، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يصير كإفتاء الْمُجْتَهد بِنَفسِهِ، فالمجتهد الْمُقدم فِي مَذْهَب إِمَامه وَهُوَ: من يسْتَقلّ بتقرير مذْهبه، وَيعرف مآخذه من أدلته التفصيلية، بِحَيْثُ لَو انْفَرد لقرره كَذَلِك، فَهَذَا يُفْتِي بذلك لعلمه بالمأخذ، وَهَؤُلَاء أَصْحَاب الْوُجُوه. ودونهم فِي الرُّتْبَة: أَن يكون فَقِيه النَّفس حَافِظًا للْمَذْهَب قَادِرًا على التَّفْرِيع وَالتَّرْجِيح، فَهَل لَهُ الْإِفْتَاء؟ بذلك أَقْوَال: أَصَحهَا: يجوز. وَالثَّانِي: الْمَنْع. [وَالثَّالِث] : عِنْد عدم الْمُجْتَهد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4073 ودونهم من يحفظ وَلَيْسَ قَادِرًا على التَّفْرِيع وَالتَّرْجِيح، فَقيل: يجوز لَهُ الْإِفْتَاء؛ لِأَنَّهُ ناقل، [وَيَنْبَغِي] أَن يكون هَذَا [رَاجعا] لمحل الضَّرُورَة، لَا سِيمَا فِي هَذِه الْأَزْمَان " انْتهى. قَالَ الْقفال الْمروزِي من الشَّافِعِيَّة: من حفظ مَذْهَب إِمَام أفتى بِهِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ: يُفْتِي المتبحر فِيهِ. وَذكر الْمَاوَرْدِيّ مِنْهُم فِي عَامي عرف حكم حَادِثَة بدليلها يُفْتِي، أَو إِن كَانَ من كتاب أَو سنة، أَو الْمَنْع مُطلقًا وَهُوَ أصح، فِيهِ أوجه. انْتهى. وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": " فَمن أفتى وَلَيْسَ على صفة من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4074 الصِّفَات الْمَذْكُورَة من غير ضَرُورَة: فَهُوَ عَاص آثم ". وَظَاهر كَلَام أَحْمد تَقْلِيد أهل الحَدِيث. قَالَ القَاضِي: سَأَلَ عبد الله الإِمَام أَحْمد فِيمَن [فِي] مصره أَصْحَاب رَأْي وَأَصْحَاب حَدِيث لَا يعْرفُونَ الصَّحِيح، لمن يسْأَل؟ قَالَ: أَصْحَاب الحَدِيث. قَالَ القَاضِي: فَظَاهره تقليدهم. قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَلم يتأوله، وَظَاهره أَنه جعلهَا على رِوَايَتَيْنِ، قَالَ: وَقد يُقَال للْحَاجة. قلت: وَهَذَا أولى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4075 وَقَالَ فِي " الْوَاضِح ": ظَاهر رِوَايَة عبد الله أَن صَاحب الحَدِيث أَحَق بالفتيا، وَحملهَا على أَنهم فُقَهَاء، أَو أَن السُّؤَال يرجع إِلَى الرِّوَايَة. ثمَّ ذكر القَاضِي قَول أَحْمد: " لَا يكون فَقِيها حَتَّى يحفظ أَرْبَعمِائَة ألف حَدِيث ". وَحمله هُوَ وَغَيره على الْمُبَالغَة وَالِاحْتِيَاط. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4076 وَلِهَذَا قَالَ أَحْمد: " الْأُصُول الَّتِي يَدُور عَلَيْهَا الْعلم عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَنْبَغِي أَن تكون ألفا أَو ألفا وَمِائَتَيْنِ ". وَذكر القَاضِي أَن ابْن شاقلا اعْترض عَلَيْهِ بِهِ، فَقَالَ: " إِن كنت لَا أحفظ، فَإِنِّي أُفْتِي بقول من يحفظ أَكثر مِنْهُ ". قَالَ القَاضِي: لَا يَقْتَضِي هَذَا أَنه كَانَ يُقَلّد أَحْمد لمَنعه الْفتيا بِلَا علم. قَالَ بعض أَصْحَابنَا: ظَاهره تَقْلِيده، إِلَّا أَن يحمل على أَخذه طرق الْعلم مِنْهُ. ثمَّ ذكر عَن ابْن بطة: " لَا يجوز أَن يُفْتِي بِمَا يسمع من مفتي ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4077 وروى عَن ابْن بشار: " مَا أعيب على رجل حفظ لِأَحْمَد خمس مسَائِل، اسْتندَ إِلَى سَارِيَة الْمَسْجِد يُفْتِي بهَا ". قَالَ القَاضِي: هَذَا مِنْهُ مُبَالغَة فِي فَضله. قَالَ بعض أَصْحَابنَا: هُوَ صَرِيح بالإفتاء بتقليد أَحْمد، قَالَ: فَصَارَ لِأَصْحَابِنَا فِيهَا قَولَانِ، قَالَ: فَإِن لم يجز لحَاجَة مُطلقًا، وَإِلَّا فالأقوال ثَلَاثَة. وَقَالَ ابْن هُبَيْرَة: من لم يجوز إِلَّا تَوْلِيَة قَاض مُجْتَهد، إِنَّمَا عَنى قبل اسْتِقْرَار هَذِه الْمذَاهب وانحصار الْحق فيهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4078 وَقَالَ: الْمُجْتَهد الْيَوْم لَا يتَصَوَّر اجْتِهَاده فِي هَذِه الْمسَائِل الَّتِي حررت فِي الْمذَاهب؛ لِأَن الْمُتَقَدِّمين فرغوا مِنْهَا، فَلَا يُؤَدِّي اجْتِهَاده إِلَّا إِلَى أحدهم. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ. وَقَالَ الْآمِدِيّ: جوز بعض الْعلمَاء الْإِفْتَاء بالتقليد. وَهُوَ ظَاهر كَلَام ابْن بشار كَمَا تقدم، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْفرج فِي " الْإِيضَاح "، وَصَاحب " الرِّعَايَة " و " الْحَاوِي " من أَصْحَابنَا، كالحنفية؛ لِأَنَّهُ ناقل كالراوي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4079 رد: لَيْسَ إِذا مفتيا بل مخبر، ذكره جمَاعَة مِنْهُم: أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، والموفق، وَزَاد - وَمَعْنَاهُ لغيره - فَيحْتَاج بِخَبَر عَن معِين مُجْتَهد، فَيعْمل بِخَبَرِهِ لَا بفتياه. وَتقدم كَلَام الْمَاوَرْدِيّ، والقفال، وَرجح قَول الْحَنَفِيَّة وَمن تَابعهمْ فِي هَذِه الْأَزْمِنَة، بل عمل النَّاس الْمُفْتِينَ عَلَيْهِ. قَوْله: {وَله تَقْلِيد مفضول عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر، وَقيل: إِن اعتقده فَاضلا أَو مُسَاوِيا، وَعند ابْن عقيل، وَابْن سُرَيج، والقفال، والسمعاني: يلْزمه الِاجْتِهَاد فَيقدم الْأَرْجَح، وَمَعْنَاهُ للخرقي وَغَيره، وَلأَحْمَد: رِوَايَتَانِ} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4080 الأول: قَول أَكثر أَصْحَابنَا مِنْهُم القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَصَاحب " الرَّوْضَة "، وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة والمالكية، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة. وَالْقَوْل الثَّانِي: لَهُ تَقْلِيده إِن اعتقده فَاضلا أَو مُسَاوِيا، وَاخْتَارَهُ التَّاج السُّبْكِيّ، والبرماوي، وَجمع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4081 وَوَجهه: أَنه إِذا اعتقده مفضولا فَقَوله عِنْده مَرْجُوح، وَلَيْسَ من الْقَوَاعِد أَن يعدل عَن الرَّاجِح إِلَى الْمَرْجُوح. وَقَالَ ابْن عقيل: يلْزمه الِاجْتِهَاد، فَيقدم الْأَرْجَح. وَمَعْنَاهُ: قَول الْخرقِيّ، والموفق فِي " الْمقنع "، وَغَيرهمَا، فِي اسْتِقْبَال الْقبْلَة. وَقَالَهُ ابْن سُرَيج، والقفال، وَالْقَاضِي حُسَيْن، وَابْن السَّمْعَانِيّ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4082 والباقلاني، وَلأَحْمَد رِوَايَتَانِ، كَالْأولِ، وَهَذَا. اسْتدلَّ للْأولِ: بِأَن الْمَفْضُول من الصَّحَابَة وَالسَّلَف كَانَ يُفْتِي مَعَ وجود الْفَاضِل مَعَ الاشتهار والتكرار، وَلم يُنكر ذَلِك أحد، فَكَانَ إِجْمَاعًا على جَوَاز الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4083 استفتائه مَعَ الْقُدْرَة على استفتاء الْفَاضِل، وَقَالَ تَعَالَى: {فسئلوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} [النَّحْل: 43] ، وَقد قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ "، وَفِيهِمْ الْأَفْضَل من غَيره. وَأَيْضًا: الْعَاميّ لَا يُمكنهُ التَّرْجِيح لقصوره، وَلَو كلف بذلك لَكَانَ تكليفا بِضَرْب من الِاجْتِهَاد. لَكِن زيف ابْن الْحَاجِب بِأَن ذَلِك يظْهر بِالتَّسَامُعِ وَرُجُوع الْعلمَاء إِلَيْهِ وَغَيره، لِكَثْرَة المستفتين وَتَقْدِيم الْعلمَاء لَهُ. قَوْله: {أما لَو بَان لَهُ الْأَرْجَح لزمَه تَقْلِيده، وَتَقْدِيم أعلم على أورع فِي الْأَصَح فيهمَا، وَفِي " الرِّعَايَة " لَا يَكْفِيهِ من لَا تسكن نَفسه إِلَيْهِ} . إِذا بَان لَهُ الْأَرْجَح مِنْهُمَا فَالْأَصَحّ أَنه يلْزمه تَقْلِيده، زَاد بعض أَصْحَابنَا وَبَعض الشَّافِعِيَّة: فِي الْأَظْهر. قَالَ الْغَزالِيّ: لَا يجوز تَقْلِيده غَيره. قَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا وَإِن كَانَ ظَاهرا فَفِيهِ نظر، لما ذكرنَا من سُؤال آحَاد الصَّحَابَة وَوُجُود أفاضلهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4084 وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد: إِن رجح دين وَاحِد قدمه فِي أحد الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الآخر: لَا؛ لِأَن الْعلمَاء لَا تنكر على الْعَاميّ تَركه. وَذكر - أَيْضا - فِي " التَّمْهِيد " فِي تَقْدِيم الأدين على الأعلم، وَعَكسه مذهبين. وَلنَا وَجْهَان، قيل لِأَحْمَد: من نسْأَل بعْدك؟ قَالَ: " عبد الْوَهَّاب الْوراق، فَإِنَّهُ صَالح، مثله موفق للحق ". قَالَ فِي " الرِّعَايَة ": وَلَا يَكْفِيهِ من لم تسكن نَفسه إِلَيْهِ، فَلَا بُد من سُكُون النَّفس والطمأنينة بِهِ، وَقَالَ: يقدم الْعَالم على الْوَرع الأدين؛ لِأَنَّهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4085 لَا تعلق بمسائل الِاجْتِهَاد بالورع وَالدّين، وَلِهَذَا يقدم فِي الْإِمَامَة فِي الصَّلَاة؛ وَلِأَن الظَّن الْحَاصِل بقوله أَكثر، وَقيل بالتساوي. قَوْله: {قَوْله: فَإِن اسْتَووا تخير عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَلَا يلْزم التمذهب بِمذهب وَالْأَخْذ بِرُخصِهِ وعزائمه، والامتناع من الِانْتِقَال عِنْد الْأَكْثَر، فَيتَخَيَّر، وَقيل: بلَى، وَفِي " الرِّعَايَة " هُوَ الْأَشْهر فَلَا يُقَلّد غير أَهله، وَقَالَ الْقَدُورِيّ: إِذا ظَنّه أقوى، وَفِي " آدَاب الْمُفْتِي " يجْتَهد فِي أصح الْمذَاهب فيتبعه} . قَالَ ابْن مُفْلِح: " فَإِذا اسْتَووا تخير ذكره أَبُو الْخطاب، وَجَمَاعَة من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم. وَذكر بعض أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة: هَل يلْزم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4086 التمذهب بِمذهب وَالْأَخْذ بِرُخصِهِ وعزائمه؟ على وَجْهَيْن: أشهرهما: لَا، كجمهور الْعلمَاء فَيتَخَيَّر. وَالثَّانِي: يلْزمه. وَاخْتِيَار الْآمِدِيّ منع الِانْتِقَال فِيمَا عمل بِهِ. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الْأَخْذ بِرُخصِهِ وعزائمه: طَاعَة غير النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي كل أمره وَنَهْيه وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع، وَتوقف أَيْضا فِي جَوَازه. وَقَالَ أَيْضا: إِن خَالفه لقُوَّة الدَّلِيل، أَو زِيَادَة علم، أَو تقوى، فقد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4087 أحسن، وَلم يقْدَح فِي عَدَالَته بِلَا نزاع، وَقَالَ أَيْضا: بل يجب فِي هَذِه الْحَال، وَأَنه نَص أَحْمد. وَكَذَا قَالَ الْقَدُورِيّ الْحَنَفِيّ: مَا ظَنّه أقوى، عَلَيْهِ تَقْلِيده فِيهِ، وَله الْإِفْتَاء بِهِ حاكيا مَذْهَب من قَلّدهُ. وَذكر ابْن هُبَيْرَة من مَكَائِد الشَّيْطَان: أَن يُقيم أوثانا فِي الْمَعْنى تعبد من دون الله، مثل: أَن يتَبَيَّن الْحق، فَيَقُول: لَيْسَ هَذَا مَذْهَبنَا، تقليدا لمعظم عِنْده قد قدمه على الْحق. وَقَالَ ابْن حزم: أَجمعُوا أَنه لَا يحل لحَاكم وَلَا لمفت تَقْلِيد رجل، فَلَا يحكم وَلَا يُفْتِي إِلَّا بقوله ". وَاخْتَارَ النَّوَوِيّ أَنه لَا يلْزمه، على مَا يَأْتِي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4088 وَقيل: يلْزمه التمذهب بِمذهب. قَالَ فِي " الرِّعَايَة ": هَذَا الْأَشْهر فَلَا يُقَلّد غير أَهله. وَقَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": يجْتَهد فِي أصح الْمذَاهب فيتبعه. وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة - وَهُوَ الكيا - فَإِنَّهُ قطع بِأَنَّهُ يلْزمه التمذهب. فعلى هَذَا يلْزمه أَن يخْتَار مذهبا يقلده فِي كل شَيْء، وَلَيْسَ لَهُ التمذهب لمُجَرّد التشهي. قَالَ النَّوَوِيّ: " هَذَا كَلَام الْأَصْحَاب وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ أَنه لَا يلْزمه التمذهب بِمذهب، بل يستفتي من شَاءَ، لَكِن [من] غير تلقط للرخص، وَلَعَلَّ من مَنعه لم يَثِق بِعَدَمِ تلقطه " انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4089 قَوْله: {وَلَا يجوز للعامي تتبع الرُّخص، وَحكي إِجْمَاعًا، وَخَالف ابْن هُبَيْرَة، ويفسق عِنْد أَحْمد وَغَيره، وَحكي عَنهُ: لَا، وَحمل القَاضِي الأول على غير متأول أَو مقلد، وَالْحَنَفِيَّة كَالْقَاضِي: لَهُ أَن يتمذهب بِمذهب فَيَأْخُذ بِهِ فِي الْأَصَح} . يحرم على الْعَاميّ تتبع الرُّخص، وَهُوَ: أَنه كلما وجد رخصَة فِي مَذْهَب عمل بهَا وَلَا يعْمل [بغَيْرهَا فِي ذَلِك الْمَذْهَب] ، بل هَذِه الفعلة زندقة من فاعلها، كَأَن الْقَائِل بِهَذِهِ الرُّخْصَة فِي هَذَا الْمَذْهَب لَا يَقُول بِالرُّخْصَةِ بِتِلْكَ الرُّخْصَة الْأُخْرَى. وَمِمَّا يحْكى أَن بعض النَّاس تتبع رخص الْمذَاهب وأقوال الْعلمَاء وَجَمعهَا فِي كتاب، وَذهب بهَا إِلَى بعض الْخُلَفَاء، فعرضها على بعض الْعلمَاء الْأَعْيَان، فَلَمَّا رَآهَا قَالَ: " يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذِه زندقة فِي الدّين، وَلَا يَقُول بِمَجْمُوع ذَلِك أحد من الْمُسلمين ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4090 قَالَ ابْن عبد الْبر: لَا يجوز للعامي تتبع الرُّخص إِجْمَاعًا. وَنقل عَن إِسْحَاق الْمروزِي جَوَازه، لَكِن الَّذِي فِي " فَتَاوَى الحناطي " عَنهُ أَنه قَالَ: من تتبع الرُّخص فسق، وَأَن [ابْن أبي هُرَيْرَة] قَالَ: لَا يفسق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4091 وَحَكَاهُ الرَّافِعِيّ عَنهُ فِي كتاب " الْقَضَاء ". وَحكى الْجَوَاز عَن الْمروزِي فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَغَيره. وَقَالَ الْمحلي فِي " شَرحه ": (وَالظَّاهِر أَن هَذَا النَّقْل عَنهُ سَهْو، لما فِي " الرَّوْضَة "، وَأَصلهَا عَن الحناطي وَغَيره عَن أبي إِسْحَاق الْمروزِي: أَنه يفسق بذلك، وَعَن ابْن أبي هُرَيْرَة: أَنه لَا يفسق) . وَلذَلِك قطع بِهِ السُّيُوطِيّ فِي شرح منظومته " جمع الْجَوَامِع ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4092 وَكنت قد نقلت ذَلِك عَن الْمروزِي فأصلحته، وذكرته عَن ابْن أبي هُرَيْرَة لذَلِك، وَيحمل أَن يكون للمروزي قَولَانِ. فعلى الأول يفسق عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَيحيى الْقطَّان، وَغَيرهمَا من الْعلمَاء، وَلَكِن حمله القَاضِي على غير متأول أَو مقلد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4093 قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَفِيه نظر، وَذكر بعض أَصْحَابنَا فِي فسق من أَخذ بالرخص رِوَايَتَيْنِ، وَإِن قوي دَلِيل، أَو كَانَ عاميا فَلَا، كَذَا قَالَ، وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: كَالْقَاضِي أبي يعلى: إِلَّا أَن يتمذهب بِمذهب فَيَأْخُذ بِهِ فِي الصَّحِيح ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4094 (قَوْله: {فصل} ) {يجب أَن يعْمل الْمُفْتِي بِمُوجب اعْتِقَاده فِيمَا لَهُ وَعَلِيهِ إِجْمَاعًا، حَكَاهُ بعض أَصْحَابنَا، وَهُوَ وَاضح، وَلَو أفتاه وَاحِد وَعمل بِهِ لزمَه قطعا، وَإِن لم يعْمل لزمَه بالتزامه، وَفِي " الرِّعَايَة ": مَعَ ظَنّه أَنه حق، [وَقيل: بِالظَّنِّ] وَحده كالسمعاني، وَابْن حمدَان أَيْضا، وَقيل: بِالشُّرُوعِ، وَابْن الْبَنَّا: بالإفتاء كَمَا لَو لم يجد غَيره، أَو حكم عَلَيْهِ بِهِ} . لَو أفتى الْمُقَلّد مفت وَاحِد وَعمل بِهِ الْمُقَلّد لزمَه قطعا، وَلَيْسَ لَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4095 الرُّجُوع عَنهُ إِلَى فَتْوَى غَيره فِي تِلْكَ الْحَادِثَة بِعَينهَا إِجْمَاعًا، نَقله ابْن الْحَاجِب، والهندي، وَغَيرهمَا. وَإِن لم يعْمل بِهِ فَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَنه يلْزمه بالتزامه. قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": هَذَا الْأَشْهر. وَقيل: يلْزمه بالتزامه إِذا ظَنّه أَنه حق، فعلى هَذَا لَا بُد من شَيْئَيْنِ: الْتِزَامه، وظنه أَنه حق، اخْتَارَهُ ابْن حمدَان فِي " آدَاب الْمُفْتِي ". وَقيل: يلْزمه إِذا وَقع فِي نَفسه صِحَّته وَأَنه حق، وَهَذَا أولى الْأَوْجه. انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4096 قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: " وَيلْزمهُ إِذا وَقع فِي نَفسه صِحَّته وَحَقِيقَته وَهَذَا أولى الْأَوْجه ". قَالَ ابْن الصّلاح: " وَلم أجد هَذَا لغيره ". وَقيل: يلْزمه بِالشُّرُوعِ، فَإِن شرع لزمَه، وَإِن لم يشرع شاع سُؤال غَيره. وَقَالَ ابْن الْبَنَّا بالإفتاء لمُجَرّد مَا أفتاه لزمَه الْعَمَل بِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقه كالدليل بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُجْتَهد. قَوْله: {كَمَا لَو لم يجد غَيره، أَو حكم عَلَيْهِ بِهِ} . قَالَ ابْن مُفْلِح: " فَإِن لم يجد مفتيا آخر لزمَه، كَمَا [لَو] حكم عَلَيْهِ بِهِ حَاكم ". وَقطع بِهِ وَلم يحك فِيهِ خلافًا. قَالَ ابْن الصّلاح: وَالَّذِي تَقْتَضِيه الْقَوَاعِد أَنه إِن لم يجد سواهُ تعين عَلَيْهِ الْأَخْذ بفتياه، وَلَا يتَوَقَّف ذَلِك على الْتِزَامه، وَلَا سُكُون نَفسه إِلَى صِحَّته، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4097 وَإِن وجد غَيره، فَإِن استبان أَن الَّذِي أفتاه هُوَ الأعلم والأوثق لزمَه، بِنَاء على تَقْلِيد الْأَفْضَل، وَإِن لم يستبن لم يلْزمه. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي " الرَّوْضَة ": " الْمُخْتَار مَا نَقله الْخَطِيب وَغَيره إِن لم يكن هُنَاكَ مفت آخر لزمَه بِمُجَرَّد فتياه. وَإِن لم تسكن نَفسه، فَإِن كَانَ هُنَاكَ آخر لم يلْزمه بِمُجَرَّد فتياه، إِذْ لَهُ أَن يسْأَل غَيره، وَحِينَئِذٍ فقد يُخَالِفهُ، فَيَجِيء فِيهِ الْخلاف فِي اخْتِلَاف الْمُفْتِينَ " الْآتِيَة بعد هَذِه. قَوْله: {وَإِن اخْتلف عَلَيْهِ فتيا اثْنَيْنِ تخير عِنْد القَاضِي وَالْمجد وَأبي الْخطاب، وَذكره ظَاهر كَلَام أَحْمد، وَقيل: يَأْخُذ بالأفضل علما ودينا - فَإِن اسْتَويَا تخير، اخْتَارَهُ الْمُوفق وَغَيره، وَقيل: بالأغلظ، وَقيل: بالأخف، وَقيل: بأرجحهما دَلِيلا، وَقيل: يسْأَل آخر} . إِذا اخْتلف عَلَيْهِ فتيا مفتيين: تخير فِي الْأَخْذ، على الصَّحِيح، اخْتَارَهُ القَاضِي وَالْمجد وَأَبُو الْخطاب، وَذكره ظَاهر كَلَام أَحْمد فَإِنَّهُ سُئِلَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4098 عَن مَسْأَلَة فِي الطَّلَاق؟ فَقَالَ: " إِن فعل حنث، فَقَالَ السَّائِل: إِن أفتاني إِنْسَان لَا أحنث؟ قَالَ: تعرف حَلقَة الْمَدَنِيين؟ قلت: فَإِن أفتوني حل؟ قَالَ: نعم ". وَقيل: يَأْخُذ بقول الْأَفْضَل علما ودينا، فَإِن اسْتَويَا تخير، هَذَا اخْتِيَار الشَّيْخ موفق الدّين فِي " الرَّوْضَة "، لَا التَّخْيِير كَمَا ذكره ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، لكنه علل التَّخْيِير، وَظَاهره أَنه مَال إِلَيْهِ. وَقيل: يَأْخُذ بقول الأغلظ والأثقل، ذكره ابْن الْبَنَّا. وَقيل: يَأْخُذ بالأخف، اخْتَارَهُ عبد الْجَبَّار. وَقيل: يَأْخُذ بأرجحهما دَلِيلا، ذكره ابْن الْبَنَّا أَيْضا. وَيَنْبَغِي أَن يكون هَذَا هُوَ الصَّحِيح. [قَالَ] فِي " أَعْلَام الموقعين ": " يجب عَلَيْهِ أَن يتحَرَّى ويبحث عَن الرَّاجِح بِحَسبِهِ، وَهُوَ أرجح الْمذَاهب السَّبْعَة " انْتهى. وَقيل: يسْأَل مفتيا آخر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4099 قَالَ الطوفي وَغَيره: " وَيحْتَمل أَن يسقطا وَيرجع إِلَى غَيرهمَا إِن وجد، وَإِلَّا فَإلَى مَا قبل السّمع " انْتهى. قَوْله: {لَهُ رد الْفتيا وَفِي الْبَلَد غَيره أهل لَهَا شرعا، خلافًا للحليمي، وَإِلَّا لزمَه، وَلَا يلْزم جَوَاب مَا لم يَقع، وَمَا لم يحْتَمل السَّائِل، وَمَا لَا يَنْفَعهُ، وَقَالَ ابْن عقيل: يحرم إِلْقَاء علم لَا يحْتَملهُ، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: لَا يَنْبَغِي} . لَهُ رد الْفتيا إِذا كَانَ فِي بَلَده غَيره من الْمُفْتِينَ وَهُوَ أهل للفتيا شرعا، هَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِير الْأَصْحَاب، لِأَنَّهُ فِي حَقه سنة. وَقَالَ الْحَلِيمِيّ الشَّافِعِي: لَيْسَ لَهُ رده وَلَو كَانَ فِي الْبَلَد غَيره؛ لِأَنَّهُ تعين عَلَيْهِ بذلك. وَإِن لم يكن فِي الْبَلَد لزمَه الْفتيا قطعا؛ لِأَنَّهُ فرض كِفَايَة فِي حَقه ذكره أَبُو الْخطاب وَابْن عقيل وَغَيرهمَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4100 وَلَا يلْزمه مَا لم يَقع وَمَا لم يحْتَملهُ السَّائِل وَلَا يَنْفَعهُ. وَقد سُئِلَ الإِمَام أَحْمد عَن يَأْجُوج وَمَأْجُوج: أمسلمون هم؟ فَقَالَ للسَّائِل: " أحكمت الْعلم حَتَّى تسْأَل عَن ذَا! ". وَسُئِلَ عَن مَسْأَلَة اللّعان، فَقَالَ: " سل - رَحِمك الله - عَمَّا ابْتليت بِهِ ". وَسَأَلَهُ مهنا عَن مَسْأَلَة فَغَضب، وَقَالَ: " خُذ وَيحك فِيمَا ينْتَفع بِهِ، وَإِيَّاك وَهَذِه الْمسَائِل المحدثة، وَخذ فِيمَا فِيهِ حَدِيث ". وَسُئِلَ عَن مَسْأَلَة، فَقَالَ: " لَيْت أَنا نحسن مَا جَاءَ بِهِ فِيهِ الْأَثر ". وَلأَحْمَد عَن ابْن عمر: " لَا تسألوا عَمَّا لم يكن، فَإِن عمر نهى [عَنهُ] ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4101 وَله أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ - عَن الصَّحَابَة -: " مَا كَانُوا يسْأَلُون إِلَّا عَمَّا يَنْفَعهُمْ ". وَاحْتج الشَّافِعِي على كَرَاهَة السُّؤَال عَن الشَّيْء قبل وُقُوعه بقوله تَعَالَى: {لَا تسئلوا عَن أَشْيَاء} الْآيَة [الْمَائِدَة: 101] . وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ينْهَى عَن قيل وَقَالَ، وإضاعة المَال، وَكَثْرَة السُّؤَال ". وَفِي لفظ: " إِن الله كره لكم ذَلِك "، مُتَّفق عَلَيْهِمَا. وَفِي حَدِيث اللّعان: " وَكره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمسَائِل وعابها ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4102 قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كره السُّؤَال عَن الْمَسْأَلَة قبل كَونهَا إِذا لم يكن فِيهَا كتاب أَو سنة، لِأَن الِاجْتِهَاد إِنَّمَا يُبَاح ضَرُورَة. ثمَّ روى عَن معَاذ: " أَيهَا النَّاس لَا تعجلوا بالبلاء قبل نُزُوله ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4103 وَعَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن - مُرْسلا - مَعْنَاهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4104 وَقَالَ ابْن عَبَّاس لعكرمة: من سَأَلَك عَمَّا لَا يعنيه فَلَا تفته. وَسَأَلَ الْمَرْوذِيّ أَحْمد عَن شَيْء من أَمر الْعدْل، فَقَالَ: " لَا تسْأَل عَن هَذَا فَإنَّك لَا تُدْرِكهُ ". وَذكر ابْن عقيل: أَنه يحرم إِلْقَاء علم لَا يحْتَملهُ السَّامع. قَالَ البُخَارِيّ: قَالَ عَليّ: " حدثوا النَّاس بِمَا يعْرفُونَ، أتريدون أَن يكذب الله وَرَسُوله ". وَفِي مُقَدّمَة مُسلم عَن ابْن مَسْعُود: " مَا أَنْت بمحدث قوما حَدِيثا لَا تبلغه عُقُولهمْ إِلَّا كَانَ فتْنَة لبَعْضهِم ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4105 وَعَن مُعَاوِيَة مَرْفُوعا: " نهى عَن الغلوطات "، رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد. وَقيل: بِفَتْح الْغَيْن، وَاحِدهَا: غلوطة، وَهِي الْمسَائِل الَّتِي يغالط بهَا. وَقيل: بضَمهَا، وَأَصلهَا: الأغلوطات، وَنهى عَنْهَا السّلف. قَوْله: {تَنْبِيه: يَنْبَغِي أَن يحفظ الْأَدَب مَعَ الْمُفْتِي، إِلَى آخِره} . هَذِه مسَائِل تتَعَلَّق بأدب المستفتي والمفتي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4106 وَقد ذكر ذَلِك ابْن حمدَان فِي كِتَابه " آدَاب الْمُفْتِي "، وَأطَال وأجاد. فَيَنْبَغِي للمستفتي أَن يحفظ الْأَدَب مَعَ الْمُفْتِي، ويجله ويعظمه، فَلَا يَقُول لَهُ وَلَا يفعل مَا جرت عَادَة الْعَوام بِهِ، كإيماء بِيَدِهِ فِي وَجهه، وَمَا مَذْهَب إمامك فِي كَذَا؟ وَمَا تحفظ فِي كَذَا؟ أَو أفتاني غَيْرك أَو فلَان بِكَذَا أَو كَذَا، أَو كَذَا قلت أَنا، أَو وَقع لي، أَو إِن كَانَ جوابك مُوَافقا فَاكْتُبْ، وَإِلَّا فَلَا. لَكِن إِن علم غَرَض السَّائِل فِي شَيْء لم يجز أَن يكْتب بِغَيْرِهِ، وَلَا يسْأَله فِي ضجر، أَو هم، أَو قيام وَنَحْوه، وَلَا يُطَالِبهُ بِالْحجَّةِ، هَذَا الصَّحِيح. وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: لَا يمْنَع مِنْهُ، وَيلْزمهُ ذكر دَلِيل قَطْعِيّ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: " للعامي سُؤال الْمُفْتِي عَن مأخذه استرشادا، وَيلْزم الْعَام حِينَئِذٍ أَن يذكر لَهُ الدَّلِيل إِن كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ، لَا الظني لافتقاره إِلَى مَا يقصر فهم الْعَاميّ عَنهُ " انْتهى. وَقَالَ ابْن عقيل فِي " المنثور ": من أَرَادَ كِتَابَة من فتيا أَو شَهَادَة لم يجز أَن يكبر خطه لتصرفه فِي ملك غَيره بِلَا إِذْنه وَلَا حَاجَة، كَمَا لَو أَبَاحَهُ قَمِيصه فَاسْتَعْملهُ فِيمَا يخرج عَن الْعَادة بِلَا حَاجَة. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي " عُيُون الْمسَائِل " فِي الْفتيا وَالشَّهَادَة، وَلَا يجوز أَن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4107 يُوسع الأسطر، وَلَا يكثر إِن أمكنه الِاخْتِصَار. قلت: وَفِيه نظر لَا سِيمَا فِي الْفَتَاوَى، فَإِن الْعلمَاء لم يزَالُوا إِذا كتبُوا عَلَيْهَا أطنبوا وَزَادُوا على المُرَاد، بل كَانَ بَعضهم يسْأَل عَن الْمَسْأَلَة فيجيب فِيهَا بمجلد أَو أَكثر، وَقد وَقع هَذَا كثيرا للشَّيْخ تَقِيّ الدّين - رَحمَه الله تَعَالَى وَرَضي عَنهُ -. قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَيتَوَجَّهُ مَعَ قرينَة خلاف لنا. يَعْنِي على جَوَاز ذَلِك -. وَقَالَ ابْن عقيل فِي " فنونه ": لَا يجوز إِطْلَاق الْفتيا فِي اسْم مُشْتَرك إِجْمَاعًا، فَلَو سُئِلَ: أَيجوزُ الْأكل بعد طُلُوع الْفجْر؟ فَلَا بُد أَن يَقُول: يجوز بعد الْفجْر الأول لَا الثَّانِي. قَالَ: وَمن هُنَا إرْسَال أبي حنفية من سَأَلَ أَبَا يُوسُف عَمَّن دفع ثوبا إِلَى قصار، فَقَصره وجحده: هَل لَهُ أُجْرَة إِن عَاد سلمه لرَبه؟ وَقَالَ: إِن قَالَ: نعم، أَو لَا، فقد أَخطَأ، فجَاء إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِن كَانَ قصره قبل جحوده: فَلهُ الْأُجْرَة، وَإِن كَانَ بعد جحوده: فَلَا أُجْرَة لَهُ؛ لِأَنَّهُ قصره لنَفسِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4108 واختبر أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ أصحابا لَهُ فِي بيع رَطْل تمر برطل تمر، فأجازوا فخطأهم، فمنعوا فخطأهم، فخجلوا فَقَالَ: إِن تَسَاويا مَكِيلًا يجوز، فَهَذَا يُوضح خطأ الْمُطلق فِي كل مَا احْتمل التَّفْصِيل. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَيتَوَجَّهُ عمل بعض أَصْحَابنَا بِظَاهِر) . قَوْله: {فَائِدَة: قيل للْإِمَام أَحْمد: الرجل يسْأَل عَن الْمَسْأَلَة فأدله على إِنْسَان، هَل عَليّ شَيْء؟ قَالَ: إِن كُنَّا مُتبعا فَلَا بَأْس، وَلَا يُعجبنِي رَأْي أحد. وَفِي " الْوَاضِح ": يسن إِعْلَامه إِن كَانَ أَهلا للرخصة كالتخلص من الرِّبَا وَالْخلْع [بعد] الْوُقُوع، وَذكره غَيره: يحرم الْخلْع حِيلَة} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4109 هَذِه الْمسَائِل مُتَعَلقَة بالتخلص مِمَّا يَقع فِيهِ الْإِنْسَان كالعامي، فَإِن فِي ذَلِك رَاحَة وخلاصا مِمَّا هُوَ أعظم مِمَّا وَقع فِيهِ. وروى عَن أَحْمد فِي ذَلِك رِوَايَات: فَإِنَّهُ سُئِلَ عَن الرجل يسْأَل عَن الْمَسْأَلَة فأدله على إِنْسَان، هَل عَليّ شَيْء؟ قَالَ: إِن كَانَ مُتبعا أَو معينا فَلَا بَأْس، وَلَا يُعجبنِي رَأْي أحد. وَذكر ابْن عقيل فِي " واضحه ": أَنه يستجب إِعْلَام المستفتي بِمذهب غَيره، إِن كَانَ أَهلا للرخصة كطالب التَّخَلُّص من الرِّبَا، فيدله على من يرى التحيل للخلاص مِنْهُ، وَالْخلْع بعد وُقُوع الطَّلَاق. انْتهى. وَلَا يسع النَّاس فِي هَذِه الْأَزْمِنَة غير هَذَا. وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي " فروعه " فِي كتاب الطَّهَارَة عَن أَحْمد أَنهم جاؤوه بفتوى فَلم تكن على مذْهبه، فَقَالَ: عَلَيْكُم بِحَلقَة الْمَدَنِيين. - وَتقدم قريب من ذَلِك - فَفِي هَذَا دَلِيل على أَن الْمُفْتِي إِذا جَاءَهُ المستفتي، وَلم يكن عِنْده رخصَة، أَن يدله على مَذْهَب من لَهُ فِيهِ رخصَة انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4110 وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب. وَنقل الْأَثْرَم عَنهُ: " قوم يفتون هَكَذَا يتقلدون قَول الرجل وَلَا يبالون بِالْحَدِيثِ ". وَنقل أَبُو طَالب: عجبا لقوم عرفُوا الْإِسْنَاد وَصِحَّته يَدعُونَهُ ويذهبون إِلَى رَأْي سُفْيَان وَغَيره، قَالَ الله تَعَالَى: {فليحذر الَّذِي يخالفون عَن أمره} الْآيَة [النُّور: 63] الْفِتْنَة: الْكفْر. وَقَالَ أَحْمد بن الْحسن: أَلا يعجب يُقَال للرجل: قَالَ رَسُول الله فَلَا يقنع، وَقَالَ عَن فلَان فيقنع. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ عَن أصُول ظَاهِرَة الْبُرْهَان: لَا يهولنك مخالفتها لقَوْل مُعظم فِي النَّفس ولطغام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4111 قَالَ رجل لعَلي: أتظن أَنا نظن أَن طَلْحَة وَالزُّبَيْر على الْخَطَأ، وَأَنت على الصَّوَاب؟ فَقَالَ: إِنَّه ملبوس عَلَيْك، اعرف الْحق تعرف أَهله. وَقَالَ رجل لِأَحْمَد: إِن ابْن الْمُبَارك قَالَ كَذَا، قَالَ: " ابْن الْمُبَارك لم ينزل من السَّمَاء ". وَقَالَ أَحْمد: من ضيق علم الرجل أَن يُقَلّد. وَذكر لِأَحْمَد كَلِمَات عَن إِبْرَاهِيم بن أدهم، فَقَالَ: وقعنا فِي بنيات الطَّرِيق، عَلَيْك بِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4112 وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: التَّقْلِيد للأكابر أفسد العقائد وَلَا يَنْبَغِي أَن يناظر بأسماء الرِّجَال إِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يتبع الدَّلِيل، فَإِن أَحْمد أَخذ فِي الْجد بقول زيد وَخَالف الصّديق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4113 وَفِي " وَاضح ابْن عقيل ": من أكبر الْآفَات الإلف لمقالة من سلف، أَو السّكُون إِلَى قَول مُعظم فِي النَّفس لَا بِدَلِيل، فَهُوَ أعظم حَائِل عَن الْحق وبلوى يجب معالجتها. وَقَالَ فِي " الْفُنُون ": من قَالَ فِي مُفْرَدَات أَحْمد الِانْفِرَاد لَيْسَ بمحمود، وَقَالَ: الرجل مِمَّن يُؤثر الْوحدَة، ثمَّ ذكر قَول عَليّ السَّابِق، وانفراد الشَّافِعِي، وصواب عمر فِي أُسَارَى بدر، فَمن يعير بعد هَذَا بالوحدة. انْتهى. قَوْله: {تذنيب} . مَأْخُوذ من مَادَّة: ذَنْب الدَّابَّة على التَّأَخُّر والتعقب، وَمِنْه ذَنْب الدَّابَّة، فَهُوَ إِشَارَة مِنْهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4114 قَوْله: {كَانَ السّلف يهابون الْفتيا ويشددون فِيهَا، ويتدافعونها. وَأنكر أَحْمد وَغَيره على من يهجم فِي الْجَواب، وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي أَن يُجيب فِي كل مَا يستفتى فِيهِ. وَقَالَ أَصْحَابنَا، وَغَيرهم: يحرم تساهل مفت وتقليد مَعْرُوف فِيهِ. قَالَ الْبَاجِيّ، وَبَعض الشَّافِعِيَّة: من اكْتفى بفتياه بقول أَو وَجه الْمَسْأَلَة من غير نظر فِي تَرْجِيح وَلَا تقيد بِهِ، فقد خرق الْإِجْمَاع} . لَا شكّ أَن أَمر الْفتيا خطر، فَيَنْبَغِي أَن يتبع السّلف فِي ذَلِك، فقد كَانُوا يهابون الْفتيا كثيرا ويشددون فِيهَا ويتدافعونها حَتَّى ترجع إِلَى الأول لما فِيهَا من المخاطرة. وَقد أنكر الإِمَام أَحْمد وَغَيره من الْعلمَاء الْأَعْيَان على من تهجم فِي الْجَواب، وَقَالَ: " لَا يَنْبَغِي أَن يُجيب فِي كل مَا يستفتى فِيهِ "، وَقَالَ: " إِذا هاب الرجل شَيْئا لَا يَنْبَغِي أَن يحمل على أَن يَقُول ". وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: من اكْتفى فِي فتياه بقول أَو وَجه فِي الْمَسْأَلَة من غير نظر فِي تَرْجِيح وَلَا تقيد بِهِ، فقد جهل وخرق الْإِجْمَاع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4115 وَذكر عَن أبي الْوَلِيد الْبَاجِيّ [أَنه] ذكر عَن بعض أَصْحَابهم أَنه كَانَ يَقُول: الَّذِي لصديقي عَليّ أَن أفتيه بالرواية الَّتِي توافقه، قَالَ أَبُو الْوَلِيد: وَهَذَا لَا يجوز عِنْد أحد يعْتد بِهِ فِي الْإِجْمَاع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4116 (بَاب تَرْتِيب الْأَدِلَّة والتعادل والتعارض وَالتَّرْجِيح) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4117 فارغة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4118 (قَوْله: {بَاب} {تَرْتِيب الْأَدِلَّة والتعادل والتعارض وَالتَّرْجِيح} ) . اعْلَم أَن هَذَا الْبَاب من مَوْضُوع النّظر للمجتهد وضروراته؛ لِأَن الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة مُتَفَاوِتَة فِي مَرَاتِب الْقُوَّة، فَيحْتَاج الْمُجْتَهد إِلَى معرفَة مَا يقدم مِنْهَا وَمَا يُؤَخر؛ لِئَلَّا يَأْخُذ بالأضعف مِنْهَا مَعَ وجود الْأَقْوَى. اعْلَم أَنه لَهُ مَا انْتهى الْكَلَام فِي مبَاحث أَدِلَّة الْفِقْه الْمُتَّفق عَلَيْهَا والمختلف فِيهَا رُبمَا تعَارض مِنْهَا دليلان باقتضاء حكمين متضادين، فاحتيج إِلَى معرفَة التَّرْتِيب، والتعادل، والتعارض، وَالتَّرْجِيح، وَحكم كل مِنْهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يقوم بِهِ من هُوَ أهل لذَلِك وَهُوَ الْمُجْتَهد، فَلذَلِك قدم الْمُوفق، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم بَاب الِاجْتِهَاد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4119 على هَذَا الْبَاب، لَكِن الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " وَأَتْبَاعه قدمُوا التَّعَارُض والتراجيح على الِاجْتِهَاد؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُود، وَذَلِكَ مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْمَقْصُود. وَإِنَّمَا جَازَ دُخُول التَّعَارُض فِي أَدِلَّة الْفِقْه لكَونهَا ظنية على مَا يَأْتِي قَرِيبا تَفْصِيل ذَلِك وتحريره. قَوْله: {التَّرْتِيب جعل كل وَاحِد من شَيْئَيْنِ فَأكْثر فِي رتبته الَّتِي يَسْتَحِقهَا} . اعْلَم أَنه لما كَانَ الْبَاب مَقْصُودا لترتيب الْأَدِلَّة وتعادلها وتعارضها وترجيحها، وَجب الْكَشْف عَن حَقِيقَة التَّرْتِيب وَغَيره؛ لِأَنَّهَا شُرُوط فِي الِاجْتِهَاد، وَالْحكم عَلَيْهَا بالشرطية يَسْتَدْعِي سبق تصور ماهيتها؛ إِذْ التَّصْدِيق أبدا مَسْبُوق بالتصور، وَلما كَانَ التَّرْتِيب مصدر رتب يرتب ترتيبا عَرفْنَاهُ بمصدر مثله وَهُوَ الْجعل، وَقَوله: (كل وَاحِد من شَيْئَيْنِ فَأكْثر "؛ لِأَن التَّرْتِيب قد يكون فِي شَيْئَيْنِ فَقَط وَقد يكون فِي أَكثر، وَقَوله: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4120 (فِي أَكثر) وَقَوله (فِي رتبته) ، أَي: فِي مَوْضِعه أَو مَنْزِلَته، الَّتِي يَسْتَحِقهَا، أَي: يسْتَحق جعلهَا فِيهَا بِوَجْه من الْوُجُوه. وَقد ذكر الْفُقَهَاء: تَرْتِيب الْأَقَارِب فِي نفقاتهم، وفطرهم، وولايتهم فِي النِّكَاح، وإرثهم وَغَيرهَا بِاعْتِبَار الْقرب. قَوْله: {فَيقدم إِجْمَاع ثمَّ سَابق ومتفق عَلَيْهِ أَو أقوى، وَأَعلاهُ متواتر نطقي، فآحاد، فسكوتي، كَذَلِك فالكتاب، ومتواتر سنة، فآحاد على مراتبها، فَقَوْل صَحَابِيّ، فَقِيَاس، وَالتَّصَرُّف فِي الْأَدِلَّة سبق} . قد تقدم أَن أَدِلَّة الشَّرْع: الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس، وَغَيره من الْأُصُول الْمُخْتَلف فِيهَا، وَالْإِجْمَاع مقدم عَلَيْهَا جَمِيعهَا لوَجْهَيْنِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4121 أَحدهمَا: كَونه قَاطعا مَعْصُوما من الْخَطَأ كَمَا سبق. وَالثَّانِي: كَونه آمنا من النّسخ والتأويل، بِخِلَاف بَاقِي الْأَدِلَّة فَإِن النّسخ يلْحقهَا والتأويل يتَّجه عَلَيْهَا. وَهُوَ أَنْوَاع: أَحدهَا: الْإِجْمَاع النطقي الْمُتَوَاتر فَهُوَ مقدم على غَيره. ثمَّ يَلِيهِ الْإِجْمَاع النطقي الثَّابِت بالآحاد. ثمَّ الْإِجْمَاع السكوتي الْمُتَوَاتر. ثمَّ الْآحَاد كَذَلِك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4122 فَهَذِهِ الْأَنْوَاع كلهَا مُقَدّمَة على الْكتاب، وعَلى جَمِيع أَنْوَاع السّنة من متواترة وَغَيرهَا. وَلَو نقل إجماعان فالمعمول بِهِ مِنْهُمَا هُوَ السَّابِق، فَيقدم إِجْمَاع الصَّحَابَة على إِجْمَاع التَّابِعين، وَإِجْمَاع التَّابِعين على من بعدهمْ، وهلم جرا؛ لِأَن السَّابِق دَائِما أقرب إِلَى زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَشْهُود لَهُم بالخيرية فِي قَوْله: " خير الْقُرُون قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ". فَإِن فرض فِي عصر وَاحِد إجماعان، فَالثَّانِي بَاطِل؛ لِأَن كل من اجْتهد من الْمُتَأَخر فَقَوله بَاطِل لمُخَالفَته الْإِجْمَاع السَّابِق. فَإِن كَانَ أحد الإجماعين مُخْتَلفا فِيهِ وَالْآخر مُتَّفق عَلَيْهِ، فالمتفق عَلَيْهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4123 مقدم، وَذَلِكَ فِي صور تَقْدِيم بَيَانهَا فِي الْإِجْمَاع، فَليُرَاجع. وَكَذَلِكَ مَا كَانَ الْخلاف فِيهِ أَضْعَف يقدم على الْخلاف فِي كَونه إِجْمَاعًا أقوى. قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَمَا اتّفق عَلَيْهِ أَو ضعف الْخلاف فِيهِ أولى " انْتهى. وَكَذَلِكَ الْإِجْمَاع الَّذِي لم يسْبقهُ اخْتِلَاف مقدم على إِجْمَاع سبق فِيهِ اخْتِلَاف، ثمَّ وَقع الْإِجْمَاع. وَفِي قَول آخر: إِن الْمَسْبُوق بِخِلَاف أرجح لأَنهم اطلعوا على المأخذ، واختاروا مَأْخَذ مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ فَكَانَ أقوى. وَقيل هما سَوَاء؛ لِأَن فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا مرجحا. لَكِن قَالَ ابْن الْحَاجِب والهندي لَا يتَصَوَّر هَذِه الْمَسْأَلَة فِي الإجماعين القاطعين؛ وَلِأَنَّهُ: لَا يرجح بَين القاطعين وَلَا يتَصَوَّر التَّعَارُض بَينهمَا، وَإِنَّمَا يتَصَوَّر فِي الظنين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4124 وَضعف قَوْلهمَا: بِأَنَّهُمَا إِن أَرَادَا تعَارض الإجماعين فِي نفس الْأَمر فمستحيل، سَوَاء كَانَا ظنيين أَو قطعيين، وَإِن أَرَادَا فِيمَا يغلب على الظَّن فَظن تعَارض الإجماعين مُمكن سَوَاء كَانَا قطعيين أَو ظنيين، وَالله أعلم. ثمَّ يَلِيهِ، أَي: الْإِجْمَاع: الْكتاب، وَمثله متواتر السّنة لقطعيتهما فيقدمان على سَائِر الْأَدِلَّة؛ لِأَنَّهُمَا قاطعان من جِهَة الْمَتْن، وَلِهَذَا جَازَ نسخ كل مِنْهُمَا بِالْآخرِ على مَا سبق، هَذَا هُوَ الْأَصَح؛ لِأَن كلا مِنْهُمَا وَحي من الله تَعَالَى، وَإِن افْتَرقَا من حَيْثُ إِن الْقُرْآن نزل للإعجاز، فَفِي الْحَقِيقَة هما سَوَاء. وَقيل: يقدم الْكتاب عَلَيْهَا لِأَنَّهُ أشرف مِنْهَا. قيل: تقدم السّنة لقَوْله تَعَالَى: {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} [النَّحْل: 44] . أما المتواتران من السّنة فمتساويان قطعا. ثمَّ بعد ذَلِك أَخْبَار الْآحَاد فَتقدم على غَيرهَا، غير مَا تقدم، وَلها مَرَاتِب: صَحِيح فَيقدم على غَيره، ثمَّ حسن فَيقدم على غَيره، ثمَّ ضَعِيف وَهُوَ أَصْنَاف كَثِيرَة، وَيقدم على غَيره ويتفاوت فِي الصِّحَّة وَالْحسن والضعف، فَيقدم مَا كَانَ أقوى، ثمَّ قَول الصَّحَابِيّ بعد ذَلِك، ثمَّ الْقيَاس، بعد ذَلِك كُله، وَقد تقدم تفاصيل ذَلِك كُله وَمَا فِيهِ من الْخلاف فِي أبوابه وفصوله. وَقَوْلنَا: {وَالتَّصَرُّف فِي الْأَدِلَّة سبق} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4125 معنى ذَلِك: أَنه إِذا وَقع فِي الْأَدِلَّة الظنية مَا ظَاهره التَّعَارُض فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يُمكن الْجمع وَلَو بِوَجْه مَا، وَإِمَّا أَن لَا يُمكن الْجمع أصلا، فَمَا أمكن الْجمع فِيهِ يجمع وَيعْمل بالدليلين، وَذَلِكَ فِي صور: مِنْهَا: تَخْصِيص الْعَام بالخاص على تفاصيله السَّابِقَة. وَمِنْهَا: تَقْيِيد الْمُطلق بالمقيد. وَمِنْهَا: حمل الظَّاهِر الْمُحْتَمل لِمَعْنى مَرْجُوح على الْمَرْجُوح، حَيْثُ دلّ دَلِيل على منع الْعَمَل بِهِ وَهُوَ التَّأْوِيل. وَمِنْهَا: حمل الْمُجْمل على الْمُبين. وَكَذَا إِذا تَأَخّر الْمعَارض بِأَن يكون نَاسِخا فقد عمل بالدليلين كل مِنْهُمَا فِي وَقت بالمنسوخ أَولا ثمَّ بالناسخ بعد ذَلِك، وَالْجمع بَين الدَّلِيلَيْنِ لَا ينْحَصر فِي ذَلِك، بل قد يَقع فِي غَيره، وَقد سبق بَيَان ذَلِك فِي أبوابه. قَوْله: {التَّعَارُض: تقَابل الدَّلِيلَيْنِ على سَبِيل الممانعة وَلَو بَين عَاميْنِ فِي الْأَصَح} . وَذَلِكَ إِذا كَانَ أحد الدَّلِيلَيْنِ يدل على الْجَوَاز وَالدَّلِيل الآخر يدل على الْمَنْع، فدليل الْجَوَاز يمْنَع التَّحْرِيم، وَدَلِيل التَّحْرِيم يمْنَع الْجَوَاز، فَكل مِنْهُمَا مُقَابل الآخر ومعارض لَهُ ومانع لَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4126 قَوْله: {وَلَو بَين عَاميْنِ فِي الْأَصَح} . يَعْنِي أَنه يجوز تعَارض عَاميْنِ عِنْد أَكثر الْعلمَاء، بل غالبهم أطلق الْعبارَة فِي التَّعَارُض، فَشَمَلَ العامين وَغَيرهمَا مِمَّا يُمكن التَّعَارُض فِيهِ. وَذكر بعض أَصْحَابنَا عَن قوم منع تعَارض عمومين بِلَا مُرَجّح. وَقد خص الإِمَام أَحْمد " نَهْيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الصَّلَاة بعد الصُّبْح وَالْعصر " بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا فليصلها إِذا ذكرهَا ". وَذكر القَاضِي، وَأَصْحَابه، والموفق، وَالشَّافِعِيَّة، تعارضهما؛ لِأَن كلا مِنْهُمَا عَام من وَجه وخاص من وَجه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4127 وَقدم الْحَنَفِيَّة النَّهْي لذكر الْوَقْت فِيهِ، وَتقدم ذَلِك فِي أَوَاخِر التَّخْصِيص. قَوْله: {والتعادل: التَّسَاوِي، لَكِن تعادل قطعيين محَال اتِّفَاقًا فَلَا تَرْجِيح، والمتأخر نَاسخ وَلَو آحادا فِي الْأَصَح، وَمثله قَطْعِيّ وظني، وَيعْمل بالقطعي} . إِذا لم [يُمكن] الْجمع بَين الدَّلِيلَيْنِ المتعارضين، فَذَلِك مَحل التعادل والتراجيح. فالتعادل: عبارَة عَن تَسَاوِي الدَّلِيلَيْنِ المتعارضين بِحَيْثُ لَا يكون فِي أَحدهمَا مَا يرجحه على الآخر، وَيَأْتِي التَّرْجِيح وتعريفه وَأَحْكَامه قَرِيبا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4128 إِذا علم ذَلِك فالتعادل بَين قطعيين مُمْتَنع قطعا سَوَاء كَانَا عقليين أَو نقليين، أَو أَحدهمَا عقليا وَالْآخر نقليا؛ إِذْ لَو فرض ذَلِك لزم اجْتِمَاع النقيضين، أَو ارتفاعهما، وترجيح أَحدهمَا على الآخر محَال فَلَا مدْخل للترجيح فِي الْأَدِلَّة القطعية؛ لِأَن التَّرْجِيح فرع التَّعَارُض وَلَا تعَارض فِيهَا فَلَا تَرْجِيح. لَكِن إِن علم التَّارِيخ وَكَانَ الْمَدْلُول قَابلا للنسخ، فالمتأخر نَاسخ للمتقدم إِذا علم تَأَخره بِالْقطعِ، فَإِن كَانَ مَنْقُولًا بالآحاد عمل بِهِ أَيْضا على الْأَصَح؛ لِأَنَّهُ انْضَمَّ إِلَى ذَلِك أَن الأَصْل فِيهِ الدَّوَام والاستمرار. وَقَالَ الْأَنْبَارِي فِي " شرح الْبُرْهَان ": هَذَا الْأَظْهر، وَذكر احْتِمَالا بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إِسْقَاط الْمُتَوَاتر بالآحاد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4129 وَمثل ذَلِك الْقطعِي والظني، أَعنِي أَنه لَا تعادل بَينهمَا وَلَا تعَارض لانْتِفَاء الظَّن، لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل وجود ظن فِي مُقَابلَة يَقِين خِلَافه، فالقاطع هُوَ الْمَعْمُول بِهِ وَالظَّن لَغْو، وَكَذَلِكَ لَا يتعارض حكم مجمع عَلَيْهِ مَعَ حكم آخر لَيْسَ مجمعا عَلَيْهِ. قَوْله: {وَكَذَا ظنيان عِنْد أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، والكرخي، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، فَيجمع بَينهمَا، وَلَو بَين كتاب وَسنة، فِي أصَحهمَا، فَإِن تعذر وَعلم التَّارِيخ، فَالثَّانِي نَاسخ إِن كَانَ قبله، وَإِن اقترنا خير، وَإِن جهل وَقبل النّسخ رَجَعَ إِلَى غَيرهمَا، وَإِلَّا اجْتهد فِي التَّرْجِيح، وَيقف إِلَى أَن يُعلمهُ، وَقَالَ الشَّيْخ: يُقَلّد عَالما، وَقَالَ القَاضِي وَابْن عقيل وَالْأَكْثَر: يجوز تعادلهما كَمَا فِي نظر الْمُجْتَهد اتِّفَاقًا وَحكي عَن أَحْمد، فَعَلَيهِ يتَخَيَّر، وَقيل: فِي وَاجِب وَيسْقط غَيره، لَكِن لَا يعْمل وَلَا يُفْتِي إِلَّا بقول وَاحِد فِي الْأَصَح، وَفِي " الْخلاف " و " الرَّوْضَة ": يسقطان، وَقيل: بِالْوَقْفِ، وللقاضي أَيْضا يُقَلّد غَيره} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4130 اخْتلف الْعلمَاء فِي تعادل دَلِيلين ظنيين على أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه محَال، وَهَذَا الصَّحِيح عندنَا، وَعَلِيهِ الإِمَام أَحْمد، وَالْأَصْحَاب، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، والكرخي، والسرخسي، وَحَكَاهُ الإِسْفِرَايِينِيّ عَن أَصْحَابه، وَحَكَاهُ ابْن عقيل عَن الْفُقَهَاء، وَيَأْتِي كَلَام الْخلال، وَابْن خُزَيْمَة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4131 فعلى هَذَا إِن أمكن الْجمع بَينهمَا بِأَن علم التَّارِيخ وَكَانَ أَحدهمَا عَاما وَالْآخر خَاصّا أَو مُطلقًا ومقيدا وَنَحْو ذَلِك، عمل بِهِ كَمَا تقدم. لَكِن إِن كَانَ أحد المتعارضين سنة قابلها كتاب، فَالصَّحِيح كَذَلِك، أَعنِي إِن أمكن الْعَمَل بهما من وَجه كَانَ أولى، وَلَا يقدم أَحدهمَا على الآخر. وَقيل: يقدم الْكتاب على السّنة، لحَدِيث معَاذ: " الْمُشْتَمل على أَنه يقْضِي بِكِتَاب الله فَإِن لم يجد فبسنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَرَضي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأقرهُ على ذَلِك " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره. وَقيل: تقدم السّنة على الْكتاب، لقَوْله تَعَالَى: {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} [النَّحْل: 44] . وَأما قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْبَحْر: " هَذَا الطّهُور مَاؤُهُ الْحل ميتَته " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره مَعَ قَوْله تَعَالَى: {قل لَا أجد فِي مَا أُوحِي إِلَيّ محرما} إِلَى قَوْله: {أَو لحم خِنْزِير} [الْأَنْعَام: 145] ، فَكل من الْآيَة والْحَدِيث يتَنَاوَل خِنْزِير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4132 الْبَحْر، فيتعارض عُمُوم الْكتاب وَالسّنة فِي خِنْزِير الْبَحْر. فَقدم بَعضهم الْكتاب فحرمه، وَقَالَهُ من أَصْحَابنَا أَبُو عَليّ النجاد. وَبَعْضهمْ قدم السّنة فأحله، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد وَعَلِيهِ جَمَاهِير أَصْحَابه، وَيَأْتِي هَذَا أَيْضا عِنْد قَوْله: " فِي الْأَمر الْخَارِج فِيمَا إِذا تعَارض قُرْآن وَسنة ". وَإِن لم يُمكن الْجمع والتاريخ مَعْلُوم فَالثَّانِي نَاسخ، فَإِن جهل التَّارِيخ اجْتهد فِي الْجمع إِن أمكن، ثمَّ فِي التَّارِيخ، فَإِن تعذر وقف الْأَمر إِلَى أَن نتبينه، فَيعْمل بِمَا يتَبَيَّن. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: إِن عجز عَن التَّرْجِيح أَو تعذر قلد عَالما. وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَة: يجوز تعادلهما، وَبِه قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4133 " مُخْتَصره "، وَابْن عقيل فِي ضمن مَسْأَلَة الْقيَاس، وَأَبُو بكر الرَّازِيّ، والجرجاني، والجبائي وَابْنه، وَابْن الباقلاني، وَقَالَ: قَالَه الْأَشْعَرِيّ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4134 وكل من صوب كل مُجْتَهد، وَأَنه حُكيَ عَن الْحسن الْعَنْبَري، وَقَالَهُ أَكثر الْعلمَاء، وَذكره بعض أَصْحَابنَا رِوَايَة عَن أَحْمد، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَذكره عَن أَكثر الْفُقَهَاء، كَمَا فِي نظر الْمُجْتَهد اتِّفَاقًا. فعلى هَذَا القَوْل يتخيره كالكفارة وَغَيرهَا، لَكِن فرق الْقَائِل بِالْأولِ بِأَنَّهُ لَا تعَارض فِي الْكَفَّارَة، وَلِهَذَا يجوز وُرُود الشَّرْع بِإِيجَاب الْكل، وَلَا يجوز فِي مَسْأَلَتنَا وَيكون عَلامَة التَّخْيِير. وَالْقَوْل بالتخيير هُنَا اخْتَارَهُ أَبُو بكر بن الباقلاني، وَأَبُو عَليّ الجبائي، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4135 وَابْنه أَبُو هَاشم، وَغَيرهم، وَمن هُنَا جَازَ للعامي أَن يستفتي من شَاءَ من الْمُفْتِينَ وَيعْمل بقوله كَمَا تقدم. وَقيل: إِن وَقع التعادل فِي الْوَاجِبَات تخير؛ إِذْ لَا يمْتَنع التَّخْيِير فِيهَا فِي الشَّرْع، كمن ملك مِائَتَيْنِ من الْإِبِل مُخَيّر بَين إِخْرَاج أَربع حقاق أَو خمس بَنَات لبون، وَإِن وَقع بَين حكمين متناقضين كإباحة وَتَحْرِيم، فَحكمه التساقط وَالرُّجُوع إِلَى الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة. وَحَيْثُ قُلْنَا بالتعادل أَو التَّخْيِير فَلَا يعْمل وَلَا يُفْتى إِلَّا بِوَاحِد فِي الْأَصَح. قَالَ الباقلاني: وَلَيْسَ لَهُ تَخْيِير المستفتي والخصوم وَلَا الحكم فِي وَقت بِحكم، وَفِي وَقت بِحكم آخر، بل يلْزم أحد الْقَوْلَيْنِ، وَذكر أَن هَذَا قَول من حَكَاهُ عَنهُ، قَالَ: وَهل يتَعَيَّن أحد الْأَقْوَال بِالشُّرُوعِ فِيهِ كالكفارة أم بالتزامه كالنذر؟ لَهُم فِيهِ قَولَانِ. انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4136 قَالَ بعض أَصْحَابنَا: نَظِير هذَيْن الْقَوْلَيْنِ: الْقَوْلَانِ لِأَصْحَابِنَا فِي جَوَاز انْتِقَال الْإِنْسَان عَنهُ. وَذكر الْآمِدِيّ: أَنه لَا يمْتَنع ذَلِك كَمَا لَو تغير اجْتِهَاده، إِلَّا أَن يكون الْمَحْكُوم عَلَيْهِ وَاحِدًا لتضرره بالحكم لَهُ، كحل النِّكَاح فِي وَقت وتحريمه فِي آخر. ورد: هَذَا القَوْل الْمُقَابل للأصح. وَالْقَوْل الثَّالِث فِي الْمَسْأَلَة قَالَه القَاضِي أَبُو يعلى فِي تعَارض الْبَيِّنَتَيْنِ، وَالشَّيْخ موفق الدّين فِي " الرَّوْضَة " وَغَيرهمَا يتعارضان ويسقطان، فَيجب الرُّجُوع إِلَى غَيرهمَا وَهُوَ الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " ذهب إِلَى هَذَا كثير من الْفُقَهَاء، قَالَ: وَيُؤَيِّدهُ مَا رَجحه أَصْحَابنَا فِي مَسْأَلَة تعَارض الْبَيِّنَتَيْنِ، لَكِن لَا يلْزم مِنْهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4137 مَحْظُور، وَهَذَا يلْزم مِنْهُ تَعْطِيل الْأَحْكَام ". وَالْقَوْل الرَّابِع: الْوَقْف كتعارض الْبَيِّنَتَيْنِ على قَول. وفيهَا قَول خَامِس قَالَه القَاضِي أَيْضا: يكون كعامي يجب تَقْلِيد غَيره. وَذكر أَبُو الْمَعَالِي أَن كلا من المصوبة والمخطئة قَالَ: هَل يُقَلّد عَالما كعامي أَو يقف أَو يتَخَيَّر؟ فِيهِ أَقْوَال. انْتهى. احْتج من منع التعادل فِي الأمارتين فِي نفس الْأَمر مُطلقًا بِأَنَّهُ لَو وَقع، فإمَّا أَن يعْمل بهما وَهُوَ جمع بَين المتنافيين، أَو لَا يعْمل بِوَاحِد مِنْهُمَا فَيكون وضعهما عَبَثا، وَهُوَ محَال على الله تَعَالَى، أَو يعْمل بِأَحَدِهِمَا على التَّعْيِين، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4138 وَهُوَ تَرْجِيح من غير مُرَجّح، أَو لَا على التَّعْيِين بل على التَّخْيِير، والتخيير بَين الْمُبَاح وَغَيره يَقْتَضِي تَرْجِيح أَمارَة الإباجة بِعَينهَا، لِأَنَّهُ لما جَازَ لَهُ الْفِعْل وَالتّرْك كَانَ هَذَا معنى الْإِبَاحَة فَيكون تَرْجِيحا؛ لإحدى الأمارتين بِعَينهَا. وَأجِيب: بِأَن ذَلِك لَا يَقْتَضِي الْإِبَاحَة، بل تَخْيِير للْعَمَل بِإِحْدَى الأمارتين شَاءَ، لَا عمل بِأَيّ الْفِعْلَيْنِ شَاءَ، بِدَلِيل أَنه لَو كَانَت إِحْدَاهمَا تَقْتَضِي تَحْرِيمه لَا يُقَال: هُوَ مُخَيّر بَين فعله مَعَ كَونه حَرَامًا وَبَين غَيره، فَإِذا عمل بِأَحَدِهِمَا وَجب أَن يعْتَقد بطلَان الآخر، بِخِلَاف الْإِبَاحَة فَإِنَّهُ لَا يعْتَقد فِيهَا فَسَاد مَا لم يفعل، وَنَظِيره فِي الشَّرْع التَّخْيِير بَين أَن يُصَلِّي الْمُسَافِر قصرا أَو إتماما، فَإِنَّهُ إِذا جَازَ لَهُ ترك الرَّكْعَتَيْنِ عِنْد اخْتِيَار الْقصر، لَا يُقَال: إِن فعل الرَّكْعَتَيْنِ مُبَاح. قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَفِيه نظر، وَاحْتج من جوز تعادل الأمارتين فِي نفس الْأَمر بِالْقِيَاسِ على جَوَاز تعادلهما فِي الذِّهْن، وَبِأَنَّهُ لَا يلْزم من فَرْضه محَال، وَقد أُجِيب عَن ذَلِك. وَقَالَ ابْن عبد السَّلَام فِي " قَوَاعِده ": لَا يتَصَوَّر فِي الظنون تعَارض كَمَا لَا يتَصَوَّر فِي الْعُلُوم، إِنَّمَا يَقع التَّعَارُض بَين أَسبَاب الظنون، فَإِذا تَعَارَضَت: فَإِن حصل الشَّك لم يحكم بِشَيْء، وَإِن وجد ظن فِي أحد الطَّرفَيْنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4139 حكمنَا بِهِ؛ لِأَن ذهَاب مُقَابِله يدل على ضعفه وَإِن كَانَ كل مِنْهُمَا مُكَذبا للْآخر تساقطا، وَإِن لم يكذب كل وَاحِد مِنْهُمَا صَاحبه عمل بِهِ حسب الْإِمْكَان كدابة عَلَيْهَا راكبان يحكم لَهما بهَا؛ لِأَن كلا من الْيَدَيْنِ لَا تكذب الْأُخْرَى. انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَهُوَ نَفِيس؛ لِأَن الظَّن هُوَ الطّرف الرَّاجِح، وَلَو عورض بِطرف آخر رَاجِح، لزم أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا راجحا مرجوحا، وَهُوَ محَال " انْتهى. قَوْله: {وَالتَّرْجِيح تَقْوِيَة أحد أمارتين على أُخْرَى لدَلِيل، وَمنعه الباقلاني وَجمع كَالشَّهَادَةِ، قَالَ الطوفي: الْتِزَامه فِيهَا مُتَّجه ثمَّ هِيَ آكِد} . لَا يَقع التَّرْجِيح إِلَّا مَعَ وجود التَّعَارُض، فَحَيْثُ انْتَفَى التَّعَارُض انْتَفَى التَّرْجِيح، فالترجيح فرع التَّعَارُض مُرَتّب على وجوده. وَاعْلَم أَنه لَا تعَارض بِالْحَقِيقَةِ فِي حجج الشَّرْع؛ وَلِهَذَا أخر مَا أمكن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4140 قَالَ أَبُو بكر الْخلال من أَئِمَّة أَصْحَابنَا الْمُتَقَدِّمين: لَا يجوز أَن يُوجد فِي الشَّرْع خبران متعارضان لَيْسَ مَعَ أَحدهمَا تَرْجِيح يقدم، فأحد المتعارضين بَاطِل إِمَّا لكذب النَّاقِل، أَو خطأ بِوَجْه مَا من النقليات، أَو خطأ النَّاظر فِي النظريات، أَو لبُطْلَان حكمه بالنسخ. انْتهى. وَقَالَ إِمَام الْأَئِمَّة أَبُو بكر ابْن خُزَيْمَة: لَا أعرف حديثين صَحِيحَيْنِ متضادين، فَمن كَانَ عِنْده شَيْء مِنْهُ فَليَأْتِنِي بِهِ لأؤلف بَينهمَا، وَكَانَ من أحسن النَّاس كلَاما فِي ذَلِك، نَقله الْعِرَاقِيّ فِي " شرح ألفيته فِي الحَدِيث ". وحد التَّرْجِيح: تَقْوِيَة إِحْدَى الأمارتين على الْأُخْرَى بِدَلِيل فَيعلم الْأَقْوَى فَيعْمل بِهِ. قَالَ ابْن مُفْلِح: " هُوَ اقتران الأمارة بِمَا تقوى بِهِ على معارضها ". وَقَالَ بَعضهم: " المُرَاد بِوَصْف فَلَا يرجح نَص وَلَا قِيَاس بِمثلِهِ " انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4141 فالترجيح فعل الْمُرَجح النَّاظر فِي الدَّلِيل، وَهُوَ تقدم إِحْدَى الأمارتين الصالحتين للإفضاء إِلَى معرفَة الحكم لاخْتِصَاص تِلْكَ الأمارة بِقُوَّة فِي الدّلَالَة، كَمَا لَو تعَارض الْكتاب وَالْإِجْمَاع فِي حكم، فَكل مِنْهُمَا طَرِيق يصلح لِأَن يعرف بِهِ الحكم، لَكِن الْإِجْمَاع اخْتصَّ بِقُوَّة على الْكتاب من حَيْثُ الدّلَالَة، وَيَأْتِي حد الرجحان وَالْفرق بَينهمَا قَرِيبا. وَمنع الباقلاني وَجمع كَالشَّهَادَةِ. وَذكر أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ عَن قوم منع التَّرْجِيح مُطلقًا. قَالَ الطوفي: الْتِزَامه فِي الشَّهَادَة مُتَّجه ثمَّ هِيَ آكِد اعْلَم أَن الْعَمَل بالراجح فِيمَا لَهُ مُرَجّح هُوَ قَول جَمَاهِير الْعلمَاء سَوَاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4142 كَانَ الْمُرَجح مَعْلُوما أَو مظنونا، حَتَّى إِن المنكرين للْقِيَاس عمِلُوا بالترجيح فِي ظواهر الْأَخْبَار. وَخَالف القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني فِي جَوَاز الْعَمَل بالمرجح بالمظنون وَقَالَ: إِنَّمَا أقبل التَّرْجِيح بالمقطوع بِهِ كتقديم النَّص على الْقيَاس لَا بالأوصاف، وَلَا الْأَحْوَال، وَلَا كَثْرَة الْأَدِلَّة وَنَحْوهَا، فَلَا يجب الْعَمَل بِهِ فَإِن الأَصْل امْتنَاع الْعَمَل بِالظَّنِّ. خالفناه فِي الظنون المستقلة بأنفسها لإِجْمَاع الصَّحَابَة، فَيبقى التَّرْجِيح على أصُول الِامْتِنَاع؛ لِأَنَّهُ عمل بِظَنّ لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ. ورد قَوْله: بِالْإِجْمَاع على عدم الْفرق بَين المستقل وَغَيره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4143 وَقد رجحت الصَّحَابَة قَول عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - فِي التقاء الختانين " فعلته أَنا وَرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "، على مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا المَاء من المَاء " لكَونهَا أعرف بذلك مِنْهُم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4144 قَالَ الطوفي: وَلَيْسَ قَوْله بِشَيْء؛ لِأَن الْعَمَل بالأرجح مُتَعَيّن عقلا وَشرعا، وَقد عملت الصَّحَابَة بالترجيح مُجْمِعِينَ عَلَيْهِ، وَالتَّرْجِيح دأب الْعقل وَالشَّرْع حَيْثُ احْتَاجَ إِلَيْهِ. وَقَالَ الطوفي أَيْضا: لما قَاس الباقلاني الْمَنْع فِي التَّرْجِيح على الْبَينَات الْتِزَام التَّرْجِيح أَيْضا فِي الْبَينَات مُتَّجه، لِأَن إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ إِذا اخْتصّت بِمَا يُفِيد زِيَادَة ظن صَارَت الْأُخْرَى كالمعدومة، وَلَو سلم فِي الْبَيِّنَة فَالْفرق بَينهمَا: أَن بَاب الشَّهَادَة مشوب بالتعبد بِدَلِيل أَن الشَّاهِد لَو أبدل لفظ الشَّهَادَة بِلَفْظ الْإِخْبَار أَو الْعلم، فَقَالَ: أخبر أَو أعلم مَكَان " أشهد "، لم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4145 يقبل، وَلَا تقبل شَهَادَة جمع من النِّسَاء وَإِن كثرت على يسير من المَال، حَتَّى يكون مَعَهُنَّ رجل، مَعَ أَن شَهَادَة الْجمع الْكثير من النِّسَاء يجوز أَن يحصل بِهِ الْعلم التواتري، وَمَا ذَاك إِلَّا لثُبُوت التَّعَبُّد فَجَاز أَن يكون عدم التَّرْجِيح فِيهَا من ذَلِك بِخِلَاف الْأَدِلَّة؛ إِذْ لَا تعبد فِيهَا. فَهَذَا جَوَاب عَمَّا قَالَه الباقلاني من وَجْهَيْن: الْتِزَام الحكم بالترجيح فِي الْبَينَات وَالْفرق بَينهَا وَبَين الْأَدِلَّة على تَقْدِير التَّسْلِيم. وَلم يذكر مَا قَالَه أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ: أَنه لَا يعْمل بِأَصْل التَّرْجِيح، بل عِنْد التَّعَارُض يلْزم التَّخْيِير أَو الْوَقْف؛ لِأَن أَبَا الْمَعَالِي أنكر وجوده وَلم يره، وَقَالَ غَيره: إِن صَحَّ عَنهُ فَهُوَ مَسْبُوق بِإِجْمَاع الصَّحَابَة وَالْأمة من بعدهمْ فَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ. قَوْله: {وَلَا تَرْجِيح فِي الْمذَاهب الخالية عَن دَلِيل، وَقيل: بلَى، وَفِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: وَلَا بَين علتين إِلَّا أَن تكون كل مِنْهَا طَرِيقا للْحكم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4146 مُنْفَرِدَة، قَالَ الشَّيْخ: يَقع إِن أمكن كَونه طَرِيقا قبل ثُبُوته} . لَا تَرْجِيح فِي الْمذَاهب الخالية عَن دَلِيل، إِنَّمَا التَّرْجِيح فِي الْأَلْفَاظ المسموعة والمعاني المعقولة، على مَا يَأْتِي قَرِيبا تَفْصِيل ذَلِك، لَا فِي الْمذَاهب الخالية عَن دَلِيل. وَهَذِه الْمَسْأَلَة نقلتها من " مُخْتَصر الطوفي ". وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": إِنَّه نقلهَا من جدل ابْن الْمَنِيّ، قَالَ: " وأصل الْمَسْأَلَة أَن القَاضِي عبد الْجَبَّار قَالَ: إِن التَّرْجِيح لَهُ مدْخل فِي الْمذَاهب، بِحَيْثُ يُقَال: مَذْهَب الشَّافِعِي مثلا أرجح من مَذْهَب أبي حنيفَة أَو غَيره أَو بِالْعَكْسِ، وَخَالفهُ غَيره. حجَّة عبد الْجَبَّار: أَن الْمذَاهب آراء واعتقادات مُسندَة إِلَى الْأَدِلَّة، وَهِي تَتَفَاوَت فِي الْقُوَّة والضعف، فَجَاز دُخُول التَّرْجِيح فِيهَا كالأدلة. حجَّة المانعين من وُجُوه: أَحدهَا: أَن الْمذَاهب لتوافر انهراع النَّاس وتعويلهم عَلَيْهَا صَارَت كالشرائع والملل الْمُخْتَلفَة، وَلَا تَرْجِيح فِي الشَّرَائِع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4147 وَهُوَ ضَعِيف؛ لِأَن انهراع النَّاس إِلَيْهَا لَا يُخرجهَا عَن كَونهَا ظنية تقبل التَّرْجِيح، وَلَا نسلم أَنَّهَا تشبه الشَّرَائِع، وَإِن سلمنَا ذَلِك لَكِن لَا نسلم أَن الشَّرَائِع لَا تقبل التَّرْجِيح، بِاعْتِبَار مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من الْمصَالح والمحاسن، وَإِن كَانَ طَرِيق جَمِيعهَا قَاطعا. الْوَجْه الثَّانِي: لَو كَانَ للترجيح مدْخل فِي الْمذَاهب لاضطرب النَّاس، وَلم يسْتَقرّ أحد على مَذْهَب، فَلذَلِك لم يكن للترجيح فِيهِ مدْخل كالبينات. وَهُوَ ضَعِيف - أَيْضا - وَاللَّازِم مِنْهُ مُلْتَزم، وكل من ظهر لَهُ رُجْحَان مَذْهَب، وَجب عَلَيْهِ الدُّخُول فِيهِ، كَمَا يجب على الْمُجْتَهد الْأَخْذ بأرجح الدَّلِيلَيْنِ. الْوَجْه الثَّالِث: أَن كل وَاحِد من الْمذَاهب لَيْسَ متمحضا فِي الْخَطَأ وَلَا فِي الصَّوَاب، بل هُوَ مُصِيب فِي بعض الْمسَائِل، مخطيء فِي بَعْضهَا، وعَلى هَذَا فالمذهبان لَا يقبلان التَّرْجِيح، لإفضاء ذَلِك إِلَى التَّرْجِيح بَين الْخَطَأ وَالصَّوَاب فِي بعض الصُّور أَو بَين خطأين وصوابين، وَالْخَطَأ لَا مدْخل للترجيح فِيهِ اتِّفَاقًا. وَهَذَا الْوَجْه يُشِير فيهإلى أَن النزاع لَفْظِي، وَهُوَ أَن من نفى التَّرْجِيح فَإِنَّمَا أَرَادَ: لَا يَصح تَرْجِيح مَجْمُوع مَذْهَب على مَجْمُوع مَذْهَب آخر لما ذكر، وَمن أثبت التَّرْجِيح بَينهمَا أثْبته بِاعْتِبَار مسائلها الْجُزْئِيَّة وَهُوَ صَحِيح، إِذْ يَصح أَن يُقَال: مَذْهَب مَالك فِي أَن المَاء الْمُسْتَعْمل فِي رفع الْحَدث طهُور، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4148 أرجح من مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد فِي أَنه غير طهُور، وَكَذَا فِي غَيرهَا من الْمسَائِل. فَحِينَئِذٍ يكون النزاع لفظيا؛ إِذْ لَا تنَافِي بَين قَوْلنَا: يجوز التَّرْجِيح فِي الْمذَاهب وَلَا يجوز لاخْتِلَاف مَوْضُوع الحكم بِالْكُلِّ والجزء ". قَالَ الطوفي: وَيحْتَمل أَن يكون مأخذه النزاع فِي التصويب، من زعم أَن كل مُجْتَهد مُصِيب امْتنع التَّرْجِيح فِي الْمذَاهب عِنْده، وَمن زعم أَن لَيْسَ كل مُجْتَهد بمصيب اتجه التَّرْجِيح عِنْده. قَالَ: وَيحْتَمل أَن النزاع مَبْنِيّ على تعادل الأمارات، فَمن يمنعهُ يمْنَع التَّرْجِيح فِي الْمذَاهب، وَمن يُجِيزهُ يُجِيز التَّرْجِيح وَالتَّفْصِيل. ثمَّ قَالَ: وَالصَّحِيح الْمُخْتَار: أَن للترجيح مدخلًا فِي كل الْمذَاهب من حَيْثُ الْإِجْمَال وَالتَّفْصِيل إِذا دلّ عَلَيْهِ الدَّلِيل. قَالَ: ثمَّ إِن التَّرْجِيح فِي الْمذَاهب وَاقع بِالْإِجْمَاع، وَهُوَ دَلِيل الْجَوَاز قطعا، وَذَلِكَ أَن الْمُسلمين اقتسموا الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَغَيرهَا، كمذهب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4149 سُفْيَان وَدَاوُد وَغَيرهمَا، وكل من حسن ظَنّه بِمذهب تعبد بِهِ واتخذه دينا، حَتَّى غلب على مَذْهَب مَالك الْمغرب، وَمذهب أبي حنيفَة الْمشرق، وَالشَّافِعِيّ غَالب الْبِلَاد بَينهمَا، وَأحمد على أهل جيلان وَبَعض الْعرَاق، وكل من الْتزم مذهبا فَإِنَّمَا هُوَ لرجحانه عِنْده بترجيحه بِاجْتِهَادِهِ أَو تَقْلِيد، وَأجْمع الْمُسلمُونَ على عدم الْإِنْكَار على من الْتزم أَي مَذْهَب شَاءَ بذلك التَّرْجِيح، فَكَانَ التَّرْجِيح فِي الْمذَاهب ثَابتا بِالْإِجْمَاع، وَأطَال فِي ذَلِك. قلت: وَهُوَ ظَاهر كَلَام ابْن حمدَان فِي " آدَاب الْمُفْتِي " وَغَيره، وَكَذَلِكَ يُصَرح الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَغَيره بذلك فِي كثير من الْمسَائِل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4150 وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: " لَا يَصح التَّرْجِيح بَين علتين إِلَّا أَن تكون كل مِنْهُمَا طَرِيقا للْحكم مُنْفَرِدَة؛ لِأَنَّهُ لَا يَصح تَرْجِيح طَرِيق على مَا لَيْسَ بطرِيق ". قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: " يَقع إِن أمكن كَونه طَرِيقا قبل ثُبُوته ". قَوْله: {ورجحان الدَّلِيل كَون الظَّن الْمُسْتَفَاد مِنْهُ أقوى} . تقدم تَعْرِيف التَّرْجِيح. [والرجحان: صفة قَائِمَة بِالدَّلِيلِ أَو مُضَافَة إِلَيْهِ وَهِي: كَون الظَّن الْمُسْتَفَاد مِنْهُ أقوى من غَيره، كالمستفاد من قِيَاس الْعلَّة بِالنِّسْبَةِ إِلَى قِيَاس الشّبَه، وَمن الْخَاص بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَام، فالترجيح فعل الْمُرَجح، والرجحان صفة الدَّلِيل. وَيظْهر لَك الْفرق بَينهمَا أَيْضا من جِهَة التصريف اللَّفْظِيّ فَإنَّك تَقول: رجحت الدَّلِيل تَرْجِيحا فَأَنا مرجِّح، وَالدَّلِيل مرجَّح - بِفَتْح الْجِيم - وَتقول: رجح الدَّلِيل رجحانا فَهُوَ رَاجِح، إِلَّا أَنَّك أسندت التَّرْجِيح إِلَى نَفسك إِسْنَاد الْفِعْل إِلَى الْفَاعِل، وأسندت الرجحان إِلَى الدَّلِيل، كَذَلِك كَانَ التَّرْجِيح وصف الْمُسْتَدلّ والرجحان وصف الدَّلِيل] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4151 [وَيجب تَقْدِيم الرَّاجِح إِجْمَاعًا، وَيكون بَين منقولين ومعقولين، ومنقول ومعقول: الأول: فِي السَّنَد، والمتن، ومدلول اللَّفْظ، وَأمر خَارج. السَّنَد: الْأَرْبَعَة، وَالْأَكْثَر: يرجح بِالْأَكْثَرِ رُوَاة كالأكثر أَدِلَّة فِي الْأَصَح. وَابْن برهَان، وَالْمجد: بالأوثق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4152 وَخَالف الْكَرْخِي. وَغَيره كَالشَّهَادَةِ والفتيا. وَعند مَالك، وَقَول لنا: الشَّهَادَة، كالرواية. وَقَالَ أَبُو الْخطاب: لَو رجح بِكَثْرَة الْمُفْتِينَ لجَاز. وَبِزِيَادَة ثِقَة، وفطنة، وورع، وَعلم، وَضبط، ولغة، وَنَحْو. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4153 وباشتهاره بأحدها. أَو أحسن سياقا. وباعتماده على حفظه أَو ذكره. وبعمله بروايته. أَولا يُرْسل إِلَّا عَن عدل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4154 أَو مباشرا. أَو صَاحب الْقِصَّة، خلافًا للجرجاني. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4155 أَو مشافها، أَو أقرب عِنْد سَمَاعه. أَو من أكَابِر الصَّحَابَة على الْأَصَح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4156 فَيقدم الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وأحدهم، وذكرهما الْفَخر، والطوفي فيهم. زَاد الطوفي: فَإِن رجحت رجحت رِوَايَة الأكابر، أَو مُتَقَدم الْإِسْلَام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4157 وَقَالَ القَاضِي، وَالْمجد، والطوفي: سَوَاء. وَابْن عقيل وَالْأَكْثَر: الْمُتَأَخر، وبالأكثر صُحْبَة. زَاد أَبُو الْخطاب: أَو قدمت هجرته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4158 قَالَ الْآمِدِيّ وَابْن حمدَان وَجمع: أَو مَشْهُور النّسَب. زَاد الْآمِدِيّ وَمن تبعه: أَو غير ملتبس بضعيف. وردا. أَو سمع بَالغا. قَالَ ابْن عقيل: وَأهل الْحَرَمَيْنِ. وَقيل: وبالحرية والذكورية. وَالأَصَح: سَوَاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4159 وَقيل: هِيَ فِي أَحْكَام النِّسَاء. وبكثرة مزكين، وأعدليتهم وأوثقيتهم. وَسبق تعديله بقول وَحكم وَعمل. ومسند على مُرْسل عِنْد أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَالْأَكْثَر. زَاد ابْن حمدَان والطوفي: إِلَّا مُرْسل صَحَابِيّ. وَعند الْجِرْجَانِيّ وَأبي الْخطاب: الْمُرْسل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4160 ومرسل تَابِعِيّ على غَيره. وبالأعلى إِسْنَادًا. وَقَالَ القَاضِي: سَوَاء. ومعنعن على إِسْنَاده إِلَى كتاب مُحدث، وعَلى مَشْهُور بِلَا نَكِير. وَالْكتاب على الْمَشْهُور. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4161 والشيخان على غَيرهمَا. وَقيل: السِّتَّة، فَالْبُخَارِي، فَمُسلم، فشرطهما، فَشرط البُخَارِيّ، فَمُسلم، فَمَا صحّح، ومرفوع، ومتصل على مَوْقُوف، ومنقطع، ومتفق على رَفعه أَو وَصله على مُخْتَلف فِيهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4162 وَسبق قِرَاءَة الشَّيْخ وَغَيرهَا. وَرِوَايَة متفقة على مُخْتَلفَة مضطربة. وَقيل: سَوَاء. وَقيل: فِيمَا اتفقَا، وَيسْقط غَيره. وَقيل: يسقطان وَيعْمل بِمَا لم يخْتَلف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4163 وَقدم الْفَخر، والطوفي: مَا ورد بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة متفقة الْمَعْنى. وَمَا سمع مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على كِتَابَة، قَالَه الْجِرْجَانِيّ، وَابْن عقيل، وَالْمجد، والآمدي. وَقَالَ أَحْمد: سَوَاء. فَيحْتَمل فِي الْحجَّة، وَيحْتَمل لَا تَرْجِيح كَالْقَاضِي، وَابْن الْبَنَّا. وَمَا سمع مِنْهُ على مَا سكت عَنهُ مَعَ حُضُوره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4164 وَهُوَ على غيبته، إِلَّا مَا خطر السُّكُوت عَنهُ أعظم. وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على فعله. وثالثتها سَوَاء. وَمَا لَا تعم بِهِ الْبلوى فِي الْآحَاد. وَمَا لم يُنكره الْمَرْوِيّ عَنهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4165 وَمَا أنكرهُ نِسْيَانا على غَيره فِيهِنَّ. الْمَتْن: يرجح نهي على أَمر. وَأمر على مُبِيح. وَعكس الْآمِدِيّ، وَابْن حمدَان، والهندي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4166 فعلى الأول يرجح نهي عَلَيْهِ، وعَلى الثَّانِي: عَكسه. وَالْخَبَر على الثَّلَاثَة. ومتواط على مُشْتَرك. ومشترك قل مَدْلُوله على مَا كثر. قَالَ ابْن عقيل، وَابْن الْبَنَّا: وبظهور أحد الْمَعْنيين اسْتِعْمَالا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4167 وَابْن حمدَان: ومشترك بَين علمين، أَو علم، وَمعنى على مَعْنيين. والبيضاوي: وعلمين على علم وَمعنى. ومجاز، على مجَاز: بشهرة علاقته، وبقوتها، وبقرب جِهَته، وبرجحان دَلِيله، وبشهرة اسْتِعْمَاله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4168 ومجاز على مُشْتَرك فِي الْأَصَح. وَتَخْصِيص على مجَاز. وهما على إِضْمَار. وَفِي " الْمقنع ": هُوَ. وَقيل: هُوَ ومجاز: سَوَاء، جزم بِهِ بعض أَصْحَابنَا. وَالثَّلَاثَة على نقل. وَهُوَ على مُشْتَرك قطع بِهِ فِي " الْمقنع " وَغَيره] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4169 [قَوْله] { [وَحَقِيقَة مُتَّفق عَلَيْهَا، وَالْأَشْهر مِنْهَا وَمن مجَاز على عَكسه] } . [يَعْنِي أَن الْحَقِيقَة الْمُتَّفق عَلَيْهَا تقدم على عكسها، وَهِي الْحَقِيقَة الْمُخْتَلف فِيهَا] . [وَالتَّرْجِيح] فِيهَا وَاضح، وَكَذَا تَرْجِيح الْأَشْهر من الْحَقِيقَة وَالْمجَاز على عَكسه، سَوَاء كَانَت الشُّهْرَة فِي اللُّغَة أَو الشَّرْع أَو الْعرف. قَوْله: {وَسبق مجَاز رَاجِح وَحَقِيقَة مرجوحة} . فِي أَحْكَام الْمجَاز أَو الْكتاب، فَليُرَاجع. قَوْله: {ولغوي مُسْتَعْمل شرعا فِي لغَوِيّ على مَنْقُول شَرْعِي} . يرجح اللَّفْظ اللّغَوِيّ الْمُسْتَعْمل شرعا فِي مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ على الْمَنْقُول الشَّرْعِيّ؛ لِأَن الأَصْل مُوَافقَة الشَّرْع لَا اللُّغَة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4170 قَوْله: {ويرجح مُنْفَرد، وَمَا قل مجازه، أَو تعدّدت جِهَة دلَالَته، أَو تأكدت، أَو كَانَت جِهَة مطابقته} . مَا تقدم فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا لَو اسْتعْمل الشَّارِع لفظا لغويا فِي مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ، فَيقدم على الْمَنْقُول الشَّرْعِيّ. وَهَذِه الْمَسْأَلَة إِذا اسْتعْمل الشَّارِع لفظا لغويا فِي معنى شَرْعِي فَإِنَّهُ يقدم على اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِي اللُّغَة لِمَعْنى، وَهَذَا معنى قَوْلنَا: (ويرجح مُنْفَرد) فَإِن الْمَعْهُود من الشَّارِع إِطْلَاق اللَّفْظ فِي مَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ؛ وَلذَلِك قدم. ويرجح أَيْضا مَا قل مجازه على مَا كثر مجازه؛ لِأَن بِكَثْرَة الْمجَاز يضعف، فَلذَلِك قدم مَا قل مجازه، وَهَذِه الصُّورَة ذكرهَا ابْن مُفْلِح. ويرجح مَا أكد دلَالَته، بِأَن تَتَعَدَّد جِهَات دلَالَته وَيكون أقوى، وَالْآخر تتحد جِهَة دلَالَته، أَو يكون أَضْعَف نَحْو: " نِكَاحهَا بَاطِل بَاطِل ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4171 وكما تقدم دلَالَة الْمُطَابقَة على دلَالَة الِالْتِزَام، قَالَه الْعَضُد. قَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر ": " ويرجح أحد المتعارضين بتأكيد الدّلَالَة، مثل أَن يكون أحد المتعارضين خَاصّا عطف على عَام تنَاوله، والمعارض الآخر خَاص لَيْسَ كَذَلِك، فَإِن الْمَعْطُوف على الْعَام أكد دلَالَته بِدلَالَة الْعَام عَلَيْهِ، مثل قَوْله تَعَالَى: {حَافظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى} [الْبَقَرَة: 238] " انْتهى. قَوْله: {وَفِي اقْتِضَاء ضَرُورَة صدق الْمُتَكَلّم على ضَرُورَة وُقُوعه شرعا أَو عقلا، وعقلا على شرعا، وَفِي إِيمَاء: بِمَا لولاه لَكَانَ فِي الْكَلَام عَبث أَو حَشْو على غَيره} . يرجح فِي الِاقْتِضَاء مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ غير ضَرُورَة الصدْق مثل: " رفع عَن أمتِي الْخَطَأ " على مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ ضَرُورَة وُقُوعه شرعا أَو عقلا، مثل: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4172 أعتق عَبدك عني، أَو صعدت السَّطْح؛ لِأَن مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ صدق الْمُتَكَلّم أولى مِمَّا يتَوَقَّف عَلَيْهِ وُقُوعه الشَّرْعِيّ والعقلي؛ نظرا إِلَى بعد الْكَذِب فِي كَلَام الشَّرْع. قَوْله: {وعقلا على شرعا} . أَي: على وُقُوعه، قَالَه ابْن مُفْلِح وَغَيره. ويرجح فِي الْإِيمَاء مَا لولاه لَكَانَ فِي الْكَلَام عَبث وحشو على غَيره من أَقسَام الْإِيمَاء، مثل أَن يذكر الشَّارِع مَعَ الحكم وَصفا لَو لم يُعلل الحكم بِهِ لَكَانَ ذكره عَبَثا أَو حَشْوًا، فَإِنَّهُ يقدم على الْإِيمَاء بِمَا رتب فِيهِ الحكم بفاء التعقيب؛ لِأَن نفي الْعَبَث والحشو فِي كَلَام الشَّارِع أولى. قَوْله: {وَمَفْهُوم مُوَافقَة على مُخَالفَة وَعكس الْهِنْدِيّ} . مَا دلّ بِمَفْهُوم الْمُوَافقَة مقدم على مَا كَانَ مَفْهُوم الْمُخَالفَة، لِأَن الْمُوَافقَة بِاتِّفَاق فِي دلالتها على الْمَسْكُوت، وَإِن اخْتلف فِي جِهَته هَل هُوَ بِالْمَفْهُومِ أَو بِالْقِيَاسِ، أَو مجَاز بِالْقَرِينَةِ، أَو مَنْقُول عرفي، كَمَا سبق مبرهن عَلَيْهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4173 قَالَ الْآمِدِيّ: وَقد يُمكن تَرْجِيح الْمُخَالفَة لفائدة التأسيس. وَاخْتَارَهُ الْهِنْدِيّ. قَوْله: {واقتضاء على إِشَارَة وإيماء وَمَفْهُوم، قَالَ الْآمِدِيّ: وإيماء على مَفْهُوم، وَقَالَ الشَّيْخ: التَّنْبِيه كنص أَو أقوى} . يقدم الِاقْتِضَاء على الْإِشَارَة، وعَلى الْإِيمَاء، وعَلى الْمَفْهُوم؛ لِأَنَّهُ مَقْصُود بإيراد اللَّفْظ صدقا أَو حصولا، ويتوقف الأَصْل عَلَيْهِ، ومقطوع بِثُبُوتِهِ. قَالَ الْأَصْفَهَانِي: " أما تَرْجِيحه على الْإِشَارَة فَلِأَن الِاقْتِضَاء مَقْصُود بإيراد اللَّفْظ صدقا أَو حصولا ويتوقف الأَصْل عَلَيْهِ، بِخِلَاف الْإِشَارَة فَإِنَّهَا لم تقصد بإيراد اللَّفْظ وَإِن توقف الأَصْل عَلَيْهَا، وَأما تَرْجِيحه على الْإِيمَاء فَلِأَن الْإِيمَاء - وَإِن كَانَ مَقْصُودا بأفراد اللَّفْظ - لكنه لم يتَوَقَّف الأَصْل عَلَيْهِ، وَأما تَرْجِيحه على الْمَفْهُوم؛ فَلِأَن الِاقْتِضَاء مَقْطُوع بِثُبُوتِهِ، وَالْمَفْهُوم مظنون ثُبُوته، وَلذَلِك لم يقل بِالْمَفْهُومِ بعض من قَالَ بالاقتضاء " انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4174 قَالَ الْآمِدِيّ: وَيقدم الْإِيمَاء على الْمَفْهُوم لقلَّة مبطلاته. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عَن تَقْدِيم أبي الْخطاب النَّص على التَّنْبِيه: " لَيْسَ بجيد، لِأَنَّهَا مثله أَو أقوى ". وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَيْضا فِي مَسْأَلَة الْوَقْف - كتب عَلَيْهَا خمس كراريس فِي أَثْنَائِهَا -: " فَإِن نقل نصيب الْمَيِّت إِلَى ذَوي طبقته إِذا لم يكن لَهُ ولد دون سَائِر أهل الْوَقْف، تَنْبِيه على أَنه يَنْقُلهُ إِلَى وَلَده إِن كَانَ لَهُ ولد، والتنبيه دَلِيل أقوى من النَّص حَتَّى فِي شُرُوط الواقفين ". قَوْله: {وَتَخْصِيص عَام على تَأْوِيل خَاص، وخاص وَلَو من وَجه، فَكَذَا مَا قرب مِنْهُ، وعام لم يخصص، أَو قل تَخْصِيصه على عَكسه} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4175 يرجح تَخْصِيص الْعَام على تَأْوِيل الْخَاص؛ لِأَن تَخْصِيص الْعَام كثير وَتَأْويل الْخَاص لَيْسَ بِكَثِير؛ وَلِأَن الدَّلِيل لما دلّ على عدم إِرَادَة الْبَعْض تعين كَون الْبَاقِي مرَادا، وَإِذا دلّ على أَن الظَّاهِر الْخَاص أقوى غير مُرَاد لم يتَعَيَّن هَذَا التَّأْوِيل. ويرجح الْخَاص على الْعَام. وَيرجع الْخَاص من وَجه على الْعَام مُطلقًا؛ لِأَن الْخَاص أقوى دلَالَة من الْعَام، فَكَذَا كل مَا هُوَ أقرب. ويرجح الْعَام الَّذِي لم يخصص على الْعَام الَّذِي خصص؛ لِأَن الْعَام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4176 بعد التَّخْصِيص اخْتلف فِي كَونه حجَّة بِخِلَاف الْعَام الْبَاقِي على عُمُومه قَوْله: {ومقيد وَمُطلق كعام وخاص} . حكم الْمُقَيد وَالْمُطلق حكم الْخَاص وَالْعَام، فَيقدم الْمُقَيد وَلَو من وَجه على الْمُطلق، وَالْمُطلق لم يخرج مِنْهُ مُقَيّد على مَا أخرج مِنْهُ، قَالَه الْعَضُد. قَوْله: {وعام شرطي ك " من " و " مَا " على غَيره، وَرجح الْهِنْدِيّ: النكرَة المنفية، فَظَاهر كَلَام أبي الْمَعَالِي: سَوَاء، ويرجح جمع واسْمه معرفان ب " اللَّام "، و " من " و " مَا " على الْجِنْس بِاللَّامِ، وَقيل يرجح مُنكر على معرف، قَالَ الْبَيْضَاوِيّ: وفصيح لَا أفْصح، وَلم يذكرهُ الْأَكْثَر} . إِذا تَعَارَضَت صِيغ الْعُمُوم فصيغة الشَّرْط بِصَرِيح ك " من " و " مَا " و " أَي " تقدم على صِيغَة النكرَة الْوَاقِعَة فِي صِيغَة النَّفْي وَغَيرهَا، كالجمع الْمحلى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4177 والمضاف وَنَحْوهمَا، لدلَالَة الأول على كَون ذَلِك عِلّة للْحكم، وَهُوَ أدل على الْمَقْصُود مِمَّا لَا عِلّة فِيهِ، إِذْ لَو ألغينا الْعَام الشرطي كَانَ إِلْغَاء لِلْعِلَّةِ، بِخِلَاف الْعَام غير الشرطي لَا يلْزم بِهِ إِلْغَاء الْعلَّة، وَيُؤَيِّدهُ مَا فِي " الْمَحْصُول " من أَن عُمُوم الأول بِالْوَضْعِ وَالثَّانِي بِالْقَرِينَةِ. وَقَالَ الْآمِدِيّ: يُمكن هَذَا، وَيُمكن تَرْجِيح النكرَة المنفية؛ لِأَنَّهُ بعد خُرُوج وَاحِد مِنْهُ خلفا. وَهَذَا اخْتَارَهُ الصفي الْهِنْدِيّ. قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَكَانَ وَجهه أَن طروق التَّخْصِيص إِلَيْهِ بعيد، لبعد أَن يُقَال فِي " لَا رجل فِي الدَّار ": إِن فِيهَا فلَانا. وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان ": لَا فرق بَين الْعُمُوم الشرطي والنكرة المنفية فِي معنى الْعُمُوم، وَأَنه يقطع بِأَن الْعَرَب وضعتهما كَذَلِك) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4178 انْتهى. ويرجح الْجمع، وَاسم الْجمع، الْمُعَرّف بِاللَّامِ، و " من " و " مَا " على اسْم الْجِنْس الْمُعَرّف بِاللَّامِ، لِأَن الْجِنْس الْمحلى بِاللَّامِ اخْتلف الْمُحَقِّقُونَ فِي عُمُومه بِخِلَاف الْجمع واسْمه الْمُعَرّف بِاللَّامِ، و " من " و " مَا "؛ لِأَن الْجمع واسْمه لَا يحْتَمل الْعَهْد، أَو يحْتَملهُ على بعد، بِخِلَاف اسْم الْجِنْس الْمحلى بِاللَّامِ، فَإِنَّهُ مُحْتَمل للْعهد احْتِمَالا قَرِيبا. وَقَالَ الْآمِدِيّ: وَرُبمَا رجح جمع مُنكر على معرف لقُرْبه من الْخُصُوص. انْتهى. قَوْله: {قَالَ الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره وفصيح لَا أفْصح} . مَا كَانَ فصيحا مقدم على مَا لم يستكمل شُرُوط الفصاحة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4179 وَهِي كَمَا ذكر البيانيون: سَلامَة الْمُفْرد من تنافر الْحُرُوف، والغرابة، وَمُخَالفَة الْقيَاس، وَفِي الْمركب سَلَامَته من ضعف التَّأْلِيف وتنافر الْكَلِمَات والتعقيد مَعَ فصاحتها، وَمحله علم الْبَيَان. وَقَالَ بَعضهم: إِذا كَانَ فِي اللَّفْظ الْمَرْوِيّ ركاكة لَا يقبل. وَالْحق أَنه يقبل إِذا صَحَّ السَّنَد، وَيحمل على أَن الرَّاوِي رَوَاهُ بِلَفْظ نَفسه. وَأما مَا كَانَ زَائِد الفصاحة فَلَا يرجح على غَيره، فَإِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ينْطق بالفصيح وبالأفصح، فَلَا فرق بَين ثبوتهما عَنهُ، وَالْكَلَام فِي سوى ذَلِك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4180 لَا سِيمَا إِذا خَاطب من لَا يعرف تِلْكَ اللُّغَة الَّتِي لَيست بأفصح لقصد إفهامهم. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: فيرجح الفصيح لَا الْأَفْصَح. وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (وزائد الفصاحة، قَالَ فِي " شَرحه ": وَلم أقل أفْصح كَمَا قَالَ الْبَيْضَاوِيّ؛ لِأَن الْأَفْصَح يكون فِي كلمة وَاحِدَة لُغَتَانِ أَحدهمَا أفْصح، بِخِلَاف زَائِد الفصاحة فَإِنَّهُ يكون فِي كَلِمَات مِنْهَا الفصيح، والأفصح فِيهَا أَكثر، قَالَ: وَيَنْبَغِي أَن يجْرِي ذَلِك فِي البليغ فَلَا يرجح على الفصيح. والبلاغة كَمَا قَالَ البيانيون: مُطَابقَة الْكَلَام لمقْتَضى الْحَال) . قَالَ ابْن مُفْلِح بعد كَلَام الْبَيْضَاوِيّ: " [مَعْنَاهُ] لبَعض أَصْحَابنَا وَلم يذكرهُ أَكْثَرهم ". وَتقدم حكم الْإِجْمَاع وتقديمه فِي أول تَرْتِيب الْأَدِلَّة فليعاود. قَوْله: {الْمَدْلُول} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4181 معنى مَدْلُول اللَّفْظ، أَي: معنى اللَّفْظ، وَكَذَلِكَ مَفْهُوم اللَّفْظ، أَي: مَعْنَاهُ، لَا الْمَفْهُوم الْمُقَابل للمنطوق، فَاعْلَم ذَلِك وَهُوَ وَاضح، فَالْأول كَقَوْلِهِم: إِذا اتَّحد اللَّفْظ ومدلوله - كَمَا تقدم أول الْكتاب - أَي: مَعْنَاهُ. وَإِذا علم ذَلِك {فَقَالَ أَحْمد، وَأَصْحَابه، والكرخي، والرازي، وَغَيرهم: يرجح حظر على إِبَاحَة، وَابْن حمدَان عكس، وَالْغَزالِيّ وَغَيره: سَوَاء وعَلى كَرَاهَة وَندب، وَوُجُوب وَندب على إِبَاحَة، وَوُجُوب وَكَرَاهَة على ندب} . لما فَرغْنَا من التَّرْجِيح الْعَائِد إِلَى الْمَتْن شرعنا فِي التَّرْجِيح الْعَائِد إِلَى الْمَدْلُول، فيرجح مَا مَدْلُوله الْحَظْر على مَا مَدْلُوله الْإِبَاحَة؛ لِأَن فعل الْحَظْر يسْتَلْزم مفْسدَة بِخِلَاف الْإِبَاحَة، لِأَنَّهُ لَا يتَعَلَّق بِفِعْلِهَا وَلَا تَركهَا مصلحَة وَلَا مفْسدَة، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَعَلِيهِ أَحْمد، وَأَصْحَابه، والكرخي، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4182 والرازي، وَذكره الْآمِدِيّ عَن الْأَكْثَر، وأصحابهم، لِأَنَّهُ أحوط. وَاسْتدلَّ: بِتَحْرِيم متولد بَين مَأْكُول وَغَيره، وَجَارِيَة مُشْتَركَة. رد: لم تحصل جِهَة إِبَاحَة الْمُبِيح، لِأَن الْمُبِيح ملك جَمِيعهَا، وانفراد الْمُبَاح بالمتولد مِنْهُ. وَعكس ابْن حمدَان، وَغَيره، فَقَالَ: ترجح الْإِبَاحَة على الْحَظْر؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4183 لِأَن الْإِبَاحَة تَسْتَلْزِم نفي الْحَرج الَّذِي هُوَ الأَصْل. وَقيل: يستويان، ويسقطان، حَكَاهُ الْهِنْدِيّ عَن أبي هَاشم وَابْن أبان، وَرجحه الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى ". ويرجح الْحَظْر أَيْضا على الْكَرَاهَة لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا اجْتمع الْحَلَال وَالْحرَام إِلَّا غلب الْحَرَام " لِأَنَّهُ أحوط. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4184 ويرجح أَيْضا الْحَظْر على النّدب؛ لِأَن النّدب لتَحْصِيل الْمصلحَة، والحظر لدفع الْمفْسدَة، وَدفع الْمفْسدَة أهم من تَحْصِيل الْمصلحَة فِي نظر الْعُقَلَاء. ويرجح - أَيْضا - على الْوُجُوب، لِأَن دفع الْمفْسدَة أهم، كَمَا تقدم. قَالَ ابْن مُفْلِح: " يقدم على ندب وَوُجُوب؛ لِأَن دفع الْمفْسدَة [أهم] بِدَلِيل ترك مصلحَة لمفسدة مُسَاوِيَة، وَشرع عُقُوبَته أَكثر كرجم زَان مُحصن؛ وَلِأَن إفضاء الْحُرْمَة إِلَى مقصودها أتم لحصوله بِالتّرْكِ قَصده أَولا بِخِلَاف الْوَاجِب ". ويرجح أَيْضا ندب على إِبَاحَة هَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4185 لَكِن الْهِنْدِيّ نَازع فِي ذَلِك، فَقَالَ: " يُمكن أَن يرجح الْإِبَاحَة بِكَوْنِهِ متأيدا بِالْأَصْلِ فِي جَانب الْفِعْل وَالتّرْك، وبكونه أَعم، وأسهل من حَيْثُ كَونه مفوضا إِلَى خيرة الْمُكَلف، وَمن حَيْثُ لَا إِجْمَال فِي الصِّيغَة الدَّالَّة عَلَيْهِ بِخِلَاف النّدب، فَإِنَّهُ يثبت بِصِيغَة الْأَمر، وفيهَا الْإِجْمَال " انْتهى. ويرجح - أَيْضا -: وجوب على ندب للِاحْتِيَاط فِي الْعَمَل بِهِ. ويرجح - أَيْضا -: كَرَاهَة على ندب كَمَا ذكرنَا. قَوْله: {ومثبت على ناف عِنْد أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وأصحابهما، وَغَيرهم، وَفِي " الْكِفَايَة " وَأَبُو الْحُسَيْن: سَوَاء، وَالْمرَاد مَا قَالَه الْفَخر، والطوفي: إِن أسْند النَّفْي إِلَى علم بِالْعدمِ، وَفِي الْخلاف والانتصار والآمدي: النَّفْي، وَقيل: إِن وَافق نفيا أَصْلِيًّا وَكَذَا العلتان} . يرجح الْمُثبت على النَّافِي عِنْد أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4186 وأصحابهما، وَغَيرهم، وَجزم بِهِ القَاضِي فِي " الْعدة "، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، وَأَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، والموفق فِي " الرَّوْضَة "، وَغَيرهم من الْأَصْحَاب، وَغَيرهم. قَالَ الْبرمَاوِيّ: يرجح عِنْد الْفُقَهَاء، كدخوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَيْت، قَالَ بِلَال: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4187 " صلى فِيهِ "، وَقَالَ أُسَامَة: " لم يصل "، وَكَذَا ابْن عَبَّاس، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4188 فَأخذ بقول بِلَال وَسن الصَّلَاة فِي الْبَيْت المشرف. وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى فِي " الْكِفَايَة "، وَأَبُو الْحُسَيْن: هما سَوَاء، فَلَا يرجح أَحدهمَا على الآخر. قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَالْمرَاد مَا قَالَه الْفَخر إِسْمَاعِيل - وَتَبعهُ الطوفي فِي " مُخْتَصره " إِن اسْتندَ النَّفْي إِلَى علم بِالْعدمِ لعلمه بجهات إثْبَاته فَسَوَاء ". قلت: وَيَنْبَغِي أَن يكون هَذَا وَالَّذِي قبله سَوَاء، أَعنِي بِلَا خلاف. وَمعنى استناد النَّفْي إِلَى علم بِالْعدمِ: أَن يَقُول الرَّاوِي: أعلم أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يصل فِي الْبَيْت؛ لِأَنِّي كنت مَعَه فِيهِ، وَلم يغب على نَظَرِي طرفَة عين فِيهِ، وَلم أره صلى فِيهِ، أَو قَالَ: أَخْبرنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه لم يصل فِيهِ، أَو قَالَ: أعلم أَن فلَانا لم يقتل زيدا؛ لِأَنِّي رَأَيْت زيدا حَيا بعد موت فلَان، أَو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4189 بعد الزَّمن الَّذِي أخبر الْجَانِي أَنه قَتله فِيهِ، فَهَذَا يقبل لاستناده إِلَى مدرك علمي، وَيَسْتَوِي هُوَ وَإِثْبَات الْمُثبت فيتعارضان، وَيطْلب الْمُرَجح من خَارج. وَكَذَا حكم كل شَهَادَة نَافِيَة استندت إِلَى علم بِالنَّفْيِ لَا إِلَى [نفي] الْعلم فَإِنَّهَا تعَارض المثبتة، لِأَنَّهَا تساويها، أَو هما فِي الْحَقِيقَة مثبتان؛ لِأَن أَحدهمَا تثبت الْمَشْهُود بِهِ، وَالْأُخْرَى تثبت الْعلم بِعَدَمِهِ. وَكَذَا حكم الشَّهَادَة من غير معَارض تقبل فِي النَّفْي إِذا كَانَ النَّفْي محصورا. فَقَوْلهم: لَا تقبل الشَّهَادَة بِالنَّفْيِ مُرَادهم إِذا لم تكن محصورة، فَإِن كَانَت محصورة قبلت قَالَه الْأَصْحَاب، وَقد ذكر ذَلِك الْأَصْحَاب فِي الشَّهَادَة فِي الْإِعْسَار وَفِي حصر الْإِرْث فِي فلَان. وَقَالَ القَاضِي فِي " الْخلاف "، وَأَبُو الْخطاب فِي " الِانْتِصَار "، فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4190 حَدِيث ابْن مَسْعُود لَيْلَة الْجِنّ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4191 النَّفْي أولى. وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4192 وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ صَاحب " الْإِيضَاح " فِي تَرْجِيح مَا وَافق نفيا أَصْلِيًّا: وَجْهَان، وَكَذَا العلتان. وَقَالَ القَاضِي - أَيْضا - فِي " الْخلاف " عَن نفي صلَاته على شُهَدَاء أحد: الزِّيَادَة مَعَه هُنَا؛ لِأَن الأَصْل غسل الْمَيِّت وَالصَّلَاة عَلَيْهِ، ثمَّ سَوَاء. وَقَالَ عبد الْجَبَّار: يتساويان لتقابل المرجحين. وَقيل: إِن كَانَ فِي طَلَاق وعتاق، قدم النَّافِي وَإِلَّا الْمُثبت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4193 وَقيل: بِالْعَكْسِ. وَقيل: لَا يتعارضان لِامْتِنَاع التَّعَارُض بَين الْفِعْلَيْنِ، لاحْتِمَال وقوعهما فِي حَالين. اسْتدلَّ للْأولِ وَهُوَ الصَّحِيح: بِأَن مَعَ الْمُثبت زِيَادَة علم. قَالُوا: يُؤَخر النَّفْي ليَكُون فَائِدَته التأسيس. رد: فِيهِ رفع حكم الْمُثبت. فَإِن عورض بِمثلِهِ. رد: إِن صَحَّ فَرفع مَا فَائِدَته التَّأْكِيد بِخِلَاف الْعَكْس. فَإِن قيل: بل رفع حكما تأسيسيا وَهُوَ الْبَاقِي على الْحَال الْأَصْلِيّ، وَزِيَادَة تَأْكِيد النَّافِي بِخِلَاف الْعَكْس. رد بِالْمَنْعِ. قَوْله: {وناقل عَن الأَصْل، وَعند الرَّازِيّ والبيضاوي والطوفي الْمُقَرّر} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4194 إِذا تعَارض حكمان أَحدهمَا مُقَرر للْحكم الْأَصْلِيّ، وَالْآخر ناقل عَن حكم الأَصْل. فالناقل مقدم عِنْد الْجُمْهُور؛ لِأَنَّهُ يُفِيد حكما شَرْعِيًّا لَيْسَ مَوْجُودا فِي الآخر، كَحَدِيث: " من مس ذكره فَليَتَوَضَّأ "، مَعَ حَدِيث: " هَل هُوَ إِلَّا بضعَة مِنْك؟ ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4195 والمخالف فِي ذَلِك الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعه: كالبيضاوي، وَغَيره. فَقَالُوا: يتَرَجَّح الْمُقَرّر؛ لِأَن الْحمل على مَا لَا يُسْتَفَاد إِلَّا من الشَّرْع أولى مِمَّا يُسْتَفَاد من الْعقل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4196 وَاخْتَارَهُ الطوفي فِي " شَرحه " فَقَالَ: وَالْأَشْبَه تَقْدِيم الْمُقَرّر لاعتضاده بِدَلِيل الأَصْل، قَالَ: وَهُوَ الْأَشْبَه بقواعده، وقواعد غَيره فِي اعْتِبَار التَّرْجِيح مِمَّا يصلح لَهُ، وَالْيَد صَالِحَة للترجيح انْتهى. قيل: وَالتَّحْقِيق فِي الْمَسْأَلَة تَفْصِيل، وَهُوَ أَنه يرجح الْمُقَرّر فِيمَا إِذا تقرر حكم النَّاقِل مُدَّة فِي الشَّرْع عِنْد الْمُجْتَهد، وَعمل بِمُوجبِه، ثمَّ نقل لَهُ الْمُقَرّر وَجَهل التَّارِيخ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ عمل بالخبرين النَّاقِل فِي زمَان والمقرر بعد ذَلِك، فَأَما إِن كَانَ الثَّابِت بِمُقْتَضى الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة، وَنقل الخبران، فَإِنَّهُمَا يتعارضان هُنَا، وَيرجع إِلَى الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة. بل عبد الْجَبَّار يَقُول: إِن تَقْدِيم النَّاقِل أَو الْمُقَرّر على الِاخْتِلَاف لَيْسَ من بَاب التَّرْجِيح بل من بَاب النّسخ. وَهُوَ ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ لَا يتَوَقَّف رَفعه على مَا يرفع بِهِ الحكم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4197 الشَّرْعِيّ. قَوْله: {وداريء حد، وَفِي " الْكِفَايَة " و " الْوَاضِح "، وَابْن الْبناء وَقَالَ: هُوَ الْمَذْهَب: الْمُثبت، وَفِي " الْعدة ": سَوَاء كالغزالي، والموفق} . الصَّحِيح أَن داريء الْحَد مقدم على مثبته. قَالَ الشريف أَبُو جَعْفَر، والحلواني من أَصْحَابنَا يقدم نافي الْحَد على مثبته، وَرجحه أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَغَيره، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4198 لِأَن الْحُدُود تدرأ بِالشُّبُهَاتِ، رُوِيَ عَن الصَّحَابَة، وَفِيه أَخْبَار ضَعِيفَة، ولقلة مبطلات نَفْيه، وكتعارض بينتين، وَلِأَن إثْبَاته خلاف دَلِيل نَفْيه. قَالَ الْآمِدِيّ: وَلِأَن الْخَطَأ فِي نفي الْعقُوبَة أولى من الْخَطَأ فِي تحقيقها، على مَا قَالَه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " لِأَن تخطيء فِي الْعَفو خير من أَن تخطيء فِي الْعقُوبَة ". وَاخْتَارَ القَاضِي أَبُو يعلى فِي " الْعدة "، وَالْقَاضِي عبد الْجَبَّار، والموفق، وَالْغَزالِيّ: أَنَّهُمَا سَوَاء. لِأَن الشُّبْهَة لَا تُؤثر فِي ثُبُوت مشروعيته بِدَلِيل أَنه يثبت بِخَبَر الْوَاحِد، وَالْقِيَاس مَعَ قيام الِاحْتِمَال، فالحد إِنَّمَا يُؤثر فِي إِسْقَاطه لشبهته، وَإِذا كَانَت فِي نفس الْفِعْل أَو بالاختلاف فِي حكمه، كَأَن يبيحه قوم ويحرمه آخَرُونَ كَالْوَطْءِ فِي نِكَاح بِلَا ولي أَو بِلَا شُهُود. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4199 وَلَيْسَ الْخلاف لفظيا كَمَا قد يتَوَهَّم من أَن قَول التَّسَاوِي يؤول إِلَى تَقْدِيم النَّافِي، فَإِنَّهُمَا يتعارضان فيتساقطان، وَيرجع إِلَى غَيرهمَا، فَإِن كَانَ هُنَاكَ دَلِيل شَرْعِي حكم بِهِ، وَإِلَّا نفي الآخر على الأَصْل، فَيلْزم نفي الْحَد، بل الْخلاف معنوي على الصَّوَاب، فَإِن الأول يَنْفِي الْحَد بالحكم الشَّرْعِيّ، وَالْآخر يَقُول بِالنَّفْيِ استصحابا للْأَصْل. وَقدم القَاضِي فِي " الْكِفَايَة " الْمُثبت، وَقَالَهُ: ابْن الْبَنَّا، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، لتقديم أَحْمد خبر عبَادَة فِي " الْجلد وَالرَّجم " لإثباته بِخَبَر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4200 وَاحِد وَقِيَاس، لِأَن الْمُوجب للحد يُوَافق التأسيس، وموافقة التأسيس أولى من مُوَافقَة النَّفْي الْأَصْلِيّ، لِأَن التأسيس يُفِيد فَائِدَة زَائِدَة. رد: لَا شُبْهَة فيهمَا. قَالَ الطوفي: قلت: " فَهُوَ من بَاب تعَارض النَّاقِل والمقرر ". وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: " مَوْضُوع هَذِه الْمَسْأَلَة أَن يكون الْإِثْبَات وَالنَّفْي شرعيين، فَأَما إِن كَانَ النَّفْي بِاعْتِبَار الأَصْل فَهُوَ مَسْأَلَة النَّاقِل والمقرر السَّابِقَة ". انْتهى. قَوْله: {وَمُوجب عتق وَطَلَاق، وَقيل نافيهما، وَظَاهر " الرَّوْضَة ": سَوَاء كَعبد الْجَبَّار} . أَدخل جمَاعَة هَذِه الصُّورَة فِي جملَة صور الْمُقَرّر والناقل، وَحكي الْخلاف فِي الْجَمِيع، وحكوا قولا بِالْفرقِ بَين الْعتْق وَالطَّلَاق وَغَيرهمَا، وأفردهما جمَاعَة، وَلَا شكّ أَنَّهُمَا من جمل النَّفْي وَالْإِثْبَات. إِذا علم ذَلِك فرجح أَبُو الْخطاب تَقْدِيم مُوجب الْعتْق، وَذكره قَول غير عبد الْجَبَّار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4201 وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة أَو الْكَرْخِي مِنْهُم، وَهُوَ ظَاهر مَا قدمه ابْن الْحَاجِب لقلَّة سَبَب مُبْطل الْحُرِّيَّة وَلَا تبطل بعد ثُبُوتهَا، ولموافقة النَّفْي الْأَصْلِيّ رفع العقد. وَظَاهر " الرَّوْضَة ": سَوَاء، كَعبد الْجَبَّار، لِأَنَّهُمَا حكمان. قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَيتَوَجَّهُ احْتِمَال تقدم النَّفْي - كَقَوْل بَعضهم - الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4202 لموافقة دَلِيل بَقَاء الصِّحَّة، وَمثله الطَّلَاق " انْتهى. ويحتمله كَلَام الطوفي فِي " مُخْتَصره ". قَوْله: {وَفِي تكليفي على وضعي، ثالثهما سَوَاء فِي ظَاهر كَلَامهم} . قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَلم يذكر أَصْحَابنَا تَرْجِيح حكم تكليفي على وضعي، فَظَاهره: سَوَاء " انْتهى. لِأَنَّهُ مَقْصُود بِالذَّاتِ، وَأكْثر فِي الْأَحْكَام، فَكَانَ أولى، وَهُوَ الَّذِي قدمه ابْن الْحَاجِب. وَقد ذكر الْمَسْأَلَة غير الْأَصْحَاب وَذكروا فِيهَا خلافًا، وَالصَّحِيح عِنْدهم تَقْدِيم الحكم التكليفي كالاقتضاء وَنَحْوه على الوضعي، كالصحة وَنَحْوهَا، لِأَنَّهُ مُحَصل للثَّواب. وَقيل: بل يقدم الوضعي؛ لِأَنَّهُ لَا يتَوَقَّف على فهم الْمُكَلف للخطاب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4203 وَلَا يُمكنهُ من الْفِعْل، بِخِلَاف التكليفي فَإِنَّهُ يتَوَقَّف على ذَلِك، وَهَذَا الَّذِي قدمه الْبرمَاوِيّ. قَوْله: {وأخف على أثقل، وَعكس القَاضِي، وَظَاهر " الرَّوْضَة ": سَوَاء} . قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَيتَوَجَّهُ فِي تَقْدِيم الأخف وَعَكسه احْتِمَالَانِ، وَذكر الْآمِدِيّ قَوْلَيْنِ؛ لِأَن الشَّرِيعَة سَمْحَة، وَثقله لتأكيد الْمَقْصُود مِنْهُ. وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة ": وَرجح قوم الْعلَّة لخفة حكمهَا. وَعكس آخَرُونَ وَهِي ترجيحات ضَعِيفَة، فَظَاهره التَّسْوِيَة) . وَالصَّحِيح أَن التكليفي الأخف يرجح على الأثقل، لقَوْله تَعَالَى: {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر} [الْبَقَرَة: 185] ، وَلقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا ضَرَر وَلَا ضرار فِي الْإِسْلَام ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4204 وَقيل: يقدم الأثقل، لِأَنَّهُ أَكثر ثَوابًا، وَهُوَ الَّذِي نقلته عَن القَاضِي، وَلم أعلم الْآن من أَيْن نقلته، ثمَّ رَأَيْتنِي فِي " المسودة " الَّذِي يظْهر لي أَنِّي أخذت اخْتِيَار القَاضِي من كَلَام الطوفي فِي " مُخْتَصره " من قَوْله: " وَمَا اشْتَمَل على وَعِيد على غَيره احْتِيَاطًا عِنْد القَاضِي ". فَإِنَّهُ ذكر فِي " الشَّرْح ": " إِذا تعَارض الحاظر والمبيح أَو مَا تضمن وعيدا أَو غَيره احْتمل الْخلاف، قَالَ: وَهُوَ شَبيه أَيْضا بِمَا سبق فِيمَا إِذا تَعَارَضَت فتيا مجتهدين عِنْد الْمُقَلّد هَل يَأْخُذ بالأخف أَو الأثقل؟ نظر إِلَى الدَّلِيل المتعارض هُنَاكَ، وَإِلَى الِاحْتِيَاط تَارَة، وَإِلَى عُمُوم التَّخْفِيف فِي الشَّرِيعَة أُخْرَى " انْتهى. وَتقدم مَرَاتِب المفاهيم والمقدم مِنْهَا فِي آخر فَصله. قَوْله: {الْخَارِج يرجح مَا وَافق دَلِيلا آخر، فَيقدم الْخَبَر على الأقيسة، وَقيل: لَا، إِن تعدد أَصْلهَا وَإِلَّا فمتحدة، فَإِن تعَارض قُرْآن وَسنة وَأمكن بِنَاء كل مِنْهُمَا على الآخر كخنزير المَاء، قدم ظَاهر سنة فِي ظَاهر كَلَامه، وَيحْتَمل عَكسه، وَبنى القَاضِي عَلَيْهَا خبرين مَعَ أَحدهمَا ظَاهر قُرْآن وَالْآخر ظَاهر سنة، وَذكر الْفَخر فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، وَكَذَا ابْن عقيل وَبنى الأولى عَلَيْهَا} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4205 لما فَرغْنَا من التَّرْجِيح الْعَائِد إِلَى الْمَدْلُول، شرعنا فِي التَّرْجِيح الْعَائِد إِلَى أَمر خَارج، وَهُوَ تَرْجِيح بِأُمُور لَا يتَوَقَّف عَلَيْهَا الدَّلِيل لَا فِي وجوده وَلَا فِي صِحَّته ودلالته، لَكِن يتَرَجَّح الدَّلِيل الْمُوَافق لدَلِيل آخر على الدَّلِيل الَّذِي لَا يُوَافقهُ دَلِيل آخر؛ لِأَن الظَّن الْحَاصِل من الدَّلِيلَيْنِ أقوى من الظَّن الْحَاصِل من دَلِيل وَاحِد، وَسَوَاء كَانَ مُوَافق لدَلِيل آخر من كتاب أَو سنة أَو إِجْمَاع أَو قِيَاس؛ لِأَن تَقْدِيم مَا لم يُوَافق ترك لشيئين الدَّلِيل وَمَا عضده، وَتَقْدِيم الْمُوَافق ترك لدَلِيل وَاحِد، وَلِهَذَا قدمنَا حَدِيث عَائِشَة: " فِي صَلَاة الْفجْر بِغَلَس " على حَدِيث [رَافع] " فِي الْإِسْفَار " لموافقته قَوْله: (حَافظُوا على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4206 5 - الصَّلَوَات} [الْبَقَرَة: 238] لِأَن من الْمُحَافظَة الْإِتْيَان بالمحافظة عَلَيْهِ الْمُؤَقت أول وقته. إِذا علم ذَلِك فَقَالَ ابْن مُفْلِح بعد ذَلِك: (ثمَّ قيل: يقدم الْخَبَر على الأقيسة، وَقيل: بِالْمَنْعِ إِن تعدد أَصْلهَا وَإِلَّا فمتحدة. قَالَ: وتعارض قُرْآن وَسنة وَأمكن بِنَاء كل مِنْهُمَا على الآخر - كخنزير المَاء - فَقَالَ القَاضِي: ظَاهر كَلَام أَحْمد يقدم ظَاهر السّنة لقَوْله: " السّنة تفسر الْقُرْآن وتبينه "، قَالَ: وَيحْتَمل عَكسه للْقطع بِهِ. وَذكر أَبُو الطّيب للشَّافِعِيَّة وَجْهَيْن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4207 وَبنى القَاضِي عَلَيْهَا خبرين مَعَ أَحدهمَا ظَاهر قُرْآن وَالْآخر ظَاهر سنة، ثمَّ ذكر نَص أَحْمد تَقْدِيم الْخَبَرَيْنِ. وَذكر الْفَخر إِسْمَاعِيل أَيهمَا يقدم، على رِوَايَتَيْنِ، وَكَذَا ابْن عقيل، وَبنى الأولى عَلَيْهَا) . وتحرير ذَلِك إِذا كَانَ أحد الدَّلِيلَيْنِ سنة وَالْآخر كتابا، فَإِن أمكن الْعَمَل بهما عمل، وَإِلَّا قيل: يقدم الْكتاب فَإِنَّهُ أرجح، وَقيل: تقدم السّنة لِأَنَّهَا بَيَان لَهُ، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد كَمَا تقدم. مِثَاله قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْبَحْر: " الْحل ميتَته "، فَإِنَّهُ عَام فِي ميتَة الْبَحْر حَتَّى خنزيره مَعَ قَوْله تَعَالَى: {قل لَا أجد فِي مَا أُوحِي إِلَيّ محرما على طاعم يطعمهُ إِلَّا أَن يكون ميتَة أَو دَمًا مسفوحا أَو لحم خِنْزِير} [الْأَنْعَام: 145] ، يتَنَاوَل خِنْزِير الْبَحْر، فتعارض عُمُوم الْكتاب وَالسّنة فِي خِنْزِير الْبَحْر، فَقدم بَعضهم الْكتاب فحرمه، وَقَالَهُ من أَصْحَابنَا أَبُو عَليّ النجاد. وَبَعْضهمْ السّنة فأحله، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد وَعَلِيهِ جَمَاهِير أَصْحَابه فِي حلّه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4208 قَوْله: {وبعمل أهل الْمَدِينَة عِنْد أَحْمد، وَالشَّافِعِيَّة، وَأبي الْخطاب، وَخَالف القَاضِي، وَابْن عقيل، وَالْفَخْر، وَالْمجد، والطوفي، وَرجح الْحَنَفِيَّة بِعَمَل أهل الْكُوفَة إِلَى زمن أبي حنيفَة قبل ظُهُور الْبدع، والجرجاني، وَأَبُو الْخطاب بِمَا أَقَامَ بِهِ الصَّحَابَة إِلَى ظُهُور الْبدع} . يرجح بِمَا وَافق عمل أهل الْمَدِينَة وَإِن لم يكن حجَّة، لكنه يقوى بِهِ. وَقد رجح أَحْمد " نِكَاح الْمحرم بعملهم "، وَقَوله: " مَا رَوَوْهُ ثمَّ عمِلُوا بِهِ أصح مَا يكون ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4209 وَاخْتَارَهُ فِي " التَّمْهِيد "، كالشافعية لأَنهم أعرف، وَالظَّاهِر بقاؤهم على مَا أَسْلمُوا عَلَيْهِ وَأَنه نَاسخ لمَوْته بَينهم. وَذكر القَاضِي، وَابْن عقيل، وَأَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ، والطوفي: لَا يرجح بذلك كَغَيْرِهِ. رد: بِالْفرقِ. وَرجح الْحَنَفِيَّة بِعَمَل الْكُوفَة إِلَى زمن أبي حنيفَة قبل ظُهُور الْبدع. وَفِي " التَّمْهِيد ": مَا أَقَامَ بِهِ الصَّحَابَة أَخذ بِهِ إِلَى أَن ظَهرت الْبدع، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4210 وَهُوَ مَا كَانَ [زمن] الْخُلَفَاء نَحْو الْبَصْرَة والكوفة، قَالَ: وَقَالَهُ الْجِرْجَانِيّ. قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": " إِذا تعَارض نصان وَقد قَالَ أهل الْمَدِينَة بِأَحَدِهِمَا، فَلَا يكون ذَلِك تَرْجِيحا لَهُ، خلافًا لبَعض الشَّافِعِيَّة فِي قَوْلهم: يرجح بِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يرجح بقول أهل الْكُوفَة خلافًا لبَعض الْحَنَفِيَّة. حجَّة الأول: أَن الْأَمَاكِن لَا تَأْثِير لَهَا فِي زِيَادَة الظنون، فَلَا فرق بَين قَول أهل الْمَدِينَة والكوفة وَغَيرهَا فِي عدم التَّرْجِيح بِهِ. حجَّة الثَّانِي: أَن إطباق الجم الْغَفِير على الْعَمَل على وفْق أحد الْخَبَرَيْنِ يفِيدهُ تَقْوِيَة وَزِيَادَة ظن فيرجح بِهِ، كموافقة خبر آخر، وَلِأَن اتِّفَاق أهل البلدين الْمَذْكُورين قد اخْتلف فِي كَونه إِجْمَاعًا، فَإِن كَانَ فَهُوَ مُرَجّح لَا محَالة، وَإِن لم يكن إِجْمَاعًا فأدنى أَحْوَاله أَن يكون مرجحا، كَالظَّاهِرِ، وَالْقِيَاس، وَخبر الْوَاحِد. قلت: هَذَا هُوَ الظَّاهِر. وَقَوْلهمْ: لَا تَأْثِير للأماكن فِي زِيَادَة الظنون. قُلْنَا: نَحن لَا نرجح بالأماكن، بل بأقوال الجم الْغَفِير من عُلَمَاء أَهلهَا، وَهُوَ مُفِيد لزِيَادَة الظَّن بِلَا شكّ " انْتهى. قَوْله: {وبعمل الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه، وَقيل: بِأبي بكر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4211 وَعمر، وَقيل: وبأحدهما، وَعنهُ: وَالصَّحَابَة، وَقيل: إِن ميزه النَّص، وَعنهُ: لَا مُطلقًا، وَقَالَ الْآمِدِيّ وَابْن حمدَان: أَو بعض [الْأمة] ، أَو أعلم، أَو أَكثر، فِي الْأَصَح} . إِذا تعَارض نصان وَعمل بِأَحَدِهِمَا الْخُلَفَاء الراشدون، فَهَل يكون عَمَلهم بِهِ مرجحا لَهُ على النَّص الآخر؟ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَن عَمَلهم بِهِ مُرَجّح لَهُ على الآخر، وَهُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَحْمد وَأَصْحَابه، [وَغَيرهم] . لوُرُود النَّص باتبَاعهمْ، حَيْثُ قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدِي، عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ ". وَلِأَن الظَّاهِر أَنهم لم يتْركُوا النَّص الآخر إِلَّا لحجة عِنْدهم، فَلذَلِك قدم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4212 قَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل: نَص عَلَيْهِ أَحْمد فِي مَوَاضِع. وَقيل: يرجح أَيْضا بقول أبي بكر وَعمر لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اقتدوا باللذين من بعدِي أبي بكر وَعمر ". قَالَ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ: إِذا بلغك اخْتِلَاف عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَوجدت فِي ذَلِك أَبَا بكر وَعمر، فَشد يدك فَإِنَّهُ الْحق وَهُوَ السّنة. انْتهى. وَقيل: وبأحدهما. قلت: وَهُوَ قوي. زَاد جمع إِلَّا أَن يُعَارضهُ قَول زيد فِي الْفَرَائِض، أَو معَاذ فِي الْحَلَال وَالْحرَام. قلت: أَو عَليّ فِي الْقَضَاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4213 وَنقل الْمَرْوذِيّ أَو الصَّحَابَة. وَالْمرَاد وَالله أعلم: أَو أحد من الصَّحَابَة وَهُوَ الظَّاهِر. وَقدمه الْبرمَاوِيّ وَغَيره، فيرجح مَا وَافق قَول الصَّحَابِيّ بِقُوَّة الظَّن فِي الْمُوَافق. وَيَأْتِي هَذَا بعد الْمَدْلُول وَأمر خَارج، وَالأَصَح لَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحجَّة. وَقيل: يرجح بقول الصَّحَابِيّ إِن كَانَ حَيْثُ ميزه النَّص، أَي: فِيمَا ميزه فِيهِ من أَبْوَاب الْفِقْه كزيد فِي الْفَرَائِض ميز فِيهَا بِحَدِيث: " أفرضكم زيد "، ومعاذ فِي الْحَلَال وَالْحرَام، وَعلي فِي الْقَضَاء. فَإِذا وجد نصان أَحدهمَا أَعم أَخذ بالأخص، وَالنَّص على أَن زيدا أفرض أخص من النَّص على أَن معَاذًا أعلم بالحلال وَالْحرَام، فيرجح قَول زيد فِي الْفَرَائِض على قَول معَاذ، وَقَول معَاذ فِي الْحَرَام والحلال على قَول عَليّ، ويرجح قَول عَليّ فِي الْقَضَاء على قَول غَيره. لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الحَدِيث: " أفرضكم زيد، وَأعْلمكُمْ بالحلال وَالْحرَام معَاذ، وأقضاكم عَليّ ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4214 فالقضاء أَعم من الْكل، لِأَنَّهُ يعم الْفَرَائِض والحلال وَالْحرَام وَغَيرهمَا، فالشهادة لزيد أخص من الْجَمِيع، وَبعده معَاذ، وبعدهما عَليّ، فَهِيَ ثَلَاث مَرَاتِب فَيقدم زيد فِي الْفَرَائِض، ومعاذ فِي الْحَلَال وَالْحرَام، وَعلي فِي غَيرهمَا، عملا بالأخص فالأخص. وَذكر الْفَخر إِسْمَاعِيل رِوَايَة عَن أَحْمد: أَنه لَا يرجح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4215 وَقَالَ الْآمِدِيّ: وَتَبعهُ ابْن حمدَان: أَو بعض الْأمة. يَعْنِي: إِذا عمل بعض الْأمة على وفْق أحد النصين يرجح بذلك. ويرجح بِعَمَل الأعلم قطع بِهِ الْأَكْثَر؛ لِأَن لَهُ مزية لكَونه أحفظ لمواقع الْخلَل وَأعرف بدقائق الْأَدِلَّة. ويرجح - أَيْضا -: بِمَا وَافق عمل الْأَكْثَر؛ لَكِن بِشَرْط أَن لَا يكون الْمعَارض لَهُ يخفى مثله عَلَيْهِم. وَإِنَّمَا قدم الْمُوَافق للْأَكْثَر، لِأَن الْأَكْثَر موفق للصَّوَاب مَا لَا يوفق لَهُ الْأَقَل، هَذَا قَول الْأَكْثَرين. وَمنع جمع كالغزالي التَّرْجِيح بذلك. قَالَ: لعدم الحجية فِي قَول الْأَكْثَر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4216 وَلَو سَاغَ التَّرْجِيح بقول بعض الْمُجْتَهدين لانسد بَاب الِاجْتِهَاد على الْبَعْض الآخر. قيل: وَالتَّحْقِيق أَن مُقَابل قَول الْأَكْثَر إِن كَانَ قَول شذوذ فيرجح بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا إِجْمَاع على رَأْي، وَإِمَّا حجَّة على رَأْي آخر، وَإِمَّا مقو وعاضد، على رَأْي من قَالَ لَيْسَ بِحجَّة، وَإِن لم يكن مقابلهم شذوذ فَلَا تَرْجِيح بِهِ، لاحْتِمَال أَن الصَّوَاب مَعَ [الْأَقَل] . قَوْله: {وَإِن كَانَا مؤولين وَدَلِيل أَحدهمَا أرجح: قدم} . يرجح أحد التَّأْويلَيْنِ على الآخر برجحان دَلِيله على دَلِيل التَّأْوِيل الآخر؛ لِأَن لَهُ مزية بذلك. قَوْله: {وَيقدم مَا علل، أَو رجحت علته، وعام ورد على سَبَب خَاص فِي السَّبَب، وَالْعَام عَلَيْهِ فِي غَيره، وَمثله الْخطاب شفاها مَعَ الْعَام، وَمَا لم يقبل نسخا أَو أقرب إِلَى الِاحْتِيَاط، وَلَا يسْتَلْزم نقض صَحَابِيّ خبر كقهقهة فِي صَلَاة، قَالَ ابْن عقيل وَابْن الْبَنَّا: أَو إِصَابَته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ظَاهرا وَبَاطنا، كامتناعه من الصَّلَاة، حَتَّى قَالَ عَليّ: " هما عليّ "، وَأَنه ابْتِدَاء ضَمَان، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4217 وَقَالَ القَاضِي وَابْن عقيل وَجمع: وعام عمل بِهِ، وَعكس الْآمِدِيّ، وَالْعَام بِأَنَّهُ أمس بِالْمَقْصُودِ، وَمَا فسره راو بِفِعْلِهِ أَو قَوْله وَذكر سَببه، أَو أحسن سياقا، وبقرائن تَأَخره كتأخير إِسْلَام أَو تَارِيخ مضيق، أَو تشديده} . يرجح أحد الْحكمَيْنِ بالتعرض لعلته على الحكم الَّذِي لم يتَعَرَّض لعلته؛ لِأَن الحكم الَّذِي تعرض لعلته أفْضى إِلَى تَحْصِيل مَقْصُود الشَّارِع، لِأَن النَّفس لَهُ أقبل بِسَبَب تعقل الْمَعْنى. وَكَذَا إِذا علل الْحكمَيْنِ لَكِن عِلّة أَحدهمَا أرجح فيرجح بذلك. ويرجح الْعَام الْوَارِد على سَبَب خَاص على الْعَام الْمُطلق فِي حكم ذَلِك السَّبَب؛ لِأَن الْعَام الْوَارِد على السَّبَب الْخَاص كالخاص بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِك السَّبَب، وَالْخَاص يقدم على الْعَام لقُوَّة دلَالَته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4218 ويرجح الْعَام الْمُطلق على الْعَام الْوَارِد على سَبَب خَاص فِي حكم غير السَّبَب؛ لِأَنَّهُ اخْتلف فِي عُمُوم الْعَام الْوَارِد على السَّبَب، وَلم يخْتَلف فِي عُمُوم الْعَام الْمُطلق. وَمثله الْخطاب شفاها إِذا عَارض عَاما لم يكن بطرِيق المشافهة، رجح الْخطاب بالمشافهة فِيمَن خُوطِبَ شفاها. قَالَ الْعَضُد: " إِذا ورد عَام هُوَ خطاب شفَاه لبَعض من تنَاوله، وعام آخر لَيْسَ كَذَلِك فَهُوَ كالعامين ورد أَحدهمَا على سَبَب دون الآخر، فَيقدم عَام المشافهة فِيمَن شوفهوا بِهِ، وَفِي غَيرهم الآخر، وَوَجهه ظَاهر " انْتهى. ويرجح مَا لم يقبل نسخا على مَا يقبله، لِأَنَّهُ أقوى. ويرجح - أَيْضا - مَا كَانَ أقرب إِلَى الِاحْتِيَاط على غَيره. ذكرهمَا ابْن مُفْلِح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4219 ويرجح - أَيْضا - مَا لَا يسْتَلْزم نقض صَحَابِيّ خَبرا: كقهقهة فِي صَلَاة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4220 قَالَ ابْن عقيل، وَابْن الْبَنَّا، وَغَيرهمَا: (يقدم مَا لَا يُوجب تخطئه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن على مَا يتَضَمَّن إِصَابَته فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن، على مَا يتَضَمَّن إِصَابَته فِي الظَّاهِر فَقَط. فَالْأول مقدم ومرجح، لِأَنَّهُ بعيد عَن الْخَطَأ وَهُوَ اللَّائِق بِهِ وبحاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، كَمَا ورد فِي ضَمَان عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - دين الْمَيِّت، وَقَول عَليّ: " هما عَليّ "، وَأَنه ابْتِدَاء ضَمَان، وَأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " امْتنع من الصَّلَاة "، وَكَانَ وَقت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4221 الِامْتِنَاع مصيبا فِي امْتِنَاعه، وَكَانَ مقدما على حمله على الْإِخْبَار عَن ضَمَان سَابق يكْشف عَن أَنه كَانَ امْتنع من الصَّلَاة فِي غير مَوْضِعه بَاطِنا) هَذَا لفظ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ". وَقَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل، وَجمع: وعام عمل بِهِ. وَعكس الْآمِدِيّ. وَمَعْنَاهُ: إِذا تعَارض عَام لم يعْمل بِهِ فِي صُورَة من الصُّور، وعام عمل بِهِ وَلَو فِي صُورَة، فَقَالَ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب وَغَيرهمَا: قدم مَا لم يعْمل بِهِ ليعْمَل بِهِ فَيكون قد عمل بهما، وَلَو اعْتبر مَا عمل بِهِ لزم إِلْغَاء الْآخِرَة بالمرة، وَالْجمع وَلَو بِوَجْه أولى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4222 وَقَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل، وَجمع: يرجح الْعَام الَّذِي عمل بِهِ؛ لِأَنَّهُ شَاهد لَهُ بِالِاعْتِبَارِ لقُوته بِالْعَمَلِ. وَإِذا تعَارض عامان أَحدهمَا أمس بِالْمَقْصُودِ وَأقرب إِلَيْهِ قدم على الآخر، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ} [النِّسَاء: 23] ، يقدم فِي مَسْأَلَة الْجمع بَينهمَا فِي وَطْء النِّكَاح على قَوْله تَعَالَى: {أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم} [النِّسَاء: 3] ، فَإِنَّهُ أمس بِمَسْأَلَة الْجمع؛ لِأَن الْمَسْأَلَة الأولى قصد بهَا بَيَان تَحْرِيم الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ فِي الْوَطْء بِنِكَاح وَملك يَمِين، وَالثَّانيَِة لم يقْصد بهَا بَيَان حُرْمَة الْجمع. وَإِذا تعَارض خبران، وَفسّر رَاوِي أَحدهمَا مَا قد رَوَاهُ بقول أَو فعل دون رَاوِي الآخر، قدم الأول؛ لِأَنَّهُ أعرف بِمَا رَوَاهُ فَيكون ظن الحكم بِهِ أوثق، كَحَدِيث عبد الله بن عمر فِي خِيَار الْمجْلس، وَأَن المُرَاد بالتفرق تفرق الْأَبدَان؛ لِأَنَّهُ فسره بذلك، لِأَنَّهُ اشْتَمَل على فَائِدَة زَائِدَة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4223 ويرجح أحد الْخَبَرَيْنِ على الآخر بِذكر السَّبَب، فَإِن الحَدِيث الَّذِي ذكر الرَّاوِي السَّبَب مَعَه رَاجِح أحد الْخَبَرَيْنِ على مَا لم يذكر السَّبَب مَعَه؛ لِأَن ذكر السَّبَب يدل على زِيَادَة اهتمام الرَّاوِي بالرواية. ويرجح أحد الْخَبَرَيْنِ على الآخر إِذا كَانَ سِيَاقه أحسن؛ لِأَنَّهُ يدل على أَنه أولى من غَيره. ويرجح - أَيْضا -: باقتران قرينَة تدل على تَأَخره على الآخر، وَذَلِكَ مثل تَأَخّر إِسْلَام رَاوِيه؛ إِذْ الآخر يجوز أَن يكون قد سَمعه قبل إِسْلَامه، لَا سِيمَا إِن علم موت الآخر قبل إِسْلَامه. وَمثل كَونه مؤرخا بتاريخ مضيق وَالْآخر بتاريخ موسع، نَحْو: ذِي الْقعدَة من سنة كَذَا، وَسنة كَذَا لاحْتِمَال كَون الآخر قبل ذِي الْقعدَة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4224 وَمثل أَن يكون فِيهِ تَشْدِيد؛ لِأَن التشديدات مُتَأَخِّرَة، لِأَنَّهَا إِنَّمَا جَاءَت حِين ظُهُور الْإِسْلَام وكثرته وعلت شوكته، وَالتَّخْفِيف كَانَ فِي أول الْإِسْلَام، وَحَدِيث عَائِشَة يدل على ذَلِك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4225 وَكَذَا [كل] مَا يشْعر بشوكة الْإِسْلَام، قَالَه الْعَضُد وَغَيره. قَوْله: {المعقولان قياسان أَو استدلالان، فَالْأول يعود إِلَى: أَصله، وفرعه، ومدلوله، وَأمر خَارج} . لما فَرغْنَا من مرجحات المنقولين بأنواعه شرعنا فِي تَرْجِيح المعقولين بأنواعه، وَهُوَ الْغَرَض الْأَعْظَم من بَاب التراجيح وَفِيه اتساع مجَال الِاجْتِهَاد. قَوْله: {الأَصْل بِقطع حكمه وبقوة دَلِيله، وَبِأَنَّهُ لم ينْسَخ، وعَلى سنَن الْقيَاس، وبدليل خَاص بتعليله، وَقدم الأرموي والبيضاوي بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع} . تَرْجِيح الْقيَاس بِحَسب أَصله من وُجُوه: بِأَن يكون دَلِيل أَصله أقوى، وَتَحْته صور: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4226 أَحدهَا: أَن يكون قَطْعِيا فَيقدم على مَا دَلِيل أَصله ظَنِّي، كَقَوْلِنَا فِي لعان الْأَخْرَس: إِن مَا صَحَّ من النَّاطِق صَحَّ من الْأَخْرَس كاليمين، فَإِنَّهُ أرجح من قياسهم على شَهَادَته تعليلا بِأَنَّهُ يفْتَقر إِلَى لفظ الشَّهَادَة؛ لِأَن الْيَمين تصح من الْأَخْرَس بِالْإِجْمَاع، وَالْإِجْمَاع قَطْعِيّ، وَأما جَوَاز شَهَادَته فَفِيهِ خلاف بَين الْفُقَهَاء. الصُّورَة الثَّانِيَة: بِقُوَّة دَلِيله، لِأَنَّهُ أغلب على الظَّن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4227 الصُّورَة الثَّالِثَة: بِكَوْنِهِ لم ينْسَخ بِاتِّفَاق، فَإِن مَا قيل بِأَنَّهُ مَنْسُوخ، وَإِن كَانَ القَوْل بِهِ ضَعِيفا، لَيْسَ كالمتفق عَلَيْهِ أَنه لم ينْسَخ. الصُّورَة الرَّابِعَة: بِكَوْن حكم الأَصْل على سنَن الْقيَاس، وَالْقِيَاس الَّذِي يكون حكم أَصله جَارِيا على سنَن الْقيَاس رَاجِح على الْقيَاس الَّذِي لَا يكون كَذَلِك لبعده عَن الْخلَل. وَفَسرهُ الْعَضُد " بِأَن يكون على سنَن الْقيَاس بِاتِّفَاق وَالْآخر مُخْتَلف فِيهِ؛ إِذْ لَو جرى على ظَاهره فمقابله على غير سنَن الْقيَاس، فَلَا يَصح فَلَا تعَارض فَلَا تَرْجِيح " انْتهى. وَهُوَ كَمَا قَالَ قَالَ الْبرمَاوِيّ ": " وَالْمرَاد بذلك هُنَا أَن يكون فَرعه من جنس أَصله كَمَا صرح بِهِ أَبُو الطّيب، وَالْمَاوَرْدِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَغَيرهم. وَذَلِكَ كقياس مَا دون أرش الْمُوَضّحَة فِي تحمل الْعَاقِلَة إِيَّاه، فَهُوَ أولى من قياسهم ذَلِك على غرامات الْأَمْوَال فِي إِسْقَاط التَّحَمُّل، لِأَن الْمُوَضّحَة من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4228 جنس مَا اخْتلف فِيهِ فَكَانَ على سنَنه؛ إِذا لجنس أشبه، كَمَا يُقَال: قِيَاس الطَّهَارَة على الطَّهَارَة، أولى من قياسها على ستر الْعَوْرَة. قَالَ: وَإِنَّمَا تعرضت لشرح ذَلِك لما سبق أَن من شَرط حكم الأَصْل فِي الْقيَاس أَن لَا يكون معدولا بِهِ عَن سنَن الْقيَاس، فَإِذا لم يَصح الْقيَاس كَيفَ يَقع التَّعَارُض، فبيت أَن ذَلِك الْمَشْرُوط هُنَاكَ لَيْسَ هُوَ المُرَاد هُنَا. قَالَ: وَقد يُرَاد هُنَا أَن يكون أَحدهمَا على سنَن الْقيَاس بِاتِّفَاق وَالْآخر على رَأْي، فيرجح الَّذِي بِاتِّفَاق - كَمَا قَالَ الْعَضُد -. قَالَ: وَكَذَا أَن يكون أَحدهمَا على سنَن الْقيَاس قَطْعِيا وَالْآخر ظنيا، فيرجح مَا كَانَ قَطْعِيا " انْتهى. الصُّورَة الْخَامِسَة: يرجع لقِيَام دَلِيل خَاص على تَعْلِيله وَجَوَاز الْقيَاس عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ أبعد من التَّعَبُّد والقصور وَالْخلاف. ويرجح مَا ثبتَتْ عليته بِالْإِجْمَاع على مَا ثبتَتْ عليته بِالنَّصِّ، لقبُول النَّص للتأويل بِخِلَاف الْإِجْمَاع، قَالَه فِي " الْمَحْصُول ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4229 ثمَّ قَالَ: وَيُمكن تَقْدِيم النَّص؛ لِأَن الْإِجْمَاع فَرعه. وَجزم بِهَذَا الْبَحْث الأرموي فِي " الْحَاصِل "، والبيضاوي. قَالَ الْبرمَاوِيّ: " نعم إِذا اسْتَوَى النَّص وَالْإِجْمَاع فِي الْقطع متْنا وَدلَالَة: كَانَ مَا دَلِيله الْإِجْمَاع راجحا، ودونهما إِذا كَانَا ظنيين. فَإِن كَانَ أَحدهمَا ظنيا وَالْآخر إِجْمَاعًا ظنيا: رجح أَيْضا مَا كَانَ دَلِيله الْإِجْمَاع، لما سبق من قبُول النَّص النّسخ والتخصيص. قَالَ الْهِنْدِيّ: هَذَا صَحِيح بِشَرْط التَّسَاوِي فِي الدّلَالَة، فَإِن اخْتلفَا فَالْحق أَنه يتبع فِيهِ الِاجْتِهَاد، فَمَا يكون إفادته للظن أَكثر فَهُوَ أولى، فَإِن الْإِجْمَاع وَإِن لم يقبل النّسخ والتخصيص، لَكِن قد تضعف دلَالَته بِالنِّسْبَةِ إِلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4230 الدّلَالَة القطعية، فقد ينجبر النَّقْص بِالزِّيَادَةِ وَقد لَا ينجبر، فَيَقَع فِيهِ الِاجْتِهَاد " انْتهى. قَوْله: {وبالقطع بِالْعِلَّةِ، أَو دليلها، أَو بِظَنّ غَالب فيهمَا، وسبر، فمناسبة، فَشبه، ودوران، وَقدم الْبَيْضَاوِيّ: الْمُنَاسبَة، فالدوران، فالسبر، وَقيل: الدوران فالمناسبة} . هَذَا التَّرْجِيح يعود إِلَى عِلّة الأَصْل، فيرجح أحد القياسين على الآخر بِالْقطعِ بِالْعِلَّةِ، لِأَنَّهُ رَاجِح على مَا هُوَ مظنون، وَكَذَا لَو كَانَ دليلهما مَقْطُوعًا بِهِ، وَكَذَا بِالظَّنِّ الْأَغْلَب فيهمَا؛ فَشَمَلَ هَذَا الْكَلَام أَربع صور: أَحدهَا: الْقطع بِالْعِلَّةِ يرجح على الظَّن بهَا. الثَّانِيَة: الظَّن الْغَالِب فِي الْعلَّة يرجح على الظَّن غير الْغَالِب. الثَّالِثَة: الْقطع بِدَلِيل الْعلَّة. الرَّابِعَة: الظَّن الْغَالِب فِي دَلِيل الْعلَّة. فيرجح الْقيَاس الَّذِي يكون مَسْلَك علته قَطْعِيا على الْقيَاس الَّذِي لَا يكون كَذَلِك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4231 ويرجح الْقيَاس الَّذِي استنبط عِلّة وَصفه بالسبر على الْقيَاس الَّذِي استنبط عِلّة وَصفه بالمناسبة، لتضمن السبر انْتِفَاء الْمعَارض فِي الأَصْل بِخِلَاف الْمُنَاسبَة. ويرجح مَا ثبتَتْ عليته بالمناسبة على الثَّابِتَة بالشبه، لزِيَادَة غَلَبَة الظَّن بِغَلَبَة الْوَصْف الْمُنَاسب. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَأدنى الْمعَانِي فِي 5 الْمُنَاسبَة يرجح على أَعلَى الْأَشْبَاه. ويرجح [مَا ثبتَتْ] علته بالشبه على الثَّابِتَة بالدوران، قطع بِهِ فِي " جمع الْجَوَامِع " وَغَيره. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: مَا ثَبت بالطرد وَالْعَكْس يقدم على غَيره من الْأَشْبَاه، لجريانه مجْرى الْأَلْفَاظ انْتهى. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ فِي " منهاجه ": " يرجع بالمناسبة الضرورية الدِّينِيَّة، ثمَّ الدُّنْيَوِيَّة، ثمَّ الَّتِي فِي حيّز الْحَاجة الْأَقْرَب اعْتِبَارا فَالْأَقْرَب، ثمَّ الدوران فِي مَحل، ثمَّ فِي محلين، ثمَّ السبر، ثمَّ الشّبَه، ثمَّ الْإِيمَاء، ثمَّ الطَّرْد " انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4232 فَقَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شَرحه ": " يرجح الْقيَاس الَّذِي ثبتَتْ علية وَصفه بالمناسبة على الدوران وَغَيره مِمَّا بَقِي؛ لِأَن الْمُنَاسبَة لَا تنفك عَن الْعلية، وَأما الدوران فقد لَا يدل كالمتضايفين وَنَحْوه مِمَّا تقدم. ويرجح الْقيَاس الَّذِي ثبتَتْ علية وَصفه بالدوران على الَّذِي ثبتَتْ عليته بالسبر وَغَيره من الطّرق الْبَاقِيَة، لِأَن الْغَلَبَة المستفادة من الدوران مطردَة منعكسة بِخِلَاف غَيره من الطّرق. وَمِنْهُم من قدمه على الْمُنَاسبَة كَمَا قَالَه الرَّازِيّ لهَذَا الْمَعْنى أَيْضا. - وَهَذَا القَوْل هُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْمَتْن بقولنَا: وَقيل: الدوران فَالْمُنَاسِب -. والدوران قد يكون فِي مَحل وَاحِد، وَهُوَ: أَن يحدث حكم فِي مَحل لحدوث صفة فِيهِ، وينعدم ذَلِك الحكم عَن ذَلِك الْمحل بِزَوَال ذَلِك الْوَصْف عَنهُ كدوران الْحُرْمَة مَعَ الْإِسْكَار فِي مَاء الْعِنَب وجودا وعدما. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4233 وَقد يكون فِي محلين كاستدلال الْحَنَفِيّ على وجوب الزَّكَاة فِي الْحلِيّ: بدوران وجوب الزَّكَاة مَعَ الذَّهَب وجودا فِي الْمَضْرُوب وعدما فِي الثِّيَاب، [فالدوران] فِي مَحل أرجح فِي الْعلية من الدوران فِي محلين؛ لِأَن احْتِمَال الْخَطَأ فِيهِ أقل، أَلا ترى أَن يقطع فِي مثالنا بِأَن مَا عدى السكر من الصِّفَات لَيْسَ بعلة، وَإِلَّا لزم تخلف الْمَعْلُول على علته، بِخِلَاف مَا ثَبت فِي محلين، فَإِنَّهُ لَا يُفِيد الْقطع بِأَن غير الذَّهَب لَيْسَ عِلّة للْوُجُوب، لاحْتِمَال أَن تكون الْعلَّة فِيهِ هُوَ الْمَجْمُوع الْمركب من كَونه ذَهَبا، وَكَونه غير معد للاستعمال. قَالَ: ويرجح الْقيَاس الَّذِي ثبتَتْ علية وَصفه بالسبر على الَّذِي ثبتَتْ علية وَصفه بالشبه وَغَيره مِمَّا بَقِي كالإيماء والطرد؛ لِأَن مُسَمَّاهُ عِلّة اتِّفَاقًا فِي العقليات والشرعيات، وَهُوَ السبر الْخَاص، بِخِلَاف الْبَوَاقِي فَإِن فِيهَا خلافًا مَشْهُورا، وَمِنْهُم من رَجحه على الْمُنَاسبَة، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب - وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ - لِأَنَّهُ يُفِيد علية الْوَصْف، وَنفي الْمعَارض لَهُ بِخِلَاف الْمُنَاسبَة، فَإِنَّهُ لَا دلَالَة لَهَا على نفي الْمعَارض " انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4234 قَوْله: {وبالقطع بِنَفْي الْفَارِق، أَو ظن غَالب، وَوصف حَقِيقِيّ وثبوتي، وباعث، على غَيرهَا} . يرجح أحد القياسين على الآخر بطرِيق نفي الْفَارِق بَين الأَصْل وَالْفرع، فَالْقِيَاس الْمَقْطُوع بِنَفْي الْفَارِق فِيهِ بَين الأَصْل وَالْفرع رَاجِح على الْقيَاس الَّذِي يكون نفي الْفَارِق فِيهِ مظنونا، وَكَذَا الْقيَاس الَّذِي يكون نفي الْفَارِق مظنونا بِالظَّنِّ الْأَغْلَب رَاجِح على الَّذِي يكون نفي الْفَارِق فِيهِ مظنونا بِالظَّنِّ غير الْأَغْلَب. ويرجح الْوَصْف الْحَقِيقِيّ على الْوَصْف الَّذِي هُوَ غير حَقِيقِيّ. قَالَ الْعَضُد: " يقدم مَا الْعلَّة فِيهِ وصف حَقِيقِيّ على غَيره مِمَّا الْعلَّة فِيهِ وصف اعتباري أَو حِكْمَة مُجَرّدَة " انْتهى. وَقَالَ غَيره: " يرجح التَّعْلِيل بِالْوَصْفِ الْحَقِيقِيّ وَهُوَ المظنة كالسفر، على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4235 التَّعْلِيل بالحكمة كالمشقة، وعَلى الْوَصْف الاعتباري أَو الْحكمِي، كَقَوْلِنَا فِي الْمَنِيّ: مبدأ خلق الْبشر فَأشبه الطين، مَعَ قَوْلهم: مَائِع يُوجب الْغسْل فَأشبه الْحيض " انْتهى. ويرجح مَا الْعلَّة فِيهِ وصف ثبوتي على مَا الْعلَّة فِيهِ عدمي. ويرجح مَا الْعلَّة فِيهِ وصف باعث على مَا هِيَ مُجَرّد أَمارَة لظُهُور مُنَاسبَة الباعثة. قَالَ ابْن مُفْلِح: " ويرجح بِالْقطعِ بِنَفْي الْفَارِق أَو ظن غَالب، وَالْوَصْف الْحَقِيقِيّ، أَو الثبوتي، أَو الْبَاعِث، على غَيرهَا للاتفاق عَلَيْهَا، وَلِأَن الحسية كالعقلية وَهِي مُوجبَة، وَلَا تفْتَقر فِي ثُبُوتهَا إِلَى غَيرهَا " انْتهى. وَرجح أَبُو الْخطاب، والسمعاني، والشيرازي: الْحكمِيَّة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4236 وَذكره أَبُو الْخطاب عَن آخَرين، وللشافعية: وَجْهَان، لِأَنَّهَا أَشد مُطَابقَة للْحكم وبلازمه فَهِيَ أخص بِهِ. وَسوى الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بَين حسية وحكمية وثبوتية وعكسها، فَقَالَ فِي " المسودة ": إِذا كَانَت إِحْدَاهمَا حسية وَالْأُخْرَى حكمِيَّة، أَو إِحْدَاهمَا إِثْبَاتًا وَالْأُخْرَى نفيا، فَلَا تَرْجِيح بذلك. وَقَالَ بعض الجدليين: " ترجح المنفية على الحسية، وَقَالَ أَبُو الْخطاب: المنفية أولى وَلم يذكر فِيهِ خلافًا " انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4237 قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَلم يرجح بعض أَصْحَابنَا الثبوتي، وَكَونه نفس الْعلَّة على ملازمها ذكره الْآمِدِيّ " انْتهى. قَالَ الطوفي: " إِذا تعَارض قياسان وَالْجَامِع فِي أَحدهمَا حكم شَرْعِي، وَفِي الآخر وصف حسي، الْجَامِع فِي أَحدهمَا حكم سَلبِي، وَفِي الآخر حكم إثباتي، فَالْحكم الشَّرْعِيّ مقدم على الْوَصْف الْحسي، لِأَن الْقيَاس طَرِيق شَرْعِي لَا حسي، فَكَانَ الِاعْتِمَاد فِيهِ على الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة أولى مِنْهُ فِي الِاعْتِمَاد على الْأَوْصَاف الحسية، وَكَذَلِكَ الحكم السلبي مقدم على الثبوتي، لِأَنَّهُ أوفق للْأَصْل؛ إِذْ الأَصْل عدم الْأَشْيَاء كلهَا، قَالَه بعض الْأُصُولِيِّينَ. وَقَالَ الْآخرُونَ: الحكم الشَّرْعِيّ مَعَ الْوَصْف الْحسي، وَالْحكم السلبي مَعَ الإثباتي سَوَاء؛ لِأَن الدَّلِيل لما قَامَ على علية كل وَاحِد من الْأَمريْنِ ثبتَتْ عليته، وَالظَّن لَا يتَفَاوَت بِشَيْء مِمَّا ذكرنَا، فاستويا لعدم مَا يصلح تَرْجِيحا ". قَوْله: {وظاهرة، ومنضبطة، مطردَة، ومنعكسة، ومتعدية، وَأكْثر تَعديَة، على غَيرهَا} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4238 تقدم الْعلَّة الظَّاهِرَة على الْعلَّة الْخفية. وَالْعلَّة المنضبطة على الْعلَّة المضطربة لأجل الْخلاف فِي مقابلتهما. وَتقدم الْعلَّة المطردة على الْعلَّة المنقوضة؛ لِأَن شَرط الْعلَّة اطرادها، وَلِأَن المطردة أغلب على الظَّن، وأضعف المنقوضة بِالْخِلَافِ فِيهَا. وَتقدم الْعلَّة المنعكسة على غير المنعكسة لِأَنَّهَا أكمل، لِأَن الانعكاس وَإِن لم يفد الْعلية لكنه يقويها. وَتَأْتِي المطردة فَقَط، والمنعكسة فَقَط وَكَلَام الطوفي هُنَاكَ قَرِيبا. وَتقدم المتعدية على القاصرة على الْأَصَح، لِكَثْرَة فوائدها، كالتعليل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4239 فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْوَزْنِ، فيتعدى الحكم إِلَى كل مَوْزُون: كالحديد، والنحاس، والصفر، وَنَحْوهَا، بِخِلَاف التَّعْلِيل بالثمنية والنقدية، فَلَا يتعداهما، فَكَانَ التَّعْلِيل بِالْوَزْنِ الَّذِي هُوَ وصف مُتَعَدٍّ لمحل النَّقْدَيْنِ إِلَى غَيرهمَا أَكثر فَائِدَة من الثمنية القاصرة عَلَيْهِمَا. فعلى هَذَا القَوْل ترجح الْعلَّة الَّتِي هِيَ أَكثر فروعا على [الَّتِي] هِيَ أقل. مِثَاله: لَو قَدرنَا أَن أَكثر عللنا فِي الرِّبَا الْكَيْل؛ لِأَن عِلّة الْكَيْل حِينَئِذٍ تكون أَكثر فروعا، وَلَو قَدرنَا أَن المطعومات أَكثر عللنا فِيهِ بالطعم؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ أَكثر فروعا، وَحِينَئِذٍ يصير الْأَقَل فروعا بِالْإِضَافَة إِلَى الْأَكْثَر فروعا، كالقاصرة بِالنِّسْبَةِ إِلَى المتعدية، وَيخرج فيهمَا الْأَقْوَال الثَّلَاثَة فِي المتعدية والقاصرة. وَقدم الْأُسْتَاذ الْعلَّة القاصرة على الْعلَّة المتعدية، إِن قيل بِصِحَّتِهَا لوَجْهَيْنِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4240 أَحدهمَا: أَنَّهَا مُطَابقَة للنَّص فِي موردها [أَي] لم يتَجَاوَز تأثيرها مَوضِع النَّص، بِخِلَاف المتعدية فَإِنَّهَا لم تطابق النَّص بل زَادَت عَلَيْهِ، وَمَا طابق النَّص كَانَ أولى. الثَّانِي: أَمن صَاحبهَا الْمُعَلل بهَا من الْخَطَأ، لِأَنَّهُ لَا يحْتَاج إِلَى التَّعْلِيل بهَا فِي غير مَحل النَّص كالمتعدية، فَرُبمَا أَخطَأ بالوقوع فِي بعض مثارات الْغَلَط فِي الْقيَاس، وَمَا أَمن فِيهِ من الْخَطَأ أولى مِمَّا كَانَ عرضة لَهُ. وَقَالَ أَبُو بكر الباقلاني، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل، والطوفي: هما سَوَاء لَا رُجْحَان لأَحَدهمَا [على] الآخر، لقِيَام الدَّلِيل على صحتهما، وَلِأَن الْفُرُوع لَا تبنى على قُوَّة ذَاتهَا. فَإِن قيل: الْعلَّة القاصرة لَا يُمكن الْقيَاس عَلَيْهَا، فَالْكَلَام فِي التَّرْجِيح الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4241 بَينهَا وَبَين الْعلَّة المتعدية لَا يتَعَلَّق بترجيح الأقيسة؛ إِذْ التَّرْجِيح إِنَّمَا يكون من وجودين، وَالْقِيَاس على القاصرة غير مَوْجُود وَلَا يُمكن، فَكيف يَصح التَّرْجِيح بَينه وَبَين الْقيَاس على الْعلَّة المتعدية؟ وَالْجَوَاب: أَنه لَيْسَ فَائِدَة ذَلِك تَرْجِيح أحد القياسين على الآخر كَمَا ذكرْتُمْ، بل فَائِدَته أَنى إِن رجحنا المتعدية أمكن الْقيَاس وَإِلَّا فَلَا، كالوزن فِي النَّقْدَيْنِ وَعَدَمه بِتَقْدِير تَقْدِيم القاصرة كالثمنية؛ إِذْ القاصرة لَا يتَعَدَّى مَحَله ليقاس عَلَيْهِ. قَوْله: {وَإِن تقابلت عِلَّتَانِ فِي أصل: فَمَا قل أوصافها أولى} . هَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، وَقدمه الْمجد فِي " المسودة "، والطوفي، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم، وَذَلِكَ للشبه بِالْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّة، وَلِأَنَّهَا أجْرى على الْأُصُول، وأسهل على الْمُجْتَهد، وَأكْثر فَائِدَة وفروعا، كَشَهَادَة الْأُصُول. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4242 وَقَالَ الْفَخر: هما سَوَاء. قَوْله: {وَإِن كَانَا من أصلين، فَمَا كثر أوصافها أولى، إِذا كَانَت أَوْصَاف كل وَاحِدَة مِنْهُمَا مَوْجُودَة فِي الْفَرْع} . وَهَذَا الصَّحِيح لقُوَّة شبهه بِالْأَكْثَرِ وَقدمه ابْن مُفْلِح، وَالْمجد فِي " المسودة "، وَغَيرهمَا. وَقَالَ أَكثر الشَّافِعِيَّة: القليلة الْأَوْصَاف أولى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4243 وَهُوَ احْتِمَال فِي " التَّمْهِيد "، لِأَنَّهَا أسلم من الْفساد. وَاخْتَارَ أَبُو الْخطاب، وَالْحَنَفِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة أَنَّهُمَا سَوَاء، لتساويهما فِي إِفَادَة الحكم، والسلامة من الْفساد، وهما من جنس، فَلَا يلْزم تَقْدِيم الْخَبَر على الْقيَاس؛ لِأَن دلالتهما نطق، وَالْقِيَاس معنى. وَبنى الطوفي الْمَسْأَلَة على الْعلَّة المتعدية والقاصرة، كَمَا تقدم لَفظه فِي المتعدية والقاصرة. وَقدم الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وشراح مُخْتَصره، وَغَيرهم: المتحدة على المتعددة للضبط، والبعد من الْخلاف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4244 وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": المتحدة وقليلة الْأَوْصَاف أولى. وَفِيه أَيْضا: إِذا صحتا فَمَا كثر فروعها أَو اسْتَويَا سَوَاء، وَاعْتبر قوم جدليون لصحتها تَسَاوِي الْفَرْع. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَا يَصح. والبيضاوي: العدمي للعدمي فَقَالَ: فِي " منهاجه ": " يرجح [الوجودي] للوجودي، ثمَّ العدمي للعدمي " انْتهى. قَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شَرحه ": " الْوَصْف وَالْحكم قد يكونَانِ وجوديين، وَقد يكونَانِ عدميين، وَقد يكون الحكم وجوديا، وَالْوَصْف عدميا، وَقد يكون بِالْعَكْسِ، فتعليل الحكم الوجودي بِالْوَصْفِ الوجودي أرجح من الْأَقْسَام الثَّلَاثَة، لِأَن الْعلية، والمعلولية وصفان ثبوتيان فحملهما على الْمَعْدُوم لَا يُمكن إِلَّا إِذا قدر الْمَعْدُوم مَوْجُودا، ثمَّ يَلِي هَذَا الْقسم فِي الْأَوْلَوِيَّة تَعْلِيل العدمي بالعدمي، وَحِينَئِذٍ فَيكون أرجح من تَعْلِيل الحكم الوجودي بِالْعِلَّةِ العدمية وَمن الْعَكْس للمشابهة " انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4245 قَوْله: {وأعمها قَالَه فِي: " الْكِفَايَة "، و " التَّمْهِيد "، وَجمع، وَخَالف فِي " الْعدة "، وَالْحَنَفِيَّة: كعمومين} . لم يرجح القَاضِي فِي " الْعدة "، وَالْحَنَفِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، بِكَوْن أَحدهمَا أَعم كالطعم أَعم من الْكَيْل كالعمومين. ورد ذَلِك: بِأَنَّهُ يُمكن بِنَاء أَحدهمَا على الآخر بِخِلَاف هَذَا. ورجحها القَاضِي فِي " الْكِفَايَة " كَمَا سبق. وَاخْتلف اخْتِيَار أبي الْخطاب وَذكر على الأول وَجْهَيْن: هَل ترجح المتعدية أَو سَوَاء؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4246 قَالَ كثير من الشَّافِعِيَّة: يقدم التَّعْلِيل بِالْعِلَّةِ البسيطة كتعليل الرِّبَا بالطعم على التَّعْلِيل بِالْعِلَّةِ المركبة، كالطعم مَعَ التَّقْدِير بكيل أَو وزن لِكَثْرَة فروع البسيطة وفوائدها، ولقلة الِاجْتِهَاد فِيهِ. وَقيل: ترجح المركبة. وَقيل: هما سَوَاء. وَفِي " التَّلْخِيص " لإِمَام الْحَرَمَيْنِ قَالَ القَاضِي: وَلَعَلَّه الصَّحِيح. انْتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4247 قَوْله: {ومطردة فَقَط على منعكسة فَقَط، وَقَالَ الطوفي: تقدم المطردة إِن قيل بِصِحَّتِهَا، والمنعكسة إِن اشْترط الْعَكْس} . تقدم الْعلَّة المطردة فَقَط على المنعكسة فَقَط؛ لِأَن اعْتِبَار الاطراد مُتَّفق عَلَيْهِ، وَضعف الثَّانِيَة بِعَدَمِ الاطراد أَشد من ضعف الأولى بعد الانعكاس. وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": " تقدم المطردة على غَيرهَا إِن قيل بِصِحَّتِهَا، والمنعكسة على غَيرهَا إِن اشْترط الْعَكْس؛ لِأَن انْتِفَاء الحكم عِنْد انتفائها يدل على زِيَادَة اختصاصها بالتأثير، فَيصير كالحد مَعَ الْمَحْدُود، وَالْعلَّة الْعَقْلِيَّة مَعَ الْمَعْلُول ". قَالَ فِي " شَرحه ": " وَتَحْقِيق هَذَا أَن غير المطردة وَهِي المنتقضة بِصُورَة فَأكْثر إِن لم نقل بِصِحَّتِهَا لم تعَارض المطردة حَتَّى تحْتَاج إِلَى التَّرْجِيح، فَإِن قُلْنَا بِصِحَّتِهَا فاجتمعت هِيَ والمطردة: فالمطردة راجحة، لِأَن ظن الْعلية فِيهَا أغلب، وَلِأَنَّهَا مُتَّفق عَلَيْهَا والمنتقضة مُخْتَلف فِيهَا، فهما كالعامين إِذا خص أَحدهمَا دون الآخر كَانَ الْبَاقِي على عُمُومه راجحا. ثمَّ قَالَ: والمنعكسة راجحة على غير المنعكسة إِن اشْترط الْعَكْس يَعْنِي فِي الْعِلَل، وَسبق أَن انعكاس الْعلَّة هَل هُوَ شَرط فِي صِحَّتهَا أم لَا؟ فَإِن لم يشْتَرط الْعَكْس لم ترجح المنعكسة على غير المنعكسة؛ لِأَن الْمُشْتَرك بَينهمَا فِي شَرط الصِّحَّة هُوَ الاطراد وَهُوَ مَوْجُود، والانعكاس غير مشترط فوجوده الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4248 كَالْعدمِ، وَإِن اشترطنا انعكاس الْعلَّة رجحت المنعكسة على غَيرهَا؛ لِأَن انْتِفَاء الحكم عِنْد انتفائها يدل على زِيَادَة اختصاصها بالتأثير، فَتَصِير كالحد مَعَ الْمَحْدُود، وَيقدم المنعكس على غَيره، وكالعلة الْعَقْلِيَّة مَعَ الْمَعْلُول كالتسويد مَعَ الاسوداد، فَكَانَت الشبيهة لَهَا من الْعِلَل الشَّرْعِيَّة أولى " انْتهى. قَوْله: {والمقاصد الضرورية الْخَمْسَة على غَيرهَا، ومكملها على الحاجية، وَهِي على التحسينية، وَحفظ الدّين على الْأَرْبَعَة، وَقيل: الْأَرْبَعَة، ثمَّ مصلحَة النَّفس، فالنسب، فالعقل، فَالْمَال} . إِذا تَعَارَضَت أَقسَام من الْمُنَاسبَة قدم بِحَسب قُوَّة الْمصلحَة، فَتقدم الْأُمُور الْخَمْسَة الضرورية على غَيرهَا من حاجي أَو تحسيني. وَتقدم الْمصلحَة الحاجية على التحسينية. وَتقدم التكميلية من الْخَمْسَة الضرورية على أصل الحاجية. وَإِذا تَعَارَضَت بعض الْخمس الضرورية قدمت الدِّينِيَّة على الْأَرْبَع الْأُخَر، لِأَنَّهَا الْمَقْصُود الْأَعْظَم، قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} [الذاريات: 56] ، [وَلِأَن] ثَمَرَته نيل السَّعَادَة الأخروية، لِأَنَّهَا أكمل الثمرات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4249 وَقيل: تقدم الْأَرْبَعَة الْأُخَر على الدِّينِيَّة، لِأَنَّهَا حق آدَمِيّ وَهُوَ يتَضَرَّر بِهِ، والدينية حق الله تَعَالَى وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يتَضَرَّر بِهِ، وَلذَلِك قدم قتل الْقصاص على قتل الرِّدَّة عِنْد الِاجْتِمَاع، ومصلحة النَّفس فِي تَخْفيف الصَّلَاة عَن مَرِيض ومسافر، وَأَدَاء صَوْم، وإنجاء غريق، وَحفظ المَال، بترك جُمُعَة وَجَمَاعَة، وَبَقَاء الذِّمِّيّ مَعَ كفره. ورد ذَلِك: بِأَن الْقَتْل إِنَّمَا قدم لِأَن فِيهِ حقين، وَلَا يفوت حق الله بالعقوبة الْبَدَنِيَّة فِي الْآخِرَة، وَفِي التَّخْفِيف عَنْهُمَا تَقْدِيم على فروع الدّين لَا أُصُوله، ثمَّ هُوَ قَائِم مقَامه، فَلم يخْتَلف الْمَقْصُود وَكَذَا غَيرهمَا، وَبَقَاء الذِّمِّيّ من مصلحَة الدّين لاطلاعه على محَاسِن الشَّرِيعَة، فيسهل انقياده كَمَا فِي صلح الْحُدَيْبِيَة، وتسميته فتحا مُبينًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4250 قلت: وَنَظِير الْقَتْل بالقود وَالرِّدَّة إِذا مَاتَ من عَلَيْهِ زَكَاة وَدين لآدَمِيّ، فَقيل: تقدم الزَّكَاة لِأَنَّهُ حق الله، اخْتَارَهُ القَاضِي فِي " الْمُجَرّد "، وَصَاحب " الْمُسْتَوْعب ". وَعنهُ: يقدم دين الْآدَمِيّ. وَالْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب أَنهم يقتسمون بِالْحِصَصِ، وَنَصّ عَلَيْهِ أَحْمد، وَعَلِيهِ أَكثر أَصْحَابه. وَكَذَا لَو مَاتَ وَعَلِيهِ حج وَدين وضاق مَاله عَنْهُمَا أَخذ لِلْحَجِّ بِحِصَّتِهِ وَحج من حَيْثُ يبلغ، نَص عَلَيْهِ أَحْمد، وَعَلِيهِ الْأَصْحَاب. وَعنهُ: يقدم الدّين لتأكده. وَلم يحكوا هُنَا فِي الأَصْل القَوْل بالتساوي، ولعلهم حكوه وَلم نره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4251 ثمَّ مصلحَة النَّفس؛ لِأَن الْبَقِيَّة لأَجلهَا وَبهَا تحصل الْعِبَادَات. ثمَّ النّسَب بعْدهَا؛ لشدَّة تعلقه ببقائها فبقاء الْوَلَد لَا مربي لَهُ، فَيُؤَدِّي إِلَى هَلَاكه. ثمَّ الْعقل بعده لفَوَات النَّفس بفواته، وَلِأَن بِهِ التَّكْلِيف، ثمَّ المَال قَوْله: {وَمَا مُوجب نقض علته مَانع أَو فَوَات شَرط على مَا مُوجبه ضَعِيف، لِأَن قوته دَلِيل قوتها} . أَي لِأَن قُوَّة مُوجب النَّقْض دَلِيل على قُوَّة الْعلَّة المنقوضة. قَالَ الْعَضُد: " إِذا انْتقض العلتان، وَكَانَ مُوجب التَّخَلُّف فِي أَحدهمَا فِي صُورَة النَّقْض قَوِيا، وَفِي الآخر ضَعِيفا، قدم الأول ". قَوْله: {وَمَا مُوجب نقضهَا محققا على مُحْتَمل، وبانتفاء مزاحمها فِي أَصْلهَا، وبرجحانها عَلَيْهِ} . يرجح الْقيَاس الَّذِي يكون مُوجب نقض علته محققا على الْقيَاس الَّذِي يكون مُوجب نقض علته مُحْتملا. ويرجح الْقيَاس الَّذِي قد انْتَفَى مُزَاحم علته فِي الأَصْل على مَا لم ينتف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4252 مُزَاحم علته فِيهِ، لِأَن انْتِفَاء مُزَاحم الْعلَّة يُفِيد غَلَبَة الظَّن بِالْعِلَّةِ. قَالَ الْعَضُد: ترجح الْعلَّة بِانْتِفَاء الْعلَّة المزاحم لَهَا فِي الأَصْل، بِأَن لَا تكون مُعَارضَة وَالْأُخْرَى مُعَارضَة، ويرجح الْقيَاس الَّذِي تكون علته راجحة على مزاحمها فِي الأَصْل على مَا لَا تكون علته راجحة على مزاحمها. قَوْله: {والمقتضية للثبوت عِنْد القَاضِي، وَأَصْحَابه، والموفق، وَغَيرهم} . لِأَن الْمُقْتَضِيَة للثبوت تفِيد حكما شَرْعِيًّا لم يعلم بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّة بِخِلَاف الْمُقْتَضِيَة للنَّفْي، فَإِنَّهَا تفِيد مَا علم بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّة، وَمَا فَائِدَته شَرْعِيَّة رَاجِح على غَيره. وقاسه أَبُو الْخطاب على الْخَبَرَيْنِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4253 وَعند الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهمَا. ترجح النافية؛ لِأَن الْمُقْتَضِيَة للنَّفْي متأيدة بِالنَّفْيِ. وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ النافية لتتمة مقتضاها بِتَقْدِير رُجْحَانهَا، وَبِتَقْدِير مساواتها ولتأييدها بِالْأَصْلِ، وَالْحكم إِنَّمَا يطْلب للحكمة، والشارع يحصلها بالحكم وبنفيه. وَذكر أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " فِي الْمُقْتَضِيَة للنَّفْي احتمالات. أَحدهَا: سَوَاء، وَهَذَا اخْتِيَار الْحلْوانِي، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَظَاهر اخْتِيَار " الرَّوْضَة ". وَالثَّانِي: النافية، وَهَذَا اخْتِيَار أبي عبد الله الْبَصْرِيّ. وَالثَّالِث: المثبتة، وَهَذَا اخْتِيَار القَاضِي عبد الْجَبَّار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4254 قَالَ القَاضِي فِي " الْكِفَايَة ": هَذَا أشبه بأصلنا وَتعلق بِكَلَام الإِمَام أَحْمد. قَوْله: {وبقوة الْمُنَاسبَة بِأَن يكون أفْضى إِلَى مقصودها أَو لَا تناسب نقيضه، والعامة للمكلفين على الْخَاصَّة، وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": لَهُ الِاسْتِدْلَال بِكُل من علتين مستقلتين، وَقدم الْكَرْخِي وَأكْثر الشَّافِعِيَّة: الْخَاصَّة} . يرجح أحد القياسين على الآخر بِقُوَّة الْمُنَاسبَة؛ لِأَن قُوَّة الْمُنَاسبَة تفِيد قُوَّة ظن الْعلية. قَالَ ابْن مُفْلِح: " وبقة الْمُنَاسبَة بِأَن يكون أفْضى إِلَى مقصودها أَو لَا تناسب نقيضه ". ويرجح الْقيَاس الَّذِي تكون علته عَامَّة فِي الْمُكَلّفين، أَي: متضمنة لمصْلحَة عُمُوم الْمُكَلّفين على الْقيَاس الَّذِي تكون علته جَامِعَة لبَعض الْمُكَلّفين، لِأَن مَا تكون فَائِدَته أَكثر أولى. وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": لَهُ الِاسْتِدْلَال بِكُل من علتين مستقلتين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4255 وَقدم الْكَرْخِي وَأكْثر الشَّافِعِيَّة الْخَاصَّة لتصريحها بالحكم. وَكَذَا مَا أَصْلهَا من جنس فرعها كإلحاق بيع الْغَائِب بالسلم بِلَا صفة، وَبِقَوْلِهِ: بِعْتُك عبدا، وَاخْتَارَ ذَلِك الْكَرْخِي، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، كالعلة الْخَاصَّة. قَوْله: {والموجب للحرية عِنْد القَاضِي وَغَيره، وَقيل: عَكسه، وَأَبُو الْخطاب: سَوَاء} . تقدم الْمُقْتَضِيَة للحرية، قدمه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " وَقَالَ: (قَالَه القَاضِي، وَبَعض الْمُتَكَلِّمين) . وَقيل: عَكسه، أَي: تقدم الْعلَّة الْمُقْتَضِيَة للرق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4256 وَاخْتَارَ أَبُو الْخطاب: أَنَّهُمَا سَوَاء وَذكره عَن الشَّافِعِيَّة. قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": " ترجح مسقطة الْحَد على موجبته، وموجبة الْعتْق على نافيته، وَالَّتِي هِيَ أحف حكما على الَّتِي أثقل حكما، على خلاف [فِي] ذَلِك كُله، كَمَا سبق فِي نَظِيره من الْأَخْبَار؛ لِأَن الْعِلَل مستفادة من النُّصُوص فتتبعها فِي الْخلاف والوفاق فِي ذَلِك وَنَحْوه، وَهَذَا كُله فِي المنصوصتين والمستنبطتين، أما فِي المنصوصة والمستنبطة، فالمنصوصة وَاجِبَة التَّقْدِيم بِكُل حَال، كَمَا سبق فِي الْمُنَاسبَة مَعَ غَيرهَا " انْتهى. قَوْله: {والحاظرة أولى عِنْد القَاضِي، وَأبي الْخطاب، وَابْن عقيل، والكرخي، لِأَنَّهَا أولى وأحوط} . أَي: الَّتِي توجب الْحَظْر مُقَدّمَة على الَّتِي توجب الْإِبَاحَة، وَقطع بِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4257 الطوفي فِي مَتنه وَشَرحه. وَذكر أَبُو الْخطاب احْتِمَالا بِأَنَّهُمَا سَوَاء، وَهُوَ ظَاهر اخْتِيَار الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ". وللشافعية وَجْهَان، كهذين. قَوْله: {وَمَا لم يخص أَصْلهَا، ذكره أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، كالطعم على الْكَيْل عِنْد من يُجِيز التَّفَاضُل فِي الْقَلِيل} . تقدم عَامَّة الأَصْل بِأَن تُوجد فِي جَمِيع جزئياته؛ لِأَنَّهَا أَكثر فَائِدَة مِمَّا لم تعم، كالطعم فِيمَن يُعلل بِهِ فِي بَاب الرِّبَا، فَإِنَّهُ مَوْجُود فِي الْبر مثلا قَلِيله وَكَثِيره، بِخِلَاف " الْقُوت " الْعلَّة عِنْد الْحَنَفِيَّة فَلَا يُوجد فِي قَلِيله، فجوزوا بيع الحفنة مِنْهُ بالحفنتين. قَوْله: {وَمَا وجد حكمهَا مَعهَا على مَا قبلهَا، وَمَا وصف بموجود الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4258 فِي الْحَال على مَا يجوز وجوده فِي الثَّانِي، وَمَا عَمت معلولها على مَا خصته، ومفسرة على مجملة عِنْد أَصْحَابنَا فِيهِنَّ} . هَذِه الصُّور ذكرهَا أَبُو الْخطاب وَغَيره من أَصْحَابنَا. وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد ": " مِنْهَا أَن يكون حكم أَحدهمَا مَعهَا وَحكم الْأُخْرَى مَوْجُودا قبلهَا فَالْأولى أولى، لِأَنَّهُ يدل على تأثيرها فِي الحكم، كتعليل أَصْحَابنَا فِي الْبَائِن: أَنَّهَا لَا نَفَقَة لَهَا وَلَا سُكْنى؛ لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّة مِنْهُ فَأشبه المنقضية الْعدة. - قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَفِيه نظر -. ويعلل الْخصم: بِأَنَّهَا مُعْتَدَّة من طَلَاق أشبه الرَّجْعِيَّة، فعلتنا أولى؛ لِأَن الحكم وَهُوَ سُقُوط النَّفَقَة وجد بوجودها، وَقبل أَن تصير أَجْنَبِيَّة كَانَت النَّفَقَة وَاجِبَة، وعلتهم غير مُؤثرَة؛ لِأَن وجوب النَّفَقَة وَالسُّكْنَى تجب للزَّوْجَة قبل أَن تصير مُعْتَدَّة فَوَجَبَ لَهَا النَّفَقَة وَالسُّكْنَى ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4259 وَقَالَ أَيْضا: وَمِنْهَا: " أَن [تكون إِحْدَاهمَا] مَوْصُوفَة بِمَا هُوَ مَوْجُود فِي الْحَال، وَالْأُخْرَى مَوْصُوفَة بِمَا يجوز وجوده فِي الثَّانِي كتعليل أَصْحَابنَا فِي رهن الْمشَاع، أَنه عين يَصح بيعهَا فصح رَهنهَا كالمفرد. وتعليل الْخصم، بِأَنَّهُ قَارن العقد معنى يُوجب اسْتِحْقَاق رفع يَده فِي الثَّانِي، فعلتنا مُحَققَة الْوُجُود، وَمَا ذَكرُوهُ يجوز أَن يُوجد، وَيجوز أَن لَا يُوجد، فَكَانَت علتنا أولى ". وَقَالَ أَيْضا: " وَمِنْهَا أَن تكون إِحْدَاهمَا تستوعب معلولها، كقياسنا فِي جَرَيَان [الْقصاص] بَين الرجل وَالْمَرْأَة فِي الْأَطْرَاف: بِأَن من جرى [الْقصاص] بَينهمَا فِي النَّفس جرى بَينهمَا فِي الْأَطْرَاف كالحرين. أولى من قياسهم بِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي بدل النَّفس فَلَا يجْرِي [الْقصاص] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4260 بَينهمَا فِي الْأَطْرَاف، كَالْمُسلمِ مَعَ الْمُسْتَأْمن، لِأَنَّهُ لَا تَأْثِير لقَولهم، فَإِن الْعَبْدَيْنِ وَلَو تَسَاويا فِي الْقيمَة، لَا يجْرِي [الْقصاص] بَينهمَا فِي الْأَطْرَاف عِنْده ". وَقَالَ أَيْضا: وَمِنْهَا: " أَن تكون إِحْدَاهمَا مفسرة وَالْأُخْرَى مجملة كقياسنا فِي الْأكل فِي رَمَضَان، أَنه لَا كَفَّارَة فِيهِ، لِأَنَّهُ إفطار بِغَيْر مُبَاشرَة فَأشبه لَو ابتلع حَصَاة، أولى من قياسهم: أفطر بمسوغ جنسه؛ لِأَن الْمُفَسّر فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4261 الْكتاب وَالسّنة مقدم على الْمُجْمل، وَكَذَا فِي المستنبطة ". انْتهى كَلَامه فِي " التَّمْهِيد ". قَوْله: {وَالْفرع يُقَوي الظَّن بالمشاركة وَفِي الْأَخَص والبعد عَن الْخلاف فَيقدم عين الحكم، وَعين الْعلَّة، وَعين أَحدهمَا على الجنسين، وَعين الْعلَّة على عين الحكم، وبالقطع بهَا فِيهِ، وبتأخير الْفَرْع وثبوته بِنَصّ جملَة} . هَذَا التَّرْجِيح الْعَائِد إِلَى الْفَرْع وَيحصل بترجيح الْقيَاس بِحَسبِهِ من وُجُوه، فيرجح الْقيَاس الَّذِي يكون فَرعه مشاركا لأصله فِي عين الحكم وَعين الْعلَّة، على الثَّلَاثَة، أَي: على مَا يكون فَرعه مشاركا لأصله فِي جنس الحكم وجنس الْعلَّة، وَفِي جنس الحكم وَعين الْعلَّة، وَفِي عين الحكم وجنس الْعلَّة، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بقولنَا: على الثَّلَاثَة، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِك؛ لِأَن التَّعْدِيَة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4262 بِاعْتِبَار الِاشْتِرَاك فِي الْمَعْنى الْأَخَص يكون أغلب على الظَّن من الِاشْتِرَاك فِي الْمَعْنى الْأَعَمّ. ويرجح الْقيَاس الَّذِي يكون فَرعه مشاركا لأصله فِي عين أَحدهمَا، أَي: عين الْعلَّة أَو الحكم على عَكسه، أَي: على الْقيَاس الَّذِي يكون فَرعه مشاركا لأصله فِي الجنسين، أَي: جنس الْعلَّة وجنس الحكم لما مر. ويرجح الْقيَاس الَّذِي يكون فَرعه مشاركا لأصله فِي عين الْعلَّة على عَكسه، أَي: على الْقيَاس الَّذِي يكون فَرعه مشاركا لأصله فِي عين الحكم؛ لِأَن الْعلَّة أصل الحكم الْمُتَعَدِّي، فاعتبار مَا هُوَ مُعْتَبر فِي خُصُوص الْعلَّة أولى من اعْتِبَارهَا مَا هُوَ مُعْتَبر فِي خُصُوص الحكم. ويرجح الْقيَاس الَّذِي تكون الْعلَّة فِي فَرعه مَقْطُوعًا على الْقيَاس الَّذِي تكون علته فِي الْفَرْع مظنونة. ويرجح الْقيَاس الَّذِي ثَبت حكم الْفَرْع فِيهِ بِالنَّصِّ جملَة لَا تَفْصِيلًا، على الْقيَاس الَّذِي لم يثبت حكم الْفَرْع فِيهِ بِالنَّصِّ. وَقَوْلنَا: جملَة؛ لِأَنَّهُ لَو ثَبت حكم الْفَرْع بِالنَّصِّ على سَبِيل التَّفْصِيل لم يكن ثَابتا بِالْقِيَاسِ، كَمَا مر فِي شَرط حكم الْفَرْع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4263 قَوْله: {الْمَدْلُول وَأمر خَارج نَظِير مَا سبق من المنقولين} . أما الترجيحات العائدة إِلَى الْمَدْلُول وَهُوَ حكم الْفَرْع فعلى مَا تقدم، وَكَذَا الترجيحات العائدة من خَارج فعلى قِيَاس مَا سلف. قَوْله: {وترجح عِلّة وافقها قَول صَحَابِيّ، ذكره ابْن عقيل، وَأَبُو الْخطاب، وَقَالَ: من لم يَجعله حجَّة يرجح بِهِ، قَالَ أَبُو الطّيب: أَو مُرْسل، وَفِي " الْعدة " لَا يرجح بِمَا لَا يثبت بِهِ حكم، وَالْقَوْلَان لِابْنِ عقيل} . الصَّحِيح أَن الْعلَّة ترجح إِذا وافقها قَول الصَّحَابِيّ وَإِن لم نجعله حجَّة، وَقد تقدم نَظِير ذَلِك فِي الدَّلِيلَيْنِ وَأَن الصَّحِيح أَنه يرجح هُنَاكَ، فَكَذَا هُنَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4264 وَالصَّحِيح - أَيْضا -: أَن الْمُرْسل يرجح بِهِ أحد الدَّلِيلَيْنِ فَكَذَلِك فِي الْعلَّة. وَعند القَاضِي فِي " الْعدة ": لَا يرجح بِمَا لَا يثبت بِهِ حكم، فَلَا يرجح بمرسل وَلَا بقول صَحَابِيّ، إِذا لم يثبت بذلك حكم على القَوْل بِهِ. وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": وَهُوَ مُحْتَمل، وَقَالَ أَيْضا: وَأطلق ابْن عقيل وَغَيره التَّرْجِيح بِهِ. وَقيل لَهُ أَيْضا فِي تصويب كل مُجْتَهد: لَا خلاف فِي التَّرْجِيح بِمَا لَا يجوز ثُبُوت الحكم بِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4265 فَقَالَ: لَا نسلم. وَقد نقل الْجَمَاعَة عَن أَحْمد أَنه كَانَ يكْتب حَدِيث الرجل الضَّعِيف كَابْن لَهِيعَة، وَجَابِر الْجعْفِيّ، وَأبي بكر بن أبي مَرْيَم، فَيُقَال لَهُ؟ فَيَقُول: أعرفهُ أعتبر بِهِ كَأَنِّي أستدل بِهِ مَعَ غَيره. وَيَقُول: " يُقَوي بَعْضهَا بَعْضًا ". قَالَ بعض أَصْحَابنَا: قَول أَحْمد: أستدل بِهِ مَعَ غَيره، يَعْنِي يصير حجَّة بالانضمام لَا مُنْفَردا. وَكَذَا حكم الْمُرْسل، وَقَول الصَّحَابِيّ كالخبر الضَّعِيف يقوى بِهِ، ويرجح بِهِ، وَهُوَ الصَّوَاب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4266 قَوْله: {الْمَنْقُول وَالْقِيَاس يرجح خَاص دلّ بنطقه، وَإِلَّا فَمِنْهُ ضَعِيف وَقَوي ومتوسط، فالترجيح فِيهِ بِحَسب مَا يَقع للنَّاظِر} . لما فَرغْنَا من تَرْجِيح المعقولين شرعنا فِي تَرْجِيح الْمَنْقُول والمعقول. فَإِذا وَقع التَّعَارُض بَين الْقيَاس وَالْمَنْقُول الَّذِي هُوَ الْكتاب وَالسّنة، فَإِن كَانَ الْمَنْقُول خَاصّا أَو دلّ على الْمَطْلُوب بمنطوقه يرجح على الْقيَاس، لكَون الْمَنْقُول أصلا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقيَاس، وَلِأَن الْمَنْقُول مقدماته أقل فَيكون أقل خللا. وَإِن كَانَ الْمَنْقُول خَاصّا وَدلّ على الْمَطْلُوب لَا بمنطوقه فَهُوَ يَقع على دَرَجَات، لِأَن الظَّن الْحَاصِل من الْمَنْقُول الَّذِي دلّ على الْمَطْلُوب لَا بمنطوقه، قد يكون أقوى من الظَّن الْحَاصِل من الْقيَاس، وَقد يكون مُسَاوِيا لَهُ، وَقد يكون أَضْعَف، فالترجيح فِيهِ حسب مَا يَقع للنَّاظِر، فَلهُ أَن يعْتَبر الظَّن فِيهِ وَمن الْقيَاس، وَيَأْخُذ بأقوى الظنيين. وَإِن كَانَ الْمَنْقُول عَاما فَحكمه مَعَ الْقيَاس قد تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي بَاب الْخَبَر، فَلَا حَاجَة إِلَى إِعَادَته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4267 (قَوْله: {خَاتِمَة} ) {يَقع التَّرْجِيح بَين حُدُود سمعية ظنية مفيدة لمعان مُفْردَة تصورية} . وَقد ذكر كثير من الْعلمَاء التراجيح فِي الْحُدُود، وَهِي قِسْمَانِ: عقلية، وسمعية، أَي: شَرْعِيَّة. فالعقلية هِيَ: تَعْرِيف الماهيات، وَلَيْسَت مَقْصُودَة هُنَا. إِنَّمَا الْمَقْصُود هُنَا الْحُدُود الشَّرْعِيَّة وَهِي: حُدُود الْأَحْكَام الظنية المفيدة لمعان مُفْردَة تصورية؛ وَذَلِكَ لِأَن الأمارات المفضية إِلَى التصديقات كَمَا يَقع التَّعَارُض فِيهَا ويرجح بَعْضهَا على بعض، كَذَلِك الْحُدُود السمعية يَقع التَّعَارُض فِيهَا ويرجح بَعْضهَا على بعض. قَوْله: {فيرجح بِكَوْنِهِ صَرِيحًا وَأعرف وذاتيا، فحقيقي تَامّ، فناقص، فرسمي كَذَلِك، فلفظي وبأعم، وَقيل: عَكسه، وبموافقته نقل سَمْعِي أَو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4268 لغَوِيّ أَو قربه مِنْهُمَا، أَو عمل الْمَدِينَة، أَو الْخُلَفَاء، أَو عَالم، وَيكون طَرِيق تَحْصِيله أسهل أَو أظهر، وبتقرير حكم حظر أَو نفي، أَو دَرْء حد، أَو ثُبُوت عتق، أَو طَلَاق وَنَحْوه} . التَّرْجِيح فِي الْحُدُود السمعية تَارَة يكون بِاعْتِبَار اللَّفْظ، وَتارَة يكون بِاعْتِبَار الْمَعْنى، وَتارَة يكون أَمر خَارج. فالترجيح بِاعْتِبَار اللَّفْظ كالترجيح بِأَلْفَاظ صَرِيحَة، فيرجح الْحَد الَّذِي بِلَفْظ صَرِيح على مَا فِيهِ تجوز، أَو اسْتِعَارَة، أَو اشْتِرَاك، أَو غرابة، أَو اضْطِرَاب. هَذَا إِن قُلْنَا: التَّجَوُّز، والاستعارة، والاشتراك، تدخل فِي الْحُدُود، وَقد تقدم منع ذَلِك على الصَّحِيح فِي أول الْكتاب متْنا، وشرحا. قَالَ الكوراني: إِلَّا إِذا اشْتهر الْمجَاز بِحَيْثُ لَا يتَبَادَر غَيره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4269 وَالتَّرْجِيح بِاعْتِبَار الْمَعْنى فيرجح بِكَوْن الْمُعَرّف من أَحدهمَا أعرف فِي الآخر. ويرجح بِكَوْنِهِ ذاتيا على كَونه عرضيا، لِأَن التَّعْرِيف بِالْأولِ يُفِيد كنه الْحَقِيقَة بِخِلَاف الثَّانِي. فَيقدم الْحَقِيقِيّ التَّام، فالحقيقي النَّاقِص، فالرسمي التَّام، فالرسمي النَّاقِص، فاللفظي، على مَا تقدم بَيَان ذَلِك فِي الْمُقدمَة فِي أَحْكَام الْحُدُود. ويرجح بِكَوْن مَدْلُول أَحدهمَا أَعم من مَدْلُول الآخر، فيرجح الْأَعَمّ ليتناول الْأَخَص وَغَيره فتكثر الْفَائِدَة. وَقيل يقدم الْأَخَص وَهُوَ للآمدي، للاتفاق على مَا يتَنَاوَلهُ الْأَخَص لتناول الحَدِيث لَهُ، وَالِاخْتِلَاف فِيمَا زَاد على مَدْلُول الْأَخَص، والمتفق عَلَيْهِ أولى. وَالتَّرْجِيح بِاعْتِبَار أَمر خَارج، فيرجح مَا كَانَ على وفْق النَّقْل الشَّرْعِيّ أَو اللّغَوِيّ، وتقريرا لوضعهما وَالْآخر يُخَالف نقلهما، فَإِن الأَصْل عدم النَّقْل أَو قَرِيبا من النَّقْل الشَّرْعِيّ أَو اللّغَوِيّ على مَا لَا يكون كَذَلِك، لِأَن النَّقْل لَو كَانَ لمناسبة فَالْأَقْرَب أولى. ويرجح أحد التعريفين على الآخر برجحان طَرِيق اكتسابه بِأَن طَرِيق اكتسابه قَطْعِيا وَطَرِيق اكْتِسَاب [الآخر] ظنيا، أَو اكْتِسَاب أَحدهمَا أرجح من طَرِيق اكْتِسَاب الآخر بِكَوْن طَرِيقه أسهل، أَو أظهر فَيقدم، والأسهل وَالْأَظْهَر على غَيره؛ لِأَنَّهُ أفْضى إِلَى مَقْصُود التَّعْرِيف وأغلب على الظَّن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4270 ويرجح أحد التعريفين على الآخر بِكَوْنِهِ مُوَافقا لعمل أهل الْمَدِينَة، أَو عمل الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، أَو الْعلمَاء، أَو عَالم وَاحِد، لحُصُول الْقُوَّة بذلك فَيحصل التَّرْجِيح. ويرجح بِكَوْنِهِ مقررا لحكم الْحَظْر إِذا كَانَ الآخر مقررا لحكم الْإِبَاحَة. ويرجح بِكَوْنِهِ مقررا لحكم النَّفْي على الْمُقَرّر للإثبات. ويرجح بِكَوْنِهِ مقررا لدرء الْحَد بِأَن يلْزم من الْعَمَل بِهِ دَرْء الْحَد دون الآخر. ويرجح بِكَوْنِهِ يلْزم من الْعَمَل بِهِ ثُبُوت عتق أَو طَلَاق وَنَحْوهمَا على مَا لَا يلْزم من الْعَمَل بِهِ ذَلِك، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَغَيره. ثمَّ قَالَ: " فالترجيح بِهِ على مَا سبق فِي الْحجَج ". وَقد تركنَا تَوْجِيه بعض مسَائِل اختصارا لظهورها. قَوْله: {والمرجحات لَا تَنْحَصِر، فَمَتَى اقْترن بِأحد الطرفيبن أَمر نقلي أَو اصطلاحي عَام، أَو خَاص، أَو قرينَة عقلية، أَو لفظية، أَو حَالية، أَو أَفَادَ زِيَادَة ظن، رجح بِهِ، وَالله أعلم} . اعْلَم أَن الترجيحات الَّتِي ذكرتها فِي هَذَا الْمُخْتَصر وَشَرحه، نقلتها من " مُخْتَصر ابْن مُفْلِح "، وَمن " الْمقنع " لِابْنِ حمدَان، وَمن " الرَّوْضَة " للموفق، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4271 و " مُخْتَصر الطوفي "، و " شَرحه "، و " جمع الْجَوَامِع "، و " مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب " والبيضاوي، وَغَيرهَا وَمَعَ ذَلِك ثمَّ تراجيح كَثِيرَة لم نذكرها، ذكرهَا الأصوليون، وَذَلِكَ لِأَن مثارات الظنون الَّتِي بهَا الرجحان، والتراجيح كَثِيرَة جدا فحصرها بعيد؛ لِأَنَّك إِذا اعْتبرت الترجيحات فِي الدَّلَائِل من جِهَة مَا يَقع فِي المركبات من نفس الدَّلَائِل ومقدماتها، وَفِي الْحُدُود من جِهَة مَا يَقع فِي نفس الْحُدُود وَفِي مفرداتها، ثمَّ ركبت بَعْضهَا مَعَ بعض، حصلت أُمُور لَا تكَاد تَنْحَصِر. وَحَيْثُ كَانَ الْأَمر كَذَلِك فالضابط وَالْقَاعِدَة الْكُلية فِي التَّرْجِيح: أَنه مَتى اقْترن بِأحد الطَّرفَيْنِ أَعنِي الدَّلِيلَيْنِ المتعارضين أَمر نقلي كآية أَو خبر، أَو اصطلاحي كعرف أَو عَادَة عَاما كَانَ ذَلِك الْأَمر أَو خَاصّا، أَو قرينَة عقلية، أَو لفظية، أَو حَالية، وَأفَاد ذَلِك زِيَادَة الظَّن: رجح بِهِ، لما ذكرنَا من [أَن] رُجْحَان الدَّلِيل هُوَ الزِّيَادَة فِي قوته وَظن إفادته الْمَدْلُول، وَذَلِكَ أَمر حَقِيقِيّ لَا يخْتَلف فِي نَفسه وَإِن اخْتلف مداركه، وَالله أعلم. وَهَذَا آخر مَا قصدنا من هَذَا الشَّرْح، وَالله أسَال أَن يَجعله خَالِصا لوجهه الْكَرِيم، وَأَن يدخلنا بِهِ جنَّات النَّعيم، وَأَن ينفع بِهِ كَاتبه وقارئه والمطالع فِيهِ، وَمن دَعَا لمؤلفه بالمغفرة، وَالرَّحْمَة، والرضوان، إِنَّه سميع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4272 قريب، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين، وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم، وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم. وَوَافَقَ الْفَرَاغ من تَعْلِيقه فِي الْيَوْم الْمُبَارك حادي عشر من رَمَضَان الْمُعظم قدره شهور سنة أَربع وَعشْرين وَتِسْعمِائَة، على يَد الْفَقِير إِلَى الله تَعَالَى مُحَمَّد بن عَليّ البستي الطرابلسي الْحَنْبَلِيّ، لطف الله تَعَالَى بِهِ وَالْمُسْلِمين آمين، وَالْحَمْد لله وَحده، وَصلى الله على مُحَمَّد وَصَحبه وَسلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4273