الكتاب: كتاب التلخيص في أصول الفقه المؤلف: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، أبو المعالي، ركن الدين، الملقب بإمام الحرمين (المتوفى: 478هـ) المحقق: عبد الله جولم النبالي وبشير أحمد العمري الناشر: دار البشائر الإسلامية - بيروت سنة النشر: عدد الأجزاء: 3   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- التلخيص في أصول الفقه الجويني، أبو المعالي الكتاب: كتاب التلخيص في أصول الفقه المؤلف: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، أبو المعالي، ركن الدين، الملقب بإمام الحرمين (المتوفى: 478هـ) المحقق: عبد الله جولم النبالي وبشير أحمد العمري الناشر: دار البشائر الإسلامية - بيروت سنة النشر: عدد الأجزاء: 3   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على رَسُوله مُحَمَّد وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ. . رب يسر بِرَحْمَتك. (1) فصل فِي حَقِيقَة الْفِقْه وأصول الْفِقْه [1] فَإِن قَالَ قَائِل: مَا حَقِيقَة الْفِقْه؟ قيل: الْفِقْه فِي حَقِيقَة اللُّغَة هُوَ الْعلم وَلَا تفصل الْعَرَب فِي كَلَامهَا بَين قَول الْقَائِل " فقهت الشَّيْء " وَبَين قَوْله " عَلمته " بيد أَن أَرْبَاب الشَّرَائِع خصصوه بضروب من الْعُلُوم تواضعا مِنْهُم وَاصْطِلَاحا. فالفقه إِذا فِي مواضعتهم هُوَ الْعلم بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة وَعبر القَاضِي عَن هَذَا الْمَقْصد بِعِبَارَة أُخْرَى فَقَالَ: هُوَ الْعلم بِأَحْكَام أَفعَال الْمُكَلّفين الشَّرْعِيَّة دون الْعَقْلِيَّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وَهَذِه الْعبارَة وَإِن كَانَت تُؤدِّي مَضْمُون الْعبارَة الأولى فَالْأولى أَسد وأوضح. [2] فَإِن قَالَ قَائِل: مَا أصُول الْفِقْه على قَضِيَّة الِاصْطِلَاح المتداول بَين الْعلمَاء؟ قيل: أصُول الْفِقْه أدلته، فالأدلة الدَّالَّة على أَحْكَام الشَّرَائِع أُصُولهَا وَالْعلم بهَا هُوَ الْعلم بالأصول. [3] فَإِن قيل: أفيدخل فِي هَذَا الْفَنّ مَا لَا يلْتَمس فِيهِ الْقطع وَالْعلم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 قيل: مَا ارْتَضَاهُ الْمُحَقِّقُونَ أَن مَا لَا يَبْتَغِي فِيهِ الْعلم لَا يعد من الْأُصُول. فَإِن قيل: فأخبار الْآحَاد والمقاييس السمعية لَا تُفْضِي إِلَى الْعلم وَهِي من أَدِلَّة أَحْكَام الشَّرَائِع؟ قيل: إِنَّمَا يتَعَلَّق بالأصول تثبيتها أَدِلَّة على وجوب الْأَعْمَال وَذَلِكَ مِمَّا يدْرك بالأدلة القاطعة، فَأَما الْعَمَل المتلقى مِنْهَا فمتصل بالفقه دون أصُول الْفِقْه. (2) القَوْل فِي حد الْعلم وَحَقِيقَته [4] إِن سَأَلنَا سَائل عَن حد الْحَد جملَة. قيل لَهُ: حد الشَّيْء وَحَقِيقَته خاصيته الَّتِي بهَا يتَمَيَّز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 [5] وَمَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْمُحَقِّقين من ائمتنا أَن حد الشَّيْء وَحَقِيقَته رَاجع إِلَى صفة الْمَحْدُود دون قَول الواصف الحاد. وَمَا ارْتَضَاهُ القَاضِي أَن الْحَد يؤول إِلَى قَول الواصف وَهُوَ عِنْده القَوْل الْمُفَسّر لاسم الْمَحْدُود وَصفته على وَجه يَخُصُّهُ ويحصره فَلَا يدْخل فِيهِ مَا لَيْسَ من قبيله وَلَا يخرج مِنْهُ مَا هُوَ من قبيله فَهُوَ رَحمَه الله مُنْفَرد بذلك من بَين أَصْحَابه وَهَذَا مِمَّا يستقصى فِي الديانَات. [6] فَإِن قيل: فَمَا حد الْعلم؟ قُلْنَا: حَده معرفَة الْمَعْلُوم على مَا هُوَ بِهِ وَإِن اقتصرت على معرفَة الْمَعْلُوم اسْتَقل الْحَد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وَلَو قلت: الْعلم مَا يعلم بِهِ الْمَعْلُوم كَانَ أَسد عندنَا. وَلَو قلت: الْعلم مَا أوجب لمحله الاتصاف بِكَوْنِهِ عَالما، لَكَانَ صَحِيحا. وَقد أَوْمَأ إِلَيْهِ شَيخنَا فِي بعض مصنفاته وَالْكَلَام فِي استقصاء ذَلِك، وَالرَّدّ على الْمُخَالفين وَذكر أَقسَام الْعُلُوم يتَعَلَّق بأصول الديانَات. (3) القَوْل فِي مائية الْعقل وَحَقِيقَته [7] اخْتلف [الْعلمَاء فِي] مائية الْعقل، فَقَالَ بَعضهم: إِنَّهَا قُوَّة طبيعية يفصل بهَا بَين حقائق المعلومات. وَقَالَ / بَعضهم: هُوَ جَوْهَر [1 / ب] [لطيف يفصل بِهِ بَين حقائق المعلومات] الضرورية، وَالَّذِي [ارْتَضَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 القَاضِي] أَن الْعقل بعض [الْعُلُوم الضرورية] ، [فَإِن قيل: مَا] هُوَ فصلوه لنا؟ قيل: هُوَ نَحْو الْعلم باستحالة اجْتِمَاع الضدين [وَالْعلم أَن الْمَعْلُوم لَا يخرج عَن أَن] يكون مَوْجُودا أَو غير مَوْجُود وَأَن الْمَوْجُود لَا يَخْلُو عَن الاتصاف بالقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أَو الْحُدُوث، وَالْعلم بمجاري الْعَادَات والمدركات بالضرورات كموجب الْأَخْبَار المتواترة الصادرة عَن المشاهدات إِلَى غير ذَلِك من الْعُلُوم الَّتِي يخْتَص بهَا الْعُقَلَاء وَمَا من ضرب من هَذِه الضروب إِذا ثَبت إِلَّا وَيجب ثُبُوت أغياره والميز بآحادها يَقع بَين الْعُقَلَاء وَغَيرهم. [8] فَإِن قيل: مَا الدَّلِيل على مَا قلتموه فِي مائية الْعقل؟ قيل: الدَّلِيل على ذَلِك أَن الْعقل لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون من قبيل الْجَوَاهِر وَإِمَّا أَن يكون من قبيل الْأَعْرَاض. وَبَطل أَن يكون من قبيل الْجَوَاهِر إِذْ الدّلَالَة دلّت على تجانسها فَلَو كَانَ جَوْهَر عقلا لَكَانَ كل جَوْهَر عقلا لوُجُوب تشابه المتماثلات فِي كل الصِّفَات. وَهَذَا يُفْضِي إِلَى القَوْل بِأَن الْعَاقِل يَسْتَغْنِي بِوُجُود نَفسه بِثُبُوت هَذَا الْوَصْف لَهُ عَن ثُبُوت الْعقل وَهَذَا بَين الْبطلَان. وَالَّذِي يُوضح بطلَان هَذَا الْقسم أَنه لَو كَانَ جوهرا لقام بِنَفسِهِ ولصح أَن يعقل الْعقل وَيحيى ويتصف بجملة الْأَوْصَاف الَّتِي تثبت للجواهر الْقَائِمَة بأنفسها، فاتضح بطلَان كَونه جوهرا، وَثَبت أَنه من قبيل الْأَعْرَاض، ومحال أَن يكون عرضا غير سَائِر الْعُلُوم لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لصَحَّ وجود سَائِر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 [الْعُلُوم] مَعَ عَدمه حَتَّى يكون الْعَالم بدقائق الْفُنُون غير عَاقل. وَهَذَا بَاطِل وفَاقا، فَدلَّ بذلك أَنه [لَيْسَ غي] ر سَائِر الْعُلُوم وَثَبت أَنه من قبيل الْعُلُوم ويستحيل أَن يكون هُوَ كل الْعُلُوم ضروريها وكس [بيها لِأَن] الْعَاقِل يَتَّصِف بِكَوْنِهِ عَاقِلا مَعَ عدم جَمِيع الْعُلُوم النظرية فَخرجت الْعُلُوم الكسبية م [ن ال] عقل، وباطل أَن يكون هُوَ كل الْعُلُوم الضرورية لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لوَجَبَ أَن يكون الفاقد للْعلم با [لمدركا] ت لعدم الْإِدْرَاك الْمُتَعَلّق بهَا غير عَاقل وَذَلِكَ محَال. ويستحيل صرف الْعقل إِلَى الْعلم بالألم و [اللَّذَّة] والإحساسات النفسية. فَإِن هَذَا الضَّرْب يتَحَقَّق للأطفال والبهائم والمجانين. فَتعين صرف الْعقل بعد بطلَان هَذِه الْأَقْسَام إِلَى مَا قدمْنَاهُ. وَلَو أردْت عبارَة أوجز مِمَّا قدمه القَاضِي رَضِي الله عَنهُ لَقلت الْعقل عُلُوم ضَرُورِيَّة باستحالة مستحيلات وَجَوَاز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 جائزات ثمَّ تفصله على مَا قدمْنَاهُ وَلَا تقدر ذَلِك من قبيل الْحُدُود الفاصلة المميزة نَحْو حد الْعلم وَغَيره مِمَّا يحد فَإِن هَذَا صرف إِلَى بعض الْعُلُوم وَلَا تستتب فِيهِ الْعبارَة إِلَّا بِزِيَادَة كشف وَتَحْصِيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 [9] فَإِن قيل: فَإِذا صرفتم الْعقل إِلَى الْمصرف الَّذِي ذكرتموه فَهَل تَزْعُمُونَ أَن الْعُقَلَاء يتفاضلون فِي عُقُولهمْ؟ [2 / 1] قيل: الْأَصَح أَنهم لَا يتفاضلون فَلَا [يتَحَقَّق شخص أَعقل / من شخص وَإِن أطلق ذَلِك كَانَ تجوزاً اَوْ صرفا إِلَى كَثْرَة التجارب، فَإنَّا بعد أَن قُلْنَا: إِنَّه بعض الْعُلُوم الضرورية فَلَا يتَحَقَّق التَّفَاوُت فِيهَا] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 (4) [القَوْل فِي معنى الدَّلِيل وَالدَّال والمدلول] والمدلول لَهُ، والمستدل والمستدل لَهُ والمستدل عَلَيْهِ وَالِاسْتِدْلَال [10] [أما الْإِتْيَان] بِمَعْنى الدَّلِيل فالدليل كل أَمر صَحَّ أَن يتَوَصَّل بِصَحِيح النّظر فِيهِ إِلَى علم مَا لَا يعلم بالاضطرار وَكَذَلِكَ الدّلَالَة. [11] فَإِن قيل: أَلَيْسَ المرشد إِلَى الطَّرِيق يُسمى دَالا، على معنى أَنه يفعل الدّلَالَة، فَهَلا زعمتهم على طريقتكم أَن الدَّلِيل هُوَ الدَّال؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 قيل: إِنَّمَا أطْلقُوا هَذَا الِاسْم على المرشد تجوزا ومنهج ذَلِك فِي الْأَسْمَاء يضاهي قَوْلهم: رجل عدل، يعنون بذلك الْعَادِل، وَإِن كَانَ الْعدْل وصف الْعَادِل بيد أَنهم سموهُ بوصفه. وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: [رجل] جور يعنون بِهِ الجائر، وَهَذَا سَبِيل تَسْمِيَة الدَّلِيل على معنى الدَّال، ثمَّ الدَّلِيل يُسمى دلَالَة، ومستدلا [بِهِ] وَحجَّة وسلطانا وبرهانا إِلَى غَيرهَا من الْعبارَات المترادفة. [12] فَإِن قيل: فَمَا معنى الدَّال؟ قيل: هُوَ [المرشد] لغيره بِنصب الدَّلِيل. وَالله تَعَالَى دَال خلقه بنصبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الْأَدِلَّة السمعية لَهُم، والعقلية. وَهَذَا حَقِيقَة الدَّال. [13] وَقد يُوصف الْمخبر عَن الدّلَالَة المنصوبة بِأَنَّهُ دَال كالواحد منا يخبر عَن دلَالَة [نصبها] الله تَعَالَى على مَدْلُول يُسمى دَالا تجوزا. [14] فَإِن قيل: فَمَا معنى الْمَدْلُول؟ قيل: هُوَ الملتمس بِالدَّلِيلِ. [15] فَإِن قيل: [فَمَا] الْمَدْلُول لَهُ؟ قيل: هُوَ عبارَة مُشْتَركَة بَين الْمَطْلُوب بِالدَّلِيلِ كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي تَفْسِير الْمَدْلُول الْمُطلق وَبَين [الَّذِي نصب] لَهُ الدَّلِيل لاستدعائه عِنْد سُؤَاله. [16] فَإِن قيل: فَمن الْمُسْتَدلّ؟ قيل: هَذَا أَيْضا مُتَرَدّد بَين [الطَّالِب] للْعلم بِحَقِيقَة الْأَمر [المنبئ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 عَن الدّلَالَة وَبَين السَّائِل نصب الدَّلِيل على مَذْهَب الاستفعال [الْمَبْنِيّ] على اقْتِضَاء الطّلب. [17] فَإِن قيل: فَمن الْمُسْتَدلّ؟ قيل: هُوَ المطالب بِالدّلَالَةِ. فَإِن قيل: فَمن الْمُسْتَدلّ لَهُ؟ قيل: هَذَا يتَرَدَّد بَين الحكم الملتمس بِالنّظرِ فِي الدَّلِيل وَبَين المطالب بِالدّلَالَةِ. [19] فَإِن قيل: فَمَا الْمُسْتَدلّ عَلَيْهِ؟ قيل: هُوَ الحكم الْمَدْلُول بِالدَّلِيلِ لَا غير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 [20] فَإِن قيل: فَمَا الِاسْتِدْلَال؟ قيل: هُوَ يتَرَدَّد بَين الْبَحْث وَالنَّظَر فِي حَقِيقَة المنظور فِيهِ وَبَين مَسْأَلَة السَّائِل عَن الدَّلِيل. فَهَذِهِ الْعبارَة الدائرة فِي هَذَا الْبَاب مِنْهَا مَا يتحد مَعْنَاهَا وَإِن اسْتعْملت فِي غَيرهَا كَانَت تجوزا. وَمِنْهَا مَا يتَرَدَّد بَين الجائزات. (5) فصل [21] أطبق أَرْبَاب التَّحْقِيق على أَن الدّلَالَة لَا تتخصص بِوُجُود وَعدم وحدوث وَقدم. يسوغ الِاسْتِدْلَال بالقدم والحدوث والعدم والوجود. وَهَذَا وَإِن كَانَ مُتَّفقا عَلَيْهِ فَرُبمَا يقرع مسامعك من بعض الجهلة الْمصير إِلَى منع الِاسْتِدْلَال بِالْعدمِ. وَالدَّلِيل على تثبيت ذَلِك أَن نقُول أَلسنا نستدل بِعَدَمِ الْآيَات على كذب المتنبي؟ وَكَذَلِكَ نستدل لعدم الْأَدِلَّة والعلوم الضرورية على [انحصار] أَوْصَاف الْأَجْنَاس فِيمَا أدركناه، حَتَّى لَو قَالَ الْقَائِل بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن للجواهر. . وَنفى موا [رد] الارتياب غير أَن نقُول لَو / كَانَت لَهَا [2 / ب] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 أَوْصَاف. . انحصار أوصافها فِيمَا. . وتنافت فَدلَّ بذلك على جَوَاز الِاسْتِدْلَال بِالْعدمِ. (6) فصل [22] اعْلَم وفقك الله أَن الْأَدِلَّة تَنْقَسِم إِلَى عَقْلِي ووضعي. [23] فَأَما الْعقلِيّ فَهُوَ مَا دلّ على الْمَطْلُوب بِهِ بِوَصْف هُوَ فِي نَفسه عَلَيْهِ غير [مفتقر إِلَى] وَاضع واصطلاح، نَحْو دلَالَة الْمُحدث على الْمُحدث والإحكام على الْعَالم والتخصيص على المريد. [24] فَأَما الوضعي فَمَا لَا يدل بِوَصْف هُوَ فِي نَفسه عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا يدل بالمواضعة تَخْصِيصًا وَمن هَذَا الْقَبِيل جملَة الْعبارَات الدَّالَّة على الْمعَانِي فِي اللُّغَات. [25] وَألْحق الْمُحَقِّقُونَ بِهَذَا الْفَنّ المعجزات الدَّالَّة على صدق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الْأَنْبِيَاء وَشرح ذَلِك يستقصي فِي أصُول الديانَات. [26] ثمَّ اعْلَم ان مَا دلّ عقلا لم يسغْ انقلابه عَن كَونه دَلِيلا. فَلَا يَتَقَرَّر فِي الْمَعْقُول حُدُوث غير دَال على مُحدث. وَأما الْأَدِلَّة الوضعية فقد تتبدل الْمُوَاضَعَة فِيهَا فَلَا يؤول التبدل فِيهَا إِلَى أَوْصَاف أَنْفسهَا. (7) فصل [27] الدَّلِيل لَا يَقْتَضِي مَدْلُوله وَلَا يُوجِبهُ إِيجَاب الْعلَّة معلولها بل يتَعَلَّق بالمدلول على مَا هُوَ بِهِ من النَّعْت وَيتبع وَصفه فِي التَّعَلُّق. وَلَا يَقْتَضِي لَهُ ثُبُوت وصف كَالْعلمِ يتَعَلَّق بالمعلوم على مَا هُوَ بِهِ، وَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 يَقْتَضِي تثبيت وصف للمعلوم بل يتَعَلَّق بِهِ على مَا هُوَ بِهِ من النَّعْت وإيضاح ذَلِك بالمثال، أَن الْحُدُوث لما دلّ على الْمُحدث اسْتَحَالَ القَوْل بِأَنَّهُ يُوجِبهُ بل يتَعَلَّق بِهِ على مَا هُوَ [بِهِ] . ومقصدنا من هَذَا ال ْفَصْل التَّحَرُّز من عِبَارَات يطلقهَا المتجانف عَن حقائق هَذَا الْفَنّ نَحْو قَول الْقَائِل: الدَّلِيل يُوجب كَذَا. وَالدّلَالَة تَقْتَضِي مدلولها، إِلَى غير ذَلِك فتحاش من أَمْثَالهَا. وَإِن أطلقتها فَاعْلَم أَنه متجوز فِي اطلاقها. وَالْكَلَام فِي الْأَدِلَّة يطول. وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ مقنع إِن شَاءَ الله تَعَالَى. (8) القَوْل فِي حَقِيقَة النّظر [28] إِن قيل: مَا حَقِيقَة النّظر؟ قيل: النّظر لفظ يتَرَدَّد بَين معَان، فقد يُطلق وَالْمرَاد بِهِ الرُّؤْيَة، وَقد يرد وَالْمرَاد بِهِ الِانْتِظَار والرقبى وَقد يرد وَالْمرَاد بِهِ التحنن والتعطف وَقد يرد وَالْمرَاد بِهِ الِاعْتِبَار. [29] فَإِن قيل: فَمَا المُرَاد بِهِ فِي اصْطِلَاح الْمُتَكَلِّمين؟ قيل: أَكثر النَّاس فِيهِ، فَمنهمْ من قَالَ هُوَ التَّأَمُّل والتفكر فِي الدَّلِيل وَهَذَا مَدْخُول، فَإِن التدبر فِي الشُّبْهَة يُسمى نظرا حَقِيقَة على اصْطِلَاح الْقَوْم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وَالأَصَح فِي ذَلِك أَن يُقَال هُوَ الْفِكر الَّذِي يطْلب بِهِ معرفَة الْحق فِي ابْتِغَاء الْعُلُوم وغلبات الظنون وَهَذَا مَا ارْتَضَاهُ رَضِي الله عَنهُ. [30] ثمَّ يَنْقَسِم النّظر إِلَى الصَّحِيح وَالْفَاسِد مَعَ اندراج الْقسمَيْنِ فِي حَقِيقَة النّظر. [31] فَإِن قيل: قد أنْكرت طَائِفَة من الْعُقَلَاء إفضاءه إِلَى الْعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 فحققوا مذهبكم. قيل: المطالب بذلك لَا يَخْلُو من أحد أَمريْن: إِمَّا أَن يكون قَاطعا بِبُطْلَان النّظر حاصرا للعلوم فِي مدارك الْحَواس على مَا اشْتهر من مَذْهَب نفاة النّظر وَإِمَّا أَن يكون مستريبا غير قَاطع. [3 / أ] فَإِن كَانَ قَاطعا قيل لَهُ / ... من جحد النّظر إِلَى جحد الضروريات. وَأما ... النّظر وَبطلَان الْمصير إِلَى حصر الْعُلُوم فِي مدارك الْحَواس. وَكَانَ السَّائِل قَاطعا فَإِن [قَالَ] لست أقطع بِمذهب وَلَكِن أوضحُوا لي صِحَة افضاء الدَّلِيل على الْمَدْلُول فأهون الطّرق عَلَيْهِ أَن نقُول: اعْتبر الْأَدِلَّة فِي الْمسَائِل واختبرها تجدها سائقة إِلَى الْعلم بالمدلولات. فَهَذَا من أحسن مَا يتَمَسَّك بِهِ على نفاة النّظر. (9) فصل [32] النّظر على مَذَاهِب أهل الْحق لَا يُولد الْعلم بالمنظور فِيهِ. وَقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 صَارَت الْقَدَرِيَّة إِلَى أَن النّظر يُولد الْعلم وَقد صحت الْأَدِلَّة عَلَيْهِم فِي إِفْسَاد التولد فِي جملَة الديانَات. [33] فَإِن قَالُوا: النّظر إِذا صَحَّ وَارْتَفَعت الْعَوَائِق فيعقبه الْعلم بالمنظور فِيهِ لَا محَالة فَدلَّ أَنه يَقْتَضِيهِ وَلَا معنى لاقْتِضَائه إِيَّاه إِلَّا التولد فَإِنَّهُ لَا يتَعَلَّق بِهِ تعلق الْعلَّة بمعلولها بِدَلِيل أَن الْعلم بالمنظور لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 يساوق النّظر. قيل لَهُم: قد يجب وجود الشَّيْء مَعَ الشَّيْء أَو بعده من غير إِيجَاب عَنهُ وَثُبُوت تولد. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ وجوب وجود الْكَوْن مَعَ وجود الْجَوْهَر. ثمَّ لَا يدل ذَلِك على أَن أَحدهمَا يُولد الآخر. وَكَذَلِكَ إِرَادَة الشَّيْء لَا تتَحَقَّق دون الْعلم ثمَّ لَا يُوجب ذَلِك تولداً. وَمن أوضح مَا يتَمَسَّك بِهِ عَلَيْهِم أَن نقُول: قد وافقتمونا معاشر الْمُعْتَزلَة على أَن من نظر وَعلم ثمَّ ذهلت نَفسه عَن النّظر وتذكر فيعقب التَّذَكُّر الْعلم كَمَا يعقب ابْتِدَاء النّظر ثمَّ اجْتَمَعْتُمْ على أَن تذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 النّظر لَا يُوجب الْعلم. فَإِن قيل: فَمَا الَّذِي يصدهم عَن ارْتِكَاب ذَلِك؟ قيل: لَو قَالُوهُ نسبوا إِلَى هدم مُعظم أصولهم. وَذَلِكَ أَنهم وافقونا على أَن التَّذَكُّر للدليل السَّابِق قد يحصل ضَرُورِيًّا من فعل الله عز وَجل فَلَو كَانَ مولودا للْعلم بالمدلول لزم مِنْهُ كَون الْعلم بالمدلول فعلا لله تَعَالَى و ... ذَلِك يسوقهم إِلَى تَجْوِيز كَون معرفَة الله تَعَالَى من فعل الله وَهَذَا من أعظم مَا ينكرونه. (10) فصل [34] فَإِن قيل: إِذا صَحَّ النّظر فِي الدَّلِيل تضمن الْإِفْضَاء إِلَى الْعلم بالمدلول فَهَل تَقولُونَ: إِن النّظر الْفَاسِد والفكر فِي الشُّبْهَة يُؤَدِّي إِلَى الْجَهْل والريب؟ قيل: النّظر فِي الشُّبُهَات لَا يَقْتَضِي جهلا وَلَا شكا وَكَذَلِكَ كل نظر فَاسد لَا يتَضَمَّن شَيْئا من أضداد الْعلم. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الدَّلِيل يتَعَلَّق بمدلوله على وَجه يُؤَدِّي النّظر فِيهِ إِلَى الْعلم بالمدلول. وَأما الشُّبْهَة فَلَا تعلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 لَهَا بأضداد الْعُلُوم حَتَّى تقتضيها لتعلقها بهَا اقْتِضَاء الدَّلِيل الْعلم بالمدلول. وَالدَّلِيل على ذَلِك أَيْضا أَن النّظر فِي الشُّبْهَة لَو كَانَ يَقْتَضِي جهلا لزم اطراد هَذَا الِاقْتِضَاء. وَنحن نعلم أَن الْعَالم بحقائق الشُّبُهَات إِذا نظر لم تسقه إِلَى الْجَهْل وَالدَّلِيل لما كَانَ مقتضيا للْعلم بالمدلول يَقُود كل من صَحَّ نظره فِيهِ إِلَى الْعلم [بالمدلول] . (11) القَوْل فِي شَرَائِط صِحَة الْوُجُوه الَّتِي مِنْهَا تدل النَّاظر [3 / ب] [35] اعْلَم أَن النّظر إِنَّمَا / يَصح بشرائط ... أَن لَا يكون النَّاظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 عَالما [بالمطلوب] لِأَن الْعلم بالشَّيْء يُنَافِي الا [ستدلال] . [فَإِن قيل:] الْعَالم منا ينصب طرقا من الْأَدِلَّة على مَا علمه بعد حُصُول إِلَّا ... قيل: الْأَدِلَّة الَّتِي ينصبها لَا تُفْضِي بِهِ إِلَى الْعلم. وَلَيْسَ مقْصده التَّوَصُّل بهَا إِلَى الْعلم فَإِنَّهُ متصف بِهِ، وَإِنَّمَا [مرامه] أَن يتَوَصَّل إِلَى تمهيد الطّرق وليعلم أَنَّهَا تنزل منزلَة أول دَلِيل اعْتصمَ بِهِ فمطلوبه جعلهَا أَدِلَّة لَا التَّوَصُّل إِلَى مدلولها. وَمن شَرَائِط النّظر كَمَال عقل النَّاظر. وَمن شَرَائِطه أَيْضا أَن يعلم الْوُجُوه الَّتِي مِنْهَا تدل الْأَدِلَّة وَلَا يَكْفِيهِ الْعلم بِذَات الدّلَالَة مَعَ الذهول عَن الْوَجْه الَّذِي مِنْهُ تدل الدّلَالَة. فَإِذا تجمعت هَذِه الشَّرَائِط فأنهى النَّاظر وَلم يعقه عائق وَلم يعقب كَمَال النّظر آفَة تضَاد حُصُول الْعلم بالمنظور فِيهِ فَيحصل الْعلم لَا محَالة وَإِذا اخْتَلَّ شَرط من هَذِه الشَّرَائِط فسد وَلم يفض إِلَى الْعلم. (12) القَوْل فِي وجوب النّظر [36] فَإِن قيل: هَل يجب النّظر عنْدكُمْ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 قيل: أجل. فَإِن قيل: فَمَا الدَّلِيل على وُجُوبه أبموجب الْعقل تدركونه أم بقضية السّمع؟ قيل: لَا تدْرك الْوَاجِبَات على أصُول أهل الْحق بقضية الْعقل. وَلكنهَا تدْرك بموجبات الْأَدِلَّة السمعية. فَإِن قيل: فَمَا الدَّلِيل على وجوب النّظر سمعا؟ قيل: قد ثَبت وجوب المعارف اتِّفَاقًا. وَقد ثَبت تعلق التَّكْلِيف بهَا ثمَّ تحقق انقسام الْعُلُوم إِلَى الضرورية والكسبية، وَثَبت توقف الكسبية على قَضِيَّة الْأَدِلَّة فَفِي الِاتِّفَاق على وجوب المعارف مَعَ توقفها على صَحِيح النّظر أوضح الدّلَالَة على وُجُوبه فَإِن وجوب الشَّيْء يَقْتَضِي وجوب مَا لَا يتم إِلَّا بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 (13) فصل [37] فَإِن قيل: فَهَل تطلقون اسْم الدّلَالَة على أَخْبَار الْآحَاد والمقاييس والعبر الْمُقْتَضِيَة وجوب الْعَمَل دون الْعلم؟ قيل: مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْمُحَقِّقين أَن اسْم الدّلَالَة يتخصص بِمَا يَقْتَضِي الْعلم من الْأَدِلَّة السمعية والعقلية. فَأَما مَا لَا يَقْتَضِي الْعلم فَسمى أَمارَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وَهَذَا لَو رد إِلَى حَقِيقَة اللُّغَة فِي الْإِطْلَاق لم يبعد. فَإِن الْعَرَب لَا تفصل فِي هَذَا الْمَقْصد بَين الْإِمَارَة وَالدّلَالَة. وَلَو قلب قالب مَا قدمْنَاهُ فِي التَّرْتِيب فَسمى الدّلَالَة المفضية إِلَى الْعلم أَمارَة، وَمَا يَقْتَضِي غَلَبَة الظَّن دلَالَة، لم يكن مُبْعدًا أَن أَرْبَاب الْحَقَائِق اصْطَلحُوا على مَا قدمْنَاهُ. وراموا بذلك تَحْقِيق الجنسين. وَهَذَا اخْتِلَاف هَين الْمدْرك. وَذهب جُمْهُور الْفُقَهَاء إِلَى تَسْمِيَة الْكل دلَالَة. [38] ثمَّ أعلم أَن الدّلَالَة تَنْقَسِم إِلَى عَقْلِي وسمعي. فاما الْعقلِيّ فينقسم إِلَى مَا يَقْتَضِي الْقطع وَإِلَى مَا لَا يَقْتَضِيهِ. فَأَما مَا يَقْتَضِي الْقطع فنحو الْأَدِلَّة فِي أصُول العقائد. وَأما مَا لَا يَقْتَضِي الْقطع ويتشبث فِيهِ بشواهد الْعقل فنحو تَقْوِيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 المقومات وَحصر مبالغ النَّفَقَات المترتبة على مقادير الْحَاجَات فَهَذَا / ... [4 / أ] [" وَكَذَلِكَ السمعي يَنْقَسِم إِلَى مَا يَقْتَضِي الْقطع وَهُوَ يتَضَمَّن الْعلم، وَإِلَى مَا لَا يَقْتَضِيهِ كأخبار الْآحَاد والمقاييس السمعية، فَكَمَا لَا يُوصف باقتضاء الْعلم، لَا يُوصف باقتضاء غَلَبَة الظَّن، و "] هَذَا مِمَّا يزل فِيهِ مُعظم الْفُقَهَاء وَوجه التَّحْقِيق فِي ذَلِك يداني مَا قدمْنَاهُ من عدم إفضاء الشُّبْهَة إِلَى الْجَهْل. وَفِيمَا قدمْنَاهُ مقنع وَلَكِن قد تعم الْعَادة بِحُصُول غلبات الظنون فِي أَثَرهَا من غير أَن تكون متضمنة لَهَا. (14) القَوْل فِيمَا يعلم عقلا وسمعا تَخْصِيصًا أَو جمعا [39] اعلموا وفقكم الله أَن من الْعُلُوم مَا لَا يتَوَصَّل إِلَيْهَا إِلَّا بأدلة الْعُقُول. وَمِنْهَا مَا لَا يتَوَصَّل إِلَيْهَا إِلَّا بأدلة السّمع، وَمِنْهَا مَا يتَوَصَّل إِلَيْهَا بِدلَالَة سمعية تَارَة وعقلية أُخْرَى. فَأَما مَا لَا يتَوَصَّل إِلَيْهِ من الْعُلُوم الكسبية إِلَّا بأدلة الْعُقُول فَهِيَ كل علم لَا تتمّ معرفَة الوحدانية والنبوات إِلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 بِهِ ثمَّ المعارف تَنْقَسِم فِي ذَلِك على مَا يستقصى فِي الديانَات. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن دلَالَة السّمع لَا تثبت فِي حق من لم يحط علما بِثُبُوت الْمُرْسل والمرسل، فاستحال تلقي هَذِه الْعُلُوم من الدّلَالَة الَّتِي لَا تثبت إِلَّا بتقديمها. وَأما مَا ينْحَصر دركه فِي الدّلَالَة السمعية فَهُوَ جملَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الَّتِي مِنْهَا التقبيح والتحسين وَالْوُجُوب وَالنَّدْب وَالْإِبَاحَة والحظر إِلَى غَيره من مجاري الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة. وَأما مَا يَصح أَن يعلم بِالْعقلِ تَارَة وبالسمع أُخْرَى فَهُوَ كل علم لَا يتَعَلَّق بِأَحْكَام التَّكْلِيف وَلَا يتَوَقَّف التَّوْحِيد والنبوة على الْإِحَاطَة بِهِ. وَذَلِكَ نَحْو دَرك جَوَاز الرُّؤْيَة وَالْعلم بِجَوَاز الغفران للمذنبين وَالْعلم بِصِحَّة التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس إِلَى غير ذَلِك من الشواهد. (15) القَوْل فِي معنى التَّكْلِيف [40] التَّكْلِيف فِي أصل اللُّغَة صادر من الكلفة وَهِي الْمَشَقَّة. وَالْمعْنَى بِهِ فِي اصْطِلَاح الْقَوْم إِلْزَام الله عز وَجل العَبْد مَا على العَبْد فِيهِ كلفة ويتضح ذَلِك بتفصيله فِي الْأَبْوَاب الَّتِي تَأتي تترى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 (16) فصل [41] مَا صَار إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ خُرُوج النَّائِم وَالْمَجْنُون والمغلوب على عقله والسكران الْخَارِج عَن حد التَّمْيِيز عَن قَضِيَّة التَّكْلِيف. وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن كل حَالَة تنَافِي الْعلم بتوجيه الْأَمر تنَافِي تَحْقِيق التَّكْلِيف. وَصَارَ بعض الْفُقَهَاء إِلَى إِطْلَاق القَوْل بتكليف السَّكْرَان والنائم فِي بعض الْأَحْكَام. وَالدَّلِيل على اسْتِحَالَة تعلق التَّكْلِيف بِمن لَا يعقل مَعَ الْبناء على إِحَالَة تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق أَن نقُول: لَو قدر تعلق التَّكْلِيف بِمن لَا يعقل لم يخل ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 من أحد أَمريْن: إِمَّا أَن يقدر مَعَ تَقْدِير ارْتِفَاع الْمَوَانِع، وَإِمَّا أَن يقدر مَعَ بَقَائِهَا فَإِن قيد تعلق التَّكْلِيف بهم مَعَ انْتِفَاء الْمَوَانِع من الْعقل فَهَذَا مِمَّا يتَّفق عَلَيْهِ وَهُوَ تَكْلِيف عَاقل على التَّحْقِيق. وَإِن قدر تعلق التَّكْلِيف بهم مَعَ بَقَاء الْمَوَانِع كَانَ مستحيلا. وَذَلِكَ لِأَن الْعلم بالمكلف مُقَدّمَة تقرر التَّكْلِيف فَلَا تقرر [4 / ب] للتكليف / [قبل الْعلم بِهِ ... ] وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك أَن الْعلم بالنبوات لما [كَانَ متوقفا على الْعلم با] لصانع لم يتَقَدَّر ثُبُوته دون تَقْدِيم الْعلم بالصانع. وكل مَا ذَكرْنَاهُ مُسْتَند إِلَى أصل. وَهُوَ إِحَالَة القَوْل بتكليف الْمحَال وَشرط قيام الْمُكَلف بامتثال أَمر الْمُكَلف تصور الْقَصْد مِنْهُ إِلَى مَا كلف. فَإِذا كلف الْقَصْد فِي حَالَة لَا يتَصَوَّر مِنْهُ الْقَصْد مَعَ تَقْدِير اسْتِبْقَاء الْمَوَانِع كَانَ عين تَكْلِيف الْمحَال. وبهذه الطَّرِيقَة اسْتَحَالَ تَكْلِيف الْبَهَائِم وَالَّذين لَا يميزون من الْأَطْفَال. [42] فَإِن قَالَ قيل: أَلَيْسَ الرب تَعَالَى خَاطب السكارى بقوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى حَتَّى تعلمُوا مَا تَقولُونَ} . وَهَذَا من أقوى مَا يعتصمون بِهِ. وَقد أَكثر الْمُحَقِّقُونَ فِي تَأْوِيل الْآيَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 والأسد مِنْهَا أَن يُقَال: إِن اسْم السَّكْرَان ينْطَلق على النشوان الَّذِي لَا ينسل عَن ربقة التَّمْيِيز كَمَا ينْطَلق على الطافح المغشي عَلَيْهِ. فَيحمل السكر على مَا لَا يُنَافِي التَّمْيِيز. فَإِن قيل: هَذَا التَّأْوِيل يُنَافِي سِيَاق الْآيَة. فَإِن الرب تَعَالَى قَالَ: {حَتَّى تعلمُوا مَا تَقولُونَ} فَدلَّ ذَلِك على مُنَافَاة الْحَالة السَّابِقَة للْعلم؟ قيل: قد يُطلق نفي الْعلم فِي حق الْعَالم مَعَ تبدي أَسبَاب الِاضْطِرَاب فِيهِ حَتَّى لَا يستبدع فِي التخاطب أَن يُقَال للرجل الَّذِي حاد من سنَن الصَّوَاب: لست تعقل مَا تَقول. وَلَيْسَ الْمَعْنى بِهِ إِخْرَاجه عَن أحزاب الْعُقَلَاء. وَكَذَلِكَ قَوْله عز وَجل: {حَتَّى تعلمُوا مَا تَقولُونَ} أَي حَتَّى تنتهوا إِلَى حَالَة تعلمُونَ فِيهَا مُوجبَات الخضوع والخشوع فِيمَا تقيمونه من الصَّلَوَات. وهيهات كَيفَ يتَقَبَّل فِي مَسْأَلَة استندت الدّلَالَة فِيهَا إِلَى تَكْلِيف الْمحَال بِظَاهِر هُوَ عرضة للتأويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 [43] فَإِن قيل: أَلَيْسَ النَّائِم يضمن مَا يتْلف فِي نَومه وَيَقْضِي الصَّلَوَات الَّتِي تمر عَلَيْهِ مواقيتها إِلَى غير ذَلِك من الْأَحْكَام؟ قيل: هَذَا تخيل مِنْكُم فإننا نقُول: لَا يُخَاطب فِي حَال نَومه بِشَيْء مِمَّا قلتموه بيد أَنه تيقظ توجه إِلَيْهِ الْخطاب بديا. فَإِن قيل: إِنَّمَا يُخَاطب فِي الْيَقَظَة بِسَبَب مَا تقدم مِنْهُ فِي نَومه. قُلْنَا: مقصدنا نفي الْخطاب فِي حَال النّوم. فَأَما ثُبُوت أَسبَاب تستند [إِلَى] تثبيت الْأَحْكَام فِي الْيَقَظَة فمما لَا ننكره. [44] وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك اتِّفَاق الكافة على اسْتِحَالَة [دُخُول] فعل الْحَمِيم الْمَالِك لأمر نَفسه تَحت تَكْلِيف الْقَرِيب ثمَّ قد يصدر مِنْهُ قتل على سَبِيل الْخَطَأ [فَيكون] الْعقل على قَرِيبه وَيتَوَجَّهُ مُقْتَضى التَّكْلِيف فِي تأدية الْعقل عَلَيْهِ ويستند ذَلِك إِلَى [مَا لَا] ينْدَرج تَحت تَكْلِيفه وَهُوَ فعل قَرِيبه. [45] وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الَّذين لَا يميزون من الصّبيان لَا يكلفون وفَاقا. وَإِن كَانَ لَو أتلف شَيْئا ثمَّ بلغ طُولِبَ بِقِيمَة الْمُتْلف فاستتبت الْمَسْأَلَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ووضح الْحق فِيهَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق. (17) فصل [46] فَإِن قيل: قد دللتم على اسْتِحَالَة تَكْلِيف من لَا يعقل، فَهَل تطردون / قَود هَذَا الدَّلِيل فِي [الساهي والغافل، قي] ل: مَا سَهَا عَنهُ [5 / أ] الْمَرْء فَلَا يتَحَقَّق تعلق التَّكْلِيف بِهِ مَعَ سَهْوه عَنهُ وَمَا قدمْنَاهُ من الدَّلِيل يطرد فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. وَإِن أَحْبَبْت إِعَادَة الدّلَالَة فِي معرض يتخصص بِهَذِهِ الصُّورَة، قلت: التَّكْلِيف يَقْتَضِي إِلْزَام الْمُكَلف الْقَصْد إِلَى امْتِثَال أَمر الْمُكَلف فِيمَا كلف، والسهو عَنهُ يُنَافِي قصد الِامْتِثَال فِيهِ مَعَ تَقْدِير اسْتِمْرَار السَّهْو، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه لَو سَاغَ مَا قَالَه الْخصم أَنه لَو جَازَ تَكْلِيف الساهي مَعَ سَهْوه لجَاز تَقْيِيد الْخطاب بسهوه حَتَّى يرد الْخطاب مُقَيّدا بِهِ، وتمثيله أَن يرد الْأَمر بِالْقَصْدِ إِلَى مَا القاصد ساه عَنهُ. فَهَذَا فِي نِهَايَة التَّنَاقُض. فَإِن من قَالَ لمن هُوَ دونه: اقصد فعلا فِي حَال كونك سَاهِيا عَنهُ كَانَ مُبْعدًا، فَكيف يتَحَقَّق مِنْهُ الْعلم بالسهو عَن الْمَأْمُور بِهِ، وَلَو علم سَهْوه عَنهُ كَانَ عَالما بِهِ غير ساه، فَلَمَّا اسْتَحَالَ تَقْيِيد الْخطاب بذلك تَصْرِيحًا اسْتَحَالَ انطواؤه عَلَيْهِ تضمنا وَهَذَا مَا لَا محيص عَنهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 (18) القَوْل فِي صِحَة دُخُول فعل الْمُكْره تَحت التَّكْلِيف [47] مقصدنا من هَذَا الْبَاب لَا يتَبَيَّن إِلَّا بعد أَن تحيط علما بِأَن الْإِكْرَاه لَا يتَحَقَّق على مَذَاهِب الْمُحَقِّقين إِلَّا مَعَ تصور اقتدار الْمُكْره، فَالَّذِي بِهِ رعشة ضَرُورِيَّة لَا يُوصف بِكَوْنِهِ مكْرها فِي رعدته ورعشته وَإِنَّمَا الْمُكْره من يخوف ويضطر إِلَى أَن يُحَرك يَده على اقتدار وَاخْتِيَار فَإِذا تمهدت هَذِه الْقَاعِدَة فَلَا اسْتِحَالَة فِي تَكْلِيف مَا يدْخل تَحت اقتداره واختياره مَعَ تحقق قَصده وَعلمه. وَقد زعمت الْقَدَرِيَّة أَنه لَا يَصح تَكْلِيف الْمُكْره مَعَ موافقتهم إيانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 على اقتداره. ثمَّ زادوا عزما وصاروا إِلَى أَن الْقُدْرَة تتَعَلَّق بالضدين وَالْمكْره المقتدر على مَا أكره عَلَيْهِ مقتدر على فعله وَتَركه. وَنحن معاشر أهل الْحق نصير إِلَى أَنه إِذا قدر على مَا أكره عَلَيْهِ لم تتَعَلَّق قدرته بِتَرْكِهِ وَالْكَلَام فِي الإلجاء وَالْإِكْرَاه يتَعَلَّق بِأَبْوَاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 .. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 التَّعْدِيل والتجوير. وَإِنَّمَا نبهناك على طرف مِنْهُ حَتَّى لَا تغفل عَن هَذَا الْبَاب. وَإِن أَحْبَبْت أَن تعتصم بنكتة تخَالف أصُول الْكَلَام، وتليق بمحافل الْفُقَهَاء قلت: اجْمَعْ الْعلمَاء قاطبة على توجه النَّهْي على الْمُكْره على الْقَتْل عَن الْقَتْل، وَهَذَا عين التَّكْلِيف فِي حَال تحقق الْإِكْرَاه، وَهَذَا مَا لَا منجا مِنْهُ وقواعد الْبَاب تستقصي فِي الديانَات إِن شَاءَ الله عز وَجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 (19) القَوْل فِي تَكْلِيف الصَّبِي [48] اعْلَم، وفقك الله: أَن مَا نرتضيه انْقِطَاع التَّكْلِيف عَن الصّبيان. وَمن الْعلمَاء من يزْعم أَن بعض أَحْكَام التَّكْلِيف يتَعَلَّق بهم. وَهُوَ زلل، فَإِن الْمَعْنى بالتكليف توجه الْأَمر وطلبات الشَّرْع، والمكلف هُوَ الله [عز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وَجل] وَنحن نعلم قطعا أَن الطلبات من الله تَعَالَى لَا تتَعَلَّق بالصبية كَمَا لَا يتَعَلَّق بهم التوعد بالعقاب ... عِنْد تقدر الْمُخَالفَة. فَإِن قيل: أَلَيْسَ يضْرب ابْن عشر وَيُؤمر بِالصَّلَاةِ. قيل: إِنَّمَا يتَعَلَّق / التَّكْلِيف بوليه، ثمَّ ... طَوِيل للْعُلَمَاء قيل [5 / ب] تجب فِي أَمْوَالهم ... عقلا وُرُود الشَّرْع بتكليف الصّبيان مَعَ منع تَكْلِيف ... فَلَا يجوز تعلق التَّكْلِيف بِهِ. وَأما من يعقل مِنْهُم فَيجوز ذَلِك عقلا بيد أَنا لما رَأينَا توعد الشَّرْع وَتوجه الطلبات من الله تَعَالَى مُنْقَطِعَة عَنْهُم تبين لنا انْقِطَاع التَّكْلِيف عَنْهُم سمعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 (20) فصل [49] فَإِن قيل: أَلَيْسَ التَّكْلِيف يتَعَلَّق بالأفعال، ووجودها وحدوثها يسْتَند إِلَى قدرَة الله تَعَالَى. فَمَا الْوَصْف الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ التَّكْلِيف؟ قيل: لَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بذوات الْأَفْعَال وَلَا بحدوثها. فَإِن ذَلِك مُسْتَند إِلَى قدرَة الله تَعَالَى. وَإِنَّمَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف باكتساب العَبْد للأفعال وَالْكَلَام فِي الْكسْب وَمَعْنَاهُ، وتبيين مُتَعَلق الْقُدْرَة الْحَادِثَة يستقصي فِي الديانَات إِن شَاءَ الله عز وَجل. وَلما صَارَت الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن الْقُدْرَة الْحَادِثَة تَقْتَضِي إِيجَاد الْأَفْعَال باختراعها زَعَمُوا أَن التَّكْلِيف يتَعَلَّق بالإيجاد والأحداث. (21) القَوْل فِي بَيَان الصِّفَات الَّتِي يشْتَرط كَون الْمَأْمُور بِهِ عَلَيْهَا ليَصِح الْأَمر بِهِ [50] فَأول وصف نشترط فِيهِ أَن يكون مِمَّا يَصح من الْمَأْمُور ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 اكتسابه ويندرج تَحت هَذَا الْوَصْف صِحَة حُدُوث الْمَأْمُور بِهِ. فَإِنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 لَا يتَحَقَّق صِحَة الِاكْتِسَاب إِلَّا فِيمَا يتَحَقَّق فِيهِ الْحُدُوث. فاندرج تَحت مَا ذَكرْنَاهُ تَخْصِيص تصور الِاكْتِسَاب بالمأمور فَإِن تصور ذَلِك من غَيره لَا يَقْتَضِي تثبيته مَأْمُورا بِهِ فِي حَقه. وَالْوَصْف الآخر أَن يكون مَعْلُوما متميزا للْمَأْمُور مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ أَو أَن يكون فِي حكم الْمَعْلُوم بِأَن يكون الْمَأْمُور مِمَّن يَصح أَن يُعلمهُ. [51] فَإِن قيل: فَلَو اجتزيتم بقولكم يشْتَرط أَن يكون مِمَّا يَصح اكتسابه، ألم يكن فِيهِ اكْتِفَاء؟ قيل: هَذَا يسْتَند إِلَى أصل فِي الديانَات، وَهُوَ أَنه هَل يَصح الِاكْتِسَاب وَتعلق الْقُدْرَة الْحَادِثَة بمقدروها مَعَ جهل الْقَادِر بالمقدور. وَهَذَا مِمَّا اخْتلف فِيهِ سلفنا. وَالأَصَح عدم اشْتِرَاط الْعلم. وَلَكِن وَإِن لم يشْتَرط تعلق الْعلم بالمقدور يشْتَرط كَون الْمَقْدُور مِمَّا يَصح الْعلم بِهِ. وَلَا يشْتَرط فِي كَون الْمَأْمُور بِهِ مَأْمُورا بِهِ نفس تعلق الْعلم بِهِ. وَلَكِن لَو كَانَ بِحَيْثُ يَصح الْعلم بِهِ صَحَّ الْأَمر بِهِ. وَهَذَا الْمَعْنى يتَحَقَّق فِي كل مَا يَصح أَن يكْتَسب. فَخرج لَك من مَضْمُون ذَلِك، إِن اكتفيت بِقَوْلِك شَرط الْمَأْمُور بِهِ أَن يكون مِمَّا يَصح من الْمَأْمُور اكتسابه صَحَّ، بيد أَن الْبسط أقرب إِلَى الإفهام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 [52] فَإِن قيل: فَمَا الدَّلِيل على اشْتِرَاط مَا شرطتموه؟ قُلْنَا: أما الدَّلِيل على صِحَة كَونه مكتسبا للْمَأْمُور فَهُوَ أَنه لَو لم يشْتَرط ذَلِك لزم مِنْهُ تَجْوِيز تَكْلِيف الْمحَال. وتصور تعلق التَّكْلِيف بِمَا لَا يدْخل تَحت قبيل مقدورات العَبْد كالأجسام / والألوان ود ... [منع تَكْلِيف [6 / أ] الْمحَال واستقصاؤه] يطول. [53] فَإِن قيل: فَلم شرطتم كَونه [مَعْلُوما متميزا للْمَأْمُور؟ قيل: فِي تثبيت] كَونه مكتسبا تثبيت لكَونه فِي حكم الْمَعْلُوم فَإِن مَا صَحَّ كَونه مكتسبا للْمَأْمُور صَحَّ كَونه مَعْلُوما. وَأَيْضًا فَإِن الْمَقْصد من التَّكْلِيف أَن يقدم الْمُكَلف على مَا أَمر بِهِ أَو يجْتَنب مَا نهي عَنهُ. وَلنْ يتَحَقَّق ذَلِك إِلَّا بِأَن يعرفهُ بِعَيْنِه. وَالْأَمر بالشَّيْء بِعَيْنِه مَعَ اسْتِحَالَة الْعلم بِعَيْنِه من قبيل المحالات. (22) فصل [54] قد يكون الْمَأْمُور بِهِ مِمَّا يَصح كَونه مرَادا للْمَأْمُور بِإِرَادَة مُؤثرَة فِي كَونه قربَة كالعبادات الْوَاجِبَة بعد ثُبُوت أصل المعارف. وَقد يكون بِحَيْثُ لَا يتَقَدَّر قصد الْقرْبَة فِيهِ. وَذَلِكَ نَحْو النّظر الأول قبل تقرر الْعلم بالصانع فَإِنَّهُ مَأْمُور بِهِ وَلَا يتَصَوَّر من الْمَأْمُور قصد التَّقَرُّب فِيهِ، وَلما يعلم بعد الرب الَّذِي يتَقرَّب إِلَيْهِ بامتثال أوامره، فَهَذَا أصل أهل الْحق فِي وصف المأموربه وَشَرطه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 [55] وَذكر الْمُعْتَزلَة أوصافا تستند إِلَى أصولهم فِي الديانَات يطول شرحها بيد أَنا نذكرها بِأَعْيَانِهَا. فَمِنْهَا: أَن قَالُوا: يجب أَن يَتَّصِف الْمَأْمُور بِهِ بالْحسنِ وَهُوَ وصف زَائِد عِنْدهم رَاجع إِلَى نفس الْمَأْمُور بِهِ. وَكَذَلِكَ يَتَّصِف المنهى [عَنهُ] بالقبح. وَمِنْهَا: أَن يكون الْمَأْمُور بِهِ شاقا على الْمُكَلف. وَمِنْهَا: أَن لَا يكون حَادِثا. وَأَن لَا يكون منقضيا مَاضِيا وَأَن تكون الْقُدْرَة عَلَيْهِ مفعولة. وَأَن لَا يكون الْمَأْمُور مكْرها وملجأ وَأَن يكون مرَادا للْآمِر بِهِ وَأَن يكون مِمَّا يقْصد بِهِ إثابة الْمَأْمُور وَأَن لَا يكون مَمْنُوعًا من فعله بِوُجُود ضِدّه. فَهَذِهِ أَوْصَاف شرطوها لأصولهم. فَأَما الْحسن والقبح فَسَيَأْتِي فيهمَا بَاب إِن شَاءَ الله عز وَجل، وَأما اشتراطهم كَونه شاقا فلأجل قَوْلهم: الْمَقْصد من التَّكْلِيف إثابة الْمُكَلف على مَا يَنَالهُ من الْمَشَقَّة، وَأما قَوْلهم أَن لَا يكون حَادِثا فَلِأَن الْحَادِث مَوْجُود، وَلَا يتَعَلَّق الْقُدْرَة عِنْدهم بموجود. وَأما اشتراطهم أَن لَا يكون وقته مَاضِيا. فَلِأَنَّهُ إِذا مضى وَقت اسْتَحَالَ وجوده لاختصاصه بِالْوَقْتِ الْمَاضِي إِذا كَانَ مِمَّا لَا يَصح بَقَاؤُهُ، وَهَذَا يتَعَلَّق بِأَصْل فِي تَحْقِيق الْإِبْدَال، يستقصي فِي أَحْكَام الْقدر فِي الديانَات. وَأما اشتراطهم وجود الْقُدْرَة عَلَيْهِ فلقولهم إِن تَكْلِيف مَا لَا قدرَة عَلَيْهِ للمكلف قَبِيح وَهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 بَاطِل على أصولنا. فَإنَّا نجوز تعلق التَّكْلِيف بِالْقيامِ فِي حَال قعُود الْمُكَلف مَعَ مصيرنا إِلَى أَن الْقُدْرَة على الْقيام لَا تسبق الْقيام. وَأما اشتراطهم كَونه غير مَمْنُوع فلقولهم يَصح أَن يكون الْقَادِر مَمْنُوعًا عَن مقدوره وَنحن نحيل القَوْل بذلك. وَأما اشتراطهم انْتِفَاء الْإِكْرَاه والإلجاء فقد سبق فِي بَاب مُفْرد. وَأما اشتراطهم كَونه مرَادا للْآمِر فلأعظم الْأُصُول فِي الديانَات. وَهُوَ إِرَادَة الكائنات. وَأما اشتراطهم كَونه مِمَّا يَصح الإثابة عَلَيْهِ فلأصلهم فِي الصّلاح والأصلح. وكل هَذِه الْأُصُول بَاطِلَة على مَذْهَب أهل الْحق. (23) القَوْل فِي بَيَان الْمَطْلُوب من قَضِيَّة / التَّكْلِيف ... [6 / ب] [56] ... هِيَ بأوصاف رَاجِعَة إِلَى أنفس الْأَفْعَال عقلا كَمَا يَتَّصِف الْجَوْهَر بِكَوْنِهِ متحيزا عقلا. ويتصف الْكَوْن بِكَوْنِهِ مقتضيا تَخْصِيصًا بمَكَان أَو تَقْدِيره عقلا وتتصف الْعلَّة بِكَوْنِهَا مُوجبَة معلولها عقلا. فَهَذِهِ الْأَوْصَاف، وَجُمْلَة أَوْصَاف الْأَجْنَاس تتَعَلَّق بوجودها وذواتها تَخْصِيصًا. [57] وَأما الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَلَيْسَتْ بأوصاف الْأَفْعَال أصلا. وَالْمحرم شرعا قد يكون مثلا للْوَاجِب فِي كل الْأَوْصَاف بيد أَنَّهُمَا يفترقان فِي قَضِيَّة السّمع مَعَ استوائهما وتماثلهما فِي حكم الْعقل وجودا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وَذهب بعض المنتمين إِلَى هَذَا الْفَنّ إِلَى أَن الْمَطْلُوب بالتكليف ذَات الْفِعْل. واعتل هَذَا الْقَائِل بِضَرْب من الجهالات. وَقَالَ: لَو قدر عدم الْفِعْل انْتَفَت الْأَحْكَام فَدلَّ أَن الْأَحْكَام هِيَ ذَوَات الْأَفْعَال. قيل: وَلَو قدر عدم الْأَجْسَام وَجب انْتِفَاء الْأَعْرَاض ثمَّ لم يدل ذَلِك على أَن الْأَعْرَاض هِيَ عين الْأَجْسَام. ثمَّ نقلب عَلَيْهِ ذَلِك فَنَقُول: إِن صَحَّ الِاسْتِدْلَال على كَون الحكم عين الْفِعْل بانتفائه عِنْد عدم الْفِعْل صَحَّ الِاسْتِدْلَال على أَنه غير الْفِعْل لتحَقّق بَقَاء الْفِعْل مَعَ انْتِفَاء الْأَحْكَام. وَهَذَا مَا لَا جَوَاب عَنهُ. [59] فَإِن قيل: كَمَا يُوصف الْفِعْل بِكَوْنِهِ مَوْجُودا فعلا عرضا مَقْدُورًا مَعْلُوما فَكَذَلِك يُوصف بِكَوْنِهِ حَلَالا حَرَامًا. فَإِذا وَجب الْأَوْصَاف الَّتِي استشهدنا بهَا إِلَى أنفس الْأَفْعَال فَكَذَلِك الْمُخْتَلف فِيهِ. وأردفوا ذَلِك بِأَن قَالُوا: إِذا لم تصرفوا الْأَحْكَام إِلَى ذَوَات الْأَفْعَال وأوصافها فَمَا مَعْنَاهَا عنْدكُمْ؟ أَهِي عبارَة عَن وجود أَو عدم؟ ففصلوا قَوْلكُم فِيهَا. قيل: مَا استفصا لكم عَن حَقِيقَة مَذْهَبنَا. فَهُوَ أولى مَا نبدأ بِهِ فالأحكام هِيَ أَخْبَار الله عز وَجل عَمَّا يطْلب بالشرائع وَإِذا تعلق كَلَام الرب عزت قدرته بالمطالب السمعية فَهُوَ حكمه علينا. فَخرج لَك من ذَلِك أَن الحكم يؤول إِلَى كَلَام الله تَعَالَى عِنْد تعلقه بالمطالب السمعية وَأما مَا استروحوا إِلَيْهِ من قَوْلهم أَن الْفِعْل ينعَت بِكَوْنِهِ حَلَالا حَرَامًا كَمَا ينعَت بِكَوْنِهِ مَوْجُودا فعلا، فَهَذَا استرواح إِلَى التسميات، والإطلاقات المنطوية على الْحَقَائِق والمجازات. وَالْمعْنَى بِكَوْنِهِ حَلَالا حَرَامًا محرم. والمعني بِكَوْنِهِ محللا محرما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 [أَن] الرب أخبر الْمُكَلّفين بِالتَّحَرِّي فِي فعل والاجتناب عَن فعل. وَهَذَا مَا لَا يرجع إِلَى أنفس الْأَفْعَال وجودا بِحَال. (24) القَوْل فِي معنى الْحسن والقبح فِي حكم التَّكْلِيف [60] اعْلَم، وفقك الله أَن الْحسن قد يُطلق وَالْمرَاد بِهِ اعْتِدَال الْخلق / [7 / أ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وتناصف الصُّور وتركب [الْأَجْسَام] ... فِي الْعَادَات وَكَذَلِكَ الْقبْح يُطلق، وَالْمرَاد بِهِ ضد ذَلِك فِي الْخلق، وَهَذَا مَا لَا نقصد [فِي هَذَا] الْفَنّ. وَإِنَّمَا الْمَقْصد تَحْقِيق مَا يحسن فِي قَضِيَّة التَّكْلِيف ويقبح. [61] فحقيقة الْحسن فِي حكم التَّكْلِيف إِذا كل فعل لنا الثَّنَاء شرعا على فَاعله بِهِ والقبيح كل فعل لنا الذَّم شرعا لفَاعِله بِهِ وَرُبمَا يعبر القَاضِي فِي تَحْقِيق الْحسن فَيَقُول مَا أمرنَا بمدح فَاعله. وَرُبمَا يتخالج فِي الصُّدُور من ذَلِك شَيْء فَإِن الْمُبَاح يُسمى حسنا وَلَا يتَحَقَّق توجه الْأَمر بمدح فَاعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 والعبارة الَّتِي ارتضينا أَسد إِن شَاءَ الله. [62] ثمَّ الْحسن والقبح لَا يرجعان إِلَى وصف الْفِعْل وَحسنه وَإِنَّمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 يرجعان إِلَى حكم الرب شرعا على مَا سبق التَّفْصِيل فِي الحكم وَمَعْنَاهُ. [63] وَصَارَت الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن قبح الْقَبِيح وصف رَاجع إِلَى ذَاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وَالْأَكْثَرُونَ مِنْهُم صَارُوا إِلَى مثل ذَلِك فِي الْحسن فصرفوه إِلَى نفس الْفِعْل. [64] فَإِن قيل: قد أومأتم إِلَى معنى الْحسن والقبيح، فَمَا معنى قَول الْعلمَاء: هَذَا أحسن من هَذَا. وأقبح من هَذَا؟ قيل: قد ذكرنَا أَن معنى الْحسن إِنَّمَا هُوَ الْفِعْل الَّذِي ورد السّمع بتعظيم فَاعله وَحسن الثَّنَاء عَلَيْهِ. فَالْأَحْسَن هُوَ الَّذِي يكون الثَّنَاء الْمَأْمُور فِيهِ أَكثر مِمَّا يُضَاف إِلَيْهِ. وَهَذَا مَنْهَج الأقبح فِي وَصفه. (25) فصل [65] لَا يدْرك بِمُجَرَّد الْعقل حسن وَلَا قبح على مَذْهَب أهل الْحق وَكَيف يتَحَقَّق دَرك الْحسن والقبح قبل وُرُود الشَّرَائِع مَعَ مَا قدمْنَاهُ من أَنه لَا معنى لِلْحسنِ والقبح سوى وُرُود الشَّرَائِع بالذم والمدح. فالحسن إِذا على التَّحْقِيق هُوَ التحسين. وَذَلِكَ نفس الشَّرَائِع وَكَذَلِكَ الْقبْح يرجع إِلَى التقبيح. وَهُوَ عين الشَّرْع. [66] وأطبقت الْمُعْتَزلَة على أَن حسن الْمعرفَة وَالشُّكْر وقبح الكفران، وَالظُّلم وَغَيرهمَا مِمَّا يعدونه يدْرك بِالْعقلِ. ثمَّ أطبقوا فِيمَا بَين أظهرهم على أَن الْحسن والقبح فِي هَذِه الْأُصُول يدْرك بضرورة الْعقل وَهَذَا يستقصي فِي الديانَات، وَلَكنَّا نتمسك عَلَيْهِم بحرفين. أَحدهمَا: أَن نقُول أَنْتُم لَا تخلون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 إِمَّا أَن تَقولُوا أَن الْقبْح فِي الكفران وَالْحسن فِي الشُّكْر يدْرك اسْتِدْلَالا ونظرا، وتزعمون أَن ذَلِك مَعْلُوم ضَرُورَة. فَإِن زعمتم أَن ذَلِك يدْرك بطرق الْأَدِلَّة وَجب أَن تزعموا أَن من لم يسبر الْأَدِلَّة المفضية إِلَى إِدْرَاك الْحسن والقبح لَا يتَصَوَّر أَن يتَوَصَّل إِلَى إِدْرَاك ذَلِك. وَأَنْتُم تَزْعُمُونَ أبدا أَن الْعُقَلَاء بأجمعهم يعلمُونَ قبح الكفران وَالظُّلم وَالْكذب وَحسن الشُّكْر، من عرف الدَّلِيل مِنْهُم وَمن لم يعرفهُ، وَإِن أَنْتُم زعمتم أَنه مدرك ضَرُورَة فالعلوم الضرورية مِمَّا يَسْتَوِي فِيهَا الكافة عِنْد اسْتِوَاء أَسبَابهَا. وَنحن لَا ندرك مَا تزعمونه. [67] فَإِن قَالُوا: أَنْتُم تعلمُونَ الْقبْح وَالْحسن بيد أَنكُمْ تظنون أَنكُمْ تعرفونه سمعا وهما مدركان عقلا. قُلْنَا: فَهَذَا ينعكس عَلَيْكُم. فَيُقَال لكم وَأَنْتُم تعلمُونَ الْقبْح سمعا بيد أَنكُمْ تحسبونه مدْركا عقلا. ثمَّ نقُول: لَو سلمنَا لكم أَنا نَعْرِف الْحسن وَصفا للْفِعْل ثمَّ خالفناكم فِي مدركه كَانَ يستتب لكم مَا سألتموه تَمامًا. وَمن أصلنَا أَنا لَا نعلم بِالْعقلِ وَصفا هُوَ حسن أَو قبح. وَإِنَّمَا علمنَا [7 / ب] وُرُود / الشَّرَائِع ... لكم ذَلِك ادعيتم اللّبْس بعده فِي الْمدْرك. وَهَذَا مَا لَا حِيلَة لَهُم فِيهِ. [68] فَإِن قيل: الدَّلِيل على أَنه مدرك ضَرُورَة أَن كَافَّة الْعُقَلَاء متفقون فِي دركه فَمَا من عَاقل إِلَّا ويستحسن الشُّكْر ويستقبح الكفران. قيل: فِي هَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ قبل هَذَا السُّؤَال اكمل الغنية فِي إبِْطَال مَا أبديتموه، ثمَّ أَكثر مَا فِيهِ إِن سلم لكم مَا زعمتموه فَلَيْسَ فِيهِ استرواح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 فَإنَّا نجوز اتِّفَاق الْعُقَلَاء على مدركه بِالدَّلِيلِ. وَلَا يستبدع أَن يجمع الْبَريَّة على معرفَة الله تَعَالَى بِالدَّلِيلِ. ثمَّ لَا يَقْتَضِي إِجْمَاعهم الْعلم الضَّرُورِيّ. [69] فَإِن قيل: لَو كَانَ إِدْرَاك الْحسن والقبح متوقفا على وُرُود الشَّرَائِع لما علم الْحسن والقبح من يعْتَقد بطلَان الشَّرَائِع. وَنحن نعلم أَن الدهرية والبراهمة يعلمُونَ الْحسن والقبح مَعَ جحدهم أصل الشَّرَائِع. قُلْنَا: إِن كُنْتُم تعنون بالْحسنِ والقبيح مَا تميل إِلَيْهِ الطباع وتهواه النُّفُوس فِي غريزة الجبلات وتنفر عَنْهَا من اللَّذَّات والاهتزاز والفرح والآلام وضروب الضَّرَر والترح فَهَذَا مَا لَا نناقشكم فِيهِ: وَإِن كُنْتُم تعنون بالْحسنِ والقبح مَا يتَعَلَّق بالتكليف فهم لَا يعرفونه. وَإِن خيل لَهُم أَنهم يعرفونه فهم مقلدون غير موقنين. وَهَذَا كَمَا أَن الْعَوام الَّذين لم يسندوا العقائد إِلَى الْأَدِلَّة. وَلم يسبروها حق سبرها وَلم يميزوا بَين مواقع الشُّبْهَة والأدلة لَو قطعُوا آرابا مَا انتكصوا على أَعْقَابهم. وهم غير عارفين بِاللَّه تَعَالَى عِنْدهم فكم من مقلد يحْسب نَفسه عَالما وَالْأَمر على خلاف مَا يقدره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 [70] وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ عَلَيْهِم أَن نقُول: إِذا زعمتم أَن قبح الْقَبِيح يدْرك عقلا فَلَا تخلون إِمَّا أَن تَقولُوا: الْقبْح وصف من أَوْصَافه كحدوثه وَكَونه عرضا وكونا وفعلا إِلَى غَيرهَا من أَوْصَافه، أَو تَقولُوا: لَا يرجع ذَلِك إِلَى وَصفه فَإِن زعمتم أَن ذَلِك يرجع إِلَى وَصفه فَأول مَا يلزمكم عَلَيْهِ أَن يُقَال: أَلَيْسَ من حكم المثلين أَن يتساويا فِي كل الْأَوْصَاف الْجَائِزَة والواجبة. وَلَا يجوز أَن يستبد أَحدهمَا بِوَصْف لَا يتَحَقَّق ثُبُوته للثَّانِي؟ ، فَإِذا قَالُوا: أجل وَلَا بُد مِنْهُ. قيل لَهُم: فالقتل ابْتِدَاء فِي حسن الْقَتْل اقتصاصا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي شَيْء من الصِّفَات التابعة للوجود. فَوَجَبَ أَن يَكُونَا حسنين أَو قبيحين. وعندكم يجب قبح أَحدهمَا وَحسن الثَّانِي مَعَ تماثلهما فِي حَقِيقَة الْفِعْل، فَدلَّ أَن الْقبْح لَا يرجع إِلَى تعْيين وصف الشَّيْء، وَإِذا بَطل هَذَا الْقسم واستحال صرفه إِلَى الْفِعْل وَجب صرفه إِلَى مصرف آخر وَلَا يعقل لَهُ مصرف سوى الْإِذْن وَالْأَمر الْمُتَعَلّق بِهِ بعد بطلَان الْقسم الأول. وَهَذَا هُوَ السّمع نَفسه. وَهَذَا مَا لَا محيص لَهُم عَنهُ واستقصاؤه فِي الديانَات. (26) القَوْل فِي أَقسَام الْحسن والقبيح شرعا [71] جملَة أَفعَال الْمُكَلّفين يحصرها قِسْمَانِ فِي حكم الشَّرْع أَحدهمَا مَا للمكلف فعله وَالثَّانِي مَا لَيْسَ لَهُ فعله. [8 / أ] [72] وينقسم من وَجه آخر / ثَلَاثَة أَقسَام مَأْمُور بِهِ ومنهي عَنهُ ومباح مَأْذُون فِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 [73] فَأَما الْمَأْمُور بِهِ فينقسم إِلَى وَاجِب وَندب. والمنهى عَنهُ يَنْقَسِم إِلَى مَحْظُور محرم وَإِلَى مَكْرُوه. وَأما الْمُبَاح فَلَا انقسام لَهُ. فَهَذِهِ أقسامها. وَنحن بعون الله نذْكر لكل وَاحِد من هَذِه الْأَقْسَام حدا وتحقيقا. [74] فَأَما الْمُبَاح فَإِن قيل: مَا حَده وَحَقِيقَته عنْدكُمْ؟ قيل: مَا ورد الْإِذْن من الله تَعَالَى فِي فعله وَتَركه من حَيْثُ هُوَ ترك لَهُ من غير تَخْصِيص أَحدهمَا باقتضاء ذمّ أَو مدح فَهَذَا حد سديد إِن شَاءَ الله تَعَالَى يُمَيّز الْمُبَاح عَن الْمُحرمَات والواجبات والمندوبات والمكروهات. ويميزه أَيْضا من الْأَفْعَال قبل وُرُود الشَّرَائِع ويشمل نفي سمة الْإِبَاحَة عَن أَفعَال الْبَارِي سُبْحَانَهُ فَإِن الْإِذْن لَا يتَعَلَّق بهَا. وَقد حد بعض من ينتمي إِلَى هَذَا الْفَنّ الْمُبَاح بِأَن قَالَ: مَا كَانَ فعله وَتَركه سيين. وَهَذَا بَاطِل لِأَنَّهُ يُوجب كَون فعل الْقَدِيم سُبْحَانَهُ مُبَاحا فَإِن من أَفعاله على الِاتِّفَاق مَا لَا يُربي على ضِدّه لَو قدر لوُجُود ضد فِي الْإِفْضَاء إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الْمصَالح. وَجُمْلَة أَفعَال الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على مَذَاهِب أهل الْحق تتساوى فِي حكمه وَقد أطبقوا على اسْتِحَالَة وصفهَا بِالْإِبَاحَةِ. (27) القَوْل فِي حد الْمَنْدُوب [75] فَإِن قيل: فَمَا حد الْمَنْدُوب؟ قيل: هُوَ الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ الَّذِي لَا يلْحق الذَّم والمأثم شرعا على تَركه من حَيْثُ هُوَ ترك لَهُ ونتحرز بقولنَا من حَيْثُ هُوَ ترك لَهُ، عَن شَيْء، وَهُوَ أَنه لَو أقبل على ضد من أضداد الْمَنْدُوب إِلَيْهِ. وَهُوَ مَعْصِيّة فِي نَفسه فتلحقه اللائمة إِذا ترك الْمَنْدُوب إِلَيْهِ وَلَكِن لَا تلْحقهُ اللائمة من حَيْثُ أَن مَا بَدَأَ مِنْهُ ترك للمندوب إِلَيْهِ بل لعصيانه. وَقد حد بعض أَصْحَابنَا بِأَنَّهُ مَا كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 فعله خيرا من تَركه من غير لائمة فِي تَركه، وَهَذَا يدْخل عَلَيْهِ شَيْء، وَهُوَ أَن من الْأَفْعَال قبل وُرُود الشَّرَائِع مَا يكون خيرا للمرء فِي اقْتِضَاء لَذَّة وَدفع مضرَّة وَلَا يُسمى ندبا. وَقد حد مُعظم الْقَدَرِيَّة النّدب بِأَن قَالُوا: مَا إِذا فعله فَاعله اسْتحق الْمَدْح والتعظيم بِفِعْلِهِ، وَلَا يسْتَحق الذَّم بِأَن لَا يَفْعَله. وَهَذَا بَاطِل فَإِن تفضل الرب تَعَالَى يَتَّصِف بِهَذِهِ الصّفة الَّتِي ذكروها وَلَا يُسمى ندبا حَتَّى يُقَال: الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَنْدُوب إِلَى التفضل محثوث عَلَيْهِ، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى إِطْلَاقه. وَلَو سَاغَ تَسْمِيَة بعض أَفعاله ندبا لساغ تَسْمِيَة بَعْضهَا مُبَاحا. (28) القَوْل فِي حد الْوَاجِب وَمَعْنَاهُ [76] فحد الْوَاجِب كل مَا ورد الشَّرْع بالذم بِتَرْكِهِ من حَيْثُ هُوَ ترك لَهُ وَهَذَا حد مُسْتَقل بِنَفسِهِ ويندرج تَحت قَوْلنَا من حَيْثُ هُوَ ترك لَهُ مَا أومأنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 إِلَيْهِ فِي حد الْمُبَاح وَالنَّدْب. وَمِمَّا ينْدَرج تَحْتَهُ أَن الصَّلَاة إِذا وَردت مُؤَقَّتَة بِوَقْت متسع. وَقُلْنَا إِنَّهَا تجب بِأول الْوَقْت فَلَا يتَحَقَّق تَركهَا على مُقْتَضى الْأَمر إِلَّا بِانْقِضَاء جَمِيع الْوَقْت. وسنشبع القَوْل فِي ذَلِك بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى. (29) مسئلة [77] الْوَاجِب وَالْفَرْض ... وَالْفَرْض فزعموا أَن كل فرض وَاجِب وَرب وَاجِب لَا يُسمى فرضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 ولورد فصلهم بَين العبارتين إِلَى التَّحْقِيق لم يبْق وَرَاءه طائل، فاستند قَوْلهم إِلَى دَعْوَى غير مقترنة ببرهان فَأول مَا نفاتحهم بِهِ أَن نعكس عَلَيْهِم كَلَامهم ونقلب عَلَيْهِم مرامهم فَنَقُول بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن كل وَاجِب مَفْرُوض. وَلَيْسَ كل فرض وَاجِبا على الضِّدّ مِمَّا أَطْلقُوهُ. ومدارك الْعُلُوم معقولة مضبوطة فَلَيْسَ فِي الْعقل مَا يَقْتَضِي هَذَا التَّفْصِيل. وَلَيْسَ فِي أَدِلَّة السّمع مَا يُوجب وَلَيْسَ فِي وضع اللُّغَات فصل بَين الْمَفْرُوض وَالْوَاجِب نصا. وَإِن ردوا ذَلِك إِلَى اشتقاق الاسمين من قَضِيَّة أَصلهمَا انتسبوا إِلَى إِثْبَات اللُّغَات قِيَاسا ونفيها بطرِيق الْقيَاس. وسندل على بطلَان ذَلِك إِن شَاءَ الله عز وَجل. [78] ثمَّ الْفَرْض أَصله فِي اللُّغَة الْقطع. وَمِنْه تسمى الحزة الَّتِي تَسْتَقِر فِيهَا عُرْوَة الْوتر فرضة. وَقد يرد الْفَرْض بِمَعْنى التَّقْدِير فِي كثير من الْمَوَاضِع. وَأما الْوُجُوب فأصله من قَوْلهم: وَجب الْحَائِط إِذا سقط، وَوَجَبَت الشَّمْس إِذا سَقَطت وأفلت وَلَعَلَّ الْوُجُوب فِي أصل اشتقاقه أقرب إِلَى التَّأْكِيد من الْفَرْض فَتبين أَنهم مَا استروحوا فِي تفصيلهم وتخصيصهم إِلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 إِلَى التشهي وَالتَّمَنِّي. [79] ثمَّ يُقَال لَهُم فصلوا مذهبكم فِيمَا هُوَ الْوَاجِب والمفروض؟ فَإِن قَالُوا مَا علم وُجُوبه من طَرِيق غير مَقْطُوع بِهِ عَن الله تَعَالَى فَهُوَ الْوَاجِب. والمفروض مَا علم وُجُوبه من طَرِيق مَقْطُوع بِهِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ لَا تَحْقِيق وَرَاءه فَإِنَّهُم قَالُوا: مَا علمْتُم وُجُوبه بطرِيق غير مَقْطُوع [فَهُوَ وَاجِب وَهَذَا] تنَاقض من القَوْل. فَإِن الطَّرِيق المفضي إِلَى الْعلم بِالْوُجُوب إِذا كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 غير مَقْطُوع بِهِ فَلَا يَقْتَضِي الْعلم فَإِن الْعلم لَا يثبت إِلَّا مَقْطُوعًا بِهِ. فَكيف يَتَرَتَّب على مَا لايقطع بِهِ. [80] فَإِن قيل: إِذا اتَّصل بِنَا خبر الْوَاحِد فنعلم وجوب الْعَمَل بِهِ. وَإِن كُنَّا لَا نستيقن صِحَّته. قُلْنَا: من هَذَا زللتم فاعلموا أَنه لَا يجب الْعَمَل بِمُقْتَضى خبر الْوَاحِد من خبر الْوَاحِد. وَإِنَّمَا يجب الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ بِدلَالَة قَاطِعَة تَتَضَمَّن الْعَمَل بأخبار الْآحَاد فاستند الْعلم بِوُجُوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد إِلَى دلَالَة قَطْعِيَّة فَهَذَا لَو ناقشناهم. [81] ثمَّ نقُول قد أثبتم الْفَرْضِيَّة فِي مسَائِل مَعَ انْتِفَاء أَدِلَّة الْقطع فِيهَا اختصاصا مِنْهَا: إِنَّكُم أوجبتم الْوضُوء على من افتصد وَلم ترجعوا فِي ذَلِك إِلَى دلَالَة تقطعون بهَا. ثمَّ لَا تتحاشون من إِطْلَاق القَوْل بِأَن الطَّهَارَة فِي هَذِه الْحَالة مَفْرُوضَة. وفرضتم الصَّلَاة على الَّذِي بلغ فِي الْوَقْت بعد مَا أدّى الصَّلَاة وفرضتم إتْمَام الصَّلَاة على من ينحط مبلغ سَفَره عَن مرحلَتَيْنِ وفرضتم الْعشْر فِي غير الأقوات، وَفِي الأقوات فِيمَا دون خَمْسَة أوسق إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يتَعَذَّر تعديده مَعَ انْتِفَاء أَدِلَّة الْقطع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 [82] ثمَّ نقُول: بِمَ تنكرون على من يقلب عَلَيْكُم مَا مهدتموه فَيَقُول [9 / أ] كل مَا لم / يسْتَند إِلَى مَقْطُوع فَهُوَ فرض وَلَيْسَ بِوَاجِب. وكل مَا اسْتندَ إِلَى قطع فيتصف بالوصفين جَمِيعًا. [83] وَقد حُكيَ عَن بَعضهم أَن الْفَرْض مَا يثبت بِنَصّ الْقُرْآن. وَالْوَاجِب الَّذِي لَا يُسمى فرضا مَا يثبت عَن غير وَحي مُصَرح بِهِ. وكل مَا قدمْنَاهُ ينْقض عَلَيْهِم ذَلِك. (30) القَوْل فِي وصف الْفِعْل بِأَنَّهُ مَكْرُوه [84] اعْلَم، وفقك الله أَن القَوْل فِي ذَلِك يَنْقَسِم، فَرُبمَا تطلق الْكَرَاهِيَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وَالْمرَاد بهَا مَا نهي عَنهُ تَنْزِيها وندبا إِلَى تَركه كَقَوْلِنَا يكره ترك النَّوَافِل. وَمن الْفُقَهَاء من لَا يطلقهَا فِي مثل ذَلِك. وَلَكِن يَقُول إِذا غمضت الْأَدِلَّة وصعب مدركها فاقتحام موقع اللّبْس مَكْرُوه مَعَ تَجْوِيز العثور على عين الْحق. [85] وَلنْ يتَبَيَّن الْمَقْصد من هَذَا الْبَاب إِلَّا بإيضاح أصل. وَهُوَ أَن تعلم أَن مَا يُسمى مَكْرُوها فِي تواضع الْفُقَهَاء، فَلَا يَتَّصِف بِكَوْنِهِ محرما بل يتَمَيَّز الْمَكْرُوه عَن قبيل الْمُحرمَات كَمَا يتَمَيَّز عَن الْمُبَاحَات والواجبات. وَكَذَلِكَ لَا سَبِيل إِلَى الْمصير إِلَى أَن الْمَكْرُوه مَا شككنا فِي تَحْرِيمه فَإِن من الْأَشْيَاء مَا يتَّفق الْعلمَاء على كَونه مَكْرُوها مَعَ علمنَا باستحالة تشكك الكافة فِي دَرك التَّحْرِيم [وَلَو] سوغنا اسْتِمْرَار اللّبْس فِي حكم من الْأَحْكَام على عُلَمَاء الْإِسْلَام تداعى ذَلِك إِلَى نقض الْأَحْكَام فَبَطل الْمصير إِلَى ذَلِك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وَإِنَّمَا قصدنا بذلك الرَّد على طَائِفَة من محققينا لما قَالُوا فِي حَقِيقَة الْمَكْرُوه مَا يخْشَى عَلَيْهِ اللوم فَيُقَال لَهُم: مَا يتَحَقَّق اسْتِحْقَاق اللوم عَلَيْهِ فَهُوَ محرم قطعا فَكَانَ محصول هَذَا [القَوْل] بِأَنَّهُ يخْشَى عَلَيْهِ اللوم أَنه يجوز تَقْدِير حَقِيقَة التَّحْرِيم فِيهِ وَهَذَا مصير إِلَى اللّبْس [وَهُوَ وَاضح] الْبطلَان وَالَّذِي يُوضح القَوْل فِي ذَلِك أَن نقُول: إِذا فَرضنَا الْكَلَام فِي مَكْرُوه فنقسم القَوْل [فِيهِ ونقول] : يَسْتَحِيل الْمصير إِلَى أَنه مُبَاح لما سبق من الْكَلَام فِي حد الْمُبَاح [ويستحيل الْمصير إِلَى أَنه محرم، ويستحيل] الْمصير إِلَى أَنه مَشْكُوك فِي تَحْرِيمه فَإِذا بطلت هَذِه الْأَقْسَام لم يبْق بعد بُطْلَانهَا إِلَّا الْمصير إِلَى أَنه مَنْدُوب إِلَى تَركه. ومأمور بِتَرْكِهِ غير ملوم على فعله. [86] ثمَّ قد بَينا أَن قضايا [الشَّرْع] قد تتزايد فَيُقَال هَذَا أحسن وَهَذَا أقبح. وَلَكِن وَإِن تزايدت فَلَا تخرج عَن أصل الْحَقَائِق فقد يتَأَكَّد الْأَمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 بترك الْمَكْرُوه وَلَا يُخرجهُ ذَلِك عَن الْحَقِيقَة الَّتِي ذَكرنَاهَا. (31) فصل [87] فَإِن قيل: إِذا تحقق وُقُوع الْفِعْل فَهَل تَقولُونَ إِنَّه مَكْرُوه لله؟ قُلْنَا: هَذَا مِمَّا نتحاشى مِنْهُ فَإِن الرب عز اسْمه موجد الْأَفْعَال ومخترعها فَلَا يُوجد إِلَّا مَا يُرِيد فإطلاق القَوْل بِأَن الْفِعْل [الْوَاقِع] مَكْرُوه لَهُ زلل. وَلَكِن يفصل القَوْل فِيهِ فَيُقَال كره الله وُقُوعه من أوليائه وأنبيائه أَو [كره] وُقُوعه طَاعَة وَعبادَة، فَأَما كَرَاهِيَة أصل الْوُجُود مَعَ تحقق الْوُجُود فَبَاطِل. (32) القَوْل فِي معنى الصَّحِيح وَالْفَاسِد [88] إِذا أطلقنا لفظ الصَّحِيح وَالْفَاسِد فِي الْعِبَادَات وَمَا ضاهاها من أَفعَال الْمُكَلّفين فنعني بِالصَّحِيحِ الْوَاقِع على وَجه يُوَافق مُقْتَضى الشَّرِيعَة ونعني / بالفاسد الْوَاقِع على وَجه يُخَالف قَضِيَّة الشَّرْع. [9 / ب] [89] وَلَيْسَ يُنبئ الْفساد على مَا [نرتضيه] عَن لُزُوم قَضَاء مثله، وَكَذَلِكَ لَا تَتَضَمَّن الصِّحَّة نفي وجوب الْقَضَاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 [90] وَذهب بعض من يعتزي إِلَى الْأُصُول من الْفُقَهَاء إِلَى أَن الْفَاسِد الْبَاطِل مَا يجب قَضَاؤُهُ فتلزم إِعَادَته، وَالصَّحِيح مَا تَبرأ الذِّمَّة بِفِعْلِهِ، وَلَا يلْزم قَضَاؤُهُ وَإِنَّمَا صَارُوا إِلَى ذَلِك لزلل فِي أصل، وَهُوَ أَن الصَّلَاة فِي الْبقْعَة الْمَغْصُوبَة صَحِيحَة عِنْد هَذَا الْقَائِل وَهِي وَاقعَة على خلاف مقتضي الشَّرِيعَة. فَالْمَعْنى بِصِحَّتِهَا أَنه لَا يجب قَضَاؤُهَا وَإِن كَانَت مَعْصِيّة وسنستقصي القَوْل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 فِي ذَلِك فِي بَاب مُفْرد إِن شَاءَ الله تَعَالَى. [91] وَإِذا أطلقنا الصِّحَّة فِي الْعُقُود والشهادات والأقارير فَمَعْنَاه ثُبُوتهَا على مُوجب الشَّرْع. وتوفر قضاياها عَلَيْهَا كالأملاك المترتبة على الْعُقُود وَغَيرهَا من الْمَقَاصِد. وَالْفَاسِد على الْعَكْس من ذَلِك. (33) القَوْل فِي حصر أصُول الْفِقْه وترتيبها وَتَقْدِيم الأول مِنْهَا على الْجُمْلَة [92] ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْبَاب جملَة أصُول الْفِقْه وأدلة الشَّرْع فَأَوْمأ إِلَى مراتبها وَوجه تَقْدِيم بَعْضهَا على بعض فِي تَرْتِيب الْكتاب. فأولها: الْخطاب الْوَارِد فِي الْكتاب وَالسّنة وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من تَرْتِيب مقتضيات الْخطاب. وَالثَّانِي: معرفَة أَفعَال رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الْوَاقِعَة موقع الْبَيَان. وَثَالِثهَا: الْأَخْبَار ومراتبها. وَمِنْهَا أَخْبَار الْآحَاد. وَرَابِعهَا: الْإِجْمَاع. وخامسها: الْقيَاس. ثمَّ إِذا ترتبت هَذِه الْأُصُول وتمهدت أَبْوَابهَا ننعطف على وصف الْمُفْتِي والمستفتي والتقليد، ثمَّ نوضح انْتِفَاء الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع. [93] فَإِن قيل: ذكرْتُمْ السّنة مَعَ خطاب الْكتاب فِي صدر الْأَدِلَّة، ثمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 ذكرْتُمْ الْأَخْبَار فِي دَرَجَة أُخْرَى فَمَا الْوَجْه فِيهِ؟ قيل: أما مَا يثبت عَن الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قطعا فَيعلم أَن الْمُقْتَضى للْحكم نفس السّنة. وَهُوَ الْمَذْكُور فِي صدر الْأَدِلَّة. وَأما الْخَبَر الَّذِي أطلقنا فِي الرُّتْبَة الْأُخْرَى فَهُوَ مَا ينْقل آحادا فَلَا يمكننا أَن نقُول يثبت الحكم بِسنة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَهِي مَشْكُوك فِيهَا فَالْحكم [لَيْسَ] ثَابتا تَحْقِيقا فَقُلْنَا: يثبت الحكم الْمخبر عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فسمينا هَذَا الْقَبِيل خَبرا وسمينا مَا تقدم سنة. ثمَّ ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وجوب تَرْتِيب هَذِه الْأَدِلَّة على التَّرْتِيب وَلَا تعظم الْفَائِدَة فِي الإطناب فِيهَا. وَسَيَأْتِي فِي حقائق الْأَدِلَّة مَا يُغني عَنْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى. (34) القَوْل فِي اللُّغَات وَإِنَّهَا تثبت مواضعة أَو توقيفا [94] اخْتلف النَّاس فِي مَأْخَذ اللُّغَات فَذهب بَعضهم إِلَى أَن كل اللُّغَات تثبت توقيفا ووحيا من الله تَعَالَى. وَلَا يسوغ ثُبُوتهَا إِلَّا توقيفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وَذهب بَعضهم إِلَى أَن كل اللُّغَات تثبت / مواطأة ومواضعة [10 / أ] وَاصْطِلَاحا. وَذهب بَعضهم إِلَى أَن بَعْضهَا يثبت توقيفا وَبَعضهَا اصْطِلَاحا. [95] والمرتضى عندنَا من الْمذَاهب أَنه يسوغ فِي الْعقل أَن تثبت كلهَا توقيفا وَيجوز أَن يثبت بَعْضهَا توقيفا وَبَعضهَا اصْطِلَاحا. وَيجوز أَن تثبت كلهَا اصْطِلَاحا وَيجوز أَن يسْبق من الله تَعَالَى تَوْقِيف على لُغَة من اللُّغَات. ثمَّ تتفق الْمُوَاضَعَة من أَقوام على لُغَة توَافق مَا تثبت توقيفا. وكل ذَلِك من جائزات الْعُقُول ثمَّ كل مَا يثبت توقيفا من الله تَعَالَى سمعا فالسمع مُتبع فِيهِ وَالَّذِي يدل على ثُبُوت جَمِيعهَا عَن تَوْقِيف أَن الرب عز اسْمه مَوْصُوف بالاقتدار على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 أَن يخلق فِينَا علوما ضَرُورِيَّة بمقاصد اللُّغَات. ومضمون الْعبارَات حَتَّى إِذا علمنَا مِنْهَا مَا نستقل بِهِ فِي التفاهم أوقفنا على بَقِيَّة اللُّغَات وَحيا أَو إلهاما. وَهَذَا أوضح أَن يحْتَاج فِيهِ إِلَى زِيَادَة إِيضَاح وكشف. [96] فَإِن قيل: فَكيف نفهم أول مَا يخاطبنا الله تَعَالَى بِهِ وَلم يسْبق تعارف؟ قيل: يضطرنا إِلَى مَعْرفَته. فالرب مقتدر على مَا يَشَاء. وكل مَا يجوز حُدُوثه وَكَونه فَهُوَ من قبيل المقدورات وَهَذَا بَين لاخفاء بِهِ. [97] وَالدَّلِيل على تَصْوِير ثُبُوت اللُّغَات بالمواضعات من غير تقدم تَوْقِيف فِي شَيْء مِنْهَا: أَن أَرْبَاب الْأَلْبَاب لَا يَسْتَحِيل اقتدارهم على أَجنَاس اللُّغَات فَإِنَّهَا فِي التَّحْقِيق رَاجِعَة إِلَى ضروب من الْأَصْوَات، وَلَا يستبعد انصرافهم بدواعيهم إِلَى مَا يتفاهمون بِهِ عَمَّا يغيب وَيشْهد ثمَّ يكررون الْأَصْوَات الْمُقطعَة على المسميات، ويقترن بهَا قَرَائِن الْأَحْوَال فتتمهد اللُّغَات على هَذَا الْمنْهَج وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنا نرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الخرس يستقلون بالتواضح على ضروب من الإشارات وَنصب الأمارات يتفاهمون بهَا مقاصدهم وَإِن لم يتعلموها. وَلَو أَن طَائِفَة من الخرس أفردوا عَن أضرابهم قبل أَن يبلغُوا مبلغ التَّمْيِيز. فَإِذا بلغُوا ومست حَاجتهم إِلَى التفاهم لم يستبدع مِنْهُم أَن يبلغُوا ويتوصلوا إِلَى وضع أَمَارَات يتلقون بهَا مَا يتلَقَّى أهل اللِّسَان من لغاتهم ثمَّ إِذا تقرر مَا ذكرنَا [جَوَازه إِلَى] الْكل فَوجه تَقْدِيره وتصويره فِي الْبَعْض هَين. [98] فَإِذا تحقق ذَلِك فَمَتَى قَامَت دلَالَة سمعية على أَن بعض اللُّغَات يثبت توقيفا أَو تواضعا اتَّبعنَا السّمع فِيهِ مَعَ أَنا نجوز عقلا مَا نطق بِهِ السّمع وَكَانَ يجوز غَيره أَيْضا. [99] فَإِن تمسك الصائرون إِلَى أَن اللُّغَات لَا تثبت إِلَّا توقيفا بقوله عز وَجل: {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا} . قُلْنَا: لَو سلم لكم أَن اللُّغَات تثبت توقيفا لم يكن ملْجأ لكم فِيهِ، فَإنَّا نجوز ثُبُوتهَا سمعا وتوقيفا، ونجوز غَيرهمَا. وَأَنْتُم تَزْعُمُونَ أَنه يَسْتَحِيل أَن تثبت إِلَّا توقيفا. وَلَيْسَ فِي هَذِه الْآيَة مَا يتَضَمَّن اسْتِحَالَة ثُبُوت اللُّغَات تواضعا. ثمَّ نقُول: مَضْمُون الْآيَة أَن الله تَعَالَى علم آدم الآسماء كلهَا. فَمَا الدَّلِيل على أَن الْأَسْمَاء ثبتَتْ ابْتِدَاء عِنْد تَعْلِيم الله آدم. فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنَّهَا كَانَت ثَابِتَة بتواضع أمة من أُمَم الله تَعَالَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 فعلمها الله عز وَجل آدم. وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن الْمَلَائِكَة قبل آدم [10 / ب] كَانُوا / يتفاهمون ويتخاطبون وَقد خاطبهم الله تَعَالَى فِي أَمر آدم قبل خلق آدم فَقَالَ: {وَإِذ قَالَ رَبك للْمَلَائكَة إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة} فَبَطل الاسترواح إِلَى الْآيَة. (35) القَوْل فِي معنى الْمُحكم والمتشابه [100] قد أَكثر أهل التَّفْسِير فِي ذَلِك. فَمنهمْ من قَالَ: الْمُحكم فِي كتاب الله تَعَالَى مَا اتَّصَلت حُرُوفه. والمتشابه مِنْهُ مَا انفصلت حُرُوفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 يعنون بذلك الْحُرُوف الْمُقطعَة وحروف التهجئ فِي أَوَائِل السُّور. نَحْو ألم، وطسم، وَنَحْوهمَا. وَتَخْصِيص الْمُتَشَابه بذلك محَال فَإِن الْكَلِمَات رُبمَا تتصل وَلَا تستقل بِنَفسِهَا فِي إِفَادَة الْمعَانِي. وتتردد بَين احتمالات وجائزات وتعد متشابهة أوغير محكمَة. فَبَطل الْمصير إِلَى ذَلِك مَعَ أَن الْعَرَب قد تتفاهم الْمعَانِي الصَّحِيحَة بِأَن تذكر الْحُرُوف الْمُقطعَة من الْكَلِمَة اسْتِدْلَالا بهَا على الْكَلِمَات. وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن تَنْزِيل الْمُحكم والمتشابه على محمل مَعْلُوم مِمَّا لَا يدْرك عقلا وَلم يرد فِيهِ نَص سمع يستروح إِلَيْهِ ولكنهما عبارتان من لُغَة الْعَرَب فَالْأولى أَن نردهما على قَضِيَّة اللُّغَة عِنْد الْإِطْلَاق، والتخصيص للمتشابه بالحروف الْمُقطعَة مِمَّا لَا تَقْتَضِيه اللُّغَة عِنْد الْإِطْلَاق. [101] وَمن الْمُفَسّرين من قَالَ: الْمُحكم مَا يَصح أَن يعرف مِنْهُ مَا يُعلمهُ الله والمتشابه مَا اسْتَأْثر الله بِعلم مَعْنَاهُ. وَهَذَا أَيْضا غير سديد. فَإِن اللُّغَة لَا تنبئ عَنهُ وَرب كَلَام يفهم مَعْنَاهُ وَلكنه متناقض فَلَا يتَبَيَّن معنى يطْلب مِنْهُ فِي نظم الْكَلَام وَلَا يُسمى محكما. وَإِن كَانَ الْمَفْهُوم الْمَعْنى على تناقضه وبطلانه، وَتَخْصِيص الْمُتَشَابه بِأَنَّهُ الَّذِي يستأثر الله بِعلم مَعْنَاهُ مِمَّا لَا تَقْتَضِيه اللُّغَات. [102] وَقَالَ بَعضهم: الْمُحكم هُوَ الْوَعْد والوعيد وَالْأَحْكَام وتفصيل الشَّرَائِع، والمتشابه الْقَصَص وسير الْأَوَّلين. فاللغة لَا تشهد لذَلِك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 [103] والسديد أَن نقُول الْمُحكم هُوَ السديد النّظم وَالتَّرْتِيب الَّذِي يُفْضِي إِلَى إثارة الْمعَانِي القويمة المستقيمة من غير تنَاقض وَلَا تناف. والمتشابة هُوَ الَّذِي [لَا يُحِيط] الْعلم بِالْمَعْنَى الْمَطْلُوب بِهِ من حَيْثُ اللُّغَة إِلَّا أَن تقترن بهَا أَمارَة، وقرينة. [104] ويندرج تَحت ذَلِك الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة بَين الْمعَانِي الْمُخْتَلفَة من الْقُرْء وَغَيرهَا. وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ يعرف من اللُّغَة وَقَضِيَّة اللِّسَان. ثمَّ الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب يتَعَلَّق بعبارات لَا طائل لَهَا. (36) القَوْل فِي تَقْسِيم الْخطاب وَمَا يفِيدهُ [105] اعْلَم، أَن الْعبارَات الْمَوْضُوعَة للأنباء عَن الْكَلَام ونطق الْقلب ومضمون الأفئدة تَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 فقسم مِنْهَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي الْكَشْف عَن جَمِيع مُقْتَضَاهُ وَمَعْنَاهُ ومتضمنه من كل وَجه فَلَا احْتِمَال فِي شَيْء من مَعَانِيه. وَالْقسم الثَّانِي: مَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي بعض مَعَانِيه من وَجه وَلَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ / فِي بعض الْوُجُوه. [11 / أ] وَالْقسم الثَّالِث: مَا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي شَيْء من الْمعَانِي الْمَطْلُوبَة مِنْهُ. [106] فَأَما مَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ من كل وَجه قصد بِهِ. فَهُوَ يَنْقَسِم قسمَيْنِ فَمِنْهُ مَا يسْتَقلّ بِمَعْنَاهُ نصا وإفصاحا ونطقا. وَمِنْه مَا يسْتَقلّ بمعانيه الملتمسة وبلحنه وفحواه وَمَفْهُومه. [107] فَأَما الَّذِي يسْتَقلّ بِنَفسِهِ نصا فنحو قَوْله تَعَالَى: {قل هُوَ الله أحد} . وَقَوله: {مُحَمَّد رَسُول الله} وَألْحق بِهَذَا الْقَبِيل (وَلَا تقربُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 الزِّنَى) {} (وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم) {} (وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم} فَهَذِهِ وأمثالها نُصُوص فِي مَعَانِيهَا سميت نصوصا لظهورها، من قَوْلهم نصت الظبية إِذا عنت وَظَهَرت، وَمِنْه قيل للكرسي الَّذِي يجلس عَلَيْهِ الْعَرُوس منصة. [108] وَأما مَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ من حَيْثُ اللّحن والفحوى فنحو قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} فالتأفيف مُصَرح بِهِ لفظا. وَتَحْرِيم الضَّرْب والتعنيف مَفْهُوم من لحنه وفحواه نصا بِحَيْثُ لَا يستريب فِيهِ كَمَا لَا يستريب فِي مَفْهُوم الْأَلْفَاظ الْمُصَرّح بهَا. وَذكر فِي القبيلين نصا ولحنا أَمْثِلَة من كتاب الله تَعَالَى. وَسنة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَالْجُمْلَة الجامعة لَهَا أَن كل لَفْظَة وضعت فِي اللُّغَة بِمَعْنى على التَّجْرِيد والتقرير، لَا يتفاهمون على الْإِطْلَاق إِلَّا ذَلِك الْمَعْنى، وَلَا تتقابل فِيهِ جِهَات الِاحْتِمَالَات فَهُوَ نَص فِيهِ صَرِيحًا أَو لحنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 [109] ثمَّ يلْتَحق بِهَذَا الْقَبِيل مَا يحذف من الْكَلَام لدلَالَة الْبَاقِي على الْمَحْذُوف وَلَكِن لَا تستريب الْعَرَب فِي مَعْنَاهُ. وَذَلِكَ كَمثل قَوْله تَعَالَى: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر} فَمَعْنَاه فافطر. فَهَذَا مِمَّا يفهم نصا من مقصد الْخطاب. وَكَذَلِكَ قَوْله: {اضْرِب بعصاك الْبَحْر فانفلق} مَعْنَاهُ فَضرب فانفلق، إِلَى غير ذَلِك. [110] فَأَما مَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي بعض الْمعَانِي دون بعض فنحو قَوْله: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} فالحصاد مَعْلُوم وَالْأَمر بالإتيان مَعْلُوم وَحقه غير مُسْتَقل بِنَفسِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} فالقتل مَعْلُوم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 والمشرك مَعْلُوم، واستغراق جنس الْمُشْركين اَوْ تَخْصِيص بعض آحادهم مِمَّا لَا يسْتَقلّ الْخطاب بِهِ إِذا نَفينَا صِيغَة الْعُمُوم وَآثرنَا الْوَقْف كَمَا سنذكر إِن شَاءَ الله تَعَالَى. [111] وَأما الْقسم الثَّالِث وَهُوَ مَا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي إثارة شَيْء من الْمعَانِي فَهُوَ المجملات وَالْمجَاز على مَا سَيَأْتِي تَفْصِيل هَذِه الْأَقْسَام بأبوابها إِن شَاءَ الله تَعَالَى. (37) القَوْل فِي معنى الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وال فصل بَينهمَا [112] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: الْحَقِيقَة تطلق وَيُرَاد بهَا خَاص وصف الشَّيْء الَّذِي يتَمَيَّز ويوافق ويماثل وَهُوَ حَده عَنهُ. وَذَلِكَ كَمَا يُقَال حَقِيقَة الْعَالم من قَامَ بِهِ الْعلم. وَحَقِيقَة الْجَوْهَر المتحيز إِلَى غير ذَلِك. وَهَذَا مَا لَا نطلبه فِي مَضْمُون هَذَا الْبَاب. وَقد تطلق الْحَقِيقَة فِي اللُّغَات ومجاري المحاورات فَهَذَا مقصدنا من هَذَا الْبَاب. فَإِذا قُلْنَا هَذِه الْعبارَة حَقِيقَة فِي هَذَا الْمَعْنى فَمَعْنَاه أَنَّهَا مستعملة [11 / ب] فِيمَا وضعت فِي أصل / وضع اللُّغَة لَهُ فَهَذَا مَا نريده بِالْحَقِيقَةِ. فَأَما الْمجَاز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فَهُوَ مَا [اسْتعْمل فِي غير مَا وضع لَهُ فِي أصل] وضع اللُّغَة. وَيُسمى هَذَا الضَّرْب مجَازًا لِأَن أهل اللُّغَة يتجاوزون بِهِ عَن أصل الْوَضع توسعا مِنْهُم. وَذَلِكَ نَحْو تسميتهم الشجاع البطل من الرِّجَال أسدا والبليد حمارا والأسد فِي أصل الْوَضع لحيوان مَعْلُوم بيد أَنهم قد أَطْلقُوهُ توسعا على من يتخصص بشاعته وجرأته، وعدوا من هَذَا الْقَبِيل أَيْضا قَوْله تَعَالَى: {جدارا يُرِيد أَن ينْقض} فإضافة الْإِرَادَة إِلَى الْجِدَار لَيْسَ فِي أصل وضع اللُّغَة بل هُوَ من الْمجَاز وَيكثر نَظَائِر ذَلِك فِي الْكتاب وَالسّنة. [113] وَقد عد بعض أَئِمَّتنَا قَوْله تَعَالَى: {وَسُئِلَ الْقرْيَة} من هَذَا الْقَبِيل فَإِن الْمَعْنى بالقرية أهل الْقرْيَة. وَمن أَصْحَابنَا من عد ذَلِك من قبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 الْمجَاز. وَزعم أَن الْقرْيَة وضعت مَوضِع أهل الْقرْيَة وعنى بهَا نَفسهَا أَهلهَا تجوزا. وَمِنْهُم من قَالَ هَذَا وَأَمْثَاله من الْمُضْمرَات. وَلَا نقُول أُقِيمَت الْقرْيَة مقَام أَهلهَا بل حذف من الْخطاب ذكر أهل الْقرْيَة لدلَالَة بَقِيَّة الْخطاب عَلَيْهِ. وأبواب الْإِضْمَار والحذف لَا يلْتَحق بالمجازات. فَإِن الْمجَاز لَفْظَة مستعملة فِي غير مَا وضعت لَهُ. [114] وَكَذَلِكَ من أَئِمَّتنَا من صَار إِلَى أَن قَوْله: {لَيْسَ كمثله شَيْء} فَقَالَ: الْكَاف والمثل تجوزا وتوسعا، وَهَذَا الْقَائِل يَقُول من ضروب الْخطاب مَا يلْتَحق بالمجاز لنُقْصَان شَيْء مِنْهُ كَمَا قدمْنَاهُ. وَمِنْه مَا يلْتَحق بِهِ لزِيَادَة شَيْء فِيهِ، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ كمثله شَيْء} . ونرى القَاضِي يمِيل إِلَى عد ذَلِك من قبيل الْمجَاز. [115] ويلتحق بذلك قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جزاؤا الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله} . مَعْنَاهُ أهل الله ومصدقيه ومتبعي شرائعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 [116] فَكل كَلَام وضع فِي أصل اللُّغَة فَإِذا نقص مِنْهُ شَيْء مَعَ اسْتِبْقَاء تَمام المُرَاد فَهُوَ مجَاز. فَإِنَّهُ من هَذَا الْوَجْه معدول عَن أصل الْوَضع وَكَذَلِكَ الزِّيَادَة وَهَذَا لعمري سديد. (38) فصل [117] اعْلَم أَنا نتبع وضع اللُّغَة فِي الْحَقَائِق وَاسْتِعْمَال أَهلهَا فِي التجوزات والتوسعات فَلَا يسوغ لنا أَن نتعدى فِي المجازات مَوَاضِع استعمالهم كَمَا لَا يجوز لنا أَن نتعدى أصل الْوَضع فِي الْحَقَائِق. [118] وَقد ذكر رَضِي الله عَنهُ فصلا نَحن ذاكروه. وَهُوَ أَنه ... الْحَقِيقَة تتعدى إِلَى جَمِيع مَا وضعت لإفادته وَإِن لم تصادف جَمِيعهَا منصوتة لَهُم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وَبَيَان ذَلِك أَنهم لما سموا من يصدر مِنْهُ الضَّرْب منا ضَارِبًا فيطلق اسْم الضَّارِب على من يصدر مِنْهُ الضَّرْب من الضاربين. وَإِذا نقل عَنْهُم واسئل الْقرْيَة والرباع والأطلال على إِرَادَة أَهلهَا فَلَا يعدى ذَلِك عَن مورده حَتَّى نقُول واسأل الدَّوَابّ. ونعني أَهلهَا. وَهَذَا سديد، وَلَكِن لَو رد إِلَى التَّحْقِيق لم يقتض كَبِير معنى فَإِن الأَصْل أننا فِي الْحَقَائِق نتبع أصل الْوَضع، وَفِي الْمجَاز نتبع اسْتِعْمَال أهل اللُّغَة. وَإِنَّمَا نسمي كل من يصدر مِنْهُ الضَّرْب ضَارِبًا متبعين لَا قائسين وَلَا معتبرين فَإِن الصَّحِيح عندنَا منع الْقيَاس فِي اللُّغَات وَلَكِن ثَبت بِأَصْل [12 / أ] الْوَضع نصا أَنهم مَا / خصصوا الضَّارِب بِجِنْس بل سموا كل من يصدر مِنْهُ الضَّرْب ضَارِبًا. وَلَو ثَبت عندنَا استعمالهم نصا أَن كل مَا ينتسب إِلَى أهل وَمَال يعبر عَن صَاحبه مجَازًا لأطلقنا ذَلِك عُمُوما كَمَا أطلقناه فِي الضَّارِب وَنَحْوه من حقائق اللُّغَات. فَدلَّ أَن محصول الْكَلَام منع الْقيَاس فِي اللُّغَات وَيتبع الْوَضع فِي الْحَقَائِق والاستعمال فِي الْمجَاز من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان. [119] ثمَّ ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ طرقا تنفصل بهَا الْحَقَائِق عَن الْمجَاز، بَعْضهَا اتِّفَاق فِي بعض الْمَوَاضِع غير مطرد فِي الْبَابَيْنِ عُمُوما. فَأول مَا ذكره فِي الْفَصْل بَينهمَا مَا فَرغْنَا مِنْهُ آنِفا فِي أَن الْحَقِيقَة تعدِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 عَن موضوعها اتبَاعا لما راموا من الْفَائِدَة فِيمَا نصوا عَلَيْهِ. كالضارب وَنَحْوه بِخِلَاف الْمجَاز. وَقد أشبعنا القَوْل فِيهِ. [120] وَالثَّانِي أَن مَا وضع حَقِيقَة تشتق مِنْهُ. وَاسْتِعْمَال الِاشْتِقَاق يجْرِي فِيهِ. وَإِذا اسْتعْمل مجَازًا لم يجر فِيهِ الِاشْتِقَاق. وَبَيَان ذَلِك أَن حَقِيقَة الْأَمر فِي أصل الْوَضع اقْتِضَاء الْفِعْل من الْمَأْمُور على مَا سنبينه. ثمَّ قد يسْتَعْمل فِي الشَّأْن. فَيُقَال كَيفَ شَأْنك وأمرك. وَهُوَ مجَاز فِي معنى الشَّأْن فَلَا جرم، واشتق من الْأَمر الَّذِي يضاد النَّهْي وَسَائِر مَا يصدر عَن المصادر، وَإِذا اسْتعْمل فِي الشَّأْن لم تصدر عَنهُ النعوت وَالْأَفْعَال. وَهَذَا الَّذِي فِي الصُّور الَّتِي ذَكرنَاهَا سديد. وَلَكِن لَيْسَ يطرد فَرب حَقِيقَة لَا تصدر مِنْهُ النعوت. وَهُوَ إِذا لم تكن مصدرا. وَرب مجَاز ورد التَّجَوُّز بنعوت صادرة عَنهُ كَمَا ورد الِاسْتِعْمَال فِي أَصله فَكل مَا حل مَحل المصادر وضعا واستعمالا فالأغلب أَنه تصدر مِنْهُ النعوت فَدلَّ أَن ذَلِك مِمَّا لَا يطرد فِي الْبَابَيْنِ: الْحَقِيقَة وَالْمجَاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 [121] وَمِمَّا ذكره فِي الْفَصْل بَينهمَا أَن الِاسْم إِذا اسْتعْمل فِي شَيْء مجَازًا وَجمع فَجَمعه فِي الْحَقِيقَة يُخَالف جمعه فِي الْمجَاز. وَاسْتشْهدَ بِالْأَمر فَإِن الْأَمر إِذا اسْتعْمل فِي حَقِيقَته فَجَمعه الْأَوَامِر. وَإِذا اسْتعْمل فِي الشَّأْن فَجَمعه الْأُمُور. فَلَيْسَ هَذَا أَيْضا مِمَّا يلْزم طرده فَإِنَّهُ قد يتَّفق جَمعهمَا كَمَا أَن [جمع] الْأسد فِي السَّبع الْمَشْهُور وَفِي البطل بِمَثَابَة وَاحِدَة. وَكَذَلِكَ جمع [الْحمار] فِي الدَّابَّة الْمَعْرُوفَة. وَفِي البليد بِمَثَابَة وَاحِدَة، فعندي [أَنه] مَا ذكر هَذِه الفروق لتمييز الْبَابَيْنِ اطرادا، وَلَكِن ذكر ضروبا من الاتفاقات فِي الْفَصْل بَين الْحَقَائِق والتجوزات. (39) فصل [122] ذهب من لَا تَحْقِيق وَرَاءه إِلَى أَنه لَيْسَ فِي كتاب الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 مجَازًا وَهَذَا الْقَائِل إِن كَانَ يَقُول فِي اللُّغَة مجَازًا فَيلْزمهُ الْمصير إِلَى انطواء كتاب الله تَعَالَى على ذَلِك وأمثلته لَا تحصى وَلَا تحصر وَإِن ذهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 إِلَى نفي الْمجَاز عَن اللُّغَة جملَة فقد أَخطَأ. وَقد حُكيَ عَن الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وَالظَّن بِهِ أَن ذَلِك لَا يَصح عَنهُ. [123] وَوجه التَّحْقِيق فِي ذَلِك أَن يُقَال إِن أَرَادَ فِي الْمجَاز بقوله كلهَا حقائق أَن الِاسْتِعْمَال يجْرِي فِي جَمِيعهَا فَهَذَا مُسلم. وَإِن أَرَادَ بذلك اسْتِوَاء الْكل فِي أصل الْوَضع / فَهَذِهِ مراغمة الْحَقَائِق. فَإنَّا [12 / ب] نعلم أَن الْعَرَب مَا وضعت اسْم الْحمار للأبله البليد. وَلَو قيل: البليد حمَار على الْحَقِيقَة كالدابة الْمَعْهُودَة وَإِن تنَاول الِاسْم لَهما متساو فِي الْوَضع فَهَذَا دنو من جحد الضَّرُورَة. وَكَذَلِكَ من زعم أَن الْجِدَار لَهُ إِرَادَة حَقِيقَة تمسكا بقوله تَعَالَى: {يُرِيد أَن ينْقض} عد ذَلِك من مستشنع الْكَلَام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 (40) القَوْل فِي منع الْقيَاس فِي الْأَسْمَاء اللُّغَوِيَّة [124] مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْمُحَقِّقين من الْفُقَهَاء والمتكلمين أَن الْأَسْمَاء فِي اللُّغَات لَا تثبت قِيَاسا وَلَا مجَال للأقيسة فِي إِثْبَاتهَا. وَإِنَّمَا تثبت اللُّغَات نقلا وتوقيفا. وَذهب بعض الْفُقَهَاء والمنتمين إِلَى الْكَلَام إِلَى أَن الْأَسْمَاء قد تثبت قِيَاسا وَهَذَا كَمَا أَنهم [لم ينصوا] فِي اللُّغَة على تَسْمِيَة النَّبِيذ خمرًا والنباش سَارِقا وَآتى الْبَهِيمَة زَانيا وَالشَّرِيك الخليط جارا فَمن الْعلمَاء من يثبت اسْم الْخمر فِي النَّبِيذ. وَزعم أَنهم إِنَّمَا سموا الْخمر بِهَذَا الِاسْم لِأَنَّهَا تخامر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الْعقل أَو تخمره كَمَا تخمر الْأَوَانِي. وَهَذَا الْمَعْنى مُتَحَقق فِي النَّبِيذ وطردوا مثل ذَلِك فِي أمثالهم. وَالصَّحِيح منع الْقيَاس فِي اللُّغَات جملَة. وَوُجُوب اتِّبَاع النَّقْل مَعَ الاجتزاء والاكتفاء بِهِ. وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن نقُول: إِذا سمت الْعَرَب الشَّرَاب الْمُسكر العنبي الني خمرًا. وَلم يرد ذَلِك نصا فِي النَّبِيذ فَلَا يَخْلُو الْحَال فِي ذَلِك من أَقسَام إِمَّا أَن يَصح من أهل اللُّغَة وضعا إِن خصصنا هَذَا الِاسْم بِهَذَا الْمُسَمّى نصا. وَإِن كَانَ من التخمير، فَإِن كَانَ كَذَلِك فَلَا معترض عَلَيْهِ وَلَا يسوغ طرد الْقيَاس فِي مثل هَذِه الصُّورَة وفَاقا. وَهَذَا كَمَا أَنهم سموا الْفرس الْأسود أدهم وَثَبت عندنَا أَنهم خصصوه، وَمنعُوا تعديته إِلَى كل أسود فَلَا جرم أَنا لم نسم الثَّوْب الْأسود أدهم اتبَاعا لوضعهم وَهَذَا لَو نصوا على التَّخْصِيص. وَإِن هم قَالُوا كل مَا يخَامر الْعقل خمر، فَمن [سمى] غير هَذَا الشَّرَاب خمرًا وَهُوَ مخامر فَلَا يكون قِيَاسا، بل هُوَ مُتبع للتوقيف، وَهَذَا مَا لَا [نزاع] فِيهِ وَإِن صحت التَّسْمِيَة وجوزنا أَنهم أَرَادوا التَّخْصِيص وَلم يبوحوا بِهِ، وجوزنا أَنهم أَرَادوا التَّعْدِيَة وَلم يتَبَيَّن لنا نَص نقل مِنْهُم، فبماذا تصح عندنَا إرادتهم. وَإِذا أثبتنا اسْما فلسنا نبتدئ بِهِ من تِلْقَاء أَنْفُسنَا إِثْبَات اللُّغَات، وَلَكنَّا ندعي على أهل اللُّغَات أَنهم أَرَادوا ذَلِك. وَنحن مترددون فِي إرادتهم مَعَ الِاعْتِرَاف بذلك التَّرَدُّد. وَكَيف ندعي الْعلم بِأَنَّهُم أَرَادوا تَسْمِيَة النَّبِيذ خمرًا وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك أَنا وجدنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 كل مَا يطرد من الْمعَانِي منتقضة، فَإِن مخامرة الْعقل متحققة فِي البنج. وَسَائِر مَا [يخمر] وَيُورث الغشية، ثمَّ شَيْء مِنْهَا لَا يُسمى خمرًا. [125] فَإِن قيل: إِذا استنبطنا فِي الشرعيات قِيَاسا: فلسنا نقطع بِأَن [13 / أ] صَاحب الشَّرِيعَة نَصه علما وَمَعَ ذَلِك تطرد الأقيسة فَمَا أنكرتم من مثل ذَلِك / فِي اللُّغَات. قُلْنَا: اعلموا أَنكُمْ وافقتمونا أَن اللُّغَة لَا تثبت جَدِيدا فِي يَوْمنَا. وَإِنَّا إِنَّمَا نعلم ثُبُوت المسميات إِذا علمنَا أَن أهل اللُّغَة أرادوها وخطرت لَهُم ضمنا أَو تَصْرِيحًا فِي أصل الْوَضع، فَلَا تثبت اللُّغَة إِلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقَة. فَإِذا تقرر ذَلِك قُلْنَا: فقد ثَبت التَّرَدُّد فِي فصل الِاقْتِصَار والتعدية جَمِيعًا فَأنى نتحقق بِأَنَّهُم أرادوه. أما الْقيَاس الشَّرْعِيّ فحاشا أَن نقُول نعلم طرده أَن صَاحب الشَّرِيعَة نَصبه علما. بل نَحن متشككون فِي ذَلِك. وَلَكِن ثَبت بِدلَالَة قَاطِعَة أَن الرب تَعَالَى أَمر بِالْعَمَلِ مهما غلب على ظنوننا طرد قِيَاس صَحِيح فنعمل عملا. فَأَما أَن نعلم أَن هَذَا علم شَرْعِي. قُلْنَا: لعمرنا هُوَ علم لوُجُوب الْعَمَل علينا. وَلم يثبت فِي اللُّغَات وجوب عمل عِنْد طرد قِيَاس، فَإِن الْأَعْمَال لَا مجَال لَهَا فِي اللُّغَات وَقد بَينا أَن أصل اللُّغَة لم نعلمهُ فَإِذا لم نعلمهُ وَجب التَّوَقُّف فِيهِ. وَهَذَا وَاضح لَا شكّ فِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ثمَّ معنى المخامرة مَوْجُود فِي كثير من الْأَدْوِيَة. فَإِن قيل: يعْتَبر بالسكر وَالِاضْطِرَاب مَعَ المخامرة. قُلْنَا: فَلَيْسَ فِي اسْم الْخمر اقْتِضَاء الِاضْطِرَاب. وَإِنَّمَا فِيهِ المخامرة فَحسب، فبمَا حسبتم الْقيَاس فِي اللُّغَات. (41) القَوْل فِي الْأَسْمَاء الْعُرْفِيَّة وَمَعْنَاهَا) [126] فَإِن قيل / فَمَا معنى الِاسْم الْعرفِيّ فِي تجَاوز أهل اللُّغَات؟ قيل: يَنْقَسِم ذَلِك إِلَى مَعْنيين: أَحدهمَا أَن الِاسْم فِي أصل وضع اللُّغَة إِذا انقسم بَين معَان فغلب الِاسْتِعْمَال فِي وَضعه عرفا فِي أحد مَعَانِيه حَتَّى لَا يفهم مِنْهُ عِنْد إِطْلَاقه إِلَّا بعض مَا وضع لَهُ. فيسمى عِنْد اخْتِصَاصه بِبَعْض مَا وضع لَهُ عِنْد غَلَبَة الِاسْتِعْمَال فِي الْعرف عرفيا. وَذَلِكَ نَحْو قَوْلهم دَابَّة. فَإِن هَذِه الْكَلِمَة مَوْضُوعَة فِي أصل اللُّغَة لكل مَا دب ودرج. ثمَّ غلب استعمالهم لَهَا فِي الْبَهَائِم ذَوَات الْأَرْبَع القوائم. وَكَذَلِكَ الْفَقِيه فِي أصل اللُّغَة وضعا هُوَ الْعَالم و ... غلب اسْتِعْمَاله فِي ضرب من الْعُلُوم إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تتبعه. فَهَذَا ضرب أَسد فِي السَّبع الْمَشْهُور وَفِي البطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الثَّانِي: المتلحق ببابها لَفْظَة تجوز بهَا عَن أصل الْوَضع على مَنْهَج استعمالهم ... غلب اسْتِعْمَاله عرفا على إِرَادَة معنى غير مَا وضع أصل اللَّفْظ لَهُ أصلا فيفهم مِنْهَا الْقَصْد بِهِ لغَلَبَة الْعرف كَمَا يفهم من الْحَقَائِق مَعَانِيهَا وَذَلِكَ نَحْو قَوْله: {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} ، وَقَوله: {أحل لكم صيد الْبَحْر} ، وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: ((حرمت الْخمر لعينها)) فَهَذِهِ أَلْفَاظ وَردت فِي معرض الْمجَاز. وَوجه التَّجَوُّز فِيهَا أَن ظَاهر قَوْله: {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} ، يَقْتَضِي تَحْرِيم أعيانهن وَظَاهر قَوْله: {أحل لكم صيد الْبَحْر} يُنبئ عَن تَحْلِيل أَعْيَان الصيود. وَقد أطبق أَرْبَاب الشَّرَائِع على اسْتِحَالَة نعت [13 / ب] الْأَعْيَان المنعوتة فِي سِيَاق هَذَا الْبَيَان بِالتَّحْرِيمِ إِذْ التَّحْرِيم إِنَّمَا يتَعَلَّق بِمَا / ينْدَرج تَحت التَّكْلِيف. وَإِنَّمَا المندرج تَحت قضيتها أَفعَال الْمُكَلّفين دون الْأَجْسَام الْخَارِجَة عَن قبيل مقدورات الْخَلَائق، والمقصد من ذَلِك أَن الْمَعْنى لتَحْرِيم الْأُم تَحْرِيم فعل فِي الْأُم إِذْ تَحْرِيمهَا فِي عينهَا غير مُتَحَقق فتجوزوا فِي الْإِطْلَاق. وسوغوا الإنباء عَن فعل مُتَعَلق بالأعيان بِعِبَارَة عَن الْأَعْيَان. فَهَذَا وَجه التَّجَوُّز فَلَمَّا غلب الِاسْتِعْمَال فِي هَذِه الْأَلْفَاظ وأمثالها. وَإِن كَانَت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 لَو ردَّتْ إِلَى أصل الْوَضع لم تصادف على مُقْتَضى الأَصْل وَلَكِن لما غلب اسْتِعْمَالهَا فِي مقصد معنى تنزل فِي إثارته منزلَة الْحَقَائِق. [127] فَإِن قيل: قد عَرَفْتُمْ الْأَسْمَاء الْعُرْفِيَّة فِي شَيْئَيْنِ أَحدهمَا تَخْصِيص اللَّفْظ اسْتِعْمَالا بِبَعْض مُقْتَضَاهُ وضعا. وَالثَّانِي غَلَبَة الِاسْتِعْمَال فِي التجوزات فَمَا دليلكم عَلَيْهِ؟ قُلْنَا: الدَّلِيل على أَن الِاسْم الْعرفِيّ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون يُرَاد بوصفه أَنه عرفي أَنه ابتدئ وَضعه فِي الأَصْل لما جرى عَلَيْهِ. وَذَلِكَ محَال لِاتِّفَاق الكافة على اخْتِصَاص الْأَسَامِي الْعُرْفِيَّة [بِبَعْض] الْأَسَامِي فَلَو صرفت إِلَى أصل الْوَضع لزم تَسْمِيَة جملَة اللُّغَات عرفية وَهَذَا مَا لم يصر إِلَيْهِ صائر من الخائضين فِي معنى الِاسْم الْعرفِيّ. وَكَذَلِكَ لَا يسوغ أَن يُقَال: إِنَّهَا متجردة ابتدئ وَضعهَا بعد اسْتِقْرَار اللُّغَات، فَإِن هَذَا سَبِيل كل لُغَة سبقتها أُخْرَى. فَلَزِمَ من ذَلِك أَن نقُول: إِذا سبقت لُغَة الْعَرَب لُغَة ثمَّ تَجَدَّدَتْ لُغَة الْعَرَب اصْطِلَاحا أَو توقيفا أَن تكون متصفة لتجددها بِكَوْنِهَا عرفية. ويستحيل أَن يصرف معنى الْعرفِيّ إِلَى أَنه ابتدأه غير أهل اللُّغَة من الْعلمَاء وَأهل الصَّنَائِع والمهن والحرف تواضعا مِنْهُم فِيمَا بَينهم على ابْتِغَاء معَان فَإِن ذَلِك فِي حُقُوقهم لَو قدر مِنْهُم جَوَازه كوضع أهل اللُّغَة، من حَيْثُ أَنهم لم يسندوا استعمالهم إِلَى وَاضع سبقهمْ بل ابتدأوه تواضعا من تِلْقَاء أنفسهم. وَلَو سَاغَ وصف مَا هَذَا سَبيله بالعرفي وَجب وصف على كل لُغَة لم يسبقها تَوْقِيف بِكَوْنِهِ عرفيا. [128] فَإِن قيل: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْعرفِيّ هُوَ الَّذِي اسْتعْمل فِي غير مَا وضع لَهُ وَنقل من أصل مَوْضُوعه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 قُلْنَا: فَيلْزم من قَول ذَلِك أَن نقُول لَو سمى مسم منا الْجَارِحَة الْمُسَمَّاة يدا رَأْسا والمسماة بِالرَّأْسِ يدا ابْتِدَاء كَانَ ذَلِك اسْما عرفيا. وَإِن لم يُوَافق هَذَا الْمُطلق على إِطْلَاقه إِذْ قد تحقق فِي ذَلِك النَّقْل والتعدية عَن أصل الْوَضع. [129] فَإِن قيل: إِنَّمَا يَتَّصِف بالعرفي إِذا غلب فِي عرف أهل اللِّسَان. قيل: هَذَا أحد الْقسمَيْنِ الَّذين ذكرناهما فِي معنى الْأَسْمَاء الْعُرْفِيَّة فَإنَّا قُلْنَا الْمجَاز إِذا غلب اسْتِعْمَاله الْتحق بمضمون هَذَا الْبَاب فمصيركم إِلَى هَذَا السُّؤَال اعْتِرَاف مِنْكُم بمرامنا ومضمون كلامنا. [130] فَخرج من جملَة مَا قُلْنَاهُ أَن الْعرفِيّ لَا يُنبئ عَن أصل الْوَضع [14 / أ] وَلَا عَن تَجْدِيد اللُّغَات وَإِنَّمَا يُنبئ عَمَّا يغلب اسْتِعْمَاله / عرفا من المجازات أَو يغلب تَخْصِيصه بِبَعْض المقتضيات اسْتِعْمَالا وإرسالا فَسُمي مَا يلغي تَخْصِيصه بِبَعْض المقتضيات من الْعرف عرفيا وَسمي الْمجَاز الْغَالِب فِي الْعرف بمجاوزته ضروب المجازات غير الْغَالِبَة عرفيا. (42) فصل [131] وَقد ألحق الْمُحَقِّقُونَ بِهَذَا الْفَصْل ضروبا من الْأَلْفَاظ الشَّرْعِيَّة زاغ فِيهَا بعض نابتة الْفُقَهَاء وجروا فِيهَا على خلاف الْحَقَائِق. وَهَذِه الْأَلْفَاظ المتضمنة لنفي مُضَاف إِلَى الْأَعْيَان، والمقصد مِنْهُ نفي حكم فِيهَا لَا نفي ذواتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 نَحْو قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: ((رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان)) وَقَوله: ((لَا صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد إِلَّا فِي الْمَسْجِد)) ، ((وَلَا نِكَاح إِلَّا بولِي)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وَقَوله: الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَقَوله: لَا صِيَام لمن لم يبيت الصّيام من اللَّيْل إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يضاهيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 [132] فَذهب شرذمة من الْفُقَهَاء إِلَى الحاق هَذَا الْقَبِيل بالمجملات الَّتِي لَا تستقل بأنفسها فِي إثارة الْمعَانِي وتلقوا هَذَا الْإِجْمَال من إِضَافَة النَّفْي إِلَى الْأَعْيَان مَعَ تَحْقِيق ثُبُوتهَا. والمصير إِلَى الْإِجْمَال على هَذَا الْمنْهَج سجية الْجُهَّال بحقائق الْجِدَال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وَذهب الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء إِلَى إِلْحَاق هَذَا الْقَبِيل بالمستقلات من الْكَلَام وَحَمَلُوهُ على نفي الْأَحْكَام وَنَفَوْا عَنهُ سمة الْإِبْهَام وأدانوا الْمصير إِلَى توقع نفي الْأَعْيَان من فحوى الْخطاب وَالْبَيَان. ثمَّ افترق هَؤُلَاءِ فرقا فَمن صائرين إِلَى أَن النَّفْي إِذا أضيف إِلَى الْأَعْيَان اقتضي بِظَاهِرِهِ انْتِفَاء الْأَعْيَان وَالْأَحْكَام جَمِيعًا، ثمَّ إِذا قَامَت دلالات الْمَعْقُول على ثُبُوت الْأَعْيَان الَّتِي انطوى عَلَيْهَا الْخطاب خصصت الْأَعْيَان من مُقْتَضى الْخطاب، وَبقيت الْأَحْكَام على مُوجبهَا وَينزل ذَلِك منزلَة تَخْصِيص اللَّفْظ الشَّامِل للعام. وَمِنْهُم من ذهب إِلَى أَن نفي الْأَعْيَان لَا يقدر دُخُوله تَحت الْخطاب لتلجيء الْحَاجة إِلَى تخصيصها. وَمَا انطوى مَضْمُون اللُّغَة إِلَّا على الْأَحْكَام فتضمن اللَّفْظ نَفيهَا عُمُوما فَإِن قَامَت دلَالَة فِي قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (لَا صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد إِلَّا فِي الْمَسْجِد)) دَالَّة على أَجزَاء الصَّلَاة فَمن اقْتِضَاء النَّفْي فِي إِطْلَاقه نفي الْجَوَاز والكمال. فَإِذا قَامَت الدّلَالَة على الْجَوَاز نفي الْكَمَال تَحت قَضِيَّة النَّفْي الْمَنْقُول وَالَّذِي نرتضيه بطلَان هَذِه الْمذَاهب كلهَا. فَالْأولى أَن نوضح بُطْلَانهَا ثمَّ نذْكر السديد من الْمذَاهب عندنَا. [133] فَأَما وَجه الرَّد عَن من يزْعم أَن الْخطاب يلْتَحق بالمجملات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 لإضافة النَّفْي إِلَى الْأَعْيَان مَعَ ثُبُوتهَا فَيُقَال لهَؤُلَاء هَل تنكرون فِي إطلاقات الْعَرَب وتفاهمها وتجاوزها إِطْلَاق الشَّيْء نفيا وإثباتا وَالْمرَاد نفي وصف مِنْهُ أَو إِثْبَات وصف لَهُ. فَإِن جَحَدُوا ذَلِك انتسبوا إِلَى إِنْكَار مَا عَلَيْهِ أَرْبَاب اللِّسَان قبل انبعاث الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَبعده فَإنَّا نعلم فِي الْجَاهِلِيَّة الجهلاء قبل انبعاث خَاتم الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِ السَّلَام. وَكَانُوا يتفاوضون بِرَفْع الزلل وَالْخَطَأ أَن يَقُول الْمَرْء لمن دونه: رفعت / عَنْك زلتك وخطأك، وَلَا يعنون بذلك رفع [14 / ب] الْأَعْيَان. وَإِنَّمَا مرامهم نفي الْمُؤَاخَذَة بالْخَطَأ. وَمن الْمَشْهُور السائر فِي كَلَامهم قَوْلهم للَّذي عمل من غير نِيَّة وطوية فِي ارتياد طَاعَة، وَلَكِن بدر مِنْهُ الْعَمَل وفَاقا: مَا عملت شَيْئا، وَلَا يعنون بذلك نفي صُورَة الْعَمَل وَإِنَّمَا يعنون بذلك نفي الْمَقْصُود والنيات، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: ((لَا عمل إِلَّا بنية)) إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول اقتصاصه وتتبعه، فتقرر بِمَا قُلْنَاهُ أَن نفي الصِّفَات تعقل من النَّفْي الْمُضَاف إِلَى الذوات. فَإِذا تمهد ذَلِك قُلْنَا النَّفْي الْمَنْقُول عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام مُضَافا إِلَى شَيْء، لَهُ مصرفان لَا يتوسطهما ثَالِث، أَحدهمَا نفي الْأَعْيَان والذوات. وَالثَّانِي نفي غَيرهمَا مِمَّا تتصل بهما من الآثام وَالْأَحْكَام. وَقد يفهم من اللَّفْظ كِلَاهُمَا. ويستحيل حمل النَّفْي الْمَنْقُول عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام على نفي الْأَعْيَان مَعَ الْقطع بثبوتها، وَالْعلم باستحالة الْكَذِب على الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام. فَإِذا علمنَا قطعا اسْتِحَالَة الْحمل على نفي الْأَعْيَان. تعين الْمصرف الثَّانِي. ويتضح ذَلِك بِمَا لَا دفع لَهُ. وَهُوَ أَن الْإِجْمَال إِنَّمَا يتوقى عِنْد توقع الْإِضْمَار. واشتباه الْحَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ويستحيل اسناد الْإِبْهَام إِلَى مَا يستيقن بُطْلَانه. وَقد ثَبت بطلَان الْمصير إِلَى نفي الْأَعْيَان فَلم يبْق لاسناد الْإِجْمَال إِلَى ذَلِك أصل. [134] فَإِن قيل: إِذا أضيف النَّفْي وَالْإِثْبَات إِلَى عين لم يعقل فِيهِ إِلَّا انْتِفَاء الْعين أَو ثُبُوتهَا، فَيُقَال لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه يبطل عَلَيْكُم من أوجه، أقربها أَن قَوْله عز اسْمه: {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} لَيست من المجملات وفَاقا. وَالتَّحْرِيم مُضَاف إِلَى أَعْيَان الْأُمَّهَات مَعَ اسْتِحَالَة تعلق أَحْكَام التَّكْلِيف بِغَيْر أَفعَال الْمُكَلف على مَا سبق إيضاحه. وَهَذَا مَا لَا مدفع لَهُ. ثمَّ نقُول قد أوضحنا عَلَيْكُم من تفاوض الْعَرَب إِطْلَاق الْأَعْيَان فِي النَّفْي وَالْإِثْبَات. والمقصد بِالنَّفْيِ أَحْكَامهَا دون ذواتها. ثمَّ نقُول مَا ذكرتموه من أَنه لَا يفهم من نفي الْعين إِلَّا نفي ذَاته تَصْرِيح مِنْكُم بالتوصل إِلَى حمل خطاب الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام على الْخلف الْمَحْض وَهَذَا الْكَلَام خَارج عَن دَعْوَى الِاحْتِمَال، بل هُوَ إفصاح بِحمْل خطاب صَاحب الشَّرْع على خلاف الْمَعْقُول فِي الْحَال. [135] فَإِن قيل: إِذا نقل لفظ مَا هَذَا وَصفه استربنا فِي ناقليه وبرأنا عَنهُ الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . قيل: فقد ورطكم أصلكم فِي أقبح المطاعن فِي الْأَخْبَار وَحملهَا على الْمحَال. ثمَّ انعطفتم بِفساد أصلكم على الطعْن فِي الروَاة والثقات ثمَّ الْكَلَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 عَلَيْكُم فِي ذَلِك أَن الْحمل على الْمُجْمل الَّذِي ذكرتموه محَال قطعا. وبدور الْمحَال من الرَّسُول محَال سمعا وعقلا. وَلَا تستريبوا فِيمَا هَذَا سَبيله بل اقْطَعُوا بكذب النقلَة حَتَّى تصرحوا بِأَن قَوْله " لَا عمل إِلَّا بنية " خلف على الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قطعا. وَهَذَا مَا لم يصر إِلَيْهِ صائر. ثمَّ نقُول إِنَّمَا يستتب لكم هَذَا فِي أَخْبَار الْآحَاد وَنقل الْأَفْرَاد. وَقد ثَبت فِي ظواهر الْكتاب والمستفيض من الْأَخْبَار / [15 / أ] إِضَافَة النَّفْي وَالْإِثْبَات إِلَى أَعْيَان مَعَ اسْتِحَالَة حملهَا على التَّخْصِيص بالذوات فِي النَّفْي وَالْإِثْبَات، وَلَئِن سَاغَ اتهام الثِّقَات فِي الْآحَاد لَا نحسم هَذَا الْبَاب فِي ظواهر الْكتاب ومستفيض السّنَن فَهَذَا وَجه الرَّد على هَذِه الطَّائِفَة. [136] فَأَما وَجه الرَّد على من زعم أَن النَّفْي يعم الْمَنْفِيّ وَحكمه ثمَّ يخصص ذَوَات الْأَفْعَال بدلالات الْعُقُول، فَهُوَ أَن نقُول انطواء اللَّفْظ على الْمَعْنيين المتضادين مُسْتَحِيل وفَاقا. وَالْحمل على نفي الْعين وَنفي حكمهَا محَال فَإِن نفي الحكم جَوَازًا أَو كَمَا لَا يُنبئ عَن ثُبُوت الْفِعْل مَعَ انْتِفَاء الحكم، وَنفي الذوات يُصَرح باستحالة الثُّبُوت. وَالْحمل عَلَيْهِمَا حمل على المتناقضين، فَهَذَا مَا لَا محيص عَنهُ. [137] وبمثل هَذِه الطَّرِيقَة نرد على من يزْعم أَن النَّفْي يتَضَمَّن نفي الْجَوَاز والكمال فَإِن نفي الْكَمَال يُنبئ عَن ثُبُوت الْجَوَاز والأجزاء مَعَ انْتِفَاء سمة الْفَضِيلَة. وَنفي الْجَوَاز يُنَافِي ذَلِك. وَهَذَا كَمَا أَنا نقُول نفي سمة الْإِبَاحَة تنَاقض وصف الْوُجُوب. وَيبْطل قَول من قَالَ من نابتة الْفُقَهَاء أَن كل وَاجِب مُبَاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وَلَيْسَ كل مُبَاح وَاجِبا فَإِن الْمُبَاح مَا يُخَيّر الْمُكَلف فِي فعله وَتَركه من غير لوم وَاسْتِحْقَاق ذمّ فِي وَاحِد مِنْهُمَا. وَهَذِه الصِّيغَة مَعْدُومَة فِي الْوُجُوب فَكَذَلِك نفي الْكَمَال إِذا قدر مُجَردا انبأ عَن الْأَجْزَاء، وَنفي الْأَجْزَاء يناقضه، فالحمل عَلَيْهِمَا مَحل على النقيضين. فقد بطلت الْمذَاهب الَّتِي قدمناها. [138] فَإِن قيل: فَمَا الَّذِي ترتضونه؟ قُلْنَا " مَا نرتضيه إِلْحَاق اللَّفْظ بالمحتملات لتردد النَّفْي بَين الْكَمَال وَالْجَوَاز. واستحالة الْحمل عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَلَا طَرِيق إِلَّا التَّوْقِيف ليتعين أحد المحتملين. [139] فَإِن قيل: فَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب الأول فِي ادِّعَاء الْإِجْمَال. قُلْنَا: الْفرق بَين المذهبين أَن الَّذين ادعوا الْإِجْمَال أَولا أسندوه إِلَى توقع نفي الْأَعْيَان، وَهُوَ مُسْتَحِيل. وَنحن أسندنا ادِّعَاء الْإِبْهَام إِلَى الْأَحْكَام، ثمَّ هَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ مَعَ الْمصير إِلَى القَوْل بِالْعُمُومِ. وَإِن نَحن نَفينَا الْعُمُوم لم نحتج إِلَى إِيضَاح وَجه الْإِجْمَال على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 (43) القَوْل فِي الرَّد على من زعم أَن فِي أَلْفَاظ صَاحب الشَّرِيعَة كَلِمَات خَارِجَة عَن قَضِيَّة اللُّغَة [140] اعلموا - أحسن الله إرشادكم - أَن الْمُعْتَزلَة وَطَوَائِف من الْخَوَارِج قسموا الْأَلْفَاظ فِي الشَّرِيعَة ثَلَاثَة أَقسَام: أَحدهَا: الْأَسَامِي الدِّينِيَّة. وَالثَّانِي: الْأَسَامِي الشَّرْعِيَّة. وَالثَّالِث: الْأَسَامِي اللُّغَوِيَّة. [141] فَأَما الْأَسَامِي الدِّينِيَّة فَثَلَاثَة: الْإِيمَان، وَالْكفْر، وَالْفِسْق. فَأَما الْإِيمَان فقد وضع فِي تواضع اللُّغَة للتصديق وَاسْتَعْملهُ صَاحب الشَّرِيعَة فِي الطَّاعَات المفترضة قولا وفعلا وعقدا فَمن أخل بِشَيْء مِنْهَا خرج عَن وصف الْإِيمَان شرعا. وَإِن كَانَ متصفا / بالتصديق لُغَة وَعرفا وَكَذَلِكَ [15 / ب] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الْكفْر هُوَ التغطية فِي أصل اللُّغَة. وَمِنْه يُسمى اللَّيْل كَافِرًا لتغطيته النعم وَكَذَلِكَ يُسمى الْفَلاح كَافِرًا لتغطيته الْبذر بِبَعْض طَبَقَات الأَرْض. ثمَّ سموا جَاحد النعم كَافِرًا وتارك الشُّكْر كَافِرًا لتغطيته النعم فَهَذَا وَجه اسْتِعْمَاله فِي اللُّغَة. وَيُسمى ترك الْمعرفَة فِي الدّين كفرا. وَالْفِسْق فِي اللُّغَة هُوَ الْخُرُوج والتنصل عَن الْأَمر. وَمِنْه قَوْلهم فسقت الرّطبَة إِذا تفقأت عَنْهَا قشرتها. فَهَذِهِ الْأَسْمَاء الدِّينِيَّة عِنْد الْقَوْم. ومرامهم بذلك اسْتِعْمَال الْإِيمَان فِي غير مَا اسْتعْمل فِي أصل اللُّغَة حَقِيقَة ومجاز. وَكَذَلِكَ الْكفْر وَالْفِسْق. [142] والمعتزلة يفارقون الْخَوَارِج فِي خلة وَاحِدَة. هِيَ أَنهم قَالُوا مقارف الْكَبِيرَة مَعَ اسْتِصْحَاب الْمعرفَة والتصديق لَا يَتَّصِف بِالْإِيمَان وَلَا بالْكفْر بل يتسم بالفسوق. والخوارج يطلقون القَوْل بِأَن الْخَارِج من الْإِيمَان كَافِر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 [143] ثمَّ ذهب أَبُو الْهُذيْل إِلَى أَن اسْم الْإِيمَان يتَنَاوَل فَرَائض الدّين ونوافله وَهُوَ ثَلَاثَة أَقسَام فقسم مِنْهُ يكفر تَاركه. وَهُوَ الْمعرفَة والتصديق. وَقسم يفسق تَاركه وَلَا يكفر وَهُوَ مفترضات الدّين من جملَة الطَّاعَات. وَقسم مِنْهُ لَا يكفر تَاركه وَلَا يفسق. وَأنكر عَلَيْهِ كَافَّة الْمُعْتَزلَة وَقَالُوا اسْم الْإِيمَان وَاقع على فَرَائض الدّين دون نوافله. فَهَذِهِ الْأَسْمَاء الدِّينِيَّة عِنْد الْقَوْم. [144] فَأَما الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة فَهِيَ عِنْدهم أَسمَاء لغوية نقلت فِي الشَّرْع عَن أصل وَضعهَا إِلَى أَحْكَام شَرْعِيَّة نَحْو الصَّلَاة، وَالْحج، وَالزَّكَاة، وَالصِّيَام وَمَا يضاهيها فزعموا أَن هَذِه الْأَحْكَام لما حدثت من الشَّرْع نقلت إِلَيْهَا هَذِه الْأَسْمَاء من اللُّغَة. وَقد تبع هَؤُلَاءِ شرذمة من الْفُقَهَاء الحائدين عَن التَّحْقِيق، [وَمَا] راموا مرامهم بيد أَنهم زلوا عَن سَوَاء الطَّرِيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 [145] وَأما الْأَسْمَاء اللُّغَوِيَّة فَهِيَ الْجَارِيَة على مَا كَانَت عَلَيْهِ فِي أصل الْوَضع من غير تَحْرِيف وَنقل وَهِي الْأَغْلَب من أَلْفَاظ صَاحب الشَّرَائِع. [146] فَمن أوضح مَا نستدل بِهِ أَن نقُول قد ثبتَتْ اللُّغَات وضعا واستعمالا. وتقرر اسْتِقْرَار هَذِه الْأَسَامِي الَّتِي فِيهَا التَّنَازُع على مسمياتها فِي أصل الْوَضع، ثمَّ ادعيتم معاشر الْمُخَالفين نقلهَا إِلَى قَضِيَّة الدّين أَو إِلَى عرفية شَرْعِيَّة فَنَقُول لكم لَا تخلون إِمَّا أَن تتوصلوا إِلَى معرفَة ذَلِك عقلا أَو سمعا. فَإِن أَنْتُم زعمتم أَنكُمْ توصلتم إِلَى معرفَة ذَلِك عقلا فَلَا تخلون إِمَّا أَن تسندوا دعواكم إِلَى ادِّعَاء الضَّرُورِيّ فِي مُقْتَضى الْعُقُول فتخرجون عَن قَضِيَّة النَّقْل. فَأول مَا نلزمكم فِي مُقَابلَة دعواكم بِمِثْلِهَا. وَإِن أَنْتُم زعمتم أَنكُمْ تبلغتم بدلالات الْعُقُول إِلَى معرفَة النَّقْل فَهَذَا محَال. فَإِن أصُول اللُّغَة لَا تضبط عقلا، وَلَا تدل عَلَيْهَا دلَالَة عقلية فَكيف يدل على النَّقْل مِنْهُمَا. وَإِن زعمتم أَن التَّوَصُّل إِلَى معرفَة مَا أنكرتموه بِدلَالَة سمعية ففصلوها لنا نتكلم عَلَيْهَا. فَإِن الدّلَالَة السمعية خبر أَو إِجْمَاع أَو قِيَاس وَلَا إِجْمَاع مَعَ اخْتِلَاف. [16 / أ] وَلَا يثبت نقل / اللُّغَات بالمقاييس لما بَيناهُ فِي بَابه فَلَا يبْقى بعدهمَا إِلَّا الْأَخْبَار. ثمَّ هِيَ تَنْقَسِم إِلَى متواتر وَإِلَى مستفيض وَنقل آحَاد. وَأَنْتُم معاشر الْمُخَالفين لَا تقدرون على نقل خبر من طَرِيق الْآحَاد عَنهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي نقل الْأَسَامِي عَن أصل اللُّغَات. فَإِذا تبين عجزكم عَن إِسْنَاد دعواكم إِلَى طَرِيق من طرق الْأَدِلَّة. وَبَطل ادِّعَاء الضَّرُورَة لم يبْق لكم مستروح. وَهَذَا مَا لَا طَرِيق لَهُم إِلَى الْقدح فِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 [147] فَإِن قيل: فَفِي كتاب الله تَعَالَى وَسنة نبيه مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام مَا لَا يُوجد فِي اللُّغَات وضعا واستعمالا. وعدوا من ذَلِك جملا. مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ} قَالُوا فالإيمان هُوَ التَّصْدِيق فِي اللُّغَة وَالْمرَاد بِهِ فِي الْآيَة صَلَاة الَّذين صلوا إِلَى بَيت الْمُقَدّس ثمَّ نسخ التَّوَجُّه إِلَيْهِ فَهَذَا خَارج من اللُّغَة وضعا واستعمالا ومنقول إِلَى غَيره. وَكَذَلِكَ قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : ((الْإِيمَان بضع وَسَبْعُونَ جُزْءا أَعْلَاهَا شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَدْنَاهَا إمَاطَة الْأَذَى عَن الطَّرِيق)) قَالُوا فَسمى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] طاعات الشَّرَائِع إِيمَانًا واستشهدوا بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَام وَالزَّكَاة وَالْحج فِي قبيل الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة. وَزَعَمُوا أَنَّهَا لم تعهد فِي أصل اللُّغَات مستعملة فِي مواقعها الشَّرْعِيَّة. فَيُقَال لَهُم: أما قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ} فَمَعْنَاه وَمَا كَانَ الله لِيُضيع تصديقكم بالصلوات إِلَى الْقبْلَتَيْنِ فَهُوَ إِذا مَحْمُول على حَقِيقَة اللُّغَة. وَأما تمسكهم بالْخبر فَهُوَ من الْآحَاد. وَالَّذِي نَحن فِيهِ لَا يثبت إِلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 بمقطوع بِهِ فَإِن الْمصير إِلَى نفي سمة الْإِيمَان وَإِثْبَات سمة الْكفْر مِمَّا يجل خطره فِي الدّين فَلَا يتشبث فِيهِ بأخبار الْآحَاد ثمَّ لَو قبلناه فَالْمَعْنى بِهِ أَن الْأَفْعَال الشَّرْعِيَّة دَلَائِل الْإِيمَان وأماراته لَا أَنَّهَا نفس الْإِيمَان. وأمثال ذَلِك لَا تستبدع فِي اسْتِعْمَال اللُّغَات فَإنَّك تَقول لمن تُرِيدُ تَحْقِيق تَصْدِيقه وَقد [بَدَت مِنْهُ] أَعمال دَالَّة على تَصْدِيقه إياك، فَتطلق القَوْل على آحَاد أَعماله فَإِنَّهُ تَصْدِيق مِنْهُ وَإِن لم تكن نفس التَّصْدِيق بل كَانَت دلالات عَلَيْهِ. وَقد تسمى الْعَرَب الشَّيْء لكَونه مِنْهُ أَو لكَونه بِسَبَب مِنْهُ وَهَذَا [كَمَا] أَنَّهَا تسمى الْبَدَائِع من صنع الله قدرَة الله. وتعنى بذلك أَنَّهَا مقدوراته، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تتبعه، فَأَما تعلقهم فِيهِ بالأسامي الشَّرْعِيَّة وادعاؤهم نقلهَا فَهَذَا بَاطِل، فَأَما الْحَج فَهُوَ الْقَصْد فِي أصل اللُّغَة. وَقد اسْتشْهدُوا عَلَيْهِ بنظم الْعَرَب ونثرها وَالْحج الشَّرْعِيّ هُوَ قصد بَيت الله الْحَرَام. وَالصَّلَاة فِي أصل اللُّغَة هِيَ الدُّعَاء. وَالْعِبَادَة الشَّرْعِيَّة [الْمُسَمَّاة] بِالصَّلَاةِ منطوية على الدُّعَاء، فسميت الدَّعْوَات صَلَاة جَريا على أصل اللُّغَة. وَالصِّيَام هُوَ الْإِمْسَاك فيسمى الْإِمْسَاك عَن المفطرات صياما وَالزَّكَاة هِيَ النَّمَاء فيسمى مَا يُؤَدِّي عَن نَمَاء [16 / ب] المَال غَالِبا زَكَاة / وَهِي أَيْضا سَبَب فِي تنمية المَال على وعد صَاحب الشَّرْع فَسمى الْمخْرج لإدائه إِلَى تنمية المَال نَمَاء وَهُوَ مَوْضُوع للنماء. [148] فَإِن قيل: الْحَج هُوَ الْقَصْد، وَلَكِنَّكُمْ لَا تجتزون بِمُجَرَّد الْقَصْد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 فِي اسْم الشَّرْع بل تشترطون ضروبا فِي الْأَعْمَال والأقوال. وَكَذَلِكَ لَا تجتزون بِمُجَرَّد الدَّعْوَات فِي الصَّلَوَات. وَلَا تكتفون بِمُجَرَّد الْإِمْسَاك فِي الصّيام فأوضحوا مثل ذَلِك فِي الزَّكَاة. وَهَذِه عصمتهم. فَإِن تفصيت عَنْهَا تبدد شملهم. وانبت كَلَامهم فَنَقُول: الْمُسَمّى بِالْحَجِّ هُوَ الْقَصْد عِنْد وجوب أَسبَاب وشرائط والمسمى بِالصَّلَاةِ هِيَ الدَّعْوَات عِنْد اتِّصَال أَفعَال وأقوال بهَا. والمسمى بالصيام هُوَ نفس الْإِمْسَاك عِنْد تقدم النِّيَّة والشرائط. فقد تبين تَقْرِير الْأَسَامِي على أصل موضوعاتها. [149] فَإِن قيل: فاللغة [لَا] تَقْتَضِي تَخْصِيص الْحَج بِقصد مَشْرُوط وَتَخْصِيص الصَّلَاة وَالصِّيَام بِأَسْبَاب مقترنة بالدعوات والإمساك فَمن هَذَا الْوَجْه خالفتم اللُّغَة. قُلْنَا: قد أوضحنا عَلَيْكُم تَقْدِير الْأَسَامِي على مَا وضعت لَهُ. فَأَما مَا ادعيتموه من أَن اللُّغَة لَا تَقْتَضِي تخصيصها فَهَذَا بَاطِل من وَجْهَيْن. أَحدهمَا: أَنه لَا يستبدع فِي اسْتِعْمَال اللُّغَة أَن يعمد إِلَى اسْم مُشْتَرك بَين معَان فَيخْتَص بِبَعْض محتملاته اسْتِعْمَالا عِنْد غَلَبَة الْعرف وَلَا يُسمى ذَلِك نقلا وَلَا تبديلا. وَذَلِكَ نَحْو الدَّابَّة وَغَيرهَا مِمَّا قدمناها فِي بَابهَا. وَالْوَجْه الثَّانِي: من الْجَواب أَن نقُول لَو اقْتضى الشَّرْع نفي اسْم الْحَج وَالصَّلَاة وَالصَّوْم عِنْد عدم الشَّرَائِط رُبمَا كَانَ يستتب لكم قَوْلكُم. وَلَكِن لَيْسَ فِي الشَّرْع ذَلِك، بل فِيهِ تَسْمِيَة الْقَصْد حجا عِنْد وجود الشَّرَائِط من غير منع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 من إِطْلَاق اسْم الْحَج على قصد غير ذَلِك. وَكَذَلِكَ وَردت الشَّرِيعَة بِتَسْمِيَة الدَّعْوَات الْمَخْصُوصَة بشرائطها صَلَاة، وَلم يرد منع بِتَسْمِيَة غَيرهَا من الدَّعْوَات صَلَاة كَيفَ وَقد وَردت الشَّرِيعَة صَرِيحًا بِتَسْمِيَة الدُّعَاء الْمَحْض صَلَاة فَإِنَّهُ تَعَالَى وَجل قَالَ لرَسُوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : {وصل عَلَيْهِم إِن صَلَاتك سكن لَهُم} وَقَالَ تَعَالَى: {إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي} وَالْمعْنَى بِصَلَاة الْمَلَائِكَة دعاؤهم فقد تبين بِمَا نبهناك عَلَيْهِ أَن شَيْئا من الْأَسَامِي الَّتِي اعتضدوا بهَا غير خَارج من أصل اللُّغَة. وَطَرِيق اسْتِعْمَالهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 (44) القَوْل فِي الرَّد على من زعم أَن فِي الْقُرْآن مَا لَيْسَ من لُغَة الْعَرَب وكلامها [150] اعْلَم، وفقك الله أَن مَا صَار إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ من أَرْبَاب الشَّرَائِع أَن الرب تَعَالَى لم يخاطبنا فِي الشَّرِيعَة بِمَا لَيْسَ من كَلَام الْعَرَب. وَكَذَلِكَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآن كلمة / خَارِجَة عَن لُغَة الْعَرَب ولسنها. [17 / أ] وَزَعَمت طَائِفَة مِمَّن يتعاطى اللُّغَة أَن الْقُرْآن يشْتَمل على كَلِمَات لَيست من كَلَام الْعَرَب أصلا. وَإِنَّمَا هِيَ من سَائِر اللُّغَات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وَالدَّلِيل على الرَّد عَلَيْهِم قَوْله تَعَالَى: {بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين} وَقَوله تَعَالَى: {وَهَذَا لِسَان عَرَبِيّ مُبين} فنعت الْقُرْآن كُله بِكَوْنِهِ عَرَبيا مُبينًا فتقوم الدّلَالَة بِمُقْتَضى الْآيَة على الْخُصُوم سِيمَا مَعَ قَوْلهم بِالْعُمُومِ. ويتأكد الِاسْتِدْلَال على قَول نفاة الْعُمُوم بمضمون الْآيَة، والمقصد من سياقها، وَذَلِكَ أَن العندة من الْكَفَرَة زَعَمُوا أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يتلَقَّى الْقُرْآن من سلمَان الْفَارِسِي وَمِنْه يتلقف قصَص الْأَوَّلين وسير الماضين فاحتج الله عَلَيْهِم فِي رد مقالتهم وَقَالَ: (لِسَان الَّذِي يلحدون إِلَيْهِ أعجمي وَهَذَا لِسَان عَرَبِيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 مُبين} فَلَو كَانَ من جملَة الْقُرْآن فِي تضاعيف نظمه كَلِمَات أَعْجَمِيَّة لبطل الِاحْتِجَاج على الْعَرَب بِمَا ذكره الله عز وَجل ولتشبثت الْعَرَب بِتِلْكَ الْكَلِمَات وتوصلت بهَا إِلَى ادِّعَاء تلقيها من فَارسي. ولخصم سيد الْأَوَّلين والآخرين عَلَيْهِ السَّلَام فِي احتجاجه عَلَيْهِم. فَدلَّ سِيَاق الْآيَة فِي مُقْتَضى الِاحْتِجَاج مَعَ ظَاهرهَا على مَا ذَكرْنَاهُ. وعَلى هَذَا الْوَجْه يسْتَدلّ بقوله تَعَالَى: {وَلَو جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أعجميا لقالوا لَوْلَا فصلت آيَته أعجمي وعربي} وَالْمعْنَى بِالْآيَةِ أَنا لَو بَعْضنَا الْقُرْآن فَجعلنَا بعضه أعجميا وَبَعضه عَرَبيا لقالت الْعَرَب أعجمي وعربي. واستدلت بقصور الْكَلَام فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة حَتَّى احْتَاجَ إِلَى امداده بلغَة أُخْرَى. وَهَذَا الْمَعْنى بقوله تَعَالَى: {لَوْلَا فصلت آيَته} بلغَة من غير أَن يشوبها مَا لَيْسَ مِنْهَا فَدلَّ ذَلِك على تمحض لُغَة الْعَرَب فِي كتاب الله تَعَالَى. [151] فَإِن قيل: فِي الْقُرْآن أَلْفَاظ معربة من لُغَة الْعَجم مِنْهَا الإستبرق. وَهُوَ مُعرب استبره بِلِسَان الْعَجم. والمشكاة كلمة هندية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 والسندس والقسطاس كلمتان روميتان وَقد زعم أهل اللُّغَة أَن الْأَب لم يُوجد فِي شَيْء من كَلَام الْعَرَب فَتبين بذلك خُرُوج هَذِه الْأَلْفَاظ عَن أصل اللُّغَة. قُلْنَا: لَئِن صَارَت شرذمة إِلَى مَا قلتموه فقد صَار مُعظم الْمُفَسّرين إِلَى إِلْحَاق ذَلِك باللغات وتفسيرها على الْمنْهَج الَّذِي فسروا سَائِر الْكَلِمَات، فتتقابل الْمذَاهب. وَيبقى لنا الِاسْتِدْلَال بِنَصّ الْكتاب ثمَّ نقُول مَا ذكرتموه من كَون الإستبرق معربا من قَول الْعَجم استبره بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْعَجم عبرت عَن استبرق باستبره على الضِّدّ مِمَّا ادعيتموه وَأما الْمشكاة فَهِيَ لُغَة مَعْرُوفَة [و] وجودهَا فِي لُغَة الْهِنْد لَا ينفيها عَن لُغَة الْعَرَب. وَقد تتفق اللغتان فِي اسْم وفَاقا. فَهَذَا مَا لَا استشهاد فِيهِ وَهَذَا وَجه الْكَلَام على السندس والقسطاس. وَأما الْأَب فقد فسره مُعظم أهل اللُّغَة بالكلأ واللغات تَنْقَسِم. فَمِنْهَا مَا يظْهر، وَمِنْهَا مَا ينْدر وَلَا يعثر عَلَيْهِ إِلَّا المتبحر [17 / ب] فِي اللُّغَة. وَذُهُول / الْبَعْض عَنهُ لَا يَنْفِيه عَن اللُّغَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 [152] فَإِن قيل: لَيْسَ فِي لُغَة الْعَرَب اسْم على وزن استفعل. والاستبرق لَا نَظِير لَهُ فِي وَضعه ووزنه. قيل: وَكم من اسْم شَاذ فِي وضع اللُّغَة لَا نَظِير لَهُ. وَانْتِفَاء نَظِيره لَا يَنْفِيه عَن أصل اللُّغَة. وَذَلِكَ نَحْو قرعبلانة وذويل وصعفوق وخذعل فَإِن فعلالا إِنَّمَا يكون فِي المضاعف كالزلزال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 (45) القَوْل فِي تَفْسِير جمل من الْحُرُوف [153] اعْلَم، وفقك الله أَن الْحُرُوف تَنْقَسِم إِلَى معَان. فَتطلق وَالْمرَاد بِهِ طرف الْجِسْم وشفيره كَمَا يُقَال حرف الْوَادي وحرف الْجَبَل. وَقد يُطلق وَالْمرَاد بِهِ النَّاقة المهزولة. وَيُطلق وَالْمرَاد بِهِ الْوَاحِد من حُرُوف المعجم وَيُطلق وَالْمرَاد بِهِ أحد الْحُرُوف الَّتِي هِيَ أصوات مقطعَة بادرة من مخارج الْعبارَات وَقد يُطلق وَالْمرَاد بِهِ الْكَلَام التَّام المنتظم، وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تمسك بالحرف الْفُلَانِيّ فِي الْمَسْأَلَة وتعني بِهِ نُكْتَة ارتضيتها. وَيُطلق وَالْمرَاد بِهِ اللَّفْظ الْمُتَّصِل بالأسماء وَالْأَفْعَال وجمل الْمقَال لتعتبر مَعَانِيهَا وفوائدها. وَهَذَا مَقْصُود الْبَاب. وَهُوَ نَحْو من وَأي وَبعد، وَحَتَّى. وَمَا شاكلها. (46) القَوْل فِي معنى ((من)) [154] اعْلَم أَن هَذِه الْحُرُوف ترد لثلاث جِهَات. فتجيء مَجِيء الْخَبَر نَحْو قَوْلك: أعجبني من رَأَيْت وَقد تَجِيء مَجِيء الشَّرْط وَالْجَزَاء نَحْو قَوْلك: من جَاءَنِي أكرمته وَمن عَصَانِي عاقبته. وَترد مورد الِاسْتِفْهَام نَحْو قَوْلك الاستعلام لمن تخاطبه: من عنْدك وَمن كلمك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 [155] ثمَّ اعْلَم أَن هَذِه الْحُرُوف فِي أصل الْوَضع مُخَصص بالعقلاء. فَإِن اسْتعْمل فِي غَيرهم كَانَ تجوزا فَإِذا قلت مستفهما: من عنْدك؟ لم يحسن من الْمُخَاطب أَن يَقُول: ثوب أَو دَابَّة. (47) القَوْل فِي معنى ((أَي)) [156] هَذَا يَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام: فَيرد مورد الْخَبَر نَحْو قَوْلك لأُكلمَن أَيهمْ قَامَ تَعْنِي بِهِ من قَامَ. وَيرد مورد الِاسْتِفْهَام نَحْو قَوْلك: أَي النَّاس رَأَيْت؟ وَيرد فِي معرض الشَّرْط وَالْجَزَاء نَحْو قَوْلك: أَيهمْ يضربني أضْرب. (48) القَوْل فِي معنى ((من)) [157] هَذَا الْحَرْف يتنوع بِمَعْنَاهُ فَيرد وَالْمرَاد بِهِ إِفَادَة ابْتِدَاء الْغَايَة. وَهَذَا أظهر مَعَانِيه. وَذَلِكَ نَحْو قَوْلك: مشيت من دَاري إِلَى دَارك. فَهُوَ فِي اقْتِضَاء الْغَايَة نقيضته ((إِلَى)) . فَإِنَّهُ يُنبئ عَن ابْتِدَاء الْغَايَة و ((إِلَى)) تنبئ عَن انتهاءها. وَقد يرد وَالْمرَاد بِهِ التَّبْعِيض نَحْو قَوْلك: أخذت من الدَّرَاهِم. تَعْنِي أخذت بَعْضهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وَقد ترد صلَة زَائِدَة نَحْو قَوْلك: مَا جَاءَنِي من أحد. يَعْنِي مَا جَاءَنِي أحد. (49) القَوْل فِي معنى ((مَا)) [158] هَذَا من أَكثر الْحُرُوف انقساما: فَترد على معنى الْجحْد نَحْو قَوْلك مَا لزيد عِنْدِي حق. وَترد فِي الْكَلَام للتعجب نَحْو قَوْلك مَا أحسن زيدا، وَترد على معنى الَّذِي فِي الْخَبَر نَحْو قَوْلك فعلت مَا قلت أَي فعلت [18 / أ] الَّذِي قلت. وَترد على معنى الِاسْتِفْهَام نَحْو قَوْلك، مَا فعل / زيد؟ إِلَى غير ذَلِك من انقسامه فِي الْمعَانِي. [159] ثمَّ اخْتلف أهل اللُّغَة فَقَالَ بَعضهم: تتخصص ((مَا)) على معنى الْخَبَر بِغَيْر الْعُقَلَاء. وَقَالَ بَعضهم هُوَ مُسْتَعْمل فِي الْعُقَلَاء وَغير الْعُقَلَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 و ((من)) متخصص بالعقلاء لَا ينْقل عَنْهُم إِلَّا توسعا وتجوزا. (50) القَوْل فِي معنى ((أم)) [160] أصل مَوْضُوع هَذَا الْحَرْف للاستفهام فَإنَّك تَقول أسكت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 فلَان أم نطق. وَقد يقوم فِي معنى الِاسْتِفْهَام مقَام أَيهمَا. وَذَلِكَ إِذا قلت زيد عنْدك أم عَمْرو فَمَعْنَاه أَيهمَا عنْدك. وَتقوم مقَام أَو تَقول زيد عنْدك أم عَمْرو تَعْنِي بذلك أَو عَمْرو. (51) القَوْل فِي معنى ((إِلَى)) [161] هَذَا الْحَرْف مَوْضُوع لإِفَادَة انْتِهَاء الْغَايَة. وَهِي نقيضة ((من)) . ثمَّ ظَاهر اللَّفْظ الْبِدَايَة والغاية بِنَفْي دخل الحدين تَحت الْمَحْدُود بهما. وَإِنَّمَا يدخلَانِ تَحْتَهُ بِدلَالَة تقوم من غير قَضِيَّة اللَّفْظ. وَفِي ذَلِك بَاب يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. [162] وَأما الْوَاو: فَإِنَّهُ مَوْضُوع للْجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 والنسق وَتَحْقِيق الِاشْتِرَاك بَين الْمَذْكُورين نَحْو قَوْلك ضربت زيدا وعمرا. وَمن زعم من الْفُقَهَاء أَنه يَقْتَضِي التَّرْتِيب فَهُوَ حيد عَن حَقِيقَة مَعْنَاهُ، وَقد ترد الْوَاو بِمَعْنى أَو نَحْو قَوْله تَعَالَى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 {فانحكوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع} . مَعْنَاهُ أَو ثَلَاث. [163] فالدليل على أَن الْوَاو يَقْتَضِي الْجمع أَنه يسْتَعْمل من غير تجوز فِي مَا لَا تَرْتِيب فِيهِ أصلا، وَذَلِكَ نَحْو قَوْلك: اقتتل زيد وَعَمْرو، واختصم بكر وخَالِد فَلَا تعد [الْوَاو] فِي هَذَا الْموضع مستعملة فِي غير محلهَا. وَإِن كَانَ الاقتتال لَا يتَوَقَّع ترتيبه بَين الْمَذْكُورين. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن ((ثمَّ)) لما كَانَت للتَّرْتِيب بعد اسْتِعْمَاله فِي هَذَا الْموقع فَلَا تَقول اقتتل زيد ثمَّ عَمْرو. (52) القَوْل فِي معنى ((الْفَاء)) [164] اعْلَم أَن الْفَاء فِي مَحل النسق والعطف يَقْتَضِي التَّرْتِيب والتعقيب وَنفي الإبطاء وَهِي تخَالف الْوَاو فِي اقْتِضَاء التَّرْتِيب وتخالف ثمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 فِي اقْتِضَاء التعقيب وَنفي المهلة. وَكَذَلِكَ أَن ((ثمَّ)) يَقْتَضِي التَّرْتِيب وَلَا يَقْتَضِي التعقيب. وَلذَلِك دخل الْفَاء فِي الشَّرْط وَالْجَزَاء لِأَنَّهُ أَدخل مدْخل التَّعْجِيل فَتَقول: لَا تضربني فأضربك. ويستبعد فِي هَذَا الْمَعْنى لَا تضربني ثمَّ أضربك. [165] وَأما ((ثمَّ)) فَإِنَّهُ يَقْتَضِي التَّرْتِيب فَإِذا قلت ضربت زيدا ثمَّ عمرا اقْتضى ذَلِك تخَلّل زمن بَينهمَا. وَقد ترد مجَازًا بِمَعْنى الْوَاو نَحْو قَوْله عز وَجل: {ثمَّ الله شَهِيد على مَا يَفْعَلُونَ} . مَعْنَاهُ وَالله شَهِيد. (53) القَوْل فِي معنى ((حَتَّى)) [166] اعْلَم أَن هَذَا الْحَرْف قد يرد للغاية نَحْو قَوْلك: أكلت السَّمَكَة حَتَّى رَأسهَا. مَعْنَاهُ انْتَهَيْت إِلَى رَأسهَا. وَذَلِكَ إِذا كسرت مَا بعد حَتَّى. وَقد يكون بِمَعْنى الْوَاو نَحْو قَوْلك: كلمت الْقَوْم حَتَّى زيدا. تُرِيدُ وزيدا كَلمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 (54) القَوْل فِي معنى ((مَتى)) و ((أَيْن)) و ((حَيْثُ)) [18 / ب] [167] أما مَتى فَإِنَّهُ / ظرف زمَان وَالسُّؤَال عَنهُ يُنبئ عَن الزَّمَان فَإِذا قلت: مَتى الْحَرْب: قَالَ مخاطبك: غَدا. [168] وَأما ((أَيْن) فتنبئ عَن الْمَكَان وَهِي فِي عبارَة الْقَوْم ظرف مَكَان وجوابها يَقع بِهِ، فَإِذا قلت: أَيْن زيد؟ قَالَ مخاطبك: فِي الْمَسْجِد أَو الدَّار. [169] كَذَلِك حَيْثُ ظرف مَكَان. (55) القَوْل فِي معنى ((إِذا)) و ((إِذْ)) [170] هما ظرفان. فَإذْ لما مضى، وَإِذا لم يسْتَقْبل فَتَقول: قُمْت إِذْ قَامَ زيد. وأقوم إِذا قَامَ عَمْرو. فَهَذِهِ جمل فِي الْحُرُوف كَافِيَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى. (56) القَوْل فِي أَنه هَل يجوز أَن يُرَاد بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَة مَعْنيانِ مُخْتَلِفَانِ؟ [171] اعْلَم، وفقك الله أَن الْأَسْمَاء والألفاظ منقسمة. فَمِنْهَا مَا وضع لإِفَادَة معنى وَاحِد وَلم يسْتَعْمل عرفا فِي غَيره فَلَا يُفِيد فِي الْإِطْلَاق إِلَّا مُقْتَضَاهُ وَمِنْهَا: مَا وضع فِي أصل اللُّغَة لمعنيين فَصَاعِدا. ثمَّ ذَلِك يَنْقَسِم فَمِنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 مَا يُنبئ عَن أَشْيَاء متماثلة وَمِنْه مَا يُنبئ عَن معَان مُخْتَلفَة فَالَّذِي يُنبئ عَن أَشْيَاء متماثلة فَهُوَ نَحْو قَوْلك. السوَاد وَالْبَيَاض. فالسواد يُنبئ عَن آحَاد جنسه وَكَذَلِكَ كل مَا يضاهيه وَأما الَّذِي يُنبئ عَن معَان مُخْتَلفَة فنحو الْعين والقرن والبيضة والقرء، فَإِنَّهُ على الْأَصَح مُتَرَدّد بَين الطُّهْر وَالْحيض. وَمِمَّا يلْتَحق بِهَذَا الْقسم أَن اللَّفْظَة قد تُوضَع فِي أصل اللُّغَة لِمَعْنى وَاحِد ثمَّ تسْتَعْمل فِي غير ذَلِك تجوزا، وَذَلِكَ نَحْو اللَّمْس بِالْيَدِ وَغَيرهَا ثمَّ اسْتعْمل مجَازًا فِي الوطئ. وَكَذَلِكَ النِّكَاح حَقِيقَة الوطئ فِي أصل اللُّغَة ثمَّ غلب اسْتِعْمَاله فِي إِرَادَة العقد وَمن الْأَلْفَاظ المنقسمة بَين معَان قَوْلك أَي شَيْء يحسن زيد. يَنْقَسِم إِلَى الِاسْتِفْهَام وَإِلَى الازدراء بِمَا يُحسنهُ وَإِلَى التَّعْظِيم لما يُحسنهُ. [172] ثمَّ اعْلَم بعد ذَلِك كُله أَن كل لَفْظَة تنبئ عَن مَعْنيين فَإِن كَانَا متناقضين لَا يتَحَقَّق اجْتِمَاعهمَا فَلَا تجوز إرادتهما باللفظة الْوَاحِدَة وكل مَعْنيين غير متناقضين تنبئ اللَّفْظَة عَن كل وَاحِد مِنْهُمَا فَتجوز إرادتهما باللفظة وَإِن أطلقت مرّة وَاحِدَة. ثمَّ كَمَا يجوز إِرَادَة مَعْنيين بِلَفْظَة وَاحِدَة وضعت لَهما حَقِيقَة فَكَذَلِك يجوز إِرَادَة مَعْنيين بِلَفْظ هُوَ حَقِيقَة فِي أَحدهمَا مجَاز فِي الثَّانِي وإيضاح ذَلِك بالأمثلة أَن قَول الْقَائِل ((افْعَل)) . عِنْد منكري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 الصِّيغَة مُتَرَدّد بَين الْإِبَاحَة والإيجاب وَالنَّدْب والزجر وَغير ذَلِك. فَلَا تصح إِرَادَة هَذِه الْمعَانِي باللفظة الْوَاحِدَة لتناقضها وَالْعين لما ترددت بَين معَان مُخْتَلفَة لَا تتناقض فَتَصِح إرادتهما بِاللَّفْظِ مَعَ إيجازه وَأما تَمْثِيل حمل اللَّفْظ على الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فَهُوَ مثل اللَّمْس يجوز حمله على مُجَرّد الْمَسِيس وعَلى الوطئ مَعًا. [173] وَفِي هَذَا الْقسم أصل تزل فِيهِ أفهام المستطرفين. وَنحن [19 / أ] ننبهك عَلَيْهِ، وَهُوَ أَن مُطلق هَذَا اللَّفْظ لَو خطر لَهُ قصر اللَّفْظ / على الْحَقِيقَة أَو قصر اللَّفْظ على الْمجَاز لم يتَصَوَّر الْجمع بَين الْمَعْنيين فَلَا يَتَقَرَّر اسْتِعْمَاله على حَقِيقَة مَعَ الْجمع بَينهمَا وَبَين وَجه التَّجَوُّز فَإِن الْحَقِيقَة تَقْتَضِي قصرهَا والتجوز يَقْتَضِي تعديتها عَن أصل وَضعهَا فَافْهَم ذَلِك. وَاعْلَم أَن إِرَادَة الْجمع إِنَّمَا تصح مِمَّن لم يخْطر لَهُ التَّعَرُّض للْحَقِيقَة وَالْمجَاز وَلَكِن يقْتَصر على إِرَادَة الْمَسِيس من غير تعرض لوجه الِاسْتِعْمَال حَقِيقَة وتجوزا. [174] فَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ مَذَاهِب المحققة وجماهير الْفُقَهَاء؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 [175] وَزعم ابْن الجبائي من الْمُعْتَزلَة وشرذمة من أَصْحَاب أبي حنيفَة أَنه لَا يجوز إِرَادَة مَعْنيين بِلَفْظَة وَاحِدَة تطلق مرّة وَاحِدَة، سَوَاء كَانَت حَقِيقَة فيهمَا أَو مجَازًا أَو حَقِيقَة فِي أَحدهمَا مجَازًا فِي الثَّانِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 [176] وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك عَلَيْهِم أَن نقُول أَنْتُم لَا تخلون إِمَّا أَن تَقولُوا يَسْتَحِيل من مُطلق اللَّفْظ الْمُشْتَرك إِرَادَة الْمَعْنيين مَعًا، وَإِمَّا أَن تَقولُوا لَا يَسْتَحِيل مِنْهُ إرادتهما وَلَكِن لَا يفهم من مُطلق اللَّفْظ جمع الْمَعْنيين من غير قرينَة. فَإِن قُلْتُمْ يَسْتَحِيل إِرَادَة الْمَعْنيين جَمِيعًا فَهَذَا قرب مِنْكُم من جحد الضَّرُورَة والمعهود فِي الْمَعْقُول. فَإنَّا نعلم قطعا جَوَاز إِرَادَة الْمُخْتَلِفين غير المتناقضين مَعًا. وجاحد ذَلِك مفصح بالعناد. وَإِن أَنْتُم زعمتم أَن ذَلِك لَا يَسْتَحِيل وَلَكِن لَا يفهم من مُطلق اللَّفْظ فَهَذَا مَا نقُول بِهِ. فَإنَّا نقُول إِذا احْتمل إِرَادَة الْمَعْنيين وَاحْتمل تَخْصِيص اللَّفْظ بِأَحَدِهِمَا فَيتَوَقَّف فِي معنى اللَّفْظ على قرينَة تدل على الْجمع أَو التَّخْصِيص. وَكَيف لَا نقُول ذَلِك وَنحن على نصْرَة نفي صِيغَة الْعُمُوم. [177] فَإِن قيل: إِذا جوزتم إِرَادَة الْمَعْنيين أفتتعلق بهما إِرَادَة وَاحِدَة أم إرادتان؟ قُلْنَا: الْأَصَح عندنَا أَن الْإِرَادَة الْحَادِثَة لَا تتَعَلَّق إِلَّا بِمُرَاد وَاحِد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 فَلَا تتَحَقَّق إِرَادَة المرادين إِلَّا بإرادتين وَهَذَا لَو أطنبنا فِيهِ لتَعلق الْكَلَام بالديانات فِي حقائق صِفَات المتعلقات. (57) القَوْل فِي بَيَان الطّرق إِلَى معرفَة مُرَاد الله تَعَالَى وَمُرَاد رَسُوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِالْخِطَابِ [178] فَأَما خطاب الله عز وَجل فَاعْلَم أَنه يتَّصل بذوي الْأَلْبَاب على وَجْهَيْن من غير وَاسِطَة وَلَا تخَلّل مؤد وَرَسُول مبلغ. وَذَلِكَ تكليم الله عز وَجل من حمله وحيه من مَلَائكَته. وَهُوَ نَحْو تكليم الله مُوسَى وَنَبِينَا صلوَات الله عَلَيْهِمَا. فَإِن كَانَت المخاطبة على هَذَا الْوَجْه فَلَا طَرِيق إِلَى مَعْرفَتهَا والإحاطة بعلمها إِلَّا الِاضْطِرَار. فَإِذا كلم الله عبدا من عباده يضطره إِلَى الْعلم بِأَن مخاطبه رب الْعَالمين ويبدع لَهُ الْعلم الضَّرُورِيّ بِأَن مَا سَمعه كَلَام الله تَعَالَى. وَالدَّلِيل على تَحْقِيق مَا قُلْنَاهُ أَن كَلَام الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُخَالف الْأَجْنَاس فَلَا يتبلغ بِمَعْرِِفَة ضروب الْكَلَام إِلَى معرفَة كَلَامه وَلَا يتَوَصَّل باللغات / والمواضعات على الإطلاقات والعبارات إِلَى الْعلم بِكَلَامِهِ سُبْحَانَهُ [19 / ب] وَتَعَالَى. فَإِنَّهُ يُخَالف الْعبارَات، وَجُمْلَة ضروب الْكَلَام واللغات، وَلَا تدل على كَلَامه دلَالَة عقلية، نَحْو دلَالَة الْحُدُوث على الْمُحدث والاتقان على الْعلم والتخصيص على المريد فَلَا تبقي طَريقَة فِي مدرك الْعلم بِكَلَامِهِ سوى الِاضْطِرَار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 [179] فَإِن قيل: فَلَو قرن خطابه مَعَ انْتِفَاء الوسائط بِالْآيَاتِ الظَّاهِرَة والمعجزات الباهرة أفتدل؟ قيل: مَا نرى أَنَّهَا تدل، فَإِنَّهُ لَا تعلق لمبدعات الرب تَعَالَى وصنائعه بِكَوْن المسموع كَلَامه. وَإِنَّمَا تدل المعجزات على صدق الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لاقتران التحدي مَعَ عجز الَّذين تعلق بهم التحدي عَن الْمُقَابلَة والمعارضة. فَلَو خضنا فِي وَجه دلَالَة المعجزة على الصدْق لخرج عَن الْمَقْصُود. وَهُوَ مِمَّا يتَعَلَّق بالديانات. [180] وَقد ذهب القلانسي وَعبد الله بن سعيد وَغَيرهمَا من سلفنا أَن نفس سَماع كَلَام الله تَعَالَى يعقب الْعلم بِهِ لَا محَالة. قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا مِمَّا لَا أرتضيه وأجوز سَماع كَلَام الله تَعَالَى مَعَ الذهول عَن كَونه كلَاما لله تَعَالَى، فَلَا طَرِيق مَعَ تَقْدِير انْتِفَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الوسائط يُوصل إِلَى الْعلم إِلَّا الِاضْطِرَار، فَلَو خَاطب الرب تَعَالَى عَبده من غير توَسط مبلغ وَرَسُول. [181] فَأَما الْوَجْه الثَّانِي من الْخطاب فَهُوَ الَّذِي يتَّصل بالمخاطبين من جِهَة الرُّسُل المبلغين، فَمَا هَذَا سَبيله تترتب مَعْرفَته على الْعلم بِصدق الْمُرْسل أَولا وَوُجُوب عصمته عَن الْخلف فِي التَّبْلِيغ. وَإِنَّمَا يتَبَيَّن ذَلِك بالمعجزات فَإِذا استيقن الْمُكَلف صدق [الْمبلغ] فِيمَا بلغه. [182] ثمَّ صِيغ الْكَلَام تَنْقَسِم إِلَى نُصُوص ومحتملات. فَأَما النُّصُوص على مَذْهَبنَا لم يُتَابع عَلَيْهِ ... فتستقل بأنفسها فِي إثارة الْمعَانِي ... أَمر لذاته ... فِي دَرك المُرَاد مِنْهَا حَتَّى تقترن بهَا قرينَة من حَال أَو مقَال تَقْتَضِي تَحْقِيق المُرَاد بهَا، على مَا ستأتيك الْقَرَائِن ومنازلها فِي أَبْوَاب الْعُمُوم وَالْخُصُوص وأبواب الْأَوَامِر والنواهي. فَهَذَا وَجه انقسام معرفَة خطاب الله تَعَالَى. [183] فَأَما معرفَة خطاب رَسُوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فينقسم أَيْضا إِلَى شفَاه ووجاه وَإِلَى مَا يبلغ عَنهُ. فَأَما مَا خَاطب بِهِ من عاصره وجاها فَمِنْهُ مَا كَانَ نصا علم المخاطبون مَعْنَاهُ وفحواه قطعا. وَمِنْهَا مَا كَانَ مُحْتملا فِي نَفسه، ووضح لديهم مَعْنَاهُ بقرائن الْحَال. وَمِنْه مَا بَقِي على الِاحْتِمَال وَلم [يتَّفق] فِيهِ استفصال وَهَذَا الْقَبِيل يتَعَلَّق بالوعد والوعيد وأنباء الْآخِرَة، فَإِنَّهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مَا كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ينْطق بِمَا يُنبئ عَن الشَّرْع إِلَّا ويوضحه على مَا نقرر التَّحْقِيق فِي ذَلِك فِي أَبْوَاب الْبَيَان إِن شَاءَ الله عز وَجل. وَأما مَا يبلغ عَنهُ فينقسم إِلَى تَوَاتر وآحاد واستفاضة. ثمَّ يَنْقَسِم [20 / أ] الْمَنْقُول / إِلَى نَص ومحتمل فَهَذَا وَجه الْإِيمَاء إِلَى جمل مدارك خطاب الله وَرَسُوله وتفصيلها يَأْتِي فِي مُعظم أَبْوَاب الْكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 بَاب الْكَلَام فِي الْأَوَامِر (58) القَوْل فِي الْأَمر وَحَقِيقَته [184] اعْلَم، وفقك الله أَنا نحتاج إِلَى تَقْدِيم أصل قبل الْخَوْض فِي تَحْرِير عبارَة عَن حَقِيقَة الْأَمر. فَاعْلَم أَن الْكَلَام على أصُول الْمُحَقِّقين معنى فِي النَّفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وَهُوَ مَا تدل الْعبارَات عَلَيْهِ. وَلَا تسمى الْعبارَات كلَاما إِلَّا تجوزا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وتوسعا فالعبارة إِذا دلَالَة على الْكَلَام، وَلَيْسَت بِعَين الْكَلَام وَهِي نازلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 منزلَة الرموز والإشارات المعقبة أفهام المخاطبين وَكَذَلِكَ طرق المكاتبات وَغَيرهَا من ضروب الأمارات المنصوبة لإفهام الْكَلَام الْقَائِم بِالنَّفسِ. وَإِنَّمَا يستقصي ذَلِك فِي أصُول الديانَات إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فَإِذا أحطت علما بِهِ فَاعْلَم أَن الْأَمر من أَقسَام الْكَلَام. وَهُوَ معنى قَائِم بِنَفس الْآمِر غيرالعبارة. فَإِذا أطلق الْأَمر فِي أبوابه فَاعْلَم أننا نعني بِهِ الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ دون الْأَصْوَات وضروب الْعبارَات. [185] فَإِن قيل: فَمَا حَقِيقَة الْأَمر إِذا؟ قيل: هُوَ القَوْل المتضمن اقْتِضَاء الطَّاعَة من الْمَأْمُور لفعل الْمَأْمُور بِهِ فيندرج تَحت ذَلِك الْإِيجَاب والإلزام وَالْمَنْدُوب والاستحباب. وَيخرج فِيهِ مَا سواهُ وعداه كالإباحة وَالتَّحْرِيم. وَمَا ضاهاهما من أَقسَام الْأَحْكَام المتلقاة من مجاري الْكَلَام. [186] فَإِن قيل: ظَاهر مَا أطلقتموه يَقْتَضِي تَسْمِيَة النّدب أمرا. قُلْنَا: هَذَا مَا نقُوله وسنوضحه فِي بَابه إِن شَاءَ الله عز وَجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 [187] وَقد خرج عَن قَضِيَّة الْحَد المسئلة والاستدعاء وَذَلِكَ نَحْو ... ابتهاله إِلَى ربه فِي دُعَائِهِ. وَقَوله ارْحَمْنِي واغفر لي فَإِن هَذَا وَأَمْثَاله [لَيْسَ بِأَمْر، وَإِنَّمَا هُوَ سُؤال وَطلب] . [188] [وعرفه] بعض أَئِمَّتنَا بالتحرز من ذَلِك، فَقَالَ هُوَ القَوْل الْمُقْتَضى للْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ على غير وَجه [الْمَسْأَلَة] وَهُوَ يَنُوب مناب مَا قدمْنَاهُ، مَعَ أَنه أَسد وأوضح، وسندل على كَون النّدب أمرا إِن شَاءَ الله عز وَجل. [189] وَخرج مِمَّا قدمْنَاهُ أَن الْأَمر إِذا أطلقناه لم نرد بِهِ الصِّيَغ والعبارات. وَإِنَّمَا أردنَا الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ ثمَّ ذكرنَا أَنه يتَرَدَّد أَيْضا بَين الْإِيجَاب وَالنَّدْب. [190] فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي قَول الْقَائِل افْعَل، وعنى السَّائِل بذلك الْعبارَة. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي أَوْمَأت إِلَيْهِ لَيْسَ هُوَ نفس الْأَمر وَلَيْسَ عين الْكَلَام وَإِنَّمَا هُوَ من قبيل الدلالات على الْكَلَام كالإشارة والرموز وَالْكِنَايَة وَنَحْوهَا من الدلالات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 [191] فَإِن قيل: فعلى مَا يدل قَول الْقَائِل: افْعَل؟ قُلْنَا: هَذِه عبارَة مترددة بَين الدّلَالَة على الْإِلْزَام وَالنَّدْب وَالْإِبَاحَة والتهديد وَغَيرهَا من المصارف الَّتِي سنذكرها. فَالْأَمْر الْحَقِيقِيّ إِذا مُتَرَدّد [20 / ب] بَين النّدب والإيجاب. وَهَذِه الْعبارَة الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا السَّائِل تترد فِي / كَونهَا دلَالَة بَين المصارف الَّتِي أومأنا إِلَيْهَا. [192] فَإِن قيل: قد ذكرْتُمْ حَقِيقَة الْأَمر فَلم كَانَ الْأَمر أمرا؟ قُلْنَا: كَون الْأَمر أمرا وصف يرجع إِلَى ذَاته. وَهُوَ مَا لَا يُعلل بعلة. وَلَا يَتَّصِف بِكَوْنِهِ مُعَلّق تَخْصِيص وَإِرَادَة. فَإِذا قيل لَك: لماذا كَانَ الْأَمر أمرا؟ فجوابك السديد أَن تَقول: إِنَّمَا كَانَ الْأَمر أمرا لنَفسِهِ وَتَحْقِيق قَول الْقَائِل ثَبت الحكم لنَفس الشَّيْء يرجع إِلَى أَنه ثَبت لَا لعِلَّة، وَلَا تَظنن أَنا نعني بِإِضَافَة الْوَصْف إِلَى النَّفس تَعْلِيله بِهِ. وَالْأَحْكَام منقسمة. فَمِنْهَا: مَا يُعلل. وَمِنْهَا: مَا يَسْتَحِيل تَعْلِيله. وأوصاف الْأَجْنَاس مِمَّا يَسْتَحِيل تعليلها. وَكَون الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ أمرا وصف جنسه وَنَفسه، وَهُوَ نَحْو كَون الْعلم علما، وَالْقُدْرَة قدرَة. [193] فَإِذا قيل: لم كَانَ الْعلم علما؟ كَانَ المرتضى فِي جوابك أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 تَقول للسَّائِل إِن رمت بِمَا قلت طلب تَعْلِيل، فالمسؤول عَنهُ مِمَّا لَا يُعلل. وَوجه إيجاز الْجَواب أَن الْعلم علم لنَفسِهِ، ثمَّ يعود الْكَلَام عِنْد الْإِيضَاح إِلَى أَنه علم لَا لعِلَّة. [194] وَأما الْمُعْتَزلَة فقد أطبقوا على أَن أَقسَام الْكَلَام رَاجِعَة إِلَى الْعبارَات وأنكروا مَا عَداهَا من كَلَام النَّفس الَّذِي نثبته. وصرفوا الْأَمر إِلَى الْعبارَة نَفسهَا ثمَّ الْأَكْثَرُونَ صَارُوا إِلَى أَن قَول الْقَائِل: افْعَل، لَيْسَ بِأَمْر لنَفسِهِ وجنسه فَإِنَّهُ قد يُوجد والمقصد مِنْهُ الْوَعيد والتهديد. وَقد يبدر جنسه من الهاذي فَلَا يُسمى أمرا مَعَ صُدُور اللَّفْظ مِنْهُ. قَالُوا: فَإِنَّمَا يصير أمرا بِثَلَاث إرادات، إِحْدَاهَا: تتَعَلَّق بحدوث هَذِه اللفظية. وَالْأُخْرَى: تتَعَلَّق بِكَوْنِهَا أمرا. وَالثَّالِثَة: تتَعَلَّق بالمأمور بِهِ، إِذْ الْأَمر لَا يتَحَقَّق عِنْد الْقَوْم إِلَّا مَعَ كَون الْمَأْمُور بِهِ مرَادا للْآمِر. [195] وأبدع الكعبي مِنْهُم مذهبا لم يُتَابع عَلَيْهِ. . [فَقَالَ] قَول الْقَائِل افْعَل أَمر لنَفسِهِ وجنسه، وَيكون أمرا لذاته. فَإِذا قيل لَهُ: فقد ترد هَذِه الْعبارَة بِعَينهَا وَالْمرَاد بهَا الْإِبَاحَة. فَقَالَ مرتكبا: الْإِبَاحَة أَمر والمباح مَأْمُور بِهِ وسنوضح وَجه الرَّد عَلَيْهِم فِي الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَاب إِن شَاءَ الله عز وَجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 فَقيل لَهُ: فقد يرد وَالْمرَاد بِهِ التهديد نَحْو قَوْله عز اسْمه: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} . فَقَالَ: إِذا ورد لاقْتِضَاء هَذَا المُرَاد فَهُوَ فِي جنسه مُخَالف للَّذي يَقْتَضِيهِ الْوُجُوب وَالنَّدْب وَالْإِبَاحَة. وَهَذَا الَّذِي ذكره [قَول بَين فِي] جحد الضروريات فَإنَّا نعلم أَن هَذِه الْأَصْوَات مجانسة للَّتِي ترد مورد الْأَمر، والصائر إِلَى أَنَّهَا تخالفها فِي الْجِنْس منتسب إِلَى الْمصير إِلَى اخْتِلَاف المتجانسات المتماثلات. [196] وَقد زعم كثير من الْفُقَهَاء الَّذين لم يحظوا بِحَقِيقَة الْأُصُول أَن الْأَمر يرجع إِلَى هَذِه الْأَصْوَات المتقطعة والحروف المنتظمة. ثمَّ زَعَمُوا أَن قَول افْعَل يكون أمرا إِذا تجرد عَن الْقَرَائِن الصارفة لَهُ عَن اقْتِضَاء الْوُجُوب [21 / أ] فَإِذا سئلوا وَقيل لَهُم لم كَانَ / الْأَمر أمرا؟ قَالُوا: إِنَّمَا كَانَ أمرا بصيغته وتجرده عَن الْقَرَائِن. [197] وَالدَّلِيل على تَحْقِيق الرَّد على هَؤُلَاءِ أَن نقُول: أَنْتُم لَا تخلون إِمَّا أَن تَقولُوا: إِن الصِّيغَة الَّتِي ذكرتموها أَمر لنَفسهَا، أَو تَقولُوا: إِنَّمَا تصير أمرا لتجردها عَن الْقَرَائِن أَو تَقولُوا تصير أمرا لنَفسهَا ولتجردها عَن الْقَرَائِن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وَالْأولَى لَك بعد مَا قدمت هَذِه الْأَقْسَام أَن تعقبه بتقسيم يجمع الْمَقَاصِد. فَتَقول هَذَا الْوَصْف الَّذِي ثبتموه لهَذِهِ الصِّيغَة فَلَا يَخْلُو من أحد أَمريْن أما أَن يرجع إِلَيْهَا رُجُوع الْأَوْصَاف إِلَى الذوات والأجناس حَقِيقَة. وَإِمَّا أَن تزعموا أَنه ينْصَرف إِلَيْهَا تواضعا وَاصْطِلَاحا، فَإِن زعمتم أَن الْوَصْف الَّذِي فِيهِ الْكَلَام يثبت بِهَذِهِ الصِّيغَة من غير تواضع واصطلاح فيلزمكم عَلَيْهِ مَا لَا قبل لكم بِهِ، مِنْهَا: أَن هَذِه اللَّفْظَة تبدر من النَّائِم والمغشى عَلَيْهِ وَلَا تسمى أمرا فَلَو كَانَت أمرا لنَفسهَا وجنسها وَجب تَحْقِيق هَذَا الْوَصْف كلما تحقق نَفسه اللَّفْظ. [198] فَإِن قيل: إِنَّمَا اتصفت هَذِه الصِّيغَة بِكَوْنِهَا أمرا عِنْد تجردها عَن الْقَرَائِن، وَمن الْقَرَائِن الَّتِي يشْتَرط تجرد الصِّيغَة عَنْهَا الْمعَانِي المضادة لكَمَال الْعقل. قيل: فَمَا قدمْنَاهُ من التَّقْسِيم فِي صدر الْكتاب يعود. فإننا نقُول: إِن كَانَت الصِّيغَة أمرا لنَفسهَا لزمكم مَا ألزمناكم. وَإِن كَانَ كَونهَا أمرا مُعَللا بِانْتِفَاء الْقَرَائِن كَانَ ذَلِك مستحيلا فَإِن الانتفاء لَا يَقْتَضِي تثبيت وصف وَإِنَّمَا الْمُقْتَضى للْأَحْكَام ثُبُوت الْعِلَل والذوات. فَإِن أَنْتُم زعمتم أَن الْمُقْتَضى لهَذَا الْوَصْف نفس الصِّيغَة مَعَ انْتِفَاء الْقَرَائِن كَانَ ذَلِك مستحيلا أَيْضا. فَإِن الانتفاء إنباء عَن عدم، ويستحيل تَأْثِير الْعَدَم والانتفاء فِي إِيجَاب الْأَحْكَام لَا على سَبِيل الِاسْتِقْلَال وَلَا على سَبِيل الانضمام إِلَى غَيره، فَإِن مَا لَا يكون كَيفَ يتَصَرَّف بالتأثير اسْتِقْلَالا أَو انضماما. ولعلنا نوضح القَوْل فِي ذَلِك فِي بَاب الْعِلَل عَن قَضِيَّة الْمَعْقُول لَهُم الْقَرَائِن الَّتِي شرطتم تجرد الصِّيغَة اللفظية عَنْهَا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 هِيَ الْقَرَائِن الدَّالَّة على خلاف الْإِلْزَام والإيجاب نَحْو مَا يدل على الْإِبَاحَة وَالنَّدْب أَو اقْتِضَاء التهديد. وَقد تحقق انْتِفَاء هَذِه الْقَرَائِن فِي حق الهاذي. فَهَذَا لَو زَعَمُوا أَن هَذِه الصِّيغَة تكون أمرا لَا على جِهَة التَّوَاضُع والاصطلاح. [199] فَإِن قَالُوا: إِنَّهَا أَمر تواضعا وَلَيْسَ ينْصَرف وصفهَا بِكَوْنِهَا أمرا إِلَى نَفسهَا وجنسها. وَلَكِن اصْطلحَ أَرْبَاب اللُّغَات على تثبيت هَذَا الْوَصْف لَهَا عِنْد تعريها عَن الْمَوَانِع والدوافع. وَجُمْلَة الْقَرَائِن المنافية لاقْتِضَاء الْإِلْزَام وَهَذَا مَا يعول عَلَيْهِ من ينتمي إِلَى التَّحْقِيق من هَذِه الفئة. فَنَقُول: إِذا زعمتم أَن أهل اللُّغَة اصْطَلحُوا على تَسْمِيَة هَذِه الصِّيغَة أمرا وإلزاما وإيجابا عِنْد فقد قَرَائِن الْإِبَاحَة وَالنَّدْب والوعيد فَبِمَ تنكرون على من [21 / ب] يعكس عَلَيْكُم / دعواكم. وَيَقُول لَا بل وضعوها للاذن وَالْإِطْلَاق وَالْإِبَاحَة عِنْد تجردها عَن قَرَائِن الْإِلْزَام وَالنَّدْب والوعيد. فتتقابل الدعوتان وتتساقطان على مَا سنوضحه فِي بَاب الْوَقْف إِن شَاءَ الله عز وَجل. [200] ثمَّ يَتَّضِح ذَلِك بِمَا عَلَيْهِ الْمعول فِي إِثْبَات اللُّغَات ونفيها فَنَقُول: معاشر الْمُخَالفين! إِلَى مَا تسندون علمكُم بِمَا ادعيتموه فَإِن أسندتموه إِلَى اضطرار انتسبتم إِلَى التَّصْرِيح بالعناد. وَأول مَا يلزمكم عَلَيْهِ أَن تقابلوا دعواكم فِي ضد مقصودها فتتقابل دعوتا الِاضْطِرَار وتتساقطان. وَإِن أَنْتُم أسندتم علمكُم إِلَى دلَالَة عقلية فقد أخطاتم مقصدكم، فَإِن الْعُقُول لَا يتَوَصَّل بهَا إِلَى مجاري اللُّغَات، وَتَخْصِيص الْأَسَامِي بالمسميات. وَإِن أَنْتُم أسندتم علمكُم إِلَى سَماع وَهُوَ مَا يتلَقَّى مِنْهُ اللُّغَات فَلَا تخلون إِمَّا أَن تزعموا: أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 أَرْبَاب اللُّغَات نقلوا مَا ذكرتموه نقل تَوَاتر وإطباق، [أَو تزعموا] أَنه نقل آحَاد، فَإِن ادعيتم نقلا عَن سَبِيل الِاتِّفَاق والإطباق أحلتم بِمَا قُلْتُمْ وانتسبتم إِلَى مُجَرّد الدَّعْوَى. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الواقفين والحاملين الْأَمر على النّدب والحاملين على الْإِبَاحَة لَو جمعت فرقهم لأربوا فِي أعدادهم على الْقَائِلين بِالْوُجُوب فَمَا لهَذَا النَّقْل المطبق عَلَيْهِ اخْتصَّ بكم وَذهل عَنهُ مخالفكم، فَلَا يستتب نقل مَا ادعوهُ عَن اللُّغَة. وَإِن هم زَعَمُوا أَن ذَلِك نقل آحَاد فَالْكَلَام عَلَيْهِم من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن نقُول لم يَصح أَيْضا عندنَا على سَبِيل الْآحَاد عَن أحد مِمَّن يوثق بِهِ من أَئِمَّة اللُّغَات أَن الصِّيغَة الَّتِي فِيهَا تنازعنا عِنْد تجردها عَن الْقَرَائِن تَقْتَضِي الْإِيجَاب، فَهَذَا مِمَّا لَا يُؤثر عَن أحد من أَرْبَاب اللُّغَات. وَلم يسطر ذَلِك مَعَ إِرَادَته مصنفاتهم. فقد بَطل مَا ادعوهُ على سَبِيل النَّقْل إِجْمَاعًا وآحادا على أَنا نقُول: اللُّغَات لَا تثبت آحادا وَقد أومأنا إِلَى ذَلِك فِي بَاب مَأْخَذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 اللُّغَات. (59) فصل [201] فَإِن قيل: فقد ذكرْتُمْ حَقِيقَة الْأَمر فَمَا حَقِيقَة النَّهْي. قيل: مَا قدمْنَاهُ فِي حَقِيقَة الْأَمر يرشد إِلَى حَقِيقَة النَّهْي فحقيقته القَوْل الْمُقْتَضى طَاعَة المنهى بترك الْفِعْل المنهى عَنهُ. فَيدْخل تَحت النَّهْي التَّنْزِيه وَالتَّحْرِيم كَمَا دخل تَحت الْأَمر الِاسْتِحْبَاب والإيجاب. (60) القَوْل فِي الْفرق بَين الْإِبَاحَة وَالْأَمر [202] اعْلَم أَن الْإِبَاحَة هِيَ الْإِذْن المتضمن تَخْيِير الْمُخَاطب بَين فعل الشَّيْء وَتَركه الْجَارِي مجْرَاه فِي الْإِبَاحَة من غير تَخْصِيص ذمّ وَلَا مدح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 بِأَحَدِهِمَا وَأما الْأَمر فقد سبق تَحْقِيقه وَإِذا جمعت بَين الحقيقتين تميزتا / [22 / أ] وامتاز أحد الْبَابَيْنِ عَن الآخر. [203] وَذهب الكعبي وشيعته إِلَى أَن الْمُبَاح مَأْمُور بِهِ وَأَن الْأَمر بِهِ دون رُتْبَة الْإِيجَاب وَالنَّدْب. وَالْأَمر على سَبِيل النّدب دون الْأَمر على سَبِيل الْإِيجَاب. [204] ثمَّ اعْلَم أَنه [و] إِن أطلق اسْم الْأَمر على الْإِبَاحَة وَاسم الْمَأْمُور بِهِ على الْمُبَاح فَلَا يُسمى الْمُبَاح وَاجِبا وَلَا الْإِبَاحَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 إِيجَابا. [205] فَأول مَا نفاتحه أَن نقُول الْأَمر عندنَا هُوَ اقْتِضَاء الطَّاعَة، وَالْإِبَاحَة هِيَ الْإِذْن على النَّعْت الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي صدر الْبَاب. فَأَنت أَيهَا الكعبي هَل تدرج الْإِبَاحَة فِي حَقِيقَة الْأَمر حَتَّى تزْعم أَنَّهَا اقْتِضَاء للطاعة أَو لَا تَقول ذَلِك. فَإِن أَنْت زعمت أَنَّهَا اقْتِضَاء الْفِعْل على سَبِيل الطَّاعَة فقد راغمت الْحَقَائِق، فَإنَّا نعلم بديهة وقطعا أَن تَخْيِير الْمُخَاطب بَين الشَّيْء وَتَركه المتساويين فِي جملَة أَحْكَام التَّكْلِيف لَا يتَضَمَّن اقْتِضَاء طَاعَة بل هُوَ تَخْيِير وَلَيْسَ باقتضاء وَدُعَاء إِلَى فعل، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك مَا لَا محيص عَنهُ. وَهُوَ أَن نقُول إِن اقْتَضَت الْإِبَاحَة اقْتِضَاء وَدُعَاء فَلَا تَخْلُو إِمَّا أَن تَقْتَضِي دُعَاء إِلَى الْفِعْل وَتَركه جَمِيعًا. وَذَلِكَ متضاد يَسْتَحِيل الدُّعَاء إِلَيْهِ. وَإِمَّا أَن تَتَضَمَّن اقْتِضَاء أَحدهمَا وَذَلِكَ محَال، فَإِنَّهُ لَا يعين وَاحِد مِنْهُمَا فِي حكم الِاقْتِضَاء إِلَّا ويسوغ قلب الدَّعْوَى فِي الثَّانِي. وَإِن قَالَ الْخصم: هُوَ اقْتِضَاء لأَحَدهمَا لَا بِعَيْنِه كَانَ محالا. وَذَلِكَ أَن الْإِبَاحَة تَقْتَضِي تَفْوِيض الْأَمر إِلَى مشْيَة من أُبِيح لَهُ وَلَيْسَ فِيهَا دعاؤه إِلَى مَا فوض إِلَى خيرته لَا على سَبِيل الْإِجْمَال وَلَا على سَبِيل التَّعْيِين. وَمن أنصف علم أَن قَول الْقَائِل: أَدْعُوك إِلَى أحد الْفِعْلَيْنِ، فَهَذَا القَوْل مُخَالف لقَوْل الْقَائِل: أبحث لَك الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا، وجاحد ذَلِك ينْسب إِلَى العناد وَالْخُرُوج. [206] فَإِن قَالَ الكعبي: ترك الْمَحْظُور مَأْمُور بِهِ وفَاقا وَمَا من مُبَاح إِلَّا وَهُوَ ترك لمحظور فَلَزِمَ من ذَلِك كَونه مَأْمُورا بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل. فَأول مَا يلزمكم عَلَيْهِ أَن نقُول: قد وافقتمونا على أَن الْمُبَاح لَا يُوصف بِالْوُجُوب وزعمتم أَنه فِي كَونه مَأْمُورا بِهِ ينحط عَن الْمَنْدُوب إِلَيْهِ فضلا عَن الْوَاجِب. فَإِذا تمهد ذَلِك من أصلكم قُلْنَا: فَترك الْمَحْظُور وَاجِب كَمَا أَنه مَأْمُور بِهِ فَهَلا زعمتم أَن الْمُبَاح وَاجِب من حَيْثُ أَنه ترك للمحظور وَترك الْمَحْظُور وَاجِب وفَاقا، فقد انعكس عَلَيْكُم فِي الْوُجُوب مَا ألزمتمونا فِي كَون الْمُبَاح مَأْمُورا بِهِ. وسنوضح القَوْل إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي ذَلِك بعد مَا كَفَيْنَاك مُؤنَة الْخصم فِي الْبَاب المنطوي على إِيجَاب شَيْء من جملَة أَشْيَاء لَا بِعَيْنِه. (61) فصل [207] فَإِن قيل: قد ذكرْتُمْ فِي تَحْقِيق الْإِبَاحَة أَنَّهَا / الْإِذْن فِي الْفِعْل [22 / ب] وَتَركه الْجَارِي مجْرَاه فَمَا الْمَعْنى بقولكم الْجَارِي مجْرَاه؟ قُلْنَا: مقصدنا من ذَلِك التَّحَرُّز من أصل وَهُوَ أَن من الْمَحْظُور مَا هُوَ ترك للمباح ومضاد لَهُ. فَلَو أطلقنا التّرْك لم نَأْمَن اللّبْس فِي الْكَلَام فخصصنا القَوْل فِي التّرْك باقتضاء الْإِبَاحَة لدفع اللّبْس. [208] فَإِن قيل: أفتزعمون أَن الْمُبَاح دَاخل تَحت التَّكْلِيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 قُلْنَا: إِن عنيتم بذلك أَن على الْمُكَلف فِي الْمُبَاح شَيْئا فَلَا. وَإِن عنيتم بذلك وُرُود السّمع بِالْإِذْنِ فَهُوَ مِمَّا نقُول بِهِ. وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن الْإِبَاحَة لَا تدخل فِي إِلْزَام وَندب وَتَحْرِيم، وَلَا يتَعَلَّق بهَا من العواقب المرقوبة فِي الشَّرْع شَيْء من وعد ووعيد وذم وثناء وثواب وعقاب، وَإِنَّمَا الْإِبَاحَة مُجَرّد إِذن وَإِطْلَاق وإنباء عَن رفع حرج. وَمن أحَاط علما بحقيقتها على هَذَا الْوَجْه هان عَلَيْهِ مدرك السُّؤَال. [209] فَإِن قيل: أفتقولون إِن الْمُبَاح من الْأَفْعَال حسن أَو قَبِيح؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 قُلْنَا: لَا نصفه بِوَاحِد من الوصفين فَإنَّا ذكرنَا فِي حد الْحسن أَنه الْفِعْل الَّذِي ورد الشَّرْع باقتضاء الثَّنَاء على فَاعله والقبيح على الضِّدّ من ذَلِك. والمباح خَارج عَن النعتين والوصفين جَمِيعًا. (62) فصل [210] أطبق أهل الْحق على أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُرِيد للْفِعْل الْمُبَاح إِذا وَقع وَحدث جَريا على الأَصْل الْمَأْثُور عَن أهل الْحق فِي وجوب تعلق الْإِرَادَة الْقَدِيمَة بِكُل المرادات. وَزَعَمت الْقَدَرِيَّة أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غير مُرِيد للمباح وَلَا كَارِه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 [211] ونشأت مسئلة فِي هَذِه الْقَاعِدَة. وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا [لَو] أَرَادَ الله عز وَجل فعل شَيْء ووردت فِيهِ صِيغَة الْأَمر لم يكن ذَلِك إِلَّا اقْتِضَاء تَكْلِيف. فَقيل لَهُم: فَمَا قَوْلكُم معاشر الْمُعْتَزلَة هَل يُرِيد الرب تَعَالَى دُخُول أهل الْجنان الْجنان. فَإِذا قَالُوا: أجل قيل لَهُم: فقد ورد فِي ذَلِك مَعَ إِرَادَته مَا هُوَ صِيغَة الْأَمر وَذَلِكَ قَوْله: {ادخلوها بِسَلام آمِنين} فاضطربت الْقَدَرِيَّة غَايَة الِاضْطِرَاب عِنْد هَذَا الْإِلْزَام. فَذهب الْجُمْهُور مِنْهُم إِلَى أَنه تَعَالَى غير مُرِيد لدُخُول أهل الْجنَّة الْجنَّة وَهُوَ إفصاح لكشف القناع، وَإِنَّمَا ألجأهم إِلَى ذَلِك مَا قدمْنَاهُ من السُّؤَال الْمُتَرَتب على فَسَاد أصلهم. وَزعم ابْن الجبائي أَنه مُرِيد لدُخُول أهل الْجنان الْجنان وَهُوَ آمُر لَهُم بِالدُّخُولِ تَحْقِيقا، ثمَّ قرر ذَلِك من أصل لَهُم فَقَالَ إِدْخَال أهل الْجنَّة الْجنَّة إثابة، وَترك ذَلِك ظلم فَيلْزم تعلق الْإِرَادَة بِمَا لَو قدر تَركه لَكَانَ ظلما، فَقيل لَهُ: فَأهل الْجنان إِذا مكلفون مخاطبون وَإِذا ثَبت التَّكْلِيف تبعه توابعه من ترقب الثَّوَاب وَالْعِقَاب وَتحقّق الْوَعْد والوعيد فَيلْزم من مَضْمُون ذَلِك أَن يثبت الِابْتِلَاء والتكليف والامتحان [23 / أ] فِي الدَّار الْآخِرَة كَمَا ثَبت فِي دارالدنيا ثمَّ مَا / ألزمناهم فِي دُخُول الْجنان يلْزمهُم مثله فِي التَّمَتُّع بنعيمها فَإِن الرب تَعَالَى قَالَ: {كلوا وتمتعوا} فِي الإنباء عَن تمتعهم بنعيم الْجنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 (63) القَوْل فِي الدّلَالَة على أَن النّدب مَأْمُور بِهِ [212] فَإِن قيل: قد ذكرْتُمْ فِيمَا قد قدمتم أَن الْمَنْدُوب إِلَيْهِ مَأْمُور بِهِ على الْحَقِيقَة. وزعمتم أَن الْأَمر الْقَائِم بِالنَّفسِ يتضمنه كَمَا يتَضَمَّن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 الْإِلْزَام فَمَا دليلكم عَلَيْهِ؟ قُلْنَا: الَّذِي يدل على ذَلِك اتِّفَاق الْأمة قاطبة على أَن الْمَنْدُوب طَاعَة وَأَن النَّوَافِل وَسَائِر التطوعات تتصف بِكَوْنِهَا طاعات فَلَا تَخْلُو إِمَّا تصير طَاعَة لنفوسها وأجناسها، وَذَلِكَ مُسْتَحِيل، فَإِن أَمْثَالهَا قد تقع غير طَاعَة قبل وُرُود الشَّرَائِع وَبعد وُرُودهَا عِنْد اختلال بعض الشُّرُوط، وإيضاح ذَلِك بَين لَا يحوجك إِلَى الإطناب. وَإِمَّا أَن تصير طَاعَة لحدوثها ووجودها وَذَلِكَ بَاطِل بِمَا يبطل بِهِ الْقسم الأول. وَإِمَّا أَن تكون طَاعَة لكَونهَا مُرَادة للمطاع وَهَذَا بَاطِل أَيْضا بِمَا ثَبت من أصل أهل الْحق أَن الْمُحرمَات مُرَادة للرب سُبْحَانَهُ وَأَن إرداته الْقَدِيمَة تتَعَلَّق بحدوث الْمَحْظُورَات والمباحات تعلقهَا بالطاعات. وَهَذَا مِمَّا يستقصى فِي أصُول الديانَات، فَبَطل تلقي كَونهَا طَاعَة من كَونهَا مُرَادة. وَإِمَّا أَن تصير طَاعَة لضمان الثَّوَاب ووعده عَلَيْهَا. وَذَلِكَ بَاطِل لِأَنَّهُ قد تقرر من أصل أهل الْحق جَوَاز ثُبُوت الطَّاعَات من الْوَاجِبَات والتطوعات دون وعد الثَّوَاب عَلَيْهَا، فَإِن الثَّوَاب من الرب تَعَالَى فضل وَالْعِقَاب عدل، فَلَا يَتَّصِف وَاحِد مِنْهُمَا بالتحتم وَالْوُجُوب عِنْد تحقق الطَّاعَات أَو عِنْد تحقق تَركهَا، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك من أصُول الْخصم أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الْمُطِيع قد تقع طَاعَته محبطة الثَّوَاب لكبيرة يقارفها مَعَ إقدامهم على الصَّلَوَات وَسَائِر الطَّاعَات، وَالْحكم بِصِحَّتِهَا مِنْهُ، فَتبين اسْتِحَالَة تلقي كَونهَا طَاعَة من هَذَا المأخذ، وَإِمَّا أَن تصير طَاعَة لعلم الله عز وَجل بِكَوْنِهَا طَاعَة وإخباره على نعتها بذلك، وَهَذَا بَاطِل أَيْضا لِأَن الْخَبَر وَالْعلم يتعلقان بمتعلقهما على مَا هما عَلَيْهِ وَلَا يقتضيان للمخبر [عَنهُ] والمعلوم إِثْبَات وصف، إِذْ الْعلم وَالْخَبَر فِي تعلقهما يتبعان الْمَعْلُوم والمخبر عَنهُ، وَلَو سَاغَ الْمصير إِلَى ذَلِك لساغ أَن يُقَال إِن الْمُحدث إِنَّمَا يثبت لَهُ وصف الْحُدُوث للْعلم بحدوثه والإخبار عَنهُ والمختص بِأحد الْأَوْصَاف الْجَائِزَة إِنَّمَا صَحَّ تخصصه بِهِ للْعلم بِوُقُوعِهِ على ذَلِك الْوَجْه مَعَ الْخَبَر عَنهُ إِلَى غير ذَلِك فَلم يبْق بعد بطلَان هَذِه الْأَقْسَام إِلَّا الْمصير إِلَى أَنَّهَا إِنَّمَا اتصفت بِكَوْنِهَا طَاعَة لكَونهَا مَأْمُورا بهَا واتصاف الْمُقدم عَلَيْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 بِكَوْن [هـ] ممتثلا لِلْأَمْرِ، وَإِذا استمرت الدّلَالَة أوضحناها بِالْإِطْلَاقِ [23 / ب] الْمُتَعَارف لُغَة وَعرفا فَإِن / الْعَرَب تقرن فِي إِطْلَاقهَا بَين الْأَمر وَالطَّاعَة من الْمَأْمُور بِهِ. وَمِنْه يَقُولُونَ فلَان مُطَاع الْأَمر وَلَا يَأْمر إِلَّا يطاع وَفُلَان مُطِيع لأمر فلَان فيطلقون الطَّاعَة على الْمَأْمُور بِهِ - والمطاع على الْآمِر والمطيع على الممتثل الْأَمر وَإِذا أنبأوا عَن نقيض ذَلِك قَالُوا عصى فلَان فلَانا. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {أفعصيت أَمْرِي} وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي الْإِخْبَار عَن مواظبة الْمَلَائِكَة على الطَّاعَة: {ويفعلون مَا يؤمرون} وَمن هَذِه الْجِهَة يبطل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 تلقي الطَّاعَة من الْإِرَادَة. فَإِن الْعَرَب لَا تَقول فِي إِطْلَاقهَا فلَان مُطَاع الْإِرَادَة وَفُلَان أَرَادَ فأطيع فَثَبت حَقِيقَة وَعرفا كَون الطَّاعَة مَأْمُورا بهَا. وَقد تقرر بِاتِّفَاق الْأمة تَسْمِيَة الْمَنْدُوب طَاعَة. [213] وَاعْلَم، وفقك الله أَن الدهماء من الْمُعْتَزلَة يوافقون أهل الْحق فِي أَن الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ، وَلَكِن تخْتَلف الطّرق فِي المأخذ، فمأخذ أهل الْحق مَا سلف، وَمَا يعولون هم عَلَيْهِ فِي تثبيت الْمَنْدُوب طَاعَة كَونه مرَادا للْآمِر فَهَذَا يطرد على أصلهم فِي الطَّاعَات، وينعكس فِي الْمَحْظُورَات والمباحات. والخوض فِي ذَلِك يشغلنا عَن الْمَقْصد فَالْأولى إحالته على الديانَات. (64) القَوْل فِي استقصاء الْمذَاهب فِي مُقْتَضى الْأَمر ووجوه الرَّد على غير مَا نرتضيه مِنْهَا [214] قد قدمنَا من مَذَاهِب أهل الْحق أَن الْأَمر الْحَقِيقِيّ معنى قَائِم بِالنَّفسِ وَحَقِيقَته اقْتِضَاء الطَّاعَة على مَا قدمْنَاهُ ثمَّ ذَلِك يَنْقَسِم إِلَى ندب وَوُجُوب لتحَقّق الِاقْتِضَاء فيهمَا. وَأما الْعبارَة الدَّالَّة على الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ نَحْو قَول الْقَائِل: ((افْعَل)) فمترددة بَين الدّلَالَة على الْوُجُوب وَالنَّدْب وَالْإِبَاحَة والتهديد. فَيتَوَقَّف فِيهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 حَتَّى يثبت بقيود الْمقَال أَو قَرَائِن الْحَال تخصصها بِبَعْض المقتضيات فَهَذَا مَا نرتضيه من الْمذَاهب. [215] وَذهب الْجُمْهُور من الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن الْأَمر المتجرد عَن الْقَرَائِن يَقْتَضِي كَون الْمَأْمُور بِهِ ندبا وَإِنَّمَا يعرف الْوُجُوب بِقَرِينَة تنضم إِلَيْهَا، وَحَقِيقَة أصلهم مَا ذكره عبد الْجَبَّار فِي شرح الْعمد وَذَلِكَ أَنه قَالَ وَالْأَمر يُنبئ عَن كَون الْمَأْمُور بِهِ مرَادا للْآمِر. فَهَذَا مُقْتَضَاهُ، وَمَا سواهُ لَا يثبت إِلَّا بالقرائن. فَإِذا قيل لَهُ: أفتجوز إِرَادَة الْوُجُوب بِالْأَمر الْمُطلق من غير قرينَة، امْتنع من تجويزه. وصاروا إِلَى أَن الْأَمر لَا يَقْتَضِي إِلَّا كَون الْمَأْمُور بِهِ مرَادا للْآمِر، وَهَذَا لَا يُنبئ عَن الْوُجُوب. ثمَّ قَالَ: إِنَّمَا يعرف الْوُجُوب بوعيد أَو بتهديد يقترنان بِالْأَمر. فَقيل لَهُ: فَإِذا اقْترن الْوَعْد بِالْأَمر فَهَل تزْعم أَن المُرَاد بِالْأَمر مَعَ الْوَعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الْإِيجَاب؟ فَقَالَ: لَا أصير إِلَى ذَلِك بل الْأَمر اقْتضى كَون الْمَأْمُور بِهِ مرَادا للْآمِر. والوعيد اقْتضى وصف الْوُجُوب لَهُ، وَلَيْسَ / الْوُجُوب من مُقْتَضى [24 / أ] الْأَمر بِحَال، سَوَاء ورد مُطلقًا أَو مُقَيّدا. وَكَذَلِكَ قيل لَهُ: أفيجوز اسْتِعْمَال الْأَمر الْمُطلق فِي الْإِيجَاب مجَازًا تمنع مِنْهُ. وَلم يجوزه مصيرا مِنْهُ إِلَى أَن الْوُجُوب وصف زَائِد للْمَأْمُور لَا يتلَقَّى من الْأَمر لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا. [216] وَذهب بعض الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن مُقْتَضى الْأَمر الْمُطلق الْإِبَاحَة وَالْإِذْن، وَإِنَّمَا يثبت مَا عداهُ بالقرائن والقيود. [217] وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن الْأَمر الْمُطلق يَقْتَضِي وجوب الْمَأْمُور بِهِ مَا لم تقترن بِهِ قرينَة مَانِعَة من اسْتِعْمَاله باقتضاء الْوُجُوب. وَإِلَى هَذَا صَار الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 [218] وَأما الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فقد ادّعى كل من أهل الْمذَاهب أَنه على وفاقه وتمسكوا بعبارات مُتَفَرِّقَة لَهُ فِي كتبه: حَتَّى اعْتصمَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ بِأَلْفَاظ لَهُ من كتبه واستنبط مِنْهَا مصيره إِلَى الْوَقْف وَهَذَا عدُول عَن سنَن الْإِنْصَاف. فَإِن الظَّاهِر والمأثور من مذْهبه حمل مُطلق الْأَمر على الْوُجُوب. [219] فمما يلْزم تَجْدِيد الْعَهْد بِهِ عودا على بَدْء ان تعلم أَن الْخلاف مَعَ الْقَوْم فِي الْعبارَات والصيغ دون مَا هُوَ حَقِيقَة الْأَمر عندنَا. فَإِذا أحطت علما بذلك فَالْأولى بِنَا أَن نذْكر نُكْتَة نعول عَلَيْهَا إبِْطَال كل مَذْهَب سوى مَا ارتضيناه حَتَّى إِذا استثبت انعطفنا على شبه كل فِئَة وتتبعناها بِالنَّقْضِ وَالَّذِي نعول عَلَيْهِ مَا سبق الْإِيمَاء إِلَيْهِ فِي بعض الْأَبْوَاب السالفة وَذَلِكَ أَن نقُول لمن يُخَالف من أهل الْمذَاهب المفترقة فِي حمل الصِّيغَة الْمُطلقَة على اقْتِضَاء معنى بِعَيْنِه لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يتلَقَّى علمه بذلك من قضايا الْعُقُول أَو يتلقاه من أَدِلَّة السّمع وَلم ندرج فِي الدّلَالَة ادِّعَاء الِاضْطِرَار علما منا بِأَن أحدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 لَا يصير إِلَى إدعائه، فَلَا مدرك للعلوم بعد انْتِفَاء الضرورات والبداية إِلَّا الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة والسمعية فَبَطل إِسْنَاد هَذَا الْعلم إِلَى دلالات الْعُقُول وَذَلِكَ أَنه لَيْسَ فِيهَا دلَالَة على مجاري اللُّغَات الثَّابِتَة توقيفا أَو اصْطِلَاحا. وَهَذَا ثَابت وفَاقا لَا حَاجَة لَك إِلَى الْأَطْنَاب فِي إثْبَاته فَلَا يبْقى إِلَّا إِسْنَاد الْعلم إِلَى الدلالات السمعية. فَنَقُول للخصم أَنْتُم لَا تخلون إِمَّا أَن تثبتوا إِفَادَة الصِّيغَة لِمَعْنى بِعَيْنِه من قَضِيَّة اللُّغَة أَو من أَدِلَّة السّمع فَإِن أَنْتُم رمتم إِثْبَات ذَلِك من مُقْتَضى اللُّغَة قيل لكم مدارك اللُّغَات مضبوطة يحصرها وَجْهَان: أَحدهمَا: معاصرة أهل الْوَضع ومشاهدة اصطلاحهم أصلا وإحاطة الْعلم بمرادهم وقرائن أَحْوَالهم الْمُشَاهدَة، فَهَذَا وَجه. وَلَا سَبِيل لمن يُكَلِّمنَا فِي نفي أَو إِثْبَات إِلَى التَّمَسُّك بِهَذَا الْوَجْه للْعلم بِأَنَّهُ لَا أحد مِمَّن يدْرك على مَذَاهِب الْمُخَالفين عاصر الواضعين اللُّغَة. وَالْوَجْه الثَّانِي: النَّقْل عَن أهل اللُّغَة. ثمَّ النَّقْل يَنْقَسِم إِلَى تَوَاتر يعقب الْعلم الضَّرُورِيّ وَإِلَى غَيره. وَلَا سَبِيل للخصم إِلَى ادِّعَاء هَذَا الضَّرْب من النَّقْل لبُطْلَان دَعْوَى الِاضْطِرَار مَعَ ظُهُور الِاخْتِلَاف ووضوحه بَين أَرْبَاب الْعقل وَالشَّرْع فَلم يبْق بعد ذَلِك إِلَّا نقل استفاضة تدل الدّلَالَة على الْقطع بِصِحَّتِهِ أَو نقل آحَاد. وَلَيْسَ مَعَ الْخصم نقل مستفيض يَقْتَضِي الْعلم فِيمَا يرومه ويلتمسه. وإيضاح ذَلِك أَنه لَا يُمكن أَن يُؤثر عَن أَئِمَّة اللُّغَة صُورَة هَذِه الْمَسْأَلَة الَّتِي فِيهَا التَّنَازُع. وَلَو قلت لأرباب اللُّغَة وَقد جمعهم محفل وَاحِد وفَاقا: الْأَمر هَل يَقْتَضِي الْإِيجَاب وَالنَّدْب أَو الْإِبَاحَة وَالْإِطْلَاق وَمَا مُقْتَضَاهُ إِذا تجرد عَن الْقَرَائِن وَإِذا انضمت إِلَيْهِ الْقَرَائِن؟ فَلَا تراهم فِي سؤالك إِلَّا حيارى، فَلَا يَصح بِوَجْه من الْوُجُوه نقل عين هَذِه المسئلة عَنْهُم. [220] فَإِن توصل الْخصم إِلَى مقْصده لوُرُود أوَامِر على إِرَادَة الْإِيجَاب فيقابل بصيغ أَمْثَالهَا، وَالْمرَاد بهَا الْإِبَاحَة وَالْإِطْلَاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 [221] فَإِن زعم الْخصم بِأَن مَا اعْتصمَ بِهِ معرى عَن قَرَائِن الْإِبَاحَة فَلذَلِك اقْتضى الْوُجُوب أَو النّدب عِنْد إِطْلَاقه قيل لَهُ: وَالَّذِي يَقْتَضِي الْإِبَاحَة متجرد عَن قَرَائِن الْإِيجَاب. وَإِنَّمَا اقْتضى الْإِبَاحَة عَن إِطْلَاقه لتعريه عَن قَرَائِن الْإِيجَاب وَالنَّدْب فتتقابل الدعاوي فِي موارد الصِّيَغ وَقد تبين بطلَان نقل صُورَة المسئلة عَنْهُم فَلم يبْق للنَّقْل عَنْهُم وَجه. [222] وَمن سَبِيل النَّقْل أَيْضا أَن يخبر الْمخبر عَن قَضِيَّة من اللُّغَة بِحَيْثُ يشْتَهر ذَلِك بَين أَهلهَا. فيصمتون ويسكتون وَلَا يبدون إنكارا فَرُبمَا يعد ذَلِك من النَّقْل الْمَقْطُوع بِهِ على مَا سَنذكرُهُ فِي أَبْوَاب الْأَخْبَار إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَهَذَا الضَّرْب أَيْضا لم يتَحَقَّق فَإِنَّهُ كَمَا اشْتهر فيهم قَول الْقَائِلين بِالْوُجُوب فَكَذَلِك اشْتهر فيهم قَول الْقَائِلين بِالْإِبَاحَةِ أَو النّدب وَلم يُؤثر عَنْهُم رد على التَّصْرِيح والإفصاح على قيد فَهَذَا لَو ادعوا تثبيت مذاهبهم من قَضِيَّة اللُّغَة. [223] وَإِن هم ادعوا تثبيته من أَدِلَّة السّمع فَلَيْسَ فِي أَدِلَّة السّمع نَص قَاطع يَقْتَضِي مَا قَالُوهُ وَإِنَّمَا نراهم يعتصمون فِي إِثْبَات مُقْتَضى الصِّيَغ والألفاظ المحتملة بِأَلْفَاظ مُحْتَملَة من الْكتاب وَالسّنة على مَا نتقصاها فِي شبههم إِن شَاءَ الله عز وَجل فانسدت موارد الْعُلُوم، وَتبين وُرُود هَذِه الصِّيغَة المتنازعة فِيهَا على موارد متباينة فَلَا يبْقى إِلَّا التَّوَقُّف لتعين المُرَاد بهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 [224] فَإِن قيل: مَا طردتموه ينعكس عَلَيْكُم فِي ادِّعَاء الْوَقْف فَإِنَّهُ كَمَا لم يُؤثر عَنْهُم مَا ذَكرْنَاهُ، فَكَذَلِك لم ينْقل عَنْهُم الْوَقْف. وَالْجَوَاب عَن ذَلِك فِي وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن نقُول: تثبيت أنباء الْأَسَامِي عَن المسميات فِي وضع اللُّغَات يحوج مدعيه إِلَى النَّقْل. وَحَقِيقَة الْمصير إِلَى الْوَقْف عدم النَّقْل، فإننا نقُول / إِذا لم ينْقل وَجه مُتَعَيّن من [25 / أ] الْوُجُوه الَّتِي ادعيتموها فنتوقف، ولسنا نجْعَل التَّوَقُّف لُغَة لنحتاج إِلَى نقلهَا. وَاحْذَرْ أَن تزْعم أَن مُقْتَضى الصِّيغَة الْوَقْف، فَإنَّا نتبرأ عَن ذَلِك، بل نقُول: إِذا لم يَصح وَجه مُتَعَيّن فِي النَّقْل فنرقب تَعْيِينه بطرِيق يقطع بِهِ فمحصول هَذَا إِذا يؤول إِلَى أَنا لم نثبت لُغَة لننقلها. وَالْوَجْه الآخر من الْجَواب أَن نقُول: إِذا رَأينَا صِيغَة وَاحِدَة ترد على موارد مُخْتَلفَة ومعاني متباينة فَإِذا وَردت مُطلقَة فَلَا نحتاج فِي التَّوَقُّف فِي مَعْنَاهَا إِلَى نقل مُجَرّد من أهل اللُّغَات. وإيضاح ذَلِك بالمثال أَن الْعين لما ورد منقسما بَين معَان فَإِذا أطلق فِي المورد لم يحْتَج فِي التَّوَقُّف فِي مَعْنَاهُ إِلَى نقل متجرد وَإِذا وَردت لَفْظَة الْوُجُود مَعَ انطلاقها على الْحُدُوث والقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 لم يحْتَج فِي التَّوَقُّف إِلَى نقل متجرد من أهل اللُّغَة. فَتبين مَا قُلْنَاهُ وَلكُل قلب الْخصم وَعَكسه الدّلَالَة علينا. فَهَذَا أقوى مَا نعول عَلَيْهِ وَسَنذكر بَقِيَّة أدلتنا فِي تَرْتِيب الْأَبْوَاب إِن شَاءَ الله. [225] عمد من صَار إِلَى أَن مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي الْإِيجَاب. اعْلَم، أَن الصائرين إِلَى هَذَا الْمَذْهَب تحزبوا حزبين فَمن صائرين إِلَى أَن مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي الْإِيجَاب لُغَة ووضعا وَمن ذَاهِبين إِلَى أَن اللُّغَة لَا تدل على ذَلِك وَلَكِن دلالات السّمع تدل على وجوب حمل الْأَوَامِر الشَّرْعِيَّة المتجردة عَن الْقَرَائِن على الْوُجُوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 [226] فَأَما من ادّعى أصل الْوَضع وهم الْأَكْثَرُونَ فقد استدلوا على ذَلِك بأَشْيَاء مِنْهَا: أَنهم قَالُوا قد ثَبت فِي إِطْلَاق أهل اللُّغَة تَسْمِيَة من خَالف مُطلق الْأَمر عَاصِيا، وَثَبت مِنْهُم تقريعه وتوبيخه بالعصيان عِنْد مُجَرّد ذكر الْأَمر، فَإِن الْوَاحِد مِنْهُم يَقُول لمن دونه أَمرتك فعصيت أَمْرِي وَهَذَا شَائِع ذائع فيهم. ومساقه أَنه لما جَازَ التوبيخ بسمة الْعِصْيَان عِنْد ذكر مُطلق الْأَمر، وَلَا يسْتَوْجب التوبيخ إِلَّا بترك وَاجِب اقْتضى مَجْمُوع ذَلِك دلَالَة الْأَمر الْمُطلق على الْوُجُوب. فَيُقَال لَهُم: لسنا نسلم لكم مَا أطلقتموه من دعواكم، وَذَلِكَ أَن النزاع مَعكُمْ فِي الصِّيغَة الْمُطلقَة المعراة من الْقَرَائِن. وَلَيْسَ فِي إِطْلَاق اللُّغَة وتحاور أَهلهَا مَا يدل على مَا رمتموه فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم إِن وبخوا تَارِك الأمتثال لسمة الْعِصْيَان فَإِنَّمَا وبخوه عِنْد تَركه امْتِثَال أَمر شَاهد قَرَائِن أَحْوَال الْأَمر بِهِ دَالَّة على اقْتِضَاء الْوُجُوب فَلَيْسَ يمكنكم أَن تزعموا أَنهم يوبخون بالعصيان فِي الْأَمر الْمُجَرّد عَن الْقَرَائِن وَاسم الْأَمر ينْطَلق على الْمُجَرّد والمقترن جَمِيعًا، فَمن أَيْن لكم أَن مَا أَطْلقُوهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 [25 / ب] ينْصَرف إِلَى الصِّيغَة الْمُطلقَة / وَلم ينْقل عَنْهُم فِي توبيخ التارك عصيت مُطلق أَمْرِي المعرى عَن الْقَرَائِن، وَهَذِه دَعْوَى لم تقرن ببرهان، ثمَّ نقُول لسنا نسلم أَن تثبيت سمة الْعِصْيَان وصف ذمّ على الْإِطْلَاق إِذْ قد يرد ذَلِك فِي غير مَوضِع اسْتِحْقَاق الذَّم. فَإنَّك تَقول أَشرت على فلَان بِكَذَا فعصاني وَعصى مشورتي، وَإِن لم يكن بمشورتك مُوجب على من أَشرت إِلَيْهِ. [227] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم وَهِي من عمدهم. فَإِن قَالُوا: قَول الْقَائِل: ((افْعَل)) يتَضَمَّن إِثْبَات الْفِعْل وَحصر الْمَقْصد فِي ثُبُوته، إِذْ لَيْسَ فِي قَول الْقَائِل ((افْعَل)) إِلَّا اقْتِضَاء ثُبُوت الْفِعْل فَلَو حمل على النّدب وَالْإِبَاحَة اقْتضى جَوَاز التّرْك وَهَذَا يُنَاقض ثُبُوت الْفِعْل. وَهَذَا مِمَّا يشغفون بِهِ. وَلَو رد إِلَى التَّحْقِيق اضمحل، وَذَلِكَ أَنا نقُول إِن عنيتم بقولكم: إِنَّه يَقْتَضِي ثُبُوت الْفِعْل أَنه يُنبئ عَن ثُبُوته لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 محَالة. فَهَذَا عين مَا تنازعنا فِيهِ، فكأنكم عبرتم بِثُبُوتِهِ لَا محَالة عَن الْوُجُوب، وَآل قصاري كلامكم فِي تثبيت الْمَذْهَب إِلَى نفس نقل الْمَذْهَب، فكأنكم قُلْتُمْ الْأَمر على الْوُجُوب لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْوُجُوب فَأَنِّي يَسْتَقِيم هَذَا مِنْكُم؟ والخصم يزْعم أَنه قد يرد وَالْمرَاد بِهِ التَّخْيِير وَقد يرد وَالْمرَاد بِهِ التهديد، فَبَطل مَا قَالُوهُ جملَة وتفصيلا. [228] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن قَالُوا: الْوُجُوب معنى صَحِيح يتَصَوَّر فِي الْقُلُوب ويتخالج فِي الصُّدُور فَيعلم أَنه مِمَّا يخْطر بِهِ لأرباب اللُّغَات فَيجب لَا محَالة أَن يضعوا لَهُ لفظا يُنبئ عَنهُ وَلَا لفظ يُنبئ عَنهُ إِن لم يُنبئ الْأَمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وَهَذَا وَاضح الْبطلَان وَلَوْلَا أَن الْأَئِمَّة تمسكوا بِهِ لاقتضى الْحَال ترك نَقله لوهايته وَضَعفه. فَأول مَا نفاتحهم بِهِ أَن نقُول: لم زعمتم أَولا أَنه يجب تَسْمِيَة كل معنى يتخالج فِي الصُّدُور، وَبِمَ تنكرون على من يجوز بَقَاء معَان لَيْسَ فِي اللُّغَات إنباء عَنْهَا على التَّنْصِيص والتخصيص؟ فَهَذَا وَجه فِي الْإِبْطَال. وَالْوَجْه الآخر أَن نقُول بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن النّدب أحد الْمعَانِي المتقدرة فِي الصُّدُور فَلَا بُد من قصد أهل اللُّغَة إِلَى وضع لفظ يتضمنه؟ فَإِن قيل: اللَّفْظ المتضمن لَهُ قَوْلهم: أندبك إِلَى كَذَا وأحثك عَلَيْهِ إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يَقْتَضِي هَذَا الْمَعْنى. فَيُقَال لَهُم: وَبِمَ تنكرون على من طرد مَا قلتموه أَن يكون اللَّفْظ الْمَوْضُوع باقتضاء الْإِيجَاب قَوْلهم أوجبت عَلَيْك وافترضت عَلَيْك وألزمتك حتما عَلَيْك إِلَى مَا يضاهي ذَلِك من الْأَلْفَاظ؟ [229] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: زلوا فِي إلزامها، وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا النَّهْي عَن الشَّيْء يتَضَمَّن وجوب الْكَفّ عَنهُ، فَالْأَمْر بِهِ وَاجِب أَن يتَضَمَّن وجوب الْإِقْدَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 عَلَيْهِ وحققوا ذَلِك بِأَن الْأَمر بالشي نهي عَن أضداد الْمَأْمُور / بِهِ فَإِذا ثَبت [26 / أ] اقْتِضَاء النَّهْي وجوب التّرْك ترَتّب عَلَيْهِ اقْتِضَاء الْأَمر وجوب الْإِقْدَام. فَيُقَال لَهُم: أقصروا فقد زللتم فِي الْإِلْزَام وَذَلِكَ أَنكُمْ إِن عنيتم بِالنَّهْي قَول الْقَائِل: ((لَا تفعل)) فَهَذَا من الْأَلْفَاظ المحتملة عندنَا المترددة بَين معَان على مَا سَنذكرُهُ فِي بَاب النواهي إِن شَاءَ الله عز وَجل ولسنا نقطع أَيْضا باقتضاء اللَّفْظ وجوب الْكَفّ. [230] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن قَالُوا: إِذا أَمر السَّيِّد عَبده بِشَيْء فَلم يمتثل أمره حسن مِنْهُ توبيخه بِمُجَرَّد ذكر الْأَمر، فَإِنَّهُ يَقُول أَمرتك فخالفتني فلولا أَن مجرده يَقْتَضِي الِامْتِثَال لما حسن ذَلِك. وَهَذَا يداني الشُّبْهَة الأولى، وَمَا قدمْنَاهُ من الْجَواب عَنْهَا يبطل ذَلِك. ونجدد آنِفا كلَاما يتَضَمَّن بطلَان مَا قَالُوهُ وَيصْلح لابتداء اسْتِدْلَال فِي الرَّد على من عين لهَذَا اللَّفْظ مُوجبا. وَذَلِكَ أَنا نقُول إِذا بدرت من السَّيِّد الصِّيغَة الَّتِي فِيهَا نزاعنا فَيحسن من العَبْد تَقْسِيم الْكَلَام وتنويعه فِي استفصال الْمَقْصد بِهِ فَيَقُول: للسَّيِّد هَذَا الَّذِي بدر مِنْك إِلْزَام لَا محيص عَنهُ أَو هُوَ ندب أتخير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 فِيهِ؟ فَلَمَّا حسن مِنْهُ الاستفصال والاستفسار دلّ ذَلِك على خُرُوج اللَّفْظَة من اقْتِضَاء معنى معِين. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَنه لَو قَالَ لعَبْدِهِ: رَأَيْت إنْسَانا، لم يحسن مِنْهُ أَن يَقُول مستفسرا: تَعْنِي بِهِ شخصا من بني آدم أم حمارا؟ لِأَن اللَّفْظَة أنباء عَن جنس بني آدم فَلم يحسن الاستفصال فِيهِ. فَهَذَا مَا يعولون عَلَيْهِ من الشّبَه. [231] وَمِمَّا يعولون عَلَيْهِ من آي الْكتب وَسنَن الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام جمل من الظَّوَاهِر نومئ إِلَى أظهرها فِي مقصدكم مقصدهم ونتقصى عَنهُ لنستدل بِهِ على مثله. [232] فَمن أظهر مَا يتمسكون بِهِ قَوْله تَعَالَى فِي تقريع إِبْلِيس: {مَا مَنعك أَلا تسْجد إِذْ أَمرتك} وَوجه التَّمَسُّك بِهِ أَنه تَعَالَى وبخه بالامتناع عَن السُّجُود بعد توجه الْأَمر عَلَيْهِ وَأطلق تَعَالَى ذكره الْأَمر وَلم يقل إِذْ أَمرتك أَمر إِيجَاب. فَاقْتضى ذَلِك إنباء مُطلق الْأَمر عَن الْإِلْزَام والإيجاب. وَأَشد الْأَجْوِبَة عَلَيْهِم عَن ذَلِك أَن نقُول: كَانَ أَمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَلَائِكَة بِالسُّجُود متقيدا بقرائن اقْتِضَاء الْإِيجَاب. وَاسم الْأَمر ينْطَلق على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 المتقيد بالقرائن كَمَا ينْطَلق على الْمُطلق، فيسمى الْأَمر مَعَ قيوده المتضمنة الْإِيجَاب أمرا كَمَا يُسمى الأمرالمجرد المعري عَنْهَا أمرا. [233] فَإِن قيل: فَمَا الْقَرَائِن الدَّالَّة على اقْتِضَاء الْإِيجَاب؟ قُلْنَا: الْجَواب عَن ذَلِك من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن نقُول: من الْقَرَائِن مَا يتَحَقَّق عِنْد صُدُور الْأَمر من الْآمِر ويحيط المأمورعلما بهَا، وَلَا يُمكن التَّعْبِير عَنْهَا على التَّفْصِيل والتخصيص / [26 / ب] وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيل إِلَى جَحده. وَالْوَجْه الثَّانِي: من الْجَواب أَن نقُول قد قدمنَا فِي بعض الْأَبْوَاب السالفة أَن من خاطبه الرب سُبْحَانَهُ بأَمْره لم يتَصَوَّر توصل الْمُخَاطب إِلَى الْعلم بقضية الْخطاب إِلَّا اضطرارا وَقد أوضحنا القَوْل فِي ذَلِك وَلَقَد كَانَ الرب تَعَالَى خَاطب الْمَلَائِكَة بِالْأَمر بِالسُّجُود مَعَ ارْتِفَاع الوسائط وتبليغ المبلغين فاضطرهم الله عز وَجل إِلَى الْعلم بِمُقْتَضى مَا توجه عَلَيْهِم من الْأَمر. وَالْوَجْه الثَّالِث من الْجَواب: أَن نقُول: أَنْتُم لَا تخلون معاشر المتمسكين بِهَذَا الظَّاهِر إِمَّا أَن تَقولُوا: نعلم أَن الْأَمر المتوجه عَلَيْهِم كَانَ متجردا عَن الْقَرَائِن أَو تَقولُوا: لَا نعلم ذَلِك، فَإِن زعمتم أَنا لَا نعلم تجرده عَن الْقَرَائِن عِنْد توجهه عَلَيْهِم فقد استربتم فِيمَا بِهِ استدللتم. وَإِن أَنْتُم زعمتم أَنا نَعْرِف تجرده عَن الْقَرَائِن، فَيُقَال لكم: فَبِمَ عَرَفْتُمْ ذَلِك؟ وطرق الْعلم ومداركها مضبوطة، ونعيد عَلَيْهِم فِي ذَلِك التَّقْسِيم الَّذِي ذكرنَا فِيمَا عَلَيْهِ عولنا من الدَّلِيل على الْوَقْف. وَهَذَا مَا لَا محيص لَهُم عَنهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 [234] فَإِن قَالُوا: مَا ظهر مِنْهَا شَيْء يدل على تجرد الْأَمر عَنْهَا. قيل لَهُم: فَمَا يؤمنكم أَنَّهَا ظَهرت لغيركم وَإِن لم تظهر لكم؟ أَو بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنَّهَا كَانَت وَلم تظهر لكم وَلَا لغيركم. إِذْ لَيْسَ من شَرط كل مَا سبق أَن ينْقل إِلَيْكُم وَإِلَى أمثالكم وَهَذَا مَا يحسم عَلَيْهِم وَجه الِاعْتِصَام بالظواهر. [235] فَإِن قيل: إِنَّمَا عرفنَا ذَلِك من ذكر الله تَعَالَى الْأَمر مُطلقًا فِي قَوْله: {إِذْ أَمرتك} . قُلْنَا: فاسم الْأَمر ينْطَلق على المقترن إِطْلَاقه على الْمُجَرّد عَن الْقَرَائِن. وَهَذَا أوضح من استدلالهم. [236] وَمِمَّا يتشبثون بِهِ قَوْله عز وَجل: {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول} . قَالُوا: فَهَذَا يَقْتَضِي وجوب كل امْتِثَال وَطَاعَة. فَيُقَال: لَهُم مَا أغفلكم عَمَّا يُرَاد بكم، أَو لسنا نازعناكم فِي أَمْثَال مَا بِهِ استدللتم، فَهَذَا الَّذِي اعْتصمَ بِهِ آنِفا من الْأَلْفَاظ الَّتِي يتَوَقَّف فِي مَعْنَاهَا وفحواها، وَكَيف تتشبثون على الْقَائِلين بِالْوَقْفِ بِمَا يتوقفون فِيهِ؟ [237] وَمِمَّا يتمسكون من السّنَن مَا روى أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 لبريرة وَقد أعتقت تَحت زَوجهَا: ((لَو أَقمت تَحت هَذَا العَبْد. قَالَ: أبأمر مِنْك يَا رَسُول الله! فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: لَا بل إِنَّمَا أَنا شَافِع)) وَوجه استدلالهم بِهَذَا الْخَبَر أَنَّهَا اعتقدت وجوب الِامْتِثَال لَو كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لَهَا آمرا، وَلم يُنكر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَلَيْهَا فِي اعتقادها بل بَين لَهَا أَنه لَيْسَ بآمر. قُلْنَا: هَذَا وَأَمْثَاله من أَخْبَار الْآحَاد فَلَا يَصح التَّمَسُّك بِهِ فِي مسَائِل الْقطع وَهَذِه الَّتِي نَحن فِيهَا مِنْهَا. ثمَّ نقُول إِطْلَاقهَا الْأَمر يتَنَاوَل الْأَمر الْمُقَيد / وَالْمُطلق، فنحمله على الْمُقَيد كَمَا ذَكرْنَاهُ فِيمَا قبل، أَو نقُول لَيْسَ [27 / أ] فِيمَا قَالَت إنباء عَن اعْتِقَاد الْوُجُوب عِنْد تَقْدِير الْأَمر، فَإِنَّهَا لم تقل أفبأمر مِنْك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 فألتزم مُوجبه، فلعلها عنت بذلك أفبأمر مِنْك موكد على التحريض وَالنَّدْب فِي الْمقَام تَحت هَذَا العَبْد. [238] فَإِن قيل: فالشفاعة تنبئ عَن النّدب. قُلْنَا: للوكادات رتب ودرجات والشفاعة لَا تنبئ عَن أَعْلَاهَا، فَعَاد استفصالها إِلَى ذَلِك. وَالَّذِي يُحَقّق مَا قُلْنَاهُ أَن الْمَنْقُول عَنهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لم يكن من قبيل مَا يستراب فِي أَنه لَا يَقْتَضِي الْإِيجَاب، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: ((لَو أَقمت تَحت هَذَا العَبْد)) وَهَذَا مُصَرح بِنَفْي التحتم والإيجاب، مُتَرَدّد فِي دَرَجَات النّدب، وعَلى هَذَا الْوَجْه يستدلون بجمل من الْأَخْبَار، وَمَا قدمْنَاهُ ويرشدك إِلَى الِانْفِصَال عَنْهَا إِن شَاءَ الله عز وَجل. [239] وَمِمَّا تعلقوا بِهِ من جِهَة الْإِجْمَاع وعدوه من أقوى عصمهم أَو أَشد الْكَلَام فِي الْمَسْأَلَة، أَن قَالُوا: نعلم استرواح الْأمة قاطبة فِي تثبيت وجوب الصَّلَاة وَالصِّيَام وَمَا ضاهاهما من الْعِبَادَات إِلَى قَوْله عز اسْمه: {وَأقِيمُوا الصَّلَاة} فلولا أَنهم اعتقدوا إنباء الْأَوَامِر عَن الْإِيجَاب لما استروحوا فِي تثبيت الْإِيجَاب إِلَى الْأَوَامِر، ووكدوا ذَلِك بِأَن قَالُوا مَا أومأنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 إِلَيْهِ من الْأَوَامِر غير مقترنة بِشَيْء من الْقُيُود الدَّالَّة عنْدكُمْ، فَيُقَال لَهُم: هَذَا الَّذِي ختمتم بِهِ كلامكم فِيهِ أَشد النزاع، فَإِن الْأَوَامِر الَّتِي اعْتصمَ بهَا وقررتم استرواح أهل الْإِجْمَاع إِلَيْهَا مقترنة بقرائن الشَّرْع فِي اقْتِضَاء الْإِيجَاب. ثمَّ نعيد عَلَيْهِم مَا قدمْنَاهُ من التَّقْسِيم فَنَقُول: بِمَ عَرَفْتُمْ تجرد مَا ذكرْتُمْ من الْأَوَامِر عَن الْقَرَائِن؟ فَلَا يرجعُونَ إِذا حقق عَلَيْهِم إِلَّا إِلَى عدم النَّقْل، فَيُقَال لَهُم: وَلَيْسَ كل مَا اسْتندَ إِلَيْهِ الْإِجْمَاع يتَعَيَّن على المجمعين نَقله وَكم من مَسْأَلَة أجمع الْعلمَاء على حكمهَا عَن خبر أَو قِيَاس، وَلَو أردنَا نقل الأَصْل الَّذِي مِنْهُ انْعَقَد الْإِجْمَاع على التَّعْيِين لم نقدر على ذَلِك، وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ فَمَا أنكرتم أَن أهل الْإِجْمَاع أحاطوا بِهِ علما بقراين الْأَوَامِر الدَّالَّة على الْوُجُوب، واعتقدوا الْوُجُوب وَلم ينقلوها، فَهَذِهِ جمل مقنعة فِي شبه الْقَائِلين بِالْوُجُوب والتقصي عَنْهَا. [240] فَأَما الْقَائِلُونَ بِأَن الْأَمر يَقْتَضِي النّدب فقد اعتصموا بِأَن قَالُوا: قد ثَبت بِاتِّفَاق بَيْننَا وَبَيْنكُم أَن الْأَمر يَقْتَضِي طَاعَة الْمَأْمُور واقتضاء الطَّاعَة يتَحَقَّق فِي النّدب وَإِنَّمَا يتَبَيَّن الْوُجُوب بِذكر الذَّم على ترك الْوَاجِب، فَإِذا ورد مُطلق الْأَمر حمل على الِاقْتِضَاء الْمُجَرّد والاقتضاء الْمُجَرّد يتَحَقَّق فِي النّدب، فَإِن الْوُجُوب يثبت بِقَرِينَة زَائِدَة، والملطق متعر عَنْهَا، وحقق الْمُعْتَزلَة ذَلِك عِنْد أنفسهم بِأَن قَالُوا: الْأَمر يتَضَمَّن كَون الْمَأْمُور بِهِ مرَادا للْآمِر فَلَا يُنبئ عَن غير ذَلِك / وَأَقل الرتب فِي هَذَا الْمَعْنى النّدب فَحمل الْأَمر على الْأَقَل [27 / ب] المستيقن. فَيُقَال لَهُم: أول مَا نناقشكم فِيهِ أَنا لَا نَلْتَقِي على مَذْهَب فِي الْأَمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 فَإِن الَّذِي نصفه بِكَوْنِهِ أمرا وننعته بِكَوْنِهِ مقتضيا للطاعة هُوَ الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ، وَأَنْتُم معاشر الْمُخَالفين تنكرون أصل ذَلِك، وَالَّذِي تثبتونه أمرا إِيمَاء مِنْكُم إِلَى الصِّيَغ والعبارات فلسنا نسلم أَنه يتَضَمَّن اقْتِضَاء الْفِعْل فَإِنَّهُ يتَرَدَّد بَين الدّلَالَة على الِاقْتِضَاء وَالْإِبَاحَة والحظر كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي صدر الْمَسْأَلَة فتصدهم هَذِه الْمُنَازعَة من مقصدهم، وَأما مَا أسندت الْمُعْتَزلَة قَوْلهَا إِلَيْهِ من كَون الْمَأْمُور مرَادا للْآمِر فَهَذَا من أعظم أصل نخالفهم فِيهِ فَإنَّا لَا نشترط تعلق الْإِرَادَة بالمأمور بِهِ، ثمَّ نقُول لَهُم بعد التعري عَن هَذِه المناقشة معولكم فِي مَا طردتموه على كَون الْأَمر مقتضيا للطاعة ثمَّ أردفتم ذَلِك بِأَن قُلْتُمْ اسْتِحْقَاق الذَّم مِمَّا لَا يُنبئ عَنهُ الِاقْتِضَاء الْمُطلق فحملناه على مُجَرّد الِاقْتِضَاء دون اسْتِحْقَاق الذَّم فَإِن اللَّفْظ لَا يُنبئ عَنهُ. فَيُقَال لكم فَإِذا حملتموه على النّدب فقد صرحتم جَوَاز تَركه وَلَيْسَ فِي اللَّفْظ إنباء عَن جَوَاز التّرْك كَمَا لَيْسَ فِي اللَّفْظ إنباء عَن اسْتِحْقَاق الذَّم وَهَذَا مَا لَا جَوَاب عَنهُ. [241] فَإِن قيل: إِذا أطلق الله تَعَالَى الْأَمر وجوزنا حمله على النّدب، وَلم يبين سُبْحَانَهُ كَون تَركه مَحْظُورًا حملناه على النّدب، إِذْ لَو كَانَ مَحْظُورًا لبينه. قيل لَهُم: فَبِمَ تنكرون على من يعكس عَلَيْكُم مَا قلتموه؟ وَيَقُول: لَو كَانَ ترك الْمَأْمُور بِهِ غير مَحْظُور لبين الله تَعَالَى نفي سمة الْحَظْر عَنهُ فيتقابل الْقَوْلَانِ على هَذَا الْمنْهَج ويتساقطان. [242] فَإِن قَالُوا يثبت بورود الْأَمر كَون الْمَأْمُور بِهِ مرَادا للْآمِر وَلَا يتَضَمَّن نفس الْأَمر جَوَاز التّرْك وَلَكنَّا نقُول: إِذا لم يكن فِي الْأَمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وَمُقْتَضَاهُ تعرض لتَحْرِيم التّرْك وَلَا إِبَاحَته فَيحمل ترك الْمَأْمُور بِهِ على مَا علمناه عقلا قبل وُرُود الشَّرَائِع، قَالُوا: وَقد علمنَا الْإِبَاحَة فِيمَا لَا يسْتَدرك بِالْعقلِ تَحْرِيمه، ومحصول هَذَا الْكَلَام يؤول إِلَى أَن الْأَمر يتَضَمَّن كَون الْمَأْمُور بِهِ مرَادا وَلَا يتَضَمَّن تعريضا لتَركه ويتوصل بِالْعقلِ استصحابا للْحَال إِلَى حكم الْإِبَاحَة فِي ترك الْمَأْمُور بِهِ. قُلْنَا: لَو ناقشناكم فِيمَا ابتديتموه من أَحْكَام الْأَفْعَال قبل وُرُود الشَّرَائِع طَال الْكَلَام بيد أَنا نشغلكم عَن الِاعْتِصَام جملَة فَنَقُول: إِذا زعمتم أَن الْأَمر يتَضَمَّن كَون الْمَأْمُور بِهِ مرَادا على التجرد، فَكل مَا تجرد فِيهِ كَونه مرَادا أنبأ تجرد هَذَا الْوَصْف فِيهِ عَن جَوَاز تَركه لَا محَالة، وَهَذَا بَين لَا خَفَاء بِهِ. [243] ثمَّ نقُول: مقصدنا التَّوَصُّل إِلَى الرَّد عَلَيْكُم فِي مصيركم إِلَى أَن مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي النّدب فَإِذا اعترفتم على أَنفسكُم فِي أَنه لَا يَقْتَضِي التّرْك فقد صرحتم بِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي النّدب وصرفتم قصارى كلامكم إِلَى كَون / [28 / أ] الْمَأْمُور بِهِ مرَادا للْآمِر. وَنحن ننكر اشْتِرَاط ذَلِك، ولعلنا نوضحه، فَأول مَا يعتصم بِهِ فِي إبِْطَال تعويلهم على كَون الْمَأْمُور مرَادا دلَالَة تحجزهم عَن إِثْبَات أصل الْإِرَادَة فَإنَّا نقُول لَهُم: قد وافقتمونا معاشر الْمُعْتَزلَة أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُرِيد بِإِرَادَة وأحلتم كَونه مرِيدا لنَفسِهِ على مَنْهَج أصلكم فِي الْحَيّ والعالم والقادر ثمَّ لما قُلْتُمْ: إِنَّه مُرِيد بِإِرَادَة أحلتم كَونه سُبْحَانَهُ مرِيدا بِإِرَادَة قديمَة وزعمتم أَنه مُرِيد بِإِرَادَة حَادِثَة فَإِذا أوضحنا بطلَان هَذَا التَّقْسِيم الَّذِي ارتضيتموه وَقد ثَبت من مذهبكم الْمصير إِلَى بطلَان مَا سواهُ من الْأَقْسَام، فَلَا يبْقى إِلَّا نفي الْإِرَادَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 [244] فالدليل على بطلَان مَا ارتضوه أَن نقُول: قد ثَبت أَن الدَّلِيل الدَّال على الْإِرَادَة يخصص الْحَادِث بِبَعْض الصِّفَات والأوقات مَعَ تَقْدِير جَوَاز أَمْثَالهَا إبدالا عَنْهَا، فَبِمَ تنكرون على من يلزمكم فِي مثل ذَلِك فِي الْإِرَادَة نَفسهَا فَإِنَّهَا حَادِثَة متخصصة بالوجود عَن الْعَدَم فلئن سَاغَ استغناؤها فِي تخصصها عَن إِرَادَة سَاغَ اسْتغْنَاء كل مُرَاد عَن الْإِرَادَة. [245] وَمِمَّا يُوضح بطلَان مَا اختاروه أَن نقُول: الْإِرَادَة الْحَادِثَة الَّتِي أثبتموها لَا تخلون فِيهَا إِمَّا أَن تزعموا أَنَّهَا قَائِمَة بِمحل مخترع، أَو ثَابِتَة لَا بِمحل فَإِن أَنْتُم زعمتم أَنَّهَا تقوم بِذَاتِهِ فقد صرحتم بِقبُول ذَاته الْحَوَادِث، وَهَذَا مِمَّا تحاشوا مِنْهُ فَلَا فَائِدَة فِي نصب الدَّلِيل عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أحالوا قيام الْإِرَادَة بِمحل مخترع فَلم يبْق إِلَّا تثبيت الْإِرَادَة لَا فِي مَحل وَأول مَا يلْزمهُم على ذَلِك تَجْوِيز قيام إرادتنا لَا فِي مَحل، وَقد أطبقوا على اسْتِحَالَة ذَلِك وَلَا محيص لَهُم عَن هَذَا. ثمَّ نقُول: الْإِرَادَة من قبيل الْأَعْرَاض وفَاقا فَإِن سَاغَ تثبيت عرض لَا فِي مَحل سَاغَ طرد ذَلِك فِي كل الْأَعْرَاض، ويستقصى ذَلِك فِي الديانَات إِن شَاءَ الله عز وَجل. (65) فصل يلْتَحق بِمَا قدمْنَاهُ [246] وَاعْلَم، وفقك الله أَن الْأَمر لَا يَقْتَضِي حسن الْمَأْمُور بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وَذَلِكَ أَن الْأَمر الْحَقِيقِيّ الَّذِي هُوَ الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ يَقْتَضِي طَاعَة الْمَأْمُور بِهِ وَلَيْسَ فِيهِ اقْتِضَاء حسن الْمَأْمُور بِهِ، وَذَلِكَ أَن الْحسن على قَضِيَّة أصُول أهل الْحق لَيْسَ يرجع إِلَى وصف الْفِعْل وَنَفسه، لكنه يرجع إِلَى الْأَمر بالثناء على فَاعله على مَا سبق استقصاءه فِي بَاب الْحسن والقبيح، وَلَيْسَ فِي اقْتِضَاء الطَّاعَة أَمر بالثناء على الطَّاعَة، وَهُوَ الْمَعْنى بالْحسنِ لَا غير. [247] وَالَّذِي صَحَّ من مَذَاهِب الْمُعْتَزلَة مثل مَا ذَكرْنَاهُ وَمن المنتمين إِلَى الْأُصُول من يَحْكِي عَن الْمُعْتَزلَة اقْتِضَاء الْأَمر حسن الْمَأْمُور بِهِ، وحكاية ذَلِك على هَذَا الْإِطْلَاق غلط، وَذَلِكَ أَن الْأَمر قد يصدر من الْوَاحِد منا مُتَعَلقا بقبيح كالأمير يَأْمر أَتْبَاعه بالظلم الصَّرِيح وَرُبمَا / يُقيد أمره بِفعل الْقَبِيح [28 / ب] وَيُسمى ذَلِك أمرا على التَّحْقِيق، فمحصول أصل القَوْل أَن الْأَمر يَقْتَضِي كَون الْمَأْمُور بِهِ مرَادا للْآمِر ثمَّ قَالُوا بعد ذَلِك لما تعلّقت إرادتنا بالْحسنِ والقبيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 لم يدل تعلق أمرنَا بالمأمور بِهِ على حسنه، والرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُرِيد إِلَّا الْحسن وَتعلق أمره بالمأمور بِهِ يَقْتَضِي كَونه مرَادا لَهُ، ثمَّ من حَيْثُ عرفنَا أَنه لَا يُرِيد الْقَبِيح توصلنا إِلَى كَون الْمَأْمُور بِهِ حسنا فَافْهَم ذَلِك من مذاهبهم فَأَما نَحن فَلَا نصير إِلَى أَن الْأَمر بِالْفِعْلِ يَقْتَضِي حسنه وَلَكِن إِن ورد الْأَمر بالثناء لفَاعِله فَيحكم بحسنه لِلْأَمْرِ الثَّانِي. (66) فصل [248] اعْلَم، أرشدك الله أَن الْأَوَامِر الْمقيدَة باقتضاء الْإِيجَاب لَا يتَعَيَّن امتثالها إِلَّا بِأَمْر الله وَإِذا اتَّصل بِنَا أَمر من صَاحب الشَّرِيعَة أَو من الإِمَام الْقَائِم على النَّاس فامتثالنا لأوامره امْتِثَال لأمر الله تَعَالَى وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِنَّمَا يتَمَيَّز عَن أَمْثَاله وَأَضْرَابه بالمعجزة الدَّالَّة على صدقه فالمعجزة تَتَضَمَّن تَصْدِيقه وَقبُول أنبائه وتحقيقها وَلَيْسَ فِيهَا تضمن وجوب قبُول أوامره. فَيجب أَن نصدقه فِي كل مَا يخبر بِهِ وَالْأَمر الصَّادِر مِنْهُ على الاستبداد لَا يدْخلهُ الصدْق وَالْكذب، وَلَكِن نقل عَن ربه أمرا دلّت المعجزة على صدقه فِي نَقله فدلتك هَذِه الْجُمْلَة على ان الممتثل على الْوُجُوب أَمر الله عز وَجل، وَإِذا أطلق ذَلِك فِي غَيره كَانَ توسعا. (67) فصل [249] اعْلَم، أَن أَمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قديم على مَذَاهِب أهل الْحق وَمن حكم ثُبُوت الْقدَم اسْتِحَالَة وَصفه بالْحسنِ والقبح، فَإِنَّهُمَا نعتان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 يعتوران على الْحَوَادِث، إِذْ الْحسن رُبمَا يفهم مِنْهُ انتظام التَّرْتِيب فِي معرض يحلو فِي الأسماع، والأبصار، وَذَلِكَ بِمَا يتقدس عَنهُ الْكَلَام الْقَدِيم. وَقد يُطلق فِي اصْطِلَاح الْمُحَقِّقين وَالْمرَاد بِهِ مَا ورد الْأَمر بالثناء على فَاعله وَإِنَّمَا يتَحَقَّق ذَلِك فِيمَا يَتَّصِف بِكَوْنِهِ فعلا، فَكَذَلِك لَا يُوصف أَمر الْقَدِيم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِكَوْنِهِ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ أَو مُبَاحا أَو وَاجِبا أَو صَوَابا فَإِن هَذِه الصِّفَات كلهَا تتخصص بالحادثات ويجل عَنْهَا الْقَدِيم، وَأما الْأَوَامِر الْحَادِثَة الصادرة من الْمُحدثين مقدورة لَهُم فتتصف بالْحسنِ والقبح وَالْوُجُوب وَالنَّدْب وَالْإِبَاحَة، فَإِنَّهَا من أفعالهم فَيجوز أَن تتصف بِمَا تتصف بِهِ سَائِر أفعالهم الدَّاخِلَة تَحت التَّكْلِيف. [250] ثمَّ اعْلَم أَن الْمَأْمُور بِهِ قد يكون ندبا وَالْأَمر بِهِ وَاجِب فَإنَّا لَا نستبعد أَن يُوجب الرب تَعَالَى على الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام الْأَمر بالندب فَيكون الْأَمر وَاجِبا عَلَيْهِ والمأمور بِهِ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ فِي حق الْمَأْمُور. (68) القَوْل فِي حكم القَوْل ((افْعَل)) إِذا ورد / بعد الْحَظْر وَالْمَنْع [29 / أ] [251] إِذا ثَبت الْحَظْر فِي شَيْء ثمَّ يعقبه قَول: ((افْعَل)) فقد اخْتلف الْعلمَاء، فَمَا صَار إِلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي أظهر أجوبته أَن وُرُود هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 اللَّفْظ بعد تقدم الْحَظْر يَقْتَضِي الْإِبَاحَة وَإِلَى نَحْو ذَلِك صَار جمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين وَمن الْعلمَاء من فصل القَوْل فِي ذَلِك فَقَالَ: إِن ثَبت الْحَظْر ابْتِدَاء غير مُعَلّق بِسَبَب ثمَّ تعقبه لفظ الْأَمر اقْتضى لفظ الْأَمر الْوُجُوب وَإِن علق التَّحَرُّم بِسَبَب ثمَّ عقب ارْتِفَاع ذَلِك السَّبَب بِلَفْظ الْأَمر اقْتضى ذَلِك الْإِبَاحَة. وإيضاح ذَلِك بالمثال أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما حرم الصَّيْد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وعلق تَحْرِيمه بِالْإِحْرَامِ ثمَّ قَالَ عِنْد انقضائه: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} اقْتضى ذَلِك الْإِبَاحَة وَكَأن جملَة الْكَلَام تتنزل منزلَة تَعْلِيق الحكم على الْغَايَة وَمن حكم التَّعْلِيق على الْغَايَة ارْتِفَاع الحكم بارتفاعها وَهَذَا أَسد مَذْهَب لهَؤُلَاء. فَأَما الَّذِي نختاره فَهُوَ أَن الْأَمر بعد سبق الْحَظْر كالأمر من غير سبقه وَإِن فَرضنَا الْكَلَام فِي الْعبارَة فَهِيَ بعد الْحَظْر كهي من غير حظر يسْبق وَقد فرط من أصلنَا الْمصير إِلَى الْوَقْف وَهَا نَحن عَلَيْهِ فِي صُورَة التَّنَازُع كَمَا ارتضيناه فِي صُورَة الْإِطْلَاق من غير تقدم حظر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 [252] وَالدَّلِيل على فَسَاد مَا صَار إِلَيْهِ من زعم أَن لفظ الْأَمر يَقْتَضِي الْإِبَاحَة بعد الْحَظْر، أَن نقُول: تَقْدِير إِثْبَات الْإِيجَاب بعد الْحَظْر مِمَّا لَا يَسْتَحِيل كَمَا لَا يَسْتَحِيل تَقْدِير ثُبُوته ابْتِدَاء وَكَذَلِكَ القَوْل فِي النّدب وَاللَّفْظ الَّذِي فِيهِ الْكَلَام بعد الْحَظْر يضاهي اللَّفْظ الْوَارِد ابْتِدَاء فَلَا اثر للحظر السَّابِق فِي نفي الْوُجُوب تصورا وَلَا [حَظّ] فِي تَغْيِير نفس الصِّيغَة. [253] فَإِن قيل: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْحَظْر السَّابِق قرينَة تَقْتَضِي حمل اللَّفْظ المتعقب لَهُ على الْإِبَاحَة. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي قلتموه بَاطِل من أوجه: أَحدهَا: أَن نقُول: الْحَظْر كَمَا يُنَافِي الْوُجُوب فَكَذَلِك يُنَافِي الْإِبَاحَة وَمن المستحيل أَن يكون الشَّيْء قرينَة فِي ثُبُوت نقيضه، وَلَئِن سَاغَ أَن يكون قرينَة فِي الْإِبَاحَة وَهُوَ نقيضها سَاغَ أَن يكون قرينَة فِي اقْتِضَاء الْإِيجَاب فَإِن كل وَاحِد مِنْهُمَا يناقضه. وَالْجَوَاب الآخر: أَن نقُول: لَو صَحَّ مَا قلتموه للَزِمَ أَن تَقولُوا: إِذا فرط الْإِيجَاب وَسبق التحتم ثمَّ تعقبته لَفْظَة تَقْتَضِي تَحْرِيمًا لَو قدرت مُطلقَة أَنَّهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 لَا تحمل على التَّحْرِيم وَقد قُلْتُمْ جَمِيعًا أَنَّهَا مَحْمُولَة على التَّحْرِيم فَبَطل مَا قلتموه جملَة وتفصيلا. [254] فَإِن استروحوا إِلَى أَن قَالُوا: إِذا علق التَّحْرِيم بِسَبَب ثمَّ عقب ارتفاعه بِلَفْظ الْأَمر تنزل ذَلِك منزلَة تَعْلِيق الحكم على الْغَايَة قيل لَهُم: هَذِه دَعْوَى مِنْكُم فَإِن صِيغَة التَّعْلِيق / على الْغَايَة أَن يَقُول الْقَائِل: حرمت عَلَيْك [29 / ب] الصَّيْد مَا دمت محرما، فَهَذَا هُوَ التَّعْلِيق على الْغَايَة فَأَما ذكر لفظ الْأَمر بعد تَقْدِير ارْتِفَاع سَبَب فَلَيْسَ من صِيغَة التَّعْلِيق على الْغَايَة، لَا صَرِيحًا وَلَا ضمنا، ثمَّ هَذَا يَنْقَلِب عَلَيْهِم فِي وجوب سَابق تعقبه لفظ التَّحْرِيم فَإِنَّهُ لَا يحمل على نفي الْوُجُوب على التجرد بل يحمل على الْحَظْر الْمُحَقق عِنْدهم. [255] فَإِن تمسكوا بظواهر من الْكتاب مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} . وَقَوله: {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا} . فَيُقَال لَهُم زعمتم أَنه إِذا ورد لفظ على الندور والشذوذ فِي مورد مَخْصُوص وَجب طرده عُمُوما، وَأول مَا يلزمكم من ذَلِك معاشر الْقَائِلين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 بِالْعُمُومِ أَن مُعظم الْأَلْفَاظ الْمَوْضُوعَة لاستيعاب الْأَجْنَاس عنْدكُمْ وَردت مخصصة بِبَعْض المحتملات ثمَّ لم يقتض ذَلِك نفي الْعُمُوم عنْدكُمْ، وَهَذَا بَين الْبطلَان. ثمَّ مَا اعتضدوا بِهِ يُعَارضهُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} . (69) القَوْل فِي أَن الْأَمر بِالْفِعْلِ أَمر بِفعل مَا لَا يتم إِلَّا بِهِ [256] اعلموا، وفقكم الله أَن الَّذِي لَا يتم فعل الْمَأْمُور بِهِ إِلَّا بِهِ يَنْقَسِم، فَمِنْهُ مَا هُوَ من فعل الله تَعَالَى، وَلَيْسَ من قبيل مقدورات الْعباد، وَمِنْه مَا هُوَ من جنس مقدورات الْعباد. فَأَما مَا هُوَ من فعل الله تَعَالَى فينقسم قسمَيْنِ: فَمِنْهُ مَا لَا يتم فعل الْمَأْمُور بِهِ وَلَا تَركه إِلَّا بِهِ، وَمِنْه مَا لَا يتم فعل الْمَأْمُور بِهِ إِلَّا بِهِ ويتقدر تَركه دونه، فَأَما مَا لَا يحصل الْمَأْمُور بِهِ وَلَا تَركه إِلَّا بِهِ فينقسم قسمَيْنِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 أَحدهمَا: مَا يتَضَمَّن الْخُرُوج عَن تصور فهم الْخطاب فَمَا هَذَا سَبيله فيستحيل مَعَه ثُبُوت الْخطاب وَهَذَا كَمَا نحيل تَكْلِيف الْمَيِّت والجماد والبهائم، فَإِن فِيهَا مَعَاني تضَاد فهم الْخطاب. وَمن أجَاز من أَصْحَابنَا تَكْلِيف الْمحَال منع من هَذَا الْقَبِيل، فَأَما مَا لَا يُنَافِي فهم الْخطاب وَلَكِن لَا يتَحَقَّق فعل الْمَأْمُور بِهِ وَلَا تَركه إِلَّا بمحصوله وَذَلِكَ نَحْو تَكْلِيف الْعلم الَّذِي يَقع مَقْدُورًا عَن دَلِيل من غير نصب دَلِيل نَحْو تَكْلِيف الْمَشْي مَعَ عدم الْآلَة من الرجل وَغَيرهَا من الْجَوَارِح، فَمَا هَذَا سَبيله فَهَل يجوز وُرُود التَّكْلِيف بِهِ مَعَ عدم مَا هُوَ شَرط فِي وُقُوعه وَوُقُوع تَركه؟ هَذَا يَنْبَنِي على تَجْوِيز تَكْلِيف الْمحَال وَمَا لَا يُطَاق، فَمن جوزه - وَهُوَ مَذْهَب شَيخنَا رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ أصح - أجَاز ذَلِك. وَمن منع تَكْلِيف الْمحَال منع التَّكْلِيف فِي الْقَبِيل الَّذِي أومأنا إِلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 [257] فَإِن قيل: التَّوَصُّل إِلَى الْعلم الْوَاقِع عَن النّظر يتَحَقَّق تعذره من غير دَلِيل، فَمَا وَجه تَحْقِيق تعذر الْإِقْدَام على تَركه ليتَحَقَّق قَوْلكُم: إِن انْتِفَاء الدَّلِيل يَنْفِي تصور الْعلم وَتَركه؟ [30 / أ] قيل: التّرْك الْمُطلق فِي / أَحْكَام التَّكْلِيف هُوَ التّرْك الْوَاقِع مَقْدُورًا، وَترك الْعلم فِي المسؤول عَنهُ لَا يتَصَوَّر ان يَقع مَقْدُورًا، فَإِن الدَّلِيل إِذا انْتَفَى تعين ضد الْعلم اضطرارا، من غير تَقْدِير اقتدار وَاخْتِيَار، وَكَذَلِكَ فقد الْجَارِحَة الَّتِي هِيَ آلَة الْمَشْي تمنع تصور الْمَشْي وَتَركه جَمِيعًا على الْوَجْه الَّذِي جوزناه من كَون التّرْك مَقْدُورًا دَاخِلا تَحت التَّكْلِيف. وَهَذَا كَلَام فِي قسم وَاحِد وَهُوَ أَن يكون وُقُوع الْمَأْمُور بِهِ وَتَركه جَمِيعًا على حكم التَّكْلِيف مَوْقُوفا على فعل من أَفعَال الله جلّ اسْمه خَارج عَن مقدورات الْمُكَلّفين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 [258] فَأَما مَا هُوَ من فعل الله وَلَكِن فَقده يمْنَع من تصور الْمَأْمُور بِهِ، وَلَا يمْنَع تَصْوِير تَركه مَقْدُورًا مُخْتَارًا، فَهُوَ نَحْو الْقُدْرَة فَإِن عدم الْقُدْرَة على الْقيام يمْنَع تصور الْقيام مَقْدُورًا وَلَا يمْنَع تصور ضِدّه مَقْدُورًا، فَمَا هَذَا سَبيله لَا يَنْفِي التَّكْلِيف وجوازه، وَلذَلِك جَوَّزنَا وُرُود الْأَمر بِالْقيامِ فِي حَال قعُود الْمُكَلف وَإِن كَانَت الْقُدْرَة على الْقيام مفقودة فِي حَال الْقعُود فَهَذِهِ جملَة فِيمَا هُوَ من فعل الله عز وَجل مقنعة إِن شَاءَ الله عز وَجل. [259] فَأَما مَا لَا يتم وُقُوع الْمَأْمُور بِهِ موقع الْأَجْزَاء إِلَّا بِهِ وَهُوَ من فعل الْمُكَلف فَهُوَ نَحْو الطَّهَارَة وَالصَّلَاة، وَمَا ضاهاهما من الْعِبَادَة الْمَشْرُوطَة وشرائطها فَإِذا تقرر فِي الشَّرْع وجوب الصَّلَاة وتقرر توقف أَجْزَائِهَا على الطَّهَارَة فَالْأَمْر بِالصَّلَاةِ على اقْتِضَاء الْإِيجَاب يتَضَمَّن الْأَمر بِالطَّهَارَةِ لَا محَالة، وَقد أنكر ذَلِك شرذمة من الْمُعْتَزلَة ولقب المسئلة يُغْنِيك عَن نصب الدّلَالَة عَلَيْهَا، بيد أَنا نحرر مَا يُوضح الْحق فِي ذَلِك فَنَقُول: إِذا تقرر وقُوف وُقُوع الصَّلَاة موقع الْأَجْزَاء على الطَّهَارَة ثمَّ ثَبت إِيجَاب صَلَاة مجزئة وَاقعَة موقع الْأَجْزَاء فَلَا يتَقَدَّر فِي الْعقل إِيجَابهَا على هَذَا النَّعْت مَعَ تَجْوِيز الْإِبَاحَة أَو النّدب فِيمَا هُوَ مَشْرُوط فِي أَجْزَائِهِ إِذْ لَو قدر ذَلِك فِي شَرطه تداعى ذَلِك إِلَيْهِ. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن النُّطْق بِغَيْر ذَلِك مُسْتَحِيل فِي الْمَعْنى إِذْ لَو قَالَ الْقَائِل: فرضت عَلَيْك الصَّلَاة الصَّحِيحَة تحتما وتعينا وَلَا تصح مِنْك إِلَّا بِالطَّهَارَةِ وَأَنت بِالْخِيَارِ فِيهَا، كَانَ ذَلِك من متناقض الْكَلَام، فَإِذا اسْتَحَالَ تَقْدِير الْإِبَاحَة والحظر وَالنَّدْب فِي شَرط صِحَة الصَّلَاة لم يبْق إِلَّا تثبيت الْوُجُوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 [260] فَإِن قيل: أفتقولون على طرد مَا عهدتموه أَن الْأَمر بِالصَّلَاةِ أَمر بِطَلَب المَاء وانتزاحه والتسبب إِلَى تَحْصِيله بالتردد والتطلب. قيل لَهُم: هَذَا مَا نقُوله طرد لما قدمْنَاهُ، فَإِن قيل: فأوجبوا ابتياع المَاء بِثمن غال مَعَ الاقتدار. قيل لَهُم: قد ورد الشَّرْع بِنَفْي وجوب ابتياع المَاء فِي الصُّورَة الَّتِي ذكرتموها [وَورد] الشَّرْع بِأَن الصَّلَاة دون اسْتِعْمَال المَاء وَالتَّيَمُّم يقوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 مقَامه، فتبعنا مورد الشَّرْع، وَإِنَّمَا / الْمَقْصد من سِيَاق المسئلة تثبيت كَون [30 / ب] الطَّهَارَة مندرجة تَحت الْأَمر بِالصَّلَاةِ حَيْثُ يدل الشَّرْع على توقف صِحَة الصَّلَاة الْوَاجِبَة عَلَيْهَا وَهَذَا بَين لَا خَفَاء بِهِ. [261] فَإِن قيل: فأوجبوا على الْمَرْء التَّسَبُّب إِلَى جَمِيع أَسبَاب الْجُمُعَة مَعَ الاقتدار حَتَّى يلْزم من ذَلِك أَن يبتنى دَار مقَام وَيجمع فِيهَا أَرْبَعِينَ من القاطنين الموصوفين بِالصِّفَاتِ المضبوطة فِي شَرَائِط انعاقد الْجُمُعَة. قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه لَا يلْزم فَإِنَّهُ كَمَا ورد الشَّرْع بتوقيف صِحَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 الْجُمُعَة على وجوب مَا أومأتم إِلَيْهِ من الشَّرَائِط، فَكَذَلِك وُرُود الشَّرْع بتوقيف وُجُوبهَا على تحقق الشَّرَائِط فَلَو قَدرنَا أمرا بِالْجمعَةِ مُوجبا من غير شَرط ثُبُوت الشَّرَائِط مَعَ التَّنْصِيص على أَنَّهَا لَا تصح دونهَا لاقتضى الْأَمر بِالْجمعَةِ وَالْحَالة هَذِه وجوب التَّسَبُّب إِلَى كل مَا يقتدر عَلَيْهِ. [262] فَإِن قيل: أَو لَيْسَ الْفُقَهَاء قَالُوا: إِن اسْتِيعَاب أَجزَاء الْوَجْه فِي الْوضُوء لما لم يتأت إِلَّا بِأخذ أَجزَاء من الرَّأْس فَيكون إِيصَال المَاء إِلَى أَجزَاء من الرَّأْس [مَنْدُوبًا] وَإِن كَانَ لَا يتَوَصَّل إِلَى اسْتِيعَاب الْوَجْه إِلَّا بإيصال المَاء إِلَيْهَا. قُلْنَا: هَذَا مِمَّا لَا نرتضيه، وَذَلِكَ أَنا نقُول: مَا لَا يتم غسل الْوَجْه إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب فِي نَفسه وعَلى هَذَا يجْرِي فِي اسْتِصْحَاب الْإِمْسَاك عَن المفطرات فِي أَجزَاء لَطِيفَة من أول اللَّيْل فَإِنَّهُ لَا يقتدر على إِيقَاع الْفطر مَعَ أول جُزْء من اللَّيْل وَيكثر نَظَائِر ذَلِك فِي الشَّرْع، وَمن صَار إِلَى أَن ذَلِك ندب فقد صرف بِمَا لم يعرف فَإِنَّهُ إِذا رد إِلَى التَّحْقِيق، وَقيل لَهُ: إِذا لم يقتدر على الْوَاجِب إِلَّا بِهِ وَلَو قدر تَركه تعطل الْوَاجِب لَا محَالة فَمَا معنى نَعته بالتطوع وَهَذَا وَصفه، فَلَا يُبْدِي مَعَ هَذَا السُّؤَال مقَالا لَهُ تَحْقِيق. [263] فَإِن قيل: فَهَل تحدون الْأَجْزَاء الَّتِي تغسل من الرَّأْس؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 قيل: هَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى تحديده فِي مجاري الْعَادَات وَإِنَّمَا الْمرجع فِيهِ إِلَى إِطْلَاق القَوْل بِأَن مَا لَا بُد مِنْهُ فِي التَّوَصُّل إِلَى أَدَاء الْوَاجِب فَهُوَ وَاجِب وَلَا يتَقَدَّر بمبلغ تحيط بِهِ الْعبارَة وَهَذَا كَمَا أَن الرُّكُوع وَالسُّجُود وَنَحْوهمَا من أَرْكَان الصَّلَاة قد أوجب مُعظم الْعلمَاء فِيهَا الطُّمَأْنِينَة وَلَو أردنَا أَن نضبط مبلغ مَا فِي الرُّكُوع، من الحركات والسكنات لم نجد إِلَى ذَلِك طَرِيقا. [264] فَإِن قيل: إِذا اخْتَلَط محرم بِمُحَلل كالمايع الطَّاهِر يخالط المَاء النَّجس فَهَل تحكمون بِتَحْرِيم الْكل أم تحكمون بِتَحْرِيم النَّجس؟ قيل لَهُم: إِن تعذر التَّمْيِيز وتعسر الإفزاز فَالْكل محرم إطلاقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وَلَا يتخصص التَّحْرِيم بالأجزاء النَّجِسَة أَولا، وفروع الِاخْتِلَاط تطول واستقصاؤها يَلِيق بِغَيْر هَذَا الْفَنّ وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ مقنع فِي مقصدنا. (70) القَوْل فِي أَن مُطلق الْأَمر هَل يَقْتَضِي التكرارا [أم] يَقْتَضِي الْفِعْل مرّة وَاحِدَة [265] اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْأَمر إِذا تضمن اقْتِضَاء الْفِعْل وَكَانَ مُطلقًا متعريا عَن الْقَرَائِن الدَّالَّة على اقْتِضَاء التّكْرَار فَلَا يَقْتَضِي الْفِعْل إِلَّا مرّة وَاحِدَة، وتبرأ الذِّمَّة بهَا عَن مُوجب الْأَمر، وَإِلَى ذَلِك صَار الجماهير من الْفُقَهَاء. وَذهب الأقلون إِلَى أَن الْأَمر الْمُطلق فِي مورده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 يتَضَمَّن تكْرَار الِامْتِثَال فِي الْمَأْمُور بِهِ واستغراق جملَة الْأَوْقَاف على الِاتِّصَال مَعَ انتقاء الِاضْطِرَار والاعتذار. [266] وَمن صَار إِلَى حمل الْأَمر مرّة وَاحِدَة زعم ان مطلقه يَقْتَضِي الْمرة الْوَاحِدَة دون مَا عَداهَا، فَلَا تحْتَمل اللَّفْظَة الْمُطلقَة إِلَّا الْمرة الْوَاحِدَة دون مَا عَداهَا. [267] وَقَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَالَّذِي يجب أَن نرتضي أَن يُقَال إِذا ثَبت اقْتِضَاء الْفِعْل بِالْأَمر الْوَاصِل مُطلقًا فَيحمل على وجوب الِامْتِثَال مرّة وَاحِدَة وَهُوَ لَا يُنبئ عَن نفي مَا عَداهَا وسواها، وَلَكِن يتَرَدَّد الْأَمر فِي الزَّائِد على الْمَرْء الْوَاحِدَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 [268] وَهَذَا الْمَذْهَب يُخَالف مَذْهَب الْأَوَّلين فَإِنَّهُم قطعُوا بِأَن الْأَمر العاري المتجرد عَن قَرَائِن التّكْرَار يحمل على الْمرة الْوَاحِدَة وَلَا يحمل تضمن غَيرهَا، فَافْهَم ذَلِك الْفَصْل بَين الْمذَاهب. [269] وَالدَّلِيل على مَا ارْتَضَاهُ القَاضِي رَحمَه الله أَن نقُول: إِذا بدر الْأَمر وَاللَّفْظ الدَّال عَلَيْهِ من الْآمِر مُطلقًا حسن الاستفصال والاستفهام والاستعلام فِي تَكْرِير الِامْتِثَال والاكتفاء بالمرة الْوَاحِدَة فَإِن الرجل إِذا قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 لعَبْدِهِ: ((اضْرِب زيدا)) حسن مِنْهُ أَن يَقُول: ((اضربه مرّة وَاحِدَة ثمَّ أكرر عَلَيْهِ عودا على بَدْء)) ؟ فَلَمَّا حسن الِاسْتِفْهَام دلّ على أَن مُطلق اللَّفْظ لَا يُنبئ عَنهُ، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه لَو قَالَ: ((اضربه عشر مَرَّات)) ، لم يحسن مِنْهُ أَن يَقُول: ((أضربه خَمْسَة، أم عشرَة)) ؟ ويعتضد مَا ذَكرْنَاهُ بقول سراقَة بن مَالك لرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَقد اتَّصل بِهِ الْأَمر بِالْحَجِّ فَقَالَ: ((احجتنا هَذِه لِعَامِنَا أم لِلْأَبَد)) وَهَذَا استفصال مِنْهُ فِي تكْرَار الْمِثَال: فَلَو كَانَ مُطلق الْأَمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 يَقْتَضِيهِ لما خَفِي على مثل سراقَة هَذَا مَعَ مَكَانَهُ من صميم الْعَرَب العاربة، وَلما أقره رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على تردده فِي الصِّيغَة، وللخصوم أسئلة على مَا ذَكرْنَاهُ، نومي إِلَيْهَا فِي بَاب التَّرَاخِي والفور إِن شَاءَ الله عز وَجل. [270] وَقد تمسك نفاة التّكْرَار بحروف لَا يَصح معظمها وَهَا نَحن نذكرها ونتتبعها بِالنَّقْضِ فمما عولوا عَلَيْهِ أَن قَالُوا الِامْتِثَال والمخالفة فِي الْأَمر وَالنَّهْي يتنزلان منزلَة الْبر والحنث فِي الْقسم، ثمَّ نَحن نعلم أَن من قَالَ: وَالله لأصلين ثمَّ صلى مرّة وَاحِدَة برت يَمِينه، وَلم يتَوَقَّف برهَا على مَا عَداهَا، فَكَذَلِك الِامْتِثَال، وَهَذَا مَا لَا معتصم فِيهِ، فَإِن قصاراه قِيَاس الْأَمر على الْقسم. واللغة لَا تثبت قِيَاسا لما أوضحنا فِي بَابه. [31 / ب] [271] وَمِمَّا / عدوه من عمدهم قَوْلهم: الْفِعْل لَا يُنبئ عَن التّكْرَار إِذا كَانَ خَبرا، فَكَذَلِك الْأَمر الْمُطلق لَا يُنبئ عَن تَكْرِير الِامْتِثَال، وعنوا بذلك أَن من قَالَ: ((فعل فلَان)) لم يُنبئ ذَلِك عَن إقدامه على الْفِعْل استغراقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 للأوقات واللحظات. وَهَذَا يفْسد بِمَا فسد بِهِ الِاعْتِبَار بالقسم فَإِن مآله التَّمَسُّك بالمقاييس فِي اللُّغَات، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ. [272] وَمِمَّا عولوا عَلَيْهِ أَن قَالُوا لَو قَالَ الرجل لامْرَأَته: ((طَلِّقِي نَفسك)) لم تستفد إِلَّا تَطْلِيقَة وَاحِدَة، فَهَذَا أقرب مِمَّا قدمْنَاهُ فَإِن تمسك بِمَا هُوَ على صِيغَة الْأَمر، وَيدخل عَلَيْهِ شَيْء، وَهُوَ أَن يُقَال ظَاهر اللَّفْظ يَقْتَضِي التسليط على التّكْرَار وَلَكِن منع مِنْهُ دَلِيل الشَّرْع، وَمَا هَذَا أول لفظ أزيل عَن ظَاهره، وَهَذَا كَمَا أَن الرجل إِذا قَالَ: لفُلَان عَليّ ثَلَاثَة دَرَاهِم، ثمَّ فَسرهَا بالمعدودة لم يقبل مِنْهُ حَتَّى يُفَسِّرهَا بالوازنة وَإِن [كَانَ] الِاسْم ينْطَلق على المعدودة فِي حَقِيقَة اللُّغَة وَكَذَلِكَ ينْطَلق على المغشوشة، وَلَا يقبل مِنْهُ إِلَّا النقرة الْخَالِصَة، والتعويل على مَا قدمْنَاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 [273] شُبْهَة الصائرين إِلَى أَن مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي التّكْرَار فمما تمسكوا بِهِ أَن قَالُوا النَّهْي يَقْتَضِي الْكَفّ عَن المنهى عَنهُ فِي عُمُوم الْأَوْقَات فَكَذَلِك الْأَمر وَجب أَن يَقْتَضِي الِامْتِثَال عُمُوما، وقرنوا ذَلِك بِأَن قَالُوا الْأَمر فِي الْوَضع على مضادة النَّهْي فَوَجَبَ أَن يكون الْمَعْقُول من الْأَمر ضد الْمَعْقُول من النَّهْي فَإِذا فهم من النَّهْي وجوب الْكَفّ عُمُوما وَجب أَن يفهم من الْأَمر وجوب الْإِقْدَام عُمُوما. وأوضحوا ذَلِك بِأَن قَالُوا: الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ فَإِذا ثَبت كَون النَّهْي مستوعبا للأوقات فِي اقْتِضَاء الْكَفّ، وَالْأَمر يتَضَمَّن النَّهْي، فَهَذَا تَصْرِيح باقتضاء الْأَمر بالتكرار على الِاسْتِغْرَاق. [274] وَقد أجَاب أَصْحَابنَا عَن ذَلِك بأوجه مدخولة، مِنْهَا: أَن قَالُوا: نفصل بَين النَّفْي وَالْإِثْبَات فِي الْأَمر وَالنَّهْي كَمَا فصلنا بَينهمَا فِي الْقسم، وإيضاح ذَلِك أَنه قَالَ: ((وَالله لَا تفعل) فَيتَعَلَّق بره فِي يَمِينه بامتناعه عَن الْفِعْل الْمَحْلُوف عَلَيْهِ عُمُوما، وَإِذا قَالَ: ((وَالله لَأَفْعَلَنَّ)) لم يتخصص الْبر بالمداومة على الْفِعْل. وَلَا يَصح الِاعْتِمَاد على ذَلِك اسْتِدْلَالا وَلَا انفصالا لما قدمْنَاهُ ذكره. [275] وَمن أَصْحَابنَا من أجَاب عَن النَّهْي بِأَن قَالَ: لما وجدنَا النَّهْي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 فِي مُطلق اللُّغَة متضمنا كفا على الْعُمُوم حملناه عَلَيْهِ استغراقا، وَلما وجدنَا الْأَمر على خلاف ذَلِك اقْتِضَاء الِاسْتِيعَاب جرينا على الْمَعْهُود مِنْهُ. / ويتضح ذَلِك بالمثال فَإِن الرجل إِذا قَالَ لعَبْدِهِ: لَا تضرب زيدا، [32 / أ] وَلَا تدخل الدَّار، فهم من ذَلِك عِنْد الاطلاق الدُّعَاء إِلَى الْكَفّ عُمُوما، وَمثله لَو قَالَ ادخل الدَّار أَو اضْرِب زيدا، لم يفهم من ذَلِك إدمان الدُّخُول والمواظبة على الضَّرْب ففرقنا بَينهمَا رُجُوعا منا إِلَى مُقْتَضى اللُّغَة فِي الْإِطْلَاق وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن من قَالَ لعَبْدِهِ: اضْرِب زيدا، فَضَربهُ ضَرْبَة وَاحِدَة سمي مُطيعًا ممتثلا لِلْأَمْرِ وَلَو نَهَاهُ عَن ضربه فَضَربهُ مرّة وَاحِدَة سمي مُخَالفا لقضية النَّهْي، وَهَذَا مِمَّا ذكره الْأَصْحَاب ((أشبههَا وأمثلها، وَهُوَ مَدْخُول أَيْضا فَإِن التَّمَسُّك بأعيان الْأَوَامِر فِي خُصُوص الْحَوَادِث لَا يَلِيق بالتحقيق، إِذْ يسوغ للخصم ادِّعَاء الْقَرَائِن فِيهَا)) . وَلَو طرقنا هَذَا الْقَبِيل إِلَى قَوَاعِد الْأُصُول لتشاكلت الْأَقْوَال فَإِن الْأَمر قد يحمل على التّكْرَار فِي بعض موارده. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك مَا يتَمَسَّك بِهِ الْقَائِلُونَ بالتكرار من الحَدِيث الْمَشْهُور فِي الْأَمر بِضَرْب الشَّارِب فَإِنَّهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَمر أَصْحَابه بِضَرْب شَارِب الْخمر الْمَرْفُوع إِلَى مَجْلِسه فوالو عَلَيْهِ بِالضَّرْبِ حَتَّى نَهَاهُم، وَلم يفهموا من مُطلق الْأَمر الضَّرْب مرّة وَاحِدَة وَكَذَلِكَ إِذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 قَالَ الْإِنْسَان لمن دونه احفظ هَذِه الدَّابَّة وَمر الْآمِر على وَجهه فَلَو أَن الْمَأْمُور حفظهَا لَحْظَة ثمَّ سيبها لم يعد ممتثلا فالتمسك بِمَا هَذَا وَصفه حيد عَن سَبِيل التَّحْقِيق. [276] وَالْأولَى عندنَا فِي التَّقَصِّي عَمَّا عولوا عَلَيْهِ عَن النَّهْي شَيْئَانِ، أَوْمَأ إِلَيْهِمَا القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، أَحدهمَا أَن قَالَ: لست أسلم أَن النَّهْي يسْتَغْرق الْأَوْقَات بِوُجُوب الْكَفّ وَلَكِن يَقْتَضِي الِانْتِهَاء مرّة وَاحِدَة وَإِن حمل على الدَّوَام فَهُوَ بقرائن تَقْتَضِيه كَمَا حملت جملَة من الْأَوَامِر فِي الشَّرِيعَة على التّكْرَار كالأمر بِالْإِيمَان وَنَحْوه، ثمَّ لم يدل ذَلِك على اقْتِضَاء الْأَمر للتكرار وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَنه كَمَا يحسن الاستفصال على الدَّوَام والاكتفاء بالمرة الْوَاحِدَة فَكَذَلِك يحسن ذَلِك فِي النَّهْي، فَإِن الرجل إِذا قَالَ لعَبْدِهِ: ((لَا تضرب زيدا وَلَا تشتر لَحْمًا)) فَيحسن من العَبْد أَن يَقُول لَا أضربه أبدا، وَلَا أَشْتَرِي اللَّحْم سرمدا أم أكف عَنْهُمَا زَمنا؟ فَلَمَّا حسن الاستفصال، كَانَ ذَلِك على مَا قُلْنَاهُ، وَلَا يبْقى للخصوم إِلَّا التثبت بدعاوى التشنيع. ثمَّ قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَلَو قدر تَسْلِيم ذَلِك بِمَا فِيهِ مستروح فَإِن قصارى مَا فِيهِ قِيَاس الْأَمر على النَّهْي. وقضايا اللُّغَة لَا تثبت قِيَاسا لما أوضحناه فِي بَاب مُفْرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 [277] فَإِن قَالَ قايل: الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن أضداده وأعادوا مَا قدروه فِي دليلهم وراموا بذلك / الْخُرُوج والتنصل عَن تثبيت اللُّغَات [32 / ب] بِالْقِيَاسِ. فَنَقُول لَهُم: الْمصير إِلَى الْقيَاس فِي تَقْرِير هَذَا الْكَلَام ألزم لكم من طوق الْحمام للحمام. وَذَلِكَ أَنا رُبمَا لَا نسلم أَن الْأَمر بالشَّيْء يَقْتَضِي نهيا عَن ضِدّه، وَكَيف نسلم ذَلِك مَعَ مصيرنا إِلَى تَجْوِيز الْأَمر بِجمع الضدين، فَكيف يكون الْأَمر بالشَّيْء يتَضَمَّن نهيا عَن ضِدّه، ثمَّ نقُول لَهُم: لَو سلم لكم ذَلِك، فَلم زعمتم أَن مَا يَقْتَضِيهِ الْأَمر ضمنا يتنزل منزلَة مَا يُصَرح بِهِ من النَّهْي، فَهَل هُوَ إِلَّا اعْتِبَار الضمن بِالصَّرِيحِ وَهُوَ عين الْقيَاس وَالله أعلم. ثمَّ نقُول إِنَّمَا يتَضَمَّن الْأَمر بالشَّيْء النَّهْي عَن الْوَجْه الَّذِي يتَضَمَّن الِامْتِثَال فَإِذا اقْتضى الِامْتِثَال مرّة وَاحِدَة تضمن نهيا عَن التّرْك مرّة وَاحِدَة. وَهَذَا لِابْنِ مُجَاهِد رَحمَه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 [278] وَمِمَّنْ ينتمي إِلَى الْأُصُول من يفرق بَين الْأَمر وَالنَّهْي وَيَقُول الْكَفّ عَن المنهى عَنهُ لَا مشقة فِيهِ عُمُوما وَفِي امْتِثَال الْأَمر على الْعُمُوم أعظم الْمَشَقَّة وَهَذَا مَدْخُول فَإِن قضايا الْأَلْفَاظ لَا تخْتَلف بالمشقات والتيسير، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْأَمر لَو كَانَ متقيدا باقتضاء التّكْرَار حمل على مَا قدمْنَاهُ. [279] وَمِمَّا يتَمَسَّك بِهِ الْقَائِلُونَ بالتكرار أَن قَالُوا: الْأَمر إِذا ورد مقتضيا إِيجَابا يتَضَمَّن ثَلَاثَة أَشْيَاء. أَحدهَا: امْتِثَال الْأَمر. وَالثَّانِي: اعْتِقَاد الْوُجُوب فِي فعل الْمَأْمُور، وَالثَّالِث: إبرام الْعَزْم على الِامْتِثَال. ثمَّ لَا يتخصص الْعَزْم واعتقاد الْوُجُوب والإلزام بأوان وزمان، فَكَذَلِك الِامْتِثَال وَهَذَا واه جدا، وَذَلِكَ أَنا نقُول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 أما اعْتِقَاد الْإِيجَاب فمرتب على الْإِيجَاب والإبرام فَكَمَا ثبتنا أَن وجوب الِامْتِثَال عِنْد تَقْيِيد الْأَمر بِالْإِيجَابِ وَإِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الْمرة الْوَاحِدَة والمصير إِلَى أَن إدامة الِاعْتِقَاد مُتَعَيّن كَذَلِك. فَإِنَّهُ لَو اتَّصل بِهِ الْأَمر الْمُقْتَضى وجوب الِامْتِثَال واعتقد الْوُجُوب ثمَّ أخر الِامْتِثَال وذهلت نَفسه عَن الِاعْتِقَاد فَلَا يعْصى بترك الِاعْتِقَاد، فَبَطل مَا قلتموه من ادِّعَاء وجوب الِاعْتِقَاد دواما. [280] وَهَذَا الَّذِي طردناه فِي الِاعْتِقَاد يطرد فِي الْعَزْم فَإِنَّهُ لَو ذهلت نَفسه عَنهُ أَو تناساه قَاصِدا لم يعْص عندنَا إِذا سوغنا لَهُ تَأْخِير الِامْتِثَال ثمَّ مَا ذكره على الْمنْهَج الَّذِي أوردهُ يبطل عَلَيْهِم صَرِيحًا بِالْأَمر المتقيد باقتضاء الِامْتِثَال مرّة وَاحِدَة على التَّرَاخِي وَالتَّأْخِير فَإِن مَا قدروه من الِاعْتِقَاد والعزم على الِامْتِثَال يتَحَقَّق فِي هَذِه الصُّورَة مَعَ اتِّحَاد الِامْتِثَال فَبَطل مَا قَالُوهُ جملَة وتفصيلا. (71) القَوْل فِي الْأَمر الْمُعَلق بِالشّرطِ [281] اعْلَم، وفقك الله أَن الْأَمر إِذا ورد متقضيا تعلق الْمَأْمُور بِهِ بِشَرْط، فَالَّذِينَ صَارُوا إِلَى حمل مطلقه على التّكْرَار يتفقون على وجوب تكْرَار الِامْتِثَال عِنْد تكْرَار الشَّرَائِط المنعوتة فِي الْأَمر وَمن صَار إِلَى حمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 [33 / أ] الْمُطلق من الْأَمر على اقْتِضَاء الِامْتِثَال مرّة وَاحِدَة / افْتَرَقُوا فِي الْمُقَيد بِالشّرطِ فَمن صائرين إِلَى أَن الِامْتِثَال يتَكَرَّر بِتَكَرُّر الشَّرْط وَإِن كَانَ مطلقه لَا يَقْتَضِي التّكْرَار. [282] وَالَّذِي يَصح وَهُوَ مَا ارْتَضَاهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أَن الْأَمر الْمُقَيد بِالشّرطِ لَا يتَضَمَّن تَكْرِير الِامْتِثَال عِنْد تَكْرِير الشَّرْط وَإِنَّمَا الميز بَين الْمُطلق والمقيد بِالشّرطِ أَن الْمُطلق يَقْتَضِي الْأَمر من غير تخصص بِصفة وَشرط والمقيد بِالشّرطِ يَقْتَضِي الِامْتِثَال مرّة وَاحِدَة على قَضِيَّة الشَّرْط وَهُوَ على الْوَقْف فِيمَا عدا الْمرة الْوَاحِدَة. وكل مَا نصبناه دَلِيلا فِي الْأَمر الْمُطلق يدل على الْمُقَيد بِالشّرطِ وَكَذَلِكَ كل مَا عول عَلَيْهِ الْخصم فِي المسئلة الْمُتَقَدّمَة يعود فِي هَذِه وتعود وُجُوه الِانْفِصَال عَنْهَا. [283] وَمِمَّا ذَكرُوهُ فِي هَذِه المسئلة أَن قَالُوا الحكم يتَعَلَّق بِالْعِلَّةِ وَالشّرط ثمَّ إِذا علق بِالْعِلَّةِ تكَرر بتكررها فَكَذَلِك إِذا علق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 بِالشّرطِ وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ اجتراء مِنْهُم بِدَعْوَى مُجَرّدَة. فإننا نقُول لَهُم: خلافنا يؤول إِلَى صِيغَة عَرَبِيَّة، وَقَضِيَّة مفهومة، وَقد أوضحنا فِي بَاب مُفْرد منع إِثْبَات اللُّغَات بالمقاييس ومعظم كَلَامهم يتَرَدَّد على الْقيَاس فَلم قُلْتُمْ إِن الصِّيغَة المنبئة عَن التَّعْلِيل تضاهيها الصِّيغَة المنبئة عَن الشَّرْط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 فاكتف بِهَذَا الْقدر، وسنوضح الْمَقْصد فِي الْعلَّة وَالشّرط وَالْفرق بَينهمَا فِي بَاب الْقيَاس إِن شَاءَ الله عز وَجل. (72) فصل [284] فَإِن قَالَ قَائِلُونَ: مَا تعنون بِالشّرطِ الَّذِي تطلقونه فِي أصُول الشَّرْع؟ قيل: الشَّرْط كالأمر علق إِيقَاع الِامْتِثَال والكف بِهِ على وَجه [يتَعَذَّر] وُقُوعه على مُوجب الشَّرْع دونه، ثمَّ قد يكون من فعل الله تَعَالَى وَقد يكون من كسب العَبْد. فَأَما الَّذِي يكون من فعل الله عز وَجل، فنحو الْقُدْرَة، وَالصِّحَّة، وَكَمَال الْعقل، وَمَا ضاهاها من شَرَائِط للعبادات الآئلة إِلَى أَفعَال الله جلّ اسْمه. وَمِنْهَا مَا يكون من كسب الْمُكَلف كالطهارات والتوصل إِلَى أَسبَاب الاستطاعات إِلَى مَا يطول تتبعه. [285] فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا جوزتم عقلا وُرُود التَّكْلِيف بالمحال نَحْو تَقْدِير وُرُود الْأَمر بج يعتضد؟ ا؟ 0 كرناه؟ (قَول؟ 3 راقة؟ (ن؟ الك؟ رَسُول؟ " لله؟ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قد؟ " صتل؟ (هـ؟ " لأمر؟ (الْحَج؟ قالغ ((" حجتنا؟ ذه؟ عامنا؟ م؟ لأبدة) هَذَا؟ " ستفصال؟ نه؟ ي؟ كرار؟ " لمثالغ لَو؟ ان؟ طلق؟ " لأمر؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 قيل: نَحن وَإِن سوغنا تَكْلِيف الْمحَال فَلَا يجوز ذَلِك. واستقصاء الْفَصْل بَينهمَا يتَعَلَّق بالديانات، بيد أَنا نبدي مِنْهُ مَا فِيهِ غشاء فَنَقُول: لَو قدر الْأَمر مُتَعَلقا بِجمع الضدين كَانَ الْمَقْصد مِنْهُ تعجيز الْمَأْمُور وَتَحْقِيق إِلْمَام الْعقَاب بِهِ على مَا سنوضحه فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله عز وَجل، وَلم يتَحَقَّق فِي / ذَلِك اسْتِحَالَة الشَّرْط، وَهَذَا يتَبَيَّن لكل متأمل. [33 / ب] [286] وَمن أَصْحَابنَا الْقَائِلين بتكليف مَا لَا يُطَاق من جوز تَعْلِيق الْمَأْمُور بِهِ بِشَرْط مُسْتَحِيل كَمَا يجوز تعلق الْأَمر بِنَفس المستحيل. [287] وَمَا ارْتَضَاهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ ذَلِك الَّذِي قدمْنَاهُ أَولا، وَهُوَ الْأَصَح، وَوجه التَّحْقِيق فِيهِ أَن الْأَمر هُوَ اقْتِضَاء الطَّاعَة على الْجُمْلَة، فَإِن تعلق بممكن مَقْدُور أنبأ عَن اقتضائه، وَإِن تعلق بمحال فالصيغة تَقْتَضِي اقتضاءه مَعَ استحالته على الْمنْهَج الَّذِي سنقرره إِن شَاءَ الله عز وَجل. [288] فَأَما إِذا كَانَ الشَّرْط الَّذِي يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْأَمر فِي تقرره مستحيلا فيؤول الانتفاء وَعدم التَّعَذُّر إِلَى نفس الْأَمر، فَإِذا قَالَ الْقَائِل لمخاطبه: إِن تحرّك زيد فِي حَال سكونه فَقُمْ، فتقدير الْخطاب أَن ذَلِك لَا يكون فَلَا تقم فيؤول الانتفاء إِلَى نفس الْأَمر ويسلبه سمة الِاقْتِضَاء وَهَذَا بَين إِن شَاءَ الله عز وَجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 (73) فصل [289] اعْلَم أَن أَرْبَاب الْكَلَام يطلقون لفظ الشَّرْط وأرباب الشَّرَائِع يطلقونه أَيْضا وَقد تتباين بهم الْمَقَاصِد، فَإِن أَرْبَاب الْكَلَام إِذا أطْلقُوا الشَّرْط عنوا بِهِ مَا كَانَ شرطا لنَفسِهِ، حَتَّى لَا يتَقَدَّر ثُبُوته إِلَّا وَهُوَ شَرط، كالحياة لما كَانَت شرطا للأوصاف الَّتِي لَا تثبت دونهَا، وَآل ذَلِك إِلَى أَنْفسهَا وذواتها لم يتَحَقَّق ثُبُوت نَفسهَا غيرمنعوت بِكَوْنِهَا شرطا، وَكَذَلِكَ وجود الْجَوَاهِر لما كَانَ شرطا فِي ثُبُوت الْأَعْرَاض وقيامها بهَا لم يتَقَدَّر ثُبُوته إِلَّا شرطا فِي الْمَشْرُوط، وَأما أَرْبَاب الشَّرَائِع إِذا أطْلقُوا الشَّرْط فَلَا يخصصونه فِي الْإِطْلَاق بِمَا يكون شرطا لنَفسِهِ بل يطلقونه على مَا ثَبت شرطا شرعا، وَإِن لم يكن شرطا لنَفسِهِ، كالطهارة، والاستطاعة فِي الْمَنَاسِك وَمَا ضاهاها من الشَّرَائِط الْمَشْرُوعَة. (74) فصل [290] اعْلَم أَن الْفِعْل الْمُسْتَقْبل الْمَأْمُور بِهِ إِذا كَانَ مُعَلّقا على شَرط لزم أَن يكون الشَّرْط مترقبا فِي الِاسْتِقْبَال غير مَاض، وأيضاح ذَلِك بالمثال أَن الْقَائِل إِذا قَالَ لمن يخاطبه: إِذا قَامَ زيد فَاضْرِبْهُ، فقد أنبأ اللَّفْظ عَن ضرب فِي الْمَآل مَعْقُود بِشَرْط مرقوب فِي ثَانِي الْحَال، وَلَو قَالَ فِي حَال قيام زيد: إِذا قَامَ زيد فَاضْرِبْهُ كَانَ ذَلِك من متناقض الْكَلَام فِي إِرَادَة الشَّرْط والإنباء عَنهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يَعْنِي بقوله إِذا قَامَ زيد قد قَامَ زيد إِقَامَة لبَعض الْحُرُوف مقَام بعض، على بعد فِي المأخذ. ومقصدنا من هَذَا الْفَصْل تَبْيِين أَن من شَرط الشَّرْط فِي الْفِعْل الْمُسْتَقْبل تَقْدِير استقباله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 (75) القَوْل فِي الْأَمر إِذا تكَرر هَل يَقْتَضِي تكْرَار الْمَأْمُور بِهِ؟ [291] اعْلَم أَن هَذَا الْبَاب، لَا يُفِيد على مَذْهَب الصائرين إِلَى تضمن التّكْرَار فِي مُقْتَضى الْأَمر الْمُفْرد الْمُجَرّد. فَأَما الَّذِي قَالُوا: إِن الْمُطلق من الْأَمر الْمُفْرد لَا يتَضَمَّن / تكْرَار الِامْتِثَال فَلَو تكَرر الْأَمر فَمَا حكمه على [34 / أ] مَذَاهِب هَؤُلَاءِ؟ . التَّفْصِيل فِيهِ أَن يُقَال: إِن لم يَتَقَرَّر امْتِثَال معقب لِلْأَمْرِ الأول ثمَّ تلاه الْأَمر ثَانِيًا مِمَّا يُخَالف جنس الْمَأْمُور بِهِ الأول فيتضمن ذَلِك اقْتِضَاء مُجَردا بيد أَنا نستبشع فِي هَذَا الْقَبِيل إِطْلَاق القَوْل بتكرار الْأَمر، فَإِن لفظ تكْرَار الْأَمر إِنَّمَا يُطلق عِنْد اتِّحَاد الْجِنْس الْمَأْمُور بِهِ. فَأَما إِذا اخْتلف الْمَأْمُور بِهِ فالأوامر متعاقبة أَو مترادفة فَأَما أَن ينعَت بالتكرر فَفِيهِ بعد. [292] وَأما إِذا ورد الْأَمر ثَانِيًا بِمثل مَا ورد بِهِ الْأَمر الأول فَهَل يتَضَمَّن ذَلِك اقْتِضَاء مُجَردا أم يَقْتَضِي تَأْكِيدًا ام يتَوَقَّف فِيهِ، فَمَا صارإليه الْأَكْثَرُونَ أَنه يحمل على اقْتِضَاء مُجَرّد حملا على التّكْرَار عِنْد تكَرر الْأَمر فِي مورده وَذهب أَصْحَاب الْوَقْف إِلَى أَنه مُتَرَدّد بَين اقْتِضَاء التَّأْكِيد لِلْأَمْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 الأول، وَبَين تثبيت حكم على التَّجْرِيد فَيتَوَقَّف فِيهِ على مَا يتَبَيَّن بالقرائن. [293] وَقد ردد القَاضِي رَضِي الله عَنهُ جَوَابه فِي هَذِه المسئلة، وَهَا نَحن نؤمى إِلَى جوابيه ونستخير الله عز وَجل فِي ارتضاء أصَحهمَا إِن شَاءَ الله عز وَجل. فَالَّذِي صدر بِهِ الْبَاب أَن قَالَ: إِن اقْترن بمورد الْأَمر ثَانِيًا مَا ينفى حمله على التكرارفلا نحمله عَلَيْهِ. والموانع من حمله على التّكْرَار تَنْحَصِر فِي أَرْبَعَة أَقسَام: أَحدهَا: أَن يكون التّكْرَار مُمْتَنعا عقلا وَذَلِكَ نَحْو الْأَمر بِالْقَتْلِ إِذا سبق ثمَّ ورد ثَانِيًا فنعلم أَن الْقَتْل لَا يثنى فَلَا يَتَعَدَّد، وَالثَّانِي: أَن يمْتَنع التّكْرَار شرعا وَذَلِكَ نَحْو الْأَمر بِالْعِتْقِ فِي عبد معِين مَعَ الْعلم بِأَنَّهُ لَا يتَكَرَّر إِلَى غير ذَلِك من أمثلته فِي الشَّرْع، وَالثَّالِث: أَن يكون الْأَمر متضمنا اسْتِيعَاب جنس الْمَأْمُور بِهِ فَيعلم أَن الْأَمر الثَّانِي لَا يَقْتَضِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 تحديدا فَإِن الأول استغرق جملَة مَا قدر فِي الْجِنْس الْمُسَمّى، وَالرَّابِع: قرينَة حَال تقترن بِتَكَرُّر الْأَوَامِر تنبئ عَن التَّأْكِيد، وَذَلِكَ نَحْو قَول السَّيِّد لعَبْدِهِ وَقد أجهده الْعَطش: / ((اسْقِنِي)) ، فَلَيْسَ يقْصد بذلك إِلَّا تحريضه على الابتدار إِلَى السَّقْي. وَيلْحق بِهَذَا الْقَبِيل عهد سبق بَين الْآمِر والمأمور وَذَلِكَ بِأَن يَقُول: ((إِذا كررت عَلَيْك الْأَمر فِي الْفِعْل فَاعْلَم أَنِّي أُرِيد بتكرار الْأَمر الِامْتِثَال مرّة وَاحِدَة)) . فَهَذِهِ قَرَائِن التَّأْكِيد وَمَا يذكر من الْفُنُون المتنوعة يداني مَا قدمْنَاهُ، وَلَا يخرج مِنْهُ. [294] وَقَالَ القَاضِي فِي أحد جوابيه: إِن اقترنت الْأَوَامِر المتكررة بِقَرِينَة من الْقَرَائِن الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي اقْتِضَاء التَّأْكِيد فَهِيَ مَحْمُولَة عَلَيْهِ، وَإِن تعرت عَنْهَا حمل كل أَمر على اقْتِضَاء امْتِثَال مُجَرّد فيتعدد الِامْتِثَال بِتَعَدُّد الْأَوَامِر الْمُطلقَة، وَأَوْمَأَ فِي تضاعيف كَلَامه إِلَى مَا هُوَ الْأَصَح عندنَا على الأَصْل الَّذِي مهدناه فِي الْوَقْف، وَذَلِكَ أَن لَا تحمل الْأَوَامِر المتكررة على اقْتِضَاء مُجَرّد الِامْتِثَال بل يتَوَقَّف فِيهَا وَيثبت الِامْتِثَال مرّة وَاحِدَة / ويتوقف [34 / ب] فِيمَا عَداهَا، فَيجوز التّكْرَار فِي الِامْتِثَال وَيجوز قصد التَّأْكِيد. [295] فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا فرقتم بَين أَن تتصل الْأَوَامِر وتتعاقب من غير تخَلّل زمن ممتد بَين كل أَمريْن وَبَين أَن يَتَخَلَّل بَينهمَا أزمان ممتدة؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 قيل: إِن كَانَ الْكَلَام فِي الْأَوَامِر البادرة منا فَمَا ذكرتموه مُحْتَمل فَيجوز قطع القَوْل عِنْد تخَلّل الْأَزْمَان بتجديد الِامْتِثَال وَيجوز الْمصير إِلَى الْوَقْف كَمَا قدمْنَاهُ. [296] فَإِن قَالَ الْقَائِل: أَلسنا فِي أَلْفَاظ الطَّلَاق نفصل بَين الْأَلْفَاظ المتعاقبة وَبَين الْأَلْفَاظ الَّتِي تتخللها مُدَّة؟ . قُلْنَا: لَا مُعْتَبر بآحاد الْأَلْفَاظ فِي الشَّرَائِع لما قدمْنَاهُ غير مرّة، فَهَذَا فِيمَا يَبْدُو منا من الْأَوَامِر. [297] فَأَما مَا يتَّصل بِنَا من أوَامِر الله تَعَالَى فَلَا فرق بَين متعاقبها فِي الِاتِّصَال بِنَا وَبَين أَن يَتَخَلَّل فِي الِاتِّصَال بِنَا زمن، فَإِن جملَة مَا يتَّصل بِنَا كَلَام وَاحِد لَا يَتَّصِف بالتبعيض وَلذَلِك سَاغَ تَأَخّر الِاتِّصَال فِي الْمُخَصّص عَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 اللَّفْظ الَّذِي يَقْتَضِي عُمُوما، إِن قُلْنَا بِالْعُمُومِ، وَإِن كُنَّا لَا نجوز تَأْخِير الِاسْتِثْنَاء فِي كلامنا عَن الْمُسْتَثْنى. [298] وَقد اسْتدلَّ القَاضِي فِيمَا ذَكرْنَاهُ عَنهُ أَولا بِأَن قَالَ: كل أَمر من الْأَوَامِر الْمُتَّصِلَة بِنَا لَو قدر مُجَردا اقْتضى امتثالا، فَتقدم الْأَوَامِر عَلَيْهِ وتأخرها عَنهُ لَا يُوجب تَغْيِيره عَن مُقْتَضَاهُ إِذا ارْتَفَعت الْقَرَائِن الَّتِي نوعناها. [299] وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن يقدر فِي كل أَمر مُقْتَضَاهُ وَلَا ينظر إِلَى مَا سواهُ فَيحصل من مضمونها امتثالات مُتعَدِّدَة وطاعات متجددة. [300] ثمَّ وَجه على نَفسه سؤالا، وانفصل عَنهُ، وَقَالَ: ألستم قُلْتُمْ بِالْوَقْفِ فِي الصِّيغَة الْمُطلقَة وَهِي قَول الْقَائِل: ((افْعَل)) ، وصرتم فِي تثبيت ذَلِك إِلَى انقسام الْمَوَارِد وَهَذَا الْمَعْنى مُتَحَقق فِي الْأَوَامِر المتكررة فَإِن مواردها فِي التَّأْكِيد والتكرار تَنْقَسِم، وَلَئِن سَاغَ أَن يُقَال: إِنَّمَا يحمل على التَّأْكِيد لقَرِينَة، سَاغَ أَن يُقَال إِنَّمَا يحمل على التّكْرَار لقَرِينَة، فَالَّذِي دلّ عنْدكُمْ على الْوَقْف فِي كل مَا تتوقفون فِيهِ يدل عَلَيْهِ فِي التّكْرَار والتأكيد، ثمَّ تفصى عَن ذَلِك وَقَالَ: الصِّيغَة الَّتِي ذكرتموها فِي نَفسهَا مُحْتَملَة فتوقف فِي مَعْنَاهُ. وَهَذِه المسئلة مَفْرُوضَة فِيهِ إِذا كَانَ كل أَمر من الْأَوَامِر وَصِيغَة من الصِّيَغ مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ فِي إثارة ندب أَو إِيجَاب فَلَا احْتِمَال فِي كل أَمر، والأوامر السَّابِقَة لَهُ والمتأخرة عَنهُ لَا توجب تغير مُقْتَضَاهُ، فانفصلا من هَذَا الْوَجْه، فَهَذَا نِهَايَة كَلَامه وقصاراه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 [301] وَهَذَا مِمَّا فِيهِ نظر، وَذَلِكَ أَنا نقُول: مَا علينا إِلَّا أَن نحمل كل أَمر على الِاقْتِضَاء لنكون قد وفرنا على كل أَمر مُقْتَضَاهُ وَلَكِن إِذا ورد الْأَمر الثَّانِي فَيجوز تَقْدِير تعلقه بالمأمور الأول وَيجوز تَقْدِير تعلقه بمأمور مثله [35 / أ] وَلَا يستبعد تعلق أَمريْن بمأمور وَاحِد فَثَبت بِمَا ذَكرْنَاهُ أَن / الْأَمر الثَّانِي يَقْتَضِي امتثالا وَيبقى اللّبْس المفضي إِلَى الْوَقْف فِي أَنه هَل اقْتضى الِامْتِثَال الأول أَو اقْتضى مثلا لَهُ سواهُ، وَإِلَّا وضح الْوَقْف إِذا فافهمه. [302] وَإِن قيل: إِذا ثَبت كَون الْمَأْمُور الأول مَأْمُورا ثمَّ حملنَا الْأَمر الثَّانِي على مَا حملنَا عَلَيْهِ الأول فكأننا نلغيه. قُلْنَا: حاشى أَن نقُول ذَلِك، فَإِن الإلغاء هُوَ أَن يقدر الْأَمر غير مُتَعَلق بمأمور مَعَ استقلاله وَقد قَدرنَا لَهُ مَأْمُورا فَمن أَيْن أَنه غير الأول؟ فَإِن قيل: لَو حمل مَا حمل عَلَيْهِ الأول لم يتَضَمَّن إثارة فَائِدَة إِذْ الِامْتِثَال قد تقرر بِالْأولِ فَمن هَذَا الْوَجْه يلْزم إِلْغَاء الثَّانِي. وَالْجَوَاب عَن ذَلِك من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: لَو صَحَّ ذَلِك لزم اسْتِحَالَة وُرُود الْأَمر على التكرر فِيمَا يَسْتَحِيل تكرره كَالْقَتْلِ وَنَحْوه لما صرتم إِلَيْهِ من ادِّعَاء الإلغاء. فَإِن قَالُوا يُفِيد الْأَمر الثَّانِي فِيمَا صورتموه التَّأْكِيد. قيل لَهُم: اكتفوا بِمثل ذَلِك فِي الْمُتَنَازع فِيهِ وَهُوَ الْجَواب الثَّانِي، فَهَذِهِ جملَة مقنعة فِي اخْتِيَار الْوَقْف إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 (76) القَوْل فِي الْأَمر هَل يَقْتَضِي الْفَوْر أم لَا يَقْتَضِي [303] اعْلَم، وفقك الله أَن من قَالَ: إِن الْأَمر يَقْتَضِي التّكْرَار واستغراق الْأَوْقَات فَلَا يُفِيد فرض الْخلاف مَعَه فِي الْفَوْر والتراخي فَإِن من حكم استغراق الْأَوْقَات اندراج الْوَقْت المتعقب لِلْأَمْرِ تَحت قَضيته فِي الْإِيجَاب وَالنَّدْب. [304] فَأَما من زعم أَن مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي الِامْتِثَال مرّة وَاحِدَة فقد اخْتلفُوا فِي الْفَوْر والتراخي فَذَهَبت طَائِفَة من الْعلمَاء إِلَى أَن الْأَمر يَقْتَضِي الِامْتِثَال على الِاتِّصَال والفور والمبادرة بِلَا فسحة، وَلَا تَأْخِير، إِن لم يصد عَن الِامْتِثَال مَانع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وَإِلَيْهِ مَال مُعظم أَصْحَاب أبي حنيفَة رَحمَه الله. وَذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 إِن الْأَمر لَا يَقْتَضِي الِامْتِثَال فَوْرًا وَلَكِن يَقْتَضِي فعل الْمَأْمُور بِهِ فِي أَي وَقت يقدر إِمَّا معجلا وَإِمَّا مُؤَخرا. [305] ونرى الْمُحَقِّقين من الْأُصُولِيِّينَ يتسامحون فِي عبارَة لَا نرتضيها وَهِي أَن نفاة الْفَوْر يعبرون عَن أصلهم فَيَقُول: الْأَمر يَقْتَضِي التَّرَاخِي وَكَثِيرًا مَا يُطلقهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي مصنفاته وَوجه الدخل فِيهَا أَن ظَاهر قَول الْقَائِل: الْأَمر على التَّرَاخِي، يُنبئ عَن اقْتِضَاء الْأَمر تَأْخِيرا فِي الِامْتِثَال وَهَذَا مَا لم يصر إِلَيْهِ صائر وَالْأَحْسَن فِي الْعبارَة أَن نقُول: الْأَمر يَقْتَضِي الِامْتِثَال من غير تخصص بِوَقْت. [306] وَذَهَبت طَائِفَة من الواقفة إِلَى التَّوَقُّف فِي هَذَا الْبَاب فِي الْفَوْر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 والتراخي. [307] وَالْقَاضِي رَضِي الله عَنهُ قطع القَوْل بِإِبْطَال الْمصير إِلَى الوقفة فِي هَذَا الْبَاب، وأوضحه بِمَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَهُوَ الْأَصَح إِذْ الْمصير إِلَى الْوَقْف فِي هَذَا الْبَاب يعود إِلَى خرق الْإِجْمَاع أَو يلْزم ضربا من التَّنَاقُض. [35 / ب] [308] ثمَّ افْتَرَقت الواقفية فَمنهمْ / من صَار إِلَى أَنا نعلم أَنه لَو امتثل الْمَأْمُور الْأَمر فِي أول زمَان يعقبه فَيكون ممتثلا وَإِنَّمَا الْوَقْف فِي جَوَاز التَّأْخِير فِيهِ وَذَهَبت الغلاة من الوافقية إِلَى أَنا لَا نقطع القَوْل بِكَوْنِهِ ممتثلا لَو قدر مقدما على الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ فِي أول الزَّمَان فَهَذِهِ جملَة من الْمذَاهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 [309] وَالَّذِي يَصح مِنْهَا إبِْطَال الْفَوْر وَالْوَقْف وَهَا نَحن نرد على الفئتين إِن شَاءَ الله تَعَالَى. [310] فَأَما الدَّلِيل على بطلَان القَوْل بِالْوَقْفِ فَهُوَ أَن نقُول: معاشر الواقفية! هَل تعلمُونَ أَن الْمَأْمُور لَو امتثل الْأَمر فِي أول الزَّمَان تَبرأ ذمَّته أم لَا تعلمُونَ ذَلِك؟ فَإِن قُلْتُمْ: نعلم ذَلِك، فقد نقضتم أصل الْوَقْف فَإِن الَّذِي تعولون عَلَيْهِ فِي الْمصير إِلَى الْوَقْف تَجْوِيز إِضَافَة الْأَمر إِلَى كل وَقت فَإِذا عينتم الْوَقْت الأول لِلْخُرُوجِ من قَضِيَّة الْأَمر مَعَ تَجْوِيز إِضَافَة الْأَمر إِلَى كل وَقت من الْأَوْقَات الْمُسْتَقْبلَة فقد صرحتم بِإِبْطَال الْوَقْف، وَإِن أَنْتُم قُلْتُمْ أَنا لَا نعلم ذَلِك فيلزمكم مِنْهُ مَا لَا قبل لكم بِهِ، وَذَلِكَ أَن الْأمة اجْتمعت على أَن الْأَمر إِذا ورد من صَاحب الشَّرْع مقتضيا للْإِيجَاب إِمَّا بِإِطْلَاقِهِ على مَذْهَب قوم أَو مَعَ قرائنه على مَذْهَب آخَرين فَمن ابتدر إِلَى الِامْتِثَال متسارعا مَعَ اعْتِقَاد عدم التّكْرَار فيعد ممتثلا لِلْأَمْرِ، والجاحد لذَلِك ينْسب إِلَى خرق الاجماع. [311] وَالَّذِي يُوضح ذَلِك فِي إِطْلَاق الْعرف أَن من أطلق أمرا فابتدر الْمُخَاطب بِهِ إِلَى الِامْتِثَال فَإِنَّهُ يعد ممتثلا فِي أصل اللُّغَة ووضعها واستعمالها وَعرفهَا. ومنكر ذَلِك كمنكر مَا اتّفق عَلَيْهِ أَرْبَاب اللُّغَات. [312] وَمِمَّا يُوضح ذَلِك أَن نقُول: لَو سبق الْحَظْر فِي شَيْء ثمَّ ثَبت إِيجَابه من غير تعرض للأوقات فَإِذا توقفتم فِي الْوَقْت الأول لزمكم أَن تَقولُوا: لَا يجوز الْإِقْدَام على الِامْتِثَال استصحابا للحظر السَّابِق ثمَّ إِذا أفصحتم بذلك فِي الْوَقْت الأول لزمكم مثله فِي سَائِر الْأَوْقَات الْمُسْتَقْبلَة وَمِثَال ذَلِك اسْتِدَامَة الْحَظْر فِي جملَة الْأَوْقَات، فَإِن قَالُوا: إِذا كَانَ الْأَمر على مَا صورتموه فيتقيد بِالْوَقْتِ الْمعِين معجلا أَو مُؤَخرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 قيل لَهُم: أفتجوزون [التَّقْيِيد] على مَا ذكرتموه وتجوزون نفي [التَّقْيِيد] أَو توجبون [التَّقْيِيد] وَلَا توجبون انتفاءه فِي الْأَمر الَّذِي فرض الْكَلَام عَلَيْكُم فِيهِ؟ . فَإِن زعمتم أَن تقيده لَا يجب، فبمَا ألزمناكم أَو لَا لَازِما لكم، وَلَا تَجِدُونَ عَنهُ محيصا، وَإِن قُلْتُمْ أَن تَقْيِيده وَاجِبا فَهَذَا بَاطِل من وَجْهَيْن، أَحدهمَا أَن مصيركم إِلَى الْوَقْف قادكم إِلَى القَوْل بِنَفْي الْوَقْف فِي الصُّورَة الَّتِي ذَكرنَاهَا فَإِن التَّقْيِيد لَو قدر واستقل الْخطاب فَيَنْتَفِي [36 / أ] مَعَ ذَلِك القَوْل بِالْوَقْفِ. وَأَيْضًا فَإِن الْأَمر إِن قيد بالامتثال / فِيهِ بِوَقْت متراخ فَلَا تَخْلُو إِمَّا أَن توجبوا تَقْيِيد الْأَمر بِالْوَقْفِ الَّذِي سَيَأْتِي فِي أول مورد الْأَمر، أَو لَا توجبون التَّقْيِيد إِلَّا مَعَ الْوَقْت الْمعِين للامتثال، وَإِن أَنْتُم زعمتم أَنه يجب اقتران الْأَمر فِي مورده بالتقييد وَوقت الِامْتِثَال متراخ فَهَذَا مصير إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وجوب الْبَيَان قبل الْحَاجة وأصل الْوَقْف مَعَ هَذَا الأَصْل يتباعد [أَي] تبَاعد على مَا سنذكر فِي بَاب الْبَيَان وتفصيل الْمذَاهب إِن شَاءَ الله عز وَجل. وَإِن زعمتم أَن التَّقْيِيد يقارن الْوَقْت الْمعِين للامتثال. فَقبل وُرُود التَّقْيِيد يتَعَيَّن الْكَفّ لما قدمْنَاهُ من تَصْوِير تقدم الْحَظْر ثمَّ إِذا تعين الْكَفّ فَهَذَا إبِْطَال للْوَقْف ومصير إِلَى حكم معِين وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ. [313] وَمن أوضح مَا يتَمَسَّك بِهِ فِي إبِْطَال القَوْل بِالْوَقْفِ وَهُوَ صدر أدلتنا فِي إبِْطَال القَوْل بالفور وَذَلِكَ أَنا نقُول: إِذا ورد الْأَمر مُطلقًا وَلم يتَضَمَّن تَسْرِيح لَفظه وَلَا تضمنه من حَيْثُ مُقْتَضى اللَّفْظ التَّعَرُّض للأوقات وَإِنَّمَا أنبأ عَن امْتِثَال الْفِعْل. وَمَعْلُوم أَن الْأَوْقَات يُرَاد بهَا قبيل من أَفعَال الله عز وَجل على مَا خَاضَ فِيهِ الْمُحَقِّقُونَ فِي علم الديانَات، فَإِذا ثَبت أَنَّهَا من أَفعَال الله تَعَالَى وَثَبت أَن الْأَمر لَا يُنبئ عَنْهَا صَرِيحًا وَلَا ضمنا على مَا سنوضحه فِي الرَّد على الْقَائِلين بالفور بعد تمهيد ذَلِك: [توقف] مُقَارنَة الْفِعْل وقتا من الْأَوْقَات [كتوقف] مُقَارنَة الْفِعْل سَائِر أَفعَال الله تَعَالَى. فَلَو سَاغَ التَّوَقُّف فِي الْأَوْقَات سَاغَ التَّوَقُّف فِي سَائِر الْأَفْعَال حَتَّى يُقَال: إِذا ورد الْأَمر بِفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 فَيتَوَقَّف الْمَرْء فِي الِامْتِثَال حَتَّى يرد الْبَيَان بَيَان السَّمَاء فِي وَقت الِامْتِثَال متغيمة أَو مصحية والنجوم آفلة أم طالعة والأراضي مُجْدِبَة أَو مخصبة إِلَى غير ذَلِك من تبدل الصِّفَات المعنوية على سَائِر الْجَوَاهِر من أَفعَال الله عز وَجل فَإِن ركبُوا التَّوَقُّف فِي ذَلِك باهتوا وَقطع الْكَلَام عَنْهُم وَإِن لم يتوقفوا لم يَجدوا عَنْهَا محيصا. [314] وَقد طرد بعض الْأُصُولِيِّينَ عَلَيْهِم مَا ذَكرْنَاهُ فِي معرض يبْقى مَعَه ضرب من اللّبْس وَهُوَ أَنه قَالَ فِي تَحْقِيق الْمَقْصُود بالمثال: وَلَو قَدرنَا وُرُود الْأَمر بالمكث حَتَّى يُقَال امْكُث صَائِما أَو مُفطرا قَائِما أم قَاعِدا إِلَى غير ذَلِك من صِفَاته وَهَذَا لعمري سديد، وَلَكِن لَا يلْزم من ركُوبه مَا يلْزم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ركُوب مَا قدمْنَاهُ فِي أَفعَال الله تَعَالَى الْخَارِجَة عَن مقدراتنا، والأوقات مِنْهَا، فاجتزى بِمَا قدمْنَاهُ فَإِنَّهُ يحسم الْبَاب. [315] ثمَّ اعتضد بعض الْأُصُولِيِّينَ بِقصَّة بني إِسْرَائِيل فِي الْبَقَرَة الَّتِي أمروا بذبحها وادعو على الواقفية أَنهم لَو اجتزوا بِمَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْبَقَرَة أَولا لكانوا / ممتثلين وَلَكِن رُبمَا تمنع الواقفية ذَلِك فَالْأَحْسَن أَن يُقَال لَهُم: [36 / ب] فَمَا لَهُم لم يستفصلوا عَن كَيْفيَّة الذّبْح وَعَن قد الْبَقَرَة وَحدهَا وَسَائِر نعوتها، فَإِن مَا ذَكرُوهُ أقل مَا تَرَكُوهُ من صفاتها، فَبَطل الْمصير إِلَى الْوَقْف، وبقى الْكَلَام بَين الصائرين إِلَى الْفَوْر، والمبطلين الْمصير إِلَى الْفَوْر. [316] وَالدَّلِيل على بطلَان القَوْل بالفور أَن نقُول: إِذا ورد الْأَمر مقتضيا للْفِعْل فَلَيْسَ يُنبئ عَن الْوَقْت وَذَلِكَ أَن إنباء اللَّفْظ عَن الشَّيْء يَنْقَسِم إِلَى صَرِيح وَضمن وَلَا استرابة فِي تعري اللَّفْظ الْمُطلق عَن ذكر الْأَوْقَات صَرِيحًا فَإِذا بَطل ذَلِك لم يبْق للخصوم إِلَّا ادِّعَاء الضمن فَيُقَال: إِنَّمَا يَجْعَل اللَّفْظ متضمنا لشَيْء إِذا أنبأ صَرِيحه عَمَّا لَا يتم الْمُصَرّح بِهِ إِلَّا بِهِ، وَالْأَمر الْمُطلق لَيْسَ يُنبئ عَن تعْيين وَقت لَا يتم الْمَأْمُور بِهِ إِلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 بِهِ فَإِذا بَطل الْوَجْهَانِ ثَبت أَن الْأَمر لَيْسَ يُنبئ عَن وَقت معِين وَجُمْلَة الْأَوْقَات مُتَسَاوِيَة فِي مضمونه وَقد بَطل الْمصير إِلَى الْوَقْت فَلَا يبْقى إِلَّا الْمصير إِلَى الِامْتِثَال فِي وَقت كَانَ معجلا أَو مُؤَخرا وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الرجل لَو قَالَ لمخاطبه اضْرِب شخصا وَاسم الشَّخْص لَا يتَعَيَّن فِي حق وَاحِد فَأَي شخص ضرب كَانَ متمثلا، وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ اضْرِب أَو أوجبت عَلَيْك ضربا وَلم يتَعَرَّض للمضروب تَصْرِيحًا وَلَا ضمنا فَأَي مَضْرُوب ضرب كَانَ ممتثلا لِأَن اللَّفْظ عَار عَن التَّخْصِيص وَالتَّعْيِين وكل من يَتَّصِف بِكَوْنِهِ مَضْرُوبا يتساوي فِي حكم الْأَمر فاستحال تعين وَاحِد من مُقْتَضى الْأَمر فَكَذَلِك الْأَوْقَات فِي امْتِثَال الْأَمر الْمُطلق. [317] وَاعْلَم، وفقك الله أَن هَذِه الدّلَالَة لَا معترض عَلَيْهَا بيد أَنَّهَا لَا تصفو لَك إِلَّا بعد أَن تتقصى شبه الصائرين إِلَى الْفَوْر، وتتفصى عَنْهَا، فَإِنَّهُم رُبمَا يعترضون بِشَيْء من شبههم على هَذِه الدّلَالَة. [318] وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ أَيْضا فِي إبِْطَال القَوْل بالفور أَن نقُول: قَضِيَّة اللُّغَات لَا تثبت إِلَّا نقلا، والمصير إِلَى الْفَوْر مِمَّا لم ينْقل عَن أهل اللُّغَات نصا، وَلم يدل عَلَيْهِ شَيْء من كَلَامهم إِلَّا ويقابله مَا يُنَافِيهِ وَهَذَا يقرب مِمَّا قدمْنَاهُ فِي مسئلة الْوَقْف فِي الصِّيغَة الْمُطلقَة، فَإذْ تعذر الْفَوْر لم يبْق إِلَّا الِامْتِثَال الْمُجَرّد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 [319] فَإِن قيل: فَكَمَا لم ينْقل عَنْهُم الْفَوْر فَكَذَا لم ينْقل عَنْهُم التَّرَاخِي. فَقيل لَهُم: وَنحن لَا نحمل الْأَمر على التَّرَاخِي على التَّعْيِين بيد أَنا نقُول: الْمَفْهُوم من اللَّفْظ الِامْتِثَال الْمُجَرّد فِي أَي وَقت كَانَ، وَهَذَا وَاضح لَا ريب فِيهِ. [320] وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ أَن نقُول إِذا بدر الْأَمر الْمُطلق حسن من الْمَأْمُور الاستفصال فِي التَّأْخِير والاستعجال وَهَذَا من / أوضح الْبَرَاهِين على [37 / أ] بطلَان تعين الْفَوْر فِي مُقْتَضى اللَّفْظ وَقد أوضحنا هَذِه الدّلَالَة فِي غير مسئلة. [321] وَمن أقوى مَا يسْتَدلّ بِهِ مَا أومأنا إِلَيْهِ فِي الرَّد على الواقفية، وَنحن نزيده إيضاحا فِي إبِْطَال الْفَوْر، فَنَقُول: لَيْسَ الْمَعْنى بِوُقُوع الْفِعْل فِي الْوَقْت إِلَّا كَون الْوَقْت ظرفا للْفِعْل فَإِن الْأَوْقَات من أَفعَال الله عز وَجل وَهِي تؤول فِي محصول القَوْل إِلَى حركات الْفلك فَلَا تعلق لَهَا بالأفعال فَلَا تعلق للأفعال بهَا، فَكَمَا لَا يتَضَمَّن مُطلق الْأَمر لتعريه عَن التَّعَرُّض لسَائِر أَفعَال الله تَصْرِيحًا وضمنا أَن يكون الْفِعْل مُقَارنًا لشَيْء مِنْهَا تعيينا، فَكَذَلِك يَنْبَغِي أَن لَا تَقْتَضِي مقارنته بِشَيْء من الْأَوْقَات تعيينا. [322] وَتمسك بعض أَصْحَابنَا بِمَا قدمْنَاهُ فِي مسئلة التّكْرَار عَن الْبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 والحنث فَقَالُوا: إِذا قَالَ الْقَائِل: وَالله لأصلين لم يتخصص بره بِالْوَقْتِ المتعقب ليمينه فَكَذَلِك الِامْتِثَال. واعتضدوا أَيْضا بالألفاظ المنبئة عَن الْأَفْعَال فِي الِاسْتِقْبَال نَحْو قَوْلك، سيقوم زيد أَو يقوم زيد، فَإِن هَذَا لَا يُنبئ عَن وَقت معِين وَالْأولَى الِاحْتِرَاز بِمَا قدمْنَاهُ فَإِن الْمصير إِلَى مثل ذَلِك يلْزم تثبيت اللُّغَات بِالْقِيَاسِ. [323] شبه الْقَائِلين بالفور: من عمدهم فِي إِثْبَات الْفَوْر أَن قَالُوا: إِذا ورد الْأَمر مُطلقًا وجوزتم تَأْخِير الِامْتِثَال وَلم توجبوا المسارعة والابتدار إِلَى الِامْتِثَال فِي أول وَقت الْإِمْكَان، وزعمتم أَن الْأَوْقَات مُتَسَاوِيَة فَإِذا اخترم الْمُكَلف لم يخل إِمَّا أَن تَقولُوا: لَا يعْصى بِالتّرْكِ مَعَ سبق الْإِمْكَان مِنْهُ، وَإِمَّا أَن تَقولُوا يعْصى بِالتّرْكِ، فَإِن قُلْتُمْ إِنَّه لَا يعْصى بِالتّرْكِ فقد صرحتم بِنَفْي الْوُجُوب وألحقتم الْوَاجِب فِي هَذِه الصُّورَة بالنفل، فَإِن زعمتم أَنه يعْصى فَلَا تخلون إِمَّا أَن تَقولُوا يعْصى بِالتَّأْخِيرِ عَن أول وَقت الْإِمْكَان [أَو لَا] فَإِن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 قُلْتُمْ يعْصى بِالتَّأْخِيرِ عَن أول وَقت الْإِمْكَان فَهَذَا التَّصْرِيح مِنْكُم بالفور وَإِن قُلْتُمْ يعْصى بِالتَّأْخِيرِ عَن أَوسط الْوَقْت فَهَذَا محَال فَإِنَّكُم جوزتم لَهُ التَّأْخِير عَنْهَا وفسحتم ذَلِك [لَهُ] أَولا، فيستحيل مِنْكُم ان تعصوه آخرا، وَإِن زعمتم أَن آخر وَقت الْإِمْكَان يتَعَيَّن للامتثال فقد أبطلتم كل مَا عَلَيْهِ عولتم فَإِن معولكم على تَسَاوِي الْأَوْقَات وَعدم إنباء اللَّفْظ عَن تعْيين شَيْء مِنْهَا وَالْوَقْت الآخر كَالَّذي تقدمه من الْأَوْقَات، قَالُوا فَإِذا بطلت هَذِه الْأَقْسَام لم يبْق إِلَّا الْمصير إِلَى الْفَوْر. [324] وَهَذَا من أعظم شبه الْقَوْم، وَقد زل فِي الِانْفِصَال عَنْهَا مُعظم الصائرين إِلَى التَّرَاخِي، فطريقنا ان نقرر عَلَيْهِم من قَوْلهم فِي تقسيمهم مَا يقارن الصِّحَّة، ونعترض على مَوضِع الْبطلَان مِنْهُ. فَأَما مَا ذَكرُوهُ فِي تضاعيف كَلَامهم من بطلَان القَوْل بِأَنَّهُ يعْصى بِالتَّأْخِيرِ عَن أَوسط الْوَقْت فَهُوَ على مَا ذَكرُوهُ وَكَذَلِكَ لَا نحكم / عَلَيْهِ بالمعصية بِالتَّأْخِيرِ عَن أول الْوَقْت [37 / ب] وَلَا نقُول أَيْضا أَن آخر وَقت الْإِمْكَان يتَعَيَّن للامتثال عَن التَّضْيِيق حَتَّى نعصيه فِي التّرْك فَلَا يبْقى مِمَّا قسموه إِلَّا قَوْلهم إِنَّه إِذا لم يعْص الْتحق الْمَأْمُور بِهِ بالنوافل فَيُقَال لَيْسَ الْأَمر على مَا ذكرتموه وَذَلِكَ أَن النَّفْل لَا يكون نفلا لجَوَاز تَركه إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ الْمُبَاح نفلا وَلَا يكون النَّفْل نفلا لكَون فعله خيرا من تَركه مَعَ جَوَاز تَركه فَإِن الْفَرْض الَّذِي وسع وقته كَالصَّلَاةِ المخصصة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 بِوَقْت مضبوط الأول وَالْآخر يجوز تَأْخِيرهَا عَن أول الْوَقْت، والابتدار إِلَيْهَا خير فِي أول الْوَقْت وَيجوز تَركهَا فِيهِ، ثمَّ لَا يتَضَمَّن ذَلِك نفي الْوُجُوب عَن الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت لما سنقرره إِن شَاءَ الله عز وَجل بعد ذَلِك. [325] فَإِن قيل: فَبِمَ ينْفَصل النَّفْل عَن الْفَرْض إِذا، قيل لَهُم ينْفَصل النَّفْل عَن الْفَرْض بأَشْيَاء نذكرها فِي موَاضعهَا وَلَكِن نذْكر هُنَا مَا يَقع بِهِ الِاسْتِقْلَال فَنَقُول النَّفْل يجوز تَركه أبدا إِلَى غير بدل، وَالْفَرْض لَا يجوز تَركه إِلَّا إِلَى بدل إِن كَانَ مُطلقًا غير مضيق. [326] فَإِن قيل: إِذا أخر الْحَج مثلا أَو الْكَفَّارَة حَتَّى اخترمته الْمنية فَمَا بدل الْكَفَّارَة المتروكة؟ قيل لَهُم: الْأَوْقَات لعصي، فَكَذَلِك لَو تَركهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وَترك الْعَزْم على الِامْتِثَال فنعصيه، فقد افترق النَّفْل وَالْفَرْض فِي ذَلِك فَإِن تَارِك النَّفْل لَا يعْصى مَعَ ترك الْعَزْم وتارك الْفَرْض الْمُطلق يعْصى مَعَ ترك الْعَزْم. [327] وَكَذَلِكَ يُفَارق الْفَرْض النَّفْل فِي أَن تَارِك الْفَرْض [لَا] يعْصى بِتَرْكِهِ إِذا أَتَى بِبَدَل عَنهُ وَهُوَ الْعَزْم أَو أَتَى بِمثلِهِ فِي مُسْتَقْبل الْأَوْقَات، فانتفاء الْمعْصِيَة عَنهُ مَشْرُوط بِبَدَلِهِ وَانْتِفَاء الْمعْصِيَة عَن تَارِك النَّفْل غير مَشْرُوط بِشَيْء من ذَلِك. [328] فَإِن قيل: فَمَا معولكم فِي ذَلِك كل مَا قدمتموه على الاعتضاد بِمُطلق اللَّفْظ مَعَ الْمصير إِلَى أَنه لَا يُنبئ عَن الْوَقْت صَرِيحًا وَلَا ضمنا ثمَّ أثبتم الْعَزْم وَلَا يُنبئ اللَّفْظ عَنهُ فلئن جَازَ تثبيت الْعَزْم مَعَ أَن اللَّفْظ الْمُطلق لَا يُنبئ عَنهُ جَازَ تعين الْوَقْت الأول مَعَ أَن اللَّفْظ لَا يُنبئ عَنهُ وَهَذَا أصعب سُؤال للْقَوْم. وَالْجَوَاب عَنهُ أَن نقُول: اعلموا أَن وجوب الْعَزْم لَا يتلَقَّى من مُطلق الْأَمر وَلَكِن ثَبت ذَلِك بِدلَالَة أُخْرَى فَإِذا ثَبت ذَلِك وتهيأ رتبنا عَلَيْهِ مَا يعضده وَقد أوضحنا بِمَا سبق من الْأَدِلَّة تَسَاوِي الْأَوْقَات وَفِي ثُبُوت تساويها فِي مُقْتَضى اللَّفْظ منع تعْيين وَاحِد مِنْهَا وَلَيْسَ من شَرط تَسَاوِي الْأَوْقَات منع وَاجِب آخر سوى مَا انطوى عَلَيْهِ الْأَمر بِدلَالَة أُخْرَى تدل عَلَيْهِ، فمحصول القَوْل فِي ذَلِك إِذا يؤول إِلَى أَن تعْيين الْوَقْت يَنْفِي تَسَاوِي الْأَوْقَات وَفِي ثُبُوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 [38 / أ] تساويها فِي مُقْتَضى اللَّفْظ منع تعين / وَاحِد مِنْهَا وَلَيْسَ من شَرط تَسَاوِي الْأَوْقَات منع وَاجِب آخر سوى مَا انطوى عَلَيْهِ الْأَمر بِدلَالَة أُخْرَى تدل عَلَيْهِ، فمحصول القَوْل فِي ذَلِك إِذا يؤول إِلَى أَن تعْيين الْوَقْت يَنْفِي تَسَاوِي الْأَوْقَات وَمُطلق الْأَمر يتَضَمَّن تساويها فَفِي التَّعْيِين إبِْطَال قَضِيَّة الْأَمر وَلَيْسَ فِي إِيجَاب الْعَزْم مَا يبطل قَضِيَّة الْأَمر صَرِيحًا وَلَا ضمنا وَهَذَا بَين، فَتَأَمّله. [329] فَإِن قيل: ففصلوا مذهبكم فِي الْعَزْم وَانْتِفَاء الْمعْصِيَة وثبوتها. قُلْنَا سنفرد فِي ذَلِك فصلا بعد ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى، ثمَّ نقُول: كل مَا ذكرتموه يبطل عَلَيْكُم بِمَا إِذا قَالَ الْقَائِل الْمُخَاطب للمخاطب: ألزمتك وأوجبت عَلَيْك ضربا أَو ضرب شخص فالأشخاص تتساوى فِي حكم الضَّرْب الْمَأْمُور بِهِ فَمَا من شخص يتلقاه إِلَّا وَله أَن يتعداه. ثمَّ نقُول فَمَا قَوْلكُم فِيهِ؟ مَتى يعْصى مَعَ تَسَاوِي الْأَشْخَاص؟ فقولنا فِي تَسَاوِي الْأَوْقَات كقولكم فِي تَسَاوِي أَوْصَاف المضروبين. [330] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم وتداني مَا قدمْنَاهُ وَهِي أَنهم قَالُوا إِذا ورد الْأَمر مُطلقًا لم يخل من ثَلَاثَة أَحْوَال: أما أَن يَقْتَضِي تكْرَار الِامْتِثَال أَو يَقْتَضِي الِامْتِثَال على الِاتِّحَاد من غير بدل أَو يَقْتَضِي اتِّحَاد الِامْتِثَال مَعَ تَقْدِير بدل. فَإِن اقْتضى التّكْرَار واستيعاب الْأَوْقَات فَمن ضَرُورَة ذَلِك الذّهاب إِلَى الْفَوْر. وَإِن اقْتضى فعلا وَلم يتَضَمَّن بَدَلا ثمَّ تَسَاوَت الْأَوْقَات فِيهِ وَجَاز تَأْخِيرهَا فَفِي نفي ذَلِك تَصْرِيح بإلحاقها بالنوافل وَإِن اقْتضى فعلا وبدلا كَانَ [محالا] فَإِن اللَّفْظ لَا يُنبئ عَن الْبَدَل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 قُلْنَا: أما التّكْرَار فَلَا نصير إِلَيْهِ وَلَا نَذْهَب أَيْضا إِلَى أَن [الْبَدَل] يثبت بِمُقْتَضى اللَّفْظ وَلَكِن يثبت بِاللَّفْظِ الِامْتِثَال الْمُجَرّد ثمَّ يثبت بِدلَالَة أُخْرَى الْعَزْم الَّذِي قدرناه بَدَلا وَفِيمَا قدمْنَاهُ غنية إِن شَاءَ الله تَعَالَى. [331] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم وَهِي أَنهم قَالُوا الْأَمر الْمُطلق يَقْتَضِي الِامْتِثَال مرّة وَاحِدَة واعتقاد الْوُجُوب والعزم، ثمَّ الْعَزْم واعتقاد الْوُجُوب يثبتان على الْفَوْر وَلَا فسحة فِي تأخيرهما عَن أول وَقت الْإِمْكَان فَكَذَلِك الِامْتِثَال وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ بَاطِل من أوجه: أَحدهَا: أَن مِمَّا عولوا عَلَيْهِ الْعَزْم وَهُوَ لَا يَتَقَرَّر على مُقْتَضى أصلهم وَذَلِكَ أَن الْعَزْم إِنَّمَا يتَحَقَّق مُتَعَلقا بِشَيْء فِي الثَّانِي بِشَيْء، فَإِن ادعوا الِامْتِثَال متعقبا لمورد الْأَمر لم يتَصَوَّر الْعَزْم عَلَيْهِ مُقَارنًا لوُجُوده. وَأما الِاعْتِقَاد فَلَا يَصح التَّمَسُّك بِهِ من أوجه: أَحدهَا أَنه على التّكْرَار وَلَا يتخصص بالكرة الْوَاحِدَة والامتثال يتخصص بالكرة الْوَاحِدَة فَلَمَّا تكَرر الِاعْتِقَاد استغرق جملَة أَوْقَات الْإِمْكَان. وَالْوَجْه الآخر فِي الِانْفِصَال أَن تَقول نَحن لَا نوجب اعْتِقَاد الْوُجُوب من قَضِيَّة الْأَمر، فَإِن الْأَمر لَا يُنبئ إِلَّا عَن الِامْتِثَال وَإِنَّمَا ثبتنا وجوب / اعْتِقَاد الْوُجُوب بِدلَالَة أُخْرَى [38 / ب] وَإِنَّمَا خلافنا مَعكُمْ فِي مُوجب اللَّفْظ، فَلَا يَصح أَن يثبت لموجب اللَّفْظ مَا لَا يتلَقَّى مِنْهُ وَهَذَا وَاضح فِي بطلَان مَا قَالُوهُ. ثمَّ نقُول: لَو ورد الْأَمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 الْمُقْتَضِي للْإِيجَاب مُقَيّدا [بتجويز] تراخي الِامْتِثَال عَن مورد الْأَمر فاعتقاد الْوُجُوب عِنْد دُخُول وَقت الِامْتِثَال يتعقب الْأَمر وَإِن كَانَ الِامْتِثَال لَا يتعقبه، فَبَان افتراقهما. ثمَّ وَجه التَّحْقِيق فِي الِاعْتِقَاد أَن نقُول: مَا أطلقتموه من اعْتِقَاد الْوُجُوب لَا يزِيد على الْعلم بِالْوُجُوب وَإِذا أَمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عباده بِشَيْء، فَمن شَرط توجه الْأَمر عَلَيْهِم علمهمْ بِالْأَمر ومورده أَو تمكنهم من الْعلم بِهِ، إِذْ لَا يتَحَقَّق الْإِقْدَام على الِامْتِثَال إِلَّا مَعَ الْعلم بِمَا كلف، وَإِنَّا قد قُلْنَا: إِن مَا يضاد الْعلم يُنَافِي تحقق التَّكْلِيف فَإِذا ثَبت ذَلِك فَمَا دَامَ ذَاكِرًا لِلْأَمْرِ مستجمعا لشرائط الْخطاب فَلَا يتَصَوَّر خلوه عَن الْعلم بِالْأَمر الْمُوجب وَلَو ذهل عَنهُ فِي غفلاته فَلَا نؤثمه، فَتبين من ذَلِك أَن مَا تمسكوا بِهِ من الِاعْتِقَاد وَهُوَ نفس الْعلم بورود الْأَمر على صفته. وَإِذا احطت علما بذلك سَقَطت عصمتهم. [332] وحقق القَاضِي ذَلِك بِأَن قَالَ إِذا توجه الْأَمر على الْمُكَلف فمقتضاه وَإِن لم يكن أَخْبَار الْإِخْبَار عَن وجوب الْفِعْل على الْمُكَلف وَقد [ثَبت] بِأَصْل الْإِيمَان إدامة تَصْدِيق الرب تَعَالَى. فَمن هَذَا الْوَجْه يَدُوم عَلَيْهِ اعْتِقَاد الْوُجُوب. [333] وَمِمَّا عولوا عَلَيْهِ فِي المسئلة النَّهْي، فَإِنَّهُ يتَضَمَّن هَذَا الْكَفّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 عَن الْمنْهِي عَنهُ على الْفَوْر وكل مَا قدمْنَاهُ من طَرِيق الِانْفِصَال فِي مسئلة التّكْرَار يعود فِي المسئلة غير أَنِّي نقلت عَن القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي المسئلة الأولى إِجْرَاء النَّهْي مجْرى الْأَمر من أَنه لَا يَقْتَضِي التّكْرَار وَلم أر لَهُ فِي مسئلة الْفَوْر نصا وَالْأولَى إجراؤه على الْمَعْهُود من قَول الْأَصْحَاب وَهُوَ أَنه يتَضَمَّن الْكَفّ على الْفَوْر. [334] وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَن قَالُوا: إِذا زعمتم أَن الْأَمر يَقْتَضِي الِامْتِثَال مرّة وَاحِدَة فَهُوَ على التَّقْدِير فعل وَاحِد ثمَّ الْفِعْل الْمُقدر فِي أول الزَّمَان عَن الْفِعْل الْمُقدر فِي مُسْتَقْبل الْأَوْقَات فَيبْطل الْمصير إِلَى جَوَاز التَّرَاخِي القَوْل باتحاد الْفِعْل فِي الِامْتِثَال، ويؤول محصول الْكَلَام إِلَى أَن كل فعل من الْأَفْعَال المتقدرة الْوَاقِعَة فِي الْأَوْقَات المتعاقبة مَأْمُور بِهِ وَهَذَا يتناقض لِاتِّحَاد الِامْتِثَال، قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه زلل وَذَلِكَ أَنا لَا نقُول: أَن الِامْتِثَال فعل معِين وَلَكِن إِن حصل الِامْتِثَال فِي أول وَقت الْإِمْكَان فَذَلِك ... الأخرا فالفعل المتماثل لَهُ تَقْدِير فِي أول الْوَقْت الثَّانِي يقوم مقَامه فَكَانَ الْمَأْمُور وَاحِدًا من الْأَفْعَال المتماثلة المتغايرة المتقارنة للأوقات لَا بِعَيْنِه وَلَا يستبعد تثبيت الْإِيجَاب على هَذَا السَّبِيل، وَهَذَا / كَمَا نقُول فِي كَفَّارَة [39 / أ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 الْيَمين على مَا سنعقد فِيهَا بَابا إِن شَاءَ الله عز وَجل. ثمَّ مَا ذَكرُوهُ يبطل عَلَيْهِم بِمَا لَو قَالَ: اضْرِب شخصا فَإِن كل ضرب يقدر صادرا مِنْهُ فِي مَضْرُوب فَهُوَ غيرالضرب الَّذِي يقدر فِي مَضْرُوب آخر. وَقَوْلنَا فِي الْأَوْقَات كَقَوْلِهِم فِي المضروبين. [335] فَإِن قيل: فَإِذا ورد الْأَمر مُطلقًا مُجَردا فَلَيْسَ فِي ظَاهره وفحواه التَّخْيِير بَين أَشْيَاء، فَإِذا زعمتهم أَن الْمَأْمُور أحد الْأَفْعَال وَهُوَ مُخَيّر فِيهَا فقد تلقيتم التَّخْيِير من مُطلق الْأَمر. فَيُقَال لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه ينعكس عَلَيْكُم فِي التَّعْيِين وَذَلِكَ أَن الْأَمر الْمُطلق لَيْسَ فِي ظَاهره تعرض لفور فَإِذا حملتموه عَلَيْهِ فقد تعديتم مُوجب اللَّفْظ، ثمَّ نقُول لَهُم: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْأَمر يُنبئ عَن التَّخْيِير الَّذِي استبعدتموه وَذَلِكَ أَنه إِذا ثَبت أَن الْأَمر الْمُطلق لَا يتَضَمَّن تَخْصِيص الِامْتِثَال بِوَقْت فَكَانَ تَقْدِيره: امتثلوا الْأَمر فِي أَي وَقت شِئْتُم، ثمَّ لَا يتَحَقَّق ذَلِك إِلَّا فِي أَفعَال مُتَغَايِرَة كَمَا صورتموه فَتبين بذلك إنباء الْأَمر عَمَّا استنكرتموه - فَهَذِهِ عمدهم يتَوَصَّل بهَا إِلَى أغيارها. (77) فصل [336] فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا قُلْتُمْ أَن الْأَمر بِالْحَجِّ مثلا على التَّرَاخِي وزعمتم أَن الْأَمر بالكفارات الَّتِي تجب عَن أَسبَاب لَا تعدِي فِيهَا على التَّرَاخِي فَمَا تَفْصِيل مذهبكم فِي تَركهَا المعقب سمة الْعِصْيَان. قيل لَهُم: هَذِه مسئلة خَاضَ فِيهَا الْفُقَهَاء، وَنحن نومئ إِلَى مذاهبهم ثمَّ نوثر الصَّحِيح مِنْهَا فَمن الْفُقَهَاء من صَار إِلَى أَن من تمكن من الْحَج بُرْهَة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 دهره ثمَّ اخترمته الْمنية وَلم يحجّ فَتبين لَهُ أَنه مَاتَ عَاصِيا، وتتسلط الْمعْصِيَة على أول وَقت الْإِمْكَان إِلَى الاخترام، وَمِنْهُم من قَالَ نعصيه ونخصص ذَلِك بآخر سني الْإِمْكَان وَكَذَلِكَ نخصص الْمعْصِيَة فِي الْكَفَّارَات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 بآخر وَقت الْإِمْكَان من ملتزمها. وَصَارَ مُعظم الْفُقَهَاء إِلَى أَن من أخر الصَّلَاة من أول وَقتهَا إِلَى وسط الْوَقْت ثمَّ اخترم فَلَا نعصيه أصلا بِخِلَاف مَا علق وُجُوبه بمدى الْعُمر وَقد صَار بعض من لَا يؤبه لَهُ من المنتمين إِلَى الْفُقَهَاء إِلَى أَنه ينتسب إِلَى الْمعْصِيَة فِي هَذِه المسئلة أَيْضا وَهَذَا بعيد جدا فَإِن من زعم أَن من دخل عَلَيْهِ أول وَقت الصَّلَاة وانقضى عَلَيْهِ مِنْهُ مَا يسع قدر الْفَرْض ثمَّ اخترم فَيَمُوت عَاصِيا فقد اقْترب من خرق الْإِجْمَاع. وَأما الَّذِي يرتضيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 الْمُحَقِّقُونَ من الْأُصُولِيِّينَ فَهُوَ أَنا إِذا سوغنا لَهُ التَّأْخِير فِي الْوَاجِبَات الَّتِي قدمناها فأخرها وَهُوَ عازم على الْإِقْدَام عَلَيْهَا فِي مُسْتَقْبل الْأَوْقَات فَلَا نعصيه أصلا، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنا إِذا جَوَّزنَا لَهُ التَّأْخِير فَأخر وَترك مَا يسوغ لَهُ تَركه لبدله وَهُوَ الْعَزْم فالمصير إِلَى التعصية بِسَبَب تَأْخِير مجوزا شرعا محَال. [337] فَإِن قَالَ قَائِل: فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنه إِنَّمَا جوز لَهُ التَّأْخِير بِشَرْط سَلامَة الْعَاقِبَة واستشهدوا على ذَلِك بالتعزير فَإِن الزَّوْج لَهُ أَن يُعَزّر زَوجته / فَلَو أدّى إِلَى تلفهَا تبين لنا وجوب الضَّمَان على الزَّوْج وَإِن [39 / ب] كُنَّا قد جَوَّزنَا لَهُ الْإِقْدَام على التَّعْزِير أَولا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وَاعْلَم أَن هَذَا لَا تَحْقِيق وَرَاءه وَذَلِكَ أَنا نقُول: إِذا زعمتم معاشر الْفُقَهَاء أَن تَأْخِير الْكَفَّارَات سَائِغ فَلَا تخلون أما أَن تزعموا أَن الانتساب إِلَى المعصيبة مُعَلّق على مَا يُحِيط الْمُكَلف بِهِ علما، أَو تزعموا أَنه مُعَلّق على مَا لَا يُحِيط علمه بِهِ، وَلَا يتَوَصَّل إِلَى مَعْرفَته، فَإِن زعمتم أَن الانتساب إِلَى الْمعْصِيَة مُعَلّق على مَا لَا يتَحَقَّق من الْمُكَلف علمه، فَهَذَا محَال، فَإِن من شَرط ثُبُوت قضايا التَّكْلِيف تمكن الْمُكَلف من الْعلم بالمندوبات والواجبات، وَهَذَا بَاطِل أطبق عَلَيْهِ الكافة، وَفِي تَجْوِيز التَّكْلِيف مَعَ اسْتِحَالَة الْوُصُول إِلَى الْعلم بحقيقته مصير إِلَى تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق على مَا قدرناه فِي غير مَوضِع وَإِن زعمتم أَن الْمعْصِيَة تستند إِلَى مَا يُعلمهُ الْمُكَلف فَهَذَا يُنَاقض الأَصْل الَّذِي أسستموه، وَذَلِكَ أَنكُمْ زعمتم أَن مُدَّة الْعُمر وَقت لِلْحَجِّ وَأَدَاء الْكَفَّارَات فَلَو تعذر من ملتزمها الْإِقْدَام عَلَيْهَا على مَوته فَلَا ينْسب إِلَى الْمعْصِيَة. وانقراض الْعُمر وانتهاؤه مِمَّا لَا يسْتَدرك، وَهَذَا وَاضح فِي بطلَان مَا قَالُوهُ، ونستدل على جَمَاهِير الْفُقَهَاء بالاخترام فِي أَوسط وَقت الصَّلَاة [المؤقتة] وَلَا يَسْتَقِيم فِي ذَلِك فصل سديد وَلَا يرتكبه إِلَّا متجاهل. [338] فَإِن قيل: فَمَا الميز بَين النَّوَافِل والواجبات؟ ، قُلْنَا: قد سبق القَوْل فِيهِ فِي أثْنَاء مسئلة الْفَوْر وسنزيده إيضاحا إِن شَاءَ الله عز وَجل فِي بَاب ثُبُوت وَاجِب من جمل لَا بِعَيْنِه. [339] فَإِن قيل: فَهَل للْوَاجِب على التَّرَاخِي وَقت تحكمون فِيهِ بِوُجُوبِهِ تضيقا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 قيل: قد صَار بعض الْعلمَاء إِلَى أَن من ألمت بِهِ الآلام، وحس من نَفسه بِالْمَوْتِ، وَغلب ذَلِك على ظَنّه، فَتعين عَلَيْهِ الابتدار إِلَى الْحَج وَالْكَفَّارَة مَعَ الاقتدار عِنْد الْغَلَبَة على الظَّن خشيَة الْفَوات وَهَذَا لَو صَار إِلَيْهِ صائر لم يبعد، وَهَذَا كَمَا أَنا نقُول الضَّرْب المبرح الَّذِي يغلب على الْقلب إفضاؤه إِلَى مَا يُجَاوز حد التَّأْدِيب محرم على الزَّوْج عِنْد حُصُول غَلَبَة الظَّن، ومعظم الْأَحْكَام فِي المجتهدات منوطة بغلبات الظنون. [340] فَإِن قيل: فَمَا وَجه انفصالكم عَمَّا ألزمتم فِي التَّعْزِير؟ وَرُبمَا يعتضدون بِمَا يداني ذَلِك وَيَقُولُونَ إِنَّمَا يُبَاح للْمُسلمِ الرَّمْي إِلَى صف الْكَفَرَة فِي المعترك بِشَرْط أَن لَا يُصِيب مُسلما وَإِن كَانَ قد يبدر ذَلِك مِنْهُ. قُلْنَا: هَذَا زلل عَظِيم مِنْكُم فِي أَحْكَام التَّكْلِيف، فَأَما الَّذِي قدمتموه من قَضِيَّة التَّعْزِير فأعلموا أننا لَا نجوز لَهُ تعزيرا يعري فِي مَعْلُوم الله عز وَجل عَن استعقاب تلف، فَإنَّا لَو خصصنا الْجَوَاز بذلك / أفْضى ذَلِك بِنَا إِلَى تَعْلِيق [40 / أ] الْأَحْكَام على مَا لَا يتَعَلَّق الْعلم بِهِ أصلا، وَلَا يتَقَدَّر تمكن الْعلم بِهِ، وَقد أوضحنا مُنَافَاة ذَلِك لقضايا التَّكْلِيف وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيل أَن نقُول إِنَّمَا نجوز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 للْمُسلمِ الرَّمْي إِلَى الْكَفَرَة بِشَرْط أَلا يُصِيب مُسلما فَإِن الْعلم بذلك مِمَّا لَا يدْخل تَحت الْإِمْكَان فِي مجاري الْعَادَات وَلَكِن القَوْل فِي المسئلتين أَنه جوز لَهُ الْإِقْدَام على مَا الْأَغْلَب أَنه لَا يعقب تعزيزه مَا يُؤَدِّي إِلَى تعدِي المجوز وَهَذَا يطرد فِي المسئلتين والمرجع إِلَى أغلب الْعَادَات فيهمَا. [341] فَإِن قيل: فَلَو تعقب التَّعْزِير الَّذِي لَا يغلب إفضاء مثله إِلَى التّلف أَو أصَاب السهْم وَاحِدًا من المستأسرين أَلَيْسَ الضَّمَان يتَعَلَّق بِهِ؟ قيل لَهُم: فِي الضَّمَان تَفْصِيل للفقهاء فَإِن قُلْنَا بِهِ فَلَيْسَ فِيهِ مُنَافَاة لما قدمْنَاهُ. وَكم من مُبَاح يتَعَلَّق بِهِ لُزُوم شَيْء، وأمثلة ذَلِك لَا تحصى من موارد الشَّرِيعَة، فَتَأمل ذَلِك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 (78) فصل [342] إِذا خصصت الْعِبَادَة المفترضة بأوقات فَلَا تَخْلُو إِمَّا أَن تكون مستغرقة لَهَا وَإِمَّا أَن لَا تكون مستغرقة لَهَا، فَإِن كَانَت مستغرقة للأوقات المضروبة فَلَا يتَقَدَّر فِيهَا تصور تراخ وفسحة تَأْخِير، وَذَلِكَ كَالصَّوْمِ علق بِمَا بَين مطلع الْفجْر إِلَى وجوب الشَّمْس. وَإِن كَانَت الْعِبَادَة غير مستغرقة للأوقات المضروبة لَهَا كَالصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَة المؤقتة. فقد اخْتلف الْعلمَاء فِي نعتها بِالْوُجُوب فِي أول الْوَقْت وأوسطه وَآخره. فَذهب أَبُو حنيفَة رَحمَه الله إِلَى أَن الصَّلَاة إِنَّمَا تجب بآخر الْوَقْت فَإِذا بقى من الْوَقْت الْقدر الَّذِي يسع فعل الصَّلَاة من غير زِيَادَة فَحِينَئِذٍ يتَحَقَّق وجوب الصَّلَاة ثمَّ صَار إِلَى أَن الصَّلَاة لَو أُقِيمَت فِي أول وَقتهَا تأدى الْفَرْض بهَا وَاخْتلفت عِبَارَات أَصْحَابه فَذهب بعض متعسفيهم إِلَى أَن الصَّلَاة المقامة فِي أول الْوَقْت نَافِلَة قَائِمَة مقَام الْفَرْض وَذهب بَعضهم إِلَى أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 الْوُجُوب فِيهَا مرقوب فَإِن انْقَضى الْوَقْت والمكلف مستجمع لشرائط الِالْتِزَام تبين بِالْآخرِ أَن الْمقَام أَولا وَقع فرضا إِسْنَادًا وَذهب بَعضهم إِلَى أَن آخر الْوَقْت إِذا دخل ثَبت آنِفا من غير إِسْنَاد انقلاب تِلْكَ الصَّلَاة فرضا فِي هذيان طَوِيل لَهُم، وَذهب بعض المنتمين إِلَى الْفُقَهَاء إِلَى أَن الصَّلَاة تجب بِأول الْوَقْت فَإِن أخرت كَانَت قَضَاء وَهَذَا الْقَائِل مَعَ مصيره إِلَى ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 يُوَافق الكافة فِي جَوَاز التَّأْخِير. [343] وَقد نقل عَن مَالك رَضِي الله عَنهُ قريب من ذَلِك فِي الْحَج وَجُمْلَة الْعِبَادَات الْمُتَعَلّقَة بالعمر وَيَأْتِي مثل ذَلِك فِي الصَّلَاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 [344] وَالَّذِي صَار إِلَيْهِ مَالك وَالشَّافِعِيّ رحمهمَا الله أَن الصَّلَاة يتَحَقَّق [40 / ب] وُجُوبهَا فِي مفتتح الْوَقْت / وَلَا يتخصص بِالْوَقْتِ الأول بل تتساوى جملَة الْأَوْقَات المصروفة فِي حكم الْوُجُوب كَمَا تتساوى جملَة الْأَوْقَات فِي امْتِثَال الْأَمر الْمُطلق فالأوقات المضروبة للصَّلَاة على التَّعْيِين كأوقات الْإِمْكَان فِي الْعُمر فِيمَا ورد الْأَمر بِهِ مُطلقًا من غير تأقيت بِهِ نَحْو الْحَج وَمثله. [345] ثمَّ اعْلَم أَنا إِذا فسحنا لَهُ فِي تَأْخِير الصَّلَاة من أول وَقتهَا فَلَا يجوز ذَلِك التّرْك إِلَّا لبدل عَنهُ وَهُوَ الْعَزْم على فعله فِي مُسْتَقْبل الْأَوْقَات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 بِشَرْط بَقَاء الصِّفَات المشترطة فِي التَّكْلِيف على مَا أومأنا إِلَيْهِ فِي أثْنَاء مسئلة الْفَوْر. [346] وَهَا نَحن نبطل مَا حكينا من الْمذَاهب خلاف مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ رَضِي الله عَنْهُمَا حَتَّى إِذا بطلت تعين مَذْهَبهمَا للصِّحَّة. فَأَما أَبُو حنيفَة فَيُقَال لَهُ أَلَسْت وافقتنا أَن من أَقَامَ الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا ليتأدى الْفَرْض بذلك فَلَا تَخْلُو بعد تَسْلِيم هَذَا الأَصْل إِمَّا أَن تَقول أَن مَا أَدَّاهَا فِي أول الْوَقْت وَقع نفلا قَائِما مقَام الْفَرْض أَو لَا تَقول ذَلِك فَإِن قُلْتُمْ ذَلِك أدّى ذَلِك إِلَى خرق إِجْمَاع الْأمة، وَذَلِكَ أَن قَائِلا لَو قَالَ لكم إِذا أَقَامَ الْمُكَلف الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا فَهَل تحكمون بِوُجُوب الصَّلَاة عَلَيْهِ فِي آخر الْوَقْت، أَو لَا تحكمون بِوُجُوبِهَا أصلا بعد مَا فرطت الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت، فَإِن لم تحكموا بِوُجُوبِهَا فِي آخر الْوَقْت لزمكم أَن تَقولُوا دخل وَقت الظّهْر على مُكَلّف مقتدر على إِقَامَة الصَّلَاة بشرائطها مَعَ الِاخْتِيَار وارتفاع الْأَعْذَار وَلم تجب عَلَيْهِ الظّهْر، وَهَذَا مراغمة مَا عَلَيْهِ الْأمة، وَيلْزم من قوده أَن تَقولُوا: من عمر مائَة أَقَامَ الصَّلَاة فِي جَمِيع عمره فِي أَوَائِل الْأَوْقَات فقد انْقَضى عمره وَمَا أوجب الله عَلَيْهِ صَلَاة، وَهَذَا بَين لَا خَفَاء بِهِ، وَإِن هم قَالُوا: تجب الصَّلَاة فِي آخر الْوَقْت مَعَ جَوَاز تَقْدِيم الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت، فيلزمهم من ذَلِك شَيْئَانِ: أَحدهمَا خرق الْإِجْمَاع، وَالثَّانِي إبِْطَال مَا عَلَيْهِ معولهم فِي المسئلة، فَأَما خرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 الْإِجْمَاع فَإِنَّمَا يلْزمهُم لِأَن الْأمة مجمعة على أَن من أَقَامَ الظّهْر فِي أول الْوَقْت فَلَا يتَعَلَّق بِهِ إِلْزَام الظّهْر فِي آخر الْوَقْت. وَأما إبطالهم مَا عولوا عَلَيْهِ فَذَلِك أَنهم قَالُوا: حَقِيقَة جَوَاز التَّأْخِير، فَهَذَا لَو قَالُوا: إِن الصَّلَاة المقامة فِي أول الْوَقْت وَقعت نفلا. [347] ثمَّ أعقب الْفُقَهَاء مَا قدمْنَاهُ بشيئين: أَحدهمَا أَنهم قَالُوا لَو كَانَت الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت نفلا لجَاز للْمُصَلِّي أَن يَنْوِي النَّفْل وَقد وافقتمونا على أَنه لَو نوى ذَلِك لم يَقع موقع الْفَرْض. وأوضحوا ذَلِك بِأَن [41 / أ] قَالُوا التَّنَفُّل قبل / الزَّوَال سَائِغ كَمَا أَنه جَائِز بعده فَلَو كَانَت الصَّلَاة نفلا لما اخْتصّت بِمَا بعد الزَّوَال. وَالَّذِي نرتضيه الِاكْتِفَاء بِمَا قدمْنَاهُ. [348] وَإِن قَالُوا: الصَّلَاة المقامة فِي أول الْوَقْت مَوْقُوفَة فَإِن انْقَضى الْوَقْت والمكلف على شَرَائِط الصِّحَّة والالتزام بَان لنا وُجُوبهَا، وَإِن اخترم قبل آخر الْوَقْت بَان لنا وُقُوعهَا موقع النَّفْل وَهَذَا مَا تميل [إِلَيْهِ] الدهماء من فُقَهَاء أَصْحَاب أبي حنيفَة، ثمَّ تمثلوا فِي ذَلِك بأمثلة فِي الشَّرِيعَة نصير فِيهَا إِلَى الْوَقْف أَولا ثمَّ نسند إِلَيْهَا حكما آخر، فَنَقُول فِي الرَّد على هَؤُلَاءِ: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنا نقُول: إِذا انْقَضى عَلَيْهِ الْوَقْت ألستم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 زعمتم أَنه يتَبَيَّن أَن الصَّلَاة المقامة فِي أول الْوَقْت وَقعت فرضا أول مَا وَقعت، فَنَقُول: أَنْتُم فَلَا تخلون إِذا إِمَّا أَن تزعموا أَنه بَان لنا وُجُوبهَا فِي أول الْوَقْت حَتَّى لَو قدر تَأْخِيره عَن أول الْوَقْت نسبناه إِلَى الْعِصْيَان، أَو لَا تَقولُونَ ذَلِك؟ فَإِن قُلْتُمْ تبين لنا أَنه كَانَ لَا يجوز لَهُ التَّأْخِير، فَهَذَا خرق الْإِجْمَاع، وَلَا حَاجَة بِنَا إِلَى تَقْرِيره لوضوحه وَإِن قُلْتُمْ لم يبن لنا تضيق الْوَقْت، فقد أثبتم وَاجِبا يجوز تَأْخِيره، وَهَذَا أوضح من فلق الصُّبْح. وَالْوَجْه الثَّانِي: فِي الرَّد عَلَيْهِم أَن نقُول: من أَقَامَ الظّهْر فِي أول وقته ثمَّ اخترم فِي أَوسط الْوَقْت فقد أَجمعت الْأمة على أَنه قد أَقَامَ الظّهْر ثمَّ أَجمعُوا أَن الْمُكَلف مَعَ سَلامَة الْأَحْوَال وارتفاع الْأَعْذَار لَو بدر مِنْهُ مَا يَتَّصِف بِكَوْنِهِ ظهرا أَولا مَعَ الِاقْتِصَار عَلَيْهِ [لَا] يكون نفلا، فَلَا يزالون يتورطون فِيمَا يلْزمهُم خرق الْإِجْمَاع. واجتز بِمَا قدمْنَاهُ قبل ذَلِك. [349] وَإِن قَالُوا: إِن الصَّلَاة المقامة فِي أول وَقتهَا وَقعت نفلا ثمَّ انقلبت فرضا لَا على وَجه التبين والإسناد. فَهَذَا بَاطِل من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن مَا مضى من الْأَفْعَال وانقضى من الْعِبَادَات على كمالها فيستحيل قلب صفتهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا مَضَت وَانْقَضَت منعوتة بالتطوع فَلَو وصفناها ابْتِدَاء بِالْوُجُوب كَانَ محالا، لِأَن الْوَصْف بِالْوُجُوب إِنَّمَا يتَحَقَّق إِمَّا فِي مَوْجُود حَال حُدُوثه، وَإِمَّا فِيمَا سيوجد. فَأَما مَا انْقَضى وجوده على خلاف نعت الْوُجُوب فيستحيل ابْتِدَاء وصف الْوُجُوب لَهُ وَهَذَا كَمَا أَن فعلا لَو وَقع فِي غير موقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الطَّاعَات وانقضى فيستحيل وَصفه بعد انقضائه ابْتِدَاء وإنشاء إِلَّا أَن يتَبَيَّن بِكَوْنِهِ طَاعَة، اللَّهُمَّ وَإِن سبق لنا مُقَارنَة سمة الطَّاعَة لوجودها وَهَذَا بَين لَا ريب فِيهِ. وَالْوَجْه الآخر للإبطال أَن نقُول: ألستم عولتم فِيمَا إِلَيْهِ ذهبتم على أَن من حكم الْوَاجِب أَن يَعْصِي الْمُكَلف بِتَرْكِهِ، فَنَقُول لكم بِمَا دخل آخر [41 / ب] الْوَقْت فقد تحقق مِنْهُ التّرْك / وَلم ينتسب إِلَى الْمعْصِيَة وَالَّذِي بدر مِنْهُ فِي أول الْوَقْت غير مَا يجب عَلَيْهِ فِي آخر الْوَقْت فقد أثبتم وجوبا مَعَ انْتِفَاء الْعِصْيَان عِنْد تَحْقِيق تَركه، فاتضح بطلَان مَا قَالُوهُ من كل الْوُجُوه، وَلم يبْق إِلَّا الْقطع بِأَن الصَّلَاة تجب وَلَا يتخصص وُجُوبهَا بآخر الْوَقْت. فَهَذَا أوجه الرَّد على أَصْحَاب أبي حنيفَة. [350] فَأَما من زعم من أَن الصَّلَاة تجب بِأول الْوَقْت، وَلَو أخرت عَنهُ لكَانَتْ قَضَاء فَهَذَا مَذْهَب لَا طائل وَرَاءه، فَأَنا نقُول: إِذا زعمتم أَن الصَّلَاة تجب بِأول الْوَقْت. فَهَل تَقولُونَ: إِن الْمُكَلف يَعْصِي بتأخيرها؟ فَإِن قُلْتُمْ ذَلِك، خرقتم الْإِجْمَاع المنعقد قبل حُدُوث هَذَا الْمَذْهَب، وَقطع الْكَلَام عَنْكُم، وَإِن قُلْتُمْ: إِنَّه لَا يَعْصِي بِالتَّأْخِيرِ، فَنَقُول لكم: فَلَو أَقَامَهَا فِي الْوَقْت الثَّانِي هَل تَبرأ ذمَّته؟ فَإِن قَالُوا: تَبرأ ذمَّته، قيل لَهُم: فَلَا خلاف بَيْننَا فِي الْمَعْنى، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي تَسْمِيَة الصَّلَاة أَدَاء أَو قَضَاء، فَمن أَيْن عَرَفْتُمْ الْفَصْل بَين الْوَقْتَيْنِ؟ وَإِضَافَة الصَّلَاة إِلَى الْوَقْت الأول كإضافتها إِلَى الْوَقْت الثَّانِي، فاضمحل هَذَا الْمَذْهَب وَرجع محصوله إِلَى التسميات، وَذَلِكَ أَنا نقُول: إِنَّمَا يُطلق الْقَضَاء على مَا يسْتَدرك وُجُوبه بِالْأَمر بِالْأَدَاءِ كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 سنقرره إِن شَاءَ الله عز وَجل وَهَؤُلَاء وافقونا أَن إِقَامَة الصَّلَاة فِي آخر الْوَقْت يدْرك وُجُوبهَا بِالْأَمر الْمُطلق فِي الصَّلَاة المؤقتة بجملة الْأَوْقَات. [351] فَإِذا بطلت هَذِه الْمذَاهب تعين مَا ارْتَضَاهُ مَالك وَالشَّافِعِيّ رَضِي الله عَنْهُمَا. [352] فَإِن قَالُوا: لَيْسَ من وصف الْوَاجِب أَن يَعْصِي الْمُكَلف بِتَرْكِهِ ويتحقق التّرْك فِي أول الْوَقْت من غير انتساب إِلَى الْمعْصِيَة فَلَو جَازَ إِثْبَات وصف الْوُجُوب على هَذَا الْوَجْه جَازَ وصف النَّوَافِل بِالْوُجُوب. وَبِمَا قدمْنَاهُ من الْأَدِلَّة ننفصل عَن ذَلِك، ثمَّ نقُول اعلموا أَن الْوَاجِب عندنَا فِي أول الْوَقْت أحد شَيْئَيْنِ: إِمَّا فعل الصَّلَاة أَو الْعَزْم على إِقَامَتهَا فِي مُسْتَقْبل الْأَوْقَات فَأَيّهمَا فعل فقد أدّى مَا كلف فَإِن تَركهمَا عصى، ويتنزل الْمُكَلف فِي أول الْوَقْت منزلَة من تلْزمهُ كَفَّارَة الْيَمين وتخيره بَين ثلث خلال وَقد يضيق عَلَيْهِ وَقت التَّكْفِير. وَقد يتضيق فِي بعض الْمَوَاضِع فَلَو قَالَ قَائِل أَن شَيْئا من أَقسَام الْكَفَّارَة لَيْسَ بِوَاجِب لِأَنَّهُ لَو تَركه لم يعْص بِهِ، كَانَ محالا، بل الْوَاجِب أَحدهمَا، على مَا نقرره بعد ذَلِك فِي بَاب مُفْرد إِن شَاءَ الله عز وَجل، فَلَو ترك كليهمَا عصى حِينَئِذٍ مَعَ ثُبُوت التَّضْيِيق. ثمَّ طرد ذَلِك فِي سَائِر الْأَوْقَات حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى آخر الْوَقْت فَنَقُول: لَا يتَصَوَّر مِنْهُ الْعَزْم على الْأَدَاء فِي الِاسْتِقْبَال، فَتعين فعل الصَّلَاة فَهَذَا وَجه التَّحْقِيق وكشف الغطاء وَمن أحَاط / [42 / أ] علما بِهِ لم يبْق عَلَيْهِ لبس إِن شَاءَ الله عز وَجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 (79) فصل [353] فَإِن قيل: هَل تجوزون تأقيت الْعِبَادَة بِوَقْت لَا يَسعهَا مَعَ الْمصير إِلَى إِحَالَة تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق؟ . قُلْنَا: لَا يجوز ذَلِك على هَذَا الأَصْل فَإِنَّهُ من المحالات. [354] فَإِن قيل: أَلَيْسَ قَالَ الْفُقَهَاء إِن من أدْرك من أَصْحَاب الضرورات قدر رَكْعَة من آخر صَلَاة الْعَصْر فَيلْزمهُ الْعَصْر فِي وَقت لَا يَسعهَا وَكَذَلِكَ قُلْتُمْ من نذر أَن يَصُوم يَوْم يقدم زيد فَلَو قدم لَيْلًا لم يلْزم بِالنذرِ شَيْئا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وَلَو قدم نَهَارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 ألزمتم الصَّوْم، وَإِن كَانَ بَقِيَّة الْيَوْم بعد مقدمه لَا يسع صوما مَشْرُوعا. قيل: إِذا أطلق الْفُقَهَاء عبارَة الْوُجُوب فِي هَذَا الْمنَازل فَلَا يعنون بهَا وجوب الْأَدَاء مَعَ تضييق الْوَقْت وَلَكِن يعنون بذلك وجوب الْقَضَاء فَإِذا قَالُوا من أدْرك من الْعَصْر وَجب عَلَيْهِ الْعَصْر، أَرَادوا بذلك أَو يُوقع المسئلة الَّتِي صورتموها فَلَا يعنون بذلك وجوب صَوْم ذَلِك الْيَوْم وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ وجوب الْقَضَاء وَهُوَ مُصَرح بِهِ كَلَامهم فَإِنَّهُم يفصحون بِالْقضَاءِ ويفصلون الْمذَاهب فِي وجوب الِامْتِثَال فِي يَوْم الْمُقدم فَتبين المرام على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 (80) القَوْل فِي وُرُود الْإِيجَاب الْمُتَعَلّق بأَشْيَاء على جِهَة التَّخْيِير [355] فَإِن قَالَ قَائِل: هَل تجوزون وُرُود الْإِيجَاب والإلزام مُتَعَلقا بِشَيْء من أَشْيَاء على جِهَة التَّخْيِير وَانْتِفَاء التَّعْيِين. قُلْنَا: نجوز ذَلِك وَلَا نَحْفَظ عَن أحد من أَصْحَاب الْمذَاهب منع تَجْوِيز ذَلِك على الْجُمْلَة، وَلَكنَّا ندل عَلَيْهِ بأوضح شَيْء فَنَقُول: إِذا وَجب على الحانث فِي يَمِينه الْكَفَّارَة، وَورد الشَّرْع بتخييره بَين ثَلَاث خلال، أَحدهَا الْعتْق وَالثَّانيَِة الْإِطْعَام وَالثَّالِثَة الْكسْوَة فَهَذَا مِمَّا يجوز، وَلَا يستبعد عقلا وَذَلِكَ أَن كل وَاحِد مِنْهَا يَقع التَّخْيِير فِيهِ مِمَّا يَصح اكتسابه، وَقد قدمنَا فِيمَا سبق أَن كل مَا يَصح اكتسابه يَصح تعلق التَّكْلِيف بِهِ فَإِذا كَانَ كل وَاحِد على النَّعْت الَّذِي ذَكرْنَاهُ فَلَيْسَ فِي تَفْوِيض إِيثَار وَاحِد إِلَى الْمُكَلف تنَاقض وتناف، فَتبين جَوَاز ذَلِك عقلا. [356] وَذَهَبت الْمُعْتَزلَة فِي تمهيد جَوَاز ذَلِك لَهُ إِلَى أَن مُقْتَضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 قواعدهم فِي [بِنَاء] التَّكْلِيف على الْمصَالح وَزَعَمُوا أَنه لَا يستبعد فِي مجاري الْمصَالح أَن يَسْتَوِي شَيْئَانِ فِي الْأَدَاء إِلَى مصلحَة عبد ثمَّ إِذا تماثلا خير الْمُكَلف بَينهمَا وأوضحوا ذَلِك عِنْد أنفسهم بمثال فِي الشَّاهِد وَقَالُوا إِذا [42 / ب] طلب الْأَب مصلحَة ابْنه فِي أمره وَعلم / أَنه لَو ألطف لَهُ القَوْل صلح فِيمَا يرومه مِنْهُ، وَلَو حباه بِدِينَار صلح أَيْضا، فَيتَخَيَّر فِي طلب صَلَاحه بِأَحَدِهِمَا. [357] وَنحن معاشر أهل الْحق نستغني عَن هذيانهم فِي الصّلاح والأصلح، ونبني جَوَاز التَّكْلِيف على مَا يجوز اكتسابه إِذا احتلنا القَوْل بتكليف مَا لَا يُطَاق. [358] ثمَّ اعْلَم أَن التَّخْيِير قد يتَعَلَّق بمتضادين يَسْتَحِيل الْجمع بَينهمَا عقلا، وَقد يتَعَلَّق بمختلفين يجوز بَينهمَا عقلا وسمعا، وَقد يتَعَلَّق بمختلفين يجوز الْجمع بَينهمَا عقلا وَقد منع الشَّرْع بَينهمَا، وَقد يتَعَلَّق التَّخْيِير فِي الْإِلْزَام بشيئين ويتخصص أَحدهمَا لَو آثره الْمُكَلف بِزِيَادَة ندب وإيضاح ذَلِك بالأمثلة: أما التَّخْيِير بَين المتضادين فَهُوَ نَحْو وُرُود الْأَمر بِالْقيامِ وَالْقعُود، وَأما التَّخْيِير بَين مُخْتَلفين منع الشَّرْع الْجمع بَينهمَا وَإِن سَاغَ تَقْدِير ذَلِك عقلا، فَهُوَ نَحْو تَخْيِير الْوَلِيّ بَين الْأَكفاء فِي تَزْوِيج وليته، فَيثبت التَّخْيِير بَين آحادهم، وَلَا يجوز الْجمع بَين اثْنَيْنِ فِي حكم التَّزْوِيج، وَكَذَلِكَ إِذا انطوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 الْعَصْر على أشخاص يصلح كل وَاحِد مِنْهُم للْإِمَامَة فَيجب نصب أحدهم، والتخيير فِي ذَلِك إِلَى أهل الْحل وَالْعقد عِنْد التَّسَاوِي فِي الصِّفَات وَلَو أَرَادوا الْجمع بَين إمامين لم يجز لَهُم ذَلِك وأمثلته تكْثر، وَأما تَخْصِيص إِحْدَى الخيرتين بِزِيَادَة تحريض فَهُوَ نَحْو الْإِعْتَاق مَعَ الْإِطْعَام فِي أغلب الْأَوْقَات فَإِن الْعتْق يخصص بِزِيَادَة تحريض. [359] فَإِن قيل: يتَصَوَّر التَّخْيِير بَين مثلين قبل ان يتساويا فِي كل الْأَوْصَاف، وَلم يتخصص أَحدهمَا عَن الثَّانِي بِوَصْف وَوقت وَتعذر الميز بَينهمَا، فَلَا يجوز تثبيت التَّخْيِير مَعَ تعذر الْعلم بالميز فَإِن من شَرط ثُبُوت أَحْكَام التَّكْلِيف إِمْكَان الْعلم بمواقعها. وإيضاح ذَلِك بالمثال أَن قَائِلا لَو قَالَ: يتَخَيَّر الْمُكَلف بَين أَن يُصَلِّي أَربع رَكْعَات وَبَين أَن يُصَلِّي أَربع رَكْعَات مَعَ تساويهما فِي كل النعوت كَانَ ذَلِك مِمَّا لَا يدْرك فِي حكم التَّكْلِيف وَإِن كَانَ المتماثلان [متغايرين] كَمَا أَن الْمُخْتَلِفين [متغايران] . [360] ثمَّ اعْلَم أَن مُعظم الْعِبَادَات فِي الشَّرْع على التَّخْيِير وَمَا من عبَادَة إِلَّا ويدخلها التَّخْيِير إِلَّا مَا يشذ ويندر. فَإِن قيل: فَمَا وَجه التَّخْيِير فِي كَفَّارَة الْقَتْل فِي حق المقتدر على الْإِعْتَاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 قُلْنَا: إِذا كَانَت لَهُ رِقَاب تخير فِي أَيهمْ شَاءَ وَإِذا لم تكن تخير فِي ابتياع أَي عبد شَاءَ إِذا كَانَ مستجمعا لشرائط الْأَجْزَاء. [361] فَإِن قيل: إِذا تعين رد الْوَدِيعَة فَمَا معنى التَّخْيِير فِيهَا مَعَ الْإِمْكَان. قيل: [يردهَا] بِيَمِينِهِ أَو يسَاره وهما فعلان متغايران، وَكَذَلِكَ يتَوَضَّأ مَعَ تعْيين الْوضُوء بِأَيّ مَاء شَاءَ، وَيُصلي مَعَ ضيق الْوَقْت فِي أَي مَكَان شَاءَ مَعَ أَي لبوس سَاتِر أَرَادَ، فَمَا من عبَادَة وَطَاعَة إِلَّا ويتجمع فِيهَا ضروب من الْخيرَة. [43 / أ] [362] فَإِذا احطت علما بذلك / فَاعْلَم أَن الشَّرْع إِذا تعلق باقتضاء إِيجَاب فِي أَشْيَاء على التَّخْيِير مَعَ تساويها فِي الصِّفَات فَمَا صَار إِلَيْهِ المتكلمون وَمن يعول على مذْهبه من الْفُقَهَاء أَن الْوَاجِب مِمَّا وَقع فِيهِ التَّخْيِير وَاحِد لَا بِعَيْنِه، وَلَا تُوصَف كلهَا بِالْوُجُوب وَلَيْسَ الْمَعْنى بقولنَا إِن الْوَاجِب وَاحِد لَا بِعَيْنِه إِنَّه مُتَعَيّن فِي علم الله ملتبس علينا وَلَكِن مَا من وَاحِد مِنْهَا قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 يُبدل سَائِر إِلَّا تعلّقت بِهِ بَرَاءَة الذِّمَّة. [363] وَذهب الجبائي وَابْنه فِي فِئَة من أتباعهما وشرذمة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 الْفُقَهَاء أَن الْكل مِنْهَا وَاجِب وَلَا يتخصص بِالْوُجُوب مِنْهَا وَاحِد، حَتَّى قَالُوا من حنث فِي يَمِينه وَجب عَلَيْهِ الْإِعْتَاق وَالْكِسْوَة وَالْإِطْعَام وَلَا نقُول: إِن الْوَاجِب وَاحِد فِي ذَلِك، وَالدَّلِيل فِي الرَّد عَلَيْهِم أَن نقُول: قد تتَعَلَّق الْخيرَة بأَشْيَاء يحرم الْجمع بَينهَا وَذَا نَحْو مَا تمثلنا بِهِ فِي الْإِمَامَة وَالتَّزْوِيج من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 الإكفاء إِلَى غَيرهمَا من الْأَمْثِلَة. فَنَقُول لخصومنا لَا تخلون إِمَّا أَن تحكموا بِأَن الْوَاجِب مِنْهَا وَاحِد لَا بِعَيْنِه فقد سلمتم المسئلة فَإِن معولكم فِي وصف كلهَا بِالْوُجُوب على تساويها فِي النعوت والإفضاء إِلَى الصّلاح لَو قدرت أفرادا فزعمتم أَنه إِذا وَجب وصف وَاحِد بِالْوُجُوب وَجب وصف مثله بِمثل وَصفه لَا ستحالة أَن يثبت للشَّيْء وصف وَلَا يثبت مثل لمثله، وَإِن زعمتم أَن كلهَا وَاجِب فيلزمكم من ذَلِك الْمصير إِلَى وجوب كلهَا مَعَ تَحْرِيم الْجمع بَينهمَا، وَهَذَا إفصاح بالمحال، وتطرق إِلَى تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَهَذَا مَا لَا محيص لَهُم عَنهُ. [364] وَمِمَّا يعول عَلَيْهِ فِي المسئلة أَن نقُول: إِذا خير الْمُكَلف بَين أَشْيَاء فَمن تَركهَا كلهَا مفرطا بِتَرْكِهَا لَزِمته كَفَّارَة، فَلَا تلْزمهُ الْمعْصِيَة إِلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 بترك وَاحِد وفَاقا، وَلَا نجْعَل الحانث التارك للإعتاق وَالْإِطْعَام وَالْكِسْوَة عَاصِيا بترك كل وَاحِدَة من هَذِه الْخلال، حَتَّى يتنزل منزلَة من ترك الْإِعْتَاق وَالصِّيَام وَالْإِطْعَام عَن ثَلَاث كَفَّارَات، وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ، فَتبين بذلك أَن الْوَاجِب مِنْهَا وَاحِد. [365] وَأَرْدَفَ الْفُقَهَاء ذَلِك بِأَن قَالُوا إِذا عَم الْوُجُوب عَمت الْمعْصِيَة عِنْد ترك وَهُوَ نَحْو فرض الْكِفَايَة يتَعَلَّق بالمكلفين فَلَو غفل حرج الكافة. وَكَذَلِكَ من ضمن ألفا عَن الْمَدْيُون عَلَيْهِ ثمَّ تمنع مَعَ الْمَضْمُون عَنهُ عَن الْأَدَاء فيعصي كل وَاحِد مِنْهُمَا بترك أَدَاء الْألف الْمُلْتَزم، وَإِن كَانَ مقصد المطالب مِنْهُمَا ألفا، فَلَمَّا عَمهمَا الْوُجُوب عمتهما الْمعْصِيَة بِالتّرْكِ، وَلما اتّحدت الْمعْصِيَة فِي صُورَة التَّنَازُع دلّ على اتِّحَاد الْوُجُوب. [366] وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ أَصْحَابنَا أَن قَالُوا: لَو أقدم على الْخِصَال الثَّلَاث فِي الْكَفَّارَة مَعًا وَيتَصَوَّر ذَلِك بِأَن ينصب فِي تأديتها وكلاء فتتفق [43 / ب] أفعالهم / فِي وَقت وَاحِد فقد قَالُوا اجْمَعْ: إِنَّهَا إِذا وَقعت فَالْوَاجِب مِنْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 وَاحِد. [367] وَقد انْفَصل أَبُو هَاشم من ذَلِك فَقَالَ هَذَا سُؤال محَال على قَضِيَّة أصلنَا، فَإِن مَا اتّصف بالوجود لَا يُوصف بِالْوُجُوب فَإِن الْوُجُوب من أَحْكَام التَّكْلِيف، وَلَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بالشَّيْء مَعَ حُدُوثه، وَإِنَّمَا يتَحَقَّق التَّكْلِيف قبل الْحُدُوث، كَمَا يتَحَقَّق الاقتدار قبل الْحُدُوث، فَيُقَال لَهُ هَذَا لَا ينجيك عَمَّا أُرِيد بك، وَذَلِكَ أَنَّك وَإِن كنت لَا تصفها بِالْوُجُوب عِنْد الْوُجُود فَنَقُول فِي كل مَا وَجب قبل حُدُوثه إِذا حدث: إِنَّه كَانَ وَاجِبا، وَإِذا وجدت الْخِصَال الثَّلَاث فِي الْكَفَّارَة فَلَا يمكنك أَن تَقول: كلهَا كَانَت وَاجِبَة حَتَّى يُثَاب الْمُكَلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 على كل وَاحِد الإثابة على الْوَاجِبَات، وَهَذَا بَين من هَذَا الْوَجْه. [368] وَمِمَّا يُقَوي التَّمَسُّك بِهِ أَن من لزمَه إِعْتَاق رَقَبَة فَهُوَ مُخَيّر بَين الرّقاب المحدثة فِي الْعَالم، ثمَّ لَا يُقَال: إِنَّه يجب عَلَيْهِ إِعْتَاق رِقَاب الْعَالم وَكَذَلِكَ من لزمَه التَّصَدُّق بدرهم فَهُوَ مُخَيّر فِي أَعْيَان الدَّرَاهِم، ثمَّ لَا يُقَال: إِنَّه يجب عَلَيْهِ التَّصَدُّق بِدَرَاهِم الدُّنْيَا. وَهَذَا قبيل لَا يرتكبونه وَلَا يفصلون بَينه وَبَين الْمُتَنَازع فِيهِ بفصل سديد. [369] شُبْهَة الْمُخَالفين: فَإِن قَالُوا: لَو كَانَ الْوَاجِب مِنْهَا وَاحِدًا بِغَيْر عينه لَأَدَّى ذَلِك إِلَى أَن يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِمَا لَا يتَعَيَّن للمكلف وَلَا يتَمَيَّز وَذَلِكَ محَال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل من أوجه: أَحدهَا: أَن من لزمَه إِعْتَاق رَقَبَة فَلَا يُطلق بِوُجُوب إِعْتَاق الرّقاب عَلَيْهِ ثمَّ يلْزم فِي ذَلِك من اللّبْس مَا ألزمتموه. ثمَّ نقُول ألستم تَقولُونَ: إِنَّه يَعْصِي بترك وَاحِد لَو ترك كلهَا مَعَ تساويها فِي كل الصِّفَات وَلَا يتَعَيَّن مَا يَعْصِي بِتَرْكِهِ. فقولنا فِي الْإِقْدَام كقولكم فِي التّرْك، وأفرض عَلَيْهِم الْكَلَام فِي خِصَال مُتَسَاوِيَة فِي الْمصَالح وكل الصِّفَات فَإِنَّهَا إِذا اخْتلف فَرُبمَا يَزْعمُونَ أَنه إِذا تَركهَا عصى بترك أدونها ثمَّ نقُول إِنَّمَا يَسْتَحِيل التَّكْلِيف لَو طلب من الْمُكَلف خصْلَة من خِصَال وَلم يُفَوض إِلَى خيرته وَلم يعين لَهُ، فَأَما إِذا فوض إِلَى اخْتِيَاره فَلَا اسْتِحَالَة فِيهِ وَهَذَا بَين لكل ذِي تَأمل. [370] وَالَّذِي عول عَلَيْهِ أَبُو هَاشم أَن قَالَ: إِنَّمَا يثبت وجوب الشَّيْء لكَونه على صفة تَقْتَضِي لَهُ نعت الْوُجُوب، وَإِذا تعلق التَّخْيِير بأَشْيَاء فَكل وَاحِد مِنْهَا على الصّفة الَّتِي تَقْتَضِي لَهُ نعت الْوُجُوب، فَلَو نَفينَا سمة الْوُجُوب عَن كل وَاحِدَة مِنْهَا مَعَ كَونهَا على الصّفة الَّتِي تَقْتَضِي لَهَا نعت الْوُجُوب لزم نفي الْوُجُوب عَن سائرها. فَيُقَال لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بِنَاء مِنْكُم على فَاسد أصلكم فِي صرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 [44 / أ] الْأَحْكَام إِلَى صِفَات الْأَنْفس / والذوات فَإِنَّكُم زعمتم أَن الْقَبِيح فِي نَفسه على سمة تَقْتَضِي لَهُ سمة الْقبْح، وَالْحسن فِي نَفسه على صفة تَقْتَضِي لَهُ وصف الْحسن، فطردتم ذَلِك فِي مُعظم أَحْكَام التَّكْلِيف. وَأما نَحن فننكر ذَلِك ونصير إِلَى أَن الْأَحْكَام لَا ترجع إِلَى صِفَات الْأَنْفس وَإِنَّمَا هِيَ فِي التَّحْقِيق آئلة إِلَى قضايا كَلَام الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقد أفردنا بَابا فِي ذَلِك فِي صدر الْكتاب فَإِذا بَطل مَا ادعوهُ من صرف الْوَاجِب إِلَى صفة الْوَاجِب اضمحل مَا بنوا عَلَيْهِ من وجوب التَّمَاثُل فَإِن التَّمَاثُل إِنَّمَا يرجع إِلَى صفة الْأَجْنَاس. ثمَّ نقُول لَهُم هَذَا الَّذِي ذكرتموه يبطل عَلَيْكُم برقاب الْعَالم فِي حق من لَزِمته رَقَبَة فَإِنَّهَا مُتَسَاوِيَة فِي الصِّفَات الَّتِي أومأتم إِلَيْهَا مَعَ اسْتِحَالَة القَوْل بِوُجُوب إِعْتَاق جَمِيعهَا وَالَّذِي يهدم هَذَا الأَصْل مَا عولنا عَلَيْهِ فِي أدلتنا حَيْثُ قُلْنَا قد يتَعَلَّق بأَشْيَاء يحرم جَمِيعهَا على مَا سبق إيضاحه. فَنَقُول للمعتصم بِهَذِهِ الشُّبْهَة مَا ذكرته من تَسَاوِي الصِّفَات مَوْجُود فِي هَذَا الْقسم، أفتقول بِوُجُوب الْكل؟ فَإِن لم يقل بِهِ فقد نقض شبهته وَإِن قَالَ بِوُجُوب الْكل قيل: فَكيف يَسْتَقِيم القَوْل بِوُجُوب الْكل مَعَ الْمصير إِلَى تَحْرِيم الْإِتْيَان بِالْكُلِّ فَهَذَا مَا يَنْفِي [موارد] الريب. [371] وَمن شبه الْقَوْم أَن قَالُوا: إِذا زعمتم أَن الحانث المتخير بَين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 الْخلال الثَّلَاث لَا يجب عَلَيْهِ جَمِيعهَا، وَإِنَّمَا يجب وَاحِدَة مِنْهَا لَا بِعَينهَا، فَذَلِك الَّذِي سيقع مِنْهُ مَعْلُوم لله فَهَلا قُلْتُمْ: إِن الْوَاجِب على الحانث مَا علم الله وُقُوعه مِنْهُ، فَإِن مَا علم وُقُوعه يَقع لَا محَالة، قَالُوا: فَإِذا ثَبت ذَلِك يلْزم مِنْهُ أَن يكون الْوَاجِب مُتَعَيّنا فِي علم الله ملتبسا على الْمُكَلف، وَهَذَا إفصاح مِنْك بتكليف مَا لَا يُطَاق. قيل لَهُم: هَذَا تلبيس مِنْكُم، وَأول مَا يلزمكم عَلَيْهِ إِعْتَاق الرَّقَبَة مَعَ التَّخْيِير فِي كل الرّقاب وَالْعلم بِأَن الله تَعَالَى عين الرَّقَبَة الَّتِي سيعتقها فيلزمكم من ذَلِك مَا ألزمتموه، ثمَّ نقُول تعلق علم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بخلة من الْخلال لَا يُوجب تعينه فِي حكم التَّكْلِيف، فَإِن الْعلم يتَعَلَّق بالمعلوم على مَا هُوَ عَلَيْهِ وَلَا يَقْتَضِي للمعلوم وَصفا وَلَو كَانَ تعلق الْعلم بالمعلوم يَقْتَضِي مُنَافَاة التَّخْيِير وَجب أَن يتَضَمَّن إِخْرَاج مَا عدا الْمَعْلُوم عَن قبيل المقدورات من حَيْثُ إِن الْمَعْلُوم يَقع كَمَا قلتموه فلئن لم يلْزم ذَلِك فِي حكم [الْقُدْرَة] لم يلْزم فِيمَا رمتموه. وَهَذِه المسئلة وَهِي خلاف الْمَعْلُوم مِمَّا يعظم خطرها فِي الديانَات. وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ غَنِي، ثمَّ نقُول لَو طلب من العَبْد فعل لَا بِعَيْنِه وَهُوَ مُتَعَيّن وَلَا يتَمَكَّن العَبْد من العثور على الْعلم بِهِ فَذَلِك من الْمحَال الَّذِي لَا يرد التَّكْلِيف بِهِ، فَأَما إِذا كَانَ الْوَاقِع هُوَ / الْمَعْلُوم وَهُوَ يَقع لَا محَالة فَأنى يلْتَحق ذَلِك [44 / ب] بِمَا لَا يدْخل فِي طوقه وَكَانَ تعلق الْعلم تَابع لفعله الَّذِي يختاره وَفعله لَا يتبع تعلق الْعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 (81) فصل [372] فَإِن قيل: قد ذكرْتُمْ مذهبكم فِي الْوُجُوب فخبرونا عَن حَقِيقَة أصلكم فِي الْإِرَادَة، فَإِذا حنث الْمُكَلف وَلَزِمَه إِحْدَى ثَلَاث خِصَال فَمَا مُرَاد الله مِنْهَا. قيل لَهُم: الْإِرَادَة لَا تطابق مواقع الشَّرْع وجوبا على مَذَاهِب أهل الْحق فَإِن كل حَادث مُرَاد لله مَحْظُورًا كَانَ أَو وَاجِبا فَالْجَوَاب السديد إِذا أَن كل مَا علم الله وُقُوعه من العَبْد فَهُوَ مُرَاد، وكل مَا أَرَادَ وَجب إِيقَاعه. [373] وَأما الْمُعْتَزلَة فَإِنَّهُم فسحوا القَوْل فِي ذَلِك فَقَالُوا: إِذا تعلق التَّخْيِير بخلال يسْتَحبّ جمعهَا فَكلهَا مُرَادة لله وَإِن كَانَت بِحَيْثُ يحرم جمعهَا فَوَاحِدَة مُرَادة وَجَمعهَا مَكْرُوه لله. وَقد تكون وَاحِدَة مُرَادة وَالْبَاقِي لَا مُرَادة وَلَا مَكْرُوه. وإيضاح ذَلِك بالأمثلة أَن الحانث لما يُخَيّر بَين الْإِعْتَاق وَالْإِطْعَام وَالْكِسْوَة فَلَو أَتَى بجميعها كَانَ مثابا عَلَيْهَا فَكلهَا مُرَادة لله فَإِن إِرَادَة الله تَعَالَى تتَعَلَّق بِكُل خير وَإِن تعلق التَّخْيِير بأَشْيَاء يحرم جمعهَا كالتزوج من الْأَكفاء وَنصب الْأَئِمَّة فِي زمن وَاحِد مَعَ التَّخْيِير فِي الْآحَاد، فالواحد مِمَّا هُوَ قبيله مُرَاد، وَالْجمع مَكْرُوه لله تَعَالَى، وَإِن تعلق التَّخْيِير بأَشْيَاء تتَعَلَّق بالمعصية بترك وَاحِدَة مِنْهَا وَجَمعهَا مُبَاح غير مَحْظُور وَلَا مثاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 عَلَيْهِ فالواحد مُرَاد وَالْجمع غير مُرَاد وَلَا مَكْرُوه وَهَذَا وصف الْمُبَاح عِنْدهم لَا تتَعَلَّق بِهِ إِرَادَة الله وَلَا كراهيته. [374] وأصولنا بمعزل عَن هَذَا فَإنَّا نقُول الْإِرَادَة تتَعَلَّق بِكُل الكائنات مَعَ تبَاين أوصافها. (82) فصل [375] اعْلَم، أَن التَّخْيِير إِنَّمَا يتَعَلَّق بشيئين متباينين متميزين أَو بأَشْيَاء على هَذَا الْوَصْف. وَإِنَّمَا يثبت التَّخْيِير بشرائط مِنْهَا أَن تكون الأِشياء الَّتِي يتَعَلَّق بهَا التَّخْيِير بِحَيْثُ تتَمَيَّز، ويتمكن للمكلف من الْعلم بتميزها، فَلَو لم يكن كَذَلِك لما صَحَّ التَّخْيِير فِيهَا وَمن الشَّرَائِط اتِّحَاد وَقت الْأَفْعَال وَمعنى ذَلِك أَن يَأْتِي كل وَاحِد بَدَلا عَن أغيارها. فَلَو [ذكرهَا وَلَو] ذكر للمكلف فعلان مؤقتان بوقتين فَلَا يكون ذَلِك تخييرا، فَإِنَّهُ فِي وَقت الأول لَا يتَمَكَّن من الْفِعْل الثَّانِي مَعَ تَقْدِير اتِّحَاد الْوَقْت وَمن شَرَائِط التَّخْيِير أَن تتساوى صِفَات الْأَشْيَاء الَّتِي خير فِيهَا حكم التَّخْيِير. وَبَيَان ذَلِك أَن التَّخْيِير إِن كَانَ فِي إِيجَاب فيتصف كل مَا يقدم عَلَيْهِ بَدَلا عَن أغياره بسمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 النّدب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 [376] فَإِن قيل: أَلَيْسَ التَّخْيِير ثَبت فِي كَفَّارَة الْحِنْث بَين الْإِعْتَاق وَالْإِطْعَام وَالْكِسْوَة ثمَّ لم تتساو فِي جملَة / الصِّفَات فِي أَن الْعتْق أَولا [45 / أ] و [الْإِطْعَام] عَلَيْهِ أُخْرَى. قُلْنَا: هَذَا سُؤال من لم يفهم مَا قدمْنَاهُ، فَإنَّا قُلْنَا قد يَنْبَغِي أَن تتساوى الْخلال فِيمَا وَقع التَّخْيِير فِيهِ، والتخيير فِي الْخِصَال الثَّلَاث إِنَّمَا هُوَ فِي قَضِيَّة الْإِيجَاب إِذا وَجب عَلَيْهِ أحد الثَّلَاثَة فَلَا جرم تتساوى كلهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 فِيمَا أومأنا إِلَيْهِ وَأما النّدب فَلَا ينطوي عَلَيْهِ هَذَا التَّخْيِير. [377] ثمَّ لَا تظن الْمَعْنى بتساويها اتصاف كلهَا بِالْوُجُوب على مَا صَار إِلَيْهِ فِئَة من الْمُعْتَزلَة، وَلَكِن المُرَاد بِهِ [أَنه] مَا من وَاحِد يقدم الْإِقْدَام عَلَيْهِ أَولا إِلَّا يَقع وَاجِبا فَهَذَا مَا عنيناه بالتساوي وَرُبمَا يؤول كَلَام الْمُعْتَزلَة إِلَى قريب من ذَلِك فيرتفع الْخلاف وَإِلَيْهِ أَشَارَ عبد الْجَبَّار فِي شرح الْعمد. (83) القَوْل فِي أَن الْأَمر هَل يَقْتَضِي إِجْزَاء الْمَأْمُور بِهِ؟ [378] اعْلَم، وفقك الله أَن هَذَا الْبَاب مِمَّا عده الأصوليون أصلا من الْأُصُول وتسببوا إِلَى إِقَامَة الْمَقْصُود فِيهِ بالأدلة وَرُبمَا يوثرون فِيهِ ضربا من الْخلاف وَمن أحَاط علما بِهِ أغناه تَصْوِير من المسئلة على التَّحْقِيق عَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 .. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 نصب الْأَدِلَّة واستحال عِنْده تعذر الْخلاف فِيهِ على معرض يثبت أَو يبطل بالأدلة، فَإِن ورد الْأَمر مقتضيا فعلا متصفا بأوصاف أَو مَنْسُوبا بشرائط فَإِذا أقدم الْمَأْمُور على الْمَأْمُور بِهِ، ووفاه جملَة أَوْصَافه وشرائطه من غير إخلال بِشَيْء مِنْهَا فقد وَقع البادر مِنْهُ مِمَّا لَا يحْتَاج إِلَى إيضاحه بالأدلة، إِذْ لَيْسَ الْمَعْنى بالإجزاء إِلَّا مَا قدمْنَاهُ. [379] فَإِن قيل: أفتجوزون أَن يرد الْأَمر بِمثل مَا أقدم عَلَيْهِ الْمَأْمُور ثَانِيًا؟ [قُلْنَا: يجوز ذَلِك ووضوح تَجْوِيز ذَلِك يُغني عَن تثبيته بالأدلة. [380] فَإِن قيل: افتجوزون وُرُود الْأَمر بِقَضَاء مَا فرغ الْمَأْمُور مِنْهُ؟ قُلْنَا: إِن عنيتم بِالْقضَاءِ وجوب مثله بِأَمْر جَدِيد فَلَا نستنكر وَإِن عنيتم بذلك أَن يكون الثَّانِي تلافيا لما أخل بِهِ أَولا وَمَا أخل بِهِ، فَهَذَا محَال، فَإنَّا فَرضنَا هَذَا الْقَبِيل من الْكَلَام فِيهِ إِذا امتثل الْأَمر أَولا من غير اختلال آئل إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 اقتداره وَمن غير اختلال متقدر خَارج عَن مُوجب التَّكْلِيف فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَأنى يتَصَوَّر الْقَضَاء على معنى تلافي الاختلال وَلَا اختلال. [381] فَإِن قيل: فَالْأَمْر الْوَارِد هَل يجوز أَن يَقْتَضِي الْفِعْل مرَّتَيْنِ. قُلْنَا: سبق الْكَلَام فِي مسئلة التّكْرَار، وَورد الْأَمر بِفعل مَوْصُوف بِوَصْف فِي معرض الْإِلْزَام وتضمن إِيجَاب إِيقَاعه على جملَة الصِّفَات الْمَذْكُورَة فَإِذا أخل الْمُكَلف بِشَيْء مِنْهَا فَلَا يكون ممتثلا لِلْأَمْرِ وَالْأَمر لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون مُقَيّدا بِوَقْت وَإِمَّا أَن يكون مُطلقًا، فَإِن كَانَ مُطلقًا غير مُتَعَلق بِوَقْت على التَّخْصِيص فَإِذا لم يمتثله الْمَأْمُور على وَجه فَلَا يكون ممتثلا، وَنَفس الْأَمر يَقْتَضِي مِنْهُ الأمتثال، فَإِن كَانَ الْأَمر بِالْفِعْلِ الْمَوْصُوف بالأوصاف / مؤقتا بِوَقْت ثمَّ خرج وقته، فَإِذا أقدم عَلَيْهِ على خلاف [45 / ب] الْأَوْصَاف المضبوطة فَلَا نجعله ممتثلا وَلَكِن لَا يثبت الْقَضَاء إِلَّا بِأَمْر جَدِيد على مَا سَنذكرُهُ. فِي بَاب مُفْرد إِن شَاءَ الله عز وَجل. [382] فَإِن قيل: فَإِذا لم يقتدر الْمُكَلف على مَاء وَلَا تُرَاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وأوجبتم عَلَيْهِ إِقَامَة الصَّلَاة على حسب استطاعة حَاله فبماذا أوجبتم الْقَضَاء؟ . قُلْنَا: إِذا فرضتم الْكَلَام فِي فرض مُؤَقّت فَالْأَمْر بِهِ مؤقتا لَا يَقْتَضِي إِعَادَته بعد انْقِضَاء الْوَقْت. وَإِن الْكَلَام فِي فرضتم مُطلق فَلَا يتَحَقَّق الْقَضَاء فِيهِ وَلَكنَّا نقُول إِذا لم يقدر على مَا أَمر بِهِ فَلم يمتثل والامتثال عَلَيْهِ بَاقٍ، فَلَيْسَ هُوَ إِذا من إِلْزَام الْقَضَاء فِي شَيْء. [383] فَإِن قيل: فَمن أفسد حجه أَلَيْسَ يجب عَلَيْهِ الْمُضِيّ فِي فَاسد الْحَج ثمَّ يلْزمه الْقَضَاء. قُلْنَا: نعم وَلَكِن إِنَّمَا ألزمناه حجَّة صَحِيحَة لِأَن الْأَمر اتَّصل بِهِ مقتضيا حجا متعريا عَمَّا يُفْسِدهُ فَإِذا أفسد الْحَج بَقِي عَلَيْهِ أصل الِامْتِثَال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 [384] فَإِن قيل: إِنَّمَا نفرض الْكَلَام عَلَيْكُم فِيمَن بَرِئت ذمَّته عَن حجَّة الْإِسْلَام وَشرع فِي حجَّة التَّطَوُّع ثمَّ أفسدها فإتمامها وَاجِب وقضاؤها حتم. قُلْنَا: إِنَّمَا وَجب قَضَاؤُهَا بِأَمْر جَدِيد وَإِلَّا فَالْأَمْر بإتمامها لَا يتَضَمَّن بِنَفسِهِ الْأَمر بإعادته، وَوجه التَّحْقِيق فِي ذَلِك أَن مَا ورد الْأَمر بِهِ هُوَ الْإِتْمَام بعد الْفساد، وَلَا يتَصَوَّر أَن يُؤمر بالإتمام على هَذَا الْوَجْه تلافيا لما أَمر بِهِ أَولا، وَالَّذِي يُؤمر بِهِ إِنَّمَا هُوَ مَا لم يتَعَلَّق بِهِ الْأَمر بالإتمام، فَإِن الْإِتْمَام لما أَمر بِهِ وامتثله الْمَأْمُور فقد وَقع موقع الْإِجْزَاء إتماما بعد إِفْسَاد، فَلَا جرم لَا يتلافى على هَذَا الْوَجْه الَّذِي وَقع وَالَّذِي قصد الْقَضَاء لَهُ مَا وَقع مِنْهُ حَتَّى يُوصف بِأَنَّهُ مجزئ أَو غير مجزئ، وَهَذِه جملَة مقنعة فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى. [385] فَإِن قيل: فقد تختل الْعِبَادَة بِمَا لَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِهِ وَذَلِكَ مثل أَن ينسى الْمصلى ركنا من صلَاته فَلَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِهِ فِي حَالَة كَونه نَاسِيا ثمَّ لَا يوجبون الْقَضَاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 قُلْنَا قدمنَا فِي ذَلِك صَدرا مغنيا عَن الْكَلَام. ومحصوله أَنه مهما لم يَأْتِ بِمَا أَمر على مَا أَمر لَا يعد ممتثلا، فَيبقى عَلَيْهِ الْأَمر بالامتثال، وَمَا فرضتم الْكَلَام فِيهِ من النَّاسِي فَلَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِهِ على مَا قَالُوهُ، وَلَكِن إِذا انجلى النسْيَان، توجه عَلَيْهِ الْأَمر بالائتمار والامتثال، وَهَذَا كَمَا لَو نسى الِامْتِثَال أصلا بُرْهَة من الزَّمَان فَإِذا تذكره تعلق أصل الْأَمر بِهِ فِي الِامْتِثَال. (84) فصل [386] اعْلَم، أَن مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْفُقَهَاء، وَأطْلقهُ المنتمون إِلَى أصُول الْفِقْه أَن الْأَمر بالشَّيْء يَقْتَضِي جَوَازه وَقد أنكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ ذَلِك على مَا أَطْلقُوهُ، وَقَالَ / الْأَمر إِذا اقْتضى إِيجَاب الشَّيْء فَمَا الْمَعْنى [46 / أ] بِالْجَوَازِ بعد ثُبُوت الْإِيجَاب فَإِن فسرتم الْجَوَاز / بِنَفس الْوُجُوب فَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 الْمَقْصُود وَإِنَّمَا يؤول الْكَلَام إِلَى تناقش فِي الْعبارَة، فَإنَّا لَا نستحسن تَسْمِيَة الْوُجُوب جَوَازًا وَلَا تَسْمِيَة الْوَاجِب جَائِزا وَإِن أَنْتُم عنيتم بِالْجَوَازِ شَيْئا آخر سوى الْوُجُوب فَهُوَ محَال فَإِن أَحْكَام الشَّرْع مضبوطة منحصرة فِي أَقسَام مِنْهَا الْوُجُوب، وَمِنْهَا الْحَظْر، وَمِنْهَا النّدب، وَمِنْهَا الْكَرَاهِيَة وَمِنْهَا الْإِبَاحَة، فَهَذِهِ أَحْكَام الْأَفْعَال لَا متزيد عَلَيْهَا، فالجواز الَّذِي ذكرتموه إِذا لم تصرفوه إِلَى الْوُجُوب واستحال صرفه إِلَى الْحَظْر " تحقق الْوُجُوب " وَكَذَلِكَ لم تصرفوه إِلَى النّدب فَلَا يتبقى إِلَّا الصّرْف إِلَى الْإِبَاحَة، ويؤول محصول القَوْل إِلَى أَن الْوُجُوب مُبَاح وَذَلِكَ من أمحل الْمحَال فَإِن الْمُبَاح مَا جَازَ تَركه وَالْوَاجِب مَا لَا يجوز تَركه فكأنكم تَقولُونَ مَا لَا يجوز تَركه يجوز تَركه. [387] فَإِن قَالُوا: أردنَا بِالْجَوَازِ أَن الْمُقدم عَلَيْهِ لَا يسْتَوْجب بالإقدام دَمًا، قُلْنَا فَهَذَا نفي وَلَيْسَ بِحكم، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْمُقدم على الْفِعْل قبل وُرُود الشرايع لَا يسْتَحق الذَّم مَعَ مصيرنا إِلَى نفي الْأَحْكَام قبل وُرُود الشرايع. [388] فَإِن قيل: إِذا ثَبت الْوُجُوب بِأَمْر ثمَّ نسخ الْوُجُوب فَهَل يبْقى الْجَوَاز؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 قُلْنَا: لما. فَإِن الْأَمر إِذا اقْتضى وجوبا ثمَّ نسخ لم يبْق من مُقْتَضَاهُ شَيْء وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك أَن نقُول لَو سَاغَ الْمصير إِلَى أَن الْأَمر الْمُقْتَضى للْإِيجَاب إِذا ثَبت ثمَّ نسخ الْإِيجَاب بَقِي الْجَوَاز ثمَّ لزم أَن يُقَال يبْقى النّدب بعد أَن تقاصر وصف الْوُجُوب، وَهَذَا أولى من الْجَوَاز، فَإِن حَقِيقَة الِاقْتِضَاء يتَقَدَّر فِي النّدب تقدرها فِي الْوَاجِب وَإِنَّمَا يتَمَيَّز الْوَاجِب على النّدب بِاسْتِحْقَاق اللوم على تَركه وَإِلَّا فالإقتضاء مُتَحَقق فيهمَا، فَهَلا قُلْتُمْ: إِن الْوُجُوب إِذا نسخ بَقِي الِاقْتِضَاء مُجَردا عَن اسْتِحْقَاق اللوم عِنْد تَقْدِير التّرْك والاقتضاء الْمُجَرّد هُوَ النّدب، فالندب إِذا أولى بِالْبَقَاءِ من الْجَوَاز لَيْسَ فِيهِ اقْتِضَاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 [389] فَإِن قيل: فاحسبوا أَن مَا ذكرتموه يعكس على خصمكم مُرَاده فَمَا انفصالكم عَن سُؤال النّدب فَإِنَّهُ محيل جدا، فَهَلا قُلْتُمْ أَن نسخ الْوُجُوب يرجع إِلَى مُجَرّد رفع اللوم فَيبقى الِاقْتِضَاء [والإيجاب] زايد على الِاقْتِضَاء وَلَكنَّا نقُول الِاقْتِضَاء على وَجه الْإِلْزَام إِيجَاب، والاقتضاء الَّذِي لَا يجْزم وَلَا يحتم ندب وَدُعَاء على معرض التحريض. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك اتفاقنا على انصراف الِاقْتِضَاء على النّدب والإيجاب، فَلَو سَاغَ الْمصير إِلَى أَن الْإِيجَاب اقْتِضَاء وَوصف يزِيد عَلَيْهِ، سَاغَ الْمصير إِلَى أَن النّدب اقْتِضَاء مَعَ التفسيح فِي التّرْك والاقتضاء لَا يُنبئ عَنهُ، فيؤدى ذَلِك إِلَى إِخْرَاج الِاقْتِضَاء الْمُطلق عَن حيّز النّدب والإيجاب مَعًا وَهَذَا محَال، وَالَّذِي يكْشف الغطاء أَن نقُول: أَن الْأَمر الْقَائِم بِالنَّفسِ يَقْتَضِي معنى لَا محَالة، وَقد ذكرنَا فِي حد الْأَمر أَنه اقْتِضَاء الطَّاعَة فَلَو كَانَ الِاقْتِضَاء بِمُجَرَّدِهِ / لَا يكون ندبا وَقد ثَبت أَن الْأَمر لَا يَقْتَضِي [46 / ب] كَون الْمَأْمُور بِهِ مرَادا للْآمِر فَإِذا بطلت هَذِه الْأَقْسَام فيفضي ذَلِك إِلَى إبِْطَال مُوجب الْأَمر وَمُقْتَضَاهُ، فَخرج من ذَلِك أَن الإيحاب اقْتِضَاء على وَجه الْإِلْزَام، وَالنَّدْب اقْتِضَاء على وَجه التحريض، وَهَذَا مَا لَا يُحِيط بِهِ علما إِلَّا فطن. [390] وَمن عَجِيب الْمذَاهب مَا صَار إِلَيْهِ بعض الْفُقَهَاء المنتمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 إِلَى الْأُصُول فَقَالَ الْأَمر الْمُوجب يَقْتَضِي جَوَازًا وَادّعى فِي ذَلِك إِجْمَاعًا ثمَّ قَالَ: لَو نسخ الْوُجُوب لم يبْق الْجَوَاز مَعَ مصيره إِلَى أَن الْأَمر يَقْتَضِي الْوُجُوب وَالْجَوَاز أَولا، ثمَّ تشبث بِكَلَام رَكِيك بزدريه أعين ذَوي التَّحْقِيق وَذَلِكَ أَنه قَالَ الْجَوَاز تَابع للْوُجُوب وَالْوُجُوب متبوع فَإِذا نسخ الْمَتْبُوع زَالَ التَّابِع وَنقل هَذَا الْمَذْهَب يُغْنِيك عَن الِاشْتِغَال بإفساده فَتدبر واستغن بِاللَّه يُغْنِيك. (85) القَوْل إِن الْكفَّار هَل يخاطبون بِفُرُوع الشَّرَائِع؟ [391] اعْلَم، وفقك الله أَن مَا صَار إِلَيْهِ سلف الْأمة وَخَلفهَا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 الْمُتَكَلِّمين وَالْفُقَهَاء أَن الْكفَّار مخاطبون مأمورون بِمَعْرِِفَة الله عز اسْمه وتصديق رسله وَالْإِيمَان بجملة قَوَاعِد العقائد وَذَهَبت شرذمة من نوابتة المبتدعين إِلَى أَن الْعلم بِاللَّه عز اسْمه وبالعقائد يَقع اضطرارا وَمَا يَقع اضطرارا لَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِهِ وَذهب بعض أهل الْأَهْوَاء إِلَى أَن المعارف كسبية وَلَكِن لَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بهَا وَإِنَّمَا صَارُوا إِلَى ذَلِك بشبه تستقصى فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 الديانَات إِن شَاءَ الله عز وَجل، وَزعم الجاحظ أَن الْعلم يَقع من طباع نامية لم يتقدمه نظر واستدلال ثمَّ قد يتم النّظر فَلَا يعقب الْعلم لانْقِطَاع نَمَاء الطباع، وَالْكَلَام على هَؤُلَاءِ الْفرق لَا يَلِيق بِهَذَا الْفَنّ. [392] فَإِذا عرفت كَونهم مخاطبين بِأَصْل الْإِيمَان فقد اخْتلف الْعلمَاء بعد ذَلِك فِي أَنهم مخاطبون بالعبادات نَحْو الْحَج وَالزَّكَاة وَالصَّلَاة وَهل يتَعَلَّق التَّكْلِيف بهم فِي اجْتِنَاب الْمَحْظُورَات والكف عَن الْمُحرمَات فَذهب بَعضهم إِلَى أَنهم غير مخاطبين بِشَيْء مِنْهُ وَإِنَّمَا يتَعَلَّق الْخطاب بهم فِي أصل الدّين وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنهم مخاطبون بالمفترضات وتجنب الْمَحْظُورَات، معاقبون على المخالفات فِي أَحْكَام الشَّرَائِع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 [393] وَاعْلَم قبل الْخَوْض فِي أَدِلَّة المسئلة أَن الَّذين صَارُوا إِلَى أَنهم مخاطبون لَا يدعونَ ثُبُوت ذَلِك عقلا ووجوبا وحتما، بل يجوزون فِي حكم الْعقل خُرُوجهمْ عَن التَّكْلِيف فِي أَحْكَام الشَّرَائِع كَيفَ وَقد خرج أنَاس من المخاطبين الْمُسلمين عَن قَضِيَّة جمل من الْأَحْكَام فِي الْحَلَال وَالْحرَام، كالحائض الْخَارِجَة عَن الْتِزَام الصَّلَاة وَأَدَاء الصَّوْم وَنَحْوهَا وَلَكِن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 [47 / أ] هَؤُلَاءِ يَزْعمُونَ أَن تكليفهم سَائِغ عقلا وَتَركه مجوز عقلا بيد أَن فِي الْأَدِلَّة / السمعية مَا يَقْتَضِي تَعْلِيق التَّكْلِيف بهم فتتبعناها. وَالَّذِي صَارُوا إِلَى أَنهم غير مخاطبين انقسموا فَمنهمْ [من يحِيل] تكليفهم، وَمِنْهُم من يُجِيز تكليفهم عقلا وَمنع اتِّصَال الْأَدِلَّة السمعية بهم. [394] وَالَّذِي نرتضيه تعلق التَّكْلِيف بهم وَمن أوضح مَا نستدل بِهِ قَوْله تَعَالَى: {مَا سلككم فِي سقر} الْآيَة. وَوجه الدَّلِيل مِنْهَا أَنهم عوقبوا بمضمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 الْآيَة على ترك الصَّلَاة وَالصَّدقَات كَمَا عوقبوا على الْإِشْرَاك وَترك المعارف. [395] فَإِن قيل: لَا حجَّة فِي الْآيَة لكم فَإِن الرب تَعَالَى أخبر عَن مقَال أهل النَّار وَلَا احتجاج فِي أَقْوَالهم. قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه قرب مِنْكُم من جحد مَا اتّفق عَلَيْهِ أهل التَّأْوِيل فَإِنَّهُم أطبقوا على أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَرَادَ بالإخبار عَن أَحْوَالهم وَذكر أَقْوَالهم الزّجر والردع عَن الْإِشْرَاك وَترك الصَّلَوَات وَالصَّدقَات وَالتَّرْغِيب فِي الْإِقْدَام على امْتِثَال المأمورات وتحذير المخاطبين عَن اجْتِنَاب مَا يوقعهم فِي المعاقبات الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة وَلَيْسَ الْمَقْصد مِنْهَا نقل قَوْلهم لَا تَحْقِيق فِيهِ وَهَذَا مَا لَا يجحده إِلَّا معاند، ثمَّ إِنَّه سُبْحَانَهُ قرن بَين الإشرك وَترك الصَّلَاة فَلَو حمل سِيَاق الْخطاب على مَا رمتموه وَقيل: إِنَّهُم لَا يعاقبون على ترك الصَّلَاة ويعاقبون على الْإِشْرَاك، انطوى قَوْلهم على صدق وَخلف فَكَانَ يجب أَن يبين الرب عز اسْمه وَجه الرَّد عَلَيْهِم وتوبيخهم وتقريعهم على مَا بدر مِنْهُم من الْمقَال والمحال. [396] فَإِن قيل: فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم أَرَادوا بقَوْلهمْ: {لم نك من الْمُصَلِّين} أَي لم نك من الْمُصَلِّين المصدقين بِوُجُوب الصَّلَاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 وَمَا أَرَادوا نفس الصَّلَاة وَهَذَا كَمَا أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: ((نهيت من قتل الْمُصَلِّين)) وَمَا أَرَادَ بذلك الخائضين فِي الصَّلَاة حَتَّى يتخصص النَّهْي عَن الْقَتْل بِحَالَة التَّلَبُّس بِالصَّلَاةِ قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه إِزَالَة مِنْكُم للظَّاهِر وتسبب إِلَى حمل اللَّفْظ على التَّجَوُّز وَلَيْسَ لكم ذَلِك إِلَّا بعد إِقَامَة دلَالَة دَالَّة ثمَّ إِن كَانَ هَذَا كلامكم فِي قَوْله من الْمُصَلِّين فَلَا يسْتَمر ذَلِك فِي قَوْله: {وَلم نك نطعم الْمِسْكِين} وَإِن تعسفوا بِالْحملِ على التَّصْدِيق بِالْإِطْعَامِ كَانُوا متعالين مُحْتَاجين إِلَى إِقَامَة الدَّلِيل. [397] وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر} . إِلَى قَوْله: {وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما يُضَاعف لَهُ الْعَذَاب} . وَوجه الدَّلِيل أَن الرب تَعَالَى فرق بَين الشّرك وَالْقَتْل وَالزِّنَا ثمَّ قَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 {وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما} . فنعت جملَة الْخلال جمعا فَإِنَّهَا تورط فِي المأثم. وَلِلْقَوْمِ أسئلة يهون دَفعهَا. [398] وَمِمَّا عولوا عَلَيْهِ فِي توجه الْخطاب على الْكفَّار قَوْله تَعَالَى: {وويل للْمُشْرِكين الَّذين لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة} . فَإِن قَالُوا إِنَّمَا ذكر الِامْتِنَاع عَن إيتَاء الزَّكَاة نعتا لَا يتعاقبوا عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 قيل لَهُم: هَذَا إِزَالَة مِنْكُم للظَّاهِر وَالدَّال على كَونه معاقبين على الشّرك فِي قَضِيَّة الْآيَة حَال على مثله فِي منع الزَّكَاة. [47 / ب] [399] فَإِن قيل: / ظَاهر الْآيَة يَقْتَضِي أَن لَا يُعَاقب الْمُشرك إِلَّا عِنْد امْتِنَاعه عَن أَدَاء الزَّكَاة. قيل لَهُم: هَذِه لتسبب مِنْكُم إِلَى حمل الْآيَة على خلاف الْإِجْمَاع مَعَ إِمْكَان حملهَا على الْوِفَاق، والمقصد من الْآيَة ذكر مَا يستوجبون الْعقَاب عَلَيْهِ نسقا، من غير اشْتِرَاط جمع، وَهُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} . فَهَذَا توعد على وصفين أَحدهمَا المشاقة وَالثَّانِي مُخَالفَة الْأمة. لم تدل الْآيَة على توقف التوعد على اجْتِمَاع الوصفين. [400] وَمِمَّا تمسك بِهِ الْأَصْحَاب قَوْله تَعَالَى: {لم يكن الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 إِلَى قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين حنفَاء ويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة} . [401] فَإِن قيل: فمالكم لَا تستدلون بالظواهر المحتملة فِي مسئلة قَطْعِيَّة؟ . قيل لَهُم: اعلموا أَن المسئلة لَهَا طرفان أَحدهمَا تَجْوِيز خطابهم عقلا وَالثَّانِي تقدر ذَلِك شرعا. فَأَما تَجْوِيز خطابهم عقلا فَهُوَ مِمَّا يثبت قطعا وَلَا يثبت إِذا رمنا تَقْدِيره بالظواهر المحتملة وَأما اتِّصَال الْخطاب بالقوم سمعا [فَلَا يُقَال] فِيهِ الْقطع وَلكنهَا مسئلة اجْتِهَاد وَهِي نَحْو اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 إِلْزَام بعض [الْأَحْكَام] كثيرا من الْأَشْخَاص ونفيها عَنْهُم فَافْهَم ذَلِك. [402] فَالَّذِي نرتضيه لَك معتصما فِي المسئلة أَن نقُول لخصومنا: هَل تسلمون لنا جَوَاز تكليفهم عقلا أم تنكرون ذَلِك؟ فَإِن أَنْتُم أنكرتموه قبل لكم: فَكل مَا جَازَ اكتسابه جَازَ تَعْلِيق التَّكْلِيف بِهِ وَالَّذِي فِيهِ التَّنَازُع مِمَّا يتَصَوَّر من الْكَفَرَة اكتسابه والتوصل والتبلغ إِلَيْهِ فَلَيْسَ فِي تكليفهم اسْتِحَالَة تعقل. [403] فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الَّذِي يحِيل تكليفهم عدم تصور الْعِبَادَات مِنْهُم مَعَ الشّرك، وَلَو قدر إسْلَامهمْ فيتفق على توجه الْأَحْكَام عَلَيْهِم. قيل لَهُم: يلزمكم على قَود ذَلِك أَن تَقولُوا لَا تخاطبوا الدهرية ونفاة الصَّانِع بِتَصْدِيق الرُّسُل وَالْإِيمَان بهم لِاسْتِحَالَة الْإِيمَان بالرسل مَعَ اعْتِقَاد نفي الْمُرْسل وَكَذَلِكَ جملَة العقائد الْمُتَرَتب بَعْضهَا على بعض الَّتِي لَا يتَحَقَّق الْعلم مِنْهَا بِالثَّانِي إِلَّا مُرَتبا على سبق الْعلم بالدرجة الأولى، فَيلْزم من ذَلِك أَن لَا يجب على مُعْتَقد قدم الْعَالم إِلَّا الْعلم بحدوثه فَبَطل مَا قَالُوهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 [404] وَالْجَوَاب السديد أَن الْكَافِر يتَصَوَّر مِنْهُ التبلغ إِلَى الْعِبَادَات وَإِن كَانَ لَو قدر بَقَاؤُهُ على كفره، وإصراره على شركه لم تصح مِنْهُ الْعِبَادَات وَهَذَا كَمَا قَالَ إِن الْأَمر بِالْقيامِ يتَوَجَّه على الْقَاعِد فيتصف بِكَوْنِهِ مَأْمُورا بِالْقيامِ فِي حَال قعوده وَإِن كَانَ لَا يتَصَوَّر الْقيام مَعَ تَقْدِير اسْتِصْحَاب / الْقعُود فَتبين أَنه [48 / أ] لَيْسَ فِي توجه الْخطاب بالعبادات على الْكفَّار اسْتِحَالَة فِي [الْعقل] وكل اسْتِحَالَة يبدوها تلزمهم مثلهَا فِي المعارف. فَإِذا ثَبت جَوَاز خطابهم فقد وَردت فِي أَلْفَاظ الشَّرِيعَة أَلْفَاظ عَامَّة تنطوي عَلَيْهِم وعَلى غَيرهم فِي قَضِيَّة اللُّغَة فَلَزِمَ تعميمها إِن قُلْنَا بِالْعُمُومِ وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} . وَغير ذَلِك، فَمَا الَّذِي يصدنا عَن تَعْمِيم الْخطاب وَهُوَ من مجوزات الْعقل وَلَيْسَ فِي أَدِلَّة السّمع مَا يَقْتَضِي استخراجهم من قَضِيَّة الْعُمُوم. [405] فَإِن قيل: فَأنْتم معاشر الواقفية إِذا نفيتم صِيغ الْعُمُوم فَأنى يَسْتَقِيم مِنْكُم مَا قلتموه؟ قُلْنَا: إِذا نَفينَا صِيغَة الْعُمُوم جعلنَا اللَّفْظ الْوَارِد فِي صَلَاحه للْكفَّار كصلاحه لغَيرهم وَإِن كُنَّا لَا نقطع بتعميم وَتَخْصِيص ومقصدنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 تثبيت التَّسْوِيَة إِمَّا فِي تَعْمِيم وَإِمَّا فِي صَلَاح اللَّفْظ لَهُم ولغيرهم على مثابة وَاحِدَة. [406] وَمِمَّا عول عَلَيْهِ أَئِمَّتنَا أَن قَالُوا أَنْتُم لَا تخلون إِمَّا أَن تَقولُوا أَن النَّهْي عَن الْمُنْكَرَات لَا يتَعَلَّق بالكفرة أَو تَقولُوا يتَعَلَّق النَّهْي بهم فَإِن زعمتم أَن النَّهْي لَا يتَعَلَّق بهم على قِيَاس الْأَمر فيلزمكم من ذَلِك أَشْيَاء مِنْهَا: أَن تَقولُوا إِن الْمُشرك المنعزل المنشغل بِنَفسِهِ إِذا انْقَضى عمره على إصراره فيتنزل فِي اسْتِحْقَاق الْعقَاب منزلَة من جمع إِلَى كفره قتل الْأَنْبِيَاء والأولياء وهتك الحرمات والتسبب إِلَى جملَة الجراير وَهَذَا مِمَّا اتّفق الْمُسلمُونَ على خِلَافه وَفِي إبدائه أعظم الإغراء للكفرة بمقارفة الجرائر والكبائر. ثمَّ نقُول: لَو كَانَ الْأَمر على مَا قلتموه لزمكم طرد مَا ذكرتموه فِي أهل الذِّمَّة فَإِن الْكفْر مِنْهُم وَفِي أهل الْحَرْب بِمَثَابَة. ثمَّ لَا خلاف أَنا نُقِيم عَلَيْهِم الْحُدُود إِذا ارتكبوا موجباتها وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْمُرْتَد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 [407] وَإِن قَالُوا إِن النَّهْي يتَعَلَّق بالكفرة فقد سلمُوا المسئلة فَإِن النَّهْي فِيمَا صورناه تَكْلِيف فِي الْفُرُوع، فَمَا الْفَصْل بَينه وَبَين الْأَمر. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الصَّلَاة منهى عَن تَركهَا وَهُوَ من أعظم الْكَبَائِر، فَقَالُوا إِن هَذَا الْقَبِيل من النَّهْي يتَعَلَّق بهم فَيلْزم مِنْهُ الإفصاح بِالْأَمر بِالصَّلَاةِ فيقودهم النَّهْي إِلَى الْوِفَاق فِي الْأَمر. [408] فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا صححنا توجه النَّهْي لتصور التّرْك مِنْهُم دون الِامْتِثَال بالإقدام على الْعِبَادَة. قيل لَهُم: فَقولُوا على طرد ذَلِك أَن النَّهْي يتَصَوَّر تعلقه بالمجنون لتصور التّرْك مِنْهُ، ثمَّ مَا ذَكرُوهُ من عدم تصور الِامْتِثَال فقد قدمنَا مَا فِيهِ أكمل الْغنى، مَعَ أَنه يبطل بصور فِي الشَّرِيعَة، مِنْهَا الصَّلَاة فِي حق الْمُحدث فَإِنَّهَا لَا تصح دون رفع الْحَدث مَعَ الاقتدار، وَالْأَمر مُتَوَجّه مَعَ الْحَدث وأمثلة ذَلِك تكْثر فِي الشَّرِيعَة. [409] فَإِن وجوب الشَّيْء لَا يُنبئ عَن وجوب قَضَائِهِ عِنْد فَوَات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وقته إِذْ الْقَضَاء يثبت عندنَا بِأَمْر مُجَدد وكل أصل يعتبرونه فِي تثبيت الْقَضَاء [48 / ب] فلسنا نقُول أَنه ثَبت لوُجُوب أَصله بل ثَبت بِأَمْر / مبتدئ وَالَّذِي ينْقض ذَلِك عَلَيْهِم طردا وعكسا أَن الْحَائِض لَا يجب عَلَيْهَا أَدَاء الصَّوْم [ويلزمها] الْقَضَاء، وتفوت الْجُمُعَة ثمَّ لَا تقضي إِلَى غير ذَلِك من مسَائِل الشَّرْع الَّتِي مِنْهَا الْقيام فِي الصَّلَاة فَإِنَّهُ لَو ترك صَلَاة مُتَعَمدا مَعَ اقتداره على الْقيام ثمَّ عجز عَن الْقيام وَقضى مَا فَاتَهُ قَاعِدا بَرِئت ذمَّته وفَاقا وَسقط عَنهُ الْقيام. [410] فَإِن عَادوا وعولوا على عدم تصور الْعِبَادَة مِنْهُ فقد فرط الْجَواب عَنهُ ثمَّ يلْزمهُم الْمُرْتَد فَإِنَّهُ مُخَاطب عِنْد أَكْثَرهم فَإِن فصلوا بَينه وَبَين الْكَافِر الْأَصْلِيّ بِأَنَّهُ مُلْتَزم للْأَحْكَام تنكص على عَقِبَيْهِ وَهَذَا من أبشع مَا يتَكَلَّم بِهِ من لَا حَظّ لَهُ فِي الْأُصُول، فَإنَّا نقُول لَا حكم لالتزام الْمَرْء وَإِنَّمَا الحكم لإلزام الله، الْتزم الْمُكَلف أَو أَبى. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْخطاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 مُتَوَجّه على الْكفَّار بِتَصْدِيق الرُّسُل وَإِن لم يسْبق مِنْهُم فِي ذَلِك الْتِزَام فَبَطل الْمصير إِلَى هَذَا الْقَبِيل من الْكَلَام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 (86) القَوْل فِي أَن الْأَمر يتَنَاوَل عِنْد إِطْلَاقه وَانْتِفَاء سمات الْخُصُوص مِنْهُ الذّكر وَالْأُنْثَى وَالْحر وَالْعَبْد [411] إِذا ورد الْخطاب على مَذْهَب الْقَائِلين بِالْعُمُومِ وَلم يكن فِيهِ مَا يَقْتَضِي اختصاصا بالأحرار وَلم تقم دلَالَة على خُرُوج العَبْد عَن مُقْتَضى اللَّفْظ الْعَام وَهُوَ مَوْضُوع فِي أصل اللُّغَة للتعميم، فالعبيد والأحرار فِيهِ بِمَثَابَة وَاحِدَة، وَإِن قَامَت دلَالَة مقتضية تَخْصِيص الْأَحْرَار خصصوا. [412] وَذهب بعض الْعلمَاء أَن العبيد لَا يدْخلُونَ تَحت مُطلق الْخطاب فَيُقَال لَهُم: إِذا ورد الْخطاب مَنُوطًا بِالْمُؤْمِنِينَ مثلا وَهُوَ الْأَمر يتَحَقَّق فِي العبيد تحَققه فِي الْأَحْرَار، وَلَيْسَ فِي وضع اقْتِضَاء تَخْصِيص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 وخطاب العبيد مُمكن كَمَا أَن خطاب الْأَحْرَار مُمكن، فَإِذا تساوى العبيد والأحرار فِي إِمْكَان تَوْجِيه الْخطاب عَلَيْهِم عقلا وانطوت اللَّفْظَة الْمُطلقَة عَلَيْهِم لُغَة وَعرفا وَلم تقم دلَالَة مخصصة فَلَا معنى لإخراجهم من مُوجب اللَّفْظ وتخصيصه بالأحرار وَلَيْسَ الصائر إِلَى ذَلِك بِأَسْعَد حَالا مِمَّن يقلب عَلَيْهِ هَذَا الْمَذْهَب. [413] فَإِن قَالُوا: العبيد مستحقون لملاكهم، وجهات تصرفاتهم منصرفة إِلَى ساداتهم فَكَأَنَّهَا بِحكم الشَّرْع مستثنون عَن تصريف الشَّرْع وتكليفه؟ قيل لَهُم: فَهَل يفزعون فِيمَا يبدون إِلَى غير موارد الشَّرِيعَة فَإذْ كَانَت لفزعكم فاعلموا أننا نعول مهما دلّت دلَالَة شَرْعِيَّة على خُرُوج العَبْد عَن قَضِيَّة التَّكْلِيف لاسْتِحْقَاق مُتَعَلق بِهِ فنخصصه، وَإِنَّمَا الْكَلَام فِيمَا لم يقم فِيهِ دلَالَة تَخْصِيص، فَإِن ادعيتم ثُبُوت الِاسْتِحْقَاق فِي العبيد بِأَصْل الشَّرْع عُمُوما فَهَذَا محَال وفَاقا، ومعظم الْعِبَادَات متوجهة عَلَيْهِم، فَالْأَمْر فيهم على الانقسام إِذا، فَلَيْسَ إِلَّا تتبع الْأَلْفَاظ وإجراؤها على ظواهرها فِي وضع / اللُّغَة إِلَى أَن يمْنَع [49 / أ] من ذَلِك مَانع، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك صِحَة وُرُود الْخطاب مُخْتَصًّا بالعبيد أَو متناولا لَهُم ولغيرهم على التَّنْصِيص فَلَو صَحَّ مَا ادعوهُ من الِاسْتِحْقَاق على وَجه الِاسْتِغْرَاق لما جَازَ وُرُود الْخطاب خَاصّا إِلَّا أَن يكون نَاسِخا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 (87) فصل [414] فَإِن قيل: الْخطاب الْوَاحِد هَل يَشْمَل الذُّكُور وَالْإِنَاث؟ . قيل: يتتبع فِي ذَلِك وضع اللُّغَة فَإِن وَردت لَفْظَة وضعت لتخصيص بِالرِّجَالِ خصصت بهم، وَإِن وضعت مُشْتَركَة حملناها على الِاشْتِرَاك وَذَلِكَ نَحْو قَول كل نفس ((وكل شخص)) فَهَذَا مِمَّا يعم الرِّجَال وَالنِّسَاء. [415] فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي الْمُؤمنِينَ وَالْمُسْلِمين وَنَحْوهمَا هَل يتَنَاوَل النِّسَاء؟ . قيل: هَذَا مِمَّا اخْتلف فِيهِ الْعلمَاء فَصَارَ بَعضهم إِلَى أَن الْجمع الْمَوْضُوع للذّكر ينطوي على الْإِنَاث أَيْضا. وَالَّذِي ارْتَضَاهُ الشَّافِعِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 رَضِي الله عَنهُ ومعظم أَرْبَاب الْأُصُول أَن مثل هَذَا اللَّفْظ إِذا ورد مُطلقًا مُخَصص بِالرِّجَالِ فِي مورده إِلَّا ان تقوم دلَالَة تَقْتَضِي الِاشْتِرَاك وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الْعَرَب فصلت فِي منزلَة الوحدان بَين الذّكر وَالْأُنْثَى وَكَذَلِكَ فِي منزلَة التَّثْنِيَة فَقَالَت مُسلم ومسلمان ومسلمة ومسلمتان ثمَّ خصصوا جمعهن بِصِيغَة فَقَالُوا مسلمات وَكَذَلِكَ خصصوا جمع الذُّكُور فَقَالُوا: مُسلمين، والجميع إِنَّمَا هُوَ جمع الْآحَاد فَإِذا اتَّضَح التباين فِي صِيغ الْآحَاد اتَّضَح فِيهَا بجمعها [وَاسْتدلَّ الشَّافِعِي] رَضِي الله عَنهُ بقوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي حرض الْمُؤمنِينَ على الْقِتَال} فَصَارَ إِلَى ان الْمَقْصد بِالْآيَةِ الرِّجَال دون النِّسَاء، وأوضح مَا قَالَه مَا روى عَن أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت لرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : ((مَا بَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 الرِّجَال يسمون فِي الْقُرْآن دون النِّسَاء فَنزل قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات وَالْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} إِلَى آخر الْآيَة. [416] فَإِن قيل: أَلَيْسَ من أهل اللُّغَة أَن من أَرَادَ أَن يعبر عَن الذّكر وَالْإِنَاث عبر عَنْهُم بِمَا يعبر عَنهُ عَن مَحْض الذُّكُور تَغْلِيبًا للذكور فِي حكم الْخطاب على الْإِنَاث. قيل لَهُم: صَحَّ مَا قلتموه على أهل اللُّغَة وَلَيْسَ لكم فِيهِ فرج، وَذَلِكَ أَنه مَا نقل عَنْهُم أَن مُطلق جمع الذُّكُور يُنبئ عَن الْإِنَاث، وَلَكِن قَالُوا: إِذا أَرَادَ الْمعبر أَن يعبر عَن الذُّكُور وَالْإِنَاث عبر عَنْهُم بِجمع الذُّكُور وَفِي نفس مَا نقلتموه [رد] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 عَلَيْكُم فَإِنَّهُم قَالُوا يغلب [نعت الذُّكُور] على نعت الْإِنَاث، فَلَو كَانَ ينطوي عَلَيْهِم انطواءه عَلَيْهِ [ن لم يكن] لذكر التغليب [للرِّجَال عَلَيْهِنَّ معنى] فَكَانَ محصول مَا نقل عَنْهُم يؤول إِلَى أَنه إِذا ثَبت ... عَن الْجَمِيع غلب نعت الذُّكُور وَلَا يَصح أَن ينْقل [عَنْهُم] أَن مُطلق اللَّفْظ فِي جمع الذُّكُور يُنبئ عَن الْإِنَاث على الْوَجْه الَّذِي يُنبئ عَن الذُّكُور وَمن أحَاط علما بِطرف من اللُّغَة استيقن مَا قُلْنَاهُ /. [49 / ب] (88) فصل [417] إِذا ورد خطاب يتَنَاوَل فِي وضع اللُّغَة الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَغَيره من الْأمة اقْتضى ظَاهر الْخطاب التَّعَلُّق بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام فهم إِن لم تفهم دلَالَة مخصصة للْأمة بِحكم الْخطاب وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {يَا عباد} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 و {يَا أَيهَا النَّاس} و {يَا أولي الْأَلْبَاب} إِلَى غَيرهَا. وَذهب بعض من خبْرَة لَهُ بالحقائق إِلَى أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لَا يدْخل تَحت مُطلق هَذَا الْخطاب وَالَّذِي قدمْنَاهُ فِي الْفُصُول السَّابِقَة تحقق الْمَقْصد هَا هُنَا وَذَلِكَ أَن اللَّفْظَة عَامَّة فِي وضع اللُّغَة وَتعلق الْخطاب بِهِ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مُمكن وَلم تقم دلَالَة مَانِعَة من إِجْرَاء اللَّفْظ على ظَاهره. [418] فَإِن قَالُوا: قد ثَبت لرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خَصَائِص فَلَا يدرج حكمه فِي قَضِيَّة الْأَلْفَاظ الْعَامَّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 قُلْنَا: مَا ثَبت اخْتِصَاصه فِيهِ خصص بِهِ، ثمَّ اخْتِصَاصه بِهِ لَا يُوجب عُمُوم اخْتِصَاصه فيا عجبا مِمَّن يخصص اللَّفْظَة الْعَامَّة من غير دَلِيل ويعمم الحكم الْخَاص وَهَذَا لَو تأملته قلب الْحَقَائِق. ثمَّ نقُول قد ثبتَتْ جملَة من الخصائص لآحاد الْمُكَلّفين نَحْو الْمُسَافِرين وَالْحيض وأرباب المعاذير وَغَيرهم ثمَّ اختصاصهم بِبَعْض الْأَحْكَام لَا يخرجهم عَن عُمُوم الْأَلْفَاظ. [419] وَمِمَّا يتَّصل بذلك أَن اللَّفْظ إِن وَردت مخصصة بالرسول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خصصت بِهِ مَا لم تقم دلَالَة على أَن غَيره يضاهيه [فِيهِ، وَذَلِكَ] نَحْو قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا المزمل} و {يَا أَيهَا المدثر} وَكَقَوْلِه: {إِن أَرَادَ النَّبِي أَن يستنكحها خَالِصَة لَك} الْآيَة. [إِلَّا أَنه ذهب بعض] الْعلمَاء إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 أَن الْخطاب وَإِن اخْتصَّ بِهِ فِي الصِّيغَة فسائر الْأمة مَعَه فِيهِ شرع، وَالَّذِي [يثبت بِهِ] تَحْقِيق الْعُمُوم فِي الْفَصْل الَّذِي قبل ذَلِك يُحَقّق الْخُصُوص فِي هَذَا الْفَصْل. [420] فَإِن قيل: [نعلم مُسَاوَاة] الْأمة للرسول عَلَيْهِ السَّلَام فِي مُعظم الشَّرْع فَيحمل عَلَيْهِ كل خطاب يرد. قيل لَهُم: إِن ادعيتم أَن ذَلِك [ثَابت فَهَذَا مَا لَا محيص عَنهُ بِحَال] وَإِن زعمتم أَن الشَّرْع يَقْتَضِي التَّعْمِيم فِي جملَة الْأَحْكَام فَهَذَا ادِّعَاء ... لشرع يَنْقَسِم فَمِنْهُ مايتخصص وَمِنْه مَا يعم فَلَا سَبِيل إِلَى تَخْصِيص كُله لَا ... والبت فِي تَعْمِيم كُله لعُمُوم بعضه فَلَا مُعْتَبر فِي ذَلِك بالمعظم والأقل، ثمَّ لَو سَاغَ تَعْمِيم الل [فظ الْخَاص لَو] رَود بعض الْأَحْكَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 على الْعُمُوم سَاغَ تَخْصِيص اللَّفْظ ال [عَام] لوُرُود بعض الأح [كام على الخا] ص فَإِذا تقَابل الْقَوْلَانِ تساقطا وَلزِمَ اتِّبَاع الصِّيَغ [وإجراؤها على ظواهرها فِي الْعُمُوم مَا لم تقم] دلَالَة تخصها فِي إِزَالَة ظَاهرهَا. (89) القَوْل فِي أَن الْأَمر بالشَّيْء نهى عَن ضِدّه وَوجه الْخلاف فِيهِ [421] اعْلَم، وفقك الله أَن أَرْبَاب الْأُصُول اخْتلفُوا فِي ذَلِك فَصَارَ ذاهبون إِلَى قدم الْكَلَام الَّذِي اتّصف بِهِ الرب تَعَالَى إِلَى أَنه وصف وَاحِد يَسْتَحِيل عَلَيْهِ التجدد والتغاير وَهُوَ خبر عَن كل / مخبر، أَمر بِكُل مَأْمُور بِهِ [50 / أ] نهي عَن كل مَنْهِيّ عَنهُ، وَاخْتلفُوا فِي أوامرنا الَّتِي تتصف بهَا فَمن زعم أَن حَقِيقَة الْكَلَام يرجع إِلَى مَا فِي النَّفس على مَا قَررنَا زعم أَن الْأَمر بالشَّيْء على التَّنْصِيص والتخصيص لَا على التَّخْيِير مَنْهِيّ عَن جَمِيع أضداد الْمَأْمُور بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 وَمن زعم أَن الْكَلَام ينْطَلق على الْعبارَات والحروف المنتظمة الَّتِي هِيَ الْأَصْوَات لم يُطلق القَوْل بِأَن الْأَمر نهي، فَإِن الْأَمر عِنْده قَول الْقَائِل افْعَل، وَالنَّهْي قَول الْقَائِل لَا تفعل، وَلَكِن قَالَ الْأَمر بالشَّيْء على الْجَزْم وَنفي التَّخْيِير يتَضَمَّن النَّهْي من طَرِيق الْمَعْنى وَلَيْسَ هُوَ عين النَّهْي، وَرُبمَا يطلقون القَوْل بِأَن الْأَمر يُنبئ من طَرِيق الْمَعْنى. [422] وَإِنَّمَا قيدنَا الْكَلَام بِانْتِفَاء التَّخْيِير، لِأَن الْأَمر المنطوي على التَّخْيِير قد يتَعَلَّق بالشَّيْء وضده وَيكون الْوَاجِب أَحدهمَا لَا بِعَيْنِه، فَلَا سَبِيل لَك إِلَى أَن تَقول فِيمَا هَذَا وَضعه أَنه نهى عَن ضِدّه إِذا خير الْمَأْمُور بَينه وَبَين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 ضِدّه فقيدنا الْكَلَام بِانْتِفَاء التَّخْيِير لذَلِك. [423] وَرُبمَا يعبر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ عَن ذَلِك فَيَقُول: الْأَمر بالشَّيْء نهى عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ وَبدل الْقَائِم مقَامه إِن كَانَ ذَا بدل فَيخرج بذلك الْأَمر الْمُشْتَمل على التَّخْيِير. [424] وَذَهَبت الْمُعْتَزلَة بأسرها إِلَى أَن الْأَمر بالشَّيْء لَيْسَ بنهي عَن [ضِدّه] لَا من حَيْثُ الْحَقِيقَة وَلَا من حَيْثُ الْمَعْنى. فَأول مَا نفاتحهم بِهِ أَن نقُول أَلَيْسَ الْأَمر [عنْدكُمْ هُوَ] اللَّفْظ الْمَخْصُوص، فَإِذا قَالُوا نعم قيل لَهُم: فَهَل يتَصَوَّر أَن يكون أمرا بالشَّيْء على [سَبِيل الْجَزْم غيرناه] ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ فَإِذا قَالُوا لَا يتَصَوَّر ذَلِك وَلَا بُد مِنْهُ. قيل لَهُم: فبماذا ... فَإِن صرفتم ذَلِك إِلَى نفس مَا يلفظه وَهُوَ قَوْله افْعَل فقد جعلتموه نهيا ... النَّفس فَلَا يَسْتَقِيم على أصلكم فَإِنَّكُم ... آخر وَلم يبدر مِنْهُ فِيمَا قا ... بناه عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ. قيل لَهُم: فَهَذَا [خرق مَا عَلَيْهِ الكافة مَعَ أَنا لَا نلجئكم إِلَى] مَا لَا قبل لكم بِهِ وَهُوَ أَن تَقول إِذا ورد الْأَمر على الْجَزْم بِشَيْء وَهُوَ مُقَيّد بالفور وانتفى عَنهُ] سمة التَّخْيِير وَثَبت الِامْتِثَال على التنص [يص، فتحريم ضد الِامْتِثَال لَا شكّ فِيهِ، إِذْ لَو لم يحرم فَمَا معنى وجوب الِامْتِثَال] ؟ فَإِن قَالُوا لَا يجوز عَلَيْهِ فَإنَّا نتحقق مَعَ ... نجزم أضداد الِامْتِثَال، قيل لَهُم فبماذا؟ ... فَإِن قَالَ عَنْهُم ... مَذَاهِب الْقَوْم فَإِنَّهُم كَمَا استبعدوا كَون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 الْأَمر نهيا استبعدوا كَون الْإِرَادَة كَرَاهِيَة لأضداد المُرَاد فبطلت الطّرق وَضَاقَتْ / عَلَيْهِم المسالك. [425] وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ أَن نثبت على الْخُصُوم قدم الْكَلَام للرب تَعَالَى ثمَّ نرتب عَلَيْهِ اتحاده فيترتب على ذَلِك كَون الْمَوْجُود الْوَاحِد أمرا نهيا لَا محَالة وَهَذَا يستقصي فِي الديانَات إِن شَاءَ الله عز وَجل. [426] وَمَا عول عَلَيْهِ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أَن قَالَ قد ثَبت أَن الْمَوْصُوف بِكَوْنِهِ آمرا بالشَّيْء منعوت بِكَوْنِهِ ناهيا عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ إِذا كَانَ الْأَمر على التَّضْيِيق، وَالْخُرُوج عَن الاتصاف بِكَوْنِهِ ناهيا يُوجب الْخُرُوج عَن الاتصاف بِكَوْنِهِ أمرا، وَلم تقم دلَالَة عقلية على تغار مَعْنيين، وَلم يقتض التغاير علم ضَرُورِيّ، فَلَا طَرِيق إِلَّا أَن نصرف هذَيْن الوصفين إِلَى مُقْتَضى وَاحِد، ويتضح ذَلِك بالمثال، فَنَقُول إِذا قرب جَوْهَر من جَوْهَر وَبعد من غَيره فنعلم أَن عين قربه مِمَّا قرب مِنْهُ بعد مِمَّا بعد عَنهُ فَإِذا تحرّك الْجَوْهَر من مَكَان إِلَى مَكَان فَنَفْس خُرُوجه من الْمَكَان الأول دُخُول فِي الثَّانِي وَإِنَّمَا عرفنَا ذَلِك الأَصْل الَّذِي مهدناه وَهُوَ أَنه لم يعقل دُخُوله فِي غير اتصافه بِالْخرُوجِ وَلم يعقل قربه مِمَّا قرب مِنْهُ إِلَّا مَعَ بعده مِمَّا بعد مِنْهُ، وَلم تدل دلَالَة على تثبيت مَعْنيين فَلَا وَجه إِلَّا أَن يصرفا إِلَى مُوجب وَاحِد، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي كَون الْآمِر آمرا ناهيا وبهذه الطَّرِيقَة تَبينا الْعِلَل وجوزناها لاقْتِضَاء معلولاتها فَإنَّا لما نَظرنَا إِلَى الْقُدْرَة ووجدناها لَا تثبت إِلَّا بِأَن تَقْتَضِي وصف الْمحل وَالْجُمْلَة الَّتِي الْمحل مِنْهَا معنى لكَونهَا قَادِرًا وَلم نجد كَونه قَادِرًا إِلَّا مَعَ الْقُدْرَة وَلم تثبت دلَالَة فِي انضمام معنى إِلَى الْقُدْرَة عرفنَا أَن الْقُدْرَة تَقْتَضِي معلولها بِنَفسِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 وَهَذِه الطَّرِيقَة مستمرة فِي مُعظم أصُول الديانَات، وَهُوَ من أقوى مَا يتشبث بِهِ، وَلَا يصفوا لَك إِلَّا بعد أَن نذْكر شبههم ونتفصى عَنْهَا ليتبين لَك أَنه لم تقم دلَالَة دَالَّة على التغاير، ونردف هَذِه الدّلَالَة بِأَن نقُول: فَإِن أيا ذَا أثبتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي مَعْنيين فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَكُونَا مثلين أَو خلافين [أَو ضدين] وَلَا ... كَانَا مثلين فَمن حكم المثلين أَن يَتَّصِف أَحدهمَا بِمَا يَتَّصِف بِهِ الثَّانِي نَحْو أَدِلَّة الْخَاص فَوَجَبَ أَن يَقع الِاسْتِقْلَال بِأَحَدِهِمَا وَإِن كَانَا ضدين اسْتَحَالَ اجْتِمَاعهمَا ... اسْتِحَالَة الاتصاف بهما جَمِيعًا وَقد ثَبت وجوب اتصاف كل أَمر جازم بِكَوْنِهِ نهيا فِي حَال كَونه أمرا وَإِن كَانَا خلافين غير متضادين وَجب أَن يتَصَوَّر ثُبُوت أَحدهمَا وَانْتِفَاء الثَّانِي كالحركة والسواد والسكون وَالْعلم وَغَيرهمَا من المختلفات وشأن كل مُخْتَلفين لَا يتضادان، وَلَا يتَعَلَّق أَحدهمَا بِالثَّانِي تعلق الشَّرْط بالمشروط وَالْعلَّة بالمعلول والإدراك بالمدرك أَن يجوز ثُبُوت أَحدهمَا / مَعَ جَوَاز ثُبُوت ضد الآخر فَيلْزمهُ من ذَلِك [51 / أ] أَن يجوز ثُبُوت الْأَمر مَعَ ثُبُوت ضد النَّهْي عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ وضد النَّهْي عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ هُوَ الْأَمر بهَا فَيلْزم من ذَلِك جَوَاز ثُبُوت الْأَمر بالشَّيْء جزما مَعَ ثُبُوت الْأَمر بأضداد الْمَأْمُور بِهِ على التحتم أَيْضا فَإِذا بطلت هَذِه الْأَقْسَام لم يبْق إِلَّا الْمصير إِلَى أَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ. [427] شُبْهَة الْمُخَالفين: فَإِن قَالُوا: الْأَمر لَفْظَة مَعْلُومَة فِي اللُّغَة وَهِي تخَالف لَفْظَة النَّهْي فَمن جعل الْأَمر نهيا فقد وصف الشَّيْء بِوَصْف خِلَافه وَينزل منزلَة من قَالَ الْعلم حَرَكَة وَالْحَرَكَة علم. قيل لَهُم: بنيتم ذَلِك على فَاسد أصلكم حَيْثُ قُلْتُمْ: إِن الْأَمر يرجع إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 الْأَلْفَاظ فَهَذَا [مَا ننكره] أَشد الْإِنْكَار ثمَّ نقُول فَلَو ساعدناكم على مَا قلتموه فَبِمَ تنكرون على من يَقُول إِن لفظ الْأَمر لَيْسَ تَسْمِيَة هُوَ عين لفظ النَّهْي وَلَكِن يتَضَمَّن معنى النَّهْي وَهَذَا كَمَا قَالَ إِن النَّهْي عَن التأفيف فِي قَوْله عز اسْمه: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} الْآيَة مُخَالف للفظ النَّهْي عَن الضَّرْب وَلَكِن مُتَضَمّن لَهُ وَإِن لم يكن عينه، إِلَى غير ذَلِك من فحوى الْخطاب. فَإِن ساعدونا على ذَلِك فقد ارْتَفع الْخلاف مَعَ فِئَة من الْفُقَهَاء وهم الَّذين سموا الصِّيَغ أوَامِر ونواهي. [428] فَإِن قَالُوا: لَو كَانَ الْأَمر نهيا جَازَ أَن يكون الْقُدْرَة على الشَّيْء عَجزا عَن أضداده وَالْعلم بالشَّيْء جهلا بضده إِلَى غير ذَلِك من أَمْثَاله. قيل لَهُم هَذَا اجتزاء مِنْكُم لمقابلة اللَّفْظ بِاللَّفْظِ واقتصار مِنْكُم على مُجَرّد دَعْوَى، فَلم قُلْتُمْ: إِنَّه لما لم يكن الْعلم جهلا وَالْقُدْرَة عَجزا لَا يكون الْأَمر نهيا، ثمَّ بِمَ تنكرون على من يَقُول يلزمكم على قَود ذَلِك أَن تجْعَلُوا الْحَرَكَة عَن الْمَكَان سكونا فِي الْمَكَان الثَّانِي وَلَا يكون الْقرب مَعَ الشَّيْء بعدا عَن غَيره لما ذكرتموه فِي الْقُدْرَة وَالْعجز وَالْعلم وَالْجهل فَتبين أَن تتبع الإطلاقات لَا سَبِيل إِلَيْهِ. ثمَّ نقُول لما لم نجد اتصاف كل قَادر على شَيْء بِكَوْنِهِ عَاجِزا عَن ضِدّه لم يلْزم أَن يكون الْقُدْرَة عَجزا، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْعلم وَلما ألزم القَوْل فِي الْعلم وَلما لزم أَن يكون آمُر كل امْر جازم ناهيا فَتبين الْفَصْل بَينهمَا. [429] فَإِن قيل: فَإِذا جعلتم الْأَمر نهيا فقد علقتم وَصفا حَادِثا بمتعلقين وَالْوَصْف الْحَادِث لَا يتَعَلَّق بمتعلقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 قيل لَهُ: لَيْسَ الْأَمر على مَا ذكرتموه فَإِن الْوَصْف الْحَادِث قد يتَعَلَّق بمتعلقين فَإنَّا رُبمَا نقُول إِن الْعلم مُتَعَلق بالمعلوم. قيل لَهُم: لَيْسَ الْأَمر على مَا ذكرتموه فَإِن تعلق بِنَفسِهِ وَالْقُدْرَة عنْدكُمْ تتَعَلَّق بالشي / وضده. [51 / ب] [430] فَإِن قَالُوا: فَإِذا زعمتم أَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ لزمكم أَن تَقولُوا النَّهْي عَن الشَّيْء أَمر بأضداد المنهى عَنهُ حَتَّى يلْزم من ذَلِك الْأَمر بالمتضادات جَمِيعهَا. قيل لَهُم: النَّهْي عَن الشَّيْء الَّذِي لَهُ ضد وَاحِد يتَضَمَّن الْأَمر بالمتضاد الَّذِي لَهُ أضداد فيتضمن الْأَمر بِأحد أضداده وَمَا قلتموه من وجوب التَّسْوِيَة بَينهمَا ادِّعَاء مُجَرّد وإلزام بِمُجَرَّد لفظ وَوجه التَّحْقِيق فِي ذَلِك أَن الْأَمر بالشَّيْء على التَّضْيِيق لما تضمن تَحْرِيم كل الأضداد كَانَ نهيا عَن كلهَا، وَالنَّهْي عَن الشَّيْء لَا يتَضَمَّن إِيجَاب كل الأضداد فَلَا يكون أمرا بكلها فتتبع الْأَلْفَاظ أولى من مُقَابلَة الْأَلْفَاظ فَافْهَم. (90) القَوْل فِي معنى فَوَات الْفِعْل الْمُؤَقت وإعادته، وَكَون الْقَضَاء فرضا ثَانِيًا [431] اعْلَم أَن الْفَوات إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الْفِعْل الْمُؤَقت بِوَقْت مَحْصُور مَحْدُود، فَإِن قيل لَك مَا الْفَوات؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 قلت: هُوَ اسْم لمضي الْوَقْت الْمَحْدُود للْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ. والفائت هُوَ الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ إِذا انْقَضى وقته [و] لم يتَقَدَّر أَدَاؤُهُ. فَأَما مَا لم يعلق بِوَقْت مَحْدُود فَلَا يُطلق اسْم الْفَوات فِيهِ، وَمَا وَجب على الْفَوْر وَلم يتَعَلَّق الأمرعلى ذكر وَقت وَلَكِن تقرر بالقرائن وجوب الابتدار إِلَى الِامْتِثَال فِي أول وَقت الْإِمْكَان فَإِذا أخرالمكلف مقصرا فَيتَحَقَّق اسْم الْفَوات هَكَذَا قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ إِذا ثَبت الْفَوْر استحقاقا فَمن ضَرُورَته وجوب إِيقَاع الْفِعْل فِي أول زمن من الْإِمْكَان فَهُوَ إِذا مَأْمُور بإيقاعه فِيهِ. [432] وَهَذَا الَّذِي ذكره مُسْتَمر على مَنْهَج الْأُصُول وَإِن كَانَ مُخَالف إطلاقات الْفُقَهَاء فَإِنَّهُم إِذا قَالُوا يجب تَعْجِيل أَدَاء الزَّكَاة عِنْد الْإِمْكَان فَإِذا مضى من الْوَقْت مَا لَو ابتدر فِيهِ لأَدَاء الزَّكَاة أمكنه فَلَا يَقُول الْفُقَهَاء إِن أَدَاء الزَّكَاة قد فَاتَهُ فَإِذا قدم عَلَيْهِ فِي الْوَقْت الثَّانِي لَا يسمونه قَاضِيا وَذَلِكَ يرجع إِلَى الْعبارَات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 [433] وَالتَّحْقِيق مَا قَالَه القَاضِي رَضِي الله عَنهُ ويتبين لَك ذَلِك بِشَيْء وَهُوَ أَنه إِذا ثَبت ان الْأَمر لَا يَقْتَضِي التّكْرَار بمطلقه وَلَا الْفَوْر ثمَّ اقْترن بِهِ مَا يَقْتَضِي الْفِعْل فِي أول زمن الْإِمْكَان فَلَو انْقَضى أول الزَّمن فَلَا يثبت الْوُجُوب فِي الزَّمَان الثَّانِي إِلَّا بِأَمْر مُجَدد كَمَا لَا يثبت وجوب الْقَضَاء فِي كل مَا اتَّفقُوا على تَسْمِيَته قَضَاء إِلَّا بِأَمْر مُجَدد على مَا سنذكر إِن شَاءَ الله عز وَجل. [434] فَإِن قيل: قد ذكرْتُمْ الْفَوات والفائت فَمَا الْقَضَاء؟ قُلْنَا: هُوَ فعل مَا فَاتَ وقته / الْمَحْدُود لَهُ وَإِنَّمَا يتَحَقَّق الْقَضَاء إِذا [52 / أ] انْقَضى وَقت الْأَدَاء على من كَانَ مُلْتَزما لَهُ فِيهِ وَرُبمَا يُطلق الْفُقَهَاء اسْم الْقَضَاء تجوزا فِي حق من لم يكن من أهل الِالْتِزَام فِي وَقت الْأَدَاء، وَذَلِكَ نَحْو قَوْلهم: على الْحَائِض قَضَاء الصّيام، وَإِن عرفنَا قطعا أَن أداءه لم يجب عَلَيْهَا فِي زمن محيضها وَلَكنهُمْ أطْلقُوا ذَلِك توسعا وَغلب ذَلِك على الْأَلْسِنَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 [435] فَإِن قيل: فَمَا الْإِعَادَة؟ قيل: هِيَ فعل مثل مَا بَطل وَفَسَد من الْمَأْمُور بِهِ مَعَ انْتِفَاء الْفساد عَنهُ فَيخرج من ذَلِك أَن من فَاتَتْهُ صَلَاة، حسن مِنْهُ أَن يَقُول: عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا وَلَا يحسن أَن نقُول عَلَيْهِ إِعَادَتهَا فَإِن الْإِعَادَة مَبْنِيَّة على الْعود إِلَى الشَّيْء فَإِذا لم يتَحَقَّق التَّلَبُّس بِهِ لم يحسن فِيهَا إِطْلَاق الْإِعَادَة، وَلَكِن لَو تلبس بِالصَّلَاةِ ثمَّ أفسدها حسن إِطْلَاق الْإِعَادَة هَا هُنَا، فَهَذَا مَا يحسن إِطْلَاقه، وَقد نرى الْفُقَهَاء يتسامحون فِي ذَلِك فَيَقُولُونَ الْإِعَادَة، ويعنون بهَا الْقَضَاء، ومقصدنا التَّنْبِيه على الْحَقَائِق ثمَّ لَا حرج عَلَيْك لَو توسعت. (91) فصل [436] ذهب بعض من لَا معرفَة لَهُ بالحقائق إِلَى أَن الصّيام يجب على الْحَائِض فِي زمن الْحيض وَلكنهَا لَا تتمكن مِنْهُ فتقضيه عِنْد ارْتِفَاع الْمَانِع وَهَذَا محَال فَإِن الْأمة أَجمعت على أَن الْوَاجِب هُوَ الصّيام الصَّحِيح ثمَّ اتَّفقُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 على أَنه لَا يَصح من الْحَائِض الصّيام كَيفَ وَقد أَجمعُوا على أَنَّهَا لَو أَمْسَكت عَن المفطرات ناوية صَومهَا عَصَتْ الله، وَكَيف يجب عَلَيْهَا صَوْم صَحِيح وَلَا يتَصَوَّر مِنْهَا التَّوَصُّل إِلَى الصَّوْم الصَّحِيح. [437] فَإِن قيل الْأَمر بِالصَّلَاةِ مُتَوَجّه على الْمُحدث وَلَا يَصح مِنْهُ مَعَ حُدُوثه وَكَذَلِكَ الْأَمر بالشرائع مُتَوَجّه على الْكفَّار مَعَ اسْتِحَالَة وُقُوعهَا على الصِّحَّة مَعَ بَقَاء الْكفْر، قيل لَهُم: يتَصَوَّر من الْمُحدث التَّسَبُّب إِلَى رفع الْحَدث وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْكَافِر وَلَا يتَصَوَّر ذَلِك فِي الْحيض فافترق الْأَمْرَانِ وتباين البابان. [438] فَإِن قيل أَلَيْسَ يجب عَلَيْهَا الْقَضَاء؟ . قيل لَهُم: وجوب الْقَضَاء لَا يتلَقَّى عندنَا من وجوب الْأَدَاء فَإنَّا نقُول وَإِن ثَبت وجوب الْأَدَاء ثمَّ فَاتَ لم يجب الْقَضَاء إِلَّا بِأَمْر مُجَدد. [439] فَإِن قيل: أَلَيْسَ اسْم الْقَضَاء إِنَّمَا يتَنَاوَل بعد تَحْقِيق فَوَات وَاجِب؟ . قُلْنَا هَذَا تمسك بالعبارات الدائرة فِي بعض الْفُقَهَاء وَلَيْسَت عبارَة شَرْعِيَّة فَيصح التَّمَسُّك بهَا، ثمَّ نقُول اسْم الْقَضَاء يَنْقَسِم فقد ينْطَلق بعد فَوَات وَاجِب وَقد ينْطَلق بعد فَوَات وجوب إِذا كَانَ فِي حق مُكَلّف على الْجُمْلَة، وتجوزنا بقولنَا فِي ((حق مُكَلّف)) عَن الصَّبِي يبلغ فينتدب لامتثال / الْأَوَامِر وجوبا، فَإِن مَا يبدر مِنْهُ لَا يُسمى قَضَاء لِأَن مَا فَاتَ وُجُوبه [52 / ب] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 كَانَ فِي زمَان سُقُوط التَّكْلِيف فَتبين بذلك أَن مَا عولوا عَلَيْهِ رُجُوع إِلَى مَحْض الْعبارَات. [440] فَإِن قيل: أَلَيْسَ يجب عَلَيْهَا أَن تنوي قَضَاء الصَّوْم فَهَذَا رَاجع إِلَى الحكم دون الْعبارَة. قُلْنَا: الْمَقْصُود من النيات التَّمْيِيز فِي الْعِبَادَات، فَأمرت أَن تميز بَين الصَّوْم الْموقع فِي غير رَمَضَان وَبَين الصَّوْم الْموقع فِي رَمَضَان، فَلَو تأتى بهَا التميز بِغَيْر لفظ الْقَضَاء وَالْأَدَاء صَحَّ صَومهَا، وَفِي الْفُقَهَاء من لم يَجْعَل للفظ الْقَضَاء وَالْأَدَاء حكما. [441] فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي الْمُسَافِر فِي حكم الصّيام؟ قُلْنَا: حكمه فِي الصّيام حكم الْمُكَلف فِي الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت فَإِن أَقَامَهَا فِيهِ كَانَ مُؤديا فرضا، وَإِن أَخّرهَا عَازِمًا على فعلهَا فِي الِاسْتِقْبَال جَازَ لَهُ تَأْخِيرهَا فَقَامَ الْعَزْم مقَام مَا ترك فِي أول الْوَقْت فَكَذَلِك القَوْل فِي الْمُسَافِر إِن أَقَامَ الصّيام فِي سَفَره فقد أدّى فرضا، وَإِن أَخّرهُ إِلَى الْإِقَامَة سَاغَ تَأْخِيره، بِشَرْط الْعَزْم على إِقَامَتهَا. [442] فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي الْمَرِيض؟ قُلْنَا: إِن كَانَ يتَصَوَّر مِنْهُ الصّيام فَحكمه حكم الْمُسَافِر وَإِن كَانَ لَا يتَصَوَّر مِنْهُ لزوَال عقل أَو غَيره فَلَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِهِ كَمَا لَا يتَعَلَّق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 بالحائض وَقد صَار بعض الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنه إِذا كَانَ فِي مَرضه بِحَيْثُ يجهده الصَّوْم وَإِن تصور مِنْهُ على ضرّ ومقاشاة كلفة فَلَا يجب عَلَيْهِ الصَّوْم، لَا مضيقا وَلَا موسعا، بِخِلَاف الْمُسَافِر وَرُبمَا يمِيل القَاضِي إِلَى ذَلِك فِي بعض كتبه وي فصل بَين الْمَرِيض وَالْمُسَافر فَإِن الْمَرِيض خفف عَنهُ لما يَنَالهُ من الْمَشَقَّة فَلم يصفه بِكَوْنِهِ مُخَاطبا بِالصَّوْمِ وَأما الْمُسَافِر فَلَا مشقة عَلَيْهِ فِي الصّيام، والرخصة فِي حَقه تفسيح فِي التَّأْخِير، وَلَيْسَ تحط الْوُجُوب وَالصَّحِيح غير ذَلِك فَكل من يَصح مِنْهُ الصَّوْم الْمَفْرُوض فَيكون من أهل الْتِزَامه إِمَّا على التَّضْيِيق وَإِمَّا على التَّوَسُّع، وَمَا أَوْمَأ إِلَيْهِ من الْفَصْل لَا يكَاد يَتَّضِح. (92) فصل [443] ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن الْأَمر إِذا تعلق بِالْفِعْلِ الْمُؤَقت بِوَقْت مَحْصُور فَإِذا انْقَضى ذَلِك الْوَقْت وَلم يتَّفق امْتِثَال الْأَمر فِيهِ فبنفس الْأَمر السَّابِق يعلم وجوب اقْتِضَاء الْفِعْل الْفَائِت بعد انْقِضَاء الْوَقْت وَمَا صَار إِلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 الْمُحَقِّقُونَ أَن نفس الْأَمر بِالْأَدَاءِ فِي الْوَقْت المحصور لَا يتَضَمَّن الْأَمر بِالْقضَاءِ وَإِنَّمَا ثَبت وجوب الْقَضَاء بِأَمْر مُجَدد وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن الْأَمر إِذا تعلق [53 / أ] بِفعل مُخَصص بِوَقْت فقد انطوى عَلَيْهِ دون غَيره فَلَيْسَ فِي / الْأَمر تَصْرِيح بإيقاع مثله بعد وقته وَلَيْسَ يتضمنه لَا محَالة، فَإِذا لم يُنبئ عَنهُ صَرِيحًا وَلَا ضمنا [لم يستفد] مِنْهُ، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْأَمر إِذا تعلق بِفعل يتخصص بشخص لم يستفد مِنْهُ تَخْصِيصه بشخص آخر، وَكَذَلِكَ إِذا اقْتضى تَخْصِيصه بمَكَان يُمكن لم يستفد مِنْهُ إِيقَاعه فِي غَيره نَحْو الْأَمر بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَة فِي وَقت مَخْصُوص إِذا تعذر امتثاله فِي الْمَكَان الْمَخْصُوص بِهِ لم نستفد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 الْأَمر إِيقَاع الْوُقُوف فِي غَيره وَلَيْسَ يُنبئ عَنهُ تضمنا لَا محَالة، فَوَجَبَ تَخْصِيصه بمورده. [444] فَإِن من تمسك من يخالفنا بِوُجُوب الْقَضَاء فِي بعض موارد الشَّرْع. قيل لَهُ: ثَبت أَن قَضَاء مَا استشهدت بِهِ مُسْتَفَاد من الْأَمر بِأَدَائِهِ. ثمَّ نقُول إِن لزم قَضَاء عبادات سقط قَضَاء بَعْضهَا كَالْجُمُعَةِ وَرمي الْجمار عِنْد بعض الْعلمَاء والعبادات فِي حق الْكفَّار. وَالصَّلَاة المتروكة فِي أول الْوَقْت إِذا عرض فِي أثْنَاء الْوَقْت حيض أَو جُنُون إِلَى غَيرهَا. (93) القَوْل فِي أَن خطاب المواجهين مَقْصُور عَلَيْهِم إِلَّا أَن يقوم دَلِيل على دُخُول من بعدهمْ فيهم [445] اعْلَم أَن الْخطاب الْوَارِد فِي عصر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مُتَوَجّه على أهل زَمَانه مُخْتَصّ بالمكلفين الْمَوْجُودين يَوْمئِذٍ، وَلَا يدْخل من بعدهمْ فِي قَضِيَّة الْخطاب المتوجه عَلَيْهِم إِلَّا بِدلَالَة يقطع بهَا وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 {يَا أَيهَا النَّاس} و {يَا أولي الْأَبْصَار} {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} وَجُمْلَة أوَامِر الْقُرْآن يجْرِي على هَذَا الْمنْهَج، فَلَو خلينا وظواهرها لخصصناها بالذين عاصروا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَإِن الصِّفَات الَّتِي يُقيد بهَا الْخطاب يَسْتَحِيل تحققها إِلَّا فِي متصف بالوجود، وَلَكِن أجمع الْمُسلمُونَ قاطبة على أَن من سبق من الْخطاب فِي عصر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مُتَوَجّه على أهل عصره كَافَّة فَمن بعدهمْ مندرجون تَحت قَضيته، إِذا لم نقل ذَلِك أدّى ذَلِك [إِلَى قصر] الشَّرْع على الَّذين انقرضوا، فلدلالة الْإِجْمَاع عدينا الْخطاب من السّلف إِلَى الْخلف. [446] فَإِن قَالَ قَائِل: فَلَو خَاطب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَاحِدًا من أهل عصره، وسمى [رجلا] باسمه فَهَلا يتَعَدَّى الحكم مِنْهُ إِلَى غَيره؟ قُلْنَا: ظَاهر الصِّيغَة يَقْتَضِي تَخْصِيص الْخطاب [بِهِ] فَإِن قَامَت دلَالَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 على تعديته إِلَى غَيره عدي. [447] فَإِن قيل: فَهَل تجرون ذَلِك مجْرى تَعديَة خطاب أهل الْعَصْر الأول إِلَى أهل الْعَصْر الثَّانِي؟ قُلْنَا: قد ثَبت إِجْمَاع فِي المسئلة الأولى ... بِهِ وَلم نقصر الشَّرْع على أهل الْعَصْر الأول إِلَى أهل الْعَصْر الثَّانِي، وَلم يثبت فِي المسئلة / [53 / ب] الثَّانِيَة إِجْمَاع، فقد يُخَاطب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَاحِدًا وَيُرِيد تَعْمِيم الكافة، وَقد يرد التَّخْصِيص عَن قَضِيَّة ظَاهر اللَّفْظ فَلَمَّا انقسمت أَلْفَاظه فِي ذَلِك لزم التَّمَسُّك بِظَاهِر التَّخْصِيص إِلَى أَن تقوم دلَالَة. [448] وَقد ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن خطاب الْوَاحِد خطاب للكافة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 تمسكا بقوله سُبْحَانَهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس} . فَهَذَا يدل على تَعْمِيم كل مَا أرسل فِيهِ. قيل: لَا بل يدل هَذَا على كَونه رَسُولا فِي حق الكافة، وَأما أَن يدل على استوائهم فِي كل الْأَحْكَام فَلَا، وَأَنِّي يَسْتَقِيم فِي الْأَحْكَام فِي موارد الشَّرِيعَة، فَمن مُخْتَصّ وَمن عَام. [449] وَرُبمَا يتَمَسَّك هَذَا الْقَائِل بِمَا رُوِيَ عَنهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: ((خطابي للْوَاحِد خطابي للكافة)) . قيل: هَذَا من أَخْبَار الْآحَاد فَلَا يسوغ التَّمَسُّك بِهِ فِي إِثْبَات الْحجَج، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 فَإِن حجج الشَّرْع لَا تثبت إِلَّا بأدلة قَاطِعَة إِذْ لَو أَرَادَ مزية تثبيت كَون خبر الْوَاحِد مُوجبا للْعَمَل بِمَا لَا يُوجب الْقطع لم يتَقَبَّل مِنْهُ مَعَ أَن هَذَا عرضة للتأويل فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بقوله: ((خطابي للْوَاحِد خطابي للْجَمِيع)) أَن أَمْرِي كَمَا يلْزم الْوَاحِد يلْزم الكافة، لَو خاطبت الكافة بِصِيغَة تَعْمِيم وَإِن اسْتدلَّ بِأَن قَالَ: لَو كَانَ يُرِيد تَخْصِيص مُخَاطبَة لنَصّ عَلَيْهِ كَمَا أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لما خص بعض أَصْحَابه [بالتضحية] بِمَا دون الْجذع قَالَ: ((تُجزئ عَنْك وَلَا تُجزئ عَن أحد بعْدك)) وَقَالَ لمن تزوج على مَا حفظه من الْقُرْآن: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 ((هَذَا لَك) إِلَى غير ذَلِك، وَهَذَا من ضَعِيف الِاسْتِدْلَال، فَإِن التَّنْصِيص على التَّخْصِيص لَا يُوجب الْعُمُوم عِنْد الْإِطْلَاق، كَمَا أَن عدم التَّنْصِيص على التَّعْمِيم فِي الصِّيَغ الْعَامَّة لَا يَنْفِي عمومها عِنْد الْقَائِلين بِالْعُمُومِ، وَإِن كَانَ قد يرد بعد الْأَلْفَاظ مؤكدا فِي اقْتِضَاء التَّعْمِيم. [450] وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنا لَو جعلنَا التَّقْيِيد مثل ذَلِك علما للتخصيص لزم إبِْطَال التَّأْكِيد فِي مُقْتَضى الْكَلَام، فَإِن اللَّفْظَة قد ترد على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 معنى هِيَ مُسْتَقلَّة بِنَفسِهَا فِي إثارته، ثمَّ قد يُؤَكد فِي تَحْقِيق مَعْنَاهَا بضروب من الْقُيُود، وَلَا يدل تَأْكِيد الْقَرَائِن على عدم إِثْبَاتهَا فِي مَعْنَاهَا عِنْد الْإِطْلَاق والتجرد عَن الْقَرَائِن. (94) القَوْل فِي أَنه هَل يَصح علم الْمُكَلف بِأَنَّهُ مَأْمُور بِالْفِعْلِ [451] اعْلَم - وفقك الله - أَن خلف الْأمة وسلفها أَجمعُوا على أَن الْأَمر إِذا اتَّصل بالمكلف وَلَا مَانع يمنعهُ من الِامْتِثَال فَيعلم أَنه مَأْمُور بِالْأَمر الْوَارِد مَنْهِيّ بِالنَّهْي الْمُتَّصِل بِهِ، وَلكنه يعْتَقد كَونه مَأْمُورا فِي الثَّانِي / من [54 / أ] الْأَوْقَات الْمُسْتَقْبلَة بِشَرْط أَن يبْقى، وَتبقى لَهُ صِفَات التَّكْلِيف فيستيقن فِي الْحَالة توجه الْأَمر عَلَيْهِ، وَلَو قيل مَا حالك إِذا اشتغلت بالامتثال فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 الِاسْتِقْبَال أيدوم عَلَيْك الْوُجُوب فطريق جَوَابه أَن تَقول: إِن بقيت دَامَ عَليّ الْوُجُوب وَإِن اخترمت انْقَطع عني الْوُجُوب. [452] وَقَالَت الْقَدَرِيَّة: لَا يَصح علمه بتوجه الْأَمر عَلَيْهِ إِلَّا بعد الْإِقْدَام عَلَيْهِ على الِامْتِثَال، أَو بعد مُضِيّ وَقت يَسعهُ مَعَ تَركه لَهُ. وَحَقِيقَة أصلهم فِي ذَلِك أَن الْأَمر لَا يتَضَمَّن إِيجَاب الِامْتِثَال مقترنا بِهِ بل يتَعَيَّن بآخر الِامْتِثَال عَن اتِّصَال الْأَمر وَلَو بِزَمَان. ثمَّ من أصلهم أَن مَا تحقق حُدُوثه عَن الِامْتِثَال فَلَا يكون الْمُكَلف فِي حَال حُدُوثه مَأْمُورا بِهِ على مَا سنعقد فِي ذَلِك فصلا إِن شَاءَ الله عز وَجل. وَإِنَّمَا يتَحَقَّق الْوُجُوب فِيمَا سيفعله فِي الثَّانِي، وَلمن يتَحَقَّق استيقانه لبَقَائه على صفة التَّكْلِيف فِي الثَّانِي، فاستحال عِنْدهم اعْتِقَاد الْوُجُوب مَعَ الْأَمر، واستحال اعْتِقَاده مَعَ حُدُوث الِامْتِثَال، واستحال استيقانه فِي الِاسْتِقْبَال مَعَ انطواء الْغَيْب عَنَّا. فَقَالُوا لهَذِهِ الْأُصُول الَّتِي أومأنا إِلَيْهَا: لَا يَصح من الْمُكَلف أَن يعلم كَون نَفسه مَأْمُورا قطعا. [453] وَأما نَحن فَإنَّا نزعم أَن الْمُكَلف يعلم كَون نَفسه مَأْمُورا، ونقطع بِهِ فِي مَحل الْقطع، ويؤول توقفه فِي اسْتِدَامَة الْوُجُوب إِلَى توقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 الاخترام والبقاء، فالدليل على مَا صرنا إِلَيْهِ إِجْمَاع الْمُسلمين قاطبة فَإِن أهل الْإِسْلَام أَجمعُوا على توجه النَّهْي عَن الْمُحرمَات على الْمُكَلّفين وَكَذَلِكَ أَجمعُوا على توجه الْأَمر وَالنَّهْي على أحد من المخاطبين، وَفِي هَذَا أعظم الْفِرْيَة. [454] فَإِن قيل: فَإِذا انْقَضى الْوَقْت تبين توجه الْأَمر؟ قيل: حدتم عَن مَوضِع الْإِلْزَام وَذَلِكَ أَن الْوَقْت إِذا انْقَضى فَبعد انقضائه لَا يتَحَقَّق إِثْبَات الْأَمر بإيقاع فعل مثله مذهبكم يقودكم أَنه حَيْثُ تصور مِنْهُ الِامْتِثَال لَا يعلم توجه الْأَمر مقتضيا لامتثال وَحَيْثُ يعلم لَا يتَصَوَّر الِامْتِثَال وَلما عظم خطر هَذَا الْكَلَام صَار بَعضهم يُدَلس متقيا خرق الْإِجْمَاع ويوافق أهل الْحق وَإِلَيْهِ مَال عبد الْجَبَّار، وَلَكِن لَا يَسْتَقِيم ذَلِك على مُقْتَضى أصولهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 [455] وَمن أوضح مَا يسْتَدلّ بِهِ أَن نقُول: إِذا زعمتم أَن الْإِيجَاب لَا يتَحَقَّق إِلَّا فِيمَا يُوقع فِي الثَّانِي، فَإِن الْإِيقَاع فِي الْمَاضِي لَا يتَصَوَّر وجوب الِامْتِثَال مَعَ الْأَمر لَا يتَقَدَّر اقترانا بِأول حَالَة، وَبَقَاء صفة الْمُكَلف فِي الثَّانِي مَشْكُوك فِيهِ، فَإِذا كَانَ هَذَا أصلكم فَهَلا قُلْتُمْ أَنه لَا يجب الْإِقْدَام على [54 / ب] الِامْتِثَال / فَإِن شَرط ثُبُوت التَّكْلِيف فِي الِالْتِزَام علم الْمُكَلف بِهِ، فَإِذا لم يتَحَقَّق علمه بِهِ كَيفَ يتَحَقَّق اللُّزُوم، وَهل هَذَا إِلَّا عين التَّنَاقُض؟ . [456] فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا يعرف وجوب الْإِقْدَام على الِامْتِثَال لأصل، وَهُوَ أَن الْمُكَلف إِذا جوز أَن يبْقى فِي الثَّانِي، وَجوز أَن يخترم وَعلم أَنه لَو بَقِي وَلم يُوقع فِي الْوَقْت الثَّانِي امتثالا كَانَ مَعْلُوما، فَإِذا تصدى لَهُ طَرِيقَانِ يتَوَصَّل بِأَحَدِهِمَا إِلَى الْأَمر من اسْتِحْقَاق الْعقَاب، فالعقل يلْزمه إيثاره واختياره. قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه تشبيث مِنْكُم بأطراف مسئلة الْعقل، وَكَونه مُوجبا، وسنشبع القَوْل فِي الرَّد عَلَيْكُم إِن شَاءَ الله تَعَالَى. ثمَّ نقُول: فاحسبونا وافقناكم على مَا قُلْتُمْ فَلَا مخلص فِيهِ، فَإِن مَا أومأتم إِلَيْهِ ضرب من الْإِيجَاب وَشرط [الْبَقَاء] على صفة التَّكْلِيف فَإِن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 هَذَا الحكم لَا يخْتَلف بِإِسْنَاد الْإِيجَاب إِلَى عقل وَسمع وكما يشْتَرط بَقَاؤُهُ فِي تَحْقِيق الْوُجُوب الْعقلِيّ، وَمَا ذكرتموه ضرب من الْوُجُوب فَكَمَا لزمكم فِي الأَصْل عِنْد التشكك فِي الْإِيجَاب إِلَّا بعزم فيلزمكم فِي عين مَا قلتموه مثله، وَهَذَا مَا لَا محيص عَنهُ. [457] وَتمسك القَاضِي رَضِي الله عَنهُ بنكتة أُخْرَى فَقَالَ: أجمع الْفُقَهَاء على من تلبس بِالصَّلَاةِ وَهُوَ مستريب فِي وُجُوبهَا فَلَا تَنْعَقِد، وَإِنَّمَا تَنْعَقِد صلَاته إِذا نوى وُجُوبهَا جزما أَو نوى مَا يقوم مقَام نِيَّة الْوُجُوب وَلَا معنى لجزم النِّيَّة على أصلهم مَعَ مَا قدمْنَاهُ من مَذْهَبهم، وَهَذَا وَإِن أمكن تَقْرِيره فالاعتماد على مَا قدمْنَاهُ. [458] فَإِن قَالُوا: ألستم وافقتمونا على اسْتِحَالَة القَوْل بِوُجُوب الِامْتِثَال مَعَ الْمَوَانِع عَنهُ؟ فَإِذا كَانَت الْمَوَانِع غير مَأْمُونَة وَلم يعلم انتفاؤها مَقْطُوعًا بِهِ فِي الْمِثَال وَجب أَن لَا يكون الْوُجُوب مَقْطُوعًا بِهِ أَيْضا. وَهَذَا لعمري شُبْهَة مخيلة فَأول مَا يتَمَسَّك بِهِ فِي الْجَواب أَن نقُول: توجه الْأَمر على الْمُكَلف يتَحَقَّق فِي الْحَال وَلَيْسَ فِي ثُبُوت الْأَمر وجوده مُتَعَلقا بالمأمور شرطا، وَإِنَّمَا الشَّرْط فِي دوَام الْوُجُوب على الْمَأْمُور فَلم يرجح الشَّرْط إِذا إِلَى تعلق الْأَمر، وَإِنَّمَا رجح إِلَى بَقَاء الْوُجُوب على الْمَأْمُور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 [459] وسر مَذْهَبنَا فِي ذَلِك أَنا نجوز ثُبُوت الْأَمر بالشَّيْء مَعَ أَنه فِي مَعْلُوم الله سينسخ قبل مُضِيّ وَقت يسع الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ على مَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله فِي أَبْوَاب النّسخ، فَإِذا جَوَّزنَا ثُبُوت وجوب شَيْء ثمَّ جَوَّزنَا نسخه قبل مُضِيّ وَقت الْإِمْكَان، تبين بذلك أَنا لَا نشترط فِي تَحْقِيق الْوُجُوب تقرر الْإِمْكَان بل نشترط على منع تَكْلِيف الْمحَال كَونه من قبيل الممكنات. [460] وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الحكم إِذا نسخ قبل فعله وَوَقته فلسنا نقُول أَن الحكم لَا يثبت أصلا، وَلَكِن نقُول: ثَبت وارتفع فأقصى مَا يلزمونا فِي المسئلة الْوُجُوب من عدم الْإِمْكَان فِي الْمَآل، وَهَذَا مِمَّا نقُول [55 / أ] بِهِ فِي أَحْكَام النّسخ، فَافْهَم ذَلِك من أَصله، وَأحل تثبيته / بِالدَّلِيلِ على النّسخ. [461] ثمَّ نقُول: إِذا علم الله تَعَالَى أَن الْمُخَاطب سَيبقى إِلَى وَقت امْتِثَال الْفِعْل فَيَقُولُونَ إِنَّه مَأْمُور فِي علمه، ويعلمه مَأْمُورا، وَإِن لم يطلقوا ذَلِك فِي حق العَبْد نَفسه، وتصوير ذَلِك أَن الرب تَعَالَى إِذا أَمر الْمُحدث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 بِالصَّلَاةِ على شَرط التَّطْهِير، وَعلم أَنه يتَمَكَّن مِنْهُ وَمن الصَّلَاة فَهُوَ مَأْمُور بِالصَّلَاةِ عِنْد الله وفَاقا وَإِن كَانَ يُوجد فِي ثَانِي الْحَال، فَلَو كَانَ التَّمَكُّن شَرط كَونه مَأْمُورا، للزمكم أَن تَقولُوا: لَا يكون مَأْمُورا بِالصَّلَاةِ قبل التَّطْهِير، فَلم قُلْتُمْ إِنَّه مَأْمُور بهَا، وَإِن كَانَ شَرط صِحَّتهَا يُوجد فِي الثَّانِي، فَبِمَ تنكرون على من يقطع بِكَوْنِهِ مَأْمُورا فِي الْحَال وَإِن كَانَ الشَّرْط فِي الْمِثَال مغيبا عَنهُ. ثمَّ نقُول لَهُم الْوَاحِد منا إِذا أَمر عَبده بِأَمْر مَعَ علمه بِأَنَّهُ يخترم قبل اتمامه أَو قبل الشُّرُوع فِيهِ بِأَن علمه بذلك نَبِي، أَو ثَبت لَهُ علم ضَرُورِيّ فَيحسن مِنْهُ أَمر ليبتلي بذلك طَاعَته، وَهَذَا [مَا لَا يُنكره] أَرْبَاب الْأَلْبَاب فِي الْعَادَات حَتَّى لَو أَتَى الْمَأْمُور وَالصُّورَة هَذِه عد عَاصِيا، وَلَو أبرم الْعَزْم على الِامْتِثَال عد مُطيعًا، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده فلولا أَن حَقِيقَة كَونه مَأْمُورا مَعَ عدم الْإِمْكَان فِي الْمِثَال، وَإِلَّا لما انتسب الْمَأْمُور إِلَى الْمعْصِيَة. [462] فَإِن قيل: كَأَنَّهُ بأَمْره طلب مِنْهُ الْعَزْم على الْفِعْل [دون] الْفِعْل وَهَذَا مُتَصَوّر مِنْهُ. قيل لَهُم: فتكليف الْعَزْم على الْأَمر مَعَ عدم الْإِمْكَان فِيهِ محَال، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه لَو قدر الْمَأْمُور عَالما بِعَدَمِ الْإِمْكَان لم يتَصَوَّر تَكْلِيفه الْعَزْم فَدلَّ أَن الْأَمر تعلق بِهِ فِي نفس الْفِعْل، ثمَّ يُقَال لَهُم فَكل مَا تبدوه فِي الصُّورَة الَّتِي فرضت عَلَيْكُم شَاهدا يلزمكم مثله فِي أَمر الله تَعَالَى حَتَّى تَقولُوا: إِن أمره يُوجب الْعَزْم إِذا علم عدم الْإِمْكَان فيلزمكم من ذَلِك تَجْوِيز التَّكْلِيف بالعزم على الشَّيْء مَعَ عدم الْإِمْكَان فِي المعزوم عَلَيْهِ، وَهَذَا محَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 عنْدكُمْ، كَمَا يَسْتَحِيل التَّكْلِيف بالعزم على المحالات. (95) القَوْل فِي جَوَاز كَون الْأَمر مَشْرُوطًا بِبَقَاء الْمَأْمُور على صِفَات التَّكْلِيف [463] اعْلَم - وفقك الله - أَن الْأَمر إِذا صدر من الْوَاحِد منا مَعَ انطواء الْغَيْب عَنهُ فَيصح تَقْيِيد أمره المتوجه على مخاطبه بِشَرْط بَقَائِهِ على صِفَات المخاطبين. فَأَما أَمر الله تَعَالَى فَيصح على أصُول الْحق أَن ترد الصِّيغَة عَنهُ مُقَيّدَة بِبَقَاء الْمَأْمُور مَعَ علمه بِمَا يكون وتقدسه عَن الريب فِي الْغَيْب، وَأنْكرت الْمُعْتَزلَة ذَلِك غَايَة الْإِنْكَار وَقَالُوا: يَسْتَحِيل أَن يرد الْأَمر من الله تَعَالَى مُقَيّدا بِشَرْط بَقَاء الْمُكَلف على صِفَات التَّكْلِيف، وَأَنه عَالم بِمَا يكون وَإِنَّمَا يَصح الشَّرْط منا لترددنا وتقابل الجائزات فِي حقوقنا حَتَّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 قَالُوا لَو علم الْوَاحِد منا بِوَحْي أَو إِعْلَام نَبِي بِمَا يكون من حَال مخاطبه فَلَا يحسن مِنْهُ أَيْضا تَقْيِيد خطابه بِبَقَاء الْمُخَاطب على صِفَات الْمُخَاطب. وَالدَّلِيل / على تَجْوِيز الْخطاب بِبَقَاء صِفَات الْإِنْكَار وَإِن صدر الْخطاب [55 / ب] من عَالم بِمَا يكون: أَن نقُول: إِذا ورد الْأَمر من الله تَعَالَى فَلَا تخلون إِمَّا أَن تَقولُوا يمْتَنع تَقْيِيده بِعِلْمِهِ بِمَا يكون فِي الْمَآل وَإِمَّا أَن تَقولُوا يمْتَنع تَقْيِيده للْعلم بِأَن الِامْتِثَال يتَقَيَّد بالإمكان لَا محَالة، فَلَا فَائِدَة فِي ذكره، فَإِن زعمتم أَن الْمَانِع من التَّقْيِيد الْعلم بِاشْتِرَاط الْإِمْكَان قطعا فَوَجَبَ أَن تَقولُوا: لَا يحسن منا تَقْيِيد أَمر بِانْتِفَاء من التَّقْيِيد كَون الرب تَعَالَى عَالما بِمَا يكون فَيلْزم من ذَلِك مَا لَا محيص عَنهُ وَهُوَ أَن لَا يُفِيد وعده ووعيده لعلمه بِمَا يكون كَمَا يفِيدهُ أمره وَلَو تتبعت وعد الْقُرْآن ووعيده ألفيت معظمه مُقَيّدا، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {لَو اطَّلَعت عَلَيْهِم لَوَلَّيْت مِنْهُم فِرَارًا} فَمَا وَجه الترديد فِي ذَلِك مَعَ علم الرب تَعَالَى بِأَنَّهُ يطلع وَلَا يطلع إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى وَلَا يحصر من موارد الْقُرْآن وَالسّنَن فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. [464] ثمَّ اعْلَم أَن هَذِه المسئلة تبتني على الَّتِي تقدّمت وَهِي أَنا قُلْنَا يقطع الْمُكَلف بِالْتِزَام مَا كلف مَعَ التَّرَدُّد فِي حكم الْعَاقِبَة، فترتب على ذَلِك مقصدنا ونقول: إِذا ورد الْأَمر مُطلقًا فَهَل تَقولُونَ إِنَّه يتَعَلَّق بالمكلف قطعا فِي الْحَال أم تستريبون فِيهِ، فَإِن استربتم فقد سبق وَجه الرَّد عَلَيْكُم، وَإِن قطعْتُمْ مَعَ انطواء حكم الْعَاقِبَة عَن الْمُكَلف فَيلْزم من ذَلِك أَن يكون مُكَلّفا مَعَ ذُهُوله عَمَّا يكون، وَالْأَمر مُتَوَجّه عَلَيْهِ قطعا، فَإِذا تصور ذَلِك الِاعْتِقَاد فِي الْأَمر الْمُطلق فَمَا الْمَانِع من تَقْيِيده بِمَا يعْتَقد فِيهِ عِنْد انطلاقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 [465] فَإِن قيل: فالامتثال لَا يَقع إِلَّا مَعَ الْإِمْكَان، فَلَا فَائِدَة فِي تَقْيِيد الْخطاب بِهِ، وَهَذَا كَمَا أَن الْفِعْل لَا يَقع إِلَّا عرضا، فَلَا جرم لَا فَائِدَة فِي أَن يَقُول الْآمِر افْعَل إِن فعلك عرضا. قيل لَهُم: هَذَا الاستشهاد مِنْكُم بَاطِل، وَذَلِكَ أَنا لَا نجوز أَن يثبت الْوُجُوب ثمَّ لَا يَدُوم وَإِذا لم يتَحَقَّق الْإِمْكَان فلسنا نسلم لكم توقف أصل الْوُجُوب على الْإِمْكَان، ثمَّ نقُول لَو صَحَّ مَا قلتموه وَجب أَن لَا تجوزوا من الْوَاحِد منا يُقيد أمره بدوام وصف الْإِمْكَان جَريا على مَا مهدتموه. [466] فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا حسن منا ذَلِك لجهلنا بِمَا يكون. قُلْنَا: وَإِن جهلنا مَا يكون فَلَا نجهل أَن يكون الِامْتِثَال لَا يَقع إِلَّا مَعَ الْإِمْكَان، فَلَا فَائِدَة فِي ذكره على مُوجب قَوْلكُم ثمَّ نقُول: إِذا ورد القَوْل فِي بَقَاء صِفَات التَّكْلِيف والإمكان فَيمكن أَن يقْصد بذلك ابتلاء الْمُكَلف وامتحانه فِي توطين النَّفس على الِامْتِثَال، والعزم عَلَيْهِ، أَو الاضراب عَنهُ. فَلَمَّا كَانَ هَذَا سَبيله حسن تردد القَوْل فِيهِ وَأما كَون الْفِعْل عرضا فَلَيْسَ مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ غَرَض فِي امتحان الْمُكَلف بِالطَّاعَةِ والعصيان، فافترق البابان. وَالله الْمُوفق للصَّوَاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 تمّ الْجُزْء الأول بحول الله وعونه وَالصَّلَاة على نبيه الْكَرِيم، يتلوه فِي التَّرْتِيب: (96) القَوْل فِي أَن الْأَمر بِالْفِعْلِ هَل يتَعَلَّق بِهِ حَال حُدُوثه / [56 / أ] [467] اعْلَم - وفقك الله - أَن الْفِعْل مَأْمُور بِهِ فِي حَال حُدُوثه ثمَّ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ من أَصْحَابنَا: الْأَمر قبل حُدُوث الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ أَمر إِيجَاب وإلزام وَلكنه يتَضَمَّن الِاقْتِضَاء وَالتَّرْغِيب وَالدّلَالَة على امْتِثَال الْمَأْمُور بِهِ وَإِذا تحقق الِامْتِثَال فَالْأَمْر يتَعَلَّق بِهِ وَلَكِن لَا يَقْتَضِي ترغيبا مَعَ تحقق الْمَقْصُود، وَلَا يَقْتَضِي دلَالَة بل يَقْتَضِي كَونه طَاعَة بِالْأَمر الْمُتَعَلّق ويتبين أَمر ذَلِك فِي أثْنَاء الْبَاب. وَذهب بعض من ينتمي إِلَى أهل الْحق [إِلَى] أَن الْأَمر إِنَّمَا يَقْتَضِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 الْإِيجَاب على التَّحْقِيق إِذا [قَارن] حُدُوث الْفِعْل، وَإِذا تقدم عَلَيْهِ فَهُوَ أَمر إنذار وإعلام بِحَقِيقَة الْوُجُوب عِنْد الْوُقُوع، وَهَذَا بَاطِل، وَالَّذِي نختاره تحقق الْوُجُوب قبل الْحُدُوث [و] فِي حَال الْحُدُوث، وَإِنَّمَا [يفْتَرق] الحالتان فِيمَا قدمْنَاهُ من التَّرْغِيب والاقتضاء وَالدّلَالَة، فَإِن ذَلِك يتَحَقَّق قبل الْفِعْل وَلَا يتَحَقَّق مَعَه. [468] وَزَعَمت الْقَدَرِيَّة بأسرها أَن [الْفِعْل] فِي حَال حُدُوثه يَسْتَحِيل أَن يكون مَأْمُورا بِهِ وَلَا يتَعَلَّق بِهِ الْأَمر إِلَّا قبل وجوده ثمَّ طردوا مَذْهَبهم فِي جملَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَلم يصفوا كَائِنا بحظر وَلَا وجوب وَلَا ندب، وَإِنَّمَا أثبتوا هَذِه الْأَحْكَام قبل تحقق الْحُدُوث ثمَّ افْتَرَقُوا فِيمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 بَين أظهرهم، فَقَالَ بَعضهم: لَا يَصح تقدم الْأَمر على الْمَأْمُور بِهِ بِأَكْثَرَ من وَقت وَاحِد، وَصَارَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُم إِلَى جَوَاز تقدمه عَلَيْهِ بأوقات، ثمَّ الَّذين صَارُوا إِلَى هَذَا الْمَذْهَب اخْتلفُوا فِي أَنه هَل يشْتَرط بَقَاء الْمُكَلف فِي الْأَوْقَات الْمُتَقَدّمَة على حُدُوث الْمَأْمُور بِهِ على أَوْصَاف التَّكْلِيف؟ فَمنهمْ من شَرط كَونه مستجمعا لشرائط التَّكْلِيف فِي كل الْأَوْقَات الْمُتَقَدّمَة، وَزعم بَعضهم: أَنا لَا نشترط ذَلِك وَإِنَّمَا نشترط اجْتِمَاع الْأَوْصَاف عِنْد حُدُوث الْفِعْل ونشترط فِي الْأَوْقَات الْمُتَقَدّمَة عَلَيْهِ كَون الْمُخَاطب مِمَّن يفهم الْخطاب. ثمَّ افْتَرَقُوا بعد ذَلِك فِي أصل آخر، وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا: هَل يجوز أَن يتَقَدَّم الْأَمر على الْمَأْمُور بِهِ بأوقات من غير أَن يكون فِيهِ لطف ومصلحة زَائِدَة على التَّبْلِيغ من الْمبلغ وَالْقَبُول من الْمُخَاطب فَمنهمْ من شَرط أَن يكون فِي ذَلِك لطف يُعلمهُ الله وَمِنْهُم من لم يشْتَرط ذَلِك. [469] وَالْكَلَام فِي الرَّد عَلَيْهِم فِي تفاصيل مَذْهَبهم يتَعَلَّق بالصلاح والأصلح، وَأَحْكَام اللطف وَهُوَ مِمَّا يستقصي فِي الديانَات إِن شَاءَ الله تَعَالَى، فَالَّذِي تخصصت هَذِه المسئلة بِهِ طَرِيقَانِ: أَحدهمَا: أَن نقُول هَل تسلمون لنا أَن الْحَادِث فِي حَال حُدُوثه مَقْدُور، أم لَا تسلمون ذَلِك؟ فَإِن سلمتم وَجب تَجْوِيز كَونه مَأْمُورا فَإِن مَا كَانَ مَقْدُورًا وتجمعت فِيهِ الْأَوْصَاف المضبوطة فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 كَون الْمَأْمُور مَأْمُورا جَازَ أَن يكون مَأْمُورا بِهِ وَإِن منعُوا ذَلِك وَهُوَ أصلهم دللنا عَلَيْهِ بِمَا سَنذكرُهُ بعد ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَهَذِهِ طَرِيقه إِلَيْنَا، وَإِن أَحْبَبْت أَفْرَاد المسئلة بِكَلَام من غَيرنَا، قلت: هَل تسلمون لنا أَن الصَّلَاة مَأْمُورا بهَا فَإِنَّمَا يتَحَقَّق اسْم الصَّلَاة إِذا وجدت فَإِن الْعَدَم لَا يُسمى صَلَاة، [56 / ب] وأعقبه بِمَا يحققه وَقَالَ: الْمَأْمُور لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون عدما / أَو وجودا فَهُوَ مَا نقُول، فَإِن كَانَ عدما كَانَ محالا، فَإِن الْعَدَم هُوَ الانتفاء والفقد، ويستحيل أَن يكون الانتفاء مَأْمُورا بِهِ. فَإِن قيل: الْمَأْمُور بِهِ: أَن يفعل الْمُكَلف. قُلْنَا: فقولكم أَن يفعل عبارَة عَن وجود أَو عدم، وَيعود عَلَيْكُم مَا قدمْنَاهُ من التَّفْصِيل وَهَذَا مِمَّا لَا محيص للخصم عَنهُ. [470] وَمِمَّا يعول عَلَيْهِ وَهُوَ يداني مَا قدمْنَاهُ أَن نقُول إِذا تحقق الْحُدُوث فالحادث الْوَاقِع على مُقْتَضى الْأَمر لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون طَاعَة وَإِمَّا أَن يكون لَا يَتَّصِف بذلك، وَإِن اتّصف بِكَوْنِهِ طَاعَة فيستحيل أَن يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 طَاعَة وَهُوَ غير مَأْمُور بِهِ وَإِن لم يصفوه بِكَوْن طَاعَة فِي وجوده فَلَا يَتَّصِف الْعَدَم بِكَوْنِهِ طَاعَة، وَلَيْسَ بَين الْوُجُود والعدم رُتْبَة، وَلم يسموا الْوُجُود بِالطَّاعَةِ، واستحال تَسْمِيَة الْعَدَم بهَا فَيلْزم من ذَلِك عدم تصور الطَّاعَة. [471] وَاعْلَم ان كل شُبْهَة للْقَوْم فِي تقدم الِاسْتِطَاعَة على الْفِعْل تطرد فِي هَذِه المسئلة مَعَ الْجَواب عَنْهَا، ولعلها ستأتي فِي بَاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَمَا يخصصون هَذِه المسئلة بِهِ من كَلَامهم أَن قَالُوا فَائِدَة الْأَمر اقْتِضَاء الْفِعْل والحث عَلَيْهِ فَإِذا وجد الْفِعْل فَلَا فَائِدَة فِي الْحَث عَلَيْهِ وَقد تحقق وجوده. قُلْنَا: مَا قدمْنَاهُ فِي شرح مَذْهَبنَا فِي صدر الْبَاب انْفِصَال عَمَّا أوردتموه، فَإِن الْأَمر يُفِيد التَّرْغِيب تَارَة، ويفيد اللُّزُوم، وَكَون الْمَأْمُور طَاعَة أُخْرَى فالترغيب لَا يتَحَقَّق إِلَّا مُتَقَدما كَمَا قُلْتُمْ واقتضاء الْوُجُوب وسمة الطَّاعَة لَا يتَحَقَّق إِلَّا فِي الْوُجُود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 (97) فصل [472] اعْلَم أَن الْأَمر يتَقَدَّم على وجود الْمَأْمُور بِهِ بِمَا لَا نِهَايَة لَهُ فَإِنَّهُ وَاجِب الْقدَم، وَأما الْأَمر الصَّادِر منا فَهُوَ مِمَّا يَسْتَحِيل بَقَاؤُهُ فَإِذا تقدم أمرنَا على الْمَأْمُور بِهِ ثمَّ يعقبه الْمَأْمُور بِهِ فِي الْحَالة الثَّانِيَة، فَالْأَمْر الأول لَا يبْقى إِلَى الْحَالة الثَّانِيَة، فَإِن تحقق أَمر مُقَارن لَهُ فَهُوَ أَمر آخر متماثل للْأولِ، وَلَا يتَصَوَّر إِعَادَة الْأَمر الأول فِي الْحَالة الثَّانِيَة، فَإِنَّهَا حَالَة عَدمه، وَإِنَّمَا يتَصَوَّر الْإِعَادَة عِنْد تَقْدِير ثَلَاثَة أَحْوَال يُوجد الشَّيْء فِي الْحَالة الأولى، ويعدم فِي الْحَالة الثَّانِيَة، ويعاد فِي الثَّالِثَة، وَإِن تقدم أمرنَا بِالْفِعْلِ وَعدم، ثمَّ تحقق الْمَأْمُور بِهِ وَلم يقارنه أَمر آخر مُجَدد فَالْأَمْر الَّذِي سبق هَل يُقَال إِنَّه كَانَ أمرا فِي وجوده وَهُوَ مُتَعَلق بالمأمور فِي حُدُوثه؟ هَذَا مِمَّا اخْتلف فِيهِ أَصْحَابنَا فَذهب بَعضهم إِلَى أَن ذَلِك الْأَمر بِعَيْنِه وَإِن عدم مُتَعَلق لهَذَا بالمأمور بِهِ إِذا حدث، وَهَذَا الْقَائِل يَقُول: إِذا جَازَ تعلق الْأَمر بالمعدوم جَازَ تعلق الْأَمر بِهِ وَمَا عدم بالحادث. وَهَذَا بَاطِل لَا تَحْقِيق وَرَاءه فيستحيل كَون الْفِعْل مَأْمُورا بِهِ مَعَ انْتِفَاء الْأَمر، وَالْأَمر مَعْدُوم فِي الْحَالة الثَّانِيَة فَإِن أردنَا أَن [نتصور] كَون الْفِعْل مَأْمُورا على التَّحْقِيق فِي حَال حُدُوثه فلابد أَن يتَصَوَّر أَمر مُقَارن لَهُ وَلَيْسَ [57 / أ] ذَلِك كالأمر الْمُتَعَلّق بالمعدوم، فَإِنَّهُ أَمر على / شَرط الْوُجُود ويستحيل أَن يُقَال: إِن الْأَمر الَّذِي عدم أَمر بعد عَدمه على شَرط وجوده، فتفهم ذَلِك، وافصل بَين الْبَابَيْنِ، وسنشبع القَوْل فِي أَمر الْمَعْدُوم إِن شَاءَ الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 (98) فصل [473] إِذا ورد الْأَمر واتصل بالمكلف فيستحيل صُدُور الِامْتِثَال مِنْهُ مَعَ الْأَمر من غير ترقب وفَاقا ثمَّ إِذا اتَّصل بِهِ الْأَمر فَلَا يتَعَذَّر مِنْهُ أَن يعقبه اتِّصَال الْأَمر بالامتثال فَلَا بُد إِذا من ثَلَاثَة أَحْوَال، وَاحِدَة يَقع فِيهَا اتِّصَال الْأَمر، وَوَاحِدَة يقْصد الْمَأْمُور فِيهَا إنْشَاء الِامْتِثَال، والإيقاع، وَيفهم فِيهَا قَضِيَّة الْأَمر وَمن فكر عرف أَن الْأَمر على هَذَا الْوَجْه، ثمَّ نقُول لَهُم: أَلَيْسَ الْأَمر عنْدكُمْ هَذِه الْأَصْوَات الْمَخْصُوصَة بِالصِّفَاتِ الَّتِي تذكرونها؟ والأصوات الَّتِي تكون أمرا لَا يَقع إِلَّا فِي الْحَالين فَصَاعِدا فَمَا من لَفْظَة وضعت لِلْأَمْرِ على زعمكم إِلَّا وَهِي تنطوي على حُرُوف وأقلها حرفان. فَهَذَا لَو كَانَ الْأَمر مُوَاجهَة، فَأَما إِذا كَانَ أَمر الله فآل أَن يتلقفه الرُّسُل ويفهمه ثمَّ يبلغهُ، وَيفهم مِنْهُ بمرحلة من الْأَوْقَات، فَبَطل الْمصير إِلَى أَن الْأَمر يتَقَدَّم على المأمورعلى وَقت وَاحِد. وَأما تفاصيلهم فِي التَّقْدِيم بالأوقات فيليق بمحض الْكَلَام فِي الصّلاح والأصلح فَلَا وَجه للخصوم فِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 (99) القَوْل فِي أَن الْمَعْدُوم مَأْمُور [474] اعْلَم - وفقك الله - أَن أَرْبَاب الْأُصُول اخْتلفُوا فِي صَار فَمَا صَار إِلَيْهِ أهل الْحق وَمن تَابعهمْ من الْفُقَهَاء أَن أَمر الْمَعْدُوم على شَرط الْوُجُود واستجماع شَرَائِط التَّكْلِيف جَائِز غير مُسْتَحِيل. [475] ثمَّ الَّذِي سلكوا هَذِه الطَّرِيقَة افْتَرَقُوا فَذهب بعض الْفُقَهَاء إِلَى أَن الْأَمر قبل وجود الْمَأْمُور أَمر إنذار وإعلام وَلَيْسَ بِأَمْر إِيجَاب على التَّحْقِيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 وَذهب الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَنه أَمر إِيجَاب على شَرَائِط الْوُجُود، وَإِبْطَال قَول من قَالَ إِنَّه إِعْلَام، وَقَالُوا: مَا تحاشيتموه من الْإِيجَاب يلزمكم مثله فِي الْإِعْلَام فَإِنَّهُ كَمَا يستبعد إِلْزَام الْمَعْدُوم شَيْئا فَكَذَلِك يستبعد إِعْلَامه، وَذهب بعض إِلَى منع أَمر الْمَعْدُوم. [476] وعَلى قَضِيَّة هَذَا الِاخْتِلَاف اخْتلف الصائرون إِلَى قدم كَلَام الرب تَعَالَى وَأَن كَلَامه - عزت قدرته - هَل يَتَّصِف فِي أزله بِكَوْنِهِ أمرا نهيا. أم يتَوَقَّف ثُبُوت هَذَا الْوَصْف على وجود الْمُكَلّفين، وتوفر شَرَائِط التَّكْلِيف عَلَيْهِم؟ فَمن جوز أَمر الْمَعْدُوم صَار إِلَى أَن كَلَام الرب تَعَالَى لم يزل أمرا، وَمن أنكر ذَلِك جعل كَونه أمرا من الصِّفَات الآئلة إِلَى الْفِعْل، وَهَذَا كَمَا أَن الرب لم يَتَّصِف فِي أزله بِكَوْن خَالِقًا، فَلَمَّا خلق وصف بِكَوْنِهِ ((خَالِقًا)) . وَالَّذِي نرتضيه جَوَاز أَمر الْمَعْدُوم على التَّحْقِيق بِشَرْط الْوُجُود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 وَأنْكرت الْمُعْتَزلَة قاطبة ذَلِك. [477] وَمن أوضح مَا نستدل بِهِ أَن نقُول: اتّفق الْمُسلمُونَ على أَنا فِي عصرنا مأمورون بِأَمْر الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَقد اسْتَأْثر الله تَعَالَى بِهِ وَلم نعاصره، وَلم يتَعَلَّق بِنَا خطابه وجاها وَكَذَلِكَ نقُول: أَمر الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَادث [57 / ب] عنْدكُمْ معاشر الْقَدَرِيَّة، ثمَّ نَحن مأمورون بِالْأَمر المتوجه / على أهل عصر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَإِن كَانَ من وصف الْأَمر عنْدكُمْ أَنه لَا يبْقى زمانين فَإِنَّهُ من قبيل الْكَلَام، وَالْكَلَام منصرف إِلَى الْأَصْوَات وَهِي مِمَّا لَا تبقى عِنْدهم وفَاقا، فَإِن قَالُوا: تبقى مُعظم الْأَعْرَاض؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 [478] فَإِن قيل: أَمر الرب يَتَجَدَّد علينا فِي عصرنا؟ قيل لَهُم: إِذا انْقَضى زمَان الْوَحْي واستأثر الله نَبِي الْأمة فقد أجمع الْمُسلمُونَ قاطبة على اسْتِحَالَة ثُبُوت أَمر مُجَدد من الله تَعَالَى من غير تَبْلِيغ مبلغ ورسالة مُرْسل، فَمن أَيْن قُلْتُمْ أَن الْأَمر يَتَجَدَّد، وَلَو تجدّد فَمن أَيْن نعلم ذَلِك؟ فَإِن قَالُوا: تتجدد أوَامِر الله تَعَالَى مَعَ قِرَاءَة الْقُرَّاء، فِي خبط طَوِيل لَهُم فِي خلق الْكَلَام، وَلَا وَجه للخصوم فِيهِ، وَلَكِن نقُول لَو صمت الْقُرَّاء عَن أَمرهم وشغر الزَّمَان عَن قِرَاءَة قَارِئ أفتنقطع الْأَوَامِر عَنَّا؟ فَإِن قَالُوا بانقطاعها، امتثلوا عَن الدّين، فَإِن بَقَاء الشَّرَائِع لَا تتَوَقَّف على قِرَاءَة الْقُرَّاء. [479] وَالَّذِي نختاره لَك فرض الْكَلَام فِي أَمر الله فَإنَّا قدمنَا فِي الْبَاب السالف أَن الْأَمر بعد مَا عدم مُسْتَحِيل تعلقه بمأمور فَإِذا فرضت الْكَلَام فِي أَمر الله فَهُوَ مِمَّا لَا يعْدم عنْدك. [480] وَمِمَّا نستدل بِهِ أَن نقُول يَصح منا تَوْجِيه الْأَمر على الحاجز بِشَرْط أَن يقدر وَهَذَا مِمَّا لَا خلاف فِيهِ فَافْهَم، وَإِن أَنْكَرُوا تَقْيِيد أَمر الله بِمَا يكون فِي الْمَآل لم ينكروا ذَلِك فِي أوامرنا عجز الْمَأْمُور يُنَافِي الِامْتِثَال كَمَا أَن عَدمه يُنَافِيهِ، ثمَّ لم يستبعد تعلق الْأَمر بِهِ على شَرط الاقتدار فَكَذَلِك تَقول فِي الْمَعْدُوم. [481] فَإِن فصلوا بَينهمَا بِأَن الْعَاجِز عقل الْأَمر وفهمه فَلَا يتَحَقَّق ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 فِي الْمَعْدُوم. قيل: فَمَا ينفعكم ذَلِك وَمُجَرَّد عقله لَا يُوجب توجه الِامْتِثَال عَلَيْهِ فِي على التَّضْيِيق، فَإِذا امْتنع الِامْتِثَال فوجود الْعقل وَعَدَمه بِمَثَابَة وَاحِدَة فكأننا نغير عدم تصور الِامْتِثَال بتحقق الْعَدَم، لعدم تصور لتحَقّق الْعَجز. [482] وَمن أول مَا نستدل بِهِ أَن نقُول الْأَمر بالمعدوم جَائِز على تَقْدِير الإيجاد، وَكَذَلِكَ أَمر الْمَعْدُوم على تَقْدِير الْوُجُود. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنا لَو قَدرنَا الْمَأْمُور بِهِ منتفيا لَا يتَصَوَّر وجوده لم يَصح الْأَمر بِهِ، وَإِنَّمَا يَصح الْأَمر بِمَا يقدر وجوده فَكَذَلِك الْمَأْمُور. [483] فَإِن قيل: الْفَاصِل بَينهمَا أَن الْمَأْمُور بِهِ لَا يجوز أَن يكون مَوْجُودا بِخِلَاف الْمَأْمُور. قيل لَهُم: قد سبق الْكَلَام عَلَيْكُم فِي ذَلِك، وَبينا أَن الْحَادِث فِي حَال حُدُوثه مَأْمُور بِهِ على التَّحْقِيق فَلَا ينفعكم استرواحكم إِلَى أصلكم ثمَّ كل مَا تستعبدوه من مصدرنا إِلَى كَون الْمَعْدُوم مَأْمُورا منعكس عَلَيْكُم فِي الْمَأْمُور بِهِ. [484] وَتمسك بعض الْأَصْحَاب فِي المسئلة بِالْوَصِيَّةِ، وَالْوَقْف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 فَإِنَّهُمَا يتناولان من سيوجد إِذا وجد، وَلَا نرى لَك التَّمَسُّك بذلك فَإِن من ضَرُورَة الِاعْتِصَام بِهِ فرض الْكَلَام فِي أَمر سبق وَتقدم، ثمَّ يُوجد من يُوجد، وَقد قدمنَا لَك أَن الْأَمر بعد مَا عدم يَسْتَحِيل تعلقه بالمأمور. وللخصوم أَن يَقُولُوا إِنَّمَا ثَبت الْوَصِيَّة وَالْوَقْف بِأَمْر الله تَعَالَى، وَكَانَ سبق أَمر الْمُوصي / [58 / أ] والواقف أَنه فِي تجدّد أَمر الله على اعتوار الْبُطُون، فَالْأولى الاجتزاء، بِمَا قدمْنَاهُ من فرض الْكَلَام فِي أَمر الله، وَمن الِاعْتِصَام بالمأمور بِهِ. [485] شُبْهَة الْمُخَالفين: فَإِن قَالُوا من تكلم بِالْأَمر، وَلَا مَأْمُور وَلَا مُخَاطب وَلَا مستمع إِلَى كَلَامه عد هاذيا، سَفِيها خَارِجا من قَضِيَّة الْحِكْمَة. وَهَذِه شُبْهَة الْقَوْم فِي نفي قدم الْكَلَام واستقصاء الْجَواب عَنْهَا فِي الديانَات غير أَنا نقُول: مَا ذكرتموه من الْقبْح وَالْحسن والهذيان والسفه والانتظام والاتساق كلهَا من نعوت المحدثات، وَالْقَدِيم يتقدس عَنهُ، وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن من تتبع الْعلم بالمنكرات وتكلف اكْتِسَاب الْمعرفَة بالقاذورات وَأحب أَن يُحِيط علما بقطر الْبحار وأوراق الْأَشْجَار عد سَفِيها، وعد ذَلِك قبيحا مِنْهُ، والرب تَعَالَى يعلم ذَلِك كُله إِمَّا بِعلم قديم عندنَا أَو لنَفسِهِ عنْدكُمْ، وَلَا ينتسب إِلَى السَّفه فَإِن هَذَا الْوَصْف ثَبت قَدِيما لَازِما، وَإِنَّمَا يتَحَقَّق الْحسن والقبح فِيمَا يُوقع على وَجه، يقدر وُقُوعه على وَجه آخر، ويستقصي الْكَلَام فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الديانَات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 [486] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن قَالُوا: أَجمعت الْأمة على أَن الْمَجْنُون غير مُخَاطب، وَلَا مَأْمُور. وَبِه نطقت سنة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَهُوَ أولى بتوجه الْأَمر إِلَيْهِ من الْمَعْدُوم فَإِذا امْتنع ذَلِك فِي الَّذِي لَا يعقل فَلِأَن يمْتَنع فِي الْمَعْدُوم أولى. قيل لَهُم: هَذَا تلبيس مِنْكُم فَإنَّا على الْوَجْه الَّذِي لَا نجوز تَوْجِيه الْأَمر على الْمَجْنُون لَا نجوز توجه الْأَمر للمعدوم إِذا تحقق تَوْجِيه الْأَمر عَلَيْهِ وَلَكنَّا نقُول: الْمَعْدُوم مَأْمُور على شَرط الْوُجُود فَكَذَلِك الْمَجْنُون مَأْمُور على الْعقل. [487] فَإِن قَالُوا: الْمَعْدُوم هُوَ المنتفي فقولكم إِنَّه مَأْمُور يؤول عِنْد التَّحْصِيل إِلَى أَن الْمَأْمُور مُنْتَفٍ، قَالُوا: وَهَذَا أوضح على أصلكم فَإِن الْمَعْدُوم لَيْسَ بِشَيْء عنْدكُمْ فكأنكم قُلْتُمْ الْمَأْمُور لَيْسَ بِشَيْء وَلَا فرق بَين ذَوي التَّحْقِيق بَين قَول الْقَائِل: لَا مَأْمُور أصلا، وَبَين قَوْله: لَا شَيْء أصلا هُوَ مَأْمُور، ويعد ذَلِك من متناقض الْكَلَام. قيل لَهُم: كل مَا ذكرتموه ينعكس عَلَيْكُم فِي الْمَأْمُور بِهِ فَإنَّا نقُول لَيْسَ الْمَقْصُود من الْأَمر التَّسَبُّب إِلَى انْتِفَاء الشَّيْء فَإِنَّمَا الْمَقْصد مِنْهُ التَّرْغِيب والحث وَالدُّعَاء إِلَى الِامْتِثَال، ويستحيل الدُّعَاء إِلَى الانتفاء وَالْمَوْجُود عنْدكُمْ لَيْسَ بمأمور فَبَطل مَا قَالُوهُ جملَة وتفصيلا. [488] ثمَّ نقُول لَا خلاف أَن الْمَعْدُوم مَقْدُور وَلَيْسَ المُرَاد بِكَوْنِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 مَقْدُورًا أَن عَدمه بِالْقُدْرَةِ، وَلَكِن المعني بِهِ أَن الْقُدْرَة تُؤثر فِي قلب الْعَدَم وجودا وَكَانَت قدرَة عَلَيْهِ قبل الْوُجُود وَإِذا وجد بِالْقُدْرَةِ لم تَتَغَيَّر الْقُدْرَة فَكَذَلِك الْأَمر أَمر بالمعدوم على شَرط الْوُجُود وَالشّرط فِي الْمَأْمُور فَإِذا وجد إِلَى الله بعد الْحُدُوث دون الْأَمر وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ. (100) فصل [489] ذهب بعض من لَا تَحْقِيق لَهُ إِلَى أَن الْأَمر إِنَّمَا يتَعَلَّق بالمعدوم بِشَرْط أَن يتَعَلَّق بموجود وَاحِد فَصَاعِدا ثمَّ يتبعهُ المعدومون / على [58 / ب] شَرط الْوُجُود وَهَذَا سَاقِط، وَذَلِكَ أَن وجود الْمُخَاطب الْمَوْجُود يَسْتَحِيل أَن يُؤثر فِي عدم الْمَعْدُوم، ووجوده الْمُخْتَص بِهِ فِي حق من سيوجد وَلم يُوجد بعد وَعَدَمه بِمَثَابَة وَاحِدَة، وَلَو جَازَ الْمصير إِلَى ذَلِك جَازَ أَن يُقَال: إِذا تعلق الْخطاب بموجود تجمعت لَهُ شَرَائِط التَّكْلِيف، وكل من يسْتَوْجب الثَّوَاب وَالْعِقَاب والمعدومون يتبعونه فِي اسْتِحْقَاق الثَّوَاب مَعَ الْعَدَم قبل تَقْدِير الْوُجُود وَهَذَا محَال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 [490] فَإِن قيل: يَسْتَحِيل اسْتِحْقَاق الثَّوَاب وَالْعِقَاب مَعَ الْعَدَم. قُلْنَا: فَهَلا تبع الْمَوْجُود الْمُخَاطب كل مَعْدُوم. فَإِن قَالُوا: لِأَن وجوده لَا يثبت لَهُم حكما وَهَذَا القَوْل يلزمكم فِي أصل المسئلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 بَاب يشْتَمل على أصُول مُتَفَرِّقَة شذت عَنَّا فِي أَحْكَام الْأَوَامِر (101) فصل [491] فَإِن قيل: إِذا أوجب الله تَعَالَى على رَسُوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فعلا لَا يَتَأَتَّى ذَلِك إِلَّا بِغَيْرِهِ فَهَل يكون ذَلِك إِيجَابا مِنْهُ على الْغَيْر، نَحْو أَن يُوجب على نبيه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَخذ الزَّكَاة فَهَل تضمن هَذَا الْأَمر إِيجَاب إِعْطَاء الزَّكَاة على أَرْبَاب الْأَمْوَال؟ . قيل: قد ثَبت بِاتِّفَاق الْأمة وإجماعهم أَن كل أَمر اتَّصل بالرسول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على وَجه الْإِيجَاب فِي فعل مُتَعَلق بِالْغَيْر فَيجب على الْغَيْر [الابتدار] لتحقيق الِامْتِثَال فِيهِ، فَإِذا وَجب على الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَخذ الزَّكَاة لوَجَبَ على أَرْبَاب الْأَمْوَال بذل الزَّكَاة. [492] فَإِن قيل: هَذَا الَّذِي ذكرتموه من مُوجب الْأَمر؟ قُلْنَا: لَيْسَ ذَلِك من مُوجب الْأَمر فَإنَّا لَو رددنا إِلَى مُجَرّد مُقْتَضى الْأَمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 لم يكن فِي إِيجَاب الْأَخْذ على الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِيجَاب الْإِعْطَاء على أَرْبَاب الْأَمْوَال. [493] وَقد ذهب شرذمة من الْفُقَهَاء إِلَى أَنا بِمُقْتَضى الْأَمر نَعْرِف وجوب الْإِعْطَاء على أَرْبَاب الْأَمْوَال وَهَذَا سَاقِط من الْكَلَام فَإِن الْأَمر بِالْأَخْذِ يجوز تَقْدِير ثُبُوته مَعَ نهي الْمُعْطِي عَن الْإِعْطَاء، وَلَا يلْزم من ذَلِك تنَافِي وتناقض، وَلذَلِك أَمْثِلَة فِي الشَّرِيعَة، مِنْهَا: أَن الزَّوْج إِذا بدر مِنْهُ مَا يعْتَقد أَنه لَا يبت النِّكَاح فَلهُ الْإِقْدَام على الوطئ، وَإِذا كَانَت الْمَرْأَة تعتقد ابتتات النِّكَاح فلهَا الْمَنْع، وَالشُّهُود إِذا تحملوا الشَّهَادَة فَعَلَيْهِم أَدَاؤُهَا، فَإِذا اعْتقد القَاضِي رد شَهَادَتهم فَعَلَيهِ مُخَالفَة شَهَادَتهم، وَإِذا اعْتقد أَبُو الطِّفْل ثُبُوت حق لطفله فِي مَال طِفْل آخر فَعَلَيهِ الطّلب، وعَلى أبي الطِّفْل الآخر الْمَنْع، وَلَيْسَ ذَلِك من المتناقضات. [494] فَإِن قيل: فَبِمَ عَرَفْتُمْ وجوب امْتِثَال الْأَمر فِي الصُّورَة الَّتِي قدمتموها؟ . قيل: لِأَنَّهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِذا أَمر بِالْأَخْذِ على الْإِيجَاب فيطلب بِمَا أَمر بِأَخْذِهِ فَأمره متحتم وَقد أَجمعت الْأمة على وجوب الْإِعْطَاء عِنْد وجوب الْأَخْذ عَلَيْهِ [59 / أ] السَّلَام فتبينا بذلك الْإِجْمَاع وَغَيره، وَلم نتبينه بِنَفس / الْأَمر المتوجه بِالْأَخْذِ عَلَيْهِ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 (102) فصل [495] فَإِن قيل: نرى الْفُقَهَاء يفصلون القَوْل فِي الْفُرُوض ويزعمون أَن مِنْهَا مَا هُوَ من فروض الْأَعْيَان، وَمِنْهَا: مَا هُوَ من فروض الكفايات فالتوجه على الْأَعْيَان كدفن الْمَوْتَى وتجهيزهم وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَغَيرهمَا فَمَا قَوْلكُم فِيهِ؟ . قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: كلما نعت بِالْفَرْضِ من هَذَا الْقَبِيل فَيجب على عين كل وَاحِد وَمن صَار إِلَى أَن هَذَا الْقَبِيل من الْفَرَائِض لَا يتَعَلَّق بالأعيان فقد تَأَول وَتوسع فِي اللَّفْظ فَإِنَّهُ لَا معنى لكَون الشَّيْء مفترضا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 عين إِلَّا أَن يُخَاطب بِهِ على سَبِيل الْإِيجَاب، وَهَذَا الْمَعْنى مُتَحَقق فِيمَا سموهُ فروض الكفايات وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه لَو تعطل فرض مِنْهُ حرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 المخاطبون. [496] فَإِن قيل: فَإِذا قَامَ بِهِ جمَاعَة فلماذا سقط الْفَرْض؟ . قُلْنَا: لَا معترض على الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيمَا يلْزم وَيسْقط، فَإِذا قَامَ طَائِفَة بِالْفَرْضِ سقط الْفَرْض عَن البَاقِينَ وَكَانَ قبل قيام من قَامَ بِهِ مُتَعَيّنا على أعيانهم وَكم من فرض سلم الْفُقَهَاء كَونه مُتَعَلقا بِالْعينِ فَيحدث سَبَب يتَضَمَّن سُقُوطه ونظائر ذَلِك لَا تَنْحَصِر فِي الشَّرِيعَة. (103) فصل [497] فَإِن قيل: الْأَمر الْمُطلق هَل يتَعَلَّق بالمكروه؟ . [قيل: مَا ثَبت بعد وُرُود الْأَمر كَونه مَكْرُوها فَلَا يتَعَلَّق الْأَمر الْمُطلق بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 وَزعم بعض المنتمين إِلَى أبي حنيفَة أَن الْأَمر يتَعَلَّق بالمكروه. فأفرض الْكَلَام عَلَيْهِم فِي صُورَة مَخْصُوصَة، فَقَالَ: إِذا ورد الْأَمر بِالطّوافِ مُطلقًا، وَطواف الْمُحدث مَعَ وُرُود الْأَمر مُطلقًا مَنْهِيّ عَنهُ وَهُوَ محرم عِنْدهم، أَو مَكْرُوه عِنْد بعض متعسفيهم ويزعمون أَن مُطلق الْأَمر يتَنَاوَل طواف الْمُحدث وَنحن ننكر ذَلِك أَشد الْإِنْكَار، وَوجه الْإِيضَاح فِيهِ أَن نقُول: الْأَمر يتَضَمَّن الِاقْتِضَاء وَالدُّعَاء إِلَى الِامْتِثَال والحث عَلَيْهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 والكراهية تَقْتَضِي النَّهْي عَن الْمَكْرُوه، وَكَيف يتَحَقَّق كَون مَا نهى عَنهُ مَأْمُورا بِهِ. [498] فَإِن قَالُوا: لَيْسَ الطّواف بمنهي عَنهُ، وَإِنَّمَا النَّهْي عَن ترك الطَّهَارَة. قيل لَهُم: وَإِنَّمَا نهى عَن ترك الطَّهَارَة لأجل الطّواف، وَلَوْلَا الطّواف مَا نهى عَن ترك الطَّهَارَة فَهُوَ إِذا مُتَعَلق بِالطّوافِ. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الطّواف للمحدث مَكْرُوه وفَاقا أَو محرم عِنْد الْأَكْثَرين مِنْكُم. وَالَّذِي يكْشف الغطاء ويحقق الْمَقْصد أَن نقُول صَلَاة الْمُحدث بَاطِلَة مَنْهِيّ عَنْهَا وفَاقا فَهَلا قُلْتُمْ أَن النَّهْي إِنَّمَا يتَعَلَّق بترك الطهار دون الصَّلَاة وَكَذَلِكَ السُّجُود لله تَعَالَى عبَادَة وَالسُّجُود للأصنام والأوثان كفر محرم فَهَلا قُلْتُمْ أَن نفس السُّجُود لَيْسَ بِمحرم، وَإِنَّمَا الْمحرم قصد عبَادَة الصَّنَم بِهِ؟ وَهَذَا لَا محيص لَهُم عَنهُ. ثمَّ نقُول: قد بَينا فِيمَا تقدم من الْأَبْوَاب أَن إِيجَاب الشَّيْء لَا يتَضَمَّن ثُبُوت جَوَازه فَكيف ينطوي على مَكْرُوه. وَهَذَا بَين إِن شَاءَ الله عز وَجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 [499] فَإِن قيل: أَلَيْسَ الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة تندرج الْأَمر بِالصَّلَاةِ وَإِن كَانَت مَكْرُوهَة؟ . قُلْنَا: سنشبع القَوْل فِيهِ فِي بَاب مُفْرد إِن شَاءَ الله عز وَجل. (104) فصل [59 / ب] [500] فَإِن قيل: إِذا كَانَ السُّجُود لله مَأْمُورا / بِهِ، وَالسُّجُود لغيره مَنْهِيّ عَنهُ فَهَل تطلقون القَوْل بِأَن الشَّيْء الْوَاحِد مَأْمُور بِهِ على وَجه، مَنْهِيّ عَنهُ على وَجه؟ . قيل: اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك فَذهب الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء إِلَى جَوَاز ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 وبينوه بِالسُّجُود أَمر بإحداثه فَلَو قَدرنَا النَّهْي عَنهُ لَكَانَ نهيا عَن إحداثه، وحدوث السُّجُود لَا يخْتَلف بِأَن يكون الْمَقْصُود بِهِ عبَادَة لله تَعَالَى أَو عبَادَة الصَّنَم فيستحيل أَن يكون الشَّيْء مَأْمُورا بِهِ وَهُوَ بِعَيْنِه مَنْهِيّ عَنهُ، فيؤول النَّهْي إِلَى قصد عبَادَة غير الله دون نفس السُّجُود، وَهَذَا بَاطِل فَإِن الْأمة أَجمعت على أَن السُّجُود لغير الله تَعَالَى محرم، وَلَو قَالَ قَائِل: السُّجُود مُبَاح وَالْقَصْد محرم، كَانَ خرقا للْإِجْمَاع. [501] فَإِن قيل: فَمَا الَّذِي ترتضونه من ذَلِك؟ . قُلْنَا: السُّجُود الَّذِي يَقع مَأْمُورا بِهِ لَا يتَصَوَّر أَن يكون مَنْهِيّا عَنهُ، فَإِن السُّجُود الْوَاقِع عبَادَة لله لَا يتَصَوَّر أَن يَقع عبَادَة لغيره بعد مَا وَقع عبَادَة لَهُ وَالسُّجُود الْمنْهِي عَنهُ لَا يكون مَأْمُورا بِهِ، فَإِن الَّذِي وَقع على قصد عبَادَة الْغَيْر لَا يَقع عبَادَة لله فهما إِذا غيران يتَعَلَّق الْأَمر بِأَحَدِهِمَا وَالنَّهْي بِالثَّانِي وَهَذَا الْمَذْهَب مُطَابق لما عَلَيْهِ الْأمة وموافق للتحقيق. [502] فَإِن قيل: فالسجودان مثلان، وَمن حكم المثلين أَن لَا يثبت لأَحَدهمَا وصف، إِلَّا وَيجوز ثُبُوته لمماثله. قيل: الْأَحْكَام الآئلة إِلَى الْأَنْفس والذوات تَسَاوِي فِيهَا المماثلات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 وَالْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة لَا ترجع على أصُول أهل الْحق إِلَى الذوات والأنفس وَلكنهَا ترجع إِلَى نفس الْأَمر على مَا عَقدنَا فِيهِ بَابا، فَنحْن نجوز تَحْرِيم الشَّيْء وَإِيجَاب مثله وتحسين الشَّيْء وتقبيح مثله، وَإِنَّمَا يصعب موقع السُّؤَال على الْمُعْتَزلَة لما صرفُوا الْأَحْكَام إِلَى الذوات. (105) فصل [503] فَإِن قيل: نرى الْفُقَهَاء يطلقون فِيمَا يتفاوضون بِهِ لفظ الآكد فِي السنتين فَيَقُولُونَ: هما مؤكدتان، وإحداهما آكِد من الْأُخْرَى فَهَل تطلقون مثل ذَلِك فِي الواجبين حَتَّى تَقولُوا أَحدهمَا أوجب من الآخر؟ . قيل: هَذَا مِمَّا نطلقه وَلَا نتحاشى مِنْهُ. [504] فَإِن قَالُوا: فَمَا معنى قَوْلكُم أَحدهمَا أوجب؟ . قيل: الْوُجُوب رَاجع إِلَى وعد اللوم على التّرْك وَالثنَاء على الِامْتِثَال فَكل مَا كَانَ اللوم الْمَوْعُود على تَركه أَكثر كَانَ أوجب، فَنَقُول: على هَذِه الْقَضِيَّة: الْإِيمَان بِاللَّه أوجب من الطَّهَارَة، وَالْمعْنَى بِهِ أَن الْمَوْعُود على تَركه من اللوم والإقدام عَلَيْهِ من الثَّوَاب وَحسن الثَّنَاء أَكثر وَهَذَا هُوَ المعني بِذكر الآكد فِي السنتين، وَلَا يَسْتَقِيم ذَلِك على مَذَاهِب الْمُعْتَزلَة فَإِنَّهُم يصرفون الْوُجُوب إِلَى صفة الذَّات، فَلَا يسْتَمر لَهُم مَا ذَكرْنَاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 [505] فَإِن قيل: فَقولُوا على طرد ذَلِك فِي الصدقين كَانَ أَحدهمَا أصدق من الثَّانِي وَفِي الْكَذِب مثل ذَلِك. قُلْنَا: هَذَا مِمَّا لَا يَقُولُونَ فَإِن كَون الْخَبَر صدقا يرجع إِلَى ذَاته فَإِذا تعلق خبران بمخبران على مَا هما عَلَيْهِ تَحْقِيقا فيستحيل أَن يكون أَحدهمَا أصدق من الآخر وَأما الْوُجُوب فَلَا يرجع إِلَى ذَات الْوَاجِب، وَإِنَّمَا يرجع إِلَى الْمَوْعُود عَلَيْهِ وَهُوَ مِمَّا يتَفَاوَت. [506] فَإِن قيل: أَلَيْسَ / يحسن فِي الْإِطْلَاق أَن يُقَال فلَان أصدق من [60 / أ] فلَان؟ . قُلْنَا: قد يُطلق ذَلِك وَلَكِن المُرَاد بِهِ أَن مَا يبدر مِنْهُ من الصدْق أَكثر مِمَّا يبدر من صَاحبه وَقد يُطلق لفظ الأصدق بَين اثْنَيْنِ، وَالْمرَاد بِهِ نعت أَحدهمَا بِالصّدقِ ونعت الثَّانِي بِالْكَذِبِ، كَمَا يُقَال: النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أصدق من مُسَيْلمَة وَالْمَالِك أَحَق من الظَّالِم إِلَى غير ذَلِك، فَأَما أَن تصور صدقان صادرين من صَادِقين وَأَحَدهمَا أصدق فِي صلَاته من صَاحبه فَلَا معنى لَهُ فَاعْلَم إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 (106) بَاب النواهي [507] اعْلَم - وفقك الله - أَن أَكثر مَا ذَكرْنَاهُ فِي أَحْكَام الْأَوَامِر يتَحَقَّق فِي النواهي على ضد الْأَوَامِر فَإِذا قُلْنَا حَقِيقَة الْأَمر اقْتِضَاء الطَّاعَة بِفعل الْمَأْمُور بِهِ فحقيقة النَّهْي اقْتِضَاء الطَّاعَة بترك الْمنْهِي عَنهُ وَالنَّهْي معنى فِي النَّفس لَا يرجع إِلَى الْعبارَات كالأمر، وكل مَا قدمْنَاهُ فِي الْأَوَامِر يعود فِي النواهي، ويفرد فِي النواهي مَا تتخصص بِهِ من الْأَوَامِر. (107) القَوْل فِي النَّهْي عَن شيئيين أَو أَشْيَاء على وَجه التَّخْيِير [508] قد قدمنَا صِحَة وُرُود الْأَمر بِشَيْء من أَشْيَاء على التَّخْيِير، وَذكرنَا شَرَائِط ذَلِك فِي بَاب مُفْرد فَكَمَا يجوز وُرُود الْأَمر على التَّخْيِير فَكَذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 يجوز وُرُود النَّهْي على التَّخْيِير فِي شَيْء من أَشْيَاء. وَأنكر مُعظم الْمُعْتَزلَة ذَلِك وَقَالُوا يَسْتَحِيل وُرُوده على التَّخْيِير ثمَّ اخْتلفُوا فِيمَا بَينهم فَمنهمْ من يمْنَع ذَلِك فِي مُقْتَضى اللُّغَة وَاللَّفْظ، وَمِنْهُم من يمنعهُ من غير جِهَة اللُّغَات. [509] فَأَما الَّذِي منعُوهُ لفظا فقد تمسكوا فِي ذَلِك بِأَلْفَاظ واستشهدوا بهَا. مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفورا} قَالُوا مَعْنَاهُ وَلَا تُطِع آثِما وكفورا وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ الْقَائِل: لَا تُطِع زيدا أَو عمرا فَلَا يفهم من مُطلق ذَلِك النَّهْي عَن الطَّاعَة فِي حق أَحدهمَا، وَلَكِن الْمَفْهُوم النَّهْي عَن طاعتهما جَمِيعًا. [510] وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّمَا يستيحل ذَلِك من قَضِيَّة الْعقل فَإِن النَّهْي إِذا تعلق بالشَّيْء اقْتضى قبحه فَإِذا تعلق بِأحد الشَّيْئَيْنِ لَا بِعَيْنِه حَتَّى يقدر الْقبْح فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا على حياده وإيراده، فيتصف إِذا كل وَاحِد مِنْهُمَا بِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 يَتَّصِف بِهِ الثَّانِي وَإِن لزم تقبيح أَحدهمَا لزم تقبيحهما. [511] فَنَقُول لَهُم: لَا يَسْتَحِيل وُرُود النَّهْي على التَّخْيِير فِي المعرض الَّذِي يجوز وُرُود الْأَمر على التَّخْيِير وكل من يجوز ذَلِك فِي الْأَمر يجوزه فِي النَّهْي، وَأما الَّذين أنكروه لفظا فساقط لَا طائل وَرَاءه، فَإنَّا لم نخالفهم فِي لفظ بِعَيْنِه نفرض الْكَلَام فِيهِ وَإِنَّمَا خالفناهم فِي تصور وُرُود النَّهْي على معرض التَّخْيِير فلئن استبعدوا ذَلِك فِي الْأَلْفَاظ الَّتِي اسْتشْهدُوا بهَا نتصور عَلَيْهِم من الصراح مَا لَا يَجدونَ إِلَى جَحده سَبِيلا، ونقول: لَو قَالَ الْمُكَلف للمخاطب حرمت عَلَيْك أحد هذَيْن الشَّيْئَيْنِ فَكف عَن أَيهمَا شِئْت، فَهَذَا مُصَرح بِهِ فِي إنباء التَّخْيِير فَمَا قَوْلكُم فِيهِ؟ [60 / ب] وَأما استرواحكم إِلَى / ظَاهر الْكتاب فَلَا يَسْتَقِيم وَذَلِكَ أننا لَا ننكر وُرُود بعض الْأَلْفَاظ تجوزا وتوسطا وحرف ((أَو)) يَقْتَضِي التَّخْيِير وَقد يرد، وَالْمرَاد بِهِ الْعَطف دون التَّخْيِير، وَلِهَذَا نَظَائِر فِي الْأَوَامِر على مَذْهَب الْمُفَسّرين مِنْهَا آيَة القطاع وَغَيرهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 [512] وَأما من أنكر ذَلِك عقلا مستروحا إِلَى أَنه إِذا أقبح أَحدهمَا قبح الثَّانِي، فَيُقَال: لَو سلم لكم أَن الْقَبِيح يقبح بِصفة ترجع إِلَى نَفسه، وَقد أوضحنا إبِْطَال ذَلِك فِي غير مَوضِع، وَبينا أَن الْقَبِيح وَالْحسن يرجعان إِلَى الْأَمر وَالنَّهْي، دون صِفَات الذوات، وَقد يحسن الشَّيْء ويقبح مثله. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن من مكث فِي دَار غَيره بِغَيْر إِذْنه فَهُوَ قَبِيح مِنْهُ وَلَو مكث فِيهَا بِإِذْنِهِ فَهُوَ غير قَبِيح، والمكث فِي الْحَالين لَا يخْتَلف فِي نَفسه وذاته وصدور الْإِذْن من الْمَالِك لَا يتَضَمَّن لغير صفة الْمكْث، والكون فِي الدَّار فِي وجوده، فَتبين بذلك أَن الْقبْح وَالْحسن يرجعان إِلَى أَمر صَاحب الشَّرِيعَة دون ذَوَات الْأَشْيَاء. (108) فصل [513] إِذا ورد النَّهْي مُتَعَلقا بِأحد المتضادين على التَّخْيِير سَاغَ لَك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 كَمَا يسوغ بِأَحَدِهِمَا وَذَلِكَ مثل أَن يَقُول: لَا تقم أَو لَا تقعد وَمَعْنَاهُ لَا تجمع بَينهمَا على التَّعَاقُب، وَامْتنع إِمَّا عَن هَذَا وَإِمَّا عَن ذَلِك. [514] فَإِن قيل: هَل يتَصَوَّر وُرُود النَّهْي مُتَعَلقا بجملة المتضادات الَّتِي لَا يَخْلُو الْمُخَاطب عَنْهَا مثل أَن يَقُول: لَا تنطق وَلَا تسكت وَلَا تتحرك وَلَا تسكن؟ . قُلْنَا: إِن أجزنا تَكْلِيف الْمحَال أجزنا ذَلِك وَإِن منعنَا ذَلِك منعنَا هَذِه وجوابنا على منع تَكْلِيف الْمحَال أَن نقُول: فَإنَّا وَإِن جَوَّزنَا ذَلِك عقلا فلسنا نقُول إِن الشَّرْع ورد بِهِ، وَإِنَّمَا كلامنا فِي وَقت كَمَال الدّين وَعدم توقع وُرُود شرح مُجَرّد. [515] فَإِن قيل: فَإِذا أجبتم على ذَلِك فَمَا قَوْلكُم فِيمَن دخل دَار غَيره مغتصبا مُتَعَدِّيا أَلَيْسَ هُوَ مَمْنُوع من الْكَوْن فِي الدَّار وَإِن أخرج؟ فَمَا دَامَ فِي الدَّار فَهُوَ كَائِن فِيهَا والكون فِيهَا محرم. وَكَذَلِكَ من تخطى زرع غَيره فاقتحمه فَلَا يجوز الْبَقَاء فِيهِ وَلَا يجوز التَّسَبُّب إِلَى إِتْلَافه وَكَانَ لَا يَتَأَتَّى خُرُوجه إِلَّا بِقطع الزَّرْع وَإِتْلَاف طَائِفَة مِنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 وَكَذَلِكَ إِذا ألم الرجل بِامْرَأَة زَانيا فإدخاله فرجه فِي فرجهَا وَإِذا أخرج وَآل إِلَى إتْمَام الِانْفِصَال هُوَ مستديم لصورة الزِّنَا فقد ثَبت فِي هَذِه الصُّورَة تَحْرِيم المتضادات جملَة من اسْتِحَالَة التعري عَنْهَا. وَاعْلَم - وفقك الله - أَن هَذَا مِمَّا اخْتلف فِيهِ الْعلمَاء، فحكي عَن أبي الشمر من الْأُصُولِيِّينَ أَن كل ذَلِك محرم عَلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي ورط نَفسه فِيهِ، وَإِن لم يجز وُرُود التَّكْلِيف بذلك ابْتِدَاء من غير تَفْرِيط يصدر مِنْهُ فَإِذا فرط انسدت عَلَيْهِ المسالك فَلَا مخلص لَهُ من المآثم وَذهب بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 الْعلمَاء إِلَى أَن من تخطى زرع غَيره فَهُوَ مَأْمُور بِالْخرُوجِ مِنْهُ، مَنْهِيّ عَن إفساده، وَكَذَلِكَ من تمكن من صدر إِنْسَان ظَالِما وَلَو قَامَ مِنْهُ تضرر لقِيَامه [61 / أ] وَلَو استدام / قعوده تضرر بقعوده فَهُوَ مَأْمُور بمزايلته مَنْهِيّ عَن الْإِضْرَار بِهِ. [516] وَأما الَّذِي نختاره أَنه إِذا دخل أَرضًا مَغْصُوبَة فَهُوَ مَأْمُور بِالْخرُوجِ مِنْهَا وَلَيْسَ بمنهي عَنهُ، والأكوان الَّتِي تصدر مِنْهُ فِي خُرُوجه من حركاته وسكناته لَيْسَ يعيصي بهَا وَهَكَذَا القَوْل فِي كف الزَّانِي عَن الزِّنَا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وَأما الْمُخَالفين على صدر غَيره فَعَلَيهِ مزايلته، وَلَا يَعْصِي بمزايلته على أرْفق الْوُجُوه بِشَرْط أَن يبْذل فِيهِ كنه المجهود فَيرد عَلَيْهِ أبي الشمر وَغَيره حَتَّى إِذا بَطل مَا عدا اختيارنا ثَبت مَا اخترناه فَيُقَال لأبي الشمر هَذَا الَّذِي صرت إِلَيْهِ إفصاح مِنْك بتكليف الْمحَال وَذَلِكَ أَن الْإِنْسَان إِذا كَانَ لَا يعرى عَن الأكوان المتضادة فَلَا يتَصَوَّر النَّهْي عَن جَمِيعهَا من غير أَن يتَصَوَّر الْخُلُو عَنْهَا، وَلَا فرق بَين تَجْوِيز ذَلِك وَبَين تَجْوِيز وُرُود الْأَمر بِالْجمعِ بَين الْقيام وَالْقعُود. وَأما الَّذِي استروح إِلَيْهِ من أَنه تسبب إِلَى ذَلِك فَبَاطِل من القَوْل، فَإِن تَكْلِيف الْمحَال على الأَصْل الَّذِي نَصره محَال، وَمَا كَانَ مستحيلا لم يتَصَوَّر ثُبُوته فرض الْمَرْء فِيهِ أَو لم يفرط، سِيمَا على مَذَاهِب الْمُعْتَزلَة، وَهَذَا الرجل من أتباعهم تَكْلِيف فَإِن الْمحَال قَبِيح لعَينه وَمَا قبح لعَينه لم يحسن لسَبَب فعل يصدر عَن الْغَيْر. [517] وَأما من قَالَ: إِنَّه مَأْمُور بِالْخرُوجِ مَنْهِيّ عَن الْإِتْلَاف فَهَذَا تنَاقض من القَوْل، فَإِن الْخُرُوج إِذا كَانَ لَا يتَصَوَّر إِلَّا مَعَ إِتْلَاف وإضرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 فكأنهم يَقُولُونَ: هُوَ مَأْمُور بِخُرُوج لَا إِضْرَار مَعَه وَلَا يتَصَوَّر خُرُوج لَا إِضْرَار مَعَه، وكل ذَلِك يسبب إِلَى تَجْوِيز تَكْلِيف الْمحَال. ثمَّ نقُول لهَؤُلَاء: أَرَأَيْتُم لَو لم يكن فِي خُرُوجه ضَرَر، وَلَكِن كَونه فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة ظلم، وَخُرُوجه إِلَى إتْمَام انْفِصَاله كَون فِيهَا، كَمَا أَن مكثه كَون فِيهَا، فَمَا قَوْلكُم فِي هَذِه الصُّورَة؟ ثمَّ الَّذِي نعول عَلَيْهِ أَن نقُول من دخل دَار غَيره فَهُوَ مَأْمُور بِالْخرُوجِ مِنْهَا بِاتِّفَاق الْأمة، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده وَلَو لم يكن مَأْمُورا بذلك يصور أَن يدعى إِلَى الْخُرُوج ثمَّ كَانَ مَأْمُورا بِهِ لَا يتَصَوَّر أَن يكون مَنْهِيّا فَمن حَيْثُ ثَبت كَونه مَأْمُورا اسْتَحَالَ كَونه مَنْهِيّا. [518] فَإِن قيل: كَيفَ يتَحَقَّق أَن يكون مَأْمُورا بالتلف فِي ملك غَيره؟ قُلْنَا: كل تلف قصد بِهِ الْخُرُوج عَن ملك الْغَيْر فَهُوَ مَأْمُور بِهِ وَإِنَّمَا النَّهْي يتَعَلَّق بتصرفه فِي ملك الْغَيْر لَا على قصد التنصل وَالْخُرُوج والكف عَمَّا حرم عَلَيْهِ. [519] فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي رجل حواليه طَائِفَة من الأجناد لَو وطئهم ليخرج من مَكَانَهُ لانتسب إِلَى وَاحِد وَلَو صَبر على مَكَانَهُ مَاتَ جوعا وعطشا، فَمَا قَوْلكُم فِي هَذِه الصُّورَة؟ قُلْنَا: أما الَّذِي تطلبه أَيهَا السَّائِل فَلَا نجيبك إِلَيْهِ فَإنَّا لَا نقُول يحرم عَلَيْهِ الْمقَام وَالْخُرُوج جَمِيعًا، فَإِن هَذَا محَال، وَلَكنَّا نفرض المسئلة على أَرْبَاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 الْفِقْه فَإِن قَالُوا يجب عَلَيْهِ الْخُرُوج إيثارا لروح نَفسه احتنا بِهِ، وَإِن قَالُوا يجب عَلَيْهِ الْمكْث، وَإِن خَافَ على روحه كَمَا يجب على الْمُكْره / على [61 / ب] الْقَتْل الْكَفّ عَن الْقَتْل، وَإِن خَافَ على روحه فنجيب لَهُ، وَإِن قَالُوا: يتَخَيَّر لتقابل الْأَصْلَيْنِ تبعنا قَوْلهم، فَأَما الْجمع بَين المتضادات فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ فَإِن رجعُوا وَقَالُوا فِي مسئلة الزَّرْع وَغَيرهَا هُوَ مَأْمُور بِالْخرُوجِ مَنْهِيّ عَن الأضرار فقد فرط الْجَواب عَنهُ مَعَ أَنا نزيده إيضاحا فَنَقُول: ألم تعلمُوا من أصلنَا أَن التكسير ولحوق الآلام مِمَّا لَا يدْخل تَحت مَقْدُور الْمُحدثين، وَلَا يتَعَلَّق بهَا نهي، وَلَا أَمر وَإِنَّمَا يتَعَلَّق الْأَمر وَالنَّهْي بالأفعال إِلَيْهِ أجْرى الله الْعَاد تخلق الْكسر والالام عقبيهما، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كَونه مَنْهِيّا عَن الإيلام، وَتبين أَن التَّكْلِيف على أصُول أهل الْحق لَا يتَعَلَّق بذلك أصلا. (109) فصل [520] إِذا ورد الْأَمر بالشَّيْء على الْإِيجَاب، وَقُلْنَا: إِن الْمُكَلف يَعْصِي بِتَرْكِهِ فتتعلق الْمعْصِيَة بِفعل ترك الْمَأْمُور، وَقَالَ أَبُو هَاشم: تتَعَلَّق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 الْمعْصِيَة بِأَن لَا يفعل الْمَأْمُور، حَتَّى قَالَ: لَو خلا عَن الْمَأْمُور وَعَن كل ترك لَهُ فَيسْتَحق الذَّم على أَن لم يفعل وَلما باح بِهَذَا الأَصْل خَالفه إخوانه من الْمُعْتَزلَة وَقَالُوا: مَا زلت تنكر على الجبرية إِثْبَات الثَّوَاب، وَالْعِقَاب مَا لَيْسَ بِخلق لَهُم، وَلَيْسَ بِفعل لَهُم على التَّحْقِيق، ثمَّ صرت إِلَى ثُبُوت الذَّم من غير إقدام على فعل، [و] سمي بِهَذِهِ المسئلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 أَبُو هَاشم الذِّمِّيّ وَهَذَا يهدم قَوَاعِده فِي التَّعْدِيل والتجوير واستقصاء ذَلِك فِي الديانَات. (110) القَوْل فِي أَن النهى عَن الشَّيْء هَل يدل على فَسَاده [521] اعْلَم - وفقك الله - أَن هَذَا مِمَّا اخْتلف فِيهِ الْفُقَهَاء والمتكلمون فَمَا ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَمَالك، وَأبي حنيفَة، وَأهل الظَّاهِر، وَطَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين: أَن النَّهْي عَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 الشَّيْء يدل على فَسَاده كَمَا أَن الْأَمر بالشَّيْء يدل على إجزائه. ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ فَذهب بَعضهم أَن النَّهْي دَال على فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ من جِهَة وضع اللِّسَان. وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن النَّهْي إِذا ثَبت فَإِنَّمَا يعلم فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ بِمُوجب الشَّرْع دون قَضِيَّة لفظ النَّهْي فِي اللُّغَة، وَذهب الْجُمْهُور من الْمُتَكَلِّمين أَن النَّهْي لَا يدل على الْفساد ثمَّ أجمع هَؤُلَاءِ على أَنه كَمَا لَا يدل على فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ لَا يدل على صِحَّته وإجزائه. وَالْمَقْصُود من هَذَا الْبَاب لَا يَتَّضِح إِلَّا بِأَن نقدم عَلَيْهِ مسئلة اخْتلف فِيهَا الْمُتَأَخّرُونَ. (111) مسئلة [522] الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة جَائِزَة على مَذْهَب كل من يُؤثر عَنهُ الْمذَاهب وَأَنَّهُمْ صائرون إِلَى أَن الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة تقع موقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 الْإِجْزَاء. وَذهب الجبائي وَابْنه وَمن تابعهما من أتباعهما إِلَى أَن الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة بَاطِلَة. غير وَاقعَة موقع الْإِجْزَاء، وَلَا يَحْكِي هَذَا الْمَذْهَب عَن أحد قبلهمَا إِلَّا أَن أَبَا هَاشم لما اسْتدلَّ عَلَيْهِ بِإِجْمَاع من سبق - على مَا سنوضحه فِي أثْنَاء المسئلة - قَالَ فِي الرَّد على مدعي الْإِجْمَاع: كَيفَ يَسْتَقِيم الْإِجْمَاع وَقد ذهب أَبُو شمر المرجي إِلَى منع الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة فَلم يقتدر على نِسْبَة هَذَا الْمَذْهَب إِلَى أحد سواهُ. [523] وَأول مَا يحْتَاج إِلَى ذكره فِي المسئلة أَن نبين لَك أَن الخائضين فِيهَا اخْتلفُوا فِي أَنَّهَا من مسَائِل / الْقطع، أَو من مسَائِل الِاجْتِهَاد، فَذهب [62 / أ] بَعضهم إِلَى أَنَّهَا من مسَائِل الِاجْتِهَاد، وَالصَّحِيح الَّذِي يعول عَلَيْهِ أَنَّهَا من مسَائِل الْقطع فَإِن الْخُصُوم يعتصمون فِيهَا بِمَا لَو ثَبت اقْتضى الْقطع، وَنحن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 نعتصم على الْخُصُوم بِإِجْمَاع من سلف على مَا سنوضحه وَهُوَ يُفْضِي إِلَى الْقطع فَالْأولى بِنَا أَن نبدأ بشبه الْقَوْم والتقصي عَنْهَا. [524] فَإِن قَالُوا: اتفقنا على أَن مَا يكون مَعْصِيّة يَسْتَحِيل أَن يكون طَاعَة وحققوا ذَلِك بِأَن من عصى الله تَعَالَى بِفعل يَسْتَحِيل أَن يكون مُطيعًا لَهُ بِعَين مَا عَصَاهُ بِهِ وَمَعْلُوم أَن قِيَامه فِي صلَاته، وقعوده وتقلبه فِيهَا من ركن إِلَى ركن أكوان تقوم بِهِ فِي دَار مَغْصُوبَة والأكوان الْحَادِثَة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة باغتصابه وتعد مِنْهُ، وَلَو قدر قَاعِدا، أَو قَائِما غير مصل كَانَ عَاصِيا بقعوده فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وشغله قطرا مِنْهَا وقعوده فِي الصَّلَاة هُوَ جنس قعوده فِي غير الصَّلَاة، وَالْقعُود فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة محرم. وأوضحوا ذَلِك فِي جملَة مَا يبدر عَن حركاته وسكناته فِي صلَاته فَإِذا ثَبت أَنَّهَا مُحرمَة فالمحرم كَيفَ يَقع طَاعَة مَأْمُورا بهَا. وحققوا ذَلِك بِأَن قَالُوا: أجمع الْمُسلمُونَ على أَن الصَّلَاة لَا تصح إِلَّا بنية التَّقَرُّب فِيمَا حرم الله، وَرُبمَا يفرضون هَذَا الْكَلَام فِي نِيَّة الْوُجُوب فِيمَا يتَحَقَّق الْحَظْر فِيهِ فَهَذِهِ شبهتهم وإليها يؤول جملَة كَلَامهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 وَالْجَوَاب عَنْهَا من أوجه: وَكلهَا مهدرة بِتَسْلِيم بعض مَا ذَكرُوهُ وَنحن ننبهك على مَوضِع التَّسْلِيم حَتَّى لَا تزل فَأَما مَا ذَكرُوهُ من أَن أكوانه فِي الصَّلَاة مُحرمَة، وَهُوَ مَعْصِيّة فَالْأَمْر على مَا ذَكرُوهُ وجاحد ذَلِك ينْسب إِلَى جحد الْحَقَائِق، وَقد منع ذَلِك بعض الْفُقَهَاء على مَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. [525] فَإِن قيل فَمَا وَجه التَّقَصِّي؟ . قُلْنَا: مَا عولتم عَلَيْهِ فِي المسئلة إِمَّا أَن يكون محرما لَا يَقع طَاعَة، وَهُوَ الَّذِي ذكرتموه قبل أَن يتَحَقَّق التَّقَصِّي عَنهُ نبطل عَلَيْكُم بصور لَا محيص لكم عَنْهَا. مِنْهَا: أَن من وَجب عَلَيْهِ قَضَاء دينه وضاق وَوقت الصَّلَاة موسع عَلَيْهِ فَلَا يجوز لَهُ تَأْخِير قَضَاء الدّين مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ، فَلَو تحرم بِالصَّلَاةِ وَالْحَالة هَذِه حكمتم بِصِحَّة الصَّلَاة، وَإِن كَانَ بِنَفس الصَّلَاة تَارِكًا لقَضَاء الدّين، وَكَذَلِكَ لَو وَجب عَلَيْهِ رد وَدِيعَة فِي مثل هَذِه الْحَالة فتلبس بِالصَّلَاةِ صحت مِنْهُ، وَوجه الْإِلْزَام كَمَا قدمْنَاهُ. [526] فَإِن قَالُوا: إِنَّه لَا يَعْصِي بِنَفس الصَّلَاة وَإِنَّمَا يَعْصِي بِالتَّأْخِيرِ؟ . قيل لَهُم: فَلَا يَعْصِي إِذا بِنَفس الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وَإِنَّمَا يَعْصِي بالكون فِيهَا، فَإِن قَالُوا فَالصَّلَاة كَون فِيهَا، قُلْنَا: فَالصَّلَاة إِذا فِيمَا ألزمنا كم ترك لقَضَاء الدّين ورد الْوَدِيعَة، وَلذَلِك لَو ضَاقَ وَقت الصَّلَاة وَلَو اشْتغل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 بإنشاء عقد فَاتَتْهُ فَلَا يجوز لَهُ التَّسَبُّب إِلَى ترك تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، فَلَو عقد عقدا ترَتّب عَلَيْهِ الصِّحَّة ويؤول الْملك وَإِن كَانَ بِنَفس العقد تَارِكًا لتكبيرة الشُّرُوع فَهَذَا عقد محرم لَا تحكم بفساده. [527] ثمَّ مَا عولوا عَلَيْهِ فِي دليلهم أَن من شَرط الصَّلَاة نِيَّة التَّقَرُّب بهَا [62 / ب] وَلَا يَصح / قصد التَّقَرُّب فِي الْمحرم، وعَلى هَذَا الْوَجْه قدرُوا السُّؤَال فِي نِيَّة الْوُجُوب. فَنَقُول لَهُم: لسنا نسلم على بعض الْمذَاهب نِيَّة التَّقَرُّب بل يَقع الاجتزاء بنية فعل الصَّلَاة مَعَ التَّعْيِين. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الصَّبِي إِذا أَقَامَ الصَّلَاة وَهُوَ مناهز للبلوغ فَلَا يتَصَوَّر فِيهِ الْوُجُوب مِنْهُ على التَّحْقِيق، وَلَو بلغ بعد الْفَرَاغ من الصَّلَاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 مَعَ بَقَاء الْوَقْت لَا يُوجب عَلَيْهِ إِقَامَة الصَّلَاة ثَانِيًا، ويجتزئ بِمَا فرط مِنْهُ، وَلَو لم يكن قد صلى لوَجَبَ عَلَيْهِ إِقَامَة الصَّلَاة فَدلَّ أَن نِيَّة الْوُجُوب لَيست بمشروطة على الْإِطْلَاق وَكَذَلِكَ نِيَّة التَّقَرُّب. أَو نقُول: وَلَا يَسْتَقِيم هَذَا السُّؤَال مِنْكُم على مَا قدمْنَاهُ من أصلكم فِي اسْتِحَالَة علم الْمُكَلف بِالْوُجُوب مَعَ انطواء الْغَيْب عَنهُ فِي الْمَآل فَكَذَلِك لَا يتَصَوَّر قطع النِّيَّة بالتقرب مَعَ التشكك فِي تصَوره، إِذا التَّقَرُّب وصف لما يتَحَقَّق أَصله فَإِذا كَانَ الأَصْل مشكوكا فِيهِ عنْدكُمْ فالوصف بذلك أولى، فانعكس عَلَيْكُم مَا قَالُوهُ وَبَطل مَا أصلوه بطلانا ظَاهرا. [528] وَمِمَّا يعول عَلَيْهِ فِي الِانْفِصَال عَمَّا قَالُوهُ أَن نقُول: اسْم الصَّلَاة لَا يتخصص بأكوان الْمُصَلِّي فِي قِيَامه وقعوده وانخفاضه وارتفاعه، وَلَكِن مِمَّا تنطوي عَلَيْهِ الصَّلَاة النِّيَّة وَالْقِرَاءَة والدعوات الْمَفْرُوضَة والمسنونة وصدور هَذِه الْأَشْيَاء من الْكَائِن فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة وَلَا يكون غصبا وَلَا يتَضَمَّن حيلولة بَين الأَرْض ومالكها وَإِنَّمَا الْمُقْتَضِي إِلَى الْحَيْلُولَة أكوانه وشغله أقطار الدَّار وجحده الْمَالِك من التَّصَرُّف فِي ملكه بتصرفه الَّذِي هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 مُتَعَدٍّ فِيهِ، وَإِنَّمَا يتَحَقَّق ذَلِك فِي أكوانه دون قِرَاءَته وعقده فنية التَّقَرُّب إِذا تَنْصَرِف إِلَى مَا لَا يتَحَقَّق معنى الاغتصاب فِيهِ. [529] فَإِن قيل: فالمصلي يَنْوِي بِصَلَاتِهِ جملَة التَّقَرُّب فَإِذا تحقق التَّقَرُّب فِي الْبَعْض دون الْبَعْض استحالت النِّيَّة. قُلْنَا: هَذَا يبطل عَلَيْكُم بِمَا لَا محيص عَنهُ، وَهُوَ أَن الْمُصَلِّي إِذا نوى التَّقَرُّب بجملة صلَاته أَولا ثمَّ اتّفقت فِي أثناءها غفلات عَن الصَّلَاة وَهُوَ مَأْمُور فِيهَا جَار على ترتيبها الْمَشْرُوع لَهَا فَالصَّلَاة صَحِيحَة وفَاقا وَإِن كَانَ البادر فِي غَفلَة يَسْتَحِيل أَن يَقع تقربا فَخرج من ذَلِك أَن الْمَقْصد نِيَّة التَّقَرُّب على الْجُمْلَة دون تقسيطها على التفاصيل. [530] فَإِن قَالُوا: إِذا سبق الْأَمر من الله تَعَالَى بِالصَّلَاةِ فَلَا يتَصَوَّر الْخُرُوج عَن قَضِيَّة الْأَمر إِلَّا بالإقدام على مَا هُوَ مَأْمُور بِهِ، ويستحيل الْخُرُوج عَن قَضِيَّة الْأَمر من غير إقدام على الْمَأْمُور بِهِ من غير نَاسخ وطروء نَاسخ مَانع، فَإِذا تمهد هَذَا الأَصْل بنوا عَلَيْهِ مرامهم وَقَالُوا: قيام الْمُصَلِّي وقعوده مأموران وهما فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة منهيان محرمان وَمَا كَانَ محرما يَسْتَحِيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 أَن يكون مَأْمُورا فَلم يقدم إِذا على مَأْمُور بِهِ فَكيف خرج عَن الْقيام الْمَأْمُور بِهِ وَهَذَا نِهَايَة مَا يلْزمه. فَقَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: إِذا قُلْنَا إِن الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة مجزئة فلسنا نعني بذلك أَنَّهَا تقع مأمورة بهَا، وَلَكِن الْمَعْنى بذلك أَنَّهَا مَعَ كَونهَا مُحرمَة تسْقط الْمَأْمُور بِهِ / عِنْد إِقَامَتهَا فَلم قُلْتُمْ أَن الْمَأْمُور بِهِ [63 / أ] لَا يسْقط إِلَّا عِنْد الْإِقْدَام على مَأْمُور بِهِ، وَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْمَأْمُور بِهِ يسْقط من غير نسخ وَلَا طروء عذر، فَإِن هَذَا مِمَّا تنازعنا فِيهِ فَلم يزِيدُوا على صُورَة الْخلاف. فَإِنَّكُم علمْتُم من أصُول خصمكم أَن الْفَرْض يسْقط بِالصَّلَاةِ فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وعلمتم تسليمهم لكم كَون الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة مَنْهِيّا عَنْهَا، فَإِذا قُلْتُمْ لَا يتَصَوَّر سُقُوط الْمَأْمُور بِهِ إِلَّا بِمَا هُوَ مَأْمُور بِهِ فقد دللتم على صُورَة الْخلاف بِنَفس ذكر الْخلاف ألم تعلمُوا أَنا نجوز أَن يسْقط الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْفَرْض عِنْد صُدُور مَعْصِيّة من الْمُكَلف وَيجْعَل صدورها آيَة لسُقُوط الْوُجُوب وَمِثَال ذَلِك مَا قدمْنَاهُ من الْمسَائِل الْمُتَّفق عَلَيْهَا من نَحْو الصَّلَاة فِي وَقت وجوب الرَّد؟ [531] وَمن هَذَا الْقَبِيل أَيْضا أَن الرجل إِذا اضطرته المخمصة وَكَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 عِنْده من ملكه مَا يسد بِهِ رمقه فَيجب عَلَيْهِ الْأكل، فَلَو أكل من ملك غَيره فقد أقدم على نفس الْمعْصِيَة، وَسقط عَنهُ الْفَرْض فِي وجوب الْأكل. فَإِن عَادوا فِي استبعاد سُقُوط الْوَاجِب بالمحرم عدنا لَهُم وَبينا اقتصارهم على مُجَرّد الدَّعْوَى. [532] فَإِن قَالُوا: فَالْأَصْل بَقَاء الْأَمر على اقْتِضَاء الِامْتِثَال وَلَا يسْقط امتثاله وجوبا من غير إقدام على الْمَأْمُور بِهِ وَمن غير دلَالَة قَائِمَة على سُقُوط الْوُجُوب عِنْد ثُبُوت مَا هُوَ محرم. قُلْنَا: الْآن إِن نطقتم بِالْحَقِّ فَإنَّا نقُول: إِذا ورد الْأَمر مقتضيا للْإِيجَاب فَلَا يَتَقَرَّر سُقُوط الْوُجُوب من غير إقدام على الْمَأْمُور بِهِ إِلَّا بِدلَالَة تقوم دَالَّة على سُقُوط الْوُجُوب من غير إقدام، فَمَا الدَّلِيل على السُّقُوط؟ قُلْنَا: قد تبين عجزكم عَن إِقَامَة الدّلَالَة واتضح جَوَاز ذَلِك ثمَّ نوضح مَا بِهِ اعتصامنا من الدَّلِيل فِي المسئلة إِن شَاءَ الله تَعَالَى. [533] ثمَّ اعْلَم أَن مُعظم الْفُقَهَاء حادوا عَن سنَن التَّحْقِيق فِي التَّقَصِّي عَن شبه الْقَوْم فسلك كل فريق مِنْهُم طَرِيقا، وَنحن ننبئك عَن طرقهم وَنَذْكُر وَجه الدخل فِيهَا إِن شَاءَ الله، فمما عول فِيهِ بعض الْفُقَهَاء فِي التَّقَصِّي عَمَّا قدمْنَاهُ أَن قَالَ: الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة طَاعَة مَأْمُور بهَا مفترضة لَا يُوصف بِأَنَّهَا مُحرمَة فَإِنَّمَا الْمحرم الْغَصْب، وَالْغَصْب غير الصَّلَاة، فَقيل لَهُ: فالقعود فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة على حكم التَّعَدِّي غصب وقعود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 الْمُصَلِّي فِيهَا قعُود على حكم الْغَصْب، فَلم يَجدوا عَن ذَلِك محيصا غير أَن قَالُوا: الدَّلِيل على انْفِصَال الْغَصْب عَن الصَّلَاة، وَالصَّلَاة عَن الْغَصْب أَنه قد يفصل الْكَوْن فِي الدَّار مغتصبا وَإِن لم يكن مُصَليا فِيهَا. وَمن حق مثل هَذَا الْكَلَام أَن لَا نتشاغل بنقله لوضوح فَسَاده بيد أَنا لما رَأينَا الْفُقَهَاء يشغفون بذلك لم نجد بدا من ذكره، فَيُقَال لهَذَا الْقَائِل: وَإِن صَحَّ أَن يكون كَائِنا غير مصل فَلَا يَصح أَن يكون مُصَليا فِي الدَّار إِلَّا وَهُوَ كَائِن فِيهَا وَهَذَا بِمَثَابَة من قَالَ الْقعُود فِي الدَّار لَيْسَ بِكَوْن فِيهَا فَإِنَّهُ قد يتَصَوَّر كَون لَيْسَ بقعود، وَلَو قَالَ قَائِل: الْحَرَكَة لَيست بِكَوْن فَإِنَّهُ قد يتَصَوَّر كَون لَيْسَ بحركة وَهُوَ السّكُون والسواد لَيْسَ بِكَوْن فِيهَا لِأَنَّهُ قد يتَصَوَّر كَون لَيْسَ بسواد وَالصَّلَاة لَيست بِطَاعَة لتصوره طَاعَة لَيست بِصَلَاة /. [63 / ب] [534] وَاعْلَم أَن من زعم أَن قعُود الْمُصَلِّي فِي صلَاته لَيست بِكَوْن فِي الدَّار فقد جحد الضَّرُورَة وَقد بَينا بِاتِّفَاق الْأمة أَن الْقعُود فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة محرم. [535] وَمِمَّا اعْتصمَ بِهِ بعض الْفُقَهَاء أَن قَالَ: الاغتصاب يتَعَلَّق بِعَين الدَّار وذاتها وأنفس أبعاضها وأجزائها، وَالصَّلَاة من فعل الْمُصَلِّي ومقدوراته وَهِي لَا تتصف بِكَوْنِهَا مُحرمَة، وَهَذَا أوضح فَسَادًا من كل مَا قدمْنَاهُ، وَذَلِكَ أَنا نقُول: إِذا صرفتم الاغتصاب إِلَى أَعْيَان الدَّار، وزعمتم أَن الصَّلَاة من مقدوراته وَالْغَصْب لَا يتَعَلَّق بِمَا يخرج من قبيل مقدوراته فَأول مَا فِيهِ أَن نقُول: هَل تسلمون أَن الْغَصْب محرم مَنْهِيّ عَن معاقبته عَلَيْهِ فَإِن لم يسلمُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 انتسبوا إِلَى جحد الْإِجْمَاع وَإِن سلمُوا قيل لَهُم: فَكيف يُعَاقب الْمَرْء على مَا يدْخل تَحت مقدوره، وَلَا يجوز دُخُوله تَحْتَهُ فتتعلق جملَة أَحْكَام التَّكْلِيف بِأَفْعَال الْمُكَلّفين، ومصير هَؤُلَاءِ إِلَى أَن الصَّلَاة من أَفعَال الْغَاصِب ومقدوراته لَا ينجيهم فَإِن الْغَصْب من مقدوراته وَلَو لم يكن مَنْهِيّا لما تعلق حكم التَّكْلِيف بِهِ فِي التَّحْرِيم. [536] ثمَّ نقُول: الْأَمْلَاك الْمُطلقَة والغصوب الْمَانِعَة مِنْهَا كلهَا آئلة إِلَى الأوحال المقدورة للْمَالِك والمغتصبين فَإِذا أطلق الْملك أُرِيد بِهِ تصرف صَاحب الدَّار وتقلبه فِي عين الدَّار، وَيرجع ذَلِك إِلَى أكوانه، فَأَما أَعْيَان الدَّار وجواهرها وأجسامها فَلَا يملكهَا إِلَّا الله تَعَالَى، وَلَا يتَصَوَّر الْغَصْب فِيهَا، وَالْجُمْلَة الجامعة لما قدمْنَاهُ أَن تثبت الْملك وَالْمَنْع مِنْهُ مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ التَّكْلِيف وَلَا يتَصَوَّر التَّكْلِيف فِي شَيْء من قضاياه إِيجَابا وندبا وحظرا وَإِبَاحَة إِلَّا بِمَا هُوَ من قبيل مقدورات العبيد وَهِي أفعالهم فَبَطل مَا قَالُوهُ جملَة وتفصيلا، وَتبين أَن الْغَصْب يرجع إِلَى مَا يَفْعَله الْغَاصِب من الأكوان فِي شغله أَجزَاء الدَّار وَمنعه الْمَالِك من التَّصَرُّف فِي الْموضع الَّذِي شغله. [537] وَمن الْفُقَهَاء من سلك أُخْرَى وَهِي أَنه قَالَ: تَحْرِيم الْغَصْب مِمَّا لَا يتخصص بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ محرم قبل شُرُوعه فِي الصَّلَاة وَلَيْسَت كالطهارة فَإِنَّهَا شَرط لأجل الصَّلَاة، فَيُقَال: قد قدر عَلَيْكُم ان نفس قعوده وقيامه فِي الصَّلَاة عين الْغَصْب فَكيف يخلص من هَذَا السُّؤَال قَوْلكُم إِن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 الْغَصْب مَا حرم لأجل الصَّلَاة وَقد وضح أَن بعض أَرْكَانهَا عين الْغَصْب، فاضمحل مَا قَالُوهُ. ثمَّ يُقَال لَهُم: ستر الْعَوْرَة مِمَّا لم يخْتَص وُجُوبه بِالصَّلَاةِ وَلم تقدر الاختلال بهَا على قصد وَاخْتِيَار حكم بِبُطْلَان الصَّلَاة. [538] وَمن الْفُقَهَاء من تمسك بطريقة أُخْرَى فَقَالَ إِنَّمَا صحت صلَاته لِأَنَّهُ لَا بُد من مُسْتَقر يقر فِيهِ، إِلَى غير ذَلِك. [539] فَإِن قيل: يُمكنهُ أَن يقر فِي غير الدَّار الْمَغْصُوبَة؟ . قيل: ويمكنه أَن يُصَلِّي فِي غَيرهمَا فَبَطل جملَة مَا عولوا عَلَيْهِ، وَفِيمَا قدمْنَاهُ من طرق الْجَواب غنية إِن شَاءَ الله تَعَالَى. [540] فَإِن قيل فَمَا دليلكم على وُقُوع الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة مَوضِع الْإِجْزَاء تثبتون ذَلِك عقلا أم سمعا؟ . قُلْنَا: لَا تدل الْعُقُول على أَحْكَام الشَّرَائِع، وَإِنَّمَا الدَّال عَلَيْهَا الْأَدِلَّة السمعية، فَإِن قَالُوا: / فَلَيْسَ فِي تَجْوِيز الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة نَص [64 / أ] كتاب وَلَا نَص مستفيض عَن الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فعلى مَاذَا معولكم؟ قُلْنَا: معولنا على إِجْمَاع الْأمة فِي الْعَصْر الخالية قبل ظُهُور هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 الْخلاف من أبي شمر المرجي ونوابته الْمُعْتَزلَة، وَوجه تَحْقِيق ادِّعَاء الْإِجْمَاع أَن نقُول: الصَّلَوَات فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة كَانَت تتفق فِي زمن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَفِي زمن أَصْحَابه بعد أَن اسْتَأْثر الله تَعَالَى بِهِ. وكما نعلم اطراد سَائِر الْعَادَات الَّتِي لَا تنخرق، فَكَذَلِك نعلم أَن الْعَصْر لَا يَخْلُو عَن تقدر ذَلِك من المعتصمين المشتغلين المتمسكين بضروب الْعدوان، ثمَّ لم يصر أحد من أهل الْحل وَالْعقد إِلَى إِفْسَاد الصَّلَوَات فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة وَلم يوجبوا قضاءها وَلَا يسوغ من المجمعين الصمت وَالسُّكُوت على خلاف الْحق إِذْ الْعِصْمَة تجب لَهُم كَافَّة كَمَا تجب للرسول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن طَائِفَة من المغتصبين كَانُوا ينيبون ويتوبون ويرجعون عَن طغيانهم وعدوانهم فِي زمن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَكَانُوا يتلافون مَا فرط مِنْهُم من الظُّلم بالتدارك، وَلم يُؤثر عَن أحد من الْأَئِمَّة فِي الْعَصْر المنقضية أَنه أوجب على منيب إِعَادَة مَا فرط مِنْهُ من الصَّلَوَات وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ، وجاحد ذَلِك يُقَابل بجحد كل إِجْمَاع. [541] فَإِن قَالَ أَبُو هَاشم: أَلَيْسَ ذهب أَبُو شمر إِلَى إِيجَاب الْقَضَاء؟ قُلْنَا: إِنَّمَا استدللنا عَلَيْهِ بانعقاد الْإِجْمَاع قبل الَّذين نسبتموهم فِي زمن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، ثمَّ هَذَا الرجل الَّذِي سميتموه لم يُوضح كَونه من المتسجمعين للشرائط الْمَذْكُورَة فيعد خِلَافه ويقدح فِي عقد الْإِجْمَاع. فَبَطل مَا قَالُوهُ. [542] فَإِن قيل: فقد أجمع الْمُسلمُونَ على أَن غير الْمَأْمُور بِهِ لَا يتَأَدَّى بِهِ الْمَأْمُور بِهِ؟ قيل لَهُم: هَذَا تلبيس مِنْكُم فَإنَّا أوضحنا عَلَيْكُم الْإِجْمَاع فِي إِجْزَاء الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة ثمَّ لَو كَانَ لَا يخفى عَلَيْكُم كَونهَا مَعْصِيّة فَكيف خَفِي عَمَّن كَانَ قبلكُمْ فَإِذا ثَبت إِجْمَاعهم على إجزائها مَعَ الْعلم بتحريمها فَأنى يَسْتَقِيم مَعَ ذَلِك ادِّعَاء الْإِجْمَاع على الْجُمْلَة فِي أَن الْمحرم لَا تقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 موقع الْمَأْمُور بِهِ، ثمَّ مَا قَوْلكُم فِي الْمُصَلِّي وَفِي وَقت وجوب رد الْوَدِيعَة وَالْغَصْب عَلَيْهِ، هَل تصح صلَاته؟ فَإِن قَالُوا: تصح صلَاته مَعَ كَونهَا تركا للْوَاجِب فقد أبطلوا ادِّعَاء الْإِجْمَاع وَإِن زَعَمُوا أَن الصَّلَاة لَا تصح فِي هَذِه الْحَالة ظهر عنادهم وخرقهم لإِجْمَاع الْأمة، وأفضى ذَلِك بهم إِلَى القَوْل بِأَن كل مديون عَلَيْهِ دين مقتدر على أَدَاء مَا عَلَيْهِ مماطل مُسْرِف بِتَأْخِير لَا تصح لَهُ صَلَاة مَا بَقِي الدّين عَلَيْهِ. وَهَذَا كشف القناع والتصرخ برفض الْإِجْمَاع. [543] فَإِذا ثبتَتْ هَذِه المسئلة فِي مُقَدّمَة الْبَاب فنخوض بعْدهَا فِي إِيضَاح فَسَاد قَول من قَالَ: إِن النَّهْي يدل على الْفساد. وَاعْلَم أَن أَكثر الصائرين إِلَى هَذَا الْمَذْهَب من أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَمَالك وَأبي حنيفَة وَغَيرهم يوافقون فِي وُقُوع الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة موقع الْإِجْزَاء فَإِذا تمهدت لَك هَذِه الْقَاعِدَة قُلْنَا بعْدهَا: ألستم وافقتمونا على صِحَة الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة؟ وَقد أوضحنا كَون الْقيام وَالْقعُود وَجُمْلَة [64 / ب] الأكوان فِيهَا / مُحرمَة مَنْهِيّا عَنْهَا، معاقبا عَلَيْهَا، وَبينا أَن جَاحد ذَلِك ينتسب إِلَى جحد الْحَقَائِق فقد ثَبت مَنْهِيّ عَنهُ تَحْقِيقا مَعَ كَونه مجزيا. [544] فَإِن قيل: نَحن وَإِن قُلْنَا: إِن الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة جَائِزَة، قُلْنَا مَعَ ذَلِك إِن النَّهْي يدل على الْفساد فَلَا تنَاقض بَين الْأَصْلَيْنِ، فَإنَّا وَإِن جعلنَا الْفساد من مُقْتَضى النَّهْي فَيجوز أَن يحمل النَّهْي على غَيره بِدلَالَة تقوم، وَهَذَا كَمَا أَنا نقُول النَّهْي يَقْتَضِي التَّحْرِيم ثمَّ قد يرد وَيحمل على غير التَّحْرِيم. وَالْأَمر يَقْتَضِي الْوُجُوب، ثمَّ قد يرد وَيحمل على غير الْوُجُوب؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 قُلْنَا: هَذَا مَا روح فِيهِ، وَذَلِكَ أَنكُمْ زعمتم أَن النَّهْي يَقْتَضِي الْفساد وَإِذا حمل على غير ظَاهره فقد عدل بِهِ على حَقِيقَته، وَصرف عَن قَضيته وَاسْتعْمل فِيمَا اسْتعْمل فِيهِ مجَازًا وتوسعا، واستعماله من غير اقْتِضَاء الْإِيجَاب كاستعمال صِيغَة الْأَمر فِي اقْتِضَاء الْإِبَاحَة. ومآل ذَلِك يرجع إِلَى القَوْل بِأَن النَّهْي إِذا لم يحمل على الْفساد كَانَ مجَازًا وَيلْزم من ذَلِك أَن يكون النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة مجَازًا لَا حَقِيقَة، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى القَوْل بِهِ، وَلَو سَاغَ ذَلِك سَاغَ الْمصير إِلَى أَنَّهَا مُحرمَة مجَازًا لَا حَقِيقَة وَقد أطبق الْمُحَقِّقُونَ على أَن كل مَا كَانَ محرما على الْحَقِيقَة يجب أَن يكون مَنْهِيّا عَنهُ على الْحَقِيقَة. [545] وَمِمَّا نتسمك بِهِ فِي المسئلة أَن نقُول: معاشر الْخُصُوم فصلوا لنا قَوْلكُم فِي الْفساد ومتعلق النَّهْي فَإِن عنيتم بذلك الْمنْهِي بنهي يَقْتَضِي التَّحْرِيم محرم فَهَذَا مِمَّا نساعدكم عَلَيْهِ، ونقول بِهِ، إِمَّا مصيرا إِلَى أَن مُطلق النَّهْي يَقْتَضِي التَّحْرِيم، أَو فرضا للْكَلَام فِي النَّهْي الْمُقَيد بالقرائن الدَّالَّة على التَّحْرِيم، وَإِن عنيتم بِالْفَسَادِ أَن الْمنْهِي عَنهُ غير الْمَأْمُور، فَهَذَا مِمَّا نساعدكم عَلَيْهِ، وَإِن عنيتم بِالْفَسَادِ أَن مثل مَا وَقع مَنْهِيّا تجب إِعَادَته على وَجه كَونه مَنْهِيّا فالنهي لَيْسَ يُنبئ عَن ذَلِك لَا بصريحه، وَلَا بضمنه فَإِن يتَضَمَّن الزّجر عَن الْمنْهِي عَنهُ فَحسب، وَأما أَن يتَضَمَّن إِعَادَة مثله فَلَمَّا. [546] فَإِن قَالُوا: الْمُقْتَضى لإعادة مثله الْأَمر السَّابِق فَإِن الْأَمر يَقْتَضِي الِامْتِثَال وَالْمحرم لَيْسَ بامتثال. قُلْنَا: فقد بَطل دعواكم فِي قَوْلكُم نفس الْمنْهِي يَقْتَضِي الْفساد، وَتبين استرواحكم إِلَى الْأَمر السَّابِق دون النَّهْي، ثمَّ قد أشبعنا القَوْل فِي ذَلِك فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة، وأوضحنا القَوْل فِيهَا. [547] فَإِن قَالُوا: الْجَوَاز والإجزاء يُنبئ عَن الْإِبَاحَة وَالْأَمر بِهِ فَإِذا ارْتَفَعت الْإِبَاحَة لم يتَحَقَّق ثُبُوته لم يكن للإجزاء معنى. قيل لَهُم: فَمَا قَوْلكُم فِي الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة، فَإِن التَّحْرِيم مُتَحَقق فِيهَا مَعَ وُقُوعهَا موقع الْإِجْزَاء ثمَّ كل مَا قدمْنَاهُ فِي تِلْكَ المسئلة من المطالبات يعود فِي هَذِه. [548] فَإِن قَالَ قَائِل: دَعونَا عَن طَرِيق الْجِدَال وبينوا لنا مَا يدل على وُقُوع الْمحرم موقع الْإِجْزَاء عِنْد ارتفاض الْإِبَاحَة وَالْأَمر. قُلْنَا: لَيْسَ الْمَعْنى بالإجزاء عندنَا إِلَّا سُقُوط الْفَرْض، وَالدَّال على ذَلِك أَن يخبرنا الرب تَعَالَى أَو نتوصل إِلَى إخْبَاره بِدلَالَة قَاطِعَة: إِنِّي أسقطت عَنْكُم [65 / أ] الْفَرْض عِنْد إقدامكم على هَذَا / الْفِعْل الْمحرم وَجَعَلته آيَة فِي سُقُوط الْفَرْض عَنْكُم فَهَذَا وَاضح لَا استبعاد فِيهِ. [549] وَقد اسْتدلَّ الصائرون إِلَى أَن النَّهْي يدل على الْفساد بِخَبَر شغبوا بالاستدلال بِهِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: كل عمل لَيْسَ فِيهِ أمرنَا فَهُوَ رد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 قَالُوا: فَلَا معنى لكَونه ردا إِلَّا أَن يكون بَاطِلا غير مجزئ. وَاعْلَم أَن هَذَا اعتصام بأخبار الْأَفْرَاد وَالْمطلب فِي المسئلة الْقطع مَعَ أَنه لَا معتصم فِيهِ، وَأَن الرَّد يَنْقَسِم إِلَى معَان وَلَيْسَ من مَعَانِيه فِي إِطْلَاق اللُّغَة وجوب إِعَادَة مثله، وَلَكِن من أظهر مَعَانِيه أَنه لَا يَقع طَاعَة وَعبادَة متقبلة مثابا عَلَيْهَا. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن من صدرت مِنْهُ الصَّلَوَات مستجمعة للشرائط الْمَشْرُوطَة فِي صِحَّتهَا فَيحسن مِنْهُ أَن يَقُول فِي دعواته: اللَّهُمَّ تقبلهَا وَلَا تردها وَلَيْسَ يَعْنِي بذلك إِبْطَالهَا فِي حكم الشَّرْع على وَجه يجب إِعَادَتهَا فَتبين أَنه لَا معول على ظَاهر الْخَبَر، وَأَقل مَا فِيهِ تردده بَين مَا قَالُوهُ، وَبَين مَا أبديناه، وَلَا يسوغ الِاسْتِدْلَال بالمحتملات فِي مسَائِل الْقطع. [550] وَمِمَّا عولوا عَلَيْهِ فِي المسئلة ادِّعَاء اتِّفَاق سلف الْأمة فَإِنَّهُم قَالُوا: مَا زَالَ الْعلمَاء فِي الْعَصْر الخالية يستدلون على تثبيت الْفساد بظواهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 النَّهْي وَهَذَا نَحْو استدلالهم إِلَى إِثْبَات فَسَاد الْعُقُود المنطوية على الرِّبَا بقوله تَعَالَى: {وذروا مَا بَقِي من الرِّبَا} . واعتصموا أجمع بنهيه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَنْهَا فِيمَا نقل عَنهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: ((لَا تَبِيعُوا الْوَرق بالورق)) الحَدِيث، واعتصم من اعْتقد بطلَان نِكَاح الشّغَار بِالنَّهْي عَنهُ وَمَا زَالَت الصَّحَابَة يسْتَدلّ بَعضهم على بعض فِي طلب الْفساد بِالنَّهْي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 وَمَا قَالَ أحد مِنْهُم فِي رد اسْتِعْمَال خَصمه أَن النَّهْي لَا يدل على الْفساد، وَهَذَا مِمَّا يعدونه من أقوى عمدهم. وَالْجَوَاب عَنهُ أَن يُقَال: هَذَا الَّذِي احتملتموه فِي النَّقْل لَا يثبت الْإِجْمَاع بِمثلِهِ فَإِنَّكُم أوصيتم إِلَى آحَاد من الظَّوَاهِر، وزعمتم ان الماضين استدلوا بهَا وَأَنْتُم تنازعون فِي ذَلِك إِن ادعيتم الإطباق والاتفاق، وَإِن ادعيتم التَّسَبُّب إِلَى آحَاد وأفراد فَلَا يثبت مقصدكم، ثمَّ نقُول لَهُم: بِمَ تنكرون على [من] زعم [أَنهم] وَإِن استدلوا بالمناهي فَإِنَّمَا استدلوا بإفضائها إِلَى الْفساد لإحاطة علمهمْ بقرائن مقترنة بالألفاظ دَالَّة على اقْتِضَاء الْفساد، فَإِن قَالُوا: لَو كَانَت تِلْكَ قَرَائِن لنقلت. قُلْنَا: لَا يتَعَيَّن نقل أسْند الْعلم إِلَيْهِ وَهَذَا كَمَا أَن انْعِقَاد الْإِجْمَاع قد يتَّفق فِي الْحَوَادِث وَإِن لم تنقل دلَالَة يسْتَند انْعِقَاد الْإِجْمَاع إِلَيْهَا، وَوجه الْجَواب عَمَّا ذَكرُوهُ كوجه الْجَواب عَن الشّبَه الَّتِي قدمناها من الصائرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 إِلَى مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي الْوُجُوب ثمَّ توصلوا فِي ذَلِك إِلَى دَعْوَى مثل هَذَا الْإِجْمَاع، وَقد سبق استقصاء الْجَواب. (112) فصل [551] فَإِن قَالَ قَائِل: قدمتم من أصلكم أَن النَّهْي لَا يدل على الْفساد ثمَّ لَا يخفى عَلَيْكُم أَن الْمُحرمَات منقسمة فِي موارد الشَّرِيعَة فَمِنْهَا مَا حكم [65 / ب] بفساده، وَمِنْهَا مَا لم يحكم بفساده كَالصَّلَاةِ / فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وَنَحْوهَا وَقد وضح من أصلكم أَن نفس النَّهْي لَا يدل على فَسَاد، وَلَا على إِجْزَاء فَهَل ينْفَصل الْفَاسِد من الْمُحرمَات من غير الْفَاسِد بِحَدّ فاصل عنْدكُمْ؟ قُلْنَا: أما بَعْدَمَا اعترفتم بِأَن مَا تسْأَلُون عَنهُ لَيْسَ هُوَ من قَضِيَّة النَّهْي وَأما سوالكم آئل إِلَى حد فاصل مضبوط ثَبت بالأدلة السمعية دون ظواهر النَّهْي، فعندنا حد يفصل بَين الْبَابَيْنِ وَهُوَ أَن نقُول: كل مَا ثَبت مَشْرُوطًا من عبَادَة مفترضة أَو مَنْدُوبًا إِلَيْهَا، أَو عقد وَثَبت بِالشَّرْعِ فِيهِ مقترنا بالشرائط وَتبين كَونهَا مَشْرُوطَة فِي ثُبُوت الْأَحْكَام فَإِذا تقدر الشَّيْء على خلاف مورد الشَّرِيعَة وَاخْتلف شريطة من الشَّرَائِط المقترنة بِالشَّرْعِ فَمَا هَذَا سَبيله فَهُوَ فَاسد. فَأَما مَا تعلق بِهِ حكم من أَحْكَام الشَّرْع وَلم يقْتَرن بِهِ شَرط ثمَّ اتّفق وُقُوعه فِي صُورَة مَنْهِيّا عَنهُ محرما وَلَكِن لم يثبت اختلال شَرط فَمَا هَذَا سَبيله لَا نحكم بفساده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 ويتبين ذَلِك بالأمثلة أَنه ثَبت اشْتِرَاط الطَّهَارَة عَن الْحَدث والخبث فِي الصَّلَاة شرعا، واقترن الْأَمر بذلك نصا، فَإِذا وَقعت الصَّلَاة فِي صورتهَا مَعَ اختلال شَرط من هَذِه الشَّرَائِط عِنْد تَقْدِير ارْتِفَاع الْأَعْذَار وَكَانَ محرما فَهُوَ فَاسد، وعَلى الْقيَاس يجْرِي فِي الْعُقُود وشروطها وَلَا وَجه فِي حصرها، فَأَما إِيقَاع الصَّلَاة فِي تِلْكَ فَلم ينْطَلق بِهِ أصل من أصُول الشَّرِيعَة، فَقُلْنَا وَإِن وَقعت مُحرمَة فَتَقَع موقع الْإِجْزَاء. [552] فَإِن قيل: هَذَا الَّذِي ذكرتموه تصرف مِنْكُم فِي مُقْتَضى الْأَلْفَاظ أم لَا؟ . قُلْنَا: قد قدمنَا فِي صدر الْفَصْل أَن مُجَرّد الْأَلْفَاظ الْمُطلقَة تنبئ عَن شَيْء مِمَّا قلتموه، وَلَكِن سبرنا الْمُحرمَات فِي الشَّرِيعَة فَوَجَدنَا الْحَد الَّذِي ذَكرْنَاهُ حاصرا لَهَا. [553] فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِيمَن نقل عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ فِي تَحْدِيد الْفَاسِد ((وَهُوَ كل فعل محرم يقْصد بِهِ التَّوَصُّل إِلَى اسْتِبَاحَة مَا جعل الشَّرْع أَصله على التَّحْرِيم)) ؟ . قُلْنَا: لَعَلَّ ذَلِك لَا يَسْتَقِيم على الأَصْل الَّذِي اخترناه وَأول مَا يدْخل عَلَيْهِ العقد فِي وَقت تضييق الصَّلَاة فَإِن المتلفظ بِالْعقدِ تَارِك لتكبيرة التَّحْرِيم، وَنَفس لَفظه بِالْعقدِ ترك التَّكْبِير، وَترك التَّكْبِير محرم، فَهَذَا محرم يتَوَصَّل بِهِ إِلَى اسْتِبَاحَة الْأَمْلَاك، والأبضاع، وأصولها فِي الشَّرِيعَة، على الْحَظْر وَالْأولَى عندنَا مَا قدمْنَاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 (113) بَاب الْعُمُوم وَالْخُصُوص وَمَا يتَّصل بهما) من الْوِفَاق وَالْخلاف بَين الْأُصُولِيِّينَ) [554] اعْلَم، وفّقك الله، أَن ذَلِك يحْتَاج إِلَى مُقَدّمَة قبل الْخَوْض فِي مسَائِل الْعُمُوم وَالْخُصُوص بشرح عِبَارَات متأولة بَين أَرْبَاب الاصول فِي أَبْوَاب أصُول الْعُمُوم وَالْخُصُوص يَسْتَعِين بشرحها المسترشد على ذَلِك المطالب. [555] فَإِن قيل: فَمَا الْعَام وَحَقِيقَته؟ قيل: الْعَام هُوَ القَوْل الْمُشْتَمل على شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا، وَإِنَّمَا سمي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 عَاما لتَعَلُّقه بشيئين عُمُوما فَصَاعِدا وَهَذَا اوضح من أَن يحْتَاج إِلَى تَقْرِير فِي (66 / أ] قَضِيَّة / اللُّغَة، وَمن هَذَا قيل عمّم فلَان الْجَمَاعَة بِالْبرِّ وَالْعدْل وعمم الْوَالِي الأقاليم بالظلم والجور إِلَى غير ذَلِك. [556] فَإِن قيل: فَمَا الْخَاص؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 قيل: هُوَ القَوْل الْمُخْتَص بِبَعْض المسميات الَّتِي قد شملها مَعَ غَيرهَا اسْم. [557] فَإِن قيل: فَأول طلبة تتَوَجَّه عَلَيْكُم فِي تقييدكم قَوْلكُم " بالْقَوْل " فَلم قيدتم حد الْبَابَيْنِ بالْقَوْل؟ قُلْنَا: لِأَن الْعُمُوم وَالْخُصُوص على [المعرض] الَّذِي يتفاوض فِيهِ الأصوليون لَا يتَحَقَّق إِلَّا فِي الْأَقْوَال، فَأَما الْأَفْعَال فَلَا يتَحَقَّق فِيهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 عُمُوم بِحَال، وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن من برَّ جمَاعَة بطَائفَة من مَاله فَمَا من أحد مِنْهُم إِلَّا وَقد تخصص بِمَا ناله وَمَا ناله لَا يتعداه وَمَا نَالَ غَيره لَا يتَعَدَّى إِلَيْهِ أَيْضا، فَكل وَاحِد من الَّذين تعلّقت الْأَفْعَال بهم متخصص بِمَا ناله مِنْهَا وَمَا ناله لَا يتَعَدَّى إِلَى غَيره، وَإِذا بدرت أَفعَال متماثلة من أشخاص فَنَفْس فعل كل وَاحِد مِنْهُم لَا يتَعَدَّى إِلَى الآخر بل كل يخْتَص بِفِعْلِهِ وَإِن تماثلت الْأَفْعَال وَلَكِن تَسْمِيَة الْفِعْل هِيَ قَول ينطوي على الْأَفْعَال ويتحقق فِيهَا الْعُمُوم وَالْخُصُوص فَأَما أَنْفسهَا فَلَا يتَحَقَّق فِيهَا عُمُوما. [558] فَإِن قيل: ألستم قُلْتُمْ إِن وصف الْوُجُود يعم المختلفات وَإِن كَانَ الْوُجُود لَا يرجع إِلَى قَول. قُلْنَا: قَوْلنَا فِي الْوُجُود نَحْو قَوْلنَا فِيمَا فَرغْنَا مِنْهُ فَلَا يتَحَقَّق فِي نفس الْوُجُود عُمُوما بِحَال فَإِن وجود كل مَوْجُود ذَاته وَنَفسه، وَنَفسه لَا تتعدى إِلَى أنفس غَيره، وَلَكِن تَسْمِيَة الْوُجُود تعم الموجودات فِي مَعَاني اللُّغَات، ثمَّ كَمَا لَا يتَحَقَّق الْعُمُوم فِي الْأَفْعَال والذوات فَكَذَلِك لَا يتَحَقَّق فِي الْأَحْكَام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 [559] فَإِذا قَالَ الْقَائِل: حكم الله تَعَالَى فِي قطع السَّارِق عَاما فِي كل سَارِق. قيل لَهُ: إِن لم ترد بالحكم كَلَام الله تَعَالَى فَلَا يتَحَقَّق فِيهِ عُمُوم، فَإِن كل سَارِق يخْتَص بِمَا خصص بِهِ من الحكم وَمَا أثبت لَهُ مِنْهُ لم يثبت لغيره بل أثبت لغيره مثله. [[560] وَاعْلَم أَن هَذَا إِنَّمَا يشْتَمل على مَذْهَب من لم يصرف الْأَحْكَام إِلَى كَلَام الرب، وَقد قدمنَا فِي بَاب مُفْرد انصراف الْأَحْكَام إِلَى الْكَلَام وَهَذَا مِمَّا يتَصَوَّر فِيهِ الْعُمُوم وَالْخُصُوص. وَالْقَاضِي أطلق القَوْل بِأَن الْعُمُوم لَا يتَحَقَّق فِي الْأَحْكَام، وَهَذَا مَدْخُول عِنْدِي للْأَصْل الَّذِي ذكرته من انصراف الْأَحْكَام إِلَى القَوْل الَّذِي يعم ويخص. وَلَعَلَّه رَضِي الله عَنهُ قَالَ بِمَا قَالَ على مَذْهَب الصائرين إِلَى أَن الْأَحْكَام رَاجعه إِلَى أَوْصَاف الْأَنْفس، فأبدى مَا ابدى على قَضِيَّة مَذْهَب الْقَوْم، وَالله أعلم. [561] فَإِن قيل: أَلَيْسَ الْقَائِل يَقُول عَم الْأَمِير الرّعية بِالْعَدْلِ وَعم الْمَطَر الإقليم إِلَى غير ذَلِك مِمَّا نطلق فِي الْأَفْعَال. قيل: إِنَّمَا يعنون بذلك أَن اسْم الْعدْل عَم كلهم فَمن ضَرُورَة ذَلِك تحقق الْمُسَمّى فِي حُقُوقهم وَإِن كَانَ لَا يَتَقَرَّر فِيهِ عُمُوم ثمَّ لَا يَأْمَن أَن يكون ذَلِك من التوسعات والتجوزات فعلى الْخصم أَن يثبت أَن ذَلِك حَقِيقَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 ليستمر مَقْصُوده. [562] فَإِن قيل: فلفظه التَّثْنِيَة يجب أَن تكون عُمُوما لاشتمالها على الِاثْنَيْنِ. قُلْنَا: هَذَا لَا ننكره، فَإِن قيل وَيجب أَن يكون خَاصّا أَيْضا فَإِنَّكُم قُلْتُمْ فِي حَقِيقَة الْخُصُوص إِنَّه القَوْل الْمُخْتَص بِبَعْض المسميات الَّتِي قد شملها مَعَ غَيرهَا اسْم وَهَذَا الْمَعْنى يتَحَقَّق فِي الِاثْنَيْنِ من الْجِنْس فَإِن اللَّفْظ مُخْتَصّ بهما [66 / ب] دون مَا عداهما / فَيلْزم من ذَلِك أَن تكون اللَّفْظَة عَاما خَاصّا. قُلْنَا: لَا ننكر أَن نقُول: يكون اللَّفْظ عَام من وَجه وخاص من وَجه وَلَكِن لَا يتَصَوَّر أَن يكون عَاما من وَجه خَاصّا من ذَلِك الْوَجْه بِعَيْنِه، فَلَا يجْتَمع فِي ذَلِك الْوَجْه الْوَاحِد اقْتِضَاء خُصُوص وَعُمُوم، فاللفظ إِذا كَانَ عَاما فِي تنَاوله أَكثر من وَاحِد خَاصّا فِي اخْتِصَاصه بالاثنين فَمَا تحقق فِيهِ الْعُمُوم لم يتَحَقَّق فِيهِ الْخُصُوص وَمَا تقرر فِيهِ الْخُصُوص لم يَتَقَرَّر فِيهِ الْعُمُوم ". [563] فَإِن قيل: فقد اشْتهر القَوْل بَين الْفُقَهَاء فِي أَن الْعُمُوم قد يرد وَالْمرَاد بِهِ الْخُصُوص وَالْخُصُوص قد يرد وَالْمرَاد بِهِ الْعُمُوم فَمَا قَوْلكُم فِيهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 قُلْنَا: مَا كَانَ عَاما يَسْتَحِيل أَن يكون خَاصّا من الْوَجْه الَّذِي هُوَ عَام فِيهِ وَكَذَلِكَ مَا كَانَ خَاصّا لَا يعم] فِي وَجه خصوصه على مَذْهَب من الْمذَاهب فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص. فَإِن الَّذين صَارُوا إِلَى حمل الجموع على أقل الْجمع زَعَمُوا أَنه حَقِيقَة فِيهِ وَلَو حمل على تعديه كَانَ مجَازًا وتوسعا وَقد سلك هَؤُلَاءِ طريقتين إِحْدَاهمَا أَن اللَّفْظَة الْمَوْضُوعَة للْعُمُوم فِي استغراق الْجِنْس إِذا وَردت وَالْمرَاد بهَا بعض المسميات فَهِيَ مجَاز فِي التَّخْصِيص، حَقِيقَة فِي الْعُمُوم والطريقة الْأُخْرَى أَن صِيغَة الْعُمُوم ان كَانَت مُطلقَة مُجَرّدَة عَمَّا يَقْتَضِي التَّخْصِيص فَتحمل على الِاسْتِيعَاب وَلَا تحمل على غَيره لَا مجَازًا وَلَا حَقِيقَة، وَإِن وَردت مُقَيّدَة بِمَا يَقْتَضِي التَّخْصِيص فَهِيَ مَعَ تقييدها مَوْضُوعَة للتخصيص لَا تسْتَعْمل فِي الْعُمُوم فَيخرج من ذَلِك أَن الْمُسْتَعْمل فِي الْعُمُوم لَا يسْتَعْمل فِي الْخُصُوص وَكَذَلِكَ ضِدّه. وَأما الَّذين قَالُوا بِالْوَقْفِ فمحصول أصلهم يؤول إِلَى أَن الصِّيغَة الَّتِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 نَحن فِي مَعْنَاهَا بعد ذَلِك تصلح للاستيعاب وَتَصِح لبَعض المسميات من غير استغراق وَلَيْسَ فِي قَضِيَّة اللُّغَة لَفظه مُخْتَصَّة للْعُمُوم فَإِذا سلكوا هَذِه الطَّرِيقَة قَالُوا إِنَّمَا يحمل على الْعُمُوم عِنْد الْقَرَائِن وَلَا يحمل مَعهَا على الْخُصُوص، وَيحمل على الْخُصُوص عِنْد قَرَائِن الْخُصُوص وَلَا يحمل مَعهَا على الْعُمُوم فَبَطل على كل الْفرق أَن يكون اللَّفْظ عَاما من الْوَجْه الَّذِي هُوَ خَاص مِنْهُ وَكَذَلِكَ على الضِّدّ من ذَلِك. [564] وتبيين ذَلِك أَنه لَو سَاغَ اطلاق ذَلِك فَإِنَّمَا يُطلق فِي وَجْهَيْن كالاسم يعم فِي مسميات وَيخْتَص بهَا فَهُوَ فِي تعديه إِلَى مضمونه عَام فِيهِ وَفِي اخْتِصَاصه خَاص فَيرجع الْخُصُوص الى عدم التَّعَرُّض لغير الْمُسَمّى والعموم يرجع إِلَى الشُّمُول فِي الْمُسَمّى فَهَذَا هُوَ التَّحْقِيق. [565] ثمَّ ترد متعادلة بَين الْفُقَهَاء على أغراض لَهُم فَيَقُولُونَ: فلَان يحصر الْعُمُوم ويعنون بذلك أَنه يعْتَقد حمل الجموع على الْأَقَل وَيَقُولُونَ حصر فلَان عُمُوما، ويعنون بذلك إخْبَاره عَن تَخْصِيصه بِذكرِهِ الدَّلِيل عَلَيْهِ وَلَيْسَ يَعْنِي بِهِ إنْشَاء التَّخْصِيص إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطلقونه فِي تجاوزهم وَإِذا راموا التَّحْقِيق اعتبروا مَا قدمْنَاهُ من الْأُصُول. [566] فَإِن قَالَ قَائِل: فَالَّذِينَ قَالُوا بِالْعُمُومِ وحملوا صِيغَة بِعَينهَا عَلَيْهِ وَتلك الصِّيغَة مَعَ الْقَرَائِن فَهِيَ لَو قدرت مُجَرّدَة معراة، فَمَا بالها ترد على بعض المسميات مَعَ الْقَرَائِن وتعم عِنْد الْإِطْلَاق وفرضوا الْكَلَام فِي قَرَائِن [67 / أ] الْأَحْوَال حَتَّى لَا نقُول فِي الْجَواب أَن اللَّفْظَة / إِذا كَانَت مُقَيّدَة بقيود الْمقَال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 فهن فِي اللُّغَة مَعَ قيودها مَوْضُوعَة لإتارة معنى وَهِي عِنْد إِطْلَاقهَا مَوْضُوعَة لإِفَادَة التَّعْمِيم وفرضوا الْكَلَام فِي قَرَائِن الْأَحْوَال فَإِنَّهَا لَا تتَعَلَّق بقضية اللُّغَات ووجهوا مثل هَذَا السُّؤَال على الواقفية وَقَالُوا إِذا كَانَت الصِّيغَة الْوَاحِدَة صَالِحَة عنْدكُمْ للْعُمُوم وَالْخُصُوص جَمِيعًا صَلَاح الْقُرْء للْحيض وَالطُّهْر وَغَيره من الْأَسَامِي الْمُشْتَركَة فبماذا يتخصص قَرَائِن الْأَحْوَال بِأحد المحتملين. قُلْنَا: لَا وَجه لما قلتموه إِلَّا أَن نقُول يتخصص بِمَعْنى فِي اقْتِضَاء عُمُوم أَو خُصُوص بِقصد الْمُتَكَلّم وإرادته اسْتِعْمَاله على الْوَجْه الَّذِي يرتاده ثمَّ تدل قَرَائِن أَحْوَاله على مُرَاده. [567] وَذهب من لَا خبْرَة لَهُ بالحقائق من أَصْحَاب الْعُمُوم إِلَى أَن الصِّيغَة مَعَ قَرَائِن الْأَحْوَال تخَالف الصِّيغَة الْمُطلقَة وَهَذَا قَول من لم يعرف حَقِيقَة المثلين والخلافين فَإِن كل من أحَاط بِطرف من ذَلِك علما يتَبَيَّن لَهُ تَسَاوِي الصيغتين فِي الْحَالَتَيْنِ وتماثلهما فِي جملَة الصِّفَات الَّتِي يَقع التَّمَاثُل فِيهَا. (114) فصل [[568] اعْلَم، وفقك الله، أَن الْعُمُوم وَالْخُصُوص يرجعان إِلَى الْكَلَام ثمَّ الْكَلَام الْحَقِيقِيّ هُوَ الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ، وَهُوَ يعم ويخص والصيغ والعبارات دلالات عَلَيْهَا، وَلَا تسمى بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوص إِلَّا تجوزا. كَمَا أَن الْأَمر وَالنَّهْي يرجعان إِلَى الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ دون الصِّيَغ. وَذهب جُمْهُور الْفُقَهَاء إِلَى أَن الْعُمُوم وَالْخُصُوص وصفان راجعان إِلَى الْعبارَات والصيغ كَمَا حكينا ذَلِك عَنْهُم فِي الْأَمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 ( (115) فصل مُشْتَمل على جمل الْأَلْفَاظ الَّتِي تعم على مَذْهَب الْقَائِلين بِالْعُمُومِ، مَعَ اخْتلَافهمْ فِي بَعْضهَا [[569] فَمن جملَة أَلْفَاظ الْعُمُوم عِنْدهم الجموع الْمُنكرَة والمعرفة، فالمنكرة نَحْو قَوْلك: رجال وأناس وأنبياء ومشركون، والمعرفة نَحْو قَوْلك: الرِّجَال وَالنَّاس ثمَّ قَالُوا مَا دخله الْألف وَاللَّام وَلم تثبت دلَالَة على أَن المُرَاد تَعْرِيف أَقوام مخصوصين معهودين فَتحمل اللَّفْظَة على الِاسْتِغْرَاق عِنْد انْتِفَاء دلَالَة الْخُصُوص والعهود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 [[570] أما الجموع الْمُنكرَة فقد صَار الْجُمْهُور إِلَى أَنَّهَا لَا تحمل على الِاسْتِغْرَاق إِذا لم يتَّصل بهَا نفي، وَذهب الجبائي وَغَيره إِلَى أَن الجموع الْمُنكرَة كالمعرفة فِي استغراق الْجِنْس فَإِنَّهُ يَصح أَن يسْتَثْنى مِنْهَا كَمَا يَصح أَن يسْتَثْنى من الْمعرفَة. [571] وَمن أَلْفَاظ الْعُمُوم " من " و " مَا " إِذا وردتا للْخَبَر وَالْجَزَاء والاستعلام. وَكَذَا مَتى وَأَيْنَ فِي ظرف الْمَكَان وَالزَّمَان، فَإِذا قَالَ قَائِل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 من دخل الدَّار أكرمته. اقْتضى " من " تعميما، وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ قَائِل: مَا دخل ملكي تَصَدَّقت بِهِ اقْتضى ذَلِك تعميما، وَكَذَلِكَ لَو قَالَ: أكْرم فلَانا مَتى رَأَيْته، اقْتضى ذَلِك تَعْمِيم الْأَزْمِنَة، وَإِذا قَالَ: أهنه أَيْن رَأَيْته، اقْتضى ذَلِك اسْتِيعَاب الْأَمْكِنَة وَمن إِذا ورد مَعَ الْألف وَاللَّام من غير إِرَادَة عهد وشخص مَخْصُوص نَحْو قَوْله تَعَالَى: {إِن الْإِنْسَان لفي خسر} وَقَوله تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة} و {الزَّانِيَة وَالزَّانِي} فَمَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْقَائِلين بِالْعُمُومِ أَنه لَا يُرَاد بِهِ الِاسْتِيعَاب إِلَّا بِدلَالَة تدل، وَذهب بعض الْقَائِلين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 بِالْعُمُومِ إِلَى أَنه يحمل على الْعُمُوم [573] وَمن أَلْفَاظ الْعُمُوم / أَيْضا مَا ترد مُؤَكدَة نَحْو قَوْلهم كل [67 / ب] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 النَّاس وسائرهم وأجمعون وأكتعون إِلَى غير ذَلِك. فَهَذِهِ جمل الْأَلْفَاظ لَا يشذ مِنْهَا إِلَّا شذوذ وَسَيَرِدُ فِي معظمها إِن شَاءَ الله تَعَالَى. [574] وَقد اخْتلف الأصوليون فِيهَا كَمَا أومأنا إِلَيْهِ فَذهب بَعضهم إِلَى أَنَّهَا تحمل على أقل الْجمع وَهَؤُلَاء هم المعروفون بأصحاب الْخُصُوص. وَمَال فِي ذَلِك بعض الْمُتَكَلِّمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 وَقَالَ آخَرُونَ هَذِه الْأَلْفَاظ الْمُطلقَة إِذا لم يقْتَرن بهَا مَا يدل على تخصيصها فَتحمل على استغراق الْجِنْس. [575] ذهب شَيخنَا رَضِي الله عَنهُ فِي مُعظم الْمُحَقِّقين من أَصْحَابه إِلَى التَّوَقُّف. وَحَقِيقَة ذَلِك أَنهم قَالُوا سبرنا اللُّغَة ووضعها فَلم نجد فِي وضع اللُّغَة صِيغَة دَالَّة على الْعُمُوم سَوَاء وَردت مُطلقَة أَو مُقَيّدَة بضروب من التَّأْكِيد. [576] وَقد ظن بعض من لَا خبْرَة لَهُ بطريقة الْوَقْف أَنا إِذا لم نسلم تنَاول النَّاس الْجِنْس فنسلم إِذا قيد النَّاس بضروب من التَّأْكِيد، مثل قَول الْقَائِل: النَّاس أَجْمَعُونَ عَن آخِرهم صَغِيرهمْ وَكَبِيرهمْ لَا يشذ مِنْهُم أحد، إِلَى غير ذَلِك، والمحققون من الواقفية يَقُولُونَ: وَإِن قيدت بِهَذِهِ الْقُيُود فَلَيْسَتْ مَوْضُوعَة للاستغراق فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 اللُّغَة. وَلَكِن قد يعرف عمومها بقرائن الْأَحْوَال المقترنة بالمقال، وَهِي مِمَّا لَا تَنْحَصِر بالعبارة، كَمَا تعرف القرآئن خجل الخجل ووجل الوجل وَإِن كَانَت الْقُرْآن لَا توجب مَعْرفَتهَا وَلَكِن أجْرى الله الْعَادة بِخلق الْعلم الضَّرُورِيّ عِنْدهَا فَكَذَلِك قد تتَصَوَّر قَرَائِن تقترن بِاللَّفْظِ وَتعلم عِنْدهَا إِرَادَة مُطلق اللَّفْظ فِي خُصُوص أَو عُمُوم، فَلَا تكون معرفَة ذَلِك بِأَصْل اللُّغَة ووضعها. [557] ثمَّ من حقق من الواقفية طرد هَذَا الْمَذْهَب فِي الْمصير إِلَى الْوَقْف فِي الْأَوَامِر والنواهي والاخبار، لِأَن مَا يدل على إبِْطَال القَوْل بِالْعُمُومِ فِي الْأَخْبَار يدل ذَلِك على مثله فِي الْأَوَامِر. [578] وَقد زعم بعض الواقفية أَن الْوَقْف يصير إِلَيْهِ فِي الْأَخْبَار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 والأسامي دون الْأَوَامِر وتوصلوا بذلك إِلَى الْأَخْبَار المنطوية على الْوَعْد والوعيد فِي الْكتاب وَالسّنة. وَهَذَا الَّذِي قَالَه هَذَا الْقَائِل بَاطِل لَا تَحْقِيق وَرَاءه. 579] وَزعم بعض الواقفية أَن الْخَبَر إِذا انطوى على وَعِيد العصاة من أهل الْملَّة لزم التَّوَقُّف فِيهِ وَلَا يتَوَقَّف فِي غَيره. وَهَذَا وَاضح الْبطلَان أَيْضا. وَمِمَّا يتَمَسَّك بِهِ فِي نصْرَة الْوَقْف مَا يبطل هَذِه التفصيلات. [580] وَقَالَ الْفَرِيق من أهل الْوَقْف: الْوَقْف فِي الْوَعيد ثَابت دون [الْوَعْد] وَفصل بَينهمَا بِمَا يَلِيق بالشطح والترهات دون الْحَقَائِق. [581] وَزعم آخَرُونَ من المنتمين إِلَى الواقفية إِلَى أَن الْأَخْبَار إِذا وَردت ومخرجها مخرج الْعُمُوم على مَذْهَب الْقَائِلين بِهِ وسمعها السَّامع وَكَانَت وَعدا أَو وعيدا، وَلم يسمع من آي الْكتاب وَسنَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومواقع أَدِلَّة السّمع شَيْئا فَيعلم أَن المُرَاد بهَا الْعُمُوم، وَإِن كَانَت قد سمع قبل اتصالهما بِهِ أَدِلَّة الشَّرْع وَعلم انقسامها للخصوص والعموم فَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 نعلم حِينَئِذٍ الْعُمُوم فِي الْأَخْبَار [الَّتِي] اتَّصَلت بِهِ وَاعْلَم أَن هَذِه الفئة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَائِلين بِالْعُمُومِ أولى مِنْهُم بِالنِّسْبَةِ إِلَى الواقفية. [ [582] وَالْأولَى بِنَا أَن / نقدم شبه الْقَائِلين بِالْعُمُومِ ونعترض عَلَيْهَا ثمَّ نثبت الْوَقْف بأوضح الْأَدِلَّة إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فَمن عمدهم فِي الْمَسْأَلَة أَن قَالُوا: الْعُمُوم واستغراق الْجِنْس من الْمعَانِي المعقولة الْجَارِيَة فِي الخواطر عُمُوما كَسَائِر الْمعَانِي وحاجات أهل اللُّغَة ماسة إِلَى التفاهم فِيهَا كَمَا تمس إِلَى التفاهم فِي سَائِر الْمعَانِي الْمُسَمَّاة بالأسامي فَإِذا تحققت حَاجَة أهل اللُّغَة كَمَا وصفناه وَكَانُوا مقتدرين على وضع لفظ الِاسْتِغْرَاق وَلَا يَتَقَرَّر إِلَّا أَن يوصفوه مَعَ مَا قَررنَا من الْأَوْصَاف. [ [583] وأوضحوا ذَلِك بَان قَالُوا: الْعَادة مطردَة على أصل لَو قدحنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 فِيهِ أفْضى ذَلِك إِلَى انخراقها، وَهُوَ أَن من ظَهرت حَاجته واقتدر على دَفعهَا مَعَ ارْتِفَاع الْمَوَانِع وانصراف الصوارف وتوفر الدَّوَاعِي فَلَا يعقل فِي الْعَادة أَن لَا تدفع الْحَاجة، وَذَلِكَ كالعاطش الْوَاجِد للْمَاء الْبَارِد مَعَ ارْتِفَاع الْمَوَانِع واندفاع الصوارف فَإِذا توفرت الدَّوَاعِي فيشرب لَا محَالة. وَالْجَوَاب عَن ذَلِك أَن نقُول هَذَا الَّذِي ذكرتموه اسْتِدْلَال مِنْكُم فِي إِثْبَات اللُّغَات بِغَيْر النَّقْل، واللغات لَا تثبت إِلَّا نقلا، فَأَما طرق الِاسْتِدْلَال وسبل الاعتلال فَلَا يتَوَصَّل بهَا إِلَى تثبيت اللُّغَات أصلا وَأما مَا قَالُوهُ من عُمُوم الْحَاجة وَظُهُور الْمَعْنى فَهُوَ اعتصام مِنْهُم بِمَا لَا طائل تَحْتَهُ، فَإنَّا نقُول لَهُم: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم مَا اخْتَارُوا وضع اسْم لَهُ على التَّعْيِين مَعَ كل مَا ذكرتموه فَمَا دليلكم؟ [[584] فَإِن قَالُوا: هَذَا يُؤَدِّي إِلَى خرق الْعَادَات كَمَا قدروه. فَالْجَوَاب عَن ذَلِك من أوجه: أَحدهَا: أَن نقُول فَيلْزم على طرد ذَلِك أَن تثبت الْأَخْبَار الَّتِي لم تنقل، إِذا عرفنَا أَن مثل تِلْكَ الْحَادِثَة كَانَت تعم فِي الْعَصْر الخالية وَكَانَت الْحَاجة ماسة إِلَيْهِ، فَيجب أَن تقدر فِي كل مَا هَذَا سَبيله خَبرا عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو أثرا عَن أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ. ثمَّ نقُول لَهُم: إِنَّمَا الْكَلَام فِي أصل وضع اللُّغَات، وأصل وَضعهَا غير منبئ عَن الْعَادَات فَإنَّا لَو أردنَا أَن نقدر فِي زَمَاننَا هَذَا اتِّفَاق جملَة أهل الْعَصْر على فعله وَاحِدَة مثل أَن يتَقَدَّر من كلهم الْقيام وَالْقعُود فِي حَالَة وَاحِدَة كَانَ ذَلِك خرقا للْعَادَة، والأسامي الَّتِي اتّفق عَلَيْهَا أهل اللُّغَات ابْتِدَاء كَانَ تواطؤا مِنْهُم على معَان متجددة مَعَ اخْتِلَاف الإرادات وتباين القصود، فَتبين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 بذلك أَن أصل وضع اللُّغَات إِن قدرت اصْطِلَاحا لَا يُرَاعِي فِيهَا اطراد الْعَادَات، وَإِن قدرت ثَابِتَة توقيفا فَلَا يمْنَع أَن يثبت التَّوْقِيف فِي الْبَعْض دون الْبَعْض، فَأَما مَا عولوا عَلَيْهِ من أطراد الْعَادة فِي نفي الْمُحْتَاج الحلفة عَن نَفسه، فَهَذَا قرع أَبْوَاب قوم آخَرين وهم الْمُعْتَزلَة فِي فَسَاد أصولهم فِي الدَّوَاعِي والصوارف وَأما نَحن لَا نستبعد أَن يكف عَن الشَّرّ مَعَ انْتِفَاء الْمَوَانِع والدوافع. فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. ثمَّ نقُول: تنكرون على من يزْعم أَنهم لما عرفُوا أَن هَذِه الصِّيغَة الَّتِي فِيهَا الْكَلَام وَإِن كَانَت مُشْتَركَة فَإِنَّهَا تتَمَيَّز [[68 / ب] بقرائن الْأَحْوَال وَيَقَع الْعلم بهَا على مَقَاصِد مطلقيها عِنْد الْقَرَائِن على / اضطرار اكتفوا بهَا فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. [585] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: وَهِي أَنهم قَالُوا: إِذا وَردت أَلْفَاظ الجموع فَيصح اسْتثِْنَاء الْآحَاد مِنْهَا بِاتِّفَاق أهل اللُّغَة بِشَرْط اسْتِبْقَاء بعض الْجِنْس إِذْ لَا خلاف فِي صِحَة قَول من يَقُول: من دخل دَاري أكرمته إِلَّا من عَصَانِي، وَمن أجرم عاقبته إِلَّا من تَابَ، واقتلوا الْمُشْركين إِلَّا أهل الذِّمَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 والمعاهدين وَمَا من صنف من آحَاد الْجِنْس إِلَّا وَيحسن استثناؤها. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَنه لَا يحسن فِي نظم الْكَلَام أَن نقُول أكْرم الْمُؤمنِينَ إِلَّا الْمُشْركين، واقتل كل سبع إِلَّا الْبَقَرَة، وَإِنَّمَا لم يحسن الِاسْتِثْنَاء فِيمَا أومأنا إِلَيْهِ لِأَن مُطلق اللَّفْظ لَو قدرناه مُجَردا [لم ينطو] على شَيْء من ذَلِك، فَلم يحسن الِاسْتِثْنَاء لَا جرم. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل، وَذَلِكَ أَنا نقُول: إِنَّمَا يحسن الِاسْتِثْنَاء لصلاح اللَّفْظ لجملة مَا يسْتَثْنى مِنْهُ وَنحن وَإِن نَفينَا اقْتِضَاء الصِّيغَة الَّتِي [خَالَفنَا] فِيهَا الِاسْتِغْرَاق على التَّعْيِين فِي أصل الْوَضع فلسنا ننكر كَون الصِّيغَة صَالِحَة للاستيعاب وَالْخُصُوص جَمِيعًا صَلَاح الِاسْم الْمُشْتَرك لجمل من المسميات، فالمقصد بِالِاسْتِثْنَاءِ إِذا قطع الْوَهم والتجويز فِيمَا اسْتثْنى من اللَّفْظ، ليعلم قطعا عدم دُخُوله فِيهِ، ثمَّ نقُول: لَو قَالَ اقْتُلُوا الْمُشْركين إِلَّا نَفرا، فَمَا من طَائِفَة مِنْهُم وَإِلَّا ينْطَلق اسْم النَّفر عَلَيْهِم، فيلزمكم أَن تَقولُوا: لَا يجوز قتل أحد مِنْهُم لتحَقّق اسْم النَّفر فِي طوائفهم، فَيلْزم من ذَلِك الْكَفّ عَن قلتهم، فَإِن قَالُوا يحمل ذَلِك على بَعضهم. قُلْنَا: مَا من [شخص] مِنْهُم إِلَّا وَاسم النَّفر يتَنَاوَلهُ فلئن جَازَ لكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 حمله على التَّخْصِيص فَلَا تستبعدوا مثل ذَلِك فِي الِاسْتِثْنَاء من خصمكم، فَمَا من جملَة من الْآحَاد إِلَّا وَيصِح اسْتِثْنَاؤُهُ، ثمَّ لَا يقتضى ذَلِك اندراج الْكَلَام جمعا تَحت اللَّفْظ فِي وضع اللُّغَة وتفاهم أَهلهَا. ثمَّ نقُول لَهُم: إِذا قَالَ الْقَائِل: كل إِنْسَان معاقب إِلَّا من آمن وَإِلَّا الْمُؤمنِينَ فَيصح الِاسْتِثْنَاء عَن مثل هَذِه اللَّفْظَة مَعَ مصير أَكْثَرَكُم إِلَى انها لَا تعم، وَإِن صَارُوا إِلَى الْعُمُوم بِلَفْظ كل فنفرض عَلَيْهِم القَوْل فِي قَول الْقَائِل: إِن الْإِنْسَان مُرْتَهن [بصنيعه] إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ. [586] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن قَالُوا: يَصح تَأْكِيد الْقَوْم وَالنَّاس بِمَا يَقْتَضِي استغراقا وَذَلِكَ مثل أَن يَقُول النَّاس كلهم أَجْمَعُونَ إِلَى غير ذَلِك من ضروب التَّأْكِيد، قَالُوا: وَقد قَالَ أهل اللِّسَان: التَّأْكِيد لفق الْمُؤَكّد. ومطابقه، وَمن المستحيل أَن يتَضَمَّن التَّأْكِيد معنى وَلَا ينبىء أصل اللَّفْظ عَنهُ. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك اسْتِحَالَة مول الْقَائِل: رَأَيْت زيدا أَجْمَعِينَ، وَحسن قَوْله رَأَيْت النَّاس أَجْمَعِينَ. وأطنبوا فِي ذَلِك بِمَا الْقَلِيل مغن عَنهُ. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه غَفلَة مِنْكُم عَن مَذْهَب الْخصم فَإنَّا لَا نصير إِلَى أَن هَذِه الْأَلْفَاظ تَتَضَمَّن الِاسْتِغْرَاق وَإِن تَتَابَعَت، فَإِن من أصلنَا أَنه لَيْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 فِي اللُّغَة / صِيغَة لَا مُطلقَة وَلَا مُقَيّدَة تدل من حَيْثُ الْوَضع على الِاسْتِغْرَاق، [69 / أ] فَبَطل مَا قَالُوهُ. ثمَّ نقُول: اللَّفْظَة الَّتِي فِيهَا الْكَلَام وَإِن لم تكن مَوْضُوعَة للْعُمُوم نصا فَهِيَ صَالِحَة، فَإِذا اقترنت بتوابع وقرائن فتقضي تَخْصِيصًا بِمَعْنى يصلح اللَّفْظ لَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِك قَول الْقَائِل: زيد أَجْمَعُونَ، وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ. [ [58] وَقد عكس الواقفية ذَلِك عَلَيْهِم فَقَالَ: لَو كَانَت اللَّفْظَة مُسْتَقلَّة بِنَفسِهَا فِي إثارة الْعُمُوم لم تكن للتوابع فَائِدَة وَكَانَت أَلْفَاظ شاغرة لَا طائل وَرَاءَهَا. وَالْأولَى لَك الاجتزاء بِمَا قدمْنَاهُ مَعَ أَن تَقْدِير هَذَا الَّذِي قَالُوهُ مُمكن، فَإِن التَّأْكِيد إِنَّمَا يسْتَعْمل لنفي الريب وَقطع الجائزات وضروب الِاحْتِمَالَات، فَلَو كَانَت الصِّيغَة الفردة منبئة عَن الِاسْتِغْرَاق لم يكن للتَّأْكِيد معنى. 3 [588] شُبْهَة أُخْرَى: فَإِن قَالُوا: اللَّفْظ الَّذِي فِيهِ الْكَلَام لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون للْعُمُوم كَمَا قُلْنَاهُ، أَو للخصوص وَقد اتفقنا على بُطْلَانه، فَأَما أَن يكون مُشْتَركا كَمَا قلتموه، فَلَو كَانَ كَذَلِك لم يخل إِمَّا أَن يكون على تَخْصِيصه بِأحد الْمَعْنيين دَلِيل أَو لَا يكون عَلَيْهِ دَلِيل، فَإِن لم يكن فِي تَخْصِيص أحد الْمَعْنيين دَلِيل لم يتَصَوَّر أَن يعقل مِنْهُ عُمُوم وخصوص بل الْتحق [بالمبهمات] وَإِن كَانَ على حمله على أحد الْمَعْنيين دَلِيل لم يخل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 إِمَّا أَن يكون ذَلِك لفظا أَو قرينَة، فَإِن كَانَ لفظا فقد ثَبت أَن فِي فِي الْأَلْفَاظ مَا يدل على الْعُمُوم، وَمَا من لفظ يقدر اقترانه بِمَا فِيهِ التَّنَازُع إِلَّا وَيُمكن أَن يذكر فِيهِ كل مَا تذكرونه فِي غير الْمُخْتَلف فِيهِ، فَإِن كَانَ ذَلِك لَا يدل فتوابعه كَيفَ تدل؟ قيل لَهُم: قد أطنبتم فِي هذيان لَا تَحْقِيق وَرَاءه، فَأَما مَا ذكرْتُمْ من أَن الدَّال يَنْبَغِي أَن يكون لفظا، فَلَيْسَ كَمَا قلتموه، ولسنا نسلم أَن فِي الْأَلْفَاظ اللُّغَوِيَّة مَا يدل من حَيْثُ الْوَضع على الِاسْتِيعَاب والاستغراق وَإِنَّمَا يسْتَدرك الْعُمُوم وَالْخُصُوص بِمَا يضْطَر إِلَيْهِ السَّامع ابْتِدَاء عِنْد قَرَائِن الْأَحْوَال، وَهِي مِمَّا لَا تنضبط وَلَا سَبِيل إِلَى حصر أجناسها وتمييزها بالنعوت والأوصاف عَن أغيارها وَهَذَا كَمَا أَن خجل الخجل ووجل الوجل وَجبن الجبان وبسالة الباسل تعلم ضَرُورَة عِنْد ثُبُوت الْأَوْصَاف، فَلَو أردنَا نعتها لم نقدر عَلَيْهَا، وَهَذَا كَمَا أَن من خجل لبادرة بدرت مِنْهُ واحمرت لَهَا وجنتاه فَرُبمَا يعلم ضَرُورَة خجله فَلَا يمكننا أَن نسند ذَلِك إِلَى احمراره إِذْ قد يتَصَوَّر كل وصف بِعَيْنِه من غير خجل فقد تكون الْقَرَائِن ضربا من الرموز والإشارات، واختلاجا فِي محاجر الْعَينَيْنِ والحاجبين، وَقد تكون حَاله نَحْو كَون الْمَرْء على الطَّعَام إِذا اقْترن بقوله لغلامه عَليّ بِالْمَاءِ وَقد بَدَت نهمته إِلَى المَاء، فَيعلم ضَرُورَة إِنَّمَا يطْلب مَاء الشّرْب، وَإِن كَانَ اسْم المَاء على مَذَاهِب الْقَائِلين بِالْعُمُومِ يعم الْجِنْس، فَثَبت بذلك أَن الَّذِي يعين الْمَعْنى الْمعِين من اللَّفْظ الْمُحْتَمل [[69 / ب] قَرَائِن الْأَحْوَال. وَقد يبدر من / المتلفظ ضروب من التَّأْكِيد فَيعلم عِنْدهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 ضَرُورَة مُرَاده لَا أَن تِلْكَ الْأَلْفَاظ مَوْضُوعَة فِي اللُّغَة لذَلِك، وَلَكِن إِذا اقترنت بهَا أَحْوَال علم مِنْهَا مَا يعلم. [ [589] والتحقق فِي ذَلِك أَن يعلم أَن شَيْئا من هَذِه الْقَرَائِن لَا تدل لأنفسها، وَلَا التَّوَاضُع سَابق عَلَيْهَا، وَلَكِن أجْرى لله الْعَادة بِخلق الْعلم الضَّرُورِيّ عِنْدهَا، وَهَذَا كَمَا أَن قَول الْقَائِلين: أَي شَيْء يحسن زيد، فَهَذَا يتَرَدَّد بَين الِاسْتِفْهَام، وَبَين ازدراء بزيد على معرض الاستخفاف، وَبَين تَعْظِيم الْأَمر فِيمَا يعنيه، ثمَّ المقصودمن هَذِه اللَّفْظَة رُبمَا يتَعَيَّن بِقَرِينَة حَال لَا يَنْضَبِط بِالْوَصْفِ. [ [590] وَأما مَا قَالُوهُ من كَون الْقَرَائِن تَوَابِع وَكَون اللَّفْظ متبوعا فَلَا طائل تَحْتَهُ وَلَا معنى لكَونهَا تَوَابِع وَلَا لكَون اللَّفْظ متبوعا، وَلَكِن يؤول محصول الْكَلَام إِلَى أَن الْمَقْصُود يفهم عِنْد الْقَرَائِن وتسميتها تَوَابِع لَا حَقِيقَة لَهُ. [ [591] فان قَالُوا: قد اجْتمعت الْأمة على تَعْمِيم جمل من الْأَلْفَاظ فِي الْكتاب وَالسّنة فَمن أَيْن عرفُوا ذَلِك. قُلْنَا: أما أهل الْعَصْر الأول فقد عرفُوا التَّعْمِيم بِمَا شاهدوا من الْقَرَائِن، وَالَّذين نقلوا عَنْهُم شاهدوا مِنْهُم مَا شاهدوه هم من مبلغ الْأَلْفَاظ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 [592] فَإِن قيل: فبماذا عرف الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قُلْنَا: بقرائن حَال المنبىء إِلَيْهِ. [ [593 ي فَإِن قَالُوا: فبماذا عرف جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام؟ قُلْنَا: لَعَلَّ الله اضطره ابْتِدَاء أَو عِنْد قَرَائِن أبدعها أَو عرفه باللغة الملائكية، وَلَعَلَّ فِي لغتهم صِيغَة الْعُمُوم فِي الْمقَال مجَال، والتمسك بِهَذِهِ الشُّبْهَة خبط. [594] . شُبْهَة اخرى لَهُم يتشبث بهَا من شغر عَن التَّحْقِيق، وَهِي أَنهم قالو: هَل تصفون الرب تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ على أَن يدلنا على الْعُمُوم من حَيْثُ اللَّفْظ، فَإِن وصفتموه بذلك وَجب مِنْكُم القَوْل بتصوره، وَإِن لم تصفوه بذلك تعجيز الرب تَعَالَى. قيل لَهُم: تَعَالَى مقتدر على مَا شَاءَ، وَمَا قلتموه من أَنه هَل يقدر لَو رد إِلَى التَّحْقِيق لم يتَحَصَّل مِنْهُ معنى. فَإِن الْقُدْرَة تتَعَلَّق بالأحداث والرب تَعَالَى مقتدر على أَن يحدث لنا علما على عقب اللَّفْظ الْمُجَرّد وَهُوَ مقتدر على أَن يصرف دواعي الخلقية إِلَى التَّوَاضُع على اللَّفْظ الْمُجَرّد فِي إِرَادَة الْعُمُوم. وكل هَذَا مِمَّا نقُول، وَلَكِن الْكَلَام فِي اللُّغَة الثَّابِتَة الكائنة، وَهَذَا كَمَا أَنا نصف الرب تَعَالَى بالاقتدار على تثبيت ضروب من اللُّغَات والزيادات فِي لُغَة الْعَرَب، ثمَّ كل مَا هُوَ من قبيل مقتدراته لَا يجوز أَن نقدره كَائِنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 فَإِن زعمتم أَن اللَّفْظ مَعَ لفظ لَا يدل فِي الْوَضع يَجعله دَالا وَهُوَ غير دَال، فَهَذَا تثبيت اقتدار على الْمحَال. [[595] وَمن عمدهم أَن قَالُوا: نرى أهل اللُّغَة وأرباب الشَّرِيعَة مطبقين على تفاهم الْعُمُوم من الْأَلْفَاظ الَّتِي فِيهَا تنازعنا، وَمَا زَالَت الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم تستدل بَعْضًا على بعض فِي الْمسَائِل بالألفاظ الْعَامَّة نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} ، و {لَا تقتلُوا الصَّيْد وَأَنْتُم حرم} ، و " لَا وَصِيَّة لوَارث "، " وَلَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا "، " وَمن ألْقى [70 / أ] سلاحه فَهُوَ آمن "، إِلَى غير ذَلِك، وَكَذَلِكَ مَا زَالَت الْعَرَب تتفاهم بِنَحْوِ ذَلِك حَتَّى رُوِيَ أَن قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي القعدون من الْمُؤمنِينَ} لما نزل شقّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 ذَلِك على ابْن [أم] مَكْتُوم وَكَانَ مكفوفا عَاجِزا عَن النهوض للْجِهَاد وَأبْدى للرسول مَا بِهِ حَتَّى نزل قَوْله تَعَالَى: {غير أولي الضَّرَر} ، وَلم يُنكر عَلَيْهِ مَا فهمه من مُطلق اللَّفْظ من الْعُمُوم، وكذل رُوِيَ أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم أَنْتُم لَهَا وَارِدُونَ} . قَالَ ابْن الزبعري: وَكَانَ خصما جدلا: لأخص من الْيَوْم مُحَمَّدًا فجَاء النَّبِي وَقَالَ لَهُ: أَلَيْسَ عبدت الْمَلَائِكَة وأبن مَرْيَم أفهم حصب جَهَنَّم؟ فَنزل قَوْله تَعَالَى: (ان الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى} ، وحاج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 عمر رَضِي الله عَنهُ أَبَا بكر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قتل مَا نعي الزَّكَاة، وَاسْتدلَّ فِي منع قِتَالهمْ بِظَاهِر قَوْله: أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله " فَلم يُنكر عَلَيْهِ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ تمسكه بِعُمُوم اللَّفْظ وَلَكِن انْفَصل عَن استدلاله بِقَيْد الحَدِيث وَهُوَ قَوْله: بِحَقِّهَا، وَقَالَ إِن الزَّكَاة من حَقّهَا. [596] ومقصدهم من ذَلِك مَا اسْتشْهدُوا بِهِ من الْآثَار وَالْأَخْبَار أَن أَرْبَاب الشَّرَائِع واللغات مَا زَالُوا يتفاهمون من الصِّيَغ الَّتِي فِيهَا كلامنا الْعُمُوم والشمول، وَمَا كَانَ يُنكر بَعضهم على بعض. [7 [59] فَيُقَال لَهُم: مَا تمسكتم بِهِ بَاطِل من أوجه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 أَحدهَا أَنكُمْ ادعيتم الْإِجْمَاع وأسندتم دعواكم إِلَى أَفْرَاد من الْأَخْبَار، والآحاد لَا تُفْضِي الى الْعلم كَحَدِيث ابْن الزِّبَعْرَى وَنَحْوه وَلَو كَانَ الْإِجْمَاع يثبت بأمثال ذَلِك لعم ادِّعَاء الْإِجْمَاع فِي مُعظم مسَائِل الِاجْتِهَاد، ثمَّ لم تَنقلُوا عَن أحد أَنه تمسك بِمُجَرَّد اللَّفْظ فلعلهم فَهموا مَعَ الْأَلْفَاظ قَرَائِن علمُوا عِنْدهَا إِرَادَة الْعُمُوم. [598] فَإِن قيل: فَلَو كَانَت تِلْكَ الْقَرَائِن لنقلت. فقد سبق الْكَلَام على مثل هَذَا بِمَا يُغني عَن إِعَادَته. ثمَّ نقُول: يجوز تَقْدِير الْقَرَائِن فِي بعض مَا استدللتم بِهِ وَلَا ننكر أَيْضا أَن يكون بَعضهم قد اعْتقد الْمصير إِلَى الْعُمُوم كَمَا اعتقدتموه وَذهب بَعضهم إِلَى أَن اللَّفْظ إِذا كَانَ صَالحا للْعُمُوم وَالْخُصُوص فَيجوز أَن يحمل على الْعُمُوم، فَإِذا تصور انقسام قصودهم وإرادتهم فَمنهمْ من يعْتَقد عَن قرينَة وَمِنْهُم من يعْتَقد كَمَا اعتقدتموه وَمِنْهُم من يسْتَدلّ اسْتِدْلَالا فَاسِدا مَعَ تصور تنوع القصود كَمَا قدر عَلَيْكُم، كَيفَ يتَصَوَّر ادِّعَاء الإطباق والاتفاق من أهل الْعَصْر المفترضة على أَن اللَّفْظَة المفردة مَوْضُوعَة للاستغراق، فهيهات لما طلبوه فقد أبعدوا النجعة وَمَا ذَكرْنَاهُ من شبه الْقَوْم تغني عَن ذكر كثير من الترهات، وتشتغل بِذكر التفصي عَمَّا ذَكرْنَاهُ كَمَا ذَكرنَاهَا فِي الِانْفِصَال عَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 كل مَا يرد عَلَيْك من قبيلها /. [70 / ب] [599] فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا دليلكم على الْوَقْف؟ قُلْنَا: كل دلَالَة طردناها فِي تثبيت الْوَقْف فِي صِيغَة الْأَمر فتطرد بِعَينهَا فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص وتعود عَلَيْهَا أسئلتها، وَوجه الِانْفِصَال عَنْهَا. فَمن عمدنا وَهُوَ مَا صدر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ بِهِ إِثْبَات الْوَقْف فِي كل مسئلة أَن يَقُول فِيهَا بِالْوَقْفِ أَن يَقُول: مدارك الْعُلُوم مضبوطة وَالَّذِي فِيهِ تنازعنا لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون من مدارك الْعُقُول اَوْ مدارك اللُّغَات واللغات لَا تثبت عقلا وَإِمَّا أَن يكون من مدارك السّمع وَهُوَ يَنْقَسِم إِلَى تَوَاتر فِي الْأَخْبَار وَغير تَوَاتر واطرد الدَّلِيل فِيهِ على الْمنْهَج الَّذِي سبق. [600] فَإِن قَالُوا: فكون اللَّفْظَة مُشْتَركَة لُغَة أَيْضا فثبتوا نقل ذَلِك. التَّوَجُّه عَلَيْكُم الانقسام فِيهِ مَا وجهتموه فِي أصل الْمَسْأَلَة. فَيُقَال: هَذَا سُؤال من لم يعقل حَقِيقَة الْوَقْف من مَذْهَب الْقَائِلين بِهِ، فلسنا نعني بالاشتراك ثُبُوت اللُّغَات فِي ذَلِك، ولكننا نعني بِهِ أَنا وجدنَا هَذِه الصِّيغَة الَّتِي فِيهَا تنازعنا ترد على موارد، مِنْهَا الْعُمُوم وَمِنْهَا الْخُصُوص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 فتوقفنا فِي المُرَاد فِيهَا عِنْد الْإِطْلَاق والتجرد عَن الْقَرَائِن، فَهَذَا مَا نعنيه، فَأَما أَن ندعى نقل الِاشْتِرَاك من أهل اللُّغَة كَمَا نقل عَنْهُم الِاشْتِرَاك فِي الْعين والقرء وَغَيرهمَا فَلَا، فَافْهَم ذَلِك كي لَا تزل فِيهِ. [601] وَمن عمدنا فِي الْمَسْأَلَة حسن الاستفصال بعد صُدُور اللَّفْظَة من مُطلقهَا فَلَو كَانَت منبئة عَن الْعُمُوم مَا حسن الاستفصال فِيهَا. فَإِن قَالُوا: لسنا نسلم حسن الاستفصال، قطع الْكَلَام عَنْهُم، وَتبين عنادهم، وَإِن سلمُوا وَزَعَمُوا أَن الاستفصال إِنَّمَا يحسن عِنْد بدور الْكَلَام. مِمَّن لَيْسَ بِحَكِيم، فَيُقَال لَهُم وَهَذَا خبط مِنْكُم وَذَلِكَ أَنا نقُول: كلامنا مَعكُمْ فِي وضع اللُّغَة، والاستفصال يَتَرَتَّب عَلَيْهِ، واللغة الْمَوْضُوعَة لاقْتِضَاء الْعُمُوم فِي حق الْحَكِيم يَقْتَضِيهِ فِي حق السَّفِيه، وَإِن الْعَرَب فِي أصل وَضعهَا مَا خصصت الْأَسَامِي فِي مقتضاتها بِبَعْض المطلقين دون بعض فيستحيل أَن تكون لَفْظَة مُجَرّدَة لِمَعْنى إِذا بدرت من وَاحِد وَهِي بِعَينهَا مَوْضُوعَة للاشتراك إِذا بدرت من غَيره وَقَامَت الدّلَالَة عَلَيْهِم. [602] وَمن أقوى مَا يسْتَدلّ بِهِ أَن نقُول: تأملنا موارد الْأَلْفَاظ فَوَجَدنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 على الانقسام فِي نظم الْعَرَب ونثرها، وَسَائِر كَلَامهَا، وَكَذَلِكَ وجدنَا أَلْفَاظ صاحبالشريعة منقسمة فِي اقْتِضَاء الْعُمُوم وَالْخُصُوص، والألفاظ المحمولة على خلاف الشُّمُول تربي وتزيد على الْأَلْفَاظ المحمولة على الشُّمُول، وَقد تتبع الْمُحَقِّقُونَ على أقْصَى جهدهمْ أَلْفَاظ الْكتاب فَلم يَجدوا فِيهَا إِلَّا الفاظا محصورة على الْعُمُوم مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَالله بِكُل شَيْء عليم} ، وَمِنْهَا: {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} وَلَو تكلفت لم يبلغ هَذَا الْقَبِيل من الْأَلْفَاظ عشرا فَقَالَ أَرْبَاب التَّحْقِيق: اللُّغَات إِنَّمَا تثبت بالتوصل إِلَى أصل الْوَضع. فَإنَّا أَخْطَأنَا ذَلِك فِيمَا يتفاهم مِنْهُ ارباب اللُّغَات، وَإِنَّمَا يعرف تفاهمهم بالْكلَام الْمَأْثُور الْمَنْقُول عَنْهُم / فِي مفاوضاتهم ومحاوراتهم، وَقد [71 / أ] استد طَرِيق نقل أصل الْوَضع لما قدمْنَاهُ أَولا، فَلم نجد مفزعا إِلَّا طَرِيق المحاورات فَوَجَدنَا مَا فِيهِ كلامنا على الانقسام. [603] فَإِن قيل: فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْمُسْتَعْمل من الصِّيَغ على الْخُصُوص مجَاز؟ قيل: فَبِمَ تنكرون على من يَقُول لكم من أَصْحَاب الْخُصُوص إِن الْمُسْتَعْمل على الشُّمُول مجَاز، فَلَا تفزعون فِي ادِّعَاء الْحَقِيقَة إِلَى أصل الْوَضع وَلَا إِلَى اسْتِعْمَال، فَإِنَّكُم إِن فزعتم إِلَى أصل الْوَضع لم تَجدوا فِي تَحْقِيقه طَرِيقا، وَإِن فزعتم إِلَى الِاسْتِعْمَال وجدْتُم الصِّيَغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 الْخَاصَّة فِي الِاسْتِعْمَال أَكثر من الصِّيَغ الْعَامَّة، وَإِن زعتمتم أَن الَّذِي خص مِنْهَا خص بِقَرِينَة، لم تجيبوا عَن تقابلكم بِمثلِهِ، فَيَقُول مَا حمل مِنْهُ على الْعُمُوم حمل بِقَرِينَة، فتتقاوم الْأَقْوَال وتتساقط بَعْضهَا بِبَعْض فَلَا يبْقى عِنْد سُقُوطهَا إِلَّا التَّوَقُّف وَترك قطع القَوْل. [604] إِن قَالَ قَائِل: فَإِذا لم تَقولُوا بِالْعُمُومِ فَبِمَ تعرفُون [امتداد] الشَّرْع فِي الْأَزْمَان الْمُسْتَقْبلَة إِذْ السَّبِيل إِلَى معرفَة عُمُوم الْأَزْمَان كالسبيل إِلَى معرفَة عُمُوم المسميات فَإِذا سددتم طرق الْقطع بِالْعُمُومِ لزمكم طرد ذَلِك فِي الْأَزْمَان. قُلْنَا: الزمتمونا مَا لَا نتحاشى مِنْهُ وَذَلِكَ أَنا لَا نَعْرِف بصيغ الْأَلْفَاظ الشُّمُول فِي الْأَزْمَان وَإِنَّمَا نَعْرِف ذَلِك بطرق التَّوْقِيف المقترنة بالألفاظ وبقرائن الْأَحْوَال وَهِي مِمَّا لَا تنضبط وَلَا تَنْحَصِر، ثمَّ نقُول لَهُم: فَلَو كَانَ سَبِيل اسْتِدْرَاك الْعُمُوم فِي الْأَزْمَان كسبيل اسْتِدْرَاك الْعُمُوم فِي المسميات لزمكم معشر الْقَائِلين بِالْعُمُومِ أَن تَقولُوا: يجوز تَخْصِيص اللَّفْظ فِي بعض الْأَزْمَان بِالدَّلِيلِ الَّذِي يجوز تَخْصِيص اللَّفْظ بِهِ بِبَعْض المسميات لتجوزوا على قَود ذَلِك حصر الْأَحْكَام الثَّابِتَة فِي بعض الْأَعْصَار بطرق المقاييس، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ. واستقصاء القَوْل فِيهِ يَتَأَتَّى عِنْد احاطة الْعلم وَحَقِيقَته وسنشيع القَوْل إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الْفرق بَين التَّخْصِيص والنسخ فِي ابواب النّسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 [605] فَإِن قُلْتُمْ: فَإِذا نفيتم صِيغ الْعُمُوم فَهَل تنفون التَّخْصِيص وَمَعْنَاهُ؟ قُلْنَا: الْوَجْه الَّذِي يَقُول بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ فِي التَّخْصِيص لَا نقُول بِهِ إِذا نَفينَا الْعُمُوم، فَإِنَّهُم يَقُولُونَ التَّخْصِيص اسْتِخْرَاج بعض المسميات من قَضِيَّة اللَّفْظَة الْمَوْضُوعَة للاستغراق وَلَوْلَا دلَالَة التَّخْصِيص لعمت. وَنحن لَا نصير إِلَى ذَلِك، وَلَكنَّا نقُول: اللَّفْظَة مترددة بَين أقل الْجمع وَمَا زَاد عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِظَاهِر فِي التَّخْصِيص بِأَقَلّ الْجمع وَلَا فِي الشُّمُول، فَإِذا دلّت دلَالَة فِي ثُبُوت أحد الْمَعْنيين لم نقل لولاها لثبت غير الْمَعْنى الثَّابِت بهَا. فَإِن اكْتفى السَّائِل من معنى التَّخْصِيص بِتَعْيِين المُرَاد وتحقيقه من غير أَن يقدر عِنْد عدم الدَّلِيل ظَاهر اللَّفْظ فِي شُمُول أَو خُصُوص، فَهَذَا مِمَّا نقُول بِهِ وسنعقد بَابا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي حَقِيقَة التَّخْصِيص بعد الْفَرَاغ من ابواب الْخُصُوص والعموم إِن شَاءَ الله تَعَالَى. (116) القَوْل فِي ان لفظ الْعُمُوم على مَذْهَب الْقَائِلين بِهِ إِذا خصص / هَل يصير مجَازًا؟) [71 / 5] [606] اعْلَم، وفقك الله، أَن أَرْبَاب [الْأُصُول] اخْتلفُوا فِي مَضْمُون هَذَا الْبَاب فَمَا صَار إِلَيْهِ الواقفية أَن الصِّيغَة الَّتِي يَدعِي الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ شمولها إِذا قَامَت الدّلَالَة على خُرُوج بعض المسميات عَن قضيتها فَيتَوَقَّف فِي الْبَاقِي كَمَا توقفنا فِي الأَصْل فَيجوز اختصاصها بِأَقَلّ الْجمع [وَيجوز] تعديها إِلَى مَا يزِيد عَلَيْهِ مِمَّا لم يخصص وَلم يسْتَثْن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 [607] ثمَّ الصائرون إِلَى الْوَقْف لَا يفصلون فِيمَا حكيناه عَنْهُم بَين أَن يثبت خُرُوج بعض المسميات باستثناء مُتَّصِل بِالْخِطَابِ أَو دلَالَة دَالَّة عَلَيْهَا عقلية أَو سمعية مِمَّا لَا يتَّصل بالألفاظ اتِّصَال الِاسْتِثْنَاء بالمستثنى مِنْهُ. [608] فَأَما الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ فقد افْتَرَقُوا فِي ذَلِك فَذهب كثير من الْفُقَهَاء من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَمَالك وَأبي حنيفَة رَحِمهم الله وَطَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين، مِنْهُم الجبائي وَابْنه إِلَى أَن الصِّيغَة الْمَوْضُوعَة للْعُمُوم إِذا خصصت صَارَت مجملة لَا يجوز الِاسْتِدْلَال بهَا فِي بَقِيَّة المسميات وَإِلَيْهِ مَال عِيسَى بن أبان وَذهب طَائِفَة من الْفُقَهَاء مِنْهُم الْكَرْخِي وَغَيره إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 أَن التَّخْصِيص إِن وَقع بِكَلَام مُتَّصِل وَهُوَ الِاسْتِثْنَاء وَمَا جرى مجْرَاه وَاللَّفْظ الْمُسْتَثْنى من مقتضاها حَقِيقَة فِي بَقِيَّة المسميات وَإِن ثَبت التَّخْصِيص ص بِدلَالَة - مُنْفَصِلَة من حجَّة عقل أَو دَلِيل سمع صَار مجَازًا وَمَا صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء أَنه لَا يصير مجَازًا، سَوَاء وَقع التَّخْصِيص باستثناء أَو دلَالَة مُنْفَصِلَة، بل هُوَ حَقِيقَة فِي بَقِيَّة المسميات. [609] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا إِنَّمَا يَقُوله هَؤُلَاءِ إِذا بَقِي من المسميات أقل الْجمع فَأَما إِذا بَقِي وَاحِد وَقد فرط لفظ الْجمع وَمِنْه اسْتثْنى فَيلْزم الْقطع على مَذَاهِب الكافة بِأَن لفظ الْجمع يكون حَقِيقَة فِي الْوَاحِد بل يسْتَعْمل فِيهِ مجَازًا. [610] وَقد ذكر القَاضِي بن الطّيب رَضِي الله عَنهُ عَن بعض أَصْحَابنَا بِأَن اللَّفْظَة حَقِيقَة فِيمَا يبْقى وَإِن كَانَ أقل [من] الْجمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 وَهَذَا بعيد جدا. [611] وَذهب بعض الأصوليون إِلَّا أَن الصِّيغَة إِذا كَانَت مُجَرّدَة عممت فَإِن لحقها التَّخْصِيص حملت على أقل الْجمع. [612] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَلَو قَررنَا القَوْل بِالْعُمُومِ فَالصَّحِيح عندنَا من هَذِه الْمذَاهب أَن نقُول إِذا تقرر التَّخْصِيص باستثناء مُتَّصِل فاللفظ حَقِيقَة فِي بَقِيَّة المسميات، وَإِن تقرر التَّخْصِيص بِدلَالَة مُنْفَصِلَة فاللفظ مجَاز وَلَكِن ليستدل بِهِ فِي بَقِيَّة المسميات فَيحْتَاج أَن تدل على طَرِيقين أَحدهمَا تثبيت كَونه مجَازًا فِي الصُّورَة الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَالثَّانِي ثُبُوت الِاسْتِدْلَال بِهِ وَإِن حكمنَا بِكَوْنِهِ مجَازًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 [613] فَأَما الدَّلِيل على كَونه مجَازًا فَهُوَ أَن الْمجَاز مَا تجوز بِهِ عَن أصل وضع اللُّغَة وَاسْتعْمل عَن غير قَضِيَّة أصل الْوَضع، وَهَذَا يطرد فِي جملَة المجازات على مَا قَرَّرْنَاهُ فِي بَابه وَإِنَّمَا تنفصل الْحَقِيقَة عَن الْمجَاز / بِكَوْنِهَا [72 / أ] مستعملة على اصل الْوَضع من غير تجوز عَنهُ إِلَى غَيره فَإِذا ثَبت ذَلِك فالصيغة الَّتِي فِيهَا الْكَلَام مَوْضُوعَة للْعُمُوم وشمول آحَاد الْجِنْس، فَإِذا تبين أَنَّهَا لَيست بعامة فقد تبين أَنَّهَا اسْتعْملت فِي غير مَا وضعت لَهُ فِي أصل اللُّغَة فَينزل ذَلِك منزلَة استعمالك لفظ الْحمار فِي البليد الأحمق وَلَفظ الْأسد فِي البطل الشجاع إِلَى غير ذَلِك. [614] فَإِن قيل: إِذا خصص بعض المسميات فاستعمال اللَّفْظَة فِي الْبَاقِي لَيْسَ بمجاز، وَلَكِن إِنَّمَا التَّجَوُّز فِي نفس الشُّمُول، فَلَا مجَاز إِذا فِي بَقِيَّة المسميات، وَإِنَّمَا الْكَلَام مَعَ الذابين عَن هَذَا الْمَذْهَب الَّذين ينصرونه فِي أَن اللَّفْظَة لَيست بمجاز فِي بَقِيَّة الْأَسْمَاء. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه سَاقِط من الْكَلَام، فَأَما الْمجَاز إِنَّمَا يُطلق على مُسْتَعْمل فِي غير وضع اللُّغَة، وَترك الِاسْتِعْمَال فِي الْمَخْصُوص من مُسْتَعْمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 المسميات لَا يتَحَقَّق التَّجَوُّز فِيهِ فَإِذا اثبتا عَلَيْكُم كَون اللَّفْظ مجَازًا وَجب أَن يكون فِي اسْتِعْمَاله مجَازًا لَا فِيمَا ترك اسْتِعْمَاله فِيهِ فَإِن لفظ الْحمار إِذا اطلق على البليد لم يكن مجَازًا لعدم اسْتِعْمَاله فِي الْبَهِيمَة الْمَخْصُوصَة وَإِنَّمَا كَانَ مجَازًا لاستعماله فِي غير مَا وضع لَهُ، وَكَذَلِكَ مَا نَحن فِيهِ فَإِذا بَطل صرف وَجه التَّجَوُّز إِلَى الْعَدَم وَجب أَن يكون مجَازًا فِي بَقِيَّة الْأَسْمَاء. [615] وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك أَنه لَو لم يبْق من المسميات إِلَّا وَاحِد فَلفظ الْجمع مجَاز فِيهِ وفَاقا وَإِن كَانَ يتَنَاوَلهُ اللَّفْظ مَعَ غَيره لَو قدر عَاما فصرف الْجمع إِلَى الْوَاحِد كصرف الْجمع إِلَى غير الشُّمُول إِذا كَانَ مَوْضُوعا للشمول. [616] فَإِن قيل: فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنه مجَاز فِي تَخْصِيصه بِبَقِيَّة المسميات. قيل: هَذِه عبارَة لَا طائل وَرَاءَهَا فَإِنَّكُم إِن عنيتم بالتخصيص تنَاولهَا لبَقيَّة المسميات فقد صرحتم بِأَن اللَّفْظ مجَاز فِي تنَاول بَقِيَّة المسميات وَإِن عنيتم بالتخصيص انْتِفَاء مَا سوى المسميات الْبَاقِيَة فقد وَقَعْتُمْ فِيمَا قدمْنَاهُ من كلامكم وَهُوَ صرف التَّجَوُّز إِلَى النَّفْي وَلَو سَاغَ ذَلِك لساغ مثله فِيهِ إِذا لم يبْق أقل الْجمع فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه، وَتبين أَن الصِّيغَة الْعَامَّة لَو قدرت مُجَرّدَة إِذا خصصت صَارَت مجَازًا. [617] فَإِن قَالُوا: فَمَا قَوْلكُم فِي الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل هَل يخرج اللَّفْظ عَن حَقِيقَته حَتَّى يحكم بِكَوْنِهِ مجَازًا فِي بَقِيَّة المسميات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ مَا نصرناه فِي المصنفات أَنه يصير مجَازًا مَعَ الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل فِي بَقِيَّة المسميات، كَمَا يصير كَذَلِك عِنْد ثُبُوت التَّخْصِيص بالدلالات الْمُنْفَصِلَة وَإِلَيْهِ صَار الجبائي وَابْنه وَالَّذِي اخْتَارَهُ فِي التَّقْرِيب أَنه لَا يصير مجَازًا، هَذَا هُوَ الصَّحِيح فَإِن اللفظتين إِذا كَانَت إِحْدَاهمَا اسْتثِْنَاء وَالْأُخْرَى مُسْتَثْنى مِنْهَا، فهما فِي لُغَة الْعَرَب موضوعتان حَقِيقَة للمفهوم مِنْهُمَا، لَا تجوز فيهمَا، فَإِذا قَالَ الْقَائِل: لفُلَان عَليّ عشرَة إِلَّا دِرْهَم، كَانَت اللفظتان حقيقتين فِي إِرَادَة التِّسْعَة فَكَذَلِك الصِّيغَة الْعَامَّة مَعَ الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل بهَا تنزل منزلَة اللَّفْظ المنبىء / عَن الْعدَد مَعَ الِاسْتِثْنَاء عَنهُ، واللفظة قد ترد [72 / ب] فَتكون حَقِيقَة فِي معنى فيتصل بهَا غَيرهَا فيصيران حقيقتان فِي معنى غير الْمَعْنى الأول وَمِثَال ذَلِك أَنَّك إِذا قلت: زيد، أنبأ ذَلِك عَن شخص مُتحد، فَإِذا وصلت ذَلِك واوا ونونا فَقلت: زيدون، أنبأ ذَلِك بمجموعة عَن جمع حَقِيقَة، وَإِذا قلت: رجل، أنبأ ذَلِك عَن تنكيره، فَإِذا أدخلت الْألف وَاللَّام أنبأ عَن عهد، إِلَى غير ذَلِك من ضروب الصلات فِي مجاري اللُّغَات، وَلَيْسَ من هَذَا الْقَبِيل الدلالات الْمُنْفَصِلَة عَن الْخطاب، فَإِنَّهَا لَا تعد فِي اللُّغَة قرينَة فِي الْكَلَام. [618] فَإِن قَالَ قَائِل: أَفَرَأَيْتُم لَو اتَّصل بِنَا من الرب تَعَالَى كَلَام ثمَّ اسْتثْنى مِنْهُ الرَّسُول على عقيب الِاتِّصَال فَمَا قَوْلكُم فِي هَذَا الضَّرْب؟ قُلْنَا: من الْأُصُولِيِّينَ السالكين لما سلكناه من الطَّرِيق من صَار إِلَى أَن اسْتثِْنَاء الرَّسُول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 إِذا اتَّصل بِالْخِطَابِ ينزل منزلَة الِاسْتِثْنَاء الْمُصَرّح بِهِ فِي كَلَام الله تَعَالَى. قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَالَّذِي نرتضيه انه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن ابْتَدَأَ من تِلْقَاء نَفسه كلَاما وَلم يضفه إِلَى كَلَام الله تَعَالَى فليلتحق ذَلِك بالتخصيص الْمُرَتّب على الدلالات الْمُنْفَصِلَة وَلَا يَجْعَل كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتثِْنَاء [حَقِيقِيًّا] بل هُوَ تَخْصِيص سَوَاء قدر مُتَّصِلا أَو مُنْفَصِلا فَهَذَا كلامنا فِي اُحْدُ الْفَرِيقَيْنِ. [619] فَأَما الْكَلَام فِي جَوَاز الِاسْتِدْلَال بالصيغة الْعَامَّة إِذا دَخلهَا التَّخْصِيص فَهُوَ أَن نقُول: إِذا قُلْنَا بِالْعُمُومِ فَمن حكم القَوْل بِهِ أَن نتمسك بقضية الشُّمُول مَا لم تقم دلَالَة مخصصة مَانِعَة من طردا لعُمُوم، فَإِذا قَامَت الدّلَالَة فِي بعض المسميات فقد ثَبت اللَّفْظ لم يسْتَثْن على قَضِيَّة لَا مَانع فِي اسْتِعْمَاله فِيمَا لم يخصص فِيهِ وَلَو سَاغَ التَّوَقُّف فِي بَقِيَّة المسميات لقِيَام الدّلَالَة فِي غَيرهَا سَاغَ التَّوَقُّف فِي صِيغَة لتخصيص أُخْرَى. فَإِن قيل: فَكيف يَسْتَقِيم لكم ذَلِك وَقد سلمتم لنا كَون اللَّفْظَة مجَازًا؟ قُلْنَا: وَإِن سلمنَا ذَلِك فَلَا نمْنَع من الِاسْتِدْلَال بِهِ، وَكثير من الْأَلْفَاظ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 مَا يتَحَقَّق التَّجَوُّز فِيهَا وَإِن كَانَ يسْتَدلّ بهَا لعُمُوم استعمالهما، وَذَلِكَ نَحْو الْغَائِط والعذرة وَغَيرهمَا من الْأَسَامِي الْغَالِبَة عرفا فِي الِاسْتِعْمَال وَإِن كنت تعلم أَن الْغَائِط فِي أصل الْوَضع المنخفض من الأَرْض وَيكثر أمثله ذَلِك ثمَّ نقُول: لَيْسَ الْمَعْنى بقولنَا أَن اللَّفْظ مجَاز إِنَّا نستريب فِي اسْتِعْمَاله فِي بَقِيَّة المسميات وَلَكِن محصول قَوْلنَا فِي وَصفنَا إِيَّاه بالمجاز يؤول إِلَى أَنه اسْتعْمل على غير مَا وضع لَهُ فِي أصل اللُّغَة، فَإِن مَوْضُوعه للْعُمُوم، فَإِذا اسْتعْمل على غير معنى الْعُمُوم كَانَ مجَازًا، فَافْهَم ذَلِك. [620] وَمن الدَّلِيل على وجوب اسْتِعْمَاله إطباق الْعلمَاء قاطبة فَإِنَّهُم مَا زَالُوا مذ كَانُوا يتمسكون بالألفاظ الْعَامَّة الَّتِي دَخلهَا التَّخْصِيص وَلَو تتبعت جملَة أَلْفَاظ الشَّرِيعَة الْمُتَعَلّقَة بِالْأَحْكَامِ ألفيت كلهَا أَو جلها مخصصة وَلَيْسَ فِي الْعلمَاء من يمْتَنع / عَن الِاسْتِدْلَال بهَا إِمَّا لاعتقاد [73 / أ] الْعُمُوم وَالْقَوْل بِهِ أَو لتقرر قَرَائِن عِنْدهم دَالَّة على الْعُمُوم، هَذِه فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا استدلت على أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ادعائها الْمِيرَاث بِعُمُوم قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُم الله فِي اولدكم} ، فَمَا زَالَت الْعلمَاء يستدلون بِهَذِهِ الْآيَة وأمثالها مَعَ تحقق التَّخْصِيص فِيهَا فَإِن الْكَافِر وَالْقَاتِل وَالرَّقِيق ينطبق عَلَيْهِم اسْم الْأَوْلَاد وَلَا يَرِثُونَ فَتبين بذلك حُصُول الِاتِّفَاق على جَوَاز الِاسْتِدْلَال، وَثَبت بِمَا قدمنَا التَّجَوُّز، فَافْهَم فِي هَذِه على الْجُمْلَة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 (117) بَاب ينطوي على جمل يدعى الْعُمُوم وَالْخُصُوص فِيهَا وَفِي بَعْضهَا اخْتِلَاف [621] قد قدمنَا فِيمَا فرط أَن العمموم لَا يتَحَقَّق ادعاؤه فِيمَا هُوَ من قبيل الْأَفْعَال وَإِنَّمَا يتَحَقَّق الْعُمُوم فِي الْأَقْوَال، وأوضحنا فِي ذَلِك مَا فِيهِ غنية، وحققنا أَن اسْم الْأَفْعَال إِذا كَانَ اسْم جنس فَهُوَ الَّذِي يعم، فَأَما ذَوَات الْأَفْعَال فَلَا يتَحَقَّق الْعُمُوم فِيهَا، وكما لَا يتَحَقَّق الْعُمُوم فِي افعال الْمُكَلّفين فَكَذَلِك لَا يتَحَقَّق ادِّعَاء الْعُمُوم فِي أَفعَال الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا سنوضح القَوْل فِي مُوجب أَفعاله بعد ذَلِك. وإيضاح ذَلِك بالمثال أَن من اسْتدلَّ فِي أَن أول وَقت الْعشَاء يدْخل بغيبوبة الشَّفق الْأَحْمَر بِمَا رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلَّى الْعشَاء بعد مَا غَابَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 الشَّفق، وَاسم الشَّفق على الْأَحْمَر، فَإِذا تحققت غيبوبة فقد تحقق الِاسْم، وَهَذَا لَا تَحْقِيق لَهُ فَإِن مرجع الِاسْتِدْلَال إِلَى فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واقامته الصَّلَاة، وَنحن نعلم أَنه أَقَامَ الصَّلَاة بعد أحد الشفقين أَو بعدهمَا، فادعاء الْعُمُوم فِيمَا يتَعَلَّق بالأفعال لَا معنى لَهُ، وَلَكِن لَو نقل عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: إِذا غَابَ الشَّفق دخل أول الْوَقْت، فَرُبمَا كَانَ يجوز التَّمَسُّك بِهِ. [622] وَمِمَّا لَا يسوغ الْعُمُوم فِيهِ مَا قدمْنَاهُ فِي صدر الْكتاب من أَلْفَاظ النَّفْي نَحْو قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَا صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد إِلَّا فِي الْمَسْجِد " وَقَوله: " لَا عمل إِلَّا بِالنِّيَّةِ " فقد ذهب ذاهبون إِلَى أَن النَّفْي عَام فِي الْوُجُود وَالْحكم فِي كَلَام طَوِيل قدمْنَاهُ وأبطلناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 [623] وَمِمَّا يجب تَفْصِيل القَوْل فِيهِ أقضية رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحكومات وأجوبته فِي الْمسَائِل، فَأَما الْأَقْضِيَة فَاعْلَم أَولا أَن الْقَضَاء اسْم عَرَبِيّ متناول لجمل من المسميات فقد يرد وَالْمرَاد بِهِ الْخلق والابتداع وَهُوَ الْمَعْنى بقوله تَعَالَى: {فقضهن سبع سموات} ، فَمَعْنَاه فطرهن وبدأهن، وَقد يرد الْقَضَاء وَالْمرَاد بِهِ الْإِعْلَام وَهُوَ المُرَاد {إِذا قضينا إِلَى مُوسَى الْأَمر} مَعْنَاهُ أعلمناه وآذاناه، وَقد يرد وَالْمرَاد بِهِ إِرَادَة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للمرادات، وَقد يحمل فِي بعض الْمَوَارِد على صِفَات الْأَفْعَال، واستقصاء هَذِه الْوُجُوه فِي الديانَات. [624] فَأَما الْقَضَاء فِي حق الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فينقسم إِلَى قَول وَفعل فَتَارَة يُسمى أمره لأحد الْخَصْمَيْنِ أَو نَهْيه قَضَاء، وَتارَة يُسمى الْفِعْل البادر مِنْهُ [73 / ب] قَضَاء، فَإِذا عرفت وُجُوه الْأَقْضِيَة فَاعْلَم أننا نتتبع / مواقعها. فَإِن كَانَ الْقَضَاء فعلا لم يسغْ دَعْوَى الْعُمُوم. وَإِن كَانَ لفظا مُخْتَصًّا فِي شخص بِعَيْنِه فِي خُصُوص بِعَينهَا فَلَا يسوغ دَعْوَى الْعُمُوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 وَكَذَلِكَ إِن خصص أَقْوَامًا مُعينين، إِلَّا أَن تقوم دلَالَة شَرِيعَة على أَن الكافة فِي ذَلِك الحكم شرع سَوَاء. وَإِن كَانَت لفظته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَامَّة فِي وضع اللُّغَة تمسكنا بعمومها. [625] فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين وَقضى للْجَار بِالشُّفْعَة فَهَل تعممون ذَلِك؟ قُلْنَا: هَذَا مِمَّا لَا نعممه فَإِن الرواي اطلق اسْم الْقَضَاء وَهُوَ يَنْقَسِم إِلَى فعل لَا يتَحَقَّق عُمُومه وَإِلَى قَول قد يعم وَقد يخص وَلَو نقل النَّاقِل عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من لَفظه أَنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 قَالَ الشُّفْعَة للْجَار كَانَ ذَلِك عَاما عِنْد الْقَائِلين بِالْعُمُومِ، وَإِذا نقل عَنهُ إِن الْخراج بِالضَّمَانِ عَم من غير تَخْصِيص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 فَأَما اطلاق الرواي لفظ القضايا فَمَا لَا نعممه بل نتوقف فِيهِ إِلَّا أَن ينْقل صفة الْقَضَاء. فَهَذَا فِي أقضيته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [626] فَأَما أجوبته فتضاهي أقضيته فَمَا عَم من لَفظه فِي جَوَاب الْمسَائِل عممناه وَمَا اخْتصَّ خصصناه إِلَى أَن تقوم الدّلَالَة فِي التَّعْمِيم على التَّخْصِيص أَو فِي التَّخْصِيص على التَّعْمِيم فيزال عَن ظَاهره حِينَئِذٍ، وَقد قدمنَا ذَلِك فِي مَا سبق. [627] ويليق بِهَذَا الْفَصْل مَسْأَلَة ستأتي إِن شَاءَ الله وَهِي أَن اللَّفْظَة إِذا صدرت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَامَّة فِي سَبَب خَاص أَو خَاصَّة فِي سَبَب عَام فالاعتبار بِمَا ينبىء عَنهُ السَّبَب من الِاخْتِصَاص أَو الشُّمُول، أم الِاعْتِبَار بِلَفْظ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَجُمْلَة مَا نرتضيه فِي ذَلِك إِلَى ان نستقصي فِي أدلته فِي بَابه أَن نقُول: الْأَجْوِبَة الصادرة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منقسمة، فَمِنْهَا: مَا تستقل بأنفسها من غير تَقْدِير تقدم الأسئلة، وَذَلِكَ نَحْو قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " المَاء طهُور لَا يُنجسهُ شَيْء إِلَّا مَا غير رِيحه أَو طعمه " فِي سُؤال السَّائِل عَن مَاء بِئْر بضَاعَة فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِنَفسِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 مُسْتَقل فتمسكنا بعامة صيغته وَلم نجْعَل لاخْتِصَاص السُّؤَال أثرا فِي الْخطاب. فَأَما إِذا كَانَ الْجَواب لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ لَو قدر مُفردا عَن السُّؤَال فترتيب الْجَواب عَن قَضيته السُّؤَال فِي مُوجبه وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {فَهَل وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا قَالُوا نعم} ، فمجرد ذَلِك لَا يسْتَقلّ فَحمل على السُّؤَال أَو عمم لعُمُوم السُّؤَال. [628] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَمن هَذَا الْقَبِيل مَا لَو قَالَ الْقَائِل لرَسُول الله لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا على المواقع فِي نَهَار رَمَضَان؟ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: عتق رَقَبَة فَهَذَا خَاص وَلَكِن لَيْسَ يسْتَعْمل بِنَفسِهِ فِي تَبْيِين حكم الْكَفَّارَة فقدرناه مَنُوطًا بالسؤال، وَالسُّؤَال عَام فَكَأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " من جَامع فِي نَهَار رَمَضَان فليعتق رَقَبَة ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 [629] فَإِن قيل: فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعتق رَقَبَة مَفْهُوم فِي نَفسه، قيل: لَيْسَ يسْتَقلّ بِذَاتِهِ فِي حكم / الْكَفَّارَة وَإِنَّمَا الْمَسْئُول عَنهُ حكم الْكَفَّارَة، وَلَيْسَ فِي [74 / أ] كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تعريضا لَهَا، فَهَذَا إِذا تَعْمِيم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جِهَة الْمَعْنى دون اللَّفْظ، فَإِن نفس لَفظه لَيْسَ ينبىء عَن تَعْمِيم. (118) فصل [630] اعْلَم أَن كل مَا قدمْنَاهُ من تتبع الْخُصُوص والعموم فِي الْأَقْضِيَة والأجوبة فِيمَا إِذا نقل إِلَيْنَا لفظ مُطلق، فَأَما إِذا اقْترن بشيئي مِنْهَا من قَرَائِن الْأَحْوَال مَا يضْطَر عِنْدهَا الْمشَاهد وَالسَّامِع إِلَى معرفَة عُمُوم أَو خُصُوص، فَنقل مَا اضْطر إِلَيْهِ فَيقبل نَقله إِذا كَانَ موثوقا بِهِ، فَأَما إِذا نقل اللَّفْظَة بِعَينهَا وَلم يتَعَرَّض للقرائن فيتمسك بقضيتها فِي اصل وَضعهَا، وَقد ينْقل النَّاقِل لَفظه فَيعلم بقرائن أَحْوَاله أَنه يروم بِالنَّقْلِ تعميمه أَو تَخْصِيصه، فقرائن أَحْوَال النَّاقِل فِيمَا ثَبت عِنْده لقرائن أَحْوَال الْمَنْقُول عَنهُ فِي الأَصْل. (119) مَسْأَلَة [631] من الْقَائِلين بِالْعُمُومِ من يَدعِي الْإِجْمَال فِي بعض الْأَلْفَاظ، ويتمسك فِي ادعائه بِمَا لَا تَحْقِيق وَرَاءه، وَقد يغلب مثله على أَلْسِنَة الْفُقَهَاء، وَنحن ننبهك للتحقيق فِيهِ. وَاعْلَم أَن من الْقَائِلين بِالْعُمُومِ مَعَ الْمصير إِلَى أَن تَخْصِيص الْعُمُوم لَا يمْنَع الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي بقيات المسميات من يصير إِلَى ادِّعَاء الْإِجْمَال فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 مَوَاضِع مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} قَالُوا: لما وجدنَا السَّارِق لما دون النّصاب لَا يقطع، وَكَذَلِكَ الَّذِي سرق من غير حرز وجري 0 إِلَى غير ذَلِك من الْأَوْصَاف الْمَشْرُوطَة فِي ثُبُوت الْقطع، فقد تبين أَن الْقطع لَا يتَعَلَّق بِمُجَرَّد اسْم السَّارِق حَتَّى يَنْضَم إِلَيْهِ جمل من الْأَوْصَاف كالبلوغ، وَالْعقل، وسرقة النّصاب الْكَامِل من حرز مثله، مَعَ انْتِفَاء الشُّبُهَات، فَيخرج من ذَلِك أَن إِطْلَاق اسْم السَّارِق لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ. فَيُقَال لهَؤُلَاء: إِن كُنْتُم من الصائرين إِلَى أَن الْعُمُوم إِذا خصص لَا يسوغ الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي بَقِيَّة المسميات فقد أَقَمْنَا الْحجَّة عَلَيْكُم، وَإِن أَنْتُم سلمتم لنا جَوَاز الِاعْتِصَام باللفظة الَّتِي دَخلهَا التَّخْصِيص فَالَّذِي مثلتم بِهِ من هَذَا الْقَبِيل وَذَلِكَ أَن اللَّفْظ بِظَاهِرِهِ يدل على ثُبُوت الْقطع فِي حق من يَتَّصِف بِكَوْنِهِ سَارِقا سَوَاء كَانَ صَغِيرا أَو بَالغا، وَسَوَاء بلغت سَرقته نِصَابا أَو انحطت عَنهُ فَقَامَتْ الْأَدِلَّة فِي بعض السارقين وَبَقِي بعض المسميات على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 قَضِيَّة الظَّاهِرَة. [632] وَلَو سَاغَ فتح هَذَا الْبَاب لزم مِنْهُ التَّوَصُّل إِلَى إبِْطَال جملَة العمومات الَّتِي يتَّصل بهَا التَّخْصِيص فِي الْكتاب وَالسّنة، وَفِيمَا يتَّصل بالوعد والوعيد، حَتَّى تَقولُوا أَن قَوْله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} مُجمل لأَنا عرفنَا بِالدَّلِيلِ أَن ثُبُوت الْقَتْل لَا يَتَقَرَّر بِمُجَرَّد اسْم [الْمُشرك] فَإِن أهل الذِّمَّة وَأولُوا الْعَهْد لَا يقتلُون وَقَوله تَعَالَى: {يُوصِيكُم الله فِي أولدكم} الْتحق بالمجملات على هَذَا الأَصْل فَإِن التوريث لَا يَقع بِمُجَرَّد اسْم الْوَلَد، واطرد ذَلِك فِي كل عُمُوم دخله التَّخْصِيص تَجدهُ كَذَلِك، وَكَذَلِكَ وعد المطيعين على الطَّاعَات فَإِنَّهُ يتخصص مِنْهُ الْبَقَاء عَلَيْهَا فِي الْعَاقِبَة، ويخصص من الْوَعيد الْإِصْرَار على الْمعْصِيَة / فَلَنْ يَسْتَقِيم الْجمع بَين القَوْل بالتمسك بِالْعُمُومِ [74 / ب] الَّذِي دخله التَّخْصِيص، وَبَين هَذَا الأَصْل. (120) فصل [633] فَإِن قَالَ قَائِل: قد ذكرْتُمْ جملا مِمَّا يعم ويخص فَمَا قَوْلكُم فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 فحوى الْخطاب هَل يدْخلهُ التَّخْصِيص، وعنوا بذلك غير الْمَفْهُوم الْمُخْتَلف فِيهِ وأموا إِلَى مثل ذَلِك قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ وَلَا تنهرهما} فَهَذَا بفحواه يَقْتَضِي النَّهْي عَن التعنيف الزَّائِد على التأفيف نَحْو الضَّرْب فَمَا فَوْقه. وَإِن قَالُوا يسوغ ترك الفحوى بِمَا يسوغ التَّخْصِيص بِهِ، قُلْنَا: لَا يجوز ذَلِك أصلا، وَسَيَرِدُ فِي الفحوى ومنزلته من الْكَلَام بَاب مُفْرد، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. [634] وَالْقدر الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ هُنَا أَن نقُول: قد ثَبت عندنَا من وضع أصل اللُّغَة قطعا إنباء النَّهْي عَن التأفيف فِي معرض التحريض على الْبر عَن النَّهْي عَمَّا فَوْقه فَهَذَا هُوَ الْمَفْهُوم من قَضِيَّة اللُّغَة نصا، وَلَيْسَ هُوَ عرضة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 للتأويل، والنصوص ومقتضياتها لَا يجوز تَركهَا إِنَّمَا يجوز التَّخْصِيص بِهِ وسنشبع القَوْل فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله عز وَجل. (121) بَاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 الْكَلَام فِي الِاسْتِثْنَاء فَإِن قَالَ قَائِل مَا حَقِيقَة الِاسْتِثْنَاء؟ قُلْنَا: قد اخْتلفت عِبَارَات أَصْحَابنَا فِي ذَلِك فَذهب بَعضهم إِلَى أَن الِاسْتِثْنَاء إِخْرَاج بعض مَا يجب دُخُوله فِي اللَّفْظ بِلَفْظ مُتَّصِل، وَهَذَا مَا أوردهُ الطَّبَرِيّ. وَهُوَ مَدْخُول من أوجه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 أَحدهَا: أَن الْإِخْرَاج فِي إِطْلَاقه ينبىء عَن فعل لَا يضاهي الْأَقْوَال فَكَانَ من حَقه أَن يُقيد كَون الِاسْتِثْنَاء بِلَفْظ، وَأَيْضًا فَإِن حَقِيقَة الْإِخْرَاج: الْإِزَالَة بعد الثُّبُوت، وَنحن لَا نقُول إِن اللَّفْظ السَّابِق يثبت على الْجُمْلَة حَقِيقَة، ثمَّ يخرج الِاسْتِثْنَاء بعض مَا اقْتَضَاهُ، وَلَكنَّا نقُول: الْمُسْتَثْنى مِنْهُ مَعَ الِاسْتِثْنَاء لَا يرادان إِلَّا على المورد الْبَاقِي، وَمَا ذكره يبطل أَيْضا بقول الْقَائِل: رَأَيْت الْمُؤمنِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 وَلم ار زيدا فَكل مَا ذكره يتَحَقَّق فِي هَذِه الصُّورَة، ثمَّ هَذَا لَا يعد اسْتثِْنَاء اتِّفَاقًا من أهل اللُّغَة. [636] فالحد المرضي إِذا أَن نقُول: الِاسْتِثْنَاء كَلَام دَال على أَن الْمَذْكُور فِيهِ لم يرد بالْقَوْل الْمُسْتَثْنى. وصيغته فِي الْعَرَبيَّة " إِلَّا " أَو مَا حل مَحَله وأقيم مقَامه فَهَذَا هُوَ الِاسْتِثْنَاء وَلَا يدْخل عَلَيْهِ شَيْء مِمَّا قدمْنَاهُ. [637] فَإِن قيل: أفليس الِاسْتِثْنَاء مُشْتَقّ من قَوْلهم: " ثنيت عَن رَأْيه " إِذا صرفته عَن [عزمه] وثنيت الْعود إِذا حنيته، وأثنيت عَمَّا كُنَّا عَلَيْهِ وَهَذَا الأَصْل مُتَضَمّن حمل الِاسْتِثْنَاء على معنى الْإِخْرَاج، وَإِزَالَة مُقْتَضى اللَّفْظ. قُلْنَا: لَا يبعد أَن يكون اشتقاق الِاسْتِثْنَاء مِمَّا ذكرتموه وَلَكِن الْعَرَب لَا تراعي فِي حَقِيقَة الِاشْتِقَاق الموازاة فِي الْمَعْنى على التَّحْقِيق على حسب مَا تراعي فِي الْعِلَل الَّتِي تطرد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وَمن تَأمل فِي أصُول كَلَامهم / عرف ذَلِك مِنْهَا، فَإِذا اشتققناه من [75 / أ] قَوْلهم: " ثنيت فلَانا عَن عزمه " فَوجه تَقْدِيره على الْمَعْنى الَّذِي رمناه: أَن اللَّفْظ الأول لَو قَدرنَا مُجَردا لاقتضى عُمُوما فِيمَا أُرِيد بِهِ، فَإِذا تعقبه الِاسْتِثْنَاء فَكَأَنَّهُ يثنيه عَمَّا يُرَاد بِهِ لَو قدر مُطلقًا، فَهَذَا وَجه التَّقْرِيب من الأَصْل فِي الِاشْتِقَاق، وَهَذَا حَقِيقَة الِاسْتِثْنَاء. [638] وَيخرج مِنْهُ أَدِلَّة التَّخْصِيص وَيخرج مِنْهُ قَول الْقَائِل: رَأَيْت الْمُؤمنِينَ وَلم أَو زيدا فَإنَّا قُلْنَا فِي تَحْدِيد الِاسْتِثْنَاء إِن صيغته " إِلَّا " أَو [مَا أقيم] مقَامهَا نَحْو " ير " و " سوى " و " عدا " و " خلا " وَنَحْوهَا. (122) فصل [639] شَرط صِحَة الِاسْتِثْنَاء اتِّصَاله بالمستثنى مِنْهُ على قرب من الزَّمَان مَعْهُود فِي الْعَهْد، وَهَذَا مَا صَار إِلَيْهِ أَئِمَّة الشَّرْع واللغة وَلم يُؤثر فِيهِ خلاف أحد من الْأَئِمَّة إِلَّا شَيْئا بَعيدا يحْكى عَن ابْن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ يصحح الِاسْتِثْنَاء الْمُنْفَصِل، وَالظَّن بِهِ أَنه لم يقل ذَلِك على مَا ظَنّه الجهلة من النقلَة على مَا سنوضح تَأْوِيل كَلَامه فِي أثْنَاء الْفَصْل. وَالدَّلِيل على مَا قُلْنَاهُ: إطباق أهل اللُّغَة على أَن الِاسْتِثْنَاء الْمُنْفَصِل إِذا تخَلّل بَينه وَبَين الْمُسْتَثْنى مِنْهُ فصل متطاول، فَإِن الْقَائِل إِذا قَالَ: رَأَيْت النَّاس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 ثمَّ قَالَ بعد شهر أَو حول: إِلَّا زيدا أَو غير زيد، لم يعد ذَلِك كلَاما مُفِيدا وعد ملغى، وَهَذَا بَين فِي كَلَامهم لَا يحْتَاج إِلَى إيضاحه. وَالَّذِي يتَحَقَّق الْمَقْصد فِي ذَلِك مِنْهُ أَن الْعَرَب مَا زَالَت واثقة وتهيئة [بالعهود] والعقود فِيمَا بَين أظهرنَا إِذا جزمت وعزمت عَن الشَّرَائِط، وَلَو كَانَت ترقب صِحَة الِاسْتِثْنَاء مَعَ الِانْفِصَال وتطاول الزَّمَان لما حصل لَهَا الثِّقَة بِشَيْء من عهودها المجزومة، وَهَذَا بَين لَا خَفَاء بِهِ. [640] فَإِن قيل: وَكَيف خَفِي ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ وَقد كَانَ حبر الشَّرْع واللغة؟ قُلْنَا: إِمَّا أَن نقُول: لَا تصح الرِّوَايَة عَنهُ وَإِمَّا أَن نحمله على محمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 قريب، وَهُوَ أَن نقُول: لَعَلَّه رَضِي الله عَنهُ كَانَ يجوز الِاسْتِثْنَاء من اللَّفْظ مَا يُنكر فِي الضَّمِير ثمَّ كَانَ يَقُول: من أخبر بعد زمَان أَنِّي كنت اضمرت اسْتثِْنَاء فنقبل هَذِه الْأَخْبَار ونصدق فِيمَا ادَّعَاهُ، وَهَذَا لعمرنا أقرب وَإِن كَانَ لَا يرتضيه مُعظم الْفُقَهَاء. [641] فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ يجوز تَأْخِير أَدِلَّة التَّخْصِيص عَن الْكَلَام الْمَخْصُوص وانفصاله عَنهُ، فَبِمَ أنكرتم من مثل ذَلِك فِي الِاسْتِثْنَاء؟ وَهَذِه عمدتهم. فَنَقُول: هَذَا من قبيل إثباب اللُّغَات بالمقاييس، وَهَذَا مَا لَا وَجه لَهُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 فَلم قُلْتُمْ إِن أَدِلَّة التَّخْصِيص لما سَاغَ تَأْخِيرهَا، سَاغَ تَأَخّر الِاسْتِثْنَاء، ثمَّ نقُول: نرى الْعَرَب تطلق عُمُوما ثمَّ تبدي بعد زمَان دلَالَة تخصصه وَلَا يُنكر ذَلِك فِي كَلَامهَا، فَأَما أَن تَقول طلقت امْرَأَتي، ثمَّ تَقول بعد زمَان إِن شَاءَ الله، فَلَا تعد الْعَرَب ذَلِك اسْتثِْنَاء صَحِيحا، فتتبعنا لغتهم فِي الْأَصْلَيْنِ. ثمَّ نقُول: إِن جَازَ لكم تَشْبِيه الِاسْتِثْنَاء بأدلة التَّخْصِيص فَهَلا شبهتموه بِالشُّرُوطِ والقيود والأوصاف والنعوت فَإِنَّهُ لَا يسوغ / تَأْخِيرهَا وفَاقا إِذْ لَو قَالَ [75 / ب] الْقَائِل [أضْرب زيدا، ثمَّ قَالَ بعد شهر: إِن قَامَ، أَو قَالَ بعد حول: إِذا كَانَ قَائِما أَو رَاكِبًا، عد ذَلِك لَغوا، وَلذَلِك لَو قَالَ: زيد، ثمَّ قَالَ بعد بُرْهَة من دهره: منطلق، لم يعد ذَلِك خَبرا، وَهُوَ مجمع عَلَيْهِ، فلئن سَاغَ لَهُم التَّشْبِيه بِمَا ذَكرُوهُ سَاغَ مقابلتهم، وَإِن كَانَ التَّحْقِيق يَقْتَضِي أَن لَا يسْلك طَرِيق المقاييس فِي اللُّغَات ومقتضياتها. [642] فَإِن قيل: تسوغون تقدم الِاسْتِثْنَاء على الْمُسْتَثْنى مِنْهُ؟ قُلْنَا: نجوز ذَلِك مَعَ الِاتِّصَال فَكَمَا يحسن مِنْك أَن تَقول: مَا جَاءَنِي أحد غلا أَخَاك، وَيحسن م مِنْك أَن تَقول: مَا جَاءَنِي إِلَّا أَخَاك أحد، وَالِاسْتِثْنَاء إِذا تقدم يتَضَمَّن النصب على أصُول النَّحْوِيين وَمن ذَلِك قَول الْكُمَيْت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 (فَمَا لي إِلَّا آل [أَحْمد] شيعَة ... وَمَا لي إِلَّا مشعب الْحق مشعب) فَقدم الِاسْتِثْنَاء على الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، وَيكثر ذَلِك فِي نظم الْعَرَب ونثرها ثمَّ نشترط فِي ذَلِك من الِاتِّصَال مَا نشترطه فِي تَأْخِير الِاسْتِثْنَاء. (123) فصل [643] الِاسْتِثْنَاء إِذا انطوى على التَّعْرِيض لما يبنىء عَنهُ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ جِنْسا فَهُوَ الِاسْتِثْنَاء الْحَقِيقِيّ، نَحْو قَوْلك رَأَيْت النَّاس إِلَّا زيدا، وَضربت العبيد إِلَّا نَافِعًا، فَهَذَا يتَضَمَّن تَخْصِيص اللَّفْظ السَّابِق الْمُسْتَثْنى مِنْهُ بِبَعْض مَا يتَنَاوَلهُ لَو قدر مُطلقًا. [644] وَقد ترد صِيغَة الِاسْتِثْنَاء مَعَ اخْتِلَاف الْجِنْس فِي مَضْمُون الِاسْتِثْنَاء والمستثنى مِنْهُ. وَنحن نذْكر أَمْثِلَة ذَلِك، ثمَّ نذْكر حَقِيقَته فِي الْكَلَام ومجازه، فَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ} إِلَّا إِبْلِيس} ، وَالأَصَح أَنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 لَيْسَ من الْمَلَائِكَة وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُم عَدو لي إِلَّا رب الْعَالمين} ، وَنحن أَن الرب سُبْحَانَهُ لَا يفهم من القَوْل السَّابِق وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُم عَدو لي} ، وَإِن قدر مُجَردا، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لمُؤْمِن أَن يقتل مُؤمنا إِلَّا خطأ} ، وَلَا شكّ أَن ذَلِك لم يدْخل تَحت قَوْله: (وَمَا كَانَ لمُؤْمِن أَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 يقتل مُؤمنا إِلَّا خطئاً} لتقدير إِخْرَاجه مِنْهُ، فَإِن الْخَطَأ لَا ينْدَرج تَحت قَضِيَّة التَّكْلِيف وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تكون تِجَارَة} ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {مَا لَهُم بِهِ من علم إِلَّا اتِّبَاع الظَّن} ، وَهُوَ لَيْسَ من جنس الْعلم ونظائر ذَلِك لَا تحصى فِي الْكتاب وَالسّنة. وَيكثر ذَلِك فِي نظم الشّعْر، وَمِنْه قَول النَّابِغَة: (وقفت بهَا أصيلالاً الا أسائلها ... أعيت جَوَابا وَمَا بِالربعِ من أحد) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 (إِلَّا أواري لأيا مَا تكلمنا ... والنؤى [كالحوض] بالمظلومة الْجلد) فاستثنى الأواري من أحد، وَلَا يفهم من مُطلق أحد. وعدوا من ذَلِك قَول الشَّاعِر: (وبلدة لَيْسَ بهَا أنيس ... إِلَّا اليعافير وَإِلَّا العيس) وَهَذَا فِيهِ نظر، فَإِن الأنيس رُبمَا يتَحَقَّق بِشَيْء من ذَلِك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 وعدوا من ذَلِك قَول الْقَائِل: (وَلَا عيب فِينَا غير ان سُيُوفنَا ... بِهن فلول من قراع الْكَتَائِب) [76 / أ] فاستثنى تفلل السيوف من كَثْرَة القراع من الْعُيُوب، وَإِن لم يكن مِنْهَا /. [645] فَإِذا عرفت صُورَة ذَلِك فَاعْلَم أَنا نستيقن أَن هَذِه الْأَلْفَاظ لَا تَتَضَمَّن تَخْصِيص مَا سبق من اللَّفْظ، وَلَا تَقْتَضِي تَغْيِير مَعَانِيهَا عَن عُمُوم وخصوص فَإِنَّهَا تنطوي على مَا انطوت عَلَيْهِ الْأَلْفَاظ الْمُتَقَدّمَة لتجعل مخصصة بهَا على مضادتها نفيا كَانَت أَو إِثْبَاتًا، فَهَذَا مَعْقُول لَا خَفَاء بِهِ، وَلَا وَجه لجحده، وَلَكِن اخْتلف االأصوليون فِي أَنَّهَا هَل تسمى اسْتثِْنَاء على الْحَقِيقَة؟ فَمنهمْ من سَمَّاهَا اسْتثِْنَاء، وَالأَصَح أَن لَا تسمى اسْتثِْنَاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 اسْتثِْنَاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 فَإِن تتبعنا طرق الْمعَانِي فَلَيْسَ فِيهَا معنى الِاسْتِثْنَاء، وَإِن تتبعنا وضع اللُّغَة فَلَيْسَ فِي وَضعهَا تَسْمِيَة ذَلِك اسْتثِْنَاء. [646] فَإِن قيل: أَلَيْسَ مَذْهَب الشَّافِعِي أَن اسْتثِْنَاء الشَّيْء من غير جنسه سَائِغ. قُلْنَا: هَذِه مَسْأَلَة تتَعَلَّق بالفروع على أَن الشَّافِعِي إِذا صحّح الِاسْتِثْنَاء فَيصْرف الْمَذْكُور فِي الِاسْتِثْنَاء إِلَى قِيمَته وَيجْعَل اللَّفْظ وَإِن كَانَ منبئا عَن جنس يُخَالف الْمُسْتَثْنى مِنْهُ دلَالَة على قِيمَته المتناولة لَهُ. (124) فصل [647] اخْتلف أهل اللِّسَان فِي صِحَة اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر مِمَّا تقدم ذكره فجوزه مُعظم الْفُقَهَاء، وَمنعه آخَرُونَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَكُنَّا على تَجْوِيز ذَلِك دهرا، وَالَّذِي صَحَّ عندنَا آنِفا منع ذَلِك وَذَلِكَ أَن الْعَرَب كَمَا استبعدت الِاسْتِثْنَاء الْمُنْفَصِل عَن الْكَلَام فِي زمن متطاول، وَفصل متخلل، فَكَذَلِك استبعدوا واستقبحوا أَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 يَقُول الْقَائِل: لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا تِسْعمائَة وَتِسْعَة وَتِسْعين وَنصف دِرْهَم. فيعدون ذَلِك من مستهجن الْكَلَام، وَلَا ينْطق بِهِ إِلَّا هازل، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده، فبالطريق الَّذِي أَنْكَرُوا انْفِصَال الِاسْتِثْنَاء أَنْكَرُوا ذَلِك. [648] فَإِن قيل يجوز أَنهم استقبحوا اسْتِقْلَالا بِقِيَاس اللُّغَة. قُلْنَا: نفس هَذَا الِاسْتِثْنَاء يُوجد فِي لغتهم وَلم يقم فِي نظمهم ونثرهم ليدعى انه من أصل الْوَضع، وَإِذا عرض عَلَيْهِم أنكروه، وَالْأَصْل انْتِفَاء اللُّغَات إِلَى أَن تقوم دلالات النَّقْل على ثُبُوتهَا وَلَو سَاغَ هَذَا الدَّعْوَى فِي مَا قُلْنَاهُ سَاغَ مثله فِي كل مَا أنكروه. [649] فَأَما الَّذين جوزوا اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر مِمَّا سبق فَنحْن نذْكر عمدهم ونومىء إِلَى الأولى وَالْأَقْرَب مِنْهَا. فمما عولوا عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {قُم اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا نصفه أَو انقص مِنْهُ قَلِيلا أَو زد عَلَيْهِ} قَالُوا: فَجعل النّصْف فزائد اسْتثِْنَاء، وَهَذَا فِيهِ نظر، فَإِن الِاسْتِثْنَاء الْحَقِيقِيّ هُوَ قَوْله {إِلَّا قَلِيلا} فَأَما بعده فاستدراكات، وَلَيْسَت باسثتناءات على الْحَقِيقَة. [650] وَرُبمَا تمسك نَاصِر ذَلِك بِأَن الْعَرَب قد تَقول لفُلَان عَليّ عشرَة إِلَّا سِتَّة، وَهَذَا فِيهِ نظر، فَإِن ذَلِك لم ينْقل عَن الْعَرَب فِي شَيْء من كَلَامهَا، وَلَو عرض على الفصحاء لأنكروه فَلم تقم بذلك حجَّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 [651] وَرُبمَا يتمسكون بقول الشَّاعِر: (أَدّوا الَّتِي نقصت تسعين من مائَة ... ثمَّ ابْعَثُوا حكما بِالْحَقِّ قوالا) قَالُوا فَهَذَا اسْتثِْنَاء تسعين من مائَة، وَهَذَا فِيهِ نظر أَيْضا، فَإِن كلامنا فِيمَا هُوَ فِي صِيغَة الِاسْتِثْنَاء، وَهَذَا لَيست لَهُ صِيغَة الِاسْتِثْنَاء، وايضا فَإِنَّهُ من قبيل الْقود والديات / الَّتِي لَا يعول عَلَيْهَا فِي أصُول اللُّغَات مَعَ أَنه لَا يسند هَذَا [76 / ب] الْبَيْت إِلَى أَن يقوم بقوله الْحجَّة. [652] وَرُبمَا استدلوا بقوله تَعَالَى: {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان إِلَّا من اتبعك من الغاوين} وَقَالَ فِي آيَة اخرى مُبينًا عَن قَول إِبْلِيس: {فبعزتك لأغوينهم أَجْمَعِينَ} إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين) ، فاستثنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 الغاوين فِي الْآيَة الأولى، والمخلصين فِي الْأُخْرَى، فَإِن قدر المخلصين أَكثر الْعباد، فقد صَحَّ استثناؤهم وَإِن قدر " الْغَاوُونَ " أَكثر الْعباد وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر فقد صَحَّ استثناؤهم وَهَذَا مثل مَا يستدلون بِهِ مَعَ ان لِلْقَوْلِ فِيهِ مجالا، وَالله اعْلَم. (125 (القَوْل فِي أَن الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل بجمل معطوفة بعضه على بعض يرجع إِلَى جَمِيع مَا تقدم، وَذكر الْخلاف فِيهِ [653] وَاعْلَم أَن مَا ذكر بِصِيغَة وَاحِدَة، ثمَّ عقب باستثناء يَصح رُجُوعه إِلَى آحَاد مَا انطوت عَلَيْهِ الصِّيغَة الأولى، فالاستثناء ينْصَرف إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 مَضْمُون الصِّيغَة، وَكَذَلِكَ إِذا توالت اعتبارات كلهَا منبئة عَن معنى وَاحِد، ثمَّ عقبت باستثناء، وَذَلِكَ نَحْو قَول الْقَائِل لعَبْدِهِ اضْرِب العصاة، والطغاة، والجناة إِلَّا من تَابَ فَكل هَذِه الْعبارَات آئلة إِلَى العصاة، وَلَا يَجْعَل لكل عبارَة مَضْمُونا على حياله لتقدرها جملَة متعاقبة. فَأَما إِذا اشْتَمَل الْكَلَام على جمل مُنْقَطِعَة تنبىء كل وَاحِدَة عَمَّا لَا تنبىء عَنهُ الْأُخْرَى، وَلكنهَا جمعت فِي حرف من حُرُوف الْعَطف جَامع فِي مُقْتَضى الْوَضع ثمَّ عقب باستثناء، فَهَل ينْصَرف إِلَى الْجَمِيع أَو ينْصَرف إِلَى مَا يلبس الْجمل، دون مَا سبق؟ هَذَا مَوضِع اخْتِلَاف الْعلمَاء فَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَنه ينْصَرف إِلَى الْجُمْلَة الَّتِي تليه، دون الْجُمْلَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 السَّابِقَة وَذهب مُعظم الْعلمَاء الْقَائِلين بِالْعُمُومِ إِلَى أَن الِاسْتِثْنَاء يرجع إِلَى جَمِيع الْجمل السَّابِقَة. [654] ونفرض الْكَلَام فِي أَمْثِلَة، فَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين ير يرْمونَ الْمُحْصنَات ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة ابدا وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا} فَمن صرف الِاسْتِثْنَاء إِلَى أقرب الْمَذْكُور من الْجمل ل - وَإِلَيْهِ مَال الْمُتَأَخّرُونَ من أَصْحَاب أبي حنيفَة وشرذمة من الْقَدَرِيَّة - صرف الِاسْتِثْنَاء إِلَى الْفَاسِقين دون مَا فرط من الْجمل، وَمن ذَلِك ردوا شَهَادَة الْمَحْدُود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 وَمن صرف الِاسْتِثْنَاء إِلَى الْجمل السَّابِقَة أدرج فِي حكم الِاسْتِثْنَاء أَمر الشَّهَادَة. [655] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَمن ارتضى الْوَقْف كَمَا ارتضيناه فَيلْزمهُ القَوْل بِالْوَقْفِ فِي ذَلِك فَإنَّا رَأينَا أَقسَام الْكَلَام على الِاخْتِلَاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 والتنوع فِي مواردها وَرُبمَا يرد الِاسْتِثْنَاء متخصصا بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَة، وَرُبمَا يرد منصرفا إِلَى الْجمل السَّابِقَة، وَرُبمَا يرد منصرفا إِلَى جملَة متوسطة، وَلم يَصح عَن أحد من أهل اللُّغَة فِي ذَلِك نقل موثوق بِهِ فَلَزِمَ التَّوَقُّف بالطرق الَّتِي بهَا يجب التَّوَقُّف فِي صِيغ الْعُمُوم، والأوامر والنواهي، وَالْأَخْبَار. [656] وكل دَلِيل طردناه فِيمَا قدمْنَاهُ من الْمسَائِل يطرد فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. [657] فَإِن قَالَ قَائِل: هَذَا الَّذِي صرتم إِلَيْهِ من الْوَقْف خرق الْإِجْمَاع [77 / أ] وَذَلِكَ أَن النَّاس / اخْتلفُوا فِي الِاسْتِثْنَاء المعقب بجمل متعاقبة فَذهب بَعضهم إِلَى [تَخْصِيصه] بالأخيرة، وَذهب آخَرُونَ إِلَى صرفه إِلَى كل مَا سبق، وَأما الْوَقْف فَلم يصر إِلَيْهِ صائر. قيل: هَذِه غَفلَة عَظِيمَة فَإِن مَذْهَب الواقفية فِي هَذِه الْمسَائِل أوضح من كل وَاضح فَلَا وَجه لادعائكم حصر الْمذَاهب فِي قَوْلَيْنِ، وَمذهب الواقفية فِي جملَة المصنفات مقرون بهَا، وَهل أَنْتُم فِي ذَلِك إِلَّا بِمَنْزِلَة من يَقُول إِن الصائر إِلَى الْوَقْف فِي صِيغ الْعُمُوم خارق للْإِجْمَاع من حَيْثُ أَن النَّاس انقسموا فِيهَا، فَمن صائر إِلَى الشُّمُول، وذاهب إِلَى الْخُصُوص، وَكَذَلِكَ لَو قدر مثل هَذَا الدَّعْوَى فِي الْأَمر وَكَونه على الْوُجُوب وَالنَّدْب فَبَطل مَا قَالُوهُ، وَتبين بطلَان ادِّعَاء الْإِجْمَاع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 [658] ثمَّ قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَإِن نصرنَا القَوْل بِالْعُمُومِ فأوضح المذهبين صرف الِاسْتِثْنَاء إِلَى جَمِيع ذَلِك، وَذكر القَاضِي مُعْتَمد كل قوم، وَاعْترض عَلَيْهِ. [659] فَأَما عُمْدَة الصائرين إِلَى أَن الِاسْتِثْنَاء ينْصَرف إِلَى جَمِيع الْجمل فَهِيَ أَن أَرْبَاب اللُّغَات وَأهل الْخِبْرَة بمعانيها صَارُوا إِلَى أَن الْجمل المنعطفة بِحرف عاطف تنزل منزلَة الْجُمْلَة الْوَاحِدَة، والعطف يَقْتَضِي لَهَا حكم الِاشْتِرَاك، فَإِذا قَالَ الْقَائِل: رَأَيْت زيدا وعمرا، كَانَ كَمَا لَو قَالَ: رأيتهما، وَلَو قَالَ: أعْط زيد بن مُحَمَّد، وَزيد بن بكر، وَزيد بن جَعْفَر كَانَ ذَلِك كَقَوْلِه أعْط الزيدين. فَإِذا تمهد ذَلِك من أصل اللُّغَة، تبين أَن الْجمل إِذا انعطف بَعْضهَا على بعض تنزلت منزلَة جملَة وَاحِدَة مَجْمُوعَة بِصِيغَة جَامِعَة يعقبها اسْتثِْنَاء، وَهَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 [أمثل] مَا يستدلون بِهِ. [660] وَيرد عَلَيْهِ سُؤال الواقفية فَإِنَّهُم قَالُوا: هَذَا اسْتِدْلَال فِي إِثْبَات اللُّغَات بِالْقِيَاسِ، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَنا لَو قَدرنَا جَوَاز افْتِرَاق أَمر الْجمل المتعاقبة المنعطفة فِي حكم الِاسْتِثْنَاء، وَالْجُمْلَة الْوَاحِدَة لم يكن ذَلِك مستبعدا لَا عقلا وَلَا وضعا، فَمَا يُنكر المعتصم بِهَذِهِ النُّكْتَة على من يَقُول إِن مَا ادعيته فِي الْجُمْلَة الْوَاحِدَة إِن سلم ذَلِك فَلم تَدعِي مثله فِي الْجمل المتعاقبة فتضطره طَريقَة الْحجَّاج والطلبات إِلَى الْقيَاس، وَلَا تثبت اللُّغَات قِيَاسا، وَإِنَّمَا تثبت نقلا من أَهلهَا. [661] وَاسْتدلَّ من نصر هَذَا الْمَذْهَب أَيْضا بِأَن قَالَ: لَا خلاف أَن الْجمل الْمُخْتَلفَة إِذا تعقبها الِاسْتِثْنَاء بِمَشِيئَة الله تَعَالَى أنصرف إِلَى جَمِيعهَا فَلَو قَالَ: وَالله لَا أكلت وَلَا دخلت الدَّار وَلَا كلمت زيدا إِن شَاءَ الله انْصَرف إِلَى كل مَا سبق، وَلم ينْعَقد يَمِينه فِي شَيْء وَكَذَلِكَ سَائِر ضروب الِاسْتِثْنَاء وَهَذَا يدْخل عَلَيْهِ مَا قدمْنَاهُ من التَّوَصُّل إِلَى إِثْبَات اللُّغَات بِالْقِيَاسِ. [662] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَلم يثبت عِنْدِي مَا ادعوهُ من انصراف الِاسْتِثْنَاء بِالْمَشِيئَةِ إِلَى الْجمل فِي حكم اللُّغَة وَلم ينْقل ذَلِك عَن أَهلهَا وَلست أسلم ذَلِك لُغَة وَلَا يتبع قِيَاس عَلَيْهِ، وَإِن ثَبت حكم بَين أَرْبَاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 الشَّرَائِع فالشرع مُتبع وَلَا يخرج الْكَلَام عَن احْتِمَاله فِي أصل وضع اللُّغَة. [663] وَاسْتدلَّ آخَرُونَ فِي صرف الِاسْتِثْنَاء إِلَى الْجمل بِاتِّفَاق أهل اللُّغَة على رُجُوع الشَّرْط فِي صُورَة ذكروها / إِلَى الْجمل وَهِي نَحْو قَول [77 / ب] الْقَائِل لَا تضرب زيدا إِذا أكل الطَّعَام، وَدخل الدَّار، وَركب الْحمار، إِلَّا أَن يكون قَائِما، أَو قَالَ: اضْرِب زيدا إِذا دخل الدَّار، وَأكل، وَركب إِن كَانَ قَائِما، وَإِذا كَانَ قَائِما، فَيَنْصَرِف ذَلِك إِلَى جملَة مَا تقدم. [664] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَهَذَا مَا لَا يقطع القَوْل بِهِ أَيْضا وَلم يثبت فِيهِ نقل يعول عَلَيْهِ، وَالْكَلَام على احْتِمَاله. [665] شُبْهَة الْقَائِلين بِأَن الِاسْتِثْنَاء ينْصَرف إِلَى الْجُمْلَة الْأَخِيرَة: فَإِن قَالُوا: الِاسْتِثْنَاء لَو قدر مُفردا لم يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي إِفَادَة الْمَعْنى، وَإِذا وصل بجملة هُوَ اسْتثِْنَاء عَنْهَا اسْتَقل وافاد فتظهر فَائِدَة الِاسْتِثْنَاء إِذا بَان يتَّصل بجملة وَاحِدَة فيكتفي بهَا إِذْ لَا ضَرُورَة إِلَى صرفهَا إِلَى غَيرهَا. وَهَذَا لَا تَحْقِيق وَرَاءه وَذَلِكَ ان من خَالف هَذِه الفئة يَدعِي أَن الِاسْتِثْنَاء فِي وضع اللُّغَة ينْصَرف إِلَى جَمِيع مَا تقدم، وَلَيْسَ يصرفهُ إِلَيْهَا للضَّرُورَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 لتحَقّق ارْتِفَاع الضَّرُورَة بجملة وَاحِدَة وَلَكِن يصرفهُ إِلَيْهَا وَضعهَا، فَبَطل التعويل على الضَّرُورَة. ثمَّ نقُول: فَإِن كَانَ الْمعول على الضَّرُورَة فَهَلا صرفتموه إِلَى الْجُمْلَة الأولى أَو إِلَى الْجُمْلَة المتوسطة فَمَا لكم خصصتموه بالأخير؟ [666] وَالَّذِي يُوضح فَسَاد مَا قَالُوهُ إِن الْجمل إِذا تعاقبت فَلَو قدرت الْجُمْلَة الْأَخِيرَة مُنْفَرِدَة على صدر الْكَلَام وسوابقه لم يكن منتظما إِنَّمَا يَنْتَظِم الْكَلَام بمفتحه، وهلا صرفتم الِاسْتِثْنَاء إِلَى الْجُمْلَة الَّتِي صدر بهَا الْكَلَام. ثمَّ نقُول: إِن كُنْتُم من الْقَائِلين بِالْعُمُومِ فبمَا تنكرون على من يزْعم من أَرْبَاب الْخُصُوص أَن اقل الْجمع هُوَ الَّذِي يحمل عَلَيْهِ اللَّفْظ، وتنتفي الضَّرُورَة فِي قَضِيَّة الصِّيغَة بِهِ فَيجب الِاكْتِفَاء بِهِ، فيلزمكم على طرد مَا قلتموه نفي الْعُمُوم، ثمَّ يبطل مَا قَالُوهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَة الله، فَإِنَّهُم وافقوا مخالفيهم فِي انْصِرَافه إِلَى سَائِر الْجمل؟ [667] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم، فَإِن قَالُوا: إِذا اشْتَمَل الْكَلَام على أَحْكَام فِي جمل فقضية الْخطاب استيفاؤها، وَالِاسْتِثْنَاء لَو قدر ثُبُوته تضمن الْإِزَالَة فِي بَعْضهَا وَالْجُمْلَة الْأَخِيرَة مستيقنة، وَسَائِر الْجمل مستصحبة الْأَحْكَام إِلَى أَن يلْحقهَا اسْتثِْنَاء مستيقن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 فَيُقَال لهَؤُلَاء: هَذَا الَّذِي ذكرتموه لَيْسَ باستدلال وَإِنَّمَا هُوَ إِظْهَار استرابة وَتوقف لظُهُور دَلِيل، أَو يَقُول خصمكم: قد وضحتم الْأَدِلَّة على انصراف الِاسْتِثْنَاء إِلَى جَمِيع الْجمل السَّابِقَة فيؤول محصول كلامكم إِلَى استكشفاف عَن أَدِلَّة الْخصم فَثَبت أَن مَا قلتموه طلب دَلِيل وَلَيْسَ بِدَلِيل. ثمَّ يبطل مَا قَالُوهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَة الله تَعَالَى كَمَا قدمْنَاهُ. [668] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَلَيْسَ يَتَّضِح لوَاحِد من الفئتين دَلِيل بل تصادم الْقَوْلَانِ وَلم يبْق بعدهمَا إِلَّا الْمصير إِلَى الْوَقْف، وآيات الْكتاب منقسمة الْمَوَارِد فِي ذَلِك أَيْضا فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {وَلَا تقبلُوا لَهُم شهدة أبدا وَأُولَئِكَ / هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا} فقد ذكر حكم الْحَد وَالشَّهَادَة، [78 / أ] وَالْوَصْف بالفسوق، ثمَّ الِاسْتِثْنَاء لَا يرجع إِلَى الْحَد وفَاقا وَإنَّك وان كَانَ من الْجمل السَّابِقَة، وانما الْخلاف فِي صرف الِاسْتِثْنَاء إِلَى الشَّهَادَة وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة ودية مسلمة إِلَى أَهله إِلَّا أَن يصدقُوا} مَعْنَاهُ يتبرعوا بِالْعَفو، ثمَّ لم ينْصَرف هَذَا الِاسْتِثْنَاء إِلَى الْكفَّار فَإِنَّهَا لاتسقط بالإسقاط وَقد يرد الِاسْتِثْنَاء وَلَا يصرف إِلَى أقرب الْجمل إِلَيْهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَلَوْلَا فصل الله وَرَحمته لاتبعتم الشيطن إِلَّا قَلِيلا} فَقَوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 {إِلَّا قَلِيلا 83} لَا ينْصَرف إِلَى الشَّيْطَان مَعَ اتِّصَاله بِالِاسْتِثْنَاءِ وَإِنَّمَا ينْصَرف هَذَا الِاسْتِثْنَاء عِنْد الْمُحَقِّقين إِلَى قَوْله: {لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم} {إِلَّا قَلِيلا 83} فَتبين بِكُل مَا ذَكرْنَاهُ اخْتِلَاف موارد الِاسْتِثْنَاء فِي الْخطاب، وتكافأت حجج الْفَرِيقَيْنِ فَلم يسْتَقرّ مِنْهَا وَاحِدَة فَتعين بعْدهَا الْوَقْف. (126) القَوْل فِي تَخْصِيص [الْعَام] بِالشُّرُوطِ [669] اعْلَم ان الشُّرُوط تَنْقَسِم إِلَى عَقْلِي وَغَيره، فَأَما الشُّرُوط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 الْعَقْلِيَّة فَكل مَا لَا يَصح ثَبت مشروطه دوه، وَلَا يجب بحصوله، فَهُوَ شَرط فِيهِ، وَذَلِكَ نَحْو الْحَيَاة لما كَانَت شرطا فِي الْعُلُوم والإرادات وَنَحْوهَا لم يَصح ثُبُوتهَا دون الْحَيَاة وَإِذا حصلت الْحَيَاة لم يُوجب حُصُولهَا وجود الْعلم والإرادات، وَبِذَلِك تتَمَيَّز الْعِلَل عَن الشُّرُوط فَإِن الْعِلَل توجب معلولاتها حكما لَا يَتَقَرَّر دون الشُّرُوط وَالشّرط يَصح ثُبُوته دون الْمَشْرُوط. [670] ثمَّ اعْلَم أَن كل مَا كَانَ شرطا بِحكم عَقْلِي فَإِنَّهُ يكون شرطا لنَفسِهِ، وَلَا يجوز تَقْدِير نَفسه إِلَّا كَذَلِك، كَمَا إِن الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة تدل لأنفسها لَا عَن تواضع وَوضع وَاضع فَلم يَتَقَرَّر أَنْفسهَا إِلَّا دَالَّة، وَالْكَلَام فِي الشَّرَائِط الْعَقْلِيَّة يستقصى فِي الديانَات. [671] فَأَما الشَّرَائِط الَّتِي لَيست بعقلية فتنقسم إِلَى شَرط شَرْعِي غير مُسْتَند إِلَى نطق وَإِلَى شَرط مُصَرح بِهِ نطقي، فَأَما الشَّرْعِيّ فَكل مَا اقْتضى الشَّرْع توقف حكم شَرْعِي عَلَيْهِ كَمَا توقفت صِحَة الصَّلَاة على الطَّهَارَة وَالْإِيمَان، وَالْقَوْل فِي هَذَا الْقَبِيل من الشَّرَائِط يداني القَوْل فِي الشَّرَائِط الْعَقْلِيَّة، فَإِن الشَّرْع يَقْتَضِي أَن لَا يَصح الْمَشْرُوط دون الشَّرْط، وَثُبُوت الشَّرْط بِمُجَرَّدِهِ لَا يتَضَمَّن تثبيت الْمَشْرُوط إِذْ لَا يتَحَقَّق مصل على الصِّحَّة فِي الرَّفَاهِيَة إِلَّا وَهُوَ متطهر، ويتقرر متطهر غير مصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 [672] وتتباين الشَّرَائِط الشَّرْعِيَّة والشرائط الْعَقْلِيَّة فِي أَنَّهَا لَا تنتصب شَرَائِط لأنفسها وذواتها، وَلم هِيَ عَلَيْهَا من صِفَات أجناسها. وَإِنَّمَا تصير شَرَائِط بِنصب صَاحب الشَّرِيعَة، وَيجوز فِي الْعقل تَقْدِير انْتِفَاء الشَّرَائِط وقلب الْمَشْرُوط شرطا، وَالشّرط مَشْرُوطًا، وَأما الشَّرَائِط [78 / ب] الْعَقْلِيَّة فَلَا يجوز تَقْدِير انقلابها عَمَّا هِيَ عَلَيْهَا من كَونهَا مَشْرُوطًا فَهَذِهِ هِيَ / الشَّرَائِط الشَّرْعِيَّة. [673] وَأما الشَّرَائِط النطقية فَهُوَ كل لفظ ينبىء عَن تعلق شَيْء بِشَيْء على معنى، وَلَا يَصح الْمَشْرُوط دون الْوَصْف الْمَنْصُوب شرطا، ثمَّ هُوَ بعد ذَلِك صِيغ مُخْتَلفَة فِي مجاري الْعَادَات. وَهِي تَنْقَسِم إِلَى نُصُوص غير مُحْتَملَة، وَإِلَى ظواهر قد تحْتَمل على الْمجَاز والشرائط النطقية مثل قَول الْقَائِل: لَا أقوم اليك حَتَّى تقوم، وَإِن قُمْت قُمْت، وَإِن جئتي جئْتُك، وَلنْ أجيئك حَتَّى تَجِيء. ثمَّ قد تثبت نطقا للشَّيْء الْوَاحِد شُرُوط فَيُقَال: إِذا مطرَت السَّمَاء وَقَامَ زيد جئْتُك، وَهَذِه الشُّرُوط تنزل منزلَة الِاسْتِثْنَاء فِي تَخْصِيص اللَّفْظ الَّذِي كَانَ يعم لَو قدر مُجَردا عَنهُ، إِذْ لَا فرق بَين ان يَقُول: اقْتُلُوا الْمُشْركين إِن لم يَكُونُوا معاهدين، وَبَين أَن يَقُول: اقْتُلُوا الْمُشْركين إِلَّا المعاهدين. [674] ثمَّ اعْلَم أَن مَا نصب شرطا إِمَّا شرعا وَإِمَّا نطقا وَلم يثبت فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 إِلَّا كَونه شرطا فَذَلِك ينبىء عَن توقف الْمَشْرُوط عَلَيْهِ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِك وجود الْمَشْرُوط لَا محَالة إِذا وجد الشَّرْط إِلَيْهِم وَأَن يُصَرح فِي اللَّفْظ بذلك، وإيضاح ذَلِك أَنه إِذا جعل انْقِطَاع الْحيض شرطا فِي استحلال الوطىء دلّ ذَلِك على أَن حل الوطىء لَا يثبت من غير انْقِطَاع، وَلَا يدل ذَلِك على أَن الْحل يثبت لَا محَالة عِنْد الِانْقِطَاع، وَقد ذهب من لَا تَحْقِيق لَهُ إِلَى انه إِذا ثَبت كَون الشَّيْء شرطا شرعا فَنَفْس كَونه شرطا يَقْتَضِي أَن يثبت الحكم بِثُبُوتِهِ وينتفي بانتفائه، وَهَذَا سَاقِط من القَوْل، وَشبه الْمَشْرُوط بالعلل الْعَقْلِيَّة، وَالشّرط الشَّرْعِيّ لَا يزِيد على الْعقلِيّ، ثمَّ لَا يَقْتَضِي الشَّرْط الْعقلِيّ ثُبُوت مَشْرُوطَة لَا محَالة ". وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الحكم قد ثَبت بجملة من الشَّرَائِط، وَذَلِكَ نَحْو الصَّلَاة يشْتَرط فِي صِحَّتهَا طَهَارَة الْحَدث والخبث وَستر الْعَوْرَة وَالْإِيمَان وَيُسمى كل وَاحِد من ذَلِك شرطا، وَإِن كَانَ لَو وجد وَحده مَا اقْتضى صِحَة الصَّلَاة فَدلَّ ذَلِك على أَن كَون الشَّيْء مَشْرُوطًا لَا يَقْتَضِي حُصُول مشروطه عِنْد حُصُوله، غير أَنا إِذا قُلْنَا فِي تضاعيف الْكَلَام: إِن اللَّفْظ إِذا دلّ على وجود الْمَشْرُوط عِنْد وجود مَا علق بِهِ فَيتبع ظَاهر اللَّفْظ، وَهُوَ نَحْو أَن يَقُول إِن جئتني جئْتُك فَهَذَا يَقْتَضِي ثُبُوت مَجِيء الْمَشْرُوط عِنْد ثُبُوت شَرطه، فَافْهَم ذَلِك، وتتبع بصيغ الْأَلْفَاظ، وَلَو [ورد] اللَّفْظ بِأَن وطىء الْحَائِض لَا يحل مَا دَامَت حَائِضًا، فَلَا يفهم من ذَلِك حلّه إِذا انْقَطَعت حَيْضَتهَا، فَإِنَّهُ لم يُصَرح بذلك، وَلَا يتضمنه أَيْضا كَونه شرطا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 ((127) فصل ) [675] اعْلَم أَن مَا جعل مَشْرُوطًا وَقَضِيَّة الْكَلَام، فَإِنَّمَا يتَحَقَّق ذَلِك فِيهِ إِذا كَانَ متوقع الْكَوْن من قرب الْوُجُود فِي الِاسْتِقْبَال، وَلَا يتَحَقَّق ثُبُوته إِثْبَات [79 - أ] شَرط متوقع فِي الِاسْتِقْبَال فَلَا يحسن مِنْك أَن تَقول: لَا أضْرب زيدا / بالْأَمْس حَتَّى يقوم عَمْرو، فَإِن الشَّرْط المتوقع لَا يسْتَند إِلَى مَاض، وَكَذَلِكَ لَا يحسن من الْقَائِم فِي قِيَامه الْكَائِن فِي الْحَال، وإيضاح ذَلِك بالمثال، أَن تَقول لَا أضْرب زيدا حَتَّى يقوم عَمْرو، إِنَّمَا أردْت نفي الضَّرْب فِي الِاسْتِقْبَال، وَلَا يحسن مِنْك أَن تَقول: لَا أضْرب زيدا بالْأَمْس حَتَّى يقوم عَمْرو، فَإِن الشَّرْط المتوقع لَا يسْتَند إِلَى مَاض وَكَذَلِكَ لَا يحسن من الْقَائِم فِي قِيَامه أَن يَقُول: لَا أقوم حَتَّى يقوم زيد، وَهُوَ قَائِم فِي حَال صُدُور القَوْل مِنْهُ، وَإِنَّمَا ذَلِك لِأَن مَا جعل مَشْرُوطًا لَا يتَحَقَّق ثُبُوته إِلَّا مَعَ شَرطه، فَإِذا علق على مَا انْقَضى مَشْرُوط سَيكون فقد أحَال، فَإِن مَا مضى كَانَ عَارِيا عَن الشَّرْط فَكيف يحسن الْجمع بَين ذَلِك وَبَين نِسْبَة الشَّرْط إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْمَعْنى الْكَائِن فِي الْحَال كَيفَ يجوز أَن يشْتَرط فِيهِ مَا سَيكون، وَلَو كَانَ شرطا فِيهِ لقارنه. فَهَذَا فِي الْمَشْرُوط. [676] فَأَما الشَّرْط فقد زعم قوم أَنه لَا يجوز أَن يكون شرطا إِلَّا بعد أَن يكون متوقعا فِي الِاسْتِقْبَال كَمَا لَا يكون الْمَشْرُوط إِلَّا مُسْتَقْبلا. قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَهَذَا فِيهِ نظر، فقد يَقع الشَّرْط كَائِنا فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 الْحَال وَذَلِكَ أَنه يحسن مِنْك أَن تَقول: إِن كَانَ زيد الْيَوْم رَاكِبًا قُمْت غَدا فيوافق وجود الشَّرْط لفظك ويتقدم على الْمَشْرُوط. [677] وأغلب الشُّرُوط تقع مُسْتَقْبلَة كالمشروط وَقد تقع مُقَارنَة اللَّفْظ مُتَقَدّمَة على الْمَشْرُوط كَمَا صورنا فِي قَوْله: إِن كَانَ زيد السَّاعَة قَائِما قُمْت غَدا وَلَكِن فِي هَذَا الْقسم شَرط وَهُوَ أَن يكون فِي الْكَلَام إنباء عَن إِضَافَة إِلَى انطواء عَاقِبَة أَو عدم علم إِمَّا فِي الْمُخَاطب وَإِمَّا فِي الْمُخَاطب وَإِن لم يكن كَذَلِك كَانَ تَحْقِيقا، وَلم يكن شرطا. وَبَيَان ذَلِك أَن زيدا لَو كَانَ قَائِما بِمحضر من خَالِد، وَبكر، فَقَالَ خَالِد لبكر: إِن كَانَ زيد قَائِما فسأقوم غَدا فَهَذَا لَا يُسمى شرطا بل هُوَ تَحْقِيق، فَكَأَنَّهُ يَقُول: فَكَمَا تحقق لَك قِيَامه فسيتحقق لَك قيامي. وَأما إِذا كَانَ قيام زيد مغيبا عَن الْمُخَاطب مجوزا فِي حَقه أَو فِي حق الْمُخَاطب فَيجوز أَن يكون ذَلِك شرطا. ((128) فصل ) [678] الشَّرَائِط الْعَقْلِيَّة والشرعية والنطقية لَا تخْتَص بِوُجُود، فقد يكون الْعَدَم شرطا لحكم لحكم عقلا وَشرعا ونطقا، ويتبين ذَلِك فِي الْعقل أَنا كَمَا نشترط فِي وجود السوَاد وجود مَحَله فَكَذَلِك نشترط عدم ضِدّه لتصور قِيَامه بِالْمحل، وتصوير ذَلِك فِي الشرعيات والنطقيات مِمَّا لَا ينْحَصر لكثرته وَهُوَ كَمَا أَنا نشترط عدم الْقُدْرَة فِي اسْتِعْمَال المَاء فِي جَوَاز التَّيَمُّم، وَعدم الْقُدْرَة على الرَّقَبَة فِي الْمصير إِلَى الصَّوْم، إِلَى غير ذَلِك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 (129) فصل [679] اعْلَم أَن الشَّرْط قد يكون زمانيا، رب وَقد يكون مكانيا، وَقد يكون فعلا، [79] وَقد يكون وَصفا / ونعتا، وَقد يكون دَاخِلا تَحت مَقْدُور الْمُخَاطب، وَقد يكون خَارِجا عَن مقدوره. وَبَيَان ذَلِك بالأمثلة: فَأَما الشَّرْط بِالزَّمَانِ فنحو قَوْله تَعَالَى: {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} ، فقد جعل دلوك الشَّمْس شرطا فِي إِقَامَة الصَّلَاة. وَأما الشَّرْط الْمُتَعَلّق بِالْمَكَانِ فنحو قَول الْقَائِل: إِذا رَأَيْت فلَانا بالعراق فَأكْرمه، وَنَحْو شَرط الْمَسْجِد فِي صِحَة الِاعْتِكَاف. وَأما كَون الصُّوف شرطا فنحو قَوْله تَعَالَى: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 وَقد يكون الْوَصْف فِي الْمُخَاطب، وَقد يكون فِي غَيره، نَحْو قَوْلك: اشرب المَاء إِن كَانَ عذبا، وتجنبه إِن كَانَ أجاجا. وَقد يكون الشَّرْط مُتَعَلقا بِغَيْر الْمُكَلف خَارِجا عَن مقدوره وَهُوَ نَحْو شرطنا فِي وجوب الْجُمُعَة حُضُور أَرْبَعِينَ فِي أَوْصَاف مضبوطة وحضورهم لَا يتَعَلَّق باقتدار كل مُكَلّف. (130) فصل [680] اعْلَم أَن كل مَا ثَبت شرطا فِي كَون الشَّيْء مَأْمُورا بِهِ لَا يدل بِنَفسِهِ على إجزائه، وَكَذَلِكَ الشَّرْط فِيهِ لَا ينبىء عَن الْإِجْزَاء فِيهِ أَيْضا، وَهَذَا مِمَّا قدمْنَاهُ. (131) فصل (681] اعْلَم أَن الْخطاب إِذا اشْتَمَل على جمل تستقل كل وَاحِدَة مِنْهَا لَو قدرت مُفْردَة وَقد نيطت وَاحِدَة مِنْهَا بِشَرْط فَلَا يَقْتَضِي ذَلِك تعلق الشَّرْط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 بِالْكُلِّ وَكَذَلِكَ إِذا تَتَابَعَت أَلْفَاظ عَامَّة ثمَّ ثَبت التَّخْصِيص فِي بَعْضهَا فَلَا يُوجب تَخْصِيصه تَخْصِيص مَا عداهُ إِذا اسْتَقَلت كل جملَة بِنَفسِهَا، وَكَذَلِكَ قد يتوالى أَمْرَانِ، وَأَحَدهمَا عِنْد الْقَائِلين بِالْوُجُوب مَحْمُول على حَقِيقَته فِي اقْتِضَاء الْإِيجَاب، وَالثَّانِي مَصْرُوف عَن حَقِيقَته، وأمثلة ذَلِك. فَأَما إِذا قُلْنَا أَن بعض الْخطاب قد يخْتَص مَعَ تَعْمِيم بعضه فَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلثة قُرُوء} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وبعولتهن أَحَق بردهن فِي ذَلِك} . فالمطلقات فِي صدر الْآيَة تعم الباينات والرجعيات. وَقَوله: {وبعولتهن أَحَق بردهن} مُخْتَصّ بالرجعيات وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِن طلقتموهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ وَقد فرضتم لَهُنَّ فَرِيضَة فَنصف مَا فرشتم} فَهَذَا يعم الصَّغَائِر والكبائر والمحجورات والمطلقات، ثمَّ قَالَ فِي آخر الْآيَة: {إِلَّا أَن يعفون} ، فاختص ذَلِك بالمطلقات العاقلات. [682] وَأما تتَابع الْأَوَامِر فِي سِيَاق من الْكَلَام مَعَ اخْتِلَاف الْمَقَاصِد فنحو قَوْله تَعَالَى: {كلوا منثمره إِذا أثمر وءاتوا حَقه يَوْم حَصَاده} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 فَقَوله تَعَالَى:: {كلوا من ثمره} على الْإِبَاحَة أَو النّدب دون الْإِيجَاب، وَقَوله تَعَالَى: {وءاتوا حَقه يَوْم حَصَاده} مَحْمُول على الْوُجُوب، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا واءتوهم} . فَمن زعم من الْفُقَهَاء أَن الإيتاء وَاجِب حمل قَوْله: {فكاتبوهم} . على النّدب وَقَوله: {وءاتوهم} على الْإِيجَاب، وَكَذَلِكَ قَوْله: (فطلقوهن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 [80 / أ] لعدتهن / وأحصوا وَالْعدة) وتكثر نَظَائِر ذَلِك فِي السّنة، مِنْهَا: قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " أَلا فزوروها وَلَا تَقولُوا هجرا " وَمِنْهَا: قَوْله: " انتبذوا فِي الظروف " وَاجْتَنبُوا كل مُسكر " وتكثر نَظَائِر ذَلِك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 (132) بَاب ذكر جمل مَا يخصص بِهِ مَعَ تَبْيِين أقسامها [683] اعْلَم أَن مَا يَقع بِهِ تَخْصِيص الْأَلْفَاظ الْعَامَّة على مَذَاهِب الْقَائِلين بِالْعُمُومِ يَنْقَسِم إِلَى أَدِلَّة يقطع بهَا، وتفضي إِلَى الْعلم، وَإِلَى مَالا تُفْضِي إِلَى الْقطع، وَلَا يُفْضِي إِلَى الْعلم. فَأَما الَّذِي يُفْضِي إِلَى الْقطع فَمِنْهُ أَدِلَّة الْعقل، وَمِنْه النُّصُوص الْمَقْطُوع بهَا الَّتِي لَا تقبل التَّأْوِيل وَالصرْف عَن مقتضاها وفحواها، لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا، وَمِنْهَا الْإِجْمَاع. وَأما الإمارات المنصوبة على اقْتِضَاء الْأَفْعَال دون الْعُلُوم فَهِيَ كأخبار الْآحَاد الَّتِي مِنْهَا الْأَقْوَال. وَمِنْهَا أَفعَال الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقَائِمَة مقَام الْأَقْوَال، على مَا سنفصل القَوْل فِيهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَمِنْهَا: المقاييس مَعَ اخْتِلَاف رتبها. وَمِنْهَا: آثَار الصَّحَابَة على مَذْهَب من يَرَاهَا حجَّة. وَنحن نتكلم أَولا فِي الْأَدِلَّة القاطعة، ثمَّ ننعطف على الإمارات الدَّالَّة على الْأَفْعَال دون الْعُلُوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 [684] ونبدأ بِدلَالَة الْعقل. فَاعْلَم أَن الْعقل مِمَّا يخصص بِهِ الْعُمُوم وَالْمعْنَى بقولنَا أَنه يخصص بِهِ الْعُمُوم، أَن الصِّيغَة الْعَامَّة فِي مَذَاهِب الْقَائِلين بِالْعُمُومِ إِذا وَردت وَاقْتضى الْعُقَلَاء امْتنَاع تعميمها فنعلم من جِهَة الْعقل أَن المُرَاد خُصُوص فِيمَا لَا يحيله الْعقل، فَهَذَا هُوَ الْمَعْنى بالتخصيص، وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ أَن الْعقل صلَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 للصيغة نازلة منزلَة الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل بالْكلَام، وَلَكِن المُرَاد بِهِ مَا قدمْنَاهُ من أَنا نعلم بِالْعقلِ أَن مُطلق الصِّيغَة لم يرد تعميمها. [685] وَقد أنكر بعض النَّاس تَخْصِيص الْعُمُوم بِدلَالَة الْعقل وَلَو ورد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 ذَلِك الِاخْتِلَاف إِلَى التَّحْصِيل آل الِاخْتِلَاف إِلَى التناقش فِي عبارَة لَا طائل تحتهَا. [686] وَالْأولَى فِي مفاتحة من يخالفك أَن تستدل بأتي من الْكتاب منطوية على صِيغ الْعُمُوم، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {الله خلق كل شَيْء} ، وَقَوله: {أَن الله على كل شَيْء قدير} . فَظَاهر الشَّيْء ينْطَلق على الْقَدِيم والحادث، ثمَّ عرفنَا بِدلَالَة الْعقل أَن الْقُدْرَة لَا تتَعَلَّق بِذَاتِهِ وَإِن كَانَ شَيْئا. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَات كل شَيْء رزقا} . عرفنَا بقضية الْعُقُول فِي مجاري الْعَادَات أَن ثَمَرَات جملَة الاشياء لَا تجبى إِلَيْهَا. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} فَظَاهر اسْم النَّاس مَحْمُول على الْعُقَلَاء والمجانين، وَعلمنَا بِالْعقلِ حمله على الْعُقَلَاء دون المجانين إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 غير ذَلِك من ظواهر الْكتاب وَالسّنة فَلَيْسَ فِيهَا صلات من حَيْثُ اللَّفْظ تحملهَا على بعض مسمياتها، وَلَكنَّا عرفنَا بقضية الْعقل فِي معتصمنا هَذَا أَن المُرَاد بهَا خُصُوص، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده. [687] وأمثال ذَلِك متقرر فِيمَا يتفاوض بِهِ أهل اللُّغَات فَإِن من قَالَ: رَأَيْت النَّاس عرفنَا بقضية الْعُقُول أَنه يَسْتَحِيل أَن يرى هُوَ جملَة النَّاس فِي [80 / ب] مجاري الْعَادَات، فنعلم / أَنه مَا أَرَادَ كلهم. [688]] فَإِن قيل: فَكيف تكون دلَالَة الْعقل مخصصة وَهِي قد تسبق على الْعُمُوم الْوَارِد، وَمن شَرط الْمُخَصّص أَن يكون مُتَّصِلا بالْكلَام الْمُخَصّص إِمَّا مُتَأَخِّرًا عَنهُ، وَإِمَّا مُتَقَدما عَلَيْهِ على الِاتِّصَال كالاستثناء. فَيُقَال لَهُم: تصور الْمَسْأَلَة يغنيكم عَن هَذَا التَّأْوِيل، فَإنَّا قدمنَا أَنا لَا نعني بالتخصيص بِدلَالَة الْعقل كَون الْعقل صلَة للْكَلَام فَيلْزم ذَلِك مَا ألزمتموه، وَإِنَّمَا [نعني] بذلك أَنا نعلم بقضية الْعقل أَن المُرَاد بالصيغة خُصُوص. [689] فَإِن قيل: فَنحْن نقُول بذلك، وَلَا نسمي ذَلِك تَخْصِيصًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 قُلْنَا: فالمقصد الِاتِّفَاق فِي الْمعَانِي وَلَا معنى للمناقشة فِي الْعبارَة [690] فَإِن قيل: إِنَّمَا يخصص من اللَّفْظ مَا يُمكن دُخُوله تَحْتَهُ وَالَّذِي يحيله الْعقل يَسْتَحِيل دُخُوله تَحت اللَّفْظ ليقدر تخصصه فِيهِ. قيل لَهُم: هَذَا من النمط الَّذِي قدرتموه، وَهَذَا اعْتِرَاف مِنْكُم بِالْمَقْصُودِ فَإِن محصول كلامنا يؤول إِلَى أَنا نعلم عقلا أَن الصِّيغَة غير عَامَّة، فقولكم مَا يحيله الْعقل لَا يدْخل تحتاللفظ تَأْكِيد مِنْكُم لمرامنا، فَإِن مقصدنا أَن نبين أَنه تبين فِي الْعقل أَن الصِّيغَة غير عَامَّة، وَلَيْسَ يقْصد أَن يثبت عُمُوما أَولا ثمَّ يعقبه باستخراج بعض المسميات من قَضِيَّة اللَّفْظ، لَا فَإِنَّهُ لَو ثَبت ذَلِك كَانَ ذَلِك نسخا وَلم يكن تَخْصِيصًا فَإِن التَّخْصِيص تَبْيِين المُرَاد بِاللَّفْظِ، لَا رَفعه بعد ثُبُوته، فَتبين الْمَقْصُود، ووضح أَن قصارى الْكَلَام يعود إِلَى عبارَة تنَازع فِيهَا. (133 ( فصل \ [691] إِذا وَردت صِيغَة يعم مثلهَا عِنْد أَهلهَا وَلَكِن أَجمعت الْأمة على أَنَّهَا لاتجري على شمولها فالإجماع مُخَصص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 لَهَا وَالْمعْنَى بِكَوْنِهِ مُخَصّصا أَنا نتبين بِهِ المُرَاد، من الصِّيغَة كَمَا [قَررنَا] فِي دلَالَة الْعقل، ولسنا نعني بذلك نصف الْإِجْمَاع صلَة فِي اللَّفْظ، وَقد خَالف فِي ذَلِك من خَالف فِي دلَالَة الْعقل. (134) فصل [692 -] اعْلَم، وفقك الله، أَن التَّخْصِيص إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الصِّيَغ الدَّالَّة على الْكَلَام الْقَائِم بِالنَّفسِ، فَأَما الْكَلَام الْحَقِيقِيّ الْقَائِم بِالنَّفسِ فَلَا يتَصَوَّر التَّخْصِيص فِيهِ فَإِنَّهُ وصف ثَبت لنَفسِهِ على مَا هُوَ عَلَيْهِ من وَصفه وَلَا يسوغ تَقْدِير وَصفه وجنسه، فَإِذا قَامَ بِالنَّفسِ كَلَام مُتَعَلق بالمسميات عُمُوما فَلَا يتَصَوَّر تخصيصها فَإِن تخصيصها قلب جِنْسهَا، وَكَذَلِكَ الْكَلَام الْخَاص الْقَائِم بِالنَّفسِ لَا يتَصَوَّر تعميمه فَإِنَّهُ فِيهِ قلب جنسه، وَهَذَا كَمَا لَا يتَصَوَّر قلب الْإِرَادَة علما وَالْعلم حَرَكَة، إِلَى غير ذَلِك من الْأَجْنَاس. الحديث: 692 ¦ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 فَيخرج لَك من هَذِه الْجُمْلَة أَن الْخُصُوص بعد تخيل الْعُمُوم وتوقعه إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الصِّيَغ وَهِي الْعبارَات دون حَقِيقَة الْكَلَام. [693] وَيَتَرَتَّب على هَذِه الْجُمْلَة أَن كَلَام الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَسْتَحِيل تَخْصِيص عَامَّة وتعميم خَاصَّة، فَإِن كَلَامه معنى قائ بِنَفسِهِ [81 / أ] متصفا / بالاتحاد مُتَعَلق بمتعلقاته، يجل ويتقدس عَن التَّغْيِير والتبديل، وَهَذَا وَإِن كَانَ يتَعَلَّق بالديانات فَلَا يَد أَن تحيط علما بِهِ. فَهَذِهِ جملَة مقنعة فِي التَّخْصِيص بِدلَالَة الْعقل وَالْإِجْمَاع، وَأما النُّصُوص فَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهَا فِي أَبْوَاب الْبَيَان إِن شَاءَ الله. (135) القَوْل فِي تَخْصِيص عُمُوم الْكتاب وَالسّنة الْمَقْطُوع بهَا باخبار الْآحَاد [694] اعْلَم وفقك الله أَن هَذَا بَاب عظم اخْتِلَاف الْعلمَاء فِيهِ فَذهب ذاهبون إِلَى نفي أَخْبَار الْآحَاد جملَة، فَلَا تفِيد مكالمتهم فِي الْبَاب قبل إِثْبَات أَخْبَار الآحادعليهم وَسَيَأْتِي فِي ذَلِك أَبْوَاب مقنعة إِن شَاءَ الله. [695] وَأما الْقَائِلُونَ بِقبُول أَخْبَار الْآحَاد الصائرون إِلَى أَنَّهَا توجب الْعَمَل افْتَرَقُوا فرقا فَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْعُمُوم يخصص بأخبار الْآحَاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 وَزعم هَؤُلَاءِ: أَن الْأَدِلَّة قد دلّت عَلَيْهِ. وَقد ذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه لَا يجوز تَخْصِيص الْعُمُوم بأخبار الْآحَاد وَقَالَ هَؤُلَاءِ قد دلّت الدّلَالَة على منع التَّخْصِيص بأخبار الْآحَاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 وَذَهَبت طَائِفَة مِنْهُم عِيسَى بن أبان إِلَى أَن الْعُمُوم إِن دخله التَّخْصِيص بطرِيق يقطع بِهِ جَازَ [تَخْصِيصه] بِخَبَر الْوَاحِد وَإِن لم يدْخلهُ التَّخْصِيص أصلا فَلَا يجوز افْتِتَاح تَخْصِيصه بِخَبَر الْوَاحِد وَهَذَا مَبْنِيّ على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 أصل لَهُ قد قدمْنَاهُ، وَهُوَ أَن الْعُمُوم إِذا خص بعضه صَار مُجملا فِي بَقِيَّة المسميات، لَا يسوغ الِاسْتِدْلَال بِهِ فِيهَا، فَيجْعَل الْخَبَر على التَّحْقِيق مثبتا حكما ابْتِدَاء، وَلَيْسَ سَبيله سَبِيل التَّخْصِيص إِذا حققته، فَإِنَّهُ لَا يجوز الِاسْتِدْلَال بِاللَّفْظِ الْمُجْمل فِي عُمُوم وَلَا خُصُوص قبل وُرُود الْخَبَر وَبعده، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه يجوز أَن يتعبد بتخصيص الْعُمُوم بِخَبَر الْوَاحِد، وَيجوز أَن يتعبد بالتمسك بِالْعُمُومِ وَترك خبر الْوَاحِد، وَكِلَاهُمَا جَائِز عقلا، وَلم تدل دلَالَة على أحد الْقسمَيْنِ. [696] وَمَا اخْتَارَهُ القَاضِي - رَضِي الله عَنهُ - مَعَ تَقْرِير القَوْل بِالْعُمُومِ أَن الْخَبَر الْمَنْقُول بطرِيق لَا يُوجب الْقطع مَعَ الْعُمُوم الثَّابِت أَصله بطرِيق يُوجب الْقطع إِذا اجْتَمَعنَا ولوقدرنا التَّمَسُّك بالْخبر لزم تَخْصِيص صِيغَة الْعُمُوم، وَلَو قَدرنَا إِجْرَاء الصِّيغَة على ظَاهرهَا فِي اقْتِضَاء الْعُمُوم لزم ترك الْخَبَر فَإِذا تقابلا فيتعارضان فِي الْقدر الَّذِي يَخْتَلِفَانِ فِيهِ وَلَا يتَمَسَّك بِوَاحِد مِنْهُمَا ويتمسك بالصيغة الْعَامَّة فِي بَقِيَّة المسميات الَّتِي لم يَتَنَاوَلهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 الْخَبَر الْخَاص فَينزل الْخَبَر مَعَ الْعُمُوم فِيمَا يخْتَلف فِيهِ ظاهرهما منزلَة خبرين [مختلفي] الظَّاهِر نقلا مطلقين. وعول فِيمَا صَار إِلَيْهِ على أَن القَوْل: إِذا قَررنَا القَوْل بِالْعُمُومِ فَلَا يمكننا ادِّعَاء الْقطع فِيهَا، فَإِنَّهَا عرضة التَّأْوِيل وَجوز مَعَ القَوْل بالشمول أَن المُرَاد بِهِ الْخُصُوص وَقد اقترنت بِهِ قرينَة اقْتَضَت تَخْصِيصًا، بيد أَنا كلفنا أَن نعمل بقضية الشُّمُول. وَكَذَلِكَ أصل نقل خبر الْوَاحِد مِمَّا لَا يثبت قطعا فَإِن نقلته غير [81 / ب] معصومين / عَن الزلل، وَلَكنَّا كلفنا الْعَمَل بِهِ على مَا نُقِيم الدّلَالَة عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فقد سَاوَى الْخَبَر ظَاهر الْعُمُوم فِي أَن وَاحِدًا مِنْهُمَا لَا يُفْضِي إِلَى الْعلم الْمَقْطُوع بِهِ وَلَيْسَ أَحدهمَا بالتمسك بِهِ أولى بِهِ من الآخر فَلَزِمَ الْمصير إِلَى التَّعَارُض. وأوثق مَا اعْتصمَ بِهِ أَن قَالَ: إِذا أبطلنا شُبْهَة المتمسكين بظاهرالعموم التاركين للْخَبَر، وأبطلنا شُبْهَة المتمسكين بالْخبر الصائرين إِلَى ترك ظَاهر الْعُمُوم فَلَا يبْقى بعد بطلَان شُبْهَة الطَّائِفَتَيْنِ إِلَّا التَّعَارُض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 [697] شُبْهَة الْقَائِلين بِأَن التَّمَسُّك بِالْعُمُومِ أولى إِذا ثَبت اصله مَقْطُوعًا بِهِ: فَإِن قَالُوا: أصل عُمُوم الْكتاب ثَبت قطعا، وَأما خبر الْوَاحِد فَلم يثبت قطعا والتمسك بِمَا ثَبت أَصله قطعا أولى. فَالْجَوَاب على ذَلِك من أوجه: أَحدهَا: أَن نقُول: لَو كَانَ على مَا قلتموه لزمكم على منع التَّمَسُّك بِخَبَر الْوَاحِد لَو قدر مُجَردا عَن مُعَارضَة عُمُوم. ثمَّ نقُول: لَو كُنَّا نتشبث بالْخبر إِلَى رفع أصل الْعُمُوم لَكَانَ مَا ذكرتموه يتَحَقَّق، وَنحن لَا نصير إِلَى ذَلِك اصلا، فَإِن القَوْل بِهِ ذهَاب إِلَى النّسخ، وَقد ثَبت أَن مَا ثَبت قطعا لَا ينْسَخ بِمَا لم يثبت قطعا فَإِنَّمَا يؤول الْكَلَام إِلَى اقْتِضَاء الشُّمُول، وَكَون اللَّفْظ مقتضيا للشمول لَيْسَ بثبات قطعان وَمَا هُوَ ثَابت قطعا، لَا يرفض بِخَبَر الْوَاحِد فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه، وَتبين أَن اقْتِضَاء اللَّفْظ للْعُمُوم مِمَّا لَا يقطع بِهِ وَلكنه يَقْتَضِي الْعَمَل، وَكَذَلِكَ خبر الْوَاحِد لَا يَقْتَضِي الْعلم وَيُوجب لعمل. [698] فَإِن قيل: فَنحْن نعلم أَن اللَّفْظ الْعَام يَقْتَضِي الْعَمَل بِالْعُمُومِ؟ قُلْنَا: وَكَذَلِكَ نعلم أَن خبر الْوَاحِد مَعَ كَونه مشكوكا فِي أَصله يَقْتَضِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 الْعَمَل كَمَا تَقْتَضِي شَهَادَة الشُّهُود على القَاضِي إبرام الحكم مَعَ انه لَا يستيقن صدقهم. [699] فَإِن قيل: إِنَّمَا يجب الْعَمَل بالْخبر إِذا لم يُعَارض عُمُوما. قُلْنَا: وَإِنَّمَا يجب الْعَمَل بِالْعُمُومِ إِذا لم يُعَارض خَبرا فتصادم الْقَوْلَانِ. [700] شُبْهَة أُخْرَى للمتمسكين بِالْعُمُومِ، فَإِن قَالُوا: لَو جَازَ تَخْصِيص الْعُمُوم بِخَبَر الْوَاحِد جَازَ نسخ النُّصُوص بأخبار الْآحَاد. قُلْنَا: هَذِه دَعْوَى، فَلم زعمتم ذَلِك وَمَا الْجَامِع بَين الْأَصْلَيْنِ؟ ثمَّ نقُول: نسخ حكم النَّص بِخَبَر الْوَاحِد مِمَّا لَا يستبعد عقلا، حَتَّى قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: لَو كلفنا صَاحب الشَّرِيعَة الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد قطعا وَلَكِن قَامَت الْإِجْمَاع على منع نسخ النُّصُوص الثَّابِتَة قطعا بأخبارالآحاد وَمَا انْقَطع إِجْمَاع مثله فِي منع التَّخْصِيص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 ثمَّ يُقَال: النّسخ: رفع الحكم الثَّابِت قطعا، والتخصيص سَبيله سَبِيل الْبَيَان إِذا نقصد بالتخصيص تَبْيِين أَن المُرَاد بالصيغة الإختصاص بِبَعْض المسميات. فَلم يسغْ اعْتِبَار أَحدهمَا بِالثَّانِي. فَهَذَا مَا عولت إِلَيْهِ الفئة. [701] فَأَما من قطع القَوْل بتخصيص الْعُمُوم بالْخبر الْخَاص فقد اسْتدلَّ بَان الْعُمُوم عرضة للتأويل، واللفظة المنقولة عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة لَا تقبل التَّأْوِيل فالتمسك بهَا وتنزيل الْمُحْتَمل عَن قضيتها تها أولى وَأَحْرَى. فَيُقَال لهَؤُلَاء: مَا قررتمونا من الِاحْتِمَال فِي اقْتِضَاء اللَّفْظ للْعُمُوم يَتَقَرَّر مثله فِي اصل نَقله الْآحَاد، فَإنَّا كَمَا لَا نقطع / باقتضاء الْعُمُوم، فَكَذَلِك [82 / أ] لَا نقطع بِثُبُوت أصل الْخَبَر، فالاحتمال فِي أحدهم كالاحتمال فِي الثَّانِي، وَلَو قدر كل وَاحِد مِنْهُمَا مُجَردا لزم التَّمَسُّك بِهِ، فَإِذا تقاومت الْبَيِّنَة لزم الْمصير إِلَى التَّعَارُض. [702] وَرُبمَا يسْتَدلّ بعض الطوائف الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ بقصص فِي زمَان أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرَضي عَنْهُم، وَلَا بُد من ذكرهَا ومعارضتها بأمثالها. حَتَّى تتقاوم طرق التَّمَسُّك بهَا. فَإِن قَالَ المتمسكون بِالْعُمُومِ: قد رُوِيَ أَن فَاطِمَة - رَضِي الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 عَنْهَا - بنت قيس رَوَت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَجْعَل للمبتوتة نَفَقَة وَلَا سُكْنى، فَقَالَ عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ -: لَا نَدع كتاب رَبنَا بقول امْرَأَة لَعَلَّهَا وهمت، أونسيت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 وتلا قَوْله تَعَالَى: {أسكنوهن من حَيْثُ سكنتم من وجدكم} وَوجه التَّمَسُّك بِهَذِهِ الْقِصَّة أَن عمر رَضِي الله عَنهُ رأى التَّمَسُّك بِالْعُمُومِ أولى من قبُول الْخَبَر الَّذِي روته فَاطِمَة. قيل: قد قابلكم مخالفكم بقصص ترك أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعُمُوم فِيهَا بالأخبار. مِنْهَا: أَنهم تركُوا ظَاهر قَوْله تَعَالَى فِي الْمُحرمَات بِمَا روى أَبُو هُرَيْرَة فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِك} ، فَاقْتضى ذَلِك تَحْلِيل سوى الْمَذْكُورَات فِي آيَة الْمُحرمَات، وروى أَبُو هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " لَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا وَلَا على خَالَتهَا ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وخصوا عُمُوم قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُم الله فِي أولدكم} مَعَ أَوْلَادكُم مَعَ تنَاوله للْقَاتِل من الْأَوْلَاد، بِمَا رَوَاهُ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " لَيْسَ للْقَاتِل من الْمِيرَاث شَيْء ". وَكَذَلِكَ خصصوا ظَاهر تَوْرِيث الْأَوْلَاد فِي حق فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا بِمَا رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " إِنَّا معشر الْأَنْبِيَاء لَا نورث " إِلَى غير ذَلِك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 ثمَّ زعم هَؤُلَاءِ أَن حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس إِنَّمَا ترك لعِلَّة فِي نقلهَا فَلَمَّا استرابوا فِيهَا لم يقبلُوا حَدِيثهَا فتقابلت الدعاوي إِذا، وَتعين بعد ذَلِك الْمصير إِلَى التَّعَارُض. وَأما الرَّد على من قَالَ: إِن الْخَبَر يقبل فِي عُمُوم دخله التَّخْصِيص بِدَلِيل قَاطع. فَيُقَال: هَل تجوزون اسْتِعْمَال الصِّيغَة المحتملة من غير وُرُود خبر فِي بَقِيَّة المسميات على التَّحْقِيق أم لَا تجوزون ذَلِك؟ فَإِن حكمتم بالصيغة بِأَن بالتخصيص تصير مجملة فقد سبق الْكَلَام عَلَيْكُم وَإِن زعمتم أَنَّهَا حَقِيقَة فِي بَقِيَّة المسميات فَوجه الْكَلَام فِي بَقِيَّة المسميات كوجه الْكَلَام فِي كلهَا. (136) القَوْل فِي تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ [704] اخْتلف فِي هَذَا الْبَاب، وتميز من هَذَا الْبَاب مَذْهَب نفاة الْعُمُوم، ونفاة الْقيَاس. فَإِن مَضْمُون الْبَاب مترتب على القَوْل بهما عِنْد الِانْفِرَاد، فَمن قَالَ [بهما] افْتَرَقُوا فَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْعُمُوم أولى من الْقيَاس وَإِلَيْهِ صَار طَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين وَإِلَيْهِ صَار ابْن مُجَاهِد من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 اصحابنا، والجبائي وَابْنه، من الْمُعْتَزلَة ثمَّ رَجَعَ ابْن الجبائي عَن هَذَا الْمَذْهَب، وَصَارَ الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء من أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأبي حنيفَة إِلَى وجوب تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ جليا كَانَ أَو خفِيا، [82 / ب] وَإِلَيْهِ صَار شَيخنَا أَبُو الْحسن رَضِي الله عَنهُ، وَذهب شرذمة من الْفُقَهَاء / الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 إِلَى تَخْصِيص الْعُمُوم بالجلي من الْقيَاس دون الْخَفي. وَذهب آخَرُونَ إِلَى التَّفْصِيل الَّذِي قدمْنَاهُ] فِي الْبَاب السَّابِق فَقَالَ: إِن ثَبت بِدلَالَة قَاطِعَة فَلَا يسوغ تَخْصِيصه بِالْقِيَاسِ. [705] وكل مَا ذَكرْنَاهُ فِي الأقيسة الشَّرْعِيَّة، وَأما الْعَقْلِيَّة فَإِنَّهَا قواطع، وَقد سبق الْكَلَام فِي أَدِلَّة الْعقل. [706] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالَّذِي نختاره أَن الْقيَاس إِذا عَارض الْعُمُوم لم يكن أَحدهمَا أولى من الآخر فيتعارضان، وَيجب الِاشْتِغَال بِغَيْرِهِمَا من الْأَدِلَّة، وَاسْتدلَّ على مَا صَار بِأَن قَالَ: قد ثَبت أَن اقْتِضَاء الشُّمُول غير مَقْطُوع بِهِ، وَثُبُوت الْقيَاس على [التَّعْيِين] فِي الصُّورَة الَّتِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 يجْتَمع فِيهَا والعموم غيرمقطوع بِهِ، وَلم تثبت دلَالَة عقلية بتسليط أحدهم على الاخر، فَإِن الْعقل يجوز كل وَاحِد مِنْهُمَا وَلَيْسَ فِي أَدِلَّة السّمع مَا يُوجب ذَلِك الْمَعْنى فَإِن الْأَدِلَّة القاطعة السمعية مضبوطة فَمِنْهَا النُّصُوص الثَّابِتَة قطعا، وَمِنْهَا الْإِجْمَاع، وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَة وَاحِد مِنْهُمَا. ثمَّ أرْدف الدَّلِيل بِأَن قَالَ: أذكر شبه الْمُخْتَلِفين فِي الْبَاب وأتتبعها بِالنَّقْضِ حَتَّى إِذا انتقضت وتقابلت الْأَقْوَال فَلَا يبْقى إِلَّا مَا ارتضيت. [707] شبه السائرين إِلَى تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ. فَإِن استدلوا بِأَن قَالُوا: الْقيَاس إِذا ثَبت فَلَا يَصح نَقله وَلَا التَّجَوُّز بِهِ وَلَا تَخْصِيصه، وَلَيْسَ كالعموم فَإِنَّهُ يقبل التَّخْصِيص والتجوز، وللتوسع مجَال فِي الْأَلْفَاظ الْعَرَبيَّة، فَمَا لَا يقبل ذَلِك أولى بالثبوت. فَيُقَال لهَؤُلَاء: كل مَا قررتموه من الِاحْتِمَال فِي الْعُمُوم يَتَقَرَّر اضعافه فِي الْقيَاس، فَإنَّا نجوز أَن يكون الْقيَاس الَّذِي تمسك بِهِ الْمُخَصّص غير صَحِيح على الشَّرَائِط، وَرُبمَا لم يستكمل الْمُجْتَهد أَوْصَاف الِاجْتِهَاد، وَرُبمَا قصر فِي الِاجْتِهَاد، عَامِدًا اَوْ مخطئا، وَرُبمَا قصر فِي استنباط وَجه الشّبَه فَلم يلْحق الشَّيْء بمشابهه وَرُبمَا زل فِي الطّرق الَّتِي تثبت بهَا الْعِلَل، فَتبين بذلك تقَابل الجائزات فِي أصل الْقيَاس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 [708] فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا قَوْلنَا فِي قِيَاس يَصح. قُلْنَا: فلانتصور فِي المجتهدات قِيَاسا يقطع بِصِحَّتِهِ، ثمَّ إِن صورتم قِيَاسا قَاطعا فصوروا صِيغَة يقطع بعمومها فَبَطل مَا قَالُوهُ جملَة وتفصيلا [709] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم، قَالُوا: فِي تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ اسْتِعْمَال إبِْطَال أَحدهمَا، واستعمالهما أولى وعنوا بذلك أَن الْقيَاس الْمُخَصّص يتسلط على بعض مُقْتَضى الْعُمُوم فَيبقى بَقِيَّة المقتضيات. فَيُقَال: هَذَا محَال، فَإِن التَّعَارُض إِنَّمَا يتَحَقَّق بَين الْقيَاس وَالْقدر الَّذِي يخصص من الْعُمُوم، فَأَما مَا لَا يتَنَاوَلهُ الْقيَاس من قَضِيَّة الْعُمُوم فَلَا يتَحَقَّق اجْتِمَاع الدَّلِيلَيْنِ فِيهِ. وَالْمَقْصُود من ذَلِك أَن الْقدر الَّذِي تحقق اجْتِمَاع اللَّفْظ وَالْقِيَاس فِيهِ تركْتُم فِيهِ قَضِيَّة اللَّفْظ، وَالْقدر الَّذِي بَقِي من اللَّفْظ لم يمانعه الْقيَاس فَنزل اللَّفْظ فِي بَاقِي المسميات منزلَة اللَّفْظ الْأُخْرَى فَبَطل / ادِّعَاء اسْتِعْمَال [83 / أ] الدَّلِيلَيْنِ فِي مَحل الِاجْتِمَاع فِي الدَّلِيلَيْنِ. 3 ب 710] شُبْهَة الْقَائِلين بِتَقْدِيم الْعُمُوم على الْقيَاس. فَإِن قَالُوا: الدَّلِيل على ذَلِك أَن الْعُمُوم من لفظ صَاحب الشَّرِيعَة يجوز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 أَن يكون أصلا للمقاييس وَهِي تتفرع عَنهُ وتستنبط مِنْهُ فَإِنَّهُ إِذا ثَبت حكم بقضية عُمُوم سَاغَ استنباط علته وإلحاق غَيره بِهِ وَإِذا ثَبت كَون الْعُمُوم اصلا وَالْقِيَاس فرعا لم يستقم ترك الأَصْل بفرعه. وَهَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل من أوجه أقربها أَن نقُول لَيست كل المقاييس مستنبطة من المعلومات وَلَكِن مِنْهَا مَا يستنبط من مواقع الْإِجْمَاع وَمن موارد النُّصُوص، وَإِطْلَاق القَوْل بِأَن الْقيَاس والعبر فروع للعمومات غير مُسْتَقِيم، وَإِن تصور أَن يكون فرعا لبَعض الْعُمُوم، فَإِن مَا يكون للفظ لم يُقَابله قِيَاس يناقضه وَثَبت عُمُومه وَإِنَّمَا نَحن فِي صِيغَة قابلها قِيَاس. ثمَّ التَّحْقِيق فِي ذَلِك أَن نقُول: إِذا استنبطنا فِي ذَلِك قِيَاسا من مورد عُمُوم تثبيت عُمُومه، وانتفى تَخْصِيصه فَإِن أردنَا أَن نخصص بِهِ عُمُوما هُوَ عرضة التَّخْصِيص فَهَذَا الْقيَاس لَيْسَ بفرع لهَذَا الْعُمُوم الَّذِي فِيهِ الْكَلَام وَإِنَّمَا فرع لعُمُوم غَيره وَكَونه فرعا لغيره لَا يُوجب كَونه فرعا لَهُ. [711] فَإِن قيل: فالعمومان مثلان؟ قُلْنَا: هَيْهَات فَإِن الْعُمُوم الَّذِي استنبط الْقيَاس من موارده اسْتَقر عُمُومه وَلم يُعَارضهُ مَا يمْنَع تعميمه وإجراءه على شُمُوله. [712] فَإِن قيل: أجيزوا النّسخ بِالْقِيَاسِ، قُلْنَا: قد سبق الْجَواب عَن مثل هَذَا السُّؤَال فِي الْمَسْأَلَة الأولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 [713] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن قَالُوا: الأقيسة الشَّرْعِيَّة تستند إِلَى عِلّة غير مَنْطُوق بهَا وَلكنهَا مستنبط [تحريا] واجتهاداً والعموم مَنْطُوق بِهِ والمنطوق بِهِ أولى. قيل لَهُم: فَظَاهر مَا قلتموه يبطل عَلَيْكُم بِدلَالَة الْعقل فَإِنَّهَا رُبمَا تكون عشير مَنْطُوق بهَا فِي دلالات الشَّرِيعَة ثمَّ تخصص الصِّيَغ الْمَوْضُوعَة للْعُمُوم، ثمَّ نقُول من سلط الْقيَاس على التَّخْصِيص لَا يسلم لكم أَن الشُّمُول مَنْطُوق بِهِ فَإِنَّهُ لَو سلم ذَلِك ثمَّ أدّعى رفع مَا هُوَ مَنْطُوق بِهِ كَانَ نَاسِخا وَلكنه يَقُول إِنَّمَا الْمَنْطُوق بِهِ مَا أُرِيد بِاللَّفْظِ، وَإِنَّمَا اريد بِاللَّفْظِ الْقدر الَّذِي لم يُعَارضهُ فِيهِ قِيَاس. [714] فَإِن قَالُوا: أَلَيْسَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِمعَاذ بن جبل: بِمَ تحكم يَا معَاذ؟ قَالَ: بِكِتَاب الله، قَالَ: فَإِن لم تَجِد؟ قَالَ: فبسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: فان لم تَجِد؟ قَالَ: اجْتهد رَأْيِي فأقره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا قَالَه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 صفحة فارغة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 يُقَال لَهُم: هَذِه اللَّفْظَة بِعَينهَا من أَخْبَار الْآحَاد، وَإِن كَانَت قصَّة بعثة معَاذ مِمَّا ثَبت تواترا، ثمَّ نقُول: فيلزمكم أَن لَا تخصصوا عُمُوم الْكتاب بالْخبر الْمَنْقُول عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تواترا فَإِن ظَاهر مَا قَالَه تَقْدِيم الْكتاب [على] جنس السّنة. ثمَّ نقُول: لم يذكر فِيمَا ذَكرْنَاهُ حكم الْعقل وَإِن كَانَ ينزل عَلَيْهِ جملَة ذكر المعلومات أولى. [715] فَأَما وَجه الرَّد على الْفَاصِل بَين خَفِي الأقيسة وجليها، فَإِنَّمَا يسْتَمر بَان نذْكر لَك فِي أَبْوَاب / المقاييس مَرَاتِب الأقيسة على أَنا نقُول: [83 / ب] قِيَاس الشّبَه يُوجب الْعَمَل مَعَ كَونه مظنونا فِي أَصله، وَكَذَلِكَ الْعُمُوم فَإِذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 لم يتَحَقَّق فِي وَاحِد مِنْهُمَا قطع لم يكن أَحدهمَا بالإسقاط بِأولى من الثَّانِي. [716] فَإِن قَالَ قَائِل: فأقيسة الشّبَه اضعف، والعموم أظهر، كَانَ ذَلِك قَول لَا يتَحَصَّل مِنْهُ طائل عِنْد الرَّد إِلَى التَّحْقِيق فَإِن الْعلم لَا يطْلب من وَاحِد مِنْهُمَا وَالْعَمَل يثبت بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا. [717] ثمَّ إِن القَاضِي رَضِي الله عَنهُ لما أبطل شبه الْقَوْم على وَجه يرشدك إِلَى إبِْطَال كل مَا يوردونه وَجه فِي على نَفسه سؤالا وجده من أهم الأسئلة وَذَلِكَ أَنه قَالَ: إِن قَالَ قَائِل: من صَار إِلَى التَّعَارُض فقد خرق الْإِجْمَاع فَإِن من النَّاس من يقدم الْعُمُوم على الْقيَاس، وَمِنْهُم من يقدم الْقيَاس، فَأَما الْمصير إِلَى التَّعَارُض فَمَا صَار إِلَيْهِ أحد. ثمَّ أجَاب عَن ذَلِك بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا أَنه قَالَ مصيرنا إِلَى التَّعَارُض مصير إِلَى رد الْقيَاس فِي صُورَة التَّعَارُض، ورد الْعُمُوم، وَقد قَالَ برد الْعُمُوم على الْجُمْلَة قَائِلُونَ، وَقَالَ برد الْقيَاس آخَرُونَ، فَإِذا جَمعنَا بَين المذهبين فِي صُورَة التَّنَازُع لَا ننتسب إِلَى الْمُخَالفَة. [718] فَإِن قيل: فَمن قَالَ بِالرَّدِّ عمم القَوْل فِيهِ، فتخصيص هَذِه الصُّورَة بِالرَّدِّ مِمَّا لم يسْبقُوا إِلَيْهِ. قُلْنَا: هَذَا كَلَام لَا طائل تَحْتَهُ فَإنَّا قد ثبتنا أَن عين مَا قُلْنَاهُ مَنْقُول فِي الْمذَاهب، وَمَا ذكرتموه من التَّخْصِيص لَا يلْزمنَا مِمَّا فِيهِ كلامنا خرق الْإِجْمَاع. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن طَائِفَة من الْعلمَاء لَو صَارُوا إِلَى تَحْلِيل فِي صُورَة متباينة،، وَصَارَ آخَرُونَ إِلَى التَّحْرِيم فِيهَا، فَلَو اجْتهد مُجْتَهد فَأخذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 بقول المحللين فِي صُورَة، وَبقول المحرمين فِي صُورَة أُخْرَى فَلَا يعد خارقا للْإِجْمَاع، فَإِن خرق الْإِجْمَاع لَا يَتَقَرَّر فِي صُورَتَيْنِ مختلفتين وَهَذَا مِثَال مَا ألزمونا. [719] وَالْجَوَاب الآخر أَن الَّذين صَارُوا إِلَى رد الْعُمُوم أَو الْقيَاس لَيْسُوا كل الْعلمَاء الَّذين ينْعَقد بهم الْإِجْمَاع، فَإِن فِي النَّاس من نفى المقاييس فَلَا يقوم الْحجَّة إِذا بالذين ردوا الْعُمُوم أَو الْقيَاس عِنْد التَّعَارُض. [720] فَإِن قيل: قد خالفتم نفاة الْقيَاس أَيْضا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 قُلْنَا: مَا خالفناهم فِي صُورَة التَّنَازُع فَانْدفع السُّؤَال وانجلى الْإِشْكَال. (137) القَوْل فِي يخصص الْعُمُوم بقول الصَّحَابِيّ رَضِي الله عَنهُ [721] اخْتلف أَولا فِي أَن قَول الصَّحَابِيّ هَل ينْتَصب حجَّة وسنقرر ذَلِك فِي آخر الْكتاب إِن شَاءَ الله عز وَجل. فَمن لم يَجعله حجَّة و [هُوَ] مَا نختاره لم يتخصص بِهِ، وَهُوَ كَمَا لَا يتخصص بقول وَاحِد من مجتهدي الْعَصْر. وَمن رَآهُ حجَّة افْتَرَقُوا فِي ذَلِك فَمنهمْ من صَار إِلَى تَخْصِيص الْعُمُوم بقول الصَّحَابِيّ وَقد [ينْسب] ذَلِك إِلَى الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله الَّذِي يُقَلّد الصَّحَابِيّ فِيهِ، وَنقل عَنهُ أَنه لَا يخصص بِهِ إِلَّا إِذا انْتَشَر فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 أهل الْعَصْر وَلم ينكروه، وَجعل / ذَلِك نَازل منزلَة الْإِجْمَاع وَالَّذِي [84 / أ] يَصح أَن ذَلِك لَا يكون إِجْمَاعًا لما سنقرره إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي أَبْوَاب الْإِجْمَاع فَيخرج لَك من مَضْمُون مَا نختاره، أَن قَول الصَّحَابِيّ لَيْسَ بِحجَّة على الْمُجْتَهدين وَلَو انْتَشَر فَلَا يكون إِجْمَاعًا، وَإِن اتّفق الْإِجْمَاع فقد سبق القَوْل فِي تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْإِجْمَاع. [722] فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا قُلْتُمْ بتخصيص الصَّحَابِيّ، فَإِن الظَّن بِهِ أَنه لَا [يخصصه] إِلَّا بِمَا يُوجب تَخْصِيصه. قُلْنَا: هَذَا بِعَيْنِه سُؤال من لم يلْزم قبُول قَوْله وَيثبت ابْتِدَاء الْأَحْكَام. ثمَّ نقُول إِذا كَانَ بصدد الزلل وَقد ثَبت عندنَا أَن من كَانَ هَذَا نَعته فَلَا يحْتَج بقوله: فَكَمَا يجوز ترقب زلته فِي الإنباء عَن أصل الْأَحْكَام فَكَذَلِك فِي الْإِخْبَار عَن التَّخْصِيص والتعميم. (138) القَوْل فِي أَنه هَل يجب تَخْصِيص الْعُمُوم بقول الرَّاوِي أَو بمذهبه؟ [723] أما الْكَلَام فِي التَّخْصِيص بقول الصَّحَابِيّ وهم الروَاة الناقلون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 فقد سبق وَبينا أَن قَول الصَّحَابِيّ فِي التَّخْصِيص لَا يلْزم قبُوله ويتنزل منزلَة قَوْله فِي سَائِر الْأَحْكَام. [724] فَإِن قَالَ قَائِل: فَإِن نقل الصِّيغَة [الْعَامَّة] وَذكر مَعَ ذَلِك أَنِّي اضطررت إِلَى برأة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التَّخْصِيص بقرائن الْأَحْوَال فَهَل يقبل ذَلِك مِنْهُ؟ قُلْنَا: أجل، فَإِن هَذَا لَيْسَ من قبيل الإجتهاد، وَإِنَّمَا هُوَ نقل مَا علمه اضطرارا وَنَقله مَقْبُول وفَاقا، فَإِن كَانَ مَا يبْدَأ بِهِ اجتجاجا فَرُبمَا لَا يقبل. [725] فَإِن قَالَ قَائِل: فَإِذا روى الصَّحَابِيّ خَبرا ومذهبه بِخِلَاف ظَاهر عُمُوم اللَّفْظ الَّذِي نَقله، فَمَا قَوْلكُم فِيهِ؟ قُلْنَا: مَسْأَلَتنَا عَن ذَلِك لَغْو مَعَ تصريحنا بِأَنَّهُ لَو خصصه وَصرح بتخصيصه لم يلْزم قبُوله. وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك فَذهب بَعضهم إِلَى أَن مَذْهَب الرَّاوِي إِذا اقْتضى نفي التَّعْمِيم خصص اللَّفْظ الَّذِي نَقله وَذهب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 إِلَى أَن مُجَرّد مذْهبه لَا يُوجب ذَلِك وَلَكِن إِن صدر ذَلِك الْمَذْهَب ومصدره التَّأْوِيل والتخصيص فَيقبل وتخصيصه أولى. [726] وَأما الَّذِي ارتضيناه فَهُوَ أَن تَخْصِيصه كتخصيص أحد مجتهدي الزَّمَان وَقد دللنا عَلَيْهِ بأوضح طَرِيق. [727] فَإِن قيل: أَفَرَأَيْتُم لَو أظهر دَلِيلا؟ قُلْنَا: إِن كَانَ قَاطعا فالتخصيص بِهِ لَا بقول الصَّحَابِيّ، وَإِن كَانَ من أَخْبَار الْآحَاد أَو من المقاييس فقد يبْقى القَوْل فِي الْعُمُوم إِذا قابله خبر، أَو قِيَاس، وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن الصَّحَابِيّ رَضِي الله عَنهُ فِي ذَلِك لَا أثر لَهُ وَقَوله كَقَوْل غَيره. 3 [728] فَإِن قيل: فَبِمَ تنكرون على من يَقُول إِذا أطلق الصَّحَابِيّ التَّخْصِيص وَلم يسْندهُ إِلَى قِيَاس وَطَرِيق اجْتِهَاد، فدلالته ثَبت عَنهُ نَص قَاطع؟ قيل: هَذَا محَال وَلَا يسوغ تثبيت النُّصُوص بِمثل هَذَا وَلَيْسَ هَذَا الْقَائِل بأسعدحالا مِمَّن يقلب عَلَيْهِ وَيَقُول لَو قَالَه عَن نَص لنقله، فانحسمت هَذِه الْأَبْوَاب وَوَجَب قصر التَّخْصِيص / على الدّلَالَة. [84 / [] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 (139) القَوْل فِي الصَّحَابِيّ إِذا قدر مَالا يدْرك تَقْدِيره بِالْقِيَاسِ هَل يحمل ذَلِك على أَنه قدره توقيفا؟ [729] هَذَا الْبَاب يشْتَمل على فُصُول مُتَفَرِّقَة فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص وَنحن نجمع جملها فِي فُصُول إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فصل [730] ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ غير مُتَعَلق بالخصوص والعموم مِمَّا شابهت أَدِلَّة الْمَسْأَلَة السَّابِقَة، وَهِي التَّخْصِيص بقول الرَّاوِي، ذكره هَهُنَا. فَإِذا نقل عَن الصَّحَابِيّ رَضِي الله عَنهُ تَقْدِير فِي حد اَوْ كَفَّارَة أَو نَحْوهَا فقد صَار أَصْحَاب أبي حنيفَة إِلَى أَن نقل ذَلِك يدل على ثُبُوت خبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن الصَّحَابِيّ إِذا نقل عَنهُ التَّقْدِير وَهُوَ مِمَّا لَا يدْرك فِي المقاييس وَلَا نظن بِهِ إبداع الحكم من تِلْقَاء نَفسه من غير دَلِيل فنعلم [أَنه مَا] قَالَه إِلَّا عَن تَوْقِيف وَذهب بعض أهل الْعرَاق إِلَى أَن ذَلِك القَوْل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 الصَّادِر إِن صدر من مُجْتَهد فَلَا يمكننا أَن نسنده إِلَى خبر، لجَوَاز أَن يكون قَالَه عَمَّا ظَنّه اجْتِهَادًا صَحِيحا، وَإِن صدر عَمَّن لَيْسَ بمجتهد وَهُوَ موثوق بِهِ فنعلم أَنه مَا قَالَه إِلَّا عَن غبر. [31] وَالَّذِي يَصح عَن كَافَّة الْمُتَكَلِّمين وَأَصْحَاب الشَّافِعِي أَنا لَا نقدر فِي هَذَا الْمِثَال خَبرا مَا لم ينْقل صَرِيحًا. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه رُبمَا يقدر بِاجْتِهَادِهِ ظَانّا أَن التَّقْدِير بِالِاجْتِهَادِ جَائِزا، وَيجوز أَن لَا يكون مُجْتَهدا ويظن نَفسه مُجْتَهدا أَو يكون مُجْتَهدا [فيزل] فِي اجْتِهَاده أَو يُقَلّد صحابيا ويعتقد جَوَاز التَّقْلِيد فَإِذا تقابلت هَذِه الجائزات استمال تثبيت خبر استنباطا. [732] وَأما مَا عولوا عَلَيْهِ فِي صدر كَلَامهم فمبناه على منع الْقيَاس فِي الْمَقَادِير وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِك فانا نستدل إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي تثببيت المقاييس فِي المقدرات فِي أَبْوَاب الْقيَاس إِن شَاءَ الله تَعَالَى على أَن نقُول وَإِن سلمنَا فِي منع الْقيَاس فوجوه الْغَلَط لَا تنحسم فِي حق من لَا يعْصم وَلَا سَبِيل إِلَى تَقْدِير الْأَخْبَار مَعَ تقَابل وُجُوه الْإِمْكَان. [733] فَإِن قيل: فَلَو صدر مثل هَذَا القَوْل عَن صَحَابِيّ ابْتَدَأَ ثمَّ اجمعت الْأمة على تصويبه فَمَا قَوْلكُم فِي هَذِه الصُّورَة؟ هَل تَقولُونَ: إِن إِجْمَاعهم على تصويبه دَال على تثبيت خبر. قُلْنَا: هَذَا لَا يَنْقَسِم القَوْل فِيهِ فَإِن أَجمعُوا على تصويبه وَلم يجمعوا على منع دركه بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَاد فَيثبت الحكم قطعا، وَيبقى مَا يسْتَند إِلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 الْإِجْمَاع على التّرْك، فَيجوز أَن يكون خَبرا، وَيجوز أَن يكون ضربا من الِاجْتِهَاد، وَإِن أَجمعُوا على الحكم وعَلى منع الْقيَاس فِي مثله فيستند لحكم حِينَئِذٍ إِلَى تَوْقِيف، فَإِن أَدِلَّة الشَّرْع الَّتِي يسْتَند الْإِجْمَاع إِلَيْهَا لَا تخرج عَن لَفْظَة شَرْعِي مَعَ مَا يَلِيق بِهِ من مُقْتَضَاهُ أَو عَن مستنبط من ثَابت بِلَفْظ شَرْعِي، فَإِذا ثَبت الْإِجْمَاع انسد إِذا اُحْدُ الْبَابَيْنِ [و] ثَبت الثَّانِي لَا محَالة. (140) فصل [734] ذهب عِيسَى بن أبان إِلَى أَن إِمَامًا من الْأَئِمَّة فِي الصَّحَابَة إِذا [85 / أ] بلغه خبر ثمَّ رَأَيْنَاهُ يعْمل بِخِلَافِهِ فعمله / بِخِلَاف الْخَبَر الَّذِي لَا يقبل التَّأْوِيل دَلِيل على أَنه مَنْسُوخ وَاسْتشْهدَ بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ " الْبكر بالبكر جلد مئة وتغريب عَام ". ثمَّ رُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 الله عَنهُ أَنه قَالَ: " لَا أغرب بعد هَذَا أبدا ". وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ كفى بِالنَّفْيِ فتْنَة فعملهما مَعَ بُلُوغ الْخَبَر إيَّاهُمَا دَلِيل على نسخه، فَإنَّا لَا نظن بِمن فِي مثل حَالهمَا الانحراف والحيد عَن سنَن الْحق، وَلَا محمل فِي فعلهمَا سوى أَن نقُول عرفا نسخ الحَدِيث فَلم يعملا بِهِ. [735] وَهَذَا بَاطِل وَقد بَينا فِيمَا قدمنَا منع التَّخْصِيص بِمُجَرَّد قَول الصَّحَابِيّ، والنسخ أرفع مِنْهُ فَإِذا امْتنع التَّخْصِيص فالنسخ بذلك أولى، على أَنا نقُول: فِي الِانْفِصَال عَمَّا خيل إِلَى عِيسَى بن أبان، لَعَلَّه اعْتقد نسخه بِخَبَر مُرْسل نَقله إِلَيْهِ تَابِعِيّ، والمراسيل لَيست بِحجَّة عندنَا، أَو لَعَلَّه اعْتقد تَخْصِيص الْخَبَر بِحَال، أَو شخص، أَو وصف، أَو رِعَايَة مصلحَة متخصصة بِزَمَان، وَالْأَمر على خلاف مَا قدر فَإِنَّهُ بصدد الزلل فَمَعَ إِمْكَان ذَلِك كُله كَيفَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 يسوغ ادِّعَاء النّسخ ثمَّ نقُول لَهُم مَا استشهدتم بِهِ من حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ من أوضح الْأَدِلَّة على أَنه لَا نسخ فِيهِ فَإِنَّهُ غرب فِي زَمَانه فَافْتتنَ الْمغرب فَقَالَ بعد ذَلِك: لَا أغرب بعده أبدان فَلَو كَانَ سَبيله سَبِيل النّسخ لما غرب أصلا فَإِن النّسخ لَا يَتَجَدَّد بعد مَا اسْتَأْثر الله نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [736] إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ رَضِي الله عَنهُ: امْر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكَذَا فَهَل يَجْعَل ذَلِك كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " أَمرتكُم "، أَو كَقَوْلِه: " افعلوا:؟ اخْتلف أَرْبَاب الْأُصُول فِي ذَلِك فَذهب بَعضهم إِلَى أَن ذَلِك فَنزل منزلَة لفظ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا فرق بَين أَن يَقُول الرَّاوِي أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالصَّلَاةِ، وَبَين أَن يَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلوا، وَذهب بَعضهم إِلَى أَن النَّاقِل إِن كَانَ من العارفين باللغة فَيجْعَل قَوْله أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كنقله لفظ الْأَمر مِنْهُ وَإِن لم يكن عَالما باللغة فَلَا يَجْعَل كَذَلِك. [737] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالصَّحِيح عندنَا] فِي ذَلِك وَأَمْثَاله أَن نقُول: إِن كَانَ الْمَعْنى الَّذِي نَقله بِحَيْثُ تعتور عَلَيْهِ الْعبارَات المحتملة ويسوغ فِي فحواها ومقتضاها الِاجْتِهَاد فَإِذا نقل على الْوَجْه الَّذِي صورناه فَلَا يَجْعَل نَقله فِي ذَلِك كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن كَانَ ذَلِك الْمَعْنى الَّذِي رَوَاهُ بِحَيْثُ لَا تخْتَلف عَلَيْهِ الْعبارَات وَلَا يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد فَهُوَ كنقل قَوْله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 وإيضاح ذَلِك أَنه إِذا قَالَ أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فالصيغ فِي هَذَا السَّبَب تخْتَلف و [للِاجْتِهَاد] فِيهَا أعظم المجال فَإِن من النَّاس من توقف فِي الْأَمر، وَمِنْهُم من رَآهُ على الْوُجُوب أَو على النّدب، اَوْ على الْإِبَاحَة، فَلَا نَأْمَن فِي مثل هَذِه الْحَالة أَن يُؤَدِّي اجْتِهَاده إِلَى جِهَة أُخْرَى من الْجِهَات، فينقل على قَضِيَّة الِاجْتِهَاد، فَإِذا الْتبس الْحَال كلفنا النَّاقِل أَن ينْقل [عين] لفظ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. بِالشُّفْعَة / للْجَار [85 / ب] فَنَقُول: الحكم يَنْقَسِم فَرُبمَا يكون فعلا لَا صِيغَة لَهُ، وَرُبمَا يكون لفظا مَخْصُوصًا بِحَال اَوْ شخص، فَلَا يثبت الْعُمُوم بقول الرواي إِلَّا أَن يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشُّفْعَة للْجَار. [378] وَذهب بعض من لَا تَحْقِيق وَرَاءه إِلَى الْفَصْل بَين أَن يَقُول الرَّاوِي: قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للْجَار وَبَين أَن يَقُول: قضى بِأَن الشُّفْعَة للْجَار. وَلَا فصل بَينهمَا عندنَا وَلَو تأملتها ألفيتهما على الِاحْتِمَال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 [739] وَالْجُمْلَة فِيمَا نختاره أَنا لَا نثبت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَبرا من غير نقل وَلَا نثبت فِي خَبره صفة تَقْتَضِي تعميما أَو تَخْصِيصًا من غير نقل. (142) فصل [740] ذكره القَاضِي رَضِي الله عَنهُ رمزا، وأحاله على أَبْوَاب الْقيَاس وَهَذَا انه قَالَ: إِذا نقل عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكم مُعَلّق على عِلّة لزم تَعْمِيم الحكم مَعَ اطراد الْعلَّة، وَذَلِكَ مثل أَن يرْوى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه رجم ماعزا لِأَنَّهُ زنى. [741] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَقد اخْتلف الأصوليون فِي أَن علل صَاحب الشَّرِيعَة هَل يدخلهَا التَّخْصِيص وسنستقصي القَوْل فِيهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى. 3 [742] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَمن الْعِلَل مَا هِيَ خَاصَّة، وَقد حسبتها بعض الْفُقَهَاء عَامَّة، وَذَلِكَ نَحْو مَا رُوِيَ أَن أَعْرَابِيًا وقصته نَاقَته فِي أخاقيق جرذان فَمَاتَ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " كفنوه وَلَا تقربوه طيبا وَلَا تخمروا رَأسه فَإِنَّهُ يحْشر يَوْم الْقِيَامَة ملبيا " فعمم بعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 الْفُقَهَاء ذَلِك فِي كل محرم، وَفِي الْخَبَر مَا يُوجب تَخْصِيصه فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علل الحكم بِأَنَّهُ يبْعَث ملبيا وَهَذَا مِمَّا لانعلمه فِي حق كل محرم فَاقْتضى ظَاهر التَّخْصِيص. وَكَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي شُهَدَاء اُحْدُ: زملوهم بكلومهم ودماءهم فَإِنَّهُم يحشرون يَوْم الْقِيَامَة واوداجهم تشخب دَمًا اللَّوْن لون دم، وَالرِّيح ريح الْمسك فَثَبت فيهم هَذَا الحكم وَعلل بِأَنَّهُم يبعثون كَذَلِك، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى مَعْرفَته فِي غَيرهم من الشُّهَدَاء. (143) فصل [743] فَإِن قَالَ قَائِل: هَل يجوز التَّخْصِيص بِفعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 قُلْنَا: كل فعل حل مَحل القَوْل فِي الْبَيَان نزل مَنْزِلَته فِي حكم التَّخْصِيص وسنتقصى القَوْل فِي أَفعَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونبين مَا ينزل مِنْهَا منزلَة القَوْل وَمَا لَا يتَعَلَّق فِيهِ فِي قَضِيَّة الشَّرْع. [744] ويتصل بِهَذَا الْفَصْل تَقْرِيره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من رَآهُ على من اقتدر مِنْهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 فَإِنَّهُ ينزل منزلَة القَوْل وفَاقا. وَإِذا نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن شَيْء عُمُوما ثمَّ رأى شخصا مقدما مَا عَلَيْهِ، وَلم يَنْهَهُ دلّ ذَلِك على عدم دُخُوله تَحت النَّهْي وَلَكِن ينزل التَّقْرِير فِي حَقه منزلَة [إِبَاحَته] بِلَفْظ [مُخَصص] لَهُ فَلَا نقُول أَن نفس التَّقْرِير يسوغ لغيره الْإِقْدَام على مثله فَإِن التَّقْرِير لَيْسَ لَهُ صِيغَة الْعُمُوم كَمَا لَيْسَ للفظة المختصة بخطاب الْوَاحِد صِيغَة التَّعْمِيم، وسياتيك حكم تَقْرِير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن شَاءَ الله. (144) فصل [745] فَإِن قَالَ قَائِل: قَول الله تَعَالَى: {خلق كل شَيْء} ، هَل يعد مُخَصّصا إِذا حمل بِدلَالَة الْعقل / على غير الْقَدِيم تَعَالَى؟ [86 / أ] قُلْنَا: ذهب بعض النَّاس إِلَى أَن ذَلِك لَا يعد من التَّخْصِيص وَإِنَّمَا التَّخْصِيص إِخْرَاج بعض مُقْتَضى اللَّفْظ مَه مَعَ جَوَاز دُخُوله تَحْتَهُ وَهَذَا مَا لَا يتَحَقَّق فِي هَذِه الْآيَة وأمثالها. [746] وَهَذَا لَيْسَ بسديد، وَالصَّحِيح أَن اللَّفْظَة مخصصة، وَهَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 الْفَصْل من الْبَاب الَّذِي قدمْنَاهُ فِي تَخْصِيص الْأَلْفَاظ بأدلة الْعُقُول غير أَنا نزيده إيضاحا فَنَقُول: اسْتثِْنَاء الْقَدِيم سَائِغ تَقْديرا، وم سَاغَ تَقْدِير استثنائه مُتَّصِلا بالمستثنى مِنْهُ فَإِذا خرج من اللَّفْظ بِدلَالَة كَانَ تَخْصِيصًا، وَبَيَان ذَلِك: أَنه لَو قَالَ تَعَالَى: الله خَالق كل شَيْء إِلَّا ذَاته لَكَانَ الْكَلَام متنظماً، وقصارى هَذَا الْفَصْل تناقش فِي الْعبارَة. (145) فصل [747] إِذا وَردت لَفْظَة شَرْعِيَّة فَيحْتَمل على قَضِيَّة اللُّغَة وَمُوجب وَضعهَا وَلَا تخْتَلف قضيتها بعادات المخاطبين اطردت أَو تناقضت، وَبَيَان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 ذَلِك أَنه لَو عَم فِي النَّاس طَعَام وشراب وَكَانُوا لَا يعتادون دون تنَاول غَيرهمَا حَتَّى صَارُوا لَا يتفاهمون من الطَّعَام إلاما يعهدونه فَإِذا ورد نهى مُطلق عَن تنَاول الطَّعَام لم يخصص بِمَا يعتادون تنَاوله، وَكَذَلِكَ لَو اعتادوا ضربا من البيع مَخْصُوصًا فَإِذا ورد النَّهْي عَن البيع مُطلقًا فِي وَقت لم يتخصص بِمَا يتعودنه من البيع، بل يتَنَاوَلهُ هُوَ وَغَيره مِمَّا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم البيع فِي أصل الْوَضع، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن الشَّرَائِع فِي أَنفسهمَا لَا تبتني على عادات الْخلق وَاللَّفْظ الْوَارِد فِي الشَّرْع لَيْسَ يتَقَيَّد بقرائن ذَوي الغايات فَإِن عَادَتهم لَا توجب تَقْيِيد كَلَام صَاحب الشَّرْع. [748] فَإِن قَالَ قَائِل: أليست الدَّابَّة مَوْضُوعَة فِي أصل اللُّغَة لكل مَا دب ثمَّ لَا يفهم الْعَرَب مِنْهُ إِلَّا بَهِيمَة مَخْصُوصَة. قُلْنَا: تعودوا إِطْلَاق هَذِه اللَّفْظَة على التّكْرَار على بَهِيمَة مَخْصُوصَة فترتب عَادَتهم، وقرائن أَحْوَالهم بإطلاقاتهم فَاقْتضى ذَلِك حملهَا على مَا يُرِيدُونَ، وَلَفظ صَاحب الشَّرِيعَة غير مقترن بقرائنهم وعاداتهم حَتَّى يعمم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 عَنهُ مَا يفهم من ألفاظهم المقترنة وَهَذَا كَمَا أَن الْأَمر إِذا بدر من شخص ودلت قرائنه على الْإِلْزَام لم يجب حمل كل صِيغَة مثلهَا على مثل مَعْنَاهَا فَإِنَّهُ لم يُوجد فِي كل الصِّيَغ من الْعَادَات مَا وجد فِيهَا، فأحط علما بذلك. (146) فصل فِي تعَارض العمومين [749] اعْلَم، وفقك الله، إِلَى أَن أول مَا نحتاج إِلَى تَقْدِيمه أَن نبين أَن الصيغتين إِذا وردتا، وَدلَالَة الْعقل تَقْتَضِي تَعْمِيم أَحدهمَا وَنفي تَعْمِيم الْأُخْرَى أَو سلب قضيتها فَلَا يعد ذَلِك من تعَارض العمومين بل الَّذِي يُوَافق دلَالَة الْعقل يقر على عُمُومه وَالَّذِي يُخَالف دلَالَة الْعقل يخصص بهَا أَو يحمل على الْمجَاز بهَا، وَمِثَال ذَلِك فِي موارد الشَّرِيعَة مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَالله بِكُل شَيْء عليم 282} ، فَهَذَا ظَاهر ومتقتصد فِي عُمُومه بِدلَالَة الْعقل فَلَو عَارض معَارض ذَلِك لقَوْله تَعَالَى: {قل أتنبئون الله بِمَا لَا يعلم} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 قيل: هَذَا مزال الظَّاهِر بِدلَالَة الْعقل، فيستقل بِدلَالَة الْعقل عَن مُعَارضَة الْعُمُوم الَّذِي وَافق / ظَاهره دلَالَة الْعقل، وَكَذَلِكَ قَوْله: {الله خلق كل [86 / ب] شَيْء} ، لَا يُعَارضهُ: {احسن الْخَالِقِينَ 14} ، فَإِنَّهُ مزال الظَّاهِر بِدلَالَة الْعقل. [750] وَالْغَرَض من الْفَصْل الَّذِي عقدناه تَصْوِير صيغتين لَا تَقْتَضِي دلَالَة عقلية إِزَالَة ظَاهر أَحدهمَا، فَإِذا تعَارض ظَاهر لفظين وَلم تقتض دلَالَة قَاطِعَة إِزَالَة أَحدهمَا فالتعارض فِي الظَّاهِر من ثَلَاثَة أوجه: [أَحدهَا] : أَن [تثبت] لَفْظَة ظَاهرهَا الْعُمُوم و [تثبت] أُخْرَى ظَاهرهَا تَخْصِيص الْعُمُوم، وَذَلِكَ نَحْو قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر " مَعَ قَوْله لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 أوسق صَدَقَة وَكَذَلِكَ قَوْله: " فِي الرقة ربع الْعشْر " مَعَ قَوْله: " وَلَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أواقي من الْوَرق صَدَقَة " ويلتحق بذلك أَيْضا قَوْله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} ، مَعَ سَائِر الْأَلْفَاظ المخصصة [للسرقة] بالاحراز، والنصاب، فَمَا هَذَا سَبيله لَا يتَحَقَّق فيهمَا التَّعَارُض من كل وَجه، وَذَلِكَ أَن اللَّفْظَة المخصصة إِنَّمَا يُخَالف ظَاهرهَا بعض مقتضيات الْعُمُوم وَلَا يتَضَمَّن نفي جملَة مقتضياته، فَيتَحَقَّق التَّعَارُض بَين اللَّفْظَيْنِ فِي قدر التَّخْصِيص فَالْكَلَام فِيهِ نحوما قدمْنَاهُ من التَّعَارُض فِي اقْتِضَاء الْعُمُوم وَالْخَبَر أَو يتَحَقَّق فِي كل وَاحِد مِنْهَا ضروب من الظنون. [751] فَأَما إِذا ثَبت لفظ الْعُمُوم قطعا وَثَبت لفظ الْخُصُوص أَيْضا قطعا فَظَاهر مَا صَار إِلَيْهِ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ الْمصير إِلَى التَّعَارُض، وَأَن احْتِمَال اللّبْس وَإِن كَانَ لَا يتَحَقَّق فِي اصل اللَّفْظَيْنِ فَيتَحَقَّق فِي [تأويلهما] فَإِن الْخُصُوص رُبمَا يقبل التَّأْوِيل، وَالْحمل على [حَال] دون حَال، وَيبقى مَعَ ذَلِك كُله اللّبْس فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، فَيجوز أَن يتَقَدَّم الْخَاص ويعقبه الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ حَقِيقَة الْعُمُوم فينسخه، وَقد يتَقَدَّر تَأَخّر الْخَاص فَإِذا تقابلت الِاحْتِمَالَات لم يبْق إِلَّا الْمصير إِلَى التَّعَارُض. [752] الْوَجْه الثَّانِي: من التَّعَارُض أَن يتعارض ظَاهر اللَّفْظَيْنِ من كل وَجه وللتأويل مساغ فِي حملهَا على وَجه التَّعَارُض وَذَلِكَ نَحْو حَدِيث عبَادَة ابْن الصَّامِت فِي الربويات وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَا تَبِيعُوا الْوَرق بالورق " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 الحَدِيث مَعَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة " فَالظَّاهِر من هَذَا اللَّفْظ يَنْفِي جِهَات رَبًّا النَّقْد وَظَاهر حَدِيث عبَادَة يثبت الرِّبَا، وَلَكِن يجوز تَقْدِير حمل اللَّفْظَيْنِ على محملين لَا يتَحَقَّق تنافيهما بِأَن يحمل حَدِيث عبَادَة على اتِّحَاد الْجِنْس، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس على اخْتِلَاف الْجِنْس، وَيجوز أَن لَا يكون كَذَلِك، وَيكون أَحدهمَا نَاسِخا، وَالثَّانِي مَنْسُوخا فَلَا يسوغ الْقطع بنسخ أَحدهمَا للْآخر تعيينا، وَكَذَلِكَ لَا يسوغ الْقطع بالتخصيص وَحمل اللفظفين على التَّبْيِين، فَإِذا تقابلت الِاحْتِمَالَات وَجب القَوْل بتعارضهما والإضراب عَنْهُمَا، والتمسك بِسَائِر أَدِلَّة الشَّرِيعَة سواهُمَا، هَذَا مَا اخْتَارَهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، وَقد دلّ عَلَيْهِ فِيمَا سبق، وَمَا صَار إيه مُعظم الْعلمَاء إبِْطَال القَوْل [87 / أ] بالتعارض، وَوُجُوب الْمصير إِلَى الْجمع بَين اللَّفْظَيْنِ / على وَجه يُمكن. [753] وَالْوَجْه الثَّالِث: من وُجُوه التَّعَارُض ان يتعارض اللفظان نصا، وَلَا نجد إِلَى حملهما على غير التَّعَارُض سَبِيلا، لكل وَاحِد مِنْهُمَا نصا فِي مُقْتَضَاهُ، فَإِذا تَعَارضا على هَذَا الْوَجْه وانسد طَرِيق التَّأْوِيل وَلم يتأرخ وَاحِد من اللَّفْظَيْنِ بتأريخ يتَوَصَّل بِهِ إِلَى نسخ الْمُتَقَدّم بالمتأخر، وَلم يثبت إِجْمَاع فِي اسْتِعْمَال أحد اللَّفْظَيْنِ، فَلَا يسوغ التَّمَسُّك بِوَاحِدَة مِنْهُمَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 [754] فَإِن قَالَ قَائِل: لم تَذكرُوا فِي اقسام التَّعَارُض أَن ترجح أَحدهمَا على الاخر قُلْنَا: إِنَّمَا غفلنا ذكر ذَلِك لأَنا على عَزِيمَة اسْتِقْصَائِهِ فِي أَبْوَاب التَّرْجِيح إِن شَاءَ الله تَعَالَى. [755] فَإِن قيل: فَلَو قَامَت دلَالَة الْإِجْمَاع على أَن الحكم لَا يعدو مُوجب أحد اللَّفْظَيْنِ وَلم يتَرَجَّح أَحدهمَا على الثَّانِي على مَا نوضح دَرَجَات التَّرْجِيح إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَلَا طَرِيق إِلَّا الْمصير إِلَى التَّخْيِير، فَإنَّا نعلم أَنا لم نكلف جمع الضدين وَثَبت بِدلَالَة الْإِجْمَاع تعلق التَّكْلِيف بقضية أحد اللَّفْظَيْنِ فَلَا وَجه فِي الابتدار لَهُ إِلَّا التَّخْيِير. فَإِن قيل: فَإِذا ورد اللفظان على مَا صورتموه فَهَلا قطعْتُمْ بِأَنَّهُمَا وردا مَعًا كَمَا أَن طَائِفَة لَو عمي مَوْتهمْ فَلم يعلم من سبق وَمن تَأَخّر فنجعلهم كَمَا لَو مَاتُوا مَعًا. قُلْنَا: لِأَن مَوْتهمْ مَعًا مُتَصَوّر لَا استحاله فِيهِ، وَلَا اسْتِحَالَة فِي الحكم الْمُرَتّب عَلَيْهِ، وَأما تَقْدِير كَون الْخَبَرَيْنِ واردين مَعًا يُفْضِي إِلَى التَّنَاقُض فِي الشَّرْع فَإِن ظَاهر كل وَاحِد مِنْهُمَا يُخَالف ظَاهر الثَّانِي واستحال أَن نقدرهما على وَجه يَسْتَحِيل بقضية التَّكْلِيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 (147) فصل القَوْل فِي الْأَلْفَاظ الْعَامَّة الْوَارِدَة على أسئلة خَاصَّة [756] اعْلَم، وفقك الله، أَن أول مَا صدر بِهِ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ بِهِ الْبَاب تَهْذِيب اللَّفْظ فِي الانباء عَن مَقْصُود الْبَاب فَإِن من الخائضين فِيهِ من يترجم الْبَاب فَيَقُول: إِذا ورد الْخطاب الْعَام ظَاهره عِنْد سَبَب خَاص، وَهَذَا فِيهِ دخل، فَالْأَحْسَن أَن نقُول: إِذا ورد على سَبَب خَاص، والفصل بَين قَوْلك: " عِنْد سَبَب " و " على سَبَب " بَين فِي فحوى الْكَلَام، فَإنَّك إِذا قلت: " على سَبَب " انبأ ذَلِك على تعلق اللَّفْظ بِهِ، وَإِذا قلت: " عِنْد سَبَب " لم ينْسب ذَلِك على التَّعْلِيق. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنَّك إِذا قلت: ضربت العَبْد على قِيَامه، وأكرمته على كَلَامه، فَإنَّك قلت: ضَربته لأجل قِيَامه وأكرمته لأجل كَلَامه، وَإِذا قلت: ضَربته عِنْد قِيَامه لم ينبىء ذَلِك عَن تعلق الضَّرْب بِالْقيامِ. [757] فَإِذا ورد اللَّفْظ على سَبَب خَاص، وَورد الْجَواب على سُؤال خَاص فَإِن كَانَ اللَّفْظ خَاصّا فِي لَفْظَة لَو قدر مُجَردا فَلَا ريب فِي خصوصه، وَإِن [كَانَ] اللَّفْظ لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي اقْتِضَاء الْخُصُوص، وَالسُّؤَال الَّذِي اللَّفْظ جَوَاب عَنهُ خَاص فَلَا يَخْلُو من أَمريْن إِمَّا أَن يكون الْجَواب مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ لَو قدر مُفردا عَن السُّؤَال وَإِمَّا أَن لَا يكون، فَإِن لم يكن مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ لَو جرد عَن السُّؤَال فَيحمل على قَضِيَّة السُّؤَال فِي الْخُصُوص وفَاقا وَمِثَال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {فَهَل وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا قَالُوا نعم} . فَالْجَوَاب الصَّادِر مِنْهُم لَو قدر مُفردا لم يثر معنى، فَنزل على مُقْتَضى السُّؤَال عَاما كَانَ أَو خَاصّا وَكَذَلِكَ لما سُئِلَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن مَاء الْبَحْر / فَقَالَ: " هُوَ الطّهُور مَاءَهُ " [87 / ب] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 فَهَذَا مَا لَا يسْتَقلّ لَو جرد على السُّؤَال فَإِن قَوْله: " هُوَ الطّهُور " كياية محملة، فَقُلْنَا: هَذِه اللَّفْظَة تَقْتَضِي الْجَواب عَن مَاء الْبَحْر المسؤول عَنهُ دون الْمِيَاه الَّتِي لَيست مياه الْبَحْر، وَكَذَلِكَ لما سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ فَقَالَ: " أينقص الرطب إِذا يبس؟ فَقيل لَهُ: نعم، فَقَالَ: فَلَا إِذا " فَلَمَّا لم يكن هَذَا الْجَواب مُسْتقِلّا لَو جرد حمل " لَهُ " على قَضِيَّة السُّؤَال. [758] فَأَما الْجَواب الْعَام المستقل بِنَفسِهِ لَو قدر مُجَردا فَهُوَ نَحْو جَوَابه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السَّائِل عَن بِئْر بضَاعَة حَيْثُ قَالَ: " خلق الله المَاء طهُورا " الحَدِيث فَمَا هَذَا وَصفه مِمَّا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ يَنْقَسِم ثَلَاثَة اقسام، فَمِنْهُ مَا لَا تَقْتَضِي صيغته المفردة الزِّيَادَة على مَضْمُون السُّؤَال وَذَلِكَ مثل أَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 سَأَلَ السَّائِل عَن جملَة الْمِيَاه فَيَقُول الْمُجيب: خلق الله المَاء طهُورا فَمَا هَذَا نَعته لَا اخْتِلَاف فِيهِ. [759 ي وَالضَّرْب الثَّانِي أَن تقصر صِيغَة الْجَواب عَن مَضْمُون السُّؤَال لَو قدر مُفردا عَنهُ وَذَلِكَ نَحْو أَن يسْأَل سَائل عَن أَحْكَام الْمِيَاه فَيَقُول فِي جَوَابه: مَاء الْبَحْر طهُور. فَيخْتَص الْجَواب بِمَا ينبىء عَنهُ وَلَا يعم بِعُمُوم السُّؤَال وفَاقا. [860] فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَل يجوز أَن يصدر مثل ذَلِك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قُلْنَا: إِن علم أَن الْحَاجة إِنَّمَا تمس إِلَى بَيَان مَا خصصه بِالذكر فيسوغ ذَلِك، وَإِن علم أَن الْحَاجة عَامَّة فِي جملَة الْمِيَاه فَلَا يُؤَخر الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة وسنستقصي القَوْل فِيهِ فِي ابواب الْبَيَان إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 [761] وَالْمَقْصُود بِالْبَابِ الْكَلَام فِي جَوَاب مُسْتَقل بِنَفسِهِ عَام الصِّيغَة لَو قدرت مُفْردَة على السُّؤَال، وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك، فَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْعبْرَة بِعُمُوم اللَّفْظ دون خُصُوص السُّؤَال، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن اللَّفْظَة محمل على الْخُصُوص، وَالَّذِي اقْتَضَاهُ السُّؤَال. وَقد نقل المذهبان جَمِيعًا عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 [762] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَإِن قُلْنَا بِالْعُمُومِ فَالصَّحِيح عندنَا التَّمَسُّك بِعُمُوم اللَّفْظ دون خُصُوص السُّؤَال. [763] وَمِمَّا يجب أَن تحيط علما بِهِ أَن تعلم أَنا إِنَّمَا نقصد بالْكلَام مَا لم نعلم خصوصه اضطراراً لقرائن الْأَحْوَال. فَإِن علم بهَا إِرَادَة مُطلق الْجَواب بِخُصُوص فَهُوَ على مَا علم، وَذَلِكَ نَحْو أَن تَقول لمخاطبك: كلم زيدا أَو: كل الطَّعَام، فَيَقُول فِي جوابك: وَالله لَا تَكَلَّمت وَلَا أكلت، فَرُبمَا يعلم بِقَرِينَة الْحَال أَنه لَا يُرِيد نفي الْأكل جملَة، وَلَا نفي الْكَلَام جملَة، وَإِنَّمَا يُرِيد نفي مَا سَأَلته. ومسئلتنا لَيست بمفروضة فِي امْتِثَال ذَلِك، وَلَكِن إِذا فقدت الْقَرَائِن، وَنقل إِلَيْنَا سُؤال خَاص، وَجَوَابه لَفْظَة الْعُمُوم، فَحمل الْجَواب على الْعُمُوم أولى، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْجَواب مُسْتَقل بِنَفسِهِ يسوغ تَقْدِير الِابْتِدَاء فِيهِ من غير تَقْدِيم سُؤال وكل لَفْظَة هَذِه صفتهَا فَلَا يسوغ ادِّعَاء تخصيصها إِلَّا بِدلَالَة، وَلَيْسَ فِيمَا نَحن فِيهِ دلَالَة عقل تَقْتَضِي قصر الْجَواب على السُّؤَال، وَلَا دلَالَة سمعية يقطع بهَا، فَإِنَّهُ إِذا ثَبت عقلا وَشرعا جَوَاز تَبْيِين السُّؤَال وَالزِّيَادَة، فَإِذا استدت طرق الْأَدِلَّة فِي التَّخْصِيص واللفظة فِي نَفسهَا مَوْضُوعَة لاقْتِضَاء الشُّمُول [فقد] ثَبت / بِاتِّفَاق الْقَائِلين بِالْعُمُومِ أَن الصِّيغَة الْمَوْضُوعَة لَهُ [88 / أ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 تعمم مَا لم تمنع مِنْهُ دلَالَة. [764] فَإِن تمسك الْخصم بقصر الْجَواب فِي بعض موارده على السُّؤَال فَلَا يستتب لَهُ ذَلِك إِلَّا بعد أَن يُقيم الدّلَالَة على أَنه إِنَّمَا خصص لخُصُوص بَيِّنَة، على أَنا نقابل الصُّور الَّتِي يتمسكون بهَا بمعظم ظواهر الْقُرْآن مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يظهرون مِنْكُم} ، فَإِنَّهُ عَام مَعَ وُرُوده فِي حق امْرَأَة على الْخُصُوص، وَقَوله تَعَالَى: {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات} ، نزل فِي شَأْن أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا وَهُوَ معمم. وَآيَة اللّعان نزلت فِي شَأْن هِلَال بن أُميَّة من عمومها، وَقَوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 {وَالسَّارِق والسارقة} نَازل فِي قصَّة سَرقَة المحجن وَهُوَ معمم فِي الَّذين يستوجبون الْقطع بِالسَّرقَةِ، ومعظم الْأَحْكَام لَو تتبعناها نزلت فِي أَسبَاب خَاصَّة واشخاص مُعينين، وَكَانَ الْمَقْصد تَبْيِين الْأَحْكَام فِيهَا وَفِي أغيارها فَلَو تمسكوا بأمثلة قابلناهم بِمَا ذَكرْنَاهُ فتسلم لنا الدّلَالَة. [765] ثمَّ الدّلَالَة تعتضد بنكتة أَوْمَأ إِلَيْهَا القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، وَهِي أَنه قَالَ: قد وافقتنا الْخُصُوم على أَن الْجَواب الَّذِي فِيهِ اختلافنا لَو عدى عَن السُّؤَال أَو عمم بِدلَالَة، لم يكن ذَلِك مقتضيا إِلَى حمل الْجَواب على الْمجَاز، فَلَو كَانَ الْجَواب مَعَ السُّؤَال الْخَاص مقتضيا خُصُوصا لَكَانَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 تَعْمِيم حمله على الْمجَاز، وَقد أَوْمَأ إِلَى طرق من الْأَدِلَّة تنطوي عَلَيْهَا الطَّرِيقَة الَّتِي ذَكرنَاهَا. [766] شُبْهَة الْمُخَالفين: فَإِن قَالُوا: لَو كَانَ اللَّفْظ الْخَارِج مخرج الْجَواب عَن السُّؤَال الْخَاص عَاما فِي مَحل السُّؤَال وَغَيره لساغ تَخْصِيص مَحل السُّؤَال مِنْهُ كَمَا لَو كَانَ اللَّفْظ مُطلقًا فَلَمَّا أجمعنا على أَنه لَا يسوغ تَخْصِيص مَحل السُّؤَال دلّ أَن الْجَواب مُخْتَصّ بِهِ. قُلْنَا: إِنَّمَا لم يسغْ إِخْرَاج مَحل السُّؤَال لكَون كَلَام الْمُجيب جَوَابا عَنهُ، وَهَذَا ثَابت اضطرارا، ويستحيل كَون الْكَلَام جَوَابا عَن كلا مُهِمّ مَعَ أَنه لَا يتَضَمَّن التَّعْلِيق بِهِ، وَاللَّفْظ الْمُطلق لَا تعلق لَهُ بِسَبَب، فَافْتَرقَا من هَذَا الْوَجْه، وَلزِمَ تَعْمِيم الْمُطلق الْمُجَرّد مَعَ تجوز تَخْصِيصه فِي الْآحَاد، وَيلْزم تَعْمِيم الْجَواب مَعَ نفي التَّخْصِيص فِي مَحل السُّؤَال، فافتراقهما من هَذَا الْوَجْه لَا يُوجب افتراقهما فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه لَو صرح الْمُجيب بتعميم جَوَابه فِي غير المسؤول عَنهُ كَانَ عَاما وفَاقا، مَعَ أَنه يسوغ تَخْصِيص مَحل السُّؤَال، ويتبين ذَلِك بالمثال أَن السَّائِل لَو سَأَلَ عَن مَاء بِئْر بضَاعَة فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " الْمِيَاه كلهَا - مَا سَأَلت عَنهُ، وَمَا لم تسئل عَنهُ - طهُور ط [فَمحل] السُّؤَال لَا يتخصص مَعَ عُمُوم اللَّفْظ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 [767] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم، فَإِن قَالُوا: لَو كَانَ الْجَواب لَا يتخصص بالسؤال لم تنكرون فِي نقل السُّؤَال لم يكن فِي نقل السُّؤَال فَائِدَة فَلَمَّا نعت النقلَة وجدوا فِي نقل الأسئلة كَمَا اجتهدوا فِي نقل أَلْفَاظ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دلّ ذَلِك على تَخْصِيص الْأَجْوِبَة بالأسئلة، إِذْ لَا فَائِدَة فِي نقلهَا سوى ذَلِك. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه دَعْوَى، فَلم قُلْتُمْ لَا فَائِدَة فِي نقل الْأَسْبَاب سوى مَا ذكرتموه؟ فَإِن قَالُوا: إِنَّا لَا نَعْرِف غير مَا ذَكرْنَاهُ. [88 / ب] قُلْنَا: فَعدم معرفتكم لَا ينْتَصب دَلِيلا، فَلَا تَجِدُونَ عَن هَذِه الْمُطَالبَة مهربا ثمَّ لَو اتستعنا فِي الْكَلَام قُلْنَا راموا بنقلها نقل مَا شهدوه على وَجهه، وَهَذَا كَمَا أَنهم نقلوا الْأَمَاكِن الَّتِي قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا مَا قَالَ، ونقلوا االأزمان أَيْضا مَعَ الْعلم بِأَن الْأَحْكَام لم تتَعَلَّق بالأماكن وَلَا بالأزمان، ثمَّ نقُول: كثير من المنقولات مِمَّا يعرف نقلهَا فَإِنَّهُ لَا يتَعَلَّق بهَا حكم، كالمراسيل عِنْد من يَنْفِي التَّمَسُّك بهَا، وَالْأَخْبَار السقيمة، وَغَيرهَا، ثمَّ نقُول: فَائِدَة نقل السُّؤَال لَا يخصص مُجمل السُّؤَال فَإِن اللَّفْظَة لَو نقلت مُطلقَة رُبمَا كَانَ يخصص مَحل السُّؤَال وَلَا يسوغ تَخْصِيصه، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. [768] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم، فَإِن قَالُوا: لَا فَائِدَة فِي تَأْخِير تثبيت هَذَا الحكم إِلَى سُؤال السَّائِل إِلَّا حصر الحكم فِيهِ وَعَلِيهِ، إِذْ لَو كَانَ لَا ينْحَصر الحكم على السُّؤَال لَكَانَ يتَبَيَّن قبله. قيل لَهُم: هَذَا تحكم مِنْكُم فَلم قُلْتُمْ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 وَتوجه عَلَيْهِم من الطّلبَة مَا ذَكرْنَاهُ فِي الَّتِي قبل هَذِه، ثمَّ نقُول: هَذَا يبْنى على أصُول الْمُعْتَزلَة فِي تَعْلِيل موارد الشَّرِيعَة بِمَا يهذون لَهُ من الحكم، وَنحن لَا نقُول بِشَيْء مِنْهَا، وَلَا نعلل موارد الشَّرْع مَا تقدم مِنْهَا وَمَا تَأَخّر. [769] وَلَو قَالَ قَائِل: لم اخْتصَّ شرع مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بآخر الزَّمَان أَبينَا تَعْلِيل ذَلِك، على أَنا نقُول لخصومنا لَو قَدرنَا مساعدتكم جدلا فِيمَا ذكرتموه فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الحكم إِنَّمَا لم يبين قبل السُّؤَال للطف علمه الله، فَلَعَلَّهُ تَعَالَى علم أَنه لَو بَين من غير سُؤال عصى المكلفون وابوا، وَلَو بَين عِنْد سُؤال أَسْوَأ، وَهَذَا مِمَّا لَا نستبعد تَقْدِيره فِي الْعُلُوم فَبَطل مَا قَالُوهُ على كل اصل، على أَنا نقُول مَا ذكرتموه يبطل بِآيَة الظِّهَار وَاللّعان وَالْقَذْف وَالسَّرِقَة فَإِنَّهَا عَامَّة لم ترد إلآ عِنْد الْأَسْبَاب الْخَاصَّة. [770] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم فَإِن قَالُوا قَضِيَّة اللُّغَة توجب خُرُوج الْجَواب على حسب السُّؤَال فَكَمَا ترَوْنَ تعلق بعض الْكَلَام بِبَعْضِه فَكَذَلِك ترَوْنَ تعلق الْجَواب بالسؤال. قيل لَهُم: إِن عنيتم بالتعلق أَن الْجَواب يتَضَمَّن السُّؤَال فلعمرنا هَكَذَا نقُول، وَإِن عنيتم أَن قَضِيَّة الْخطاب توجب على الْمُجيب أَن يقْتَصر على جَوَابه وَلَا يزِيد على مَحل سُؤَاله فَهَذِهِ دَعْوَى، فعلى الْمُجيب بَيَان السُّؤَال وَلَا حرج فِي الزِّيَادَة. [771] فَإِن قيل: فالقدر الَّذِي لَا يتَعَلَّق بالسؤال لَا يكون جَوَابا عَنهُ. قُلْنَا: صَدقْتُمْ، وَإِنَّمَا الْجَواب هُوَ الَّذِي بَين السُّؤَال، وَلَكِن للمجيب الاجتزاء بتبيين السُّؤَال، وَله الزِّيَادَة عَلَيْهِ، سِيمَا صَاحب الشَّرِيعَة فَإِنَّهُ يشرع ويشرح فِي أَي وَقت شَاءَ ابْتِدَاء، وعَلى عقب الأسئلة، كَمَا مثلنَا بِهِ من الْآيَات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 (148) القَوْل فِي أَنه هَل يجوز أَن يسمع اللَّفْظ الْعَام فِي الْوَضع من لَا يسمع مخصصة؟ [772] اخْتلف ارباب الْأُصُول على ذَلِك، فَصَارَ مُعظم الْقَائِلين بِالْعُمُومِ إِلَى أَنه يجوز أَن يسمع الْمُكَلف لَفظه مَوْضُوعَة للْعُمُوم فِي اللُّغَة وَلَا يسمع مَعهَا مُخَصّصا وَلها مُخَصص فِي أَدِلَّة الشَّرِيعَة. وَصَارَ بعض الْمُتَكَلِّمين إِلَى منع ذَلِك، فَقَالُوا: م كل لَفْظَة شَرْعِيَّة [89 / كَانَت مخصصة بِدلَالَة شَرْعِيَّة فَلَا يجوز أَن يسْمعهَا الله عبدا مُكَلّفا من غير أَن يسمعهُ مُخَصّصا. وَلَا خلاف فِي جَوَاز وُرُود اللَّفْظَة الْمَوْضُوعَة للْعُمُوم إذاكانت مخصصة بِدلَالَة الْعقل من غير تَنْبِيه عَلَيْهَا، وَإِن كَانَت الدّلَالَة الْعَقْلِيَّة لَا تستدرك إِلَّا بدقيقالنظر فَهَذَا أَمر وَاضح [مِمَّا] يسْتَدلّ بِهِ، فَإنَّا نقُول إِذا جَازَ أَن تقع اللَّفْظَة فِي مسامعه وَهِي مَوْضُوعَة للْعُمُوم فِي اللُّغَة مَعَ كَونهَا مَخْصُوصَة بِدلَالَة عقلية لم نتدبرها بعد فَيَنْبَغِي أَن يسوغ مثل ذَلِك فِي الْأَدِلَّة السمعية فَإِن كل مَا يتَحَقَّق فِي التَّخْصِيص بالأدلة الْعَقْلِيَّة يتَحَقَّق مثله فِي الْأَدِلَّة السمعية، وَإِذا سبرت وَقسمت وجدت المجوز فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ متحققا فِي الْمُخْتَلف فِيهِ، وَهَذَا تحريرالأدلة فِي مسَائِل الْقطع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 [773] فَإِن قيل: إِنَّمَا سَاغَ ذَلِك فِي العقليات لاقتداره على التَّوَصُّل إِلَيْهَا. قيل: وَكَذَلِكَ يقتدر على التَّوَصُّل إِلَى الْأَدِلَّة السمعية فَلَا حاجز فِي الْبَابَيْنِ. [774] فَإِن قيل فقد أعلمهُ الله تَعَالَى أَن الْعَام يبْنى على دلالات الْعُقُول. قُلْنَا: وَكَذَلِكَ أعلمهُ أَن الْأَلْفَاظ الْوَارِدَة تبنى على أَدِلَّة الشَّرْع، ويسلط بَعْضهَا بالتخصيص على بعض فَلَا فرق فِي ذَلِك. [775] فَإِن قَالُوا: فَيجوز أَن يبلغهُ الْمَنْسُوخ، وَلَا يبلغهُ النَّاسِخ. قُلْنَا: هَكَذَا القَوْل وَلَا استبعاد فِيهِ. [776] فَإِن قيل: فَمَا حكم الله تَعَالَى عَلَيْهِ إِذا بلغه الْمَنْسُوخ؟ قُلْنَا: ذَلِك مِمَّا يستقصى فِي تصويب الْمُجْتَهدين إِن شَاءَ الله تَعَالَى. [777] فَإِن قَالُوا: فجوزوا على طرد مذهبكم أَن يسمع الْمُسْتَثْنى مِنْهُ دون الِاسْتِثْنَاء. قُلْنَا: إِن عنيتم بِالِاسْتِثْنَاءِ مَا يتَّصل بالْكلَام، فَيُقَال لكم: إِن استوفى الْكَلَام وسَمعه كُله فَمن ضَرُورَته أَن يسمع الِاسْتِثْنَاء. وَإِن قُلْتُمْ: هَل يتَصَوَّر أَن يسمع أصل الْكَلَام ثمَّ يَعْتَرِيه آفَة تحجزه سَماع الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل بِهِ؟ وَهَذَا مِمَّا نجوزه وَلَا ننكره فَبَطل مَا قَالُوهُ. [778] وَاعْلَم أَنا اسْتَوْفَيْنَا فِي الأسئلة أدلتهم وأجبنا عَنْهَا، وَالدّلَالَة الْعَقْلِيَّة تنقض كل شُبْهَة لَهُم. (149) فصل [779] اخْتلف أَئِمَّة الْفُقَهَاء فِي الْأُصُول فِي أَن اللَّفْظَة الْمَوْضُوعَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 للْعُمُوم إِذا اتَّصَلت بالمخاطب فَهَل يعْتَقد الْعُمُوم فِي حَال اتصالها بِهِ أم يرقب ويتوقف إِلَى أَن تيَسّر الْأَدِلَّة فَإِن رَآهَا مخصصة اعْتقد الْخُصُوص وَإِن لم ير فِيهَا مَا يَقْتَضِي تَخْصِيص اللَّفْظَة اعْتقد فِيهَا الْعُمُوم حِينَئِذٍ؟ فَذهب أَبُو بكر الصَّيْرَفِي إِلَى أَنه يعْتَقد الْعُمُوم كَمَا اتَّصل اللَّفْظ بِهِ. وَذهب ابْن سُرَيج فِي مُعظم الْعلمَاء إِلَى أَنه لَا يسوغ اعْتِقَاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 الْعُمُوم إِلَّا بعد النّظر فِي الْأَدِلَّة ثمَّ إِذا نظر فِيهَا جرى على قضيتها. [780ٍ وَالَّذِي ذكره ابْن سُرَيج هُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ الصَّحِيح، ونقول للصيرفي فِي هَذَا هَل يجوز أَن يبلغ الْمُكَلف الْعُمُوم وَلَا يبلغهُ مخصصه؟ فَإِن لم يجوز ذَلِك كَانَ الْكَلَام عَلَيْهِ كَالْكَلَامِ على الَّذين سبقوا، وَإِن جوز ذَلِك وَهُوَ الظَّن بِهِ فَإِنَّهُ لاينتحي نَحْو الْمُعْتَزلَة فِي الصّلاح [89 / ب] والأصلح واللطف، فَيُقَال لَهُ: فَإِذا جوزت أَن لَا يبلغهُ الْمُخَصّص فَلَا تَخْلُو إِمَّا أَن تعتقد انه لَيْسَ بعام وَلَا خَاص، وَهَذَا محَال. أَو تعتقد أَنه عَام خَاص من وَجه وَاحِد، وَهَذَا محَال. وتعتقد أَنه عَام كَمَا قلته، وَلَا يَسْتَقِيم هَذَا مَعَ تَجْوِيز الذهول أَن يكون مُخَصّصا فَأنى يَسْتَقِيم اعْتِقَاد الْعُمُوم وَالْقطع مَعَ تَجْوِيز الذهول عَن الْمُخَصّص، وَإِن اعْتقد الْخُصُوص مَعَ جَوَاز أَن لَا يكون للفظ مُخَصص كَانَ محالا لما ذَكرْنَاهُ فِي الْقسم قبله فَلَا يبْقى إِلَّا تَجْوِيز كِلَاهُمَا، وَإِذا جوز كِلَاهُمَا لم يتَصَوَّر قطع الِاعْتِقَاد باحدهما وَهَذَا مِمَّا لَا خَفَاء بِهِ. [781] فان قَالَ الصَّيْرَفِي فِي معنى قَول يعْتَقد الْعُمُوم أَنه يعْمل بِالْعُمُومِ [وَإِن] كَانَ يجوز خصوصه فَهَذَا مُخَالفَة مِنْهُ لقَوْله الْمَنْقُول عَنهُ فِي الِاعْتِقَاد مَعَ أَنا نعلم أَنه لَا يَكْتَفِي بِمَا قُلْنَاهُ من الْعَمَل، وَالْقَصْد إبِْطَال اعْتِقَاد الْعُمُوم، وَقد اسْتمرّ ذَلِك كَمَا قَرَّرْنَاهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 ثمَّ نقُول: لَو جَازَ الْعَمَل بِالْعُمُومِ مَعَ تردد الِاعْتِقَاد فِيهِ جَازَ أَن يعْمل الْمُجْتَهد إِذا عَن لَهُ قِيَاس من غير أَن يسبره حق سبره، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ، وسنقرره فِي أَوْصَاف الِاجْتِهَاد إِن شَاءَ الله تَعَالَى. [782] فَإِن اسْتدلَّ الصَّيْرَفِي فَقَالَ: هَذِه اللَّفْظَة دلَالَة على الْعُمُوم وَشرط الدّلَالَة أَن تدل على مدلولها فَيجب لذَلِك اعْتِقَاد الْعُمُوم فِيهَا. قيل لَهُ: إِنَّمَا تدل لَو جردت عَن مُخَصص، وَإِنَّمَا نَعْرِف تجردها أَو يغلب ذَلِك على ظَنّه إِذا نظر فِي الْأَدِلَّة. [783] فَإِن قَالَ: وَإِن نظر فِي الْأَدِلَّة فَرُبمَا لَا يتَوَصَّل إِلَى الْقطع، فَقولُوا: لَا يتَحَقَّق مِنْهُ الِاعْتِقَاد فِي الْعُمُوم وَإِن نظر. قُلْنَا: إِذا نظر وَلم يعثر على دلَالَة قَاطِعَة تَقْتَضِي تَخْصِيص اللَّفْظَة فَلَا يعْتَقد فِيهَا عُمُوما بل يغلب ذَلِك على ظَنّه فَيعْمل بِهِ كَمَا يعْمل بخبرالواحد، وَالْقِيَاس السمعي وَإِن لم يقطع بهما، فَهَذَا قَوْلنَا، ثمَّ لم يدل ذَلِك على قطع النّظر فِي الْأَخْبَار وَوُجُوب الْعَمَل بهَا، كَمَا نقلت قبل النّظر فِي صِفَات الرب. [784] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم، فَإِن قَالُوا: لَو توقف فِي اللَّفْظَة حَالَة وَاحِدَة سَاغَ أَن يتَوَقَّف حالتين وَثَلَاثَة، وَيلْزم مِنْهُ التَّبْلِيغ إِلَى الْوَقْف أبدا كَمَا صَارَت إِلَيْهِ الواقفية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 فَيُقَال: إِنَّمَا يتَوَقَّف بِقدر مَا ينظر فِي الْأَدِلَّة على حسب جهده من غير تَفْرِيط وَهَذَا مِمَّا لَا يَنْضَبِط زَمَانه، وَهَذَا كَمَا أَن الْمُجْتَهد يفكر فِي حكم الْحَادِثَة ويجتهد فَرُبمَا يبْقى فِي اجْتِهَاده سَاعَات ثمَّ لَا يلْزم من ذَلِك ان يتَوَقَّف أبدا، وَكَذَلِكَ من نقل إِلَيْهِ الْخَبَر يتَوَقَّف فِي الْعَمَل بِهِ ريثما يسير أَحْوَال الروَاة ثمَّ لَا يلْزمه مِنْهُ ترك القَوْل بهَا، وَكَذَلِكَ القَاضِي يتَوَقَّف فِي إبرام الْقَضَاء إِلَى التفحص عَن أَحْوَال الشُّهُود. [785] فَإِن قيل: فَهَل يتحدد النّظر فِي مُخَصص الْعُمُوم بِحَدّ؟ قيل لَهُم: فَهَل يتحدد نظر الْمُجْتَهد، وَمن نقل إِلَيْهِ الْخَبَر، وَنظر القَاضِي فِي أَحْوَال الشُّهُود بِحَدّ؟ فَإِن قَالَ: لَا ينْحَصر فِيهِ زمَان، وَيخْتَلف ذَلِك بِسُرْعَة الخاطر وبطئه والمقصد أَن لَا يقصر النَّاظر فِيهِ، وَلَا يألو جهده. [90 / أ] قيل لَهُ: فَهَذَا فِي الْمُتَنَازع فِيهِ /. (150) القَوْل فِي الْمُطلق والمقيد [786] اعْلَم وفقك الله، أَن أَرْبَاب الْأُصُول اخْتلفُوا فِي حمل الْمُطلق على الْمُقَيد فِي بعض الصُّور، وَاتَّفَقُوا فِي بَعْضهَا، فَإِن تقيد حكم بِشَيْء، وَورد ذَلِك الحكم بِعَيْنِه مُطلقًا فَهُوَ مَحْمُول على الْمُقَيد وَهُوَ أَنه قد ورد بِقَيْد الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الْقَتْل بِالْإِيمَان فَلَو أَنه وَردت الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الْقَتْل فِي آيَة أُخْرَى مُطلقَة فَتحمل على الْمقيدَة، وَلَو ورد حكمان مُخْتَلِفَانِ فِي أَنفسهمَا واسبابهما، وَأَحَدهمَا مُطلق والاخر مُقَيّد فَلَا يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد وفَاقا، وَذَلِكَ فِي مثل ان يرد فِي صفة الشَّاهِد اشْتِرَاط الْإِيمَان، وَيرد ذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 الرَّقَبَة فِي الْكَفَّارَة مُطلقًا فَلَا يحمل الْمُطلق فِي الْكَفَّارَة على الْمُقَيد فِي الشَّهَادَة لاخْتِلَاف الحكم وتباين سببهما. [787] فَإِذا تماثل الحكمان وَاخْتلف سببهما وموجبهما، وَأَحَدهمَا مُطلق وَالْآخر مُقَيّد فَهَذَا مَوضِع الِاخْتِلَاف، وتصوره أَن الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الْقَتْل مُقَيّدَة بِالْإِيمَان وَهِي مُطلقَة فِي كَفَّارَة الظِّهَار وَالْحكم فِي الْحَالين الاعتاق، وَلَكِن اخْتلف سَببه وَاخْتلف الْعلمَاء على ثَلَاث مَذَاهِب، فمذهب الْعِرَاقِيّين أَن الْمُطلق لَا يحمل على الْمُقَيد إِلَّا بِمَا يجوز نسخه فَإِنَّهُم زَعَمُوا أَن تَقْيِيد الْمُطلق زِيَادَة فِيهِ وَالزِّيَادَة على النَّص نسخ، من الْمُطلق زِيَادَة فِيهِ وَالزِّيَادَة على النَّص نسخ، وسنفرد الْكَلَام على هَؤُلَاءِ فِي أَبْوَاب النّسخ، وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن الْمُطلق يحمل على الْمُقَيد فِي قَضِيَّة اللَّفْظ من غير دلَالَة تقوم وَإِلَيْهِ مَال بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ. [788] وَذهب الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَن الْمُطلق يقر على إِطْلَاقه ويقر الْمُقَيد على تَقْيِيده فَإِن قَامَت دلَالَة على تَقْيِيد الْمُطلق كَانَ ذَلِك تَخْصِيصًا وَهُوَ مجري على عُمُومه إِلَى أَن يقوم الدَّلِيل على تَخْصِيصه فَإِن قَالَ الرب تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 فِي كَفَّارَة الْقَتْل: {فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} . وَقَالَ فِي كَفَّارَة الظِّهَار: {فَتَحْرِير رَقَبَة} ، فَهَذِهِ لَفْظَة مُقَيّدَة فِي كَفَّارَة الْقَتْل، عَامَّة فِي كَفَّارَة الظِّهَار تَنْطَلِق على الرَّقَبَة الْكَافِرَة والمؤمنة فثبوت التَّخْصِيص فِي كَفَّارَة الْقَتْل لَا يُوجب تَخْصِيص اللَّفْظ فِي كَفَّارَة الظِّهَار فَإِنَّهُمَا حكمان متغايران، وَلَكِن وَإِن قَامَت دلَالَة تَقْتَضِي التَّخْصِيص بِآيَة الظِّهَار خصصناها حِينَئِذٍ فَهَذَا مَا ارْتَضَاهُ القَاضِي ز وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن قَوْله تَعَالَى فِي آيَة الظِّهَار {فَتَحْرِير رَقَبَة} عَامَّة فِي صيغتها وَمن مَذْهَب الْقَائِلين بِالْعُمُومِ أَن الصِّيغَة الْمَوْضُوعَة للْعُمُوم تحمل على الشُّمُول مَا لم تدل دلَالَة على منع التَّعْمِيم، وَتَخْصِيص آيَة الْقَتْل لَيْسَ بِدَلِيل فِي تَخْصِيص آيَة الظِّهَار فَإِنَّهُ لَا تنَافِي بَين تَخْصِيص تِلْكَ وتعميم هَذِه، وَشرط التَّخْصِيص أَن يُنَافِي التَّعْمِيم حَتَّى لَا يقدر فِي الْعُقُول تصور التَّعْمِيم مَعَ التَّخْصِيص، وَلَا استبعاد فِي تَخْصِيص آيَة الْقَتْل وتعميم آيَة الظِّهَار، فَإِذا بَطل أَن تكون آيَة الْقَتْل دلَالَة فِي تَخْصِيص آيَة الظِّهَار لزم التَّمَسُّك بِعُمُوم آيَة الظِّهَار، فَإِن دلّت دلَالَة خصصناها. [789] ثمَّ أرْدف ذَلِك بِأَن قَالُوا: لَو سَاغَ تَقْيِيد الْمُطلق لتقييد الْمُقَيد سَاغَ اطلاق الْمُقَيد لإِطْلَاق الْمُطلق. فَإِن قيل: لَو أطلقنا كُنَّا / قد حذفنا الْقَيْد وألغيناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 قُلْنَا: وَلَو قيدنَا الْمُطلق كُنَّا أبطلنا مَا يَقْتَضِيهِ الْإِطْلَاق من الْعُمُوم والشمول، فَلَا فصل بَينهمَا. وَقد أَوْمَأ إِلَى طَرِيق يؤول إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ. [790] شُبْهَة الْقَائِلين بِأَن الْمُطلق مَحْمُول على الْمُقَيد من حَيْثُ اللَّفْظ واللغة فَإِن قَالُوا: مُوجب اللِّسَان يَقْتَضِي ذَلِك وَالْعرب تطلق فِي كَلَامهَا [مَا] قيدت مثله وتروم بِالْإِطْلَاقِ التَّقْيِيد وَلكنهَا لَا تكَرر اجتزاء مِنْهَا بِمَا فرط من التَّقْيِيد وإيثار الِاخْتِصَار والحذف وَلكَون التَّقْيِيد الْمُتَقَدّم مِنْهَا دَالا على التَّقْيِيد، واستشهدوا بأمثلة أوضحُوا فِيهَا الْحَذف لإِرَادَة الإيجاز مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {ولنبلونكم بشيءمن الْخَوْف والجوع وَنقص من الْأَمْوَال والأنفس والثمرات} مَعْنَاهُ: وَنقص من الْأَمْوَال وَنقص من الْأَنْفس، وَنقص من الثمرات، فَوَقع الِاكْتِفَاء بِالنَّقْصِ الْمَذْكُور فِي صدر الْكَلَام وابتنى بَاقِي الْكَلَام عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {عَن الْيَمين وَعَن الشمَال قعيد 17} مَعْنَاهُ عَن الْيَمين قعيد، وَعَن الشمَال قعيد، واستشهدوا بقوله تَعَالَى: {والذاكرين الله كثيرا وَالذَّاكِرَات} مَعْنَاهُ [والذكرات] لله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 [791] وَاحْتَجُّوا لتمهيد ذَلِك بأبيا [ت] مِنْهَا قَول الشَّاعِر: (يَا من يرى عارضا [أسر] بِهِ ... بَين ذراعي وجبهة الْأسد) مَعْنَاهُ بَين ذراعي الْأسد جبهة الْأسد. وَمِنْه قَول الْقَائِل: (وَمَا أَدْرِي إِذا يممت أَرضًا ... اريد الير أَيهمَا يليني) ( [الْخَيْر] الَّذِي أَنا أبتغيه ... أم [الشَّرّ] الَّذِي هُوَ يبتغيني) فاقتصر فِي الْبَيْت الأول على ذكر الْخَيْر وَهُوَ يُرِيد الْخَيْر وَالشَّر. [792] واعتضدوا بآيَات من الْكتاب فِي الْمُطلق والمقيد، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَأشْهدُوا ذَوي عدل مِنْكُم} ، فالشهادة مُقَيّدَة مِنْهَا بِالْعَدَالَةِ وَكَذَلِكَ أطلق الله تَعَالَى آي الْمَوَارِيث وقيدها بِتَقْدِيم الْوَصِيَّة عَلَيْهَا فِي آيَة فَحملت آيَات الْمَوَارِيث عَلَيْهَا إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تتبعه، والأبيات وَهَذَا اطناب مِنْكُم لَا يُفِيد مَحل التَّنَازُع فَإنَّا لَا ننكر ضروب الْحَذف فِي مجاري الْكَلَام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وَلَكِن لم قُلْتُمْ أَن الْكَلَام المتسق إِذا قيد بعضه وأنبأ فحواه عَن التَّنْبِيه عَن الْمُتَّصِل بِهِ وَجب أَن ينبىء التقيد فِي آيَة الْقَتْل عَن التَّقْيِيد فِي آيَة الظِّهَار ألم تعلمُوا أَن الْحَذف والإيجاز فِي الْكَلَام مِمَّا لَا ينقاس وَلَا ينْحَصر وَلَا يَنْضَبِط الِاعْتِبَار فَأحْسن طَرِيق تسلكونه اعْتِبَار الْمُتَنَازع فِيهِ بِمَا استشهدتم بِهِ وقصارى ذَلِك تثبيت اللُّغَات بِالْقِيَاسِ. [793] ثمَّ نقُول لَهُم مَا قلتموه أجمع فرض مِنْكُم فِي كَلَام مُتَّصِل لَو جرد بعضه لم يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فَإِن مِمَّا استدللتم بِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَنقص من الْأَمْوَال والأنفس} فَلَو قَدرنَا ذكر الْأَنْفس، والثمرات لم يفد ذكرهمَا على حيالهما معنى فَدلَّ أَنَّهُمَا منوطان بِمَا سبق وَهُوَ قَوْله: (وَنقص) فأنبأ فحوى الْخطاب عَن تعلق النَّقْص بِالْكُلِّ، وكلك كل مَا اسْتشْهدُوا بِهِ ينخرط فِي هَذَا السلك، وَلَيْسَ كَذَلِك آيتان تستقل كل وَاحِدَة / بحكمها وَيجوز تَقْدِير كل [91 / أ] وَاحِدَة على قَضِيَّة. 3 [794] وَأما استدلالهم بِآيَة الشَّهَادَة فَلَا مستروح فِيهِ فَإنَّا مَا شرطنا الْعَدَالَة فِي سَائِر الشَّهَادَات حملا على الْمُقَيد، وَلَكِن صرنا إِلَى ذَلِك بدلالات أُخْرَى، كَيفَ وَقد صَار بعض الْعلمَاء إِلَى أَن من الشَّهَادَات مَا لَا يتَقَيَّد بِالْعَدَالَةِ كَالشَّهَادَةِ على النِّكَاح، وَالشَّهَادَة فِي الْأَمْوَال فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط فِيهَا تثبيت الْعَدَالَة بل يَكْتَفِي بِظَاهِر الْحَال، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 [795] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم، فَإِن قَالُوا: الْقُرْآن كالكلمة الْوَاحِدَة فتقييد بعضه كتقييد كُله وَلَوْلَا أَن هَذَا اورده بعض الْأَئِمَّة وَإِلَّا اقْتضى الْحَال الاضراب عَنهُ لضَعْفه فَإِنَّهُ إِن عني بِمَا ذكره الْكَلَام الْقَدِيم فَلَا يسوغ فِيهِ تَقْيِيد وَلَا اطلاق، وَلَا حَامِل وَلَا مَحْمُول فَإِنَّهُ معنى مُتحد يتقدس عَن كل هَذِه الصِّفَات، وَإِن كَانَ الْكَلَام فِي متعلقات الْكَلَام وَلَا يحمل بعضه على بعض ليَكُون الْمحرم محللا، والمحلل محرما، فاضمحل مَا قَالُوهُ، ثمَّ كَانَ الْمُطلق بِالْحملِ على الْمُقَيد أولى من عكس ذَلِك فَبِمَ يُنكر الْخصم على من يَقُول أَن الْمُقَيد مَحْمُول على الْمُطلق لِأَن الْقَرَائِن كالكلمة الْوَاحِدَة. (151) القَوْل فِي اقل الْجمع [796] الْمَقْصد من هَذَا الْبَاب أَن لفظ الْجمع إِذا اطلق فَمَا أقل محامله لله؟ وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك فَذهب الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة وَطَائِفَة من أهل اللُّغَة إِلَى أَن أقل الْجمع ثَلَاثَة وَإِلَيْهِ مَال ابْن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ، وَذهب مَالك رَضِي الله عَنهُ وَكثير من أهل اللُّغَة وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ إِلَى أَن أقل الْجمع اثْنَان وَإِلَيْهِ مَال عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ. [797] وَإِنَّمَا يظْهر أثر الْخلاف فِي مَوضِع يحْتَاج فِيهِ إِلَى أقل الْجمع وَذَلِكَ مثل أَن يُوصي للْمَسَاكِين، أَو لأَقل من يتَنَاوَل هَذَا الِاسْم فَمن حمل الْجمع فِي أَقَله على الثَّلَاث ألزم صرف الْوَصِيَّة إِلَى الثَّلَاثَة وَمن قَالَ: أقل الْجمع اثْنَان صرف ذَلِك إِلَى الِاثْنَيْنِ. [798] وَقد ارتضى القَاضِي رَضِي الله عَنهُ مَذْهَب مَالك رَضِي الله عَنهُ وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بأَشْيَاء مِنْهَا: أَن الْكِنَايَة فِي الِاسْتِقْبَال عَن الِاثْنَيْنِ كالكناية عَن الثَّلَاث إِذا كَانَ الْمُسْتَقْبل مِمَّا يتَقَدَّم عَلَيْهِ النُّون فَتَقول: " فعلنَا " " نَفْعل " فتريد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 بِهِ الِاثْنَيْنِ نَفسك وَصَاحِبك، وَتطلق ذَلِك وتريد جمعا كثيرا، وَذَلِكَ مجْرى نَحن فَيقدر بذلك أَن اقل الْجمع يشْتَمل على الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة فَصَاعِدا. وأوضح ذَلِك بِآيَة من كتاب الله تَعَالَى، مِنْهَا قَوْله عز وَجل: {إِن تَتُوبَا إِلَى الله فقد صغت قُلُوبكُمَا} ، فَأطلق اسْم الْقُلُوب على القلبين. وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي قصَّة مُوسَى وَهَارُون: {إِنَّا مَعكُمْ مستمعون 15} ، فكنى عَنْهَا بِالْمِيم وَالْكَاف وَهُوَ كِنَايَة الْجمع، وَقَالَ تَعَالَى فِي قصَّة يَعْقُوب فِي الْأَخْبَار: {عَسى الله أَن يأتيني بهم جَمِيعًا} وَهُوَ يَعْنِي يُوسُف وبنيامين، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا} فكنى عَن الطَّائِفَتَيْنِ من الْمُؤمنِينَ بواو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 الْجمع ثمَّ عَاد اللَّفْظ إِلَى / التَّثْنِيَة فِي قَوْله: {فأصلحوا بَينهمَا} . وَقَالَ [91 / ب] تَعَالَى: فِي قصَّة سُلَيْمَان: {وَدَاوُد وَسليمَان إِذْ يحكمان فِي الْحَرْث} إِلَى قَوْله: {وَكُنَّا لحكمهم شهدين 78} . وَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ تسوروا الْمِحْرَاب 21} ، وَكَانَا خصمين كنى عَنْهُمَا بواو الْجمع وَالدَّلِيل على أَنَّهُمَا كَانَا خصمين قَوْله: {خصمان بغى بَعْضنَا على بعض} . إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تتبعه وكل مَا ثَبت فِي كتاب الله تَعَالَى فِي آيَات فَمن ادّعى كَونه م مجَازًا فِيمَا اسْتعْمل فِيهِ افْتقر إِلَى دَلِيل، وَرُبمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي بعض هَذِه الْآيَات بطرق من التَّأْوِيل وَلَا إِلَى إِزَالَة الظَّوَاهِر دون إِقَامَة الْأَدِلَّة، وَأقوى الْآيَات عَلَيْهِم قَوْله تَعَالَى: {فقد صغت قُلُوبكُمَا} . [799] وَإِن اسْتدلَّ من صرف الْأَقَل إِلَى الثَّلَاث بِمَا روى عَن ابْن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ: " كَانَ لَا يحجب الْأُم بأخوين فَقَالَ لعُثْمَان رَضِي الله عَنهُ لما حجبها بأخوين من الثُّلُث إِلَى السُّدس: الأخوان ليسَا بإخوة فِي لِسَان قَوْمك، وَلم يُنكر عَلَيْهِ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ ذَلِك فِي اللُّغَة قيل لَهُم: تمسكتم ببعضهم الحَدِيث وَتَمَامه مَا رُوِيَ أَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ لَهُ: إِن قَوْمك حجبوها " وَهَذَا تَصْرِيح مِنْهُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ يَقُول كَيفَ تَدعِي لِسَان قَوْمك وهم حجبوها وَهَذَا إفصاح مِنْهُ بالإنكار. [800] فَإِن استدلوا بِأَن أهل اللُّغَة قسموا الْأَسْمَاء ثَلَاثَة اضْرِب. فَمِنْهُ اسْم الْوَاحِد، وَهُوَ قَوْلك رجل، وَمِنْه اسْم التَّثْنِيَة وَهُوَ قَوْلك رجلَانِ، وَمِنْه اسْم الثَّلَاث فَصَاعِدا وَهُوَ قَوْلك رجال، فَحمل رجال على رجلَيْنِ كحمل رجلَيْنِ على رجال. فَيُقَال لَهُم: لَيْسَ فِي وضعهم أَن الِاثْنَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 لَيْسَ بِجمع، وَإِنَّمَا مُرَادهم فِي التَّفْصِيل الَّذِي ذكرتموه أَن الرجلَيْن ينبىء على عددمحصور، وَالرِّجَال ينبىء عَن الرجلَيْن وَعَن عدد لَا ينْحَصر، وَهَذَا كَمَا أَنهم قَالُوا لعدد مَخْصُوص عشرَة رجال وَقَالُوا للَّذين لَا يحصرون رجال، وَإِن كَانَ هَذَا ينْطَلق على الْعشْرَة انطلاقه على مَا فَوْقهَا. فَإِن قَالُوا: لم قُلْتُمْ أَن مقصدهم ذَلِك؟ قُلْنَا: وَأَنْتُم لم قُلْتُمْ أَن مقصدهم نفي الْجمع عَن الِاثْنَيْنِ فتقابل الدعوتان وَسقط. [801] فَإِن قَالُوا: لَو قَالَ الْقَائِل رَأَيْت الرِّجَال، وَرَأَيْت النَّاس، وَكَانَ قد رأى اثْنَيْنِ حسن تَكْذِيبه، فَيُقَال لَهُ: إِنَّمَا رَأَيْت رجلَيْنِ وَمَا رَأَيْت الرِّجَال. . قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه مَمْنُوع فانا إِذا صرفنَا أقل الْجمع إِلَى اثْنَيْنِ فَلَا نسلم تَجْوِيز تَكْذِيبه، بل يحسن أَن يَقُول رَأَيْت الرِّجَال، وَقد رأى رجلَيْنِ. [802] فَإِن قَالُوا: لَو كَانَ الرِّجَال ينْطَلق على الرجلَيْن يحسن أَن يَقُول رَأَيْت اثْنَيْنِ رجال كَمَا يحسن أَن يَقُول رَأَيْت ثَلَاثَة رجال. قُلْنَا: أَلْفَاظ الْجمع يتخصص فِي اللُّغَة بمواردها فَرب جمع يسْتَعْمل فِي مَوضِع وَلَا يسْتَعْمل فِي غَيره، وَهَذَا كَمَا أَنَّك تَقول عشرَة دَرَاهِم، وَلَا تَقول: ألف دَرَاهِم ثمَّ هَذَا لَا يدل على أَن الْألف لَيست بِجمع. ولسنا نرى الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب يُفْضِي إِلَى الْقطع فَهُوَ وَالله أعلم من مسَائِل الِاجْتِهَاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 (152) القَوْل فِي الرَّد على الْقَائِلين بالخصوص [803] قد سبق الْكَلَام على الْقَائِلين بِالْعُمُومِ وَذكرنَا أَن الصَّحِيح [92 / أ] الْمصير إِلَى الْوَقْف / وأوضحنا وَجه الرج على من قطع قَوْله بِالْعُمُومِ، وحكينا أَن من الْعلمَاء من صَار إِلَى حمل الجموع على الْأَقَل، فَوجه الرَّد عَلَيْهِم أَن نقُول: انتم لَا تخلون إِمَّا أَن تَقولُوا أَن لفظ الْجمع إِذا ورد فِي المعرض الَّذِي يعممه أهل الْعُمُوم فَهُوَ مَوْضُوع للثَّلَاثَة مجَاز فِيمَا فَوْقهَا، وَأما أَن تَقولُوا أَنه مُسْتَعْمل فِي الثَّلَاثَة ومستعمل فِيمَا فَوْقهَا حَقِيقَة، وَلَكِن إِذا ورد مُطلقًا فههنا مِنْهُ الْأَقَل واستربنا فِي الْبَاقِي فَإِن صرتم إِلَى الْقسم الأول وَهُوَ أَنه حَقِيقَة فِي الأول وَهُوَ مَوْضُوع لَهُ فِي وضع اللُّغَة فننصب عَلَيْكُم فِي ادعائكم ذَلِك على اللُّغَة من الدّلَالَة كَمَا نصباه على الْقَائِلين بِالْعُمُومِ. فَنَقُول: هَذَا الَّذِي ادعيتموه لَا تخلون إِمَّا أَن تسندوا دعواكم إِلَى عقل أَو نقل واطراد الدَّلِيل كَمَا سبق. وَإِن هم قَالُوا إِن هَذَا اللَّفْظ يرد على مَا فَوق الثَّلَاث كَمَا يرد للثلاث فقد انْطلق القَوْل بالخصوص، فَإِن من مَذْهَب الْقَائِلين بِهِ أَن مُقْتَضى اللَّفْظ الْخُصُوص لَا غير، فَإِذا اخْتَارُوا هَذَا الْقسم الْأَخير فَهُوَ تَصْرِيح بِالْوَقْفِ فَإِن الْقَائِلين بِالْوَقْفِ رُبمَا يَقُولُونَ إِنَّا نفهم من لفظ الْجمع بعض المسميات وَإِنَّمَا الاسترابة فِي الشُّمُول، قبُول الِاخْتِلَاف أدّى إِلَى أقل الْجمع فقد قدمنَا فِيهِ صَدرا من الْكَلَام فَهَذِهِ الطَّرِيقَة الَّتِي ذَكرنَاهَا تنبهك على مَقْصُود الْبَاب اسْتِدْلَالا وانفصالا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 [804] فَإِن قَالُوا الْأَقَل مستيقن، وَالْبَاقِي مَشْكُوك فِيهِ فَمَا قدمْنَاهُ من التَّفْصِيل يُغني إِعَادَة الْجَواب، على أَنا نقُول: من صَار إِلَى الْعُمُوم لم يسلم لكم التَّمَسُّك فَمَا يزِيد على الثَّلَاث عِنْد تحقق تجرد اللَّفْظ عَن الْقَرَائِن، ثمَّ الَّذِي يُحَقّق مَا قُلْنَاهُ أَن نقُول لَو سمي مُسَمّى الْأَرْبَعَة رجَالًا فَهَذِهِ التَّسْمِيَة مجَازًا أَو حَقِيقَة؟ فَإِن قُلْتُمْ: إِنَّهَا تجوز، كَانَ ذَلِك بهتا مِنْكُم وجحدا لإِجْمَاع أهل اللُّغَة وَإِن زعمتم أَن ذَلِك حَقِيقَة فَأنى يَسْتَقِيم مَعَ ذَلِك الْمصير إِلَى أَن مُقْتَضى اللَّفْظ الْخُصُوص. (153) فصل [805] إِذا قُلْنَا بِالْعُمُومِ وجوزنا تَخْصِيصه فَإلَى أَي حد يجوز التَّخْصِيص؟ اخْتلف فِيهِ الْعلمَاء، فَذهب الْقفال الشَّاشِي إِلَى أَن تَخْصِيص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 الْجمع يجوز بِشَرْط اسْتِبْقَاء اقل الْجمع حَتَّى لَو لم يبْق من اللَّفْظ إِلَّا ثَلَاثَة من المسميات لم يسغْ التَّخْصِيص بعد ذَلِك، وَإِنَّمَا يتَصَوَّر النّسخ، وَذهب مُعظم أَصْحَاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ إِلَى جَوَاز التَّخْصِيص مَا بَقِي فِي قَضِيَّة اللَّفْظ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 [806] وَلم نر هَذَا الْفَصْل مَنْصُوصا للْقَاضِي رَضِي الله عَنهُ فنومىء إِلَى مَا ذكر فِيهِ لترى فِيهِ رَأْيك. [807] فَأَما االقفال فقد تمسك باللغة فَإِن أَرْبَاب اللِّسَان جعلُوا الرِّجَال مثلا اسْما لثَلَاثَة فَصَاعِدا فَمن اراد التنقيص عَن هَذَا الْمبلغ كَانَ تَارِكًا لقضية اللُّغَة. [808] وَالَّذين جوزوا التَّخْصِيص من الثَّلَاث أَيْضا احْتَجُّوا بحروف مِنْهَا: أَن التَّخْصِيص ينزل منزلَة الِاسْتِثْنَاء، ثمَّ الِاسْتِثْنَاء يسوغ مَا بَقِي من الْمُسْتَثْنى عَنهُ وَاحِد فَكَذَلِك التَّخْصِيص، وَقد قدمت من أصل القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أَن الِاسْتِثْنَاء على هَذَا الْوَجْه لَا يَصح فَمَا أرى ذَلِك يَسْتَقِيم على أَصله. وَمِمَّا تمسكوا بِهِ هَؤُلَاءِ أَن قَالُوا: لفظ " من " و " مَا " ينبىء عَن التَّعْمِيم ثمَّ يجوز التَّخْصِيص مِنْهُ دون / الثَّلَاثَة وَكَذَلِكَ الْجمع. [92 / ب] وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ مُسلم، وَلَكِن إِنَّمَا الْخلاف فِي أَلْفَاظ الجموع وَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 ذَكرُوهُ تمسك بِقِيَاس. [809] ثمَّ انْفَصل هَؤُلَاءِ عَمَّا قَالَه الْقفال فَقَالُوا: يجوز ترك حقائق الْأَلْفَاظ إِلَى التَّجَوُّز بِمَا يجوز التَّخْصِيص بِهِ، قَالُوا: وَكَذَلِكَ حملنَا قَوْله: {لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى} على مَوضِع الصَّلَاة، ومحمله، وَإِن كَانَ ذَلِك مجَازًا، فَهَذَا مَا قَالُوهُ فِي الْمَسْأَلَة نظر، لَعَلَّنَا نشبعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 (154) بَاب الْكَلَام فِي دَلِيل الْخطاب [810] اعْلَم وفقك الله، أَن لحن الْخطاب وفحواه مِمَّا قَالَ بِهِ الكافة بِلَا اخْتِلَاف وَذَلِكَ نَحْو قَوْله عز وَجل: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} ، ففحوى ذَلِك النَّهْي عَمَّا فَوق التأفيف من ضروب التعنيف، كالضرب والسب وَالْقَتْل وَنَحْوهمَا. [811] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَنحن نعلم ضَرُورَة مثل هَذَا الفحوى من مثل هَذَا الْكَلَام فِي قصد أهل اللُّغَة، والمستريب فِي ذَلِك مشكك فِي الضَّرُورَة، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تظْلمُونَ فتيلا 77} ، فيفهم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 فحوى ذَلِك نفي الظُّلم فِيمَا فَوق الفتيل، وَقس بذلك أَمْثِلَة. [812] فَأَما مَا فِيهِ الِاخْتِلَاف من دَلِيل الْخطاب وَمَفْهُومه فنصوره أَولا ثمَّ نذْكر وُجُوه الِاخْتِلَاف فِيهِ، فَإِذا تخصص الْمَذْكُور بِأحد وَصفيه أَو باحد أَوْصَافه فَهَل يدل تَخْصِيصه بِالْوَصْفِ الْمَذْكُور فِي الْمنطق بِهِ على نفي الحكم فِيمَا يَنْتَفِي عَنهُ الْوَصْف وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَمن قَتله مِنْكُم مُتَعَمدا} ، فالتعمد وصف فِي الْقَتْل خصص بِالذكر، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْت مُنْذر من يخشها 45} فَهَذَا الْإِنْذَار لمن يخْشَى، وَكَذَلِكَ قيد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الزَّكَاة بالسائمة من الْغنم فَقَالَ: " فِي سَائِمَة الْغنم الزَّكَاة " فَهَذَا وَجه تَصْوِير تَخْصِيص الْمَذْكُور بِأحد الْأَوْصَاف. فقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ فَصَارَ الشَّافِعِي ومعظم الْفُقَهَاء من اصحاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 مَالك وَأهل الظَّاهِر إِلَى أَن التَّخْصِيص بِالْوَصْفِ يدل على نفي مَا عداهُ وَعَلِيهِ يدل كَلَام شَيخنَا أبي الْحسن رَضِي الله عَنهُ فِي بعض كتبه فَإِنَّهُ اسْتدلَّ فِي إِثْبَات خبر الْوَاحِد بقوله تَعَالَى: {إِن جَاءَكُم فَاسق بنبإ فَتَبَيَّنُوا 9، فمفهوم ذَلِك يدل على أَن غير الْفَاسِق لَا يتثبت فِي قَوْله وَكَذَلِكَ تمسك فِي مسالة الرُّؤْيَة بقوله تَعَالَى فِي الإنباء عَن أَحْوَال الْكَفَرَة: (كلا إِنَّهُم عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون 15} ، فاعتصم بِمَفْهُوم الْآيَة فِي تثبيت الرُّؤْيَة فِي حق أهل الْجنَّة، وَذهب أهل الْعرَاق وَطَائِفَة من اصحاب مَالك رَضِي الله عَنهُ إِلَى إبِْطَال دَلِيل الْخطاب وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 [813] ثمَّ الْقَائِلُونَ بِالْمَفْهُومِ انقسموا فَمن حقق مِنْهُم صَار إِلَى أَن دَلِيل الْخطاب إِنَّمَا يتَقَدَّر عِنْد تَقْيِيد الْخطاب بِبَعْض الْأَوْصَاف والنعوت، فَأَما تَخْصِيص أَسمَاء الألفاب بِالذكر فَلَيْسَ لَهَا لدَلِيل فِي نفي مَا سواهَا. وَعلا بعض الْقَائِلين بِالْمَفْهُومِ فَزعم أَن تَخْصِيص أَسمَاء الألقاب بِالذكر يدل على نفي الحكم فِيمَا عدا المسمين حَتَّى قَالُوا على طرد ذَلِك: لَو خلينا وَظَاهر قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " وَفِي الْغنم زَكَاة " لنفينا الزَّكَاة عَمَّا عدا الْغنم من الْمَوَاشِي وسنرمز إِلَى وَجه الرَّد على هَذِه الطَّائِفَة فَإِن خَرجُوا بِهَذَا الْمَذْهَب [93 / أ] عَن حد / الْجِدَال كَمَا نقدر. [814] ثمَّ اسْتدلَّ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي إبِْطَال القَوْل بِدَلِيل الْخطاب بِمثل مَا استدى بِهِ فِي مَسْأَلَة الْعُمُوم وَالْأَمر فَقَالَ مَا ادعيتموه على أَرْبَاب اللِّسَان لَا تخلون فِيهِ، إِمَّا أَن تسندوه إِلَى عقل أَو نقل فَإِذا بَطل إِسْنَاده إِلَى قَضِيَّة الْعقل فالنقل يَنْقَسِم إِلَى تَوَاتر يَقْتَضِي الضَّرُورَة إِلَى غَيره، واطرد الدّلَالَة على الْمنْهَج السَّابِق فِي الْمسَائِل الْمُتَقَدّمَة واعتصم أَيْضا بِحسن الِاسْتِفْهَام فَإِن من قَالَ لعَبْدِهِ: إِذا ضربك زيد رَاكِبًا فَاضْرِبْهُ، فَيحسن من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 الْمُخَاطب أَن يَقُول: فَإِن ضَرَبَنِي رَاجِلا أَفَأَضْرِبهُ؟ وَهَذَا مِمَّا سبق استقصاؤه ايضا، وَأَوْمَأَ إِلَى انقسام الْكَلَام فَمن مُخَصص فِي مجاري الْكَلَام لم ينتف مَا سواهُ، وَمن مُخَصص بِأحد أَوْصَافه انْتَفَى مَا سواهُ وَهَذَا بِعَيْنِه مَا قدمْنَاهُ فِي مسالة الْعُمُوم والأوامر. [815] وَمِمَّا جدده فِي هَذِه المسالة أَن قَالَ: قد وافقتمونا على أَن أَسمَاء الألقاب لَا دَلِيل لَهَا فِي النَّفْي، وخصصتم الدَّلِيل بالأوصاف وَمَا يضاهيها، وَهَذَا تحكم مِنْكُم على اللُّغَة فَإِن الثَّابِت فِي أصل وَضعهَا أَن الْأَسَامِي إِنَّمَا وضعت لتمييز المسميات وَالْعلم بِأَعْيَانِهَا سَوَاء كَانَت الْأَسَامِي ألقابا أَو أعلاما أَو لم تكن كَذَلِك وَكَانَت مُشْتَقَّة من أَوْصَاف فَمن أَرَادَ أَن يزِيد على مَا ثَبت فِي اصل الْوَضع احْتَاجَ إِلَى دلَالَة. [816] فَإِن قيل: فقد نفيتم طرق الْقيَاس فِي إِثْبَات اللُّغَات ونراكم تقيسون الْأَسْمَاء المشتقة على أَسمَاء الألقاب. قُلْنَا: لم يخرج كلامنا مخرج الْقيَاس وَلَكنَّا قُلْنَا: الثَّابِت فِي النَّوْعَيْنِ من الْأَسْمَاء الدَّالَّة على المسميات وَثُبُوت الْعلم بِأَعْيَانِهَا، فَمن أَرَادَ الزِّيَادَة على ذَلِك أَو التحكم بِالْفَصْلِ بَين النَّوْعَيْنِ من الْأَسْمَاء لم يكن بِأولى من يعكس عَلَيْهِ دَعْوَاهُ، وَإِن ركب بعض الْقَائِلين بِالْمَفْهُومِ وَزعم أَن تخصص أَسمَاء الألقاب كتخصص الْأَسْمَاء المشتقة فنبين لهَؤُلَاء انتسابهم إِلَى جحد الضَّرُورَة ثمَّ نقطع الْكَلَام عَنْهُم. ] 817] وَوجه الْإِيضَاح فِيهِ أَن نقُول: نَحن نعلم ضَرُورَة أَن أهل اللُّغَة لم يضعوا قَوْلهم: رَأَيْت زيدا لنفي الرُّؤْيَة عَمَّا عدا زيد من مَكَانَهُ وثيابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 وَغَيرهمَا وَكَذَلِكَ لم يضعوا ق قَوْلهم: زيد عَالم لنفي هَذِه الصّفة عَمَّا سوى زيد على بسيط الأَرْض وَلم يقصدوا بذلك نفي هَذِه التَّسْمِيَة عَن الْمَلَائِكَة، والأنبياء، وَكَذَلِكَ إِذا قَالُوا: عَمْرو عدل رَضِي، لم يضعوا هَذَا اللَّفْظ لنفي الْعَدَالَة عَمَّا سوى عَمْرو وَمن جحد ذَلِك انتسب إِلَى مراغمة الضَّرُورَة، وَيلْزم قطع الْكَلَام عَنْهُم فِي حكم النّظر. [818] شُبْهَة الْقَائِلين بِالْمَفْهُومِ: فَإِن قَالُوا: قد نقل القَوْل بِالْمَفْهُومِ من لُغَة الْعَرَب، أَئِمَّة اللُّغَة مِنْهُم الشَّافِعِي وَهُوَ موثوق بِهِ فِيمَا ينْقل، وَكَذَلِكَ نقل أَبُو عُبَيْدَة ذَلِك عَن الْعَرَب حَتَّى قَالَ فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لي الْوَاجِد ظلم " هَذَا دَلِيل على أَن غير الْوَاجِد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 بِخِلَاف الْوَاجِد وَتكلم على مَا روى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: لِأَن يمتلى جَوف أحدكُم قَيْحا حَتَّى يرِيه خير من أَن يمتلى شعرًا،، فَقَالَ: فَهَذَا يدل على أَن من أحسن الشّعْر وَغَيره لَا يدْخل تَحت الْوَعيد، وَأما ذكره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُخْتَصّ بِأَن يمتلىء الْجوف شعرًا، وَهَذَا إِنَّمَا يُحَقّق فِي حق من لَا يحسن سواهُ. فَيُقَال / لَهُم ذَلِك اسْتِدْلَالا، واحتجاجا للإثباته بِأَن تَخْصِيص الشَّيْء [93 / ب] بِأحد أَوْصَافه لَا يُفِيد فَائِدَة سوى نفي مَا عدا الْمَذْكُور، فصدر الْكَلَام مِنْهُمَا مصدر الِاسْتِدْلَال، لَا مصدر النَّقْل، والمستدل يخطىء ويصيب، على أَنا لَو سلمنَا نقلهَا فَهُوَ نقل آحَاد، وَلَا تثبت اللُّغَة بِنَقْل الْآحَاد، على أَنه قد صَار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 إِلَى نفي الْمَفْهُوم آخَرُونَ فَإِن سَاغَ لكم أَن تقدروا أَن حجَّة مَذْهَب الشَّافِعِي نقلا مِنْهُ فيسوغ لخصمكم أَن يَجْعَل مَذْهَب غَيره نقلا لإبطال دلل الْخطاب. [819] فَإِن استدلوا بأخبار، وآيات، وآثار، وَنحن نذْكر جملها، ثمَّ ننفصل عَنْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا. فمما تمسكوا بِهِ أَن قَالُوا: قَوْله تَعَالَى: {إِن تستغفر لَهُم سبعين مرّة فَلَنْ يغْفر الله لَهُم} ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " وَالله لأزيدن على السّبْعين " قَالُوا: فَلَو أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فهم من التَّقْيِيد بالسبعين أَن الحكم فِي الزِّيَادَة غير الحكم فِي السعبين لما قَالَ ذَلِك. [820] وَمِنْه قَول يعلى بن أُميَّة لعمر رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله تَعَالَى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 {أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ} ، فَقَالَ: كَيفَ نقصر وَقد أمنا؟ فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: تعجبت مِمَّا تعجبت مِنْهُ فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " صَدَقَة تصدق على عباده فاقبلوا صدقته " فدلت الْقَضِيَّة على مصيرهما إِلَى دَلِيل الْخطاب وَعنهُ ينبىء تعجبهما من ثُبُوت الحكم فِي غير الصُّورَة الْمقيدَة. [821] مِنْهَا: أَن الصَّحَابَة زَعَمُوا أَن قَوْله: " المَاء من المَاء " مَنْسُوخ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِذا التقى الختانان وَجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 الْغسْل: وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك إِلَّا بِتَقْدِير نفي الْغسْل من غير إِنْزَال، فَلَمَّا فَهموا ذَلِك من قَوْله: المَاء من المَاء عدوا قَوْله: إِذا التقى الختانان، نسخا. [822] وَكَذَلِكَ اسْتدلَّ ابْن عَبَّاس فِي نفي رَبًّا التَّقْدِير بقوله: " إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة: وَهَذَا تمسك بِالْمَفْهُومِ الْمَسْكُوت عَنهُ. [823] فَيُقَال لَهُم: أما قَوْله تَعَالَى: {استغفرلهم اَوْ لَا تستغفر لَهُم} ، فَلَا حجَّة فِيهِ من أوجه: أحد [هَا] أَن الْخَبَر الَّذِي رويتموه ضَعِيف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 غير مدون فِي الصِّحَاح وَكَيف يَصح ذَلِك مِمَّن هُوَ افصح الْعَرَب. وَقد أطلق مثل هَذَا الْكَلَام فهم من شدا طَرِيقا من الْعَرَبيَّة أَن الْمَقْصُود مِنْهُ تَحْقِيق الْبَابَيْنِ، وَقطع موارد الرَّجَاء، وَلَيْسَ الْمَقْصد مِنْهُ تَعْلِيق الحكم بالسبعين، فَإنَّك إِذا قلت وَأَنت وَاجِد على زيد اشفعوا لَهُ أَو لَا تشفعوا لَهُ وَلَو شفعتم سبعين مرّة لم تشفعوا فِيهِ، علم ضَرُورَة أَن مقصدك بِهَذَا قطع الأطماع لَا التَّعْلِيق بالسبعين فَكيف فهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قلتموه. ثمَّ الَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَنا أجمعنا على أَن الرب سُبْحَانَهُ مَا أَرَادَ تَعْلِيق الحكم بالسبعين فَكيف فهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا لم يردهُ الرب؟ وأنى يَسْتَقِيم ذَلِك؟ سِيمَا مَعَ نفي الْغَلَط عَن الْأَنْبِيَاء فِي مجاري الْوَحْي. ثمَّ نقُول: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنه لم يفهم نفي الاسْتِغْفَار وَرَاء السّبْعين بالتقييد بالسبعين، وَلَكِن قد استدرك جَوَاز الاسْتِغْفَار للكفرة عقلا، وعد ذَلِك من جائزات الْعُقُول، فَلَمَّا ورد الْخطاب فِي السّبْعين، اعْتقد مَا وَرَاءه على حكم التجويز فِي / الْمُسْتَدْرك بِأَصْل الْعقل. [94 / أ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 [824] فَأَما استدلالهم بِحَدِيث ابْن عَبَّاس، واستدلاله بِالْآيَةِ فِي حجب الْأُم بِالثلَاثِ من الْإِخْوَة فَصَاعِدا قُلْنَا: إِن سَاغَ لكم الِاسْتِدْلَال بقول ابْن عَبَّاس فقد صَار مُعظم الصَّحَابَة إِلَى مُخَالفَته، فلئن كَانَ قَوْله حجَّة فِي إِثْبَات الْمَفْهُوم كَانَ قَول مخالفيه حجَّة فِي نَفْيه على ان ابْن عَبَّاس، وَاحِد لَا يعْصم فَلَا يحْتَج بقوله. [825] وَأما حَدِيث يعلى بن أُميَّة وَعمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُمَا تَعَجبا لِأَن الْإِتْمَام كَانَ قد اسْتَقر قبل نزُول رخصَة الْقصر، ثمَّ لم يتَوَلَّى رخصَة الْقصر إِلَّا فِي حَالَة الْخَوْف، وَاقْتضى الْحَال دوَام الْإِتْمَام الثَّابِت فِي حَالَة الْأَمْن لَا أَنَّهُمَا فهما من نفس اللَّفْظ مَا ادعيتموه وَهَذَا بَين لكل من تَأمل. [826] وَأما تمسكهم بقوله: " المَاء من المَاء " فلاتحقيق وَرَاءه من أوجه، أَحدهَا: أَنه نقل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " لَا مَاء إِلَّا من المَاء " وَهَذَا صَرِيح فِي النَّفْي. وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنه عبر على بَاب رجل من الْأَنْصَار فصاح بِهِ فاحتبس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 سَاعَة ثمَّ خرج وراسه يقطر مَاء، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَعَلَّنَا أعجلناك، لَعَلَّنَا أقحطناك فَإِذا واقعت وَلم تنزل فَلَا تَغْتَسِل فلئن صَحَّ من الصَّحَابَة نسخ ذَلِك فَإِنَّمَا صرفوه إِلَى هَذِه الْأَلْفَاظ المصرحة، وَلم يَصح عَنْهُم أَن نفس قَوْله: " المَاء من المَاء " مَنْسُوخ. على أَن نقُول: مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْمُحَقِّقين أَن قَوْله: " المَاء من المَاء " من المحتملات على مَا سَنذكرُهُ فِي بَاب المحتملات إِن شَاءَ الله تَعَالَى. ثمَّ نقُول: أسامي الألقاب لَا مَفْهُوم لَهَا، وَقَوله: " المَاء " من أسامي الألقاب فَكيف تمسكتم بِهِ. [827] فَإِن قَالُوا: فِي الْخَبَر تَقْدِير هُوَ وصف فَإِن تَقْدِيره وجوب اسْتِعْمَال المَاء من نزُول المَاء. قُلْنَا: فَأنى يَسْتَقِيم ادِّعَاء الْإِجْمَاع مَعَ هَذِه التقديرات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 [828] فَأَما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة " وزعمتم أَن أبن عَبَّاس تمسك بمفهومه فَنَقُول: إِن كَانَ فِي تمسكه معتصم فَفِي إبِْطَال غَيره لاستدلاله أقوى اعتصام لنا، ونقول: قد روى صَرِيحًا أَنه قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة " وَهَذَا تَصْرِيح بِالنَّفْيِ على ان " إِنَّمَا " فِيهِ تمحيق، وَتَحْقِيق، وَنفي، وَإِثْبَات، فَلَا فرق بَين أَن يَقُول الْقَائِل: إِنَّمَا صديقي زيد، أَو يَقُول: إِنَّمَا عدوي زيد، وَنحن لم نَخْتَلِف فِي أَمْثَال هَذِه الْعبارَات. على أَنا نقُول: لَعَلَّ ابْن عَبَّاس اسْتدلَّ على غير هَذَا الْوَجْه الَّذِي قلتموه فَقَالَ: ثَبت صِحَة البيع على الْجُمْلَة بِالْآيَاتِ الدَّالَّة عَلَيْهَا، وَثَبت بِهَذَا الْخَبَر اسْتثِْنَاء رَبًّا النَّسِيئَة، فَبَقيَ الْبَاقِي على ظواهر الاية، فَكيف يَسْتَقِيم التَّمَسُّك بِمَا هُوَ عرضة لهَذِهِ الجائزات فِي مسَائِل الْقطع. [829] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن استدلوا بِأَن قَالُوا: إِذا قَالَ الْقَائِل لمخاطبه: اشْتَرِ لي عبدا أسود، عقل من التَّقْيِيد " بالأسود " مَنعه من ابتياع الْأَبْيَض وَمَا ذَاك إِلَّا للتَّقْيِيد بالنعت. فَيُقَال لَهُم: هَذَا لَا معتصم فِيهِ وَذَلِكَ أَنه إِنَّمَا يتَوَصَّل إِلَى صرف العقد إِلَيْهِ بأدلة وَقد تمهد فِي قَضِيَّة الشَّرْع توقف الْعُقُود المنصرفة إِلَى الموكلين على إذْنهمْ بِالْقدرِ الَّذِي يتَعَلَّق الْإِذْن بِهِ سينسخه الْمُوكل، وَيبقى الْبَاقِي على الافتقار إِلَى الْإِذْن فَخرج من ذَلِك أَن التَّخْصِيص بالأسود لَا يتَضَمَّن نفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 مَا عداهُ وَلَكِن يَسْتَفِيد العقد الْمَأْذُون / فِيهِ بِالْإِذْنِ وَيبقى بَاقِي الْعُقُود على [94 / ب] مَا كَانَت عَلَيْهِ قبل الْإِذْن [830] وَالَّذِي اعْتمد عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي تثبيت دَلِيل الْخطاب أَن قَالَ: اتّفق أهل الْعَرَبيَّة على أَن مَا قيد بِوَصْف خصص بِهِ فيطلب للتخصيص فَائِدَة فِي قَضِيَّة الْكَلَام، إِن لم ينط بهَا فَائِدَة يعد مُطلقهَا لاغيا، فَإِذا قيدت الْغنم بِكَوْنِهَا " سَائِمَة " وَجب أَن يكون للتَّقْيِيد " بالسوم " فَائِدَة، فَإِذا ساوت المعلوفة السَّائِمَة فِي حكم الزَّكَاة كَانَ ذَلِك إِلْغَاء للتَّقْيِيد والتخصيص، فَهَذِهِ عُمْدَة القَوْل. [831] وَأول مَا يفاتحون بِهِ أَن يُقَال لَهُم: وضعتم الِاسْتِدْلَال فِي غير مَوْضِعه فَإِن مجاري الْكَلَام تعقل أَولا، ثمَّ يَبْتَغِي فَائِدَة، فالفائدة فرع لما عقل فَلَا يحسن فِي نظم الِاسْتِدْلَال فِي غير تَرْتِيب الأَصْل على الْفَرْع فَإِن الْعلم بفائدة الْكَلَام تبع للْعلم بِهِ فَكيف يَتَرَتَّب الْعلم بِأَصْل الْكَلَام، وَمُقْتَضَاهُ على الْفَائِدَة الْمَطْلُوبَة مِنْهُ. [832] ثمَّ يُقَال لَهُم: لَو سلم لكم أَن فِي التَّقْيِيد فَائِدَة لم تعثروا عَلَيْهَا، وَأَنْتُم بصدد الزلل. فَإِن قَالُوا: فأظهروها نتكلم عَلَيْهَا. قيل لَهُم: لَيْسَ على خصمكم إظهارها بل عَلَيْكُم نصب الدّلَالَة القاطعة على نفي كل فَائِدَة سوى مَا ذكرتموها، وأنى لكم ذَلِك وَهَذِه الطّلبَة مِمَّا لَا منجأ مِنْهَا. [833] ثمَّ نقُول: بِمَ تنكرون على من يُقَابل التَّقْيِيد بِالْوَصْفِ بالتقييد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 بأسماء الْأَعْلَام والألقاب، فلئن لزم طلب فَائِدَة فِي التَّقْيِيد بِالْوَصْفِ، فَمَا أنكرتم من مثله فِي أسامي الألقاب؟ لَا نستريب أَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ لَا يستركب ذَلِك، فَلَو ارْتَكَبهُ مرتكب فقد فرط الْكَلَام عَلَيْهِ. [834] ثمَّ يُقَال لَهُم: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن فَائِدَة تَخْصِيص السَّائِمَة بِالذكر أَن لَا تستثنى السَّائِمَة، وَلَا تخصص اللَّفْظَة الْعَامَّة فِيهَا، فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو قَالَ فِي الْغنم زَكَاة كَانَ تَخْصِيص هَذَا اللَّفْظ فِي السَّائِمَة وإخراجها عَن مُوجب اللَّفْظ بالتنصيص على السَّائِمَة لقيد الْمَنْع من إخْرَاجهَا عَن حكم وجوب الزَّكَاة وَهَذِه فَائِدَة وَاضِحَة. [835] أَو نقُول: إِنَّمَا خصص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " السَّائِمَة ط بِالذكر لتثبيت الحكم فِيهَا نصا، وليسوغ للمجتهدين استنباط الْعلَّة من الْمَنْصُوص عَلَيْهِ، وَالْقِيَاس عَلَيْهِ بلَاء وامتحانا للمجتهدين، ورد الْأَمر إِلَى تحريهم ليجازوا عَلَيْهِ أعظم الْأجر، وَهَذَا كَمَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَص فِي الربويات على الْأَشْيَاء السِّتَّة مَعَ الْقُدْرَة على لَفْظَة تعم جملَة أَبْوَاب الرِّبَا، بيد أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رام بالاقتصار عَلَيْهَا تسليط الْمُجْتَهدين على سَبِيل الِاجْتِهَاد. [836] وشبهة أُخْرَى لَهُم: فان قَالُوا: الحكم الْمُعَلق بِالصّفةِ الْخَاصَّة نَازل منزلَة الحكم الْمُعَلق بالعله، وَلَو علق الحكم بِالْعِلَّةِ وجد بوجودها، وَعدم بعدمها، فَيُقَال لَهُم: هَذَا تحكم مِنْكُم، فَلم زعمتم أَن التَّعْلِيق بِالصّفةِ [95 / أ] نَازل منزلَة التَّعْلِيل فَلَا يَجدونَ فِي تَحْقِيق هَذِه الدَّعْوَى ملْجأ، ثمَّ يُقَال لَهُم: / وَلَو خرج الْكَلَام مخرج التَّعْلِيل لم يتَضَمَّن ذَلِك على قَضِيَّة مَذْهَب مخالفيكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 انْتِفَاء الحكم عِنْد انْتِفَاء الْعِلَل، وَلَكِن يتَضَمَّن ثُبُوته عِنْد ثُبُوت مَا نصب عِلّة فِيهِ، وتبيين ذَلِك بالمثال أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو قَالَ فِي امْرَأَة بِعَينهَا: لَا يحل نِكَاحهَا لِأَنَّهَا مرتدة، فنستفيد من ذَلِك منع نِكَاح الْمُرْتَدَّة، وَلَا نستفيد مِنْهُ حصر التَّحْرِيم فِي الْمُرْتَدَّة، بل يجوز ثُبُوت التَّحْرِيم بعلل سوى مَا ذكره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَذَا وألفاظ صَاحب الشَّرِيعَة بصدد التَّخْصِيص والعلل المستنبطة السمعية لَا تخْتَص، ثمَّ هِيَ تطرد، وَلَيْسَ من شَرطهَا الانعكاس فاضمحل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. (155) فصل [837] إِذا علق الحكم بِشَيْء تَعْلِيق الْمَشْرُوط شَرطه فالقائلون بِدَلِيل الْخطاب يصيرون إِلَى أَن ذك يَقْتَضِي انْتِفَاء الحكم عِنْد انْتِفَاء الشُّرُوط. وَذَلِكَ أقوى عِنْدهم من دَلِيل الْخطاب. وَأما نفاة دَلِيل الْخطاب فقد اخْتلفُوا: فَذهب مُعظم أهل الْعرَاق، وَابْن سُرَيج، من أَصْحَاب الشَّافِعِي رَحمَه الله إِلَى أَن التَّعْلِيق بِالشّرطِ يدل على انْتِفَاء الحكم عِنْد انتفائه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 [838] وَالَّذِي اخْتَارَهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أَن التَّخْصِيص بِالشّرطِ لَا يدل على نفي الحكم عِنْد انْتِفَاء الشَّرْط كَمَا أَن التَّخْصِيص بِالْوَصْفِ لَا يدل على ذَلِك، وتبيين ذَلِك بالمثال، وَذَلِكَ أَن الْقَائِل إِذا قَالَ: زيد فَأكْرمه، وَإِن قَامَ فَأكْرمه، فَلَا يَقْتَضِي ذَلِك نفي إكرامه من غير قيام بل يَقْتَضِي أَن يكرم عِنْد الْقيام. [839] وَالَّذِي يُحَقّق مَا ارْتَضَاهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ. كل دَلِيل قدمْنَاهُ فِي مَسْأَلَة الْمَفْهُوم، ثمَّ نفرد هَذِه الْمَسْأَلَة بِكَلَام. فَنَقُول: إِنَّمَا فَائِدَة الشَّرْط فِي الْكَلَام أَن ينْتَصب عَلامَة لإِثْبَات الحكم، فَإِذا نصب الْمُتَكَلّم سَببا عَلامَة فَمن التحكم على قَضِيَّة الْكَلَام أَن تقدر شرطا لم يفصح بِهِ فِي حكم لم يُصَرح بِهِ، وأصل الصائرين إِلَى انْتِفَاء الشَّرْط يتَضَمَّن انْتِفَاء الحكم ينبىء عَن ذَلِك فَإِن الْمُطلق إِنَّمَا علق ثُبُوت الحكم على ثُبُوت الشَّرْط، [و] من يخالفنا فِي الْمَسْأَلَة يَجْعَل عَدمه شرطا فِي عدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 الحكم، وَهَذَا تثبيت شَرط ومشروط لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيل فِي وضع اللُّغَة [و] التَّقْسِيم الَّذِي صورنا بِهِ مَسْأَلَة الْمَفْهُوم من هَذَا الْموضع. [840] وَالَّذِي يُؤَكد مَا قُلْنَاهُ أَن الشَّرْط لَا يزِيد على الْعلَّة وَمَا نصب عِلّة يجوز أَن يثبت الحكم الْمُعَلق بهَا مَعَ عدمهَا. (156) فصل [841] إِذا علق الحكم على حرف من حُرُوف الْغَايَة مثل " حَتَّى " و " إِلَى " وَنَحْوهمَا فَمَا صَار إِلَيْهِ مُعظم نفاة دَلِيل الْخطاب أَن التَّقْيِيد بحروف الْغَايَة يدل على انْتِفَاء الحكم وَرَاء الْغَايَة. 3 [842] وَقد ردد القَاضِي رَضِي الله عَنهُ قَوْله فِي ذَلِك وَقَالَ: وَقد كُنَّا نصرنَا إبِْطَال حكم الْغَايَة فِي كتب وَالأَصَح عندنَا الْآن القَوْل بهَا فَإِذا قَالَ الْقَائِل: اضْرِب عَبدِي حَتَّى يَتُوب اقْتضى ذَلِك فِي وضع الْكَلَام الْكَفّ عَن ضربه إِذا تَابَ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة} يَقْتَضِي تثبيت الْقَتْل عَلَيْهِم مَا لم يبذلوا الْجِزْيَة، فَإِذا بذلوها كف عَنْهُم، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِأَن قَالَ: أجمع / نقلة اللُّغَات ومدونوها فِي مصنفاتهم على تثبيت هَذِه [95 / ب] الْحُرُوف وتسميتها حُرُوف الْغَايَة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 وَنحن نعلم أَن غَايَة الشَّيْء نهايته، فَلَو كَانَ تثبيت الحكم بعد الْغَايَة، لم يكن لتسميتها غَايَة معنى، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يستبشع فِي نظم الْكَلَام أَن يَقُول: اضْرِب عَبدِي إِلَى أَن يَتُوب أَو حَتَّى يَتُوب فَإِذا تَابَ فَاضْرِبْهُ. وأوضح ذَلِك بَان قَالَ: إِذا علق الحكم بِحرف من هَذِه الْحُرُوف فَلَا ينْتَظر الْكَلَام إِلَّا بِتَقْدِير إِضْمَار فِيهِ أَو تَقْدِير غَايَة بعد غَايَة، فَإِذا قَالَ الْقَائِل: اضربه حَتَّى يَتُوب فَمَعْنَى حَتَّى يَتُوب ثمَّ لَا تضربه. [843] وَالَّذِي عِنْدِي أَن الْكَلَام فِي هَذَا الْفَصْل لَا يَنْتَهِي إِلَى الْقطع بل هُوَ على التَّرَدُّد مَعَ القَوْل بِنَفْي دَلِيل الْخطاب، وَمَا من حرف أَو مينا إِلَيْهِ إِلَّا وللكلام فِيهِ مجَال. (157) فصل [844] فَإِن قَالَ الْقَائِل: فَمَا قَوْلكُم فِي " إِنَّمَا "؟ هَل يَقْتَضِي نفيا؟ حَتَّى إِذا قَالَ الْقَائِل: إِنَّمَا الزَّكَاة فِي السَّائِمَة اقْتضى ذَلِك نَفيهَا عَن المعلوفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 \ قُلْنَا: هَذَا مِمَّا ردد القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِيهِ قَوْله، فَقَالَ: قد ترد هَذِه اللَّفْظَة وَالْمرَاد بهَا تَحْقِيق معنى من غير تعرض لنفي حَقِيقِيّ وَذَلِكَ نَحْو قَوْله إِنَّمَا مُحَمَّد نَبِي الله، وَإِنَّمَا زيد عَالم، وَلَا يَعْنِي بذلك نفي النُّبُوَّة وَالْعلم عَن غَيرهمَا، وَلَكِن أظهر مُرَاده اقْتِضَاء النَّفْي فَإِن الْعَرَب لَا ت فصل بَين قَول الْقَائِل " إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة " وَبَين قَوْله " لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة "، وَقد سمى أهل اللُّغَة ذَلِك تمحيقا وتحقيقا ونفيا وإثباتا. [845] وَقد حقق بعض النَّاس معنى النَّفْي فِيمَا صدرنا بِهِ الْفَصْل، فَقَالَ: قَول الْقَائِل: إِنَّمَا مُحَمَّد رَسُول الله مَعْنَاهُ: لَيْسَ مُحَمَّد إِلَّا رَسُول الله، وَهَذَا أظهر من حُرُوف الْغَايَة مَعَ أَنه لَا يَنْتَهِي القَوْل فِيهِ إِلَى الْقطع مَعَ نفي دَلِيل الْخطاب. (158) القَوْل فِي ذكر مائية الْبَيَان ووجوهه [846] اخْتلف الأصوليون فِي حَقِيقَة الْبَيَان فَذهب أَبُو بكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 الصَّيْرَفِي إِلَى أَن حَقِيقَة الْبَيَان: إِخْرَاج الشَّيْء من حيّز الْإِشْكَال إِلَى التجلي وَهَذَا مَا ارْتَضَاهُ من خَاضَ فِي الْأُصُول من اصحاب الشَّافِعِي رَحمَه الله، وَذهب بعض الْمُتَكَلِّمين إِلَى أَن حد الْبَيَان: هُوَ الْعلم بالشَّيْء فَكل علم بَيَان، وكل بَيَان علم. [847] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالْبَيَان لَفْظَة عَرَبِيَّة تَتَرَدَّد بَين معَان يرجع مآل جَمِيعهَا إِلَى الظُّهُور فَنَقُول: بِأَن الْأَمر إِذا انْكَشَفَ، وَبَان الْهلَال وَالْفَجْر، وَبَان مَا فِي ضمير فلَان، والإبانة: الْإِظْهَار، وَكَذَلِكَ التَّبْيِين، وَقد ترد الْإِبَانَة، وَالْمرَاد بهَا الْقطع، والفصل، فَتَقول: أبينت يَد فلَان عَن جسده، إِذا قطعت وفصلت مِنْهُ، وَكَأن ذَلِك يرجع إِلَى معنى الظُّهُور أَيْضا فَإِن مَا كَانَ مُتَّصِلا بجملة كَانَ لَا يعرف على حياده تميزا، فَإِذا فصل وَأبين، فقد ظهر لنَفسِهِ، وَعرف فِي نَفسه دون معرفَة جملَة هُوَ كَائِن مِنْهَا. [848] فَأَما معنى الْبَيَان فِي اصْطِلَاح الْأُصُولِيِّينَ: فَهُوَ الدَّلِيل الَّذِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 يتَوَصَّل بِصَحِيح النّظر فِيهِ إِلَى الْعلم بِمَا هُوَ دَلِيل عَلَيْهِ. فَهَذَا مَا ارْتَضَاهُ القَاضِي / رَضِي الله عَنهُ فنبطل مَا سوى ذَلِك ثمَّ [96 / أ] نحققه. [849] فَأَما من زعم أَن الْبَيَان هُوَ إِخْرَاج الشَّيْء من حيّز الْإِشْكَال، إِلَى حيّز التجلي فَهَذَا مَدْخُول فَإِن الْمَقْصد من الْحَد أَن يكون جَامعا مَانِعا، وَهَذَا شَذَّ عَنهُ ضروب من الْبَيَان، وَذَلِكَ أَن الْإِخْرَاج من حيّز الْإِشْكَال يتخصص بِمَا ثَبت مُشكلا مُجملا ثمَّ يتَبَيَّن. وصريح هَذَا اللَّفْظ منبىء عَن ذَلِك، وَقد ثَبت ضروب من الْبَيَان فِي ذَلِك، فَإِن الرب سُبْحَانَهُ إِذا أثبت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 206 - @ شرعا ابْتِدَاء مُبينًا وَلم يسْبق فِيهِ التباس وإشكال فَهَذَا بَيَان وفَاقا، وَلما ورد مُبينًا وَلم يسْبقهُ لبس وإجمال يسْتَحق الْإِخْرَاج من حيّز الْإِشْكَال، وَكَذَلِكَ كل لَفْظَة وَردت بَيِّنَة وَهِي مُسْتَقلَّة بِنَفسِهَا وَلم تكن تَفْسِيرا وكشفا لغَيْرهَا، فَهِيَ بَيَان وَلَيْسَ يتَحَقَّق فِيهَا الْإِخْرَاج عَن حيّز الْإِشْكَال. [850] وَأما من قَالَ: إِن الْبَيَان هُوَ الْعلم، فقد زل فِيهِ من أوجه، مِنْهَا: أَن أَرْبَاب الْعلم أطبقوا على أَن الله سُبْحَانَهُ حقق فِي حق الْكَفَرَة العندة بَيَان الشَّرْع، كَمَا حقق فِي حق الْمُسلمين مَعَ عدم علم الْكَفَرَة بِالشَّرْعِ، فَدلَّ أَن الْبَيَان لَا يرجع إِلَى الْعلم، وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَنه أَنَّك تَقول: بعد تَقْرِير الْكَلَام مِنْك وَقد صَار مَبْنِيّ بَيَان ذَلِك، وَلَكِنَّك لم تتبين، فَدلَّ ذَلِك أَن [التَّبْيِين] هُوَ الْعلم وَالْبَيَان هُوَ الْإِعْلَام، بِنصب الْأَدِلَّة، وَالْعرب فِي إِطْلَاقهَا تَقول: [بيّنت] الشَّيْء [تتبيينا] وبيانا، فَحمل الْبَيَان مَحل التَّبْيِين وَهَذَا مَا سَبِيل إِلَى جَحده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْبَيَان لَو كَانَ علما وَجب أَن تكون الْعُلُوم الضرورية بَيَانا، حَتَّى يكون علمك بالمحسوسات بَيَانا لَهَا، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى إِطْلَاقه. [851] فالسديد إِذا مَا ارْتَضَاهُ القَاضِي وَهُوَ: أَن الْبَيَان هُوَ الدَّلِيل على الْقُيُود الَّتِي ذَكرنَاهَا. [852] ثمَّ أعلم أَن الْأَدِلَّة تَنْقَسِم فَمِنْهَا العقليات، فَهِيَ بَيَان لمدلولاتها، وَمِنْهَا السمعيات، ثمَّ السمعيات قد تكون قولا، وَقد تكون فعلا، وَقد تكون رمزا وَإِشَارَة. والميز بَينهَا وَبَين العقليات أَنَّهَا لَا تدل بأنفسها، وَلَكِن تدل بِنصب ناصب لَهَا أَدِلَّة. (159) فصل [853] اعْلَم أَن الْكَلَام على ثَلَاثَة أَقسَام: فَمِنْهُ المستقل بِنَفسِهِ نصا أَو فحوى، فَهُوَ بَيَان فِي نَفسه، وَلَا حَاجَة لَهُ إِلَى بَيَان. وَالضَّرْب الثَّانِي: من الْكَلَام مَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ من وَجه ويفتقر إِلَى بَيَان وَجه. وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وءاتوا حَقه يَوْم حَصَاده} فثبوت إيتَاء الْحق على الْجُمْلَة بَيَان وتفصيل الْحق وَقدره وكيفيته مُجمل مفتقر إِلَى الْبَيَان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 وَالضَّرْب الثَّالِث: من الْكَلَام مَا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ بِوَجْه أصلا، وَهَذَا نَحْو اللَّفْظَة المستعملة مجَازًا المنقولة عَن أصل الْوَضع فَإِذا وَردت مثل هَذِه اللَّفْظَة وَلم يغلب اسْتِعْمَالهَا مجَازًا فَهِيَ مجملة تفْتَقر إِلَى بَيَان من كل وَجه وَلَيْسَت بِبَيَان فِي نَفسهَا. (160) القَوْل فِي تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاج إِلَى وَقت الْحَاجة [854] اعْلَم أَن أَرْبَاب الشَّرَائِع أجمعوإ على ان الْبَيَان لَا يُؤَخر عَن [96 / ب) وَقت الْحَاجة فِي قَضِيَّة التَّكْلِيف ويتبين ذَلِك أَن الْأَمر إِذا / تعلق بالمكلف على التَّضْيِيق من غير فسحة فِي التَّأْخِير وَلَا يسْتَقلّ الْمَأْمُور بِهِ دون بَيَان، لَا يسوغ تَأْخِير الْبَيَان عِنْد تحقق هَذِه الْحَاجة الَّتِي وصفناها إِلَّا على اصل من يجوز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق على مَا نومىء إِلَيْهِ فِي آخر الْكتاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى، ولسنا نتعلق فِي إِيجَاب ذَلِك بِمَا تنطق بِهِ الْقَدَرِيَّة فِي فَاسد أُصُولهَا فِي التَّعْدِيل والتجوير والتحسين والتقبيح بيد أَنا نقُول يلْتَحق ذَلِك بالمحالات، فَإِن الْأَمر إِذا تعلق بالمكلف على التَّضْيِيق وامتثاله مَشْرُوط بِمَا لم يتَبَيَّن كَانَ ذَلِك محالا نازلا منزلَة تَكْلِيف جمع الضدين، وَسَائِر ضروب المحالات، فَهَذَا فِي تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 [855] فَأَما تَأْخِير الْبَيَان إِلَى وَقت الْحَاجة فقد اخْتلف النَّاس فِيهِ فَمَا صَار إِلَيْهِ مُعظم أهل الْحق من الْفُقَهَاء، والمتكلمين جَوَاز تَأْخِير الْبَيَان إِلَى وَقت الْحَاجة وَإِلَيْهِ صَار الشَّافِعِي، وَابْن سُرَيج، ولطبري، والأقفال، والشاشي، ثمَّ عمموا القَوْل فِي تَأْخِير الْبَيَان عَن الْمُجْمل والتخصيص عَن اللَّفْظَة الَّتِي ظَاهرهَا الْعُمُوم. وأطلقوا هَذَا القَوْل فِي الْأَوَامِر والنواهي، والوعد والوعيد، وَسَائِر ضروب الْأَخْبَار، فمهما لم تمس الْحَاجة كَمَا صورناها سَاغَ إِجْمَال اللَّفْظ إِلَى الْوَقْت الَّذِي يتَحَقَّق الْحَاجة فِيهِ، وساغ ترك التَّنْبِيه على التَّخْصِيص فِي اللَّفْظَة الَّتِي ظَاهرهَا الشُّمُول إِلَى وَقت تَحْقِيق الْحَاجة. وَصَارَت الْمُعْتَزلَة إِلَى منع تَأْخِير الْبَيَان، وأوجبوا أَن لَا ترد لَفْظَة إِلَّا ويقترن بهَا بَيَانهَا إِذا لم تكن مُسْتَقلَّة بِنَفسِهَا وَإِلَيْهِ صَار كثير من اصحاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 أبي حنيفَة وَهُوَ اخْتِيَار ابْن دَاوُد، وَإِلَيْهِ مَال من اصحاب الشَّافِعِي أَبُو إِسْحَاق الْمروزِي وَأَبُو بكر الصَّيْرَفِي. وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى الْفرق بَين الْعَام والمجمل فَقَالُوا: اللَّفْظَة الَّتِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 ظَاهرهَا الْعُمُوم لَا يسوغ تَأْخِير تخصيصها عَنْهَا، كَمَا لَا يسوغ تَأْخِير الِاسْتِثْنَاء عَن الْمُسْتَثْنى عَنهُ بِزَمَان يطول، وَأما اللَّفْظ الْمُجْمل فَيجوز أَن يُؤَخر بَيَانه إِلَى وَقت الْحَاجة. وَذهب بعض النَّاس إِلَى الْفرق بَين الْأَوَامِر، والنواهي، وَبَين الْأَخْبَار فَقَالَ: يجوز تَأْخِير الْبَيَان إِلَى وَقت الْحَاجة فِي الْأَوَامِر والنواهي، وَلَا يجوز ذَلِك فِي الْأَخْبَار كالوعد والوعيد وأنباء الْآخِرَة. فَلَا بُد أَن ترد مفصلة مُسْتَقلَّة. [856] وَالطَّرِيق أَن نقدم شبه الْمُخَالفين. شُبْهَة لَهُم: فَإِن قَالُوا: لَو جَوَّزنَا وُرُود المجملة ثمَّ سوغنا تَأْخِير بَيَانهَا عَنْهَا كَانَ ذَلِك نازلا منزلَة مُخَاطبَة الْعَرَب بلغَة الْعَجم فَإِنَّهُم كَمَا لم يفهمومها لَا يفهمون مَا خوطبوا بِهِ من الْمُجْمل فَكَمَا يَسْتَحِيل مخاطبتهم بلغَة لَا يعرفونها وَجب أَن يَسْتَحِيل مخاطبتهم بمجمل. وأوضحوا ذَلِك بَان قَالُوا: لما لم يسغْ مُخَاطبَة الْمَيِّت والجماد وَمن لَا يعقل لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر أَن يفهم مَا خُوطِبَ بِهِ، فَكَذَلِك شَأْن الْعَرَب إِذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 خوطبت بمجمل. فَيُقَال لَهُم: بنيتم أصل دليلكم على منع مُخَاطبَة الْعَرَب [97 / أ] / بلغَة الْعَجم وَقد زللتم فِيهِ فَإِن هَذَا من المجوزات عندنَا. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَبْعُوث إِلَى الْعَرَب والعجم وَكَانَ مَا يبدر من الْأَلْفَاظ الْعَرَبيَّة إلزاما للْعَرَب والعجم وفَاقا. فَإِذا سَاغَ مُخَاطبَة الْعَجم بلغَة الْعَرَب لم يبعد عَكسه. [857] فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا يخاطبون بلغَة الْعَرَب على أَن تترجم لَهُم. قُلْنَا: فَهَذَا القَوْل فِيمَا الزمتموه، ثمَّ نقُول لَهُم: قد استبعدتم فِي الْخطاب مَا لَا بعد فِيهِ، فَإِن أَرْبَاب الْأَلْسِنَة الْمُخْتَلفَة يتخاطبون بلغاتهم المتباينة وَيقوم بَينهم المترجمون فَلَا يعد ذَلِك متناقضا فِي التخاطب فَبَطل مَا قَالُوهُ جملَة وتفصيلا. [858] وَأما مَا استروحوا إِلَيْهِ من مُخَاطبَة الجماد وَالْمَيِّت فَيُقَال لَهُم: لم زعمتم أَن الَّذِي. . فِيهِ منزل منزلَة مُخَاطبَة الْمَيِّت فَلَا يرجعُونَ إِلَّا إِلَى طرد لَا يثبت بِمثلِهِ الْمَقْصد فِي مسَائِل الْقطع. ثمَّ يُقَال لَهُم: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْمَيِّت لَا يتَصَوَّر مِنْهُ التَّوَصُّل إِلَى معرفَة مَا خُوطِبَ بِهِ بطرِيق من طرق وَلَيْسَ كَذَلِك الْمُخَاطب بالألفاظ المجملة. @ [859] فَإِن قيل: يتَوَقَّع أَن يَجْعَل الله للْمَيت حَيَاة ويوفر عَلَيْهِ أَسبَاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 التفهم كَمَا يقدر نصب أَسبَاب يتَعَلَّق بهَا إفهام المخاطبين بعد إِجْمَال اللَّفْظ فَلَا فصل بَينهمَا. قيل لَهُم: إِنَّمَا المستبعد تَوْجِيه الْخطاب على الْمَيِّت مَعَ تَقْدِير بَقَاء مَوته فَأَما على تَقْدِير حَيَاته وعقله فَلَا يستبعد توجه الْأَمر عَلَيْهِ، كَيفَ وَقد قدمنَا أَن الأمريتوجه على الْمَعْدُوم بِشُرُوط تَقْدِير الْوُجُود فَإِذا لم يبعد ذَلِك فَهَذَا على الْبعد أبعد. [860] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: قَالُوا: إِذا وَردت لَفْظَة مَوْضُوعَة للْعُمُوم فَلَو جَوَّزنَا أَن تتبين فِي المَال أَن المُرَاد بهَا خُصُوص أفْضى ذَلِك إِلَى محَال وَذَلِكَ أَن اللَّفْظَة فِي موردها مُجَرّدَة، وَمن حكم مثل هَذِه اللَّفْظَة إِذا تجردت أَن يُرَاد بهَا الشُّمُول فَإِذا جَوَّزنَا إِرَادَة الْخُصُوص بهَا فَينزل ذَلِك منزلَة مَا جَوَّزنَا أَن يُرَاد بالمشركين الْمُؤْمِنُونَ، وبالناس الْبَهَائِم إِلَى غير ذَلِك من قلب الْأَجْنَاس فِي المسميات. فَيُقَال لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه يبطل عَلَيْكُم بالنسخ فَإِن النّسخ عنْدكُمْ تَخْصِيص زمَان على مَا نقرره فِي أدلتنا، ثمَّ يجوز وُرُود اللَّفْظ الْمُطلق المتناول لكل الْأَزْمَان، وَإِن كَانَ سيبين فِي الْمَآل أَن المُرَاد بهَا بعض الْأَزْمَان، وَهَذَا مَا لَا محيص عَنهُ. ثمَّ نقُول: الْأَلْفَاظ الْمَوْضُوعَة للْعُمُوم لَيست بنصوص فِي اقْتِضَاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 الشُّمُول، وَإِن قَدرنَا القَوْل بِالْعُمُومِ، وَلَكِن الْأَظْهر منا اقْتِضَاء الْعُمُوم، وَقد يرد فِي الْخطاب على خلاف إِرَادَة الشُّمُول فَم هَذَا الْوَجْه لم يبعد إِطْلَاقه أَولا وتخصيصه آخرا. وَمن تَأمل مجاري الْكَلَام لم يستبعد مثل ذَلِك فِيهَا فَإِن الْعَرَب قد تطلق لفظا ينبىء ظَاهره عَن معنى ثمَّ تفسره عِنْد الْحَاجة بِمَا أَرَادَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِك [97 / ب] الْأَسَامِي الَّتِي هِيَ نُصُوص فِي الإنباء عَن مسمياتها فَبَطل مَا قَالُوهُ م. [861] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: قَالُوا: إِذا وَردت لَفْظَة مَوْضُوعَة للْعُمُوم فَلَو جَوَّزنَا أَن تبين فِي الْمَآل أَن المُرَاد بهَا خُصُوص أفْضى ذَلِك إِلَى محَال، وَذَلِكَ أَن اللَّفْظَة فِي موردها مُجَرّدَة وَمن حكم مثل هَذِه اللَّفْظَة إذاتجردت أَن يُرَاد بهَا الشُّمُول، فَإِذا جَوَّزنَا إِرَادَة الْخُصُوص بهَا فَينزل ذَلِك منا منزلَة مَا جَوَّزنَا اللَّفْظَة للْعُمُوم فَيجب بِالشَّرْعِ الْمصير إِلَى اعْتِقَاد الْعُمُوم فِيهَا، فَإِن كَانَ الِامْتِثَال على فسحة وَتَأْخِير فَلَا يتَحَقَّق اعْتِقَاد فِي اللَّفْظ الْوَارِد على أصلكم، وَأَنه إِن اعْتقد خُصُوصا جوز خِلَافه، وَكَذَلِكَ على الضِّدّ من ذَلِك فَهَذَا سد بَاب الِاعْتِقَاد مَعَ الِاتِّفَاق على لُزُوم الِاعْتِقَاد. قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه تحكم مِنْكُم فَإنَّا لَا نوجب اعْتِقَاد عُمُوم، وَلَا اعْتِقَاد خُصُوص فِي الْمُتَنَازع فِيهِ. وَلَكِن يتَوَقَّف الْمُخَاطب وَلَا يجْزم اعْتِقَاد ويعتقد أَن يتَمَثَّل مَا سيبين لَهُ فِي وَقت الْحَاجة، فَبَطل مَا قَالُوهُ، على أَنه ينتفض صَرِيحًا بِمَا قدمْنَاهُ من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 النّسخ، وَلَا تطرد لَهُم شُبْهَة إِلَّا وينقضها النّسخ بِحَيْثُ لَا يَجدونَ عَنهُ مهربا، فَتنبه لذَلِك واستعن بِهِ على إِيرَاده فِي كل مَوضِع. [862] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا يَسْتَقِيم الْخُصُوص فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مَعَ تَسْلِيم إبِْطَال القَوْل بِالْوَقْفِ والمصير إِلَى تَجْوِيز تَأْخِير الْبَيَان تورط فِي الْوَقْف وَذَلِكَ أَن اللَّفْظ إِذا ورد مُجَردا وجوزنا أَن يكون المُرَاد بِهِ الْخُصُوص فَهَذَا عين التَّرَدُّد فِي مُقْتَضَاهُ وَهُوَ ذهَاب إِلَى الْوَقْف. قُلْنَا: الْفَصْل بَين المذهبين أَنا نقُول مَعَ القَوْل بِالْعُمُومِ: إِذا وَردت لَفْظَة من الفاظ الْعُمُوم فِي وَقت الْحَاجة حملت على الْعُمُوم عَن انْتِفَاء الْقَرَائِن لَا محَالة. والواقفية يَزْعمُونَ أَنه مَعَ الْحَاجة لَا يحمل على الْعُمُوم إِلَّا بِدَلِيل من قرينَة وَنَحْوهَا فقد تبين انْفِصَال أحد المذهبين عَن الآخر. وَكَذَلِكَ إِذا ورد اللَّفْظ مُتَقَدما على الْحَاجة فَلَا يقطع القَوْل بالمقتضى بهَا فَإِذا ارتبت الْحَاجة وَلم يُقيد بتخصيص عرفنَا أَن المُرَاد بهَا الْعُمُوم، والواقفية يَزْعمُونَ أَنا لَا نَعْرِف ذَلِك إِلَّا بِقَرِينَة دَالَّة عَلَيْهِ. [863] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: قَالُوا: لَو جَازَ تَأْخِير الْبَيَان عَن الْكَلَام جَازَ تَأْخِير الِاسْتِثْنَاء. قُلْنَا: لم قُلْتُمْ ذَلِك؟ وَمَا دليلكم على وجوب الْجمع بَينهمَا؟ وَلنْ يفلح من تمسك بِمثل هَذِه الشُّبْهَة فِي مثل هَذِه الطّلبَة. ثمَّ نقُول: وجدنَا كَلَام الْعَرَب يَنْقَسِم إِلَى مُبين وعام فِي ظَاهره يبين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 خصوصه بعد حِين، وَلَفظ مُشْتَرك بَين معَان يُطلق أَولا ثمَّ يخصص بِأحد احتز الابه بعد زمَان وَمَا وجدنَا فِي كَلَام الْعَرَب إِفْرَاد الِاسْتِثْنَاء عَن الْمُسْتَثْنى فَإِن من قَالَ: رَأَيْت الْقَوْم، ثمَّ قَالَ بعد عصر طَوِيل: إِلَّا زيدا لم يكن ذَلِك منتظما فِي أصل الْكَلَام، وَأما إِطْلَاق الْمُشكل ثمَّ [تبيينه] بعد زمَان، فَأكْثر من أَن يُحْصى. [864] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: لَو جَازَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَأْخِير بَيَان [98 / أ] الْمُجْمل / فَلَا نَأْمَن بعد ذَلِك أَن يخترم قبل التَّأْخِير فَيكون ذَلِك تعديدا بتبليغ الشَّرِيعَة؟ قُلْنَا: فَقَوله لَهُ التَّأْخِير إِذا علم أَنه يتَمَكَّن من بَيَانه قبل ان يخترم وَلَا تَقولُونَ كَذَلِك، ثمَّ نقُول: أما نَحن فَلَا نستبعد ذَلِك فَنَقُول: يجوز أَن يتَوَجَّه الْأَمر حَقِيقَة على الْمُكَلف، وَهُوَ فِي مَعْلُوم الله من المخترمين، فَكَذَلِك إِذا جوز لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَأْخِير الْبَيَان فَيجوز أَن تنطوي عَلَيْهِ الْعَاقِبَة ثمَّ إِذا اخترم لَا يؤاخد بِتَأْخِيرِهِ فَإِنَّهُ كَانَ مجوزا. [865] فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي ذَلِك الحكم وَقد اخترم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قُلْنَا: إِن وحدنا طَرِيقا إِلَى التَّوَصُّل إِلَيْهِ بِسَائِر أَدِلَّة الشَّرْع فَذَلِك وَإِن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 لَا الْأُخْرَى فقد بَان لنا سُقُوط الحكم عَنَّا كَمَا تبين سُقُوط الْوُجُوب عَن الْمُكَلف إِذا اخترم قَطعنَا بتوجهه عَلَيْهِ. [866] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن قَالُوا: لَو جَازَ تَأْخِير الْبَيَان جَازَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُؤَخر ادِّعَاء الرسَالَة. قيل لَهُ: لَو جوز لَهُ التَّأْخِير وَأمر بِأَن يكتم مَا أرسل فِيهِ مُدَّة فَلَا يستبعد ذَلِك وَإِن أَمر بالتبليغ على الشَّرْع والمبادرة فيتتبع قَضِيَّة الْأَمر على التَّرَاخِي كَانَ أَو على الْفَوْر، فاضمحلت تمويهاتهم وَلَا تغفلن عَن نقض مَا يوردونه بالنسخ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُم عَنهُ منجى. [867] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن قَالُوا: إِذا لم تستقل اللَّفْظَة بِنَفسِهَا فِي إِفَادَة معنى فوجودها كعدمها، وَقد أجمع ارباب الْخطاب على أَن الْعبارَة الَّتِي لَا مزية لوجودها على عدمهَا تعد لَغوا، وحسبكم بذلك فَسَادًا فَبِمَ صرتم إِلَيْهِ؟ فَإِن قصارى مذهبكم قادكم إِلَى تَجْوِيز حمل كَلَام صَاحب الشَّرِيعَة على محمل ملغى إِذا حصل عَلَيْهِ. قيل لَهُم: إِن عنيتم بقولكم أَن وجوده كَعَدَمِهِ فِي أَنه يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فَهَذَا كَمَا قلتموه، وَإِن عنيتم بذلك أَنه لما لم يثر معنى يسْتَقلّ بِذَاتِهِ ينزل منزلَة الْمَعْدُوم فِي كل الْمعَانِي، فَهَذَا مَا فِيهِ تنازعنا، فَلم قلتموه؟ وَمَا دليلكم عَلَيْهِ؟ ثمَّ نقُول بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن اللَّفْظَة إِذا وَردت غير مُسْتَقلَّة بِنَفسِهَا فَيعلم المخاطبون عِنْد موردها أَن لله عَلَيْهِم حكما، ويعزمون على امْتِثَال الْخطاب إِذا تبين لَهُم، وَفِيه ابداء الطَّاعَة والإذعان، والانقياد، وَفِيه أعظم الامتحان، فَمن هَذِه الْوُجُوه لَا تنزل اللَّفْظَة منزلَة عدمهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 على أَن مَا قَالُوهُ يبطل بالنسخ. فَهَذِهِ شبههم، وَله طرق من الْكَلَام آئلة إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ. [868] ثمَّ قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: إِذا ثَبت بِمَا قدمْنَاهُ بطلَان كل مَا عولوا عَلَيْهِ فِي ادِّعَاء الاستحالة فَلَيْسَ بَين الاستحالة وَالْجَوَاز رَقَبَة فَإِذا بَطل كل شُبْهَة لَهُم فِي ادِّعَاء الاستحالة فَلَا يبْقى بعْدهَا إِلَّا جَوَاز تاخير الْبَيَان. [869] عُمْدَة الْقَائِلين بِالْجَوَازِ: وَمِمَّا عول عَلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِجَوَاز تَأْخِير الْبَيَان أَن قَالُوا الْمَقْصُود من الْبَيَان فِي الْخطاب أَن يقدم الْمَأْمُور بِهِ على فعل الْمَأْمُور بِهِ كَمَا أَمر بِهِ فَإِذا كَانَ [98 / ب] الِامْتِثَال مُؤَخرا عَن وُرُود اللَّفْظ، فَلَيْسَ فِي تَأْخِير الْبَيَان اسْتِحَالَة / وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الْقُدْرَة إِنَّمَا شرطت فِي التَّكْلِيف ليتصور من الْمُكَلف الْإِقْدَام على مَا كلف فَلَو كَانَ الْأَمر مُتَقَدما والامتثال مُتَأَخِّرًا فَإِنَّمَا يشْتَرط مُقَارنَة الْقُدْرَة لحَال الِامْتِثَال، فَإِن الْمَقْصُود بِالْقُدْرَةِ الِامْتِثَال، وَكَذَلِكَ سَبِيل الْبَيَان، وَلَا تستقل بك الدّلَالَة إِلَّا بِقَيْد تودعه فِيهَا، فَنَقُول: إِن نَظرنَا إِلَى التخاطب وَمَا يُفِيد مِنْهُ وَمَا يجوز إِطْلَاقه فِيمَا رَأينَا، فَمن التخاطب ألفاظا مشكلة تطلق أَولا ثمَّ تبين بعد حِين، وَمن أنكر ذَلِك فقد راغم نشر اللُّغَة ونظمها، فَلَا استمالة فِي الْإِطْلَاق إِذا، والاستحالة تؤول إِلَى التَّكْلِيف، فَإِن الِامْتِثَال مُتَأَخّر، وَالْبَيَان إِنَّمَا شَرط لَهُ. [870] وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ أَصْحَابنَا أَن قَالُوا: النّسخ تَخْصِيص فِي الزَّمَان، والتخصيص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 فِي الْأَعْيَان ثمَّ يجوز أَن ترد اللَّفْظَة مُطلقَة فِي الْأَزْمَان، وَالْمرَاد بَعْضهَا فَإِن لم يبعد ذَلِك فِي الْأَزْمَان لم يبعد فِي الْأَعْيَان. [871 [قَالَ القَاضِي: وَلَا يَسْتَقِيم منا الِاسْتِدْلَال بذلك فَإِن النّسخ لَيْسَ بتخصيص فِي الْأَزْمَان عِنْدِي وَعند مُعظم الْمُحَقِّقين من أَصْحَابِي، وَإِنَّمَا هُوَ رفع حكم بعد ثُبُوته على مَا سنشبع القَوْل فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَلَكِن يصعب هَذَا على الْمُعْتَزلَة ويقوى على مَذْهَب من يوافقهم فِي حكم النّسخ. [872] وَقد تخبطوا فِي التفصي عَن ذَلِك من أوجه: مِنْهَا: أَنهم قَالُوا: إِطْلَاق اللَّفْظ فِي الْأَزْمَان لَا يمْنَع من اعْتِقَاد وجوب الِامْتِثَال وَإِطْلَاق الْأَعْيَان يمْنَع من ذَلِك. قُلْنَا: هَذَا تحكم مِنْكُم فَإِنَّهُ إِذا ورد قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} ، فنعلم أَن أمرنَا بقتل بَعضهم ونعتقد ذَلِك على الْجُمْلَة كَمَا نعتقد ثُبُوت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 الْأَحْكَام فِي بعض الْأَزْمَان على الْجُمْلَة، وَلَا سَبِيل إِلَى اعْتِقَاد ثُبُوت الْأَحْكَام فِي كل الْأَزْمَان مَعَ جَوَاز النّسخ الَّذِي حَقِيقَته تَخْصِيص زمَان، فَلَا فرق فِي ذَلِك إِذا بَينهمَا وَهَذَا مَا لَا مخلص مِنْهُ. [873] فَلَمَّا صَعب مورد السُّؤَال عَلَيْهِم قَالَ من ادّعى التَّحْقِيق مِنْهُم: لَا فرق بَين التَّخْصِيص والنسخ فَكَمَا لَا يجوز تَأْخِير التَّخْصِيص عَن مورد اللَّفْظ فَكَذَلِك لَا يجوز تَأْخِير النّسخ عَن مورد اللَّفْظ، فَإِذا أَرَادَ الله تَعَالَى إِثْبَات حكم دهرا قَالَه مَعَ إثْبَاته فَإِذا انْقَضى فقد رفعته عَنْكُم. فَاعْلَم أَن هَذَا افتراء من هَذَا الْقَائِل على إِجْمَاع الْمُسلمين وهتك لسخف الْحَقَائِق فَإنَّا نقُول لَهُ: قد ثَبت أَحْكَام فِي صدر الْإِسْلَام وَلم تشعر الصَّحَابَة بِأَنَّهَا ستنسخ، وَجحد ذَلِك يَقُود صَاحبه إِلَى جحد الضَّرُورَة والتواتر. ثمَّ نقُول لهَؤُلَاء: لَو قدر اللَّفْظ مُقَيّدا بِمَا قلتموه مَا كَانَ ذَلِك نسخا بل كَانَ تأقيتا للْحكم. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الرب تَعَالَى قَالَ: صُومُوا من تفجر الصُّبْح إِلَى غرُوب الشَّمْس فَلَا يُقَال إِن ذَلِك نسخ للصَّوْم بعد غرُوب الشَّمْس، وَهَكَذَا جملَة الْأَحْكَام المؤقتة فِي الشَّرِيعَة فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. [874] فَإِن قَالُوا: لَا نشترط تَبْيِين وَقت النّسخ، وَلَكنَّا نشترط إِعْلَام الْمُكَلّفين أَن الحكم مِمَّا ينْسَخ فِي الْمَآل، وَلَو قدر وُرُود اللَّفْظ مُطلقًا من غير اقتران بِمَا يعلم الْمُكَلف أَن حكمه سينسخ فَلَا يسوغ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 فَيُقَال لهَؤُلَاء: فَهَذَا خرق مِنْكُم للْإِجْمَاع، فَإِن مَا اتّفق عَلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِجَوَاز النّسخ أَن الحكم الْمُطلق الَّذِي اعْتقد أَرْبَاب / الشَّرَائِع أَو غلب على [99 / أ] ظنهم [تأبده] يجوز أَن ينْسَخ، وَاعْلَم أَن هَذَا القَوْل مَا بدر إِلَّا عَن متأخري الْمُعْتَزلَة ومتعسفيهم، فَلَا نراهم يبدونه، بيد أَنا أحببنا أَن نذْكر كل مَا قيل، ثمَّ نقُول لهَؤُلَاء لم يغنكم مَا صرتم إِلَيْهِ عَمَّا أُرِيد بكم فَإِنَّكُم توقيتم الْإِجْمَال، وآثرتم تَصْوِير الْبَيَان فوقعتم فِي أعظم مَا اجتنبتموه، وَذَلِكَ أَن اللَّفْظ إِذا قدر بِأَنَّهُ ينْسَخ فالأوقات بَين ثُبُوت الِامْتِثَال وورود النّسخ غير مضبوطة فَيجوز أَن تمتد أعواما وَيجوز أَن تَنْقَضِي عَمَّا قريب وَلَا يقدم الْمُكَلف على الِامْتِثَال فِي وَقت إِلَّا وَيجوز النّسخ فِيهِ، فقد أعظم الْجَهَالَة، وَلَا فرق بَين أَن يلتزموا الْجَهَالَة فِي كل الْأَوْقَات أَو بَعْضهَا. ثمَّ نقُول لَهُم: ألستم جوزتم تَقْيِيد اللَّفْظ بِمَا قلتموه فلولا أَن النّسخ يجوز عقلا لما جَازَ تَقْيِيد اللَّفْظ بِهِ فَإِذا اثْبتْ أَن النّسخ من مجوزات الْعُقُول وَكَذَلِكَ سَاغَ الإفصاح بِهِ، فَهَلا جوزتم إِطْلَاق اللَّفْظ والاتكال على جَوَاز الْعقل فِي النّسخ فَبَطل مَا قَالُوهُ واضمحل مَا أصلوه. [875] وَقد اسْتدلَّ بعض أَصْحَابنَا بآي من كتاب الله تَعَالَى. مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قرأنه فَاتبع قرءانه 18 ثمَّ إِن علينا بَيَانه 19} ، وحرف " ثمَّ " للتأخير، فأنبأ ذَلِك عَن تَأْخِير الْبَيَان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ فصلت من لدن حَكِيم خَبِير} . وَاسْتَدَلُّوا أَيْضا بقوله فِي مُخَاطبَة بني إِسْرَائِيل: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة} . ونعلم أَن الله تَعَالَى لم يرد مِنْهُم إِلَّا تِلْكَ الْبَقَرَة المنعوتة بِعَينهَا وَلم يبينها لَهُم أول مرّة حَتَّى تَكَرَّرت مِنْهُم الأسئلة. وَاسْتدلَّ أَيْضا بقوله تَعَالَى فِي قصَّة نوح عَلَيْهِ السَّلَام: {إِن ابْني من أَهلِي وَإِن وَعدك الْحق} وَوجه الدَّلِيل من ذَلِك أَنه فهم من الْوَعْد السَّابِق مَا يَقْتَضِي تنجية ابْنه الْهَالِك، وَلَوْلَا ذَلِك لما قَالَ مَا قَالَ، ثمَّ بَين لَهُ فَدلَّ ذَلِك على جَوَاز تَأْخِير الْبَيَان. [876] وَهَذِه الظَّوَاهِر وَإِن كَانَت رُبمَا تظهر فنتبع أَدِلَّة أولى، فَالْأَحْسَن فِي ذَلِك أَن نقُول: نَحن نعلم أَن الْخطاب بِالْحَجِّ لما ورد لم يبين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جملَة الْمَنَاسِك فِي مجْلِس وَاحِد بل كَانَ يُبينهُ على مر الْأَيَّام وَكَذَلِكَ الصَّلَاة، وَالزَّكَاة، وَالصِّيَام، وَنحن نعلم أَن مَا بَينه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن ابْتِدَاء حكم لم يردهُ إِلَّا لَهُ بِأَصْل الْأَمر بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة، وَالصِّيَام، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 وَمَا كَانَ ذَلِك أحكاما تتجدد وَلَكِن كَانَ ذَلِك تبيينا مِنْهُ وَلَو اقصصت موارد الشَّرِيعَة وجد ت كلهَا أَو جملها جَارِيا على هَذَا الْمنْهَج، وَهَذَا مِمَّا يقوى الِاعْتِصَام بِهِ وكل مَا تمسكنا بِهِ فِي الْأَوَامِر، والنواهي يطرد فِي الْوَعْد والوعيد بل الْوَعْد والوعيد بالإجمال أولى من حَيْثُ أَنه لم يتَعَلَّق بهما ... وامتثال وإقدام أَو كف، فَإِذا سَاغَ الْإِجْمَال فِي الْأَوَامِر والنواهي، فَلِأَن يسوغ فِي الْوَعْد والوعيد أولى، وَلَيْسَ للْقَوْم شُبْهَة يعجز عَن التفصي عَنْهَا بعد مَا أحطت علما بِمَا قدمْنَاهُ. (161) فصل [877] الْخطاب إِذا بَين بعضه فَلَا يدل ثُبُوت الْبَيَان فِي بعضه على قصر الحكم فِيمَا بَين، ويجوزه ثُبُوت بَيَان بعد بَيَان مَعَ تخَلّل / [99 / ب] الْأَزْمَان، كَمَا يجوز تَأْخِير أصل الْبَيَان عَن اللَّفْظ، وَبَيَان ذَلِك بالمثال أَن الرب تَعَالَى لَو قَالَ: اقْتُلُوا الْمُشْركين عِنْد انسلاخ الشَّهْر، ثمَّ قَالَ بعد زمَان: إِذا كَانُوا حربيين ثمَّ اتَّصل بالمخاطبين بعد زمَان التَّقْيِيد بالوثنيين، ثمَّ التَّقْيِيد بِالرِّجَالِ، وكل ذَلِك يسوغ وَلَا يتَضَمَّن ثُبُوت ضرب من الْبَيَان انحسام بَاب توقع الْبَيَان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْعُمُوم الَّذِي يتَّصل بِهِ ضروب من التَّخْصِيص فِي أزمنة متباينة، فَكَذَلِك نقُول فِي الْمُجْمل إِذا بَين بعض المُرَاد بِهِ، وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وءاتوا حَقه يَوْم حَصَاده} . فَلَو قَالَ إِذا بلغ خَمْسَة أوسق، ثمَّ قَالَ: وَكَانَ مِمَّا يقتات، ويستنبت إِلَى غير ذَلِك من تتَابع ضروب الْبَين [كَانَ] ذَلِك سائغا وكل ذَلِك قبل الْحَاجة كَمَا قدمْنَاهُ. [878] وَذهب بعض من جوز تَأْخِير الْبَيَان إِلَى وَقت الْحَاجة إِلَى أَنه إِذا ثَبت بَيَان بعد تقدم اللَّفْظ فَلَا يجوز ثُبُوت الْبَيَان بعده. وَمن الْعلمَاء من فصل بَين الْمُجْمل وَالْعَام فَقَالَ: إِذا خص بعض الْعُمُوم لم يرقب بعده تَخْصِيص وَإِذا بَين الْمُجْمل سَاغَ توقع بَيَان آخر. وَمَا قدمْنَاهُ من الْأَدِلَّة فِي الْمَسْأَلَة الْمُتَقَدّمَة يعود فِي هَذِه وكل مَا يتمسكون بِهِ، فَوجه التفصي عَنهُ مَا سلف. [879] وَذهب بعض النَّاس إِلَى مَا بَين من الْأَلْفَاظ إِنَّمَا يرقب بَيَان آخر إِذا علم صَاحب الشَّرِيعَة الْمُكَلّفين أَن فِيهِ بَيَانا متوقعا. فَأَما إِذا اتَّصل الْبَيَان بالمكلفين من غير إِشْعَار وإعلام فِي توقع الْبَيَان فَلَا يترقب بَيَان آخر وَهَذِه تحكمات تحسمها طرق الْأَدِلَّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 (162) بَاب الْكَلَام فِي حكم أَفعَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم [880] قد قدمنَا فِي صدر الْبَاب مَا يتَعَلَّق بِهِ التَّكْلِيف فِي أَفعَال الْمُكَلّفين وَمَا لَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِهِ مِنْهَا، فَذَكرنَا أَن افعال النَّائِم والساهي، والمغشي عَلَيْهِ وكل مَا لَا يعقل لَا يدْخل تَحت الْخطاب، فَأَما افعال العامدين الْعُقَلَاء فَلَا تَخْلُو عَن وجوب أَو ندب، أَو حظر، أَو إِبَاحَة، وَقد قسمنا القَوْل فِيهَا فِيمَا سبق. [881] وَأما أَفعَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ أجل الْمُكَلّفين قدرا، وأرفعهم خطرا فَفِي أَفعاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُبَاح الْمَأْذُون فِيهِ، وفيهَا الْوَاجِب المفترض، وفيهَا الْمَنْدُوب إِلَيْهِ الْمُسْتَحبّ. [882] فَأَما الْمَحْظُور الْمحرم فيبتني على أصل لَا بُد من الْإِيمَاء إِلَيْهِ، وَإِن كَانَ من أصُول الديانَات نستعين بِهِ فِي خلل الْكَلَام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 [883] فَاعْلَم أَن عصمَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاجِبَة فِيمَا يَلِيق بِمَعْرِِفَة الله تَعَالَى، فَلَا يجوز عَلَيْهِ مَا يضاد الْمعرفَة وفَاقا، وَكَذَلِكَ يجب عصمته فِي التَّبْلِيغ، فَلَا يجوز عَلَيْهِ تعمد الْخلاف فِيمَا يبلغهُ وفَاقا، وَأما مَا لَا يتَعَلَّق بالتبليغ، فقد اخْتلف ارباب الْأُصُول فِيهِ، فَذهب بَعضهم إِلَى قطع القَوْل بعصمته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّغَائِر والكبائر، ثمَّ افترق هَؤُلَاءِ فرْقَتَيْن: فَذهب بَعضهم إِلَى منع النسْيَان على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يتَعَلَّق بِمَا هُوَ مُتبع فِيهِ، وَذهب آخَرُونَ إِلَى تَجْوِيز الصَّغَائِر مَعَ وجود الْعِصْمَة عَن الْكَبَائِر، وَادعوا امْتنَاع ذَلِك عقلا مَعَ ثُبُوت النبوه، وَزَعَمُوا أَن النُّبُوَّة كَمَا تنَافِي ثُبُوتهَا تعمد الْخلاف فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 الْبَلَاغ عقلا، فَكَذَلِك تنَافِي مقارفة الْكَبَائِر. [884] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالَّذِي نختاره / وجوب عصمَة [100 / أ] رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن تعمد الْخلف فِي التَّبْلِيغ عقلا، وَوُجُوب عصمته عَن الْكَبَائِر إِجْمَاعًا واتفاقا وسمعاً وَقد اتّفقت الْأمة على وجوب عصمَة الرُّسُل عَن الْكَبَائِر الواضعة من أقدارهم نَحْو السّرقَة، وَالزِّنَا وَنَحْوهمَا، وَهَذَا اثْبتْ إِجْمَاعًا، وَلَو رددنا إِلَى الْعقل لم يكن فِيهِ مَا يمْنَع ذَلِك. [885] فَإِن قيل: فِي الْعقل مَا يمْنَع ذَلِك فَإِن امْتِثَال هَذِه القاذوريات لَو قدر بدورها من الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام لاقتضت تنفير الْأَنْفس عَن الِاتِّبَاع. فَيُقَال: هَذَا مِمَّا لَا يسوغ التعويل عَلَيْهِ، فَإنَّا نجوز على قَضِيَّة ثُبُوت أَحْوَال الْأَنْبِيَاء لَو قَدرنَا إبدالهما كَانَت النُّفُوس إِلَى تَابعهمْ أميل. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك اتِّفَاق ألأصحاب على أَنه كَانَ يجوز أَن يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَاعِرًا يخط بِيَمِينِهِ، وَيقْرَأ وَيكْتب وَلم يكن ذَلِك من العزائم المتحتمة وَإِن كُنَّا نعلم أَنا لَو قَدرنَا ذَلِك رُبمَا ينطوي على ضروب من التنفير. [886] وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن الْأَنْبِيَاء تميزوا بالمعجزات عَن أغيارهم، والمعجزة تدل على تصدقهم فِي تبليغهم، وَلَيْسَ فِيهَا اقْتِضَاء عصمتهم، فَثَبت بذلك أَنا ثبتنا مَا ثبتنا بقضية الْإِجْمَاع دون دلَالَة الْعقل. [887] فَإِن قيل: فخبرونا هَل تجب عصمَة الْمَلَائِكَة؟ قُلْنَا: أما الرُّسُل مِنْهُم فَالْقَوْل فيهم كالقول فِي الْأَنْبِيَاء، وهم فِي حق الْأَنْبِيَاء كالأنبياء فِي حُقُوق الْأُمَم، وَأما عدا الرُّسُل فقد اخْتلف الْعلمَاء فَمن صائرين إِلَى ثُبُوت عصمتهم تمسكا بقوله تَعَالَى: {لَا يعصون الله مَا أَمرهم} فقد صدر هَذَا الْخطاب فيصدر التَّعْظِيم لَهُم، ويخصص آخَرُونَ ذَلِك بالمقربين من الْمَلَائِكَة كالحملة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 والكروبيين وَنَحْوهم، وَزَعَمُوا أَن طَائِفَة مِنْهُم عصوا فَأَحْرَقَتْهُمْ الصَّوَاعِق والبوارق، فَهَذَا كُله من فن الْكَلَام بيد أَن أَطْرَاف الْكَلَام قد تتصل بِشَيْء، من ذَلِك. [888] رَجعْنَا إِلَى الْمَقْصُود فَإِذا صدر من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل واقترن بِهِ قَول يُوجب اتِّبَاعه فِيهِ فَيلْزم اتِّبَاعه لقَوْله، وَفعله علم لوُجُوب اتِّبَاعه، وَهُوَ مثل صلَاته مَعَ قَوْله: " صلوا كم رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " وحجه مَعَ قَوْله: " خذو عني مَنَاسِككُم " إِلَى غير ذَلِك. فَأَما مَا بدر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محرما، على الْمَذْهَب الَّذِي يجوز عَلَيْهِ الصَّغَائِر فَلَا يجوز اتِّبَاعه فِيهِ، وَإِن بدر مِنْهُ الْفِعْل مُبَاحا فَمَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْأُصُولِيِّينَ أَنه لَا يجب اتِّبَاعه فِيهِ وَلَا يسْتَحبّ أَيْضا، وَذهب شرذمة من النَّاس: إِلَى أَن اتِّبَاعه فِيمَا هُوَ مُبَاح فِي حَقه ندب فِي حَقنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 [889] وَلَو صدر فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي معرض الْقرب، أَو بدر مِنْهُ مُطلقًا، أَو لم يتَقَيَّد بقيود الْقرب وَلَا بقيود الْإِبَاحَة، وتقابلت فِيهِ الجارات فَهَذَا موقع اخْتلَافهمْ فَذهب بَعضهم إِلَى انه يحرم اتِّبَاعه وَهَذَا بِنَاء من هَؤُلَاءِ على أصلهم فِي الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع فَإِنَّهُم زَعَمُوا أَنَّهَا على الْحَظْر، وَلم يجْعَلُوا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علما فِي تثبيت حكم فَيبقى [100 / ب] الحكم على مَا كَانَ / عَلَيْهِ فِي قَضِيَّة الْعقل قبل وُرُود الشَّرَائِع. وَذهب الْعلمَاء إِلَى أَن مَا صدر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْإِبَاحَة فِي حَقنا. وَذهب بَعضهم أَنه مَحْمُول على النّدب فَينْدب إِلَى فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 وَإِلَيْهِ صَار أَصْحَاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ. وَذهب مَالك رَضِي الله عَنهُ وَأكْثر أهل الْعرَاق مِنْهُم الْكَرْخِي وَغَيره إِلَى أَن مَا نقل من فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُطلقًا فَيجب علينا مثله إِذا لم يمْنَع من الْوُجُوب مَانع، وَبِذَلِك قَالَ ابْن سُرَيج، والأصطخري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 وَابْن خيران. 890 - ] ثمَّ اخْتلف الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوب على طَرِيقين فَذهب بَعضهم إِلَى أَنا ندرك الْوُجُوب فِيمَا نقل من افعال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُطلقًا عقلا، وَذهب بَعضهم إِلَى أَن تثبيت ذَلِك بأدلة السّمع. وسنومىء إِلَى شُبْهَة الفئتين. [891] وَذهب الْمُحَقِّقُونَ من أهل كل مَذْهَب إِلَى ان فعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا نقل مُطلقًا فَلَا يثبت بِهِ علينا حكم أصلا لَا وجوب، وَلَا ندب وَلَا إِبَاحَة، وَلَا حظر، وَالْحكم علينا بعد نقل فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَالْحكمِ علينا قبل نَقله وَهَذَا مَا نرتضيه وننصره. [892] فَأَما وَجه الرَّد على الْقَائِلين بالحظر فنستقصيه فِي آخر الْكتاب عِنْد اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع، وَنَذْكُر هَهُنَا مَا يسْتَقلّ بِهِ فَنَقُول: مصير هَذَا الْمَذْهَب يُفْضِي إِلَى التَّنَاقُض، فَإِن كل مَا فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنقل مُطلقًا لَو كَانَ مَحْظُورًا فِي حقوقنا لزمنا أَن نقُول: إِذا فعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 فعلا مرّة وَترك مثله ثَانِيًا فَيحرم علينا الْفِعْل وَالتّرْك جَمِيعًا عِنْد صدورهما مِنْهُ، مَعَ اسْتِحَالَة تعرينا عَنْهُمَا وسنوضح وَجه الرَّد على هَذِه الفئة. [893] فَأَما من زعم أَن افعال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَقْتَضِي الْإِبَاحَة فِي حَقنا فَيُقَال لَهُ: مَا المعني بِالْإِبَاحَةِ الَّتِي اطلقتها؟ فَإِن عنيت بهَا أَن فعله يتَضَمَّن إدنا لنا فِي الْإِقْدَام على مثله فَهَذَا محَال فَإِن الْفِعْل لَا يكون إِذْنا فِي مثله لَا عقلا، وَلَا سمعا إِذا لم تتقدم موَاضعه على نصب الْفِعْل علما فِي الْإِذْن، ثمَّ نقُول: الْإِبَاحَة ترجع إِلَى إِذن الله تَعَالَى مَعَ نفي اللوم وَالْأَجْر فِي الْفِعْل وَالتّرْك، وَفعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدل على ذَلِك. وَإِن أَرَادَ الصائر إِلَى هَذَا الْمَذْهَب أَن مَا فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يمْنَع مِنْهُ مَانع فِي الشَّرْع، فَلَو اقدم عَلَيْهِ مقدم لم يسْتَحق لوما فَهَذَا مَا نساعدهم عَلَيْهِ، وَهَذَا سَبِيل نفي الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع. [894] فَأَما من قَالَ، فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْتَضِي النّدب فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 حقوقنا فَيُقَال لَهُم: هَذَا بَاطِل، فَإِن فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المتبع لَا ينْتَصب علما فِي النّدب على مثله عقلا، إِذا يجوز فِي الْعقل تخصصه بِمَا يحرم على غَيره، وَيجوز تَقْدِير صُدُور الْفِعْل مِنْهُ مُبَاحا وَهُوَ مُبَاح لغيره، وَيجوز تَقْدِير الْوُجُوب أَيْضا، فَإِذا تقابلت هَذِه الجائزات فِي الْعقل وَلَيْسَ فِي فعل الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا ينبىء عَن تَبْيِين جِهَة من هَذِه الْجِهَات، فَلَا يرتضي أحد وَاحِدَة مِنْهَا إِلَّا ويقابل بِسَائِر / الْجِهَات فتتساقط الْأَقْوَال عِنْد تعارضها، فَهَذَا لوادعوه [101 / أ] عقلا، وَإِن ادعوهُ سمعا فتخصيص النّدب فِي قَضِيَّة لَا وَجه لَهُ، وَإِن من افعال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يجب اتِّبَاعه فِيهِ، وَمِنْه مَا يُبَاح الْإِقْدَام على مثله من غير ندب، فتخصيص النّدب لَا وَجه لَهُ لَا عقلا وَلَا سمعا. [895] فَإِن قيل: النّدب اقل رُتْبَة من الْوُجُوب، فحملنا الْأَمر على الْأَقَل؟ قيل: هَذَا بَاطِل من وَجْهَيْن، أَحدهمَا: أَن مَا يتَحَقَّق وَاجِبا فَلَيْسَ فِيهِ معنى النّدب ليقدر النّدب اقل مرتبَة وَأَيْضًا فَإِن الْإِبَاحَة دون النّدب على زعمكم، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. [896] فان قَالُوا: إِنَّمَا الدَّال على ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} ، فأنبأ ذَلِك عَن تَحْسِين التأسي بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 قيل لَهُم: الْوُجُوب ينعَت بالْحسنِ، كَمَا ينعَت النّدب، فَلم كُنْتُم بِالْحملِ على النّدب أولى من غَيْركُمْ إِذا حملوه على الْوُجُوب؟ [897] فَأَما وَجه الرَّد على الْقَائِلين بِالْوُجُوب فيداني وَجه الرَّد على الَّذين سبقوا، فَإنَّا نقُول فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَنْقَسِم، فَمِنْهُ الْوَاجِب، وَمِنْه الْمُبَاح، ولندب، وَلَيْسَ فِيمَا يصدر عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يتَضَمَّن إِيجَابا علينا عقلا، فَإِن الْعقل لَا يَقْتَضِي تعين جِهَة على التَّخْصِيص مَعَ تقَابل الجائزات وتماثل الِاحْتِمَالَات، وَلَيْسَ فِي نفس الْفِعْل الصَّادِر مِنْهُ مَا يُوجب الْإِقْدَام على مثله عقلا، وكل مَا يتمسكون بِهِ من الْأَدِلَّة السمعية فَلَا مستروح فِي شَيْء على مَا سنقرر وُجُوه التفصي عَمَّا يعتصمون. [898] شُبْهَة الْقَائِلين بِالْوُجُوب. فَإِن قَالُوا: كل مَا يصدر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنعلم أَنه مصلحَة لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ متعبد بِهِ، وَمَا كَانَ مصلحَة لغيره، وَيجب على الْمَرْء تتبع مَصَالِحه. وَهَذَا واه جدا من أوجه: مِنْهَا: أَن نقُول: من سوغ الصَّغَائِر على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لم يسلم مَا ادعيتموه، وَوجه الْمَنْع فِيهِ بَين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 ثمَّ نقُول: لم زعمتم أَن مَا كَانَ مصلحَة فِي حَقه كَانَ مصلحَة فِي حق غَيره؟ ألم تعلمُوا أَن الرتب تتباين، والمصلحة تخْتَلف باخْتلَاف الدَّرَجَات؟ وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الصَّلَاة مصلحَة فِي حق الطَّاهِر، مفْسدَة فِي حق الْحَائِض، وَلَو تتبعنا تفَاوت الْأَفْعَال فِي حق الْمُكَلّفين من الْأَحْرَار وَالْعَبِيد لطال، وَفِي التَّنْبِيه عَلَيْهَا غنية. ثمَّ نقُول: لَو كَانَ العَبْد يتَمَثَّل أوَامِر سَيّده، ويتجنب مُخَالفَته، فَلَيْسَ من شَرط تَحْقِيق مُوَافقَة ومحاشاة مُخَالفَته أَن يفعل كل مَا يَفْعَله سَيّده، فَبَطل مَا قَالُوهُ وَتبين أَن إِظْهَار الْخلاف إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الْأَوَامِر دون الْأَفْعَال. [899] شُبْهَة أُخْرَى لَهُم - وَهِي عمدتهم - قَالُوا: لَو سَاغَ القَوْل بِأَن اتِّبَاعه فِي أَفعاله لَا يجب سَاغَ مثله فِي أَقْوَاله فَإِنَّهُ لَا فصل بَينهمَا. قيل لَهُم: هَذِه دَعْوَى مُجَرّدَة، فَلم جمعتم بَينهمَا؟ فَلَا يرجعُونَ عِنْد التَّحْقِيق إِلَى طائل وَتَحْصِيل. ثمَّ نقُول: بِمَا تنكرون على من يَقُول أَن المعجزات دَالَّة على صدق الرَّسُول عَلَيْهِم السَّلَام، وَقبُول أَقْوَالهم، وَمَا يصدر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأَوَامِر فَإِنَّمَا هُوَ فِيهَا مبلغ وَالْأَمر لله / تَعَالَى. فَفِي رد [101 / ب] أَقْوَاله تسبب إِلَى رد قَضِيَّة المعجزة، وإفصاح برد النُّبُوَّة، وَلَا يتَحَقَّق مثل ذَلِك فِي الْأَفْعَال، فَإِن المعجزة لَا تدل على وجوب اتِّبَاعه فِي جملَة أَفعاله، إِذْ المعجزة لَا تدل إِلَّا على الصدْق، وَالْأَفْعَال لَا صِيغ لَهَا، وايضا فَإِن فعله مُخْتَصّ بِهِ وَلَيْسَ فِيهِ اقْتِضَاء تثبيت مثله فِي حق غَيره، وَأما أَقْوَاله فمتعلقة فِي مقتضاها بالمكلفين، فافترق البابان ثمَّ نقُول: قد بَينا أَن فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 التَّرَدُّد فنظيره من القَوْل مَا هُوَ على التَّرَدُّد، وَلَو [و] ردَّتْ لَفْظَة مترددة بَين احتمالات لَا سَبِيل إِلَى الْجمع بَينهمَا، واللفظة حَقِيقَة فِي كل وَاحِدَة مِنْهَا فَلَا سَبِيل إِلَى حمل اللَّفْظَة على بَعْضهَا بل يتَوَقَّف فِيهَا إِلَى الْبَيَان، فَهَذِهِ سَبِيل الْأَفْعَال، فَهَذِهِ عمدهم إِذا زَعَمُوا أَن الْوُجُوب الِاتِّبَاع مُسْتَدْرك عقلا. [900] وَأما من ذهب مِنْهُم إِلَى أَن ذَلِك يثبت سمعا فقد اسْتدلَّ بآي من الْكتاب مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {فَاتَّبعُوهُ} ، قَالُوا: وَهَذَا أَمر، وَالْأَمر على الْوُجُوب. قُلْنَا: لَا نسلم أَن الْأَمر على الْوُجُوب، وَقد قدمنَا فِي ذَلِك صَدرا من الْكَلَام مغنيا إِن شَاءَ الله تَعَالَى. ثمَّ لَا نسلم لكم الْعُمُوم لتعمموا ذَلِك فِي افعاله واقواله، على أَنا نقُول: ظَاهر الِاتِّبَاع ينبو عَن الطَّاعَة وَلَا تحقق الطَّاعَة إِلَّا فِي امْتِثَال الْأَوَامِر. وَالَّذِي يحققه مَا قدمْنَاهُ من قَول الْقَائِلين أَن يمْنَع الْأمة وَهُوَ من اتِّبَاعه، وَلَا يعنون بِهِ أَنه يتصدر إذاتصدر وَيفْعل كل مَا يفعل الْآمِر، فَإِنَّمَا يؤول الِاتِّبَاع والامتثال والانقياد إِلَى امْتِثَال الْأَوَامِر. [901] وَمِمَّا استدلوا بِهِ قَوْله تَعَالَى: (لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 حَسَنَة 9، وَهَذَا لَا معتصم فِيهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَة مَا يتَضَمَّن تثبيت الْوُجُوب على الْخُصُوص، بل فحوى الْآيَة إِلَى اقْتِضَاء النّدب اقْربْ. [902] وَمِمَّا يستدلون بِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ءاتكم الرَّسُول فَخُذُوهُ} 6، وَقَوله: {وأطبعوا الله واطيعوا الرَّسُول} . فَأَما قَوْله: {وَمَا ءاتكم الرَّسُول} فَلَيْسَ فِيهِ مُصَرح بالإفعال فَلم حملتموه عَلَيْهَا؟ وَظَاهر الإيتاء: الْإِعْطَاء دون مَا رمتوه، على أَنه سُبْحَانَهُ قابله بِالنَّهْي فَقَالَ: {وَمَا نهكم عَنهُ فَانْتَهوا} فَدلَّ أَنه عَنى بالإيتاء: الأومر. وَأما قَوْله: {وَأَطيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول} ، فَلَا حجَّة فِيهِ، وَأَن الطَّاعَة لَا تتَحَقَّق إِلَّا فِي امْتِثَال الْأَمر، وَالْفِعْل لَا يكون أمرا. [903] وَرُبمَا يستدلون بأخبار أَعْتَصِم فِيهَا الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَغَيرهم بِأَفْعَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْهَا مَا روى أَنه وَاصل الصّيام فواصله بعض الصَّحَابَة فنهاهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاعْتذر بَان قَالَ: واصلنا لما واصلت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 904 - ] وَمِنْهَا ماروي انه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلع نَعله فَخلع الصحاب نعَالهمْ فَهَذَا يدل على اعْتِقَادهم وجوب الِاتِّبَاع. وَمِنْهَا: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حلق عَام الْحُدَيْبِيَة فازدحم النَّاس على الحلاق اتبَاعا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [905] وَمِنْهَا مَا رُوِيَ أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قبل الْحجر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 ثمَّ قَالَ: " أما أَنِّي أعلم أَنَّك حجر لَا تضر، وَلَا تَنْفَع، وَلَوْلَا أَنِّي رايت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقبلك لما استلمتك فاعتصم بِفِعْلِهِ. [906] وَمِنْهَا: مَا رُوِيَ أَن سَائِلًا سَأَلَ أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا عَن قبْلَة الصَّائِم فَسَأَلت رَسُول الله / صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَلا أخبرتيه أَنِّي اقبل وَأَنا [102 / أ] صَائِم. وسئلت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن وجوب الْغسْل بالتقاء الختانين فأفتت بِالْوُجُوب وَقَالَت: فعلته أَنا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاغتسلنا إِلَى غير ذَلِك من الْأَخْبَار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 [907] وَالْجَوَاب عَنْهَا من أوجه: أَحدهَا: أَن نقُول الْأَفْعَال الَّتِي نقلت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من خَصَائِصه وَمَا لم يُتَابع عَلَيْهِ أَكثر مِمَّا نقلتموه، ثمَّ نقُول: لم زعمتم أَنهم اتَّبعُوهُ فِي مُوجب هَذِه الْأَخْبَار التزاما واستحبابا، وَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم استباحوا، وَبِمَ تنكرون على من يزْعم انهم استباحوا بَعْضهَا وَرَأَوا بَعْضهَا ندبا. [908] ثمَّ نجيب عَن كل مَا تمسكوا بِهِ وَاحِدًا وَاحِدًا فَأَما حَدِيث الْوِصَال فنهيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتوبيخه لَهُم على اتِّبَاعه أدل الْأَدِلَّة عَلَيْكُم، إِذْ رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: أيقوى أحدكُم على مَا أقوى؟ الحَدِيث. وَأما خلع النِّعَال فقد كَانَ فِي الصَّلَاة، وَقد كَانَ سبق مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر الصَّحَابَة باتباعه فِي الصَّلَاة لما قَالَ: " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ". وَأما الْحلق وتقبيل الْحجر فَلَقَد كَانَ من جملَة الْمَنَاسِك، وَكَانُوا قد سمعُوا لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " خُذُوا عني مَنَاسِككُم ". وَأما حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، وَأم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا فلعلهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 أَيْضا اقتديا بقوله، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْمَنْقُول فِي حَدِيثهمَا لَيْسَ من الْأَفْعَال المختصة برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل كَانَ مُتَعَدِّيا إِلَيْهَا وَلذَلِك قايسا النَّاس بحكمهما، على أَنا نقُول كَمَا تمسكتم بِهِ آحَاد لَا يسوغ الِاعْتِصَام بِهِ فِي مسَائِل الْقطع، وَالله اعْلَم. (163) القَوْل فِي ذكر الْوُجُوه الَّتِي يَقع عَلَيْهَا افعال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم [909] إِذا صدر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل مُطلق، وَلم يعلم بطرِيق من الطّرق أَنه أَرَادَ بِفِعْلِهِ تَبْيِين مُجمل، أوتنبيها على حكم شَرْعِي، فَالْحكم فِيهِ مَا قدمْنَاهُ من الْوَقْف، فَأَما إِذا صدر مِنْهُ الْفِعْل بَيَانا لحكم على [الِابْتِدَاء] ، اَوْ تَخْصِيصًا لعُمُوم أوتبيينا لمجمل فَيجب التَّمَسُّك بِهِ. [910] وَنحن الْآن نجمع الطّرق الَّتِي إِذا وَقعت الْأَفْعَال عَلَيْهَا كَانَت بَيَانا، فأقوى الْوُجُوه فِي وَقع الْأَفْعَال بَيَانا وَاجِب الْإِيقَاع فِيهَا وَجْهَان: أَن يُصَرح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْأَمر بالاتباع فِيمَا يصدر مِنْهُ من الْأَفْعَال وَذَلِكَ نَحْو قَوْله: " صلوا كَمَا أيتموني اصلي ". وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن يجمع الْعلمَاء على أَن الْمَقْصد من الْفِعْل الصَّادِر مِنْهُ بَيَان، فَيعلم أَن الْإِجْمَاع لَا ينْعَقد بَاطِلا، وَلَيْسَ علينا تتبع مَا انْعَقَد الْإِجْمَاع مِنْهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 [911] وَمن الطّرق فِي وُقُوع الْفِعْل بَيَانا أَن يثبت ويستقر على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى أمته حكم، ثمَّ يصدر مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل يُخَالف ذَلِك الحكم وَيعلم أَنه لَيْسَ بساه ويتحقق عندنَا أَنه لَيْسَ بِمحرم، وَأما على منع الصَّغَائِر أَو بِأَن يتَحَقَّق بقرائن الْحَال ذَلِك، فَإِذا ثَبت الْفِعْل على هَذَا / الْوَجْه فيتبين لنا أَن الحكم قد نسخ فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَكِن لَا يتَبَيَّن نسخ الحكم فِي حَقنا بِمُجَرَّد صُدُور الْفِعْل مِنْهُ حَتَّى يتَبَيَّن لنا ذَلِك بِأحد أَمريْن، إِمَّا بالْقَوْل، وَإِمَّا أَن يصدر منا مثل مَا صدر مِنْهُ فيقررنا عَلَيْهِ، فيتبين حِينَئِذٍ النّسخ فِي حَقه وَفِي حق من قَرَّرَهُ على مثل فعله. [912] وَمن الْوُجُوه فِي الْبَيَان أَن ترد لَفْظَة عَامَّة مُتَعَلقَة فِي مقتضاها بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِغَيْرِهِ، ثمَّ يبدر مِنْهُ فعل كَمَا نعتناه وَظَاهر الْعُمُوم لَا يَقْتَضِيهِ فيتبين لنا تَخْصِيص الْعُمُوم وَذَلِكَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} . فَهَذَا عَام فِي كل من ينْطَلق اسْم السَّارِق عَلَيْهِ، فَإِذا رَأينَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقطع فِيمَا دون الرّبع دِينَار، مَعَ صُدُور الْفِعْل عَنهُ على غير وَجه النسْيَان، فنعلم أَن ذَلِك غير دَاخل تَحت قَضِيَّة اللَّفْظ، وَإِذا رَأَيْنَاهُ لَا يقطع فِي الثَّمر والكنز فَكَذَلِك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 [913] وَلَو تقدم لفظ مُجمل مثل قَوْله تَعَالَى: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} ثمَّ أَخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْحَصاد قدرا فَلَا نعلم أَن فعله بَيَانا لقَوْله سُبْحَانَهُ: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} فَإنَّا نجوز أَن يكون هَذَا الْفِعْل ثَابتا عَن قَضِيَّة أَمر آخر، ونجوز أَن يكون الْمَأْخُوذ غير الْمَنْطُوق بِهِ مُجملا فِي الْآيَة، فَلَا نقطع القَوْل بِأَن فعله بَيَان فِي هَذِه الصُّورَة حَتَّى ينبهنا عَلَيْهِ بطرِيق من طرق التَّنْبِيه، وَقد يتَصَوَّر أَن يَجْعَل فعله فِي مثل هَذِه الصُّورَة الَّتِي قدمناها بَيَانا، وَذَلِكَ نَحْو مثل أَن يفعل مَا صورناه ويخترم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ونعلم أَنه لَا يخترم مَعَ بَقَاء الالتباس فِي اللَّفْظَة المجملة فأظهر الْأَحْوَال كَون فعله بَيَانا، فقد أَجمعت الْأمة على حمل فعله على [الْبَيَان] فِي مثل هَذِه الصُّورَة، فتتبعنا الْإِجْمَاع وألحقنا ذَلِك بِمَا قدمْنَاهُ فِي صدر الْبَاب، وَلَوْلَا الْإِجْمَاع، فَلَو رددنا إِلَى تَحْقِيق الْبَيَان لما جَعَلْنَاهُ بَيَانا مَعَ مَا فِيهِ من الِاحْتِمَال بيد أَن الْإِجْمَاع يحسم الِاحْتِمَال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 [914] وَمن طرق الْبَيَان أَن بتمهد لنا فِي أصُول الشَّرِيعَة أَن يُكَرر فعلا من الْأَفْعَال فِي بعض الْعِبَادَات على قصد الشَّرْع بِمَا يبطل الْعِبَادَة، فَإِذا كرر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد سبق من تمهيد الأَصْل مَا أومأنا إِلَيْهِ فنعلم أَن مَا كَرَّرَه شَرط الصِّحَّة فِي تِلْكَ الْعِبَادَة، وَبَيَان ذَلِك أَنه ثَبت فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن من ركع فِي رَكْعَة وَاحِدَة ركوعين بطلت صلَاته، ثمَّ رَآهُ يرْكَع ركوعين فِي صَلَاة الخسوف، فَعَلمُوا من ذَلِك أَنه مَشْرُوط فِي صِحَة صَلَاة الْكُسُوف. (164) فصل [915] اتّفق الأصوليون على أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قرر إنْسَانا على فعل فتقريره إِيَّاه يدل على أَنه غير مَحْظُور، وَلَو كَانَ مَحْظُورًا لأنكره، ثمَّ لَا يُمكن بعد ذَلِك قطع القَوْل بِكَوْنِهِ مُبَاحا أَو وَاجِبا أوندبا بل تَجْتَمِع فِيهِ هَذِه الِاحْتِمَالَات، وَلَا يتَبَيَّن من [103 / أ] التَّقْرِير الْمُطلق إِلَّا نفي الْحَظْر، ثمَّ انْتِفَاء الْحَظْر يتخصص بِمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 قَرَّرَهُ وَلَا نقُول أَن ذَلِك يعم فِي كَافَّة الْمُكَلّفين، فَإِن التَّقْرِير لَهُ صِيغَة تعم وتشمل جملَة الْمُكَلّفين، وَلَو كَانَ قد صدر من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنْكَار، وتنصيص على تَحْرِيم فِي ضروب من الْفِعْل ثمَّ قرر عَلَيْهِ أحدا فتقريره ينبىء عَن نفي التَّحْرِيم وارتفاعه فِي حق من قَرَّرَهُ، وَلكنه لَا يتَعَدَّى إِلَى غَيره كَمَا قدمْنَاهُ إِلَّا أَن ينْعَقد الْإِجْمَاع على أَن التَّحْرِيم إِذا ارْتَفع فِي حق وَاحِد فقد ارْتَفع فِي حق الكافة بِأَن يعلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهل الْإِجْمَاع أَن هَذَا الحكم فِي ثُبُوته ونفيه يعمكم وَلَا يتخصص بِوَاحِد منم، فَإِذا [قرر] مَعَ ذَلِك وَاحِدًا على مثل الْفِعْل الَّذِي حرمه فَيَقَع هَذَا التَّقْرِير بَيَانا فِي رفع الحكم ونسخه فِي حق الكافة. [916] وَمن طَرِيق الْبَيَان أَن يسْأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بَيَان مُجمل، فيعقب السُّؤَال بِفعل يقْتَرن بِهِ من الْقَرَائِن مَا يضْطَر إِلَى انه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رام جَوَاب السَّائِل بِفِعْلِهِ فَهَذَا يَقع بَيَانا لَا محَالة وبتنزيل لَا محَالة فعله منزلَة القَوْل. (165) فصل [917] إِذا صدر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل وَاقع موقع الْبَيَان كَمَا قدمْنَاهُ فِي مَكَان أَو زمَان فَلَا يتَقَيَّد مُوجب الْبَيَان بِالْمَكَانِ وَلَا بِالزَّمَانِ عِنْد كَافَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 الْمُحَقِّقين وَذهب شرذمة من المنتمين إِلَى الْأُصُول إِلَى أَن الْفِعْل الْوَاقِع موقع الْبَيَان يتخصص بِالْمَكَانِ وَلَا يتخصص بِالزَّمَانِ. وَأبْعد بَعضهم فَقَالَ: يتخصص بِالزَّمَانِ ايضا فَيُقَال لهَؤُلَاء لَا خلاف أَن القَوْل الصَّادِر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المتضمن تَبْيِين الحكم لَا يَقْتَضِي تَخْصِيص الِامْتِثَال بِالْمَكَانِ الَّذِي صدر القَوْل فِيهِ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِذا وَقع الْفِعْل موقع الْبَيَان فِي تَحْقِيق نسخ أَو تَخْصِيص، اَوْ جَوَاب سُؤال، وَهُوَ فِي الإنباء عَن الحكم نَازل منزلَة القَوْل. [918] فَإِن قيل: الْفِعْل متخصص بِالْمَكَانِ؟ قُلْنَا: فَيلْزم مثل ذَلِك فِي القَوْل، على أَنا لَو رددنا إِلَى نفس الْفِعْل لما فهمنا مِنْهُ اقْتِضَاء حكم وَإِنَّمَا الْمُقْتَضى للْحكم وُقُوعه على وَجه الْبَيَان، وَهُوَ مِمَّا لَا ينعَت بالتخصيص بِالْمَكَانِ، وَالَّذِي يُوضح مَا قُلْنَاهُ إِنَّا نعلم اضطررا أَن من قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين لي التوضىء فَتَوَضَّأ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَا يعقل السَّائِل أَن يُوقع الْوضُوء فِي الْمَكَان الَّذِي تَوَضَّأ فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمن أنكر ذَلِك فِي التخاطب ومجاري كَلَام الْبَيَان قطع الْكَلَام عَنهُ. [919] ثمَّ نقُول: الْأَمَاكِن والأزمان مِمَّا لَا يدْخل تَحت مقدورات الْمُكَلّفين، وَإِذا ورد فعل وَاقع موقع الْبَيَان مُطلقًا فَيحمل على اقْتِضَاء مَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 يدْخل تَحت الْمَقْدُور، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو فعل فعلا فِي تغيم السَّمَاء أَو إصحائها، أَو فعل وَزيد قَائِم، فَلَا يتخصص الجري على مُقْتَضى الْفِعْل بِمَا قَارن فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأَسْبَاب وفَاقا، فَإِن أَشْيَاء مِمَّا أومأنا إِلَيْهِ لَا تدخل تَحت قبيل المقدورات. [920] ثمَّ نقُول للقائل بتخصيص الْأَزْمِنَة هَذَا الَّذِي ذكرته تنَاقض فَإِنَّهُ لَا يتَحَقَّق العثور على الْمَقْصُود من الْفِعْل لَا بعد الْفَرَاغ مِنْهُ فقد انْقَضى وقته الْمُقَارن لَهُ / فَكيف يتَحَقَّق وُقُوع الِامْتِثَال فِي وَقت الْفِعْل، فَإِن قيل: فِي مثل [103 / ب] ذَلِك الْوَقْت، قُلْنَا: فَقولُوا يُوقع الْفِعْل فِي مثل ذَلِك الْمَكَان على أَن الْأَوْقَات كلهَا تؤول إِلَى حركات الْفلك، وَهِي مُخْتَلفَة لَا يتَحَقَّق التَّمَاثُل فِيهَا، وَإِن تحقق لَا يَتَقَرَّر التَّمَكُّن من تمكن تماثلها، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. (166) فصل [921] اعْلَم أَنه يجب على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَبْيِين مَا يتَعَلَّق بِأَحْكَام الشَّرَائِع وَلَا يجوز لَهُ الْإِخْلَال بِمَا كلف من الْبَيَان، وكما يجب عَلَيْهِ تَبْيِين الْوَاجِبَات والمفترضات فَكَذَلِك يجب تَبْيِين الْمُبَاحَات والمندوبات، والمحظورات، وتمهيد السَّبِيل إِلَى دَرك أَحْكَام الوقائع الَّتِي لَا تنضبط بِنصب الأمارات، والتفسح للمكلفين فِي طرق الِاعْتِبَار. [922] وَقد نقل بعض الْمُتَكَلِّمين أَنه قَالَ: مَا كَانَ وَاجِبا وَجب على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيَانه، وَمَا كَانَ مَنْدُوبًا كَانَ بَيَانه فِي حق الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْدُوبًا، وَمَا كَانَ مُبَاحا كَانَ بَيَانه مُبَاحا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 وَهَذَا مَذْهَب أطلق حكايته، وَلم ينْسب إِلَى أحد من أهل الْمذَاهب، وَهُوَ تَصْرِيح بخرق الْإِجْمَاع من وَجْهَيْن اثْنَيْنِ، أَحدهمَا أَن الْأمة أَجمعت أَنه وَجب على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَبْيِين أَحْكَام الشَّرِيعَة، ثمَّ أَجمعُوا على أَن الشَّرِيعَة لَا تَنْحَصِر فِي الْوَاجِبَات وَلَكِن مِنْهَا: الْإِبَاحَة، وَمِنْهَا النّدب، فَإِن زعمتم أَن الْوَاجِب تَبْيِين الْوَاجِبَات فقد خرقتم الْإِجْمَاع. وَالْوَجْه الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي يُقَوي ذَلِك أَن الْمُكَلّفين لَو لم ينبهوا على مَا يحل لَهُم من مكاسبهم ومطالبهم مَا يتعيشون بِهِ أفْضى ذَلِك إِلَى انْقِطَاع الخليقة عَن أَسبَاب المعاش، فقد أجمع الْمُسلمُونَ فِي الْعَصْر الخالية على وجوب الْإِرْشَاد على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مثل هَذِه الْحَالة. [923] فَإِن قيل: فَإِذا بَين الْمَحْظُورَات فقد تبين أَن مَا عد هَذَا مُبَاح؟ قُلْنَا: فقد صرحتم أَن تَبْيِين الْمُبَاح حتم من الْوَجْه الَّذِي ذكرتموه، وَبَطل قَوْلكُم أَن تَبْيِين الْمُبَاح مُبَاح، على أَن فِيمَا عدا الْمَحْظُورَات فَردا ينْدب الْمُكَلّفين إِلَيْهَا وَلَا تتصف بِالْإِبَاحَةِ فَلَا يَصح إِطْلَاق القَوْل بِأَن مَا عدا الْمَحْظُورَات مُبَاح، فَبَطل ذَلِك جملَة وتفصيلا. [924] فَإِن قيل: فَإِذا أوجبتم على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيَان النَّوَافِل وَالسّنَن فَلَو بَينهَا بِفِعْلِهِ وَجب أَن تحكموا بِأَن فعله يَقع وَاجِبا. قُلْنَا: هَذَا مقصودنا بِعقد هَذَا الْفَصْل وَهُوَ مَا نقُول بِهِ مَعَ كَافَّة الْمُحَقِّقين. فَيجب عَلَيْهِ الْبَيَان باحد وَجْهَيْن، إِمَّا بالْقَوْل، وَإِمَّا بِالْفِعْلِ، فَإِذا آثر التَّبْيِين بِالْفِعْلِ وَقع الْفِعْل بَيَانا وَاجِبا وَإِن كَانَ لَوْلَا قصد الْبَيَان لَكَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 ذَلِك الْفِعْل تَطَوّعا فِي حَقه وَهَذَا كَمَا أَن من لَزِمته كَفَّارَة الْيَمين يتَخَيَّر من خلال ثلَاثه، ثمَّ مَا يصدر عَنهُ مِنْهَا على قصد التَّكْفِير يَقع وَاجِبا، فأحط علما بذلك. (167) القَوْل فِي تعَارض الْأَفْعَال بَعْضهَا مَعَ بعض، وتعارض الْأَفْعَال مَعَ الْأَقْوَال [925] اعْلَم، وفقك الله، أَن التَّعَارُض بَين القوليين إِنَّمَا يتَحَقَّق إِذا تنافت مقتضياتهما فِي كل الْوُجُوه، بِأَن يتعلقا بحكمين متنافيين فِي شخص وَاحِد فِي حَالَة وَاحِدَة على وَجه يَسْتَحِيل فِي الْمَعْقُول تَقْدِير ثبوتهما جمعا وَلَا يتَحَقَّق التَّعَارُض فِي خبرين مُتَعَلقين بحكمين فِي شَخْصَيْنِ، أَو شخص وَاحِد / فِي وَقْتَيْنِ وحالين. [104 / أ] [926] فَإِن قيل: ألستم قُلْتُمْ فِي تعَارض العمومين إنَّهُمَا إِذا تقابلا وَأمكن حملهما على وَجه يجمع فِيهِ بَينهمَا فهما متعارضين. قُلْنَا: إِنَّمَا ذَلِك لِأَن الْوَجْه الَّذِي نقدره لَيْسَ بِأولى من وَجه يُقَابله وَلم يدل على ذَلِك الْوَجْه دَلِيل يرشدنا إِلَيْهِ، فتوقفنا على قَضِيَّة الدَّلِيل، وَلَيْسَ هَذَا من التَّعَارُض الْحَقِيقِيّ فاعلمه، وَلكنه يجوز تَقْدِير التَّعَارُض فِيهِ وَيجوز تَقْدِير حملهَا على وَجه يستعملان فِيهِ غير أَنا لم نجد معتصما فِي ذَلِك توقفنا على تتبع الْأَدِلَّة، فَهَذَا إِذا توقف منان وَلَيْسَ يقطع على التَّعَارُض الْحَقِيقِيّ، وَإِنَّمَا التَّعَارُض الْحَقِيقِيّ الَّذِي يقطع بِهِ فِي لفظين نصين فِي حكمين متنافيين على وَجه يَسْتَحِيل الْجمع بَينهمَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 [927] ثمَّ اعْلَم أَنا لَا نجوز وُرُود مثل ذَلِك فِي الشَّرْع من غير تَقْدِيم وَتَأْخِير، وناسخ ومنسوخ، فَإِن تَجْوِيز ذَلِك إفصاح بتجويز تَكْلِيف الْمحَال، وَنحن نعتد هَذِه الْأَبْوَاب على منع ذَلِك، فَإِذا اتَّصَلت بِنَا كَمَا نعتناها فَعلم أَن أَحدهمَا نَاسخ وَالثَّانِي مَنْسُوخ، وَإِن نقل آحادا فنعلم إِمَّا النّسخ، وَإِمَّا وُقُوع الْغَلَط فِي أَحدهمَا وَلَا يتَعَيَّن الْعلم بِوَاحِد مِنْهُمَا إِلَّا بِدلَالَة عَلَيْهِ. [928] فَإذْ عرفت ذَلِك رَجعْنَا إِلَى مقصودنا فِي الْأَفْعَال، فَأَما الْأَفْعَال الْمُطلقَة الَّتِي لم تقع موقع الْبَيَان من الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي الَّتِي نتوقف فِيهَا فَلَا يتَحَقَّق فِيهَا تعَارض، وَلِأَن الْأَفْعَال لَا صِيغ لَهَا، فَلَا يتَصَوَّر تعَارض الذوات، وَالْأَفْعَال المتغايرة الْوَاقِعَة فِي الْأَوْقَات وَلم تقع موقع الْبَيَان، فَيَنْصَرِف التَّعَارُض إِلَى مُوجبَات الْأَحْكَام، وَأما الْأَفْعَال الْوَاقِعَة موقع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 الْبَيَان فَإِذا اخْتلف وَاقْتضى كل فعل بَيَان حكم يُخَالف مَا يَقْتَضِيهِ الْفِعْل الآخر، وتنافيا على الْوَجْه الَّذِي صورناه فِي الْقَوْلَيْنِ [فالتعارض] فِي مُوجب الْفِعْلَيْنِ كالتعارض فِي مُقْتَضى [الْقَوْلَيْنِ] وَلَا يرجع التَّعَارُض إِلَى ذاتي الْفِعْلَيْنِ، بل يرجع إِلَى المتلقى من الْبَيَان المنوط بهما، وَكَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق التَّعَارُض فِي نَفسِي الْقَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا يتَحَقَّق التَّعَارُض فِي الحكم الْمُسْتَفَاد من ظاهرهما، فَاعْلَم ذَلِك فِي تعَارض الْفِعْلَيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 [929] فَأَما تعَارض الْفِعْل وَالْقَوْل فَمَا صَار إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَن تعَارض الْفِعْل الْوَاقِع موقع الْبَيَان وَالْقَوْل ينزل منزلَة تعَارض الْقَوْلَيْنِ. وَذهب بعض أهل الْأُصُول إِلَى ان القَوْل وَالْفِعْل إِذا اجْتمعَا فِي قضيتين متنافيتين فيعتصم بالْقَوْل دون الْفِعْل وَاعْتَلُّوا لذَلِك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 جشمة مِنْهَا أَنهم قَالُوا لَو أَخذنَا بِفِعْلِهِ كَانَ ذَلِك إِسْقَاطًا منا لقَوْله، وَلَو تمسكنا بقوله فيتخصص الْفِعْل بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يكون ذَلِك إِسْقَاطًا للْفِعْل والتمسك بِمَا لَا يتَضَمَّن إسقاطهما وَلَا إِسْقَاط وَاحِد مِنْهُمَا أصلا اأولى من التَّمَسُّك بِمَا يُوجب إِسْقَاط أَحدهمَا من كل وَجه. قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل فَإِن الْمَسْأَلَة مَفْرُوضَة فِي فعل وَاقع موقع الْبَيَان كَمَا أَن القَوْل وَاقع موقع الْبَيَان فَإِذا خصصتم الْفِعْل بِهِ فقد أسقطتم اقْتِضَاء بَيَانه ونزلتموه منزلَة الْفِعْل الْمُطلق، وَإِنَّمَا كلامنا فِي الَّذِي يَقع مُبينًا، فَتبين أَن استرواحهم إِلَى مَا لَا تَحْقِيق لَهُ. [930] فَإِن قَالُوا: القَوْل أولى من الْفِعْل لِأَنَّهُ بَيَانا لنَفسِهِ / الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 وموضوعه، وَالْفِعْل إِنَّمَا يصير بَيَانا بالْقَوْل أَو بِسَبَب واقتضاء حَال، وَالَّذِي هُوَ بَيَان لنَفسِهِ أولى. قُلْنَا: هَذَا سَاقِط من الْكَلَام فَإِن الْفِعْل وَإِن كَانَ إِنَّمَا يصير بَيَانا بِغَيْرِهِ فَإِذا صَار بَيَانا بِمَا يَقْتَضِي لَهُ ذَلِك، ينزل فِي الإنباء عَن الْبَيَان منزلَة م ابين بِنَفسِهِ، وَلم يبْق بَينهمَا تزايد فِي هَذِه الرُّتْبَة، وَهَذَا مِمَّا لَا يستريب فِيهِ مُحَقّق، ثمَّ نقُول رب لفظ لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ حَتَّى تقترن بِهِ قَرَائِن دَالَّة فَهَلا قُلْتُمْ إِن القَوْل الَّذِي هُوَ وَصفه لَا يعتصم بِهِ إِذا عَارضه فعل، وَلَا يَقُولُونَ بِهَذَا التَّفْصِيل، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. [931] وَلَا يتمسكون بِشُبْهَة إِلَّا وَهِي تداني مَا أومينا إِلَيْهِ، وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ إِيضَاح طَرِيق الدَّلِيل فِي الرَّد عَلَيْهِم، إِنَّا نقُول: إِذا وَقع الْفِعْل موقع الْبَيَان فيستقل بِنَفسِهِ وَلَو قدر مُفردا كالقول، فَإِذا اجْتمعَا وَلَا ترجح لأَحَدهمَا على الثَّانِي فِي حكم الْبَيَان الَّذِي فِيهِ التَّعَارُض فَلَا وَجه للتحكم بالتمسك بِأَحَدِهِمَا وَترك الآخر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 (168) بَاب الْكَلَام فِي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل كَانَ متعبدا بشريعة من قبله من الْأَنْبِيَاء قبل مبعثه؟ وَهل كَانَ متعبدا بشرائعهم بعد المبعث؟ [932] اعْلَم، أسعدك الله، أَن الْبَاب يشْتَمل على طرفين، أحدهم: الْكَلَام فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل أَن يبْعَث وَالثَّانِي: الْكَلَام فِي أَنه بعد مَا ابتعثه الله هَل كَانَ متعبدا بشرائع الْأَنْبِيَاء الَّذين درجوا قبله. [933] فَأَما الْكَلَام فِي ال ْفَصْل الأول فقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ، فَذهب بَعضهم إِلَى أَنه كَانَ على مِلَّة إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 كَانَ على مِلَّة مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِمَا، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه على آخر الْملَل فِي زَمَنه وَهِي مِلَّة عِيسَى صلوَات الله عَلَيْهِمَا أَجْمَعِينَ. وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى التَّوَقُّف، ثمَّ الواقفية انقسموا فَمنهمْ من قَالَ: يعلم أَنه كَانَ متعبداً وَيجوز أَنه لم يكن قبل المبعث متعبدا بِشَيْء قطعا من الشَّرَائِع قبل المبعث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 [934] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَمَا صَار إِلَيْهِ جَمَاهِير الْمُتَكَلِّمين أَنه لم يكن قبل المبعث متعبدا بِشَيْء قطعا، ثمَّ انقسموا فِي ذَلِك فَذهب طوائف الْمُعْتَزلَة إِلَى أَنا نستدرك ذَلِك عقلا ونحيل تعبده قبل الشَّرْع. وَذهب عصبَة أهل الْحق إِلَى أَنه لَو تعبد قبل المبعث [لجَاز] بيد أَنه لم ينْعَقد وَثَبت عَنهُ ذَلِك سمعا، وَهَذَا مَا نرتضيه وننصره. [935] شُبْهَة الْمُخَالفين: فمما استدلوا بِهِ أَن قَالُوا كَانَت دَعْوَة عِيسَى صلوَات الله عَلَيْهِ عَامَّة مُخْتَصَّة بِزَمَان دون زمَان، وكل شَرِيعَة ثبتَتْ كَذَلِك متعبد بِهِ إِلَى زمَان والأشخاص،، وَلَا يسوغ ادِّعَاء رفضها عَن شخص بِعَيْنِه قبل ثُبُوت نَاسخ الشَّرْع الْمُتَقَدّم وَلم يكن ثَبت قبل مبعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَاسِخا لملة عِيسَى صلوَات الله عَلَيْهِ، فَيجب دُخُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل الابتعاث فِي الدعْوَة الْعَامَّة وَهَذَا أقوى شبه الْمُخَالفين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 [105 / أ] قُلْنَا: لقد عظمتم الظينة وأطنبتم فِيمَا قُلْتُمْ / وَمَا نطقتم إِلَّا بِمَا تنازعون فِيهِ، فَمن أَيْن لكم أَن دَعْوَة عِيسَى كَانَت عَامَّة؟ وَبِمَ تنكرون على من يَقُول أَن دَعوته كَانَت متخصصة بدهور مضبوطة؟ وَمَا الَّذِي أطْلعكُم على مَا قلتموه؟ فَإِن قيل: ظواهر الشَّرَائِع الْعُمُوم، قُلْنَا: فَبِمَ تنكرون على من يَقُول لَا بل ظواهرها الِاخْتِصَاص بالمخاطبين المعاصرين للرسل، وَإِنَّمَا نعدى عَنْهُم بِالدَّلِيلِ فتقابل الدعوتان، وَلزِمَ التَّوَقُّف إِلَى مورد الْبَيَان. [936] وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه لم يثبت عندنَا أَن عِيسَى صلوَات الله عَلَيْهِ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى جَمِيع ولد آدم صلوَات الله عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا ثَبت الْبعْثَة إِلَى الثقلَيْن فِي حق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ نقُول نَحن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 نجوز أَن تندرس فِي سُقُوط تِلْكَ الشَّرِيعَة، وَهَكَذَا كَانَ الدّين فِي وَقت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ كَانَت الْأَدْيَان مبدلة، والكتب مُغيرَة، وَلم يبْق من يوثق بهم، حَتَّى قَالَ أهل التواريخ: لم يبْق من يقوم بِالتَّوْرَاةِ بعد عُزَيْر، وَلم يبْق من يقوم بالإنجيل بعد مرخيا. فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الشَّرِيعَة مُرْتَفعَة فِي زمن الفترة لانحسام أَبْوَاب التَّوَصُّل إِلَى دركها، و: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} . [937] فَإِن قيل: افتجوزون مثل ذَلِك فِي شَرِيعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قيل: لَا نجوز ذَلِك لإِجْمَاع الْأمة على بَقَاء الدّين إِلَى أَن ينْفخ فِي الصُّور، وَلَوْلَا الْإِجْمَاع لجوزناه، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. [938] وَمن عمدهم أَن قَالُوا: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل المبعث محافظا على الْعِبَادَات، متسرعا إِلَى القربات، فَكَانَ يحجّ مَعَ الحجيج ويحضر المشاعر والمشاهد ويتجنب الْمُحرمَات ويستبيح من المحللات مَا لم يدْرك حلّه إِلَّا بِالشَّرْعِ كذبح الْبَهَائِم وإتعابها بالركوب ونحوهان وكل مَا ذَكرْنَاهُ دلَالَة قَاطِعَة على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يعبد الله على بعض الْأَدْيَان والشرائع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 قُلْنَا: حمله على مَا أوميتم إِلَيْهِ آحَاد لَا يثبت بِمِثْلِهَا الْقطع، وَنحن فِي مَسْأَلَة قَطْعِيَّة على أَن مَا استروحتم إِلَيْهِ من ذبح الْبَهَائِم وَنَحْوهَا فلسنا نسلم أَنَّهَا محظورة عقلا، وَإِنَّمَا بنيتم مَا قلتموه تَقْديرا مِنْكُم أَنَّهَا على الْحَظْر إِلَى أَن تُبَاح بِدلَالَة الشَّرْع، وَأما مَا نقلتموه من حجَّة فَلَيْسَ فِيهِ معتصم إِن صَحَّ، فَإِن الَّذين كَانُوا لَا يَقُولُونَ بِشَيْء من الْملَل، وَلَا يعتصمون بشريعة من الْأَنْبِيَاء من الْعَرَب العاربة مازالوا يتيممون ويتبركون بِالْبَيْتِ الْمحرم لَا عَن مِلَّة اتبعوها وَلَكِن توارثوها صاغرا عَن كَابر، وَهَذَا مَالا سَبِيل إِلَى جَحده فِي درب الْعَرَب. [939] وكل مَا ذَكرْنَاهُ نقدمه لحد النّظر، وَأَن كل مَا قَالُوهُ يَنْقَسِم إِلَى مَالا يَصح وَإِلَى مَا نقل آحادا، وَلَا يسوغ التشبث بِمثلِهِ فِي العقليات. [940] فَإِن قَالُوا: مَا زَالَ واصلا للرحم فِي الْكَلم، متجنبا عَن الْكَبَائِر واللمم، وكل ذَلِك من مخاديل اتِّبَاع شرائع الْأُمَم. قُلْنَا: هَذَا تحكم مِنْكُم وتوصيل إِلَى مَا يطْلب فِيهِ الْقطع بالمخيل والحسبان فَأَما صلَة الرَّحِم فالطبائع مجبولة عَلَيْهَا. ومنكرو الصَّانِع يغلب ذَلِك فيهم، وَأما توقي الْفَوَاحِش فَلَا يدل على اتِّبَاع الْملَل أَيْضا، فَبَطل مَا قَالُوهُ جملَة وتفصيلا. [941] وَالدَّلِيل / على مَا ارتضيناه أَن نقُول: قد ثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخالط أَصْحَابه ويمازح عثرته وَلم يُؤثر عَنهُ الانتماء إِلَى مَذْهَب والاعتزاء إِلَى مطلبه فِي الشَّرَائِع، وَمثله مِمَّن لَا يخفى فِي الْعَاد ة ذَلِك مِنْهُ مَعَ ظُهُور شَأْنه، ووضوح أمره، وَلَا يبديها، وَلَا يسايل عَنْهَا، وَلما ابتعثه الله لم يُؤثر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل التنبي، وَكَانَ ينبىء عَن أنبائه قبل الْبعْثَة وَصمت على مِلَّة كَانَ يتبعهَا، وَشَرِيعَة كَانَ يعتقدها، وَكَانَ لَا يسوغ الكتمان، وَيعلم فِي مجاري الْعَادَات أَن مثل ذَلِك لَا يسوغ تَقْدِير خفائه، وَلَو كَانَ مَعَ اسْتِمْرَار الْعَادة وَعدم انخراقها، وجاحد ذَلِك ينزل منزلَة جَاحد لسبيل الضروريات، ومصدق الْمخبر عَن تصور التُّجَّار وغيض الْأَنْهَار، وتقلب الحجار عَن صفاتها إِلَى نعوت التبر والجواهر. [942] وَالَّذِي يعتضد الدّلَالَة بِهِ أَن الشَّرَائِع لَا تثبت عقلا، وَإِنَّمَا تثبت سمعا فَلَا سَبِيل إِلَى تثبيت شرع فِي حَقه عقلا، وَلَو ثَبت سمعا لنقل فِي اطراد الْعَادة، وَلَا يعقل فِي مجاري الْعَادَات انْقِرَاض الدهور والأعصار على مثله وَهُوَ يعْتَقد مِلَّة من الْملَل. [943] فَأَما من زعم أَنه لَا يسوغ أَن يكون متعبدا بِملَّة من الْملَل قبل المبعث عقلا فقد استروح إِلَى مَا لَا طائل تَحْتَهُ، فَقَالَ: لَو قدر ذَلِك لأفضى إِلَى التنفير عَنهُ والحط من قدره وانطلاق أَلْسِنَة العندة من ذَوي الْملَل فِيهِ، فَلَو كَانَ على دين مُوسَى لقالت الْيَهُود: كَانَ مُتَابعًا لنا، فِي هذيان طَوِيل، وَهَذَا واه لَا تَحْقِيق وَرَاءه فَإنَّا لَا نستبعد أَن تثبت فِي زمن النُّبُوَّة صِفَات يناط بهَا نفور الجاحدين، وَإِنَّمَا بدر هَذَا الْكَلَام بِنَاء على الصّلاح والأصلح، وسنستقصي الْكَلَام فِيهِ فِي الديانَات إِن شَاءَ الله فَهَذَا هوالكلام فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ قبل المبعث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 [944] فَأَما الْكَلَام فِيمَا كَانَ بعد المبعث فَاعْلَم أَن أحدا لَا يستبعد أَن يثبت فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحقّ مبتعثه مثل الْأَحْكَام الثَّابِتَة فِي الْملَل السَّابِقَة بأوامر تتجدد عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فَلَا يستبعد فِي الْعقل أَن يجب على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتِّبَاع الْملَل فِي بعض الْأَحْكَام عقلا، وَقد استبعد ذَلِك بعد المبعث من استبعده قبله، وَبينا أَن بِنَاء هَذَا الْكَلَام على اصل فَاسد فِي التَّعْدِيل والتجوير فَإِذا أحطت علما بِجَوَاز ذَلِك عقلا عرفت جَوَاز ثُبُوت مثل تِلْكَ الْأَحْكَام عقلا وسمعا. [945] فَلَو قَالَ: قَائِل فَإِذا جوزتم إِيجَاب الِاتِّبَاع عَلَيْهِ فَمَا قَضِيَّة الشَّرْع فخبرونا عَنْهَا، قُلْنَا: هَذَا موقع الْخلاف، فَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى انه مُخَاطب مَعَ أمته بِاتِّبَاع الشَّرَائِع السَّابِقَة، وَزَعَمُوا أَن كل مَا نسخ مِنْهَا فقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 ارتفض الحكم فِيهِ وَمَا لم يثبت فِيهِ نسخ فَعَلَيهِ وعَلى أمته الِاتِّبَاع فِيهِ. [946] وَأما الَّذِي نرتضيه أَنه مَا أوجب على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْتَاعَ الْأَوَّلين وَإِنَّمَا أوجب عَلَيْهِ مَا أوجب بأوامر متجددة ثمَّ مِمَّا أوجب عَلَيْهِ مَا وَقع مماثلا لأحكام الشَّرَائِع السَّابِقَة، وَمِنْهَا مَا وَقع مُخَالفا لَهَا. [947] وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى التَّوَقُّف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 [948] فاستدل من صَار إِلَى انه مَأْمُور بِاتِّبَاع السالفين بآي من [106 / أ] كتاب الله تَعَالَى مِنْهَا / قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَوْحَينَا إِلَيْك أَن اتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا} . وَقَوله تَعَالَى: {شرع لكم من الدّين مَا وَحَتَّى بِهِ نوحًا} . وَقَوله تَعَالَى: {إِنَّا أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى وَنور يحكم بهَا النبنوت} وَهُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من زمرتهم، فَدلَّ ظَاهر الْآيَة على حكمه بِالتَّوْرَاةِ. وَقَوله تَعَالَى: {وَمن يرغب عَن مِلَّة إِبْرَاهِيم إِلَّا من سفه نَفسه} وَمِمَّا استروحوا إِلَيْهِ قَوْله: {وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا أَن النَّفس بِالنَّفسِ} الْآيَة، قَالُوا: حكم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمضمون الْآيَة، وَإِن لم تكن مصرحة بتخصيص ذَلِك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 الحكم بشريعة بل هِيَ مَبْنِيَّة عَن أَحْكَام الْكتب السَّابِقَة، وَمِمَّا استدلوا بِهِ قصَّة الْيَهُودِيين الَّذين رجمهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وراجع فِي أَمرهمَا التَّوْرَاة. وَمِمَّا يستدلون بِهِ أَيْضا قَوْله تَعَالَى: {فبهداهم اقتده} فَنَقُول: لَا معتصم لكم فِي شَيْء مِمَّا ذكرتموه أما قَوْله تَعَالَى: {أَن ابتع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا} فَهَذَا حد الْأَدِلَّة عَلَيْكُم، فَإِنَّهُ جدد عَلَيْهِ الْأَمر، وَنحن لَا نستبعد أَن يثبت فِي حَقه بِأَمْر مُجَدد مثل مَا ثَبت فِي حق من تقدمه. [949] فَإِن قيل: فَلم سَمَّاهُ اتبَاعا؟ قُلْنَا: لم نأمل الفعلان وتشاكلا أَتْبَاعه بالاتباع وَهَذَا كَمَا يُقَال: فلَان يتبع فلَانا فِي سجيته، وَالْمرَاد بِهِ أَنه يفعل مثل فعله، وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 لم ينْقل عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يتبع شرائع إِبْرَاهِيم، ويتحسس عَن أَحْكَامه وموجبات مِلَّته، وَلَو كَانَ الْمُضِيّ بالاتباع فِي الْآيَة مَا قلتموه لبذل كنه مجهوده فِي العثور على مِلَّة جده صلوَات الله عَلَيْهِمَا. ثمَّ نقُول: إِنَّمَا الْمُضِيّ بالاتباع مَا صَار إِلَيْهِ اهل التَّفْسِير وأئمة التَّأْوِيل، وَهُوَ تجنب الْإِشْرَاك وإيثار التَّوْحِيد وَهُوَ الْمُضِيّ بقوله تَعَالَى: {وَمن يرغب عَن مِلَّة إِبْرَاهِيم إِلَّا سفه تنفسه} . [950] فَإِن قَالُوا: الستم تَقولُونَ أَن معرفَة الرب جلت قدرته لَا تجب عقلا؟ وَإِنَّمَا تجب سمعا؟ فَإِذا ثَبت وجوب الِاتِّبَاع فِي معرفَة الله تَعَالَى فَهُوَ الْمَقْصد. قُلْنَا: مَا أوجب الله تَعَالَى على نبيه التَّوْحِيد إِلَّا ابْتِدَاء، ثمَّ نبه على أَنه كلفه مثل مَا كلف من قبله وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِي الِاتِّبَاع، وبقريب من ذَلِك نتكلم عَن قَوْله: {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 [951] وَأقوى مَا يتَمَسَّك بِهِ فِي إبِْطَال استدلالاتهم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا بحث عَن دين نوح قطّ، وَلَو كَانَ مَأْمُورا بأتباع شَرِيعَته لبحث عنهاه ثمَّ الْمَعْنى بِالْوَصِيَّةِ النَّهْي عَن الْإِشْرَاك كَمَا قدمْنَاهُ. [952] وَأما قَوْله تَعَالَى: {فبهداهم اقتده} ، فَالْمُرَاد بِهِ افْعَل مثل فعلهم واعتقد فِي التَّوْحِيد مثل مَا اعتقدوه، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ هِيَ أَنه جمع الْأَنْبِيَاء فِي هَذِه الْجُمْلَة، وَنحن نعلم جَمِيعًا أَنهم لَا يَجْتَمعُونَ فِي قَضِيَّة الشَّرِيعَة، وَالَّذِي اجْتَمعُوا عَلَيْهِ هُوَ التَّوْحِيد وَمَعْرِفَة الله تَعَالَى. [953] فَإِن قيل: فلئن استقام لكم ذَلِك فِي هَذِه الْآيَة الَّتِي صيغتها تَعْمِيم فِي أَحْوَال الْأَنْبِيَاء، فَلَا يَسْتَقِيم فِي الْآيَة المنطوية على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 تَخْصِيص إِبْرَاهِيم بالاتباع وَنحن نعلم أَن التَّوْحِيد لَا يتخصص بِهِ، فَتعين حمل هَذِه الْآيَة على الشَّرِيعَة الَّتِي اخْتصّت بإبراهيم صلوَات الله عَلَيْهِ. وَالْجَوَاب عَن ذَلِك من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه كَمَا خصص إِبْرَاهِيم فَكَذَلِك خصص نوحًا وَنحن نعلم [106 / ب] اخْتِلَاف ملتيهما، واستحالة الْجمع بَينهمَا جملَة، فَدلَّ ذَلِك على أَنه لم / يرد اتِّبَاع الشَّرِيعَة على أَنه إِنَّمَا يخصص من خصص بِالذكر تكريما لَهُ وتعظيما وتشريفا، وَهَذَا كَقَوْلِه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذ أَخذنَا من النَّبِيين ميثقهم ومنك وَمن نوح} مَعَ اندارجهما فِي اسْم النَّبِيين، ونظائر ذَلِك يكثر فِي الْكتاب الْعَزِيز. [954] وَأما قَوْله تَعَالَى: {يحكم بهَا النَّبِيُّونَ} ، فَلم يستتب الِاسْتِدْلَال بهَا إِلَّا مَعَ تَسْلِيم القَوْل بِالْعُمُومِ، وَإِذا نازعناهم فِي ذَلِك سقط استدلالهم على أَنه بصدد التَّخْصِيص بالأدلة القاطعة. [955] وَأما قَوْلهم: أَن الْقصاص فِي الْأَطْرَاف مَنْصُوص فِي قَوْله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 {وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا} ، وَهُوَ إِخْبَار عَن كتب الْأَوَّلين، قُلْنَا: فِي الْقرَان ظواهر دَالَّة على ثُبُوت الْقصاص على الْجُمْلَة. مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم الْقصاص} وَقَوله: {فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ} ، {وجزؤا سَيِّئَة سَيِّئَة} . فَلَعَلَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا قَالَ عَن بعض هَذِه الظَّوَاهِر، أَو دلَالَة تثبت لَدَيْهِ من اجْتِهَاد أَو وَحي خصص بِهِ وإلهام، وطرق مدارك الْحُكَّام شَتَّى. [956] وَأما قصَّة الْيَهُودِيين فَمَا رجم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا بِدِينِهِ، وَأما بَحثه عَن التَّوْرَاة فَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن الْيَهُود زعمت أَن التَّوْرَاة لَيْسَ فِيهَا رجم، وَلذَلِك فضحهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليتبين لضعفاءهم تلبيس أَحْبَارهم عَلَيْهِم فِي تَغْيِير لقب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَهَذَا وَجه الِانْفِصَال عَمَّا استروحوا إِلَيْهِ. [957] وَالدَّلِيل على صِحَة مَا صرنا إِلَيْهِ أَن نقُول: إِجْمَاع الْمُسلمين حجَّة قَاطِعَة وسنثبته على منكريه، وَقد تتبعنا الْأَعْصَار فَلم نجد أهل الْعَصْر الأول يراجعون أَحْكَام الْيَهُود وَالنَّصَارَى وقضايا التَّوْرَاة، وَكَذَلِكَ لم نجد التَّابِعين، وتابعي التَّابِعين يفزعون فِي المعضلات وَلَا المشكدات إِلَى التَّوْرَاة وَغَيرهَا من الْكتب مَعَ تقَابل الأمارات، وَثُبُوت الْإِشْكَال، حَتَّى كَانُوا يجتزون بِقِيَاس الشّبَه وطرق التَّرْجِيح والتلويح، فَلَو كُنَّا مخاطبين بشرائع من قبلنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 لبحث الْعلمَاء عَنْهَا كَمَا بحثوا عَن سَائِر مصَادر الشَّرِيعَة ومواردها. [958] فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا لم يبحثوا عَن الْكتب السالفة لِأَنَّهُ لم يكن إِلَيْهَا سَبِيل مُسْتَقِيم فَإِنَّهَا كَانَت مبدلة مُغيرَة، وَلم يبْق من نقلتها من يوثق بهم. قيل: الْجمع بَين هَذَا السُّؤَال وَبَين الْمصير إِلَى الْأَخْذ بشرع من قبلنَا تَصْرِيح بالتناقض فَإِنَّهُ يَسْتَحِيل أَن يُكَلف شرعا ويحسم السَّبِيل إِلَى إِدْرَاكه، فَإِن ذَلِك يلْتَحق بتكليف الْمحَال. [959] فَإِن قيل: مَا كلفنا من شرع من قبلنَا هُوَ الَّذِي كَانَ يُوحى إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ويتبين لَهُ مَضْمُون الْكتب السالفة، وَلم يبْق لنا مرجع إِلَى الْكتب بعد أَن اسْتَأْثر الله بِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَانْقِطَاع طرق الْإِعْلَام بِالْوَحْي والإلهام. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه إِحَالَة جَهَالَة على جَهَالَة، وَذَلِكَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أسْند حكما من الْأَحْكَام إِلَى الشَّرَائِع السالفة، على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يعتصم عَن الكتمان وخائنة الْأَعْين، فَلَو كَانَ مَا قَالُوهُ سديدا لأشبه أَن يعلمنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أوجب عَلَيْهِ اتِّبَاع الْكتب والشرائع السالفة، فَلَمَّا نقل الْأَوَامِر [107 / أ] الْمُجَرَّدَة وَلم يسندها إِلَى سَائِر الْملَل ثَبت أَن الشَّرِيعَة تقررت بتجدد اتِّصَال الْأَوَامِر بالمكلفين على أَنا نقُول للخصوم وَقد سلمتم مُعظم الْمَسْأَلَة لما قُلْتُمْ إننا لَا نكلف إِلَّا التَّوَصُّل إِلَى حكم من قبلنَا، وَمَا نقل عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأَحْكَام غير مُسندَة إِلَى الشَّرَائِع الْمُتَقَدّمَة، فَلَا نقُول من أَحْكَام الْأَوَائِل مَا نقلت فِي حَادِثَة بأننا مخاطبون فِيهَا بشرع من قبلنَا، ثمَّ نقُول من أَحْكَام الْأَوَائِل مَا نقلت إِلَيْنَا تواترا نقلا يَقع بِهِ الْعلم، فَهَلا أَخذ أهل الْأَعْصَار بِهِ؟ أَو نقُول من أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 الْكتاب من أسلم وَحسن إِسْلَامه وَبلغ من الْأَمَانَة والثقة أَعلَى الرُّتْبَة كَعبد الله بن سَلام وَكَعب وَغَيرهمَا، فَهَلا رَجَعَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قَوْلهمَا فِي الْأَخْبَار عَن التَّوْرَاة؟ فَإِن قيل: لِأَنَّهَا كَانَت مُغيرَة. قُلْنَا: فَهَلا وثقوا بقوله فِي نقل مَا لَيْسَ بمبدل؟ ثمَّ الْأَخْبَار تَنْقَسِم إِلَى الصَّحِيح والسقيم، وَلَا يُوجب انقسامها رد أَخْبَار الثِّقَات، وَإِن كُنَّا نعلم أَن مَا يقدر من التَّدْلِيس، والتلبيس، وضروب التحريف، وضروب الْمُتُون بَعْضهَا بِبَعْض، وَوضع الْأَخْبَار على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر من التحريف فِي الْكتب، ثمَّ لم يُوجب رد أَخْبَار الثِّقَات، وَإِن كُنَّا نعلم، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. [960] وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ أَن يبْنى هَذَا الطّرف على الطّرف الأول وَهُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن متعبدا بشرائع من قبله قبل المبعث، ثمَّ إِذا ثَبت ذَلِك فيترتب عَلَيْهِ لَا محَالة أَن الْأَحْكَام لم تثبت بعد المبعث إِلَّا باتصال الْأَوَامِر على التَّجْدِيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 [961] وَقد أَوْمَأ الْعلمَاء إِلَى طرق فِي الِاسْتِدْلَال لَا تقوى، وَنحن نؤمي إِلَيْهَا. مِنْهَا: التَّمَسُّك بِمَا رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِمعَاذ: بِمَ تحكم يَا معَاذ؟ فَقَالَ: بِكِتَاب الله، ثمَّ قَالَ: فَإِن لم تَجِد؟ قَالَ: فبسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِن لم تَجِد؟ قَالَ: أجتهد رَأْيِي، فصوبه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأثْنى عَلَيْهِ خيرا، وَلم يذكر معَاذ فِي ذكر كتب الْأَوَّلين، وَهَذَا من أَخْبَار الْآحَاد وَفِي التَّمَسُّك بِهِ نظر. [962] وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَن قَالُوا: اتّفق الْأمة على أَن جملَة الْأَحْكَام الثَّابِتَة بعد مبعث الرَّسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُضَافَة إِلَى شَرِيعَته، وَكلهَا تقدم مِنْهَا. فَلَو كَانَ مِنْهَا مَا يتبع فِيهِ من سبق لوَجَبَ إِضَافَة ذَلِك الْقدر إِلَى شرع من قبلنَا وَهَذَا فِيهِ نظر، وللخصم أَن يَقُول: إِنَّمَا أضيف الْكل إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ أَحْيَاهَا وَبَينهَا على فَتْرَة، ودروس من الْحق، والتمسك بِالْإِضَافَة تمسك بِمُجَرَّد اسْم هُوَ عرضة التَّأْوِيل. [963] وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَيْضا قَوْله تَعَالَى: {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا} ، وَزَعَمُوا أَن هَذَا يدل على أختصاصه بجملة الشَّرِيعَة، وَفِي هَذَا نظر أَيْضا فَإِن اخْتِصَاصه بِبَعْض الْأَحْكَام يتَحَقَّق فِيهِ مَضْمُون الْآيَة، وَلَيْسَ من شَرط انطلاق اسْم الشَّرِيعَة أَن يتَنَاوَل كل الْأَحْكَام وَالْأَخْبَار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 (169) القَوْل فِي حد الْخَبَر وَحَقِيقَته [964] اعْلَم، وفقك الله، أَن الْأَخْبَار من أعظم أصُول الشَّرَائِع، وينتمي إِلَيْهَا مُعظم الْكَلَام فِي الْملَل، وتصرفات الْخلق، فَأول مَا نبدأ بِذكرِهِ فِيهَا الإنباء عَن حد الْخَبَر وَحَقِيقَته. فَإِن قَالَ قَائِل: [مَا] حَقِيقَة الْخَبَر.؟ قيل: هُوَ الَّذِي يَتَّصِف / بِكَوْنِهِ صدقا أَو كذبا. أَو هُوَ الَّذِي يدْخلهُ [107 / ب] الصدْق أَو الْكَذِب. وأرباب اللُّغَات، وَكثير من طوائف الْأُصُولِيِّينَ يطلقون مَا ذَكرْنَاهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 مَعَ إخلال فِيهِ، فَيَقُولُونَ: الْخَبَر مَا يدْخلهُ الصدْق، وَالْكذب، وَهَذَا مَدْخُول، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ اجْتِمَاع الوصفين فِي كل خبر، وَهَذَا محَال، فَإِن كَانَ صدقا لَا يتَصَوَّر أَن يكون كذبا على الْوَجْه الَّذِي وَقع صدقا، وَكَذَلِكَ على الضِّدّ فِيهِ. وَيبين ذَلِك أَن خبر الله لَا يجوز أَن يكون كذبا، وخبرك عَن الوحدانية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 والمعلومات الثَّابِتَة ضَرُورَة أَو دَلِيلا لَا يجوز أَن يَقع كذبا، وَكَذَلِكَ إخبارك عَن الْإِشْرَاك بِاللَّه وانقلاب الْحَقَائِق، وضروب المستحيلات لَا يتَصَوَّر أَن يَقع صدقا. فَالْأَحْسَن أَن تَقول الْخَبَر مَا يَتَّصِف بِكَوْنِهِ صدقا أَو كذبا. 3 [965] فَإِن قيل: فقد ذكرْتُمْ حَقِيقَة الْخَبَر، فَلم كَانَ الْخَبَر خَبرا؟ قُلْنَا: هَذَا مَا لَا يُعلل، كَمَا لَا يُعلل سَائِر أَوْصَاف الْأَجْنَاس، فَلَا يُقَال لم كَانَ الْعلم علما، والسواد سواداً والجوهر جوهرا. وَطَرِيق جوابك إِذا سَأَلت عَن مثل هَذَا أَن تَقول: إِنَّمَا كَانَ الْخَبَر خَبرا لنَفسِهِ، وتعني بذلك أَن نَفسه خَبرا، لَا لعِلَّة، وَلَا تَعْنِي بِهِ تَعْلِيل كَونه خَبرا لنَفسِهِ. [966] ثمَّ مِمَّا يَنْبَغِي أَن تحيط بِهِ علما أَن تعلم أَن الْخَبَر من أَقسَام الْكَلَام، وَهُوَ معنى قَائِم بِالنَّفسِ كَمَا قدمنَا فِي الْأَوَامِر وَالنَّهْي، والعبارات دلالات عَلَيْهِ، كَمَا تدل عَلَيْهِ الرموز والإشارات والكتبة وضروب الأمارات الَّتِي وَقع فِيهَا التَّوَاضُع على نصبها أَمَارَات، ثمَّ رُبمَا يُطلق بعض أَصْحَابنَا اسْم الْكَلَام حَقِيقَة على الْعبارَات، وَمِنْهُم من لم يُطلق اسْم الْكَلَام حَقِيقَة عَلَيْهَا، وَهَذَا يستقصي فِي الْكَلَام. (170) فصل [967] جَمِيع أَقسَام الْخَبَر لَا يخرج عَن الصدْق وَالْكذب، فَكل خبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 تعلق بالمخبر على غير مَا هُوَ بِهِ فَهُوَ كذب، وَلَا يتَصَوَّر خبر خَارج عَن الْقسمَيْنِ، وَهَذِه قسْمَة بديهة لَا سَبِيل إِلَى جَحدهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 ثمَّ كل خبر تعلق بمخبره على مَا هُوَ بِهِ فَهُوَ صدق، سَوَاء قارنه علم من الْمخبر أَو لم يقارنه، فَمن أطلق القَوْل بِكَوْن زيد فِي الدَّار وَكَانَ عِنْد [الْإِطْلَاق] مُقَدرا ظَانّا، ثمَّ تبين أَن الْأَمر على مَا قَالَه وفَاقا. فَالْكَلَام البادر مِنْهُ صدق، وَكَذَلِكَ من أخبر بِكَوْن زيد فِي الدَّار ظَانّا أَن الْأَمر كَذَلِك، ثمَّ تبين خِلَافه، فَالَّذِي بدر مِنْهُ كذب، وَإِن لم يقْصد تعمد الْخلف، فَإنَّا لَو لم نقل ذَلِك اسْتَحَالَ أَن نصفه بِالصّدقِ. وكل خبر لم ينعَت بِالصّدقِ يجب نَعته بِالْكَذِبِ إِذا اتَّحد مُتَعَلّقه، وَفِيه احْتِرَاز عَن مَسْأَلَة تَأتي إِن شَاءَ الله. [968] وَمِمَّا يَلِيق بذلك إِنَّه لَو بدر من الْإِنْسَان رمز أَو إِشَارَة رام بهَا إِخْبَارًا، فالإشارة لَا تُوصَف بِالصّدقِ وَلَا بِالْكَذِبِ، فَإِنَّهَا لَيست بِكَلَام، وَمن حكم الْخَبَر أَن يكون من أَقسَام الْكَلَام، وَإِذا لم يُطلق اسْم الْكَلَام حَقِيقَة على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 الْعبارَة لم نصفهَا بِالصّدقِ وَالْكذب تَحْقِيقا، وَلَو وصفهَا واصف بِأَحَدِهِمَا كَانَ متجوزا، فَأَما الرامز والمشير الَّذِي دلّت إِشَارَته على خَبره الْقَائِم بِهِ، فَلَا يَخْلُو عَن كَونه صدقا أَو كذبا، وَهَذَا مَا لَا خَفَاء بِهِ. (171) فصل [969] فَإِن قيل: فقد ذكرْتُمْ حَقِيقَة الْخَبَر، فبينوا أقسامه فِي الصدْق [108 / أ] وَالْكذب. قُلْنَا: الْأَخْبَار تَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام. أَحدهَا خبر عَن وَاجِب، وَالثَّانِي خبر عَن محَال، وَالثَّالِث خبر عَن جَائِز مُمكن. فَأَما الْخَبَر عَن الْوَاجِب فَلَا يَقع إِلَّا صدقا، ثمَّ قد يعلم صَدَقَة ضَرُورَة، وَقد يعلم صَدَقَة بِدَلِيل، فَكل خبر عَن وَاجِب يدْرك وُجُوبه وثبوته ببداهة الْعقل فنعلم صدقه ضَرُورَة، وَذَلِكَ نَحْو الْخَبَر عَن كَون الْألف أَكثر من مائَة، وَنَحْو الْخَبَر عَن الْمَوْجُود لَا يَنْفَكّ من قدم أَو حدث، إِلَى غير ذَلِك. فَأَما الْخَبَر الَّذِي يدْرك صدقه بِدَلِيل فَهُوَ الْخَبَر عَن ثُبُوت الصَّانِع، واتصافه بصفاته، فَهُوَ صدق يدْرك هَذَا الْوَصْف فِيهِ بِالدَّلِيلِ. [970] وَأما الْخَبَر عَن الْمحَال فَلَا يكون إِلَّا كذبا، ثمَّ يَنْقَسِم، فَرُبمَا يدْرك كَونه بضرورة الْعقل، وَرُبمَا يدْرك بالأدلة. فَأَما الَّذِي يدْرك بضرورة الْعقل كَونه كذبا فَهُوَ نَحْو الْخَبَر عَن اجْتِمَاع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 الضدين، واجتماع الْجَوْهَر فِي الحيز الْوَاحِد، وَمن ذَلِك انخراق الْعَادَات المستمرة، نَحْو الإنباء عَن تفطر السَّمَاء، وتقلب الْأَحْجَار تبرا، إِلَى غير ذَلِك. وَأما الَّذِي يدْرك استحالته بِدَلِيل، فَهُوَ نَحْو الْخَبَر عَن ثُبُوت حَادث لَا مُحدث لَهُ، وعالم لَا علم لَهُ، إِلَى غير ذَلِك [971] وَأما الْخَبَر عَن الجائزات فَهُوَ نَحْو الْخَبَر عَن وجود مَا يَصح عَدمه أَو عدم مَا يَصح وجوده. ثمَّ هَذَا الْقَبِيل يَنْقَسِم، فَمِنْهُ يدْرك صدقه ضَرُورَة، وَهُوَ الْخَبَر الْمُتَوَاتر المواثر المستجمع للشرائط الَّتِي سنذكرها إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَمِنْه مَا لَا يدْرك صدقه قطعاه وتفصيل القَوْل فِيهِ - فِي هَذَا الْقَبِيل - يَأْتِي فِي ي أَبْوَاب مبوبة إِن شَاءَ الله تَعَالَى. (172) القَوْل فِي الرَّد على السمنية [972] ذهب الْفَرِيق من الْأَوَائِل إِلَى أَن اشياء من الْأَخْبَار لَا تُفْضِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 إِلَى الْعلم، وَلَا فرق بَين الْمُتَوَاتر والمستفيض وَمَا نَقله الْآحَاد. ومقصدنا الرَّد عَلَيْهِم فِي الْمُتَوَاتر من الْأَخْبَار فَنَقُول: نَحن نعلم ضَرُورَة أَن من تَوَاتَرَتْ لَدَيْهِ الْأَخْبَار عَن مَكَّة وبغداد وَسَائِر الْأَمْصَار الَّذِي يطرقها العابرون ويخبرون عَمَّا شاهدوه فَلَا يستريب الْعَاقِل فِيمَا هَذَا سَبيله، كَمَا لَا يستريب فِي المحسوسات. وَإِذا تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار عِنْد الْمَرْء بِأَن فُلَانَة وَلدته لم يسترب فِي ذَلِك، وَإِن لم يُشَاهد الْولادَة، على سَلامَة الْحسن. ثمَّ اعْلَم أَنا لَا نقصد بِمَا نطرد من الْكَلَام نصب الْأَدِلَّة، فَإِن الْمَسْأَلَة ضَرُورِيَّة. وَإِنَّمَا مقصدنا الْإِيضَاح وكشف الْمَذْهَب ثمَّ من يجْحَد الضَّرُورَة قطع الْكَلَام، ثمَّ نقُول لَهُم: إِنَّمَا يتَمَيَّز الْعلم الضَّرُورِيّ عَن غَيره بِأَنَّهُ يَقع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 اضطرارا، وَلَا يجد الْإِنْسَان عَنهُ انفكاكا، وَقد يُحَقّق ذَلِك فِيمَا تَوَاتَرَتْ فِيهِ الْأَخْبَار، وَلَو جَازَ جَحده جَازَ جحد المحسوسات. [973] فان قيل: المحسوسات لما كَانَت مَعْلُومَة ضَرُورَة لم يجحدها جَاحد، وَأما مَا تَوَاتَرَتْ عَنهُ الْأَخْبَار فقد جحدناها. قُلْنَا: وَقد جحد المحسوسات السفسطائية، وَزَعَمُوا أَن كل مَا يُسمى محسوسا فَلَا حَقِيقَة لَهُ، وَإِنَّمَا رؤيتنا لَهُ تخيل كحلم النَّائِم. فَإِن قيل: هَذَا الْمَذْهَب يُؤثر عَنْهُم وَلم نر مِنْهُم طَائِفَة تقوم بهم حجَّة. قُلْنَا: وَكَذَلِكَ لَا نزال ننقل مَذْهَب السمنية، وَلم نر حزبا وَفِئَة تكترث /. [808 ب] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 (173) فصل [974] مَا صَار إِلَيْهِ أهل الْحق ومعظم الْمُعْتَزلَة إِن الْعلم بِصدق الْخَبَر الْمُتَوَاتر على الشَّرَائِط الَّتِي نصفهَا اضطرار، وَلَيْسَ سَبيله الْعُلُوم المستدركة بِالنّظرِ وَالِاسْتِدْلَال، وَزعم الكعبي من معتزلة الْعرَاق وَطَائِفَة من أَتْبَاعه أَن الْعلم بِصدق الْخَبَر الْمُتَوَاتر اسْتِدْلَال، وَمن أَتْبَاعه من يَقُول أَنه لَا يَقع إِلَّا عَن اسْتِدْلَال وَإِذا وَقع لم يتَقَدَّر التشكك فِيهِ والانفكاك مِنْهُ بِخِلَاف سَائِر الْعُلُوم النظرية، فَوجه الرَّد على الكعبي أَن نقُول: من النَّاس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 من يعلم صدق الْخَبَر الْمُتَوَاتر وَإِن لم يتَقَدَّر مِنْهُ إقدام على نظر واستدلال، فَإِن الصّبيان وَمن يحل محلهم من الَّذين لَا يعتنون بِالنّظرِ وسبر طرق الِاسْتِدْلَال يعلمُونَ أَن فِي الدُّنْيَا بقْعَة يُقَال لَهَا مَكَّة، ويعلمون أمهاتهم إِلَى غير ذَلِك مِمَّا ثَبت تواترا. كَمَا يعلمُونَ المحسوسات من غير أَن ينظرا ويسبروا، وكما يعلمُونَ اسْتِحَالَة اجْتِمَاع المتضادات عِنْد اتصافهم بِالْعقلِ، فَلَو سَاغَ ادِّعَاء صُدُور الْعلم فِي الْمُتَوَاتر عَن النّظر سَاغَ مثله فِي المحسوسات، وَهَذَا مَا لَا فصل فِيهِ. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك: أَن الْعلم الَّذِي ندركه بِالنّظرِ يخْتَلف الْعُقَلَاء وارباب النّظر فِيهِ على حسب اخْتِلَاف درجاتهم فِي الفطنة والذكاء، وَاسْتِيفَاء الْأَدِلَّة، والإضراب عَنْهَا بالملال والضجر قبل انتهائها، وَهَكَذَا ألفينا أَرْبَاب النّظر فِي الْعُلُوم النظرية. فَأَما الْعُلُوم الواقفة على التَّوَاتُر فمما لَا يخْتَلف فِيهِ أَرْبَاب الْأَلْبَاب، كَمَا لَا يَخْتَلِفُونَ فِي المحسوسات، وَسَائِر الْعُلُوم البديهية. [975] فَإِن قيل: لَو كَانَ الْعلم بالتواتر ضَرُورَة، لَكَانَ الكعبي يعرف كَونه ضَرُورَة، مَعَ كَثْرَة أَتْبَاعه والمعتزين إِلَيْهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 قُلْنَا: شَرط الْعلم الضَّرُورِيّ أَن يَسْتَوِي فِي دركه أَرْبَاب الْعُقُول مَعَ اسْتِوَاء أَحْوَالهم فِي السَّلامَة وَانْتِفَاء الْآفَات، وَإِن شَذَّ شرذمة بعناد فَلَا يبلغون عددا تقوم بمثلم حجَّة. وَلَيْسَ من شَرط الْعلم الضَّرُورِيّ اتِّفَاق أَرْبَاب الْأَلْبَاب على كَونه ضَرُورِيًّا بل لَا يمْتَنع أَن يعْتَقد بعض المعتقدين كَون الْعلم الضَّرُورِيّ كسبيا وَكَون الكسبي ضَرُورِيًّا، وَكَون غَلَبَة الظَّن الصادرة عَن التَّقْلِيد علما، فَهَذَا مِمَّا لَا بعد فِيهِ، فاحفظه. (174) فصل [976] فان قَالَ قَائِل: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْأَخْبَار إِذا تَوَاتَرَتْ فيولد عِنْدهَا تواترها الْعلم بالمخبر عَنهُ؟ قُلْنَا: هَذَا بَاطِل من أوجه: مِنْهَا: أَن القَوْل بِأَصْل التولد بَاطِل على مَذَاهِب أهل الْحق ويستقصى الْكَلَام فِيهِ فِي الديانَات. وَمِنْهَا: أَنا وَإِن قُلْنَا بالتولد فَالْقَوْل بِهِ هَهُنَا محَال لِأَن الْقَائِلين بالتولد أَجمعُوا على اسْتِحَالَة توليد الْوَاحِد منا علما منا فِي غَيره. فَلَو كَانَت الْأَخْبَار مولدة للَزِمَ أَن يكون الْعلم الْمُتَوَلد عَنْهَا من فعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 المخبرين فَإِن الْمُسَبّب يكون فعلا لمن السَّبَب فعلا لَهُ، فَلَمَّا اسْتَحَالَ كَون الْعلم الْوَاقِع للْإنْسَان من فعل المخبرين انحسم الْبَاب. [977] فَإِن قيل: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْعلم يَقع عَن النّظر فِي الْأَخْبَار المتواترة. قُلْنَا: قد ذكرنَا فِي صدر الْكتاب ان النّظر لَا يُولد الْعلم ثمَّ ذكرنَا آنِفا إِن الْعلم بالمتواتر لَيْسَ بمظنون فِيهِ، وَلَا مستدل عَلَيْهِ فَبَطل مَا قَالُوهُ. [109 / أَنا نلزمها [978] وَمِمَّا نلزمم على القَوْل بالتولد أَن نقُول: إِن الْعلم يَقع فعلا للمخبرين فَيُؤَدِّي إِلَى أَن يكون الْفِعْل الْوَاحِد وَاقعا على افعلين، وَهَذَا مَا اتّفق الْقَائِلُونَ بالتولد على استحالته، وَالْأولَى لَك إِحَالَة ذَلِك على إبِْطَال القَوْل بالتولد. (175) القَوْل فِي ذكر صِفَات اهل التَّوَاتُر الَّذين يعلم صدقهم اضطرارا [979] اعْلَم، وفقك الله، أَن لأهل التَّوَاتُر الَّذين يَقع الْعلم بصدقهم ضَرُورَة أَوْصَاف إِذا اجْتمعت ثَبت الْعلم الضَّرُورِيّ، وَإِن اخْتَلَّ وَاحِد مِنْهُمَا لم يثبت الْعلم الضَّرُورِيّ فِي مجْرى الْعَادة، فأحد الْأَوْصَاف: أَن يكون المخبرون عَالمين بِمَا أخبروا عَنهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 وَالثَّانِي: أَن يَكُونُوا مضطرين إِلَى الْعلم الْحَاصِل لَهُم، مخبرين عَن علمهمْ الضَّرُورِيّ. وَالثَّالِث: أَن يزِيد عَددهمْ على الْأَرْبَع، فَلَو كَانُوا أَرْبعا فَمَا دونه لم يَقع الْعلم الضَّرُورِيّ بأخبارهم. فَهَذِهِ هِيَ الْأَوْصَاف الْمَشْرُوطَة. [980] ثمَّ اعْلَم بعد ذَلِك أَن مَا نقل من الْأَخْبَار المتواترة، وتوالت فِي نقلهَا الْأَعْصَار، ونقلها الْخلف عَن السّلف فَيَنْبَغِي أَن يكون حَال من نقل عَن الْأَوَّلين فِيمَا ذَكرْنَاهُ من الْأَوْصَاف كَحال الْأَوَّلين فِيمَا علموه ضَرُورَة، وَكَذَلِكَ النقلَة فِي الرُّتْبَة التالية، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنى بقول الْأُصُولِيِّينَ: [إِنَّا] نشترط فِي عدد التَّوَاتُر اسْتِوَاء الطَّرفَيْنِ والواسطة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 [981] فان قيل: فأثبتوا مَا ذكرتموه من الْأَوْصَاف. قُلْنَا: أما الدَّلِيل على اشْتِرَاط كَون النقلَة عَالمين، أَنهم لَو نقلوا عَن ظن وحدس أوشك [لم يثبت] الْعلم، وإيضاح ذَلِك بالمثال أَن أهل بَغْدَاد لَو أَنهم رَأَوْا طللا عَن بعيد ظنوه إنْسَانا، فَلَا يتَحَقَّق مِنْهُم فِي مُسْتَقر الْعَادة الْقطع بِكَوْنِهِ إنْسَانا مَعَ التشكيك فِيهِ. وَلَو قدر ذَلِك على بعد لم يعقب الْعلم، وَكَيف يتَحَقَّق الْعلم بِمَا هُوَ مظنون عِنْد النقلَة. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك مَا ثَبت من الْعُلُوم نظرا واستدلالا فإطباق الْمَلأ الْعَظِيم عَلَيْهِ لَا يثبت الْعلم الضَّرُورِيّ [فَمَا] كَانَ مظنونا مشكوكا فِيهِ فَذَلِك أولى. وَأما الدَّلِيل على اشْتِرَاط أَن المخبرين عَالمين اضطرارا فَمَا أومأنا إِلَيْهِ آنِفا، وَذَلِكَ أَن أهل الْإِسْلَام يزِيد عَددهمْ على عدد التَّوَاتُر فِي الْأَقَل قطعا وَإِن كُنَّا لَا نحد أَقَله على مَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى، ثمَّ أخبارهم عَن المعارف واصول التَّوْحِيد لَا توجب الْعلم الضَّرُورِيّ، وَإِن كَانُوا عَالمين بِمَا اخبروا عَنهُ اسْتِدْلَالا، وكما لَا يثبت الْعلم ضَرُورَة فِي هَذِه الْمنزلَة، فَكَذَلِك لَا يثبت نظرا فِي الْخَبَر على مَا سنقرره بعد ذَلِك إِن شَاءَ الله لَهُ تَعَالَى وَأما الدَّلِيل على اشْتِرَاط عدد زَائِد على الْأَرْبَعَة فَهُوَ أَن نقُول: وجدنَا الْأَرْبَعَة فَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 دونهم يشْهدُونَ فِي الْخُصُومَات ومفاصل الْقَضَاء وَلَا يثبت للْمَشْهُود لَدَيْهِ الْعلم الضَّرُورِيّ بصدقهم مَعَ أخبارهم عَمَّا شاهدوه وعاينوه، وكونهم عَالمين فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى بِمَا أخبروا عَنهُ، وصادفنا الْعَادة مستمرة فِي ذَلِك فَكَذَلِك استمرت الْعَادة فِي انْقِضَاء الْعُلُوم عِنْد ادِّعَاء المدعين حُقُوقهم مَعَ [109 / ب] انقسامهم فِي علم الله تَعَالَى إِلَى الصَّادِقين والكاذبين، وَلم يبْق فِي اسْتِمْرَار الْعَادة ثُبُوت الْعلم على عقب دعاوي المدعين. فَلَو سَاغَ فِي حكم الْعَادة ثُبُوت الْعلم بأخبار الْأَرْبَعَة فَمَا دونهم لَو جد ذَلِك فِي البدور أَو على الظُّهُور فِي بعض الحكومات ولاستمر ذَلِك فِي دَعْوَى المدعين. [982] وَالَّذِي يُوضح ذَلِك كُله أَن الْعلم الضَّرُورِيّ لَو كَانَ يحصل بقول وَاحِد فَمَا فَوْقه لَكَانَ أولى الاحاد بذلك الْأَنْبِيَاء و [مَا] أفْضى إِخْبَار وَاحِد مِنْهُم صلوَات الله عَلَيْهِم إِلَى الضَّرُورَة مَعَ تعلق أخبارهم بِبَعْض المشاهدات والمحسوسات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 [983] ويعتضد هَذِه الْفُصُول بِأَن نقُول الْعدَد الْكثير والجم الْغَفِير الَّذِي يَقع الْعلم بنقلهم كَأَهل جَانِبي بَغْدَاد لما اقْتضى نقلهم الْعلم على الْوَصْف الَّذِي ذَكرْنَاهُ لم تخْتَلف الْعَادة فِي ذَلِك، فَلَا يجوز أَن ينقلوا مرّة مَا علموه اضطراراً فنعلم مَا نقلوه ضَرُورَة، وينقلوا مرّة أُخْرَى فيستراب فِي نقلهم. فَلَو كَانَ الْعلم يحصل بِنَقْل الْأَرْبَع لما استمرت الْعَادة فِي الصُّور الَّتِي ذَكرنَاهَا على انْتِفَاء الْعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 [984] ومقصدنا بِمَا ذَكرْنَاهُ الرَّد على النظام فَإِنَّهُ صَار إِلَى أَن خبر الْوَاحِد قد يقْتَرن فِي بعض الْأَحْوَال بقرائن فيفضي مَعهَا إِلَى الْعلم الضَّرُورِيّ. فَنَقُول لَهُ: لَو كَانَ كَمَا قلته لوجد ذَلِك فِي شَهَادَة الشُّهُود وأقوال الْأَنْبِيَاء أَو دَعْوَى المدعين وَهَذَا لَا محيص لَهُ عَنهُ، وَلَا يغرنك تمويهه وتصويره فِي الْوَاحِد الْمخبر مَعَ قَرَائِن تقترن بِهِ فَإِن كل مَا يصوره قد يَتَقَرَّر فِي الْعَادة تصور مثله مَعَ تعمد الْخلف أَو تصور الْغَلَط فَكل صُورَة فَرضهَا عَلَيْك فارتكبها وَلَا يرد عَنْك تَصْوِيره فِيهَا. [985] فَإِن قيل: معولكم على الشُّهُود فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم مَا نقلوا حَقِيقَة مَا رَأَوْا وَلَو نقلوا ذَلِك لأفضى إِلَى الْعلم. قُلْنَا: فَهَذَا هُوَ النَّاقِص الْمَحْض، وأنى يَسْتَقِيم ادِّعَاء الضَّرُورَة عِنْد أَخْبَار الْآحَاد تمسكا بتخيل فِي الْعَادة، مَعَ الْمصير إِلَى أَن كَافَّة الشُّهُود فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 الْعَادة يجوز أَن يتواطؤا أَو يتواضعوا على التحريف، وَترك الْأَنْبِيَاء عَن حَقِيقَة مَا علموه، وَنحن نعلم ضَرُورَة أَن مَا ادعا ذَلِك على كَافَّة الشُّهُود، وَقد يفضى إِلَى الْعلم الضَّرُورِيّ فِي بعض الْأَحَايِين قُلْنَا: هَذَا اجتراء مِنْكُم على صَاحب الشَّرِيعَة وَإِطْلَاق القَوْل على مجازفة، فَإنَّا نعلم أَن أحدا من الْقُضَاة لَا يقطع بِصدق الشُّهُود وَانْتِفَاء الزلل وتعمد الْخلف. [986] وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن نقُول شَهَادَة الشُّهُود لَو اقْتضى علما فِي حَال [و] لم يقتضه فِي حَال أوجب التَّوَقُّف فِي شَهَادَة من لم تقتض شَهَادَته علما، وَهَذَا مَا قَالَ بِهِ قَائِل، وَلَئِن سَاغَ ادِّعَاء مَا قَالُوهُ فِي الشَّهَادَة مَعَ اتِّفَاق الْأمة على أَن كل حكم مترتب على الشَّهَادَة مُجْتَهد فِيهِ مَبْنِيّ على غَالب الظَّن وَلَيْسَ بمقطوع بِهِ بديهة فَأنى يَسْتَقِيم مثل هَذِه المباهتة فِي دَعْوَى المدعين؟ فاضمحل مَا قَالُوهُ، وَتبين عنادهم فِيمَا سَأَلُوهُ. [987] فَهَذِهِ جملَة الشَّرَائِط الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي أهل التَّوَاتُر / وَقد اندرج [110 - أ] تحتهَا مَا قدمْنَاهُ من اسْتِوَاء طرفِي النقلَة وواسطتهم إِذا نقل الْخَبَر خلف عَن سلف، فَإنَّا أوضحنا فِيمَا قدمْنَاهُ أَن من شَرط إفضاء التَّوَاتُر إِلَى الْعلم الضَّرُورِيّ علم النقلَة وواسطتهم إِذا نقل الْخَبَر خلف عَن سلف ضَرُورَة فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 زيادتهم على الْأَرْبَع، فَلَو اتّصف بذلك النقلَة أَولا، واختل وصف فِي الْوَاسِطَة، بِأَن يكون الْمَنْقُول إِلَيْهِم عددا لَا تقوم بهم الْحجَّة، فَهُوَ وَإِن علمُوا مَا نقل إِلَيْهِم ضَرُورَة، فَإِذا نقلوا فَلَا نعلم من نقلهم مَا علموه لاختلال بعض الْأَوْصَاف الَّتِي قدمناها، وَلذَلِك نقُول أَن مَا نقلته النَّصَارَى من صلب عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَا يثبت، وَإِن كَانَ عَددهمْ زَائِدا على أقل عدد التَّوَاتُر، لأَنهم إِنَّمَا نقلوه عَن عدد لَا تقوم بهم الْحجَّة، وَلَو نقلوا خلفا عَن سلف مَعَ اسْتِوَاء جملَة النقلَة فِي الْأَوْصَاف الْمُقدمَة لما تصور مِنْهُم نقل بَاطِل، وَكَذَلِكَ مَا يَنْقُلهُ الروافض من التَّنْصِيص على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي الْإِمَامَة فَهَذَا مخرجه فَإِنَّهُم وَإِن بلغُوا مبلغا فِي الْعدَد فَلم يشاهدوا مَا نقلوه، وَلم يثبت مثل عَددهمْ فِي جملَة النقلَة خلفا وسلفا، فأحط علما بذلك. [988] فَإِذا اسْتَقَرَّتْ الشَّرَائِط الَّتِي ذَكرنَاهَا بِالدّلَالَةِ، فَاعْلَم أَن طَائِفَة من الْجُهَّال المنتمين إِلَى أهل النّظر شرطُوا فِي أهل التَّوَاتُر سوى مَا ذَكرنَاهَا، وَنحن نذْكر جملَة وَاحِدَة ثمَّ نبطلها وَاحِدًا وَاحِدًا. فمما شَرطه بَعضهم أَن قَالَ يَنْبَغِي أَن يكون النقلَة بِحَيْثُ لَا يحصرهم عدد، وَلَا يحويهم بلد وَمِنْهَا أَن تخْتَلف أنسابهم وتتغاير آباؤهم وتفترق أوطانهم وَمِمَّا اشترطوا أَن لَا يحملوا بالقهر، فَلَو كَانُوا مجبرين لم يقتض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 خبرهم الْعلم وَمِنْهَا: ان لَا يضموا إِلَى مَا نَقله شَيْئا يحيله الْعقل فَلَو جمعُوا بَين جَائِز ومستحيل فَلَا يَقْتَضِي خبرهم الْعلم بالجائز، لضمهم المستحيل إِلَيْهِ. وَمِمَّا شرطُوا: أَن يجْتَمع فِي النقلَة أهل الْأَدْيَان الْمُخْتَلفَة. وَشرط بَعضهم أَن يَكُونُوا مُؤمنين منزهين عَمَّا يشينهم. وَشرط طَائِفَة من الْيَهُود أَن يكون النقلَة فِي دَار ذلة تحث بذل جِزْيَة، وَأما أهل الِاخْتِيَار فِي دَار فاهية فَلَا تقوم الْحجَّة بنقلهم. [989] وَطَرِيق إبِْطَال هَذِه الشَّرَائِط أَن نفرض فِي كل صُورَة على خلاف الشَّرَائِط الْمَشْرُوطَة خَبرا مقتضيا علما مَعَ انْتِفَاء مَا شرطوه، وَإِن اعْتَرَفُوا بِهِ فقد أبطلوا مَا شرطوه، وَإِن جحدوه انتسبوا إِلَى جحد الضَّرُورَة، ولزمهم جحد أصل التَّوَاتُر. فَأَما من شَرط أَن يكون أهل التَّوَاتُر بِحَيْثُ لَا يحصرهم عدد وَلَا يحويهم بلد، فَيُقَال لَهُ: لَو اجْتمع أهل بَغْدَاد على نقل فِيمَا اضطروا إِلَى علمه فَهَل يَقْتَضِي نقلهم علما؟ فَإِن قَالُوا يَقْتَضِيهِ وَلَا بُد مِنْهُ، كَيفَ؟ ويلزمهم القَوْل بِهِ فِي اصل محلّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 من محَال بَغْدَاد، فَإِذا تمهد ذَلِك فَأهل بَغْدَاد يحصرهم عددنا وَيدخل فِي الْمَقْدُور عَددهمْ ويحويهم بلد، وَإِن جَحَدُوا ذَاك وَزَعَمُوا أَن إخبارهم لَا يَقْتَضِي الْعلم، فقد باهتوا وَلَا يخرجُون مَعَ هَذِه المباهتة من قَول من يُنكر اصل التَّوَاتُر. [990] وَأما اشْتِرَاط اخْتِلَاف الْأَنْسَاب فَلَا معنى لَهُ، فَإنَّا لَو قَدرنَا عددا لسكان بَغْدَاد / وهم ينتمون إِلَى نسب وَاحِد، ثمَّ أخبروا عَمَّا علموه مُشَاهدَة [110 - ب] فيتضمن خبرهم ثُبُوت الْعلم لَا محَالة، وجاحد ذَلِك ينجذب إِلَى جحد أهل التَّوَاتُر. [991] وَكَذَلِكَ اخْتِلَاف الأوطان لَا معنى لاشتراطه فَإِن الْبَلدة الْعَظِيمَة لَو شغرت عَن الغرباء فَيكون نقلهم فِي مجْرى الْعَادة كنقلهم إِذا خالطهم الغرباء وَأما اشتراطهم أَن لَا يَكُونُوا مقهورين [فيفضل] القَوْل عَلَيْهِم فِي ذَلِك، فَيُقَال: إِن صورتم ذَلِك فِيهِ إِذا لم يعلمُوا [مَا] أخبروا عَن نَقله، فَلَا يَقْتَضِي نقلهم الْعلم، لعدم علمهمْ بِمَا نقلوه [لَا] لكَوْنهم [مجبرين] وَقد بَيْننَا أَن ذَلِك فِيمَا قُلْنَاهُ بِهِ من الشَّرَائِط، وَإِن نقلوا مَا علمُوا ضَرُورَة فَيَقْتَضِي نقلهم الْعلم وَإِن كَانُوا مجبرين خَائِفين لَو تركُوا النَّقْل. [992] على أَن نقُول: مَا ذكرتموه من الْأَخْبَار فِي حق أهل التَّوَاتُر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 يصعب تصَوره، فَإِن أهل بَغْدَاد وَمن دونهم لَو رَأَوْا شَيْئا أَو سَمِعُوهُ فَلَا يتَحَقَّق فِي مجْرى الْعَادة أَن يمْتَنع كلهم عَن التفاوض بِمَا رَأَوْهُ حَتَّى يجبروا عَلَيْهِ، بل لَو أجبروا بِالسَّيْفِ على الْكَفّ عَن نقل مَا رَأَوْهُ، فالعادة أَن بَعضهم ينْطق بِمَا رأى وَلَا ينكتم الْأَمر، فَتبين أَن مَا صوروه من الْقَهْر فِي حق الكافة، لَا معنى لَهُ، وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن كل مَا ذَكرُوهُ مِمَّا لَا يحد بِحُصُول الْعلم تعلقا بِهِ فِي مجْرى الْعَادة فَتعين القَوْل بإبطاله. [993] وَأما اشْتِرَاط تَحْدِيد الْخَبَر عَن الْجَائِز، وَترك ضم المستحيل إِلَيْهِ فَلَا معنى لَهُ. فَإِن الْمُعْتَزلَة مَعَ جمعهم وَكَثْرَة عَددهمْ لَو رَأَوْا شَيْئا فنقلوا مَا رَأَوْهُ وقربوه بِذكر اعْتِقَادهم الْفَاسِد فِي بعض الْأُصُول لم يقْدَح ذَلِك فِي الْعلم سَوَاء جردوا خبرهم، وقربوا بِخُرُوج الْأمين وَالَّذِي لَا علم لَهُ، وَكَذَلِكَ أهل بلد الرّوم إِذا أخبروا عَن مُشَاهدَة [اضطررنا] إِلَى الْعلم بهَا، وَإِن كَانُوا يقرنون نقلهم بكفرهم. [993] وَأما اشْتِرَاط اخْتِلَاف الْأَدْيَان، فَلَا معنى لَهُ، فَإنَّا نعلم أَن أهل الْإِسْلَام باجمعهم لَو رَأَوْا شَيْئا [و] نقلوا مَا رَأَوْا اضطرارا إِلَى مَا نقلوه، وَإِن أنكر الْخصم ذَلِك أَنْكَرْنَا فِي مُقَابلَة أصل التَّوَاتُر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 [995] فَأَما من شَرط أَن يَكُونُوا فِي ذَلِك من الْيَهُود، فَهَذَا الحكم مِنْهُم يُبطلهُ مَا قدمْنَاهُ من الصُّور، على أَن نقُول لَهُم: فَأنْتم معاشر بني إِسْرَائِيل قبل ان ضربت عَلَيْكُم الْجِزْيَة ونالتكم الذلة لَو نقلتم عَن دينكُمْ شَيْئا هَل كَانَ يَقع بِهِ الْعلم؟ فان قَالُوا: أجل فقد أبطلوا شَرط الذلة، وَإِن قَالُوا لَا تقع الْعلم، فقد أبطلوا دينهم، فَإِن الذلة مَا كَانَت متأبدة عَلَيْهِم مذ كَانُوا، وَإِنَّمَا هِيَ طارئة وَلَهُم إِن نقلوا أديانهم عَن اقوام لم يَكُونُوا فِيمَا هم فِيهِ من الذلة والجزية. [996] وَأما من شَرط أَن يكون أهل النَّقْل مُؤمنين أَو عدلا، فقد أحَال فِيمَا قَالَ، فَإنَّا نعلم أَن بِلَاد الْكَفَرَة الَّتِي تنطوي على النواحي والأمصار، وشغر عَن الْمُسلمين، وَمن نَشأ مِنْهُم بِبَلَد، وَالْأَخْبَار تتواتر عَلَيْهِ من الْكَفَرَة بِأَن فِي الْموضع الْفُلَانِيّ مصرا، فيضطر إِلَى علم ذَلِك، كَمَا يضْطَر الْمُسلمُونَ إِلَى الْعلم بِمَكَّة وبغداد، وَغَيرهمَا من الْأَمْصَار، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده، وَمن جَحده انتسب إِلَى جحد الْحَقَائِق، فَهَذَا وَجه الرَّد على هَؤُلَاءِ. [997] فَإِن قيل: قد ذكرْتُمْ / فِيمَا شرطتموه أَن عدد التَّوَاتُر يزِيد على [111 / أ] الْأَرْبَع، وَلَا شكّ فِي أهل التَّوَاتُر إِذا بلغُوا الْمبلغ الَّذِي ذكرتموه فَلَا يُوجب خبرهم الْعلم إِيجَاب الْعلَّة معلولها، فَهَل تجوزون فِي المقدورات أَن يثبت الْخَبَر، وَلَا يعقبه الْعلم؟ أم هَل تجوزون أَن ينْقل الْوَاحِد فيعقب نَقله الْعلم الضَّرُورِيّ ظ قُلْنَا: إِن كَانَت الْمَسْأَلَة فِي حكم الْمَقْدُور فَكل مَا ذكرتموه سَائِغ فِي الْمَقْدُور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 وَلَكنَّا نعلم ضَرُورَة أَن الْعَادَات لَا تنخرق فِي زَمَاننَا، كَمَا نقطع أَن الْبحار مَا فجرت ونضبت، وَالسَّمَوَات مَا انفطرت وكل مَا ذَكرْنَاهُ من طرق الْأَدِلَّة إِخْبَار منا عَمَّا وجدنَا عَلَيْهِ الْعَادَات المستمرة، ثمَّ بضرورة الْعقل نعلم أَن الْعَادَات لَا تنْقَلب فِي زَمَاننَا، وَمن كَمَال الْعقل معرفَة ذَلِك، كَمَا قدمنَا فِي صدر الْكتاب. (176) فصل [998] فَإِن قَالَ قَائِل: قد ذكرْتُمْ أَن عدد التَّوَاتُر يزِيد على أَربع، فَمَا اقله؟ وَهل يتحدد بِعَدَد؟ قيل: قد اخْتلف ارباب الْأُصُول فِي ذَلِك على مَذَاهِب مُخْتَلفَة، وَنحن نومىء إِلَيْهَا، ثمَّ نذْكر مَا نختاره. فَذهب العلاف وَهِشَام بن عَمْرو الفوطي إِلَى أَن، الْحجَّة لَا تقوم بالْخبر حَتَّى يَنْقُلهُ عشرُون من الْمُؤمنِينَ الَّذين هم أَوْلِيَاء الله تَعَالَى، واعتصما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 فِي ذَلِك بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِن يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ} . وَذهب بعض أتباعهم إِلَى أَن الْحجَّة لَا تقوم إِلَّا بِنَقْل سبعين رجلا، تمسكا بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قومه سبعين رجلا} . وَذهب بعض الْمُتَقَدِّمين إِلَى أَن الْحجَّة إِنَّمَا تقوم بِنَقْل ثَلَاثمِائَة وَثَلَاث عشر، مصيرا مِنْهُم إِلَى ان هَذَا عدد الْمُسلمين يَوْم بدر. وَذهب مُعظم الروافض الإمامية إِلَى أَن الْحجَّة إِنَّمَا تقع بقول الإِمَام الْمَعْصُوم فَإِن قَالَ وَحده قَامَت الْحجَّة بقوله، وان قَالَه أنَاس هُوَ فيهم، وهم غير مقيمين عَنْهُم قَامَت الْحجَّة بِهِ. وَذهب ضرار بن عَمْرو إِلَى ان الْحجَّة بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تقوم إِلَّا بِإِجْمَاع الْأمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 وَذَهَبت الأباضية من الْخَوَارِج إِلَى أَن الْحجَّة إِنَّمَا تقوم إِذا كَانَ الْخَبَر عَن حق فتقوم الْحجَّة، وسواءته اتَّحد الْقَائِل اَوْ تعدد النقلَة، وَذهب صَاحب أبي الْهُذيْل الْمَعْرُوف بِأبي عبد الرَّحْمَن إِلَى مَذْهَب خَالف فِيهِ سَائِر الْمذَاهب فَقَالَ: مهما أخبر خَمْسَة من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى من الْمُؤمنِينَ قَامَت الْحجَّة بإخبارهم بِشَرْط أَن يَكُونُوا فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى معصومين عَن الْكَذِب، ثمَّ قَالَ لَا يجوز ان يخبروا بِحَيْثُ ينعتون فِي كَونهم أَوْلِيَاء، بل يجب أَن يَنْضَم إِلَيْهَا سادس لَيْسَ من الْأَوْلِيَاء لتلتبس أعيانهم، فَلَا نشِير إِلَى وَاحِد مِنْهُم إِلَّا وَيجوز أَن يكون هُوَ السَّادِس الَّذِي لَيْسَ بولِي، ثمَّ إِذا ثبتَتْ هَذِه الْأَوْصَاف فَيثبت الْعلم بنقلهم ضَرُورَة، ثمَّ من أعجب مَا نقل مِنْهُ أَن قَالَ: تثبت الْحجَّة بالخمسة إِلَى عشْرين، وسنفصل عَلَيْهِ القَوْل فِي ذَلِك، ثمَّ اعْلَم استقصاء الْكَلَام على هَؤُلَاءِ يَلِيق بفن الْكَلَام فِي أَحْكَام الْإِمَامَة وَغَيرهَا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 بيد أَنا نذْكر مِمَّا يسْتَقلّ بِهِ فِي الرَّد على كل وَاحِد مِنْهُم. [999] فَأَما قَالَه العلاف من التَّقْيِيد بالعشرين من الْمُؤمنِينَ / فتقابل [111 / ب] بِالْعشرَةِ اَوْ بِالْمِائَةِ فتقابل الْمذَاهب، وَلَا مستروح فِي ظَاهر قَوْله تَعَالَى: {إِن يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ} فَإِن الْمَقْصد من الْآيَة إِيجَاب المصابرة على هَذَا الْوَجْه فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن حكم الْخَبَر فِيمَا شرطوه لَا ينْسَخ، وَهَذَا الحكم مَنْسُوخ فِي كتاب الله تَعَالَى لقَوْله: {الئن خفف الله عَنْكُم} الْآيَة. وَأما اشْتِرَاط الْإِيمَان فقد سبق وَجه الرَّد عَلَيْهِ، وبقريب من ذَلِك يرد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 على من قرب بالسبعين وَغَيره من الْأَعْدَاد المحصورة وَلَا معتصم من شَيْء مِمَّا عولوا عَلَيْهِ، وَلَيْسَت غَزْوَة بدر أولى من بعض الْغَزَوَات، وَهَذَا مَا لَا يُسَاوِي تسويد الْبيَاض بِالْجَوَابِ عَنهُ. [1000] وَأما مَا صَار إِلَيْهِ الإمامية فحقيقة الرَّد عَلَيْهِم ينبىء عَن إبِْطَال أصلهم فِي القَوْل بِالْإِمَامِ الْمَعْصُوم، وَلَا سَبِيل إِلَى الخوص فِيهِ، على أَنا نقُول إِذا اتّفق أهل بَغْدَاد على نقل مَا شاهدوه فَهَل يُوجب ذَلِك الْعلم الضَّرُورِيّ؟ فَذَلِك لأَنا نجوز كَون الإِمَام فيهم. قُلْنَا: فَهَل تقطعون بِكَوْن الإِمَام فيهم، فَإِن قَالُوا: لَا نقطع بذلك، فقد تبين بطلَان مَذْهَبهم، فَإِن الْعلم الضَّرُورِيّ قد حصل قطعا، ومقتضيه مَشْكُوك فِيهِ على أصلهم، وَإِن باهتوا وَقَالُوا نقطع بِكَوْن الإِمَام فيهم. فَيُقَال مَا من نَاحيَة مثل بَغْدَاد إِلَّا وَينزل أَخْبَار أَهلهَا عَن المشاهدات فِي [الْإِفْضَاء] إِلَى الضروريات منزلَة بَغْدَاد، وَنحن نعلم أَن أهل كل بَلْدَة عَظِيمَة إِذا أخبروا فِي كل يَوْم عَن مُشَاهدَة يثبت الْعلم الضَّرُورِيّ، لَا يخْتَص بِنَاحِيَة من نواحي الْعَالم، وَإِن أنكرو شَيْئا من ذَلِك كَانَ جحدا مِنْهُم لأصل التَّوَاتُر وَالْكَلَام عَلَيْهِم كَالْكَلَامِ على السمنية. [1001] وَأما مَا ذكرته الأباضية من أَن الْخَبَر إِذا كَانَ صدقا اقْتضى الْعلم سَوَاء اتَّحد ناقله أَو تعدد نقلته، فَهَذَا بَاطِل، فَإنَّا نعلم أَن إخبارنا عَن ثبوبت الصَّانِع لَا يُوجب الْعلم لمنكر الصَّانِع وَكَذَلِكَ قد يُشَاهد الْوَاحِد منا الشَّيْء ويخبر عَنهُ، ثمَّ يضْطَر إِلَى ان الَّذين أخْبرهُم لم يصدقوه وَلم يعلمُوا مَا أخبر عَنهُ فَبَطل مَا قَالُوهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 [1002] وَأما مَا قَالَه صَاحب أبي الْهُذيْل من أَن الْخَمْسَة الْمُؤمنِينَ المعصومين إِذا كَانَ مَعَهم سادس لَيْسَ بمعصوم وأخبروا عَن مُشَاهدَة فيضطر إِلَى صدقهم. فَيُقَال لَهُ لم قيدت أقل الْعدَد فِي ذَلِك بالخمس؟ فَإِن قيل: إِنَّمَا قيد الْخمس لثُبُوت الدَّلِيل على أَن الْأَرْبَع لَيْسُوا عدد التَّوَاتُر، ثمَّ لم يُنكر عددا فَوق ذَلِك، فَأول عدد بعد الْأَرْبَعَة الْخَمْسَة. فَيُقَال: أما خُرُوج الْأَرْبَع عَن كَونهم عدد التَّوَاتُر مُسلم، فَلم قُلْتُمْ إِن الْأَرْبَع إِذا لم يَكُونُوا عدد التَّوَاتُر فَيكون الْخمس عدد التَّوَاتُر فَمَا وَجه التَّوَصُّل إِلَى ذَلِك؟ وَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْأَرْبَع لَيْسُوا عدد التَّوَاتُر وَلَا يثبت بعده عدد مَحْصُور يقطع بِأَنَّهُ اقل عدد التَّوَاتُر، ثمَّ يُقَال لَهُم لَهُم شرطتم الْعِصْمَة وَقد أوضحنا فِيمَا قدمنَا بِأَن أَخْبَار الْكَفَرَة إِذا بلغُوا مبلغ التَّوَاتُر يَقْتَضِي الْعلم الضَّرُورِيّ، ثمَّ يُقَال لَهُ: فَإِذا ثَبت الْعِصْمَة فَهَلا اكتفيت بالأربع فَمَا دونهَا، ثمَّ يُقَال لَهُ: فَمَا معنى قَوْلك من الْخمس إِلَى الْعشْرين فَمَا وَجه التَّحْدِيد بالعشرين؟ وَلَيْسَ هَذَا بِالْأَكْثَرِ، وَلَا بالأوسط، وَلَا بِالْأَقَلِّ، وَلم كَانَ ذكر الْعشْرين مَعَ خُرُوجه عَن هَذِه الصِّفَات أولى من ذكر / الْمِائَة فَمَا فَوْقهَا، [112 - أ] فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه، فَإِذا بطلت هَذِه الْمذَاهب بَقِي علينا بعد إِبْطَالهَا أَن نذْكر مَا نرتضيه فِي أقل عدد التَّوَاتُر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 (177) فصل [1003] مَا ارْتَضَاهُ أهل الْحق أَن أقل عدد التَّوَاتُر مِمَّا لَا سَبِيل لنا إِلَى مَعْرفَته وَضَبطه، وَإِنَّمَا الَّذِي نضبطه مَا قدمنَا ذكره أَن الْأَرْبَع فَمَا دونه لَيْسُوا عدد التَّوَاتُر، فَأَما فَوق الْأَرْبَع فَلَا نشِير إِلَى عدد فنفى عَنهُ كَونه اقل التَّوَاتُر، وَكَذَلِكَ لَا نشِير إِلَى عدد مَحْصُور فنزعم أَنه الْأَقَل. [1004] فَإِن قيل: فَلَو اتّفق أَن يخبرنا خَمْسَة عَن مُشَاهدَة فيضطر إِلَى الْعلم بِمَا اخبروه، فَهَل يقطع عِنْد اتِّفَاق ذَلِك أَن أقل عدد التَّوَاتُر خَمْسَة؟ قيل: لَو اتّفق ذَلِك كَمَا وصفتموه لقطعنا القَوْل بِمَا ذكرتموه بيد أَن ذَلِك لم يتَّفق على اسْتِمْرَار الْعَادة [1005] فَإِن قيل: إِذا أخبرونا خَمْسَة فَلم يَقع الْعلم الضَّرُورِيّ بصدقهم وَوَجَب الْقطع بِأَنَّهُم لَيْسُوا عدد التَّوَاتُر؟ قُلْنَا: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك فَإنَّا نقطع بِأَن عدم حُصُول الْعلم مُرَتّب على نُقْصَان الْعدَد غير أَنا نجوز أَن يكون ذَلِك لَكَاذِب فيهم أَو مقلد مخمن، فَإِذا كُنَّا نجوز أَيْضا مَا قلتموه وَإِذا أخبرنَا عشرَة مثلا واضطررنا إِلَى صدقهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 وَجب أَن يقطع بكونهم أقل الْعدَد. قُلْنَا: لَا سَبِيل إِلَى ذَلِك، فَإنَّا نجوز أَن يحصل الْعلم بأخبار عدد دونهم. فَخرج مِمَّا قدمْنَاهُ أَن أقل عدد التَّوَاتُر مِمَّا لَا يَنْضَبِط، وَلَا يدل على عدد بِعَيْنِه دلَالَة عقلية وَلَا دلَالَة سمعية وَقد أوضحنا فَسَاد كل تَقْدِير قَالَ بِهِ أحد الْعلمَاء، فَلم يبْق إِلَّا الْمصير إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ. (178) فصل [1006] قد ذهب فريق من الْمُتَكَلِّمين إِلَى أَن صدق أهل التَّوَاتُر قد [يعرف] ضَرُورَة، وَقد [يعرف] اسْتِدْلَالا، فَأَما مَا يعرف ضَرُورَة فنحو أَخْبَار المخبرين عَن كَون بَغْدَاد فِي الدُّنْيَا وَغَيرهَا من الْأَمْصَار وَالسير والدول وَأَيَّام الماضين. وَأما مَا يعرف صدق المخبرين فِيهِ اسْتِدْلَالا فَهُوَ مثل أَن يخبر عدد يعلم بمستقر الْعَادة أَنهم لَا يتَّفق مِنْهُم الْأَخْبَار عَن مخبر وَاحِد وفَاقا من غير رَغْبَة عَنهُ وَرَهْبَة وداعية وتواطىء، وتواضع وَخير يَقع وَدفع ضرّ، فَإِذا بدرت مِنْهُم الْأَخْبَار ونعلم باستمرار الْعَادة أَنهم لَا يتفقون من غير سَبَب، وعرفنا باطراد الْعَادة أَنه لَو تحقق سَبَب مَا ذَكرْنَاهُ لما أتكتم ويتحدثوا بِهِ على مر الزَّمَان فَإِن من قَضِيَّة الْعَادة أَن شَيْئا من الْأَسْبَاب الَّذِي قدمْنَاهُ لَا يعلم الْجمع الْكثير والجم الْغَفِير ثمَّ ينكتم، فَإِذا لم يظْهر عرف عدمهَا، فعلى هَذَا الْوَجْه يسْتَدلّ على صدقهم. [1007] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ هَذَا ذُهُول عَن التَّحْقِيق وَذَهَاب عَن تَحْصِيل مَقْصُود الْبَاب وَذَلِكَ أَنا نقُول: عدد التَّوَاتُر إِذا أخبروا عَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 مُشَاهدَة وَكَانُوا صَادِقين لم يكن فيهم مقلد وَلَا مخمن فنعلم اضطرار صدقهم، وَلَا سَبِيل إِلَى دَرك صدقهم دَلِيلا، وَقد أوضحنا وَجه الرَّد على من زعم من الكعبي وَأَتْبَاعه أَن الْعلم بِصدق الْمُتَوَاتر علم اكْتِسَاب واستدلال، فَإِذا وَجب حُصُول هَذَا الْعلم اضطرارا فَإِذا لم يضْطَر إِلَى صدقهم فنعلم أَنهم كذبة أَو فِئَة مِنْهُم كذبة فِي الْأَخْبَار عَن الْمُشَاهدَة، وَلَوْلَا ذَلِك [112 / ب) لعرفنا صدقهم ضَرُورَة / فَإِن الَّذين نَعْرِف صدقهم ضَرُورَة لَا يجوز أَن تخْتَلف الْعَادة فيهم، فَإِن الْمعول فِي دَرك صدقهم على اسْتِمْرَار الْعَادة، فَلَو حرزنا اخْتِلَاف الْعَادة فِي ذَلِك لزمنا أَن نجوز أَن يخبر أهل بَغْدَاد عَن مُشَاهدَة صدقا فنعلم صدقهم تَارَة ضَرُورَة ويخبرون أُخْرَى فنتشكك فِي إخبارهم، وَهَذَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ وَفِيه خلط الْبَاب، والخبط الْعَظِيم فِيهِ، فَخرج مِمَّا ذَكرْنَاهُ أَن أهل التَّوَاتُر إِذا لم يعرف صدقهم ضَرُورَة فَذَاك بِأَن فيهم مُقَلدًا أَو كذابا أَو مقلدين، وَكَذَلِكَ بِحَيْثُ ينقص الصادقون عَن أقل الْعدَد الْمُتَوَاتر فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى، فَإِذا كُنَّا نصير إِلَى الَّذين لَا نَعْرِف صدقهم ضَرُورَة فنعلم أَن فيهم كذبة فَأنى يَسْتَقِيم مَعَ ذَلِك وَطَلَبه عَن صدقهم. وَالْوَجْه الَّذِي نفى الْعلم الضَّرُورِيّ أثبت الْقطع بِالْكَذِبِ فَتَأمل ذَلِك فَإِنَّهُ مزلة الْبَاب والذاهب عَنهُ سر التَّوَاتُر. [1008] فَإِن قيل: فَلَو أَن أهل التَّوَاتُر أخبروا عَن مُشَاهدَة وَلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 يضطروا إِلَى صدقهم فَأخْبر نَبِي أَنهم غير صَادِقين افيجوز ذَلِك؟ قُلْنَا: حاشا وكلا أَن نجوز ذَلِك فَإنَّا قَطعنَا بالطريقة الَّتِي مهدنا أَنا إِذا لم نعلم صدقهم ضَرُورَة فنعلم كذبهمْ أَو كذب بَعضهم، فَكيف يجوز وُرُود الْخَبَر عَن النَّبِي على خلاف الدَّلِيل الْمَبْنِيّ على الْعَادة مَعَ استمرارها. [1009] فَإِن قيل: فَلَو صدق اربعة فِي خبرهم فَمَا قَوْلكُم فِيهَا؟ قُلْنَا: نعلم صدقكُم بتصديقه فَإِنَّهُم لَيْسُوا مِمَّا يجب صدقهم ضَرُورَة حَتَّى إِذا لم يحصل الْعلم الضَّرُورِيّ بصدقهم فيستدل بذلك على كذبهمْ وَلَيْسوا كعدد أهل التَّوَاتُر، فَتَأمل ذَلِك وتجنب هَذِه الشُّبْهَة الطارئة على هَؤُلَاءِ. [1010] فَإِن قيل: فَإِذا أخبرنَا الْعدَد الَّذِي اقْتضى إخبارهم مرَارًا الْعلم الضَّرُورِيّ وَلم يقتض إخبارهم فِي هَذِه الْكَثْرَة الْعلم الضَّرُورِيّ، أفتقطعون بكذبهم أَو كذب بَعضهم من غير تواطىء وشاغر أَو من غير سَبَب جَامع من رَغْبَة وَرَهْبَة. قُلْنَا: لَا بُد فِي مُسْتَقر الْعَادة من سَبَب فِي ذَلِك. فَإِن قَالُوا: أفتجوزون أَن يكون شَيْء من ذَلِك وينكتم وَلَا يظْهر. قُلْنَا: لَا بُد وَأَن يظْهر ذَلِك فِي مُسْتَقر الْعَادة، فَخرج من ذَلِك أَن أهل التَّوَاتُر إِذا لم تقتض أخبارهم عَن الْمُشَاهدَة الْعلم الضَّرُورِيّ فَيقطع أَن فيهم كذبة، وَيقطع أَن ذَلِك اتّفق على تواطىء وَنَحْوه، وَلَا بُد أَن يظْهر ذَلِك إِذا تصور الْحَال فِي هَذِه الصُّورَة، وَقد يتَصَوَّر أَن يخبرنا جمع فِيهِ كذبة لَو تميزوا لقصر عدد الصَّادِقين فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى عَن أقل عدد التَّوَاتُر، وَكَانَ الكذبة بِحَيْثُ قد يتَّفق فِي مُسْتَقر الْعَادة الْكَذِب من مثلهم من غير سَبَب جَامع، وَإِذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 كَانَت الْحَالة كَذَلِك فَلَا نحتاج إِلَى تَصْوِير الْأَسْبَاب وظهورها فَاعْلَم هَذِه الْجُمْلَة وتتبع حقائقها. [1011] فَإِن قيل: فالشيعة بأسرها ينْقل نَص الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَلَا شكّ أَنهم عدد التَّوَاتُر وَكَذَلِكَ الْيَهُود ينْقل تَوْقِيف مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام على تأبيد شَرِيعَته وَلَا يحصل بهَا الْعلم الضَّرُورِيّ. قُلْنَا: أما الشِّيعَة فَمَا نقلوا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شفاها وَلَكِن نقلوا مَا [113 / أ] ادعوهُ عَمَّن تقدمهم / وَنحن نضطر إِلَى الْعلم بانهم سمعُوا مَا نقلوه وَلَا نستريب فِي ذَلِك، بيد أَنه لم يتَحَقَّق فِي جملَة النقلَة من الْأَوْصَاف مَا يتَحَقَّق فيهم فِي زمننا، وَهَذَا هُوَ المعني بِمَا قدمْنَاهُ من اشْتِرَاط اسْتِوَاء الطَّرفَيْنِ والواسطة، وَكَذَلِكَ الْيَهُود صَادِقَة فِي سماعهَا الْمقَالة الَّتِي نقلهَا عَن من تقدمها وَلَكِن لم يستو طرف النقلَة وأوساطهم إِلَى مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ، وَقد قَالَ بعض الْعلمَاء: ان أول من لقنهم ذَلِك ابْن الراوندي لَعنه الله بأصبهان، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنهم فِي زمن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أبدوا هَذِه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 الْمقَالة مَعَ اشتداد جدالهم وخصامهم، فَدلَّ أَنه قَول مُحدث، وَمثل هَذِه الدَّعْوَى لَو كَانَت فِي زمن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لنقلت فِي خصامهم، وَمَا كَانَت مِمَّا تخفى وَتذهب عَنْهَا النقلَة فِي اسْتِقْرَار الْعَادة. (179) القَوْل فِي الْخَبَر الَّذِي يعلم صدقه بِدَلِيل، والإيماء إِلَى وُجُوه الْأَدِلَّة على الصدْق [1012] اعْلَم وفقك الله: أَن صدق الْخَبَر يعرف بأوجه، يجمعها قِسْمَانِ: أَحدهمَا: الضَّرُورِيّ وَالثَّانِي: الدَّلِيل، فَأَما الضَّرُورِيّ فقد سبق القَوْل فِيهِ، وَذكرنَا مَا يعرف صدقه اضطرارا، والمقصد من هَذَا الْبَاب تَبْيِين مَا يعرف صدقه اسْتِدْلَالا، وطرق الْأَدِلَّة على صدق الْأَخْبَار منقسمة. فَمِنْهَا: دلالات الْعُقُول، فَكل خبر أنبأ عَن تثبيت شَيْء اَوْ نَفْيه وَدَلِيل الْعقل يَقْتَضِي ذَلِك الْمخبر على حسب مَا يَقْتَضِيهِ الْخَبَر وَهُوَ دَلِيل على صدقه. وَمن الْأَدِلَّة على الصدْق: أَن يصدق الرب مخبرا فِي خَبره، أَو يصدق رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي ثَبت وجوب صدقه، وَإِنَّمَا يَتَقَرَّر أَمْثَال ذَلِك فِي زمن النُّبُوَّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 وَمن الْأَدِلَّة على الصدْق: إِجْمَاع الْأمة فمهما أَجمعت الْأمة على صدق مخبر فِي خَبره علمنَا صدقه وَكَانَ الْإِجْمَاع دَلِيله عَلَيْهِ. وَمن الْأَدِلَّة على الصدْق: أَن يخبر الْمخبر بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمَّا يتَعَلَّق بِأَحْكَام الشَّرْع فيقرره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أخباره وَلَا يُبْدِي عَلَيْهِ نكيرا مَعَ دلَالَة الْحَال على انْتِفَاء السَّهْو وَالنِّسْيَان عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمن الْأَدِلَّة على صدق الْأَخْبَار: أَن يخبر الْمخبر بَين أظهر جمَاعَة لَا يجوز عَلَيْهِم فِي مُسْتَقر الْعَادة التواطؤ على الْكَذِب من غير أَن يظْهر ذَلِك مِنْهُم، فَإِذا قَالَ الْمخبر لقد شَاهد هَؤُلَاءِ فلَانا يفعل كَذَا، أَو شاهدوه يَقُول كَذَا، فَإِذا صمت الْجَمِيع وسكتوا وَلم يبدوا عَلَيْهِ نكيرا، وَلم يظْهر مِنْهُ سَبَب تواطىء، فنعلم باستمرار الْعَادة أَن سكوتهم وَعدم ظُهُور الْأَسْبَاب الحاملة على الْكَذِب تدل على صدق الْمخبر. [1013] فَإِن قيل: فَلَو أخبر الْجَمِيع الَّذين وصفتهم عَن أنفسهم فَمَا كَانَ قَوْلكُم فِي أخبارهم؟ قُلْنَا: لَو أخبروا بِأَنْفسِهِم عَمَّا شاهدوه وَكَانُوا عدد التَّوَاتُر وتجمعت فيهم جملَة الْأَوْصَاف الْمَشْرُوطَة فَيحصل لنا الْعلم الضَّرُورِيّ بصدقهم. فَأَما صمتهم وتقريرهم الْمخبر عَنْهُم فَلَا يَقْتَضِي الْعلم الضَّرُورِيّ بيد أَنا نستدل على الصدْق عِنْد اسْتِمْرَار الْعَادة. وَاعْلَم أَن ذَلِك مِمَّا لَا يسوغ تَعْلِيله، فَإِن الْعَادَات يجوز تَقْدِير انقلابها [113 / ب] عقلا، فَإِذا استمرت على مَنْهَج مَعْلُوم وَلم يُعلل استمرارها / فَلَو أجْرى الله تَعَالَى الْعَادة بِحُصُول الْعلم الضَّرُورِيّ عِنْد سكوتهم وتقريرهم الْمخبر يحصل ذَلِك كَمَا يحصل عِنْد أخبارهم بِأَنْفسِهِم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 [1014] فَإِن قيل: فَهَل تَقولُونَ على طرد ذَلِك أَن الْمخبر لَو أخبر عَمَّا يدْرك مُشَاهدَة وحسا وَلَكِن يعلم بطرِيق النّظر، فَإِذا نطق بذلك بَين أظهر جمع كَمَا وصفتموه فَلم يبدر مِنْهُم [نَكِير] فَهَل يسْتَدلّ بسكوتهم على مَا أخبر عَنهُ اعْتِقَادهم حَتَّى ينزل ذَلِك تصريحهم بالحكم؟ قُلْنَا: لَا نقُول ذَلِك، وَالسُّكُوت فِيمَا يدْرك بالاستدلال لَا ينزل منزلَة التَّصْرِيح، وَمَا قدمْنَاهُ فِيهِ إِذا اسند الْمخبر مَا أخبر عَنهُ إِلَى مُشَاهدَة الْجَمَاعَة وإحساسهم فَأَما إِذا كَانَ الْمخبر عَنهُ مدرك النّظر [فَلَا] يكون الْأَمر كَذَلِك وَهَذِه الْمَسْأَلَة تستقصى فِي مسَائِل الْإِجْمَاع إِن شَاءَ الله تَعَالَى. [1015] فَهَذِهِ الْأَدِلَّة على صدق خبر الْمخبر، وَلَيْسَ من جملَة الْأَدِلَّة أَن تتواتر الْأَخْبَار عَن جمع عدد التَّوَاتُر وَلَا يضْطَر إِلَى صدقهم، فَإِنَّهُ لَا يسوغ الِاسْتِدْلَال على صدقهم لَا يعلم صدقهم ضَرُورَة، وَقد استقصينا القَوْل فِي ذَلِك. [1016] وَمِمَّا لَا يدل على صدق الْخَبَر أَن ينْقل خبر [فَيعْمل] أهل الْحل وَالْعقد بِمُوجبِه، فَلَا يدل عمله بِمُوجبِه على صدق الْخَبَر. وَهَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 يَنْقَسِم قسمَيْنِ، أَحدهمَا أَن يتَّفق عَمَلهم بِمُوجب الْخَبَر وَيجوز أَنهم أطبقوا على الْعَمَل بِدلَالَة أُخْرَى سوى الْخَبَر الْمَنْقُول، أَو يجوز أَن يكون عمِلُوا بالْخبر فَلَا يقطع بِصدق الْخَبَر عِنْد تقَابل هذَيْن الجائزين. \ وَالْقسم الثَّانِي: أَن يعملوا بِمُوجب الْخَبَر وَيعلم بِصَرِيح قَوْلهم أَنهم إِنَّمَا أطبقوا على الْعَمَل بالْخبر فَلَا يقطع أَيْضا فِي هَذِه الصُّورَة بِصدق الْخَبَر، وَذَلِكَ أَنا نقُول إِجْمَاعهم على الْعَمَل لَا يتَضَمَّن بِصدق الْخَبَر فَإِن العاملين بِخَبَر الْآحَاد يعْملُونَ بِهِ وَلَا يقطعون بصدقه فَلَيْسَ فِي عَمَلهم بِهِ مصير إِلَى تَصْدِيق الْخَبَر، وَهَذَا كَمَا أَن الْأمة مجمعة على الحكم بِشَهَادَة الشُّهُود على الْجُمْلَة مَعَ إِجْمَاعهم على اسْتِحَالَة الْقطع بِصدق بعض الشُّهُود فِي الحكومات. فَإِن قيل: قدمتم فِي صدر الْبَاب أَن إِجْمَاع الْأمة من الْأَدِلَّة على صدق الْخَبَر. قُلْنَا: ذَلِك لَو أَجمعُوا على صدقه، وَالْإِجْمَاع على الْعَمَل بِهِ لَيْسَ بِإِجْمَاع على صدقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 (180) فصل [1017] قد ذكرنَا وُجُوه الْأَدِلَّة على صدق الْأَخْبَار، وَنحن نشِير آنِفا إِلَى الطّرق الَّتِي يعلم بهَا كذب الْأَخْبَار. فَاعْلَم أَن الطّرق الَّتِي أومينا إِلَيْهَا فِي الصدْق لَو تصورت على الضِّدّ لدلت على الْكَذِب، فَكَمَا دلّ تَصْدِيق الرب الْمخبر على صدقه فَكَذَلِك تَصْدِيق رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتصديق الْأمة فَكَذَلِك تَكْذِيب الله الْمخبر وَتَكْذيب رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِجْمَاع الْأمة على كَونه كذبا يدل على ثُبُوت صفة الْكَذِب، وكما تدل الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة على صدق الْخَبَر فقد تدل على الْكَذِب فَمن أخبر عَن قدم الْعَالم دلّت دلالات حدوثها على كذبه. [1018] وَمن الدلالات على الْكَذِب: أَن يخبر الْمَرْء عَن مُشَاهدَة فيكذبه فِي خَبره عدد لَا يجوز فِي مُسْتَقر الْعَادة اتِّفَاق كذبهمْ عَن غير تواطىء وَسبب جَامع حَامِل مَحل الْكَذِب، وَلَو كَانَ قد تحقق شَيْء من هَذِه الْأَس ْبَاب لظهر، فَإِذا لم يظْهر عرفنَا صدقهم فِي تكذيبهم وَكذب من كذبوه. [1019] وَمن الْأَدِلَّة على كذب الْمخبر: أَن يعلم / من أخبر عَن أَمر [114 / أ] لَو كَانَ على مَا أخبرهُ لشاع وذاع وتواترت نقلته، وَمَا اسْتَقل بنقله الْآحَاد والأفراد، وَهَذَا بَين فِي اسْتِمْرَار الْعَادة واطرادها، فَإنَّا نعلم أَن من أخبر عَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 قتل [خَليفَة] على مَلأ من النَّاس فَمثل ذَلِك مَا يتواتر نَقله وَكَذَلِكَ لَو تقدرت فتْنَة صد لأَجلهَا الحجيج عَن الْمَنَاسِك فَمثل ذَلِك مَا يشيع فَإِذا نَقله الاحاد وَلم ينْقل تَوَاتر علم كذب النقلَة قطعا. وبهذه الطَّرِيقَة نرد على من قَالَ: إِن الْقُرْآن قوبل وَلم ينْقل، فَإِنَّهُ لَو صَحَّ ذَلِك مَعَ توفر دواعي العندة الْكَفَرَة على الْقدح فِي الْإِسْلَام لَا نبث وانتشر فِي النَّاس ولتواتر نَقله وإظهاره واللهج بِذكرِهِ ونشره، وبمثل هَذِه الطَّرِيقَة نرد على من زعم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَص على إِمَامَة عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي مَلأ من أَصْحَابه، فَإِن مثل هَذَا الْأَمر الْعَظِيم لَا يغْفل عَن نَقله أهل التَّوَاتُر، فَلَمَّا لم ينْقل يَوْم السَّقِيفَة وَالْأَيْدِي ممتدة إِلَى بيعَة الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَلم يذكر فِي زمن عمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا دلّ ذَلِك على أَنه لم يكن، إِذْ لَو يقدر كَونه لأفضى إِلَى انخراق الْعَادة. [1020] فَإِن قيل: فقد نقل الْآحَاد أَشْيَاء يجب أَن تشتهر وَلم يقطع بكذبهم، مِنْهُ صفة حج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قرانه وإفراده، وَقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين أظهر أَصْحَابه وَمَا نقل ذَلِك تواترا، وَكَذَلِكَ نقل نِكَاحه مَيْمُونَة آحَاد وَإِن كَانَ ذَلِك على مَلأ، وَنقل انْشِقَاق الْقَمَر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 آحادا مَعَ عظم شَأْنه وَوُجُوب شيوعه فِي اسْتِمْرَار الْعَادة الَّتِي ادعيتموها. وَكَذَلِكَ لم ينْقل النَّصَارَى تكليم عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أمه فِي المهد صَبيا، وَإِن كَانَ من الْآيَات الْعَظِيمَة، وَلم ينْقل سَائِر آيَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا نقل الْقُرْآن،، وَكَذَلِكَ اخْتلف النقلَة فِي دُخُوله مَكَّة عنْوَة أَو صلحا مَعَ أَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 ذَلِك يَتَّضِح فِي الْعَادة. فَيُقَال لَهُم: لَيْسَ فِي شَيْء مِمَّا ذكرتموه مَا يقْدَح فِي الأَصْل الَّذِي اصلناه، فَإِن قرَان الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإفراده فَلَيْسَ مِمَّا يظْهر للخاص وَالْعَام فَإِن الْقرَان لَا يتَمَيَّز عَن الْإِفْرَاد إِلَّا فِي حق من أحَاط علما باوفر حَظّ من الْفِقْه ثمَّ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يجب عَلَيْهِ أَن يظْهر مَا يخْتَص بِهِ بل كَانَ يظْهر مَا فِيهِ تَعْلِيم الكافة، وَالْقرَان فِي التَّحْقِيق يؤول إِلَى عِنْد ذِي نِيَّة وَكَانَ مُخْتَصًّا بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلذَلِك لم يظهره إِظْهَارًا ينْقل تواترا. وَأما نِكَاح مَيْمُونَة فَكَذَلِك فَإِنَّهُ لَيْسَ من الْأُمُور الْعِظَام، وَلم ينْقل أَنه نَكَحَهَا على الْمَلأ، فَلَعَلَّهُ خلا بِبَعْض أَصْحَابه ونكحها على وَجه لَا يشيع. وَأما انشتقاق الْقَمَر فَلَقَد كَانَ آيَة ليلية، وَمَا كَانَ قد فرط من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مواضعة الْكَفَرَة ومواعدتهم، بل كَانَ تكلم فِي الْمَسْجِد الْحَرَام شرذمة من الْكفَّار فاقترحوا عَلَيْهِ شقّ الْقَمَر وَلم يكن ذَلِك على مَلأ بل كَانَ ومعظم النَّاس نيام وَإِنَّمَا يدْرك مثل ذَلِك من يراقبه، فَكَأَن النَّاس كَانُوا على انقسام واكثرهم نيام، وَمن كَانَ يتَّفق لَهُ رُؤْيَة ذَلِك من غير تقدم بمعاهدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 [814 ب] ومواعدة كَانَ يحمل على تحرّك غيم أَو تخَلّل سَحَابَة شَيْئا من الْقَمَر / أَو كَانَ يخيل إِلَيْهِ أَن ذَلِك اتّفق تخيلا لعَارض عرض فِي بَصَره وَمَا كَانَ ذَلِك أَكثر من فلقَة انفصلت ثمَّ عَادَتْ فِي ألطف زمَان. وَأما دُخُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة فمما نقل تواترا، وَنقل أَيْضا دُخُوله مَعَ أَصْحَابه معتدين شاكين فِي الأسلحة وَإِنَّمَا اخْتِلَاف الرِّوَايَات فِيمَا يؤول إِلَى قَصده الْحَرْب أَو قصد السّلم وَالصُّلْح وَذَلِكَ مِمَّا لَا يظْهر. وَأما تكليم عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي المهد فَلم يكن أَيْضا على الْمَلأ بل كَانَ بَين أظهر شرذمة قَليلَة. [1021] فَإِن قيل: مَا تَقولُونَ فِيمَن قَالَ: المعوذتين لم تنقلا نقل سَائِر السُّور؟ قُلْنَا: حاشى لله أَن نقُول ذَلِك، فَإِنَّهُمَا تواترا كَمَا نقل سَائِر السُّور، فقد أكد وَتعرض لِلطَّعْنِ فِي الْقُرْآن، فَثَبت بذلك أَن شَيْئا مِمَّا ذَكرُوهُ لم يكن يقْدَح فِيمَا اسْتَثْنَاهُ، وَتبين فِي قَضِيَّة الْعَادة المستمرة أَن كل أَمر ذِي خطر يَبْدُو على مَلأ لَا يسوغ فِي الْعَادة أَن ينْقل آحَاد وَلَو سَاغَ انخراق الْعَادة لساغ فِي جملَة الْعَادَات وقضاياها، إِذْ الْعلم باستمرار الْعَادة من كَمَال الْعقل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 (181) فصل [1022] قد ذكرنَا فِيمَا قدمنَا طرق الْأَدِلَّة على صدق الْأَخْبَار وَهِي الَّتِي لَا تدل على صدقه وَلَا على كذبه دَلِيل فَمَا كَانَ هَكَذَا لم يقطع بصدقه وَلَا بكذبه. [1023] فَإِن قيل: فمثلوا لنا هَذَا النَّوْع. قُلْنَا: إِنَّمَا يتَصَوَّر ذَلِك فِي الْأَخْبَار عَن الجائزات فَإِن الْمخبر عَنهُ لَو كَانَ مستحيلا عرف قطعا كذب الْمخبر، وَلَو كَانَ وَاجِبا عرف صدق الْمخبر، فَإِذا كَانَ جَائِزا يقدر وُقُوعه وَيقدر فَقده وَلم تدل دلَالَة من الطّرق الي ذَكرنَاهَا على الصدْق، وَلم تدل أَيْضا دلَالَة من السبل الَّتِي أومينا على الْكَذِب، والمخبر عَنهُ جَائِز فِي نَفسه، وَلَيْسَ النقلَة أهل التَّوَاتُر، فَإِذا اجْتمعت هَذِه الأصاف لم يمكنا أَن نقطع بِالصّدقِ وَلَا بِالْكَذِبِ، وَجُمْلَة أَخْبَار الْآحَاد فِي أَحْكَام الشَّرَائِع يحل هَذَا الْمحل. [1024] فَإِن قَالَ قَائِل: مَا أنكرتم على من يَقُول لكم أَن الْخَبَر الَّذِي وصفتموه كذب قطعا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 قُلْنَا: أتعرفون كذبه ضَرُورَة أَو دلَالَة فَإِن ادعيتم معرفَة كذبه ضَرُورَة كُنْتُم مباهتين، على أَنكُمْ تقابلون بِمثل دعواكم على ضدها، وَإِن زعمتم أَنا عرفنَا ذَلِك بِدَلِيل فَمَا دليلكم عَلَيْهِ؟ فَإِن قَالُوا: الدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه لَو كَانَ صدقا لنصب الرب على صدقه دَلِيلا لاتصافه بالاقتدار عَلَيْهِ، فَلَمَّا لم ينصب عَلَيْهِ دَلِيلا قَطعنَا بصدقه، فَإِذا تقَابل الْقَوْلَانِ تساقطا، وَلزِمَ الْمصير إِلَى الْوَقْف، وَترك قطع القَوْل بِأَحَدِهِمَا. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك إِجْمَاع الْأمة على الحكم بِشَهَادَة الشُّهُود مَعَ اتِّفَاقهم على اسْتِحَالَة الْقطع بكذبهم، فَإِن من يقطع بكذبهم يَسْتَحِيل إبرام الحكم بِشَهَادَتِهِم فِي مُوجب الشَّرْع، وَمَعَ ذَلِك فَلَا سَبِيل إِلَى الْقطع بِصدق الشُّهُود مَعَ أَنهم لَا يعتصمون. [1025] فَإِن قيل: ألستم وافقتمونا على أَن من ادّعى النُّبُوَّة وَلم تدل على صدقه دلَالَة قَاطِعَة فتقطع بكذبه، فَمَا أنكرتم مثل ذَلِك فِي كل مخبر عَن الرَّسُول؟ قُلْنَا: قبل أَن نجيب عَمَّا ذكرتموه يلزمكم على قوده جحد الضَّرُورَة فَإنَّا [115 / أ] نعلم / أَن من قطع بِأَن جملَة المخبرين آحَاد عَن الشَّرَائِع وَالديَّان والمعاملات الدائرة كاذبون فقد جحد الضَّرُورَة، فَإنَّا نعلم بضرورة الْعقل أَن فيهم صَادِقين، وَإِن كُنَّا نعلم أَنه لَيْسَ مَعَ كل وَاحِد من المخبرين دلَالَة قَاطِعَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 على صدقه، وطرد مَا ذَكرُوهُ يُوجب عَلَيْهِم تَكْذِيب الشُّهُود لعروهم عَن الدلالات الدَّالَّة على الصدْق. ثمَّ نقُول لَهُم: إِنَّمَا قُلْنَا: فِي المتنبىء مَا قُلْنَاهُ لِأَنَّهُ ثَبت بالأدلة القاطعة أَنا مكلفون بِمَعْرِِفَة نبوة كل نَبِي يظْهر، مخاطبون بِالْقطعِ على عصمته وطهارته وتنزهه فِي سَرِيرَته وَحسن سيرته فِي نوبَته. ثمَّ عرفنَا أَن الْقطع لَا سَبِيل إِلَيْهِ إِلَّا بِدلَالَة تُفْضِي إِلَيْهِ فَمن ادّعى النُّبُوَّة بِلَا دَلِيل وَمن حكمهَا أَن يعلم فَيعلم قطعا كذبه، فانفصل مَا اسْتشْهدُوا بِهِ عَمَّا نَحن فِيهِ. [1026] فَإِن قيل: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن من لَا سَبِيل إِلَى الْقطع بصدقه لَا تقوم الْحجَّة بنقله وَإِذا لم تقم الْحجَّة بنقله اسْتَحَالَ تَعْلِيق الْعَمَل بِهِ. قُلْنَا: هَذَا خلط بَاب بِبَاب، فَإِن مقصدنا من هَذَا الْفَصْل أَن نبين امْتنَاع الْقطع بِالصّدقِ أَو الْكَذِب فِي النَّوْع الَّذِي وصفناه من الْأَخْبَار فَأَما مُوجب الْعَمَل بهَا، وَصِحَّة وُرُود التَّعَبُّد بِوُجُوب الْعَمَل، فمما نستقصيه بعد ذَلِك فِي بَاب مُفْرد إِن شَاءَ الله تَعَالَى، فَسَلمُوا لنا ترك الْقطع بِالْكَذِبِ، ثمَّ كلمونا بعد ذَلِك فِي الْعَمَل كَيفَ يجب، وَلَا تنكر إِلَّا وَيجب الْعَمَل بِإِخْبَار مخبر مَعَ امْتنَاع الْقطع بكذبه. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الشَّاهِد الْوَاحِد لَا يقطع بكذبه إِذْ لَو قطع بكذبه لردت شَهَادَته وَإِن شهد بعده غَيره، ثمَّ مَعَ أَنا لَا نقطع بكذبه لَا نحكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 بِشَهَادَتِهِ، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي العبيد الثِّقَات وَغَيرهم من الَّذين لَا تثبت شَهَادَتهم، فَدلَّ أَن الْعَمَل بالأخبار بمعزل عَن الْقطع بالتصديق أَو التَّكْذِيب كَيفَ وَقد يقطع بِصدق الْخَبَر وَلَا يعْمل بِهِ. فَإِن الْخَبَر الَّذِي نقل عَن صَاحب الشَّرِيعَة تواترا مَقْطُوعًا بِهِ مستيقن الصدْق، فَإِذا ثَبت بِدلَالَة قَاطِعَة نسخ حكمه فَلَا يقلب النّسخ الْخَبَر عَن سمة الصدْق. فقد تبين أَن الحكم بالتصديق والتكذيب مِمَّا لَا تعلق لَهُ بِوُجُوب الْعَمَل وَنفي وُجُوبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 (182) بَاب فِي الْخَبَر الْوَاحِد وَمَعْنَاهُ وَصِحَّة التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بِهِ، وَذكر اخْتِلَاف النَّاس فِيهِ [1027] اعْلَم، وفقك الله، أَن أول مَا نصدر الْبَاب بِهِ معنى خبر الْوَاحِد، فَاعْلَم أَن أَرْبَاب الْأُصُول لَا يعنون بإطلاقهم خبر الْوَاحِد الْخَبَر الَّذِي يَنْقُلهُ الْوَاحِد أَو خبر الْآحَاد فِي الِاصْطِلَاح، وَلَكِن كل خبر عَن خابر مُمكن لَا سَبِيل إِلَى الْقطع بصدقه، وَلَا سَبِيل بكذبه، لَا اضطرارا وَلَا اسْتِدْلَالا، فَهُوَ خبر الْوَاحِد، أَو خبر الْآحَاد فِي اصْطِلَاح أَرْبَاب الْأُصُول، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 سَوَاء نَقله وَاحِد أَو جمع منحصرون. وَقد يخبر الْوَاحِد فَيعلم صدقه كالنبي يخبرنا عَن الغائبات فنعلم صدقه قطعا، وَلَا يعد ذَلِك من أَخْبَار الْآحَاد، فَتبين لَك مَقْصُود الْقَوْم فِي [115 / ب] الِاصْطِلَاح، والمعاني هِيَ / المتبعة دون الْعبارَات. [1028] فَإِذا أحطت علما بذلك فَاعْلَم بعده أَن من النَّاس من زعم أَن الْخَبَر الَّذِي يَنْقُلهُ الثِّقَات عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوجب الْعلم ثمَّ فصلوا القَوْل فِيهِ فَقَالُوا يُوجب الْعلم الظَّاهِر دون الْعلم الْبَاطِن. وَذهب مُعظم الروافض وَمن تَبِعَهُمْ من أهل الْمذَاهب إِلَى أَن خبر الْوَاحِد لَا يَقْتَضِي الْعلم وَلَا يُوجب الْعَمَل، ثمَّ افْتَرَقُوا فرقتان فَزعم جُمْهُور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 الْقَدَرِيَّة وَمن تَابعهمْ من أهل الظَّاهِر كالقاساني وَغَيره أَن التَّعَبُّد بِخَبَر الْوَاحِد محَال عقلا وَزعم بَعضهم أَن وُرُود التَّعَبُّد فِي ذَلِك من جائزات الْعُقُول وَلَكِن لم ترد دلَالَة سمعية صَحِيحَة فِي التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بأخبار الْآحَاد وَزعم الجبائي من الْقَدَرِيَّة أَن التَّعَبُّد لَا يَقع إِلَّا إِذا أخبر اثْنَان عَدْلَانِ ضابطان. وَصَارَ الدهماء من الْعلمَاء وجماهير الْفُقَهَاء إِلَى جَوَاز التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بِخَبَر الْوَاحِد، ثمَّ قَالُوا قد دلّت الْأَدِلَّة على التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بهَا وافترقوا فِي الْأَدِلَّة، فَزعم بعض من غلا فِي ذَلِك أَن الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة لَا تدل على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 وجوب، وَإِنَّمَا الْوُجُوب يتلَقَّى من الْأَدِلَّة السمعية فنعلم عِنْدهَا جَوَاز التَّعَبُّد ويتوصل إِلَى وُجُوبه بدلالات السّمع، ثمَّ الْقَائِلُونَ بِخَبَر الْوَاحِد صَارُوا إِلَى أَن الثِّقَة الْوَاحِد يقبل خَبره وَيعْمل بِهِ وَلَا يشْتَرط عدد مَحْصُور فِي الروَاة وَهَذَا مَذْهَب ابْن الجبائي وَأَتْبَاعه. [1029] فَهَذِهِ جمل الْمذَاهب وَهَا نَحن نرد على الْبَاطِل مِنْهَا، ونختار الصَّحِيح، فَالصَّحِيح جَوَاز التَّعَبُّد عقلا وَثُبُوت وُجُوبه بالأدلة السمعية الَّتِي سنذكرها، ثمَّ لَا نصير إِلَى أَن خبر الْوَاحِد مِمَّا يعلم بِهِ صدقه، فَهَذَا مِمَّا ننصره ونذب عَنهُ، ونرد على كل مَذْهَب سواهُ. [1030] فَأَما وَجه الرَّد على من زعم أَن خبر الْوَاحِد يعلم صدقه ظَاهرا فَيُقَال لَهُ: أَنْت لَا تَخْلُو إِمَّا أَن تَقول أَن من أخبرنَا نقطع بصدقه وَلَا يجوز أَن يغلط وَلَا يزل، أَو يسوغ أَن يتَعَمَّد الْكَذِب، أَو لَا يجوز أَن يكون مَاجِنًا فَاسِقًا بَاطِنا، وزيه زِيّ الْعدْل، فَإِن لم تقرروا هَذِه الْأَوْجه فقد صرفتم عَن الْمَعْقُول، فَإنَّا نعلم قطعا أَن تَجْوِيز مَا ذَكرْنَاهُ لَيْسَ من المستحيلات، فَإِذا لم يكن مستحيلا لم يبْق إِلَّا أَن يكون جَائِزا، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَين الاستحالة وَالْجَوَاز رُتْبَة، وأنى يسوغ الْمصير إِلَى اسْتِحَالَة تَجْوِيز الْكَذِب مَعَ أَنا نعلم ظُهُور كثير من ذَلِك فِي الْعَادَات فكم من شخص ظن عَن أَعلَى رُتْبَة الْعَدَالَة وَصدق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 القَوْل ثمَّ تبين [خبث] دَخلته وَفَسَاد سَرِيرَته، فَمَا من أحد يخبر مِمَّن لَا تجب عصمته إِلَّا وَهَذَا وَصفه فِي الْجَوَاز. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك اتِّفَاق الكافة على أَنا لَا نعلم صدق الشُّهُود فِيمَا يشْهدُونَ فِيهِ مَعَ ظَاهر عدالتهم، فَالْخَبَر يحل هَذَا الْمحل. فَإِذا ثَبت تَجْوِيز الْكَذِب فَكيف يتَحَقَّق مَعَه الْعلم بِالصّدقِ. [1031] فَإِن قيل: فَالَّذِي أطلقتموه وَهُوَ الْعلم الْبَاطِن، وَالَّذِي أطلقناه هُوَ الْعلم الظَّاهِر. قُلْنَا: هَذَا الْكَلَام خلو عَن التَّحْقِيق فَإِن الْعلم مهما تحقق اسْتَحَالَ أَن يُجَامع الريب سَوَاء كَانَ علما بِظَاهِر أَو بَاطِن، فَإِن الْعلم يتَعَلَّق بالشَّيْء على مَا هُوَ بِهِ، وَلَا يَسْتَقِيم إِطْلَاق الْعلم مَعَ جَوَاز ضِدّه، اللَّهُمَّ، وَأَن يعنوا بِالْعلمِ الظَّاهِر سماعهم الْخَبَر، فَسلم لَهُم / ذَلِك فَإِنَّهُ يعلم ضَرُورَة، فَأَما الصدْق فَلَا [116 / أ] سَبِيل إِلَى علمه، وَإِن حملُوا الْعلم بِالظَّاهِرِ على غَلَبَة الظَّن فيرتفع الْخلاف فِي الْمَعْنى، فيؤول الْكَلَام إِلَى المناقشة فِي الْعبارَة. [1032] فَإِن قَالُوا يسوغ إِطْلَاق الْعلم فِي مثل هَذِه الْمنزلَة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِن علمتموهن مؤمنات} ، مَعَ أَن نعلم أَنا لَا نتوصل إِلَى الْقطع بالسرائر وَمَا تكنه الْقَرَائِن من الضمائر. قُلْنَا: الْآن بَعْدَمَا ارْتَفع الْخلاف فِي الْمَعْنى فَلَا نحجزكم من التَّجَوُّز بالعبارات وَالْعرب قد تسْتَعْمل الظَّن م مَوضِع الْعلم، وَقد تضع الْعلم مَوضِع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 الظَّن والحسبان، وَفِي الْمجَاز متسع، على أَنا نقُول: الْمَعْنى بقوله تَعَالَى: {فَإِن علمتموهن مؤمنات} . أَي فَإِن علمتموهن متلفظات بِالْإِيمَان فَهَذَا مِمَّا نعلم قطعا وَيبقى بعد ذَلِك الْكَلَام فِي تَجْوِيز القَوْل إِيمَانًا وَهُوَ خَارج عَن مسئلتنا، فَهَذَا وَجه الرَّد على هَؤُلَاءِ، مَعَ أَن كل مَا يذكرُونَهُ يبطل عَلَيْهِم بِشَهَادَة الشُّهُود إِذْ لَا خلاف فِيهَا. [1033] وَأما وَجه الردعلى من أنكر جَوَاز وُرُود التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بِخَبَر الْوَاحِد فَهُوَ أَن نقُول: الْجَوَاز والاستحالة معلومان بقضية الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة، فَكل مَا انحسمت فِيهِ طرق الاستحالة وَجب الْقطع بِجَوَازِهِ، والتعبد بِخَبَر الْوَاحِد مِمَّا لَا يَسْتَحِيل عقلا. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَو أسمعنا عَزِيز كَلَامه، أَو أخبر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنهُ وَقَالَ: اعلموا أَن ربكُم يَقُول لكم. مهما نقل موثوق بِهِ ظَاهرا مَعَ انطواء الْبَاطِن عَنْكُم خَبرا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاعملوا بِمُوجبِه، وَإِن جوزتم كذبه وَغلب على ظنكم صدقه، فاعلموا أَن أَخْبَار من هَذَا وَصفه وغلبه ظنونكم آتٍ فِي إِثْبَات وجوب الْعَمَل عَلَيْكُم، فَمثل هَذَا لَو قدر لم يكن مستحيلا، وَلم يكن كَمَا لَو قدر مُقَدّر تَكْلِيف الْمحَال وَجمع المتضادات إِلَى غير ذَلِك من ضروب المستحيلات. وَالَّذِي يعضد الْأَدِلَّة بِهِ اتِّفَاق الكافة على ثُبُوت التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بقضية شَهَادَة الشُّهُود فِي الحكومات والخصومات مَعَ الاسترابة فِي الصدْق وَالْكذب، وَكَذَلِكَ أَجمعُوا على صِحَة الْمصير إِلَى قَول الْمُفْتِي فِي الْحَوَادِث مَعَ تقَابل الجائزات فِي حَقه، فَكَذَلِك من أخبر عَن نَفسه بِإِيمَان أَو كفر فقد ثَبت التَّعَبُّد بالجري على مُوجب قَوْله مَعَ جَوَاز كذبه، فَتبين التحاق ذَلِك بالجائزات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 [1034] وللمخالفين فُصُول يتمسكون بهَا بَين الشَّهَادَات وَالْأَخْبَار، وَنحن نومىء إِلَى معظمها ونبين فَسَادهَا. فَإِن قَالُوا: لَا يسوغ الاستشهاد بالشهادات وَذَلِكَ أَن التَّعَبُّد بهَا ثَابت بالأدلة، وَلَيْسَ كَذَلِك الْأَخْبَار. قُلْنَا: لاتضربوا بِإِثْبَات وَلَا تتخبطوا، فان الْمَقْصد من ذَلِك ثبيت الْجَوَاز الْعقلِيّ، فَهَلا جوزتم أَن يثبت على الْأَخْبَار وَالْقَصْد بهَا من الْأَدِلَّة السمعية مَا ثَبت على الشَّهَادَات، وَهَذَا مَا لَا محيص لَهُم عَنهُ، فتدبره، ثمَّ نقُول قد ثَبت أَخْبَار الْآحَاد بالأدلة السمعية القاطعة للمقادير على مَا سنذكرها بعد ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى، فَلَا فصل. ] 1035] فَإِن قَالُوا: الْفرق بَين الشَّهَادَة وَالْأَخْبَار أَن الشَّهَادَة نازلة منزلَة إِقْرَار الْمَشْهُود عَلَيْهِ وَلَو أقرّ حكم عَلَيْهِ بِهِ مَعَ ترداد إِقْرَاره م بَين الصدْق وَالْكذب فَنزلت الشَّهَادَة منزلَة الْإِقْرَار فَينزل الْخَبَر منزلَة إِخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإخبار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعلم صدقه قطعا، [116 / 5] فَكل خبر علم صدقه أقيم مقَام أَخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَنَقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه لَا ينجيكم عَمَّا أُرِيد بكم فَإِن مقصدنا تثبيت جَوَاز التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بِمَا لم يعلم صدقه، وَمَا ذكرتموه من نزُول الشَّهَادَة منزلَة الْإِقْرَار لَا يغنيكم، فَإِن الْإِقْرَار الَّذِي إِلَيْهِ مستروحكم أقوى الْحجَج عَلَيْكُم، فَإِنَّهُ يحكم بِهِ مَعَ تردد، فَإِذا انْقَلب مَا قدروه انفصالا اسْتِدْلَالا عَلَيْهِم فقد بَطل مَا راموه، على أَن نقُول قد ثبتَتْ الشَّهَادَة فِي مَوضِع لَا يَصح فِيهِ الْإِقْرَار، وَهُوَ الشَّهَادَات على الْأَطْفَال والمجانين وَالْعَبِيد فِي بعض أحكامهم، فاضمحل مَا قَالُوهُ على أَنا نقُول ذكر الشَّهَادَة لَيْسَ من أَرْكَان الدّلَالَة الَّتِي عولنا عَلَيْهَا فَإِن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 الدّلَالَة مُسْتَقلَّة بِنَفسِهَا دون ذكر الشواهد وَلَو قدرناكم مِمَّا يعين فِي الشَّهَادَات لاطرحت الدّلَالَة عَلَيْكُم فِي الْأَخْبَار والشهادات مَعًا، فَإنَّا بَينا أَن تَقْدِير وُرُود التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ لَيْسَ من المستحيلات الَّتِي لَا يتَصَوَّر التَّوَصُّل إِلَيْهَا. وَقد ذكرنَا فِيمَا قدمنَا أَن كل مَا يَصح اكتسابه صَحَّ وُرُود التَّكْلِيف بِهِ، وَلَو تتبعنا الْأُصُول الْفَاسِدَة للمعتزلة فِي بِنَاء التَّكْلِيف على مصَالح الْخلق وَطلب اللطف لم يبعد اسْتِمْرَار الدّلَالَة على هَذَا الأَصْل، وَأَنا نقُول: يجوز أَن يعلم الرب تَعَالَى أَنه لَو تعبد عبيده بِالْعَمَلِ بأخبار الْآحَاد لأطاعوا وتحسسوا عَن صِفَات الْعَدَالَة، واستوجبوا بالبحث عَنْهَا الْأجر الجزيل، وَلَو نصب الْأَدِلَّة القاطعة لعلم أَن ذَلِك كَانَ يُؤَدِّي إِلَى الْمفْسدَة، فَلم يسْتَحل مَا قُلْنَاهُ على وَاحِد من الْأُصُولِيِّينَ. [1936] فَهَذَا وَجه الرَّد على هَؤُلَاءِ، فَلم يبْق لَهُم معتصم سوى أَن يَقُولُوا فجوزوا وُرُود التَّكْلِيف بِالْعَمَلِ بِخَبَر الْفَاسِق، قُلْنَا: وَهَذَا مَا نقُول بِهِ، وَلَا نتحاشى مِنْهُ، وَهُوَ من مجوزات الْعُقُول وَلَكِن وَردت الْأَدِلَّة السمعية بِمَنْع ذَلِك. [1037] وَأما وَجه الرَّد على من زعم أَن خبر الْوَاحِد يجب التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بِهِ عقلا وسمعا فَوَاضِح الْبطلَان، فَإنَّا قدمنَا فِي صدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 الْكتاب، وسنشبع فِي إثْبَاته القَوْل باستحالة أَوْصَاف الْوُجُوب إِلَى مدارك الْعُقُول، وَحصر دَرك الْأَحْكَام فِي السمعيات، وَلَيْسَ للْقَوْم عصمَة يعتصمون بهَا مِمَّا يُسَاوِي الْحِكَايَة، فَرَأَيْنَا الإضراب عَن شبههم. [1038] وَأما وَجه الرَّد على من زعم أَن التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بالْخبر الْوَاحِد من الجائزات عقلا وَلَكِن لم تدل دلَالَة سمعية على ثُبُوت التَّعَبُّد إِذْ دلّت الْأَدِلَّة السمعية على منع التَّعَبُّد فوضح على هَؤُلَاءِ أَن الدّلَالَة السمعية القاطعة فِي التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ، ثمَّ ننعطف على شبههم ونتفصى عَنْهَا بعون الله تَعَالَى. فَمن أوضح الْأَدِلَّة إِجْمَاع الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعي التَّابِعين إِلَى أَن تبع المخالفون، وَوجه الْإِيضَاح فِي ادِّعَاء الْإِجْمَاع أَن نقُول: رَأَيْت الصَّحَابَة فِي الصَّدْر الأول تلم بهم الْحَوَادِث ومشكلات الْأَحْكَام فِي الْحَلَال وَالْحرَام فَكَانُوا يَلْتَمِسُونَ فِيهَا أَخْبَارًا عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم / وَإِذا روى لَهُم تسرعوا إِلَى [117 / 1] الْعَمَل بِهِ، فَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده، وَلَا سَبِيل أَيْضا إِلَى حصر الْأَمر فِيهِ، فَإِنَّهُ لَو انحصرت الْأَخْبَار الَّتِي استروحوا إِلَيْهَا مستفيضة لقارنت الْآحَاد ووهاها ادِّعَاء الْإِجْمَاع، على أَنا نومئ إِلَى قصَص مستفيضة، مِنْهَا: أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أشكل عَلَيْهِ خبر الْجَنِين فاستفتى فِيهِ الْأَصْحَاب مستشيرا لَهُم مسترشدا حَتَّى روى حمل بن مَالك بن النَّابِغَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 حَدِيث الْجَنِين فِي قصَّة تطول، وَرجع الصّديق رَضِي الله عَنهُ إِلَى مَا رُوِيَ فِي حَدِيث الْجدّة وَرجع عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فِي السُّكْنَى إِلَى حَدِيث فريعة بنت مَالك وَرجع عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِلَى جمل من الْأَحَادِيث بيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 أَنه رُبمَا كَانَ يحْتَاط فَيحلف الرَّاوِي إِن استراب فِي رِوَايَته ثمَّ كَانَ يعْمل بِخَبَرِهِ. وَمن ذَلِك أَن زيد بن ثَابت كَانَ يروي أَن الْحَائِض الناسكة لاتصدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 عَن مَكَّة حَتَّى تطهر وتودع الْبَيْت فروت لَهُ أنصارية أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رخص لَهَا فِي الصَّدْر دون وداع وَمن ذَلِك مَا روى أَن مُعَاوِيَة بَاعَ آنِية من فضَّة بِأَكْثَرَ من وَزنهَا فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء قد نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك فَقَالَ مُعَاوِيَة لَا أرى بذلك بَأْسا فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء من يعذرني من مُعَاوِيَة أخبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويخبرني عَن رَأْيه وَالله لَا أساكنه بِأَرْض أبدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 وَمن الْقَصَص الْمَشْهُورَة مَا لَا تحصى كَثْرَة من مراجعاتهم زَوْجَات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْأُمُور الْبَاطِنَة من الْغسْل، وَنَحْوه، وجاحد رُجُوع الصَّحَابَة إِلَى الْأَخْبَار فِي المشكلات يقرب من جحد التَّوَاتُر. وَكَذَلِكَ التابعون كَانُوا من أحرص النَّاس على جمع أَخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْعَمَل بهَا، وَكَانُوا يوبخون الْجَامِع الَّذِي لَا يعْمل بِمَا جمع. [1039] فان قَالُوا لَا سَبِيل إِلَى جحد عَمَلهم على وفْق وَمُوجب الْأَخْبَار فَمن أَيْن لكم أَنهم عمِلُوا بهَا وَمَا أنكرتم على من يَقُول لكم أَنهم عمِلُوا بأدلة غير الْأَخْبَار فَوَافَقت أَعْمَالهم مُوجبَات الْأَخْبَار. قُلْنَا: هَذَا أَخذ مِنْكُم بيد، وَإِعْطَاء بيد أُخْرَى، فَكَمَا عرفنَا علمهمْ مَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 نفيتموه فَكَذَلِك عرفنَا تسرعهم إِلَى الْعَمَل بالأخبار والجري على مُوجبهَا وَترك الآراء بهَا وَالْخُرُوج عَن حيّز اللّبْس إِلَى حيّز التجلي، كَانُوا يطْلبُونَ الْأَخْبَار يتوقفون فِي الْحَوَادِث على رِوَايَتهَا حَتَّى إِذا رويت لَهَا ركنوا إِلَيْهَا وَعمِلُوا بهَا فِيمَا عرفنَا مُوَافقَة أَعْمَالهم فِي الْحَوَادِث لأخبار الْآحَاد استفاضة، فَكَذَلِك عرفنَا بطرِيق الاستفاضة تسرعهم إِلَى الْعَمَل بمقضى الْأَخْبَار، وَهَذَا مَا لَا خَفَاء بِهِ. وَالَّذِي يعضد الدّلَالَة أَن نقُول كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعرف فِي زَمَانه بالأخبار المستفيضة وَاعْلَم بمواقعها فَإِنَّهُم كَانُوا أهل الْعَصْر وَقد شهدُوا وَغَابَ غَيرهم، وَلَو كَانُوا مَا يعْملُونَ بِهِ من الْأَخْبَار مستفيضة لما تحقق فِي مجاري الْعَادة التصلب لَهَا والبحث عَنْهَا والمناشدة فِيهَا والتربص فِي تَنْفِيذ الْأَحْكَام حَتَّى يروي لَهُم الْوَاحِد خَبرا فيعملون بِهِ. [1040] فان قَالُوا لَئِن ثَبت عَنْهُم ردهَا، فَأول من ردهَا [117 / 5] رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم / فَإِنَّهُ لما سلم من اثْنَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ أقصرت الصَّلَاة أم نسبت فَلم يعول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله، وَسَأَلَ أَبَا بكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 وَعمر، وَصَحَّ أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ رد خبر الْمُغيرَة بن شُعْبَة فِيمَا رَوَاهُ من مِيرَاث الْجدّة ورد عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ خبر عُثْمَان فِيمَا رَوَاهُ من اسْتِئْذَان الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رد الحكم بن أبي العَاصِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 وَكَذَلِكَ رد على خبر ابْن أبي سِنَان الْأَشْجَعِيّ فِي قصَّة بروع بنت واشق ورد عمر حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس ورد أَيْضا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 أبي مُوسَى لما انْصَرف عَن بَابه ثمَّ رد عَلَيْهِ فَقَالَ معتذرا سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الاسْتِئْذَان ثَلَاث فَإِن أذن لكم وَإِلَّا فانصرفوا قَالُوا فقد صَحَّ مِنْهُم رد الْأَحَادِيث. [1041] فَنَقُول لَيْسَ فِي شَيْء مِمَّا ذكرتموه معتصم فَأَما قصَّة ذِي الْيَدَيْنِ فدليل عَلَيْكُم فَإِنَّهُ قبل فِيهَا خبر أَبَا بكر عمر وَأَنْتُم إِذا أنكرتم ثمَّ خبر الْآحَاد تنكرون خبر الثَّلَاثَة كَمَا تنكرون خبر الْوَاحِد، أما حَدِيث الْأَشْجَعِيّ فَإِنَّمَا رده عَليّ رَضِي الله عَنهُ لِأَنَّهُ لم يكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 عدلا موثوقا بِهِ على شَرَائِط الروَاة، وَلِهَذَا قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي تهجينه مَا كنت لأقبل قَول أَعْرَابِي بوال على عَقِبَيْهِ، وأقصى مَا روى عَنهُ رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ إِذا اتهمَ بعض الروَاة حلفه على رِوَايَته وَلَيْسَ هَذَا رد مِنْهُ لأخبار الثِّقَات. وَأما حَدِيث أبي مُوسَى فِي الاسْتِئْذَان فَإِنَّهُ من قبيل مَا سبق فَإِن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ مَا رد خَبره بل طلب من شهد لَهُ، وَأما حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس فقد اتهمها عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ ولعمرنا كَانَت هِيَ متهمة فَإِنَّهَا نقلت خَبرا يَقْتَضِي نفس السُّكْنَى وَلم تنقل سَببه وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك إخْرَاجهَا من مسكن النِّكَاح بذاءة لسانها واستطالتها على أحمائها فنقلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 إخْرَاجهَا من مسكن النِّكَاح وَلم تتعرض لنقل الْمُقْتَضى لذَلِك فَتبين بطلَان مَا قَالُوهُ من كل وَجه، على أَن مَا استروحوا من طرق الرَّد لَا تبلغ أَنْت تكون استفاضة وَلكنهَا آحَاد، وَمَا استروحنا إِلَيْهِ ثَبت استفاضة. [1042] وَمن اوضح مَا يسْتَدلّ بِهِ فِي الْمَسْأَلَة مَا ظهر عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بعثة الرَّسُول والحكام والولاة والسعاة فِي الأقطار جماعات ووحدانا، كتأميره أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ فِي الْمَوْسِم وتوليته عمر رَضِي الله عَنهُ على الصَّدقَات وَبَعثه معَاذًا إِلَى الْيمن، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى وَلَا يحصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 وَكَذَلِكَ سعاته، وخارصوه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَأبي عُبَيْدَة وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَعَمْرو بن حزم، وَقيس بن عَاصِم، وَمَالك بن نُوَيْرَة، وَغَيرهم، فَهَذَا من أوضح الْأَدِلَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 على أَنه كلف الْمَبْعُوث إِلَيْهِم الْعَمَل بالْخبر الْوَاحِد وتلقيه بِالْقبُولِ وَهَذَا مَا لَا منجا عَنهُ للخصم. [1043] فان قَالُوا: إِن كَانَ يَبْعَثهُم فِي أُمُور سبق من الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إعلامهم إِيَّاهَا واتفاقهم عَلَيْهَا فَمَا كَانُوا / ينقلون الْأَحْكَام من الْأَخْبَار. [118 / 1] قُلْنَا: الْآن قد أبديتم صفحة العناد فَإنَّا نعلم قطعا أَن رسل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا يخبرون عَن أَحْكَام لَا تتتلقى إلامنهم، وأنى يسوغ مِنْهُم أَن يدعوا أَن سكان إقليم الْيمن جبالها وسهلها كَانُوا قد سبقوا إِلَى معرفَة كل مَا أخْبرهُم معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ، وَكَذَلِكَ وَجه التَّقْرِير عَلَيْهِم فِي الرُّسُل حَتَّى يصل الرُّسُل يخبرون عَمَّا حملُوا، وَهَذَا مَالا سَبِيل إِلَى جَحده. [1044] وَقد اسْتدلَّ أَصْحَابنَا بفصلين، أَحدهمَا: قبُول الشَّهَادَات وَالْحكم بهَا مَعَ الاسترابة فِيمَا تشهد بِهِ الشُّهُود، وَقد قدمنَا فِي ذَلِك كلَاما مغنيا. والفصل الثَّانِي: الْمصير إِلَى قَول الْمُفْتِي فِي المجتهدات فَإِن هَذَا مجمع عَلَيْهِ لم يُنكره السّلف وَالْخلف مَعَ علمنَا بَان الَّذِي يُفْتِي بصدد الزلل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 وَلست أخْتَار لَك التَّمَسُّك بِهَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ ابْتِدَاء، فَإنَّك تكون فِي ذَلِك طاردا وَلَا تستمر دلالتك على سير الْأُصُولِيِّينَ، وقصاراه أَن يَقُول لَك الْخصم: قد ثَبت الشَّهَادَة وَالْفَتْوَى بِدلَالَة قَاطِعَة لم يثبت الْخَبَر بِمِثْلِهَا، [فتلجئك] الضَّرُورَة إِلَى ذكر الْأَدِلَّة على وجوب الْعَمَل بأخبار الْآحَاد فاكتف بِمَا سبق، وَأعد هذَيْن الْفَصْلَيْنِ لنقض شبه الْمُخَالفين. [1045] فَإِن تمسك من أنكر الْعَمَل باخبار الْآحَاد بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} . الْآيَة. [فقد] قدمنَا وَجه الْكَلَام على هَذِه الْآيَة فِيمَا سبق وَإِن استروحوا إِلَى رد الصَّحَابَة أَخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي نقلهَا الْآحَاد فقد قدمنَا فِيهِ كلَاما شافيا، وَإِن انعطفوا على شُبْهَة من منع التَّمَسُّك بأخبار الْآحَاد عقلا، فقد أوضحنا وَجه الرَّد عَلَيْهِم وتقصينا كل شُبْهَة لَهُم، على أَن كل مَا يتمسكون يبطل عَلَيْهِم بالشهادات وَالْفَتْوَى. [1046] فَإِن اسْتدلَّ من شَرط الْعدَد فِي الرِّوَايَة بِبَعْض مَا قدمْنَاهُ من الْقَصَص فِي اشْتِرَاط الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم رِوَايَتَيْنِ فِي جمل من الْأَحْكَام، فَأول مَا نفاتح بِهِ هَؤُلَاءِ أَن نقُول لَئِن سَاغَ لكم التَّمَسُّك بِمَا أشرتم إِلَيْهِ فَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 قَوْلكُم فِيمَا استفاض فِيهِ قبُول خبر الْوَاحِد كَمَا قبلوا خبر الصّديق فِي أَحْكَام، وقبلوا حَدِيث عَائِشَة فِي جمل من أَحْكَام الشَّرَائِع وَرجع عمر رَضِي الله عَنهُ إِلَى مَا روى عَليّ فِي قصَص لَا تحصى وَلَا تحصر، وَرَجَعُوا إِلَى مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، وعول أهل الْعَصْر على رِوَايَة رَافع بن خديج فِي النَّهْي عَن المخابرة وَهَذَا مِمَّا يطول تتبعه وَكَذَلِكَ بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفرادا من رسله كمعاذ وَعمر وَغَيرهمَا وَبعث عليا وَحده إِلَى مَكَّة ليبين لَهُم بَرَاءَة الله من الْمُشْركين، فِي غير ذَلِك. وَأما الْقَصَص الَّتِي استروحوا إِلَيْهَا فَفِي كل وَاحِد مِنْهَا عذر بَين. وَأما حَدِيث الْمُغيرَة فِي مِيرَاث الْجدّة فانما توقف الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَن الْمُغيرَة لم ينْقل لَفْظَة عَامَّة عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلكنه نقل قَضَاء فجوز الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَن يكون ذَلِك خَاصّا غير عَام فتوقف حَتَّى نقل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 [118 - ب] مُحَمَّد بن مسلمة لَفْظَة عَامَّة، وَأما حَدِيث عُثْمَان / رَضِي الله عَنهُ فقد قيل أَن الحكم ادّعى إِذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأقَام عُثْمَان مقَام الشُّهُود وَكَانَ مفصل حكم، فَاشْتَرَطُوا فِي ذَلِك عددا، على أَن من الصَّحَابَة من كَانَ يرد شَهَادَة الْقَرِيب للقريب، وَكَانَ الحكم قريب عُثْمَان، وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ مَشْهُورا بِأَنَّهُ كلف بأقاربه وَأما حَدِيث أبي مُوسَى فِي الاسْتِئْذَان فَإِنَّمَا كَانَ لِأَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ هم بتأديبه، فَلَمَّا روى الْخَبَر كَانَ كالدافع عَن نَفسه، فَاشْترط رِوَايَة غَيره فَبَطل مَا قَالُوهُ، وَقَامَت الْحجَّة عَلَيْهِم بعادات أَصْحَاب الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبعثته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَفْرَاد الرُّسُل فِي الأقطار. [1047] ثمَّ نقُول للجبائي: لقد ابتدعت قولا لم تسبق إِلَيْهِ، وَمَا نرَاك إلاتوصلت إِلَى دَرك الْأَخْبَار، وَذَلِكَ أَنَّك قلت إِذا نقل عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا بِدَم، اثْنَتَيْنِ ثمَّ إِذا نقل عَن الناقلين فَلَا بُد فِي كل نقل من ناقلين هَكَذَا إِلَى أَن تَنْتَهِي النّوبَة إِلَيْنَا، وَنحن نعلم أَن هَذَا الْعدَد لَو جمع وَقد توالت الْأَعْصَار وَبلغ النقلَة عشرَة فَصَاعِدا فيبلغون عدد التَّوَاتُر، وَيزِيدُونَ، وَلَو تتبعنا الْأَخْبَار لم نجد فِيهَا على شرطك إِلَّا الْقَلِيل، فَهَذَا تَصْرِيح مِنْكُم برد أَخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 فأوضح بالمذاهب وانتمى إِلَى الروافض وَإِلَى أدمن الْأَخْبَار. (183) القَوْل فِي صِفَات الروَاة [1048] اعْلَم، وفقك الله، أَن الْعلمَاء أَجمعُوا على أَن الْخَبَر لَا يقبل من كل أحد وَاتَّفَقُوا على إِن الَّذين يقبل خبرهم وَيجب الْعَمَل بِهِ يتميزون عَن الَّذين يرد خبرهم بأوصاف، اخْتلفُوا فِي بَعْضهَا، وَاتَّفَقُوا فِي بَعْضهَا، وَنحن نذْكر الْآن مِنْهَا مَا فِيهِ كِفَايَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى، فَأول مَا نبدأ بِهِ أَن نقُول: الشَّرْط ان يحْتَمل الْخَبَر مُمَيّز ضَابِط فَلَو قَرَأت مسامع الصَّبِي الَّذِي لَا يُمَيّز الْأَخْبَار لم يجز لَهُ رِوَايَتهَا إِذا بلغ مبلغ الرِّوَايَة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَعَ الِاتِّفَاق أَن الرِّوَايَة فِي التَّحْقِيق إِنَّمَا هُوَ نقل مَا سَمعه، وَلنْ يتَحَقَّق نقل مَا سَمعه إِلَّا بعد أَن يُعلمهُ، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْمَجْنُون لَو سمع فِي جُنُونه ثمَّ أَفَاق لم يسع رِوَايَة لَهُ. [1049] فَإِن قيل: أفتشترطون أَن يعلم مَعَاني الْأَخْبَار؟ قُلْنَا: لَا نشترط ذَلِك، كَيفَ وَلَا نشترطه فِي الرِّوَايَة فَإنَّا نصحح رِوَايَة الشي ءمع أَن الرَّاوِي لَا يعلم مَعْنَاهُ فَإِذا لم نشترطه فِي الرِّوَايَة فَكيف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 نشترطه فِي التَّحَمُّل، فَهَذَا مَا لَا نشترط فِي التَّحَمُّل. [1050] فَأَما مَا عداهُ من الْأَوْصَاف الْمَشْرُوطَة فِي الأدار أَو الرِّوَايَة فَلَا نشترط فِي التَّحَمُّل، [فَلَو] تحمل وَهُوَ فَاسق أَو كَافِر ثمَّ استجمع شَرَائِط الروَاة فروى مَا علم هُوَ لصَحَّ ذَلِك فَهَذَا فِي التَّحَمُّل عَنهُ. [1051] فَأَما فِي الرِّوَايَة فَلَا بُد من أَوْصَاف. أَحدهمَا: كَمَال الْعقل، وَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ وَهُوَ وَاضح بطرِيق الْحجَّاج. وَمِنْه: الْإِسْلَام، فَإِن الْكَافِر لَا تقبل رِوَايَته لإِجْمَاع الْأمة، وَمِنْهَا: الْبلُوغ، فَإِن الصَّبِي لَا تقبل رِوَايَته للْأَخْبَار، وَقد ادّعى القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي ذَلِك الْإِجْمَاع، وَهَذَا مَا الفيته فِي كتب الْأُصُول، وَكَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 الإِمَام رَضِي الله عَنهُ / يَحْكِي وَجها بَعيدا فِي صِحَة رِوَايَة الصَّبِي وَلَعَلَّه [119 / 1] قد كَانَ أسْقطه، وَالله أعلم، ثمَّ أعتلوا من اشْتِرَاط الْبلُوغ فَقَالُوا: رددنا رِوَايَة الْفَاسِق لقلَّة مبالاته واكتراثه بالديانة وَالْأَمَانَة واجترائه على الْكَبَائِر وَهَذَا الْمَعْنى يتَحَقَّق فِي الصَّبِي إِذا علم بِأَنَّهُ لَا يُكَلف وَلَا يُؤَاخذ بِمَا يبدر مِنْهُ، فَهَذَا أولى بِأَن يجريه على الْكَذِب من الْفسق، فَإِن الْفَاسِق من اجترائه رُبمَا يتداخله فِي الْأَحَايِين الْمُؤَاخَذَة فِي الْعَاقِبَة، وَالصَّبِيّ لَيْسَ كَذَلِك، وَاعْتَلُّوا ايضا بِأَن إِقْرَاره على نَفسه لَا يقبل فَلِأَن لايقبل خَبره فِي حق غَيره أولى وَهَذَا فِيهِ دخل فان العَبْد رُبمَا لَا يقبل إِقْرَاره على نَفسه فِي حكم وَلَو نقل فِيهِ خَبرا عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل مِنْهُ. وَالَّذِي عول القَاضِي عَلَيْهِ فِي ذَلِك الْإِجْمَاع، فاعلمه. [1052] وَمن الْأَوْصَاف الْمَشْرُوطَة فِي الرِّوَايَة: الْعَدَالَة، فَاعْلَم أَن الْفسق مهما ظهر اقْتضى ذَلِك رد الرِّوَايَة إِجْمَاعًا. ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 ذَلِك فَذهب أَصْحَاب أبي حنيفَة رَحمَه الله إِلَى أَن من ثَبت إِسْلَامه ظَاهرا وَلم نعلم مِنْهُ فسقا فَهُوَ فِي حكم الرِّوَايَة عدل، قَالُوا كَذَلِك فِي الشَّهَادَة على الْأَمْوَال، وَأَجْمعُوا اشْتِرَاط ثُبُوت الْعَدَالَة فِي الشَّهَادَة على الْحُدُود وَمَا يتَعَلَّق بالأبضاع، وسنفرد الْكَلَام عَلَيْهِم بعد الْفَرَاغ من تَفْصِيل الْمذَاهب. وَمَا اخْتَارَهُ الدهماء من الْعلمَاء الْقَائِلين بأخبار الْآحَاد أَنا لَا نكتفي بِمَا اكتفوه بِهِ وَلَكنَّا نشرط ثُبُوت أَوْصَاف الْعَدَالَة فِي الشَّهَادَة وَالْعلم بهَا أَو غَلَبَة الظَّن. [1053] فَإِن قيل: فَمَا الْعَدَالَة الَّتِي ذكرتموها؟ قيل: قد أَكْثرُوا فِي ذَلِك وَلم يُحَقّق أحد فِي ذَلِك قولا جَامعا مَانِعا، وَأكْثر مَا قَالَه الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَن قَالَ: لَيْسَ فِي النَّاس من يمحض الطَّاعَة فَلَا يمزجها بِمَعْصِيَة وَلَا فِي الْمُسلمين من يمحض الْمعْصِيَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 فَلَا يمزجها بِطَاعَة، وَلَا سَبِيل إِلَى رد الْكل وَلَا إِلَى قبُول الْكل وَإِذا كَانَ الْأَغْلَب على الرجل من أمره الطَّاعَة والمروءة قبلت شَهَادَته، وَإِذا كَانَ الْأَغْلَب من أمره الْمعْصِيَة وَخلاف الْمُرُوءَة ردَّتْ شَهَادَته وَرِوَايَته. قَالَ أَبُو بكر الصَّيْرَفِي فِيمَن قارف كَبِيرَة ردَّتْ شَهَادَته وَمن قارف صَغِيرَة لم ترد شَهَادَته وَلَا رِوَايَته، وتتابع الصَّغَائِر كمقارفة الْكَبَائِر وَقَالَ هُوَ أَيْضا: لَو ثَبت كذب الرَّاوِي لردت شَهَادَته إِذا تَعَمّده، وَإِن كَانَ لَا يعد الْكَذِب فِيهِ من الْكَبَائِر، لِأَنَّهُ قَادِح فِي نفس الْمَقْصُود بالرواية. وَقد ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ عبارَة جَامِعَة فِي الْعَدَالَة فَقَالَ: الْعَدَالَة اتِّبَاع أَمر الله على الْجُمْلَة، وَمُخَالفَة أَمر الله تَعَالَى تضَاد الْعَدَالَة، ثمَّ تثبت الْعَدَالَة فِي شَيْء بِاتِّبَاع أَمر الله فِيهِ، وَلَا يمْنَع من تحَققه ثُبُوت الْمُخَالفَة فِي غَيره. [1054] فَإِن قيل: فَهَذَا ذكر على الْجُمْلَة فَمَا عَدَالَة الرَّاوِي. قُلْنَا: لَا نشترط تحقق الْعَدَالَة فِيهِ من كل وَجه لما قدمْنَاهُ. وَلَكِن إِجْمَاع القَوْل فِيهِ أَن يُقَال: الْعدْل المشتهر بأَدَاء الْفَرَائِض وامتثال الْأَوَامِر وتوقي المزاجر وَاجْتنَاب مَا / مرض الْقُلُوب وَيُورث التهم فِيمَا جلّ وَقل فَيخرج لنا من مَضْمُون ذَلِك عبارَة وحيدة وَهِي أَنا نشترط أَن لَا يقدم الرَّاوِي على مَا إِذا أقدم عَلَيْهِ أورث ذَلِك تُهْمَة ظَاهِرَة فِي رِوَايَته، وَلَا فرق بَين أَن يكون من الصَّغَائِر أَو من الْكَبَائِر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 وَأما الْكَبَائِر فَلَا شكّ أَن الْإِقْدَام عَلَيْهَا يُورث التهم، والصغائر على الانقسام، فَرب صَغِيرَة تورث ذَلِك، فَإنَّك إِذا رَأَيْت الرجل سرق بصلَة أَو باذنجانة أَو مَا أشبههما أَو يطفف الْمِكْيَال وَالْمِيزَان فِي حَبَّة فَهَذَا لَا [يقطع] أَن يكون كَبِيرَة وَرُبمَا كُنَّا بمجاري الْعَادَات نعلم أَن من أقدم على مثل ذَلِك فَيُؤَدِّي بقلة نزاهته ورقة أَمَانَته، فاضبط ذَلِك ايأس من ضبط أَوْصَاف محصورة يُقَال أَنَّهَا الْعَدَالَة الْمَشْرُوطَة وَإِنَّمَا عظم الِاجْتِهَاد فِي التَّعْدِيل وَالْجرْح لخُرُوج صفاتهما عَن الضَّبْط والحصر. [1055] فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَل تشترطون مَعَ مَا ذكرتموه التوقي عَن الْمُبَاحَات القادحات فِي المروءات نَحْو الْجُلُوس على قوارع الطّرق وَالْأكل فِي الاسواق ومصاحبة الْعَوام الأرذال والإكثار من المداعبة. فَقَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: من عُلَمَائِنَا من صَار إِلَى أَن ذَلِك يقْدَح فِي الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة. ثمَّ قَالَ: وَالَّذِي عِنْدِي فِي ذَلِك ان لَا يقطع القَوْل بذلك بل نفوض الْأَمر إِلَى اجْتِهَاد القَاضِي فَرب شخص فِي نِهَايَة التورع والتدين يبدر مثل ذَلِك مِنْهُ فَلَا يتهم وَيعلم أَن قَصده ترك الرِّيَاء وتجنب التَّكَلُّف وَرب شخص يُؤذن صُدُور ذَلِك مِنْهُ بقلة مبالاته، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى ضَبطه وَيخْتَلف باخْتلَاف الْأَوْقَات والاحوال والأشخاص فَلَا وَجه للْقطع فِيهِ وَلَكِن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 تَفْوِيض الْأَمر فِيهِ إِلَى الِاجْتِهَاد. (184) مَسْأَلَة [1056] ذكرنَا من أصلنَا أَن لَا نجتزي فِي قبُول رِوَايَة الرَّاوِي بِظُهُور الْإِسْلَام وَعدم الْعلم بِالْفِسْقِ بل نبحث عَن حَاله سرا وعلنا لنعلم أَو يغلب على ظننا اتصافه بِمَا قدمْنَاهُ من الْأَوْصَاف. وَذهب بعض الْعلمَاء من أهل الْعرَاق إِلَى الِاكْتِفَاء بِالظَّاهِرِ فِي الرِّوَايَة، نستدل عَلَيْهِم بِالشَّهَادَةِ فِي الْحُدُود فَنَقُول: ألستم شرطتم الْعَدَالَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 فِيهِ وسبيله سَبِيل الْأَخْبَار، فَهَلا شرطتم مثل ذَلِك فِي الروايه؟ فَإِن قيل: قد افترق البابان فَإِن الْأَمر فِي الشَّهَادَة أغْلظ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ اعْتِبَار الْعدَد فِيهِ. قُلْنَا: فَهَذَا الَّذِي ذكرتموه بِالْعَكْسِ أولى فَإِن الَّذِي لم يشْتَرط فِيهِ الْعدَد لَو لم يُبَالغ فِي تطلب الْعَدَالَة كَانَ ذَلِك نِهَايَة التَّفْرِيط، فَهَذَا بِالِاحْتِيَاطِ أولى، على أَن مَا ذَكرُوهُ يبطل بالمفتي فَإِنَّهُ يشْتَرط ظُهُور عَدَالَته واستجماعه لشرائط الْفَتْوَى مَعَ أَنه لَا يشْتَرط عدد. [1058] وعَلى هَذَا الْوَجْه اسْتدلَّ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ بالشهادات من طَرِيق آخر فَقَالَ: إِذا شهِدت طَائِفَة من الشُّهُود على شَهَادَة أُخْرَى فَلَا خلاف بَين الْعلمَاء أَنا نبحث عَن عَدَالَة الْأُصُول وَلَا نكتفي بِشَهَادَة هَؤُلَاءِ الْعُدُول على شَهَادَتهم وَإِن كَانَ ظَاهرا شَهَادَة الْعُدُول تنبىء عَن مَنْهَج الْعُلُوم السمعية فِي الْمسَائِل المجتهدة فَإِنَّمَا الَّذِي يُقَوي ذَلِك شَيْئَانِ اثْنَان أَحدهمَا أَن نقُول: [120 / 1] نَحن نعلم أَن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا كَانُوا يقبلُونَ إِلَّا مِمَّن ظَهرت عَدَالَته ووضحت أَمَانَته وَكَانُوا يتخيرون فِي ذَلِك ويبحثون أَشد الْبَحْث حَتَّى كَانَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ يزِيد على ذَلِك فَيحلف بعض الروَاة. وَهَذَا فِيهِ نظر أَيْضا، فَإِن آكِد مَا يعتصم بِهِ أَن نقُول: الْعَمَل بأخبار الْآحَاد مِمَّا لَا يسْتَدرك وُجُوبه عقلا وَقد قدمنَا فِي ذَلِك مَا فِيهِ كِفَايَة فَإِذا وضح ذَلِك تبين أَن الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد إِنَّمَا ثَبت بِدلَالَة سمعية قَاطِعَة وَقد قَامَت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 الْأَدِلَّة القاطعة على وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْعدْل المستجمع للأوصاف الَّتِي قدمناها، وَبَقِي تنازعنا فِي الَّذِي لم تظهر عَدَالَته فَإِن أبدوا شَيْئا من أدلتهم وَزَعَمُوا أَنه قَاطع تفصينا عَنهُ بأوضح وَجه إِن شَاءَ الله تَعَالَى. [1059] فَإِن استدلوا بِأَن قَالُوا: لقد قبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَهَادَة أَعْرَابِي فِي رُؤْيَة الْهلَال وَهَذَا اكْتِفَاء مِنْهُ بِالظَّاهِرِ. قيل لَهُم: هَذَا إِثْبَات مِنْكُم لنَوْع من أَخْبَار الْآحَاد بِخَبَر من أَخْبَار الْآحَاد وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ فَإِن طَرِيق إِثْبَات أصل أَدِلَّة الشَّرْع القواطع، على أَنا نقُول وَكَونه أَعْرَابِيًا لَا يمْنَع أَن يكون عدلا عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ لكم فِي الحَدِيث معتصم فَكَمَا لم ينْقل فِي الْخَبَر عَدَالَته فَكَذَلِك لم ينْقل إِسْلَامه وَقد اتفقنا على اشْتِرَاطه. فَإِن استدلوا بِأَن قَالُوا: لَا مَعْصِيّة قبل الْبلُوغ وَمن بلغ أَوَان حلمه بَرِيئًا فَالْأَصْل بَقَاء هَذِه الْحَالة حَتَّى يرفعها رَافع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 قُلْنَا: هَذَا من أعظم الْكَلَام فَأول مَا يلْزم عَلَيْهِ الشَّهَادَات فِي صُورَة الِاتِّفَاق وَكَذَلِكَ حَال الْمُفْتِي فِي ورعه، ثمَّ نقُول: رُبمَا يبلغ ويقارف أول بُلُوغه مَعْصِيّة فَلم أدعيتم بَرَاءَته عِنْد بُلُوغه؟ ثمَّ نقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه ينعكس عَلَيْكُم فِيمَا لَا مدفع لَهُ فَإنَّا نقُول: ألستم قُلْتُمْ أَن انْتِفَاء الْمعْصِيَة فِي بَدْء الْأَمر مستيقن ثمَّ إِذا استصحبنا الْحَال لم يدم لنا الْيَقِين فِي ذَلِك، فَكَمَا لَا يَقْتَضِي الِاسْتِصْحَاب دوَام الْيَقِين فَكَذَلِك مَا نَحن فِيهِ، وسنتكلم فِي الِاسْتِصْحَاب بأوضح وَجه إِن شَاءَ الله تَعَالَى. [1060] فَإِن قَالُوا: فَإِن أخبرنَا مخبر عَن نَجَاسَة مَاء أَو طَهَارَته فَلَا يشْتَرط أَن يكون على وصف الْعُدُول، فَالْجَوَاب السديد فِي هَذَا وَأَمْثَاله أَن يُقَال: مَا ثَبت فِيهِ إِجْمَاع قُلْنَا فِيهِ من ظَاهر الْعَدَالَة للاتفاق، وَمَا لم يقم فِيهِ إِجْمَاع لم نعمل بِهِ حَتَّى تكون دلَالَة قَاطِعَة، فَمَا اسْتشْهدُوا بِهِ مِمَّا لايدعى الْإِجْمَاع فِيهِ. فَإِن قُلْنَا: لَا يشْتَرط فِيهِ الْعَدَالَة لم يبعد، هَذَا مَا قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ. [1061] وَمِمَّا يشْتَرط فِي الشَّهَادَة والراوي أَن لَا يكون مغفلا، فانه وَإِن استجمع جملَة مَا قدمْنَاهُ من الْأَوْصَاف فَإِذا غلب عَلَيْهِ النسْيَان والغفلة فَلَا نَأْمَن تحريفه كَمَا لَا نَأْمَن اجتراء الْفَاسِق على تعمد الْكَذِب. (185) فصل [1062] قد قدمنَا فِيمَا سبق رِوَايَة الصَّبِي لَا تصح، وَيصِح تحمله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 ثمَّ يُؤَدِّي مَا تحمله فِي بُلُوغه وَذهب بعض المنتمين إِلَى الْأُصُول أَن التَّحَمُّل لَا يَصح إِلَّا من بَالغ عَاقل وَمَا سَمعه الصَّبِي فِي صباه لم يَصح مِنْهُ رِوَايَته وَهَذَا أقرب من خرق الْإِجْمَاع فانا نعلم أَن ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَابْن عمر والنعمان بن بشير وَغَيرهم رووا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد مَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 بلغُوا مَا رَوَوْهُ فِي صباهم وَلم يُنكر عَلَيْهِم. [1063] فَإِن قَالُوا: هَؤُلَاءِ الَّذين عددتموهم بلغُوا فِي عصر [120 / 5] الرَّسُول / صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُلْنَا: فنعلم قطعا أَنهم لم يقتصروا على رِوَايَة مَا شاهدوه بعد الْبلُوغ وَتَقْدِير هَذَا تكلّف، فَإِنَّهُ بَين إِن شَاءَ الله ثمَّ ابْن عَبَّاس كَانَ ابْن سبع لما توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا بلغ ابْن الزبير حلمه أَيْضا فِي حَيَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 (186) بَاب يجمع القَوْل فِي التَّعْدِيل وَالْجرْح وَعدد الْمعدل والجارح وَصفَة التَّعْدِيل وَالْجرْح [1064] اخْتلف الْعلمَاء فِي أَنا هَل نجتزئ فِي تَعْدِيل الرَّاوِي وتزكيته بمعدل وَاحِد، فَمَا صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور مِنْهُم أَنا نكتفي بِعدْل وَاحِد وَكَذَلِكَ نكتفي بجارح وَاحِد وَذهب بعض الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَن تَعْدِيل الرَّاوِي لَا يثبت إِلَّا بعدلين. [105] وَأما تَعْدِيل الشُّهُود فَالْمَشْهُور من الْمذَاهب أَنه لَا يثبت إِلَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 بمزكيين، وَالْقَاضِي رَضِي الله عَنهُ يُشِير فِي تضاعيف الْكَلَام إِلَى الِاكْتِفَاء بمزك وَاحِد فِي الشُّهُود على مَا نشِير إِلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. [1066] وَالدَّلِيل على الِاكْتِفَاء بمعدل وَاحِد فِي الرِّوَايَة مَا قدمنَا من أوضح الْحجَج فِي قبُول خبر الْوَاحِد وَوُجُوب الْعَمَل بِهِ، وأخبار الْمعدل عَن عَدَالَة الرَّاوِي من قبيل الْأَخْبَار فَوَجَبَ الْعَمَل بِمُوجبِه مَعَ اتحاده، وَالدَّلِيل على أَنه أَخْبَار أَنه غير مُتَّصِل بفصل الْقَضَاء وَغير مُرْتَبِط بِالدَّعْوَى وَلَا يشْتَرط فِيهِ لفظ الشَّهَادَة، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك وجوب الِاكْتِفَاء بالمفتي الْوَاحِد لما لم يكن سَبيله سَبِيل الشُّهُود، وَمن مُوجب ذَلِك ارْتكب القَاضِي رَضِي الله عَنهُ اتِّحَاد الْمُزَكي للشُّهُود من حَيْثُ أَن تزكيته لم تجر مجْرى الشَّهَادَات، على أَن قَارنا لَو قرن بَين معدل الشُّهُود ومعدل الروَاة بِأَن الشُّهُود لما اشْترط فيهم الْعدَد جَازَ أَن يشْتَرط فِي معدليهم الْعدَد وَلما لم يشْتَرط الْعدَد فِي الرِّوَايَة لم يشْتَرط فِي تزكيتهم. [1067] فَإِن قيل: فَقولُوا على طرد ذَلِك أَن التَّزْكِيَة تقبل من الْعَاميّ كَمَا تقبل رِوَايَته؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 قيل: هَذَا فرق وَحَقِيقَته الْجمع فَإنَّا نشترط أَن يكون الرَّاوِي على صفة من يعلم الْمَرْوِيّ وَالْمَنْقُول على وَجه م نَقله، فَلَو تصور أَن يعلم الْعَاميّ صِفَات الْعَدَالَة حَتَّى ينقلها على علم وَضبط لصَحَّ ذَلِك مِنْهُ، فَلَمَّا لم يتَصَوَّر مِنْهُ مَعَ الْخُلُو عَن ضروب من الْعُلُوم الْعلم بِالْعَدَالَةِ لم يَصح مِنْهُ التَّعْدِيل، وَلما صَحَّ مِنْهُ نقل عين مَا سَمعه قبلت رِوَايَته فِيهِ، فَكل مِنْهُمَا يقبل مِنْهُ بالغلبة على الْقلب إِلَى نَقله على الْعلم فالمعاني تتبع دون الصُّور. (187) فصل [1068] فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا اللَّفْظ الَّذِي إِذا صدر من الْعدْل للشَّاهِد أَو الرَّاوِي يَكْتَفِي بِهِ؟ قُلْنَا: ذهب مَالك رَحمَه الله وَأهل الْمَدِينَة إِلَى أَنا نكتفي بِأَن يَقُول الْمعدل فلَان عدل رَضِي. وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: يَنْبَغِي أَن يَقُول فلَان عدل مَقْبُول [القَوْل] عَليّ ولي، وَإِن كَانَ شَاهدا قَالَ هُوَ مَقْبُول الشَّهَادَة عَليّ ولي. [1069] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالظَّن بهؤلاء الْأَئِمَّة أَنهم مَا قصدُوا حصر التَّعْدِيل فِي عبارَة مَخْصُوصَة وَلَكِن ابتدر كل وَاحِد إِلَى عبارَة وفَاقا تنبىء عَن الْمَقْصُود. والسديد أَن يُقَال: بنبغي أَن يبدر الْمعدل لَفْظَة تَقْتَضِي تَعْدِيل الرَّاوِي وَالشَّاهِد بِحَيْثُ تَنْتفِي عَنهُ الِاحْتِمَالَات والتجويزات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 (188) فصل [121 / 1] [1070] اعْلَم، أَن صِفَات الْعَدَالَة تخْتَلف فَمِنْهَا مَا يشْتَرك / فِي دركها الْعَام الْخَاص وَمِنْهَا: لَا يُحِيط بهَا إِلَّا أولُوا الْعلم. . فَالَّذِي يشْتَرك فِيهَا الْعَام وَالْخَاص فنحو إِقَامَة الْفَرَائِض الظَّاهِرَة وتجنب الْفَوَاحِش الموبقة. وَالَّذِي يخْتَص بِهِ الْخَواص فَهُوَ نَحْو الْعلم بالضبط والتيقظ ووجوه تَحْصِيل الْعلم. [1071] ثمَّ اعْلَم مَا ذَكرْنَاهُ من التَّعْدِيل والتزكية إِنَّمَا هُوَ فِي حق من يخفى حَاله، وَأما الَّذِي اشْتهر من النَّاس بالديانة وَالْأَمَانَة وَشهِدت لَهُ بِهِ النُّفُوس بِصِفَات الْمَدْح فَلَا حَاجَة فِي تَعْدِيل مثله، واستفاضة الْأَخْبَار على مر الْأَعْصَار أقوى من تَعْدِيل وَاحِد أَو اثْنَيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 (189) فصل [1072] فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا عدل الْمعدل الرَّاوِي أَو الشَّاهِد فَهَل تشترطون أَن يُفَسر وَجه التَّعْدِيل والنعوت الَّتِي عدله لأَجلهَا؟ قُلْنَا: مَا صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور من الْعلمَاء أَن ذَلِك لَا يشْتَرط فِي الْمعدل أصلا. وَذهب شرذمة إِلَى اشْتِرَاط الشَّرْح فِي ذَلِك، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَاف الظَّاهِر فِي الْجرْح فَمَا صَار إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَن من جرح رَاوِيا وَشَاهدا فَلَا يقبل جرحه حَتَّى يبين سَببه، هَكَذَا قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَغَيره من الْأَئِمَّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 [1073] وَالَّذِي اخْتَارَهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أَن ذَلِك لَا يشْتَرط فِي الْعدْل إِذا عدل وَلَا إِذا جرح. ثمَّ قسم الْكَلَام على وَجه ينطوي على تَفْصِيل الْمذَاهب وتثبيته فَقَالَ: إِن كَانَ الْمخبر عَن الْعَدَالَة وَالْجرْح مِمَّن يوثق بِهِ فِي علم مَا يجرح بِهِ وَعلم مَا يعدل بِهِ فَيقبل مِنْهُ الْجرْح الْمُطلق وَالتَّعْدِيل الْمُطلق، وَلَا يتجسس كَمَا أَن الْعدْل لَو شهد على بيع أَو نِكَاح أَو مَا شابههما من الْعُقُود والفسوخ وَنَحْوهمَا بِالصِّحَّةِ فَيحكم بِظَاهِر شَهَادَته وَلَا نسائله عَن لفظ العقد وَصفته وَإِن كنت تعلم أَن الِاجْتِهَاد لَهُ أعظم المجال فِي مَوَاضِع الْعُقُود وصحتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 وفسادها، وَكَذَلِكَ يقبل مِنْهُ التَّعْدِيل الْمُطلق. وَإِن كَانَ من يخبر عَن الْجرْح وَالتَّعْدِيل غير عَالم بِمَا يَقع بِهِ التَّعْدِيل وَالْجرْح فَلَا يقبل مِنْهُ مَا يُطلقهُ وَلَكِن لَو أخبر عَن أَوْصَاف ضَبطهَا من الرَّاوِي وَالشَّاهِد وَكَانَ موثوقا بِهِ قبلناها ثمَّ نَظرنَا فِيهَا فعدلنا أَو جرحنا. [1074 فَإِن فصل فاصل بَين التَّعْدِيل وَالْجرْح أَن الْخلاف يكثر فِي الْجرْح فَلَا نَأْمَن أَن يجرح بِمَا يَعْتَقِدهُ جرحا وَالْقَاضِي لَا يَعْتَقِدهُ كَذَلِك فَلذَلِك استسفرناه. قُلْنَا: فَهَذَا يبطل بالتعديل فَإِن فِيهِ الِاخْتِلَاف أَيْضا ثمَّ لم يشْتَرط فِيهِ الْكَشْف وَيبْطل بِالشَّهَادَةِ على مُطلق الْعُقُود فَإنَّا لَا نشترط فِيهَا الاستكشاف مَعَ علمنَا بِوُقُوع الْخلاف فِيهَا. [1075] فَإِن قَالُوا: السَّبَب الَّذِي يَقع بِهِ الْجرْح لَا يطول ذكره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 وأوصاف الْعَدَالَة يطول ذكرهَا قُلْنَا: لَيْسَ يطول ذكر أَوْصَاف الْعَدَالَة وَيُمكن حصرها فِي أسطر، ثمَّ الْوَاجِبَات لَا يسْقط بالطول وَالْقصر، فَبَطل مَا قَالُوهُ، فَلَا يظهرون فِي الْجرْح عِلّة إِلَّا وَهِي تنعكس فِي التَّعْدِيل. [190] فصل [1076] الرَّاوِي إِذا عدله معدل يقبل تعديله وجرحه جارح يقبل جرحه لَو قدر مُفردا وَالْجرْح أولى من التَّعْدِيل، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الشَّاهِد إِذا عدل وجرح، وَهَذَا إِجْمَاع الْعلمَاء وَهُوَ أقوى الْحجَج، فاكتف بِهِ، على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 أَنَّك تعضده فَتَقول الْجرْح ينبىء عَن زِيَادَة خلا عَنْهَا التَّعْدِيل، فَكَأَن الْجَارِح يصدق الْمعدل فِي الْأَوْصَاف الَّتِي أخبر عَنْهَا ويخبر عَن صفة كامنة ذهل عَنْهَا الْمعدل، فَيَقُول صدق الْمعدل / بيد أَنه لم يطلع على مَا اطَّلَعت عَلَيْهِ، وَلَو [121 / ب] أَرَادَ الْمعدل نفي مَا أثْبته الْجَارِح كَانَ مخبرا عَن نفي والإخبار عَن النَّفْي يضعف وَلذَلِك ردَّتْ الشَّهَادَة على النَّفْي. [1077] وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِيهِ إِذا اتَّحد الْمعدل والجارح أَو اسْتَويَا فِي الْعدَد. فَأَما إِن كثر عدد المعدلين وَقل عدد الجارحين فقد صَار بعض الْعلمَاء إِلَى ان الْعَدَالَة فِي مثل هَذِه الصُّورَة أولى وَهَذَا غير سديد فَإِن كل وَاحِد من الْجرْح وَالتَّعْدِيل يسْتَقلّ بِنَفسِهِ لَو قدر مُفردا فَالزِّيَادَة لَا تَقْتَضِي تَغْيِير ذَلِك، وَالَّذِي يُوضحهُ أَن عشرَة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 الْعُدُول لَو شهدُوا على ثُبُوت دين وَشهد عَدْلَانِ على إِبْرَاء مُسْتَحقَّة عَنهُ فتقضي بِالْإِبْرَاءِ فَإِنَّهُمَا أخبرا عَمَّا أخبر الشُّهُود عَنهُ وانفردا بِزِيَادَة علم وَهَذَا شَأْن الْجَارِح مَعَ المعدلين على مَا قدمْنَاهُ. (191) فصل [1078] الْعدْل الثِّقَة إِذا روى عَن إِنْسَان خَبرا فروايته لَا تكون تعديلا مِنْهُ للَّذي روى عَنهُ، هَذَا مَا صَار إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَذهب بعض من لَا يحصل علم هَذَا الْبَاب إِلَى أَن الرِّوَايَة عَنهُ تَعْدِيل وَهَذَا بَاطِل من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 وَجْهَيْن، أَحدهمَا أَنا نرى الْأَئِمَّة يروون الضَّعِيف من الْأَخْبَار كَمَا يروون الصَّحِيح مِنْهَا لأغراض لَهُم فِي علم الصَّنْعَة، فَلَا سَبِيل إِلَى الِاسْتِدْلَال بروايتهم على تَعْدِيل الَّذين رووا عَنْهُم. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْعدْل قد يروي عَمَّن لم يعرفهُ بعدالة وَلَا جرح فيصمت عَن وَصفه بهما جَمِيعًا فَمن هَذَا الْوَجْه بَطل الِاسْتِدْلَال بروايته، اللَّهُمَّ أَن يَقُول الْعدْل اعلموا أَنِّي لَا أروي إِلَّا عَن موثوق بِهِ فَإِذا صدر مِنْهُ مثل هَذَا القَوْل فَتكون رِوَايَته تعديلا. (192) فصل [1079] إِذا روى الرَّاوِي خَبرا وَعمل بِهِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يجوز أَنه عمل بِدلَالَة أُخْرَى من خبر أَو قِيَاس أَو غَيرهمَا، وَوَافَقَ عمله مُوجب الْخَبَر الَّذِي رَوَاهُ، فَإِن كَانَ كَذَلِك فَلَا يكون عمله بِهِ تعديلا، وَإِن تحقق عندنَا أما بقوله وَإِمَّا بقرائن الْأَحْوَال أَنه لم يعْمل إِلَّا بالْخبر الَّذِي رَوَاهُ فَيكون عمله بِهِ تعديلا لَا محَالة وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى ان عمله بِهِ لَا يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 تعديلا. [1080] وَالَّذِي يُوضح مَا قُلْنَاهُ أَن نقُول: إِذا تحقق عندنَا كَون الْمعدل عدلا موثوقا بِهِ فِي دينه وأمانته، وتقرر مَعَ ذَلِك علمه بِمَا يَقع بِهِ التَّعْدِيل وَالْجرْح، فَإِذا استجمعت هَذِه الْأَوْصَاف فالظن بِظَاهِر فعله مَعَ اعتقادنا فِيهِ اجْتِنَاب الزلل وَالْخَطَأ على تعمد فينبىء ظَاهر فعله عَن التَّعْدِيل كَمَا ينبى قَوْله عَن ذَلِك وَلَو سَاغَ حمل فعله على غير وَجه الصِّحَّة سَاغَ ذَلِك فِي قَوْله. 3 [1081] فَإِن قيل: فيلزمكم على اطراد ذَلِك أَن تَقولُوا إِذا روى الْعدْل عَن إِنْسَان وَترك الْعَمَل بِمَا رَوَاهُ فَيكون ذَلِك جرحا مِنْهُ، قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: إِن تحقق تَركه الْعَمَل للْخَبَر مَعَ ارْتِفَاع الدوافع والموانع وتقرر عندنَا تَركه مُوجب الْخَبَر على انه لَو كَانَ ثَابتا للَزِمَ الْعَمَل بِهِ فَيكون ذَلِك جرحا نازلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 منزلَة القَوْل وَإِن كَانَ مَضْمُون الْخَبَر مِمَّا سوغ تَركه وَلم يتَبَيَّن قَصده إِلَى مُخَالفَة الْخَبَر فَلَا يكون ذَلِك جرحا حِينَئِذٍ، وَنَظِيره مَا لَو عمل بِمَا يُوَافق مُوجب الْخَبَر وجوزنا أَن يكون عمله بِمُقْتَضى غير الْخَبَر فَلَا يكون ذَلِك تعديلا. [1082] فَإِن قيل: فيلزمكم أَن تَقولُوا أَن / القَاضِي إِذا حكم بِشَهَادَة [22 / 1] الشُّهُود فَيكون ذَلِك حكما مِنْهُ بِعَدَالَتِهِمْ حَتَّى لَا يبْقى لقاض آخر فيهم اجْتِهَاد. قُلْنَا: القَوْل فِي ذَلِك على تَفْصِيل، فَإِن عول القَاضِي على المزكى وَلم يعدل الشُّهُود بِنَفسِهِ فَلَا يكون إبرامه الحكم تعديلا مِنْهُ بل يكون اتبَاعا على قَول المزكى، وَإِن صدر مِمَّا القَاضِي مِمَّا يدل على أَنه عدل الشُّهُود بِأَن تولى بِنَفسِهِ الْبَحْث عَنْهُم ثمَّ تبين فِي مقَالَة أَو حَالَة قصدا لتعديل فَيكون ذَلِك تعديلا مِنْهُ، حَتَّى قَالَ المخلصون بِعلم هَذَا الْبَاب: لَو فرض القَاضِي تَنْفِيذ حُكُومَة مُشْتَمِلَة على الشَّهَادَة إِلَى من رشح لتزكية الشُّهُود فنفذها بِشَهَادَتِهِم، فَيكون ذَلِك تعديلا مِنْهُ إيَّاهُم، فَإِنَّهُ منتصب لتعديل الشُّهُود، فَيحمل إبرامه الحكم على التَّعْدِيل، فَافْهَم. (193) فصل [1083] اعْلَم أَن مَا صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور من أَصْحَابنَا أَن الروَاة من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار معدلون بِنَصّ الْكتاب وهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 مقرون على الْعَدَالَة إِلَى ان يتَحَقَّق قطعا مَا يقْدَح فِي وَاحِد مِنْهُم. [1084] فَإِن قيل: فَأَي آيَة تعنون اشتمالها على تعديلهم؟ قُلْنَا: هِيَ أَكثر من وَاحِدَة فَمِنْهَا: قَوْله تَعَالَى فِي مُخَاطبَة الصَّحَابَة {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} . وَمِنْهَا: قَوْله تَعَالَى فِي مخاطبتهم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي أهل بيعَة الرضْوَان: {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة} وَمِنْهَا: الْآيَات الْمُشْتَملَة على حسن الثَّنَاء على الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار} إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تتبعه من الْكتاب وَالسّنة، ثمَّ لَا تَظنن أَنه مندرج تَحت هَذِه هـ الْجُمْلَة كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 من لَقِي رَسُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا ذَلِك فِي صُحْبَة الَّذين امتثلوا أمره وبذلوا عَلَيْهِ الْأَمْوَال والمهج وهم المعرفون الْمُسلمُونَ. [1085] وَقد اضْطَرَبَتْ الْمُعْتَزلَة اضطرابا عَظِيما، فَذهب الْجُمْهُور مِنْهُم إِلَى تفسيق عَائِشَة وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَجُمْلَة الَّذين قَاتلُوا الفئة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 العادلة وَمِنْهُم من يَقُول لَو اجْتمع عَليّ وَطَلْحَة فِي شَهَادَة لم تقبل شَهَادَتهمَا وَهَذَا يبْنى على أصُول تقررت فِي الْإِمَامَة. (194) فصل [1086] من كَانَ من أهل الْقبْلَة وَلَكِن بدر مِنْهُ فسق، بِاتِّفَاق الْأمة يَقْتَضِي رد شَهَادَته، وَإِن أقدم عَلَيْهِ متأولا ظَانّا أَنه مستحل غير مَحْظُور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 وَكَذَلِكَ من كفر من أهل الْقبْلَة وَصدر مِنْهُ مَا يُوجب تفكيره فَهُوَ مَرْدُود الشَّهَادَة وَإِن كَانَ من المتأولين المنتمين إِلَى أهل الْقبْلَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى ان من بدر مِنْهُ الْفسق وَهُوَ متأول ظان أَنه مُبَاح فَذَلِك لَا يُوجب رد شَهَادَته إِذا كَانَ مشهرا بِالصّدقِ وتوقي الْخلف، وَذَلِكَ نَحْو قتل الْخَوَارِج النَّاس واستحلالهم الْأَمْوَال والدماء على اعْتِقَاد الْإِبَاحَة مَعَ استشهادهم بتوقي الْخلف ومصيرهم إِلَى أَنه كفر. [1087] وَالْمُخْتَار عندنَا رد شَهَادَتهم لكفرهم وَمَا يبدر مِنْهُم من فسقهم وَإِن اعتقدوه حسنا، وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك اتِّفَاق الْأمة على أَن تأويلهم وظنهم وحسابهم لَا يعذرهم فِيمَا يبدر مِنْهُم وَلَكِن اعْتِقَاد الْحسن فِيمَا أجمع الْمُسلمُونَ على قبحه إِذا انْضَمَّ إِلَى الْقَبِيح كَانَا قبيحين / منضمين لَا يقدر انْفِصَال أَحدهمَا من الآخر إِجْمَاعًا واتفاقا، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْكفْر وتأويله وَلَو سَاغَ أَن يعْذر المأولون سَاغَ أَن يعْذر أهل الْملَل وَتقبل شَهَادَة من يشْتَهر مِنْهُم بِالصّدقِ كالرهبان وَغَيرهم. ] 1088] فَإِن قيل: من اسْتحْسنَ مَا يبدر مِنْهُ مِمَّا أقدم عَلَيْهِ قَاصِدا إِلَى الْفسق هُوَ متأول. قيل لَهُم: فَكَذَلِك القَوْل فِي الْكَفَرَة ومنكري الشَّرِيعَة فَإِنَّهُم مَا اقدموا على مَا اقدموا عَلَيْهِ إِلَّا واعتقادهم أَنه الْحق وَالصَّوَاب وَمَا عداهُ ضلال ثمَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 انتصب ذَلِك شَيْئا مفضيا إِلَى قبُول الشَّهَادَة وَالرِّوَايَة فَلَا يعذرُونَ فِي الْفَاسِق المتأول وَالْكفَّار شَيْئا إِلَّا انعكس عَلَيْهِم فِي أهل الْملَل. وَالَّذِي نرتضي لَك التعويل عَلَيْهِ أَن تعد الْكَافِر الْأَصْلِيّ نقضا لما يتمسكون بِهِ، فَإِن رمت احتجاجا قلت: قد ثَبت رد شَهَادَة الْكفَّار وَالَّذِي نَحن فِيهِ كَافِر، وَثَبت رد شَهَادَة الْفَاسِق، وَالَّذِي نَحن فِيهِ فَاسق، وَإِنَّمَا قَامَت دلَالَة الْإِجْمَاع فِي قبُول أَخْبَار الثِّقَات فَلَا يقبل خبر غَيرهم إِلَّا بِدلَالَة تدل، فَإِن الْأَمر بأخبار الْآحَاد لاتضبط عقلا. [1090] وَمِمَّا عول عَلَيْهِ من يقبل أَخْبَار هَذَا الصِّنْف - وَالشَّافِعِيّ رَضِي الله عَنهُ من المائلين إِلَى ذَلِك - إِجْمَاع الصَّحَابَة على قبُول أَخْبَار الْفَاسِقين بالتأويل فَإِن الَّذين فسقوا بمحاصرة عُثْمَان وَقَتله من الْمَذْكُورين والمشاهير وارادوا ذَلِك حَقًا لم ترد شَهَادَتهم وروايتهم، وَكَذَلِكَ الْخَوَارِج مَا زَالُوا يتلقون ويروون وَتقبل روايتهم. فَيُقَال: دَعْوَى الْإِجْمَاع فِي ذَلِك مِمَّا لَا يكَاد يسْتَمر من أوجه، أَحدهَا: أَنه [إِن] صَحَّ قبُول رِوَايَة بَعضهم فَلم يتَحَقَّق ذَلِك من كَافَّة الصَّحَابَة حَتَّى يدعى إِجْمَاعهم فِي قبُول خبر من هَذَا وَصفه، وَالْأُخْرَى أَن من الصَّحَابَة من كَانَ يعْتَقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 اسْتِحْبَاب عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ لما جرى عَلَيْهِ، وَهَذَا بَين فِي كَلَامهم نظما ونثرا فَلم يثبت الْإِجْمَاع على فسقهم فِيمَا صدر مِنْهُم، ثمَّ الِاتِّفَاق على قبُول خبرهم. فَبَطل ادِّعَاء الْإِجْمَاع من كل وَجه، وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن عمار بن يَاسر وعدي بن حَاتِم وسودان بن حمْرَان وَالْأَشْتَر وَغَيره من المصرحين بالاعتزاء إِلَى قتل عُثْمَان واعتقاد كَون ذَلِك صَوَابا فَسقط دَعْوَى الْإِجْمَاع وَاسْتمرّ مَا قدمْنَاهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 (195) فصل [1091] اعْلَم أَن الشَّاهِد يُخَالف الرَّاوِي فِي جمل من الْأَوْصَاف تشْتَرط فِي الشَّاهِد وَلَا تشْتَرط فِي الرَّاوِي. فَمن ذَلِك الْحُرِّيَّة فَإِنَّهَا غير مَشْرُوطَة فِي الرِّوَايَة وَالْعَبْد الموثوق بِهِ كَالْحرِّ، وَمن ذَلِك الْأُنُوثَة فَإِنَّهَا تمنع قبُول الشَّهَادَة فِي بعض الْمَوَاضِع وَلَا تمنع قبُول الرِّوَايَة فِي شَيْء من الْأَحْكَام، وَمِنْهَا الْعَدَاوَة وَأَسْبَاب التهم فِي الْخَيْر وَالدَّفْع فانها تَتَضَمَّن رد الشَّهَادَة على تَفْصِيل، وَشَيْء من ذَلِك لَا يمْنَع رد الْخَبَر، فَتقبل رِوَايَة الْعَدو على عدوه، وَإِنَّمَا ذَلِك لِأَن الرِّوَايَة لَا تخصه بل الرَّاوِي يساهمه فِيهِ، واكتف بِالْإِجْمَاع فِي ذَلِك، ودع عَنْك التَّمَسُّك بالتلويحات. [1092] فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي الرَّاوِي الْمَجْهُول؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 صفحة فارغة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 قُلْنَا: إِن جهلت عَدَالَته فَلَا تقبل رِوَايَته وَإِن علمت عَدَالَته قبلت [123 / 1 أ] رِوَايَته وَلَا يضر أَن يكون مَجْهُول النّسَب فَإِن الْمعول على الْعَدَالَة مَعَ مَا ذَكرْنَاهُ مَعهَا من الْأَوْصَاف. (196) فصل [1093] من سمع كتابا وَتحقّق عِنْده سَمَاعه وَلَكِن أشكل عَلَيْهِ عين مَا سمع مِنْهُ فَلَا تحل لَهُ رِوَايَته حَتَّى يعلم على قطع من بلغه. وَذهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 [بعض] الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنه إِذا علم سَماع الْكتاب من ثِقَة فَلهُ رِوَايَته إِذا كَانَ حَافِظًا وضابطا وَقد أومى الشَّافِعِي رَحمَه الله إِلَيْهِ فِي الرسَالَة، وَهَذَا لَا يَصح، فَإِن الرِّوَايَة لَا تستقل إِلَّا بالمروي عَنهُ، فَإِذا لم يعرف عَنهُ لم تخل، إِمَّا أَن يطبق رِوَايَته وَلَا يسندها إِلَى مَرْوِيّ عَنهُ وَإِمَّا أَن يسندها إِلَى شخص بِعَيْنِه، فَإِذا لم يسندها إِلَى شخص فقد أرسل، وَلَا حجَّة فِي الْمَرَاسِيل على مَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَإِن اسنده إِلَى شخص بِعَيْنِه مَعَ الاسترابة فقد أقدم على رِوَايَة مَا يستريب فِيهِ وَهَذَا من أعظم التهم فِي التساهل فِي الرِّوَايَة، وَلَو جَازَ ذَلِك جَازَ فِي أصل الرِّوَايَة مَعَ التشكيك فِيهِ حَتَّى يروي خَبرا مَعَ تشككه فِي أَنه هَل سَمعه أم لَا. فَإِذا لم يجز ذَلِك لم يجز إِسْنَاده إِلَى شخص مَعَ التشكيك وَإِن استيقن اصل السماع. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَيْضا من أصل الشَّافِعِي أَن من تحمل شَهَادَة استيقن تحملهَا، وأشكل عَلَيْهِ عين من تحمل الشَّهَادَة عَنهُ [فَلَا] يجوز لَهُ إِقَامَة الشَّهَادَة على من يغلب على ظَنّه أَن الْمَشْهُود عَلَيْهِ هُوَ. [1094] فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِيهِ إِذا تشكك فِي حَدِيث من جملَة الْأَحَادِيث والتبس عَلَيْهِ شَيْخه. قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِك حَتَّى يتَذَكَّر على قطع سَمَاعه وَلَيْسَ لَهُ الِاعْتِمَاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 على مُجَرّد الْخط، وعَلى هَذَا الْقيَاس نجري فِي الشَّهَادَة. [1095] فَإِن قيل: فَهَلا جوزتم للراوي ابْتِدَاء أَن يروي عَمَّن غلب على ظَنّه السماع فِيهِ، كَمَا جوزتم الْعَمَل بِخَبَرِهِ وَإِن كَانَ ذَلِك آحادا لغَلَبَة الظَّن فَإِنَّمَا لَا يستيقن صدقه. قُلْنَا: هَذَا لِأَن يعرض لما يُؤَدِّي إِلَى خرق الْإِجْمَاع، فَإنَّا نعلم أَن من سبق فِي عصر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ مَا كَانُوا يستجيزون النَّقْل على غَلَبَة الظَّن بل إِنَّمَا كَانُوا يرَوْنَ مَا يقطعون بِهِ، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الرَّاوِي إِذا قَالَ: غلب على ظَنِّي سَمَاعه وَكَانُوا لَا يقطعون بذلك وَلَا يقدرونه خَبرا، يُوضحهُ اتِّفَاق الْأمة على أَن من أَرَادَ أَن يشْهد على إِقْرَار بِغَلَبَة الظَّن من غير أَن يستيقن صدوره من شخص معِين فَلَا يجد إِلَى ذَلِك طَرِيقا، وَلذَلِك مَا رووا شَهَادَة العميان على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 الأقارير وَإِن كَانَ مِمَّن تحقق مِنْهُم غلبات الظنون. [1096] فَإِن قَالَ قَائِل: ألستم جوزتم للَّذي شَاهد الشَّيْء فِي يَد غَيره بُرْهَة وَهُوَ يتَصَرَّف فِيهِ تصرف الْملاك أَن يشْهد لَهُ بِالْملكِ. قُلْنَا: هَذَا موقع اخْتِلَاف الْفُقَهَاء فَمنهمْ من لايجوزه فَإِن جوزناه فَنَقُول على قَضيته: لَو نقل الشَّاهِد مَا علمه من ثُبُوت الْيَد فِي زمن ممتد لَكَانَ للْقَاضِي أَن يحكم بِالْملكِ لأَجله، فَهَذِهِ جملَة كَافِيَة فِيمَا ذَكرْنَاهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 (197) بَاب يجمع فصولا فِي كَيْفيَّة السماع، وَلَفظ الرِّوَايَة، وَوجه الِاخْتِلَاف وتبيين الْأَصَح [1097] اعْلَم أَن أقوى الطّرق فِي النَّقْل أَن يسمعك شيخك الحَدِيث فَتحدث عَنهُ مَا سمعته شفاها، ثمَّ الَّذِي يَلِيهِ أَن تقرا عَلَيْهِ وَهُوَ صَامت، ثمَّ إِذا تنجزت قراءتك فيقررك عَلَيْك تَصْرِيحًا وَيَقُول: كَمَا / قَرَأت، أوتقول [123 / ب] لَهُ أَنْت: كَمَا قَرَأت؟ فَيَقُول: نعم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 [1098 ي ثمَّ أجَاز مُعظم الْمُحدثين أَن تطلق فَتَقول أَخْبرنِي فلَان وَإِن كَانَ ساكتا إِذا قررك، قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَأولى عندنَا غير ذَلِك، فَإِن التقى من الشَّيْخ يَنْقَسِم طَرِيقه فَرُبمَا يكون بِأَن يسمعك من قِرَاءَة نَفسه، وَرُبمَا يقررك على قراءتك، فَإِذا أطلقت الْأَخْبَار والتبس النوعان، فَالَّذِي تَقْتَضِيه النزاهة فِي الرِّوَايَة وتوقي الْإِبْهَام أَن تميز فَتَقول: أَخْبرنِي قِرَاءَة عَلَيْهِ، أَو قَرَأت عَلَيْهِ وَهُوَ سَاكِت فقررني. [1099] فَإِن قيل: فَإِذا لم يبدر مِنْهُ تَقْرِير لفظ فَمَا قَوْلكُم فِيهِ؟ قُلْنَا: مَا اخْتَار مُعظم أهل الحَدِيث أَن سُكُوته مَعَ سَلامَة الْأَحْوَال نَازل منزلَة صَرِيحَة بالتقرير وعنينا بسلامة الْحَال أَن يَنْتَفِي عَنْهَا إلجاء اَوْ إِكْرَاه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 أَو غَفلَة مُقَارنَة للسكوت، فَإِذا انْتَفَت هَذِه الْمَوَانِع وأمثالها فالسكت يكْتَفى بِهِ، فَإِن الَّذِي ينْقل عَنهُ إِذا كَانَ ثِقَة وَعلم أَن الَّذِي يقْرَأ عَلَيْهِ لَا بُد أَن يُؤثر عَنهُ، وَهُوَ مُخْتَار مقتدر على رد مَا يقْرَأ عَلَيْهِ، فَلَو سكت غير مُقَرر كَانَ ذَلِك مُؤذنًا بِفِسْقِهِ فالطريق الَّذِي يَقْتَضِي حمل لَفظه على الصدْق - وَهُوَ الثِّقَة وَالْعَدَالَة - فَذَلِك بِعَيْنِه يَقْتَضِي تنزل سكته منزلَة تَقْرِيره. وَقد ذهب بعض أهل الظَّاهِر إِلَى أَنه لَا بُد من التَّصْرِيح بالتقرير، وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ أوضح الرَّد عَلَيْهِم. (198) فصل [1100] اعْلَم أَن الشَّيْخ إِذا أجَاز أَن يرْوى عَنهُ حَدِيثا بِعَيْنِه أَو كتابا بِعَيْنِه وَقَالَ أجزت لَك أَن تحدث عني بِمَا فِي هَذَا الْكتاب، فَتجوز الرِّوَايَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 على هَذَا الْوَجْه، وَرُبمَا تعتضد الْإِجَازَة بالمناولة، وَهُوَ أَن يُجِيز الشَّيْخ رِوَايَة كتاب ويناول الْكتاب من أجَاز لَهُ رِوَايَته، وَلَيْسَت المناولة من الشَّرَائِط بل هُوَ مُؤَكد، ثمَّ لَا يَنْبَغِي للناقل أَن يُطلق فَيَقُول: حَدثنِي فلَان، فَإِن فِيهِ إيهاما وتدليسا وَلَكِن يَنْبَغِي أَن يفصح بِالْإِجَازَةِ، ويتوقى اللّبْس. وَقد أَجمعُوا على جَوَاز النَّقْل على هَذَا الْوَجْه، وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك مَعَ الْإِجْمَاع أَنه إِذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 صرح بِالْإِجَازَةِ فقد نقل مَا سمع من غير استرابة، وَمن نقل مَا لَا يستريب فِيهِ وَلَا منع من الإنباء عَنهُ فَلَا شكّ فِي جَوَاز إخْبَاره. [1101] فَإِن قَالَ قَائِل: قد ثبتمْ جَوَاز النَّقْل على وَجه الْإِجَازَة، فَهَل تَقولُونَ إِنَّه يجب الْعَمَل بِهِ كَمَا يجب الْعَمَل بِالَّذِي سَمعه الرَّاوِي؟ قُلْنَا: هَذَا موقع االاختلاف فَذهب أهل الظَّاهِر وَمن تَابعهمْ من الْمُتَأَخِّرين إِلَى أَنه لَا يجب الْعَمَل بِهِ، وَيجْرِي مجْرى الْمُرْسل من الْأَخْبَار وَالَّذِي صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور من الْعلمَاء أَنه يجب الْعَمَل بِهِ، وَهُوَ الَّذِي نختاره وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن نقُول: لَا خلاف أَنا لَا نشترط سَماع الحَدِيث من لفظ الشَّيْخ، فَإِنَّهُ لَو أقرّ عَلَيْهِ وَقع الاجتزاء بِهِ، فَدلَّ أَنا إِنَّمَا نشترط أَن يصدر من الشَّيْخ عَلامَة دَالَّة على أَن الَّذِي ينْقل مِمَّا يَصح عِنْده، وَهَذَا الْمَعْنى يتَحَقَّق بِالسُّكُوتِ، ويتحقق بِأَن يَقُول: انقل عني هَذَا الحَدِيث، فَإِنَّهُ صَحِيح عِنْدِي. [1102] فَإِن قيل: فَنحْن لَا نكتفي بِالسُّكُوتِ، بل نشترط أَن يُقرر الشَّيْخ للقارئ كَمَا قَرَأت. قُلْنَا: قد سبق الرَّد منا عَلَيْكُم فِي ذَلِك، على أَن تَقْرِيره إِيَّاه لَيْسَ هُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 نطق مِنْهُ بِنَفس الْخَبَر وَإِنَّمَا هُوَ لفظ دَال على أَن مَا قرئَ عَلَيْهِ صَحِيح عِنْده، وَهَذَا يتَحَقَّق فِي الْإِجَازَة لَا محَالة [124 / أ] . [1103] فَإِن / قيل: الْإِجَازَة تنزل منزلَة الْمُرْسل من الْأَخْبَار. قُلْنَا: هَذَا تحكم مِنْكُم، فَلم قُلْتُمْ ذَلِك، وَلَو جَازَ تَنْزِيله هَذِه الْمنزلَة [جَازَ] تَنْزِيل الْقِرَاءَة مَعَ سكُوت الشَّيْخ منزلَة الْمُرْسل، سنشبع القَوْل فِي الْمَرَاسِيل إِن شَاءَ الله تَعَالَى. (199) فصل [1104] إِذا نقل الْمعدل عَن الْعدْل حَدِيثا، ثمَّ أَن الْمَرْوِيّ عَنهُ أنكر الْخَبَر، فَهَل تصح رِوَايَة النَّاقِل عَنهُ؟ قُلْنَا: لَا يَخْلُو إِنْكَاره إِمَّا أَن يكون [إِنْكَار] مستريب وَإِمَّا أَن يكون إِنْكَار مصمم، فَإِن كَانَ إِنْكَار مستريب مثل أَن يَقُول الشَّيْخ الْمَنْقُول عَنهُ: لست أذكر مَا رويته، وَأَنا مشكك فِيهِ، فَهَذَا لَا يُوجب رد الرِّوَايَة عِنْد مُعظم أهل الحَدِيث، وَهُوَ الَّذِي نختاره فَأَما إِذا صمم على تَكْذِيب النَّاقِل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 فَقَالَ: مَا سَمِعت مني أصلا، فَلَا يعْمل بِهَذَا الحَدِيث، ويتوقف فِيهِ، فَإِنَّهُ تعَارض فِيهِ قطع الْمَنْقُول عَنهُ بِالنَّفْيِ وَقطع النَّاقِل بِالنَّقْلِ، وَلَيْسَ أَحدهمَا أولى من الثَّانِي. [1105] فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا جعلتم النَّاقِل أولى فَإِنَّهُ تثبيت زِيَادَة؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 قُلْنَا: فَإِن كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَفِي مُقَابلَته أصل آخر، وَهُوَ أَن القَوْل قَول الْمَنْقُول عَنهُ، فَإِنَّهُ الأَصْل وَمِنْه النَّقْل، فَلَمَّا تعَارض الأصلان أعرضنا عَن الحَدِيث. [1106] فَإِن قيل: فَهَلا يكون تَكْذِيب الشَّيْخ للناقل جرحا مِنْهُ لَهُ؟ قُلْنَا: لَا فَإِنَّهُ لَو جَازَ ذَلِك جَازَ أَن يُقَال: تَكْذِيب النَّاقِل شَيْخه فِي إِنْكَاره يكون جرحا لَهُ، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل اليه، فَإِن كل وَاحِد مِنْهُمَا لم يُصَرح بِالْجرْحِ، بل يجوز أَن يقدر فِي قَول كل وَاحِد مَا لَا يَقْتَضِي الْجرْح، وَهُوَ ان يَقُول الشَّيْخ: أقطع بِأَنَّهُ لم يسمعهُ مني، وَلكنه لَعَلَّه غلط فَظن أَنه سمع، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الطّرف الآخر، فَهَذَا مَا نختاره، وَهُوَ مَذْهَب الْعلمَاء، وَزعم الْكَرْخِي وَمن تَابعه من متأخري أَصْحَاب أبي حنيفَة رَحمَه الله أَنه لَا يجب الْعَمَل بالْخبر إِذا تشكك فِيهِ الشَّيْخ وَلذَلِك لم يجوزوا الِاحْتِجَاج بِخَبَر الزُّهْرِيّ مُسْندًا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 وَليهَا فنكاحها بَاطِل " لن ذَلِك ذكر لِلزهْرِيِّ رَحمَه الله وَلم يذكرهُ وَكَذَلِكَ ردوا خبر سُهَيْل بن ابي صَالح فِي الشَّاهِد وَالْيَمِين لِأَنَّهُ عرض عَلَيْهِ فَلم يذكرهُ وَرُبمَا كَانَ يَقُول: حَدثنِي بن ربيعَة عني. [1107] وَالدَّلِيل على مَا صرنا إِلَيْهِ أَن نقُول: من نقل الحَدِيث وَهُوَ موثوق بِهِ وَلم يُصَرح شَيْخه بإنكاره فَلَيْسَ من شَرط اسْتِدَامَة الرِّوَايَة وَالنَّقْل دوَام الْعلم. فَإِن الْمَنْقُول عَنهُ لَو جن أَو مَاتَ أَو صَار مغفلا فَلَا تَنْقَطِع الرِّوَايَة عَنهُ إِذا تحملهَا الرَّاوِي بسلامة الْحَال، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ اتِّفَاق الكافة على أَن الْمَنْقُول عَنهُ لَو شكّ بعد زمَان فِي لفظ من الحَدِيث أَو إِعْرَاب فَلَا يَقْتَضِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 ذَلِك رد الرِّوَايَة، وَكَذَلِكَ إِذا نسي أصل الْخَبَر. فَإِن قَالُوا: تردده فِي الحَدِيث يوهنه ويضعفه، فَإِنَّهُ يبعد أَن يروي حَدِيثا ويدوم لَهُ السَّلامَة عَن الْآفَات والعاهات ثمَّ ينساه فِي مجاري الْعَادَات. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ بَاطِل، فَإِن الْإِنْسَان قد ينسى فِي اطراد الْعَادة أَكثر من ذَلِك، وَمن ادّعى على الْعَادة أَن الشَّيْخ الَّذِي نقل مائَة ألف حَدِيث لَا يجوز فِي الْعَادة أَن ينسى مِنْهَا وَاحِدًا فقد قرب من خرق الْعَادَات، وادعاء [124 / ب] المحالات، كَيفَ وَقد ينسى الْإِنْسَان قصَّة من الْقَصَص يعْذر اقتصاؤهاايام فِي فَكيف الظَّن بِحَدِيث لفظ بِهِ فِي سَاعَة. [1108] فَإِن قَالُوا: إِذا نسي الرَّاوِي الحَدِيث فَلَا يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِهِ، فَكيف يجب على الْغَيْر الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الْمَنْقُول عَنهُ وَلَا يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِهِ وَهُوَ الأَصْل. قُلْنَا: هَذَا تلبيس مِنْكُم فانا نوجب عَلَيْهِ الْعَمَل كَمَا نوجب على غَيره مهما حدث عَنهُ عدل ثِقَة، وَهَكَذَا كَانَ يَأْخُذ سُهَيْل بن أبي صَالح بِمَا يرويهِ ربيعَة عَنهُ، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. (200) القَوْل فِي حكم الْعدْل إِذا انْفَرد بِنَقْل زِيَادَة لم يساعده عَلَيْهَا غَيره [1109] مَا صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء وَأهل الحَدِيث أَن الزِّيَادَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 من الثِّقَة مَقْبُولَة، وَإِن انْفَرد بهَا من بَين نقلة شَيْخه وَرُوَاته. وَذهب بعض أهل الحَدِيث إِلَى أَنَّهَا لَا تقبل وَإِلَيْهِ مَال مُعظم أَصْحَاب أبي حنيفَة رَحمَه الله. وَالَّذين قَالُوا بِقبُول الزِّيَادَة افْتَرَقُوا فرقا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 فَمنهمْ من قَالَ: إِنَّمَا تقبل الزِّيَادَة إِذا رجعت إِلَى لَفْظَة أَو حَالَة لَا تَقْتَضِي حكما زَائِدا. وَمِنْهُم من عكس ذَلِك فَقَالَ: إِنَّمَا نقبلها إِذا اقْتَضَت فَائِدَة جَدِيدَة، فَأَما إِذا كَانَت شاغرة عَن اقْتِضَاء فَائِدَة فَلَا نقبل. وَذهب بَعضهم إِلَى أَن من روى خَبرا مرّة ثمَّ نَقله أُخْرَى وَزَاد فِيهِ فَلَا تقبل زِيَادَته إِذا سمع ذَلِك الحَدِيث مِنْهُ دون الزِّيَادَة مرّة، فَأَما إِذا استبدل الْعدْل بِنَقْل الزِّيَادَة وَإِن لم ينقلها غَيره فَيقبل مِنْهُ. [1110] وَالَّذِي يَصح فِي ذَلِك عندنَا قبُول الزِّيَادَة من الثِّقَة فِي كل هَذِه الْأَحْوَال من غير فصل. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ اتفاقالكافة على أَن وَاحِدًا من أَصْحَاب الشَّيْخ الْمَنْقُول عَنهُ لَو انْفَرد بِرِوَايَة خبر تَامّ لم يساعده عَلَيْهِ سَائِر النقلَة فَيقبل مِنْهُ فَإِذا قبل مِنْهُ خبر انْفَرد بِهِ لكَونه ثِقَة مَأْمُونا فَكَذَلِك الزِّيَادَة، فَإِن المراعي فِي اصل الْخَبَر وزيادته ثِقَة الرَّاوِي، وَهُوَ فِي الأَصْل كَهُوَ فِي [الزِّيَادَة] . [1111] فَإِن قيل: الْفرق بَين الخ خبر وَالزِّيَادَة أَنه غير مُمْتَنع أَن يسمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 الْوَاحِد الحَدِيث وَحده من شَيْخه أَو من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيمْتَنع أَن يحضر جمَاعَة وَيذكر لَهُم شيخهم خَبرا فيشذ عَن جَمِيعهم زِيَادَة ويستقل بهَا وَاحِد. قُلْنَا: هَذَا بَاطِل من أوجه، أَحدهَا: أَنه لَا يبعد أَن يُعِيد الشَّيْخ أوالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحَدِيث الْوَاحِد مرَارًا أَو يزِيد فِيهِ مرّة زِيَادَة، وَيكون ذَلِك بمشهد الَّذِي انْفَرد بنقلها دون غَيره، وَكَذَلِكَ فَلَا يبعد أَن يحضر طَائِفَة مَجْلِسا فيخص وَاحِدًا مِنْهُم بِنَقْل زِيَادَة والاتفاق عثوره عَلَيْهَا واشتغال البَاقِينَ عَنْهَا، وَيكثر تصور ذَلِك فِي الْعَادَات. وَالَّذِي يُوضح مَا قُلْنَاهُ أَن نقُول: الثِّقَة يقطع بِسَمَاع الزِّيَادَة الَّتِي نقلهَا، وَغَيره من الثِّقَات لَا يكذبونه فِي ذَلِك. بل يَقُولُونَ: لم يبلغنَا. فَإِذا لم يكذبوه وَهُوَ قَاطع بنقله فَلَا شكّ أَن الْأَخْذ بِمَا قطع بِهِ الثِّقَة أولى من الْأَخْذ بِمَا يشكك فِيهِ آخَرُونَ، فَإِذا أحكمت ذَلِك هان عَلَيْك إبِْطَال التفصيلات الَّتِي ذَكرنَاهَا. [1112] فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا روى الرَّاوِي حَدِيثا فجوده، ثمَّ رَوَاهُ مرّة أُخْرَى وَزَاد فِيهِ فَهَذَا يُوجب اتهامه فِي مجاري االعادات. قُلْنَا: هَذِه / دَعْوَى مُجَرّدَة ويسبب إِلَى المطاعن فِي الثِّقَات من غير [125 / أ] تَحْقِيق، وَذَلِكَ أَن الْعدْل قد يروي الحَدِيث وَهُوَ جَاهِل عَن الزِّيَادَة، ثمَّ يتذكرها ويرويها، كَذَلِك لَيْسَ عَلَيْهِ أَن ينْقل جملَة الْقِصَّة فَرُبمَا نقل بَعْضهَا لِأَن الْحَاجة مست إِلَيْهِ فَلَمَّا تحققت الْحَاجة إِلَى الْبَقِيَّة نقلهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 [1113] وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَن من ثبتَتْ عَدَالَته وامتحنت أَمَانَته فَمَا يبدر مِنْهُ مَا يقْدَح فِي الْعَدَالَة تَحْقِيقا لَا يحكم بالقدح بِسَبَبِهِ وَمَا أمكن حمله على مَا لَا يُنَافِي الْعَدَالَة، وَظهر وَجه قبُوله. وَهَذَا الأَصْل هُوَ الْعُمْدَة فِي نفي المطاعن عَن الصَّحَابَة، فَإِنَّهُ قد تقررت لنا عدالتهم، وكل مَا يوردونه من المطاعن فيهم، أَو فِي بَعضهم لَيْسَ يتحد وَجهه فِي اقْتِضَاء الطعْن فَكَانَ اسْتِصْحَاب الأَصْل أولى من رفضه بِمَا تقَابل فِيهِ الْجَوَاز. (201) فصل [1114] فَإِن قَالَ قَائِل: هَل يجوز للراوي أَن يروي بعض الحَدِيث، وَيتْرك بعضه فَلَا يرويهِ، ثمَّ يرويهِ بعد حِين؟ قُلْنَا: تَفْصِيل القَوْل فِيهِ عندنَا أَن مَا تَركه إِن كَانَ من تَمام مَا نَقله بِأَن يكون مُشْتَمِلًا على مَا هُوَ شَرط فِي مَضْمُون مَا وَرَاءه، فَلَا يجوز لَهُ ترك رِوَايَته اصلا، فَإِن الَّذِي رَوَاهُ لَا يسْتَقلّ دونه، وتمس الْحَاجة إِلَيْهِ، فينسب إِلَى الْإِخْلَال، أَو نقص الْمَنْقُول فِي هَذَا الْحَال. فَأَما إِذا لم يكن مَا تَركه شَرط مَا قدمه، وَلم يكن مِنْهُ تسبب، بل اسْتَقل كل وَاحِد من الْكَلَامَيْنِ بِنَفسِهِ، فَلهُ رِوَايَة الْبَعْض والإضراب عَن الْبَعْض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 وَهَذَا كَمَا يشْتَمل الْخَبَر الْوَاحِد على بَيَان الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَلَا تعلق لأَحَدهمَا بِالْآخرِ. وَذهب بعض أهل الحَدِيث إِلَى أَن التَّبْعِيض لَا يجوز فِي الْحَالَتَيْنِ جَمِيعًا. وَذهب بَعضهم إِلَى جَوَازه فِي الْحَالَتَيْنِ. [1115] فَأَما وَجه الرَّد على من لم يجزه فِي الْحَالَتَيْنِ فَهُوَ أَن نقُول: إِذا اسْتَقل كل كَلَام بِنَفسِهِ وَلم يتَعَلَّق تَمام أَحدهمَا بِالثَّانِي، فينزلان منزله خبرين. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن تفرق الْمجَالِس لَا يُغير حكم النَّقْل، فَلَا فرق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 بَين أَن يسمع الرَّاوِي أحكاما فِي مجْلِس وَاحِد سردا أَو بَين أَن يسْمعهَا نكرات ودفعات، وَهَذَا وَاضح. [1116] وَأما وَجه الرَّد على من جوز فِي الْحَالَتَيْنِ التَّبْعِيض وَهُوَ أَن نقُول إِذا كَانَ الْمَنْقُول يفْتَقر فِي تَمَامه إِلَى بَيَان مَا سكت عَنهُ وَلم يَنْقُلهُ فَهَذَا إخلال بَين، وَأَقل مَا فِيهِ أَن يتسلط المجتهدون على اسْتِدْرَاك بَقِيَّة الْأَحْكَام بالمقاييس، فَرُبمَا يُخَالف مجاريها مَا لم يَنْقُلهُ ويقتصرون على رُوَاة من غير شَرط صِحَّته فَيَقَع ذَلِك مِنْهُم بَاطِلا. (202) فصل [1117] اعْلَم أَن الأولى بالشيخ أَن يتَجَنَّب التهم وموجبات الظنة فَإِذا علم أَنه لَو بعض خَبرا رَوَاهُ مرّة نَاقِصا وَمرَّة تَاما فيستوطن النقلَة بِهِ إِلَى تهمته ويعرفونه بِسوء الْحِفْظ لاعتقادهم منع ذَلِك وَإِذا تساوى الظَّن بِهِ أعلوه وَتركُوا مَا رَوَوْهُ وعطلوه فَإِذا علم ذَلِك مِنْهُم فَلَا يَنْبَغِي أَن يبعض الحَدِيث عَلَيْهِم، فَإِنَّهُ لَو فعله كَانَ لبسا إِلَى مَا يكَاد يُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيل أَخْبَار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَما إِذا علم أَنه وَإِن بعض الْخَبَر فَلَا جرح عَلَيْهِ لَو بعض. (203) فصل [1118] اخْتلف النَّاس فِي أَن الرَّاوِي لَو [اراد] نقل الحَدِيث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 بِالْمَعْنَى، وَترك لفظ / الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَفظ شَيْخه، فَهَل يجوز لَهُ ذَلِك؟ فَمنهمْ من منع ذَلِك، وَأوجب نقل أَلْفَاظ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرفا حرفا من غير إخلال وتبديل. وَمِنْهُم من جوز النَّقْل على الْمَعْنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 و [إِلَيْهِ] صَار مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي كتاب الرسَالَة. وَلَكِن فِيهِ تَفْصِيل، وَهُوَ أَن نقُول: إِن بدل اللَّفْظ فِيمَا يقطع عَن الله تَعَالَى فَإِن التبديل لَا يُغير الْمَعْنى فَلَا حرج عَلَيْهِ فِي هَذَا النَّوْع من التبديل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 وَذَلِكَ مثل أَن يُبدل قَوْله: " قَامَ " بقوله: " انتصب ناهضا "، وَقَوله " قعد " بقوله " جلس "، وَقَوله " علم " بقوله " عرف " إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يعلم قطعا أَنه لم يُبدل تَبْدِيل اللَّفْظ معنى. وَأما إِذا جوز أَن الْمَعْنى يتبدل بتبديل اللَّفْظ، أَو علم أَنه لَا يتبدل بِاجْتِهَاد واستدلال وَهُوَ يجوز أَن يُؤَدِّي اجْتِهَاد غَيره إِلَى خلاف مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده، فَلَا يسوغ هَذَا الضَّرْب من التبديل. وَكَذَلِكَ من كَانَ جَاهِلا بمواقع الْخطاب، وَيجوز أَن يفضى بتبديله إِلَى تَغْيِير فَلَا نجد إِلَى ذَلِك سَبِيلا. [1119] وَالدَّلِيل على جَوَاز التبديل عِنْد الْأَمْن من تَحْويل الْمَعْنى اتِّفَاقهم على جَوَاز تَرْجَمَة أَخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأهل اللُّغَات الْمُخْتَلفَة، وَهَذَا تَغْيِير اللَّفْظ، وَهُوَ أعظم من تَبْدِيل الْكَلِمَة الْعَرَبيَّة بِمِثْلِهَا. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك مَا قُلْنَاهُ: أَن الْمَقْصُود بِنَقْل أَلْفَاظ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَانِيهَا وَمَا فِيهَا من قَضِيَّة التَّكْلِيف، وَلَيْسَ الْمَقْصُود أَعْيَان الْأَلْفَاظ، فَإِذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 علم قطعا أَدَاء الْمَعْنى مَعَ تجنبه الريب فِي مواقع الْخلاف، فقد أدّى الْمَقْصد. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الشَّاهِد إِذا أدّى مَا يحمل الشَّهَادَة عَلَيْهِ، فَلَا يُكَلف فِيهِ أَدَاء صور الْأَلْفَاظ، وَإِنَّمَا الْمَأْخُوذ، عَلَيْهِ أَدَاء الْمَعْنى الْمَقْطُوع بهَا. [1120] فَأَما الدَّلِيل على منع الْجَاهِل بمواقع الْخطاب والمستريب من التبديل فالإجماع على أَنه يعتضد أَن شَرط النَّقْل أَن يكون النَّاقِل قَاطعا بِمَا نقل، فَهَذَا يقْدَح فِي الْقطع بِالنَّقْلِ. [1121] فَإِن اسْتدلَّ من أوجب نقل الْأَلْفَاظ بِأَعْيَانِهَا وَإِلَيْهِ صَار مُعظم أَصْحَاب الشَّافِعِي رَحمَه الله وَإِن كَانَ الَّذِي يدل عَلَيْهِ كَلَامه فِي " الرسَالَة " يجوز التبديل على الشَّرْط الَّذِي ذَكرْنَاهُ. فَإِنَّهُ قَالَ رَضِي الله عَنهُ: يجب أَن يروي الْمُحدث بِحُرُوفِهِ كَمَا سَمعه وَلَا يحدث بِهِ على الْمَعْنى وَهُوَ غير عَالم بِمَا يحِيل مَعْنَاهُ لما روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ رحم الله امراء سمع مَقَالَتي فوعاها فأداها كَمَا سَمعهَا فَرب مبلغ أوعى من سامع وَرب حَامِل الْفِقْه وَلَيْسَ بفقيه وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 [فَهَذَا] لَا حجَّة لَهُم فِيهِ فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَوْمَأ إِلَى الْعِلَل الْمَانِعَة من التبديل، لما ذكر من اخْتِلَاف الْأَحْوَال وتباين النَّاقِل وَالْمَنْقُول إِلَيْهِ فِي الصِّفَات، فَدلَّ سِيَاق الْخطاب على ان التبديل إِذا كَانَ يَقْتَضِي قطعا أَو توقعا أحَال الْمَعْنى فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ، وَهَذَا مَا نقُول بِهِ، على أَن هَذَا الحَدِيث قد قوبل بِمَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " إِذا أصبت الْمَعْنى فَلَا بَأْس " وَهَذَا عَام فِي الْبَلَاغ عَنهُ وَعَن غَيره، على أَنه لَا يبلغ مبلغ الْخَبَر الأول فِي الصِّحَّة. [1122] فَإِن قَالُوا من الْأَحْكَام مَا يُرَاعى فِيهَا أَعْيَان الْأَلْفَاظ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 [26 / أ] كالتكبيرات فِي الصَّلَوَات وَنَحْوهَا من / الدَّعْوَات فَلَا سَبِيل إِلَى تَغْيِير الْأَلْفَاظ. قُلْنَا: هَذَا تلبيس، وَذَلِكَ أَن مَا أشرتم إِلَيْهِ مَتى أوجب قولا ولفظا فَيتَعَيَّن نقل الْأَلْفَاظ وَلَيْسَ إِذا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " صلوا " فَإنَّا نعلم أَنه لَيْسَ الْمَقْصُود لفظ يذكر، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود امْتِثَال مَعْنَاهُ، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده فافترق الْأَمْرَانِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 (204) بَاب يجمع فصولا وجملا من أَلْفَاظ الصَّحَابَة وَذكر الِاخْتِلَاف فِيهَا [1123] اتّفق من تقدم من عُلَمَاء الْأُصُول على أَن الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ: أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهَذَا يحمل على الْأَمر، وَلَا يشْتَرط أَن ينْقل لفظ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِذا لم يَنْقُلهُ يتَوَقَّف، وَلَكِن إِذا رددنا الْأَمر بَين الْإِيجَاب والاستحباب فَيتَوَقَّف فيهمَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 [1124] فَإِن قيل: ألستم قُلْتُمْ إِن الْأَمر قد يرد على معنى الْحَظْر تَارَة، وعَلى معنى الْإِبَاحَة أُخْرَى؟ . قيل: هَذِه غَفلَة عَظِيمَة من مَذْهَبنَا، فَإِن الْأَمر لَا يتَرَدَّد إِلَّا بَين النّدب وَالْإِبَاحَة، فَإِن حَقِيقَة اقْتِضَاء الطَّاعَة كَمَا وصفناه، وَإِنَّمَا يتَرَدَّد بَين الْأَبْوَاب الَّتِي ذكرتموها للصيغ، وَهِي عِبَارَات، وَلَيْسَت بأوامر على الْحَقِيقَة. فَإِذا قَالَ الصَّحَابِيّ أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حمل ذَلِك على الْأَمر الْحَقِيقِيّ. [1125] فَإِن قيل: إِذا كَانَت الصِّيَغ لَا تدخل عنْدكُمْ فَبِأَي وَجه يتَوَصَّل الصَّحَابِيّ إِلَيْهِ؟ قُلْنَا: الصَّحَابِيّ يتَوَصَّل بقرائن الْأَحْوَال الَّتِي يقارنها الْعلم الضَّرُورِيّ على مجاري الْعَادَات وَقد سبق تقريرنا ذَلِك بِمَا فِيهِ كِفَايَة. 1126 - ] فَإِن قيل: فَإِذا لم ينْقل اللَّفْظ فَمَا يؤمننا أَن يكون قد سمع لفظا واعتقده أمرا وَلَيْسَ الْأَمر على مَا اعتقده عِنْد بعض الْعلمَاء. قُلْنَا: الثِّقَة الْعدْل إِذا نقل شَيْئا مُطلقًا فَلَا يتَعَرَّض لتقرير وُجُوه الْبطلَان فِيهِ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الشَّاهِد إِذا شهد على بيع أَو إِجَارَة أَو غَيرهمَا من الْعُقُود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 لَا نكفله أَن ينعَت لَهَا وَجه الصِّحَّة فِيمَا يشْهد عَلَيْهِ بل يَكْتَفِي بِإِطْلَاقِهِ القَوْل. [1127] وَالتَّحْقِيق فِيهِ أَن الَّذِي ينْقل من تَمام عَدَالَته ومعرفته أَن لَا ينْقل على اعْتِقَاده مَعَ تجويزه الِاخْتِلَاف، فَإِنَّهُ لَو فعل ذَلِك كَانَ مُجْتَهدا، وَلم يكن نَاقِلا موثوقا بِهِ، وَلَو عرفنَا ذَلِك من ناقل كَانَ مطعنا فِيهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَن يُبْدِي مَا لَو تحقق كَانَ طَعنا فِي الصَّحَابِيّ. [1128] ويحكى عَن داؤد من اصحاب الظَّاهِر أَنه صَار إِلَى التَّوَقُّف فِي قَول الصَّحَابِيّ أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد أوضحنا وَجه الرَّد عَلَيْهِ. (205) فصل [1129] فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا قَالَ الرَّاوِي الصَّحَابِيّ أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهَل يحمل ذَلِك على الْعُمُوم، حَتَّى يعم كَافَّة أهل الاعصار. قُلْنَا: هَذَا مِمَّا اخْتلف فِيهِ الْعلمَاء، فَمنهمْ من حمله على الْعُمُوم، وَمِنْهُم لم يحملهُ على الْعُمُوم. وَالصَّحِيح عندنَا أَن نفس اللَّفْظ لَا يحمل على الْعُمُوم، وَلَكِن إِن اقْترن بِهِ من حَال الرَّاوِي مَا يدل على أَنه أَرَادَ بِهِ تثبيت الشَّرْع عُمُوما فَيحمل عَلَيْهِ بِالْقَرِينَةِ حِينَئِذٍ وَهَذَا مِمَّا سبق منا إيضاحه فِي مسَائِل الْعُمُوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 (206) فصل [1130] اخْتلف الأصوليون من اصحاب الشَّافِعِي وَغَيره فِي مسئلتين: إِحْدَاهمَا أَن الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ: " أمرنَا بِكَذَا " و " نهينَا عَن كَذَا "، فَهَل يحمل [126 / ب] ذَلِك على أَمر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم / وَنَهْيه؟ فَذهب بَعضهم إِلَى انه لَا يحمل عَلَيْهِ، لجَوَاز أَن يَعْنِي بقوله " أمرنَا " بعض الْخُلَفَاء أَو اعْتِقَاد أَمر الله تَعَالَى بِظَاهِر يتَمَسَّك بِهِ من الْكتاب. وَمِنْهُم من قَالَ يحمل ذَلِك على امْر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَإِلَيْهِ صَار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 الْأَكْثَرُونَ. [1131] وَالَّذِي يجب أَن نَخْتَار فِي ذَلِك ان اللَّفْظَة مترددة، فَإِن تعرت عَن الْقَرَائِن وقارنها الِاحْتِمَال فَلَا يحمل على أَمر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَإِن اقْترن اللَّفْظ من قيد مقَال، أَو قرينَة حَال فَيجْرِي على قضيتها حِينَئِذٍ. [1132] والمسئلة الْأُخْرَى الَّتِي اخْتلف الْعلمَاء فِيهَا أَن يَقُول الصَّحَابِيّ من السّنة كَذَا أَو كَذَا. فَمن الْعلمَاء من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَغَيره من يحمل ذَلِك على سنة رَسُول الله 7. وَالْقَوْل فِيهِ مَا قُلْنَا من اعْتِبَار الْقَرَائِن. (207) فصل [1133] فَإِن قَالَ قَائِل: قد كثر مِنْكُم إِطْلَاق الصَّحَابِيّ فِيمَا قدمتموه من الْأُصُول، فَمن الصَّحَابِيّ وَمَا وَصفه؟ قُلْنَا: إِن رددنا إِلَى حَقِيقَة اللُّغَة فالصحابي مُشْتَقّ من الصُّحْبَة، فَكل من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 صحب فَهُوَ صَحَابِيّ، وَلَا يخْتَص ذَلِك بدهر وزمن، بل اصل اللُّغَة يَقْتَضِي تَحْقِيق الِاسْم وَإِن تحققت الصُّحْبَة فِي لَحْظَة وَسَاعَة، غير ان الَّذِي غلب فِي الِاسْتِعْمَال أَن من يصحب رجلا لَحْظَة فِي عمره لَا يُسمى فِي الْإِطْلَاق من اصحابه، بل إِنَّمَا يُطلق ذَلِك فِي عرف الِاسْتِعْمَال على من طَالَتْ صحبته فِي مُدَّة ممتدة لَا تنضبط مبلغها. فَكل من صَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَحْظَة اقْتَضَت اللُّغَة تَسْمِيَته صحابيا، بيد أَن عرف الِاسْتِعْمَال يمْنَع ذَلِك فِي من طَالَتْ صحبته. [1134] فَإِن قيل: فَهَل تَقولُونَ أَن من عاصر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ فِي دهره وعصره فَهُوَ صَحَابِيّ؟ قُلْنَا: لَا نقُول ذَلِك فَإِنَّهُ يعاصر الرجل من لَا يرَاهُ أصلا وَلَا يتَّفق بَينهمَا قَرَار لتباعد الديار وَقد يرَاهُ ويصحبه وَهَذَا مَا لَا خَفَاء بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 (208) بَاب القَوْل فِي إرْسَال الحَدِيث، وَمَعْنَاهُ، وَذكر الِاخْتِلَاف فِي وجوب الْعَمَل بالمراسيل [1135] إرْسَال الحَدِيث: هُوَ أَن يضيف الْإِنْسَان الحَدِيث إِلَى من لم يلقه، من غير أَن يذكر من بَيته وَبَينه، كالتابعي يضيف الحَدِيث إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَكَذَا التَّصْوِير فِي عصرين بَينهمَا ثَالِث لم يتَعَرَّض لَهُ أهل الْعَصْر الْأَخير، ثمَّ قد يُرْسل الْمُرْسل من غير تعرض أصلا، وَقد يتسبب بالتعرض لَهُ، وَقد يذكر رجلا وَلَا يُسَمِّيه مثل أَن يَقُول عَن رجل عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَهَذَا كُله من الْمَرَاسِيل. [1136] وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي وجوب الْعَمَل بِهِ. فَذهب جُمْهُور الْفُقَهَاء إِلَى وجوب الْعَمَل بِهِ مِنْهُم مَالك وَأهل الْمَدِينَة، وَأَبُو حنيفَة وَأهل الْعرَاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 وَذهب فريق إِلَى أَنه يجب الْعَمَل بِهِ، وَمِنْهُم الشَّافِعِي وَغَيره. وَقد يقبل الشَّافِعِي بعض الْمَرَاسِيل على مَا نفصل مذْهبه بعد ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى. [1137] ثمَّ اخْتلف رد مَرَاسِيل التَّابِعين وتابعي التَّابِعين فِي مَرَاسِيل الصَّحَابَة، وَإِذا قَالَ الصَّحَابِيّ عَن رجل عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم [فَمنهمْ] من يقبل ذَلِك مَعَ رده للمراسيل، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ، وَمِنْهُم من رد / ذَلِك [127 / أ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 أَيْضا. وَمِنْهُم من يقدم مَرَاسِيل الْكِبَار من الْأَئِمَّة على المسندات، وَيَزْعُم أَن االإمام لَا يُرْسل الحَدِيث إِلَّا مَعَ نِهَايَة الثِّقَة وَالصِّحَّة. [1138] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالَّذِي نختاره أَنه لَا يجب الْعَمَل بِشَيْء من الْمَرَاسِيل حسما للباب. وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن نقُول: قد قدمنَا أَنه لَا تقبل رِوَايَة من لم تتبين عَدَالَته، وأوضحنا أَنا لَا نكتفي بالظواهر، فَإِذا أرسل الْمَرَاسِيل وَلم يتَعَرَّض لشيخه فَلَا تعرف عَدَالَته. [1139] فَإِن قَالُوا: إِذا روى الْعدْل وَأطلق الرِّوَايَة فروايته تعديتل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 مِنْهُ وَهَذِه نُكْتَة المسئلة فتأملها. فَنَقُول: لسنا نسلم أَن رِوَايَته تَعْدِيل مِنْهُ، فَإِن الْعدْل قد يروي عَن الْعدْل وَقد يروي عَمَّن لم يعلم عَدَالَته وَلَا الطعْن فِيهِ، وَهَذَا مطرد فِي رِوَايَة الْأمة، حَتَّى قد يروي الإِمَام عَن شيخ فيتساءل عَنهُ فيبدي جَهله بِحَالهِ، وَلَو كَانَ الْإِمْسَاك عَن الْجرْح تعديلا كَانَ الْإِمْسَاك عَن التَّعْدِيل جرحا. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الشَّاهِد إِذا شهد على شَهَادَة غَيره فَأَطْلقهُ وَلم يمسهُ لم يكتف مِنْهُ بِإِطْلَاق حَتَّى يُسَمِّيه ويخبر عَدَالَته، وَإِن كَانَ إِطْلَاقه الشَّهَادَة على زعمكم ينبىء عَن تَعْدِيل الشَّاهِد أصل. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه لَو كَانَت رِوَايَته تعديلا لَكَانَ ترك الْعدْل الرِّوَايَة عَن بعض النَّاس جرحا مِنْهُ، وإخراجا لَهُ عَن كَونه مرضيا فِي الرِّوَايَة. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَيْضا أَن الْمعدل لَو سُئِلَ عَن الرَّاوِي فَسكت عَنهُ فَلَا يَجْعَل سُكُوته جرحا وَلَا تعديلا، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه، على أَنا نقُول أَكثر مأمولكم أَن تقدروا رِوَايَة الْعدْل تعديلا، وَلَو أَنه أرسل وَصرح بتعديل شَيْخه مُطلقًا من غير تَسْمِيَة إِيَّاه، فَلَا يقبل أَيْضا فَإِنَّهُ لم يسمه، فقد يعرفهُ عدلا وَلَو ذكره لعرفه غَيره بجرحه، فَبَطل مَا عولوا عَلَيْهِ من كل وَجه. [1140] فَإِن قَالُوا: قد استشهدتم فِي أثْنَاء كلامكم بِالشَّهَادَةِ، وَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 يَصح الاستشهاد بهَا، فَإِن الْأَمر فِيهَا [أغْلظ] ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنَّهَا تخْتَص بِعَدَد وَلَفظ مَخْصُوص، بِخِلَاف الرِّوَايَة. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه لَا يبل من الشَّاهِد على الشَّهَادَة أَن يَقُول: سمعته يَقُول، أَو يَقُول: " سَمِعت فلَانا عَن فلَان " فَيشْهد على رتبتين بالعنعنة، وكل ذَلِك سَائِغ فِي الرِّوَايَة. قُلْنَا: كل مَا ذكرتموه لَا يُوجب الْفَصْل بَين الشَّهَادَة وَالرِّوَايَة فِي الْعَدَالَة، فَإِن وَجه الْبَحْث عَن عَدَالَة الروَاة كوجه الْبَحْث عَن عَدَالَة الشُّهُود، وَمَا ذكرتموه لَا يُوجب الْفَصْل فِي هَذَا الحكم. [و] قيل لَهُ اخْتصّت الشَّهَادَة بِالْعدَدِ وَاللَّفْظ بِمَا لَا يتَعَلَّق بِالْعَدَالَةِ فَلم يقْدَح مَا ذكرتموه من الفروق فِي الْوَصْف الْمَطْلُوب. [1141] فَإِن قَالُوا: إِذا قَالَ الرَّاوِي أخبرنَا زيد عَن عَمْرو فَيجوز أَن يَقُول أخبرنَا رجل عَن سَمَاعه من عَمْرو، فَأَما قَوْله عَن عَمْرو فمتردد بَين الْإِسْنَاد والإرسال، وَلَيْسَ بمصرح بِهِ فِي الْإِسْنَاد وَمَعَ ذَلِك هُوَ مَقْبُول. فَنَقُول قد تواضع أهل الصَّنْعَة من الروَاة والنقلة فِي العنعنة فِي الرِّوَايَات لما طَالَتْ الْأَسَانِيد وَكَثُرت الْأَسْمَاء، وَلَو ذكرُوا بَين كل اسْمَيْنِ لفظا مُصَرحًا بِهِ فِي اقْتِضَاء السماع لتضعف الدفاتير وَثقل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 الْأَمر وَكَذَلِكَ آثروا فِي الْكِتَابَة / الِاقْتِصَار على رقم فِي أخبرنَا وَحدثنَا فقد [127 / ب] أعلمونا بتواضعهم أَن كل شَخْصَيْنِ جَمعهمَا عصر، واتصل بَينهمَا الْإِسْنَاد بعن فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ السماع، حَتَّى لَو ذكر ذَاكر هَذِه اللَّفْظَة وَلم يكن قد سمع عد مدلسا، حَتَّى قَالَ المحقون من أَصْحَابنَا: لَو تبين لنا فِي بعض الْأَعْصَار إِطْلَاق العنعنة عَن غير سَماع تجنبناها وَلم نقتصر على الْإِطْلَاق بهَا. [1142] فَإِن اسْتدلَّ من نَص وجوب الْعَمَل بالمراسيل من الْأَحَادِيث بِأَن قَالَ: أَجمعت الصَّحَابَة على قبُول الْمَرَاسِيل، وَكَذَلِكَ التابعون. وإيضاح ذَلِك أَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَكثر الرِّوَايَة حَتَّى زَادَت رواياته على رِوَايَة من كثرت صحبته، وامتدت فِي معاصرة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مدَّته، وَمَا كَانَ قد أدْرك من زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا الْقَلِيل حَتَّى يرْوى أَنه لم ينْقل من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا أَرْبَعَة أَحَادِيث وتلقى الْبَاقِي من الصَّحَابَة، ثمَّ كَانَ يُطلق الرِّوَايَة، وَكَانَ ابْن عمر وَغَيرهمَا من أَحْدَاث الصَّحَابَة، حَتَّى رُوِيَ أَن ابْن عَبَّاس سُئِلَ عَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة " فَقَالَ حَدثنِي بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 أُسَامَة بن زيد. وَلما رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يزل يُلَبِّي فِي حجه حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة، فَلَمَّا استكشف فِي ذَلِك قَالَ: حَدثنِي بِهِ أخي الْفضل. وَكَذَلِكَ ابْن عمر روى مُطلقًا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من صلى على جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط الحَدِيث ثمَّ تبين أَنه رَوَاهُ عَن أبي هُرَيْرَة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 وروى أَبُو هُرَيْرَة أَنه قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أصبح جنبا أفطر، فَلَمَّا نُوقِشَ فِي ذَلِك قَالَ أَخْبرنِي بِهِ الْفضل بن عَبَّاس. وَيكثر ذَلِك فِي التَّابِعين أَيْضا. وَمَوْضِع الِاسْتِدْلَال [أَن] الصَّحَابَة علمُوا قلَّة سَماع ابْن عَبَّاس من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإكثاره الرِّوَايَة وَكَذَلِكَ علم التابعون ذَلِك وقبلوا رواياته. فَنَقُول: إِن كَانَ استدلالكم بإرسال هَؤُلَاءِ فَلَا مستروح فِيهِ، فَإِن من لَا يَقُول بالمراسيل قد يُرْسل الحَدِيث. ثمَّ لَو كَانَ الْإِرْسَال دَلِيلا على القَوْل بالمرسل فَإِنَّمَا أرسل الْأَحَادِيث أَقوام لَا يُمكن دَعْوَى الْإِجْمَاع من أهل الْعَصْر فِيهِ، فَإِن كَانَ الِاحْتِجَاج بِمَا أطلقهُ ابْن عَبَّاس فَوجه الْخطاب أَن نقُول: رُبمَا يتَّفق السماع الْكثير فِي الْمدَّة الْيَسِيرَة وَمَا ذكرتموه انه لم يسمع إِلَّا اربعة أَحَادِيث فَهَذَا بهت عَظِيم، فَإنَّا نعلم أَن من كَانَ لَهُ همة فِي نقل الشَّرِيعَة فيزيد مسموعه فِي الْيَوْم الْوَاحِد أَرْبَعَة أَحَادِيث سِيمَا فِي حق من قَوْله وَفعله وسكوته شرع، وَلَو حصرنا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 وَقت تَمْيِيزه إِلَى وَفَاة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لبلغ سِنِين عدَّة، فَبَطل مَا قَالُوهُ. وَأما مَا رَوَوْهُ من الْإِرْسَال فِي الحَدِيث والحديثين فمما لَا تقوى بِهِ الْحجَّة فِي مناقشة. إِذْ الدَّلِيل قد دلّ ترك الْإِجْمَاع على الْعَمَل بالمراسيل، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه، وَلم يستقم ادِّعَاء الْإِجْمَاع لنا. وَإِن قبلنَا مَرَاسِيل الصَّحَابَة واكتفينا فِي تعديلهم لتعديل الله إيَّاهُم فَيَكْفِي مُؤنَة السُّؤَال. [1143] وَمِمَّا استدلوا بِهِ مَا ذَكرْنَاهُ من خلال اسئلة وَهُوَ أَنهم قَالُوا: إِذا قَالَ الْعدْل: " قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " فَلَا يجوز إِطْلَاق ذَلِك إِلَّا مَعَ الْعلم الظَّاهِر / باتصال النَّقْل ". فَإِن الَّذِي فِي الْوسط لَو كَانَ معلولا لَكَانَ لَا يَلِيق بِالْعَدْلِ الثِّقَة وَالْحَالة هَذِه إِطْلَاق الِاتِّصَال. وَهَذَا مَا تقصينا عَنهُ، وَبينا أَنه رُبمَا يعْتَقد ذَلِك أحدا بِظَاهِر الْحَال دون الْبَحْث عَن الْعَدَالَة، كَمَا صَار إِلَيْهِ بعض الْعلمَاء، وَرُبمَا مَا يرَاهُ عدلا وَغَيره بجرحه لَو أظهره، وَالْجرْح أولى من الْعَدَالَة، كَيفَ وَقد روى أَن الزُّهْرِيّ وَهُوَ إِمَام الصَّنْعَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا كوشف فِيمَن أخبرهُ قَالَ أَخْبرنِي بِهِ رجل على بَاب مَرْوَان لَا أعرفهُ. (0209) فصل [1144] قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ: لَا تقبل الْمَرَاسِيل إِلَّا إِذا تجمعت فِيهَا أَوْصَاف وعدها فِي الرسَالَة. وَكلهَا مدخولة عِنْد القَاضِي. فمما ذكره الشَّافِعِي رَحمَه الله من الْأَوْصَاف أَن يكون الَّذِي رَوَاهُ الْعدْل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 مُرْسلا قد رَوَاهُ غير [هـ] مُسْندًا. قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَهَذَا مَا لَا وَجه فِي اشْتِرَاطه، فَإِنَّهُ إِذا روى مُسْندًا من وَجه فَلَا حَاجَة إِلَى الْمُرْسل، وَإِن كَانَ الْمسند دَلِيلا على صِحَة الْمُرْسل كَانَ ذَلِك بَاطِلا. وَإِن مَا لَا يصلح على حياله، وَكَذَلِكَ لَو وَافقه خبر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 وَالدَّلِيل عَلَيْهِ الرِّوَايَة عَن الضَّعِيف، فَإِنَّهُ لَا يحكم بِصِحَّتِهِ وَإِن وَافقه خبر عدل. [1145] وَمِمَّا شَرطه الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَن قَالَ: يَنْبَغِي أَن يُوَافق إرْسَاله إرْسَال غَيره فتتفق طَائِفَة من الْحفاظ على الْإِرْسَال. وَهَذَا فِيهِ نظر أَيْضا فَإِن الْإِرْسَال ضَعِيف فِي طرق الحَدِيث وَكَثْرَة الْإِرْسَال لَا يُوجب تقويته، وَهَذَا كَمَا أَن الرِّوَايَة عَن الضَّعِيف لما لم يُوجب الْعَمَل فَكَذَلِك الرِّوَايَة عَن جمَاعَة من الضُّعَفَاء، فَلَو كَانَ إرْسَال الْجَمَاعَة يُؤثر فِي الْقبُول لَكَانَ يَقع الاجتزاء بالرواية الْوَاحِدَة. [1146] وَمِمَّا شَرطه الشَّافِعِي أَن قَالَ: الحَدِيث الْمُرْسل إِذا عاضده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 مَذَاهِب الْعَامَّة فَهُوَ مِمَّا يقويه، فَقَالَ لَهُ: إِن عنيت بالعامة الْعلمَاء عَامَّة، فكأنك شرطت الْإِجْمَاع فِي قبُول الْمَرَاسِيل وَإِذا ثَبت الْإِجْمَاع اسْتغنى عَن الْمُرْسل، وَإِن أومىء بذلك إِلَى مَذَاهِب الْعَوام، فَهُوَ أجل قدرا من أَن تظن بِهِ ذَلِك، فَإِن الْعَوام لَا مُعْتَبر لَهُم فِي وفَاق وَلَا خلاف وَإِنَّمَا الْمُعْتَبر بِخِلَاف الْعلمَاء واتفاقهم، وَإِن عَنى بِمَا قَالَه مُعظم الْعلمَاء، فَهُوَ مَدْخُول أَيْضا فَإِن مصير الْمُعظم مَعَ تَقْدِير الْخلاف إِلَى مَذْهَب لَا يكون حجَّة وَلَو وَجَاز تَقْوِيَة الْمُرْسل بذلك لجَاز تَقْوِيَة الرِّوَايَة عَن الضَّعِيف بذلك. [1147] وَمِمَّا شَرطه ايضا أَن يُوَافق الْمُرْسل مَذْهَب بعض الصَّحَابَة. وَهَذَا فِيهِ نظر ايضا فَإِن الصَّحَابِيّ كَغَيْرِهِ فِي أَنه لَا يحْتَج بقوله، فَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي الْجد. [1148] ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي: إِذا اجْتمعت هَذِه الْأَوْصَاف فاستحب قبُوله وَهَذَا هُوَ مَدْخُول أَيْضا فَإِن مَا كَانَ بِمحل الْقبُول يجب أَن يقبل وَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 لم يكن بِمحل الْقبُول [لَا يحل] لنا أَن نقبل، فَلَا معنى للاستحباب. [1149] ثمَّ من أَصْحَاب الشَّافِعِي من يسند إِلَيْهِ تَخْصِيص الْقبُول بمراسيل سعيد بن الْمسيب، وَهَذَا مَا لَا يَصح عَنهُ، وَإِنَّمَا الصَّحِيح عَنهُ أَن مَا استجمع هَذِه الْأَوْصَاف فَهُوَ بِمحل الْقبُول. [1150] وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن لَا يغْفل عَنهُ أَن نعلم أَن الْكَلَام فِي الْمَرَاسِيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 نفيا / وإثباتا لَيْسَ من القواطع وَإِنَّمَا هُوَ من المجتهدات، هَكَذَا قَالَ القَاضِي [128 / ب] رَضِي الله عَنهُ. (210) فصل [1151] من أسْند حَدِيثا قد أرْسلهُ غَيره فَيقبل إِذا كَانَ بِحَيْثُ لَو انْفَرد قبل، وَذهب بعض الغلاة فِي رد الْمَرَاسِيل إِلَى أَن مَا أسْندهُ عدل فَلَا يجب الْعَمَل بِهِ إِذا ارسله عدل آخر، وَهَذَا سَاقِط من القَوْل، وَذَلِكَ أَن الْإِرْسَال لَا يضعف الْإِسْنَاد وَلَا يزِيد فِي الْإِرْسَال رُتْبَة على الرِّوَايَة عَن ضَعِيف، وَلَو رُوِيَ عدل خَبرا عَن عدل وَرَوَاهُ عدل آخر عَن مطعون فَالرِّوَايَة عَن المطعون لَا يُوجب رد حَدِيث الْعدْل عَن الْعدْل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 (211) بَاب فِي مَا يقبل فِيهِ خبر الْوَاحِد وَفِي مَا لَا يقبل ذَلِك فِيهِ، وَوجه الْخلاف فِيهِ وتبيين الْأَصْلَح [1152] اعْلَم، وفقك الله، أَن كل مَا يطْلب الْعلم فِيهِ فَلَا يقبل فِيهِ أخبارالآحاد، فَإِنَّهَا لَا تَقْتَضِي، وَإِنَّمَا يثبت بِدلَالَة قَاطِعَة وجوب الْعَمَل بهَا. [1153] فَإِن قيل: فَهَلا قُلْتُمْ: إِن خبر الْوَاحِد يُوجب [الْعلم] من حَيْثُ أَنه يُوجب الْعَمَل، فَإنَّا إِذا علمنَا أَنه يُوجب الْعَمَل فقد أوصلنا إِلَى ضرب من الْعلم. قُلْنَا: هَذَا خطأ، فَإنَّا لَا نعلم وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد بِعَين خبر الْوَاحِد وَإِنَّمَا نعرفه بِالدّلَالَةِ القاطعة الْمُقْتَضِيَة وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد، فَلم يحصل الْعلم بالْخبر إِذا، وَإِنَّمَا يحصل بِالدَّلِيلِ الدَّال عَلَيْهِ وَهُوَ مَقْطُوع بِهِ، فَاعْلَم ذَلِك، فَخرج لَهُ من هَذِه أَن خبر الْوَاحِد لَا يقبل فِي العقليات واصول العقائد وكل مَا يلْتَمس فِيهِ الْعلم. [1154] وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن نعلمهُ أَن الْخَبَر قد ينْقل آحادا فَيقطع بكذبه، وَذَلِكَ يتَحَقَّق فِي منَازِل مِنْهَا أَن من نقل شَيْئا استمرت الْعَادة شيوعه وذيوعه لَو كَانَ صدقا حَقًا فَإِذا انْفَرد بِهِ الْوَاحِد لم يُتَابِعه عَلَيْهِ عدد التَّوَاتُر فَهُوَ كذب، وَهُوَ مجوز أَخْبَار الْآحَاد عَن موت خَليفَة أَو فتْنَة عَامَّة استمرت الْعَادة بانتشارها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 وَمن هَذَا الْقَبِيل ايضا نقل معجزات الرُّسُل إِذا صدرت عَن مَلأ مصدر الإشاعة وإذاعة الدعْوَة، وَهَذَا مِمَّا سبق استقصاء القَوْل فِيهِ، وَمِمَّا يجب أَن ينْقل متواترا مَا كَرَّرَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عودا على بَدْء قولا وفعلا ودعا الكافة إِلَيْهِ نَحْو أصل الصَّلَوَات الْخمس وَاصل الزَّكَاة وَالْحج. وَالَّذِي يجمع مَا قُلْنَاهُ أَن يكون الْمَنْقُول مَا تَقْتَضِي الْعَادة فِي استمرارها نَقله تواترا واستفاضة. [1155] فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا قَوْلكُم فِي الْأَخْبَار فِيمَا تعم الْبلوى هَل تقبلون فِيهِ أَخْبَار الْآحَاد؟ قُلْنَا: مَا صَار إِلَيْهِ القدماء من الْعلمَاء وجوب قبُول الْأَخْبَار فِيمَا تعم فِيهِ الْبلوى، وَلم يؤثرمحى فِي ذَلِك خلاف إِلَّا عَن الْكَرْخِي وَطَائِفَة من متأخري أَصْحَاب أبي حنيفَة رَحمَه الله فَإِنَّهُم قَالُوا لَا يقبل خبر الْوَاحِد فِيمَا تعم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 الْبلوى نَحْو الَّذِي يتَعَلَّق بالصلوات فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة والطهارات وَنَحْوهَا، وتوصلوا بِهَذَا الأَصْل إِلَى رد خبر بسرة بنت صَفْوَان فِي مس الذّكر، وَغَيره من الْأَخْبَار، وَهَذِه قَاعِدَة عَظِيمَة أجترأوا عَلَيْهَا. وَالَّذِي يُوضح الْحق فِيهَا أَن نقُول هَل تجوزون صدق الرَّاوِي الْوَاحِد فِيمَا تعم بِهِ / الْبلوى أم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 تقطعون بكذبه فَإِن جوزتم صدقه فَلَيْسَ الْمَطْلُوب الْعلم وَإِنَّمَا الْمَطْلُوب الْعَمَل فَمَا الَّذِي يمْنَع من قبُول خَبره مَعَ كَونه موثوقا بِهِ. [1156] فَإِن قَالُوا لِأَن مَا تعم بِهِ الْبلوى يكثر السُّؤَال عَنهُ لعُمُوم الْحَاجة فِيهِ، ثمَّ كَثْرَة السُّؤَال يُفْضِي إِلَى كَثْرَة النَّقْل. قُلْنَا: فافطعوا على مُوجب ذَلِك بكذبه كَمَا يقطع بكذب من انْفَرد بِنَقْل موت الْخَلِيفَة والحريق الْعَام لأقليم من الأقاليم وَنَحْوهَا مِمَّا يشيع ويذيع، فَلَمَّا لم تقطعوا بكذبه بَطل مَا قلتموه، وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك ان نقُول: لَو يَصح مَا قلتموه لوَجَبَ أَن يثبت كل مَا تعم بِهِ الْبلوى شَائِعا حَتَّى لَا يبْقى حكم فِي حَادِثَة تعم بِهِ الْبلوى إِلَّا وَقد نقل عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تواترا كَمَا نقل فِي مُسْتَقر كل أَمر يتَكَرَّر على النَّاس فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة مرَارًا، فَلَمَّا ثَبت مُعظم الْأَحْكَام فِي المجتهدات فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى وَفِيمَا لَا تعم، صَحَّ بذلك بطلَان مَا قلتموه. [1157] وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَنكُمْ [قبلتم] الأقيسة فِيهَا وَإِن لم تقبلُوا فِيهَا الْأَخْبَار، فَلَو كَانَ الْمطلب فِيهِ قطع كَمَا رمتموه لما قبل فِيهِ قِيَاس الشّبَه، فَإِن الْقيَاس السمعي لَيْسَ مِمَّا يسْتَدرك عقلا وَلَكِن مستنبطه يثبت عِنْده بِغَلَبَة الظَّن أَن الَّذِي استنبطه قِيَاسا مِمَّا نَصبه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحكم تَصْرِيحًا وتنبيها، فَإِذا جَازَ أَن تقبل مَا فِيهِ توقع النَّقْل فَلَنْ يجوز ذَلِك فِيمَا نَقله الثِّقَات أولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 (212) بَاب ذكر مَا يدْخلهُ التَّرْجِيح من الْأَلْفَاظ، وتبيين رتب التَّرْجِيح [1158] اعْلَم وفقك الله: أَن الْأَلْفَاظ الثَّابِتَة عَن صَاحب الشَّرِيعَة منقسمة، فَمِنْهَا مَا ثَبت قطعا كالأخبار المستفيضة المتواترة الْمُوجبَة للْعلم، فَإِذا تقَابل خبران من هَذَا الْقَبِيل وتعارضا فَلَا وَجه فيترجيح أَحدهمَا على الاخر، ليتقدر التَّرْجِيح ثَانِيًا، وَالْآخر سَاقِطا، فَإِن الْمَقْصُود من التَّرْجِيح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 جلب غَلَبَة الظَّن بِضَرْب من التَّلْوِيح فِي أحد الْخَبَرَيْنِ، وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك فِيمَا يَقْتَضِي الْعلم من الْأَخْبَار، فَإِن كل وَاحِد من الْخَبَرَيْنِ إِذا نقل استفاضة وَعلمنَا ثُبُوته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قطعا فَلَا معنى للتمسك بالترجيح ليتوصل بِهِ إِلَى تَقْوِيَة أَحدهمَا، فَإِن كل شَيْئَيْنِ، يَقْتَضِي كل وَاحِد مِنْهُمَا الْعلم، لَا يتَحَقَّق فِي الْمَعْقُول أَن يكون أحد العلمين الثابتين مرجحا على الثَّانِي، فَإِن الْعلم بالشَّيْء لَا يتَفَاوَت فِي كَونه علما بِهِ. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن غلبات الظنون يضاد الْعُلُوم، فَلَا يتَصَوَّر أَن تعلم شَيْئا وَأَنت على غَالب ظن فِيهِ، وَالتَّرْجِيح لَا يُفِيد فِي مجْرى الْعَادة إِلَّا غلبات الظنون، فَبَطل التَّرْجِيح فِي خبر يَقْتَضِي الْعلم، وَلَكِن إِن كَانَا مؤرخين تمسكنا بالمتأخرين مِنْهُمَا وَإِن كَانَا مطلقين وَقد أَجمعت الْأمة على اسْتِحَالَة الْجمع بَينهمَا فَلَا يجوز الِاسْتِدْلَال بِوَاحِد مِنْهُمَا، وَإِن اتّفقت الْأمة على أَن الحكم لَا يعدوهما وَقد الْتبس الْأَمر وأشكل / فقد [129 / ب] قدمنَا من ذَلِك فِي تعَارض العمومين مَا فِيهِ متسع. [1159] وَالضَّرْب الثَّانِي من الْأَخْبَار الْآحَاد الَّتِي لَا يُوجب الْعلم، فَإِذا تعَارض اثْنَان مِنْهُمَا، وَأمكن الْجمع بَينهمَا بِضَرْب من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 التَّأْوِيل، أَو لم يكن الْجمع بَينهمَا فَيجوز تَرْجِيح أَحدهمَا على الثَّانِي بِمَا يغلب الظَّن فِي صِحَّته وثبوته وَإِن كَانَ لَا يُفْضِي بِنَا إِلَى الْعلم. وَالدَّلِيل على ذَلِك الْإِجْمَاع أَولا، فَإِن الْقَائِلين بأخبار الْآحَاد أَجمعُوا على تَرْجِيح بَعْضهَا على بعض، والتمسك بِمَا يتقوى بالترجيح. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الصَّحَابَة مَا زَالَت فِي عصرها ترتاد غلبات الظنون فِيمَا ينْقل لَهُم من الْأَخْبَار، حَتَّى كَانُوا يَلْتَمِسُونَ ذَلِك بطرق، فَرُبمَا كَانُوا يَلْتَمِسُونَ فِي الْأَحَايِين بِعَدَد الرَّاوِي، فيروي الْوَاحِد وهم على ريث ومهل، فينضم إِلَيْهِ راو آخر فيرون الحكم وَكَانُوا يقدمُونَ نقل من ظَهرت ثقته، ويرون أَن التَّمَسُّك بِمَا لَا يخْتَص الرِّجَال بالاطلاع عَلَيْهِ - نَحْو التقاء الختانين، وَغَيره - بروايات أَزوَاج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولى، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا اعتبروه واعتبره التابعون، فَثَبت ذَلِك إِجْمَاعًا. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك جَوَاز التَّمَسُّك بِكَثْرَة الْأَشْبَاه فِي استنباط الْقيَاس، وَإِن كَانَت لَا تُفْضِي إِلَّا إِلَى غلبات الظنون. [1160] فَإِن قيل: فَيجب أَن تعتبروا التَّرْجِيح فِي الشَّهَادَات أَيْضا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 حَتَّى إِذا شهد شَاهِدَانِ على شَيْء وقابلها شُهُود على ضِدّه فترجح شَهَادَة الشُّهُود إِذا كثر عَددهمْ. قُلْنَا: لَا نصير إِلَى ذَلِك إِجْمَاعًا ونصير إِلَى تَرْجِيح الْأَخْبَار إِجْمَاعًا. [1161] فَإِن قيل: إِذا كَانَ التَّرْجِيح لَا يُفِيد علما فَأَي فَائِدَة فِي التَّمَسُّك بِهِ؟ قُلْنَا: فَأصل نقل الْآحَاد لَا يُفِيد علما أَيْضا، وَإِن ثَبت بِالدّلَالَةِ القاطعة التَّمَسُّك بِهِ. [1162] فَإِن قيل: فلسنا نعقل ظنا أغلب من ظن. قُلْنَا: هَذَا الْآن بهت مِنْكُم فَإنَّا نعلم بديهة أَن الْإِنْسَان قد يغلب شَيْء على ظَنّه حَتَّى لَا يكَاد يتزايد ذَلِك وَهُوَ يُدْرِكهُ من نَفسه. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الْمُفْتِي إِذا نظر إِلَى الْمسَائِل المجتهدة [فيجد] بَعْضهَا أوضح من بعض، وَإِن كَانَ لَا يتَمَسَّك بِالْيَقِينِ فِي شَيْء مِنْهَا. [1163] فَإِن قيل: فَهَل يجوز فِي الْعقل أَن لَا يتَمَسَّك بالترجيح. قُلْنَا: يجوز ذَلِك، وَلَوْلَا مَا دلّ شرعا وسمعا على ذَلِك لما توصلنا إِلَيْهِ عقلا. (213) فصل [1164] إِذا تقَابل خبران نقلاجميعا استفاضة وتواترا عَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يسْبق ثمَّ تَرْجِيح اصل أحد الْخَبَرَيْنِ على الآخر، كَمَا قدمْنَاهُ فِي صدرالباب، وَلَكِن يجوز أَن يتَمَسَّك بِمَا يَقْتَضِي تَرْجِيح أح العلمين بِمُوجب أحد الْخَبَرَيْنِ على الثَّانِي، بِأَن يجده اقْربْ إِلَى أصُول الْأَدِلَّة ومواقع الشَّرْع، وَيكون ذَلِك تَرْجِيح أحد العلمين على الثَّانِي، وَلَا يكون تَرْجِيح أحد الْخَبَرَيْنِ. وافضل من الضدين من الترجيحين فَهَذَا إِثْبَات أصل التَّرْجِيح. (214) القَوْل فِيمَا يَقع بِهِ أحد الْخَبَرَيْنِ اللَّذين نقلا آحادا على الثَّانِي [1165] فَمَا يَقع بِهِ التَّرْجِيح كَثْرَة الروَاة فِي أحد الْحَدِيثين وقلته فِي الآخر، مَعَ تَسَاوِي الروَاة فِي الْعَدَالَة / والثقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 ويحكى عَن بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة أَنه لَا يرى ذَلِك تَرْجِيحا. ويستدل بعادات أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُم استظهروا بِالْعدَدِ فِي كثير من الْأَخْبَار، حَتَّى روى الْمُغيرَة مِيرَاث الْجدّة، فَلم يبرم الصّديق رَضِي الله عَنهُ الحكم، حَتَّى رَوَاهُ مُحَمَّد بن مسلمة فَقضى بِهِ حِينَئِذٍ. وَأَيْضًا فَإِن الْمَقْصُود من التَّرْجِيح غلبات الظنون، وَالْخَبَر إِذا رَوَاهُ جمَاعَة من الْأَئِمَّة فثبوته وَضَبطه اقْربْ إِلَى الْقُلُوب. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن أحد [الراويين] لَو كَانَ اشْتهر بِالْعَدَالَةِ والثقة فَلَا خلاف إِن التَّمَسُّك بِهِ أولى. [1166] فَإِن تمسكوا بِالشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يرجح حكمهَا بِالْعدَدِ. قُلْنَا: وَكَذَلِكَ لَا يرجح أحد الْبَيِّنَتَيْنِ على الْأُخْرَى، وَإِن كَانَت أظهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 الثِّقَة وَالْعَدَالَة، وايضا فَإِن فِي الشَّهَادَة عددا مضبوطا محصورا شرعا لَا حكم للزِّيَادَة عَلَيْهِ. [1167] وَمن اسباب التَّرْجِيح أَن يكون أحد [الراويين] اضبط وأتقن فِي الرِّوَايَة وَأشهر فِي الْعَدَالَة. [1168] وَمِنْهَا أَن يكون أحد الراويين مباشرا لنَفس الْقِصَّة، أَو يكون صَاحب الْقِصَّة، وَذَلِكَ نَحْو حَدِيث مَيْمُونَة، فَإِنَّهَا رَوَت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 تزَوجهَا وَهِي حَلَال، وروى ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ محرما، فَكَانَت رِوَايَة مَيْمُونَة وَهِي صَاحِبَة الْقِصَّة أولى، وَكَذَلِكَ رِوَايَة أبي رَافع أولى من رِوَايَته، وَقد روى أَنه كَانَ حَلَالا، قَالَ: " [وَكنت] السفير بَينهمَا [فَلَمَّا باشرته] الْقِصَّة ترجح رِوَايَته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 [1169] وَمِنْهَا: ان يكون متن [أحد] الْحَدِيثين مُسْتَقِيم اللَّفْظ وَالْمعْنَى، وَلَفظ الحَدِيث الثَّانِي مُضْطَرب فِي اللَّفْظ وَالْمعْنَى فينقل على أوجه متباينة، فَالَّذِي لم يتَحَقَّق ذَلِك فِيهِ أولى، لِأَن استقامة الْمَتْن تنبىء عَن ضبط الرَّاوِي. [1170] فَإِن قَالُوا: فيلزمكم أَن لَا تقبلُوا الزِّيَادَة الَّتِي ينْفَرد بهَا الثِّقَة. قُلْنَا: لَيست الزِّيَادَة من اضْطِرَاب الْمَتْن فِي شَيْء، وَلكنهَا تنزل منزلَة خبر آخر، على مَا قدمْنَاهُ. [1171] وَمِنْهَا: ان يكون سَنَد [أحد] الْحَدِيثين سديدا لَا لبس فِيهِ، وَفِي إِسْنَاد الاخر لبس فِي تَفْصِيل الْأَسَامِي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 [1172] وَمِنْهَا: أَن يكون مَوضِع أحد [الروايين] أقرب من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا نَحْو حَدِيث ابْن عَمْرو فِي إِفْرَاد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَج، مَعَ حَدِيث أنس فِي الْقرَان، وَعلمنَا بِقرب ابْن عَمْرو من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلذَلِك كَانَ يَقُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " ليليني ذَوُو الأحلام مِنْكُم والنهى ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 [1173] وَمِنْهَا: أَن يكون أَحدهمَا قد سمع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحَدِيث بِغَيْر حجاب، فَهُوَ أولى من غَيره فَإِنَّهُ أبعد عَن اللّبْس، وَرُبمَا شَاهد من قَرَائِن الْأَحْوَال مَا ذهبت عَن صَاحبه. [1174] وَمِنْهَا: ان يكون أَحدهمَا أحسن سياقا وتفصيلا للفظه نَحْو حَدِيث جَابر فِي نقل االإفراد، فَإِنَّهُ نقل اللَّفْظَة على وَجههَا، وساقها أحسن سِيَاق. [1175] وَمِنْهَا: أَن تخْتَلف الرِّوَايَة على أحد الراويين، وَلَا تخْتَلف عَن الثَّانِي، ثمَّ اخْتلفت عبارَة أَصْحَابنَا فِي ذَلِك، فَمنهمْ من يَقُول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 تتعارض الرِّوَايَتَانِ عَن أحدهم وتسقطان. وَمِنْهُم من يَقُول لَا بل يرجح الحَدِيث الَّذِي لم تخْتَلف الرِّوَايَة فِيهِ، لكَونه أقرب إِلَى الضَّبْط وابعد عَن التَّرَدُّد. [1176] وَمنا: أَن يكون أحد الْحَدِيثين مُوَافقا لظَاهِر الْكتاب فَهُوَ أولى من الَّذِي لَا يُوَافق الظَّاهِر. [1177] وَمِنْهَا: ان يُوَافق أَحدهمَا مَعَاني آخر. [1178] وَمِنْهَا: أَن ينْقل أَحدهمَا عَنهُ صَرِيحًا وَيكون فِي الثَّانِي تردد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 وَذَلِكَ مثل أَن يَقُول أحد [الراويين] سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يذكر لفظا ينبىء عَن صَرِيح سَمَاعه وَلَفظ الثَّانِي ظَاهر السماع، وَلَكِن فِيهِ التَّرَدُّد. [1179] وَمِنْهَا أَن يكون أَحدهمَا قولا وفعلا وتقريرا فَإِنَّهُ أبلغ. [1180] وَمِنْهَا: أَن يكون أَحدهمَا عَاما لم يدْخلهُ التَّخْصِيص، وَالثَّانِي قد دخله التَّخْصِيص من وَجه، فالتمسك بِالْعَام أولى. [1181] وَمِنْهَا: أَن يكون أَحدهمَا مُطلقًا مُجَردا عَن سَبَب، وَيكون الثَّانِي واردا بِخُصُوص يجوز عَن قدر اخْتِصَاصه، وَيجوز أَن يقدر تعميمه. [1182] وَمِنْهَا: أَن يتقوى أحد الْحَدِيثين [بِالْإِجْمَاع] فعلا فَهَذَا من اقوى الترجيحات، وَلَو اقْترن بِأحد الْحَدِيثين الْإِجْمَاع على صِحَّته وتصديق نَقله، فَيخرج ذَلِك عَن قبيل التَّرْجِيح، ويلتحق باقتضاء الْعلم وإيجابه. [1183] وَمِنْهَا: ان يكون مَضْمُون أحد الْحَدِيثين مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ، من غير تَقْدِير حذف وَلَا ضمير، وااثاني لَا يسْتَقلّ دون أَحدهمَا، فَالَّذِي لَا حَاجَة فِيهِ للإضمار والحذف اأولى. [1184] وَقد اخْتلف أَصْحَابنَا فِي مسَائِل: مِنْهَا: أَن أحد الْحَدِيثين إِذا تضمن نفيا والْحَدِيث الثَّانِي يتَضَمَّن إِثْبَاتًا، فَمنهمْ من يَجْعَل الَّذِي يتَضَمَّن الْإِثْبَات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 أولى. وَمَا اخْتَارَهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أَن ذَلِك لَا يُوجب تَرْجِيحا، فَإِن النَّفْي مِمَّا يَصح نَقله، وَيقطع بِهِ كَمَا يَصح نقل الْإِثْبَات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 [1185] وَمِمَّا اخْتلف فِيهِ الْأَصْحَاب أَيْضا أَن يعْمل أحد الراويين بِخَبَرِهِ دون الاخر. فَمَا صَار إِلَيْهِ الْمُعظم أَن ذَلِك يُوجب تَرْجِيحا. وَمَا اخْتَارَهُ القَاضِي أَنه لَا يَقع بِهِ التَّرْجِيح. قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَمَا عندنَا أَنه لَا يَقع بِهِ التَّرْجِيح، فَإنَّا إِنَّمَا نرجح بِمَا يتَعَلَّق بِالنَّقْلِ من الضعْف والوهاء وَلَا معول على مَا لَا يتَعَلَّق بطرِيق النَّقْل. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن أهل الْأَعْصَار السَّابِقَة قبلت الْأَحَادِيث فِيمَا لَا مجَال للْقِيَاس فِيهِ، كَمَا قبلوها فِي مجَال الْقيَاس، وَلم يشرطوا زِيَادَة احْتِيَاط، فَهَذَا نَحْو قبولهم الْخَبَر الْمُشْتَمل على ضرب الْعقل على الْعَاقِلَة، إِلَى غَيره من أَمْثَاله. [1186] وَمِمَّا اخْتلف فِيهِ الْأَصْحَاب أَيْضا: أَن الْخَبَرَيْنِ إِذا ارقتضى أَحدهمَا حظرا وَالثَّانِي إِبَاحَة فَمنهمْ من قَالَ: الحاظر مِنْهُمَا أولى، أخذا بالأحوط. وَمِنْهُم، قَالَ كِلَاهُمَا، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، فان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 الِاحْتِيَاط لَيْسَ مِمَّا يتَعَلَّق بطرِيق النَّقْل، وَشرط مَا يتَمَسَّك بِهِ من الترجيحات أَن تكون مُؤثرَة فِي طَرِيق النَّقْل بقضية فِيهَا غلبات الظنون، على أَن الْإِبَاحَة رُبمَا يكون أحوط فِي بعض الْمنَازل. [1187] وَمِمَّا اخْتلفُوا فِيهِ أَيْضا: أَن أحد الْحَدِيثين إِذا تضمن دَرْء حد، وتضمن الثَّانِي إِيجَابه /. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 (215) [بَاب النّسخ] [1188] إِن شَاءَ الله تَعَالَى، قَالُوا: فَلَو خرج الْمَأْمُور بِهِ عَن كَونه مَأْمُورا بِهِ وَصَارَ مَنْهِيّا عَنهُ أدّى ذَلِك إِلَى أَن يصيرالحسن قبيحا وَلَو قدر الْأَمر على الضِّدّ من ذَلِك أدّى ذَلِك إِلَى أَن يصير الْقَبِيح حسنا إِذا انْقَلب الْمنْهِي عَنهُ مَأْمُورا بِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي ان يصير المُرَاد مَكْرُوها وَالْمَكْرُوه مرَادا وَالطَّاعَة عصيانا والعصيان طَاعَة، وَهَذَا محَال مفضى إِلَى قلب الْأَجْنَاس، فَإِن الْقبْح وَالْحسن من صِفَات الْأَجْنَاس عِنْدهم، وَتَقْدِير مَا يقلب الْأَجْنَاس محَال، فالنسخ على تَقْدِير رفع الْأَمر إِثْبَات فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى يُؤذن بقلب الْأَجْنَاس أَو البداء على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ، وَهَذَا بِعَيْنِه مَذْهَب الْيَهُود الَّذين يُنكرُونَ النّسخ عقلا. [1189] فَإِذا وضح ذَلِك من اصلهم قَالُوا: فالنسخ على التَّحْقِيق لَيْسَ هُوَ رفع لعين مَا ثَبت من الحكم فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى، وَلَكِن إِنَّمَا هُوَ تَبْيِين أَن المُرَاد بِالنَّصِّ الأول تثبيت الحكم إِلَى وَقت وُرُود النَّاسِخ، وَأَنه لم يرد بِهِ تثبيت الحكم الأول تثبيت الحكم بِالنَّصِّ على التَّأْبِيد، فِي ابْتِدَاء مورده، فَيكون النّسخ تبيينا لما أُرِيد بِاللَّفْظِ الأول، وَلَا يكون فِي الْحَقِيقَة رَافعا لحكم ثَابت فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى، وَلذَلِك قيدوا حَدهمْ فَقَالُوا: هُوَ النَّص الدَّال على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 أَن مثل الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ الْمُتَقَدّم زائل وَلم يَقُولُوا هُوَ الدَّال على زَوَال الحكم الأول، بل قدرُوا الزَّوَال فِي مثل حكمه فِي الْمُسْتَقْبل، مصيرا مِنْهُم إِلَى أَنه غير مَا ثَبت بِالنَّصِّ الأول وَمَا عنوا بالإزالة حَقِيقَتهَا، فَذَاك أَن النّسخ لَا يزِيل حكما ثَابتا عِنْدهم بل عنوا بالزوال انه لم يثبت أصلا مثل هَذَا الحكم فِي الِاسْتِقْبَال. [1190] وتورط بعض الْفُقَهَاء فِي هَذَا الأَصْل لما جعلُوا النّسخ تبيينا نازلا منزلَة تَخْصِيص الْأَزْمَان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 [1191] وَنحن نذْكر ر مَا نرتضيه من الْحَد الْآن ثمَّ نومىء إِلَى وَجه الرَّد على هَؤُلَاءِ، فَالْأولى أَن نقُول فِي حد النّسخ وَمَعْنَاهُ: هُوَ الْخطاب الدَّال على ارْتِفَاع الحكم الثَّابِت بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدّم على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا مَعَ تراخيه عَنهُ. وَإِنَّمَا عدلنا عَن لفظ النَّص: فَإِن النَّص فِي تواضع الْأُصُولِيِّينَ هُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 اللَّفْظ الْمُصَرّح بِهِ من غير تضمن، وَلَا يخْتَص النّسخ بذلك، فَإِنَّهُ قد ثَبت لفحوى الْخطاب وَإِن كَانَ ضمنا فِي الْكَلَام غير مُصَرح، فَهُوَ وَأَمْثَاله ينْدَرج تَحت إِطْلَاق الْخطاب، وَإِن كَانَ يبعد تَسْمِيَته نصا، وَقَيَّدنَا الحكم بالحكم وَلم نخصصه بِالْأَمر فَإِن من النَّاس من يَقُول: هُوَ " ارْتِفَاع الْأَمر الأول " وَفِيه اختلال فَإِن النّسخ لَا يتخصص بالأوامر والنواهي، وَلَكِن يتَحَقَّق فِي جملَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، حظرها وإباحتها وندبها واستحبابها، فَذكر الحكم أَولا ثمَّ صرحنا فِي الْحَد بِأَن قُلْنَا: هُوَ " الْخطاب الدَّال على ارْتِفَاع الحكم الثَّابِت ": فأنبأ ذَلِك صريحاعن اقْتِضَاء النّسخ رفع حكم ثَابت فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى، على مَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله واحترزنا بقولنَا: " مَعَ تراخيه " على التقييدات الْمُتَّصِلَة بالْكلَام، نَحْو قَوْله سُبْحَانَهُ: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى الَّيْلِ} فَلَا نقُول أَن قَوْله: {إِلَى الَّيْلِ} نَاسخ للصيام، بل هُوَ كَلَام وَاحِد مُفِيد وتقييده يُبينهُ، وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ رفع حكم بعد ثُبُوته. وَاعْلَم أَن مَا قيدنَا بِهِ الْحَد من رفع / الحكم بعد ثُبُوته يُغْنِيك عَن ذَلِك، فَإِن هَذِه التغييرات لَا تَتَضَمَّن رفعا بعد ثُبُوته، وَلَكِن من حكم النّسخ، أَن يَقع مُتَأَخِّرًا على مَا سَنذكرُهُ من شَرَائِطه إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَذكرنَا ذَلِك فِي الْحَد لهَذَا الْمَعْنى، فَهَذَا هُوَ الْحَد السديد عندنَا. [1192] ثمَّ اعلموا أَن من أصل أهل الْحق أَنهم لَا يستنكرون أَن يثبت الحكم ثمَّ يرْتَفع عين مَا ثَبت وَذَلِكَ أَنا لَا نعلق الشَّرَائِع بالإراده وَلَا نجْعَل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 الْأَحْكَام من أَوْصَاف الْأَجْنَاس حَتَّى يُؤَدِّي تَقْدِير رفع الحكم الثَّابِت إِلَى قلب المُرَاد مَكْرُوها وَالْحسن قبيحا، وَمن ذَلِك لَا يُفْضِي هَذَا الأَصْل إِلَى تَجْوِيز البداء على مَا سنصف البداء إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَلَو خضت فِي أَحْكَام الإرادات والقبح وَالْحسن لطال عَلَيْك تتبعه، وكنه ترى على شطر الْكَلَام، وَلَكِن الْمَقْصد تنبيهك على الْقَاعِدَة، فَنَقُول لخصومنا نَرَاكُمْ تصرحون بِأَن النّسخ لَيْسَ بِرَفْع الحكم الأول الثَّابِت، وَهَذَا إِنْكَار مِنْكُم لأصل النّسخ، وَذَلِكَ أَنكُمْ إذازعمتم أَن مِمَّا ثَبت فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى من الْأَحْكَام لَا يجوز تَقْدِير ارتفاعه وزواله وَإِنَّمَا ثَبت بِمَا سميتموه نَاسِخا حكم مُجَدد، وَلَيْسَ هُوَ بنسخ إِذا، وَإِنَّمَا هُوَ تثبيت حكمين فِي وَقْتَيْنِ لَا يُنَافِي أَحدهمَا الثَّانِي وَلَا يناقضه بِحَال، فَلَا فرق بَين إِثْبَات حكمين لَا يتناقضان فِي وَقت وَاحِد، وَبَين إِثْبَات حكمين مُخْتَلفين فِي وَقْتَيْنِ، وَحَيْثُ انه لَا يُنَافِي فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَلَا يتَضَمَّن وَاحِد من الْحكمَيْنِ رفع الأول، وَلَكِن يتَبَيَّن أَن الأول لم يترفع بعد ثُبُوته، وَالثَّانِي لم يثبت نقيضا لَهُ، وَهَذَا تَصْرِيح بإنكار النّسخ، ثمَّ يُقَال لَهُم لَو كَانَ هَذَا نسخا لَكَانَ خطاب يتَضَمَّن تثبيت حكم مجددنسخا وَإِن لم يتَضَمَّن رفع مَا سبق، إِذْ إِذا اقْتضى تثبيت حكم على ابْتِدَاء. [1193] وَمِمَّا يُوضح تناقضهم فِي حَدهمْ أَنهم قَالُوا: النّسخ هُوَ النَّص الدَّال على سُقُوط مثل الحكم االثابت ب بِالنَّصِّ الأول على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابت. فَيُقَال لَهُم: هَذَا تنَاقض عَظِيم مِنْكُم، فَإِنَّكُم تَقولُونَ: تَبْيِين أَن المُرَاد بِاللَّفْظِ الأول الْقدر الَّذِي ثَبت، وَلم يرد بِهِ إِلَّا هَذَا الْقدر ابْتِدَاء، فَإِذا كَانَ هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 قَوْلكُم فَأنى يَسْتَقِيم مِنْكُم أَن تَقولُوا: لَوْلَا الثَّانِي لَكَانَ الحكم مستداما، فَإِن عنْدكُمْ أَن الحكم فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان لم ينْدَرج تَحت اللَّفْظ الأول إِرَادَة، فَكيف يسْتَمر أَن تَقولُوا أَنه تثبيت الحكم لَوْلَا وُرُود النّسخ، فَبَطل مَا قَالُوهُ، وَتبين تصريحهم بِأَن النَّاسِخ لَا يتَعَرَّض للمنسوخ بِوَجْه، وَهُوَ مَعَه حكمان ثابتين فِي وَقْتَيْنِ، هَذَا مَا لَا حِيلَة فِي دَفعه. [1194] وَيُقَال لمن ذهب من الْفُقَهَاء أَن النّسخ هُوَ تَبْيِين الْوَقْت: هَذَا تَصْرِيح مِنْكُم بِمثل مَا صرح بِهِ الْيَهُود والمعتزلة أَن الثَّابِت يَسْتَحِيل رَفعه، وَهَذَا نفي للسنخ، ثمَّ يُقَال إِن كَانَ ذَلِك تَخْصِيصًا، فَهَلا جَازَ النّسخ بِمَا يجوز التَّخْصِيص بِهِ ف فَإِن قَالُوا التَّخْصِيص تَأْوِيل لظَاهِر مُحْتَمل وَأما النَّص الأول فِي بَاب النّسخ فَإِنَّمَا هُوَ نَص لَا يحْتَمل التَّأْوِيل، فَيُقَال لَهُم هَذِه غَفلَة عَظِيمَة فَإِنَّهُ لَو كَانَ لَا يحْتَمل التَّأْوِيل وَكَانَ مستوعبا للأوقات نصا، فَكيف يجوز على بَعْضهَا، فَهَذَا تَكْذِيب للنَّص وَتعرض للتخطئة فِيهِ، وَإِن قدرتم النّسخ تَبينا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 فقد أخرجتم الأول عَن كَونه نصا، فَهَذَا مَا لَا حِيلَة فِيهِ /. (216) فصل [1195] اعْلَم أَن الْكَلَام يَدُور فِي أصُول النّسخ على أَرْبَعَة من الْأَركان: النَّاسِخ والنسخ [والمنسوخ] والمنسوخ عَنهُ، فَأَما النَّاسِخ فيطلق على ثَلَاث معَان أظهرها أَن يُرَاد بِهِ الْقَدِيم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ النَّاسِخ للشرائع والمثبت لَهَا، فَيُقَال نسخ الرب تَعَالَى شَرِيعَة بشريعة وَقد يُطلق النَّاسِخ على الْخطاب نَفسه، فَيُقَال نسخت آيَة آيَة، وَخبر خَبرا، وَقد يُطلق مجَازًا على المعتقد فَيُقَال: فلَان نسخ الْكتاب بِالسنةِ، مَعْنَاهُ يعْتَقد ذَلِك. وَالتَّحْقِيق من ذَلِك كُله: أَن النَّاسِخ هُوَ الرب تَعَالَى، والنسخ خطابه المنعوت [بالنعت] الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي حد النّسخ، فَهَذَا بَيَان النَّاسِخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 والنسخ، فَأَما الْمَنْسُوخ: فقد يُطلق على نفس الْآيَة وَالْخَبَر، فَيُقَال: آيَة مَنْسُوخَة، وَخبر مَنْسُوخ، وَالظَّاهِر من مَعْنَاهُ الحكم الْمَرْفُوع بالنسخ فَيرجع حَقِيقَة الْمَنْسُوخ إِلَى الحكم الْمَرْفُوع بالنسخ الَّذِي سبق تحديده. [1196] فَإِن قيل: فَهَلا قُلْتُمْ: أَن النّسخ يَنْقَسِم، فَإِن نسخ حكم الْآيَة دون تلاوتها فالمنسوخ هُوَ الحكم، وَإِن نسخت تلاوتها فالمنسوخ هُوَ الْآيَة. قُلْنَا: ارْتِفَاع الْآيَة فِي عينهَا لَا يتَحَقَّق، وَإِنَّمَا يؤول الِارْتفَاع إِلَى الحكم فِي الْحَالَتَيْنِ، فَإِذا نهينَا عَن تِلَاوَة آيَة بعد أَن كُنَّا مأمورين بتلاوتها فَيكون هَذَا النّسخ حكم عَنَّا وَهُوَ التِّلَاوَة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 (217) بَاب يجمع فصولاً مُتَفَرِّقَة يحْتَاج إِلَيْهَا فِي مُقَدمَات النّسخ [1197] مِنْهَا أَن تعلم أَن الشَّرَائِع على مَذَاهِب أهل الْحق لَا تنبني على الابتناء على مصَالح الْعباد. وَلَا يجب على الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى استصلاح عباده بهَا، فَيجوز أَن يكون صَلَاحهمْ فِي إِثْبَات فِي معلومه، فينسخه، وَيجوز أَن يكون صَلَاحهمْ فِي النّسخ [فيثبته] وَلَا ينسخه، يفعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُرِيد، حَتَّى نقُول على طرد ذَلِك لَو رفع التَّكْلِيف عَن كَافَّة الْبَريَّة، حَتَّى لَا يبْقى فيهم مامور وَلَا مَنْهِيّ فِي حكم من الْأَحْكَام، جَازَ ذَلِك عقلا، وَمَا من مَحْظُور إِلَّا وَيجوز تَقْدِير إِبَاحَته وَمَا من مُبَاح إِلَّا وَيجوز تَقْدِير حظره، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْوَاجِبَات والمندوبات إِلَّا مَا يُؤَدِّي تَقْدِير تبديله إِلَى تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق، وَذَلِكَ مثل أَن نقدر وُرُود الْأَمر بِالْجَهْلِ بِهِ، وَنحن نعلم أَنه لَا يتَحَقَّق التَّكْلِيف إِلَّا مَعَ الْعلم بالمكلف، فَمن ضَرُورَة أمره أيانا بِالْجَهْلِ أَن نَكُون عَالمين بِهِ، فَكَأَنَّهُ أمرنَا بِأَن نعلمهُ، وَلَا نعلمهُ، وَهَذَا من المستحيلات. [1198] فَأَما الْقَدَرِيَّة فَإِنَّهَا قسمت الْأَحْكَام تقسيما بعد أَن اتّفقت على [أَن] ارْتِفَاع التَّكْلِيف لَا يجوز، وَاتَّفَقُوا على منع ارْتِفَاع التَّكْلِيف على أَنه يجب على الله تَعَالَى وجوب حكمته أَن يستصلح عباده، وَلم يَخْتَلِفُوا فِي وجوب طلب الصّلاح وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي الْإِصْلَاح، ثمَّ قَالُوا الْأَحْكَام منقسمة فَمِنْهَا مَا يدْرك وُجُوبه وَحسنه عقلا، وَيدْرك خطره وقبحه عقلا، فَمَا كَانَ هَذَا سَبيله، فَلَا يجوز تَقْدِير النّسخ فِيهِ، حَتَّى قَالُوا الْكفْر وَترك الشُّكْر لما كَانَ مَحْظُورًا عقلا لَا يجوز وُرُود الشَّرْع بإباحته / وَكَذَلِكَ الظُّلم والابتلاء [132 / ب] والاستعلاء على وَجه الاعتداء وَكَذَلِكَ [الزِّنَا] وَنَحْوه من الْفَوَاحِش. فَأَما مَا لَا يسْتَدرك فِيهِ الْقبْح وَالْحسن على التَّعْيِين نَحْو الصَّلَوَات وأمثالها من الْعِبَادَات فَيجوز تَقْدِير النّسخ فِيهَا. [1199] وَمن الْفُصُول الَّتِي يجب أَن تحيط علما بهَا مَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 قدمْنَاهُ فِي صدر الْكتاب من أَن الْقبْح وَالْحسن ليسَا بوصفين رَاجِعين إِلَى ذاتي الْقَبِيح وَالْحسن وَإِنَّمَا يرجعان إِلَى الْأَمر بالثناء على فَاعل أَحدهمَا والذم لفاعل الثَّانِي. وأطبقت الْمُعْتَزلَة على أَن الْحسن وصف لِلْحسنِ وَهُوَ فِي ذَاته وَيدْرك ذَلِك الْوَصْف عقلا وَكَذَلِكَ الْقبْح وصف للقبيح رَاجع إِلَى ذَاته، ثمَّ قَالُوا الْقبْح وَالتَّحْرِيم آئلان إِلَى وصف وَاحِد، وَأما الْحسن وَالْوُجُوب فَلَا يرجعان إِلَى وصف وَاحِد إِذْ قد ثَبت حسن لَيْسَ بِوَاجِب، ومحصول قَوْلهم يتَضَمَّن أَن الْحسن وَالْوُجُوب وصفان راجعان إِلَى ذَات الْوَاجِب. (218) فصل [1200] اعْلَم أَنه لَا بُد أَن يجْتَمع فِي النَّاسِخ والمنسوخ أَوْصَاف ليَصِح وصفهَا بالنسخ والمنسوخ. فأحد الشَّرَائِط أَن يَكُونَا حكمين شرعيين ثابتين بخطابين. فَيخرج عَن ذَلِك أَن مَا يسْتَدرك عقلا فِي أَوْصَاف الْأَجْنَاس من الْأَوْصَاف الْجَائِزَة والواجبة رُبمَا يُسمى أحكاما فِي تواضع الْمُتَكَلِّمين، فَيُقَال من حكم الْجَوَاهِر أَن يتحيز، وَمن حكم الْعرض أَن يقوم بِالْمحل فَلَا يتَحَقَّق النّسخ فِي هَذَا وَأَمْثَاله، وَلذَلِك فلسنا نثبت بِالْعقلِ حكما قبل وُرُود الشَّرَائِع من حظر أَو إِبَاحَة حَتَّى نجْعَل الشَّرِيعَة بِحكم الْعقل، وَكَذَلِكَ اخْتصَّ بالخطا بَين المشتملين على الْحكمَيْنِ الشرعيين وَلأَجل هَذَا الشَّرْط خرج عَن حكم النّسخ سُقُوط التَّكْلِيف عَن الْمَيِّت وَالْمَجْنُون فَإنَّا قد قيدنَا الْكَلَام بالخطابين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 [1201] على أَنا سنذكر شرطا آخر يتَضَمَّن إِخْرَاج هَذَا الْقَبِيل عَن حَقِيقَة النّسخ فَنَقُول من شَرط النَّاسِخ أَن يكون مُتَأَخِّرًا عَن الْمَنْسُوخ فَلَا يجوز اقترانه على سَبِيل الِاتِّصَال كَمَا يتَّصل الِاسْتِثْنَاء بالمستثنى عَنهُ، وَلِهَذَا من الْمَعْنى اسْتِحَالَة أَن يُقَال أَن قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى الَّيْلِ} من قبيل النَّاسِخ والمنسوخ، حَتَّى يُقَال أثبت الصَّوْم أَولا ثمَّ نسخه عَن اللَّيْل آخرا، أَو يفضيه هَذَا الشَّرْط إِخْرَاج الْمَيِّت عَن كَونه نَاسِخا فَإِن كل حكم فِي الشَّرِيعَة مُقَيّد لفظا أَو إِجْمَاعًا بِبَقَاء التَّكْلِيف فَإِن كَانَ الْأَمر على هَذَا الْوَجْه فَهُوَ مستخرج عَن كل خطاب أَولا، فَلَو كَانَ سَبيله النّسخ لما جَازَ ثُبُوته على سَبِيل الاقتران. [1202] وَمن شَرط النّسخ أَن يكون رفعا لحكم ثَابت على مَا أوضحناه. [1203] ثمَّ اعْلَم أَنه لَا نَاسخ على الْحَقِيقَة إِلَّا الله تَعَالَى، وَلَا يتَحَقَّق نسخ إِلَّا بأوامره ونواهيه وإباحته، وَإِن سميت سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نسخا فَذَلِك على التَّجَوُّز، فَإِنَّهُ مبلغ مؤد عَن ربه وَلَيْسَ ينفى حكما وَلَا يثبت من فَقِيه نَفسه، فيؤل كل نفي وَإِثْبَات إِلَى كَلَام الله تَعَالَى، فَهَذَا مَا نشترط فِي النَّاسِخ والمنسوخ، وَقد انطوى على جَمِيعهَا / الْحَد الَّذِي ذَكرْنَاهُ. [1204] وَقد انْفَرد أَقوام بِاشْتِرَاط أَوْصَاف سوى مَا ذَكرْنَاهُ، وَسَيَأْتِي فِي ذكر مذاهبهم أَبْوَاب، وَهَذَا نَحْو اشتراطهم بِقَضَاء وَقت الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 أَولا حَتَّى لم يجوزوا تَقْدِير النّسخ قبل أَن ينقضى من الْوَقْت مَا يسع الْمَأْمُور بِهِ أَولا، على مَا سنتقصي القَوْل فِي ذَلِك وَأَمْثَاله فِي أَبْوَاب مبوبة إِن شَاءَ الله تَعَالَى. (219) القَوْل فِي الْفرق بَين النّسخ والبداء وَبَين النّسخ والتخصيص [1205] اعْلَم، وفقك الله، وَأحسن إرشادك أَن الْفرق بَين النّسخ والبداء يتَحَقَّق بِأَن نذْكر حقيقتهما فيتميز أَحدهمَا على الثَّانِي، أما حَقِيقَة النّسخ فقد سبقت، وَأما حَقِيقَة البداء وَمَعْنَاهُ فهواستدراك علم مَا كَانَ خفِيا مَعَ جَوَاز تَقْدِير الْعلم بِهِ فَكل من عثر على علم شَيْء ابْتِدَاء وَكَانَ يجوز أَن يُعلمهُ قبل ذَلِك فَيُقَال قد بدا لَهُ، وأصل البداء الظُّهُور بعد الخفاء، وَمِنْه يُقَال بدا عجز فلَان إِذا ظهر وبدا الطّلع إِذا طلع وبدا لكم فلَان شَره، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وبدا لَهُم سيئات مَا كسبوا} وَقَوله تَعَالَى: {يخفون فِي أنفسهم مَا لَا يبدون لَك} وَقد يُسمى النَّدَم بداء أَيْضا والندم من قبيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 الإرادات، وَهُوَ التلهف والتأسف، فَهَذَا حَقِيقَة البداء. [1206] فَإِذا ثَبت الحقيقتان، رتبنا عَلَيْهِمَا، وَقُلْنَا لمنكري النّسخ من الْيَهُود والقدرية، فَإِنَّهُم وافقوا الْيَهُود فِي منع رفع الحكم بعد ثُبُوته، إِذا أثبت الله حكما على عباده، ثمَّ رَفعه، فقد زعمتم أَن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى البداء فَلَا تخلون فِيمَا قلتموه أَن تَقولُوا: إِنَّه يُؤَدِّي إِلَى أَن يعلم مَا كَانَ خافيا عَلَيْهِ، فَهَذَا محَال، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يزل عَالما، وَلَا يزَال عَالما بِمَا كَانَ، وَبِمَا يكون، وَبِمَا لَا يكون، لوكان كَيفَ كَانَ يكون، وَلم يثبت الحكم على الْمُكَلّفين إِلَّا وَقد كَانَ عَالما عِنْد إثْبَاته أَنه سينسخه فَبَطل أَن يكون النّسخ مقتضيا اسْتِدْرَاك علم أَو توصلا إِلَى معرفَة مكتتم مستتر، وَإِن عنيتم بالبداء أَنه يصير كَارِهًا لما كَانَ آمرا بِهِ مرِيدا لَهُ، ومريدا لما كَانَ كَارِهًا لَهُ فَهَذَا لَا يَسْتَقِيم على أصُول أهل الْحق، فَإِن تَكْلِيف الْعِبَادَة لَا يَنْبَنِي على الْإِرَادَة والكراهية، فقد يَأْمر الرب بِمَا لَا يُرِيد وَقد يُنْهِي عَمَّا يُرِيد، وكل الْحَوَادِث مُرَاد لله تَعَالَى مَعَ اخْتِلَاف صفاتها، وَهَذَا يستقصي فِي الديانَات، فَبَطل الاسترواح إِلَى الْعلم والإرادة. [1207] وَإِنَّمَا عنوا بالبداء أَنه يَجْعَل الْحسن قبيحا والقبيح حسنا والمصلحة مفْسدَة والمفسدة مصلحَة، وَهَذَا مَا لَا تَحْقِيق لَهُ أصلا وَذَلِكَ أَن الْقبْح وَالْحسن لَا يرجعان إِلَى صِفَات الْأَفْعَال على أصُول أهل الْحق كَمَا قدمْنَاهُ وَإِنَّمَا التقبيح أَمر بالذم والتحسين أَمر بِحسن الثَّنَاء كَمَا قدمْنَاهُ من أصولنا، على أَنا لَو قَدرنَا الْحسن والقبح من أَوْصَاف الْأَجْنَاس، وَكَانَ مِمَّا يسوغ تَقْدِير تَغْيِيره مَا يُوجب البداء، كَمَا لَيْسَ فِي إماتة الله الأخيار وإحيائه الْمَوْتَى وَسَائِر أَحْكَامه المتعاقبة فطْرَة وخلفا مَا يُوجب البداء، فَبَطل ادِّعَاء البداء على أصُول أهل الْحق، وَإِنَّمَا يصور مدرك ذَلِك على قَوَاعِد الْمُعْتَزلَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 فَإِنَّهُم وافقوا الْيَهُود فِي أصل التَّعْدِيل والتجوير وَبِنَاء التَّكْلِيف / على \ الْمصَالح. 3 [1208] فَإِن قَالُوا فَمَا وَجه حسن النّسخ عنْدكُمْ. قُلْنَا إِن طلبتم منا إِيضَاح وَجه فِي الْمصلحَة الْمُتَعَلّقَة بالنسخ فقد رمتم منا فرعا لَا نقُول بِأَصْلِهِ، فَإنَّا نجوز أَن لَا تكون لِلْعِبَادَةِ مصلحَة فِي إِثْبَات الشَّرَائِع ونسخها، على أَن النّسخ وَالْإِثْبَات، والتحسين والتقبيح، والايجاب وَالتَّحْرِيم، كلهَا يؤول إِلَى كَلَام الرب تَعَالَى، وَكَلَامه مَوْصُوف بالقدم على أصُول أهل الْحق، وَمَا اتّصف بالقدم اسْتَحَالَ وَصفه بالْحسنِ والقبح من الصِّفَات المعتورة على الْحَوَادِث، على أَنا نقُول: لَو خضنا مَعكُمْ فِي فَاسد أصلكم فِي القَوْل بالصلاح وَوُجُوب تضمن التَّكْلِيف لَهُ، فقد يكون فِي رفع الحكم بعد ثُبُوته أعظم الْمصلحَة للعباد بِأَن يعلم سُبْحَانَهُ أَنه إِذا أَمرهم بِأَمْر ابتدروا إِلَى الْعَزْم وتوطين النَّفس على امتثاله وَلَو بَقِي عَلَيْهِم الحكم لامتنعوا وانفضوا وطغوا واستوجبوا عِقَابه، فيأمرهم ليعزموا على الِامْتِثَال وَلَو أمروا على الْعَزْم ثمَّ ينْسَخ عَنْهُم مَا اثْبتْ عَلَيْهِم من الحكم حَتَّى لَا يستوجبوا نقمته بالامتناع عَن الِامْتِثَال، وَهَذَا وَاضح فِي طلب الْمصلحَة على مُقْتَضى أصولكم مَعَ أَنه تجَاوز منا لأصلنا. (220) فصل [1209] فَإِن قَالَ قَائِل قد ذكرْتُمْ الْفرق بَين النّسخ والبداء فَمَا الْفرق بَين النّسخ والتخصيص؟ قُلْنَا يتَحَقَّق الْفَصْل بَينهمَا بِذكر حَقِيقَتهَا، وَقد سبق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 ذكرهمَا جَمِيعًا على أَنا نعيدها لنوصلك إِلَى الْمَقْصُود فِي الْبَاب فَنَقُول النّسخ هُوَ رفع الحكم بعد ثُبُوته على الشَّرَائِط الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي حد النّسخ وَحَقِيقَته، ولسنا نقُول تبين لنا بِالْخِطَابِ الْمُتَأَخر المتضمن نسخا أَنه لم يرد بِالْخِطَابِ أَولا إِلَّا مَا مضى، بل نقُول يتَنَاوَل الْخطاب الأول ثُبُوت الحكم فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان حَقِيقَة وَلَكِن بالنسخ رفع مَا ثَبت حكمه فَأَما التَّخْصِيص فَإِنَّهُ لَا يتَضَمَّن رفع حكم ثَابت فِي مَعْلُوم الله وَلكنه يتَضَمَّن تَبْيِين اخْتِصَاص اللَّفْظ بِبَعْض المسميات. [1210] وَهَذَا لَا يَسْتَقِيم على أصُول الْقَدَرِيَّة، فَإِنَّهُم يجْعَلُونَ النّسخ تثبيتا فِي الْأَزْمَان كَمَا إِن التَّخْصِيص تَبْيِين فِي الْأَعْيَان، فَهَذِهِ قَاعِدَة الْبَاب. [1211] ثمَّ اعْلَم أَن النّسخ يُفَارق التَّخْصِيص فِي جمل من الْأَوْصَاف. مِنْهَا: أَن من شَرط النّسخ استيخاره عَن الْمَنْصُوص الْمَنْسُوخ، وَلَا يشْتَرط ذَلِك فِي التَّخْصِيص، فَإِنَّهُ قد يكون مُتَّصِلا، وَقد يكون مُنْفَصِلا وأقواه أَن يكون مُتَّصِلا. [1212] وَمِمَّا يُفَارق النّسخ فِيهِ التَّخْصِيص: أَنه يجوز اعتوار النّسخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 على الحكم الْوَاحِد فِي الشَّخْص الْوَاحِد، وَلَا يجوز التَّخْصِيص على هَذَا الْوَجْه، فَإِن الْوَاحِد لَا يدْخلهُ التَّخْصِيص فَإِن التَّخْصِيص ينسخه التَّعْمِيم وَلذَا لم يتَحَقَّق عُمُوم لم يتَقَدَّر بعده خُصُوص. [134 / أ] [1213] وَمن الْفرق بَينهمَا أَن التَّخْصِيص لَا يَنْفِي التَّمَسُّك / بِأَصْل الْمُخَصّص فِي المسميات كَمَا قدمنَا فِي بَاب مُفْرد، وَإِذا ثَبت فِي حكم آيَة فَلَا سَبِيل إِلَى التَّمَسُّك بهَا بعد تحقق النّسخ فِيهَا. [1214] وَيُفَارق النّسخ التَّخْصِيص على أصُول الْقَائِلين بِمَنْع تَأْخِير الْبَيَان، فَإِنَّهُم وَإِن منعُوا تَأْخِير التَّخْصِيص عَن اللَّفْظ الَّذِي صيغته الْعُمُوم، فَلَا يمنعوا تَأْخِير النّسخ عَن الْمَنْسُوخ، بل أوجبوا ذَلِك فِيهِ، وَإِن كَانَ النّسخ عِنْدهم بَيَانا فِي الْأَزْمَان لَا رفعا لحكم ثَابت كَمَا ان التَّخْصِيص بَيَان. [1215] وَمِمَّا يُفَارق النّسخ فِيهِ التَّخْصِيص أَنه إِذا ثَبت الحكم بخطاب مَقْطُوع بِهِ فَلَا يجوز نسخه بخطاب مظنون بِهِ، وَهَذَا كَمَا أَنا لَا نجوز نسخ حكم الْقرَان بأخبار الْآحَاد وَلَا نجوز نسخ الْخَبَر الْمُتَوَاتر بِخَبَر الْآحَاد على مَا سَيَأْتِي تَفْصِيل القَوْل فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 (221) بَاب يجمع اخْتِلَاف النَّاس فِي جَوَاز النّسخ، وَمنعه، وَذكر مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ [1216] اعْلَم مَا صَار إِلَيْهِ كَافَّة الْمُسلمين جَوَاز النّسخ، وَأما الْيَهُود فقد ذهبت إِلَى منع النّسخ وافترقوا فرْقَتَيْن، فَمنهمْ من منع النّسخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 عقلا وَذهب إِلَى أَن شَيْئا من الشَّرَائِع لم يدخلهَا نسخ، وَأَن الَّذين قبل مُوسَى من الْأَنْبِيَاء كَانُوا متعبدين بِمثل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام. وَذهب بَعضهم إِلَى جَوَاز النّسخ عقلا وَمنعه سمعا فزعموا أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أخبر بني إِسْرَائِيل أَن شَرعه لَا يَزُول مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَذَهَبت فِئَة من المنتمين إِلَى الْإِسْلَام إِلَى منع النّسخ هربا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 البداء، واعتقادا مِنْهُم أَن النّسخ يُؤَدِّي إِلَيْهِ، ثمَّ زَعَمُوا أَن لَا نسخ فِي شَيْء من الشَّرَائِع. [1217] وَالَّذين جوزوا النّسخ ذهب الْجُمْهُور مِنْهُم إِلَى منع البداء على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ويحكى عَن الروافض تَجْوِيز البداء على الله سُبْحَانَهُ، وَرُبمَا يأثرون ذَلِك عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ بطرِيق لَا يكَاد يَصح ويروون عَنهُ أَنه قَالَ: لَوْلَا آيَة من كتاب الله تَعَالَى قَوْله: {يمحوا الله مَا يَشَاء وَيثبت وَعِنْده أم الْكتاب} لأنبأتكم بِمَا يكون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة قَالُوا: فَمَنعه عَن الْإِخْبَار بالغيوب تجويزه البداء، وَرووا عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد أَنه قَالَ: مَا بدا لله فِي شَيْء كَمَا بدا لَهُ فِي ذبح إِسْمَاعِيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرووا عَن مُوسَى بن جَعْفَر أَنه قَالَ: " البداء ديننَا وَدين آبَائِنَا الْأَوَّلين ". وَلَا شكّ أَن هَذِه الرِّوَايَات عَن عَليّ وَعَن الْأَئِمَّة الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ مُخْتَلفَة لَا تكَاد تصح، فَهَذِهِ جملَة الْمذَاهب. [1218] فَأَما وَجه الرَّد على من زعم نفي النّسخ فَهُوَ أَن نقُول لاتخلون إِمَّا أَن تَقولُوا النّسخ مُمْتَنع عقلا أَو تَقولُوا هُوَ مُمْتَنع سمعا جَائِز عقلا، فَإِن صرتم إِلَى امْتِنَاعه عقلا فَيُقَال لَهُم لَيْسَ بَين الاستحالة وَالْجَوَاز رُتْبَة فِي الْعُقُول فَإِذا انحسمت طرق الاستحالة لم يبْق بعْدهَا إِلَّا الْجَوَاز، فَإِذا أَمر الله تَعَالَى بِشَيْء ثمَّ نهى عَنهُ فَلَا تَخْلُو اسْتِحَالَة ذَلِك إِمَّا أَن يكون للتبديل والتغيير، فَهَذَا محَال، فان من نعت الْمَخْلُوقَات والمبدعات بأسرها أَن تبدل، فَلَو اسْتَحَالَ السنخ لكَونه تبديلا التحقت الْفطْرَة بِأَبْوَاب الاستحالات [134 / ب] وَإِن زَعَمُوا أَن ذَلِك مُسْتَحِيل / لانقلاب المُرَاد مَكْرُوها والمصلحة مفْسدَة، فقد أوضحنا من أصُول أهل الْحق أَن الشَّرَائِع لَا تتَعَلَّق بقضية الْإِرَادَة وَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 مُعْتَبر فِيهَا بالمصالح، وَهَذَا مَا لَا مطمع فِي تَقْرِيره هَهُنَا، وَإِن زَعَمُوا أَن النّسخ يَسْتَحِيل لإفضائه إِلَى البداء قسمنا عَلَيْهِم القَوْل فِي البداء كَمَا قدمْنَاهُ فِي الْفرق بَين النّسخ والبداء، وَإِن قَالُوا: فِي تَجْوِيز النّسخ قلب الْأَجْنَاس، فقد أوضحنا بطلَان ذَلِك بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة فَلَا يبْقى بعد ذَلِك إِلَّا القَوْل بِالْجَوَازِ. [1219] وَإِن قَالُوا إِن النّسخ جَائِز عقلا مُمْتَنع سمعا وذهبوا فِي ذَلِك إِلَى إِخْبَار مُوسَى بني إِسْرَائِيل بتأبيد شَرِيعَته، فَهَذَا كذب صراح مِنْهُم، وَأول مَا يقابلون بِهِ أَن يدعى عَلَيْهِم مثل ذَلِك فِي تأبد شَرِيعَة من قبل مُوسَى، ثمَّ نقُول لَو صَحَّ مَا قلتموه لَكَانَ صدقا قطعا حَقًا لوُجُوب عصمَة الْأَنْبِيَاء عَن الْخلف، ثمَّ يمْنَع ظُهُور المعجزات على يَدي من يَدعِي نسخ شَرِيعَة مُوسَى، وَقد وضحت معجزات نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالطرق الَّتِي وضحت معجزات مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ، فَلَو كَانَ مَا قلتموه صَحِيحا لما ثبتَتْ المعجزات مصدقة لمن يَدعِي خِلَافه، أَو نقُول هَذَا شَيْء أحدثه فِيكُم بعض الجهلة وَقد قيل إِن أول من لقنهم ذَلِك ابْن الراوندي لَعنه الله، {ويأبى الله إِلَّا أَن يتم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ} فَنَقُول لَو كَانَ مَا ذكرتموه صَحِيحا لَكَانَ أولى الاعصار والأوقات بِإِظْهَار ذَلِك فِي عصر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد كَانَت الْيَهُود بوقته يحاجونه ويجادلونه، وَمَا قَالَ قَائِل مِنْهُم مَا قلتموه وَلَو كَانَ صَحِيحا لَكَانَ أولى مقالاتهم ذَلِك بل كَانُوا يُنكرُونَ بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويزعمون أَنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 لَيْسَ هُوَ النَّبِي الْمَبْعُوث عِنْدهم فِي التوارة، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. [1220] وَأما الْكَلَام على مجوزي البداء فَيتَعَلَّق بأصول الديانَات، وعَلى أَنا نقسم الْكَلَام عَلَيْهِم فَنَقُول مَا الَّذِي عنيتم بالبداء؟ اسْتِدْرَاك الرب تَعَالَى علما لم يكن منعوتا بِهِ؟ فقد وصفتموه بالحوادث، والرب يجل عَن قبُول الْحَوَادِث، وَلَو قبلهَا لم يَنْفَكّ مِنْهَا، وَمَا لَا يَنْفَكّ عَنْهَا لم يسبقها، وَمَا لَا يسبقها حَادث مثلهَا، فَإِن طَرِيق الِاسْتِدْلَال على حُدُوث الْعَالم اعتوار الْحَوَادِث عَلَيْهَا، وَفِي الْمصير إِلَى تَجْوِيز الْحَوَادِث على الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - تَعَالَى الله علوا كَبِيرا - مصير إِلَى حُدُوثه أَو إِلَى سد بَاب التَّوَصُّل إِلَى حدث الْعَالم. [1221] وَأما من قَالَ من الإسلاميين بِمَنْع النّسخ فَلَقَد أبدى عَظِيمَة لَا يشْعر بغيتها، ونكلم على الْمنْهَج الَّذِي كلمنا الْيَهُود، ونبين لَهُ كَون النَّاسِخ من الجائزات، وَإِن قَالُوا: هُوَ جَائِز عقلا مُمْتَنع شرعا، سئلوا عَن الدَّلِيل الدَّال على منع النّسخ سمعا فَلَا يَجدونَ فِي ذَلِك معتصما، على أَنا نقُول لَهُم،: فِيمَا قلتموه جحدا وسلفا فَإِنَّهُم مَا زَالُوا فِي الصَّدْر الأول وَبعده من الْأَعْصَار يعتنون بِذكر النَّاسِخ ولمنسوخ، ويذكرون تفاصيلهما وَمن جحد ذَلِك من قَول الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ فقد تسبب إِلَى جحد التَّوَاتُر والاستفاضات، فَمَا زَالُوا يعلمُونَ أَن التَّرَبُّص فِي حق المتوفي عَنْهَا زَوجهَا [835 / أ] سنة، مسنوخا بالتربص أَرْبَعَة اشهر وَعشرا وَكَانُوا يذكرُونَ / الْآيَتَيْنِ والمنسوخ، وَكَذَلِكَ مَا زَالُوا يتفاوضون بنسخ فرض تَقْدِيم الصَّدَقَة على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 مُنَاجَاة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَلِكَ نسخ التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَكَذَلِكَ نسخ تَحْلِيل الْخمر إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تتبعه. [1222] على أَنا نقُول: أَجمعت الْأمة على أَن دين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وملته لَيْسَ هِيَ مِلَّة مُوسَى وَعِيسَى صلوَات الله عَلَيْهِم، وَأَن مِلَّته تَضَمَّنت نسخا لما قبلهَا من الْملَل، فَمن جوز هَذَا الْإِجْمَاع فَلَا يبْقى لَهُ عصمَة يعتصم بهَا فِي تثبيت ظُهُور رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَظُهُور معجزاته بطرق التَّوَاتُر، على أَن فِي كتاب الله تَعَالَى آيَات دَالَّة على أَن النّسخ، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة وَالله أعلم بِمَا ينزل} وَقَوله تَعَالَى: {فبظلم من الَّذين هادوا حرمنا عَلَيْهِم طَيّبَات أحلّت لَهُم} وَقَوله تَعَالَى: {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أومثلها} وَقد بَطل ادعاؤهم امْتنَاع النّسخ شرعا، وَلَهُم على هَذِه الْآيَات أسئلة وتمويهات يسهل مدركها على انه لَيْسَ لَهُم معتصم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 يتمسكون بِهِ فِي منع النّسخ شرعا. (222) القَوْل فِي جَوَاز دُخُول النّسخ فِي الْأَخْبَار، وَوجه الْخلاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 [1223] اعْلَم، وفقك الله، ان هَذَا بَاب يعظم خطره فِي أصُول النّسخ وَنحن الْآن ننبهك على اخْتِلَاف النَّاس فِيهِ، ونبين الصَّحِيح مِنْهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا جوزتم أَن مَا أَمر الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِشَيْء، ثمَّ يُنْهِي عَن عين مَا أَمر بِهِ، وَيكون الْمنْهِي الْمُتَأَخر نَاسِخا لوُجُوب الْأَمر الْمُتَقَدّم بأفضاله فَهَل تجوزون أَن يخبر الرب سُبْحَانَهُ من الغايات نصا، ثمَّ يخبر بعده أَن الْأَمر لَيْسَ كَذَلِك وَأَن مَا أخْبرت عَن وُقُوعه لَا يَقع وَمَا أخْبرت عَن عدم وُقُوعه يَقع. قُلْنَا: قد بَينا أَن حَقِيقَة النّسخ رفع الحكم بعد ثُبُوته وأوضحنا أَن من الإسلاميين من يصير إِلَى أَن النّسخ تبين انْقِطَاع مُدَّة الْعِبَادَة وَهُوَ نَازل منزلَة التَّخْصِيص الْمُبين لاخْتِصَاص اللَّفْظ بِبَعْض المسميات، فَإِن مَا ثَبت فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى فَلَا يرْتَفع، وَلَا ينْسَخ، وَلَكِن يبين النَّاسِخ أَنه كَانَ المُرَاد بهَا سبق ثُبُوت الحكم إِلَى هَذَا الْوَقْت. [1224] وللاختلاف فِي هَذِه الْقَاعِدَة ينشأ خلاف فِي جَوَاز نسخ الْأَخْبَار، فَذهب كل من صَار إِلَى أَن النّسخ تَبْيِين، وَلَيْسَ بِرَفْع حَقِيقِيّ لِثَابِت إِلَى جَوَاز النّسخ فِي الْأَخْبَار على هَذَا التَّأْوِيل فَقَالُوا: إِذا أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَن ثُبُوت شَرِيعَة فَيجوز أَن يخبر بعْدهَا فَيَقُول: أردْت ثُبُوتهَا بإخباري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 الأول إِلَى هَذَا الْوَقْت وَلم أرد أَولا إِلَّا ذَلِك بنسأ وَلَا يُفْضِي إِلَى تَجْوِيز خلف وَوُقُوع خبر بِخِلَاف مخبر. وَأما نَحن إِذا صرنا إِلَى أَن النّسخ رفع لِثَابِت حَقِيقِيّ وَأَن التَّبْيِين لَيْسَ [135 / ب] بنسخ أصلا فننكر على هَذِه الْقَاعِدَة نسخ الْأَخْبَار، ثمَّ / نقُول: فِي تجويزه على قِيَاس الْقَاعِدَة تَجْوِيز الْخلف - تَعَالَى الله مِنْهُ - فَإِنَّهُ كَانَ أَحدهمَا خلفا لأَصْحَابه، وَهَذَا مِمَّا يدْرك ببديهة الْعقل، فَإِذا جَوَّزنَا حَقِيقَة النّسخ فِي الْأَوَامِر والنواهي لم يؤد إِلَى ذَلِك، فَإِن الْأَمر والنواهي لَا يدخلهَا الصدْق ولكذب، اوإنما يَتَّصِف بهما الْأَخْبَار. [1225] أَلَيْسَ من أصلكم أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مخبر عَن كل مخبر بِكَلَامِهِ الْقَدِيم كَمَا أَنه عَالم بِكُل مَعْلُوم؟ فَإِذا قيل: أجل! قَالُوا وَإِذا وَجب شَيْء بِأَمْر من الْأَوَامِر تأبيدا فوجوبه على هَذَا الْوَجْه مخبر عَنهُ، وَيجب أَن يكون الْبَارِي تَعَالَى مخبرا عَنهُ، وَالْأَمر إِن لم يكن خَبرا من الرب سُبْحَانَهُ فَهُوَ دَلِيل على خَبره، فَيجب على طرد ذَلِك أَن يكون سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مخبرا عَن وجوب الْعِبَادَات أبدا ثمَّ إِذا نسخهَا فَيكون مخبرا عَن سُقُوط وُجُوبهَا، وَهَذَانِ الخبران متناقضان. وَهَذَا من اعظم تخييلات الْيَهُود، وَمن نفى النّسخ. [1226] فَأَما من صَار إِلَى أَن النّسخ سَبيله وَلَا يرْتَفع بِهِ ثَابت فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 مَعْلُوم الله تَعَالَى فَدفع هَذَا السُّؤَال سهل المرام عِنْده، فيطرد التَّبْيِين فِي الْأَخْبَار، كَمَا يطرده فِي الْأَحْكَام، فَلَا يتَصَوَّر عِنْده إِذا أَن ينْسَخ نصا لَا يحْتَمل التَّأْوِيل، فَإِنَّهُ إِذا نزل النّسخ منزلَة الْبَيَان كالتخصيص لم يَجْعَل الْمَنْسُوخ نصا مقتضيا استغراق مُسْتَقْبل الزَّمَان، بِحَيْثُ يقبل التَّأْوِيل، وَهَذَا على الْحَقِيقَة إِنْكَار للنسخ، وَذَلِكَ أَن الَّذِي ثَبت بالناسخ مُنْفَصِل عَن الْمَنْسُوخ فِي مُقْتَضَاهُ، وَلَا يتَعَرَّض لَهُ بِوَجْه، وَلَو جَازَ تَسْمِيَة ذَلِك نسخا مَعَ أَن كل وَاحِد حكم على الِابْتِدَاء وَلَا يتَضَمَّن أَحدهمَا رفع الثَّانِي وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك لَو قدر التَّصْرِيح أَولا لما تصور بِهِ تَحْقِيق نسخ على هَذِه الْقَاعِدَة، فَإِذا تبين بِهِ المُرَاد آخرا، بعد أَن كَانَ مكتتما مستترا عَنَّا، فَلَا يَقْتَضِي ذَلِك قلبه عَن حَقِيقَته، وَإِنَّمَا يتَبَيَّن إِجْزَاء من مُقْتَضى الْخطاب يخلفه بِمَا لَو تبين أَولا، وَهَذَا أحد من الْجَهَالَة لَا يُنكره ذوتحقيق. [1227] فَإِن قيل: فَمَا وَجه دفعكم لسؤال الْقَوْم؟ قُلْنَا: فِي وجوب كَون الْكَلَام الْقَدِيم خَبرا عَن كل مخبر كَلَام يطول ويغمض الْخَوْض فِيهِ، على أَنا نؤثر مَا قَالُوهُ، ونختاره، وَالسُّؤَال مَعَه مَدْفُوع، وَالْحَمْد لله، وَذَلِكَ أَنا نقُول: إِذا أخبر الرب سُبْحَانَهُ عَن وجوب وَاجِب، ومعاقبة على تَركه، فَيكون خَبره مَشْرُوطًا بَان لَا ننسخ، فَكَأَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُول: الْعِبَادَة الموصوفة وَاجِبَة عَلَيْكُم وَأَنْتُم معاقبون على تَركهَا إِلَّا ان أنسخها عَنْكُم فَلَا يُؤَدِّي إِذا قدر النّسخ إِلَى خلاف فِي الْخَبَرَيْنِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 وَهَذَا أبين، كَمَا أَن الْقَائِل إِذا قَالَ: لست أَتكَلّم إِذا كنت رَاكِبًا، فَإِذا تكلم فِي غير حَال الرّكُوب لم يكن ذَلِك خلفا مِنْهُ، فَإِن خَبره الأول مَشْرُوط بِشَرْط وَهَذَا وَاضح لاخفاء بِهِ. [1228] فَإِن قَالَ قَائِل: فقد رووا الْخَبَر عَن الشَّيْء على مَا هُوَ بِهِ، وَإِذا علم الرب سُبْحَانَهُ أَن شَرِيعَته سينسخها وَيرْفَع وُجُوبهَا فَمَا وَجه الْأَخْبَار بِنَصّ النّسخ قبل ثُبُوته، قُلْنَا: وَجه التَّقْدِير فِيهِ أَن يَقُول أَنْتُم متعبدون يَا معشر [136 / أ] الْمُكَلّفين بِهَذِهِ الشَّرِيعَة معاقبون على تَركهَا / وَهِي وَاجِبَة عَلَيْكُم إِلَى أَن أرفع عَنْكُم وُجُوبهَا وسأرفع وُجُوبهَا عَنْكُم. وَلَو جَازَ اتِّصَال النَّاس بالمنسوخ لجَاز ذكرهمَا مَعًا على التَّفْصِيل، فوضح الْحق من غير احْتِيَاج إِلَى رفع أصل النّسخ وحقيقتة فِي حمله على الْبَيَان. (223) القَوْل فِي جَوَاز نسخ الْعِبَادَة لَا إِلَى بدل، وَفِي جَوَاز نسخهَا بِمَا هُوَ أشق مِنْهَا [1229] اعْلَم ان مَا صَار إِلَيْهِ أهل الْحق جَوَاز نسخ الْعِبَادَة لَا إِلَى بدل وَقد منع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 الْمُعْتَزلَة ذَلِك وَالْمَسْأَلَة بِأَصْل قدمْنَاهُ وَهُوَ أَنا [نجوز ارْتِفَاع التَّكْلِيف عَن المخاطبين جملَة، فَلِأَن] يجوز ارْتِفَاع عبَادَة بِعَينهَا لَا إِلَى بدل أولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 [1230] فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يتَصَوَّر ذَلِك وَلَو وَجَبت عبَادَة فَمن ضَرُورَة نسخ وُجُوبهَا إِبَاحَة تَركهَا وَالْإِبَاحَة حكم من الْأَحْكَام وهوب بدل من الحكم الثَّابِت أَولا، وَهُوَ الْوُجُوب. قُلْنَا: من مَذْهَب من يخالفنا إِن الْعِبَادَة لَا تنسخ إِلَّا بِعبَادة وَلَا يجوزون نسخهَا بِإِبَاحَة، على أَن مَا طالبتموه بِهِ يتَصَوَّر بِأَن يَقُول الرب: نسخت عَنْكُم الْعِبَادَة، وَعَاد الْأَمر إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل وُرُود الشَّرَائِع، فَهَذَا مِمَّا يعقل وَلَا يُنكر. [1231] وَإِن استروحوا فِي منع ذَلِك بقوله: {مَا ننسخ من ءاية أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} . قَالُوا: فهاذا تَصْرِيح بِإِثْبَات التبديل. قُلْنَا: هَذَا إِخْبَار على أَن النّسخ يَقع على هَذَا الْوَجْه وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على أَنه لَا يجوز وُقُوع النّسخ على غير هَذَا الْوَجْه وَهَذَا وَاضح عِنْد التَّأَمُّل، أَو نقُول قَوْله: (مَا ننسخ من آيَة) يحمل على بعض الْأَحْكَام دون بعض، ويقوى ذَلِك على منع صِيغَة الْعُمُوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 (224) فصل [1232] يجوز نسخ الْعِبَادَة بِعبَادة أشق مِنْهَا وَقد أنكر ذَلِك شرذمة من الْمُعْتَزلَة وكل مَا يدل على اصل النّسخ فَهُوَ دَال على ذَلِك وَلَيْسَ لَهُم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 فِي الْمَسْأَلَة عصمَة يتمسكون بهَا إِلَّا مَا يَهْتَدُونَ بِهِ من الْمصَالح فَيَقُولُونَ لَيْسَ من مصَالح الْعباد تَعْظِيم الْمَشَقَّة عَلَيْهِم، بل الْأَصْلَح لِعِبَادِهِ فِي بعض الزَّمَان تَكْلِيف الأشق، على أَن مَا قَالُوهُ يتَوَجَّه عَلَيْكُم فِي بَدْء الشَّرِيعَة فَيُقَال لَهُم: كَانَ يجوز ان يقدر أخف مِنْهَا فَمَا بالها وَقعت شاقة. وَرُبمَا يستدلون بظواهر من الْكتاب، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يرد بكم الْعسر} . فَيُقَال ورد هَذَا فِي مُخَاطبَة المرضى من الْمُسلمين لما خفف الصّيام عَنْهُم، على أَن المُرَاد بِالْآيَةِ يُرِيد الله بكم مَا ستنالون من الْيُسْر فِي العقبى وَلَا يُرِيد مُجَردا عتابكم فِي الدُّنْيَا. وعَلى هَذَا الْوَجْه يستدلون بظواهر وَوجه الْجَواب مَا قدمنَا. [1233] وَمِنْهُم من يَقُول: يجوز النّسخ بالأشق عقلا وَيمْتَنع سمعا لهَذِهِ الْآيَات. ثمَّ نقُول: وَكم من حكم ينْسَخ بأشق مِنْهُ، وَهَذَا كَمَا أَن الصُّلْح [136 / ب] عَن الْكفَّار نسخ بمقاتلتهم / وبذل المهج وَالْأَمْوَال فِي مجاهدتهم، وَجَوَاز ترك الصَّوْم من غير عذر بِشَرْط الْفِدْيَة، وَنسخ حليل الختمر، وَهَذَا شَأْن كل تَحْرِيم يعقب تحليلا فَبَطل مَا قَالُوهُ عقلا وسمعا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 (225) القَوْل فِي نسخ حكم الْآيَة وتلاوتها، وَوجه الْخلاف فِيهِ [1234] اعْلَم أَنه يجوز أَن تشْتَمل الاية على ثُبُوت حكم من الْأَحْكَام وَيُوجب الله تَعَالَى علينا تلاوتها ثمَّ ينْسَخ الله عَنَّا حكمهَا وَوُجُوب تلاوتها وَيجوز أَن ينْسَخ عَنَّا حكم الْآيَة ويديم علينا وجوب تلاوتها، وَهَذَا مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْمُحَقِّقين. وَذهب بعض النَّاس إِلَى انه لَا يجوز نسخ تِلَاوَة الْآيَة مَعَ بَقَاء حكمهَا، وَذهب الْآخرُونَ على الْعَكْس من ذَلِك فَقَالُوا لَا يجوز نسخ حكم الْآيَة مَعَ بَقَاء تلاوتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 [1235] وَالدّلَالَة الَّتِي قررناها من نفي الاستحالة وَإِثْبَات الْجَوَاز يطرد على الطَّائِفَتَيْنِ، فَلَا فَائِدَة فِي إِعَادَتهَا، وَالْجُمْلَة فِي مَضْمُون الْبَاب أَن تِلَاوَة الْآيَة وَمَا يطوي عَلَيْهِ الْآيَة حكمان متباينان يجوز فِي الْعقل تَقْدِير أَحدهمَا مَعَ انْتِفَاء الثَّانِي، فَمن هَذَا الْوَجْه لم يبعد النّسخ فيهمَا أَو فِي أَحدهمَا. [1236] فَإِن قَالَ من منع نسخ الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة: الاية وَردت دَالَّة على الحكم وَمن المستحيل أَن تبقى الدّلَالَة ويرتفع مدلولها. وَهَذَا لَا تَحْقِيق لَهُ، وَذَلِكَ أَن الْآيَة إِنَّمَا نصبت دلَالَة بِشَرْط أَن لَا ينْسَخ حكمهَا فإذانسخ حكمهَا فقد خرجت عَن أَن تكون دلَالَة فَإِنَّهَا مادلت على الحكم دلَالَة العقليات على مدلولها. [1237] فَإِن قَالَ من أحَال نسخ التِّلَاوَة مَعَ بَقَاء الحكم: إِذا ثَبت الحكم بمورد الْآيَة فَيَنْبَغِي أَن لَا يَنْتَفِي بِوُقُوع تلاوتها، كَمَا أَن الحكم إِذا علق بعلة ثَبت بثبوتها وانتفى بنفيها، فَيُقَال: هَذَا سَاقِط من وَجْهَيْن أَحدهمَا: إِن وجوب تِلَاوَة الْآيَة لم يكن دَلِيلا على ثُبُوت الحكم وَإِنَّمَا الدَّلِيل على ثُبُوته مَضْمُون الْآيَة وَوُجُوب تلاوتها حكم يغاير مَضْمُون الْآيَة، على أَنا نقُول: لَا يبعد أَن يثبت حكم عَقْلِي وتدل عَلَيْهِ دلَالَة عقلية ثمَّ ترْتَفع الْأَدِلَّة وَلَا يرْتَفع مدلولها. فَإِذا جَازَ فِي الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة تَقْدِير الِارْتفَاع مَعَ وجود ثُبُوت الْمَدْلُول، فَلِأَن يجوز ذَلِك مَعَ الْأَدِلَّة السمعية أولى. وَبَيَان ذَلِك أَن الْعَالم دَال على صانعه، فَلَو قَدرنَا عدمهَا لم تقتض ذَلِك انْتِفَاء مدلولها. [1238] ثمَّ نقُول لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا: قد اشْتَمَل الْقُرْآن، على مَا يُخَالف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 مذهبكم فَأَما نسخ الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة فمتحقق فِي آي من كتاب الله، مِنْهَا أَن النّسخ فِي حق المطيق بَين الصّيام والفدية مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة} وَكَذَلِكَ نسخ الْوَصِيَّة للأقربين مَعَ ثُبُوت التِّلَاوَة فِي آيَة الْوَصِيَّة، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: (كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت إِن ترك خيرا الْوَصِيَّة للْوَالِدين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 والأقربين} . وَكَذَلِكَ نسخ الله تَعَالَى تَحْرِيم الْمُبَاشرَة فِي ليَالِي الصّيام مَعَ ثُبُوت تِلَاوَة الْآيَة وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم. .} الْآيَة بِمَا فِيهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 وَهَكَذَا نسخ تربص المتوفي عَنْهَا زَوجهَا / مَعَ ثُبُوت الْآيَة الدَّالَّة على [137 / أ] ذَلِك وَيكثر نَظَائِر ذَلِك فِي الْقُرْآن. [1239] فَأَما نسخ التِّلَاوَة مَعَ بَقَاء الحكم فكثير أَيْضا، مِنْهَا: الرَّجْم كَمَا قَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ لَوْلَا أَن يُقَال زَاد عمر فِي كتاب الله تَعَالَى لأثبتها على حَاشِيَة الْمُصحف، وَهِي " الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 (226) القَوْل فِي حكم النّسخ بعد انْقِضَاء وَقت الْفِعْل وَوجه الْخلاف فِيهِ [1240] اعْلَم: لَا يَسْتَحِيل على أصلنَا أَن يتَعَلَّق الْخطاب بالمكلف فِي حكم وَلَا يتَّفق لَهُ الْإِقْدَام على الِامْتِثَال فَينْسَخ عَنهُ الْفِعْل ووجوبه، وَلَيْسَ الْمَعْنى بنسخه عَنهُ مَعَ مُضِيّ وَقت إِمْكَان أَدَائِهِ أَن ينْسَخ عَنهُ إِيقَاعه فِي الزَّمَان الْمَاضِي، أَو يُؤمر بإيقاع تَركه فِي الزَّمَان الْمَاضِي، فَإِن ذَلِك من المستحيلات. وَالَّذِي نَحن فِيهِ الْآن منع تَكْلِيف الْمحَال، فَأَما الْأَمر بترك الْفِعْل فِي الِاسْتِقْبَال، وَنسخ وُجُوبه فشائع. [1241] ثمَّ اعْلَم أَنا لَا نستبعد أَن يُؤمر بترك [عين] الْفِعْل الَّذِي كَانَ يَقع فِي ي الزَّمَان الأول لَو قدر وجوده وَإِن كَانَ التّرْك فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان. وَقد أنْكرت الْمُعْتَزلَة ذَلِك أَشد الْإِنْكَار فَقَالُوا يَسْتَحِيل تَقْدِير وُقُوع ترك الْفِعْل فِي الزَّمَان الْمُسْتَقْبل فَإِن زمَان الْفِعْل إِذا انْقَضى فقد انْقَضى زمَان تَركه أَيْضا وَإِذ لم يتَصَوَّر فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان الْفِعْل الَّذِي كَانَ يَقع فِي الزَّمَان الأول فَكَذَلِك لَا يتَصَوَّر وُقُوع تَركه فِي الِاسْتِقْبَال فَإِن التّرْك إِنَّمَا يتَصَوَّر بَدَلا من الْفِعْل. [1242] وَاعْلَم أَن هَذِه الْمَسْأَلَة لَا يَتَّضِح إِلَّا بعد الْإِيمَاء إِلَى مُقَدّمَة، فَمن اصل أهل الْحق أَن مَا وجد من افعال الْعباد وَعدم، فيتصور إِعَادَته بِعَيْنِه، وَهُوَ من مَقْدُور الله تَعَالَى، وكما يتَصَوَّر إِعَادَة عين الْفِعْل فَكَذَلِك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 يتَصَوَّر إِعَادَة الْقُدْرَة عَلَيْهِ، فَلَا يبعد إِذا أَن يصدر من الْمُكَلف فعل مكتسب لَهُ، ويعدم فعله وَقدرته، ثمَّ يعيدهما الله تَعَالَى فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان. وَأنْكرت الْمُعْتَزلَة فِي اصول الديانَات إِعَادَة أَفعَال الْعباد، فعلى هَذَا القَوْل على قَضِيَّة اصلنا إِذا يتَصَوَّر فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان عود الْأَفْعَال فَلَا يبعد عود تَركهَا أَو تصور تَركهَا، فَخرج من ذَلِك أَنه يجوز أَن يُؤمر بِعَين الْفِعْل الْمَاضِي على إِعَادَته وَيجوز أَن يُؤمر بِعَين ترك الْفِعْل الْمَاضِي على تَقْدِير الْإِعَادَة. [1243] وَقد ذهب بعض أَصْحَابنَا إِلَى مُوَافقَة الْمُعْتَزلَة اغْتِرَارًا مِنْهُم بتمويهاتهم ومصيرا مِنْهُم إِن الْفِعْل بعد مَا مضى وقته لَا يتَحَقَّق هُوَ وَلَا تَركه فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان. وَلَا نظن بهؤلاء مُوَافقَة الْمُعْتَزلَة فِي فَاسد أصلهم، فالطريق أَن نقرر لَهُم أَن الْمُعْتَزلَة بنت أَصْلهَا على منع الاعادة فِي مُعظم الْأَعْرَاض، وَيقدر لَهُم منع الْإِعَادَة، وَلم يصف الرب تَعَالَى بالإقتدار عَلَيْهَا، فيلزمهم من ذَلِك نفي الْإِعَادَة فِي جملَة أَجنَاس الْحَوَادِث [و] ذَلِك تسبب إِلَى منع ابْتِدَاء الْخلق فَإِن إِنْكَاره الْإِعَادَة يُفْضِي إِلَى إِنْكَار أصل الْأَحْدَاث فَإِذا قَررنَا للفقهاء من / أَصْحَابنَا هَذَا من اصحاب الْمُعْتَزلَة فيرغبون عَن موافقتهم [137 / ب] لَا محَالة. [1244] فَإِن قَالَ قَائِل: فَإِن أُعِيد الْفِعْل فِي الثَّانِي مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ فَبِمَ يعرف المكتسب أَن مَا أعَاد عين فعله، وَكَيف يتَحَقَّق التَّكْلِيف بِهِ على التَّعْيِين والتخصيص؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 قُلْنَا يتَصَوَّر ذَلِك من وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَن يُعلمهُ الله ضَرُورَة أَنه عين فعله الْمُقْتَضى، وَقد عَاد. وَالثَّانِي أَن يُخبرهُ من تجب عصمته بَان مَا يُوجد مِنْهُ إِذا أقدم على امْتِثَال فَهُوَ عين فعله. (227) القَوْل فِي جَوَاز نسخ الْفِعْل قبل دُخُول وقته وَذكر الْخلاف فِيهِ [1245] اعْلَم: هَذَا الْبَاب مِمَّا ظهر فِيهِ اخْتِلَاف الْأُصُولِيِّينَ فَمَا صَار إِلَيْهِ الْمُعظم من الْمُحَقِّقين من أَصْحَابنَا تَجْوِيز النّسخ قبل دُخُول وَقت الْفِعْل وجوزوا ايضا ثُبُوت النّسخ قبل انْقِضَاء وَقت الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 وَالْأولَى بِنَا تَصْوِير مَضْمُون الْبَاب أَولا، ثمَّ نرتب ذكر الْمذَاهب عَلَيْهِ فلمضمون الْبَاب ثَلَاث صور، وَاحِد مِنْهَا مُتَّفق عَلَيْهِ وَاثْنَانِ مُخْتَلف فيهمَا. فَأَما الْمُتَّفق عَلَيْهَا فَهُوَ أَنه إِذا انْقَضى على الْمُكَلف وَقت إِمْكَان الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ وأقدم فِيهِ على الِامْتِثَال أَو لم يقدم عَلَيْهِ فَيجوز أَن ينْسَخ عَنهُ الْفِعْل فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان وَالْحَالة هَذِه، وَيكون ذَلِك النّسخ على التَّحْقِيق وَاقعا قبل الْفِعْل، فَإِن الَّذِي مضى لَا يقدر نسخه على تَقْدِير ارْتِفَاع التّرْك فِي الزَّمَان الْمَاضِي، فَكل نسخ إِذا قبل الْفِعْل أَو لَا يتَحَقَّق النّسخ فِي عين الْفِعْل الْمَاضِي مَعَ تَقْدِيره لإيقاع التّرْك فِي الزَّمَان الْمَاضِي وَإِنَّمَا يتَصَوَّر النّسخ فِي الْفِعْل الْمَاضِي على تَقْدِير الْإِعَادَة كَمَا قدمْنَاهُ. [1246] فَأَما الصورتان اللَّتَان فيهمَا الِاخْتِلَاف فأحدهما أَن نقُول إِذا قَالَ الرب جلت قدرته إِذا زَالَت الشَّمْس فصلوا، ثمَّ يَقُول قبل زَوَال الشَّمْس: قد نسخت عَنْكُم مَا أوجبت عَلَيْكُم، ويتصل النّسخ بالمخاطبين قبل الزَّوَال أَيْضا، فَهَذَا مِمَّا يجوز على مَذْهَب أهل الْحق ومنعته الْمُعْتَزلَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 بأسرها وَكَذَلِكَ إِذا أوجب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فعلا على الْعباد لَا يَسعهُ إِلَّا وَقت ممتد فانقضى وَقت الْفِعْل الَّذِي يسع الْعِبَادَة الْمَأْمُور بهَا، فنسخ الله وجوب تِلْكَ الْعِبَادَة عَن عبَادَة قبل مُضِيّ وَقت الْفِعْل بعد تَكْلِيفه، فَهَذَا مِمَّا يجوز أَيْضا وأطبقت الْمُعْتَزلَة على إِنْكَاره، فَهَذَا وَجه تَصْوِير الْخلاف. [1247] ثمَّ اخْتلف أَصْحَابنَا فِي وَجه تَصْوِير النّسخ، وَذَلِكَ السُّؤَال يُوَجه عَلَيْهِم، فَقيل لَهُم إِذا أَمر الله تَعَالَى بِشَيْء، ثمَّ نهى عَنهُ قبل تحقق وَقت يُمكن إِيقَاع الْفِعْل فِيهِ فقد صَار عين الْمَأْمُور مَنْهِيّا من غير تغاير بَينهمَا، ويستحيل ان يكون الشَّيْء الْوَاحِد مَأْمُورا بِهِ مَنْهِيّا عَنهُ من وَجه وَاحِد. [1248] وَاخْتلف من لم يعظم حَظه بالأصول، فَقَالَ بَعضهم قد وَقع النَّهْي على خلاف الْوَجْه الَّذِي وَقع عَلَيْهِ الْأَمر، وَإِنَّمَا المستبعد تعلق الْأَمر [138 / أ] وَالنَّهْي بالشَّيْء الْوَاحِد على الْوَجْه وأوضحوا / ذَلِك بِأَن قَالُوا إِذا أَمر الله سُبْحَانَهُ العَبْد بِفعل فَإِنَّمَا يُوَجه عَلَيْهِ التَّكْلِيف بِشَرْط بَقَاء الْأَمر عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ أوجبت عَلَيْك الْفِعْل بِشَرْط أَن يبْقى الْأَمر مُتَّصِلا بك وَبقيت مَأْمُورا، فَإِذا نَهَاهُ فقد زَالَ عَنهُ تعلق الْأَمر، وَتعلق النَّهْي بِهِ على وَجه يُوَافق شَرط تعلق الْأَمر، فَلَا يضاده، وَلَا تنَاقض فِي تَصْوِير تعلق الْأَمر وَالنَّهْي جَمِيعًا على هَذَا الْوَجْه وَرجع محصول هَذَا القَوْل أَنه فِي كَونه مَأْمُورا شَرط عَلَيْهِ دوَام [اتِّصَال] الْأَمر بِهِ. [1249] وَقد أَشَارَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ إِلَى طريقتين: إِحْدَاهمَا إِن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 قَالَ: لَا حَاجَة بِنَا إِلَى تَصْوِير هَذَا الشَّرْط وَلَكنَّا نفصح بِالْمَقْصُودِ فَنَقُول: تعلق الْأَمر على اقْتِضَاء الْإِيجَاب بالشَّيْء الْوَاحِد، ثمَّ ارْتَفع الْوُجُوب فِي عينه فَتعلق النَّهْي بِهِ من غير حَاجَة إِلَى فرض شَرط وَتَقْدِير مَشْرُوط، وَمن صَار إِلَى غير ذَلِك فقد ذهل عَن الْمَذْهَب وَجبن عَن حَقِيقَته، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن مَا ذكره الْقَائِل الأول غير مُسْتَقِيم فَإِنَّهُ قَالَ تعلق الْأَمر بِهِ مَشْرُوط بِبَقَاء اتِّصَال الْأَمر بِهِ، وَهَذَا لَا يتَحَقَّق لَهُ وَذَلِكَ إِنَّه لَا يتَصَوَّر كَونه مَأْمُورا إِلَّا باتصال الْأَمر بِهِ فَلَا معنى لقَوْل الْقَائِل إِنَّه إِنَّمَا يكون مَأْمُورا مَا دَامَ الْأَمر مُتَّصِلا بِهِ، وَلَا فَائِدَة فِي جعل ذَلِك شرطا، فَإِن كَونه مَأْمُورا عين اتِّصَال الْأَمر بِهِ، فَلَا فرق بَين أَن يَقُول الْقَائِل هُوَ فِي كَونه مَأْمُورا مَشْرُوطًا بِكَوْنِهِ مَأْمُورا وَبَين ان يَقُول هُوَ فِي كَونه مَأْمُورا مَشْرُوطًا باتصال الْأَمر بِهِ. فَهَذَا إِذا من قبيل شَرط الشَّيْء فِي نَفسه وَهُوَ محَال غير مَعْقُول. [1250] وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه إِنَّمَا يجوز أَن يقدر الشَّيْء شرطا فِي الشرعيات إِذا تقدر وُقُوع الْمَشْرُوط دون الشَّرْط، وَذَلِكَ نَحْو الطَّهَارَة، فَلَمَّا شرطت فِي الصَّلَاة تصور تَقْدِير وُقُوع الصَّلَاة فِي صورتهَا من غير طَهَارَة وَلَا يتَصَوَّر كَونه مَأْمُورا من غير اتِّصَال الْأَمر بِهِ فَلَا وَجه لتقدير الِاتِّصَال شرطا. [1251] وَالَّذِي يُوضح ذَلِك إِنَّه لما لم يتَصَوَّر وُقُوع الِاكْتِسَاب من العَبْد إِلَّا ان يكون قَادِرًا لم يسع لَا جرم وَأَن يُقَال للْعَبد اكْتسب الْفِعْل بِشَرْط أَن تكون قَادِرًا أَو بِشَرْط أَن تكون مَوْجُودا أَو بِشَرْط أَن يُوجد فعلك فِي مَحل قدرتك، فَكل ذَلِك من لَغْو الْكَلَام، فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر وُقُوع الْكسْب إِلَّا على هَذَا الْوَجْه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 [1252] ثمَّ قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَإِن لم يكن من تَقْدِير شَرط بُد دَفعهَا للسؤال فَالْأولى أَن نقُول: كَانَ الرب تَعَالَى قَالَ: افْعَل الْفِعْل الْفُلَانِيّ تقربا مِنْك إِلَيّ مَا دَامَ الْأَمر مُتَّصِلا بك، فَإِذا نهيتك عَنهُ فَلَا تَفْعَلهُ تقربا إِلَيّ وَلَا تقربا إِلَى غَيْرِي، ليتبين للْعَبد أَنه [عِنْد] النَّهْي مَنْهِيّ عَن قصد التَّقَرُّب بِمَا أَمر بِهِ أَولا إِلَى الله، وَهُوَ مَنْهِيّ عَن اصل فعله أَيْضا من غير قصد التَّقَرُّب فَهَذَا وَجه تَفْصِيل الْمذَاهب. [1265] وَالدَّلِيل على مَا صرنا إِلَيْهِ مَا قدمْنَاهُ فِي اصل النّسخ [من [138 / ب] نفي] طرق الاستحالة وتبيين ثُبُوت الجوازعند انْتِفَاء الأسئلة / على مَا سبق طرد الدّلَالَة. [1264] فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن فِي تَقْدِير النّسخ على الْوَجْه الَّذِي قلتموه أعظم الاستحالة وَذَلِكَ انه إِذا أَمر بامر ثمَّ نهى عَنهُ قبل تصور التَّمَكُّن من فعله وَقبل تصورعين فعله، وَهُوَ مفضي إِلَى عين البداء، فَكَأَنَّهُ أوجب شَيْئا فَبَدَا لَهُ فَرفع وُجُوبه تَعَالَى الله عَن كل نقص وَهَذَا مِمَّا يعظمون الظنة فِيهِ، وينسبونه لأَجله إِلَى تَجْوِيز البداء على الله. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه اقْتِصَار مِنْكُم على مُجَرّد الدَّعْوَى، وَقد أوضحنا اندفاع القَوْل بالبداء وَهَا نَحن نريده إيضاحا، فَنَقُول: البداء إِمَّا أَن يرجع إِلَى اسْتِدْرَاك علم، أَو إِلَى تبدل إِرَادَة، فَأَما تجدّد الْعلم فاستدراكه فَإِنَّمَا يلْزم إِن لَو كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غير عَالم بِمَا سينسخ مَا أوجبه فَأَما إِذا أوجب وَصفه بِكَوْنِهِ عَالما بِمَا سَيكون فَلَا يلْزم من قبيل الْعلم البداء وَلَا يلْزم أَيْضا من قبيل الْإِرَادَة، لما أوضحنا أَولا من عدم تعلق الشَّرَائِع بالإرادة، وَلما قَرَّرْنَاهُ فِي الديانَات من جَوَاز الْأَمر بِمَا لَيْسَ بِمُرَاد لله وَجَوَاز تعلق النَّهْي بِمَا هُوَ مُرَاد لله، فقد بَطل ادِّعَاء البداء من كل وَجه. [1255] فَإِن قَالُوا: إِذا أوجب الله سُبْحَانَهُ شَيْئا مَعَ علمه بِأَنَّهُ سينهي عَن عين مَا أوجبه قبل إِمْكَان فعله، فَهَذَا مِمَّا لَا يتَصَوَّر فِي الْمَعْقُول، وَكَأَنَّهُ أوجب عين مَا علم إِنَّه لَا يجب. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه يبطل من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنا نقُول: إِذا أوجب الله شَيْئا فقد ثَبت وُجُوبه فَإِذا رفع وُجُوبه بالنسخ فقد ارْتَفع وُجُوبه، وَثَبت أَنه أوجب وَاجِبا ثمَّ رفع وُجُوبه، وَهَذَا مَا لَا اسْتِحَالَة فِيهِ بِوَجْه، ثمَّ نقُول النّسخ حَيْثُ سننق وَعَلِيهِ هَكَذَا يَقع أَن يُحَقّق فَإِنَّهُ رفع للْحكم بعد ثُبُوته فيتقرر فِيمَا ذكرتموه. [1256] فَإِن قَالُوا لَا يتَحَقَّق بالنسخ رفع ثَابت وَلَكِن يتَبَيَّن بِهِ انْقِطَاع مُدَّة الْوُجُوب فقد قدمنَا عَلَيْهِم فِي ذَلِك أوضح الرَّد وَبينا أَن هَذَا إِنْكَار مِنْهُم لأصل النّسخ وَفصل النّسخ عَن الْمَنْسُوخ وَقطع لأَحَدهمَا عَن الثَّانِي. [1257] فان قَالُوا: لَو كَانَ فِي إِيجَابه مصلحَة فَلَا يجوز رفع الْمصلحَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 قبل [تقررها] قيل: هَذَا لِأَنَّهُ [خوض] مِنْكُم فِي فَاسد أصلكم وَنحن لَا نراعي فِي مَوَانِع الشَّرِيعَة الْمصَالح، على أَنا نقُول رُبمَا تكون الْمصلحَة فِي أَن يُوجب الله تَعَالَى الشَّيْء على الْمُكَلف ليعتقد وُجُوبه والعزم على امتثاله، ثمَّ يعلم أَن مصْلحَته بَان ينْسَخ عَنهُ الْفِعْل ويثاب على الْعَزْم فَإِنَّهُ لَو دَامَ عَلَيْهِ التَّكْلِيف لعصى وأثم واستوجب النَّار، فَبَطل كل مَا ادعوهُ من وُجُوه الإحالة. [1258] وَمِمَّا يُقَوي التَّمَسُّك بِهِ قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قصَّة إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ وَابْنه الذَّبِيح لما امْرَهْ بذَبْحه ثمَّ نسخ عَنهُ قبل اتِّفَاق الذّبْح، فَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أسلما وتله للجبين، ونديناه أَن بإبراهيم، قد صدقت الرُّؤْيَا} فَهَذَا هُوَ النّسخ بِعَيْنِه قبل إِمْكَان الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ. [1259] وَلَهُم على الْآيَة أسئلة مِنْهَا أَن قَالُوا: مَا أمره الله تَعَالَى: الذّبْح بِعَيْنِه وَمَا أَرَادَ مِنْهُ ذَلِك وَإِنَّمَا أَرَادَ اختباره وابتلاء سره وامتحان صدقه [139 / أ] . وَهَذَا بهت عَظِيم وَقرب من هدم الْأُصُول فِي / العقائد فَإنَّا نقُول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 ابتلاء السِّرّ وامتحانه لَا يتحق من الْعَالم بالسر وأخفى. ثمَّ هَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ مُخَالفَة مِنْهُم لموجب الْآيَة ايضا فَإِنَّهَا تَقْتَضِي المر بِالذبْحِ وَقَول الذَّبِيح يَقْتَضِي الاستسلام لما قَالَ: {ستجدني إِن شَاءَ الله من الصابرين} ون المستحيل أَن يعْتَقد الْخَلِيل صلوَات الله عَلَيْهِ فِي الْأَمر غير مَا أُرِيد بِهِ، ثمَّ فداؤه بِالذبْحِ الْعَظِيم من أدل الدَّلِيل على أَنه كَانَ مَأْمُورا بِالذبْحِ. [1260] فَإِن قَالُوا: كَانَ مَأْمُورا بالعزم على الذّبْح، واعتقاد وُجُوبه، وَلم يكن مَأْمُورا بِنَفس الذّبْح، قُلْنَا: من المستحيل أَن يُؤمر الْخَلِيل صلوَات الله عَلَيْهِ بِالْجَهْلِ، واعتقاد الشَّيْء على غير مَا هُوَ بِهِ جهل، وَإِن كَانَ مَأْمُورا باعتقاد الشَّيْء على مَا هُوَ بِهِ، فَهُوَ علم مِنْهُ إِذا [بِوُجُوب] الذّبْح، ويستحيل الْعلم بِوُجُوبِهِ مَعَ أَنه فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى غير وَاجِب، ثمَّ كل مَا ذَكرْنَاهُ من الْقَرَائِن تبطل مَا قَالُوهُ من التَّأْوِيل. [1261] فَإِن قَالُوا: لم يكن قد اتَّصل بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر على الْحَقِيقَة وَإِنَّمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 كَانَ رُؤْيا ومناما مُجَردا. قُلْنَا: فَهَذَا الْآن إزراء على الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم وتنقيص لرتبهم فَإِن أهل التَّأْوِيل أَجمعُوا على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يعْتَقد كَونه مَأْمُورا بِالذبْحِ، وَمن المستحيل فِي حَاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يعْتَقد كَونه مَأْمُورا فِي هَذِه الْحَالة الْعَظِيمَة وتل ابْنه للجبين على هَذَا الِاعْتِقَاد ويعتقد الابْن حَقِيقَة الْأَمر حَتَّى يَقُول: {يَا أَبَت افْعَل مَا تُؤمر ستجدني} . وَمَعَ ذَلِك كُله كَانَا جَمِيعًا مخطئين فِي اعْتِقَاد كَونهمَا مأمورين وَقد استدركتهم من مُوجب الْقِصَّة مَا لم يفهمهُ الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام، فَهَذَا هُوَ البهت الْعَظِيم، لَو كَانَ الْأَمر على مَا ذكرتموه لَكَانَ الرب يبين فِي الْقُرْآن أَنه لم يكن مَأْمُورا فَلَمَّا أنزل على نبيه مَا دلّ نصا على كَون الذّبْح مَأْمُورا بِهِ ثمَّ لم يقرنه بِمَا بَين أَن الْأَمر بِخِلَاف مَا اعتقده الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام دلّ ذَلِك على بطلَان مَا قلتموه، ثمَّ الْفِدَاء بِالذبْحِ مَعَ قَوْله: {إِن هَذَا لَهو البلؤا الْمُبين} ، يُوضح مَا قلتموه. [1262] فَإِن قَالُوا: كَانَ مَأْمُورا بِالذبْحِ وَلَكِن كَانَ مَمْنُوعًا عَنهُ وَكَانَ قد خلق الله بَين شفرة السكين وأوداج إِسْمَاعِيل صفحة من حَدِيد أَو نُحَاس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 قُلْنَا: هَذَا بَاطِل سِيمَا على أصلكم فَإِن من أعظم المحالات عنْدكُمْ تَكْلِيف مَا لَا يطيقه الْمُكَلف، وَمَا ذكرتموه تَصْرِيح بذلك، فَإِنَّكُم زعمتم أَنه كَانَ مَأْمُورا بِالذبْحِ مَمْنُوعًا عَنهُ، وَلَو جَازَ ذَلِك لجَاز أَمر الْمُقَيد المكبل بِالْمَشْيِ والترداد مَعَ الْمَانِع الَّذِي بِهِ. [1263] فَإِن قَالُوا كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَأْمُورا بإضجاعه وَشد يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ رِبَاطًا وتله للجبين وَلم يكن مَأْمُورا بِنَفس الذّبْح بل كَانَ مَأْمُورا بمقدماته. قُلْنَا: هَذَا خلاف قَوْله: {إِلَى أرى فِي الْمَنَام أَنِّي أذبحك} فَإِن مَا ذكرتموه م مُقَدمَات الذّبْح لَا يُسمى ذبحا، على أَن الْخَلِيل صلوَات الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ مُعْتَقدًا وجوب الذّبْح وَكَذَا ابْنه، وَإِلَّا فَلَو علمنَا أَن الْمَأْمُور بِهِ مَا ذكرتموه كَانَ لأمر سهل المرام، وَكَانَ الصُّورَة الَّتِي ذكرتموها من / قبيل الْعَبَث واللعب وَمَا عظم الِابْتِلَاء فِيهِ، كَمَا قَالَ: {إِن [139 / ب] هَذَا لَهو البلؤا الْمُبين} ثمَّ افتداؤه بِالذبْحِ يبطل مَا قلتموه بطلانا صَرِيحًا فَإِنَّهُ لَو كَانَ أقدم على مَا أَمر بِهِ لم يكن فِي افتدائه معنى، وَقد يعم الْمَأْمُور بِهِ، فَتبين أَن مَا قَالُوهُ تعسف واجتراء على إبِْطَال ظَاهر الْآيَة. [1264] فَإِن قَالُوا فِي الْآيَة مَا يدل على ذَلِك فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: (صدقت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 الرُّؤْيَا} ، فَدلَّ أَنه امتثل مَا أَمر بِهِ. قُلْنَا: التَّصْدِيق من افعال الْقُلُوب وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ االأفعال الظَّاهِرَة فَمَعْنَى قَوْله: {قد صدقت الرُّؤْيَا} ، أَي: قد آمَنت بِوُجُوبِهَا فِيمَا يعظم خطره فَهَذِهِ حَقِيقَة التَّصْدِيق لَا مَا يخيل إِلَيْكُم. [1265] فَإِن قَالُوا: كَانَ الْخَلِيل يمر السكين وَهِي تفرى وتقطع وَلَا تقطع جُزْء إِلَّا ويلتحم مَا يَلِيهِ فَمَا فرغ تَمام الذّبْح حَتَّى تمّ الالتحام. قيل لَهُم: هَذَا جهل مِنْكُم عَظِيم فَإِنَّهُ لَو كَانَ الْأَمر على مَا ذكرتموه لَكَانَ ذَلِك من أعظم الْآيَات وأوضح الْبَينَات، وَكَانَ أول مَا ينْقل فِي حجج إِبْرَاهِيم وآياته كَمَا نقلهم سَائِر آيَاته فَلَمَّا لم ينْقل بَطل مَا قلتموه على أَن الْآيَة نَص فِي إِنَّه لما تله للجبين وهم بذَبْحه نسخ عَنهُ الْأَمر فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وتله للجبين} . ثمَّ قَالَ: {وندين} ، ثمَّ نقُول لَو كَانَ الْأَمر على مَا ذكرتموه لما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 استقام الافتداء بِالذبْحِ مَعَ تَحْقِيق الذّبْح، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه، وَصحت الْآيَة عَلَيْهِم نصا. (228) القَوْل فِي حكم الزِّيَادَة على النَّص، وَذكر الْخلاف فِيهِ ل [1266] اعْلَم - وفقك الله - أَن ارباب الْأُصُول نقلوا عَن أهل الْعرَاق مُطلقًا أَن الزِّيَادَة على النَّص نسخ، وَلم يفضلوا القَوْل فِي ذَلِك حق التَّفْصِيل، وَهَا نَحن نذْكر تَفْصِيل الْمذَاهب، ونوضح الصَّحِيح من الْمذَاهب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. اعْلَم أَن الزِّيَادَة إِذا لم يكن لَهَا تعلق بِالنَّصِّ السَّابِق بِوَجْه فَلَا يكون نسخا إِجْمَاعًا وَذَلِكَ نَحْو أَن يثبت فِي الشَّرِيعَة إِيجَاب الصَّلَاة ثمَّ يثبت بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 ذَلِك وجوب الصَّوْم فلاخلاف أَن ثَبت الصَّوْم لَا يتَضَمَّن نسخا لحكم الصَّلَاة، فَإِن هَذِه زِيَادَة فِي الشَّرِيعَة وَلَا تعلق لَهَا بِالصَّلَاةِ، وَلَا يعد زِيَادَة فِي الصَّلَاة وَحكمهَا، فَبَطل بذلك إِطْلَاق الْحِكَايَة فِي أَن الزِّيَادَة على النَّص نسخ، فَأَما إِذا كَانَت الزِّيَادَة مُتَعَلقَة فيتضمن تثبيت زِيَادَة فِي الحكم الْمَنْصُوص على وَجه التَّعَلُّق بِهِ والاختصاص فقد أطلق أَصْحَاب أبي حنيفَة القَوْل فِي امثال هَذِه الصُّورَتَيْنِ أَن الزِّيَادَة على النَّص نسخ حَتَّى قَالُوا: إِثْبَات التَّغْرِيب سنة فِي حد الزِّنَا زِيَادَة فِي حكم الْحَد الثَّابِت فِي قَوْله: {فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 ثمَّ أطلق أَصْحَابنَا القَوْل بِأَن الزِّيَادَة على النَّص لَا تكون نسخا اصلا من غير تَفْصِيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 [1267] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَالصَّحِيح فِي ذَلِك أَن نقُول إِن تَضَمَّنت الزِّيَادَة رفع حكم فِي الْمَزِيد عَلَيْهِ فَهُوَ نسخ لما تَضَمَّنت رَفعه، وَإِن لم تَتَضَمَّن رفع حكم فِي الْمَزِيد عَلَيْهِ لَا يعد نسخا وتبيين ذَلِك بالمثال أَنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 لما ثَبت أَن الصَّلَاة فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام كَانَت رَكْعَتَيْنِ / رَكْعَتَيْنِ فَكَانَ الظّهْر [140 / أ] تُقَام رَكْعَتَيْنِ ثمَّ زيد عَلَيْهِمَا أخريان فَصَارَت أَرْبعا فَهَذَا يتَضَمَّن نسخا وَذَلِكَ أَنه تضمن رفعا للْحكم وَذَلِكَ أَن مَا ثَبت فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام اقْتضى صِحَة الرَّكْعَتَيْنِ المفردتين وكونهما عبَادَة تَامَّة ثمَّ اقْتَضَت الزِّيَادَة رفع ذَلِك الحكم وَهُوَ جَوَاز الِاقْتِصَار على رَكْعَتَيْنِ فَكَانَ ذَلِك ر رفعا لهَذَا، وَقد أنكر مُعظم الْفُقَهَاء من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَغَيرهم كَون ذَلِك نسخا. [1268] وَالدَّلِيل على النّسخ أَن حَقِيقَة النّسخ رفع الحكم الثَّابِت على الْحَد الَّذِي شرطناه فِي حَقِيقَة النّسخ، وَهَذَا معنى مُتَحَقق فِي الصُّورَة الَّتِي استشهدنا بهَا فَإِنَّهُ ثَبت بِمَا سبق جَوَاز الِاقْتِصَار على رَكْعَتَيْنِ فَكَانَ ذَلِك رفعا لهَذَا الحكم وصحتها عِنْد الِاقْتِصَار عَلَيْهِمَا، ثمَّ ثَبت أَنه لَو اقْتصر الْمُكَلف عَلَيْهِمَا كَانَ بَاطِلا وَلم تكن عبَادَة، فقد تضمن ذَلِك صَرِيحًا رفع حكم ثَابت، وَلَو لم يكن ذَلِك نسخا لما تصور النّسخ أصلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 [1269] وَاعْلَم أَن الْمَقْصُود من هَذِه المسالة لَا يتهذب إِلَّا بالْكلَام فِي أَمْثِلَة [مِنْهَا] مَا ذَكرْنَاهُ فِي الصَّلَاة وأوضحنا فِيهِ وَجه الصَّوَاب. [1270] فَإِن قَالَ قَائِل لَو كَانَت الزِّيَادَة على الرَّكْعَتَيْنِ نسخا لَكَانَ لَا يَأْتِي الْمُكَلف بهما وَمَعْلُوم أَنه يَأْتِي بالركعتين وَيضم إِلَيْهِمَا آخريين فَبَطل ادِّعَاء النّسخ. [قُلْنَا] : نَحن لم نَدع النّسخ فِي صُورَة الرَّكْعَتَيْنِ، وَلَكنَّا قُلْنَا: إِنَّمَا نسخ جَوَاز الِاقْتِصَار عَلَيْهِمَا وَالْحكم بصحتهما لَو انْفَرد فَإِنَّهُ لَا يجوز إِلَّا أَن الِاقْتِصَار عَلَيْهِمَا وإفرادهما من غير عذر، وَهَذَا بَين لَا كَلَام عَلَيْهِ. [1271] فَإِن قيل: فَيجب على طرد مَا قلتموه أَن تكون الزِّيَادَة فِي الطَّهَارَة بِإِثْبَات التَّرْتِيب وَالنِّيَّة نسخا لمضمون قَوْله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ} الْآيَة، فَإِن ذَلِك زِيَادَة على الْمَنْصُوص عَلَيْهِ. قُلْنَا: هَذَا غير مُسْتَقِيم من أوجه: مِنْهَا أَن من الْعلمَاء من استنبط النِّيَّة وَالتَّرْتِيب من نفس الْآيَة وَيطول ذكره. ثمَّ نقو لَيْسَ فِي الْآيَة مَا يدل على صِحَة الطَّهَارَة دون النِّيَّة وَالتَّرْتِيب بل فيهمَا الْأَمر بِالْغسْلِ فِي المغسول وَالْمسح فِي الْمَمْسُوح وَلم يثبت أَن الِاقْتِصَار عَلَيْهِمَا مِمَّا يَقع الِاكْتِفَاء بِهِ وَلَكِن تَضَمَّنت الْآيَة إِثْبَات مَا أنبأت عَنهُ، وأنبأت سَائِر الْأَدِلَّة عَن إِثْبَات غَيرهَا، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن ستر الْعَوْرَة وَمَا عداهُ من شَرَائِط الصَّلَاة لَيْسَ بمنصوص عَلَيْهِ فِي الْآيَة وَإِن لم يكن مِنْهَا بُد فِي صِحَة الصَّلَاة، على أَنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 نقُول إِنَّمَا يسْتَمر مَا ادعيتم لَو ثَبت جَوَاز الِاقْتِصَار على الْغسْل وَالْمسح، وتمهد الحكم فِيهِ، وَلَا يُغير نِيَّة وَلَا تَرْتِيب ثمَّ، وَثَبت وجوب التَّرْتِيب وَالنِّيَّة بعد ذَلِك، فَكَانَ يقدر نسخا، فَإِنَّهُ ثبتَتْ صِحَة الطَّهَارَة دون النِّيَّة، ثمَّ ارْتَفَعت صِحَّتهَا دونهَا فَأَما والخصم يَقُول مَا ثَبت جَوَاز الِاقْتِصَار على مَا ذكرتموه اصلا، وَمَا ثبتَتْ الطَّهَارَة فِي ابْتِدَاء ثوبتها إِلَّا وَالنِّيَّة مَشْرُوطَة فِيهَا، فَكيف يَسْتَقِيم مَعَ ذَلِك تَجْوِيز النّسخ. [1272] فَإِن قَالُوا فِيمَا تمثلتم بِهِ أَولا من الصَّلَاة وَالزِّيَادَة فِي ركعتيها تحل هَذَا الْمحل. قُلْنَا: قد ثَبت أَنَّهَا رَكْعَتَانِ أَولا حَتَّى لَو أنكر مُنكر ذَلِك وَقَالَ لم تكن رَكْعَتَيْنِ أَولا فَلَا يَسْتَقِيم مَعَ هَذَا / الْإِنْكَار ادِّعَاء النّسخ. فَلَو [140 / ب] ناقشنا مناقش وَزعم أَنه لم يثبت الِاقْتِصَار على رَكْعَتَيْنِ قطّ كَمَا نازعناكم، وَقُلْنَا: لم يثبت الِاقْتِصَار على الْغسْل وَالْمسح، لما تصور ادِّعَاء النّسخ، ثمَّ نقُول هَذَا الَّذِي ذكرتموه وألحقتموه بِالزِّيَادَةِ على النَّص هُوَ نُقْصَان من النَّص لَو تأملتموه. وَوجه التَّحْقِيق فِيهِ أَن ظَاهر الْآيَة يدل على صِحَة الطَّهَارَة مَعَ النِّيَّة وَالْقَصْد، وَمن غير نِيَّة وَقصد، فَمن قَالَ: لَا تصح إِلَّا عِنْد الْقَصْد فقد خصص صِحَّتهَا بِحَالَة، فَهَذَا إِذا نُقْصَان لَا شكّ فِيهِ، فَيجب أَن يكون تَخْصِيصًا على مُقْتَضى أصُول الْخصم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 [1273] فَإِن قَالُوا فَمَا قَوْلكُم فِيمَا ظَاهره النُّقْصَان هَل تجعلونه نسخا؟ قُلْنَا: إِن ثَبت قطعا عُمُوم الحكم أَولا ثمَّ ثَبت الِاخْتِصَاص مُتَأَخِّرًا عَنهُ فَهُوَ نسخ لَا شكّ فِيهِ فَإِنَّهُ تضمن رفع الحكم فِي مَا ثَبت الْعُمُوم فِيهِ وَإِن لم يثبت الْعُمُوم قطعا وَكَانَ الْخطاب على الِاحْتِمَال وَتبين أَن المُرَاد بهَا خُصُوص فَلَا يكون نسخا حِينَئِذٍ، فالغير إِذا يرفع الحكم بعد ثُبُوته على قطع سَوَاء تحقق ذَلِك فِي زِيَادَة أَو نُقْصَان. 3 [1274] فَإِن قَالُوا يجب ان يكون الشَّاهِد وَالْيَمِين إِذا قدر ثُبُوته نسخا لقَوْله تَعَالَى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فَإِن لم يَكُونَا رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ} وَذَلِكَ أَن هَذِه الْآيَة تَضَمَّنت منع الحكم عِنْد عدم الشَّاهِدين. وَالشَّاهِد والمرأتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 قُلْنَا: لَا نسخ فِي ذَلِك، فَإِن الْآيَة تَتَضَمَّن إِثْبَات الحكم بِالشَّاهِدِ والمرأتين وَلَا تَتَضَمَّن نفي الشَّاهِد وَالْيَمِين، وَلَيْسَ فِي إِثْبَات الشَّاهِد وَالْيَمِين إِخْرَاج الشَّاهِدين عَن حكم الشَّهَادَة وَمَا ادعوهُ من أَن الْآيَة تَضَمَّنت منع الحكم عِنْد عدم الشَّاهِدين فَلَيْسَ كَمَا قَالُوا بل تَضَمَّنت ثُبُوت الحكم عِنْد عدم الشَّاهِدين وَمن يخالفنا فِي المسالة يوافقنا فِي منع القَوْل بِدَلِيل الْخطاب، وَلَا يَسْتَقِيم ادِّعَاء مَا عدا الشَّاهِدين إِلَّا من قبيل الْمَفْهُوم وَدَلِيل الْخطاب، وَهَذَا وَاضح بطلَان مَا ذَكرُوهُ، ثمَّ نقُول إِنَّمَا يَسْتَقِيم مَا قلتموه لَو ثَبت أَولا حكم الشَّاهِدين وَمنع مَا عداهما، ثمَّ تَأَخّر عَنْهَا ثُبُوت الشَّاهِد وَالْيَمِين، فَأَما والخصم يَقُول: لَا نسلم تَأْخِير الشَّاهِد وَالْيَمِين بل لَعَلَّه ثَبت مَعَ ثُبُوت الشَّاهِدين فَأنى يَسْتَقِيم مَعَ ذَلِك النّسخ. [1285] وَمِمَّا يَدعِي النّسخ فِيهِ قَوْله تَعَالَى فِي كَفَّارَة الظِّهَار: (فَتَحْرِير رَقَبَة 9، قَالُوا: فاقتضت الْآيَة إِجْزَاء الرَّقَبَة الْمُطلقَة فَمن صَار إِلَى اشْتِرَاط الْإِيمَان فقد زَاد على مُطلق الرَّقَبَة، وَالزِّيَادَة على النَّص نسخ فَيُقَال لَهُم هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 الَّذِي ذكرتموه من قبيل النُّقْصَان فَإِن الْآيَة على زعمكم اقْتَضَت اجزاء كل رَقَبَة عُمُوما، مُؤمنَة كَانَت أَو كَافِرَة، فَإِذا قيل: لَا تجزي إِلَّا المؤمنة، فَهَذَا تنقيص لمقْتَضى الْخطاب. [1276] فَإِن قيل: فَهَل تَقولُونَ إِن ذَلِك نسخ؟ قُلْنَا: لَو ثَبت قطعا أَولا أَن كل رَقَبَة تُجزئ، ثمَّ ثَبت بعد ذَلِك انه لَا تُجزئ إِلَّا رَقَبَة مُؤمنَة، كَانَ ذَلِك نسخا الا شكّ فِيهِ، فَأَما إِذا كَانَت الْآيَة [141 / أ] مُحْتَملَة مترددة، وَلم / يثبت عُمُوم قطعان فَلَا يكون ذَلِك من قبيل النّسخ، ثمَّ نقُول إِنَّمَا يَسْتَقِيم ادِّعَاء النّسخ لَو سلم لكم خصمكم أَن ثُبُوت الْإِيمَان مُتَأَخّر عَن وجوب الْآيَة، فَأَما وَهُوَ يَقُول مَا ثبتَتْ الرَّقَبَة أصلا إِلَّا وَالْإِيمَان مَشْرُوط فِيهَا، فَلَا يتَحَقَّق مَعَ ذَلِك نسخ. وَمن هَذَا الْقَبِيل ادعاؤهم كَون التَّغْرِيب نسخا فِي حد الزِّنَا فَإِن التَّغْرِيب لَا يتَضَمَّن نفي الْجلد. [1277] فَإِن قيل: فقد ثَبت جَوَاز الِاقْتِصَار على مائَة جلدَة، وتقرر أَنه الْحَد الْكَامِل فَإِذا زيد التَّغْرِيب كَانَ ذَلِك رفعا للْحكم السَّابِق الثَّابِت. قُلْنَا: لَيْسَ فِي الْآيَة إِلَّا إِثْبَات الْجلد فَأَما الْمصير إِلَى جَوَاز الِاقْتِصَار عَلَيْهِ فَهُوَ دَعْوَى لَا يسوغ إِثْبَاتهَا إِلَّا بَان تدعوا أتخنصيص الْجلد بِالذكر يدل على نفي مَا عداهُ، وَهَذَا من قبيل مَفْهُوم الْخطاب وَقد اتفقنا على ترك القَوْل بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 [1278] فَإِن قَالُوا: افرأيتم لَو ثَبت نفي وجوب مَا عدا الْجلد ثمَّ ثَبت التَّغْرِيب. قُلْنَا: لَو كَانَ كَمَا قلتموه لَكَانَ ثُبُوت التَّغْرِيب نسخا لنفي وجوب مَا زَاد على الْجلد، لَو تقرر انْتِفَاء مَا سواهُ على مَا ادعيتموه. [1279] فَخرج لَك من كلامنا فِي هَذِه الْأَمْثِلَة أَنه مهما تصور فِي زِيَادَة أَو نُقْصَان يُوصل إِلَى رفع حكم ثَابت تحقق ثُبُوته فَهُوَ مَنْسُوخ، وَإِن لم يتَحَقَّق رفع حكم فَلَيْسَ بنسخ وَلَا وَجه فِي ادِّعَاء النّسخ مَعَ احْتِمَال غَيره. وَقد أدرجنا فِي خلل الْكَلَام شبه الْقَوْم والتفصي عها وَلَا فَائِدَة فِي إِعَادَتهَا. [1280] فَإِن قَالُوا: الزِّيَادَة على النَّص لَا تثبت بأخبار الاحاد وَالْقِيَاس [فتتضمن] نسخا وَلَو أَنَّهَا [لَا] تَتَضَمَّن نسخا لجَاز إِثْبَاتهَا بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس. \ قُلْنَا إِن كَانَ مَا قلتموه فِي صُورَة نوافقكم فِيهِ على تضمن الزِّيَادَة للنسخ فَالْأَمْر على مَا قلتموه، وَإِن كَانَ فِي صُورَة نوافقكم فِيهَا على ثُبُوت النّسخ، فَيجوز ثُبُوت الزِّيَادَة بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس، فبكم حَاجَة إِلَى أَن تثبتوا الزِّيَادَة نسخا، ثمَّ ترتبوا على ذَلِك مَا قلتموه من أَنه إِذا ثَبت كَونهَا نسخا فَلَا تثبت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس. ثمَّ نقُول إِذا قُلْتُمْ إِنَّمَا نَعْرِف امْتنَاع كَونه نسخا بامتناع ثُبُوته بِخَبَر الْوَاحِد، وَإِنَّمَا عرفنَا امْتنَاع ثُبُوته بِخَبَر الْوَاحِد لَكَانَ نسخا لِلْقُرْآنِ فقد علقتم كل وَاحِد مِنْهُمَا. وَهَذَا وَاضح عِنْد التَّأَمُّل. [1281] ثمَّ قد نَاقض أَصْحَاب أبي حنيفَة فِي مسَائِل جمة، واثبتوا فِيهَا الزِّيَادَة على النَّص بطرِيق لَا يثبت النّسخ، وَذَلِكَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خَمْسَة وَلِلرَّسُولِ لذِي الْقُرْبَى. .} فَأطلق ذَا الْقُرْبَى. وَشرط أَبُو حنيفَة الْحَاجة فِي ذِي الْقُرْبَى فَكَانَ ذَلِك على قَوْلهم زِيَادَة على النَّص، كَمَا أَن اشْتِرَاط الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة زِيَادَة على قَوْله: {فَتَحْرِير رَقَبَة} وَلَو تتبعت ذَلِك لوجدت مِنْهُ الْكثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 (229) بَاب ذكر مَا يَقع بِهِ النّسخ وَالْقَوْل فِي مواقع الْوِفَاق / وَالْخلاف 3 - ب 1282] اعْلَم، وفقك الله، إِن الْقَائِلين بالنسخ أَجمعُوا على جَوَاز نسخ الحكم الثَّابِت بِالْقُرْآنِ بِآيَة من الْقُرْآن، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَعَ الْإِجْمَاع مَا قدمْنَاهُ فِي إِثْبَات أصل النّسخ، وكل دلَالَة دلّت على إِثْبَات أصل النّسخ [تدل] فِي هَذِه الصُّورَة. ثمَّ اعْلَم أَنا لَا نخصص ذَلِك بِلَفْظ دون لفظ فَإِذا ثَبت حكم من الْأَحْكَام مُصَرحًا بِهِ فِي الْكتاب جَازَ نسخه وَإِذا ثَبت حكم من الْأَحْكَام بفحوى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 الْخطاب فَيجوز نسخه مَعَ الأَصْل الَّذِي يَقْتَضِيهِ وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن كل حكم يُسْتَفَاد ثُبُوته بِالْقُرْآنِ نصا أَو فحوى أَو بِدَلِيل الْخطاب على مَذْهَب من يَقُول بِهِ فَيجوز نسخه بعد تَقْدِير ثُبُوته. [1283] وَمِمَّا أَجمعُوا عَلَيْهِ نسخ السّنة بِالسنةِ مَعَ تساويهما فِي اقْتِضَاء الْعلم أَو الْخُرُوج عَن ذَلِك حَتَّى لَو ثَبت الحكم بِسنة متواترة تثبت قطعا فَيجوز نسخهَا بِالسنةِ المستفيضة مثلهَا، وَالدَّلِيل على ذَلِك كالدليل على نسخ الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ. [1284] وَمِمَّا أَجمعُوا عَلَيْهِ نسخ خبر الْوَاحِد بِمثلِهِ فَهَذِهِ صور الْوِفَاق. (230) مَسْأَلَة [1285] اخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز ذَلِك عقلا وسمعا إِلَيْهِ صَار مُعظم الْمُتَكَلِّمين وَابْن سُرَيج من اصحاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ ثمَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 اخْتلف هَؤُلَاءِ فِي أَنه هَل ورد فِي مواقع الشَّرِيعَة نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ؟ فَالْأَصَحّ القَوْل بورود ذَلِك، وَذهب ابْن سُرَيج إِلَى أَن ذَلِك جَائِز وَلَكِن لم يرد بِهِ الشَّرْع وَلَيْسَ فِي الشَّرْع مَنعه مِنْهُ. وَذهب كثير من الْفُقَهَاء مِنْهُم الشَّافِعِي وَغَيره أَنه لَا يجوز نسخ الْقُرْآن، بِالسنةِ ثمَّ اخْتلفُوا بِالسنةِ هَؤُلَاءِ فَمنهمْ من قَالَ إِنَّمَا امْتنع نسخ الْقرَان بِالسنةِ عقلا وَمِنْه من قَالَ يجوز ذَلِك عقلا وَإِنَّمَا امْتنع بأدلة السّمع، قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا هُوَ الظَّن بالشافعي مَعَ علو رتبته فِي هَذَا الْفَنّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 [1286] وَالدَّلِيل على جَوَاز نسخ الْقرَان [بِالسنةِ] كل مَا قدمْنَاهُ فِي الدَّلِيل فِي اصل النّسخ فَإِنَّهُ يدل على تَجْوِيز النّسخ فِي الْمُخْتَلف فِيهِ وَالَّذِي يجب التعويل عَلَيْهِ أَن نقُول قد ثَبت عندنَا قطعا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يحكم بِحكم من تِلْقَاء نَفسه فِيهِ بِرَأْيهِ، وَإِنَّمَا يَقُول مَا يَقُول عَنهُ ربه وَحيا وإلهاما، وَمن جوز الِاجْتِهَاد على الرُّسُل فَإِنَّمَا يؤديهم اجتهادهم إِلَى الْعلم بِأَمْر الله بِلَا استرابة، بِخِلَاف اجتهادنا فِي المجتهدات، فَخرج من ذَلِك أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مبلغ عَن ربه، وَأَن الْأَمر على الْحَقِيقَة لله سُبْحَانَهُ، فَإِذا ثَبت حكم بِآيَة تتلى من كتاب الله تَعَالَى، ثمَّ أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بارتفاع ذَلِك الحكم، فَإِنَّمَا يخبر عَن الله، كَمَا أَن الْعبارَات عَن الْقُرْآن تنبيىء عَن كَلَام الله تَعَالَى فيؤول محصول الْكَلَام إِلَى أَن ذَلِك نسخ حكم ثَبت بِكَلَام الله غير ان توصلنا إِلَى معرفَة كَلَام الله تَعَالَى فِي أحد الْحكمَيْنِ متلو بِهِ وتوصلنا إِلَيْهِ فِي النَّاسِخ بِلَفْظ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَهَذِهِ دلَالَة قَاطِعَة. [1287] شُبْهَة المانعين بنسخ الْقرَان / بِالسنةِ عقلا. مِمَّا استروحوا إِلَيْهِ أَن قَالُوا لَو نسخ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكما ثَابتا بالقران أفْضى ذَلِك إِلَى أَن ينْسب إِلَى الافتراء وتبديل كَلَام الله تَعَالَى، وَهَذَا يفضى إِلَى مَا يجب تَنْزِيه الرُّسُل عَنهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 وَهَذَا كَلَام رَكِيك جدا وَذَلِكَ أَن من قَامَت عِنْده الدّلَالَة من معْجزَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على وجوب عصمته عَن الْخلف فِيمَا يبلغهُ فَلَا يتَحَقَّق من هَذَا المعتقد نسبته إِلَى الْخلف والافتراء، وَمن كَانَ مشككا فِي صدقه فينسبه إِلَى الافتراء فِي نفس مَا يَنْقُلهُ من كَلَام الله تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْت مفتر} [1288] فَإِن قَالُوا: الاسترابة بِهِ فِي نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ اكثر. قُلْنَا: هَذَا لَا محصول لَهُ وَلَا معنى للتمسك بالتزايد فِي الريب بعد تحقق اصله، ثمَّ نقُول: لَا يجب عندنَا فِي قَضِيَّة التَّكْلِيف أَن يتوقى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَسْبَاب الَّتِي تورث الريب للزائغين فِي مجاري الْعَادة. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك انه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خصص الْإِمَامَة ثمَّ هله حَتَّى أفْضى ذَلِك أعظم ريب فِي قُلُوب أهل الزيغ، وَتَوَلَّى قبض الصَّدقَات وَولى فِي ذَلِك السعاة إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تعداده. [1289] وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَيْضا أَن قَالُوا: لَو جَوَّزنَا نسخ الْقرَان بِالسنةِ لَكَانَ ذَلِك رفعا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمعجزته ومحال أَن ينتسب الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى رفع مَا يدل على صدقه. وَهَذَا بَاطِل من أوجه: أظهرها مَا قدمْنَاهُ من أَنا إِذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 بحثنا عَن هَذِه المسالة فنعلم أَن النّسخ إِنَّمَا وَقع بِكَلَام الله تَعَالَى، وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مبلغ، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك سقط مَا قَالُوهُ وَتبين أَن كَلَام الله تَعَالَى نسخ كَلَامه، ثمَّ نقُول إِنَّمَا الإعجاز فِي نظم الْقُرْآن لَا فِي الحكم الثَّابِت فجوزوا أَن ينْسَخ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكم الْآيَة مَعَ بَقَاء تلاوتها. [1290] فَإِن قَالُوا فَلَا أحد يفصل بَين نسخ حكم الْقُرْآن وَبَين نسخ تِلَاوَته، فَمن جوز النّسخ بِالسنةِ جوز ذَلِك فِي الْمَوْضِعَيْنِ. قيل لَهُم: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، فَإِن من النَّاس من يفصل بَينهمَا، وَقَالَ يجوز نسخ حكم الْقُرْآن بِالسنةِ، وَلَا يجوز تِلَاوَة الْقُرْآن بِالسنةِ وَهَذَا لَيْسَ بمرضي عندنَا فَإِن تِلَاوَة الْقُرْآن من الْأَحْكَام أَيْضا كَمَا قدمْنَاهُ فعلى هَذَا نقُول: قصدنا بتفصل القَوْل عَلَيْكُم ليتبين بطلَان استدلالكم صَرِيحًا فِي صُورَة من صور الْخلاف. وعَلى أَنا نقُول: الْآيَة الْوَاحِدَة إِذا قصرت فَلَا يَقع بهَا الإعجاز، فجوزوا نسخهَا بِالسنةِ مَا لم يبلغ الْمَنْسُوخ حدا يَقع بِهِ الإعجاز، وَلَا قَائِل بذلك مِنْكُم، على أَنا نقُول إِذا دلّ الْقُرْآن على صدق الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَو قدر بعد اسْتِمْرَار الْأَدِلَّة ارْتِفَاع الْقُلُوب والألسن فَلَا يقْدَح ذَلِك فِي النُّبُوَّة بعد مَا ثبتَتْ، وَهَذَا كَمَا أَنا نقطع الْآن بِصدق مُوسَى وَعِيسَى وَغَيرهمَا من الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم للمعجزات الَّتِي أظهرها الله على أَيْديهم، وَإِن كُنَّا نعلم أَن شَيْئا مِنْهَا غير مُتَحَقق مِنْهَا وجود الان. [1291] وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَيْضا أَن قَالُوا: لَيْسَ من الْأَصْلَح تَجْوِيز نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ، وَلَا يرد فِي الشَّرِيعَة إِلَّا مَا هُوَ / الْأَصْلَح. قُلْنَا: هَذَا بِنَاء مِنْكُم على أصل فَاسد لَا تساعدون عَلَيْهِ، فَإنَّا لانراعي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 فِي اصل الشَّرِيعَة الصّلاح والأصلح، غير أَنا لَا نسلم مَا قلتموه، وَإِن سلمنَا لكم جدلا برعاية الصّلاح، وأنى لكم إِثْبَات ذَلِك. فَهَذَا كَلَام من أحَال النّسخ عقلا. [1292] فَأَما من أحَال النّسخ سمعا فقد اسْتدلَّ بآي من كتاب الله تَعَالَى، مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {قَالَ الَّذين لَا يرجون لقاءنا أئت بقرءان غيرهذا أَو بدله قل مَا يكون لي ي أَن أبدله من تلقائ نَفسِي إِن اتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ} . قَالُوا: وَهَذَا نَص فِي إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا ينْسَخ الْقُرْآن، فَإِن النّسخ من أعظم وُجُوه التَّنْزِيل. قيل لَهُم: هَذِه الْآيَة بِأَن تكون دَلِيلا عَلَيْكُم أولى فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين أَنه لَا ينْسَخ الْقرَان من تِلْقَاء نَفسه، وَإِنَّمَا مُتبع الْوَحْي، فَدلَّ ذَلِك على غير مَا تعتقده نفيا وإثباتا، فَإنَّا نقُول لَا يَقُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي إِثْبَات الشَّرَائِع شَيْئا من تِلْقَاء نَفسه، وَإِنَّمَا يَقُول مَا يَقُول عَن الله مبلغا مَا ثَبت من أوَامِر لَدَيْهِ وَحيا، فَبَطل استراواحهم إِلَى هَذِه الْآيَة. [1293] وَمِمَّا يستدلوا بِهِ قَوْله تَعَالَى: (مَا ننسخ من ءآية أَو ننسها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} . قَالُوا: ويقوى الدَّلِيل عَلَيْكُم من هَذِه الْآيَة إِذا قُلْتُمْ إِن النّسخ وَإِن صدر عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ على الْحَقِيقَة بِكَلَام الله، فَكَلَامه النَّاسِخ عنْدكُمْ، وَحكم كَلَامه الْمَنْسُوخ، وَالْآيَة دلّت على أَن الرب تَعَالَى لَا ينْسَخ آيَة من الْقُرْآن، إِلَّا أَتَى بِمِثْلِهَا، وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك فِي صُورَة الْخلاف، فَإِن لفظ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يكون مثل الْقُرْآن، الْجَواب عَن ذَلِك ان نقُول: معنى قَوْله تَعَالَى: {مَا ننسخ من ءاية أَو ننسها} مَا ننسخ من حكم آيَة، لما قدرناه من أَن النّسخ إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الْأَحْكَام دون نفس الْقُرْآن، وَكَأن الرب تَعَالَى قَالَ: مَا ننسخ من حكم آيَة إلانأت بِحكم خير مِنْهُ للمكلفين، أَو مثله فِي الصّلاح والإفضاء إِلَى الثَّوَاب، وَهَذَا إِذا حققته كَفاك مُؤنَة الْقَوْم. (231) فصل [1294] قد ذكرنَا جَوَاز نسخ الْقرَان بِالسنةِ ثمَّ ذكرنَا أَن الْأَصَح وُرُود ذَلِك، وَقَالَ ابْن سُرَيج يَصح ذَلِك عقلا، وَلَا يمْنَع شَيْء مِنْهُ سمعا وَلَكِن لم يتَّفق وُقُوعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 فَيُقَال لَهُ إِذا وَافَقت فِي جَوَاز ذَلِك عقلا وسمعا وَأورد عَلَيْك مَا ظَاهره نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ فَيَنْبَغِي أَن لَا تحمله على الْوُجُوه الْبَعِيدَة، وتجري على ظَاهره من غير تَأْوِيل وتحريف على الظَّاهِر وَقد ورد ذَلِك فِي أَحْكَام. مِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الله أعْطى كل ذِي حق حَقه فَلَا وَصِيَّة لوَارث " فنسخ بلك حكم الْوَصِيَّة ووجوبها للأقربين فِي قَوْله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت} الْآيَة. وَلَيْسَ فِي الْقرَان نَص صَرِيح يَقْتَضِي نس الْوَصِيَّة للأقربين وَيكثر نَظَائِر ذَلِك. (232) مَسْأَلَة [1295] يجوز نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء ويحكى عَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 الشَّافِعِي رَحمَه الله فِيهِ قَولَانِ فِي أَحدهمَا بموافقة الْجُمْهُور وَجوز / نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ، وَقَالَ فِي الثَّانِي لَا يجوز ذَلِك. [1296] وَالدَّلِيل على جَوَازه النُّكْتَة الَّتِي عولنا عَلَيْهَا فِي الْمَسْأَلَة الأولى، حَيْثُ قُلْنَا: إِن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا ينبىء عَن كَلَام الله تَعَالَى، وَلَا يَقُول من تِلْقَاء نَفسه شَيْئا، فيؤل النَّاسِخ والمنسوخ جَمِيعًا إِلَى كَلَام الله تَعَالَى كَمَا أوضحناه فِي الْمَسْأَلَة الأولى ثمَّ نقُول إِذا سنّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة فَلَا خلاف بَين الْأمة فِي جَوَاز وُرُود نَص من الْقُرْآن على خِلَافه وَهَذَا هُوَ النّسخ الصَّرِيح. [1297] فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا ورد نَص هَذِه صفته يسن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة أُخْرَى ينْسَخ بهَا السّنة الأولى. فَنَقُول هَذَا مَا لَا طائل تَحْتَهُ، فَإِن النَّص إِذا ورد على مُخَالفَة السّنة الْمَاضِيَة فَلَا تخلون إِمَّا أَن ن تَقولُوا يبْقى حكم السّنة إِلَى أَن يسن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 سنة أُخْرَى ينْسَخ بهَا السّنة الأولى، وَإِمَّا أَن تَقولُوا لَا يبْقى حكم السّنة مَعَ وُرُود النَّص. فَإِن قُلْتُمْ بِهَذَا الْقسم الْأَخير فقد صرحتم بنسخ السّنة بِالْقُرْآنِ، وَلَا معنى مَعَ ذَلِك لتقدير سنة أُخْرَى تنسخ السّنة. وَإِن زعمتم أَن حكم السّنة الأولى يبْقى بعد وُرُود النَّص إِلَى أَن يسن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة أُخْرَى على ابْتِدَاء أَو استئخار، فَهَذَا محَال مفض إِلَى جَوَاز ثُبُوت حكمين متناقضين، وَيُؤَدِّي إِلَى نفي النَّص من الْقُرْآن،، وكل ذَلِك محَال. [1298] فَإِن قيل: فَهَل ورد فِي الشَّرِيعَة نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ. قيل: اجل، قد ثَبت ذَلِك فِي أَحْكَام جمة، مِنْهَا: أَمر الْقبْلَة فَإِن التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس إِنَّمَا ثَبت بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلذَا لم يثبت فِي الْقُرْآن لذَلِك ذكر، ثمَّ نسخ ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 وَمن ذَلِك ايضا عهد الْحُدَيْبِيَة فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَرط للْكفَّار أَن يرد عَلَيْهِم من يَأْتِيهِ مِنْهُم، [وَعم] القَوْل فِي الرِّجَال وَالنِّسَاء، ثمَّ ورد النَّص فِي منع النِّسَاء، قَالَ الله تَعَالَى: {فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار} . ثمَّ كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يغرم لِأَزْوَاج المهارجات مهورهن، وَذَلِكَ أَنه كَانَ قد ثَبت لَهُم رد النِّسَاء فَلَمَّا امْتنع ذَلِك بِنَصّ الْكتاب عوضهم عَنْهُن بمهورهن. [233) فصل [1299] فَإِن قَالَ قَائِل هَل يجوزنسخ الحكم الثَّابِت بِنَصّ الْكتاب وَالسّنة المتواترة بِخَبَر من أَخْبَار الْآحَاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 \ قُلْنَا: قد اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك، نعني الَّذين قَالُوا بِخَبَر الْوَاحِد، فَذهب بَعضهم إِلَى منع ذَلِك عقلا وَذهب آخَرُونَ إِلَى تَجْوِيز ذَلِك عقلا. قَالَا القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالصَّحِيح عندنَا تجويزه عقلا. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه إِذا جَازَ ثُبُوت ابْتِدَاء حكم بِهِ فِي الشَّرْع فَيجوز النّسخ بِهِ أَيْضا وتمثيل جَوَازه فِي الْعقل: أَن يَقُول الله مثلا أَو رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مهما ثَبت عَلَيْكُم عمل بِنَصّ مَقْطُوع بِهِ، ثمَّ نقل ثِقَة خِلَافه بتاريخ مُتَأَخّر فاعملوا بالمتأخر، فَهَذَا مَا لَا اسْتِحَالَة فِيهِ أصلا عقلا. [1300] فَإِن [قَالُوا] هَذَا يُؤَدِّي إِلَى النّسخ الْمَقْطُوع بِهِ [بالمظنون] الَّذِي نستريب فِي ثُبُوته. وَالْجَوَاب عَن ذَلِك من وَجْهَيْن: احدهما أَن نقُول: وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد مَقْطُوع بِهِ فَمَا يضرنا التَّرَدُّد فِي اصل الحَدِيث، مَعَ أَنا نعلم قطعا وجوب الْعَمَل بِهِ، فَكَأَن صَاحب الشَّرِيعَة قَالَ: إِذا نقل من ظَاهره الْعَدَالَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 فَاقْطَعُوا بَان حكم الله تَعَالَى عَلَيْكُم الْعَمَل بِظَاهِرِهِ، وَصدق النَّاقِل وَكذب، فوضح بذلك مَا قُلْنَاهُ. على أَنا نقُول انْتِفَاء الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع مَقْطُوع بِهِ عندنَا، وَثُبُوت الْحَظْر أَو الْإِبَاحَة مَقْطُوع بِهِ عِنْد آخَرين، ثمَّ إِذا نقل خبر عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آحادا فَيثبت الْعَمَل بِهِ وَيرْفَع مَا تقرر قبل وُرُود الشَّرَائِع من نفي الْأَحْكَام أَو ثُبُوت الْحَظْر أَو الْإِبَاحَة، فَبَطل مَا قَالُوهُ ثمَّ نقُول: مهما جَوَّزنَا نسخ النَّص بِخَبَر الْوَاحِد فَلَا نسلم لكم مَعَ وُرُود الْخَبَر الْوَاحِد كَون النَّص مَقْطُوعًا بِهِ، فَإنَّا لَو قُلْنَا ذَلِك لزمنا الْقطع بكذب الرَّاوِي وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ. [1301] فَإِن قيل: فَهَذَا كلامكم فِي جائزات الْعُقُول، فَهَل تجوزون ذَلِك سمعا أم هَل فِي السّمع مَا يمْنَع مِنْهُ؟ قُلْنَا: الَّذِي صَحَّ فِي ذَلِك عندنَا أَن نسخ الْمَقْطُوع بِخَبَر وَالْوَاحد كَانَ يجْرِي فِي زمن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالدَّلِيل عَلَيْهِ إِن أهل مَسْجِد قبَاء افتتحوا الصَّلَاة إِلَى بَيت الْمُقَدّس فاجتاز بهم مجتاز، وهم فِي خلال الصَّلَاة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 فَأخْبرهُم أَن الْقبْلَة قد حولت فاستداروا قبل أَن يتَحَقَّق ذَلِك عِنْدهم تواترا، وَلم يُنكر عَلَيْهِم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَلِكَ رُبمَا كَانَ يثبت الْأَحْكَام وَيسْتَمر بتواتر الْأَخْبَار فِي الأقطار، ثمَّ ينْسَخ ذَلِك فيبعث الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَاحِد إِلَى كل قطر ليعلمهم نسخ الحكم وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده فِي عاداته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَهَذَا هُوَ القَوْل فِيمَا يجْرِي فِي عصره. [1302] فَأَما بعد أَن اسْتَأْثر الله بِهِ فَلَا يجوز نسخ مَقْطُوع بِهِ بمظنون، وَهَذَا من جائزات الْعُقُول، وَلَكِن أَجمعت الْأمة على مَنعه بعد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَا مُخَالف فيهم وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي تجوزه فِي زمَان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 صفحة فارغة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقُلْنَا لدلَالَة الْإِجْمَاع لَا يسوغ نسخ الْمَقْطُوع بِهِ بعد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمظنون الْمَشْكُوك فِيهِ. (234) فصل [1303] فَإِن قَالَ قَائِل هَل يجوز نسخ النَّص الثَّابِت بِالْقِيَاسِ عقلا وسمعا. قُلْنَا: أما تَجْوِيز ذَلِك فَلَا مَانع مِنْهُ على تَفْصِيل نذكرهُ الْآن، فَنَقُول إِذا ثَبت الحكم بِنَصّ مُتَقَدم، ثمَّ ثَبت آخر بِنَصّ آخر مثلا وَنَفس ذَلِك الحكم لَا يُنَافِي حكم النَّص الأول، وَلَكِن استنبط المستنبطون مِنْهُ قِيَاسا يُخَالف حكم النَّص الاول فَيجوز فِي الْعقل تَقْدِير نسخه بِهِ على الْوَجْه الَّذِي قدرناه فِي الْخَبَر الْوَاحِد، وتمثيله أَن نقُول: لَا يستبعد فِي الْعقل أَن يُكَلف الله تَعَالَى وَيَقُول: مهما ثَبت عَلَيْكُم حكم بِنَصّ مُتَقَدم ثمَّ عَن لكم قِيَاس مستنبط من مورد نَص مُتَأَخّر فاعملوا بِمُوجب الْقيَاس وأعرضوا عَن الحكم بِالنَّصِّ الأول، وَهَذَا مَا لَا بعد فِيهِ عقلا. [1304] فَإِن قَالَ قَائِل: افتجوزون أَن يكون نَص فَيثبت ذَلِك الْقيَاس مَعَ ثُبُوت النَّص فَلَو جَازَ النّسخ بِقِيَاس مستنبط من نَص سَابق فَيكون ذَلِك نسخ الْمُتَأَخر بالمتقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 قُلْنَا: هَذَا مَا لَا وَجه لَهُ فِي الْعقل مَعَ وجود اعْتِقَاد الصدْق فِي النصين فَإِن الأول إِذا كَانَ نافيا لحكم الثَّانِي فَلَا يتَصَوَّر وُرُود الثَّانِي على وَجه الصدْق وَالتَّحْقِيق، فَهَذَا وَجه الْكَلَام عقلا. [1305] فَإِن قيل: فَهَل / تجوزون ذَلِك سمعا عُمُوما أَو فِي عصر من الْأَعْصَار كَمَا قد ثبتموه فِي خبر الْوَاحِد. قُلْنَا: الصَّحِيح من الْمذَاهب أَن ذَلِك لَا يجوز سمعا، وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى تَجْوِيز النّسخ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيّ شرعا وَالدَّلِيل على بطلَان ذَلِك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 من جِهَة السّمع أَن القائسين أَجمعُوا أَن من شَرط الْقيَاس أَن لَا يُخَالف نصا من النُّصُوص، وَالْعُلَمَاء على طريقتين فَمنهمْ من لم ير الْقيَاس حجَّة، وَمِنْهُم من رَآهُ حجَّة وَشرط أَن لَا يُخَالف النَّص فَهَذَا من أوضح الْأَدِلَّة المسعية على منع النّسخ بِالْقِيَاسِ. وَمِمَّا يدل عَلَيْهِ أَيْضا: أَن اصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا يتركون الأقيسة فِي المجتهدات بِمَا يرْوى لَهُم من الْأَخْبَار فَمَا رُوِيَ عَن أحد مِنْهُم انه تمسك بِقِيَاس مَعَ نقل نَص عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل كَانُوا يَقُولُونَ فِي الْأَحَايِين لَوْلَا النَّص لَكَانَ كَذَا وَكَذَا. فَثَبت من جملَة السّمع أَن الْقيَاس لَا ينْسَخ بِهِ. (235) فصل [1306] الْإِجْمَاع المنعقد لَا ينْسَخ وَلَا ينْسَخ بِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 الْإِجْمَاع إِنَّمَا يكون حجَّة بعد وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا سَنذكرُهُ فِي مسَائِل الْإِجْمَاع وَلَا ايتصور بعد أَن اسْتَأْثر الله برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ينْسَخ شَيْئا أَو ينْسَخ شَيْء، فَإِن الشَّرْع اسْتَقر بوفاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَو قَدرنَا الْإِجْمَاع حجَّة فِي زمن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ أجمع الْعلمَاء على حكم يُخَالف النَّص فَالْوَجْه فِيهِ أَن نقُول تقرر الْإِجْمَاع أَن لَا يجمع الْعلمَاء على حكم إِلَّا عَن دَلِيل، وَلَا يُوجد مِنْهُم الِاتِّفَاق شهيا من غير حجَّة، فَلَا يكون نفس قَوْلهم إذاناسخا، وَلَكِن يجوز أَن يُقَال مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ ولسببه دَلِيل فَيجوز النّسخ بِهِ عقلا وإجماعهم ينبىء عَنهُ وَهَذَا تكلّف منا وَفرض الْكَلَام فِي صُورَة مِنْهُ غير ثَابِتَة وَهِي كَون الْإِجْمَاع حجَّة فِي عصر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. (236) فصل [1307] لَا يجوز النّسخ بقول الصَّحَابِيّ وَهَذَا ينبىء على أصل سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَهُوَ أَن قَوْله لَيْسَ بِحجَّة، وَقَوله كَقَوْل التَّابِعِيّ وكقول آحَاد الْعلمَاء فِي الْأَعْصَار. [1308] فَإِن قَالَ قَائِل: فَلَو قَالَ الصَّحَابِيّ: نسخ الحكم الْفُلَانِيّ، فَهَل يثبت بذلك النّسخ؟ قُلْنَا: هَذَا موقع اخْتِلَاف الْعلمَاء فَذهب بَعضهم إِلَى أَن النّسخ يثبت بذلك رِوَايَة ونقلان فَإنَّا نحمل مَا يَنْقُلهُ الصَّحَابِيّ على الصِّحَّة والسداد، فحملنا لذَلِك قَوْله: نسخ الحكم على الْحَقِيقَة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالصَّحِيح أَن النّسخ لَا يثبت بذلك فَإِن مَا ثَبت النّسخ بِهِ مُخْتَلف فِيهِ فَرُبمَا يعْتَقد الصَّحَابِيّ فِي الشَّيْء نسخا وَهُوَ لَيْسَ بنسخ فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَلَا بُد أَن يظْهر سَبَب النّسخ لنرى فِيهِ رَأينَا، ونجتهد فِيهِ. [1309] وَلَو قَالَ الصَّحَابِيّ حكم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو قضى بِكَذَا فَلَا يحمل ظَاهر مَا يَنْقُلهُ على صِحَة حَتَّى ينْقل صُورَة الْقَضِيَّة لانقسام الْقَضَاء فَكَذَلِك القَوْل فِيمَا نَحن فِيهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 [1310] وَإِن نقل الصَّحَابِيّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَرِيحًا أَنه قَالَ نسخت عَنْكُم الحكم الْمَعْلُوم الَّذِي يَنْقُلهُ فَيقبل مثل ذَلِك. [1311] وَالْجُمْلَة أَن مَا يكون نَاقِلا فِيهِ فَهُوَ مُصدق فِي نَقله وَمَا يخْشَى أَن يكون مُجْتَهدا فِيهِ فَلَا نقطع بِظَاهِرِهِ حَتَّى يتَبَيَّن حَقِيقَة الْأَمر. (237) فصل [1312] قد قدمنَا جَوَاز نسخ السّنة بِالسنةِ وحققنا أَن الْمَقْطُوع بِهِ ينْسَخ بالمقطوع / بِهِ والمظنون ينْسَخ بالمظنون. ثمَّ اعْلَم أَن قَوْله يجوز أَن ينْسَخ بِفِعْلِهِ إِذا صدر مصدر الْبَيَان، على مَا فصلنا مواقع الْأَفْعَال فِيمَا سبق، وَكَذَلِكَ يجوز نسخ فعله الْوَاقِع موقع الْبَيَان بقوله، وَهَذَا القَوْل فِي تَقْرِيره الْمُبين نَاسِخا ومنسوخا وَهَذَا مَذْهَب جُمْهُور الْعلمَاء. وَذهب شرذمة من المنتمين إِلَى الْأُصُول إِلَى انه لَا ينْسَخ قَوْله بِفِعْلِهِ، وَلَا فعله بقوله، لاختلافهما وَهَذَا سَاقِط من الْمَذْهَب، وَذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 أَن الْفِعْل فِي وُقُوعه موقع الْبَيَان نَازل منزلَة القَوْل، وَإِن قدرُوا أفعالا على خُرُوجه الْبَيَان فَلَا يحْتَج بِهِ اصلا، فقد نزل فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي اقتضائه الْبَيَان منزلَة قَوْله، وَهَذَا مَا لَا خَفَاء بِهِ، فَهَذِهِ جملَة مقنعة فِيمَا ينْسَخ وينسخ بِهِ. (238) القَوْل فِي أَن نسخ بعض الْعِبَادَة أَو شَرط من شرائطها هَل يكون نسخا لِلْعِبَادَةِ [1313] هَذَا مِمَّا اخْتلف الْعلمَاء فَذهب بَعضهم إِلَى أَن نسخ بعض الْعِبَادَة أَو شَرط من شرائطها يكون نسخا لِلْعِبَادَةِ وَلم يفصل هَؤُلَاءِ بَين الشَّرْط الْمُنْفَصِل عَنْهَا كالطهارة مَعَ الصَّلَاة، وَبَين أَن ينْسَخ بعض من الْعِبَادَة، كَمَا لَو قدر بعض رَكْعَات الصَّلَاة، وَذهب بَعضهم إِلَى أَن النّسخ فِي بعض الْعِبَادَة لجميعها، فَأَما النّسخ فِي شرائطها الْمُنْفَصِل عَنْهَا فَلَيْسَ بنسخ، وَمَا صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور من الْمُتَكَلِّمين وَالْفُقَهَاء أَن ذَلِك لَا يكون نسخا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 لَهَا لما قرر بَقَاؤُهُ وَإِذا نسخ بعض الْعِبَادَة أَو شَرط من شرائطها فَلَا يُقرر ذَلِك نسخا فِي بَقِيَّة الْعِبَادَة، فَإِذا نسخ بَعْضهَا أَولا فِي الْعِبَادَة الْمَشْرُوطَة إِذا نسخ شَرطهَا. [1314] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالَّذِي يَصح فِي ذَلِك عندنَا أَن مَا ينْسَخ من الْعِبَادَة فَلَا شكّ أَن النّسخ تحقق فِي الْمَرْفُوع بالنسخ وفَاقا فَأَما فِي بَقِيَّة الْعِبَادَة أَو الْعِبَادَة الْمَشْرُوطَة فَإِن ثَبت أَنَّهَا كَانَت لَا تصح دون شَرطهَا أَو لَا يَصح الِاقْتِصَار على بَعْضهَا لَو قدر بَعْضهَا مُفردا أَو جَمِيعًا من غ غير شَرط لَكَانَ أَن يفْسد وَيخرج من حيّز الْعِبَادَات فَإِذا ثَبت الْآن أَنه يَصح الِاقْتِصَار على بَعْضهَا أَو يَصح من غير مَا كَانَ شرطا فِيهَا فَهَذَا نسخ عَن الْحَقِيقَة سَوَاء كَانَ الشَّرْط مُتَّصِلا أَو مُنْفَصِلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن النّسخ هُوَ رفع الحكم بعد ثُبُوته على الْحَد الَّذِي رسمناه فِي حَقِيقَة النّسخ، وَقد تحقق ذَلِك فِي مَسْأَلَتنَا، فان الَّذِي رفع لَا شكّ فِي تحقق النّسخ فِيهِ، وَالَّذِي لم يرفع صورته فقد رفع حكمه، فَإِن مَا كَانَ فَاسِدا خَارِجا عَن قَضِيَّة الْعِبَادَات وَهُوَ الْبَعْض اَوْ الْعِبَادَة دون الشَّرْط، فقد ثَبت أَنه جَائِز بعد أَن لم يكن جَائِزا فَهَذَا هُوَ النّسخ بِعَيْنِه، وَهُوَ أَن يثبت جَوَاز مَا كَانَ لَا يجوز، أَو عدم جَوَاز مَا كَانَ يجوز، وَلَا مُعْتَبر بِنَفْي بعض من الصُّورَة، فَإِنَّمَا الْمُعْتَبر بِالْأَحْكَامِ فِي تَحْقِيق النّسخ. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْفِعْل وَالْوَاحد قد يثبت وُجُوبه شرعا ثمَّ يثبت كَونه مَنْدُوبًا وارتفاع وُجُوبه، وَيكون بِهِ نسخا فِي الْحَالَتَيْنِ إِن بَقِي الْفِعْل م فيهمَا، فَهَذِهِ الطَّرِيقَة الَّتِي [145 / أ] طردناها، فَبَطل الْفَصْل بَين الْمُنْفَصِل والمتصل، وَهُوَ بَين عِنْد التَّأَمُّل. [1315] فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا كَانَت الصَّلَاة أَرْبعا فَردَّتْ إِلَى رَكْعَتَيْنِ فهاتان الركعتان كَانَتَا ثابتتين مَعَ أخرتين وبقيتا ثابتين فَلَا معنى للنسخ فيهمَا، وأوضحوا ذَلِك فِي الشَّرْط الْمُنْفَصِل أَيْضا فَقَالُوا إِذا كَانَت الصَّلَاة مَشْرُوطَة بِالطَّهَارَةِ وهما فعلان متغيران وعبادتان متغايران والنسخ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 أَحدهمَا لَا يكون رفعا فِي الثَّانِي، وَمَا قدمْنَاهُ من الدَّلِيل انْفِصَال عَن ذَلِك إِذْ قد بَينا أَن بَقَاء الصُّورَة لَا معول عَلَيْهِ فِي نفي وَلَا إِثْبَات، وَإِنَّمَا الْمعول على ارْتِفَاع الْأَحْكَام وبقائها، وَقد حققنا ذَلِك وَبينا أَن مَا لم يكن جَائِزا صَار جَائِزا وَهَذَا هُوَ النّسخ عينه. (239) القَوْل فِي أَنه هَل يتَحَقَّق النّسخ فِي حق من لم يبلغهُ النَّاسِخ [1316] إِذا ثَبت حكم مُسْتَمر على الْأمة ثمَّ ورد لَهُ نَاسخ فَمن بلغه النَّاسِخ فقد تحقق النّسخ فِي حَقه، وَمن لم يبلغهُ النَّاسِخ إقدام على الحكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 الأول فَيكون ذَلِك زللا وَخطأ مِنْهُ، بيد أَنه لَا يؤاخذه بِهِ وبعذره وجهله، وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن إِلْحَاق هَذِه الْمَسْأَلَة بالمجتهدات، حَتَّى نقلوا فِيهَا قَوْلَيْنِ فَقَوْل من الْقَوْلَيْنِ فِي أَن الْوَكِيل إِذا عزل وَلم يبلغهُ الْعَزْل فَهَل يَتَقَرَّر تصرفه إِلَى أَن يبلغهُ الْعَزْل. [1317] وَهَذَا ظن من قَائِله، فَإِن الصَّحِيح الَّذِي يجب الْقطع بِهِ أَن التَّكْلِيف لَا يَنْقَطِع عَمَّن لم يبلغهُ النَّاسِخ، بل يبْقى عَلَيْهِ الحكم الأول، وَلَا يثبت عَلَيْهِ الحكم الثَّانِي مَعَ الْجَهْل بِالدَّال عَلَيْهِ، إِذْ لَا يسوغ ثُبُوت التَّكْلِيف مَعَ الْجَهْل بِسَبَبِهِ ومقتضيه، وَهَذَا مِمَّا يقطع بِهِ، وَلَو سَاغَ تثبيت التَّكْلِيف مَعَ الْجَهْل لساغ مَعَ كل مِمَّا يضاد الْعلم، حَتَّى يلْزم من ذَلِك تَجْوِيز التَّكْلِيف للسكران والنائم، وَقد استقصينا فِي ذَلِك قولا مقنعا فِي أول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 الْكتاب، ومحصوله أَنه إِذا ثَبت أَن الحكم لَا يثبت دون دَلِيل عَلَيْهِ وَلم يتَمَكَّن الْمُكَلف مِم التَّوَصُّل إِلَيْهِ فَكَأَنَّهُ كلف الْعَمَل على وَجه يَسْتَحِيل، فَإِن حَالَة الْجَهْل بالناسخ تنَافِي الْعلم بالتكليف فَلَا يتَحَقَّق مَعَ الْجَهْل الْعلم لتناقضهما وتضادهما، فَلَا مخرج لتجويز ذَلِك إِلَّا تَكْلِيف الْمحَال. [1318] وَمَا ذهب إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَن الَّذِي لم يبلغهُ النَّاسِخ مُخَاطب بِحكمِهِ الأول إِلَى ان يبلغهُ النّسخ. ثمَّ اخْتلف بعد ذَلِك فِيمَا يؤول إِلَى عبَادَة عِنْد التَّحْقِيق فَذهب بَعضهم إِلَى أَن النَّاسِخ إِنَّا هُوَ نَاسخ فِي حق من بلغه وَلَيْسَ بناسخ فِي حق من لم يبلغهُ فَإِذا بلغه اتّصف حِينَئِذٍ بِكَوْنِهِ نَاسِخا فِي حَقه، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه نَاسخ فِي حَقه قبل أَن يبلغهُ على شَرط أَن يبلغهُ كَمَا أَن الْأَمر أَمر للمعدوم على شَرط الْوُجُود. [1319] وَهَذَا رَاجع إِلَى اخْتِلَاف فِي الْعبارَة فَإِن الْفَرِيقَيْنِ صَارُوا إِلَى أَنه مُخَاطب بِحكمِهِ الأول وَمَا يبدر مِنْهُ على الْقَضِيَّة الأولى فَهُوَ حكم الله تَعَالَى. فَإِذا قد اتفقنا على ذَلِك ثمَّ اتفقنا على أَنه إِذا بلغه النَّاسِخ يتبدل عِنْد بُلُوغه التَّكْلِيف عَلَيْهِ فقد تقرر رُجُوع الِاخْتِلَاف إِلَى عبارَة، وَإِنَّمَا الْخلاف الْحَقِيقِيّ مَعَ الَّذين قدمنَا ذكرهم حَيْثُ قَالُوا: إِن الحكم يرْتَفع عَمَّن لم [145 / ب] يبلغهُ النَّاسِخ وَقد / أَشَرنَا إِلَى وَجه الرَّد عَلَيْهِم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 (240) فصل [1320] لم يُورِدهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَلَكنَّا نتكلم فِيهِ على قِيَاسه، فَإِذا ثَبت حكم من الْأَحْكَام بِخَبَر مثلا، ثمَّ استنبطنا مِنْهُ عِلّة، وألحقنا بالمنصوص مَا لَيْسَ بمنصوص عَلَيْهِ بطرق الْقيَاس، ثمَّ نسخ الأَصْل الَّذِي مِنْهُ استنبطنا الْقيَاس فيتداعى ذَلِك إِلَى ارْتِفَاع الْقيَاس المستنبط عَنهُ ويحكى، عَن ابي حنيفَة أَنه قَالَ: يبْقى الْقيَاس مقتضيا فِي الْفَرْع وَإِن ارْتَفع أَصله. وفرضوا الْكَلَام فِي خبرين: أَحدهمَا: أَنهم قَالُوا: لَا يجوز عندنَا التوضي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 بالنبيذ الْمُسكر النيء وَإِنَّمَا يجوز التوضي بِهِ إِذا كَانَ مطبوخا وَقد تَوَضَّأ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالنبيذ النيء، وَبَقِي التوضي بالمطبوخ. وَكَذَلِكَ قَالُوا: كَانَ صَوْم عَاشُورَاء مَفْرُوضًا فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام وَثَبت فِيهِ جَوَاز ارْتِفَاع النِّيَّة نَهَارا والتحق بِهِ [صَوْم] رَمَضَان من حَيْثُ إِنَّه صَوْم عين، ثمَّ نسخ صَوْم عاشرواء وَبَقِي الْقيَاس مستمرا فِي الْفَرْع الملحق بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 [1321] وَهَذَا غلط ظَاهر مِنْهُ، وَذَلِكَ انه إِذا نسخ الأَصْل الَّذِي مِنْهُ الاستنباط فيرتفع مَعَ ارتفاعه اعْتِبَار علته الَّتِي هِيَ أم الْقيَاس إِذْ من المستحيل أَن ينْسَخ حكم وَتبقى علته الدَّالَّة وإمارته المقررة المنصوصة على الحكم، ثمَّ إِذا ارْتَفَعت عِلّة الحكم لَا محَالة فيستحيل اعْتِبَارهَا فرعا واصلا ولعلنا نوضح ذَلِك فِي أَحْكَام الأقيسة إِن شَاءَ الله تَعَالَى. (241) القَوْل فِي تَارِيخ النَّاسِخ والمنسوخ [1322] أمع الْعلمَاء على أَن من شَرط النَّاسِخ أَن يتَأَخَّر عَن الْمَنْسُوخ وَإِنَّمَا يتَبَيَّن ذَلِك بِأَن يتأرخ النَّاسِخ والمنسوخ جَمِيعًا، فَلَو لم يثبت التَّارِيخ فِي وَاحِد مِنْهُمَا أَو ثَبت التَّارِيخ فِي أَحدهمَا فَلَا يتَبَيَّن النَّاسِخ مِنْهُمَا مَعَ جَوَاز أَن يكون غير المؤرخ مُؤَخرا عَن المؤرخ أَو مقدما عَلَيْهِ. [1323] ثمَّ فِي معرفَة التَّارِيخ طَرِيقَانِ: أَحدهمَا أَن ينْقل صَرِيحًا تَارِيخ النَّاسِخ والمنسوخ، وَالثَّانِي أَن يثبت خبران لَا وَجه للْجمع بَينهمَا، وَالْأمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 مجمعة على الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا والتمسك بِهِ وَالِاسْتِدْلَال بِهِ، فنعلم أَن الْأمة مَا اجمعت على ذَلِك مَعَ اعترافهم بِصِحَّة الْحَدِيثين إِلَّا مَعَ علمهمْ بِكَوْن مَا تمسكوا بِهِ نَاسِخا مُتَأَخِّرًا. [1324] والتاريخ يثبت نقلا، وَمِنْهَا أَن يُضَاف خبران إِلَى زمانين نصا وَتَصْرِيحًا، وَالثَّانِي أَن يُضَاف إِلَى قضيتين ثَبت تقدم أَحدهمَا على الآخر كالحديثين إِلَى غزوتين، وكل ذَا يؤول إِلَى شَيْء وَاحِد، وَهُوَ النَّقْل المنبىء عَن التَّارِيخ. [1325] وَأما كل نقل لَا ينبىء عَن التَّارِيخ فَيجوز ذَلِك فِيهِ، وَلَا يَقْتَضِي نسخا، وَذَلِكَ نَحْو أَن يكون اُحْدُ الرِّوَايَتَيْنِ للمحدثين من مُتَقَدِّمي الصَّحَابَة وَالثَّانِي من أحداثهم فَلَا يجوز حمل حَدِيث الْحَدث على التَّأْخِير وَحمل حَدِيث الطاعن فِي السن على التَّقَدُّم، فَإِن هَذَا مِمَّا لَا يُفْضِي إِلَى التَّارِيخ على تَحْقِيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 (242) فصل [1326] إِذا ثَبت حديثان مَقْطُوع بهما وَلَكِن ثَبت التَّارِيخ فيهمَا تقدما وتأخرا بِنَقْل الْآحَاد فقد اخْتلف عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِك فَذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنه [يجوز] التَّعْدِيل على نقل الْآحَاد فِي التَّارِيخ وَإِن ان اصل الحَدِيث مَقْطُوعًا بِهِ وَهَذَا كَمَا يقبل خبر الْوَاحِد فِي تَفْسِير مجملات الْقرَان وَإِن كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 أَصْلهَا مَقْطُوع بِهِ. [146 / ب] [1327] قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ / وَالْقَوْل فِي أَنا نشرط أَن يثبت التَّارِيخ قطعا إِذا كَانَ اصل الحَدِيث مَقْطُوعًا بِهِ أولى عِنْدِي وَأظْهر، وَالله أعلم انْتهى الْجُزْء الثَّانِي ويليه الْجُزْء الثَّالِث وأوله: (243) بَاب الاجماع وَذكر فصوله وَوجه الِاخْتِلَاف فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 (342) بَاب الْإِجْمَاع (وَذكر فصوله وَوجه الِاخْتِلَاف فِيهِ) [1328] اعْلَم، أَنه لَا بُد من تمهيد أصل وَتَقْدِيم فُصُول، قبل الْخَوْض فِي الْمَقْصد من الْإِجْمَاع. أَولهَا: ذكر حَقِيقَة الْإِجْمَاع فِي اللُّغَة والاصطلاح. وَالْإِجْمَاع فِي اللُّغَة يرد على مَعْنيين: يرد وَالْمرَاد بِهِ إبرام الْعَزْم وتوطين النَّفس فَتَقول: أجمع فلَان الْمسير، إِذا عزم عَلَيْهِ. وَيرد الْإِجْمَاع، [وَيُرَاد بِهِ] اتِّفَاق طَائِفَة على أَمر، فعلا كَانَ أَو قولا. وَلَا يخص ذَلِك فِي وضع اللُّغَة بِقوم دون قوم. فيستعمل فِي الِاثْنَيْنِ فَمَا فَوْقهمَا، فَيُقَال: أجمع الرّجلَانِ، وَأجْمع الثَّلَاثَة على فصل وعَلى قَول. وَهَذَا أَيْضا فِي التَّحْقِيق رَاجع إِلَى الْمَعْنى الأول. وَذَلِكَ أَنهم إِذا اتَّفقُوا على شَيْء، فقد أبرموا الْعَزْم عَلَيْهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 [1329] وَأما الْإِجْمَاع فِي الِاصْطِلَاح فِي أَحْكَام الشَّرِيعَة: فَهُوَ اتِّفَاق الْأمة " أَو " اتِّفَاق علمائها على حكم من أَحْكَام الشَّرِيعَة، على مَا سنفصل القَوْل فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله. وَذهب النظام من الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن الْإِجْمَاع، كل قَول يجب اتِّبَاعه سَوَاء صدر من جمع أَو من وَاحِد. وَسمي لذَلِك خبر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِجْمَاعًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ من تَخْصِيص الْإِجْمَاع بالْقَوْل الَّذِي يجب اتِّبَاعه، لَا محصول لَهُ. فَإِن القَوْل الْوَاحِد لَا يُسمى إِجْمَاعًا شَرْعِيًّا. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن أهل الْملَل إِذا اتَّفقُوا على شَيْء، فَيُقَال فِي أَلْفَاظ الشَّرِيعَة: أَجمعُوا. وَلَا منع من إِطْلَاق ذَلِك، وَإِن لم يسغْ الِاحْتِجَاج بإجماعهم. ومقصد النظام " مِمَّا " قَالَه أَن اتِّفَاق عُلَمَاء الْأمة لَا يُسمى إِجْمَاعًا. فَإِنَّهُ لَا حجَّة فِيهِ عِنْده. وَقد وضح تحكمه على اللُّغَة والوضع وَالشَّرْع فِيمَا قَالَه. (ذكر الْمذَاهب فِي ثُبُوت الْإِجْمَاع وحجيته) 1330 - فَإِذا أحطت علما، فَاعْلَم أَن النَّاس اخْتلفُوا على مَذَاهِب فِي الْإِجْمَاع فَالَّذِي صَار اليه النظام أَنه لَا حجَّة فِي اتِّفَاق الْأمة. وَلم يسْبق هُوَ إِلَى هَذَا الْخلاف. فَأول من أنكر الْإِجْمَاع النظام. ثمَّ اخْتلف أَيْضا عَنهُ على دَرَجَات: فَمنهمْ من صَار إِلَى أَن الْإِجْمَاع لَا يتَصَوَّر انْعِقَاده، فضلا عَن أَن يتَصَوَّر ثمَّ لَا تقوم بِهِ الْحجَّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 وَمِنْهُم من قَالَ: يتَصَوَّر انْعِقَاده، وَلَكِن لَا يتَصَوَّر نَقله على وَجه. وَمِنْهُم من قَالَ: يتَصَوَّر ذَلِك، وَلَا حجَّة فِيهِ، وَهَذَا مَذْهَب النظام. وَالَّذين صَارُوا إِلَى أَن إِجْمَاع الْمُسلمين حجَّة يقطع بهَا، افْتَرَقُوا فرْقَتَيْن: فَمنهمْ من رأى أَنه " يسْتَدرك " بقضية الْعقل، ويتأكد بِدلَالَة السّمع. وَمِنْهُم من زعم أَن مدركه السّمع، وَلَا يدْرك بقضية الْعقل، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي نرتضيه وندين الله تَعَالَى بِهِ. (إِثْبَات تصور انْعِقَاد الْإِجْمَاع) وَذَلِكَ نوضح الرَّد على غَيره من الْمذَاهب. 1331 - فَأَما الَّذين قَالُوا من منكري الْإِجْمَاع، إِنَّه لَا يتَصَوَّر انْعِقَاده، فقد ذَهَبُوا فِي ذَلِك الى ضرب من الحسبان فِيمَا بَينهم وفنون من التُّهْمَة وَجحد الضَّرُورَة. وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا: لقد صَحَّ من أصلكم - معاشر الْقَائِلين بِالْإِجْمَاع - أَن أهل الْإِجْمَاع لَا يتفقون على فعل وَلَا قَول إِلَّا عَن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 دلَالَة. ثمَّ جوزتم أَن تِلْكَ الدّلَالَة خبر من أَخْبَار الْآحَاد، أَو " قِيَاس مستنبط " يخفى مدركه! وَنحن نعلم أَن عُلَمَاء الأقطار يَسْتَحِيل مِنْهُم العثور فِي مجاري الْعَادَات على قِيَاس وَاحِد أَو خبر وَاحِد. فَيُقَال / لهَؤُلَاء: " الَّذِي ذكرتموه تحكم على الْعَادة. وَذَلِكَ أَن عُلَمَاء الشَّرْع متعبدون بِشدَّة الفحص و " التنقير " عَن الْأَدِلَّة، وتتبع الأمارات المنصوبة على الْأَحْكَام. وهم " دائبون " فِيهِ فِي مُعظم الْأَوْقَات فِي غلبات ظنونهم، وتطلب مِنْهُم فِيمَا تعبدوا بِهِ. وَهَذَا الْمَعْنى فيهم أَشد الدَّوَاعِي على العثور على الْمَقَاصِد. فَلَا يبعد فِي مجاري الْعَادَات عثورهم جَمِيعًا على خبر أَو قِيَاس. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الَّذين يزِيد عَددهمْ على عدد الْمُسلمين، تراهم فِي شَرق الأَرْض وغربها. فقد اتّفقت كلمتهم واتفقت " دَارهم " على شُبْهَة وَاحِدَة تَقْتَضِي فِي مجْرى الْعَادة قودهم إِلَى الْكفْر وحيدهم عَن الْحق، نَحْو اجْتِمَاع " الملحدة " على الدَّهْر، واجتماع النَّصَارَى على التَّثْلِيث مَعَ اتِّحَاد الأقنومية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 فَإِذا كَانَ يتَصَوَّر فِي مجاري الْعَادَات اجْتِمَاع الْمَلأ الْعَظِيم على الشُّبْهَة الْوَاحِدَة، فَلَا وَجه يمْنَع لما تصور اجْتِمَاع الْمُسلمين على أَمارَة من الأمارات. (إِثْبَات صِحَة نقل الْإِجْمَاع، وَالرَّدّ على الإيرادات) 1332 - فَإِن قيل: إِذا سلم لكم تصور انْعِقَاد الْإِجْمَاع، فَلَا نسلم لكم صِحَة نَقله فِي حق آحَاد الْأمة. وَذَلِكَ أَنا نعلم كَثْرَة عُلَمَاء الْإِسْلَام فِي أقطار الدُّنْيَا، نَحْو أقاصي الشرق والغرب وجزائر وَسَائِر الأقطار. فَكيف يتَحَقَّق للْوَاحِد الطّواف على كَافَّة الْعلمَاء، وَأخذ أَقْوَالهم متفقة فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة؟ وَإِن " تصور " ذَلِك " فَمَا " يومن وَأَن لم ينْتَه إِلَى الثَّانِي إِلَّا رَجَعَ الأول عَن قَوْله؟ وَإِذا لم يتَصَوَّر من هَذَا الْوَجْه، فَلَا يتَصَوَّر أَيْضا نقل. فَإِن طرق النَّقْل تبدأ من الْآحَاد، وَإِذا لم يتَصَوَّر ذَلِك فيهم، لم يتَصَوَّر نَقله أصلا. قُلْنَا: هَذَا عناد مِنْكُم ومراغمة لما عهد فِي مجاري الْعَادَات ضَرُورَة وبديهة. فَإنَّا نعلم أَنه قد تتواصل الْأَخْبَار على امتداد الْأَعْصَار من أقْصَى الْأَمْصَار والأقطار باتحاد أقاويل الْعلمَاء فِي مَسْأَلَة من الْمسَائِل. وَهَذَا كَمَا أَنه قد تحقق عندنَا اتِّفَاق الْعلمَاء على عدد الصَّلَوَات وركعاتها وسجداتها، إِلَى غير [ذَلِك] من أَحْكَامهَا. والمستريب فِي ذَلِك متعرض لجحد الضَّرُورَة. وَكَذَلِكَ نعلم قطعا اتِّفَاق النَّصَارَى على التَّثْلِيث وَجحد نبوة مُحَمَّد [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، الحديث: 1332 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 وَمَا " قدره " من الاستحالة يتَحَقَّق فِي كل مَا تمثلنا بِهِ. وَكَذَلِكَ نعلم أَن الْمُعْتَزلَة قَائِلُونَ بِخلق الْقُرْآن. فَلَا أحد مِنْهُم إِلَّا يَقُول بذلك فَبَطل مَا قَالُوهُ. 1333 - فَإِن قَالُوا: كَمَا يبعد فِي مُسْتَقر الْعَادة اتِّفَاق الْعلمَاء المتبددين فِي الْأَمْصَار مَعَ اخْتِلَاف أغراضهم وتباين آرائهم، أَن يجتمعوا على اخْتِلَاف من القَوْل، وزور وَكذب، على تواضع وتواطئ، أَو وفَاقا من غير سَبَب، فَهَذَا مستنكر فِي الْعَادة. كَمَا يستنكر أَن يتَّفق فِي الْوَقْت الْوَاحِد لكافة الْبَريَّة قعُود على صفة وَاحِدَة أَو قيام، أَو نَحْوهمَا من الْأَوْصَاف. وكما يَسْتَحِيل ذَلِك، فَكَذَلِك يَسْتَحِيل اتِّفَاقهم على حكم وَاحِد، قولا أَو فعلا. وَهَذَا الَّذِي ذكرتموه، تحكم، على الْعَادَات، واقتراب من المطاعن فِي الضروريات. وَذَلِكَ أَن نقُول لَهُم: أَلَيْسَ قد ثَبت جَوَاز اتِّفَاق أهل التَّوَاتُر على نقل شَيْء عاينوه وشاهدوه؟ ثمَّ نعلم مَا نقلوه صدقا ضَرُورَة. على مَا قدمْنَاهُ فِي كتاب الْأَخْبَار. فَلَو قَالَ الْقَائِل: إِذا تصور اجْتِمَاعهم على نقل صدق / فَيَنْبَغِي أَن يتَصَوَّر اتِّفَاقهم على نقل كذب! فَإِن كل وَاحِد مِنْهُم لَو قدر مُفردا، بصدد أَن يتَصَوَّر مِنْهُ ذَلِك. فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك، لِأَن النُّفُوس مجبولة على نقل الصدْق، مَحْمُولَة على خلاف طباعها إِذا نقلت الْكَذِب. قُلْنَا هَذَا تحكم. فَرب متطبع بِالْكَذِبِ لَا يصدق، إِلَّا بعد كدَ مِنْهُ الحديث: 1333 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 لطباعه، ثمَّ مَا أنكرتم من مثل ذَلِك فِي الْمُتَنَازع فِيهِ، فَنَقُول: يتَصَوَّر اجْتِمَاعهم على صَوَاب لكَوْنهم متعبدين بِطَلَبِهِ واتصاف الدعاوي فِيهِ، فوضحت هَذِه الْأُصُول، واستندت فِي وضوحها الى الضروريات. (الرَّد على من زعم أَن يكون أَن حجية الْإِجْمَاع يدْرك بقضية الْعقل) 1334 - وَأما وَجه الرَّد على من زعم أَن كَون الْإِجْمَاع يدْرك بقضية الْعقل، فَهُوَ أَن نقُول: الْعُقُول لَا تَفْضِيل فِي قضاياها بَين فِئَة وَفِئَة، وَأهل مِلَّة وملة. " فَكَمَا " يجوز فِي الْمَعْقُول اتِّفَاق النَّصَارَى وَسَائِر الْكَفَرَة على جحد نبوة مُحَمَّد [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مَعَ خطئهم فِي إنكارهم وجحدهم. فَكَذَلِك لَيْسَ من الْمَعْقُول منع من تَجْوِيز مثل ذَلِك فِي أمة مُحَمَّد [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . الحديث: 1334 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَيْضا، أَنه لما اسْتَحَالَ فِي مُسْتَقر الْعَادة أَن ينْقل أهل التَّوَاتُر مَا شاهدوه، وَلَا يُوجب نقلهم الْعلم الضَّرُورِيّ. مَعَ الْأَوْصَاف الْمَشْرُوطَة فِي أَخْبَار التَّوَاتُر. فَلم يفصل فِي ذَلِك بَين أمة وَأمة. وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ. فَإِن قَالُوا: الْعقل يحِيل اجْتِمَاع الْعلمَاء على بَاطِل وافتعال وكتمان حق وَوضع كذب. وَهَذَا مُسْتَدْرك فِي مجْرى الْعَادة. قُلْنَا: فَأهل الْملَل [إِذا] قيسوا بعلماء الْإِسْلَام [فَإِنَّهُم] يزِيدُونَ عَلَيْهِم أضعافا مضاعفة. ثمَّ نراهم قد اتّحدت كلمتهم فِي ضروب من الْخَطَأ والضلال وَالْكفْر والمحال. والعادات لَا تخْتَلف باخْتلَاف الْأَدْيَان. فَمَا ذَكرُوهُ من رَكِيك من القَوْل. 1335 - وَمِمَّا عولوا عَلَيْهِ أَيْضا، أَن قَالُوا: قد ثَبت اسْتِمْرَار شرع رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِلَى أَن ينْفخ فِي الصُّور، وَلَا تقوم الشَّرِيعَة إِلَّا بِحجَّة قَاطِعَة. وَلما كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بَين أظهر أَصْحَابه كَانَ قَوْله مَقْطُوعًا بِهِ. فَلَمَّا اسْتَأْثر الله بِهِ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِلَى رَحمته، فَيجب تَقْدِير حجَّة يقطع بهَا فِي التباس المشكلات وإتمام المعضلات. وَمَا هُوَ [إِلَّا] الْإِجْمَاع. قُلْنَا: هَذَا أوضح فَسَادًا من كل فَاسد، والإطناب فِيهِ بعد عَن الْمَقْصد، وَالَّذِي يُبطلهُ على قرب، أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قد خلف فِينَا الْكتاب وَالسّنة المتواترة المستفيضة، وَيقوم الْقطع بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا. فَهَلا وَقع الاجتزاء بهما؟ وَكَذَلِكَ أَخْبَار الْآحَاد وطرق المقايس يقطع بهَا فِي إِيجَاب الْعَمَل. فَوَقع بهَا الاجتزاء. الحديث: 1335 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 فَإِن قَالُوا: فنصوص الْكتاب وَالسّنة لَا تعم كل صُورَة! قُلْنَا: فَكَانَ الْإِجْمَاع يعم كل صُورَة أم يخْتَص بِبَعْضِهَا؟ فَإِن زَعَمُوا أَنه يعمها، بهتُوا. وَإِن زَعَمُوا أَنه يخص بعض الصُّور، بَطل اعتلالهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 (الْأَدِلَّة على ثُبُوت الْإِجْمَاع سمعا وَشرعا) 1336 - فَإِن قَالَ قَائِل: قد أنكرتم إِثْبَات الْإِجْمَاع عقلا. فَمَا الَّذِي تعتصمون بِهِ فِي إثْبَاته سمعا وَشرعا؟ وَلَا مطمع فِي مدارك الْعُقُول. ويستحيل إِثْبَات الْإِجْمَاع بِالْإِجْمَاع، وَلَيْسَ مَعكُمْ نَص كتاب وَلَا نَص سنة! قُلْنَا: الَّذِي نعول عَلَيْهِ فِي إِثْبَات الْإِجْمَاع، نَص الْكتاب وَالسّنة المستفيضة من الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . 1337 - فَأَما نَص الْكتاب /، فَقَوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا} . وَوجه الدَّلِيل من الْآيَة: أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى زجر عَن اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ، وتوعد عَلَيْهِ بأعظم الْوَعيد، وقرنه بمشاقة الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . 1338 - فَإِن قيل: هَذَا تمسك مِنْكُم " بِالْمَفْهُومِ " من الْآيَة أَولا، فَإِن مَضْمُون الْآيَة: النَّهْي عَن اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ، فَلم زعمتم أَنه يجب اتِّبَاع سَبِيل الْمُؤمنِينَ؟ قُلْنَا: هَذَا سِيَاقه من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه سُبْحَانَهُ أخرج هَذَا الْكَلَام مخرج التَّقْسِيم الضَّرُورِيّ. فَإِنَّهُ إِذا ثَبت الزّجر عَن اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ، فَلَا محيص عَن " الْمنْهِي " إِلَّا الحديث: 1336 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 بِاتِّبَاع سَبِيل الْمُؤمنِينَ فَإِن السَّبِيل إِمَّا أَن يكون سَبِيل الْمُؤمنِينَ، وَإِمَّا أَن يكون غير سبيلهم. فَتبين أَن هَذَا لَيْسَ من الْمَفْهُوم فِي شَيْء. على أَنا نقُول: مواقع الْكَلَام تخْتَلف بسياق الْخطاب، وَنحن نعلم ضَرُورَة، بِحَيْثُ لَا نستجيز الريب فيهمَا، أَن الْمَقْصد من الْآيَة، تَعْظِيم أَمر الْمُؤمنِينَ وتفخيم شَأْنهمْ، والحث على اتِّبَاع سبيلهم، والزجر عَن إبداء صِحَة الْخلاف عَلَيْهِم. وَهَذَا حَال مَحل الفحوى فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} . 1339 - فَإِن قَالُوا: كَيفَ يَسْتَقِيم مِنْكُم التَّمَسُّك بِالْآيَةِ، وَلَيْسَ لهَذِهِ الصِّيغَة ظَاهر عنْدكُمْ فِي اقْتِضَاء الْوُجُوب؟ قُلْنَا: أما من حمل مُطلق هَذِه الصِّيغَة على الْوُجُوب، فيصدكم عَن سؤال كم " بِمُجَرَّد الْمَذْهَب "، وَأما نَحن: فَإنَّا نقُول باقتضاء الْوُجُوب بعد وضوح الْقَرَائِن. وَمن أوضحها، الْوَعيد والتهديد وَالْآيَة منطوية على ذَلِك. (سُؤال) 1340 - فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْمَعْنى بقوله تَعَالَى: {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} " أَنه " غير سبيلهم الَّذِي صَارُوا موصوفين بِالْإِيمَان بِسَبَبِهِ. الحديث: 1339 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يحث " المعرض " على الْإِيمَان، ومتابعة الْمُؤمنِينَ فِي إِيمَانهم، وَالرجز عَن الْكفْر. وَالْجَوَاب عَن ذَلِك: " أَنا " نقُول: هَذِه مُخَالفَة ظَاهِرَة لظَاهِر الْخطاب، ذَلِك لِأَن الرب تَعَالَى سمى أَقْوَامًا، ونعتهم بنعت تميزوا بِهِ عَن غَيرهم، وَأثبت لَهُم سَبِيلا بعد أَن نعتهم وميزهم، وَأوجب اتِّبَاع سبيلهم، فَمن أَرَادَ أَن يَجْعَل السَّبِيل الْمُثبت بعد النَّعْت رَاجعا الى نفس النَّعْت، فقد خَالف الْعَرَبيَّة. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك، أَنَّك إِذا قلت: من يتبع سَبِيل الْأَطِبَّاء أَو المهندسين أَو نحوهم، كَانَ كَذَا وَكَذَا، فَلَا يفهم من ذَلِك " التطبب " وَلَا الْخَوْض فِي علم الهندسة، وَلَكِن الْمَعْنى بِهِ مَا يرسمونه، وَكَذَلِكَ إِذا قلت: من يتبع سَبِيل الْمَلَائِكَة، فَأَنت " تَعْنِي " بِهِ اتباعهم فِي كَونهم مَلَائِكَة، وَهَذَا بَين فِي فحوى الْكَلَام. 1341 - ثمَّ نقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه، تسرع مِنْكُم الى ترك الظَّاهِر، وَذَلِكَ أَن الْإِيمَان - على اخْتِلَاف الْعلمَاء فِيمَا يثبت - لَا يثبت بِشَيْء من الحديث: 1341 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 أَرْكَانه [بالاتباع] ، إِجْمَاعًا مِنْكُم عنْدكُمْ، وَلَكِن إِنَّمَا يدْرك بمدارك الْعُقُول الى غَيرهَا مِمَّا تهذون بِهِ، فَكل مَا يبلغ مبلغ التَّكْلِيف بِهِ، فَلَا يتبع الْأمة أصلا، بل يشْتَغل بالطرق الَّتِي يثبتونها، وَيُخَالف الْأمة أَولا، ثمَّ إِن اطردت لَهُ الدّلَالَة اتبعها. فَهَذَا تَصْرِيح بِمَنْع اتِّبَاع الْمُؤمنِينَ أَولا فِيمَا صَارُوا بِهِ مُؤمنين. على أَنا نقُول: فحوى الْخطاب مطرح بِكَوْن سَبِيل الْمُؤمنِينَ ملاذا يعتصم بِهِ ويلجأ إِلَيْهِ. ويتضمن ظَاهر الْخطاب جعل سَبِيل الْمُؤمنِينَ أصلا مُتبعا، وَلَا معنى لذَلِك عنْدكُمْ، فَإِن المتبع طرق الْأَدِلَّة الَّتِي تقررت مُوَافقَة الْمُؤمنِينَ إِيَّاهَا، فَالْكل متعبدون بهَا دون السبل. وعندكم أَن مُوَافقَة الْمُؤمنِينَ فِي مُقْتَضى الْأَدِلَّة، كموافقة الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي إِثْبَات التَّوْحِيد وَإِثْبَات الصَّانِع، وَلَا يثبت شَيْء من ذَلِك باتباعهما. وَإِنَّمَا يثبت عقلا، أَو سمعا بطرق غير الِاتِّبَاع، فَلَا يكون هَذَا الْكَلَام مُفِيدا فَتبين أَن مَا قَالُوهُ تعسف. (سُؤال) 1342 - فَإِن قَالُوا: السَّبِيل فِي حَقِيقَة اللُّغَة، هُوَ الطَّرِيق المسلوك وَالْقَارِعَة الْمَوْطُوءَة بالأقدام، وَهُوَ مجَاز فِيمَا رمتموه، فَكيف يجوز التَّمَسُّك بمجاز فِي مَسْأَلَة قَطْعِيَّة يعظم خطر الْخلاف فِيهَا؟ الحديث: 1342 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 قُلْنَا: لَا فَائِدَة فِي الإطناب بِذكر الْحَقَائِق وضروب الْمجَاز، وَالَّذِي يقطع مَادَّة هَذَا السُّؤَال: الرُّجُوع الى الْمَفْهُوم من الْخطاب قطعا ويقينا، حَقِيقَة كَانَ أَو مجَازًا غَالِبا، أَو سمعا عرفيا أَو شَرْعِيًّا. وَقد يُطلق الْمجَاز فِي بعض منَازِل الْكَلَام، فنعلم ضَرُورَة مقصد " الْخطاب ". وَذَلِكَ نَحْو قَول الْقَائِل: فلَان بَطل شُجَاع مِقْدَام أَسد هزبر. فَهَذَا متجوز بِهِ، وَنحن نعلم قطعا أَن المُرَاد بِهِ فِي جرْأَة الْأسد وبطشه، وَإِن كَانَ مجَازًا. وَكَذَلِكَ نعلم ضَرُورَة أَنه لَيْسَ الْمَعْنى بِالْآيَةِ تتبع الطّرق والقوارع، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود اتِّبَاع طرائق الدّين، وجاحد ذَلِك متعنت. على أَنا نقُول: مَتى سلم لكم كَون السَّبِيل مجَازًا فِي غير مَا ادعيتموه، وَإِنَّمَا يتَمَيَّز الْمجَاز عندنَا من الْحَقَائِق عِنْد طرق الْإِشْكَال لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال. وَاسْتِعْمَال السَّبِيل فِي المناهج وطرق الشَّرَائِع أَعم من اسْتِعْمَاله فِيمَا ذكرتموه. (سُؤال) 1343 - فَإِن قَالُوا: لَا يَسْتَقِيم مِنْكُم التَّمَسُّك بِالْآيَةِ مَعَ إنكاركم الْعُمُوم وصيغته، على أَنكُمْ لَو كُنْتُم " قائلين " بِهِ، فَلَيْسَ فِي الْآيَة صِيغَة، فَإِنَّهُ الحديث: 1343 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر السَّبِيل بِلَفْظ الْوَاحِد، وَلَيْسَ فِيهِ إنباء عَن شُمُول، فَمَا يؤمنكم أَنه سَبِيل وَاحِد؟ وَالْجَوَاب عَن هَذَا أَن نقُول: أول مَا نفاتحكم بِهِ أَن نقُول: قد وضح بِمَا قَرَّرْنَاهُ، جَوَاز اتِّبَاع سَبِيل الْمُؤمنِينَ، فَقولُوا بِهِ وَلَو فِي سَبِيل وَاحِد، سوى ماقلتموه أول، واعتقدوا اتباعهم وَلَو فِي سَبِيل وَاحِد. 1344 - ثمَّ نقُول: من مذهبكم، منع تَأْخِير الْبَيَان الْوَارِد إِلَى وَقت الْحَاجة، وَمن مَذْهَبنَا منع تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة، وَأجْمع " الكافة " على اسْتِحَالَة بَقَاء إِجْمَال فِي خطاب، بعد [أنٍ أكمل الله الدّين، واستأثر بِرَسُولِهِ خَاتم النَّبِيين [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَلَو صَحَّ مَا قلتموه، لَكَانَ بَين ذَلِك السَّبِيل. على أَنا نقُول: إِذا أطلق السَّبِيل فِي مثل هَذِه الْمنزلَة، فَإِن قَرَائِن الْأَحْوَال وقيود الْمقَال دَالَّة على الِاسْتِغْرَاق والاستيعاب. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك: أَن من قَالَ لغيره: " اتبع سَبِيل الصَّالِحين، وَلَا تتبع غير سبيلهم "، فَلَيْسَ يحمل هَذَا الْخطاب على سَبِيل وَاحِد بجمل من جملَة السبل، وَمن قَالَ بِالْعُمُومِ هان عَلَيْهِ دفع السُّؤَال بِمُجَرَّد الْمَذْهَب. ثمَّ نقُول: أَكثر مَا فِي ذَلِك أَنه قد أوجب علينا اتِّبَاع الْمُؤمنِينَ فِي سَبِيل، وَقد اسْتَقر علينا الْخطاب المقرون بعظيم الْوَعيد " فِي ذَلِك ". فَلَا الحديث: 1344 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 خُرُوج عَن مُقْتَضَاهُ إِلَّا بِأَن يتبع الْمُؤمنِينَ فِي كل سَبِيل، فَيتَحَقَّق الْخُرُوج من مُقْتَضى الشَّرْع /، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. 1345 - وَرُبمَا يوجهون هَذَا السُّؤَال الَّذِي ذَكرُوهُ فِي السَّبِيل، فِي الْمُؤمنِينَ، فَيَقُولُونَ: الْمُؤْمِنُونَ من الجموع الَّتِي لَا يثبت فِي قضيتها الْعُمُوم عنْدكُمْ، فَمَا بالكم حملتموه على كَافَّة الْمُؤمنِينَ؟ وَطَرِيق الْجَواب مَا قدمْنَاهُ أَولا. (سُؤال) 1346 - فَإِن قَالُوا: ظَاهر الْآيَة يدل على زعمكم - يَقْتَضِي وجوب اتِّبَاع الْمُؤمنِينَ، وهم الموحدون المصدقون ظَاهرا وَبَاطنا. إِذا الْإِيمَان عنْدكُمْ لَا يرجع إِلَى مُجَرّد النُّطْق، حَتَّى يقْتَرن بخلوص الِاعْتِقَاد، فَمَا أدراكم بِأَن المعتقدين المخلصين من أهل الْقبْلَة مِنْهُم؟ فَهَذَا إِجْمَال فِي مُقْتَضى الْآيَة من هَذَا الْوَجْه، فَلَا يسوغ الِاسْتِدْلَال بِهِ. قُلْنَا: هَذَا " احتيال " مِنْكُم فِي رد الْآيَة، لَا ينجيكم عَمَّا أُرِيد بكم، وَذَلِكَ أَن مثل هَذَا الْخطاب إِذا أطلق، فَلَا يفهم من فحواه " التحسس " على الحديث: 1345 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 البواطن والتعريض للأسرار، بل الْمَفْهُوم من فحواه تَكْلِيف الجري على الظَّوَاهِر. وخطاب الْقُرْآن وَاجِب حمله على مُقْتَضى الْعَرَبيَّة. وَنحن نعلم أَن من قَالَ لمن يخاطبه: أكْرم الْمُؤمنِينَ. وَأعْطِ الْمُؤمنِينَ. الى غير ذَلِك من ضروب الْخطاب الْمُعَلق بهم، فَلَيْسَ يَعْنِي بذلك " التحسس " والتنقير عَن بواطنهم، وجاحد ذَلِك متحكم على اللُّغَة. على أَنا نقُول: أَكثر مَا فِي سؤال كم أَن يحمل الْخطاب على المعتقدين المخلصين فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى، فَلَا توصل إِلَى ذَلِك إِلَّا بِأَن يتبع جمَاعَة المعتزين المنتمين إِلَى الْإِيمَان ليستيقن عِنْد ذَلِك الجري على حَقِيقَة الْآيَة. على أَنا نقُول: فِي حمل الْآيَة على هَذَا الْمحمل، مَعَ الْعلم بانطواء الغيوب وقضايا الْأَسْرَار عَنَّا، تسبب إِلَى تَكْلِيف الْمحَال وَمَا لَا يُطَاق، وَهَذَا من أقبح القبائح عنْدكُمْ. (سُؤال) 1347 - فَإِن قيل: فقد قرن الله تَعَالَى الزّجر والوعيد بخصلتين: إِحْدَاهمَا: مشاقة الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَالْأُخْرَى: اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ. فَإِذا أردتم تَحْقِيق الزّجر والوعيد فِي إِحْدَاهمَا إِذا تجردت، كُنْتُم متحكمين على مُقْتَضى الْآيَة. قَالُوا: وَبَيَان ذَلِك أَنه عز اسْمه قَالَ: {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} . فَذكر الْأَمريْنِ بِحرف عاطف جَامع، ثمَّ الحديث: 1347 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 عقبهما بالوعيد. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه إِسْقَاط مِنْكُم لمقْتَضى الْآيَة، فَإِنَّهُ قد وضح من موجبهما تَأْثِير اتِّفَاق الْمُؤمنِينَ على سَبِيل، فَإِذا حملتم الْآيَة على هَذَا الْمحمل - مَعَ مَا وضح من اعتقادكم أَن إِجْمَاع الْمُؤمنِينَ، لَا حكم لَهُ أصلا - فَينزل ذَلِك منزلَة الْجمع بَين شَيْئَيْنِ فِي الْخطاب، لَا تَأْثِير لأَحَدهمَا بِحَال فِيمَا " سبق " الْخطاب لَهُ. وَيكون ذَلِك كَمَا لَو قَالَ: من ظلم وَأحسن فَلهُ سوء الْعَاقِبَة، وَمن جَازَ وَتصدق نوله مَا تولى، وَهَذَا يعد من لَغْو الْكَلَام. وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك: أَن ذكر الْمُؤمنِينَ - مَعَ أَنه لَا أثر لذكرهم - كذكر كل مَذْكُور سواهُم، مِمَّا لَا أثر لَهُم، وَهَذَا تَصْرِيح بإلغاء الْخطاب. ثمَّ " يقوم " فِيمَا ذكرتموه مُخَالفَة مِنْكُم لاعتقادكم. وَذَلِكَ أَن مشاقة الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] تَقْتَضِي الْوَعيد لَو تجردت، فَإِذا ... . . قرن المشاقة بِوَصْف آخر. فَكَمَا يلْزمنَا على قَود كلامكم رِعَايَة الاقتران فِي الْإِجْمَاع بالمشاقة، فيلزمكم من ضَرُورَة هَذَا الْكَلَام رِعَايَة اقتران المشاقة بِمَا قرن لَهَا، وَهَذَا وَاضح فِي إِسْقَاط السُّؤَال. 1348 - فَإِن قَالُوا: " تحمل " الْآيَة على سَبِيل يتَّفق فِيهِ مشاقة الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . الحديث: 1348 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 قُلْنَا: هَذَا إِعَادَة / مِنْكُم لل سؤال الأول بِعِبَارَة أُخْرَى. على أَنا نقُول: ثَبت من فحوى الْخطاب ضَرُورَة، أَن الْمَقْصُود تَعْظِيم أَمر الْمُؤمنِينَ وتوبيخ " مخالفيهم ". وَهَذَا الَّذِي ذكرتموه يبطل هَذَا الْمَعْنى، فَإِن الْيَهُود لَو اتَّخذت سَبِيلا فِي فعل من أفعالها وَقَول من أقوالها، ومخالفتهم تجر الْمُخَالف الى مشاقة الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَلَا يسوغ إِظْهَار مَا يَقْتَضِي الْمُخَالفَة، فَلَا معنى لتخصيص الْمُؤمنِينَ بِالذكر، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. (سُؤال) 1349 - فَإِن قَالُوا: إِن خصصتم الْمُؤمنِينَ بالموجودين فِي زمن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فيلزمكم تَخْصِيص الْإِجْمَاع بِأَهْل عصر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَإِن حملتم الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِم وعَلى غَيرهم، فيلزمكم أَن تَقولُوا: إِن ذَلِك مَحْمُول على كل مُؤمن سَيكون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. فَلَا يتَبَيَّن الْإِجْمَاع إِلَّا بعد انْقِضَاء " الدُّنْيَا ". قُلْنَا: كل مَا ذكرتموه " مفض " لإِسْقَاط مُوجب الْآيَة، وحيد مِنْكُم عَن المُرَاد بهَا. فَإنَّا نعلم قطعا، إِنَّه لَيْسَ المُرَاد تَوْقِيف المخاطبين فِي امْتِثَال مُوجب الْخطاب إِلَى قيام السَّاعَة. وَمن حمل الْآيَة على هَذَا الْمحمل، فنعلم بضرورة الْعقل بِحَيْثُ لَا نستجيز " الريب " فِيهِ أَنه حمل الْآيَة على غير مَا أُرِيد بهَا. الحديث: 1349 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 وَالَّذِي يُوضح ذَلِك: أَن من قَالَ لغيره: " اتبع سَبِيل الصَّالِحين "، فَلَيْسَ يُرِيد بذلك من سَيكون من الصَّالِحين الى يَوْم الْقِيَامَة! على أَنا نقُول: لَو حملنَا الْآيَة على أهل عصر الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- فَإِنَّهُم الَّذين كَانُوا منعوتين بِحَقِيقَة الْإِيمَان عِنْد وُرُود الْخطاب - فتقوم الْحجَّة بِإِثْبَات إِجْمَاعهم حجَّة قَاطِعَة. وَالْمَقْصُود إِثْبَات الِاسْتِدْلَال فِي إِثْبَات الْإِجْمَاع، إِمَّا خُصُوصا وَإِمَّا عُمُوما. فَهَذِهِ جمل من الأسئلة ترشدك الى امتثالها، ويهون عَلَيْك وَجه الِانْفِصَال عَن كل محَال من سُؤال. (عود على ذكر أَدِلَّة ثُبُوت الْإِجْمَاع) 1350 - وَرُبمَا يسْتَدلّ مُثبت الْإِجْمَاع بآي من كتاب الله تَعَالَى: وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا} . وَقَوله تَعَالَى: {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر} . الحديث: 1350 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 وَقَوله تَعَالَى: {وَمِمَّنْ خلقنَا أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ} . (طَريقَة أُخْرَى فِي إِثْبَات الْإِجْمَاع) 1351 - وَهِي الِاسْتِدْلَال بِالْمَعْنَى المتظافر فِي الْأَلْفَاظ [الَّتِي] نقلهَا الثِّقَات عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . مِنْهَا: مَا يرويهِ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَعبد الله بن مَسْعُود وَغَيرهمَا من كبراء الصَّحَابَة الَّذين [لَا يُحصونَ] كَثْرَة أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " لَا تَجْتَمِع أمتِي على خطأ " وَفِي بَعْضهَا: " لَا تَجْتَمِع أمتِي على الضلال "، وَفِي بَعْضهَا: " لم يكن الله ليجمع أمتِي على الضَّلَالَة، وَسَأَلت الله عز وَجل لَا يجمع أمتِي على الضَّلَالَة، فَأَعْطَانِيهَا ". وَفِي بَعْضهَا: " من سره أَن يدْخل الْجنَّة فليلزم الْجَمَاعَة ". وَقَالَ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي على الْحق ظَاهِرين، لَا يضرهم خلاف من خالفهم "، وَفِي بَعْضهَا: " من فَارق الْجَمَاعَة قيد شبر فقد خلع ربقة الْإِسْلَام من عُنُقه " إِلَى غير ذَلِك من الْأَلْفَاظ الَّتِي يطول تعدادها. الحديث: 1351 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 1353 - وَالْأولَى أَن نقُول: قد علمنَا قطعا انتشار احتجاج السّلف، فِي الْحَث على مُوَافقَة الْأمة واتباعها والزجر على مخالفتها، بِهَذِهِ الْأَخْبَار الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَمَا أبدع مبدع فِي " الْعَصْر " الخالية بِدعَة إِلَّا وبخه عُلَمَاء عصره على ترك الِاتِّبَاع وإيثار الابتداع، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بالألفاظ الَّتِي قدمناها، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده، وَقد تحقق ذَلِك فِي زمن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ، وَلم يظْهر أحد قبل النظام مطعنا فِي الْأَحَادِيث. فلولا أَنهم علمُوا قطعا صدق الروَاة، لوَجَبَ فِي مُسْتَقر الْعَادة أَن [يَبْدُو]- وَلَو شرذمة - فِي الْأَخْبَار ضربا من المطاعن. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك، أَن هَذِه الْأَخْبَار لَو كَانَت سَبِيلهَا الْآحَاد - وَهِي لَا توجب الْقطع - لذكر بعض من سبق: أَن الِاحْتِجَاج بالآحاد لَا يسوغ، فَلَمَّا لم يظْهر ذَلِك مِنْهُم، علمنَا قطعا اعْتِقَادهم صدق الروَاة فِيمَا نقلوه. (دفع شُبْهَة أَن أحدا قبل النظام أنكر الْإِجْمَاع) 1354 - فَإِن قَالَ قَائِل: هَذَا الَّذِي ذكرتموه مَبْنِيّ على دَعْوَى، لَا توافقون عَلَيْهَا، وَهُوَ أَن أحدا قبل النظام لم يُنكر الْإِجْمَاع، وَلم يقْدَح فِي الْأَخْبَار الَّتِي نقلتموها. الحديث: 1353 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 فَلم قُلْتُمْ ذَلِك؟ وَمَا يؤمنكم أَن ذَلِك كَانَ، وَلم ينْقل {أَو نقل وَلم يَصح عنْدكُمْ؟ قُلْنَا: نَعْرِف ذَلِك بقضية الْعَادة وَوُجُوب استمرارها فِي حكم الْمَعْقُول. فَإِن تَجْوِيز " خلف " الْإِجْمَاع وَترك اتِّبَاع الْأمة مِمَّا يعظم خطره، إِذْ على الْإِجْمَاع ابتنى مُعظم أصُول الشَّرِيعَة، فَلَو خَالف فِيهِ مُخَالف، لنقل خِلَافه فِي هَذَا الْأَمر الْعَظِيم والخطب الجسيم. فَإِن مَا هَذَا سَبيله، لَا يجوز خفاؤه فِي طَرِيق النَّقْل. 1355 - وبمثل هَذِه الطَّرِيقَة نرد على قَول من يَقُول من أهل الزيغ: إِن الْقُرْآن عورض فِيمَا سبق من الْأَعْصَار، وَلم تنقل معارضته نقل صِحَة} فَنَقُول: لَو كَانَ ذَلِك - مَعَ توفر دواعي الْكَفَرَة فِي التَّسَبُّب إِلَى هدم الدّين وتتبع حججه الباهرة " وبيناته " الزاهرة - لنقل ذَلِك فِي مُسْتَقر الْعَادة. هَذَا، والنظام - مَعَ خموله وَقلة خطره فِي النُّفُوس، وَكَونه معدودا فِي أحزاب الْفُسَّاق - لما أظهر الْخلاف فِي الْإِجْمَاع، اشْتهر عَنهُ، وَتَقْرِير مَا ذَكرْنَاهُ فِي اسْتِقْرَار الْعَادة، سهل. 1356 - فَإِن قيل: هَذَا الَّذِي ذكرتموه، إِن سلم لكم، فَهُوَ بِنَاء مِنْكُم على حكم الْعَادة الثَّابِتَة فِي الْحَال، فَمَا يؤمنكم أَن عادات من قبلكُمْ لم تكن مشابهة لعاداتنا! ؟ قُلْنَا: هَذَا الْآن تعرض مِنْكُم لجحد الضَّرُورَة، فَإنَّا كَمَا نعلم اسْتِمْرَار الْعَادَات فِي زمننا، فنعلم ذَلِك فِي زمن من قبلنَا ضَرُورَة، وَهَذَا كَمَا أَنا لما الحديث: 1355 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 علمنَا بمجرى الْعَادة، أَن أهل التَّوَاتُر لَا يخبرون عَن مُشَاهدَة، وهم كاذبون، فَهَذَا مِمَّا اسْتَوَت عَلَيْهِ الْأَعْصَار، وَكَذَلِكَ نعلم ضَرُورَة أَن الطَّعَام وَالشرَاب / كَانَا يشبعان ويرويان من قبلنَا، على اطراد الْعَادة، فَلَو سَاغَ " تنفيض " الْعَادة، لأفضى بذلك إِلَى ضروب من الجهالات. 1357 - فَإِن قيل: هَذَا الَّذِي ذكرتموه، لَو ثَبت لكم، [لَكَانَ] اسْتِدْلَالا مِنْكُم فِي إِثْبَات الْإِجْمَاع بِنَفس الْإِجْمَاع، وَهَذَا من أهم الأسئلة، فَتَأَمّله. قَالُوا: فَأكْثر مَا فِي الْبَاب أَن نسلم لكم اتِّفَاق من قبل النظام على مَا ادعيتموه، فَمن أَيْن لكم أَن اتِّفَاقهم يدل على تَصْدِيق الروَاة قطعا؟ وَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم وَإِن اتَّفقُوا على مَا ادعيتموه، فهم كَانُوا مخطئين فِيمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ! ؟ قُلْنَا: لم نستدل عَلَيْكُم من الْوَجْه الَّذِي ظننتموه، وَإِنَّمَا استدللنا عَلَيْكُم بقضية الْعَادة الَّتِي ينتسب جاحدها الى رفض الضَّرُورَة، فَقُلْنَا: لَو كَانَ فِيمَا تمسك بِهِ من قبل النظام ريب - كَمَا ادعيتموه - لوَجَبَ فِي مُسْتَقر الْعَادة أَن يظْهر ذَلِك عَن أحد، فَإِنَّهُ يبعد فِي قَضِيَّة الْعَادة أَن يخفي الشَّيْء الظَّاهِر على أهل الْإِجْمَاع مَعَ شدَّة فحصهم واعتنائهم بتمييز الْحق عَن الْبَاطِل. فَهَذَا مِمَّا لَا يسوغ فِي الْعَادَات، وَلَيْسَ سَبيله سَبِيل الْإِجْمَاع الَّذِي ظننتموه. وبمثل هَذِه الطَّرِيقَة تقرر عندنَا أَن الْقُرْآن لم يُعَارض، كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي الحديث: 1357 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 صدر الدّلَالَة، فَلَمَّا لم يظْهر من أحد طعن فِي الحَدِيث، فَمَا ذَاك إِلَّا لثُبُوت الصدْق فِيهِ قطعا. 1358 - فَإِن قيل: فَمَا يؤمنكم أَن الَّذين قبل النظام اعتقدوا صِحَة الْإِجْمَاع، وَلَكِن لَا عَن الحَدِيث الَّذِي تمسكتم بِهِ، فَمن أَيْن لكم أَنهم اعتقدوا مَا اعتقدوه عَمَّا نقلتموه؟ قُلْنَا: قد بَينا ظُهُور التَّمَسُّك بِمَا قدمْنَاهُ من الْأَخْبَار ووضوحه " عَن الانتشار " وَلَو لم يكن الْخَبَر مَقْطُوعًا لَهُ، لقَالَ بعض أهل الْأَعْصَار: إِنَّه لَا يتَمَسَّك فِيمَا يطْلب فِيهِ الْقطع بِمَا لَا يَقْتَضِي الْقطع، فَلَمَّا لم يبد هَذَا الضَّرْب من النكير فِي الْعَصْر الخاليه، دلّ على مَا قُلْنَاهُ دلَالَة ظَاهِرَة. (ذكر أسولة الْقَوْم فِي تَأْوِيل الْأَحَادِيث وصرفها عَن ظواهرها) 1359 - فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْمَعْنى بقوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (لَا تَجْتَمِع أمتِي على ضَلَالَة) أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يجمعها على الضَّلَالَة إِذْ لَا يسوغ فِي حكمته وعدله عَن ذَلِك، فَهَذَا هُوَ المُرَاد بالْخبر، وَأما الْعباد لَو اجْتَمعُوا بِأَنْفسِهِم على الضَّلَالَة فَلَا استنكار فِيهِ، وبنوا هَذَا السُّؤَال [على] جحد الْقدر. فَنَقُول: إِنَّمَا يسْتَقرّ هَذَا السُّؤَال لَو ثَبت لكم مَا تهذون بِهِ فِي التَّعْدِيل الحديث: 1358 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 والتجوير، وهيهات! فَرد أَسبَاب أَهْون من إثْبَاته. 1360 - على أَنا نقُول: لَو كَانَ الْأَمر على مَا قلتموه، لم يكن لتخصيص الْأمة فَائِدَة. فَإِن مَا ذكرتموه يَتَقَرَّر فِي الْوَاحِد تقرره فِي الْأمة، إِذْ لَا يسوغ فِي حكمته - تَعَالَى عَن قَوْلهم - أَن يضل وَاحِدًا، كَمَا لَا يسوغ أَن يضل السّريَّة، وَكَذَلِكَ فَلَا اخْتِصَاص لهَذِهِ الْأمة فِي مُقْتَضى أصلكم، فَتبين بطلَان مَا قلتموه. 1361 - على أَنا نقُول: قد أوضحنا بِمَا قدمنَا، أَن الَّذين سبقوا كَانُوا يحرصون على الِاتِّبَاع، ويزجرون عَن الابتداع، ويأمرون بموافقة أهل الْإِجْمَاع، ويوبخون مخالفيهم بالأخبار المنطوية على اقْتِضَاء الِاتِّبَاع، فَلَو كَانَ معنى الْأَحَادِيث مَا ذكرتموه، لما خفى ذَلِك فِي مُسْتَقر الْعَادة على الَّذين سبقُونَا. 1362 - فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَرَادَ بالضلال الْكفْر وَالْخُرُوج عَن الدّين، وَبَين أَن أمته لَا يخرجُون عَن الدّين / جملَة، ويبقون عَلَيْهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَمن أَيْن لكم وجوب اتباعهم فِي أَحْكَام الشَّرَائِع وآحاد الْمسَائِل، إِذا اتَّفقُوا على أَحْكَامهَا؟ وأوضحوا ذَلِك بِأَن قَالُوا: الضلال لَا يُنبئ إِلَّا عَمَّا قُلْنَاهُ، وَالْخَطَأ فِي أَحْكَام الْفُرُوع لَا يُسمى ضلالا. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل من أوجه: الحديث: 1360 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 أَحدهَا: إِن من أصل النظام، أَنه يجوز أَن تَجْتَمِع الْأمة على ضلال، فَإِنَّهُ لايسوغ التَّمَسُّك بِالْإِجْمَاع فِي الديانَات، كَمَا لَا يسوغه فِي الشرعيات. فَهَذَا تحكم مِنْهُم لَا يُوَافق " مَذْهَبهم ". على أَنا نقُول: كل حيد عَن السّنَن المرسوم عقلا وسمعا، سمي ضلالا على الْحَقِيقَة. وَمِنْه سمي الضال عَن الطَّرِيق ضَالًّا، واللفظة ضَالَّة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، قَالَ: {فعلتها إِذا وَأَنا من الضَّالّين} ، وَلم يرد من الْكَافرين، إِنَّمَا أَرَادَ من المخطئين. ثمَّ نقُول: قد ورد فِي بعض " الْأَلْفَاظ " مُشْتَمِلًا على " الْخَطَأ "، فلئن [اسْتمرّ] فِي الضلال مَا قلتموه، فَلَا يسْتَمر فِي الْخَطَأ. على أَنا أوضحنا: أَن من قبلنَا استدلوا [بِهِ] فِي وجوب الِاتِّبَاع عُمُوما، وَلم يخصصوه بضروب من الْأَشْيَاء، بِمَا قدمْنَاهُ من الْأَخْبَار، وَلم يُؤثر عَنْهُم تَخْصِيص التحريض على الِاتِّبَاع بِحكم دون حكم. 1363 - فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم، أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِنَّمَا أمرنَا بِاتِّبَاع الْأمة، فِيمَا وَافَقت فِيهِ نَص كتاب؟ قُلْنَا: هَذَا تَخْصِيص مِنْكُم للْعُمُوم، وَمن يَقُول بِهِ، يصدكم عَن ذَلِك من غير إِقَامَة الدّلَالَة. الحديث: 1363 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 على أَنا نقُول: " الْعلم " من مُقْتَضى الْأَخْبَار: وجوب الِاتِّبَاع فِيمَا يُؤثر فِيهِ الْإِجْمَاع، ويقتضيه الْإِجْمَاع، فَإِذا فرضتم الْكَلَام فِي مَسْأَلَة فِيهَا نَص، فَلَا أثر للْإِجْمَاع إِذا، بل النَّص يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي إثارة الحكم، ثمَّ كل مَا ذكرتموه تحكم مِنْكُم، فَإنَّا نعلم أَن من قبلنَا، لم يخصص التحريض على الِاتِّبَاع والتمسك فِي تَحْقِيقه بالأخبار بمورد نَص، بل عمموا ذَلِك. فَلَو صَحَّ مَا قَالُوهُ، لأبداه أهل الْعَصْر السَّابِقَة وأظهروه. 1364 - فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم: إِنَّه أَرَادَ بالأمة من سَيكون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة؟ فَلَا يسْتَقرّ الْإِجْمَاع إِذا إِلَّا بانتهاء الدُّنْيَا. قُلْنَا: هَذَا تَصْرِيح مِنْكُم برد الْأَخْبَار، وَوجه من تمسك قبلنَا بهَا، فَإنَّا نعلم أَن الَّذين سبقُونَا، تمسكوا بهَا فِي الْأَمر بالاتباع، وَلَو كَانَ مَعْنَاهُ مَا قلتموه، لما تحقق استفادة الِاتِّبَاع مِنْهَا بِحَال، فَتبين أَن مَا ذَكرُوهُ تعنت مِنْهُم، وحيد عَن المُرَاد بالأخبار. وَلَهُم أسولة سوى مَا ذَكرْنَاهُ ويسهل " التفصي " عَنْهَا. (ذكر ضرب آخر من مطاعنهم فِي الْأَخْبَار الَّتِي ذكروها) 1365 - فَإِن قَالُوا: لَئِن سَاغَ لكم التَّمَسُّك بِمَا قلتموه، فَنحْن نقابله بِمَا يُضعفهُ ويوهنه من كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . الحديث: 1364 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 فمما اعتصموا بِهِ: الظَّوَاهِر الدَّالَّة فِي كتاب الله تَعَالَى على النَّهْي عَن المزاجر وضروب التحذير فِيهِ، و " أموا " إِلَى كل آيَة فِيهَا وزجر، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا الربوا} وَقَوله تَعَالَى: {إِن الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال اليتمى ظلما} وَغَيرهَا من مرادع الْقُرْآن. قَالُوا: وَقد ثَبت أَن كَافَّة الْأمة مخاطبون بذلك، منهيون [عَنهُ] فَلَو كَانَ لَا يتَصَوَّر من جَمِيعهم الْإِجْمَاع عَلَيْهِ، لما تعلق الْخطاب بهم! فَإِن الْخطاب يتَعَلَّق بِمن يتَصَوَّر مِنْهُ مُخَالفَته وموافقته. 1366 - قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه، تحكم مِنْكُم، فَمن أَيْن لكم أَن من شَرط توجه الْخطاب تصور الْمُخَالفَة من المخاطبين؟ فَهَذَا مِمَّا ننازعكم فِيهِ أَشد الْمُنَازعَة. هَذَا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] تَوَجَّهت عَلَيْهِ مناه " تجب " عصمته فِيهَا / [مِنْهَا] قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} . وَقَوله تَعَالَى: {فاستقم كَمَا أمرت} الحديث: 1366 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تتبع أهواءهم} . وَقَالَ تَعَالَى لنوح عَلَيْهِ السَّلَام: {إِنِّي أعظك أَن تكون من الْجَاهِلين} إِلَى غير ذَلِك مِمَّا توجه على الْأَنْبِيَاء، صلوَات الله عَلَيْهِم من ضروب المزاجر، مَعَ وجوب عصمتهم عَنْهَا. 1367 - وَرُبمَا يستدلون بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ فِي حجَّة الْوَدَاع: (لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا، يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض) ، وَرُبمَا استروحوا إِلَى قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (لَا تقوم السَّاعَة إِلَّا على شرار النَّاس) وَقَول: (بَدَأَ الْإِسْلَام غَرِيبا، وَسَيَعُودُ غَرِيبا) ، وَلَا مستروح لَهُم فِي شَيْء مِمَّا ذَكرُوهُ الحديث: 1367 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 من الْآحَاد، الَّتِي لَا تكَاد تبلغ مبلغ الاستفاضة، لَا فِي اللَّفْظ وَلَا فِي الْمَعْنى. فَأَما قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا) ، فَلم يرد بِهِ جَمِيعهم، و " إِنَّمَا " أَرَادَ طَائِفَة مِنْهُم لَا بأعيانهم، ويقوى ذَلِك على نفي الْعُمُوم. 1368 - على أَنا نقُول للنظام: أَلَسْت قلت فِي تَأْوِيل الْأَخْبَار الَّتِي تمسكنا بهَا أَن الْمَعْنى بهَا " فِي " أَن الْأمة لَا تَجْتَمِع على كفر وضلالة؟ فَمَا وَجه احتجاجك الْآن بِهَذَا الْخَبَر؟ 1369 - وَإِن كَانَ الِاحْتِجَاج من الإمامية، فَيُقَال لَهُم: أَلَيْسَ من أصلكم أَن قَول الإِمَام الْمَعْصُوم حجَّة قَاطِعَة؟ وَهُوَ مِمَّن تجب عصمته! فَبِمَ تنكرون أَنه دَاخل تَحت هَذِه المزاجر الَّتِي تمسكتم بهَا؟ فَإِن زَعَمُوا أَن لَا يدْخل تحتهَا، وَهُوَ مُسْتَثْنى مَخْصُوص عَن النَّاس، فَيَنْبَغِي أَن لَا ينكروا منا التَّخْصِيص أَيْضا. 1370 - وَرُبمَا يسْتَدلّ منكروا الْإِجْمَاع، بِمَا قدمنَا من دَعْوَى اسْتِحَالَة الْإِجْمَاع، ووجوه اسْتِحَالَة النَّقْل عَن الْأمة وَإِن تصور إِجْمَاعهم، وَقد استقصينا القَوْل فِي ذَلِك بِمَا فِيهِ بَلَاغ. 1371 - فَإِن قَالُوا: مَا من أحد من أهل الْإِجْمَاع إِلَّا وَهُوَ بصدد الزلل، فَمَا بالهم إِذا اجْتَمعُوا خَرجُوا عَن هَذَا الْجَوَاز؟ وَالْجَوَاب عَن هَذَا أَن نقُول: مَا ذكرتموه يبطل عَلَيْكُم بِنَقْل أهل التَّوَاتُر الْأَخْبَار عَن المشاهدات، فَإِنَّهُ ثَبت صدقهم ضَرُورَة - والنظام لَا يُنكر ذَلِك - وكل وَاحِد مَوْصُوف بِأَنَّهُ لَو انْفَرد بِالنَّقْلِ جَازَ عَلَيْهِ. الحديث: 1368 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 1372 - ثمَّ نقُول: خبرونا، هَل فِي مقدورات الرب تَعَالَى أَن يعْصم الْأمة إِذا اتّفقت، مَعَ أَن حيدها عَن الْحق من قبيل المقدورات؟ فَإِن قَالُوا: ذَلِك فِي الْمَقْدُور. قُلْنَا: فَلَا نستنكره إِذا دلّت عَلَيْهِ الدّلَالَة. (244) فصل (فِي أَن الْإِجْمَاع إِذا ثَبت فَيجب اتِّبَاعه) 1373 - فَإِن قَالَ قَائِل: إِن سلم لكم مَا ادعيتموه من أَن مَا اجْتمعت عَلَيْهِ الْأمة صَوَاب حق، فَلم قُلْتُمْ: إِنَّه يجب اتباعهم؟ وَرب صَوَاب يصدر، وَلَا يجب اتِّبَاع صَاحبه فِيهِ؟ قَالُوا: وَهَذَا كَقَوْلِهِم: إِن كل مُجْتَهد مُصِيب ثمَّ لَا يجب اتِّبَاع كلهم، وَكَذَلِكَ الْمُسَافِر، يُصِيب فِي اسْتِبَاحَة الرُّخص، وَلَا يتبعهُ الْمُقِيم، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يكثر عده. قُلْنَا: كل مَا قدمْنَاهُ من الْأَدِلَّة على إِثْبَات الْإِجْمَاع، فَهُوَ مَبْنِيّ على وجوب الِاتِّبَاع. وَأما قَوْله تَعَالَى: {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} فصريح فِي الْأَمر بالاتباع، كَمَا قدمْنَاهُ وَكَذَلِكَ الْأَخْبَار الَّتِي اعتصمنا بهَا. " فَلم نقل " إِن الْأمة يجب اتباعها لكَون مَا اجْتمعت عَلَيْهِ حَقًا، ليلزمنا مَا قلتموه. 1374 - ثمَّ نقُول: إِذا ثَبت إِجْمَاع الْأمة لَا يكون إِلَّا على صَوَاب، الحديث: 1372 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 فمما اجْتمعت عَلَيْهِ، وجوب الِاتِّبَاع عِنْد تَقْدِير الِاجْتِمَاع، فَإِن النَّاس حزبان: مِنْهُم من يُنكر الْإِجْمَاع، وَيَزْعُم أَن مَا أجمع [عَلَيْهِ] أهل الْإِجْمَاع، يجوز أَن يكون خطأ، وَمِنْهُم من يقطع بِكَوْنِهِ صَوَابا. وَلَا قَائِل / بِأَنَّهُ صَوَاب غير متتبع فالمصير إِلَى تثبيت الصَّوَاب، مَعَ القَوْل بِنَفْي وجوب الِاتِّبَاع، إِحْدَاث قَول ثَالِث، مفض إِلَى خرق " الْإِجْمَاع " فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. ((245) القَوْل فِي أَوْصَاف المجمعين وَذكر من يعد خِلَافه، وَمن لَا يعد خِلَافه) 1375 - اعْلَم، وفقك الله، أَن الِاعْتِبَار فِي الْإِجْمَاع بعلماء الْأمة، حَتَّى لَو قَدرنَا من وَاحِد من الْعَوام، اخْتِلَاف مَا عَلَيْهِ الْعلمَاء، لم يكترث بِخِلَافِهِ، وَهَذَا ثَابت اتِّفَاقًا وإطباقا. إِذْ لَو قُلْنَا: إِن " خلاف " الْعَوام يقْدَح فِي الْإِجْمَاع - مَعَ أَنهم لَا يَقُولُونَ مَا يَقُولُونَ إِلَّا عَن جهل وحدس، وَلَا يصدرون " أَقْوَالهم عَن الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة - أفْضى هَذَا الى اعْتِبَار خلاف من يعلم أَنه قَالَ مَا قَالَه عَن غير أصل وَدَلِيل، على أَن الْأمة أَجمعت علماؤها وعوامها أَن خلاف الْعَوام لَا مُعْتَبر بِهِ، وَقد مر على هَذَا الْإِجْمَاع عصر، فَثَبت الحديث: 1375 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 بِمَا قُلْنَاهُ أَلا مُعْتَبر بِخِلَاف الْعَوام. 1376 - فَإِن قَالَ قَائِل: فَإِذا أجمع عُلَمَاء الْأمة على حكم من الْأَحْكَام، فَهَل تطلقون القَوْل، بِأَن الْأمة مجمعة عَلَيْهِ، أَو مَا قَوْلكُم فِيهِ؟ قُلْنَا: من الْأَحْكَام، مَا يحصل فِيهِ اتِّفَاق الْخَاص وَالْعَام، نَحْو وجوب الصَّلَوَات وَوُجُوب أصل الزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج " وَغَيرهَا " من أصُول الشَّرِيعَة، فَمَا هَذَا وَجهه، فيطلق القَوْل، بِأَن الْأمة أَجمعت عَلَيْهِ. وَأما مَا أجمع عَلَيْهِ الْعلمَاء من أَحْكَام الْفُرُوع الَّتِي تشذ عَن الْعَوام، فقد اخْتلف أَصْحَابنَا فِي ذَلِك: فَقَالَ بَعضهم: الْعَوام " مدخولون " فِي حكم الْإِجْمَاع، وَذَلِكَ أَنهم وَإِن لم يعرفوا تَفْصِيل الْأَحْكَام، فقد عرفُوا على الْجُمْلَة، أَن مَا أجمع عَلَيْهِ عُلَمَاء الْأمة فِي تفاصيل الْأَحْكَام، فَهُوَ حق مَقْطُوع بِهِ، فَهَذَا وَجه مساهمة مِنْهُم فِي الْإِجْمَاع، وَإِن لم يعلمُوا مواقعه على التَّفْصِيل. الحديث: 1376 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 وَمن أَصْحَابنَا من زعم أَنهم لَا يكونُونَ مساهمين فِي الْإِجْمَاع، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يتَحَقَّق الْإِجْمَاع فِي التفاصيل بعد الْعلم بهَا، فَإِذا لم يَكُونُوا عَالمين بهَا. فَلَا يتَحَقَّق كَونهم من أهل الْإِجْمَاع فِيهَا. 1377 - وَاعْلَم أَن هَذَا اخْتِلَاف يهون أمره، ويؤول إِلَى عبارَة مُحصنَة، وَالْجُمْلَة فِيهِ أَنا إِذا أدرجنا الْعَوام فِي حكم الْإِجْمَاع، فنطلق القَوْل بِإِجْمَاع الْأمة، وَإِن لم ندرجهم فِي حكم الْإِجْمَاع، أَو بدر من بعض طوائف الْعَوام خلاف فَلَا يُطلق القَوْل بِإِجْمَاع الْأمة، فَإِن الْعَوام مُعظم الْأمة وكثرها، بل نقُول: أجمع عُلَمَاء [الْأمة] . 1378 - فَإِن قيل: هَل تجوزن أَن يجمع عُلَمَاء الْأمة على حكم من الْأَحْكَام من غير دَلِيل؟ قُلْنَا: هَذَا مِمَّا لَا يجوز بل نحيله، وَذَلِكَ أَن الْأمة أَجمعت على أَنه لَا يجوز إِثْبَات حكم فِيهِ من غير دَلِيل، فَلَو جَوَّزنَا إِجْمَاعهم من غير دَلِيل " خطئَ " إِجْمَاعًا. الحديث: 1377 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 (246) فصل (هَل الِاعْتِبَار فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع بجملة الْعلمَاء أم يخْتَص ببعضهم؟) 1379 - إِذا ثَبت بِمَا قدمْنَاهُ، أَن الْعبْرَة فِي الْإِجْمَاع بعلماء الْأمة، وهم الَّذين يقْدَح خلافهم، وَيمْنَع من انْعِقَاد الْإِجْمَاع. فَلَو قَالَ قَائِل: أفتعتبرون جملَة الْعلمَاء فِيمَا ذكرتموه، أَو تخصصونه بطَائفَة مِنْهُم؟ قُلْنَا: قد اخْتلف أَرْبَاب الْأُصُول فِي ذَلِك: فَذهب شرذمة مِنْهُم فِي جمع من الْفُقَهَاء إِلَى أَن أهل الْإِجْمَاع فِي أَحْكَام الشَّرْع، هم الَّذين تصدوا للْفَتْوَى، واستجمعوا شرائطها. وَقَالَ آخَرُونَ: الْعبْرَة فِي الْفُقَهَاء، المنفردين بِحِفْظ مسَائِل الْفُرُوع. 1380 - قَالَ / القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالَّذِي يَصح فِي ذَلِك عندنَا: أَن من لم ينْتَصب للْفَتْوَى، و " لم يتَصَدَّى " لجمع مسَائِل الْفُرُوع - وَلَكِن لما كَانَ من الْعَالمين بأصول الديانَات، وأصول الْفِقْه، وَكَانَ يعلم مواقع الْأَدِلَّة وموجبها، وَوجه إفضائها إِلَى الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، وطرق الاستنباط، ووجوه التَّرْجِيح عِنْد تعَارض الْأَدِلَّة، وَتَقْدِيم بَعْضهَا عِنْد التباس الْحَال، فَهُوَ من أهل الْإِجْمَاع، وَيعْتَبر خِلَافه ووفاقه. الحديث: 1379 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 1381 - وَالدَّلِيل على ذَلِك: أَنا قد ثبتنا الْإِجْمَاع بقوله عز أُسَمِّهِ: {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} [و] بالأخبار الَّتِي نقلناها وَلَيْسَ فِي قَضِيَّة مَا أَقَمْنَا من الْأَدِلَّة، تَخْصِيص أهل الْفَتْوَى. أَو تَخْصِيص حفظه الْفُرُوع، وَلَوْلَا قيام الْإِجْمَاع، لأدرجنا الْعَوام فِي حكم الْإِجْمَاع، وَلَكِن لما ثَبت بِدلَالَة الْإِجْمَاع أَنه لَا مُعْتَبر بِخِلَاف الْعَوام، لم نعتبرهم، وَبَقِي الْعلمَاء من غير تَخْصِيص فِي حكم الْإِجْمَاع. 1382 - وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك: أَن أهل الْإِجْمَاع، هم الَّذين سهل عَلَيْهِم مدرك المشكلات، وَيتَصَوَّر مِنْهُم التَّوَصُّل إِلَيْهَا على يسر، وَأهل الْأُصُول بِهَذِهِ المثابة، فَإِنَّهُم إِذا علمُوا طرق الِاجْتِهَاد وَوجه التَّمَسُّك بأصول الشَّرِيعَة، فَلَا يعجزهم إِذا عنت حَادِثَة، أَن يعرفوا وُجُوه الْمذَاهب فِيهَا فِي " أدنى مَا يقدر ". ثمَّ تكون معرفتهم بطرق الِاجْتِهَاد فَوق معرفَة الْفُقَهَاء " غير " " المحظوظين " بالأصول، ومنزلة الْأُصُولِيِّينَ فِي ذَلِك منزلَة فَقِيه، تشذ عَلَيْهِ مَسْأَلَة، فيطالعها ويتتبعها ويردها إِلَى حفظه. فَثَبت لما قُلْنَاهُ: أَن أَرْبَاب الْأُصُول مِمَّن يستضاء بآرائهم فِي طرق الِاجْتِهَاد وتوصلهم إِلَى أَحْكَام الْفُرُوع، مَعَ " ذهابهم " عَن بعض الْفُرُوع الحديث: 1381 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 " الحفظية "، أقرب من توصل الْفُقَهَاء، مَعَ ذهابهم عَن أسرار الْأُصُول وحقائق الِاجْتِهَاد. 1383 - وَمن أوضح مَا يدل على ذَلِك، أَنا نعلم أَن الصَّحَابَة، كَانُوا يعتبرون خلاف من لم يشْهد مِنْهُ فِي الصَّحَابَة تعيد للْفَتْوَى، نَحْو الزبير وَطَلْحَة وَغَيرهمَا من عُلَمَاء الصَّحَابَة الَّذين لم يشْهد عَنْهُم الانتصاب للْفَتْوَى، كَمَا اشْتهر عَن الْخُلَفَاء ومعاذ وَابْن مَسْعُود وَغَيرهم، ثمَّ كَانُوا يعتبرون خلاف من عداهم. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك، إِيقَاع عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَطَلْحَة وسعدا فِي الشورى ورتب الْإِمَامَة الْعُظْمَى، فوضح بذلك مَا قُلْنَاهُ. الحديث: 1383 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 1384 - فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَل يسوغ لأرباب الْأُصُول إِذا قَالَ الْفُقَهَاء قولا، أَن يقلدوهم فِيمَا قَالُوهُ، من غير تفحص وَتَحْقِيق؟ قُلْنَا: لَو فعلوا ذَلِك مَعَ الْقُدْرَة على الفحص على طَرِيق الِاجْتِهَاد، لم يَكُونُوا معذورين، بل عَلَيْهِم بذل " كنه " الحديث: 1384 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 المجهود، ويستقصى القَوْل فِي ذَلِك عِنْد ذكرنَا التَّقْلِيد، وتجويز اتِّبَاع الْعَالم الْعَالم، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. (247 فصل ) (من تَقْتَضِي الْأَدِلَّة تكفيره، فَلَا يكترث بِخِلَافِهِ ووفاقه) 1385 - اعْلَم، وفقك الله، أَن من أَجمعت الْأمة على تكفيره وانسلاله عَن الدّين، فَلَا مُعْتَبر بِخِلَافِهِ ووفاقه. فَأَما الَّذين اقْتَضَت الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة تكفيرهم بِمَا اعتقدوه وأبدعوه، وَرُبمَا لَا يدْرك وَجه تكفيرهم إِلَّا المميزون بِعلم الْأُصُول - فَإِن التَّكْفِير مِمَّا يدق النّظر فِيهِ - فَمَا حكمهم؟ وَهل يعْتد بخلافهم ووفاقهم؟ 1386 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: من تَقْتَضِي الْأَدِلَّة تكفيره، فَلَا يكترث بِخِلَافِهِ ووفاقه أصلا، فَإِنَّهُ قد وضح بالأدلة خُرُوجه عَن الدّين، فلحق / بالكفار الْمُجَاهدين بالْكفْر، وَهَذَا ثَبت إِجْمَاعًا، فَإِن الْأمة مجمعة، على أَن من ثَبت كفره، لَا يعْتد بِخِلَافِهِ فِي الْمسَائِل " الْحكمِيَّة ". الحديث: 1385 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 1387 - فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا اعتبرتم فِي التَّكْفِير الْإِجْمَاع؟ حَتَّى لَا تكفرُوا إِلَّا من أَجمعت الْأمة على تكفيره. قُلْنَا: الْكَلَام فِي التَّكْفِير يطول تتبعه، وَهُوَ مِمَّا يستقصى فِي الديانَات. وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك: أَن من وضح عِنْده كفر قوم بِالدّلَالَةِ الْعَقْلِيَّة، فَلَا تحْتَاج الدّلَالَة الْعَقْلِيَّة إِلَى الاعتضاد بِالْإِجْمَاع. 1388 - فَإِن قَالَ قَائِل: فمعظم الْفُقَهَاء الَّذين لم يحيطوا بالأصول، لَا يكفرون الَّذين يكفرهم المتكلمون، فَهَل تَقولُونَ: إِن الَّذين لم يحيطوا علما بتكفيرهم مخاطبون مكلفون بالاعتقاد بخلافهم، وَالَّذين علمُوا من الْمُتَكَلِّمين وَجه تكفيرهم، فَلَا يعتدون بخلافهم؟ الحديث: 1387 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 1389 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: ذكرنَا فِي بعض مصنفاتنا أَنا لَو قُلْنَا بذلك، لم يبعد حَتَّى نقُول: من أحَاط علما بِمَا يَقْتَضِي تَكْفِير قوم، فَهُوَ يقطع أَنه لَا يعْتد بخلافهم وَمن ذهب عَنهُ مدرك ذَلِك من عُلَمَاء الْأمة، فَهُوَ مُخَاطب بالاعتداد بخلافهم، وَهَذَا كَمَا أَن من بلغه النَّاسِخ، فَهُوَ مُخَاطب بِحكمِهِ، وَمن لم يبلغهُ النَّاسِخ، فَيجب عَلَيْهِ الْإِصْرَار على الحكم. 1390 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: ثمَّ وضح عندنَا أَن ذَلِك محَال، فَإِن من دلّت الدّلَالَة على وجوب تكفيره، فَلَا يعْتَبر بِخِلَافِهِ فِي جملَة وَلَا تَفْصِيل، وَأما الْفُقَهَاء الَّذين ذهب عَنْهُم مدرك ذَلِك، فَلَا يخاطبون بالاعتداد بخلافهم، وَلَكنهُمْ مخاطبون بِأَن يَجدوا ويجتهدوا فِي مدرك أَوْصَاف من يعْتد " خِلَافه " ووفاقه، وليعلموا مَا يَقع بِهِ التَّكْفِير، ليتميز الْمَقْصد فِي ذَلِك، فَإِن هَذَا مَا يقدر عَلَيْهِ ويتوصل إِلَيْهِ، إِذْ لَو لم نقل ذَلِك، لزمنا أَن نقُول: قد ينْعَقد الْإِجْمَاع مَقْطُوعًا بِهِ فِي حق الْمُتَكَلِّمين، وَهُوَ غير مَقْطُوع مُنْعَقد فِي حق الْفُقَهَاء، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ، فَإِن الْإِجْمَاع لَا يَتَبَعَّض فِي انْعِقَاده وَلَيْسَ كَذَلِك الَّذِي لم يبلغهُ النَّاسِخ، فَإِنَّهُ غير مقتدر على الْوُصُول إِلَيْهِ، وَالْفُقَهَاء موصوفون بالاقتدار على الْوُصُول إِلَى مُوجب التَّكْفِير، فليجدوا فِيهِ وليحضوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُم " موصوفون " بالاقتدار عَلَيْهِ على قرب، حَتَّى لَا " يضْطَر " إِلَى تبعيض حكم الْإِجْمَاع، فَيحكم من خص بالأصول بانعقاد الْإِجْمَاع فِي مَسْأَلَة لَعَلَّه بِأَنَّهُ لم يبْق فِيهَا إِلَّا الَّذين تَقْتَضِي الحديث: 1389 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 دلَالَة الْعقل تكفيرهم. وَيحكم الَّذين لم يتدبروا مَا يَقع بِهِ التَّكْفِير، بِأَن الْإِجْمَاع لم ينْعَقد بعد. وَكَذَلِكَ من الْمَعْنى أَوجَبْنَا على الْفُقَهَاء تتبع مَا يُوجب التَّكْفِير، حَتَّى لَا يتوقفوا فِي الحكم بانعقاد الْإِجْمَاع فِي أَمْثَال هَذِه الصُّورَة. 1391 - فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا الَّذِي يُوجب التَّكْفِير؟ قُلْنَا: هَذَا لَا مطمع فِي تَقْرِيره فِي هَذَا الْفَنّ. 1392 - فَإِن قيل: أَفَرَأَيْتُم لَو صَار صائرون من الَّذين " تكفرونهم " إِلَى مَذْهَب يُخَالف مَا عَلَيْهِ الْبَاقُونَ، ثمَّ إِنَّهُم تَابُوا وأنابوا وَرَجَعُوا عَمَّا يُوجب تكفيرهم، وهم مصرون على الْمَذْهَب الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، فَهَل يقْدَح ذَلِك الْآن فِي الْإِجْمَاع؟ قُلْنَا: لَا يقْدَح ذَلِك فِي الْإِجْمَاع، وَذَلِكَ أَن الْإِجْمَاع قد انْعَقَد قبل إنابتهم. فَلَا مُعْتَبر بمذهبهم. وَعَلِيهِ مُوَافقَة مَا عَلَيْهِ الْأمة، وَهَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيم على قَوْلنَا إِن انْقِرَاض الْعَصْر لَا يشْتَرط فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع - على مَا سنوضحه بعد ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى /. الحديث: 1391 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 (248 فصل ) (هَل عدد التَّوَاتُر شَرط فِي المجمعين) 1393 - فَإِن قَالَ قَائِل: أَفَرَأَيْتُم لَو غلب الْكفْر - وَالْعِيَاذ بِاللَّه - فِي آخر الزَّمَان كَمَا وعده رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَلم يبْق من الْمُؤمنِينَ إِلَّا شرذمة قَليلَة، بِحَيْثُ لَو نقلوا خَبرا فِيمَا شاهدوه، لم يقتض الْعلم الضَّرُورِيّ، إِذْ لم يبلغُوا أقل عدد التَّوَاتُر، فَهَل يتَصَوَّر مِنْهُم الْإِجْمَاع - وَهَذَا وَصفهم؟ [و] هَل يقطع بِأَن مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ حق؟ قَالُوا: فَإِن قُلْتُمْ: مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ حق - وَالْمَسْأَلَة مَفْرُوضَة فِي الصُّورَة الَّتِي ذَكرنَاهَا - أدّى ذَلِك إِلَى محَال، وَهُوَ أَن المجمعين لَو أخبروا عَن أنفسهم بِالْإِيمَان والإيقان، لم يَقع لنا الْعلم بصدقهم فِي أصل الْإِيمَان، لعلمنا بقصورهم عَن مبلغ عدد التَّوَاتُر: فَإِذا كُنَّا نستريب فِي إِيمَانهم، فَكيف نقطع القَوْل بِأَن مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ حق؟ وَإِن قُلْتُمْ إِنَّه لَا حكم لاتفاقهم، فقد الحديث: 1393 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 جوزتم أَن " يَخْلُو " عصر من الْأَعْصَار عَن أهل الْإِجْمَاع. قُلْنَا: هَذَا مِمَّا اخْتلف فِيهِ أَصْحَابنَا قَدِيما وحديثا، فَذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَن أهل الْإِيمَان لَا يرجعُونَ إِلَى الْعدَد الَّذِي ذكرتموه، إِذْ قد ثَبت بالأدلة القاطعة وَإِجْمَاع الْأمة أَن أهل هَذِه الْملَّة لَا ينقرضون، إِلَى أَن ينْفخ فِي الصُّور. وَقد قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين بِالْحَقِّ، لَا يضرهم خلاف من خالفهم) فعلى هَذَا لَا يجوز أَن يَخْلُو عصر من الْأَعْصَار عَن طَائِفَة من الْمُؤمنِينَ يبلغون عدد أهل التَّوَاتُر، فَسقط مَا قَالُوهُ على هَذَا الْمَذْهَب. وَمن أَصْحَابنَا من جوز رُجُوع أهل الْملَّة فِي آخر الزَّمَان إِلَى عدد لَا يبلغون عدد التَّوَاتُر، ثمَّ هَؤُلَاءِ أَجمعُوا على أَنهم - وَإِن رجعُوا الى هَذَا الْعدَد - فَمَا أَجمعُوا عَلَيْهِ، حجَّة قَاطِعَة عِنْد الله. حَتَّى لَا يَخْلُو الزَّمَان عَن حجَّة قَائِمَة. 1394 - وَأما مَا ذَكرُوهُ من أَنهم لَو أخبروا عَن أنفسهم بِالْإِيمَان، لم نعلم حَقِيقَة صدقهم، فَكيف نعلم ثُبُوت مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ مَعَ الاسترابة فِي إِيمَانهم؟ الْجَواب عَن ذَلِك أَن نقُول: إِذا جَوَّزنَا رُجُوع أهل الْملَّة الى الْعدَد الَّذِي وصفتموه، فَإِنَّمَا يكون ذَلِك فِي آخر الزَّمَان، عِنْد ظُهُور الحديث: 1394 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 " أَشْرَاط " السَّاعَة وبدو آيَات قِيَامهَا، فَلَا يبعد حِينَئِذٍ - وَقد ظَهرت الْآيَات و " بدا " انخراق الْعَادَات - أَن يخرق الله الْعَادة فِي أَمر التَّوَاتُر، حَتَّى إِذا أخبروا عَن أنفسهم، أَو عَن غَيرهَا من المشاهدات: أوجب ذَلِك الصِّحَّة فِيمَا نقلوه، على خلاف الْعَادة " أَيْضا ". 1395 - وَإِن استنكر السَّائِل انخراق الْعَادة، قُلْنَا: فَنحْن إِنَّمَا نجوز مَا قلتموه فِي الْوَقْت " الَّذِي " تنخرق فِيهِ الْعَادَات بِالْآيَاتِ، نَحْو خُرُوج الدَّجَّال ودابة الأَرْض وَمَا أشبههما. فَهَذَا مَا يجب تَحْصِيله فِي هَذَا الْبَاب. الحديث: 1395 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 (249 فصل ) (هَل الْإِجْمَاع حجَّة فِي الاعتقادات، كالشرعيات؟) 1396 - فَإِن قيل: فَإِذا حكمتم بِأَن الْإِجْمَاع حجَّة قَاطِعَة، فَهَل تقبلونها فِي كل مَوضِع؟ وَهل تقيمون الْحجَّة بِالْإِجْمَاع فِي الديانَات وأصول الاعتقادات، كَمَا أقمتم ذَلِك فِي الشرعيات؟ فصلوا قَوْلكُم فِي ذَلِك. قُلْنَا: مَا يجب التعويل عَلَيْهِ أَن نقُول: كل مَا [لَا] يتَصَوَّر ثُبُوت الْإِجْمَاع وَالْعلم بِصِحَّتِهِ، إِلَّا مَعَ تقدم الْعلم بِهِ، فانعقاد الْإِجْمَاع لَا يكون حجَّة فِيهِ. وَذَلِكَ نَحْو معرفَة الصَّانِع، وَثُبُوت صِفَاته الَّتِي تدل عَلَيْهَا الْأَفْعَال، وَكَذَلِكَ ثُبُوت النبوات، فَهَذَا الْقَبِيل، مَا لَا يكون انْعِقَاد الْإِجْمَاع فِيهِ حجَّة، وَذَلِكَ أَن الْإِجْمَاع لَا يثبت إِلَّا سمعا، وَلَا دَلِيل فِي الْعقل عَلَيْهِ، وَلَا تثبت / الدّلَالَة السمعية إِلَّا بعد الْعلم بالصانع والنبوات، فَكيف يتَصَوَّر كَون الْإِجْمَاع حجَّة فِي هَذِه الْأُصُول، مَعَ الْعلم بِأَن الْإِجْمَاع لَا يتَصَوَّر أَن يعلم إِلَّا بعد تقدم هَذِه المعارف؟ وَالَّذِي يُوضح ذَلِك: أَنه لَا يسوغ الِاحْتِجَاج بِكِتَاب الله تَعَالَى فِي هَذِه الحديث: 1396 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 الْأُصُول إِذْ لَا نعلم صِحَة الْكتاب، إِلَّا بعد تقدم الْعلم بهَا. ((250) القَوْل فِي إِجْمَاع كل عصر وتبيين بطلَان) (اخْتِصَاص حكم الْإِجْمَاع فِي عصر دون عصر) 1397 - اعْلَم، وفقك الله، أَن مَا صَار إِلَيْهِ " الدهماء " من الْعلمَاء الْقَائِلين بِالْإِجْمَاع: أَن الْإِجْمَاع لَا يخْتَص بِأَهْل الصَّدْر الأول، وَلَكِن لَو اجْتمع التابعون على حكم، لقامت الْحجَّة بإجماعهم، كَمَا تقوم بِإِجْمَاع الصَّحَابَة، وَهَكَذَا كل عصر بعدهمْ. 1398 - وَذهب دَاوُد وَمن تبعه من أهل الظَّاهِر، إِلَى أَن الْإِجْمَاع الَّذِي تقوم بِهِ الْحجَّة، يخْتَص بالصحابة، فَلَا إِجْمَاع بعدهمْ. 1399 - وَالدَّلِيل على فَسَاد مَا قَالُوهُ أَن نقُول: الْإِجْمَاع لَا يثبت عقلا أصلا، وَإِنَّمَا الدَّلِيل عَلَيْهِ السّمع، وكل مَا دلّ على إِجْمَاع الصَّحَابَة، فَهُوَ بِعَيْنِه دَال على إِجْمَاع غَيرهم. الحديث: 1397 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 وكل مَا رام بِهِ الْخصم قدحا فِي إِجْمَاع بعض أهل الْأَعْصَار فَذَلِك يتداعى إِلَى إِجْمَاع الصَّحَابَة. وإيضاح ذَلِك: أَن من الْأَدِلَّة على الْإِجْمَاع، قَوْله تَعَالَى: {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} . وَهَذَا اسْم لَا يخْتَص بالصدر الأول، بل يتَحَقَّق فِيمَن بعدهمْ تحَققه فيهم. 1400 - فَإِن قَالُوا: فَهَذِهِ الْآيَات من أوضح الْحجَج وأثبتها على اخْتِصَاص الْإِجْمَاع بهم وَذَلِكَ أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي زمانهم، فَانْطَلق عَلَيْهِم اسْم " الْمُؤمنِينَ " على التحقق، إِذْ كَانُوا يَوْمئِذٍ موجودين، وَمن عداهم وسواهم لم يَكُونُوا موجودين يَوْمئِذٍ، ليسموا مُؤمنين، فَمن هَذَا الْوَجْه لزم تَخْصِيص الْإِجْمَاع بهم. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه ظن مِنْكُم، وَذَلِكَ أَنه لَيْسَ الْمَقْصد من سِيَاق الْآيَة مَا وَقع لكم، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود مِنْهَا تَعْظِيم رُتْبَة الْمُؤمنِينَ من غير تَخْصِيص بِزَمَان. 1401 - وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك: أَنه لَو صَحَّ مَا قلتموه، للزمكم مِنْهُ شَيْئَانِ: أَحدهمَا: أَن تَقولُوا: إِذا اسْتشْهد بعض الصَّحَابَة بعد نزُول الْآيَة، لم ينْعَقد الْإِجْمَاع بالباقين، فَإِنَّهُم بعض الْمُؤمنِينَ، فيلزمكم على هَذَا أَن تَقولُوا: إِذا اسْتشْهد قوم من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم، ثمَّ عنت حَادِثَة أَجمعُوا على حكمهَا، فَلَا حجَّة فِي إِجْمَاعهم! وَمِمَّا يلزمكم على مَا قلتموه من الحديث: 1400 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 تَخْصِيص الْمُؤمنِينَ بالذين كَانُوا مُؤمنين عِنْد نزُول الْآيَة، أَن تَقولُوا لمن أسلم بعد نزُول هَذِه الْآيَة، [و] عاصر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَأدْركَ زَمَانه، وَبلغ أعظم المبالغ فِي الدّين، وَاسْتَجْمَعَ شَرَائِط الْمُجْتَهدين، فَيَنْبَغِي أَن لَا يكون من أهل الْإِجْمَاع. لِأَنَّهُ لم يكن منعوتا بِالْإِيمَان عِنْد نزُول الْآيَة، فَلَمَّا اسْتَحَالَ ذَلِك، تبين أَنه لَيْسَ الْمَقْصد من الْآيَة مَا " ذهبتم " إِلَيْهِ، وَعلمنَا أَن الْمَقْصد من الْآيَة، كل الْمُؤمنِينَ فِي كل الْأَعْصَار. وَمن تدبر ظَاهر الْآيَة حق " التدبر " علم على اضطرار على أَنه لَيْسَ الْمَقْصُود بهَا مَا قَالُوهُ، كَمَا نعلم أَن النَّص " على " النَّهْي عَن التأفيف، مُؤذن بِالنَّهْي عَمَّا فَوْقه من ضروب التعنيف. 1402 - وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ: مَا روى عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: (لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق / لَا يضرهم خلاف من خالفهم) . وكل مَا قدمْنَاهُ من الْأَخْبَار الدَّالَّة، فَلَا تتخصص بعصر دون عصر. 1403 - فَإِن اعتل أهل الظَّاهِر بطرق: مِنْهَا أَن قَالُوا: الصَّحَابَة هم الَّذين عاصروا صَاحب الشَّرِيعَة، وشاهدوا مسْقط الْوَحْي، فهم الأَصْل، دون غَيرهم. وَالْجَوَاب عَن هَذَا أَن نقُول: هَذَا اجتزاء مِنْكُم بِالدَّعْوَى. فَلم قُلْتُمْ، الحديث: 1402 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 وَمَا دليلكم عَلَيْهِ؟ وَمَا لكم اقْتصر على الدَّعْوَى فِيهِ؟ ثمَّ نقُول: فَالَّذِينَ شاهدوا قوما، تقوم بهم الْحجَّة فَيَنْبَغِي أَن تنزل مشاهدتهم إيَّاهُم منزلَة مُشَاهدَة الصَّحَابَة الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ومعاصرتهم إِيَّاه، فَإِن كلا الْفَرِيقَيْنِ أدْرك من تقوم بِهِ الْحجَّة. 1404 - وَرُبمَا يستدلون بظواهر من الْآثَار: نَحْو قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (إِن إصحابي كَالنُّجُومِ) . وَنَحْو قَوْله: (خير النَّاس قَرْني، ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ، ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ، الحديث: 1404 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ، ثمَّ يفشو الْكَذِب، فَيحلف الرجل وَلم يسْتَحْلف) الحَدِيث. قَالُوا: فَهَذَا يدل على الميز بَين الْأَعْصَار. قُلْنَا: لَا مستروح لكم فِيمَا قلتموه، وَذَلِكَ أَن قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (إِن أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ) لم يرد بِهِ التَّعْرِيض إِلَى حكم الْإِجْمَاع. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَنه قَالَ فِي تَمام الحَدِيث: (بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ) على أَن أَكثر مَا فِيهِ أَنه تمسك بِمَفْهُوم الْخطاب، وَقد قدمنَا، من أصلنَا: بطلَان القَوْل بِدَلِيل الْخطاب. 1405 - وَأما قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (خير النَّاس قَرْني) فَهُوَ من أوضح الْأَدِلَّة عَلَيْكُم، وَذَلِكَ أَنه تتبع ذكر الصَّحَابَة بِذكر التَّابِعين، فَقولُوا: إِنَّهُم يحلونَ مَحل الصَّحَابَة عِنْد عدمهم. ثمَّ نقُول " لَيْسَ " الْمَقْصد من الْخَبَر، التَّعَرُّض لإِثْبَات الْإِجْمَاع ونفيه، الحديث: 1405 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 وَإِنَّمَا الْمَقْصُود مِنْهُ، تَبْيِين تفاضل أهل الْأَعْصَار فِي حسن الْعَمَل والمحافظة على الطَّاعَات. وَلِلْقَوْمِ شبه تداني مَا قُلْنَاهُ يسهل مأخذها. (251) فصل (مُخَالفَة التَّابِعِيّ المعاصر للصحابة مُعْتَبرَة) 1406 - إِذا ثَبت مُسَاوَاة أهل الْأَعْصَار، فَلَو خالفوا فِي حكمهَا، لم تبعد مخالفتهم. 1407 - وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَنه لَا يعْتَمد بِخِلَاف التَّابِعِيّ، وَقد أجمع من فِي الْعَصْر من الصَّحَابَة، وَهَذَا ظَاهر الْبطلَان. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ شَيْئَانِ: أَحدهَا: إِن الْإِجْمَاع لم يثبت عقلا، وَإِنَّمَا يثبت سمعا، وكل سمع دلّ على إِجْمَاع الصَّحَابَة، فَهُوَ دَال على الَّذين مَعَهم من التَّابِعين. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك: أَن أحد الْأَدِلَّة عَلَيْهِ، قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} ، وَاسم الْمُؤمنِينَ منطلق على الصَّحَابَة، وعَلى من مَعَهم من التَّابِعين. فَإِن حمل " الْمُؤمنِينَ " على الْجَمِيع، لزم إدخالهم فِي الحديث: 1406 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 المجمعين. وَإِن سَاغَ حمل الْآيَة على بعض الْمُؤمنِينَ، سَاغَ حملهَا على بعض الصَّحَابَة، وَهَذَا مَا لَا محيص لَهُم عَنهُ. 1408 - وَمن أوضح مَا يسْتَدلّ بِهِ أَيْضا: أَن طَائِفَة من التَّابِعين انفردوا، بآراء فِي زمن الصَّحَابَة، وبلغوا مبلغ الْمُجْتَهدين، وتصدوا للْفَتْوَى، وَلم يُنكر الصَّحَابَة عَلَيْهِم الاستعداد بِالِاجْتِهَادِ، وَإِظْهَار الْخلاف لآحاد الصَّحَابَة وجماعتهم، وَذَلِكَ نَحْو شُرَيْح القَاضِي، فَإِنَّهُ كَانَ ينْفَرد بمذاهب يُخَالف فِيهَا عليا وَغَيره من الصَّحَابَة، وَكَذَلِكَ عَلْقَمَة من تلاميذ ابْن مَسْعُود، وَهَذَا أَكثر من أَن يُحْصى. 1409 - فَإِن قَالُوا: أَلَيْسَ قد رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، أَنَّهَا الحديث: 1408 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 قَالَت فِي أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن، لما خَالف أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَقَالَت: " فروج يصقع مَعَ الديكة "، وأعظمت لَهُ القَوْل فِي ذَلِك. قُلْنَا: لَا مُعْتَبر بقول وَاحِد من الصَّحَابَة، فَأكْثر مَا / فِي ذَلِك أَن تقدر عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قائلة بِمَا ذكرتموه. أَو نقُول: لَعَلَّهَا قَالَت مَا قَالَت لمُخَالفَة أبي عبد الرَّحْمَن طرق الْحجَّاج، ولفساد مَا آثره وَاخْتَارَهُ، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 (252) القَوْل فِيمَن يعْتد بِخِلَافِهِ 1410 - اعْلَم، وفقك الله، أَن مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْعلمَاء: أَن خلاف الْوَاحِد والاثنين فَصَاعِدا، يمْنَع انْعِقَاد الْإِجْمَاع، فَلَو اتّفق أهل الْعَصْر فِي حكمه، خلا وَاحِد، فَإِنَّهُ خَالف فِيهِ، فَلَا ينْعَقد الْإِجْمَاع مَعَ خِلَافه. 1411 - وَذهب بعض الْعلمَاء: إِلَى أَن خلاف الْوَاحِد والاثنين لَا يمْنَع انْعِقَاد الْإِجْمَاع، وَلَا مُعْتَبر لخلافهم هَذَا بعد مَا اتّفق غَيرهم، ويؤثر ذَلِك عَن ابْن جرير. وَاخْتلفت الرِّوَايَة فِي الثَّلَاثَة، وَالَّذِي يَصح عَنهُ، أَن كل عدد لَا يبلغون عدد التَّوَاتُر، فَلَو خالفوا، لم يعْتد بخلافهم. الحديث: 1410 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 1412 - وَالدَّلِيل على صِحَة مَا صرنا إِلَيْهِ، مَا قدمْنَاهُ من [أَن] الْإِجْمَاع لَا يثبت بأدلة الْعُقُول، وَإِنَّمَا يثبت سمعا، والأدلة السمعية تَتَضَمَّن قيام الْحجَّة بِإِجْمَاع الْمُؤمنِينَ. فَإِذا خَالف فِي ذَلِك وَاحِد لم يتَحَقَّق اتِّفَاق الْمُؤمنِينَ عُمُوما، وَإِن سَاغَ حمل " الْمُؤمنِينَ " على الْبَعْض، سَاغَ حملهمْ على نصف أهل الْعَصْر أَو معظمهم، مَعَ مُخَالفَة قوم إيَّاهُم تقوم بهم حجَّة التَّوَاتُر. 1413 - فَإِن قَالُوا: فَمن أَدِلَّة الْإِجْمَاع قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق) . قُلْنَا: اعلموا أَن آحَاد " هَذِه " الْأَخْبَار لَا تدل على الْإِجْمَاع، فَإِنَّهَا آحَاد لَا تفضى إِلَى الْقطع، وَإِنَّمَا الدَّال على الْإِجْمَاع، مَجْمُوع الْأَخْبَار، ثمَّ معظمها منبئ عَن استغراق الْمُؤمنِينَ مَعَ انْتِفَاء الِاخْتِصَاص، فَبَطل مَا قَالُوهُ. الحديث: 1412 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 على أَنا نقُول: الْمَعْنى بقوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي) يَعْنِي عُلَمَاء أمته، دون من عداهم من الِاتِّبَاع والعوام. 1414 - وَمن أوضح مَا يسْتَدلّ بِهِ فِي الْمَسْأَلَة أَن نقُول: قد انْفَرد ابْن عَبَّاس وَغَيره من أَئِمَّة الصَّحَابَة، بمخالفة الصَّحَابَة. نَحْو انْفِرَاد ابْن عَبَّاس بمذاهب فِي مسَائِل الْفَرَائِض، كالعول وَنَحْوه. ثمَّ لم يُنكر الصَّحَابَة ذَلِك، وَلم يعدوه خارقا للْإِجْمَاع. وَهَذَا مَا لَا حِيلَة للخصم مَعَه. 1415 - فَإِن قَالُوا: قد أَنْكَرُوا عَلَيْهِ مَا انْفَرد بِهِ، نَحْو إنكارهم عَلَيْهِ الحديث: 1414 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 إحلال الْمُتْعَة وَتَخْصِيص الرِّبَا بِالنَّسِيئَةِ. قُلْنَا: مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ شَيْئا مِمَّا انْفَرد بِهِ لنسبتهم إِيَّاه لخرق الْإِجْمَاع، وَلَكِن حاجوه، وبينوا لَهُ وَجه الْحجَّة فِي تَحْرِيم الْمُتْعَة والربا. فَإِن ابْن عَبَّاس أعظم قدرا من أَن ينتسب إِلَى خرق الْإِجْمَاع مَعَ " عظم " الْخطر فِيهِ، فَإِنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 رُبمَا يبلغ " خطر " [خرق] الْإِجْمَاع مبلغ التَّكْفِير، على مَا سنوضح القَوْل فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. 1416 - فَإِن قَالُوا: مهما انْفَرد بِالْخِلَافِ الْوَاحِد والأثنان. فَنحْن لَا نقطع بإيمَانهمْ، بل نستريب فِي صِحَة " اعْتِقَادهم "، وَالَّذين أَجمعُوا سواهُمَا زائدون على أقل أهل [عدد] التَّوَاتُر، وَنحن نقطع بإيمَانهمْ، فَكيف يقْدَح من نستريب فِي إيمَانه فِي مَذَاهِب جمع نقطع بصدقهم فِي إخبارهم " عَن " إِيمَانهم؟ وَهل نَحن فِي ذَلِك - لَو قُلْنَا بِهِ - إِلَّا بِمَنْزِلَة من يقْدَح فِي الْخَبَر المستفيض الْمُتَوَاتر لخَبر الْوَاحِد؟ قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه لَا حجَّة فِيهِ من أوجه: أَحدهَا: أَن الَّذِي وَقع فِيهِ الْخلاف، مِمَّا لَا نقطع فِيهِ بصدقهم مَعَ خلاف من خالفهم، وَإِن كَانَ وَاحِدًا. فثبوت صدقهم على الْقطع فِي إِيمَانهم / لَا يُنبئ عَن مثل ذَلِك فِيمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ تحريا واجتهادا، فَلَو كَانَ الِاخْتِلَاف مصورا فِي مَنْقُول عَن مُشَاهدَة، لَكَانَ الْأَمر على مَا ادعيتموه. 1417 - ثمَّ نقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه لَا يَسْتَقِيم. إِذْ لَو اخْتلفت طَائِفَتَانِ من الْأمة، وَبلغ عدد كل وَاحِدَة مِنْهُمَا مبلغ أهل عدد التَّوَاتُر، فَيصح الحديث: 1416 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 هَذَا الِاخْتِلَاف. وَإِن كُنَّا نقطع بِإِيمَان كل وَاحِدَة من الطَّائِفَتَيْنِ، فَلَو كَانَ سَبِيل الِاخْتِلَاف فِي مثل ذَلِك " متلقى " من الْأَخْبَار، لما تصور الِاخْتِلَاف فِي الصُّورَة الَّتِي فَرضنَا الْكَلَام فِيهَا، إِذْ لَا يتَصَوَّر أَن ينْقل أهل [أحد] جَانِبي بَغْدَاد شَيْئا عَن مُشَاهدَة، من غير ظُهُور سَبَب يحملهم عَلَيْهِ، وينقل أهل الْجَانِب الثَّانِي ضد ذَلِك عَن سَبَب يحملهم عَلَيْهِ، فَبَطل اعْتِبَار الِاخْتِلَاف فِي مواقع الْإِجْمَاع " وَغَيرهَا " بِثُبُوت الصدْق عِنْد النَّقْل " عَن " المحسوسات والمشاهدات. 1418 - فَإِن قيل: فَإِذا كَانَ لَا يعْتَبر حكم الْإِجْمَاع بِثُبُوت الصدْق فِي الْإِخْبَار عَن المشاهدات، أفتجوزون على ذَلِك أَن يجمع الله الْأمة على حكم، وهم لَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِك بَاطِنا، كَمَا " أبدوه " ظَاهرا؟ قُلْنَا: هَذَا مِمَّا لَا يجوز فِي مُسْتَقر الْعَادة من غير سَبَب يحملهم عَلَيْهِ، فَإِنَّهُم أخبروا عَن معتقداتهم، ومعتقد الْمَرْء ثَابت " عِنْده " ضَرُورَة. فَلَا سَبِيل إِلَى أَن ينْقل أهل التَّوَاتُر عَمَّا علموه من أنفسهم ضَرُورَة، وتتفق آراؤهم عَلَيْهِ فِي اطراد الْعَادة من غير " سَبَب " يحملهم عَلَيْهِ. 1419 - فَإِن قَالُوا: فاتفاقهم على كَون مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ حَقًا لَيْسَ بإنباء الحديث: 1418 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 عَن محسوس. بل هُوَ إِسْنَاد مِنْهُم القَوْل إِلَى اجْتِهَاد أَو خبر من أَخْبَار الْآحَاد، فجوزوا أَن يزلوا فِي ذَلِك ويضلوا. قُلْنَا: لَو " رددنا " إِلَى الْمَعْقُول لم يستنكر ذَلِك أصلا، وَلَكِن ثَبت بالأدلة القاطعة كَون مَا أَجمعت عَلَيْهِ الْأمة حجَّة قَاطِعَة، فَلَا يتَحَقَّق ذَلِك مَعَ خلاف وَاحِد، فَصَاعِدا. 1420 - فَإِن استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، أَنه قَالَ: (عَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم) . فَلم يشْتَرط فِي الِاتِّبَاع اتِّفَاق الكافة، بل اكْتفى بالجماهير والمعظم. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه من أَخْبَار الْآحَاد، وَلَا يحسن التَّمَسُّك بِهِ فِي القطعيات. 1421 - فَإِن قَالُوا: ألستم استدللتم بِهِ فِي إِثْبَات أصل الْإِجْمَاع؟ قُلْنَا: مَا استدللنا بِخَبَر وَاحِد، وَلَكِن نقلنا جملَة من الْأَخْبَار، وادعينا استفاضة مَعْنَاهَا، وَإِن لم يستفض كل لَفْظَة على حيالها، فَإِذا أردتم تَحْدِيد لَفْظَة وتخصيصها بالاستدلال، " لكنتم " معتصمين بالآحاد. الحديث: 1420 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 1422 - على أَنا نقُول: قد وافقتمونا أَن الْألف فَصَاعِدا. لَو خالفوا فِي حكم مَسْأَلَة، لم يثبت الْإِجْمَاع، وَإِن كَانَ الَّذين اتَّفقُوا الآفا مؤلفة، وَهُوَ السوَاد الْأَعْظَم، وَقَوْلنَا فِي خلاف الْوَاحِد والاثنين كقولكم فِي هَذِه الصُّورَة. 1423 - على أَنا نقُول: لَيْسَ الْمَعْنى بقوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (عَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم) التَّعَرُّض للْإِجْمَاع وَالِاخْتِلَاف الرَّاجِع إِلَى مسَائِل الْفُرُوع الَّتِي الِاخْتِلَاف فِيهَا رَحْمَة، وَإِنَّمَا أَرَادَ بذلك مُلَازمَة جمَاعَة الْأمة، وَترك اقْتِضَاء المبتدعة فِي عقائدها. وَقد قيل: إِنَّه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَرَادَ بذلك إِيجَاب اتِّبَاع الشاردين الخارجين عَن طَاعَة الإِمَام، فَبَطل استدلالهم. وَتبين أَن الَّذِي تمسكوا [بِهِ] عرضة للتأويلات /. (253) القَوْل فِي اعْتِبَار الانقراض (فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع وَذكر الِاخْتِلَاف فِيهِ) 1424 - اخْتلف الأصوليون فِي أَن أهل الْعَصْر إِذا اجْمَعُوا على حكم حَادِثَة، وَقَطعُوا القَوْل بِهِ، فَهَل تقوم حجَّة الْإِجْمَاع قبل انْقِرَاض المجمعين؟ 1425 - فَذهب بعض النَّاس إِلَى أَن الْحجَّة " لَا تقوم " إِلَّا عِنْد انْقِرَاض المجمعين وتفانيهم، وَمَا داموا باقين، فيسوغ الْخلاف من بَعضهم، وَمن طَائِفَة يبلغون بعد إِجْمَاعهم مبلغ الْعلمَاء. الحديث: 1422 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 1426 - وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فِي أَنه هَل يتَصَوَّر من المجمعين أَن " ينصرفوا " بأجمعهم عَمَّا أَجمعُوا عَلَيْهِ ويتفقوا على ضِدّه؟ فَمنهمْ من لم يجوز ذَلِك، وَلَكِن جوز أَن يرجع مِنْهُم طَائِفَة، فَأَما رُجُوع الْكل، فَلَا يسوغ. فَمنهمْ من جوز رُجُوع الْكل، وَهُوَ قِيَاس هَذَا الْمَذْهَب. 1427 - وَمِنْهُم من سلك طَريقَة ثَالِثَة، فَقَالَ: إِن شرطُوا عِنْد الْإِجْمَاع جَوَاز الرُّجُوع عَمَّا أَجمعُوا عَلَيْهِ، جَازَ لَهُم الرُّجُوع، وَإِن لم يكن " الْأُخْرَى " وأطلقوا الْإِجْمَاع وَلم يشترطوا جَوَاز الرُّجُوع، فَلَا يَصح من كافتهم أَن يرجِعوا، وَهَذَا أَضْعَف الْمذَاهب. 1428 - وَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْحجَّة لَا تقوم مَا لم ينقرض " المجمعون " حَتَّى لَو بَقِي وَاحِد مِنْهُم، فَلَا يثبت الْإِجْمَاع. 1429 - وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه إِذا لم يبْق من المجمعين إِلَّا عدد ينقصُونَ عَن أقل عدد التَّوَاتُر، فَلَا يكترث ببقائهم، وَيحكم بانعقاد الْإِجْمَاع. 1430 - وَالصَّحِيح من الْمذَاهب: أَن لَا يشْتَرط فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع الحديث: 1426 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 الانقراض. وَلَكِن مهما أجمع عُلَمَاء الْأمة على حكم فِي حَادِثَة، فَهُوَ الْحق عِنْد الله قطعا، وَقد قَامَت حجَّة الْإِجْمَاع، وَيحرم الْخلاف، وَلَا يتَصَوَّر مِنْهُم بأجمعهم أَن يرجِعوا عَمَّا أَجمعُوا عَلَيْهِ. إِذْ لَو رجعُوا لكانوا مخالفين للْإِجْمَاع الأول، وَهُوَ ضلال، وَلَا تَجْتَمِع الْأمة على الضَّلَالَة. وَيتَصَوَّر أَن يُخَالف بَعضهم بعد انْعِقَاد الْإِجْمَاع. وَلَكنَّا نعلم أَنه خطأ وضلال وابتداع بعد انْعِقَاد الْإِجْمَاع، كَمَا نعلم ذَلِك بعد انْقِرَاض المجمعين. وَكَذَلِكَ فَلَا يجوز أَن يجمعوا ويقطعوا بِحكم، ويجوزوا لأَنْفُسِهِمْ الرُّجُوع شرطا مِنْهُم، كَمَا لَا يَصح فيهم أَن يشترطوا الرُّجُوع، ويجوزه لمن بعدهمْ بعد انْعِقَاد إِجْمَاعهم وانقراضهم. 1431 - وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن نقُول: الْإِجْمَاع مِمَّا لَا يثبت عقلا كَمَا الحديث: 1431 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 قدمْنَاهُ وَإِنَّمَا يثبت سمعا. والطرق الَّتِي يتَوَصَّل بهَا إِلَى إِثْبَات الْإِجْمَاع مضبوطة. وَلَيْسَ فِي شَيْء مِنْهَا مَا يتَضَمَّن اشْتِرَاط الانقراض. فَلَو سَاغَ اشْتِرَاطه عَن غير دلَالَة قَاطِعَة من جِهَة السّمع، لساغ تَخْصِيص الْإِجْمَاع، تصورا بِبَعْض مسَائِل الْفُرُوع، حَتَّى يُقَال: إِنَّمَا تقوم الْحجَّة بِالْإِجْمَاع فِي مسَائِل الْمُعَامَلَات دون مسَائِل الْعِبَادَات! فَلَمَّا لم يكن إِلَى ذَلِك سَبِيل، تبين مَا قُلْنَاهُ. وإيضاحه: أَن من الْأَدِلَّة على الْإِجْمَاع، الْآيَة الَّتِي قدمنَا ذكرهَا، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} . وَهَذَا لَا تَخْصِيص [فِيهِ] بالانقراض، فِي منظومه وَمَفْهُومه، وَكَذَلِكَ طرق الْأَخْبَار الَّتِي استدللنا بهَا، لَا تنبئ عَن شَيْء فِي ذَلِك. وَرُبمَا يتمسكون بآي وأخبار، لَيْسَ فِيهَا معتصم، على مَا سَنذكرُهُ فِي شبههم. 1432 - وَمِمَّا نستدل بِهِ أَيْضا، أَن نقُول: المجمعون لَا يتَحَقَّق اتِّفَاقهم [بعد انقراضهم] . وَإِنَّمَا يتَحَقَّق اتِّفَاقهم بإجماعهم فِي حياتهم. والانقراض يخرجهم عَن اعْتِقَاد / الْإِجْمَاع. فَإِذا كَانُوا مصرين ثابتين على مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ، فَهَذِهِ الْحَالة أولى بِنِسْبَة الْمذَاهب إِلَيْهِم مِنْهُ إِذا انقرضوا. 1433 - فَإِن قَالُوا: أمنا رجوعهم، وَلَيْسَ كَذَلِك مَا داموا أَحيَاء. فَإنَّا لَا نَأْمَن رجوعهم. الحديث: 1432 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 قُلْنَا: أما رُجُوع جَمِيعهم، فمأمون، لَا خَفَاء بِهِ، على أصلنَا، وَأما خلاف بَعضهم، فمتصور. مَعَ قَطعنَا بِأَنَّهُ خطأ، فَهَلا سلمتم هَذَا المسلك؟ على أَنه يتَصَوَّر بعد الانقراض مُخَالفَة بعض أهل الْعَصْر الثَّانِي، ثمَّ يتَصَوَّر ذَلِك لَا يقْدَح فِي الْإِجْمَاع، فَبَطل مَا قَالُوهُ. 1434 - وَمِمَّا نعتصم بِهِ أَن نقُول " على " من زعم أَن الْإِجْمَاع لَا يسْتَقرّ مَا بَقِي من المجمعين وَاحِد [و] هَذَا يُؤَدِّي الى خرق إِجْمَاع الْأمة، فَإِن التَّابِعين كَانُوا يستدلون بِإِجْمَاع الصَّحَابَة، وَإِن كَانَ بَقِي مِنْهُم الْعدَد والشرذمة. كَمَا كَانُوا يستدلون بإجماعهم بَعْدَمَا تفانوا، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده. وَمِمَّا نستدل بِهِ أَيْضا، أَن نقُول: قد تَبينا فِيمَا قدمنَا، أَن التَّابِعِيّ إِذا خَالف الصَّحَابَة فِي حكم حَادِثَة وَقعت، فَيقبل خِلَافه، كَمَا يقبل خلاف الصَّحَابِيّ. 1435 - فَإِذا ثَبت هَذَا الأَصْل - فَلَو شرطنا الانقراض فِي المجمعين " أدّى " ذَلِك إِلَى أَن لَا يسْتَقرّ إِجْمَاع أصلا، وَذَلِكَ أَن الصَّحَابَة لَو اتَّفقُوا مثلا على حكم، ثمَّ لم يتفانوا حَتَّى " تلاحق " بهم جمَاعَة من التَّابِعين وبلغوا مبلغ الْعلمَاء، فقد صَارُوا من أهل الْإِجْمَاع، إِذا فَيجب أَن يشْتَرط انقراضهم مَعَ انْقِرَاض الصَّحَابَة. فَإنَّا لَو قَدرنَا مِنْهُم خلافًا، كَانَ كتقديرنا ذَلِك الحديث: 1434 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 من بعض الصَّحَابَة، ثمَّ إِذا اشترطنا انْقِرَاض التَّابِعين مَعَ الصَّحَابَة، فَلَا يتَّفق انقراضهم - فِي مجْرى الْعَادة - إِلَّا بعد أَن يلحقهم أَقوام من أهل الْعَصْر الثَّالِث. فتتلاحق الْأَعْصَار وتتداخل، وَلَا يسلم الْإِجْمَاع قطّ، وَذَلِكَ يسبب إِلَى نفي الْإِجْمَاع. 1436 - وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، أَن قَالَ: أجمع الْمُسلمُونَ على أَن مَا أَجمعت عَلَيْهِ الْأمة حق! وَهَذَا الْمَعْنى يتَحَقَّق قبل الانقراض. وَهَذَا فِيهِ نظر. وللخصم أَن يَقُول: لسنا نوافقكم على مَا ادعيتموه من الْإِجْمَاع. فَإنَّا نقُول: مَا اتّفقت عَلَيْهِ الْأمة لَا تقوم بِهِ الْحجَّة حَتَّى ينقرضوا على اتِّفَاقهم. فَلم ادعيتم الْإِجْمَاع مُطلقًا؟ وَالْأولَى: التعويل على الطَّرِيقَة الأولى، الَّتِي صدرنا الْأَدِلَّة بهَا. (شُبْهَة الْمُخَالفين) 1437 - فمما استدلوا بِهِ، أَن قَالُوا: إِذا اتّفقت آراء أهل الْأَعْصَار على شَيْء اجْتِهَادًا وتحرياً، فَكل مِنْهُم مَا قَالَ، إِلَّا وَهُوَ مُجْتَهد، غير قَاطع بِاجْتِهَادِهِ. فَلَو لم يتَصَوَّر لَهُم الرُّجُوع أصلا، أدّى ذَلِك إِلَى أَن يستد عَلَيْهِم طَرِيق التَّحَرِّي. فَلَزِمَ أَن نقُول: لَو انْفَرد الْمَرْء بِالِاجْتِهَادِ، لم يسغْ لَهُ الرُّجُوع الحديث: 1436 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 عَمَّا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده، وَمَعْلُوم أَن مواقع الِاجْتِهَاد لَا تخْتَلف، بِأَن يتَقَدَّر فِيهَا وفَاق أَو لَا يتَقَدَّر. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه، تعرض مِنْكُم لشُبْهَة نفاة الْإِجْمَاع، وَلَو صَحَّ مَا قلتموه، لزمكم على طرده، أَن تَقولُوا: " لم يسع المجمعين مخالفتهم " فَإِن طرق الِاجْتِهَاد لَا تنضبط وَلَا تَنْحَصِر على الْمُجْتَهدين، وَلَا تخْتَلف مداركها، وَإِن سبق بطرِيق من الِاجْتِهَاد سَابِقُونَ. 1438 - فَإِن قَالُوا: لَا يجوز ذَلِك بعد سبق انْعِقَاد الْإِجْمَاع، لقِيَام حجَّته. قُلْنَا: فاقبلوا منا مثل ذَلِك فِي حَال " حَيَاة " المجمعين، فَنَقُول: إِذا اجْتهد الْمُجْتَهد، وَلم يُوَافق عَلَيْهِ، " فَلهُ " فِي طرق الِاجْتِهَاد / مساغ ومجال. فَإِن اتّفق عَلَيْهِ اتِّفَاق، فقد انحسم " التجويز " وَلَا يجد جِهَة للحق. وَهَذَا بَين لَا خَفَاء بِهِ. 1439 - وَمِمَّا يُؤثر عَنْهُم، الِاسْتِدْلَال، وَهُوَ من أهم مَا تعرف الْعِنَايَة الحديث: 1438 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 إِلَيْهِ أَن قَالُوا: لَو لم يشْتَرط الانقراض فِي الْإِجْمَاع، لزمنا أَن نقُول: إِذا اخْتلفت الصَّحَابَة على قَوْلَيْنِ أَولا، ثمَّ أَجمعُوا على أَحدهمَا، ورفضوا القَوْل الثَّانِي، فَيَنْبَغِي أَن لَا يتَصَوَّر ذَلِك مِنْهُم. وَنحن نعلم أَن أهل الْعَصْر قد يَخْتَلِفُونَ فِي شَيْء أَولا، ثمَّ تتفق آراؤهم على أحد الْمذَاهب. وَوجه الْإِلْزَام فِي ذَلِك، أَن قَالُوا: مهما اخْتلفُوا أَولا، فقد سوغوا الِاخْتِلَاف، وَأَجْمعُوا على عدم قطع القَوْل. فَيَنْبَغِي أَن لَا يتَصَوَّر بعد ذَلِك قطع القَوْل، إِلَّا على الأَصْل الَّذِي اخترناه، فَإنَّا نقُول: وَإِن سوغوا الْخلاف أَولا اتِّفَاقًا، فَمَا انقرضوا على ذَلِك، لتقوم الْحجَّة بتسويغ الْخلاف، فَأنْتم إِذا لم تشترطوا الانقراض، فَلَا تَجِدُونَ عَن ذَلِك محيصا. 1440 - وَاعْلَم أَن من موافقينا من يستحقر هَذَا السُّؤَال، ويعده من أَضْعَف " سُؤال " الْقَوْم. ويجيب عَنهُ، بِأَن اخْتلَافهمْ لَيْسَ اتِّفَاقًا مِنْهُم على حكم. وَمَا قَالُوهُ من " تَصْوِير " الْخلاف، لَا معنى لَهُ، فَإِنَّهُ لَا يزِيد تسويغ الْخلاف على تصَوره، وَثُبُوت الْخلاف فِي صُورَة لَيْسَ بِحكم مجمع عَلَيْهِ، ليعد ذَلِك مذهبا مُتَّفقا عَلَيْهِ. قَالُوا: وسبيل ذَلِك، سَبِيل مَا لَو " وَقعت " الْحَادِثَة أَولا، فتردد فيهمَا الْعلمَاء كالمستريبين، ثمَّ اسْتَقَرَّتْ آراؤهم. فتصور " الريب " أَولا، لَا يعد مذهبا. الحديث: 1440 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 1441 - وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، وَلَو " سلكنا " هَذِه الطَّرِيقَة، لم نجد عَمَّا ألزمونا محيصا. وَذَلِكَ أَن لَهُم أَن يَقُولُوا: مهما اخْتلفُوا الصَّحَابَة، واتفقت مثلا رتب الْمُجْتَهدين مِنْهُم، فقد أَجمعُوا على أَنه يحل للعوام أَن " يتبع " من شَاءَ مِنْهُم، عِنْد اسْتِوَاء أوصافهم، فَهَذَا اتِّفَاق مِنْهُم على حكم، وَقطع مِنْهُم القَوْل فِيهِ، فَلَو أَجمعُوا على أحد الْقَوْلَيْنِ، وحرموا على الْعَوام تَجْوِيز اتِّبَاع القَوْل الثَّانِي، فَيكون ذَلِك تَحْرِيمًا مِنْهُم لعين مَا أحلوه، وَذَلِكَ مُسْتَحِيل على أصُول من لم يشْتَرط الانقراض فِي الْإِجْمَاع. فَلَا وَجه إِلَّا أَن نقُول: لَا يتَصَوَّر اتِّفَاق أهل الْعَصْر بعد اخْتلَافهمْ، فَإِن فِي تَجْوِيز ذَلِك تصور " اجتماعين " متضادين، فَتَأَمّله، تَجدهُ صَحِيحا. 1442 - فَإِن قيل: بِمَ تنكرون على من يزْعم، أَنهم لما اخْتلفُوا وسوغوا للعوام اتِّبَاع أحد الْقَوْلَيْنِ، لَا بِعَيْنِه، أَو التَّخْيِير فِي الِاتِّبَاع عِنْد اسْتِوَاء أَوْصَاف الْمُجْتَهدين، فَهَذَا إِجْمَاع مِنْهُم على شَرط: فكأنهم قَالُوا: لكم الْخيرَة، مَا لم يتَّفق إِجْمَاع الْأمة على أحد الْقَوْلَيْنِ؟ قُلْنَا: هَذَا تَخْلِيط مِنْكُم عَظِيم فِي مسَائِل الْإِجْمَاع، وَلَو سَاغَ تثبيت إِجْمَاع مَشْرُوط بِشَرْط مرقوب، لجَاز ذَلِك فِي كل إِجْمَاع، حَتَّى نقُول: لَو أجمع أهل الْعَصْر على حكم، يجوز رجوعهم عَنهُ، ثمَّ يُقَال عِنْد تصور رجوعهم: إِنَّمَا أَجمعُوا أَولا بِشَرْط أَن لَا يَتَّضِح لَهُم وَجه فِي الِاسْتِدْلَال الحديث: 1441 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 وَطَرِيق الِاجْتِهَاد. فَلَا وَجه إِلَّا مَا قُلْنَاهُ من منع الِاتِّفَاق بعد الْخلاف. وسنوضح ذَلِك فِي الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَاب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. 1443 - وَمِمَّا استدلوا بِهِ: مَا رُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ، أَنه قَالَ: " اتّفق رَأْيِي ورأي أبي بكر وَعمر فِي / منع بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد. وَإِنِّي أرى أَن يبعن "، فَقيل لَهُ: " رَأْيك فِي الْجَمَاعَة، خير من رَأْيك فِي الْوحدَة ". الحديث: 1443 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 قَالُوا: فسوغ عَليّ رَضِي الله عَنهُ الْخلاف بعد الْإِجْمَاع. قُلْنَا: لم ينْقل عَليّ رَضِي الله عَنهُ، إِجْمَاع الصَّحَابَة، وَلكنه نقل مَذْهَب أبي بكر وَعمر، فاتضح سُقُوط استدلالهم. 1444 - وَمِمَّا استدلوا بِهِ: قَوْله تعالي: {وَكَذَلِكَ جعلنكم أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} ، قَالُوا: وَجه الدَّلِيل من ذَلِك، أَنه تَعَالَى أثبت الْأمة شُهَدَاء على غَيرهَا، وَلم يَجْعَلهَا شاهدة على نَفسهَا. فَدلَّ ذَلِك على إِن إِجْمَاع كل عصر حجَّة على أهل الْعَصْر الَّذِي يَلِيهِ، وَلَيْسَ بِحجَّة فِي ذَلِك الْعَصْر بِعَيْنِه. قُلْنَا: التَّمَسُّك بِهَذِهِ الْآيَة فِي حكم الْإِجْمَاع، فِيهِ نظر: إِذْ أَرْبَاب التَّأْوِيل متفقون على أَن المُرَاد بِالْآيَةِ، شَهَادَة هَذِه الْأمة على سَائِر الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك: قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيكون الرَّسُول عَلَيْكُم شَهِيدا} فَجمع بَين كَونهم شَهِيدا وَبَين كَون الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] شَهِيدا، وَإِنَّمَا يجْتَمع ذَلِك فِي الْقِيَامَة. ثمَّ لَيْسَ فِي الْآيَة تعمد كَونهم شُهَدَاء [على] أنفسهم، إِلَّا على طَرِيق التَّمَسُّك بِدَلِيل الْخطاب. الحديث: 1444 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 (254) القَوْل فِي إِجْمَاع الْعَصْر الثَّانِي بعد اخْتِلَاف أهل الْعَصْر الأول) 1445 - إِذا اخْتلف أهل عصر الْأَعْصَار على قَوْلَيْنِ مثلا، ثمَّ انقرضوا، وَصَارَ أهل الْعَصْر الَّذِي يَلِي عصر الْأَوَّلين إِلَى أحد الْقَوْلَيْنِ، ورفضوا القَوْل الثَّانِي، فَهَل يكون ذَلِك إِجْمَاعًا. اخْتلف أَر ْبَاب الْأُصُول فِي ذَلِك: فَذهب الْأَكْثَرُونَ مِنْهُم إِلَى أَن ذَلِك لَا يكون إِجْمَاعًا أصلا. وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه يكون إِجْمَاعًا مَقْطُوعًا بِهِ، حَتَّى لَا يجوز بعد إِجْمَاع أهل الْعَصْر الثَّانِي على أحد المذهبين، الْمصير إِلَى الْمَذْهَب الثَّانِي. 1446 - وَمن صَار إِلَى أَن ذَلِك لَا يكون إِجْمَاعًا، اخْتلفُوا على مذهبين فِي أَنه هَل يتَصَوَّر من أهل الْعَصْر الثَّانِي، " أصل " الْإِجْمَاع؟ وَلَا يسوغ اجْتِمَاعهم على خطأ. ورفض أحد الْقَوْلَيْنِ خطأ على معنى التخطئة. فَلَا يسوغ هَذَا الْقَائِل اجْتِمَاعهم عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يتفقوا على أَن الْأَخْذ بِأَحَدِهِمَا أولى من غير أَن يرفضوا القَوْل الثَّانِي، فَهَذَا مِمَّا يسوغ ويهون أمره. الحديث: 1445 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 1447 - وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه يتَصَوَّر من أهل الْعَصْر الثَّانِي، صُورَة الِاتِّفَاق على رفض أحد الْقَوْلَيْنِ وَتَحْرِيم الْمصير إِلَيْهِ، وَلَكِن لَا يكون اتِّفَاقهم حجَّة. لأَنهم فِي مَسْأَلَة الِاخْتِلَاف لَيْسُوا كل الْأمة، إِذْ الَّذين انقرضوا من الْمُخَالفين الآخذين بالْقَوْل المرفوض، فِي تَقْدِير الْأَحْيَاء المصرين على مَذْهَبهم. إِذْ الْمذَاهب " لَا تبطل " بِمَوْت أَصْحَابهَا. وَلَو كَانَ كَذَلِك، لما كَانَ هَؤُلَاءِ إِلَّا بعض الْأمة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. 1448 - وَالْقَاضِي رَضِي الله عَنهُ " يمِيل " تَارَة إِلَى هَذَا الْمَذْهَب: وَهُوَ تصور الِاتِّفَاق مِنْهُم وَتارَة إِلَى " الْمَذْهَب " الأول: وَهُوَ أَنه لَا يتَصَوَّر مِنْهُم الِاتِّفَاق. وَالْمُخْتَار من هَذَا الْبَاب أَن حكم الِاخْتِلَاف لَا يرتفض أصلا. الحديث: 1447 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 1449 - وَقد تمسك أَصْحَابنَا فِي نصْرَة هَذَا الْمَذْهَب بطريقتين: أَحدهمَا: أَن الَّذين اخْتلفُوا أَولا، ثمَّ درجوا ومضوا، " يقدرُونَ " أَحيَاء فَإِن / الْمذَاهب لَا تسْقط بِمَوْت أَصْحَابهَا وَلَا تندرس. إِذْ لَو سَاغَ سُقُوط مَذْهَب بِمَوْت الصائرين " إِلَيْهِ " للَزِمَ ارْتِفَاع الْإِجْمَاع أَيْضا، حَتَّى الحديث: 1449 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 يُقَال: إِذا أجمع أهل الْعَصْر الأول، ثمَّ انقرضوا، فقد ارْتَفع حكم إِجْمَاعهم، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ. 1450 - والطريقة الْأُخْرَى: - وَهِي الَّتِي اخْتَار القَاضِي رَضِي الله عَنهُ - أَن أهل الْعَصْر الأول إِذا اخْتلفُوا على مذهبين، وَالْمَسْأَلَة مُجْتَهد فِيهَا، فقد سوغ كلهم - مَعَ تَسَاوِي صِفَات الْمُجْتَهدين - للعوام الْأَخْذ بقول أَي الْفَرِيقَيْنِ شَاءُوا، وَأَحلُّوا ذَلِك لَهُم " اتِّفَاقًا " مِنْهُم، فَلَو جَوَّزنَا الْإِجْمَاع على أحد الْقَوْلَيْنِ ورفض القَوْل الثَّانِي، لَكَانَ الْإِجْمَاع الثَّانِي قادحا فِي إِجْمَاع الصَّحَابَة، إِذْ قد " فرط " مِنْهُم الْإِجْمَاع على تَحْلِيل الْأَخْذ بِأَيّ الْقَوْلَيْنِ، اتّفق " للعوام ". فَإِن رفض أحد المذهبين، فقد حرم مَا أحلوه. وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ. 1451 - فَإِذا قَالَ قَائِل: بعد تمسكنا بِهَذِهِ الطَّرِيق: فَهَل تجوزون إِجْمَاع أهل الْعَصْر الثَّانِي على رفض أحد الْقَوْلَيْنِ؟ كَانَ الْأَصَح والأقطع للشغب، أَن نقُول: لَا يجوز ذَلِك، وَهَذَا مِمَّا لَا يتَّفق كَمَا يتَّفق أهل الْعَصْر الأول على مَذْهَب وَاحِد، ثمَّ إِجْمَاع أهل الْعَصْر على نقيضه. الحديث: 1450 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 1452 - وَإِن سلكنا طَرِيق تصور الِاتِّفَاق مِنْهُم، وجعلناهم فِي ذَلِك بعض الْأمة، وَإِن كَانَ " لَو " حدثت حَادِثَة، لم يقل فِيهَا الْأَولونَ شَيْئا، وَاتَّفَقُوا فِيهَا على حكم، كَانَ ذَلِك حجَّة مَقْطُوعًا بهَا، لأَنهم فِيهَا كل الْأمة، وَلم يسْبقُوا فِيهَا بقول وَمذهب، فيلزمنا أَن نقُول على هَذِه الطَّرِيقَة: إِذا رفضوا أحد الْقَوْلَيْنِ فَيكون ذَلِك تعرضاً مِنْهُم لخرق الْإِجْمَاع، وَلَا يجوز لَهُم ذَلِك أصلا. وَالَّذِي أوثره لَك، التَّمَسُّك بالطريقة الأولى، وَهُوَ: أَنه لَا يتَصَوَّر مِنْهُم الِاتِّفَاق على أحد الْقَوْلَيْنِ، ورفض القَوْل الثَّانِي. 1453 - فَإِن قيل: بِمَ تنكرون على من يزْعم: أَن أهل الْعَصْر الأول مَا اتَّفقُوا على الحكم، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا، فَلَا سَبِيل إِلَى استنباط وفَاق من خلاف؟ قُلْنَا: قد قَررنَا الْإِجْمَاع، إِذْ قُلْنَا: فِي تَصْوِير الِاخْتِلَاف " إِجْمَاعًا " على تسويغ الْأَخْذ بِأَيّ الْقَوْلَيْنِ اتّفق فِي حق الْعَوام، مَعَ تَسَاوِي صِفَات الْمُجْتَهدين. وَهَذَا إِجْمَاع لَا خَفَاء بِهِ. وَاعْلَم أَن ذَلِك يقوى مَعَ القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين، على مَا نعقده. 1454 - فَإِن قَالَ قَائِل: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم إِنَّمَا أحلُّوا للعوام الْأَخْذ بِأحد الْقَوْلَيْنِ، بِشَرْط أَلا تتضح دلَالَة فِي تعْيين أحد الْقَوْلَيْنِ، وارتفاض الثَّانِي، فَكَأَنَّهُ إِجْمَاع مُعَلّق على شَرط! الحديث: 1452 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 قُلْنَا: هَذَا مَا لَا وَجه فِيهِ. و " فِيهِ " التَّسَبُّب إِلَى الْقدح فِي كل إِجْمَاع. وَذَلِكَ أَنه لَو سَاغَ مَا قَالُوهُ فِي هَذِه الصُّورَة، لساغ فِي كل إِجْمَاع، حَتَّى يُقَال: يجوز أَن يجمع " أهل الْعَصْر الأول " على قَول، بِشَرْط أَن لَا تعن لأهل الْعَصْر الثَّانِي دلَالَة على خلاف مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ، وَلَو فتحنا هَذَا الْبَاب، لسقطت الثِّقَة بِكُل إِجْمَاع. ولساغ التَّعَرُّض لنفيه، بِمَا يظْهر من الْأَدِلَّة السمعية. 1455 - وَالَّذِي يُحَقّق الْمَقْصد فِي ذَلِك: أَن أهل الْعَصْر الأول، إِذا اخْتلفُوا وَجعلُوا الْمَسْأَلَة مُجْتَهدا فِيهَا، ثمَّ انقرضوا، فَلَا يسوغ فِي " تِلْكَ " الْمَسْأَلَة ظُهُور دلَالَة يقطع بهَا فِي الْعَصْر الثَّانِي. إِذْ لَو كَانَ فِي الْمَسْأَلَة دلَالَة / مَقْطُوع بهَا، لما ذهل عَنْهَا أهل الْأَعْصَار الخلية من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَنحن مخاطبون بالبحث " عَنْهَا ". وَقد أجمع من قَالَ بِحجَّة الْإِجْمَاع أَن ذَلِك لَا " يجوز " أصلا. فَإِذا كَانَت الدّلَالَة المقطوعة " لَا تتفق فِي الْعَصْر " الثَّانِي، فقد سوغ الْأَولونَ الِاخْتِلَاف، وَأَحلُّوا للعوام الْمصير إِلَى كل مَذْهَب، وَلَا يتَصَوَّر مَعَ ذَلِك التَّعَلُّق على شَرط ظُهُور دَلِيل، فَإِن ذَلِك الَّذِي قدرتموه من الدَّلِيل، إِن الحديث: 1455 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 لم يكن مَقْطُوعًا بِهِ، فَلَا يرْتَفع الِاجْتِهَاد بِمثلِهِ، وَإِن كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ، فَلَا يجوز انْقِرَاض أهل الْعَصْر الأول مَعَ الذهول عَنهُ، وَهَذَا وَاضح، غير " خافي ". 1456 - وَرَأَيْت لبَعض المنتمين إِلَى الْأُصُول قولا، خطأ فِي أَرْبَاب الْحَقَائِق، و " أزرى " عَلَيْهِم بِهِ، ونسبهم إِلَى الذّهاب عَمَّا أدْركهُ. وَهَذَا على التَّحْقِيق " غر " من الأغرار. وَذَلِكَ أَنه قَالَ: يجوز انْعِقَاد الْإِجْمَاع على شَرط. قَالَ: وَالدَّلِيل عَلَيْهِ، أَن الْأمة مجمعة على جَوَاز الصَّلَاة " بِالتَّيَمُّمِ " وَهَذَا مَشْرُوط بِالسَّفرِ وإعواز المَاء. وَيَا عجبا! كَيفَ يحل " لغر " الانتساب إِلَى الْأُصُول، مَعَ الذهول عَن هَذَا الْقدر الَّذِي يُدْرِكهُ من شدا طرفا من الْعلم، فَلَيْسَ الْمَعْنى بقول الْمُحَقِّقين: إِن الْإِجْمَاع لَا ينْعَقد على شَرط " مَا خيل إِلَيْهِ، فَإِنَّهُم إِذا أَجمعُوا على جَوَاز الصَّلَاة بِالتَّيَمُّمِ فِي حَالَة مَخْصُوصَة، فكأنهم أَجمعُوا على حكم فِي حَال مَخْصُوص. وكل الشَّرِيعَة إِذا تتبعتها، تجدها كَذَلِك، فَإِنَّهُم أَجمعُوا على وجوب الصَّلَاة بِشَرْط دُخُول الْوَقْت والتمكن. وعَلى وجوب الْحَج بِشَرْط الحديث: 1456 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 الِاسْتِطَاعَة، وعَلى وجوب الزَّكَاة بشرائط يطول تعدادها. وكل ذَلِك يرجع إِلَى إِجْمَاعهم فِي حكم على حَال مَخْصُوص. وَلَا يرجع الشَّرْط إِلَى نفس الْإِجْمَاع أصلا. وَإِنَّمَا الَّذِي نَحن فِيهِ، تَبْيِين اسْتِحَالَة انْعِقَاد الْإِجْمَاع على حكم، بِشَرْط أَن يرْتَفع أصل الْإِجْمَاع عَن ذَلِك الحكم عُمُوما، بِسَبَب دلَالَة تظهر لغير المجمعين فِي الْعَصْر الأول. وَلَو سَاغَ ذَلِك لساغ فِي كل إِجْمَاع. وَفِيه سُقُوط الثِّقَة بِإِجْمَاع المجمعين. وعَلى الدّلَالَة الَّتِي طردناها، أسئلة تلِيق بتصويب الْمُجْتَهدين، فَرَأَيْنَا تَأْخِيرهَا إِلَى الْكَلَام فِي مَسْأَلَة التصويب. 1457 - وَقد اسْتدلَّ المخالفون فِي الْمَسْأَلَة، بالأدلة الدَّالَّة على أصل الْإِجْمَاع، وَزَعَمُوا أَن كل مَا دلّ على أصل الْإِجْمَاع، دَال على هَذِه الْمَسْأَلَة. وَلَكِن فِي ذَلِك طَرِيقَانِ: [الأول] : أَن يمْنَع تصور إِجْمَاع أهل الْعَصْر الثَّانِي على رفض أحد الْقَوْلَيْنِ، وَيُطَالب الْخصم " بتصويره " أَولا، وَلَا يقدر على تَصْوِيره فِي عصر من الْأَعْصَار على وَجه لَا يُنَازع فِيهِ. وَالْوَجْه الآخر فِي الْجَواب، أَن نقُول: كل مَا اعْتصمَ بِهِ من أَدِلَّة الْإِجْمَاع، ينعكس عَلَيْكُم فِي حكم الْعَصْر الأول، إِنَّا " صورنا " عَلَيْكُم الحديث: 1457 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 إِجْمَاعهم فِي حَال اخْتلَافهمْ، فلئن سَاغَ لكم التَّمَسُّك بأدلة الْإِجْمَاع فِي الْعَصْر الثَّانِي، لساغ لنا التَّمَسُّك بالعصر الأول. وَالْأَخْذ بِالْأولِ أولى من الْأَخْذ بِالثَّانِي. وَالْوَجْه الثَّالِث من الْجَواب، أَن نقُول: أهل الْعَصْر الثَّانِي بعض الْأمة فِي مَسْأَلَة الِاخْتِلَاف، لما قدمْنَاهُ من أَن الْمذَاهب لَا تسْقط بِمَوْت أَصْحَابهَا. فَنَجْعَل " الْمُخَالفين " فِي الْمَسْأَلَة بِمَنْزِلَة البَاقِينَ. فليسوا إِذا كل الْأمة من هَذَا الْوَجْه. 1458 - وَمِمَّا استدلوا بِهِ / وعدوه من عمدهم: أَن قَالُوا: إِذا اخْتلف أهل عصر فِي أول الزَّمَان، ثمَّ اتَّفقُوا على أحد الْمذَاهب، فاتفاقهم يرفع حكم اخْتلَافهمْ. فَلَو كَانَ فِي الِاخْتِلَاف تضمن إِجْمَاع - كَمَا ادعيتموه - لَكَانَ ذَلِك إجماعين متناقضين، فَلَمَّا لم يكن ذَلِك كَذَلِك - وَالْعصر وَاحِد - فَكَذَلِك إِذا اخْتلف العصران. وَقد تخبط فِي ذَلِك بعض النَّاس، وسلموه، وَلَا يَتَأَتَّى تَسْلِيمه إِلَّا إِذا اشترطنا فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع انْقِرَاض المجمعين، فَنَقُول: لَا يسْتَقرّ إِجْمَاعهم الأول إِلَّا بِأَن ينقرضوا عَلَيْهِ، وَهَذَا بَاطِل، لَا سَبِيل إِلَى الْمصير إِلَيْهِ. فَإنَّا قد أوضحنا - بِمَا قدمْنَاهُ - أَن اشْتِرَاط [انْقِرَاض] المجمعين، لَا سَبِيل إِلَيْهِ. الحديث: 1458 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 وَالْجَوَاب السديد فِي ذَلِك أَن نقُول: إِذا اخْتلفُوا أَولا، وَاسْتقر اخْتلَافهمْ، واستبد كل حزب بِمذهب، وَلم يكن ذَلِك ترددا مِنْهُم فِي مهلة الناظرين، فَلَا يجوز أَن يتفقوا على أحد الْمذَاهب، وَإِبْطَال سائرها. وَمن سلك " غير " هَذِه الطَّرِيقَة، شوش على بَقِيَّة أصُول الْأَبْوَاب. 1459 - فَإِن قيل: فقد وجد فِي الصَّحَابَة إِجْمَاع بعد الِاخْتِلَاف، وَهُوَ نَحْو اخْتلَافهمْ فِي قتال مانعي الزَّكَاة أَولا، ثمَّ أَجمعُوا على رَأْي أبي بكر رَضِي الله عَنْهُم، فِي قِتَالهمْ آخرا. قُلْنَا: هَذَا لَا يتَّجه، من أوجه: أَحدهَا: إِن دَعْوَى الْإِجْمَاع فِي ذَلِك " لَا تَنْعَقِد " مَعَ أَن من الْعلمَاء فِي عصرنا، من منع قتال مانعي الزَّكَاة. فَلَا وَجه لادعاء الْإِجْمَاع، وَالْمَسْأَلَة مُخْتَلف فِيهَا. الحديث: 1459 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 وَالْوَجْه الآخر، أَن نقُول: لَعَلَّهُم تشاوروا " فِي " تردد الناظرين، ثمَّ اسْتَقَرَّتْ آراؤهم. أَو نقُول: لَعَلَّهُم بقوا على الِاخْتِلَاف، وَلَكِن لم يَجدوا بدا من اتِّبَاع إِمَام الزَّمَان وَخَلِيفَة الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَهَكَذَا القَوْل فِي كل مَسْأَلَة مُجْتَهد فِيهَا، رأى الإِمَام فِيهَا رَأيا، يتَعَلَّق بمصالح الْعَامَّة، فَيجب على الكافة اتِّبَاعه. 1460 - على أَنه لَو قوبل هَؤُلَاءِ، وَقيل لَهُم: لَو اخْتلف عُلَمَاء عصر من الْأَعْصَار على قَوْلَيْنِ، ثمَّ انقرض أحد الفئتين، وَبَقِي الثَّانِي: فَهَل تَقولُونَ: إِن ذَلِك صَار إِجْمَاعًا؟ فَإِن لم يَقُولُوا بذلك - وَلَا مُخَالف فِي الْمَسْأَلَة - فقد نقضوا أصلهم. وَإِن قَالُوا بِهِ، فقد زادوا فِي الإغراب والإبداع علينا، حَيْثُ قَالُوا: بِمَوْت قوم تصير الْمَسْأَلَة مَسْأَلَة إِجْمَاع، من غير تجدّد معنى، سوى الْمَوْت فِي فِئَة! الحديث: 1460 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 (255) بَاب يجمع أصولا مُتَفَرِّقَة فِي أَحْكَام الْإِجْمَاع هَل يجوز إِحْدَاث قَول ثَالِث بعد الْإِجْمَاع على قَوْلَيْنِ 1461 - إِذا أجمع أهل الْعَصْر على قَوْلَيْنِ: فالمصير إِلَى قَول ثَالِث، خرق الْإِجْمَاع، هَذَا مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْعلمَاء. 1462 - وَذهب بعض أهل الظَّاهِر إِلَى أَن ذَلِك لَا يكون خرقا للْإِجْمَاع، وَقد يسند ذَلِك إِلَى طَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين. الحديث: 1461 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 1463 - وَالدَّلِيل على بُطْلَانه: أَن عُلَمَاء الْعَصْر إِذا اتَّفقُوا على قَول، فَلَا يسوغ اختراع قَول " ثَان " فَكَذَلِك إِذا أَجمعُوا على قَوْلَيْنِ. وَالْجَامِع بَينهمَا أَن نفس الْمصير إِلَى القَوْل الْوَاحِد، إِجْمَاع على نفي مَا عداهُ. / وَكَذَلِكَ إِذا حصروا الْمذَاهب فِي قَوْلَيْنِ: فقد نفوا مَا عداهما. 1465 - وَمِمَّا يُقَوي التَّمَسُّك بِهِ /، أَن نقُول: لَو اتَّفقُوا على قَوْلَيْنِ، وصرحوا بِنَفْي مَا عداهما: " فَلَا يَخْلُو " الْخصم فِي هَذِه الْحَالة، من أَن يجوز إِحْدَاث قَول ثَالِث أَو لَا يجوز. فَإِن لم يجوز إِحْدَاث قَول ثَالِث، فَلْيقل بذلك، وَإِن لم يصرحوا بنفيه. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَنهم لَو أَجمعُوا على قَول وَاحِد، فَلَا يجوز اختراع قَول الحديث: 1463 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 ثَان " سَوَاء " نقل عَنْهُم نفي مَا عداهُ، أَو لم ينْقل ذَلِك عَنْهُم /. [فَإِن] قَالَ الْخصم: يجوز اختراع قَول ثَالِث، مَعَ تصريحهم بنفيه، فَهَذَا تَصْرِيح بخرق الْإِجْمَاع، لَا خَفَاء بِهِ. 1466 - وَإِن قَالُوا: يجوز لأهل الْعَصْر الثَّانِي، أَن يَتَمَسَّكُوا بِدَلِيل لم يتَمَسَّك بِهِ الْأَولونَ وفَاقا - وَلَا يعد ذَلِك خرقا لإجماعهم - فَكَذَلِك وَجب تَجْوِيز قَول ثَالِث، وَإِن لم يقل بِهِ الْأَولونَ. قُلْنَا: فَقولُوا على طرد ذَلِك، إِنَّه يجوز إِحْدَاث قَول ثَان عِنْد إِجْمَاع الْأَوَّلين على قَول وَاحِد، كَمَا يجوز التَّمَسُّك بِدَلِيل ثَان. ثمَّ نقُول: طرق الاستنباطات لَا تَنْحَصِر، وَأما الْمذَاهب فَإِنَّهَا منحصرة، وَأَهْلهَا يَنْفِي مَا سواهَا، وَمَا نفى أهل عصر من الْأَعْصَار ضربا من الاستنباط لنصرة مَا صَارُوا إِلَيْهِ، سوى مَا ذَكرُوهُ، حَتَّى لَو قَالُوا: لَا دَلِيل فِي الْمَسْأَلَة سوى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، وَأَجْمعُوا عَلَيْهِ، لم يجز التَّمَسُّك بِغَيْرِهِ. 1467 - فَإِن قَالُوا: لما اخْتلف أهل الْعَصْر الأول، فقد جعلُوا للِاجْتِهَاد مساغاً، فَجَاز لذَلِك اخْتِيَار قَول ثَالِث. قُلْنَا: إِنَّمَا جعلُوا للِاجْتِهَاد مساغاً فِي الْقَوْلَيْنِ اللَّذين " ذكروهما ". فَأَما أَن يجوزوا تعديهما؛ " فَلَا ". فكأنهم لم يجْعَلُوا الْمَسْأَلَة مُجْتَهدا فِيهَا، الحديث: 1466 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 " وَفِي منع الزِّيَادَة على الْقَوْلَيْنِ ". وَإِنَّمَا جعلُوا الْمَسْأَلَة مُجْتَهدا فِيهَا فِي تَرْجِيح أحد الْقَوْلَيْنِ على الثَّانِي. 1468 - وَالَّذِي يُوضح ذَلِك: أَن الْأمة إِذا اجتهدت، ثمَّ أطبقت على حكم وَاحِد بعد الِاجْتِهَاد، فَلَا يسوغ إِظْهَار قَول ثَان، وَإِن تبين عندنَا أَنهم قَالُوا مَا قَالُوهُ اجْتِهَادًا، وَلَا نجْعَل خوضهم فِي الِاجْتِهَاد تسويفاً وتجويزاً " للأخذ " " بطرقها " المؤدية الى قَول ثَان، سوى مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ. فَبَطل مَا قَالُوهُ. (256) فصل (الْأمة إِذا لم تفصل بَين مَسْأَلَتَيْنِ، فَهَل لمن بعدهمْ أَن يفصل بَينهمَا؟) 1469 - إِذا ظهر فِي الْأمة مَسْأَلَتَانِ: وَاخْتلف قَول الْأمة " فيهمَا "، فَذهب بعض الْأمة إِلَى الْحل " فيهمَا " مثلا، وَذهب آخَرُونَ إِلَى التَّحْرِيم فيهمَا فَلَو أَرَادَ بعض الْعلمَاء فِي " إِحْدَى " الْمَسْأَلَتَيْنِ أَن يَأْخُذ بالتحليل، وَفِي الْأُخْرَى بِالتَّحْرِيمِ، فَهَل ذَلِك لَهُ؟ فَلَا يَخْلُو من أَمريْن: الحديث: 1468 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 إِمَّا أَن يجمع الْأمة على أَنه لَا فرق بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَلَا يسوغ الْفَصْل بَينهمَا. فإمَّا التَّحْلِيل فِيهَا، وَإِمَّا التَّحْرِيم. وَأما التَّحْلِيل فِي " إِحْدَاهمَا " وَالتَّحْرِيم فِي الْأُخْرَى، فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ، لما عَلَيْهِ الْأمة من الإطباق فِي الِاتِّفَاق. 1470 - وَذهب بعض النَّاس إِلَى أَنه يجوز التَّفْرِقَة بَينهمَا، وَإِن أَجمعت الْأمة على منعهَا. فَإِن الْإِجْمَاع على منع التَّفْرِقَة، لَيْسَ بِإِجْمَاع على حكم من الْأَحْكَام، فَلَا معول عَلَيْهِ. 1471 - وَهَذَا غلط و " مراغمة " لما " عَلَيْهِ " الْأمة صَرِيحًا. وَلَو سَاغَ ذَلِك فِي شَيْء، لساغ فِي كل شَيْء. وَمَا ذَكرُوهُ من أَن منع التَّفْرِقَة، لَيْسَ من الْأَحْكَام، فَهُوَ بَاطِل. فَإِنَّهُ حكم لَا خَفَاء بِهِ، لأَنهم إِذا أَجمعُوا على منع الْفَصْل، فقد أَجمعُوا على منع التَّحْلِيل فِي إِحْدَاهمَا مَعَ التَّحْرِيم فِي الْأُخْرَى. وَهَذَا تعرض لحكم نفيا وإثباتاً. فَهَذَا إِذا نقل عَنْهُم منع التَّفْرِقَة. 1472 - وَأما إِذا لم ينْقل ذَلِك عَنْهُم، فَالصَّحِيح: أَنه يجوز لبَعض الْعلمَاء الْأَخْذ بالتحليل فِي " إِحْدَى " الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَالتَّحْرِيم فِي الْأُخْرَى. الحديث: 1470 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 وَذَلِكَ أَنه إِذا أَخذ " بِالْحلِّ " فِي إِحْدَاهمَا، فقد قَالَ بالتحليل فِيهَا قَائِلُونَ، وَكَذَلِكَ إِذا أَخذ بِالتَّحْرِيمِ فِي الثَّانِيَة، وَلم ينْقل عَن الْأمة منع الْفَصْل، وَلَا تعلق " لإحدى " الْمَسْأَلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى، بِوَجْه من الْوُجُوه /. 1473 - وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى منع الْفَصْل بَين الشقتَيْنِ، إِذا لم يتَّفق لأحد من السَّابِقين الْفَصْل بَينهمَا، وَفِيمَا أومأنا إِلَيْهِ مَا يُوضح فَسَاد ذَلِك. (257) فصل لَا يتَصَوَّر انْعِقَاد الْإِجْمَاع بِخِلَاف الْخَبَر الثَّابِت 1474 - فَإِن قَالَ قَائِل: لَو أَن " وَاحِدًا " فِي زمَان رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، سَمعه يَقُول قولا فِي حكمه، وَلم يسمع ذَلِك القَوْل غَيره، وَكَانَ نصا لَا يقبل الحديث: 1473 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 التَّأْوِيل، وَلم يكن السَّامع من حزب الْمُجْتَهدين وَلَا من طوائف الْعلمَاء، ثمَّ اتّفقت تِلْكَ الْحَادِثَة بعد أَن اسْتَأْثر الله بالرسول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فأجمع عُلَمَاء الْأمة على خلاف مَضْمُون الْخَبَر الَّذِي سَمعه الْوَاحِد، وَلم ينْقل ذَلِك الْوَاحِد مَا سَمعه، أَو لم يكن من أهل النَّقْل، بل كَانَ مطعوناً، " فَهُوَ " فِي نَفسه، بِمَاذَا يَأْخُذ؟ فَإِن أَخذ بِمُوجب الْخَبَر الَّذِي سَمعه من رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَمَا وَجه الْجَواب فِي ذَلِك؟ قُلْنَا: إِن كَانَ ذَلِك الْخَبَر ثَابتا فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى، وَلم يكن مَنْسُوخا مرتفعاً، فَيجب وقُوف أهل الْإِجْمَاع عَلَيْهِ بِوَجْه من الْوُجُوه، حَتَّى لَو لم " يسمعهُ " إِلَّا وَاحِد، لوَجَبَ فِي الحكم الَّذِي ذَكرْنَاهُ، أَن يُبرئهُ الله تَعَالَى عَمَّا يقْدَح فِي رِوَايَته، وَيعرف دواعيه إِلَيْهَا، لينقل مَا سَمعه، ولسنا نثبت ذَلِك عقلا، وَلَكِن لما ثَبت عندنَا بِدلَالَة السّمع اسْتِحَالَة إِجْمَاع الْأمة على الْخَطَأ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 وَكَانَ من أعظم الْخَطَأ مُخَالفَة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي خبر يجب اتِّبَاعه، فَلَا يجوز أَن يشذ عَن أهل الْإِجْمَاع، وَإِن شَذَّ عَنْهُم، فَذَلِك لِأَنَّهُ مَنْسُوخ. فَخرج من مَضْمُون مَا قُلْنَاهُ. لِأَنَّهُ إِن تصور انْعِقَاد إِجْمَاعهم، وَلم ينْقل " الْخَبَر إِلَيْهِم "، فَيجب لُزُوم إِجْمَاعهم، لعلمنا أَنهم لَا يجمعُونَ إِلَّا على حق. وَلَو لم يكن الْخَبَر نسخ لعثروا عَلَيْهِ وَعمِلُوا بِهِ. إِذْ الْعِصْمَة تجب لكافتهم. فَاعْلَم هَذِه الْجُمْلَة، واحسم بَاب السُّؤَال عَن نَفسك. فَإِنَّهُ مِمَّا زل فِيهِ كثير من النَّاس. 1475 - فَإِن قَالَ قَائِل: " فقود " مَا ذكرتموه عَلَيْكُم عصمَة الْوَاحِد عَن الْكَفّ عَن النَّقْل، إِذا كَانَ الْخَبَر فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى ثَابت الحكم؟ قُلْنَا: هَذَا قَوْلنَا، وَلَا نتحاشى مِنْهُ، وَلَيْسَ وجوب الْعِصْمَة للْوَاحِد فِي حكم الْمَعْقُول بِأَكْثَرَ من وجوب الْعِصْمَة للْجَمِيع، فأحط بذلك علما، وَلَا تجبن عَمَّا يرد عَلَيْك. (258) القَوْل فِي مَذْهَب الصَّحَابِيّ: إِذا انْتَشَر، أَو لم ينتشر) 1476 - اعْلَم، وفقك الله، أَن الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ قولا، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن ينتشر قَوْله فِي الصَّحَابَة، أَو لَا ينتشر. فَإِن لم ينتشر، فَلَا ريب أَنه لَيْسَ بِإِجْمَاع. الحديث: 1475 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 1477 - وَلَكِن قد اخْتلف الْعلمَاء فِي أَنه هَل هُوَ حجَّة؟ وَالْمُخْتَار عندنَا: أَنه لَيْسَ بِحجَّة وَهَذِه الْمَسْأَلَة تذكر فِي أَحْكَام التَّقْلِيد، فِي آخر الْكتاب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. 1478 - وَأما إِذا قَالَ وَاحِد من الصَّحَابَة قولا، وانتشر فِي سَائِر الصَّحَابَة، وَلم يظهروا عَلَيْهِ " نكيراً " بل سكتوا عَنهُ، وَلم يتكلموا بوفاق وَلَا خلاف، فَهَل يكون ذَلِك إِجْمَاعًا؟ فَاخْتلف الأصوليون فِيهِ، فَذهب بَعضهم إِلَى أَن ذَلِك إِجْمَاع مَقْطُوع بِهِ. وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه لَيْسَ بِإِجْمَاع. 1479 - وَللشَّافِعِيّ رَضِي الله عَنهُ مَا يدل على المذهبين، وَآخر أَقْوَاله " اسْتَقر " على أَنه لَيْسَ بِإِجْمَاع. فَإِنَّهُ قَالَ: لَا ينْسب إِلَى سَاكِت قَول. وَهُوَ يَعْنِي هَذِه الْمَسْأَلَة. 1480 - ثمَّ الَّذين قَالُوا: إِنَّه إِجْمَاع /، افْتَرَقُوا فرْقَتَيْن: فَمنهمْ من لم يشْتَرط " فِي تحقق " الْإِجْمَاع انْقِرَاض الْعَصْر، كَمَا لَا يشْتَرط إِذا صرح الكافة بقول، وَمِنْهُم من قَالَ: يشْتَرط فِي هَذَا الضَّرْب الحديث: 1477 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 انْقِرَاض الْعَصْر، وَلَيْسَ كَمَا لَو بدر مِنْهُم قَول مُتَّفق عَلَيْهِ. فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط انْقِرَاض الْعَصْر فِيهِ. وَإِلَى هَذَا مَال الجبائي وَابْنه، وكأنهما صَارا إِلَى تَجْوِيز نطقهم بِخِلَاف مَا يَقُول. فَإِذا انقرضوا، زَالَ هَذَا الْمَعْنى. 1481 - وَالَّذين قَالُوا: إِن ذَلِك لَيْسَ بِإِجْمَاع، افْتَرَقُوا فرْقَتَيْن: فَمنهمْ من قَالَ: إِذا لم يكن إِجْمَاعًا، فَلَيْسَ بِحجَّة أَيْضا. وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن قَول الصَّحَابِيّ إِذا انْتَشَر، وَلم يظْهر من أحد خلاف، فَهُوَ حجَّة يعتصم بهَا، وَإِن لم يكن إِجْمَاعًا. 1482 - وَالَّذِي نرتضيه فِي ذَلِك إِنَّه لَيْسَ بِإِجْمَاع " إِذْ " انقسم سكُوت الساكتين إِلَى وُجُوه، فَجَاز أَن يكون السُّكُوت رضى مِنْهُم بالْقَوْل الْمُنْتَشِر فيهم، وَجَاز " غير ذَلِك ". فتقابلت الِاحْتِمَالَات الحديث: 1481 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 [و] لم يكن الْأَخْذ ببعضهما أولى. 1483 - وَهَا نَحن نقرر وُجُوه الِاحْتِمَال، وَقد ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ جملَة مِنْهَا، وَنحن نقتصر على مَا يَقع الِاسْتِقْلَال من جُمْلَتهَا فَنَقُول: لَعَلَّهُم سكتوا، مصيراً مِنْهُم إِلَى تصويب كل مُجْتَهد، وذهابا مِنْهُم إِلَى أَن مَا قَالَه، حق فِي حَقه. فَإِذا اعتقدوا ذَلِك، لم يلْزمهُم " الْإِنْكَار " عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ ذَلِك رُبمَا لَا يتَحَقَّق فِي حُقُوقهم. وَهَذَا كَمَا أَن عُلَمَاء الْأمة فِي حَال اختيارهم، لَو رَأَوْا مُضْطَرّا يَأْكُل الْميتَة، فَسَكَتُوا على فعله، كَانَ ذَلِك غير دَال على تَجْوِيز أكل الْمَيِّت فِي حق الكافة، مَعَ ثُبُوت الِاخْتِيَار وَانْتِفَاء الِاضْطِرَار، فَهَذَا وَجه. وَإِن نوزعنا فِي تصويب الْمُجْتَهدين، فسنقرره بأوضح الْوُجُوه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. 1484 - وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنا إِن قدرناهم غير قائلين بتصويب الْمُجْتَهدين إِجْمَاعًا، لَكَانَ فيهم من لَا يَقُول بذلك، فَيحْتَمل ذَلِك أَنهم مهما سكتوا. فَإِنَّمَا سكتوا لعلمهم بِأَن الْمُصِيب لَا يتَعَيَّن، فجوزوا أَن يكون ذَلِك الْقَائِل، هُوَ الْمُصِيب، وَإِن اعتقدوا أَن الْمُصِيب وَاحِد. فَلَمَّا لم يتَعَيَّن لَهُم ذَلِك، وَلم يُمكنهُم الْإِنْكَار، سكتوا وصمتوا. 1458 - وَالْوَجْه الآخر فِي الِاحْتِمَال: أَن يبدر القَوْل من وَاحِد، قد قطع اجْتِهَاده فِيهِ على غَلَبَة الظَّن، فَلَمَّا بَلغهُمْ ترددوا فِيهِ - وَكَانُوا فِي مهلة الحديث: 1483 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 الناظرين - ثمَّ ذهلوا عَن الْمَسْأَلَة وذهلت عَنْهُم، وَلَا يستبعد عقلا وَلَا سمعا. أما منع استبعاده عقلا: فَوَاضِح. وَأما استبعاده سمعا: فَذَلِك أَنا لَا نوجب أَن تكون كل الْمسَائِل مجتمعاً عَلَيْهَا، بل يجوز أَن يثبت بَعْضهَا مُجْتَهدا فِيهَا، وَبَعضهَا مَقْطُوعًا بهَا، فَلهَذَا الْوَجْه جَازَ أَن يسكتوا مترددين عَن جَوَاب الْمَسْأَلَة، ثمَّ يذهلوا عَنْهَا. 1486 - وَمن وُجُوه الِاحْتِمَال، أَن نقُول: إِذا كَانَت الْمَسْأَلَة مُجْتَهدا فِيهَا، فَلَا يجب على الْعلمَاء إِظْهَار إِنْكَار على من قَالَ فِيهَا بقول، لم يراغم فِيهَا حجَّة مَقْطُوعًا بهَا. فَلَا يتحتم على بَقِيَّة الْعلمَاء " صد " الْقَائِل عَن قَوْله، فحملهم على سكوتهم علمهمْ. بِأَنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِم إِظْهَار الْإِنْكَار، وَلَا يكون سكوتهم عَلَيْهِ للرضا بِهِ وَالِاعْتِرَاف. فَأنى يتَحَقَّق مَعَ هَذِه الْوُجُوه حمل سكوتهم على التصويب قطعا؟ 1487 - وَلَا [تتمّ] هَذِه الدّلَالَة، إِلَّا بِالْجَوَابِ عَن سُؤال: - وَهُوَ عُمْدَة الْمُخَالفين - وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا: لَا يجوز فِي مُسْتَقر الْعَادة أَن ينتشر / قَول فِي قوم تقوم بهم الْحجَّة، وهم لَا يوافقونه، وَلَا تحملهم رَغْبَة وَلَا رهبة على السُّكُوت عَنهُ، ثمَّ لَا يظْهر فِيهِ خلاف - إِن اعتقدوه! الحديث: 1486 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 فكفهم عَن إِظْهَار الْخلاف فِي مُسْتَقر الْعَادة واطرادها، دَلِيل على أَنهم لم يعتقدوا الْخلاف. قُلْنَا: فقد ذكرنَا وُجُوهًا تحملهم على السُّكُوت، من تصويب الْمُجْتَهدين، والتردد فِي مهلة الناظرين، وَالْعلم بِعَدَمِ وجوب الْإِنْكَار، وَإِنَّمَا يستبعد إطباق الْأمة على " سكت " أَو قَول من غير سَبَب يحملهم عَلَيْهِ. 1488 - ثمَّ نقُول لَهُم: مَا ذكرتموه، ينعكس عَلَيْكُم. فَإنَّا نقُول: يبعد فِي مُسْتَقر الْعَادة [أَن] ينتشر فِي أهل الْإِجْمَاع قَول، وهم يَعْتَقِدُونَ صِحَّته، وَلَا يبدر مِنْهُم فِي ذَلِك نطق بالوفاق، مَعَ اعْتِقَادهم بذلك، وارتفاع الْمَوَانِع عَن " إِظْهَاره ". فَهَذَا أبعد فِي الْعَادَات مِمَّا ذَكرُوهُ، وَهَذَا مَا لَا جَوَاب عَنهُ، فَهَذَا وَجه الرَّد على هَؤُلَاءِ. 1489 - وَأما من يشْتَرط انْقِرَاض الْعَصْر، فَهُوَ وَاضح الْفساد. فَإنَّا نقُول: إِن لم يدل سكُوت الْعلمَاء على قَول، خمسين سنة فَصَاعِدا _ وَالْقَوْل منتشر فيهم - على الرِّضَا بِهِ وتصديق قَائِله وَتَقْرِيره على مذْهبه، فبأن يموتوا عَلَيْهِ، لَا يدل سكوتهم عَلَيْهِ أَيْضا، وكل مَا قدمْنَاهُ من الْأَدِلَّة على أَن انْقِرَاض الْعَصْر لَا أثر فِي الْإِجْمَاع، فَيَعُود فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. وَإِن سلمُوا لنا، أَن انْقِرَاض الْعَصْر لَا يشْتَرط فِيمَا أطبقوا عَلَيْهِ قولا، " فَلَا حجَّة " فِيهِ مَعَ ذَلِك فصلا أصلا. الحديث: 1488 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 1490 - وَأما من قَالَ: إِن القَوْل الْمُنْتَشِر حجَّة، وَإِن لم يكن إِجْمَاعًا. فَيُقَال لهَذَا الْقَائِل: إِن عنيت بذلك أَن قَول الْوَاحِد من الصَّحَابَة حجَّة، فسنبطل ذَلِك فِي كتاب التَّقْلِيد، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَإِن انتحيت فِي مذهبك نَحْو مَذْهَب المجمعين، وَجعلت قَوْله حجَّة، لاعتقاد لَهُ أَن سكُوت المجمعين تَقْرِير مِنْهُم وتصويب، فقد أوضحنا إبِْطَال ذَلِك القَوْل. على أَنا نقُول: إِن اعتقدت ذَلِك، فَيجب عَلَيْك الْقطع بِكَوْنِهِ إِجْمَاعًا، إِذْ لَا فصل بَين أَن يدل على الِاتِّفَاق سكُوت، أَو يدل عَلَيْهِ نطق. 1491 - وَمِمَّا تمسك بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَن السُّكُوت إِجْمَاع، أَن قَالُوا: الْعِصْمَة وَاجِبَة لكافة الْأمة، كَمَا أَنَّهَا وَاجِبَة للرسول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَمن تجب لَهُ الْعِصْمَة فسكوته تَقْرِير، كالرسول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَاعْلَم أَن هَذَا اقْتِصَار على طرد " لَا يرتضى " فِي مسَائِل الْقطع. فَأول مَا نطالبهم بِهِ، أَن نقُول: لم قُلْتُمْ أَن تَقْرِير رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ شرعا لوُجُوب عصمته؟ وَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَن تَقْرِيره كَانَ شرعا لدلَالَة أُخْرَى، سوى وجوب عصمته؟ وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك: أَن وجوب الْعِصْمَة يَخُصُّهُ، وَلَا يتَعَدَّى إِلَى غَيره. " ثمَّ " يُقَال: إِن سكته على فعل غَيره شرع، لعصمته فِي نَفسه. الحديث: 1490 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 فَإِن قَالُوا: يثبت وجوب عصمته عَن السُّكُوت على الْبَاطِل. قُلْنَا: الْأَمر على مَا قلتموه، وَكَذَلِكَ فِي الْأمة، وَلَكِن من أَيْن وضوح الْبطلَان واستيقانه، أَو ثُبُوت الصِّحَّة وَالْقطع بهَا. 1492 - وَالَّذِي يحسم الْبَاب فِي ذَلِك، أَن نقُول: لَا يجوز مَعَ الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَتَقْرِيره بَقَاء الريب وَالِاجْتِهَاد، وَلَا خلاف أَنه يسوغ فِي الْأمة " ترديد " القَوْل، والتمسك بطرق الِاجْتِهَاد فَمن / هَذَا الْوَجْه افترق الْأَمْرَانِ افتراقاً وَاضحا. وَذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي خلل الْكَلَام أسئلة تلِيق بتصويب الْمُجْتَهدين وأحال، ثمَّ استقصاها، على مَا سَيَأْتِي، وَنحن رَأينَا تَأْخِيرهَا. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق. (259) القَوْل فِي جَوَاز انْعِقَاد إِجْمَاع الْأمة من جِهَة الْقيَاس والرأي وَوجه الْخلاف فِيهِ 1493 - الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب يخْتَص بالقائلين بِالْقِيَاسِ. فَإِن الحديث: 1492 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 المنكرين لَهُ " قاطعون " بِبُطْلَان الْقيَاس - فِي اعْتِقَادهم -. فَإِذا قطعُوا بذلك، أحالوا إِجْمَاع الْأمة على بَاطِل. وَأما الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ: افْتَرَقُوا فرقا. 1494 - فَصَارَ ابْن جرير الطَّبَرِيّ إِلَى أَنه لَا يتَصَوَّر إِجْمَاع الْأمة على قِيَاس، وَلَو قدر خرق الْعَادة، واجتمعوا عَلَيْهِ، كَانَ حجَّة قَاطِعَة. 1495 - وَصَارَ آخَرُونَ إِلَى أَن الِاجْتِمَاع على قِيَاس وَاحِد مُتَصَوّر، وَلَكِن مهما اتّفق ذَلِك، لم يقتض الْإِجْمَاع قَاطِعَة. الحديث: 1494 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 1496 - وَالصَّحِيح: تصور الْإِجْمَاع على حكم وَاحِد صادر من قِيَاس، ثمَّ إِذا تصور ذَلِك الْإِجْمَاع [فَهُوَ] حجَّة قَاطِعَة. 1497 - وَالدَّلِيل على تصور الْإِجْمَاع - على خلاف مَا قَالَه ابْن جرير الطَّبَرِيّ - أَنا نرى طوائف من الْعلمَاء، مُجْمِعِينَ على عِلّة وَاحِدَة، مَعَ خُرُوجهمْ عَن الْحصْر، وَلَو قدرُوا عدد الْإِجْمَاع عِنْد فقد من سواهُم وعداهم، لم يبعد ذَلِك فيهم، وَذَلِكَ نَحْو أَصْحَاب الشَّافِعِي، حَيْثُ أَجمعُوا على أَن الطّعْم عِلّة فِي الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة، وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ. وَالَّذِي يجوز الْإِجْمَاع على الحكم الْوَاحِد، لَا يدْرك لَوْلَا الْإِجْمَاع، بِدلَالَة من أَدِلَّة الْقطع، يجوز الْإِجْمَاع على قِيَاس وَاحِد. 1498 - وَمن الدَّلِيل على تصور الْإِجْمَاع، أَنا نجد من الْكَفَرَة أَقْوَامًا، يزِيد عَددهمْ على أَضْعَاف عدد الْمُسلمين، وهم مَعَ ذَلِك متفقون على رد الْإِسْلَام " شُبْهَة "، اعتقدوها بَاطِلَة قطعا، فلئن سَاغَ الِاجْتِمَاع على شُبْهَة وَاحِدَة من أَقوام [هَذِه] عدتهمْ، فَلَا يبعد ذَلِك فِي الْمُسلمين أَيْضا. فَهَذَا وَجه الرَّد على منع تصور الْإِجْمَاع على قِيَاس وَاحِد. 1499 - وَالدَّلِيل على أَن الْإِجْمَاع إِذا تصور، كَانَ حجَّة قَاطِعَة: " وَهُوَ الحديث: 1496 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 مَا تمسكنا بِهِ " فِي إِثْبَات أصل الْإِجْمَاع، مَعَ ضروب من الْأَدِلَّة، وَمن يقْدَح فِي شَيْء مِنْهَا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، لزمَه الْقدح فِي سائرها فِي أصل الْإِجْمَاع. 1500 - وَمن الدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه قد ثَبت بالأدلة القاطعة، كَون الْقيَاس الشَّرْعِيّ حجَّة من حجج الله تَعَالَى. كَمَا ثَبت ذَلِك فِي نُصُوص الْكتاب وَالسّنة المتواترة. فَكَمَا تقوم حجَّة الْإِجْمَاع عَن النُّصُوص، لكَونهَا أَدِلَّة على الْأَحْكَام، فَيجب نَحْو ذَلِك فِي الْقيَاس، وَالْجَامِع بَينهمَا فِي طَرِيق السبر والتقسيم [كَون] كل وَاحِد دَلِيلا. شُبْهَة الْمُخَالفين فِي منع كَون الْقيَاس مُسْتَند الْإِجْمَاع 1501 - فمما اسْتدلَّ بِهِ ابْن جرير الطَّبَرِيّ، أَن قَالَ: الْقيَاس مِمَّا لَا يسْتَدرك قطعا، فيبعد فِي اطراد الْعَادَات، أَن يجمع أهل الْإِجْمَاع على ضرب وَاحِد من الاستنباط، - مَعَ أَنه لَا يقطع بِهِ - وَمَعَ تفَاوت الخواطر والأفهام فِي بطئها وذكائها. فَيُقَال: مَا ذكرته، يبطل عَلَيْك باجتماع مثل أَصْحَاب الشَّافِعِي - رَحمَه الله - على الْعلَّة الْوَاحِدَة، وَكَذَلِكَ يبطل بالاجتماع على الشُّبْهَة الْوَاحِدَة. فَإِنَّمَا فَرضنَا الْكَلَام فِي الشُّبْهَة، حَتَّى لَا يُمكنهُ الْفَصْل بَين الدّلَالَة الْعَقْلِيَّة وَالْقِيَاس. بِكَوْن الدّلَالَة الْعَقْلِيَّة مَقْطُوعًا بهَا فَبَطل مَا قَالَه. على أَنا لسنا " نتصور " الْإِجْمَاع من كَافَّة الْعلمَاء / فِي جَمِيع الحديث: 1500 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 الْأَعْصَار فِي لَحْظَة وَاحِدَة، بل إِنَّمَا نتصور ذَلِك فِي مهلة ونظرة وانتشار من الْأَخْبَار. والتصوير مَعَ ذَلِك لَا يبعد. 1502 - وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ أَيْضا، أَن قَالَ: الْعَصْر لَا يَخْلُو عَن طَائِفَة من الْعلمَاء يُنكرُونَ الْقيَاس. فَكيف يتَصَوَّر من كافتهم الْإِجْمَاع على قِيَاس وَاحِد؟ قُلْنَا: سنبين فِي كتاب أَحْكَام المقايس، أَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي عصرهم كَانُوا مُجْمِعِينَ " على " الْأَخْذ بِالْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا حدث رد الْقيَاس فِي الْأَعْصَار الْمُتَأَخِّرَة. فَهَذَا وَجه بَين فِي التفصي. 1503 - على أَنا نقُول: إِذا كَانَ الْكَلَام فِي التَّصَوُّر، فيتصور من رادى الْقيَاس الرُّجُوع الى مَنْهَج الْحق فِي القَوْل بِالْقِيَاسِ، حَتَّى إِذا تصور ذَلِك، تصور بعد الْإِجْمَاع على قِيَاس وَاحِد، إِذْ هَذِه الْمَسْأَلَة - وَهِي إِثْبَات الْقيَاس حجَّة - من الْمسَائِل القطعية، فيسوغ ارْتِفَاع الْخلاف فِيهَا، كَمَا يسوغ ارْتِفَاع الْخلاف فِي جملَة مَا يقطع بِهِ فِي أصُول العقائد. الحديث: 1502 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 1504 - فَأَما من قَالَ: يتَصَوَّر الْإِجْمَاع على الْقيَاس الْوَاحِد، وَمنع كَونه حجَّة، فَكَذَا اسْتدلَّ بطرق: مِنْهَا: أَن القائسين فِي الشَّرِيعَة مجمعون على أَن كل قِيَاس مستنبط لَا يقطع بِهِ. فَكيف يتَصَوَّر كَون الْإِجْمَاع حجَّة قَاطِعَة، مَعَ اتِّفَاق القائسين على أَن الأقيسة لَا تُؤدِّي إِلَى الْعلم وَالْقطع! ؟ قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه، تلبيس مِنْكُم. وَذَلِكَ أَنا لَا نقطع بِمُقْتَضى الْقيَاس الْوَاحِد، إِذا لم يجْتَمع عَلَيْهِ أهل الْإِجْمَاع، وَأما إِذا اجْتَمعُوا عَلَيْهِ وَقَطعُوا بِكَوْنِهِ حجَّة، فَلَا نسلم مَعَ ذَلِك التَّرَدُّد فِيهِ. على أَنا نقُول: الْقيَاس يُفْضِي إِلَى وجوب الْعَمَل. وَإِن كَانَ لَا يفضى إِلَى الْعلم. وَنحن " أثبتنا " تصور الْإِجْمَاع على وجوب الْعَمَل قطعا. وَهَذَا وَاضح فِي رد مَا قَالُوهُ. 1505 - وَمِمَّا عولوا عَلَيْهِ أَن قَالُوا: مهما أَجمعُوا على حكم صادر عَن قِيَاس، فقد سوغوا الِاجْتِهَاد فِيهِ، وَجعلُوا للاعتبار مجالاً فَلَو أَوجَبْنَا الِاقْتِصَار على مَنْهَج وَاحِد فِي الْقيَاس، مَعَ إِجْمَاعهم على أَن " للاعتبار " وَالنَّظَر فِيهِ مجالاً، كَانَ ذَلِك خلاف مُقْتَضى الْإِجْمَاع. فَنَقُول: أَرَأَيْتُم لَو أَجمعُوا على قِيَاس وَاحِد، وَزَعَمُوا أَنه الدَّلِيل دون مَا عداهُ، فَكيف يتَحَقَّق مَعَ هَذَا التَّصْوِير، تسويفهم بجملة طرق الحديث: 1504 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 الِاجْتِهَاد؟ وَقد جَوَّزنَا عَلَيْهِم - كَمَا ترَوْنَ - الْقطع بِنَفْي " مَا عدا " قِيَاس وَاحِد. على أَنا نقُول: إِذا أَجمعُوا على حكم وَاحِد، وَقَطعُوا بِهِ على قِيَاس، فَلَا يخلون إِمَّا أَن يجمعوا مَعَ ذَلِك، على منع مَا عدا ذَلِك الْقيَاس الْوَاحِد، فَلَا يسوغ التَّمَسُّك بِغَيْرِهِ، وَإِن تمسكوا بِقِيَاس وَاحِد وَحكم وَاحِد فَلَا يسوغ إِثْبَات حكم زَائِد على ذَلِك الحكم، وَلَكِن إِن تمسك متمسك بطرِيق آخر من طرق الْقيَاس، يُؤَدِّي إِلَى غير ذَلِك الحكم الَّذِي أَجمعُوا عَلَيْهِ، فَلَا حرج عَلَيْهِ حِينَئِذٍ. فَهَذَا وَجه تَفْصِيل الْمذَاهب. فقد " أوضح " الرَّد على مَا قَالُوهُ. 1506 - وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَيْضا، أَن قَالُوا: من حكم مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ جَوَاز الاستنباط وَالْقِيَاس عَلَيْهِ. فَلَو جَوَّزنَا الْإِجْمَاع على قِيَاس، لامتنع الْقيَاس على مورد الْإِجْمَاع، فَإِن مَا ثَبت قِيَاسا لَا يُقَاس على مَا ثَبت نصا. قُلْنَا: هَذَا الْآن تعرض مِنْكُم لتفصيل الْقيَاس. والخوض فِيهِ يصدنا عَن الْمَقْصد، وَنحن نجوز الاسنباطات مِمَّا ثَبت قِيَاسا، كَمَا نجوز ذَلِك فِيمَا ثَبت نصا. الحديث: 1506 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 (260) (الرَّد على الظَّاهِرِيَّة فِي تَخْصِيص حجية الْإِجْمَاع بالصحابة) 1507 - قد حكينا فِيمَا قدمْنَاهُ / عَن أَصْحَاب الظَّاهِر تَخْصِيص حجية الْإِجْمَاع بالصحابة، مَعَ مصيرهم إِلَى نفي الْقيَاس، وَقَوْلهمْ إِن الْإِجْمَاع لَا يتَصَوَّر انْعِقَاده، إِلَّا عَن نَص يقطع بِهِ. 1508 - وَقد وَجه عَلَيْهِم أَصْحَابنَا مَا تخبطوا فِيهِ. فَقَالُوا: إِذا قُلْتُمْ إِن الْإِجْمَاع لَا ينْعَقد فِي الْأَحْكَام عَن اجْتِهَاد وَقِيَاس، [و] إِنَّمَا ينْعَقد عَن نَص مَقْطُوع بِهِ، فسبيله إِذا سَبِيل النَّقْل الْمُتَوَاتر، وَمَا كَانَ سَبيله النَّقْل، فيستوي فِيهِ أهل الْأَعْصَار أجمع. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَن أهل عصرنا لَو قدر مِنْهُم الِاجْتِمَاع على خبر عَن مُشَاهدَة، اقْتضى ذَلِك الْعلم قطعا، وَهَذَا مِمَّا يدْرك ضَرُورَة، وجاحده ينْسب إِلَى جحد البديهة. كَيفَ! وَقد قدمنَا فِي كتاب الْأَخْبَار المتواترة وإفضاءها إِلَى الْقطع لَا يخْتَص بِالْمُسْلِمين، بل يتَصَوَّر ذَلِك بالكفار، تصَوره بالأبرار من الْمُسلمين. " فَلَو صَحَّ " مَا قلتموه من حصر الْإِجْمَاع فِي النَّص الْمَقْطُوع بِهِ، اسْتَحَالَ مَعَ ذَلِك تَخْصِيص الْإِجْمَاع بِالْمُسْلِمين فِي الْعَصْر الأول. الحديث: 1507 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 1509 - وَهَذَا لعمري صَعب موقعه عَلَيْهِم، وَلَا مخلص لَهُم عَنهُ إِلَّا شَيْء وَاحِد - أَوْمَأ إِلَيْهِ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ - وَهُوَ أَنه قَالَ: إِنَّمَا يظْهر " الْفضل " بَين الْعَصْر الأول، وَمَا بعده فِي شَيْء وَاحِد. وَهُوَ أَن أهل الْعَصْر الأول، لَو رجعُوا إِلَى عدد يقصر عَن أقل عدد التَّوَاتُر، نَحْو الْأَرْبَعَة فَمَا دونه، ثمَّ أَجمعُوا مَعَ ذَلِك على حكم " على نَص " لزم الْقطع بِمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ، وَإِن لم يَكُونُوا عدد التَّوَاتُر مصيراً إِلَى حجَّة الْإِجْمَاع. 1510 - وَلَو تصور ذَلِك فِي سَائِر الْأَعْصَار الْمُتَأَخِّرَة، لم تقم الْحجَّة. وَهَذَا الَّذِي ذكره القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، انْفِصَال - لَو قَالَ بِهِ أَصْحَاب الظَّاهِر، وَهُوَ الْمَنْقُول عَنْهُم، أَن سَائِر الْأَعْصَار لَا تكون حجَّة سَوَاء كَانُوا بالغين عدد التَّوَاتُر، أَو منحطين فِي الْعدَد عَن هَذِه الرتب، فَمَعَ ذَلِك يتَّجه عَلَيْهِم السُّؤَال. وَإِن قَالُوا بِمَا قَالَه القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، فيتضح انفصالهم، وَيجب بعد ذَلِك التعويل على مَا قدمْنَاهُ، فِي وُجُوه الرَّد عَلَيْهِم، فِي بَاب سبق. الحديث: 1509 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 (261) بَاب القَوْل فِي إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة، وَوجه الْخلاف فِيهِ 1511 - اعْلَم، أَن مَا صَار إِلَيْهِ المحصلون من أَرْبَاب الْأُصُول: أَن أهل الْمَدِينَة - يَعْنِي " علماءها " - إِذا أَجمعُوا على حكم، لم يساعدهم عَلَيْهِ عُلَمَاء سَائِر الْأَمْصَار، فَلَا تقوم الْحجَّة باتفاقهم، وَإِنَّمَا تقوم الْحجَّة بِاتِّفَاق عُلَمَاء الْمُسلمين قاطبة، حَيْثُ مَا كَانُوا من بِلَاد الله. 1512 - وَذهب بعض المنتمين إِلَى الْأُصُول، إِلَى أَن الْإِجْمَاع الْمَفْرُوض اتِّبَاعه وَهُوَ إِجْمَاع أهل الْحَرَمَيْنِ، و " البصرتين "، عنوا بالحرمين - مَكَّة وَالْمَدينَة وبالبصرتين - الْبَصْرَة والكوفة. وَإِنَّمَا " صَارُوا " إِلَى ذَلِك لاعتقادهم تَخْصِيص الْإِجْمَاع بالصحابة، وَلَقَد كَانَ موطن الصَّحَابَة " هَذِه " الْبِلَاد، وَمَا خرج مِنْهَا إِلَّا الشذوذ مِنْهُم. الحديث: 1511 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 1513 - ويحكى عَن مَالك رَضِي الله عَنهُ، أَنه قَالَ: مهما اتّفق أهل الْمَدِينَة - يَعْنِي علماءها - على حكم، فَهُوَ مَقْطُوع بِهِ. الحديث: 1513 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 وَقد ذكر أَصْحَاب مَالك لذَلِك طرقاً من التَّأْوِيل، سنذكرها فِي أثْنَاء الْحجَّاج، ونبين فَسَادهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى. 1514 - وَالصَّحِيح من الْمذَاهب: اعْتِبَار إِجْمَاع كَافَّة الْعلمَاء فِي كل عصر، من غير تَخْصِيص بِأَهْل بلد، وَفِي مَا قدمْنَاهُ من الدَّلِيل على أَن مُخَالفَة الْوَاحِد من الْعلمَاء يمْنَع انْعِقَاد الْإِجْمَاع، أوضح الدَّلِيل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. وَجُمْلَة مَا " قَالَه " من الْأَدِلَّة على أصل الْإِجْمَاع، تَنْفِي التَّخْصِيص بِأَهْل بلد، وتوجب تعلق الْحجَّة بالأمة قاطبة، فَلَو سَاغَ إِزَالَة ظواهرها، أَو تخصيصها بِبَعْض عُلَمَاء الْأَمْصَار، سَاغَ لبَعض النَّاس / تخصيصها بِالْعشرَةِ المسمين فِي " الْجنَّة " من الصَّحَابَة، أَو سَاغَ تخصيصها بِأَهْل الرضْوَان، أَو بِأَهْل بدر، أَو غَيرهم من الَّذين تخصصوا بضروب من الْفَضَائِل. 1515 - وَمن الدَّلِيل على بطلَان ذَلِك، أَن نقُول: نَحن نعلم أَن مَالِكًا رَضِي الله عَنهُ، لم يعن بِأَهْل الْمَدِينَة الَّذين ولدُوا فِيهَا، وَإِنَّمَا يَعْنِي الْعلمَاء الَّذين اجْتَمعُوا فِيهَا. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَن مُعظم الْمُهَاجِرين، مَا كَانَ مولدهم بِالْمَدِينَةِ، مَعَ كَونهم من أهل الْإِجْمَاع فَإِذا ثَبت أَنه لم يعْتَبر المولد، وَإِنَّمَا اعْتبر اجْتِمَاعهم مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي الْمَدِينَة، وتلقيهم الْأَحْكَام مِنْهُ، فَنَقُول على ذَلِك: فَإِذا اسْتَأْثر الله برَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي الْمَدِينَة، ثمَّ تفرق النَّاس عَن الْمَدِينَة بعد الحديث: 1514 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 استوائهم فِي التلقي عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، أَي شَيْء الَّذِي يُوجب خُرُوج " الخارجين " عَن أهل الْإِجْمَاع؟ 1516 - أَو نقُول: الَّذين تلقوهُ عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وَهُوَ بِمَكَّة، أَو فِي بعض أَسْفَاره وغزواته مَا " تلقوهُ "، وَلم تتفق لَهُم الرّجْعَة إِلَى الْمَدِينَة فقد " يُسَاوِي " القاطنين بهَا فِي " الْأَخْذ " من رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَمَعَ ذَلِك أخرجه مَالك رَضِي الله عَنهُ عَن الِاعْتِدَاد بِهِ! 1517 - وَمِمَّا يُوضح مَا قُلْنَاهُ، أَيْضا أَن نقُول: قَود هَذَا الأَصْل يَقْتَضِي، أَن عليا وَابْن مَسْعُود وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعَائِشَة وَغَيرهم من جملَة الصَّحَابَة لما فارقوا الْمَدِينَة، لَو قَالُوا قولا، وَقَالَ القاطنون بِالْمَدِينَةِ قولا: فَلَا يكترث بقول الخارجين من الْمَدِينَة - لَو اتّفقت لَهُم " دَعْوَى " وعنت لَهُم مَسْأَلَة - عِنْد خلافهم حِينَئِذٍ، وَهَذَا بعد عَظِيم. فَلَمَّا وضح لكل نَاظر، بطلَان تَخْصِيص الْإِجْمَاع بِأَهْل الْمَدِينَة، " احتال " منتحل مَذْهَب مَالك فِي تَأْوِيل مذْهبه، وَحمله على طرق، وَلَا يكَاد يَسْتَقِيم شَيْء مِنْهَا. الحديث: 1516 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 1518 - مِنْهَا: أَنهم قَالُوا: إِنَّمَا أَرَادَ مَالك رَضِي الله عَنهُ اتِّفَاق أهل الْمَدِينَة على مَا شاهدوه من رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ونقلوه " تواترا "، نَحْو نقلهم مَوضِع الْمِنْبَر والقبر وَغَيرهمَا. فتقوم الْحجَّة بهم. وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ، قَبِيح جدا. " فَإِنَّهُ " صَحَّ من مَالك تَخْصِيص أهل الْمَدِينَة، تَعْظِيمًا لقدرهم وتمييزاً لَهُم عَن سَائِر الْبِلَاد، وَإِذا حمل مذْهبه على نقل التَّوَاتُر، فَفِيهِ إبِْطَال هَذَا الأَصْل، فَإِن الْكفَّار إِذا بلغُوا عدد التَّوَاتُر، ونقلوا عَن بلدهم خَبرا متواتراً، أفْضى ذَلِك إِلَى الْقطع وَالْعلم الضَّرُورِيّ. وَكَذَلِكَ القَوْل [فِي] أهل كل بلد، فَلَا معنى للتخصيص إِذا. 1519 - وَذهب قوم من أَصْحَاب مَالك رَضِي الله عَنهُ، إِلَى حمل مَا قَالَه على محمل آخر، فَقَالُوا: إِنَّمَا خصص أهل الْمَدِينَة فِيمَا يتَعَلَّق بالناسخ الحديث: 1518 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 والمنسوخ، فَإِنَّهُ يعْتَبر فِيهِ بالتقدم والتأخر، وَالْمَدينَة بَلْدَة وَفَاة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَأَهْلهَا شاهدوا مَا تَأَخّر من أَفعاله وأقواله، وَمَا تقدم مِنْهَا، وَكَانُوا بذلك أعرف النَّاس بالناسخ والمنسوخ. و " لزمَه " لأَجله الْمصير إِلَى مَا قَالُوهُ. وَهَذَا أَيْضا ظَاهر الْفساد، وَذَلِكَ أَنا نقُول لَهُم: هَل تَقولُونَ إِن من شَرط النَّاسِخ أَن يَقع شَائِعا، حَتَّى لَا ينْقل إِلَّا تواتراً؟ أم تجوزون أَن يَقع على الْوَجْهَيْنِ، متواتراً تَارَة وآحاداً أُخْرَى؟ فَإِن أوجبتم وُقُوعه شَائِعا، فقد أحلتم فِيمَا قُلْتُمْ. إِذْ لَو سَاغَ ذَلِك فِيمَا ينْسَخ بِهِ، لساغ فِيمَا يتَضَمَّن إِثْبَات حكم ابْتِدَاء. فَدلَّ على أَن النَّاسِخ يَنْقَسِم فِي مورده، فَمِنْهُ الْمُتَوَاتر، وَمِنْه الْمَنْقُول آحاداً. " فَإنَّا " / نجد النَّاسِخ منقسماً، وَلم ينْقل كُله نقل الصَّلَوَات وَمَا عَداهَا، مِمَّا نقل استفاضة، فَإِذا ثَبت ذَلِك، فَلم لَا يجوز [علم] عَليّ وَطَلْحَة وَغَيرهمَا من الَّذين خَرجُوا من الْمَدِينَة، بضروب من النَّاسِخ والمنسوخ، واستقلوا بِهِ دون غَيرهم، ونقلوه لأهل الْبِلَاد الَّتِي قطنوها، على أَن الَّذين تبددوا فِي الْبِلَاد من الصَّحَابَة كَانُوا زائدين على أقل عدد التَّوَاتُر. فَبَطل من هَذَا الْوَجْه تَخْصِيص أهل الْمَدِينَة. وَالَّذِي يُحَقّق الْمَقْصد: أَن من النَّاسِخ مَا ثَبت بِمَكَّة، مُدَّة إِقَامَة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بهَا، وَمِنْه مَا ثَبت فِي بعض أَسْفَاره، فَبَطل من كل وَجه تَخْصِيص أهل الْمَدِينَة. 1520 - فَإِن قَالَ قَائِل: من منتحلي مَذْهَب / مَالك: إِنَّمَا قَالَ رَضِي الحديث: 1520 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 الله عَنهُ مَا قَالَ لعلمه بِأَن أهل الْمَدِينَة كَانُوا كل الْعلمَاء فِي الصَّدْر الأول / وَإِنَّمَا قَالَ مَا قَالَه فِي الصَّدْر الأول، دون مَا عداهُ من الْأَعْصَار المتعاقبة. فَنَقُول: مَالك رَضِي الله عَنهُ أعرف بِالْآيَاتِ ومواقع الْأَخْبَار، من أَن يَقُول ذَلِك، فَإِنَّهُ إِن قَالَه وَرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بَين أظهر الصَّحَابَة، فَلَا معنى للْإِجْمَاع مَعَ بَقَائِهِ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَلما اسْتَأْثر الله بِرَسُولِهِ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، تبدد أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي الأقطار، لإِظْهَار الدعْوَة وإبداء كلمة الْإِسْلَام، وَكَانَ قد خرج طوائف مِنْهُم فِي زمَان رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي الرسالات وَالْقِيَام على الْأَعْمَال وجباية الْأَمْوَال، فَمَا كَانَت الْمَدِينَة - مذ كَانَت - جَامِعَة لكل الصَّحَابَة. 1521 - فَإِن قَالَ من أَصْحَاب مَالك قَائِل: إِنَّمَا عَنى مَالك رَضِي الله عَنهُ بِمَا قَالَ: تَرْجِيح قَول أهل الْمَدِينَة على قَول غَيرهم، لقربهم من رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، ومشاهدتهم مُرَاد الْوَحْي، فَكَانُوا أولى بِالْحِفْظِ وَالرِّعَايَة من غَيرهم. وَهَذَا أَيْضا سَاقِط من أوجه. مِنْهَا: أَن الْكَلَام إِذا آل إِلَى التَّرْجِيح، خرج عَن الْقطع، وَإِنَّمَا عَنى مَالك " بقوله " الْقطع بقول أهل الْمَدِينَة، حَتَّى كَانَ يتْرك الْأَخْبَار الصَّحِيحَة لقَولهم وَالتَّرْجِيح والتلويح لَا يَقْتَضِي ذَلِك. ثمَّ نقُول: لَو سَاغَ [تَقْدِيم قَول أهل الْمَدِينَة، لساغ] تَقْدِيم أقاويل الحديث: 1521 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 الْعشْرَة المسمين بِالْجنَّةِ، ولساغ تَقْدِيم أَقْوَال الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، وَتَقْدِيم مَذْهَب من لَهُ هجرتان، ولساغ تَقْدِيم قَول الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار على مُسْلِمِي الْفَتْح. وكل ذَلِك بَاطِل بالحقائق بَيْننَا وَبَين مَالك، وَمَا ذَكرْنَاهُ أولى بالترجيح مِمَّا ذكره، على أَن التَّرْجِيح إِنَّمَا يسْتَعْمل بَين الدَّلِيلَيْنِ، فثبتوا أَن قَول أهل الْمَدِينَة حجَّة! لترجحوه على غَيره. 1522 - وَمن أَصْحَاب مَالك مِمَّن أفْصح بمذهبه، وَجعل قَول أهل الْمَدِينَة حجَّة قَاطِعَة، وَاسْتدلَّ لذَلِك بجمل من الْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي الْمَدِينَة وَأَهْلهَا. مِنْهَا: مَا روى عَنهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (إِن الْإِسْلَام ليأرز إِلَى الْمَدِينَة، كَمَا تأرز الْحَيَّة إِلَى جحرها) . و (إِن الْمَدِينَة تَنْفِي خبثها، كَمَا يَنْفِي الْكِير خبث الْحَدِيد) . الحديث: 1522 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 و " سَمَّاهَا " رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] طابة. وَقَالَ: (مَا بَين قَبْرِي ومنبري رَوْضَة من رياض الْجنَّة) . ثمَّ قَالَ: (لَا يكيد أهل الْمَدِينَة [أحد] إِلَّا انماع، كَمَا ينماع الْملح فِي المَاء) . وَقَالَ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (إِن الدَّجَّال لَا يدْخل الْمَدِينَة، فَإِن على كل فج مِنْهَا ملكا موكلاً) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 وَقَالَ: (الْمَدِينَة محفوفة بِالْمَلَائِكَةِ) ، إِلَى غير ذَلِك. وَلَا معتصم فِي شَيْء مِنْهَا، فَإِنَّهَا آحَاد، وَلَا تكَاد تبلغ مبلغ الاستفاضة. 1523 - على أَنه لَا حجَّة فِي شَيْء مِنْهَا، فَأَما قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (إِن الْإِسْلَام ليأرز إِلَى الْمَدِينَة) فَإِنَّهُ قَالَ ذَلِك فِي زَمَانه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " إِذا " كَانَ المنقلبون الَّذين يفدون عَلَيْهَا من الجوانب، وُفُود الطير على وَكرها. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك: أَنا نقطع بِأَنَّهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لم يرد بذلك كل زمَان أَو أَحْوَال، فالمدينة بعده [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] [مرت بهَا] أزمنة شغرت عَن الْعلمَاء فِيهَا، وَلم يقطنها إِلَّا أهل الْبدع. الحديث: 1523 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 وَمَا عدا ذَلِك من الْأَخْبَار، لَا حجَّة فِي شَيْء مِنْهَا، وَلَو تتبعتها، هان عَلَيْك مدركها. (262) فصل القَوْل فِي تَقْدِيم قَول الْخُلَفَاء الرَّاشِدين أَو الشَّيْخَيْنِ، على غَيرهم 1524 - ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى تَقْدِيم أقاويل الْخُلَفَاء الرَّاشِدين على غَيرهم. 1525 - وَذهب بَعضهم إِلَى تَخْصِيص أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنهُ بذلك. الحديث: 1524 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 1526 - وَاعْلَم أَن ذَلِك يبتني على أصل، سنقرره فِي بَاب التَّقْلِيد إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَهُوَ أَن قَول آحَاد الصَّحَابَة - من كَانُوا لَيْسَ بِحجَّة فَإِن نَفينَا كَونه حجَّة، انْتَفَى التَّرْجِيح أَيْضا. 1527 - وَإِن رام هَذَا الْقَائِل بِمَا قَالَه: أَن قَول هَؤُلَاءِ لَا يَقع إِلَّا إِجْمَاعًا، وَلَا يسوغ خلافهم، فقد خرق - بِمَا قَالَه إِجْمَاع الصَّحَابَة، فَإنَّا نعلم أَن أَبَا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَا يخالفان فِي كثير من الْأَحْكَام، وَهَذَا مِمَّا نعرفه نقلا متواتراً، وَكَانَا رَضِي الله عَنْهُمَا لَا ينكران تخالفاً، بل كثيرا مَا رجعا عَن مَذْهَبهمَا فَبَطل ادِّعَاء الْإِجْمَاع بِمُجَرَّد مذاهبهم، وسنشرح القَوْل فِي كتاب التَّقْلِيد إِن شَاءَ الله تَعَالَى. 1528 - وَرُبمَا ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن مَا انْتَشَر من قَول الْخَلِيفَة وَلم يظْهر عَلَيْهِ نَكِير، فَهُوَ إِجْمَاع، وَمَا انْتَشَر من قَول غَيره فَلَيْسَ بِإِجْمَاع. 1529 - وَمِنْهُم من قلب فَقَالَ: مَا انْتَشَر من قَول غَيره من غير نَكِير، فَهُوَ إِجْمَاع وَمَا انْتَشَر من قَول الْخَلِيفَة، وَلم يظْهر عَلَيْهِ نَكِير، فَلَيْسَ بِإِجْمَاع، فَإِنَّهُ رُبمَا يهاب فَلَا يُخَالف. وَهَذَا كَمَا روى أَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أظهر مذْهبه فِي الْعَوْل فِي الْفَرَائِض، فَقَالَ لَهُ بعض الصَّحَابَة: مَا بالك! لم تبد ذَلِك فِي زمَان عمر؟ فَقَالَ: كَانَ رجلا مهيباً، فهبته. الحديث: 1526 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 1530 - وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن مَا صدر مصدر الْقَضَاء وانتشر، فَهُوَ اجماع وَمَا صدر مصدر الْفَتْوَى، فَلَيْسَ كَذَلِك. 1531 - وَصَارَ بَعضهم إِلَى قلب ذَلِك. فصير الْفَتْوَى المنتشرة إِجْمَاعًا، وَمَا صدر مصدر الْقَضَاء، لَيْسَ بِإِجْمَاع. 1532 - وكل هَذِه الْمذَاهب بَاطِلَة عندنَا، وَمَا قدمْنَاهُ عِنْد القَوْل بِأَن القَوْل الْمُنْتَشِر مَعَ سكُوت الْعلمَاء عَنهُ، لَيْسَ بِإِجْمَاع. يرد على هَؤُلَاءِ. 1533 - وَرُبمَا يسْتَدلّ بعض هَذِه الطوائف، بأخبار فِي أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا، نَحْو قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " اقتدوا باللذين من بعدِي، أبي بكر وَعمر ". وَالْكَلَام على مثل هَذَا الْخَبَر يستقصى فِي التَّقْلِيد. 1534 - على أَنا نقابلهم الْآن بأخبار تعَارض مَا تمسكوا: مِنْهَا: مَا رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: (إِن أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ، بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ) وَهَذَا يَنْفِي التَّخْصِيص الَّذِي ادعوهُ. الحديث: 1530 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 وَقَالَ فِي معَاذ: " أعرفكُم بالحلال وَالْحرَام معَاذ ". وَقَالَ فِي عَليّ: " أَنا مَدِينَة الْعلم وَعلي بَابهَا ". وَقَالَ لَهُ: " أَنْت مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى، وَلَكِن لَا نَبِي من بعدِي ". إِلَى غير ذَلِك من الْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي جَمِيع الصَّحَابَة عُمُوما، أَو فِي بَعضهم خُصُوصا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 (263) بَاب القَوْل فِي اسْتِصْحَاب الْحَال، وَالْأَخْذ بِالْأَقَلِّ، وَمَا يتَّصل بِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 1535 - اعْلَم، وفقك الله، أَن القَوْل فِي ذَلِك يَنْقَسِم: فَرُبمَا يَصح فِي بعض الْأَحْوَال. وَرُبمَا لَا يَصح فِي بَعْضهَا. وَهَا نَحن نفصل القَوْل الْآن فِيهَا. فَنَقُول: التَّمَسُّك بِبَرَاءَة الذمم على اسْتِصْحَاب، سَائِغ. الحديث: 1535 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 1536 - وَوجه القَوْل فِيهِ، مَعَ التَّصْوِير فِي صُورَة منصوصة، أَن نقُول: إِذا / سَأَلَ الْوَاحِد من أَصْحَاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ، عَن وجوب الضحية، أَو الْوتر، فنفى الْوُجُوب وَلما طُولِبَ بِالدَّلِيلِ، قَالَ: الأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة عَن كل وَاجِب، إِلَى أَن تقوم الدّلَالَة على ثُبُوت الحديث: 1536 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 الْوَاجِبَات. وَإِلَّا فَحكم الْعقل، انْتِفَاء الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع، وَهُوَ مستصحب إِلَى أَن يثبت بالأدلة إشغال الذمم. 1537 - وَإِذا قَالَ السَّائِل: فَمَا يُؤمنك أَن دلَالَة قَامَت على وجوب الْوتر، وَلم تعثروا عَلَيْهَا؟ فَعِنْدَ ذَلِك اخْتلف. فَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْمُجيب، إِذا قَالَ: لَيْسَ عَليّ إِلَّا شدَّة التفحص والبحث على طلب الْأَدِلَّة، وَقد بذلت فِيهَا كنه جهدي، وَلم أكلف إِلَّا ذَلِك، فلئن كَانَ عنْدك دلَالَة، فَعَلَيْك إظهارها. وَهَذَا كَمَا أَن الْمُجيب، إِذا تمسك بِلَفْظَة عَامَّة، فَقَالَ السَّائِل: فَمَا يُؤمنك أَن دلَالَة من أَدِلَّة الشَّرْع تخصصها، وَقد ذهلت عَنْهَا، فَهَذَا تعد من السَّائِل للحد الْمَحْدُود لَهُ، وَعَلِيهِ إِقَامَة الْمُخَصّص إِذا كَانَ، فَكَذَلِك سَبِيل التَّمَسُّك بِبَرَاءَة الذِّمَّة، وَهَذَا لعمري مِمَّا يُقَوي مَعَ القَوْل بِالْعُمُومِ. 1538 - وَالَّذِي اخْتَارَهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، أَن قَالَ: إِذا عنت حَادِثَة لمجتهد، فَلم تقم عِنْده دلَالَة مقتضية وجوبا - بعد طلبه جهده، فَلهُ الْأَخْذ بِنَفْي الْوُجُوب فِي حق. فَإِنَّهُ لم يُكَلف إِلَّا أقْصَى الطّلب الدَّاخِل فِي مقدوره على اسْتِمْرَار الْعَادة، فَإِذا فعل ذَلِك، فَلم يجده كَانَ لَهُ الْأَخْذ بِنَفْي الْوُجُوب. فَأَما إِذا انتصب مسؤولاً، وَأَرَادَ نصب دلَالَة يناظر عَلَيْهَا، فَلَا يَسْتَقِيم لَهُ التَّمَسُّك بذلك. فَإِن الْمُجْتَهدين إِذا تناظرا وتذكرا طرق الِاجْتِهَاد، فَمَا الحديث: 1537 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 " يَفِي " الْمُجيب مِنْهُمَا، أَن يَقُول: لَا دَلِيل على الْوُجُوب، وَهل هُوَ فِي ذَلِك إِلَّا مُدع، فَلَا تسْقط عَنهُ عُهْدَة الطّلب بِالدّلَالَةِ، وَإِن كَانَ يسوغ التعويل على مَا قَالَه فِي حق نَفسه، فَتَأمل ذَلِك. ونزله على هَذِه الرُّتْبَة، فَهِيَ المرضية من الْأَقَاوِيل. 1539 - فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي التَّمَسُّك بِالْعُمُومِ، مَعَ اعْتِقَاد جَوَاز مَا يخصصه؟ قُلْنَا: أما الْعُمُوم فَلَا نقُول بِهِ، وَإِن اقْتَضَت قرينَة حَال تعميمها. وَهُوَ مَا نقطع بِهِ، وَلَا يجوز وُرُود مَا يخصصه إِلَّا على سَبِيل النّسخ. 1540 - فَإِن قيل: فَلَو قَالَ السَّائِل، " فليبدي " النَّاسِخ، إِن كَانَ، فَإِن الْمُكَلّفين " متعبدون " بالتمسك بالأخبار الصَّحِيحَة، وَلَا يمنعهُم عَنهُ تَجْوِيز النّسخ، وَيُقَوِّي ذَلِك على الأَصْل الَّذِي قدمْنَاهُ، من أَن النّسخ لَا يثبت الحديث: 1539 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 [فِي] حق من لم يبلغهُ. 1541 - وَمَا يَلِيق بمضمون اسْتِصْحَاب حكم. " وتصوير " ذَلِك أَن قَائِلا لَو قَالَ: من شرع فِي الصَّلَاة بِتَيَمُّم، وَإِجْمَاع الْعلمَاء على انْعِقَاد صلَاته، فَإِذا تمكن من اسْتِعْمَال المَاء أثْنَاء الصَّلَاة، فَمَا سبق من الْإِجْمَاع فِي صِحَة الصَّلَاة، يستصحب، فَهَل يكون ذَلِك حجَّة، يسوغ التَّمَسُّك بهَا؟ . مَا صَار إِلَيْهِ كَافَّة الْمُحَقِّقين: أَن ذَلِك لَيْسَ بِحجَّة. 1542 - وَذهب أَصْحَاب الظَّاهِر إِلَى أَنه حجَّة، ونراهم يشغفون بهَا فِي كثير من الْمسَائِل. 1543 - وَالدَّلِيل على بطلَان مَا صَارُوا إِلَيْهِ، أَن نقُول: إِذا انْعَقَد الْإِجْمَاع على انْعِقَاد الصَّلَاة، باستدامتها عِنْد رُؤْيَة المَاء، لَا تخلون فِيهَا، إِمَّا أَن تَقولُوا: هِيَ على الضَّرُورَة الَّتِي أَجمعُوا على الحكم فِيهَا، أَو تَقولُوا: هِيَ غَيرهَا. فَإِن قُلْتُمْ إِنَّهَا عينهَا، فَهَذَا جحد الضَّرُورَة، فَإنَّا نعلم أَن اسْتِدَامَة / الحديث: 1541 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 الصَّلَاة عِنْد رُؤْيَة المَاء " عِنْد " انْعِقَاد الصَّلَاة عِنْد عدم المَاء. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك: أَن القَوْل بانعقاد الصَّلَاة مَعَ القَوْل بِعَدَمِ انْعِقَادهَا وَتَقْدِير ذَلِك مَعَ وضوحه تكلّف. وَإِن هم قَالُوا: إنَّهُمَا حادثتان. فَيُقَال " لَهُم ": فموضع الْإِجْمَاع، الْحَادِثَة " الأولى " فَلم قُلْتُمْ: إِن الْإِجْمَاع إِذا استيقن فِي حَادِثَة، وَجب " نقلهَا " إِلَى أُخْرَى. 1544 - فَإِن قَالُوا: لِأَن الْإِجْمَاع، إِذا انْعَقَد، فَالْأَصْل بَقَاؤُهُ. إِلَّا أَن يقوم دَلِيل على ارتفاعه. قُلْنَا الْأَمر على مَا ذكرتموه، وَلَكِن لَا سَبِيل إِلَى رفع الْإِجْمَاع عَن مَحل الْإِجْمَاع، فَأَما تَقْدِير إِجْمَاع فِي غير مَحل الْإِجْمَاع، فتحكم لَا خَفَاء بِهِ. وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك: أَنه لَو كَانَ مَا ذكرتموه، تمسكاً بِإِجْمَاع لما سَاغَ الِاعْتِصَام بأخبار الْآحَاد فِيهِ، وَقد وافقتمونا أَنه لَو صَحَّ عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خبر نَقله الْآحَاد، وَاقْتضى الْخُرُوج من الصَّلَاة عِنْد رُؤْيَة المَاء، فيتمسك بِهِ. وَإِن كَانَ لَا يسوغ التَّمَسُّك بِخَبَر الْوَاحِد فِي مَوضِع الْإِجْمَاع. 1545 - فَإِن قَالُوا: فالحادثة الثَّانِيَة، تعْتَبر بموقع الْإِجْمَاع! الحديث: 1544 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 قُلْنَا: فَهَذَا تَصْرِيح مِنْكُم بِقِيَاس، وَلَا نصدكم عَنهُ، بعد أَن توفروا عَلَيْهِ شَرَائِط، من " التجويز " والطرد وتثبيت " معنى الأَصْل "، وأنى يَصح ذَلِك مِنْكُم، مَعَ إنكاركم الْقيَاس. فاجتزئ بِهَذَا الْقدر فِي الرَّد عَلَيْهِم، وَاعْلَم أَنه محتو على كل مَا شَرطه القَاضِي رَحمَه الله " تكريراً " أَو تَقْديرا. ثمَّ ذكر رَضِي الله عَنهُ، لَهُم شبها، يَتَّضِح فَسَادهَا، وَالَّذِي يعولون عَلَيْهِ، مَا ذَكرْنَاهُ أسئلة على دليلنا، فمما نَقله القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، أَن قَالَ. 1546 - فَإِن قَالُوا: إِذا ثَبت عندنَا موت خَليفَة فِي زمَان، فيستصحب ذَلِك فِي جملَة الْأَزْمَان الْمُسْتَقْبلَة، وَإِن نقل إِلَيْنَا الْمَوْت فِي وَقت مَخْصُوص، فِي هذيان طَوِيل. وَلَوْلَا أَن القَاضِي أوردهُ، لَكَانَ الإضراب عَنهُ أولى. فَنَقُول: إِنَّمَا علمنَا اسْتِمْرَار الْمَوْت، لأننا علمنَا ضَرُورَة فِي اطراد الْعَادَات أَن الْأَمْوَات لَا يحيون إِلَى قيام السَّاعَة، وَلِهَذَا من " الْمَعْنى " اعتقدنا اسْتِمْرَار الْمَوْت، لَا لما ذكرتموه، من اسْتِصْحَاب الْحَالة [الَّتِي] سبقت. وَلَهُم من هَذِه " الطرز " جمل، لَا تعجز عَن التفصي عَنْهَا، بعد مَا أحطت علما بمقصود الْبَاب. الحديث: 1546 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 (264) فصل الْأَخْذ بِالْأَقَلِّ 1547 - وَمِمَّا يتَعَلَّق بِمَا نَحن فِيهِ، الْأَخْذ بِالْأَقَلِّ. وتصويره: أَن من صَار إِلَى أَن دِيَة الْيَهُودِيّ ثلث دِيَة الْمُسلم، فَلَو طُولِبَ بِإِقَامَة الدّلَالَة عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَذَا الْقدر مُتَّفق عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَقَل، وَالْبَاقِي مُخْتَلف فِيهِ، فَهَل يكون ذَلِك دلَالَة؟ 1548 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: حكى عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ، التَّمَسُّك بِمثل ذَلِك. ثمَّ قَالَ: وَالظَّن بِهِ خلاف ذَلِك، وَلَعَلَّ النَّاقِل عَنهُ زل فِي نقل كَلَامه. الحديث: 1547 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 1549 - فَالَّذِي نرتضي من الْمذَاهب، أَن يُقَال: أما الْأَقَل فثابت إِجْمَاعًا. وَأما نفي مَا عداهُ، فموقوف على الدَّلِيل، فَإِن قَامَت دلَالَة على نفي مَا سواهُ، انْتَفَى، وَإِن قَامَت دلَالَة على نفي الْوُجُوب ... . وَأما أَن يُقَال: لَيْسَ الْإِجْمَاع على ثلث الدِّيَة يتَضَمَّن نفي الزَّائِد عَلَيْهِ، فَلَا وَجه لَهُ، وَلَا سَبِيل إِلَيْهِ، فَإِن الْإِجْمَاع على الشَّيْء لَا يدل على نفي سواهُ. 1550 - ويتصل بِهَذِهِ الْجُمْلَة، أَن الْإِجْمَاع على الْأَقَل / إِذا ثَبت وتفحص الْمُجْتَهد عَن الْأَدِلَّة، فَلم يعثر على دلَالَة يَقْتَضِي إِيجَابا، فِيمَا وَرَاء الحديث: 1549 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 الْأَقَل / فيسوغ لَهُ التَّمَسُّك بِحكم الْعقل فِي بَرَاءَة الذِّمَّة، على التَّرْتِيب الَّذِي بَعَثْنَاهُ لَك فِي صدر الْبَاب، فَهَذَا مَقْصُود الْبَاب وسره فتدبره. 1551 - وَاعْلَم أَن الْمَقْصُود لَا يثبت إِلَّا بطريقتين: " إِحْدَاهمَا ": انتصاب دلَالَة مقتضية حكما. وَالْأُخْرَى: انْتِفَاء الْأَدِلَّة الْمُقْتَضِيَة شغل الذِّمَّة، فَإِذا انْتَفَت استصحب حكم الْعقل. (265) فصل (تَحْقِيق القَوْل فِي أَن الْيَقِين لَا يتْرك بِالشَّكِّ) 1552 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: قد بنى الْفُقَهَاء جملا من مسائلهم على أَن الْيَقِين لَا يتْرك بِالشَّكِّ. وَهَذَا مِمَّا يجب تَحْصِيل القَوْل فِيهِ. فَنَقُول: الْيَقِين إِذا تحقق، لم يتَصَوَّر مَعَه شكّ، فضلا عَن ترك الْيَقِين بِهِ إِذا تَيَقّن! وَالشَّكّ " يُنَافِيهِ ". فَلَيْسَ الْمَعْنى بقول الْفُقَهَاء " لَا يتْرك الْيَقِين بِالشَّكِّ " الْمُتَيَقن الْمَقْطُوع بِهِ. وَلَكِن عنوا بذلك، أَن مَا سبق استيقانه، ثمَّ انْقَضى الْيَقِين، وَلم يستيقن الحديث: 1551 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 ارْتِفَاع مَا " استيقناه " أَولا فطرق الشَّك لَا يتَضَمَّن ارْتِفَاع الحكم مِمَّا استيقناه أَولا وَهَذَا نَحْو من يتَطَهَّر يَقِينا، ثمَّ يشك بعد ذَلِك فِي انْتِقَاض الطَّهَارَة، فَلَا يرْتَفع حكم مَا سبق من الطَّهَارَة المستيقنة، بِالْحَدَثِ الْمَشْكُوك فِيهِ. 1553 - ثمَّ اعْلَم، أَن هَذَا مَا لَا يطرد القَوْل فِيهِ، فقد تقوم الدّلَالَة بترك حكم مَا سبق " مِنْهُنَّ " عِنْد طروء الشَّك والالتباس، وَذَلِكَ نَحْو أَن يتَزَوَّج الرجل نسْوَة، ثمَّ يُطلق وَاحِدَة مِنْهُنَّ، لَا بِعَينهَا، فَلَا يجوز لَهُ أَن يقرب وَاحِدَة مِنْهُنَّ، حَتَّى تبين الْمُطلقَة مِنْهُنَّ، وَإِن كَانَت كل وَاحِدَة، قد سبق فِيهَا استيقان النِّكَاح، وَلم نقطع " بِطَلَاق ". 1554 - وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ مَعَ الرجل آنِية، فِيهَا مَاء طَاهِر، فاختلطت تِلْكَ الْآنِية بأواني، بَعْضهَا طَاهِرَة وَبَعضهَا نَجِسَة، وكل " آنِية " سبق فِيهَا استيقان الطَّهَارَة، وَإِنَّمَا النَّجَاسَة طارئة عَلَيْهَا، وَمَعَ ذَلِك لَا يجوز التَّمَسُّك الحديث: 1553 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 بِحكم مَا سبق من الْيَقِين. فَيخرج لَك عَمَّا قُلْنَاهُ: أَن اسْتِصْحَاب حكم الْيَقِين مِمَّا يَنْقَسِم حكم الشَّرْع فِيهِ: وَلَا يجوز التَّمَسُّك بِهِ فِي منَازِل الْأَدِلَّة، وَأَن استحصابه نَازل منزلَة اسْتِصْحَاب الْإِجْمَاع، وَمَا قدمنَا القَوْل فِيهِ أَولا. (266) القَوْل فِي أَن " النَّافِي " هَل تتَوَجَّه عَلَيْهِ الطّلبَة بِإِقَامَة الدّلَالَة 1555 - مَا صَار إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ من الْأُصُولِيِّينَ، أَن من نفى حكما عقلياً أَو شَرْعِيًّا. فَهُوَ فِي توجه الطّلبَة عَلَيْهِ بِإِقَامَة الدَّلِيل، نَازل منزلَة الْمُثبت. 1556 - وَذَهَبت شرذمة من النَّاس إِلَى أَن من نفى حكما شَرْعِيًّا أَو عقلياً، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِقَامَة الدّلَالَة. الحديث: 1555 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 1557 - وَالدَّلِيل على بطلَان ذَلِك، أَن نقُول: من نفى حكما، لم تخل حَالَته فِيمَا نفى، إِمَّا أَن يكون جَاهِلا بِمَا نَفَاهُ، أَو مشككا، أَو عَالما بِهِ. فَإِن كَانَ جَاهِلا بِمَا نَفَاهُ أَو مستريباً فِيهِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِقَامَة دلَالَة فِي إِثْبَات الريب وَالشَّكّ. إِذْ لَا تدل الْأَدِلَّة على الاسترابة، وَقد قدمنَا فِي صدر الْكتاب بِأَن الشُّبْهَة " لَا تَتَضَمَّن " الْإِفْضَاء إِلَى الْجَهْل وَالشَّكّ وغلبات الظنون وَلَكِن الْأَدِلَّة هِيَ الَّتِي تُؤدِّي إِلَى الْعلم بمدلولاتها. فَهَذَا لَو زعم النَّافِي أَنه جَاهِل أَو مستريب. وَإِن زعم أَنه عَالم بِمَا نَفَاهُ /، فالنفي مِمَّا يعلم كالإثبات، فَيُقَال لَهُ: للْعلم بالمعلوم طَرِيقَانِ: أَحدهمَا: الضَّرُورَة، وَالْآخر: الِاسْتِدْلَال. فَإِن كنت تعلم نفي مَا نفيته ضَرُورَة، فَيجب أَن تشاركه فِيهِ، وَلَو سَاغَ ادِّعَاء، الضَّرُورَة فِي " نفي " المنفيات، سَاغَ ادعاؤها فِي إِثْبَات المثبتات. فتتعارض الْأَقْوَال، وَيسْقط الْجِدَال. فَإذْ بَطل ادِّعَاء الضَّرُورَة فِي غير مَوْضِعه، فَلَا طَرِيق للْعلم بِالنَّفْيِ، إِلَّا الِاسْتِدْلَال، وَهَذَا مَا لَا محيص للخصم عَنهُ. 1558 - ثمَّ نقُول: لَو صحت هَذِه الطَّرِيقَة، لصَحَّ أَن يُقَال: إِن من أنكر حدث الْعَالم، أَو جحد الصَّانِع، فَلَا تتَوَجَّه عَلَيْهِ طلبة بِإِقَامَة حجَّة! وَكَذَلِكَ من نفي صِفَات الله تَعَالَى، أَو نفي وجوده من الباطنية، وَفِي هَذَا اجتراء عَظِيم على أصُول الدّين. الحديث: 1557 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 1559 - ثمَّ نقُول: " مَا " من إِثْبَات يدل عَلَيْهِ، إِلَّا وَيُمكن أَن يعبر عَنهُ بِالنَّفْيِ توصلاً إِلَى إِسْقَاط الْحجَّاج حَتَّى يُقَال: من سُئِلَ عَن حدث الْعَالم، فَلَا دَلِيل عَلَيْهِ، إِذْ مَقْصُوده نفي الْقدَم، وَهَذَا " يطرد " لَك فِي مُعظم مسَائِل الْإِثْبَات، فَتبين أَن الْمصير إِلَى هَذَا الْمَذْهَب، خبط وَجَهل من قَائِله بحقائق الْأُصُول. 1560 - وَرُبمَا اسْتدلَّ نَاصِر هَذَا الْمَذْهَب، بِأَن قَالَ: إِذا ادّعى رجل مَالا. فالحجة وَالْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي، وَلَا حجَّة على الْمُدعى عَلَيْهِ، قَالُوا: وَمَا ذَلِك إِلَّا لِأَن الْمُدعى عَلَيْهِ ناف، وَالْمُدَّعِي مُثبت. وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ، بَاطِل من أوجه: - أَحدهَا: أَن الْمُدعى عَلَيْهِ قد يكون مثبتاً، وَالْحكم مَعَ ذَلِك كَمَا قَالُوهُ، فَإِن من ادّعى على رجل دَارا فِي يَده، قَالَ: " هَذِه الدَّار الَّتِي فِي يدك. لي وَلَيْسَت لَك أَيهَا الْمُدَّعِي "، وَقَالَ الْمُدعى عَلَيْهِ: " لَا، بل هِيَ " لي "، وَلَيْسَت لَك أَيهَا الْمُدَّعِي ". " فقد " أثبت كل وَاحِد مِنْهُمَا الْملك لنَفسِهِ، ونفاه عَن صَاحبه، واستويا فِي النَّفْي وَالْإِثْبَات. ويتخصص الْمُدَّعِي مَعَ ذَلِك، بِإِقَامَة الْبَيِّنَة، دون الْمُدعى [عَلَيْهِ] . على أَن كثيرا من الْفُقَهَاء صَارُوا إِلَى أَن يَمِين الْمُدعى عَلَيْهِ، مَعَ الظَّاهِر الحديث: 1559 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 الَّذِي يُقَوي حَاله، نَازل منزلَة الْبَيِّنَة فِي حَقه، إِذْ الْمُدعى عَلَيْهِ، هُوَ الَّذِي تقوى " جنبته "، إِمَّا بيد، أَو بِنَفْي، وَالْأَصْل الانتفاء، فَسقط مَا قَالُوهُ من هَذَا الْوَجْه. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك: أَن " الْمُدعى عَلَيْهِ " إِذا أَقَامَ الْبَيِّنَة، وَضعف بهَا جنبة الْمُدعى عَلَيْهِ، فيتصور مِنْهُ إِقَامَة الْبَيِّنَة حِينَئِذٍ، على الِاخْتِلَاف بَين الْعلمَاء فِي بَيِّنَة الْخَارِج والداخل. على أَنا نقُول: لَيْسَ مَا تمسكتم بِهِ، من قبيل مَا نَحن فِيهِ، وَذَلِكَ أَن إِثْبَات الشَّهَادَة فِي جنبه الْمُدَّعِي مِمَّا يثبت شرعا، وَنحن نجوز تَقْديرا، أَن يرد الشَّرْع بتخصيص الْمُدعى عَلَيْهِ - إِذا اخْتصَّ بِالْيَدِ - بِالْبَيِّنَةِ، دون الْمُدَّعِي. فَإِذا كُنَّا نجوز كل وَاحِدَة مِنْهَا، فَلَيْسَتْ الشَّهَادَة من قبيل الْحجَج على التَّحْقِيق فَإِنَّهَا لَا تفضى إِلَى الْعلم، وَإِنَّمَا نَحن مَعكُمْ فِيمَن يدعى الْعلم بِنَفْي " فَإِن " عَلَيْهِ إِقَامَة الدّلَالَة على مَا علمه، إِذا لم يكن مِمَّا يعلم اضطراراً، فَبَطل مَا عولوا عَلَيْهِ من كل وَجه. (267) فصل لَا يُمكن إِثْبَات الْإِجْمَاع بِخَبَر من أَخْبَار الْآحَاد 1561 - ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ خلل الْكَلَام فصلا لَا يكَاد يخفي، أَنه قَالَ: من أَرَادَ أَن يثبت الْإِجْمَاع وَيبين أَنه حجَّة قَاطِعَة، بِخَبَر من أَخْبَار الحديث: 1561 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 الْآحَاد، فَلَا يجد إِلَى ذَلِك طَرِيقا. وَذَلِكَ أَن الْإِجْمَاع إِذا ثَبت، فَهُوَ حجَّة مَقْطُوع بهَا. وَالْخَبَر إِذا نَقله الْوَاحِد لَا يُفْضِي إِلَى الْعلم. وَالَّذِي / يُحَقّق ذَلِك أَن خبر الْوَاحِد لَا يسوغ اتِّبَاعه حجَّة قَاطِعَة مقتضية عملا بمالا يَقْتَضِي الْعلم، وَلَكِن إِنَّمَا يسْتَدلّ على كَون الْخَبَر مقتضياً الْعَمَل بِدلَالَة قَاطِعَة وَإِن لم [يكن] الْخَبَر فِي نَفسه مقتضيا للْعلم. 1562 - وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن إِثْبَات الأمارات على الْأَحْكَام لَا يَتَقَرَّر إِلَّا بالأدلة القاطعة وَإِن لم تكن الأمارات فِي أَنْفسهَا قَاطِعَة وَلَا مقتضية علما. وَهَذَا مجمع عَلَيْهِ بَين الْأُصُولِيِّينَ، وسنقرره فِي كتاب التَّقْلِيد، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فَإِذا كَانَ الَّذِي يُفْضِي إِلَى الْعلم لَا يثبت حجَّة إِلَّا بِدلَالَة قَاطِعَة، فَلِأَن نقُول: لَا يثبت الْإِجْمَاع مَعَ كَونه قَاطعا إِلَّا بِدلَالَة قَاطِعَة، أولى وَأَحْرَى. وَاعْلَم أَنه قد شَذَّ عَنَّا أَطْرَاف من الْكَلَام فِي أَحْكَام الْإِجْمَاع. كلهَا محَالة على القَوْل فِي وجوب الْعَمَل بقول الصَّحَابِيّ. وَسَيَرِدُ ذَلِك مستقصى إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الحديث: 1562 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 (كتاب الْقيَاس) (268) القَوْل فِي حَقِيقَة الْقيَاس 1563 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أهم مَا نبدأ بِهِ فِي أَحْكَام الْقيَاس، ذكر حَقِيقَة الْقيَاس وَمَعْنَاهُ وَالَّذِي يتَمَيَّز بِهِ عَن غَيره " ويتعرف " بِهِ فِي نَفسه. فَإِن طرق الِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام تَنْقَسِم إِلَى ضروب من الِاسْتِدْلَال، يَقُول بهَا منكروا الْقيَاس فِي الشَّرِيعَة، فنحقق الْقيَاس وَحده ليَكُون خوضنا فِي إثْبَاته وَالرَّدّ على من رده، على بَصِيرَة. الحديث: 1563 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 (269) تَعْرِيف القَاضِي للْقِيَاس 1564 - فَالَّذِي اخْتَارَهُ القَاضِي فِي الْقيَاس وَالتَّعْبِير عَنهُ أَن قَالَ: الْقيَاس حمل أحد المعلومين على الآخر، فِي إِيجَاب بعض الْأَحْكَام لَهما، أَو فِي إِسْقَاطه عَنْهُمَا، بِأَمْر جمع بَينهمَا من إِثْبَات صفة وَحكم لَهما، أَو نفي ذَلِك عَنْهُمَا. فَكل مَا تجمعت فِيهِ هَذِه الْأَوْصَاف فَهُوَ قِيَاس، وَمَا انخرم فِيهِ وصف من هَذِه الْأَوْصَاف، فَلَيْسَ بِقِيَاس. وَقد كثرت عِبَارَات الْأُصُولِيِّينَ فِي تَحْدِيد الْقيَاس، وَنحن نومئ إِلَى جمهورها إِذا ذكرنَا معنى الْحَد الَّذِي ذكرنَا. (270) شرح التَّعْرِيف، مَعَ رد التعاريف الْأُخْرَى للْقِيَاس 1565 - فَأَما قَوْلنَا: هُوَ حمل أحد المعلومين على الآخر، فقد آثرناه واخترناه دون عِبَارَات أُقِيمَت مقَامه. فَإِن من النَّاس من قَالَ: هُوَ حمل شَيْء على شَيْء وَمِنْهُم من قَالَ هُوَ حمل الشَّيْء على شبيهه. وَمِنْهُم من قَالَ هُوَ حمل الْفَرْع على أَصله. الحديث: 1564 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 وكل هَذِه الْعبارَات مدخولة فِي شَرط الْحُدُود، فَإِن من شَرطهَا أَن تكون جَامِعَة لأقسام، لَا يشذ عَنْهَا شَيْء مِنْهَا. وَمن أَقسَام الْقيَاس اعْتِبَار مَعْدُوم بمعدوم وَحمل مُنْتَفٍ على مُنْتَفٍ، كَمَا أَن من أقسامه حمل مَوْجُود على مَوْجُود. وَاسم الشَّيْء يتخصص بالموجود على أصُول أهل الْحق. فَإِذا قيل فِي حد الْقيَاس هُوَ حمل مَوْجُود على مَوْجُود، كَانَ ذَلِك ضربا من التَّخْصِيص وَكَذَلِكَ إِذا قيل: حمل شَيْء على شَيْء. وَكَذَلِكَ وَجه الدخل فِي قَول من قَالَ: هُوَ حمل الشَّيْء على شبيهه، فَإِن الِاشْتِبَاه إِنَّمَا يتَحَقَّق بَين موجودين، وَلَا يتَصَوَّر أَن شابه مَعْدُوما مَعْدُوم، وَإِن كَانَ حمل الْمَعْدُوم من ضروب الْقيَاس. وَكَذَلِكَ الْفَرْع وَالْأَصْل، فَإِنَّهُمَا اسمان خاصان، وَلَا يطلقان إِلَّا على موجودين مستدعياً فِي إطلاقهما الْوُجُود. وَالْأولَى مَا قدمْنَاهُ عَن ذكر الْمَعْلُوم. فَإِن ذكر الْمَعْلُوم ينْطَلق على الْمَعْلُوم انطلاقه على الْمَوْجُود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 1566 - فَأَما قَوْلنَا فِي إِيجَاب بعض الْأَحْكَام لَهما أَو فِي إِسْقَاطه عَنْهُمَا، فَإِن مَا رمنا بِهَذِهِ الْجُمْلَة شيآن / اثْنَان. أَحدهمَا: أَن الْجمع بَين شَيْئَيْنِ من غير إِيجَاب حكم لَهما أَو نفي حكم عَنْهُمَا لَا يكون قِيَاسا وَذَلِكَ نَحْو قَول الْقَائِل: المَاء وَالْخمر مائعان، مَعَ الِاقْتِصَار على هَذَا الْقدر. وَأَمْثَاله لَا يعد قِيَاسا. فَإِن قَائِله لم يُوجب لَهما فِي كَونهمَا مائعين حكما وَلم ينف عَنْهُمَا حكما. والمقصد الآخر أَنا لم نخصص قَوْلنَا بِإِثْبَات الحكم، بل جَمعنَا بَين النَّفْي وَالْإِثْبَات، فَإِن من الأقيسة مَا يتَضَمَّن نفيا كَمَا أَن مِنْهُمَا مَا يتَضَمَّن إِثْبَاتًا. وَمن الحادين من يقْتَصر فِي حَده على الْإِثْبَات فَيَقُول: هُوَ حمل الشَّيْء على شبيهه فِي إِثْبَات حكم لَهما. ويقتصر على ذَلِك، وَفِيه إِخْرَاج بعض الْمَحْدُود عَن قَضِيَّة الْحَد. 1567 - وَأما قَوْلنَا: " بِأَمْر جمع بَينهمَا " فقد اخترنا هَذِه الْعبارَة دون عِبَارَات أطلقها كثير من الْأُصُولِيِّينَ فِي هَذِه الْمنزلَة. وَمِنْهَا أَن قَالُوا: " بِأَمْر يُوجب الْجمع بَينهمَا ". وَمِنْهُم من قَالَ: " بِأَمْر يتَضَمَّن الْجمع بَينهمَا " أَو " يَقْتَضِي الْجمع بَينهمَا " وكل عبارَة من هَذِه الْعبارَات مدخولة. وَذَلِكَ أَنَّك قلت: بِأَمْر يُوجب الْجمع بَينهمَا، اقْتضى ذَلِك التَّعْبِير عَن الْقيَاس الصَّحِيح الَّذِي اجْتمع فِيهِ الْفَرْع وَالْأَصْل فِي أَمر يُوجب اجتماعها. الحديث: 1566 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 وَشرط الْحَد - إِذا أطلقته - أَن " ينطوي " على الْفَاسِد حَقِيقَة كَمَا ينْطَلق على الصَّحِيح. فَلَا معنى لتخصيص الصَّحِيح بِالْحَدِّ، عِنْد الْمُطَالبَة بتحديد الْقيَاس الْمُطلق، وَهَذَا كَمَا إِذا سئلنا عَن حد النّظر لم نخصص فِي الْحَد النّظر الصَّحِيح عَن الْفَاسِد من النّظر. فَإِذا قُلْنَا: " لأمر جمع بَينهمَا فيهمَا " وَلم نتعرض لإِيجَاب واقتضاء بِالْحَدِّ - كَمَا ذكره آخَرُونَ - كُنَّا قَاصِدين إِلَى استغراق أَنْوَاع الْقيَاس بِالْحَدِّ. فَلَو قَالَ قَائِل: لَا ينْطَلق اسْم الْقيَاس إِلَّا على الصَّحِيح، كَانَ متحكماً، لَا يكترث بقوله. فَإنَّا نعلم أَن اسْم الْقيَاس ينْطَلق عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَيُقَال لَهُ: هَذَا قِيَاس فَاسد وَهَذَا صَحِيح. فَإِن انْدَفَعُوا فِي تثبيت مَا قَالُوهُ فِي الاستشهاد بمسائل من الْفُرُوع، نَحْو قَول الْقَائِل " وَالله لَا أُصَلِّي " ثمَّ عقد صَلَاة فَاسِدَة، فَلَا يَحْنَث فِي يَمِينه، فَهَذَا ضرب من الهذيان. فَإِن الإطلاقات واللغات لَا تثبت بآحاد الْمسَائِل فِي الشَّرِيعَة، وَنحن نعلم قطعا فِي حَقِيقَة اللُّغَة أَن اسْم الْقيَاس يتَنَاوَل الَّذِي يحكم بِصِحَّتِهِ، كَمَا يتَنَاوَل الَّذِي يحكم بفساده. فَمَا يُغني خصومنا التَّمَسُّك بآحاد الْمسَائِل. فقد ذكرنَا إِذا جملا من الْعبارَات الْمَذْكُورَة فِي حد الْقيَاس فِي خلل الْكَلَام، وَبينا اختلالها. (271) ذكر بعض التعاريف الْأُخْرَى للْقِيَاس، وإبطالها وَهَا نَحن نذْكر عِبَارَات ذكرهَا آخَرُونَ فِي تَحْدِيد الْقيَاس. 1568 - فمما قَالُوهُ: أَن الْقيَاس هُوَ إِصَابَة الْحق، إِذا وَقع عَن الحديث: 1568 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 نظر وَهَذَا غير مُسْتَقِيم من أوجه: أَحدهَا: أَن إِصَابَة الْحق هِيَ الْعلم بِالْحَقِّ، فَكَانَ محصول مَا قَالُوهُ تَسْمِيَة الْعلم الْوَاقِع عَن النّظر قِيَاسا، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ. فَإِن النّظر الْمُؤَدِّي إِلَى الْعلم أولى بِهَذَا الِاسْم من الْعلم. وَهَذَا كَمَا أَن قَائِلا لوحد الدَّلِيل الْمُؤَدِّي إِلَى الْعلم بالمدلول، كَانَ مخطئا. فَكَذَلِك سَبِيل مَا نَحن فِيهِ. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْعلم بالشَّيْء إِذا وَقع ضَرُورَة فَهُوَ مجانس للْعلم بِهِ إِذا وَقع اسْتِدْلَالا، وَمن حكم المتماثلين أَن يستويا فِي الْأَوْصَاف الْجَائِزَة والواجبة والأوصاف المستحيلة، وَلَا يَنْبَغِي فِي حكم الْحَد أَن يشْتَمل على الشَّيْء وينفي مثله. وَالْوَجْه الآخر أَن الْقيَاس / عبارَة / عَن اعْتِبَار / الْمَعْلُوم بالمعلوم وَالْجمع بَينهمَا. وَالنَّظَر إِذا أطلق مَعَ إِصَابَة الْحق، فَلَا يتَضَمَّن ذَلِك. فَإِن من أَقسَام النّظر مَا لَا ينطوي على تَمْثِيل وتشبيه، وَحمل مَعْلُوم على مَعْلُوم. 1569 - وَمن النَّاس من حد الْقيَاس، فَقَالَ: هُوَ اسْتِخْرَاج الْحق من الْبَاطِل. وَهَذَا هُوَ شَيْء لَا يداني مقصدنا فِي حد الْقيَاس، فَإِن الْقَائِل بذلك إِن الحديث: 1569 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 عَنى بالاستخراج العثور على الْحق فَهُوَ بِعَيْنِه الْكَلَام بِالَّذِي " فَرغْنَا " عَنهُ آنِفا. وَفِيه ضرب آخر من الْخلَل، وَهُوَ أَن من عثر على الْحق من النُّصُوص، فَلَا يُسمى قائساً وَإِن تحقق العثور على الْحق واستخراجه، وكل مَا قدمْنَاهُ من وَجه الرَّد على القَوْل الَّذِي قبيل ذَلِك فَهُوَ رد على ذَلِك. 1570 - وَمن النَّاس من قَالَ: الْقيَاس هُوَ الِاجْتِهَاد فِي طلب الحكم. وَهَذَا مَدْخُول أَيْضا، وَذَلِكَ أَن من عنت لَهُ حَادِثَة، فابتدأ فِي طلب شَاهد ... 1571 - ... وَالِاسْتِدْلَال بِالشَّاهِدِ على الْغَائِب، وَهَذِه الْعبارَة غير مرضية أَيْضا فَإِن الشَّاهِد وَالْغَائِب وَإِن كَانَا من عِبَارَات الْمُتَكَلِّمين فِي بعض الْمنَازل فلسنا نستحبهما فِي منَازِل الْحُدُود لانطوائها على الْمجَاز والتوسع والإجمال، مَعَ أَن الْمَقْصُود من التَّحْدِيد الْكَشْف وَالْبَيَان. فَلَا يَنْبَغِي أَن يكون الْحَد أغمض من الْمَحْدُود. على أَن الشَّاهِد يُنبئ عَمَّا يُشَاهِدهُ. وَقد ذكرنَا أَن الْقيَاس لَا يتخصص بِشَيْء من ذَلِك. الحديث: 1570 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 وَفِي الْعبارَة اختلال من وَجه، وَهُوَ: إِذا قيل: الْقيَاس هُوَ الِاسْتِدْلَال بِالشَّاهِدِ على الْغَائِب، فينبئ ظَاهر ذَلِك عَن اعْتِبَار كل غَائِب بِشَاهِد، وَلَيْسَ من الْقيَاس اعْتِبَار كل غَائِب بِشَاهِد. على مَا نفصل القَوْل فِيهِ. فَهَذَا جُمْهُور عِبَارَات الإسلاميين فِي تَحْدِيد الْقيَاس وَمَعْنَاهَا. (272) ذكر مزاعم الفلاسفة والمناطقة فِي تَحْدِيد الْقيَاس، وتفنيدها 1572 - وَقد زعمت الفلاسفة أَن الْقيَاس قرينتان مقدمتان ونتيجة. ومثلوا ذَلِك بِأَن قَالُوا: إِذا قَالَ: الْقيَاس، كل حَيّ قَادر فَهَذِهِ مُقَدّمَة. فَإِذا قَالَ بعْدهَا: وكل قَادر فَاعل، فَهَذِهِ مُقَدّمَة أُخْرَى. وَإِذا قرن بَينهمَا فهما قرينتان مقدمتان. ونتيجتهما أَنه إِذا كَانَ كل حَيّ قَادِرًا وكل قَادر فَاعل فَكل حَيّ فَاعل. وَهَذَا مَا أطلقهُ الفلسفيون والمنطقيون. ثمَّ قَالُوا: وتتحقق المقدمتان والنتيجة فِي تثبيت وَنفي كَمَا تحقق فِي إِثْبَات. الحديث: 1572 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 1573 - فَيُقَال لهَؤُلَاء: الْقيَاس كلمة عَرَبِيَّة، وَإِذا سئلنا عَن تحديده لم نجد بدا من تحديده على قَضِيَّة اللُّغَة وَمُوجب الْعَرَبيَّة. وَمَا ذكرتموه خَارج عَن قَضِيَّة اللُّغَة. فَإِن الْقيَاس يُنبئ عَن تَمْثِيل بَين شَيْئَيْنِ أَو حمل بَين معلومين، وَهَذَا مَا لَا يتَحَقَّق فِيمَا ذكرتموه من المقدمتين والنتيجة أصلا. على أَنا نقُول، مَا ذكرتموه من النتيجة بعد المقدمتين، لَا معنى لَهَا، وَإِنَّمَا هِيَ إِعَادَة مُوجب المقدمتين بِعِبَارَة أُخْرَى. وَبَيَان ذَلِك أَنا إِذا قُلْنَا: كل حَيّ قَادر، وكل قَادر فَاعل فقد صرحنا بِأَن كل حَيّ فَاعل فَلَا معنى لتقدير ذَلِك نتيجة زَائِدَة على المقدمتين. وَلَو سَاغَ تَقْدِير هَذَا نتيجة وَفَائِدَة جَدِيدَة لتصور من هَذَا الْقَبِيل ضروب مِنْهَا أَن نقُول: إِذا ثَبت أَن كل حَيّ قَادر وكل قَادر فَاعل فنتيجة ذَلِك أَن كل قَادر حَيّ، وكل فَاعل " قَادر " وكل قَادر حَيّ إِلَى غير ذَلِك من ترديد الْعبارَات. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْقيَاس إِنَّمَا على مَا فِيهِ ضرب من التَّحَرِّي والتآخي وَمَا ذكرتموه من النتيجة مدرك ضَرُورَة، بعد تَقْدِير المقدمتين وثبوتهما. 1574 - على أَنا نقُول: لم كنيتم بتخصيص الْقيَاس بِهَاتَيْنِ المقدمتين، ونتيجتهما أولى من تَصْوِير / مقدمتين، وَفَائِدَة مستفادة مِنْهُمَا على غير الْوَجْه الَّذِي صورتموه. الحديث: 1573 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 وَذَلِكَ نَحْو أَن نقُول: الْمَوْجُود لَا يَخْلُو أَن يكون حَدِيثا أَو قَدِيما فَهَذِهِ مُقَدّمَة ثمَّ نقُول بعْدهَا: وَهَذَا لَيْسَ بقديم. فنعلم من هَاتين القرينتين أَنه حَادث. فَلَيْسَ " من قبيل " مَا قدروه من قبيل الْقَرَائِن والنتائج، فَهَلا جَازَ تَسْمِيَتهَا أقيسة وَكَذَلِكَ لَو قَالَ قَائِل، لزيد وَعَمْرو عِنْدِي عشرَة، ولزيد مِنْهَا دِرْهَم. فهاتان مقدمتان. ونتيجتهما أَن لعَمْرو تِسْعَة. وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ: فِي يَمِيني أَو يساري دِرْهَم وَلَيْسَ هُوَ فِي يساري. فنتيجتهما أَنه فِي يَمِينه. فسموا ذَلِك أقيسة. وَهَذَا مِمَّا لَا محيص لَهُم عَنهُ. إِلَّا أَن يستروحوا إِلَى اصطلاحهم ويزعموا أَن هَذَا مَا اصطلحنا عَلَيْهِ بَين أظهرنَا وَلم نرم بِهِ الجري على الْحَقَائِق وَمُوجب الْحُدُود، فيخلون حِينَئِذٍ وَمَا يتواطئون عَلَيْهِ. 4 (273) فصل فِي ذكر معنى الْجمع بَين المعلومين 1575 - فَإِن قَالَ قَائِل. قد ذكرْتُمْ فِي الْحَد الَّذِي ارتضيتم أَنه حمل مَعْلُوم على مَعْلُوم ثمَّ ذكرْتُمْ أَنه " بِأَمْر يجمع بَينهمَا ". فَمَا معنى الْجمع بَينهمَا؟ قيل لَهُ. هُوَ قَول الْقَائِل فِي نَفسه واعتقاده اجْتِمَاع الْفَرْع وَالْأَصْل فِي إِثْبَات حكم أَو نفي حكم نَفْيه. وَيدخل فِي هَذِه الْجُمْلَة اعْتِقَاده وجوب الْجمع بَينهمَا فِي إِثْبَات حكم أَو فِي نفي حكم. فَيَنْصَرِف الْجمع بَينهمَا إِلَى اعْتِقَاد. الحديث: 1575 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 وَالْقَوْل الَّذِي فِي النَّفس - الَّذِي الْعبارَات منبئة عَنهُ - وَقد تسمى الْعبارَات جمعا أَيْضا. ويقوى ذَلِك إِذا سميناها كلَاما حَقِيقَة، فَهَذِهِ جملَة مقنعة فِي حد الْقيَاس. فَأَما الْكَلَام فِي تَفْصِيله من ذكر فَرعه وَأَصله، وَعلة، أَصله، وَوجه تحريره، ووجوه استنباطه، ومدارك مورده، وإبانة صِحَّته، ومحامل فَسَاده، وَطَرِيق إِثْبَات علته فمما يرد مستقصى بعد ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَإِنَّمَا قدمنَا حد الْقيَاس لتَكون على ضرب من الْخِبْرَة. إِذا ثَبت الْقيَاس على منكريه: (274) القَوْل فِي ذكر اخْتِلَاف النَّاس فِي صِحَة الْقيَاس وَوُجُوب القَوْل بِهِ ورده 1576 - اعْلَم، - أحسن الله إرشادك - أَن مَا أجمع عَلَيْهِ عُلَمَاء الْأَعْصَار السَّابِقَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ من جَمَاهِير الْفُقَهَاء والمتكلمين، القَوْل بالأقيسة الشَّرْعِيَّة، وَجَوَاز التَّعَبُّد بهَا عقلا، ووجوبه سمعا. 1577 - وَذَهَبت الشِّيعَة خلفهَا وسلفها إِلَى إبِْطَال الأقيسة الشَّرْعِيَّة. وَإِلَيْهِ صَار النظام، وشرذمة من معتزلة بَغْدَاد، الَّذين قائدهم الْبَلْخِي الحديث: 1576 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 وَذهب من الْفُقَهَاء إِلَى رد الْقيَاس دَاوُد بن عَليّ الْأَصْبَهَانِيّ، والقاساني والنهرواني وَغَيرهم من أتباعهم. 1578 - ثمَّ الَّذين قَالُوا برد الْقيَاس افْتَرَقُوا فرْقَتَيْن: فَذهب بَعضهم إِلَى رد الْقيَاس عقلا، وصاروا إِلَى اسْتِحَالَة وُرُود التَّعَبُّد بِهِ. وَذهب آخَرُونَ إِلَى جَوَاز وُرُود التَّعَبُّد بِهِ عقلا، وَلَكنهُمْ زَعَمُوا أَن الشَّرْع منع من ذَلِك على مَا سنذكر مَا اغتروا بِهِ من ظواهر الْكتاب وَالسّنة، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَإِلَى هَذَا مَال دَاوُد وأشياعه من الْفُقَهَاء. الحديث: 1578 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 1579 - وَأما الَّذين صَارُوا إِلَى منع التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ عقلا، من الشِّيعَة والمعتزلة، فقد افْتَرَقُوا فرْقَتَيْن. فَذهب النظام إِلَى أَن الرب تَعَالَى لم يتعبد بِالْقِيَاسِ، علما مِنْهُ بِأَن لَا صَلَاح فِيهِ للمكلفين وَفِي تكليفهم استفسادهم. وَكَانَ يجوز أَن يَقع فِي الْمَعْلُوم أَن يصلحوا إِذا تعبدوا بِالْقِيَاسِ، وَلَكِن مَا لم يتعبد بِهِ، " عرفنَا " أَنه أَيقَن فِي الْمَعْلُوم أَن التَّعَبُّد بِهِ مفْسدَة. وَذهب آخَرُونَ من الْقَائِلين بالأصلح إِلَى أَنا لَا نجوز وُقُوع التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ صلاحاً. ولسنا نقُول: مَا يَقُوله النظام من جَوَاز تَقْدِير وُقُوعه فِي الْمَعْلُوم صلاحاً أصلا. بل نقُول لَا يجوز أَن يَقع التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ صلاحاً أصلا. وَهَذَا افْتِرَاق عَظِيم بَين المذهبين، فَلَا تحسبنهما شَيْئا وَاحِدًا. الحديث: 1579 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 وَنحن الْآن " نبدأ " بِالرَّدِّ على النظام، ثمَّ ننعطف بِالرَّدِّ على إخوانه. (275) مناقشة النظام فِي موقفه من الْقيَاس 1580 - فَنَقُول للنظام: أول مَا نناقشك فِيهِ أصل الصّلاح والإصلاح. فَمن أصل أهل الْحق أَنه لَا يجب على الله تَعَالَى أَن يتعبد عباده بِمَا فِيهِ مصلحتهم بل لَهُ أَن يعرضهم للعطب والثوي وَله تعريضهم للصلاح واللطف، فَلَا وَاجِب عَلَيْهِ أصلا بل يفعل بعباده مَا يَشَاء. وَهَذَا من أعظم الْأُصُول فِي التَّعْدِيل والتجوير. وَهُوَ مِمَّا يستقصى فِي الديانَات. وَإِذا صددت الْخُصُوم عَنهُ لم يسْتَمر لَهُم الْمَنْع عَن القَوْل بِأَصْل الصّلاح شُبْهَة فِي رد الْقيَاس، فَإِن كل مَا سيذكرونه، أَو جلها مَبْنِيّ على القَوْل بالصلاح على أصولهم فِي أصولهم فِي الْكَلَام ونسلم لَهُم القَوْل بالصلاح فِي أصل التَّكْلِيف. وَيبْطل مَعَ ذَلِك تعلقهم بالشبه. 1581 - فَأَما النظام فَنَقُول لَهُ: قد قلت إِنَّه كَانَ يجوز أَن يَقع فِي الْمَعْلُوم التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ مصلحَة، وَيجوز أَن لَا يَقع كَذَلِك. فَلَمَّا نهى الله تَعَالَى عباده عَن الْقيَاس وَحَملهمْ على التَّمَسُّك بالنصوص استدللنا بذلك على أَن التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ وَقع فِي الْمَعْلُوم مفْسدَة. الحديث: 1580 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 فَنَقُول لَهُ: بِمَ تنكر على من يَقُول لَك إِن الله تَعَالَى علم أَنه لَو جمعهم على الِاعْتِصَام بالنصوص وَترك تتبع الْعِلَل استنباطاً وتحرياً واجتهاداً، كَانَ ذَلِك صلاحاً. وَلَو تعبدهم بِالْقِيَاسِ كَانَ ذَلِك صلاحاً أَيْضا. فَلَمَّا اسْتَوَى وَجه طلب الصّلاح فِي الْقسمَيْنِ فعل الرب أَحدهمَا، فَلم زعمت أَن إِيثَار أَحدهمَا مَعَ استوائهما فِي حكم الصّلاح، يبين لَك اتِّفَاق وُقُوعه مفْسدَة فِي الْمَعْلُوم. 1582 - فَإِن قَالَ النظام، إِنَّمَا قلت ذَلِك. لِأَنَّهُ لَا يُنْهِي إِلَّا عَن الْمحرم. وكل مَا كَانَ محرما فَهُوَ قَبِيح لوصف هُوَ فِي نَفسه لعَينه وَقد ثَبت أَنه نهى عَن الْأَخْذ بِالْقِيَاسِ. فَنَقُول: هَذَا الَّذِي ذكرته خُرُوج عَن مُقْتَضى أصلك. فَإنَّك إِذا قلت أَن التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ مِمَّا لَا يقبح لعَينه، وَيجوز تَقْدِير وُقُوعه مصلحَة فِي الْمَعْلُوم. فَكيف يَسْتَقِيم فِي هَذَا الأَصْل القَوْل بِأَن الْقيَاس والتمسك بِهِ قَبِيح لوصف هُوَ فِي نَفسه " لعَينه ". 1583 - على أَنا نقُول: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنه لما كَانَ الْحمل على النُّصُوص وَالْأَخْذ بموجباتها مصلحَة، وَكَانَ التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ مصلحَة أَيْضا، واستويا فِي اقْتِضَاء الْمصلحَة، وَعلم الرب تَعَالَى أَن التَّخْيِير بَينهمَا مفْسدَة، وَرُبمَا يتَّفق ذَلِك فِي الْمَعْلُوم، فَلَمَّا علم بذلك أَمر بِأَحَدِهِمَا وَنهى الحديث: 1582 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 عَن الثَّانِي. وَلَو قدر الْأَمر على الضِّدّ لَكَانَ السُّؤَال يتَوَجَّه كَمَا يتَوَجَّه الْآن. فَبَطل من هَذَا الْوَجْه ادِّعَاء النظام كَون التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ مفْسدَة لوُقُوع النَّهْي عَنهُ وَالْأَمر بالتمسك بالنصوص. وَهَذَا مِمَّا لَا محيص عَنهُ على الْوَجْه الَّذِي طردناه. ثمَّ نقُول: كل مَا ذكرته مَبْنِيّ على أَن النَّهْي عَن الْقيَاس ورد سمعا، وهيهات فَكيف يَسْتَقِيم ذَلِك / وسنوضح الْأَدِلَّة السمعية القاطعة التَّعَبُّد / بِهِ / و " نَبْنِي " بطلَان تعلقهم بجملة الْأَدِلَّة السمعية. 1584 - فَإِن قَالَ قَائِل: لَو كَانَ وَجه الصّلاح فِي الْحمل على النُّصُوص مُسَاوِيا لوجه الصّلاح بالتعبد بِالْقِيَاسِ، لَكَانَ الرب تَعَالَى يُخَيّر بَينهمَا. كَمَا خير فِي كثير من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، نَحْو الْكَفَّارَات بِبَعْض الْمنَازل وَغَيرهَا. قُلْنَا: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الرب سُبْحَانَهُ علم تَسَاوِي وَجه الصّلاح فِي التَّعَلُّق بالنصوص وَالْقِيَاس، وَعلم من ذَلِك أَنه لَو خير بَينهمَا، لفسد عِنْد ذَلِك المكلفون، وَهَذَا مِمَّا لَا يستبعد وُقُوعه فِي الْمَعْلُوم، وَلَا معنى لكَون الشَّيْء لطفاً، إِلَّا أَن يعلم الرب تَعَالَى أَنه لَو وَقع لتعقبته مفْسدَة، ثمَّ إِن وجد التَّخْيِير فِي مورد من موارد الشَّرِيعَة، فَعدم التَّخْيِير أغلب " عَلَيْهَا " الحديث: 1584 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 فَبَطل من كل وَجه مَذْهَب النظام بطلاناً، لَا خَفَاء بِهِ، فَهَذَا وَجه مغن فِي الْكَلَام عَلَيْهِ. فَمَا وَجه الْكَلَام على من عداهُ من الْقَائِلين بالصلاح والإصلاح. (276) (مناقشة الْقَائِلين بالصلاح والإصلاح) 1585 - فَمن أصلهم قطع القَوْل بِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يَقع التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فِي الْمَعْلُوم مصلحَة لَا تجويزاً وَلَا تَحْقِيقا. وَإِن التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ قَبِيح لعَينه. فَيُقَال، لم قُلْتُمْ ذَلِك، وَمَا دليلكم عَلَيْهِ؟ وَنحن الْآن نذْكر كل شُبْهَة لَهُم، ونستقصي الْجَواب إِن شَاءَ الله تَعَالَى. 1586 - فمما تمسكوا بِهِ أَن قَالُوا: الأقيسة السمعية / الَّتِي / فِيهَا تنازعنا لَا تُفْضِي إِلَى الْعلم وَالْقطع أصلا. وَلَيْسَت كالأدلة الْعَقْلِيَّة فِي إفضائها إِلَى المدلولات، وَلَيْسَت كالنصوص الثَّابِتَة قطعا، فَإِذا كَانَت لَا تُؤدِّي إِلَى الْمَعْلُوم قطعا، بل يقارنها الْجَهْل وَعدم الْقطع وَالْعلم بالمقاصد. وَمَا يقارنه الْجَهْل فَهُوَ قَبِيح فِي عينه. فَيُقَال لَهُم: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَولا: أَن الأقيسة السمعية تتَعَلَّق بمقتضياتها قطعا. وَذَلِكَ أَنا نقُول: قد ثَبت بالأدلة القاطعة نصبها إمارات على الْأَحْكَام فَكَأَن الرب تَعَالَى خَاطب عباده صَرِيحًا، وَقَالَ لَهُم " مهما " حرمت عَلَيْكُم التَّفَاضُل فِي الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة الربوية، فاعلموا أَنكُمْ مخاطبون بِأَن تَطْلُبُوا لذَلِك عِلّة. هِيَ صفة من صِفَات الْأَعْيَان الْمَنْصُوص الحديث: 1585 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 عَلَيْهَا. واحرصوا فِي طلبَهَا - بالطرق الَّتِي سَوف نذكرها فِي وصف الاستنباط - حَتَّى إِذا غلب على ظنكم بعد التَّحَرِّي وَالِاجْتِهَاد أَن وَصفا من الْأَوْصَاف هُوَ الْعلَّة، فَاقْطَعُوا عِنْد ذَلِك بِأَن حكمي عَلَيْكُم مَا غلب على ظنكم، فَإِن غَلَبَة ظنونكم فِي ذَلِك آيَة تقطعون عِنْدهَا " بِوُجُوب " الْعَمَل، بِمُوجب اجتهادكم، فَيُؤَدِّي التَّمَسُّك بالأقيسة إِلَى الْمَقْصُود قطعا كَمَا سقناه وطردناه. ويتنزل ذَلِك منزلَة تَكْلِيفه تَعَالَى أيانا الحكم بإبرام الْقَضَاء عِنْد شَهَادَة اثْنَيْنِ ظاهرهما الْعَدَالَة، وَإِن كُنَّا لَا نقطع بعدالتها. وَلَو قَطعنَا بهَا مثلا. لم نقطع بعصمتها، وَمَعَ ذَلِك يجب علينا الحكم. فَكَأَن الرب تَعَالَى قَالَ: شَهَادَة الشَّاهِدين الَّذين يغلب على ظنكم عدالتهما وصدقهما آيَة تقطعون عِنْدهَا بِأَن حكمي عَلَيْكُم إبرام الْقَضَاء بهَا، فَهَذَا سَبِيل الأقيسة. 1587 - فَإِن قَالُوا: فَإِذا غلب على ظن مُجْتَهد أَن الطّعْم هُوَ الْعلَّة فِي تَحْرِيم الرِّبَا فِي الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة، واعتقد آخَرُونَ أَن الْكَيْل هُوَ الْعلَّة، وتحققت الْغَلَبَة على الظنون فِي كل وَاحِد من الْجَانِبَيْنِ / فَكيف يتَحَقَّق مَعَ ذَلِك الْعلم بِثُبُوت الْحكمَيْنِ المتضادين؟ قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ألزمتمونا عين أصلنَا، إِذا قُلْنَا بتصويب الْمُجْتَهدين. وَذَلِكَ أَنا نقُول: حكم الله تَعَالَى على كل وَاحِد مِنْهُمَا اتِّبَاع مُوجب اجْتِهَاده، وَلَيْسَ فِيهِ تنَاقض، على مَا سنشرحه فِي تصويب الْمُجْتَهدين. إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فَبَطل مَا ادعوهُ من الْجَهَالَة. الحديث: 1587 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 وَهَذَا فصل، إِذا طردته بَطل استرواحهم إِلَى كَون الأقيسة السمعية مقترنة بِالْجَهْلِ وَتبين اقترانها بِالْعلمِ. فَإِن قيل: فَمن أَيْن لكم أَن الرب تَعَالَى نصب غلبات الظنون أَمَارَات لأحكامه قطعا؟ قُلْنَا: سنقيم على ذَلِك وَاضح الْأَدِلَّة بعد أَن نفرغ عَن إبِْطَال كل شُبْهَة لكم. (280) (شُبْهَة أُخْرَى مَبْنِيَّة على القَوْل بالصلاح) 1588 - فَإِن قَالُوا: لَو كَانَ التَّعَبُّد بالأقيسة السمعية صلاحاً، لعقل ذَلِك. وَتحقّق الْعلم بِوَجْه الْمصلحَة فِيهِ. وَنحن نعلم أَن كَون الشَّيْء مطعوماً أَو كَون الْخمر مشتدة عِلّة " على التَّحْرِيم " مِمَّا لَا يعقل وَجهه فِي الْمصلحَة واللطف. فَلَو قَالَ قَائِل: فَمَا وَجه نصب الطّعْم عِلّة مصلحَة يجوز تَقْدِير وصف آخر من الْأَوْصَاف عِلّة. قُلْنَا: هَذَا الْكَلَام مِمَّن لم يحط علما بِحَقِيقَة الصّلاح والإصلاح على أصُول الْمُعْتَزلَة. 1589 - وَهَا نَحن الْآن نكشف عَن حَقِيقَة مَا قَالُوهُ فِي ذَلِك. ونقول لَيْسَ الْمَعْنى بِكَوْن الشَّيْء مصلحَة ولطفاً، أَنه " فِي عينه " يُوجب الصّلاح، الحديث: 1588 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 كَمَا توجب الْعلَّة معلولها لذاتها ونفسها وَلِهَذَا " من " الْمَعْنى قَالُوا: أَن الصّلاح واللطف لَا يتخصصان بِجِنْس من أَجنَاس الْأَفْعَال، وَلَكِن كلما علم الرب أَنه لَو أثْبته، لَا تفق عِنْده الصّلاح للمكلفين، فَهُوَ مصلحَة ثمَّ يخْتَلف وُقُوعه للمعلوم. فَرُبمَا يَقع فِي الْمَعْلُوم اتِّفَاقًا كَون الشَّيْء مصلحَة فِي حق زيد مَعَ أَنه مفْسدَة بِعَيْنِه فِي حق عَمْرو. وَهَذَا كَمَا أَن الرب تَعَالَى قد علم أَنه لَو أفقر شخصا لكفر، وَلَو أغناه لشكر وَعلم أَنه لَو بسط الرزق لغيره لبغى فِي الأَرْض. فالصلاح فِي حق أَحدهمَا الإغناء وَفِي حق الآخر الافقار. فمقصدنا من ذَلِك أَن نبين لَك / أَنه / لَيْسَ من شَرط كَون الشَّيْء مصلحَة، أَن يَقع فِي ذَاته على وَجه يَقْتَضِي الصّلاح، ويوجبه لجنسه وذاته اقْتِضَاء الْعلَّة معلولها، فَإِذا وضح ذَلِك بَطل مَا عولوا عَلَيْهِ بطلاناً ظَاهرا. 1590 - على أَنا نقُول لهَؤُلَاء: فَلَو قَالَ لكم قَائِل: فبينوا وَجه الْمصلحَة فِي الصَّلَوَات الْخمس مَعَ تباينها فِي الْأَوْقَات وأعداد الرَّكْعَات وَغير ذَلِك من الصِّفَات، فَلَا يَجدونَ إِظْهَار وَجه الْمصلحَة - يتَوَصَّل إِلَيْهَا عقلا، كَمَا يتَوَصَّل إِلَى الْوَجْه الَّذِي يدل مِنْهُ الدَّلِيل الْعقلِيّ. فَإِن قَالُوا: لكل مَا ذكرتموه وَجه فِي الْمَعْقُول، وَلَكِن لَا يتَوَصَّل إِلَيْهِ. قُلْنَا: فَبِمَ تنكرون على من يلزمكم مثل ذَلِك، وَيَقُول فِيمَا ألزمتمونا فِي الْقيَاس وَجه من الْمصلحَة، ذهلنا عَنهُ، واستأثر الرب تَعَالَى بِعِلْمِهِ. الحديث: 1590 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 فَإِن قَالُوا: لَيْسَ الْمَعْنى / بِكَوْن / الصَّلَوَات مصلحَة " وُقُوعهَا " على صِفَات مَخْصُوصَة فِي الْعقل، وَلَكِن الْمَعْنى بِكَوْنِهَا مصلحَة اتِّفَاق وُقُوعهَا كَذَلِك فِي الْمَعْلُوم، وَكَانَ يجوز أَن يَقع فِي الْمَعْلُوم خلاف ذَلِك. فَإِذا صَرَّحُوا بذلك وَهُوَ حَقِيقَة أصلهم، فينعكس عَلَيْهِم مثل ذَلِك فِي موارد الأقيسة. (شُبْهَة أُخْرَى لَهُم) 1591 - فَإِن قَالُوا: من شَرط الْأَدِلَّة أَن تتَعَلَّق / بمدلولاتها على وَجه كَمَا أَن الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة، لما كَانَت أَدِلَّة على مدلولاتها، عقل مِنْهَا وَجه مَعْلُوم فِي التَّعَلُّق بالمدلول، وَهَذَا نَحْو دلَالَة الْفِعْل على الْفَاعِل والإتقان على الْعَالم والتخصيص على المريد. ولسنا نعقل وَجها فِي الطّعْم يَقْتَضِي تَحْرِيم التَّفَاضُل، كَمَا عقلنا مثل ذَلِك فِي الْأَدِلَّة الْمُتَعَلّقَة بمدلولاتها. فَنَقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه ينعكس عَلَيْكُم " أَولا " بالمنصوصات الَّتِي علق الحكم فِيهَا بأسماء الألقاب. وَذَلِكَ أَن قَائِلا لَو قَالَ: لَيْسَ يتَحَقَّق وَجه من الصّلاح فِيمَا ورد مَنْصُوصا فِي الشَّرَائِع، كَمَا يتَحَقَّق ذَلِك فِي الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة، فَمَا وَجه تَعْلِيق الْأَحْكَام على الْأَسْمَاء فِي موارد النُّصُوص؟ 1592 - فَإِن انفصلوا عَن ذَلِك قَالُوا: مَا جعلت الْأَسْمَاء عللاً فِي الْأَحْكَام، مُتَعَلقَة بهَا تعلق الدَّلِيل بالمدلول وَالْعلَّة بالمعلول. الحديث: 1591 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 قُلْنَا: وَكَذَلِكَ قَوْلنَا فِي الْعِلَل السمعية. فَإِنَّهَا نصبت أَمَارَات على الْأَحْكَام من غير أَن يكون لَهَا وَجه فِي التَّعَلُّق بهَا. ودلت على نصبها أَدِلَّة قَاطِعَة، كَمَا دلّ على التَّمَسُّك بالنصوص أَدِلَّة قَاطِعَة، وَإِذا كَانَ سَبِيلهَا سَبِيل الأمارات المنصوبة / فَلَا / تطلب فِي الأمارات وُجُوه التَّعَلُّق كَمَا تطلب فِي الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة. 1593 - وَرُبمَا يطردون مَا ذَكرُوهُ من أوجه، أَحدهَا أَن يَقُولُوا: لَو كَانَت الْعِلَل السمعية مقتضيات للْأَحْكَام لاقتضتها وُرُود الشَّرَائِع كَمَا تَقْتَضِي الْعلَّة الْعَقْلِيَّة معلولها. وَوجه الْخلاف فِي ذَلِك مَا قدمْنَاهُ آنِفا، من أَن الْعِلَل السمعية، لَيست " بأدلة " لأنفسها، وَإِنَّمَا نصبت أَمَارَات على الْأَحْكَام وَمَا كَانَ سَبيله سَبِيل الأمارة المنصوبة فتوقف فِي كَونهَا أَمارَة - على مَا تقدم - لواضع " لَهَا " الحديث: 1593 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 وَنصب عَلَيْهَا. وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ. (شُبْهَة أُخْرَى لَهُم) 1594 - فَإِن قَالُوا: لَو جَازَ نصب مَا ذكرتموه من الْأَوْصَاف إعلاماً - عِنْد غلبات الظنون - على الْأَحْكَام، لجَاز نصبها إعلاماً للأنباء عَن الغيوب حَتَّى يُقَال: إِذا ثَبت الْوَصْف الْفُلَانِيّ، وَغلب على ظنكم شَيْء، فَهُوَ آيَة فِي أَمر سَيكون { قَالُوا: فَإِذا لم يجز نصبها أَمَارَات فِي دَرك الغيوب، لم يجز ذَلِك فِي الْأَحْكَام. وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ بَاطِل من وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَن نقُول: لم جمعتم بَينهمَا، وَلم زعمتم أَن الْأَحْكَام تنزل فِيمَا ذكرتموه منزلَة الغيوب؟ فَلَا يَجدونَ فِي تَحْقِيق الْجمع سَبِيلا. على أَنا نقُول: مَا أنكرتموه لَيْسَ بمستنكر عندنَا فاعلموا} فَلَو قَالَ الرب تَعَالَى: مهما غلب على ظنكم حمل أَمارَة وترجيح أحد اعتقاداتكم على الْأُخْرَى فَاقْطَعُوا عِنْد ذَلِك بحملها. فَإِنِّي لَا أقدر غلبات ظنونكم - إِلَّا وَالْأَمر كَمَا ظننتموه. فَلَا يبعد فِي الْعقل إِذا نصب أَمَارَات على الغيوب. الحديث: 1594 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 (شُبْهَة أُخْرَى لَهُم) 1595 - فَإِن قَالُوا: لَو جَازَ التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فِي الْفُرُوع، لجَاز التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فِي أصُول الشَّرِيعَة كتثبيت أصُول الصَّلَوَات والزكوات ومقادير المقدرات بطرق الأقيسة. فَلَمَّا لم يجز ذَلِك فِي الْأُصُول، لم يجز فِي الْفُرُوع. فَيُقَال لَهُم: أول مَا نطالبكم بِهِ أَن نقُول: لم شبهتم الْأُصُول بالفروع؟ وَلم زعمتم أَنه إِذا لم يتَمَسَّك بِالْقِيَاسِ فِي الْأُصُول لم يتَمَسَّك بِهِ فِي الْفُرُوع؟ وَهل أَنْتُم فِي هَذَا الْجمع إِلَّا متحكمون. وَالَّذِي يُحَقّق تحكمكم فِي ذَلِك أَن نقُول: لَو قَالَ قَائِل: يجب أَن يكون كل المعلومات محسوسة، كَمَا أَن بَعْضهَا محسوس. أَو يجب أَن تكون كلهَا ضَرُورِيَّة / بديهية، اعْتِبَارا بتحقق ذَلِك فِي بعض الْمَعْلُوم، فَبَطل الْمصير إِلَى مَا قَالُوهُ. فَإِذا انْدَفَعُوا للفصل بَين بعض الْمَعْلُوم وَبَين بعض - وهيهات - قوبلوا تَقْرِيبًا من ذَلِك فِي الْمُتَنَازع فِيهِ. الحديث: 1595 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 1596 - على أَن الْجَواب السديد فِي ذَلِك، أَن نقُول كل صُورَة " تصور " أَن ينصب صَاحب الشَّرِيعَة فِيهَا علما دَالا على الحكم يتَوَصَّل إِلَيْهِ نصا واستدلالاً، فَيجوز تَقْدِير الْقيَاس أصلا أَو فرعا ن وكل مَوضِع لَا يتَحَقَّق ذَلِك فِيهِ، فَلَا يتَمَسَّك فِيهِ بالأقيسة، فَهَذَا عقد الْبَاب. وَلَيْسَ علينا تَفْصِيله مَعَ من يُنكر أَصله. 1597 - ثمَّ نقُول: إِذا قُلْنَا أَن سَبِيل الأقيسة السمعية سَبِيل الأمارات الَّتِي تنصب فلسنا نقُول ذَلِك من تِلْقَاء أَنْفُسنَا. وَلَكِن كل صُورَة دلّت الدّلَالَة القطعية على نصب وصف من الْأَوْصَاف فِيهَا علما على حكم، فنقدره علما. وكل صُورَة قَامَت فِيهَا دلَالَة قَطْعِيَّة سمعية على منع الْعِلَل وَامْتِنَاع نصب الأمارات، فَلَا نقدرها وَلَا نتمسك بهَا. وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك الأقيسة السمعية لَا تدل لأعيانها عقلا، وَإِنَّمَا تدل بِأَن تنصب أَدِلَّة مواضعة وتوقيفاً. فَإِن عَادوا بعد ذَلِك وَقَالُوا: فَمَا الدَّلِيل على انتصابها امارات، حَيْثُ تطردونها. قُلْنَا: سنذكر ذَلِك بعد فراغنا عَن تتبع شبهكم بِمَا ينقصها ويبطلها إِن شَاءَ الله تَعَالَى. (شُبْهَة أُخْرَى لَهُم) 1598 - فَإِن قَالُوا: لَو كَانَت الْعِلَل السمعية تدل على الْأَحْكَام، لوَجَبَ أَن تتَعَلَّق بمدلولاتها تعلق الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة بالمدلولات، وَإِذا كَانَ ذَلِك كَذَلِك، لزم مِنْهُ شَيْئَانِ. الحديث: 1596 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 أَحدهمَا: ثُبُوت الْأَحْكَام بهَا، قبل وُرُود الشَّرَائِع. وَالثَّانِي: اسْتِحَالَة رفع موجباتها نسخا وتبديلاً. وَلِلْقَوْمِ فِي هَذَا الْقَبِيل أسئلة، يجمعها جَوَاب وَاحِد، وَهُوَ أَن يُقَال: الْعِلَل السمعية لَا تدل لأعيانها، وَإِنَّمَا تدل على الْأَحْكَام، لِأَنَّهَا نصبت أَمَارَات فِيهَا وَلَيْسَ من شَرط الأمارة أَن تتَعَلَّق تعلق الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة بل نصب الشَّيْء أَمارَة مَوْقُوف على الْوَضع. وَهَذَا متضح لكل ذِي متأمل. وَأما الْعِلَل الْعَقْلِيَّة فَإِنَّهَا تدل على مدلولاتها لذواتها، حَتَّى لَا يسوغ فِي الْمَعْقُول تقديرها غير دَالَّة. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك من طَرِيق الْأَمْثِلَة أَن الْفِعْل لما دلّ على الْفَاعِل، لم يتَقَدَّر فِي الْمَعْقُول فعل غير دَال. واللغات لما دلّت على الْمعَانِي اصْطِلَاحا تصور تَقْدِير تبديلها. (شُبْهَة أُخْرَى لَهُم) 1599 - وَهِي من عمدهم فَإِن قَالُوا: اتفقتم معاشر القائسين على أَن الْقيَاس لَا يَصح دون استنباط عِلّة الأَصْل الْمَرْدُود إِلَيْهِ، ثمَّ عِلّة الأَصْل وصف الحديث: 1599 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 من أَوْصَاف لَا يسْتَدرك عقلا كَونه عِلّة، وَرُبمَا لَا يدل عَلَيْهِ نَص كتاب وَلَا سنة. فَإِذا استدت طرق الْعلم بِكَوْن مَا " يرتضيه " القائسون عِلّة، وَلَيْسَ بعض الْأَوْصَاف بعد انحسام طرق الْعلم عَنْهَا أولى من بعض، فَمَا وَجه التَّوَصُّل إِلَى عِلّة مَعَ انسداد السبل؟ " قيل " إِن نسبتموها إِلَى الْقطع بعلة الأَصْل، فَهَذَا مِمَّا لَا نشترطه، والطرق الَّتِي ذكرتموها، طرق الْقطع. وَعلة الأَصْل فِي السمعيات لَا ترام قطعا وَإِنَّمَا يجتزي فِيهَا بِغَلَبَة الظَّن. " وَالظَّن " الَّتِي يعتصم بهَا، ويعقبها على مجْرى الْعَادَات غلبات الظنون مِمَّا سنذكرها. 1600 - وَالْجُمْلَة الدافعة لما عولوا عَلَيْهِ أَن نقُول: إِن استبعدتم ثُبُوت أَمارَة على غَلَبَة الظَّن، فَهُوَ مَا لَا بعد فِيهِ. إِذْ يسوغ فِي / الْمَعْقُول نصب غَلَبَة الظَّن علما، كَمَا يسوغ ذَلِك فِي الْمَعْلُوم قطعا. وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ أَن قَائِلا لَو قَالَ لمن يخاطبه، والمخاطب من الْمُرْسلين مثلا: إِذا غلب على ظنكم كَون زيد فِي الدَّار وَوجدت ذَلِك، فَاعْلَم أَن وجود غَلَبَة الظَّن أَمارَة فِي تَحْرِيم الْكَلَام عَلَيْك، فَهَذَا مَا لَا بعد فِيهِ. كَمَا لَو قَالَ: إِذا علمت ان زيدا فِي الدَّار، فَهُوَ عَلامَة تَحْرِيم الْكَلَام عَلَيْك. 1601 - وسبيل الأقيسة السمعية سَبِيل الأمارات، فَكَأَن الرب تَعَالَى قَالَ للمكلفين: إِذا غلب على ظنكم كَون وصف من أَوْصَاف الأَصْل عِلّة، الحديث: 1600 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 بالطرق الَّتِي عهدتموها من الصَّحَابَة وَغَيرهم فاعلموا أَن ذَلِك إِيجَاب أَو حظر أَو تَحْلِيل أَو ندب. وَاعْلَم أَن هَذَا لَا يقوى مَعَ القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين، وَلَا محيص لِلْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب فِي الْفُرُوع وَاحِد عَن هَذِه الشُّبْهَة وأمثالها. وسنقرر وَجه الأسئلة عَلَيْهِم، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. (شُبْهَة أُخْرَى لَهُم) 1602 - فَإِن قَالُوا: الأَصْل إِذا كَانَ لَهُ أَوْصَاف، وَلم يكن بَعْضهَا مَنْصُوبًا عَلَيْهِ، وَلَا إِلَى الْعلم بِهِ طَرِيق قَاطع، فَمَا من طَرِيق يرتضيه قائس، إِلَّا والغير بمثابته. فَلَزِمَ من ذَلِك تكافؤ الْعِلَل وتساوي الْأَقْوَال. وفرضوا ذَلِك فِي الْكَيْل والطعم فِي الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة. قُلْنَا: اعلموا أَولا أَن مُجَرّد الْأَوْصَاف لَا تنصب عللاً، إِلَّا بطرِيق من الِاعْتِبَار سنقررها إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَقد ثَبت بِالدّلَالَةِ القاطعة أصُول الِاعْتِبَار وَترك الِاقْتِصَار على الْأَوْصَاف فِي التَّعَلُّق " عَلَيْهَا " على أَنا نقُول: قصارى مَا ذكرتموه غير مستنكر عندنَا فِي الْعِلَل السمعية. فَإنَّا نقُول: قد يكون للْأَصْل الْوَاحِد أَوْصَاف، و " يرتضي " بعض الْمُجْتَهدين نصب بَعْضهَا عِلّة، ويرتضي آخَرُونَ نصب وصف آخر - غَيرهَا عِلّة. وكل مُجْتَهد " وَاحِد " فَلَا يتَصَوَّر. فَإنَّا نراعي غلبات الظنون فِي أثر الحديث: 1602 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 سبل مضبوطة وَلَا يتَصَوَّر أَن يغلب على ظن الْمُجْتَهد كَون وصف عِلّة التَّخْصِيص - وَفِي تِلْكَ الْحَالة بِعَينهَا يغلب على الظَّن كَون وصف آخر عِلّة، وَهَذَا وَاضح إِن شَاءَ الله تَعَالَى. (شُبْهَة أُخْرَى لَهُم) 1603 - فَإِن قَالُوا: القائس الْمُجْتَهد لَيْسَ يَقُول من تِلْقَاء نَفسه شَيْئا، وَإِنَّمَا هُوَ مخبر عَن الله تَعَالَى. وَإِلَّا فَلَيْسَ لأحد أَن يشرع ويبتدئ إِثْبَات حكم اسْتِدْلَالا. قَالُوا: فَإِذا ثَبت ذَلِك، فَكيف يَصح للمجتهد أَن يخبر عَن الله تَعَالَى فِي حكم، وَهُوَ متشكك فِي أَصله؟ قُلْنَا: هَذَا تلبيس مِنْكُم. وَذَلِكَ أَنا قد أوضحنا أَن سَبِيل الأقيسة سَبِيل الأمارات، والقائس لَا يَقُول مَا يَقُول بِغَلَبَة ظن، وَلَكِن قد قَامَت عِنْده دلَالَة قَاطِعَة على أَنه مهما غلب على ظَنّه صِحَة طَرِيق فِي الْقيَاس، فَحكم الله عَلَيْهِ قطعا أَن يفعل بِمُوجبِه، فالدليل الْقَاطِع الَّذِي تضمن نصب غَلَبَة الظَّن أَمارَة هُوَ الَّذِي يسوغ للقائس الْإِخْبَار عَن الله تَعَالَى دون الأمارة الَّتِي " نصبت ". وَهَذَا وَاضح وَالْحَمْد لله على القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين. وَلَا يسْتَمر للمخالفين فِي ذَلِك جَوَاب سديد. (شُبْهَة أُخْرَى لَهُم) 1604 - فَإِن قَالُوا: كل قائس مُجْتَهد على زعمكم يجوز أَن يكون مخطئاً فِي طرد الْقيَاس، وَيجوز أَن يكون مصيباً وَلَا نقطع بِإِصَابَة نَفسه أصلا. الحديث: 1603 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَمَا وَجه الحكم بِمَا هَذَا طَرِيقه على الْأَرْوَاح / وَسَفك الدِّمَاء وَاسْتِحْلَال الْمُحرمَات. وأوضحوا ذَلِك بِأَن قَالُوا: قد ثَبت بِاتِّفَاق الْفُقَهَاء أَن الرجل إِذا كَانَ تَحْتَهُ نسْوَة فَوَقَعت على وَاحِدَة مِنْهُنَّ بَائِنَة. والتبس أمرهَا على الزَّوْج فَيجب عَلَيْهِ اجْتِنَاب سائرهن. وَلَا يسوغ لَهُ التَّمَسُّك بغلبات الظنون فِي تَمْيِيز عَن المحللات. قُلْنَا: بنيتم دليلكم هَذَا على أصل، لَا نساعدكم عَلَيْهِ، فَإنَّا نقُول: من قَاس من الْمُجْتَهدين وبذل جهده، حَتَّى قدر نَفسه غير مقصر، فَلَا يتَصَوَّر أَن يكون قِيَاسه خطأ فِي الْمَطْلُوب بِالْقِيَاسِ على القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين. فَإِن الْمَطْلُوب بِهِ الْعَمَل عِنْد حُصُول غَلَبَة الظَّن، وَقد تحققا جَمِيعًا، فَخرج لَك من ذَلِك أَن الَّذِي اجْتهد، لَا يجوز الْخَطَأ فِي قِيَاسه. فأحط ذَلِك علما، إِلَى أَن تَأْتِيك أَحْكَام الِاجْتِهَاد. 1605 - فَأَما الَّذين قَالُوا: إِن الْمُصِيب وَاحِد، فيجوزون الْخَطَأ فِي قِيَاسه، وَالصَّوَاب كَمَا ألزموه، وَلَيْسَ لَهُم عَن هَذِه الشُّبْهَة محيص متضح. ثمَّ نقُول مَا ذكرتموه يبطل بأخبار الْآحَاد، إِن كُنْتُم من الْقَائِلين بهَا فَإنَّا نسفك الدِّمَاء ونحكم بهَا فِي كل معضلة، مَعَ استرابتنا فِي النقلَة، وتجويز غلطهم وتعمد كذبهمْ. وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الحكم بِشَهَادَة الشُّهُود مَعَ تَجْوِيز كَونهم " كذبة " شَاهِدين بزور. الحديث: 1605 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 (شُبْهَة أُخْرَى لَهُم) 1606 - فَإِن قَالُوا: عِلّة الأَصْل لَا تثبت عِنْد القائسين بِمُجَرَّد الدَّعْوَى، وَلَا بُد من إِقَامَة الدّلَالَة عَلَيْهَا، فَمَا وَجه نصب الْأَدِلَّة عَلَيْهَا؟ قُلْنَا: هَذَا الْآن تعرض مِنْكُم للْكَلَام فِي تَفْصِيل الْقيَاس مَعَ إنكاركم لأصله وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ، فَاعْتَرفُوا بِالْأَصْلِ وسائلونا بعده عَن التفاصيل، وسنقرر الطّرق الَّتِي تثبت الْعِلَل إِن شَاءَ الله تَعَالَى. (شُبْهَة أُخْرَى لَهُم) 1607 - فَإِن قَالُوا: إِذا علقتم الحكم بِوَصْف من أَوْصَاف الأَصْل وقدرتموه عِلّة، فَمَا قَوْلكُم فِيهِ إِذا اسْتَوَى وصفان من أَوْصَاف الأَصْل، فجوز الْمُجْتَهد أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا عِلّة، وَكَانَ الْمَقْصد " مُخْتَلفا " وَلم يتَرَجَّح أَحدهمَا على الثَّانِي فَكيف يفعل الْمُجْتَهد؟ وَكَذَلِكَ الْفَرْع الْوَاحِد إِذا تجاذبه أصلان، واستوت أشباهه من كل وَاحِد مِنْهُمَا فَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى إِيجَاب، من حَيْثُ يجتذبه أصل الْإِيجَاب. وَإِلَى إِبَاحَته من حَيْثُ يجتذبه أصل الْإِبَاحَة. وَذَلِكَ محَال. فَإِذا كَانَ القَوْل بِالْقِيَاسِ يُفْضِي إِلَى هَذَا الْمحَال فَيجب سد بَابه. وَالْجَوَاب عَن هَذَا من وَجْهَيْن. أَحدهمَا: أَن نقُول: ذهب بعض القائسين إِلَى أَن مَا ذكرتموه لَا يتَصَوَّر. وَمِنْهَا تجاذب الْفَرْع الْوَاحِد أصلان، فَلَا بُد أَن يتَرَجَّح أَحدهمَا وَلَا يسوغ استواؤهما فِي حكم الْمُجْتَهدين من كل وَجه. فَإِذا سلكنا هَذِه الطَّرِيقَة، فقد بَطل مَا قَالُوهُ. الحديث: 1606 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 وسلك القَاضِي رَضِي الله عَنهُ طَريقَة أُخْرَى. فَقَالَ: إِن تصور مَا قلتموه فالمجتهد عِنْد تصَوره بِالْخِيَارِ، إِن أحب ألحقهُ بِهَذَا الأَصْل، وَإِن أحب ألحقهُ بِالْأَصْلِ الآخر. وَلَا يستبعد ذَلِك فِي مواقع الشَّرِيعَة على مَا نذكرهُ فِي أَحْكَام الِاجْتِهَاد وتصويب الْمُجْتَهدين فِي مسَائِل الْفُرُوع - إِن شَاءَ الله تَعَالَى /. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن مفتيين إِذا تَسَاوَت صفاتها. وَقد عنت مسئلة للعامي وَنحن نعلم أَن جوابي المفتيين يَخْتَلِفَانِ نفيا وإثباتاً، أَو حظراً وإيجاباً فالمستفتى بِالْخِيَارِ فِي استفتاء أَيهمَا شَاءَ. (شُبْهَة أُخْرَى لَهُم) 1608 - فَإِن قَالُوا: قصارى مَا ذكرْتُمْ، أَنكُمْ ادعيتم نصب غَلَبَة الظَّن علما على الحكم وَذَلِكَ غير مُسْتَقِيم. وَذَلِكَ أَن الرب تَعَالَى مَوْصُوف بالاقتدار على تَبْيِين الْأَحْكَام تنصيصاً مِنْهُ تَعَالَى، فَإِذا تصور التَّنْصِيص، الحديث: 1608 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 فالتعريض إِلَى غَلَبَة الظنون ترك لأوضح الطَّرِيقَيْنِ واجتزاء بأدونهما، وَذَلِكَ لَا يسوغ. وَالْجَوَاب عَن ذَلِك من وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَن نقُول: لم زعمتم أَنه لَا يسوغ ترك أوضح الطَّرِيقَيْنِ للَّذي ينحط عَنهُ فِي الرُّتْبَة. وَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَن ذَلِك سَائِغ، إِذا كَانَ التَّكْلِيف يَسْتَقِيم فِي كل وَاحِد من الطَّرِيقَيْنِ؟ فَإِن فرغوا بعد ذَلِك أَن " بَين " الطَّرِيقَيْنِ أصلح لِلْعِبَادَةِ وَالْحكمَة تَقْتَضِي إيثاره الْأَصْلَح للعباد. قُلْنَا: فِي عين هَذَا تنازعون فَإِن التَّكْلِيف عندنَا لَا يَنْبَنِي على الصّلاح والأصلح وَهَذَا مِمَّا يُقرر فِي الديانَات. 1609 - على أَنا نقُول لكم: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنه رُبمَا يتَّفق فِي الْمَعْلُوم كَون التَّكْلِيف بغلبات الظنون أصلح، من حَيْثُ ينطوي على تحر واجتهاد، وَلَو وضحت النُّصُوص وَاسْتغْنى المكلفون عَن طرق الِاجْتِهَاد. لَكَانَ فِي ذَلِك مفْسدَة للعباد. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك نُكْتَة يجب أَن لَا تغفل عَنْهَا، مهما فاوضت الْقَوْم فِي الصّلاح والإصلاح، وَهِي أَن تَقول: لَيْسَ الْمَعْنى بِكَوْن الشَّيْء صلاحاً الحديث: 1609 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 ولطفاً للمكلف أَن يَقْتَضِي " دَابَّة " لَهُ استصلاحه ويوفر لَهُ دواعيه على الطَّاعَة ويتابع صوارفه على الْمعْصِيَة، وَلَكِن الْمَعْنى بذلك أَن الرب تَعَالَى إِذا علم أَن فعلا من الْأَفْعَال لَو أوجده صلح المكلفون. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الشَّيْء الْوَاحِد قد يتَّفق صلاحاً فِي حق شخص مفْسدَة فِي حق غَيره، وَذَلِكَ نَحْو الإغناء والإفقار. وَيخْتَلف ذَلِك باخْتلَاف الْوُقُوع فِي الْمَعْلُوم. ومقصودنا من ذَلِك كُله أَن نبين للْقَوْم أَن تصور التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ أصلح فِي حكم الْمَعْلُوم. 1610 - وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن نقُول: قد ثبتَتْ ضروب من التَّحَرِّي فِي موارد الشَّرِيعَة وَلم يقتض ذَلِك مَا ذكرتموه، مِنْهَا اعْتِبَار أروش الْجِنَايَات وقيم الْمُتْلفَات ودرك مبالغ الحكومات، والإقدام على التَّعْزِير الَّذِي لَا يَنْضَبِط لَهُ قدر عِنْد مُقَارنَة الزلات إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يتَعَيَّن فِيهِ تتبع الاجتهادات مَعَ تصور النُّصُوص فِي أعظمها. فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. الحديث: 1610 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 فَهَذِهِ جملَة كَافِيَة فِي ذكر شبه الَّذين أحالوا التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ، وَقد أوضحنا سَبِيل الِانْفِصَال عَنْهَا، وَلَا يرد عَلَيْك من أصُول كَلَام الْقَوْم شَيْء إِلَّا تستقل فِي التفصي عَنهُ بِمَا قدمْنَاهُ لَك. وَنحن الْآن نذْكر الطّرق الَّتِي توصلنا بهَا إِلَى التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ بعد مَا تبين جَوَاز التَّعَبُّد بِهِ. (281) القَوْل فِي إِيضَاح الطّرق الموصولة الى التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ 1611 - اعْلَم، وفقك الله، أَولا، أَن الَّذِي يسْتَدرك بِالْعقلِ جَوَاز وُرُود التَّكْلِيف بالتعبد بِالْقِيَاسِ، وَلَا يسْتَدرك بِالْعقلِ إِلَّا جَوَاز ذَلِك. فَأَما تحقق ثُبُوته وَوُجُوب تعلق الْأَحْكَام / بِهِ على قطع، فمما لَا يسْتَدرك عقلا. 1612 - وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ ثَبت عقلا، والأدلة السمعية وَردت فِي ذَلِك مُؤَكدَة للدلالة الْعَقْلِيَّة، وَلَو قَدرنَا عدم وُرُودهَا، لَكنا نتوصل بِمُجَرَّد الْعُقُول إِلَى انتصاب الأقيسة عللاً فِي الْأَحْكَام. الحديث: 1611 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 1613 - وَاعْلَم أَن القَوْل فِي ذَلِك يَنْقَسِم، فَإِن عَنى الْخُصُوم بِمَا قَالُوهُ، أَن اعْتِبَار " الْأَشْيَاء " وطرق التَّرْجِيح والاعتصام بغلبات الظنون، مِمَّا يصور من غير تَقْدِير دلَالَة سمعية فِي ذَلِك، فَهَذَا مَا لَا نستنكره كَمَا لَا نستنكر اسْتِقْلَال الْعُقَلَاء بِأَنْفسِهِم فِي تَقْدِير الْقيم وَالِاجْتِهَاد فِي التعزيرات عِنْد اخْتِلَاف الرتب فِي الذُّنُوب والجرائم، وَلَا نستبعد اعتبارهم تَقْدِير الكافة فِي النَّفَقَات والمؤنات، كَمَا لَا نستبعد فِي الْعَادَات من الْعُقَلَاء ضروب التَّحَرِّي والتأخي فِي مصَالح الدُّنْيَا نَحْو التِّجَارَات وطرق المكاسب واستصلاح الْأَمْوَال، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تعداده. فَإِن قَالَ الْخصم الِاعْتِبَار مُتَصَوّر فِي ذَلِك عقلا. فَالْأَمْر على مَا ذكر إِذْ لَا يتَصَوَّر على الْمَنْع بتكليف الْمحَال وَمَا لَا يُطَاق وَمَا ورد التَّكْلِيف بالشَّيْء إِلَّا وَهُوَ مِمَّا يتَصَوَّر الْإِقْدَام عَلَيْهِ. فَإِن عنوا بِمَا قَالُوهُ أَن الاعتبارات فِي طرق الِاجْتِهَاد إِذا تصورت، فَإِنَّهَا تَقْتَضِي أَحْكَام التَّكْلِيف عقلا، فَهَذَا مِمَّا ننكره فَإنَّا نقُول: لَا يثبت كَون الِاجْتِهَاد على مَا " تيقناه " مقتضية أحكاماً، إِلَّا الحديث: 1613 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 بورود السّمع. 1614 - وَقد ذهب ذاهبون، وهم الأقلون، إِلَى أَنا نستدرك بالعقول، التَّوَصُّل إِلَى الْأَحْكَام بطرق الِاعْتِبَار من غير وُرُود سمع فِي ذَلِك، ومعظم المستروحين إِلَى الْعُقُول فِي المقاييس إِذا فتشت عَن مذاهبهم، ألفيتهم مجتزين بتصوير الِاعْتِبَار وَتَقْدِيره عقلا. وَإِذا أوضحت لَهُ وَجه الصَّوَاب وطالبتهم بتثبيت الْأَحْكَام بِالِاعْتِبَارِ وجوبا لَا جَوَازًا، فيوافقوا فِي الْمَقْصد، ويرتفع عِنْد ذَلِك الْخلاف. 1615 - وَصرح شرذمة بِالْخِلَافِ، فَقَالُوا: الْعِلَل الْحكمِيَّة تَقْتَضِي أَحْكَامهَا عقلا. حَتَّى قَالُوا: إِنَّهَا تتَعَلَّق بهَا تعلق الْعلَّة بمعلولاتها، وَهَذَا وَاضح الْبطلَان. وَأول مَا نفاتحهم بِهِ أَن نقُول: أَنْتُم لَا تخلون، إِمَّا أَن تزعموا أَن الشدَّة مقتضية تَحْرِيم الْخمر لعينها. كَمَا يَقْتَضِي الْعلم كَون الْمحل الَّذِي قَامَ بِهِ عَالما، وَالْقُدْرَة كَون الْمحل الَّذِي قَامَت بِهِ قَادِرًا إِلَى غير ذَلِك من طرق الْعِلَل العقليات وَهَذَا من أَسف الْمذَاهب. وَإِمَّا أَن تزعموا أَن الشدَّة أَمارَة على التَّحْرِيم مَنْصُوبَة لَهُ وضعا، مَعَ جَوَاز تقديرك عدم نصبها أَمارَة. فَإِن أَنْتُم آثرتم هَذَا الْقسم الْأَخير فقد حصحص الْحق ووضح حَيْثُ صرحتم بِكَوْنِهَا أَمارَة مَوْقُوفَة على نصب ناصب وَوضع وَاضع (مَعَ أَن الَّذِي لَا ينتحم فِيهَا فَإنَّا نستدرك بِعَينهَا للتَّحْرِيم مَعَ مَا ذَكرْنَاهُ آنِفا) . الحديث: 1614 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 1616 - وَإِن أَنْتُم زعمتم أَن الشدَّة تَقْتَضِي التَّحْرِيم لعينها اقْتِضَاء الْعِلَل الْعَقْلِيَّة معلولاتها فَهَذَا بَاطِل من أوجه. أَحدهَا أَن نقُول: تَحْلِيل الْخمر مِمَّا لَا يستبعد عقلا، وَلَقَد عهِدت محللة فِي صدر الْإِسْلَام /. فَلم كَانَت الشدَّة أولى بِأَن تكون عِلّة فِي التَّحْرِيم من الحموضة والحلاوة؟ فَمَا وَجه اقْتِضَاء الْعقل / تَخْصِيص وصف من هَذِه الْأَوْصَاف؟ وَلَا يبعد فِي الْعقل تَحْرِيم الحامض وَتَحْلِيل المشتد، وَهَذَا مِمَّا لَا منجى لَهُم عَنهُ، إِلَّا أَن يعتصموا بهذيان الْمُعْتَزلَة فِي الصّلاح والإصلاح. ويزعموا أَنه لَيْسَ الصّلاح التَّسَبُّب إِلَى إِزَالَة الْعُقُول، فيضعف الْكَلَام حِينَئِذٍ غَايَة الضعْف ويلزمون عِنْده الِاقْتِصَار على الْقَلِيل الَّذِي لَا يسكر من الْخمر النيء. 1617 - على أَن من قَالَ باستدراك الْأَحْكَام بطرق الْعقل، فَلَا يدعى ذَلِك عُمُوما فِيمَا قل وَجل من الْأَحْكَام، وَإِنَّمَا يدعى ذَلِك فِي أصُول التَّعَبُّد نَحْو وجوب شكر الْمُنعم والمعرفة و " حظر " الظُّلم وَالْكفْر. الحديث: 1616 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 فَأَما التفاصيل ودقائق الْأَحْكَام فِي أَعْيَان الخائضين فِي هَذَا الْفَنّ وَالَّذِي يُوضح بطلَان ذَلِك، أَنه لَو كَانَ سَبِيل الْعِلَل فِي الْأَحْكَام سَبِيل الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، لما تحقق وجودهَا إِلَّا مقتضية لأحكامها. فَلَزِمَ من ذَلِك ثُبُوت تفاصيل الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع وَثُبُوت النبوات. وَهَذَا بَاطِل لما سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي نفي الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع، وَهَذَا يُوجب أَيْضا منع النّسخ فِي التَّحْرِيم والتحليل، إِذا كَانَ الحكم مُعَلّقا فِيهِ بعلة. وَقد اتّفق الْعلمَاء على أَن الحكم الْمُتَعَلّق بضروب من الِاعْتِبَار - إِذا لم يكن من أصُول التَّعَبُّد والتكليف - فَيجوز تَقْدِير النّسخ فِيهِ. 1618 - فقد صورنا على الْخُصُوم تقدم الْعِلَل مَعَ انْتِفَاء " المعلومات " ثمَّ صورنا عَلَيْهِم بقاءها مَعَ نسخ أَحْكَامهَا. وَلَيْسَ ذَلِك من قضايا الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، فَإِن من شَرط الْعلَّة الْعَقْلِيَّة أَن لَا تَنْقَطِع عَن معلولها وَلَا تقدر إِلَّا مُوجبَة، فَإِنَّهَا إِذا كَانَت توجب الحكم لعينها، ثمَّ تصورت الحكم لعينها، ثمَّ تصورت عينهَا غير مُوجبَة، فَهَذَا يُفْضِي إِلَى قلب جِنْسهَا. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْعِلَل فِي الْأَحْكَام لَو كَانَ سَبِيلهَا سَبِيل الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة، فَهِيَ تدل لَهُ بذواتها أَيْضا، فَلَا يتَصَوَّر حدث غير دَال على مُحدث، وَلَا اتقان غير دَال على عَالم، وَقد صورنا ثُبُوت الْأَوْصَاف قبل وُرُود الشَّرَائِع، وَبعد النّسخ مَعَ انْتِفَاء الْأَحْكَام. 1619 - فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا تدل الْعِلَل السمعية، كَمَا تدل الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة، الحديث: 1618 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 وَلَا تتنزل منزلَة الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، بل تتنزل منزلَة الْأَدِلَّة، وَمن شَرطهَا ثُبُوت أصل الشَّرِيعَة وَعدم النّسخ قد يثبت دلَالَة عقلية مَشْرُوطَة بِشَرْط. وَلَا يستبعد ذَلِك فِيهَا. قُلْنَا: هَذَا هذيان لَا تَحْصِيل وَرَاءه. فَإِن الدَّال على حدث الْعَالم إِذا وضح الْوَجْه الَّذِي مِنْهُ يدل، فَلَا يتَصَوَّر وُقُوعه على قَول من قَائِل، وَلَا شرع من شَارِع غير دَال وَلَا يتَصَوَّر نسخ مُوجبه ورفض " مُقْتَضَاهُ " وَلَيْسَ فِيهِ شَرط، إِنَّمَا هُوَ تثبيت فَإِذا ثَبت لم يتَقَدَّر انْتِفَاء مُوجبه، فَمَا يغنيكم التَّمَسُّك بالعبارات فِي كَون الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة مَشْرُوطَة. 1620 - وَمِمَّا نتمسك بِهِ أَن نقُول: إِذا قدرتم الشدَّة عِلّة فِي التَّحْرِيم عقلا. فمدارك الْعُقُول تَنْقَسِم إِلَى ضَرُورَة واستدلال. وَلَا نستريب أَنكُمْ لَا تدعون كَون الشدَّة عِلّة ضَرُورَة. وَإِن تجاهلتم فِيهِ قوبلتم بِمثلِهِ. وَإِن ادعيتم ثُبُوته عِلّة اسْتِدْلَالا، فَمَا وَجه كَونه دَلِيلا أَو عِلّة عقلا؟ مَعَ تَجْوِيز الْعقل تَحْرِيم الحلو والشديد والحامض، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ وَلَا / يَجدونَ عَنهُ مهرباً. فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك، لِأَن الشدَّة لَا نجدها، إِلَّا ويقارنها التَّحْرِيم قُلْنَا: فَلَيْسَ ذَلِك لِلْعَقْلِ، فتنبهوا وَإِنَّمَا هُوَ للشَّرْع، فثبتوا - لَو كَانَ سَبيله الْعقل - لم تبدل وَجه كَونه دَلِيلا أَو عِلّة؟ 1621 - وَمِمَّا نستدل بِهِ أَيْضا، أَن نقُول: أَنْتُم لَا تخلون إِذا ادعيتم، الحديث: 1620 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 أَن الْأَوْصَاف تَقْتَضِي الْأَحْكَام عقلا " أما " أَن تَقولُوا أَن ذَلِك ثَبت قطعا، أَو تسلكوا فِيهِ مَسْلَك غلبات الظنون. فَإِن قُلْتُمْ: أَن ذَلِك ثَبت قطعا حَتَّى تَقولُوا على طرده أَن الطّعْم عِلّة الرِّبَا فِي الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة عِلّة قطعا فِي التَّحْرِيم، فَهَذَا نِهَايَة التجاهل. وَالَّذِي يَدعِي الْكَيْل يقطع بِمَا يَدعِيهِ عِلّة، وَلَا يكَاد يَتَّضِح فِي ذَلِك وَجه يَقْتَضِي الْقطع من جِهَة الْعقل، وَأَن يتَحَقَّق ذَلِك والمسئلة مجتهدة فِيهَا. فَإِن قَالُوا: إِنَّا نسلك فِي ذَلِك غلبات الظنون. فَنَقُول: " فالمحصول " إِذا، أَنا نجوز كَون الطّعْم عِلّة، ونجوز أَن لَا يكون عِلّة. فَأنى يتَحَقَّق مَعَ ذَلِك الْمصير إِلَى أَن الطّعْم يَقْتَضِي الحكم اقْتِضَاء الْعلَّة الْعَقْلِيَّة معلولها. وَهَذَا بَين فِي سُقُوط مَا قَالُوهُ. وَقد أورد القَاضِي رَضِي الله عَنهُ على الْقَوْم طرقاً، وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ غنية إِن شَاءَ الله تَعَالَى. 1622 - فَإِن قَالُوا: الطَّرِيق الَّذِي يعرف بِهِ كَون الطَّرِيقَة الْعَقْلِيَّة عِلّة، أَو الدّلَالَة الْعَقْلِيَّة دلَالَة، فنعرف بِهِ بِعَيْنِه كَون الْعِلَل الْحكمِيَّة عللاً، وأوضحوا ذَلِك بِأَن قَالُوا: إِذا أردنَا أَن نَعْرِف عِلّة كَون الْعَالم عَالما، فالطريق فِي ذَلِك، أَن نضبط أَولا، جَوَاز تَعْلِيل هَذَا الحكم وَعدم اسْتِحَالَة التَّعْلِيل بِهِ، حَتَّى إِذا ثَبت ذَلِك، سبرنا بعده الْأَحْوَال. وعرفنا بطلَان كَون الْعَالم عَالما لنَفسِهِ، الحديث: 1622 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 أَو لِمَعْنى غير الْعلم من الْمعَانِي الْقَائِمَة بِالذَّاتِ، فَلَا نزال نسبر ونبطل الْأَقْسَام، حَتَّى ننتهي إِلَى تَعْلِيل هَذَا الحكم بِالْعلمِ. وَكَذَلِكَ القَوْل فِي كل حكم عَقْلِي مُعَلل بعلة عقلية، ثمَّ " إِن " اعْتِبَار الْعلَّة أَن يثبت الحكم عِنْد ثُبُوتهَا ويعدم عِنْد عدمهَا. وحققوا ذَلِك بِأَن قَالُوا: لَا معنى لكَون الْعلم عِلّة فِي حكمهَا، إِلَّا مَا ذَكرْنَاهُ من الِاعْتِبَار، وَهَذَا الْمَعْنى بِعَيْنِه مَوْجُود فِي عِلّة الحكم. فَإنَّا إِذا نَظرنَا إِلَى تَحْرِيم الْخمر وأثبتنا أَولا جَوَاز تَعْلِيله، وَتبين لنا ارْتِفَاع الْمَوَانِع عَن التَّعْلِيل، ثمَّ قَدرنَا الشدَّة عِلّة فِي اقْتِضَاء التَّحْرِيم، بعد أَن اعْتبرنَا مَا عَداهَا من الْأَوْصَاف فَبَطل الِاعْتِبَار فِيمَا سواهَا، ثمَّ ألفينا الحكم يتَحَقَّق بِوُجُود الشدَّة - وَرُبمَا ينعكس أَيْضا، فَيَنْتَفِي الحكم بِانْتِفَاء الشدَّة - فقد ضاهى علل الْعُقُول وأدلتها. إِذْ أَدِلَّة الْعُقُول لَا يشْتَرط فِيهَا الانعكاس وَإِن اشْترط فِي الْعِلَل الْعَقْلِيَّة الانعكاس. 1623 - وَالْجَوَاب عَن ذَلِك من أوجه. أقربها أَن نقُول: لَا مشابهة بَين المقاييس الشَّرْعِيَّة وَبَين الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، إِذْ كل حكم مُعَلل فِي الْعقل لَا يسوغ تَقْدِير ثُبُوته مَعَ اعْتِقَاد انْتِفَاء علته إِذْ لَا يجوز أَن تقدر عَالما لَا علم لَهُ. وَلَا " كَائِنا " لَا كَون لَهُ. وَأما التَّحْرِيم الَّذِي فِي الصُّورَة الَّتِي فرضتم الْكَلَام فِيهَا، فَيجوز الحديث: 1623 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 الْعقل تَقْدِير تَحْقِيقه، مَعَ وُرُود الشَّيْء ثمَّ نصا بِالْمَنْعِ من تَعْلِيله، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده فَلَو كَانَت الشدَّة تنزل منزلَة الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، لما سَاغَ تَجْوِيز وُرُود الشَّرْع بِمَنْع التَّعْلِيل بهَا وبغيرها / من الْأَوْصَاف. إِذْ الْعلم لما كَانَ عِلّة فِي كَون مَحَله عَالما، لم نجد فِي قضايا الْعُقُول قيام الدّلَالَة على خُرُوجه عَن كَونه عِلّة، وَقد ثَبت التَّحْرِيم فِي مَوَاضِع فِي الشَّرْع غير مُعَلل نَحْو تَحْرِيم الْخِنْزِير، وَمَا عداهُ مِمَّا يضاهيه فِي انْتِفَاء التَّعْلِيل. وَهَذَا وَاضح فِي إِسْقَاط مَا راموه. 1624 - وَالْوَجْه الثَّانِي فِي الْجَواب أَن نقُول: لَا يَسْتَقِيم التَّعْلِيل عقلا، إِلَّا بِأَن نقدر حكما زَائِدا على الْعلَّة الْمُقْتَضِيَة للْحكم. فَنَقُول: كَون الْعَالم عَالما حكم زَائِد على الذَّات وعَلى نفس الْعلم، وَهُوَ مُعَلل بِالْعلمِ. وَهَذَا الحكم هُوَ الْحَال الَّذِي عظم فِيهِ اخْتِلَاف الْمُحَقِّقين نفيا وإثباتاً، والخوض فِيهِ يصدنا عَن الْمَقْصد. ومطلبنا فِي هَذَا الْموضع أَن نبين، أَن الْعلَّة الْعَقْلِيَّة لَا يستر إِلَّا بِأَن نقدر لَهَا حكما زَائِدا عَلَيْهَا، إِذْ لَو لم نقل ذَلِك، وصرفنا الحكم إِلَى نفس الْعلم، أفْضى محصول القَوْل إِلَى أَن الْعلم عِلّة فِي الْعلم! وَهَذَا سَاقِط من الْكَلَام. فَإِذا ثَبت ذَلِك قُلْنَا بعده للخصوم: فثبتوا التَّحْرِيم وَصفا زَائِدا وعللوه ليَكُون ذَلِك قِيَاس الْعِلَل ومعلولاتها عقلا. الحديث: 1624 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 وَقد أوضحنا فِي صدر الْكتاب فِي غير مَوضِع، أَن التَّحْرِيم وَمَا عداهُ من أَحْكَام التَّكْلِيف لَيست بأوصاف ثَابِتَة للذوات، وَإِنَّمَا هِيَ رَاجِعَة إِلَى أوَامِر الله تَعَالَى وزواجره وتحليله وندبه. فَإِذا آل ذَلِك إِلَى نفس الْكَلَام، فكأنكم عللتم كَلَام الله المنعوت بالقدم بِوَصْف فِي الشَّرَاب المشتد. وَهَذَا نِهَايَة الإحالة. فأحط بِهِ علما. 1625 - وَالْوَجْه الثَّالِث فِي الْجَواب أَن نقُول: لَو سَاغَ لكم الْمصير إِلَى أَن علل الْأَحْكَام مستدركة عقلا، لمضاهاتها الْعِلَل الْعَقْلِيَّة فِيمَا صدرتم الْكَلَام بِهِ فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنَّهَا لَا تضاهي الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، لمخالفتها إِيَّاهَا فِي الْجمل الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي أدلتها. مِنْهَا: أَن الْأَوْصَاف الَّتِي تقدر عللا فِي الْأَحْكَام، قد كَانَت قبل وُرُود الشَّرَائِع وَهِي لَيست بعلل، وَتسَمى عِلّة بعد نسخ الحكم، وَهِي لَيست بعلة. وَمن شَأْن الْعِلَل الْعَقْلِيَّة أَلا تُوجد إِلَّا وَهِي علل، فَلَو سَاغَ لكم الْمصير إِلَى أَنَّهَا عقلية لمشابهتها الْعِلَل الْعَقْلِيَّة فِي وَجه، لساغ لنا أَن لَا نقدرها عللا عقلية، لخروجها عَن مشابهة الْعِلَل الْعَقْلِيَّة فِي وُجُوه. وَهَذَا مَا لَا مخلص للخصم عَنهُ. 1626 - فَإِن قَالُوا: فطرد مَا ذكرتموه يَقْتَضِي إِحَالَة التعلل بالأوصاف الَّتِي استشهدنا بهَا وَقد وافقتمونا على جَوَاز وُرُود الشَّرَائِع بنصبها عللا، فَلَو كَانَ كَونهَا عللا مستحيلا عقلا، لما ذكرتموه - لما جَازَ وُرُود الشَّرَائِع بنصبها عللا. إِذْ الْأَدِلَّة السمعية لَا ترد إِلَّا بجائزات الْعُقُول. فَنَقُول: هَذَا تمويه مِنْكُم فَإِن الَّذِي أحلنا عقلا، لَا يجوز وُرُود الشَّرْع بتجويزه، وَالَّذِي جَوَّزنَا وُرُود الشَّرْع بِهِ، غير ذَلِك. فَإنَّا جَوَّزنَا وُرُود الشَّرَائِع الحديث: 1625 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 بِأَن تنصب بعض الْأَوْصَاف أَمَارَات فِي الْأَحْكَام، من غير أَن تكون أَعْيَان الأمارات مُوجبَة للْأَحْكَام ونزلنا ذَلِك منزلَة التَّوَاضُع على نصب الْإِعْلَام مَعَ اعْتِقَاد جَوَاز انتفائها وَثُبُوت / " اعْتِبَارهَا " آنذاك. فَخرج من ذَلِك أَن الَّذِي جَوَّزنَا وُرُود الشَّرْع بِهِ غير الَّذِي نفيناه وأثبتنا استحالته وَأَنْتُم معاشر الْمُحَقِّقين لَا تجيزون كَون الْأَوْصَاف أَمَارَات بل تَزْعُمُونَ أَنَّهَا مُوجبَات لذواتها. وَأَنَّهَا كالعلل الْعَقْلِيَّة وَهَذَا " مَا سمناكم " إِبْطَاله قبل وُرُود الشَّرَائِع وَبعدهَا، فافهموا ال ْفَصْل بَين المنزلتين وجانبوا التلبيس، ترشدوا. فَإِذا ثَبت بِمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا، اسْتِحَالَة كَون الأمارات الْحكمِيَّة نازلة منزلَة الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، وَتبين أَنه لَا يتَوَصَّل إِلَى كَونهَا أَدِلَّة " عقلا " وَإِنَّمَا يتَوَصَّل إِلَى كَونهَا أَدِلَّة، سمعا فَنحْن الْآن نذْكر الطّرق السمعية الدَّالَّة على ثُبُوت المقاييس فِي الْأَحْكَام. (282) القَوْل فِي ذكر مَا يعْتَمد عَلَيْهِ فِي إِثْبَات العبر والمقاييس السمعية 1627 - اعْلَم، وفقك الله، أَن آكِد مَا يعْتَمد فِي تثبيت الِاجْتِهَاد والتمسك بِالرَّأْيِ وغلبات الظنون، إِجْمَاع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم. وَذَلِكَ أَنهم - رَضِي الله عَنْهُم - اخْتلفُوا فِي امتداد عصرهم فِي مسَائِل من الْأَحْكَام " عدموا " فِيهَا النُّصُوص، فَتمسكُوا فِيهَا بطرق الِاجْتِهَاد. الحديث: 1627 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 وَاخْتلفت فِيهَا آراؤهم. وَقد اشْتهر ذَلِك مِنْهُم، وَظهر مِنْهُم على انْقِضَاء الدَّهْر وَالْعصر، وَلم يجحدوا الِاجْتِهَاد عِنْد عدم النُّصُوص. وَهَذَا فِي ظُهُوره مستغن عَن نقل قصَص وآحاد مسَائِل. 1628 - غير أَن القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، أَشَارَ إِلَى حوادث تمسكوا فِيهَا بِالرَّأْيِ، وَهِي أَكثر من أَن تحصى. فَمِنْهَا: اخْتلَافهمْ فِي الْجد وتوريثه مَعَ الْأَخ، فَذهب بَعضهم إِلَى تَقْدِيم الْجد، مصيرا إِلَى كَونه كَالْأَبِ. وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن الْإِخْوَة مَعَ الْجد، ذَهَابًا مِنْهُم إِلَى أَن طَرِيق إدلائه بالبنوة. وَمَا زَالُوا يتحاورون فِي ذَلِك طرق الْمعَانِي، ويتمثلون فِي " الإدلاء " بِالْقربِ والبعد " بالأمثال " من نَحْو تَمْثِيل الْأَشْجَار وغصونها، وتشعب الخليج عَن الحديث: 1628 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 النَّهر الْكَبِير، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا استفاض عَنْهُم رَضِي الله عَنْهُم. وَمِنْهَا تمسكهم بسبيل الِاجْتِهَاد نفيا وإثباتا. وَمِنْهَا اخْتلَافهمْ فِي حد الشَّارِب، مَعَ استرواحهم إِلَى مَحْض الرَّأْي مِنْهُم حَتَّى قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه إِذا شرب سكر، وَإِذا سكر هذى، وَإِذا هذى افترى، فَأرى عَلَيْهِ حد المفتري، ثَمَانِينَ جلدَة. ثمَّ كَانَ يَقُول مَا أحد " يُقَام " عَلَيْهِ حد، فَيَمُوت فأجد فِي نَفسِي مِنْهُ شَيْئا أتخوفه. إِلَّا شَارِب الْخمر. فَإِنَّهُ شَيْء رَأَيْنَاهُ بعد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . واشتهر فِي زمن الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ضرب الشَّارِب بالنعل وأطراف الثِّيَاب، ثمَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 إِن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم ردُّوهُ إِلَى الْجلد، وقوموه بمبلغ مِنْهُ، على خلاف فِيهِ. وَمِنْهَا تمسكهم بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَاد فِي جمع الْقُرْآن فِي الْمُصحف، وَلم يصادفوا فِي ذَلِك نصا، وَلَو صادفوا لابتدروا إِلَيْهِ فِي أول الزَّمَان، ومشهور أَن كتبة الْمَصَاحِف تمت فِي زمن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 وَمِمَّا تمسكوا فِيهِ بِالرَّأْيِ مسَائِل من الطَّلَاق، نَحْو تَخْيِير الزَّوْجَة والتلفظ بِلَفْظ التَّحْرِيم إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى " كَثْرَة ". وعد القَاضِي رَضِي الله عَنهُ من هَذِه الْجُمْلَة كَلَامهم الْمَأْثُور فِي عقد الْخلَافَة لأبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُم تمسكوا فِي بَدْء الْأَمر بأطراف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 الِاجْتِهَاد وَنحن " نرى " لَك أَن تجتزئ بِمَا قدمْنَاهُ حَتَّى لَا ينجر الْكَلَام إِلَى الْإِمَامَة والتنصيص عَلَيْهَا، وَوجه الِاخْتِيَار فِيهَا / فَثَبت بِمَا ذَكرْنَاهُ تمسك أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَرَضي عَنْهُم بِالِاجْتِهَادِ والتحري فِيمَا ذَكرْنَاهُ من الْمسَائِل وأمثالها. 1629 - وَالَّذِي يعضد الْأَدِلَّة شَيْئَانِ اثْنَان هما كالركنين للدليل. أَحدهمَا أَن نقُول: لَا يَخْلُو حَال الصَّحَابَة فِي الْحَوَادِث الَّتِي ذَكرنَاهَا وأمثالها: إِمَّا أَن لَا تكون مَعَهم فِيهَا نُصُوص قواطع، وَإِمَّا أَن تكون مَعَهم فِيهَا نُصُوص عثروا بأجمعهم عَلَيْهَا، وَإِمَّا أَن يَكُونُوا مَعَ بَعضهم فِيهَا نُصُوص. وَيبْطل ادِّعَاء عثورهم بأجمعهم على النُّصُوص، فَإِنَّهُ ظهر واشتهر مِنْهُم التَّمَسُّك بِالِاجْتِهَادِ فِي طرق الِاعْتِبَار، ووضح عَنْهُم الِاخْتِلَاف، وَلَو كَانَت مَعَهم نُصُوص قواطع لما اخْتلفُوا وَلما سوغ بَعضهم لبَعض التَّمَسُّك بِرَأْيهِ فِي فَتَاوِيهِ واجتهاداته. إِذْ لَا عذر لمن يُخَالف النَّص الْمَقْطُوع بِهِ. وَأَيْضًا، فَلَو علمُوا نصوصا، لنقلت عَنْهُم، كَمَا نقلت سَائِر النُّصُوص " فَبَطل " أَن تكون فِي المسئلة نُصُوص وَقد ذهلوا بأجمعهم عَنْهَا، فَإِنَّهُ لَو الحديث: 1629 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 كَانَ كَذَلِك وَقد اخْتلفُوا وسوغ كل وَاحِد مِنْهُم لصَاحبه اتِّبَاع رَأْيه وحظر عَلَيْهِ التَّقْلِيد لَكَانَ ذَلِك اتِّفَاقًا مِنْهُم على الْبَاطِل. وَلَو سَاغَ ذهولهم عَن النُّصُوص فِي الْحَوَادِث الَّتِي ذَكرنَاهَا، لم نَأْمَن ذهولهم عَن أصُول الشَّرِيعَة، " لم ينقلوها " وَلم نَأْمَن تحريفهم مَا نقلوه متعمدين أَو مقصرين فِي ذَلِك. وَهَذَا أعظم الافتراء على أَصْحَاب الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَفِيمَا قدمْنَاهُ من أَدِلَّة الْإِجْمَاع مَا يحسم هَذِه التجويزات. فَإِن قيل: فَمَا يؤمنكم أَن النَّص كَانَ مَعَ بَعضهم دون بعض؟ قُلْنَا: فَهَذَا أَيْضا تورط فِيمَا ذَكرْنَاهُ، فَإِن الَّذِي يقدر " مَعَه " النَّص كَانَ من حَقه أَن يمْنَع الكافة من مُخَالفَة مُقْتَضَاهُ، وَلَا يسوغ لَهُم تتبع اجتهادهم فَلَو قدر مِنْهُم الصمت على نقل النَّص وتسويغ الْخلاف، وَقدر من البَاقِينَ عدم العثور على ذَلِك النَّص، فَهَذَا بِعَيْنِه يُفْضِي إِلَى مصيرهم إِلَى خلاف الْحق وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ، فَهَذَا أحد الرُّكْنَيْنِ. 1630 - والركن الثَّانِي مَا ذَكرْنَاهُ فِي خلل الْكَلَام من أَن الصَّحَابَة مَعَ اخْتلَافهمْ وتناظرهم فِي الْمسَائِل، مَا كَانَ يحسم وَاحِد عَن أَصْحَابه بَاب الْفَتْوَى بِرَأْيهِ واجتهاده. قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ. وَهَذَا مَنْقُول عَنْهُم ضَرُورَة، فَكَمَا نعلم من أهل عصرنا أَن الْمُخْتَلِفين فِي الْمسَائِل المجتهدة يجوز كل طَائِفَة للباقين اتِّبَاع الِاجْتِهَاد فَكَذَلِك نعلم ذَلِك قطعا من عادات أَصْحَاب الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . الحديث: 1630 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 فالمقصد من الْأَدِلَّة إِذا، أَنا فَرضنَا إِثْبَات الْأَحْكَام فِي عصر الصَّحَابَة مَعَ عدم النُّصُوص وَتحقّق جِهَات الِاحْتِمَالَات. 1631 - وَدَاوُد ومتبعوه من نفاة الْقيَاس لَا يرَوْنَ إِلَّا التَّمَسُّك بالنصوص فَإِن عدمت فَلَا حكم لله على الْمُكَلّفين من الْحَوَادِث الشاغرة عَن النُّصُوص. وَهِي كجملة الْأَفْعَال قبل وُرُود الشَّرَائِع. 1632 - وللمخالفين على هَذِه الدّلَالَة أسولة. مِنْهَا أَن قَالُوا: قد عولتم فِي تمهيد الدّلَالَة على أَن الصَّحَابَة، كَانَ يسوغ بَعضهم لبَعض اتِّبَاع اجْتِهَاده من غير منع فِيهِ. وَهَذَا لَيْسَ كَمَا ادعيتموه. فَإِنَّهُم كَانُوا يعظمون النكير فِي صور الِاخْتِلَاف. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، قَالَت لزيد بن أَرقم - وَقد جوز زيد بيع الْعينَة - / لقد أبطل جهاده مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . الحديث: 1631 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 وَكَذَلِكَ تناكر أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي مسَائِل من الْفَرَائِض اخْتلفُوا فِيهَا حَتَّى قَالَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - إِن الَّذِي أحصى رمل عالج عددا، لم يَجْعَل فِي المَال نصفا وثلثين إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يُؤثر عَنْهُم. 1633 - " فَنَقُول " لَيْسَ لكم فِيمَا ذكرتموه معتصم، من أوجه: - أَحدهَا أَن التَّمَسُّك بآحاد هَذِه الْأَخْبَار لَا يقْدَح فِيمَا اعتصمنا بِهِ من اختلافاتهم وَعدم منع كل وَاحِد مِنْهُم أَصْحَابه فِي اتِّبَاع اجْتِهَاده، وَقد ادعينا الضَّرُورَة فِي ذَلِك وَمثل هَذَا الأَصْل لَا يخرم بآحاد الْأَلْفَاظ تذكر وتوثر. وَهَذَا كَمَا أَنه تجْرِي فِي زَمَاننَا بَين المتناظرين من الْفُقَهَاء التخطئة وَرُبمَا الحديث: 1633 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 يتعدونها، وَرُبمَا يَقُول شَافِعِيّ الْمَذْهَب، أَخطَأ أَبُو حنيفَة، وَكَذَلِكَ الْحَنَفِيّ. ثمَّ هَذَا إِذا اتّفق التَّلَفُّظ بِهِ، لَيْسَ بقادح فِي الْإِجْمَاع المنعقد على أَن كل إِمَام لَا يمْنَع اتِّبَاع اجْتِهَاده فِي مسَائِل الْفُرُوع، فَهَذَا وَجه فِي الْجَواب. وَالْوَجْه الآخر أَن نقُول: لَيْسَ فِي شئ مِمَّا ذكرتموه، الْمَنْع من التَّعَلُّق بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَاد، بل اتَّفقُوا كلهم بطرق الِاجْتِهَاد. ثمَّ تلفظ بَعضهم بِمَا ذكرتموه وَلم يقل أحد مِنْهُم أَن التَّمَسُّك بِالِاجْتِهَادِ غير سَائِغ. ومقصدنا فِي طرد الدلالات إِثْبَات التَّمَسُّك بِأَصْل الِاجْتِهَاد عِنْد عدم النُّصُوص، وَلم يُؤثر فِي أصل الِاجْتِهَاد " تناكر ". على أَنا سنفرد لتأويل مَا تمسكوا بِهِ من الْأَخْبَار فصلا، نطلعك فِيهِ على الْوُجُوه الَّتِي تناكروا لأَجلهَا. 1634 - ثمَّ نقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه من تناكرهم لَا يغنيكم. وَذَلِكَ أَنا نقُول: قد عدم النُّصُوص فِي حوادث، وَمن ادّعى أَن كل صُورَة تكلم فِيهَا الصَّحَابَة وَاخْتلفُوا فِيهَا كَانَ الحكم فِيهَا مَنْصُوصا " عَلَيْهِ " من الْكتاب وَالسّنة، فقد افترى عَلَيْهِم افتراء عَظِيما، واقترب من جحد الضَّرُورَة. فَإنَّا نعلم بالطرق المستفيضة، أَنهم تكلمُوا فِي شذوذ من الْمسَائِل، الحديث: 1634 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 وَكَانَت تعن على " مر " الدهور وَمَا صادفوا فِيهَا خَبرا مَنْقُولًا نصا، وَلَا آيَة من كتاب الله تَعَالَى. فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. 1635 - سُؤال آخر لَهُم. فَإِن قَالَ قَائِل: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم إِنَّمَا اخْتلفُوا لوجه آخر، سوى مَا ادعيتموه. وَذَلِكَ أَن بَعضهم رُبمَا تمسك بِعُمُوم، وَرَأى التَّمَسُّك بِالْعُمُومِ وَاجِبا قطعا، و " لم ير " بَعضهم " جملَة " التَّمَسُّك بِالْعُمُومِ أصلا ورى على الْأَقَل. وَذهب بَعضهم إِلَى التَّمَسُّك بِمَفْهُوم الْخطاب، وَأنكر بَعضهم القَوْل بِدَلِيل الْخطاب، وآثر بَعضهم القَوْل بقضية الْعقل مستصحبا إِيَّاهَا. فَكَأَن اخْتلَافهمْ لهَذِهِ الْوُجُوه، لَا للتمسك بالآراء والاجتهادات. وَالْجَوَاب عَن ذَلِك من أوجه، أَحدهَا أَن نقُول: قد نقلنا عَنْهُم رَضِي الله عَنْهُم التَّمَسُّك بالاجتهادات وطرق التآخي والتحري والتمثيلات نقلا مستفيضا، من أنكر ذَلِك كَانَ معاندا وَكَانَ بِمَنْزِلَة من أنكر أصلا اخْتلَافهمْ. وَالْوَجْه الآخر فِي الْجَواب أَن نقُول: إِن لم تساعدونا على نقل الِاجْتِهَاد من جَمِيعهم، " فَلم " تنكرون أَن بَعضهم تمسك بِالِاجْتِهَادِ فِي زمن الصَّحَابَة وانتشر ذَلِك فيهم، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى / جَحده. الحديث: 1635 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 ثمَّ مَعَ ذَلِك لم يُنكر أحد أصل الِاجْتِهَاد، وَإِنَّمَا تكلمُوا فِي تفاصيله. 1636 - فَإِن قَالُوا: ألستم قدمتم فِي مسَائِل الْإِجْمَاع، أَن القَوْل الْمُنْتَشِر الَّذِي لم يبد عَلَيْهِ نَكِير، لَا ينزل منزلَة الْإِجْمَاع؟ قُلْنَا: إِن سلكنا طَريقَة بعض أَصْحَابنَا فِي تَنْزِيل ذَلِك منزلَة الْإِجْمَاع فَفِيهِ دفع السُّؤَال. على أَنا وَإِن سلكنا الطَّرِيقَة الْأُخْرَى، فَلَيْسَ فِيمَا ذكرتموه مخلص. وَذَلِكَ أَنا إِنَّمَا نجوز تَقْدِير الصمت وَالسُّكُوت على القَوْل الْمُنْتَشِر إِذا لم يكن فَسَاده وَصِحَّته مَقْطُوعًا بِهِ، فَيحمل صمت الصامتين على وُجُوه ذَكرنَاهَا. وَأما إِذا كَانَت المسئلة مَقْطُوعًا بهَا، فَلَا يسوغ أَن يظْهر الْوَاحِد خلاف الْحق فِيهَا. ويصمت عَنهُ الْبَاقُونَ وَالْقَوْل بِالِاجْتِهَادِ وَالْكَلَام فِيهِ نفيا وإثباتا من القطعيات. 1637 - وَالْجَوَاب الآخر أَن نقُول: مَا ذكرتموه من تمسككم بالطرق الَّتِي أشرتم إِلَيْهَا، لَا تَحْقِيق وَرَاءه وَذَلِكَ أَن نقُول: تِلْكَ الطّرق لَا تَخْلُو إِمَّا أَن تكون قواطع فَإِن ادعيتم أَنَّهَا كَانَت قواطع، فقد خرقتم الْإِجْمَاع. فَإِن الْأمة مجمعة على اسْتِحَالَة اجْتِمَاع أَدِلَّة قَطْعِيَّة على أَحْكَام مُخْتَلفَة فِي حَادِثَة وَاحِدَة. وَأَنْتُم معاشر نفاة الْقيَاس لَا تَقولُونَ بتصويب الْمُجْتَهدين، والقائلون بتصويب الِاجْتِهَاد إِنَّمَا يَقُولُونَ بِهِ عِنْد غلبات الظنون وفقد أَدِلَّة قَاطِعَة. فَبَطل أَن يُقَال: كل مَا تمسكوا بِهِ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ. 1638 - وَإِن زَعَمُوا أَن وَاحِدًا من الطّرق الَّتِي تمسكوا بهَا كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ، فقد عَاد بِنَا الْكَلَام إِلَى أَن العاثر عَلَيْهِ لَا يمْنَع مخالفيه عَن اجتهادهم وَلم الحديث: 1636 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 يحسم عَلَيْهِم بَاب التَّحَرِّي، فيجتمع من عدم عثور البَاقِينَ على الدّلَالَة القاطعة من تسويغ العاثر عَلَيْهَا الِاخْتِلَاف، تَجْوِيز اجْتِمَاعهم على الضلال، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ مَعَ القَوْل بِحجَّة الْإِجْمَاع. فَثَبت بجملة مَا ذَكرْنَاهُ أَن مَا أومأوا إِلَيْهِ وادعوه لَيست بأدلة قَاطِعَة وَإِذا ثَبت أَنَّهَا لَيست بنصوص فقد وضح اخْتِلَاف الصَّحَابَة فِي الْأَحْكَام مَعَ عدم النُّصُوص ووضوح طرق الِاحْتِمَالَات. (283) فصل ذكر بعض الْأَخْبَار والْآثَار فِي مصير أَئِمَّة الصَّحَابَة إِلَى الرَّأْي 1639 - ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ بعد مَا طرد الْأَدِلَّة آحادا من الْأَخْبَار فِي مصير أَئِمَّة الصَّحَابَة إِلَى الرَّأْي، وكل وَاحِد مِنْهَا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ وَلَكِن يتَبَيَّن بجملتها استفاضة الْمَعْنى، وَإِن لم يستفض كل خبر على حياله. فَمِنْهَا مَا يرويهِ مَيْمُون بن مهْرَان عَن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " إِذا ورد حكم. نظرت فِي كتاب الله تَعَالَى فَإِن وجدت فِيهِ مَا " أقضى " بِهِ نظرت فِي سنة رَسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَإِن وجدت فِيهَا مَا اقضى بِهِ قضيت بِهِ، وَإِن أعياني ذَلِك، سَأَلت النَّاس، هَل علمْتُم أَن نَبِي الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ الحديث: 1639 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 فِي ذَلِك قولا، فَإِن لم أجد استشرت الْعلمَاء. فَإِن أجمع رَأْيهمْ على شَيْء قضيت بِهِ وَهَذَا تَصْرِيح بإجماعهم على الرَّأْي. وَقَالَ مَيْمُون بن مهْرَان وَكَانَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يفعل مثل ذَلِك. وَرُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: من عرض لَهُ قَضَاء فليقض بِمَا فِي كتاب الله تَعَالَى فَإِن جَاءَهُ أَمر لَيْسَ فِي كتاب الله عز وَجل / فليقض بِمَا قضى بِهِ نبيه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (فَإِن جَاءَهُ أَمر لَيْسَ فِي كتاب الله تَعَالَى) وَلم يقْض بِهِ نبيه وَلَا الصالحون فليجتهد بِرَأْيهِ. وَرُوِيَ عَن عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ يفعل ذَلِك على التَّرْتِيب الَّذِي روينَاهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 وَكتب عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ إِلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ كتابا مَشْهُورا، وَفِيه " الْفَهم الْفَهم فِيمَا " أدلى " إِلَيْك مِمَّا لَيْسَ فِي قُرْآن وَلَا سنة. ثمَّ قايس الْأُمُور عِنْد ذَلِك، واعرف الْأَمْثَال والأشباه، واعمد إِلَى أشبههَا بِالْحَقِّ " وَهَذَا تَصْرِيح بِالْأَمر بِالْقِيَاسِ. وَقَالَ عمر لعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا " إِنِّي رَأَيْت فِي الْجد رَأيا، فَاتبعُوني " فَقَالَ عُثْمَان: " إِن نتبع رَأْيك فرأيك سديد، وَإِن نتبع رَأْي من كَانَ قبلك يَعْنِي أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ - فَنعم ذُو الرَّأْي كَانَ ". وَرُوِيَ عَن زَاذَان أَنه قَالَ: تَذَاكر الْعلمَاء الْخِيَار عِنْد عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ عَليّ: " إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر قد سَأَلَني عَنهُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 فَقلت لَهُ: إِن اخْتَارَتْ زَوجهَا فَهِيَ وَاحِدَة وَهُوَ أَحَق بهَا فَبَايَعته. فَلَمَّا خلص الْأَمر إِلَيّ وَعلمت أَنِّي أسئل عَن الْفروج، عدت إِلَى مَا كنت أرى فَقَالُوا: أَمر جامعت عَلَيْهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ وَتركت رَأْيك لَهُ، أحب إِلَيْنَا من أَمر تفردت بِهِ، فَضَحِك وَقَالَ: أما أَنه أرسل إِلَى زيد بن ثَابت فخالقي وإياه، فَقَالَ: إِن اخْتَارَتْ زَوجهَا فَهِيَ وَاحِدَة وَزوجهَا أَحَق بهَا، وَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فَهِيَ ثَلَاثَة لَا تحل لَهُ حَتَّى تنْكح زوجا غَيره. وروى عُبَيْدَة عَن عَليّ بن / أبي / طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: استشارني عمر فِي أُمَّهَات الْأَوْلَاد، فأجمعت أَنا وَهُوَ على عتقهَا، ثمَّ رَأَيْت بعد، أَن أرقهن. فَقَالَ لَهُ عُبَيْدَة: رأى ذَوي عدل أحب إِلَى من رأى عدل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 وَاحِد. وَقَالَ عبد الله بن مَسْعُود فِي قصَّة بروع بنت واشق أَقُول فِيهَا برأيي فَإِن كَانَ صَوَابا فَمن الله، وَإِن كَانَ خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان. وَقَالَ عبد الله بن عَبَّاس فِي ديات الْأَسْنَان لما قسمهَا عمر رَضِي الله عَنهُ على اخْتِلَاف مَنَافِعهَا هلا اعتبرها بالأصابع، عقلهَا سَوَاء وَإِن اخْتلفت مَنَافِعهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 وَقَالَ ابْن عَبَّاس " أَلا يَتَّقِي الله زيد بن ثَابت يَجْعَل ابْن الإبن ابْنا وَلَا يَجْعَل / أَب / الْأَب أَبَا. فَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَأَمْثَاله مِمَّا أضربنا عَنهُ، يَقْتَضِي خوض الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي طرق الرَّأْي وَالِاجْتِهَاد فِي " الْحَوَادِث " الَّتِي عدموا فِيهَا النُّصُوص. 1640 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ قد صَار تمسكهم بِالرَّأْيِ وتسويغهم التَّعَلُّق بطرق الإجتهاد مدْركا ضَرُورَة كَمَا أدْرك اخْتلَافهمْ على الْجُمْلَة ضَرُورَة، وَإِن كَانَت صُورَة الِاخْتِلَاف نقلت آحادا. 1641 - وَمِمَّا اعْترض بِهِ نفاة الْقيَاس على هَذِه الدّلَالَة أَن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم كَانُوا يجتهدون ويعملون بِمَا يرَوْنَ، بيد أَن طَرِيق إجتهادهم كَانَ جمع النُّصُوص والبحث عَنْهَا وَحمل الْعُمُوم على الْخُصُوص، وَذكر النَّاسِخ والمنسوخ، واستنباط دَلِيل الْخطاب، وَمَفْهُومه من الْمَنْطُوق بِهِ إِلَى غير ذَلِك من طرق التَّصَرُّف والألفاظ والظواهر؟ الحديث: 1640 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 فَيُقَال لَهُم: قد " فرط " مِنْكُم هَذَا السُّؤَال. وَنحن الْآن نقُول فِي جَوَابه، إِن زعمتم معاشرة نفاة الْقيَاس أَنه لم يتَّفق فِي زمن أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَرَضي عَنْهُم حَادِثَة شاغرة عَن النُّصُوص ووجوه خطاب الْكتاب وَالسّنة منطوقا ومفهوما وخصوصا وعموما، فقد جحدتم الضَّرُورَة. وَكَذَلِكَ إِن أنكرتم تمسكهم / فِي " أَمْثَال " هَذِه الْحَوَادِث بطرق الْأَمْثَال والأشباه، فقد باهتم مباهتة عَظِيمَة. وأفصحتم بمراغمة الضَّرُورَة. وَلَيْسَ علينا إِلَّا إِيضَاح الطّرق. فَإِن باهتم، قطع الْكَلَام عَنْكُم. على أَنا نقُول: وَالَّذِي تمسكوا بِهِ كَانَ من الْأَدِلَّة القطعية أَو لم يكن مِنْهَا؟ وَقد سبق إستقصاونا لذَلِك " مَا يُغني " عَن إِعَادَته. (284 فصل ) (مُشْتَمل على ذكر مَا يتَمَسَّك بِهِ نفاة الْقيَاس من الظَّوَاهِر) 1642 - فمما تمسكوا بِهِ، مَا رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: إِن الله لَا يقبض الْعلم انتزاعا من صُدُور الرِّجَال، وَلَكِن يقبض الْعلمَاء، فَإِذا لم يبْقى عَالم، اتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا، فأفتوا برأيهم، فضلوا وأضلوا. فَجعل الحديث: 1642 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 الْفَتْوَى بِالرَّأْيِ ضلالا. وَمن ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: " تعْمل هَذِه الْأمة بُرْهَة بِكِتَاب الله، وبرهة بِسنة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وبرهة بِالرَّأْيِ، فَإِذا فعلوا ذَلِك، فقد ضلوا ". وَرُوِيَ عَنهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ " تفترق أمتِي على بضع وَسبعين فرقة أضرها على أمتِي قوم يقيسون الْأُمُور بآرائهم، فيحللون الْحَرَام ويحرمون الْحَلَال ". وَرُوِيَ عَن معَاذ بن جبل عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ حِين بَعثه إِلَى الْيمن " إِذا جَاءَك مَا لَيْسَ فِي كتاب الله وَلَا فِي سنة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَاكْتُبْ إِلَيّ فِي ذَلِك ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 قَالُوا: وروى وَاثِلَة بن الْأَسْقَع عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: " لم يزل أَمر بني إِسْرَائِيل مُسْتَقِيمًا حَتَّى حدث فيهم السبايا، فأفتوا برأيهم فضلوا وأضلو ". وَرُوِيَ / عَن / عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ. قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " مَا تركت شَيْئا مِمَّا " أَمركُم " الله بِهِ إِلَّا وَقد أَمرتكُم بِهِ، وَلَا شَيْئا مِمَّا نهاكم عَنهُ إِلَّا وَقد نَهَيْتُكُمْ عَنهُ ". قَالُوا: فَهَذَا دَلِيل على أَن مَقَاصِد الْأَحْكَام محصورة فِي كتاب الله وَسنة نبيه، وَلَا تعدوهما. 1643 - وَمِمَّا اعتصموا بِهِ من وَجه الْآثَار، مَا رُوِيَ عَن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ، أَنه قَالَ: " أَي سَمَاء تُظِلنِي وَأي أَرض تُقِلني، إِذا قلت فِي كتاب الله برأيي ". وَقَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ " إيَّاكُمْ وَأَصْحَاب الرَّأْي، فَإِنَّهُم أَعدَاء السّنَن، أعيتهم الْأَحَادِيث أَن يحفظوها، فَقَالُوا بِالرَّأْيِ، فضلوا وأضلوا ". الحديث: 1643 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 وَعَن عمر وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا " لَو كَانَ الدّين بِالْقِيَاسِ لَكَانَ مسح بَاطِن الْخُف أولى من ظَاهره ". قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ: وَلَكِنِّي رَأَيْت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يمسح ظاهرهما. وَقَالَ عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ " إِذا مضى قراؤكم وعلماؤكم فيتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا فيقيسون مَا لم يكن بِمَا كَانَ، فَإِن علمْتُم بِالْقِيَاسِ أحللتم كثيرا مِمَّا حرم الله، وحرمتم كثيرا مِمَّا أحل الله. وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ " أَن الله لم يَجْعَل لأحد أَن يحكم فِي دين الله بِرَأْيهِ، وَقَالَ لنَبيه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] {لتَحكم بَين النَّاس بِمَا أرك الله} وَلم يقل بِمَا رَأَيْت. فَهَذَا وَأَمْثَاله مِمَّا تمسكوا بِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 1644 - وَالْجَوَاب عَن ذَلِك من أوجه: أَحدهَا أَن نقُول: هَذَا تعرض مِنْك لمعارضة مَا " نقل " عَن الصَّحَابَة ضَرُورَة وتواترا، بآحاد من الْآثَار، وَهَذَا لَا يَسْتَقِيم. ويداني مَا تمسكتم بِهِ من الْآثَار مَا نقل عَن الصَّحَابَة من ذمّ الإختلاف وَالنَّدْب إِلَى اتِّحَاد الْكَلِمَة، مَعَ علمنَا ضَرُورَة فِي بعض الْحَوَادِث باختلافهم. على أَن مُعظم مَا رَوَوْهُ من الْأَخْبَار والْآثَار مطعونة، لم يتقبلها أهل " الصِّنَاعَة " فإياك وَأَن / تكثرت بِمَا تمسكوا بِهِ من الْآثَار، فَإِنَّهُم عارضوا بهَا المستفيض الْمُتَوَاتر. على أَنا سنؤمن إِلَى طرق تَأْوِيلهَا. 1645 - فَأَما مَا تمسكوا بِهِ من الْأَخْبَار، فنعارضهم أَولا، بِمَا هُوَ أثبت مِنْهَا نقلا وَأَصَح رِوَايَة من الْأَخْبَار الْمَشْهُورَة عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ لِمعَاذ حِين بَعثه إِلَى الْيمن " بِمَ تحكم يَا معَاذ؟ قَالَ بِكِتَاب الله. قَالَ: فَإِن لم تَجِد؟ قَالَ: فبسنة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] / قَالَ / فَإِن لم تَجِد؟ قَالَ: فأجتهد رَأْيِي فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الْحَمد لله الَّذِي وفْق رَسُول رَسُوله لما يرضاه / الله / وَرَسُوله. الحديث: 1644 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 وَهَذَا حَدِيث صَحِيح متلقى بِالْقبُولِ، صَرِيح فِي إِثْبَات الْقيَاس. وَقد حكم رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] للسَّائِل عَن قبْلَة الصَّائِم " أَرَأَيْت لَو تمضمضت؟ " وَهَذَا قِيَاس مِنْهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَقَالَ للخثعمية الَّتِي أَحرمت عَن أَبِيهَا " أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين فقضيته؟ " وَهَذَا تَشْبِيه مِنْهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لِلْحَجِّ بِالدّينِ. إِلَى غير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 ذَلِك من الْأَخْبَار الَّتِي يطول تتبعها. 1646 - " وَأما " مَا اعتصموا بِهِ من الْأَخْبَار، فلك " فِيهَا " طَرِيقَانِ. أَحدهمَا: أَن لَا تقبلهَا لكَونهَا آحادا. وَقد ثَبت الْإِجْمَاع الْمَقْطُوع بِهِ كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن تتأولها أسهل المرام، و " لَهَا " طرق. أَحدهَا: أَن يحمل على قِيَاس الْجُهَّال، الذاهبين عَن النُّصُوص مَعَ ثُبُوتهَا الذاهلين عَن طرق الإستنباط. وعَلى هَذَا يدل فحوى مُعظم الْأَحَادِيث الَّتِي تمسكوا بهَا. وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " اتَّخذُوا رُؤَسَاء جُهَّالًا " وَنحن نعلم أَنه لَا سَبِيل إِلَى حمل ذَلِك على عُلَمَاء الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، فَهَذَا وَجه. وَالْوَجْه الثَّانِي أَن يحمل على الْقيَاس مَعَ وجود النُّصُوص، وَترك الْبَحْث عَنْهَا، وَعَلِيهِ تدل أخبارهم إِذا تتبعتها. وَالْوَجْه الآخر أَن يحمل على الرَّأْي الْمُجَرّد، والإستحسان الَّذِي هُوَ آئل إِلَى التشهي دون سَبِيل الاستنباط. 1647 - وَمِمَّا حمل القَاضِي رَضِي الله عَنهُ إخبارهم عَلَيْهِ أَن قَالَ / مَا / يؤمنكم أَنكُمْ لما اعتبرتم منع الْقيَاس عِنْد فقد النُّصُوص الحديث: 1646 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 " بِمَنْعه " عِنْد وجودهَا كُنْتُم من هَذَا الْوَجْه قائسين، وَإِيَّاكُم عَنى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِالْمَنْعِ من الْقيَاس. فوضح طَرِيق التَّأْوِيل، وَتبين أَن مَا اعتصموا بِهِ مِمَّا لَا يسوغ مُعَارضَة الْإِجْمَاع بِهِ. 1648 - وَقد ذكر الطَّبَرِيّ فِي خلل الِاسْتِدْلَال بِحَدِيث معَاذ فِي إِثْبَات الْقيَاس، ثمَّ وَجه على نَفسه سؤالا فَقَالَ: فَلَو قَالُوا: هَذَا من أَخْبَار الْآحَاد، لَقلت فِي جوابهم: يجوز الِاسْتِدْلَال بأخبار الْآحَاد (فِي إِثْبَات الْقيَاس) كَمَا يجوز الِاسْتِدْلَال بهَا فِي إِثْبَات الْأَحْكَام. وَهَذِه هفوة عَظِيمَة. وَسَنذكر فِي كتاب الِاجْتِهَاد أَن أصُول أَدِلَّة الشَّرِيعَة لَا تثبت إِلَّا بِمَا يَقْتَضِي الْعلم من الْأَدِلَّة القاطعة، وَمن قَالَ غير ذَلِك فقد زل زلَّة عَظِيمَة. وَإِنَّمَا أوردنا ذَلِك لننبهك على وَجه خطئه. وَقد ذكر رَضِي الله عَنهُ جملَة من الظَّوَاهِر لمنكري الْقيَاس وال فصل عَنْهَا وقابلها بظواهر أوضح مِنْهَا فِي الْآي وَالْأَخْبَار. وَلَو تتبعناها لخرج الْمَذْهَب عَن حد الْمطلب. وَفِيمَا قدمْنَاهُ غنية إِن شَاءَ الله تَعَالَى. (285 القَوْل فِي الْكَلَام على القاساني والنهرواني وَمن تبعهما وَقَالَ بقولهمَا) 1649 - اعْلَم أَن هذَيْن قد ذَهَبا مذهبا آخر فِي أَمر الأقيسمة فَقَالُوا: كل الحديث: 1648 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 حكم نقل عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي شخص بِعَيْنِه / أَو قَضِيَّة بِعَينهَا وَنقل عَنهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] تَعْلِيل الحكم فِي ذَلِك الشَّخْص الْمعِين، فنعلم أَن الْعلَّة الْمَذْكُورَة فِيهِ تعم فِيهِ وَفِي غَيره وَإِن لم يعمها رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " بِلَفْظَة " قَالُوا: وَكَذَلِكَ إِذا وَردت عَنهُ لَفْظَة منبئة عَن التَّعْلِيل وَإِن لم يكن صَرِيحًا فِيهَا. وَكَذَلِكَ إِذا نَقله الرَّاوِي الموثوق بِهِ فِي معرض يَقْتَضِي التَّحْلِيل، كَمَا روى أَن ماعزا زنا، فرجمه رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وكما روى أَنه سَهَا فَسجدَ وَهَذِه الْأَلْفَاظ وأمثالها منبئة عَن التَّعْلِيل، إِذْ لَا فصل بَين قَول الْقَائِل. رجم رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ماعزا لزناه وَبَين أَن يَقُول زنا فرجمه. 1650 - ثمَّ اخْتلف الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ فيهمَا وَفِي مَذْهَبهمَا. فَذهب بَعضهم إِلَى أَن مَا صَارُوا إِلَيْهِ لَيْسَ بقول بِالْقِيَاسِ. وَإِنَّمَا هُوَ تتبع مِنْهُم للنَّص وَذهب بعض القائسين إِلَى أَن مَا قَالُوهُ، قَول بِالْقِيَاسِ على تَفْصِيل الحديث: 1650 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 فكأنهم قبلوا بعض أَنْوَاع الْقيَاس، وردوا بَعْضهَا. 1651 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: الصَّحِيح عندنَا أَن نقُول: إِن قَالُوا: أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِذا نَص على تَعْلِيل حكم فِي شخص معِين. وَلم يعمم الْعلَّة فِي النَّاس كَافَّة، وَلم يسْبق مِنْهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] تنصيص صَرِيح على طرد علله الوارده فِي الْأَشْخَاص المعينين، فَمن " عدى " الْعِلَل - وَالْحَالة هَذِه - عَن مواردها، فَهُوَ قَائِل بطرد الْقيَاس لَا محَالة. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنا لَو تتبعنا النُّصُوص لم ترد على مقتضياتها فِي اختصاصها وعمومها، فَإِذا وَردت الْعلَّة مُخْتَصَّة بشخص معِين، فَلَيْسَ فِي قَضِيَّة اللَّفْظ وصيغته تعميمها. الحديث: 1651 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 فَمن عَداهَا عَن موردها، لم يكن متمسكا بِمُوجب اللَّفْظ، بل كَانَ معتصما بِضَرْب من الِاعْتِبَار وَالْقِيَاس. 1652 - فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : رجمت ماعزا لانه زنا، فنعلم بِمُقْتَضى اللُّغَة وَمُوجب الْعَرَبيَّة أَن لفظ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يقتضى أَن يرْجم كل زَان. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك فِي مُوجب الاطلاق، أَن من قَالَ لمن يخاطبه: لَا تَأْكُل هَذِه البقلة، فَإِنَّهَا سم. فنعلم أَن ذَلِك يتَضَمَّن النَّهْي عَن تنَاول جملَة السم وَأَن نَص الْمُخَاطب على عين وَاحِدَة. فَكَذَلِك القَوْل فِيمَا فِيهِ كلامنا. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه اقْتِصَار مِنْكُم على مُجَرّد الدَّعْوَى، فلسنا نسلم أَن لفظ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي تَعْلِيل رجم مَاعِز لزناه يَقْتَضِي تَعْمِيم ذَلِك الحكم فِيمَن عداهُ. وَلَكِن إِذا خصص تَعْلِيله بِهِ، فيسوغ أَن يحمل ذَلِك على أَنه جعل الزِّنَا فِي حَقه عَلامَة للْحكم الَّذِي جرى عَلَيْهِ تَخْصِيصًا. والأقيسة الشَّرْعِيَّة أَمَارَات تنصب وَلَا يجب تعميمها، بل يسوغ نصبها فِي حق اقوام مخصوصين، ويسوغ نصبها عُمُوما وشمولا فَإِذا كَانَ الْأَمر على هَذَا الْوَجْه فِي الأمارات من حَيْثُ الْجَوَاز الْعقلِيّ، فيتقابل الْجَوَاز، وَلَا يبْقى لنا إِلَّا اتِّبَاع صِيغَة اللَّفْظ. وَأما مَا تمثلها بِهِ من قَول الْقَائِل لمن يخاطبه لَا تَأْكُل ذَلِك فَإِنَّهُ سم، فَلَا معتصم لَهُم فِيهِ، وَأول مَا نذكرهُ أَن نقابله بِمثلِهِ، فَنَقُول: لَو قَالَ سيد الحديث: 1652 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 العَبْد لوَكِيله " بِعْ هَذَا العَبْد فَإِنَّهُ أسود " لم يكن للْوَكِيل أَن يَبِيع جملَة العبيد السود فِي ملكه، وَإِن علل بيع " العَبْد " الْمعِين لكَونه أسود، فَهَذَا فِي مُقَابلَة مَا قَالُوا. 1653 - ثمَّ نقُول: مَا ذكرتموه لَو سلم لكم فَذَاك لأَنا علمنَا أَن بَعْضنَا فِي مجاري الْعَادَات يرق لبَعض ويبتغي مصْلحَته، ويضبط ذَلِك نظرا من الْأَحْوَال. فَإِذا زجر الزاجر صَاحبه عَن تنَاول السم المجهز، وَقد تقررت من الْأَحْوَال الْمُقْتَضِيَة " التوقي " بمحاذرة المهالك / فِي إشفاق الْبَعْض على الْبَعْض لرقة الجنسية، أَو غَيرهَا من الْأَحْوَال. فَرُبمَا يفهم مِمَّا ذكرتموه التَّعْلِيل فِي السمُوم أجمع، فَأَما الفاظ صَاحب الشَّرِيعَة فَلَا يسوغ حملهَا على قضايا الْمصَالح، فَإِن الشَّرَائِع على مَذْهَب أهل الْحق، لم تبن على الْمصَالح. وَلم يَتَقَرَّر فِي موارد الشَّرِيعَة من قَرَائِن الْأَحْوَال مَا تحقق بَين أظهرنَا فَلم يكن لنا أَن نتبع مُوجب اللَّفْظ، خص أَو عَم. وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ. فَتبين بجملة مَا قُلْنَاهُ، أَن مَا صَار إِلَيْهِ الْقَوْم، ضرب من الاعتطاف وَلَو قَدرنَا أَن نرد إِلَى النُّصُوص وَالنَّهْي وَالِاعْتِبَار وَالْقِيَاس، لَكنا نخصص الْعِلَل بمواردها. 1654 - فَإِن قيل: الستم قُلْتُمْ أَن الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، إِذا خَاطب وَاحِدًا من الحديث: 1653 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 الصَّحَابَة بِحكم وَلم يُوضح اخْتِصَاصه، فَالْحكم يثبت فِي حق الْأمة وهم فِيهِ شرع. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي قلتموه من مَذْهَب الْفُقَهَاء. وَالَّذِي صَار إِلَيْهِ المحصلون أَن الحكم يخْتَص بالمخاطب إِن لم تقم دلَالَة على وجوب تعميمه. وَقد قدمنَا فِي ذَلِك قولا بَينا. 1655 - فَإِن قيل: إِذا رَأَيْتُمْ التَّنْصِيص كَمَا قلتموه، فَقولُوا: أَن الْمنْهِي عَنهُ فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ وَلَا تنهرهما} التأفيف، دون الضَّرْب وأنواع التعنيف، اتبَاعا للنَّص. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه، خُرُوج مِنْكُم عَن حد النّظر، فَإِنَّكُم لم تجمعُوا بَين الْمُخْتَلف فِيهِ وَبَين مَا ذكرتموه بِجَامِع يتَعَيَّن علينا فِي حكم النّظر بعده الْفرق والفصل وَلم توردوه نقضا على دلَالَة تمسكنا بهَا. 1656 - ثمَّ نقُول: اللُّغَات لَا تثبت بالطرق الَّتِي رمتموها من الِاعْتِبَار، والتمسك بالصور وَلَكِن الْمرجع فِيهَا إِلَى السماع. وَقد عرفنَا ضَرُورَة وبديهة، أَن من وصّى مَأْمُورا بإكرام وَالِديهِ والاجتناب عَن أذاهما، ثمَّ نَص فِي التَّحْرِيم على أقل الرتب، وَهُوَ التأفيف. فَيعلم مَعَ ذَلِك أَنه رام تَحْرِيم الْقَتْل وَالضَّرْب وضروب التعنيف " إِيمَاء " مِنْهُ بِذكر الادنى على الْأَعْلَى وَمن جحد ذَلِك فِي موقع اللُّغَة، كَانَ مباهتا. الحديث: 1655 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه لَو قدر الْجمع بَين النَّهْي عَن التأفيف والترخص فِي جملَة أَنْوَاع التعنيف مَعَ تَقْدِيم الْأَمر بالإكرام على الْجُمْلَة، عد ذَلِك من متناقض الْكَلَام. وَلَو نَص رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على تَخْصِيص التَّعْلِيل بشخص معِين، لم يعد ذَلِك من مُضْطَرب الْكَلَام. فَبَطل مَا قَالُوهُ. (286 فصل ) 1657 - فَإِن قَالَ قَائِل: قد ثبتمْ بِمَا قدمتم طرق الأقيسمة، وأوضحتموها فِي الرَّد على منكريها، فَإِذا نقل عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وَقد ثَبت وجوب الْقيَاس وَالِاعْتِبَار - عِلّة فِي شخص معِين، فَهَل يحْتَاج فِي رد غَيره إِلَيْهِ إِلَى استنباط وتحر واجتهاد؟ قُلْنَا: إِذا ثَبت التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ وتصورت الْحَالة على مَا قلتموه " فَكل " صُورَة تحقق فِيهَا مثل " الْعلَّة " الَّتِي ذكرهَا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي الشَّخْص الْمعِين " فتردها فِي الحكم إِلَى مورد النَّص فَسَادًا " وَلَا حَاجَة بِنَا إِلَى سلوك طرق الِاجْتِهَاد فِي إِقَامَة الْأَدِلَّة على اثبات عِلّة الاصل، وَرُبمَا يغمض النّظر فِي تَصْوِير الْعِلَل فِي بعض الصُّور، فَإِذا تصورت وَهِي مَنْصُوبَة فِي صور منصوصة، ابتدرنا إِلَى رد الصُّور الَّتِي وجدت فِيهَا الْعِلَل، إِلَى الصُّور المنصوصة فِي التَّعْلِيل، وَلَو لم تكن الْعِلَل منصوصة، لم يسغْ لنا طرد الْقيَاس إِلَّا بعد إِقَامَة الْأَدِلَّة على إِثْبَات الحديث: 1657 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 عِلّة الأَصْل، على مَا سنوضح طرقها، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. 1658 - فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَذَا الَّذِي قلتموه آنِفا، ينْقض عَلَيْكُم مَا قدمتموه فِي الْفَصْل الاول، فَإِنَّكُم مهما / قُلْتُمْ أَن من وجدت فِيهِ مثل الْعلَّة المنصوبة، لزم إِثْبَات الحكم فِيهِ على البديهة، من غير استنباط اجْتِهَاد فقد وافقتم من قَالَ أَن التَّنْصِيص على الْعلَّة فِي شخص معِين يتَضَمَّن تعديتها. قُلْنَا: هَذَا سُؤال من لم يحط علما بمحصول الْبَاب. فَإنَّا إِنَّمَا قُلْنَا مَا قُلْنَاهُ مَعَ تقديرنا ثُبُوت الأقيسة بالأدلة القاطعة، فَلَو قَدرنَا عدم قيام الْأَدِلَّة على وجوب التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ وطرق الِاعْتِبَار، وَردت - وَالْحَالة هَذِه - عِلّة منصوصة فِي شخص معِين، لَكَانَ قَضيته اللَّفْظ لَا تَقْتَضِي تَعديَة الحكم إِلَى من سواهُ. وَهَذَا وَاضح لكل متأمل إِن شَاءَ الله تَعَالَى. (287 فصل ) 1659 - ذهب بعض الْقَدَرِيَّة إِلَى الْفَصْل بَين المحللات والمحرمات. الحديث: 1658 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 فَقَالَ: إِذا حرم رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] شَيْئا، وَبَين حظره وقبحه وَعلله بعلة، فَيلْزم مِنْهُ طردها. وَإِن أوجب [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] شَيْئا، أَو إِبَاحَة، أَو ندب إِلَيْهِ، وَعلله بعلة، فَلَا يجب طردها. وَإِنَّمَا حملهمْ على هَذَا الْفَصْل، أصل لَهُم فِي التَّوْبَة، وَهِي من فروع التَّعْدِيل والتجوير وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا: أَمر بالقبائح يعم وَلَا يتخصص. وَلذَلِك قَالُوا: أَنه لَا تصح التَّوْبَة عَن قَبِيح، مَعَ الاصرار على آخر، وَيصِح التَّلَبُّس بِعبَادة، مَعَ ترك أُخْرَى، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَا طائل تَحْتَهُ، والخوض / فِيهِ / لَا يَلِيق بِهَذَا الْفَنّ. القَوْل فِي أَن الْقيَاس على عِلّة الحكم إِنَّمَا " يَنْبَنِي " على ثُبُوت الحكم بثبوتها، وَلَا " يتحتم " انتفاؤه عِنْد انتفائها. 1660 - اخْتلف الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ فِي اشْتِرَاط الانعكاس فِي الْعِلَل السمعية وَالَّذِي صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور، أَنه لَا يشْتَرط فِيهَا الانعكاس. الحديث: 1660 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 وَلَكِن إِذا اقْتضى الِاعْتِبَار والاستنباط " تَعْلِيق " حكم بعلة، وَالْحكم يثبت عِنْد ثُبُوتهَا وَلَيْسَ من شَرط الْعلَّة انْتِفَاء الحكم عِنْد انتفائها. بل يسوغ أَن تَنْتفِي تِلْكَ الْعلَّة، وتعقبها عِلّة أُخْرَى، فِي اقْتِضَاء " قبيل " الحكم الأول. 1661 - وَذهب بعض الْفُقَهَاء إِلَى أَن من شَرط الْعلَّة أَن يرتبط الحكم بهَا، حَتَّى يُؤثر وجودهَا فِي ثُبُوت الحكم، ويتضمن فقدها انْتِفَاء الحكم. قَالُوا: وَإِنَّمَا يتَحَقَّق تعلق الحكم بِالْعِلَّةِ على هَذَا الْوَجْه، فَلَو كَانَ الحكم يثبت عِنْد ثُبُوت الْعلَّة، وَلَا يَنْتَفِي عِنْد انتفائها، لما تحقق بَينهمَا تعلق. الحديث: 1661 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 1662 - مِمَّا لَا بُد من الْإِيمَاء إِلَيْهِ أَن تعلم / أَن / الْعِلَل الْعَقْلِيَّة يشْتَرط فِيهَا الاطراد والانعكاس. بِاتِّفَاق الْعُقَلَاء الْقَائِلين بالعلل. وَالْعلَّة الْعَقْلِيَّة مُوجبَة لمعلولها لذاتها وعينها، وَلَا يتَوَقَّف كَونهَا مُوجبَة لمعلولها بعد تحقق وجودهَا، على جعل جَاعل وَنصب ناصب. وَهِي نَحْو الْعلم، الْمُوجب لمحل كَونه عَالما، وَالْقُدْرَة الْمُوجبَة لما قَامَت بِهِ كَونه قَادِرًا، إِلَى غير ذَلِك. فَمَا هَذَا سَبيله يلْزم فِيهِ الطَّرْد وَالْعَكْس، فَمن قَامَ بِهِ الْعلم، لزم كَونه عَالما، وَمن لم يقم بِهِ الْعلم، لزم خُرُوجه عَن كَونه عَالما. فَمن صَار إِلَى أَن الأقيسة الشَّرْعِيَّة يشْتَرط فِيهَا الاطراد والانعكاس. فَإِنَّهُ ذهب بهَا مَذْهَب الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، وَقد أوضحنا فِي ذَلِك صَدرا من الْكَلَام. 1663 - على أَنا نقُول: أَن الْعِلَل السمعية لَا توجب حكما لعينها إِذْ يسوغ فِي الْمَعْقُول تَقْدِير تَعْلِيق ضد حكمهَا عَلَيْهَا، بَدَلا من حكمهَا. وَلَيْسَت بموجبة لذواتها وَلكنهَا انتصبت إِمَارَة فِيمَا نصبت فِيهِ. فَإِذا نصب ثُبُوت وصف علما فِي ثُبُوت حكم، فَلَيْسَ من شَرط ذَلِك أَن ينصب عَدمه أَيْضا / علما فِي انْتِفَاء الحكم. وَلَكِن " من " شَرط كَونه علما لَا يتَحَقَّق إِلَّا وَيثبت الحكم. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك، إِنَّا بعد مَا حققنا أَن الْعِلَل السمعية، لَا توجب أحكاما لذواتها، وَبينا مفارقتها للعلل، فقد تبين أَنَّهَا بمضاضاة الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة أولى، إِن لم يكن بُد من التَّشْبِيه. الحديث: 1662 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 ثمَّ الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة، لَا يشْتَرط فِيهَا الانعكاس وفَاقا. فَإِن حدث الْعَالم إِذا دلّ على وجود الْبَارِي لم يدل فَقده على فَقده - تَعَالَى - وَإِذا دلّ الإتقان على المتقن، لم يدل عدم الإتقان على جَهله. وَسَائِر الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة تجْرِي على هَذَا الْمنْهَج فوضح بطلَان اشْتِرَاط الانعكاس فِي الْعِلَل السمعية. 1664 - وَمِمَّا نتمسك بِهِ أَن نقُول: معاشر الْمُخَالفين خبرونا هَل " الْقَتْل " بِغَيْر حق وجوب الْكَفّ وَانْتِفَاء الْقصاص، مُوجب للْقَتْل؟ فَإِن قَالُوا: " أجل ". قيل لَهُم: فَإِذا عقلتم وجوب الْقَتْل بقتل منعوت بالأوصاف الَّتِي يذكرهَا الْفُقَهَاء. فقد نصبتم الْقَتْل عِلّة لوُجُوب الْقَتْل فَأوجب عَلَيْكُم قَود أصلكم أَن تَقولُوا: إِذا عدم الْقَتْل، انْتَفَى وجوب الْقَتْل. حَتَّى لَا يتَصَوَّر أَن يقتل الْمُرْتَد، وَلَا تَارِك الصَّلَاة، وَلَا الزَّانِي الْمُحصن. وَإِن أَنْتُم زعمتم أَن الْقَتْل لَيْسَ بعلة، فِي إِيجَاب الْقَتْل، فقد شققتم الْعَصَا، وخرقتم الْإِجْمَاع المنعقد من الْقَائِلين بِالْقِيَاسِ. 1665 - فَإِن قَالُوا: مَا ألزمتموه منعكس حَقِيقَة. وَلَكِن الْعَكْس فِي وَجْهَيْن وَنحن الْآن نبين مَذْهَب الْقَوْم. فأحد الْوَجْهَيْنِ فِي الْعَكْس، الانعكاس الْمُطلق. وَهُوَ الَّذِي يجب / فِي / الْعِلَل الْعَقْلِيَّة. فَإِذا قُلْنَا: الْعلم الحديث: 1664 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 يُوجب كَون مَحَله عَالما، " فَإِذا " انْتَفَى قبيل الْعلم، لزم انْتِفَاء كَونه عَالما مُطلقًا، من كل وَجه، من غير تَقْيِيد. فَهَذَا هُوَ الْعَكْس الْمُطلق. وَهُوَ لَا يشْتَرط فِي الْعِلَل السمعية. وَأما الْعَكْس الْمُقَيد، فَهُوَ الَّذِي نقرره الْآن، فِيمَا ألزمتمونا. فَنَقُول: الْقَتْل يُوجب الْقَتْل، وَالرِّدَّة أَيْضا توجب الْقَتْل، وَكَذَلِكَ زنا الْمُحصن. وَلَكِن الْقَتْل الَّذِي يُوجِبهُ الْقَتْل غير الْقَتْل الَّذِي توجبه الرِّدَّة. وَكَذَلِكَ القَوْل فِي قتل الْمُحصن الزَّانِي، فَهُوَ إِذا أَنْوَاع فِي الْقَتْل مُخْتَلفَة. فَخرج من ذَلِك، أَن الْقَتْل الَّذِي يُوجِبهُ الْقَتْل - وَهُوَ قتل الْقصاص - يَنْتَفِي بِانْتِفَاء الْقَتْل فلئن وَجب " قتل " الرِّدَّة، فَهُوَ غير الْقَتْل الَّذِي يجب بِالْقَتْلِ قَالُوا: فقد تبين الانعكاس على التَّقْيِيد، فِيمَا ألزمتمونا. وَإِن لم يتَحَقَّق مُطلقًا. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه هذيان بدينكم من جحد الْحَقَائِق والبدائه، فَإِن معولكم على قَوْلكُم أَن الْقَتْل مُخْتَلف. وَهَذَا مَعْلُوم الْفساد ضَرُورَة. فَإنَّا نعلم أَن الْقَتْل فِي الرِّدَّة مجانس للْقَتْل فِي الْقصاص، وَلَا يخْتَلف المثلان فِي حقيقتيهما، فالمصير إِلَى ادِّعَاء " اخْتِلَافهمَا " جحد الضَّرُورَة. وَلَو سَاغَ ذَلِك لساغ أَن يُقَال فِي العقليات، أَن الْعلم إِذا قَامَ بزيد أوجب كَونه عَالما، " و " إِذا قَامَ بِعَمْرو " لم يُوجب " ذَلِك. فَإِن كَون عَمْرو عَالما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 حكم آخر، يُخَالف كَون زيد عَالما. إِذْ قد تغاير المحلان وتباين الذاتان. وَهَذَا يُفْضِي إِلَى طي الْحَقَائِق وقلب الْأَجْنَاس، فاستحال الْمصير إِلَى القَوْل بمغايرة الْقَتْل. فَلَا يبْقى لَهُم بعد ذَلِك معتصم، إِلَّا الِاعْتِرَاف بِعَين مَا أُرِيد بهم. وَهُوَ أَن يَقُولُوا: قتل الْقصاص يُخَالف قتل الْمُرْتَد، من حَيْثُ أَنه وَجب بِالْقَتْلِ، وَذَلِكَ وَجب بِالرّدَّةِ فَالْآن وضح الْحق ونطقتم بِهِ، وَلم تشعروا. فَإنَّا / أوضحنا تماثل الْقَتْل حَقِيقَة، فَإِذا اوجبتموه بعلة، فانفوه عِنْد انتفائها حَتَّى لَا يجب أصلا بِسَبَب آخر. وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ. 1666 - وَمِمَّا يُوضح الْحق عَلَيْهِم أَن يَقُول: هَل تجوزون أَن يثبت الحكم الْوَاحِد بعلتين، لَو قدرت كل وَاحِدَة مِنْهَا على حيالها، لاقتضت الحكم؟ فَإِن قَالُوا: نجوز ذَلِك. وَلَا بُد مِنْهُ، نَحْو من يسْتَحق الْقَتْل بِأَسْبَاب، لَو انْفَرد وَاحِد " مِنْهَا " لأوجبه. فَيُقَال لَهُم: فقد الْعلَّة عنْدكُمْ يُؤثر فِي انْتِفَاء الحكم، فَقولُوا: لَو انْتَفَت عِلّة مِمَّا لَو قدر ثُبُوتهَا، لكَانَتْ مُوجبَة، وَثبتت عِلّة انْتِفَاء الحكم، وثبوته من حَيْثُ انْتَفَت علته، فَيلْزم من ذَلِك التَّنَاقُض والتنافي. 1667 - فَإِن قَالُوا: فقد يُوجد مثل ذَلِك فِي الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، فَإِنَّهُ إِذا قَامَت حياتان بِمحل وَاحِد، فانتفاء أَحدهمَا يُوجب كَون الْمحل مَيتا وَثُبُوت الحديث: 1666 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 الثَّانِيَة يُوجب كَون الْمحل حَيا فَيلْزم فِي ذَلِك مَا قلتموه من التَّنَاقُض. قُلْنَا: هَذَا سُؤال من يجهل مَذَاهِب أهل التَّحْقِيق. وَالَّذِي صَار إِلَيْهِ أهل الْحق قاطبة، إِنَّه لَا يجوز أَن يقوم مثلان بِمحل وَاحِد، وهما " متضادان " على الْمحل تضَاد السوَاد وَالْبَيَاض. فَبَطل مَا قَالُوهُ. وَإِن استروحوا إِلَى مَا قدموه أَولا، من أَن الحكم يَنْتَفِي بِانْتِفَاء الْعلَّة على التَّقْيِيد وَإِن لم ينتف على الاطلاق. فقد أوضحنا أَن هَذَا سَاقِط من القَوْل بِمَا فِيهِ غنى، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 (288) بَاب الْكَلَام فِي الْقيَاس 1668 - الأقيسة تَنْقَسِم أَولا، إِلَى عقلية وسمعية. فَأَما الْعَقْلِيَّة، فنبسط القَوْل فِيهَا، فِي غير هَذَا الْفَنّ. وَأما السمعية، فقد قسمهَا القائسون من أوجه، وَنحن نذْكر جَمِيع مذاهبهم فِي وَجه التَّقْسِيم، ثمَّ ننعطف على الْمُخْتَار الصَّحِيح عندنَا. 1669 - فَأول مَا قسموا إِلَيْهِ الْعِلَل السمعية، الْجَلِيّ والخفي. فَقَالُوا: الأقيسة تَنْقَسِم: فَمِنْهَا: الْجَلِيّ والخفي. وَزَاد بعض القائسين بَين الْجَلِيّ والخفي قسما ثَالِثا وَهُوَ الْوَاضِح. فَقَالُوا: الأقيسة ثَلَاثَة جلي وواضح وخفي. ثمَّ اخْتلفت مذاهبهم فِي الْجَلِيّ والخفي. 1670 - فَذهب الأقلون مِنْهُم إِلَى أَن الْجَلِيّ هُوَ الْقيَاس الَّذِي ثبتَتْ علته بطريقة نقطع بهَا من نَص أَو مَا يقوم مقَامه فِي الْإِفْضَاء إِلَى الْقطع، وَهُوَ مثل أَن ينص صَاحب الشَّرِيعَة على نصب الشَّيْء عِلّة أَو ثبتَتْ ذَلِك بِاتِّفَاق من الْأمة. الحديث: 1668 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 وَالضَّرْب الثَّانِي من الْقيَاس هُوَ الَّذِي لَا تثبت علته بطريقة يقطع بهَا، وَلَكِن يتَوَصَّل إِلَيْهَا تحريا واجتهادا. فَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ خَفِي عِنْد القائيسن ثمَّ مَا تتباين " رتبها " فبعضها أخْفى من بعض. 1671 - وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن الْقيَاس الْجَلِيّ، هُوَ المتلقى من فحوى قَوْله: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ وَلَا تنهرهما} فاعتبار سَائِر ضروب التعنيف بالتأفيف تمسكا بفحوى الْخطاب من الْقيَاس الْجَلِيّ وَكَذَلِكَ مَا يضاهيه. وَمَا يُصَار إِلَيْهِ استنباطا، فَهُوَ خَفِي وَهَذَا يداني الطَّرِيقَة الأولى. 1672 - وَذهب الْجُمْهُور من القائسين الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد من الْمُجْتَهدين إِلَى أَن الأقيسة الَّتِي تدْرك عللها " تحريا " واستنباطا، تَنْقَسِم إِلَى جلي وخفي. فالجلي مَا تتضح وُجُوه الاستنباط فِيهِ وتقل وُجُوه اللّبْس، وَلَا تقَابل " الْأَشْبَاه " فِي مداركها، فَمَا هَذَا " قَبيلَة " فيقود المستنبط إِلَى الْعلم الظَّاهِر بِتَعْيِين عِلّة الْقيَاس وَإِن لم يحصل لَهُ الْعلم الْبَاطِن الْمَقْطُوع بِهِ. وَأما الْخَفي فَهُوَ الَّذِي لَا تتضح وُجُوه الاستنباط فِيهِ. إِمَّا لتقابل / الْأَشْبَاه وتجاذب الْأُصُول، أَو غَيرهَا من أَسبَاب الخفاء. فَمَا هَذَا سَبيله فَهُوَ الحديث: 1671 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 خَفِي، لَا يتَضَمَّن الْعلم، لَا ظَاهرا وَلَا بَاطِنا. وَالَّذين قسموا الأقيسة ثَلَاثَة أَقسَام، جعلُوا الْجَلِيّ مَا ثبتَتْ " علته " نصا وفسروا الْوَاضِح والخفي بِنَحْوِ مَا فسرنا الْجَلِيّ والخفي آنِفا. فَهَذِهِ مَذَاهِب الْقَوْم. 1673 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالَّذِي نختاره، مَعَ مَا علمْتُم من أصلنَا فِي القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين، أَن نقُول: كل قِيَاس ثبتَتْ علته نصا وتحققت طَريقَة تُفْضِي إِلَى الْقطع فِي تعْيين الْعلَّة فَمَا هَذَا سَبيله، فَهُوَ يودي التَّمَسُّك بِهِ إِلَى الْعلم وَالْقطع. وَتخرج الْمَسْأَلَة من حيّز الِاجْتِهَاد. فَأَما إِذا لم يكن مَعنا طَرِيق يُفْضِي إِلَى الْقطع وَالْعلم، لتعيين عِلّة الْقيَاس، وَكَانَ الْفَزع إِلَى غلبات الظنون، فمهما حصلت غَلَبَة الظَّن للمجتهد بِمَا يستنبط من الْقيَاس، فَحكم الله الْأَخْذ بِمَا غلب عَلَيْهِ الظَّن قطعا. فَلَا يتَحَقَّق مَعَ هَذَا الأَصْل تَقْسِيم الْقيَاس إِلَى الْجَلِيّ والخفي قطعا على مَا قَالَه المتقدمون من الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد. وَذَلِكَ أَن وَاحِدًا من " القياسين " لَا يُفْضِي إِلَى الْعلم، فَإِذا لم يتَحَقَّق الْعلم فِي وَاحِد مِنْهُمَا، لم يَتَقَرَّر تباينهما. وَمَا ذَكرُوهُ من أَن الْعلم فِي الْقيَاس الْجَلِيّ يحصل ظَاهرا بعلة الأَصْل فَهُوَ وَاضح الْفساد، فَإِن الْعلم إِذا تحقق الحديث: 1673 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 لم يخْتَلف فِيهِ الظَّاهِر وَالْبَاطِن، على أَنه لَيْسَ فِي مجاري الأقيسة فِي الْمسَائِل الاجتهادية، طَريقَة تُفْضِي بسالكها إِلَى الْعلم. فادعاء الْعلم من " أمحل " الْمحَال. فَحصل بِمَا ذَكرْنَاهُ ابطال القَوْل بتباين الضربين من الْقيَاس فِي قبيل الْعلم، وَتبين أَن وَاحِدًا مِنْهُمَا لَا يودي إِلَى الْعلم، فَلَا يبْقى بعد ذَلِك إِلَّا غلبات الظنون، وَعِنْدنَا أَن الأقيسة السمعية كَمَا لَا توجب الْعلم لَا توجب غلبات الظنون. وَقد قدمنَا فِي ذَلِك صَدرا من الْكَلَام فِي أول الْكتاب. 1674 - فَرجع مآل الْمقَال إِلَى أَن الله عز وَجل اجرى الْعَادة بإيداع غلبات الظنون فِي اعتقاب الأقيسة الَّتِي تعبدنا بِالْعَمَلِ بهَا، ثمَّ لَا تستمر الْعَادَات فِيهَا، فَرُبمَا تحصل غَلَبَة الظَّن لبَعض الْمُجْتَهدين، بِالْقِيَاسِ الَّذِي يلْحقهُ مخالفونا بالخفي وَرُبمَا لَا تحصل غلبات الظنون بِالَّذِي يلْحقهُ بالجلي. فَتبين لَك أَن " الْفَصْل " بَين القياسين لَا يَتَقَرَّر إِذا ورد إِلَى التَّحْقِيق ولعمرنا فَلَا ننكر على الْجُمْلَة أَن يكون الرب عز اسْمه، قد أجْرى الْعَادة فِي الحديث: 1674 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 ضروب من الأمارات بِأَن تتسارع إِلَيْهَا غلبات الظنون. وتتباطؤ عَن بَعْضهَا، فَهَذَا الْقدر مِمَّا نسلمه على الْجُمْلَة، فأحط علما بذلك. (289 فصل ) (لَو أجمع القائسون على تَعْلِيق الحكم بعلة مُعينَة، هَل يقطع بِأَنَّهَا الْعلَّة) 1675 - فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا ثَبت الحكم فِي عين من الْأَعْيَان، وَأجْمع القائسون على تَعْلِيق الحكم بعلة وَاحِدَة عينوها، وَاتَّفَقُوا عَلَيْهَا، فَهَل تقطعون بِأَنَّهَا الْعلَّة؟ قُلْنَا: لَا نقطع بِأَنَّهَا الْعلَّة، فَإِن اجماع كَافَّة الْأمة هُوَ المفضي إِلَى الْعلم وَالْقطع. والقائلون بِالْقِيَاسِ لَيْسُوا كل الْأمة. فَلَو قَدرنَا رُجُوع نفاة الْقيَاس عَن مذاهبهم، وموافقتهم لِلْقَائِلين بِالْقِيَاسِ فِي القَوْل بِالْقِيَاسِ، ثمَّ اتَّفقُوا بعد ذَلِك قاطبة على تعْيين عِلّة فِي الأَصْل، وَنَفَوْا مَا عَداهَا، فنقطع الْآن " بِأَنَّهَا " الْعلَّة عِنْد الله تَعَالَى إِذْ يتَعَيَّن نفي الْخَطَأ عَن أهل الْإِجْمَاع. 1676 - وَذهب جُمْهُور الْقَائِلين بِأَن الْحق فِي وَاحِد من الْمُجْتَهدين، إِلَى أَن القائسين مهما أَجمعُوا على تعْيين عِلّة فِي الأَصْل. فنقطع القَوْل بِأَنَّهَا الْعلَّة وَإِن لم يرجع نفاة الْقيَاس عَن مذاهبهم /. وَهَذَا بَين الْفساد. فَإِن القائسين لَيْسُوا كل الْأمة، وَهَذَا أوضح من أَن يحْتَاج إِلَى إطناب. الحديث: 1675 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 (290) فصل ) (أوجه تطرق الْخَطَأ إِلَى الْقيَاس) 1677 - اعْلَم أَن الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب " وَاحِد " ذكرُوا وُجُوهًا من الِاحْتِمَالَات فِي الأقيسة وَزَعَمُوا أَن الزلل فِيهَا يتَوَقَّع. فَقَالُوا: إِذا قَاس القائس فرعا على أصل، بعلة فِي الأَصْل يعتقدها عِلّة " فيعتور " قِيَاسه ضروب من الِاحْتِمَالَات. أَحدهَا: أَن يكون الحكم مَقْصُورا على الأَصْل، غير معد عَنهُ، فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى، وَهُوَ بقياسه رام تعديته إِلَى الْفَرْع من الْمَقِيس عَلَيْهِ. وَالْوَجْه الثَّانِي فِي الِاحْتِمَال: أَن يكون الأَصْل معلولا، وَالْحكم غير مَقْصُور عَلَيْهِ. وَلَكِن اخطأ القائس الْعلَّة " الَّتِي هِيَ " عِلّة عِنْد الله تَعَالَى، وحاد عَنْهَا / إِلَى غَيرهَا /. وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن يركب القائس عِلّة الأَصْل من وصفين، وَهِي عِنْد الله ثَلَاثَة أَوْصَاف وَقد أخل القائس " بِالثلَاثِ ". وَالْوَجْه الرَّابِع: أَن يركب القائس عِلّة الأَصْل، وَهِي غير مركبة فِي علم الله تَعَالَى، بل هِيَ ذَات وصف وَاحِد. وَالْوَجْه الْخَامِس: أَن يَصح استنباطه لعِلَّة الأَصْل، وَلَكِن تخيل إِلَيْهِ الحديث: 1677 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 تِلْكَ الْعلَّة متحققة فِي الْفَرْع، وَالْأَمر على خلاف مَا ظن. فَهَذِهِ المداخل هِيَ الَّتِي مِنْهَا يتَوَقَّع فَسَاد الاستنباط. 1678 - وَزعم بَعضهم أَنه " قد دلّ " على المستنبطة وَجه سادس، وَهُوَ أَن إِثْبَات أصل الْقيَاس، مُخْتَلف فِيهِ، فَيجوز عدم ثُبُوته. وَهَذَا فَاسد لَا وَجه لَهُ. فَإِن إِثْبَات الْقيَاس مَقْطُوع بِهِ. وَلَو سَاغَ تَقْدِير الِاخْتِلَاف بشبه لساغ أَن يقدر الِاخْتِلَاف فِي العقائد بِشُبْهَة. فَإِذا وضحت هَذِه الْجُمْلَة، فقد قَالُوا: أَن الْقيَاس الْجَلِيّ، هُوَ الَّذِي تبعد عَنهُ الِاحْتِمَالَات مَعَ إمكانها، والخفي هُوَ الَّذِي " تقرب " مِنْهُ هَذِه الِاحْتِمَالَات. 1679 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَنحن إِذا قُلْنَا بتصويب الْمُجْتَهدين فَيبْطل كل مَا قَالُوهُ من الِاحْتِمَالَات. فَإنَّا لَا نعتقد أَن فِي الأَصْل الَّذِي يرد إِلَيْهِ الْفَرْع الْمَطْلُوب حكمه، عِلّة متعينة عِنْد الله تَعَالَى، وَقد كلفنا العثور عَلَيْهَا بِعَينهَا وَمن أخطأها فَهُوَ مُخطئ فِيمَا كلف. وَلَكنَّا نقُول: لَيْسَ " للْأَصْل " عِلّة متعينة عِنْد الله تَعَالَى، وَلَكِن كلف كل مُجْتَهد أَن يعْمل بِمَا غلب على الحديث: 1678 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 ظَنّه، وَجعل غَلَبَة ظن كل مُجْتَهد علما مَقْطُوعًا فِي أَن الحكم عَلَيْهِ مُوجب غَلَبَة الظَّن. وَهَذَا مِمَّا نستقصيه إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي كتاب الاجتهادات. (291) فصل (تَقْسِيم الأقيسة إِلَى قِيَاس عِلّة وَقِيَاس شبه) 1680 - قد ذكرنَا فِيمَا قدنا، تَقْسِيم القائسين الأقيسة إِلَى الْجَلِيّ والخفي وَقد قسموها على وَجه آخر، فَقَالُوا: الْقيَاس يَنْقَسِم إِلَى قِيَاس عِلّة وَقِيَاس شبه. فَأَما قِيَاس الْعلَّة، فَهُوَ أَن تستنبط عِلّة الأَصْل، وَيرد الْفَرْع إِلَى الأَصْل بعلة الأَصْل. وَهَذَا هُوَ الْقيَاس الْمُتَّفق عَلَيْهِ عِنْد الْقَائِلين بِالْقِيَاسِ. 1681 - وَالضَّرْب الثَّانِي من الْقيَاس قِيَاس الشّبَه وَهُوَ أَن يلْحق فرع الحديث: 1680 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 بِأَصْل، لِكَثْرَة إشباهه " بِالْأَصْلِ " فِي الْأَوْصَاف، من غير أَن يعْتَقد أَن الْأَوْصَاف الَّتِي شابه الْفَرْع فِيهَا الأَصْل، هِيَ عِلّة حكم الأَصْل. وَذَلِكَ نَحْو إِلْحَاق العَبْد بِالْحرِّ فِي بعض الْأَحْكَام لشبهه بِهِ فِي جمل من الْأَحْكَام. وَقد اخْتلف القائسون فِي هَذَا الضَّرْب. فَذهب الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُم إِلَى / بُطْلَانه، وَإِلَيْهِ ذهب الصَّيْرَفِي وَأَبُو إِسْحَاق الْمروزِي وَغَيرهمَا من القائسين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 ويحكى عَن ابْن سُرَيج أَنه صحّح قِيَاس الشّبَه. ويؤثر ذَلِك عَن الشَّافِعِي. قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَلَا يكَاد يَصح ذَلِك عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ مَعَ علو رتبته فِي الْأُصُول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 1682 - ثمَّ الْقَائِلُونَ بِقِيَاس الشّبَه أَجمعُوا على أَنه لَا يُصَار إِلَيْهِ مَعَ إِمْكَان الْمصير إِلَى قِيَاس الْعلَّة. وَلَكِن إِذا " استد " على الْمُجْتَهد طَرِيق قِيَاس الْعلَّة، سَاغَ لَهُ التَّمَسُّك بالأشباه. وَذهب بَعضهم إِلَى أَنه لَا يسوغ الْمصير إِلَى قِيَاس الشّبَه إِلَّا بِشَرْطَيْنِ: أَحدهمَا: مَا ذَكرْنَاهُ وَهُوَ أَن لَا يُصَار إِلَيْهِ مَعَ إِمْكَان الْمصير إِلَى الْقيَاس عِلّة. وَالثَّانِي: أَن يجتذب الْفَرْع أصلان فَيلْحق بِأَحَدِهِمَا بِغَلَبَة الْأَشْبَاه. وَمِمَّا اخْتلفُوا فِيهِ أَن قَالُوا: الْأَشْبَاه الْحكمِيَّة أولى، ثمَّ الْأَشْبَاه الراجعة إِلَى الصّفة " ويليه مُعظم " أشبه الحكم. وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه لَا فرق بَينهمَا. الحديث: 1682 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 1683 - وَنحن الْآن نذْكر الِاحْتِجَاج لكل فريق فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مَعَ القَوْل بِأَن الْمُصِيب وَاحِد من الْمُجْتَهدين، ثمَّ نوضح الْحق على القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين. فَأَما الَّذِي ردوا قِيَاس الشّبَه، فقد عولوا على أَن قَالُوا: إِذا ألحق " القائس " الْفَرْع بِالْأَصْلِ بأشباه، فَيُقَال لَهُ: هَذِه الْأَشْبَاه الَّتِي ذكرتها، هَل وَجب الحكم فِي الأَصْل لأَجلهَا؟ فَإِن زعم أَن الحكم فِي الأَصْل، وَجب لأَجلهَا، فَهُوَ إِذا قِيَاس عِلّة، فَإِنَّهُ يرد / فِيهِ / الْفَرْع الى الأَصْل. وَإِن قَالُوا: إِن هَذِه الْأَشْبَاه، لَيست بعلة فِي حكم الأَصْل، وَمَا ثَبت الحكم فِي الأَصْل " لأَجله " فَيُقَال لَهُ: فَمَا وَجه إلحاقك الْفَرْع بِالْأَصْلِ بالأشباه الَّتِي اعْترفت بِأَن الحكم لم يجب لَهَا فِي الأَصْل. وَلَو سَاغَ ذَلِك لساغ أَن يجمع بَينهمَا من غير وصف أصلا، وَهَذَا وضح الْبطلَان. 1684 - فَإِن قَالَ قَائِل: بِمَ تنكر على من يزْعم أَن الرب تَعَالَى تعبد الْمُجْتَهدين بطريقتين أحداهما: قِيَاس الْعلَّة، وَالثَّانيَِة. إِذا عجزوا عَن قِيَاس الْعلَّة أَن ينْظرُوا إِلَى غَلَبَة الْأَشْبَاه ويعتقدوا أَن ذَلِك عَلامَة استوائهما فِي الحكم، أَو يعتقدا أَن استوائهما فِي الْأَشْبَاه لاجتماعهما فِي الْعلَّة الكامنة، المستأثرة بهَا علم الله تَعَالَى. وَهَذَا لعمري سُؤال. وَلَكِن الْوَجْه فِي الْجَواب عندنَا أَن نقُول: نَحن الحديث: 1683 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 لَا ننكر وُرُود التَّعَبُّد بِمَا قلتموه. وَلَكِن مَا ثبتناه الْقيَاس فِي الأَصْل إِلَّا بالأدلة القاطعة، وَنحن نعلم قطعا أَن الصَّحَابَة تمسكوا بِقِيَاس الْعلَّة فِي " الْحَوَادِث " الَّتِي تقررت فِي زمانهم، وألحقوا الْفُرُوع بالأصول فِي الْمعَانِي الَّتِي اعتقدوها أَمَارَات للْأَحْكَام فِي الْأُصُول. وَلم تقم دلَالَة قَاطِعَة فِي هَذَا الضَّرْب من الِاعْتِبَار، فَلم يسغْ التَّمَسُّك بِهِ، وَلم تدل عَلَيْهِ دلَالَة سمعية. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه كَمَا يسوغ مَا قَالُوهُ فِي تَجْوِيز الْعُقُول، فتسوغ ضروب من الأمارات سواهَا، فِي تَجْوِيز الْعُقُول. وَلَكِن لَا يجوز التَّمَسُّك بهَا إِذْ لم يرد فِيهَا تعبد. فَهَذَا أقوى مَا تمسك بِهِ هَؤُلَاءِ. 1685 - واعتصم الْقَائِلُونَ بِقِيَاس الشّبَه، بطرق من الظَّوَاهِر وَغَيرهَا. الحديث: 1685 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 وَلم نذكرها لركاكة معظمها وَلَكنَّا نذْكر مَا عولوا عَلَيْهِ، فَمِنْهَا أَنهم قَالُوا: ورد فِي الشَّرْع اعْتِبَار الْأَشْبَاه فِي جَزَاء الصَّيْد، كَمَا نطق بِهِ نَص الْكتاب، وَكَذَلِكَ يعْتَبر فِيمَن تقبل شَهَادَته / الْأَكْثَر والأغلب من أَحْوَاله، فَإِن كَانَ فِي أغلب أَحْوَاله متشبثا بِأَسْبَاب الْعَدَالَة قبلت شَهَادَته، وَإِن تكن الْأُخْرَى ردَّتْ، إِلَى غير ذَلِك. قيل لَهُم هَذَا الَّذِي ذكرتموه، لَا منجى فِيهِ، فَإِن أَكثر مَا فِي الْبَاب أَن سلم لكم أَن اعْتِبَار الْأَغْلَب فِي بعض موارد الشَّرِيعَة إِمَّا لنَصّ كتاب أَو إِجْمَاع أَو غَيرهمَا من الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة، فَلم ادعيتم نصب اعْتِبَار الْأَشْبَاه علما فِي مَوَاضِع النزاع وَهل هَذَا إِلَّا إِثْبَات ضروب من الْأَدِلَّة بطرد مَا تمسكتم بِهِ. وكل مَا يتمسكون بِهِ فَهَذَا سَبيله. 1686 - فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يقيس اعْتِبَار الْأَشْبَاه على قِيَاس الْعلَّة؟ قيل: أصُول الْأَدِلَّة لَا تثبت بِمثل هَذَا الطَّرْد الواهي. على أَنا لَو رددنا إِلَى الْعقل لم يكن فِي مُقْتَضَاهُ، إِثْبَات أقيسة الشَّرْع، وَلَكِن لما قَامَت دلَالَة الْإِجْمَاع على التَّمَسُّك بِالْقِيَاسِ، صرنا إِلَيْهِ، وَهَذَا الضَّرْب الَّذِي فِيهِ نزاعنا، لم ينْقل عَن أَصْحَاب الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، على التَّخْصِيص. فَهَذَا وَجه الْكَلَام على القَوْل، بِأَن الْمُصِيب وَاحِد من الْمُجْتَهدين فَإِذا كنت تذب عَن ذَلِك، فَالْأولى بك إبِْطَال قِيَاس الشّبَه. 1687 - وَأما إِذا قُلْنَا بتصويب الْمُجْتَهدين، فقد قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، فَلَو رأى الْمُجْتَهد التَّمَسُّك بالأشباه فِي بعض الْحَوَادِث وَغلب على ظَنّه الحديث: 1686 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 ثُبُوت حكم من قَضِيَّة أعتبار الْأَشْبَاه فَهُوَ مَأْمُور بِمَا غلب على ظَنّه قطعا عِنْد الله تَعَالَى. 1688 - وَأَوْمَأَ رَضِي الله عَنهُ إِلَى أَن رد قِيَاس الشّبَه وَالْقَوْل بِهِ، لَا يبلغ إِلَى الْقطع وَهُوَ من مسَائِل الِاحْتِمَال. وَهَذَا فِيهِ نظر عندنَا. فَإِن الْأَلْيَق بِمَا " مهده " رَضِي الله عَنهُ من الْأُصُول أَن يُقَال: كل مَا آل إِلَى إِثْبَات دَلِيل من الْأَدِلَّة فيطلب فِيهِ الْقطع، وسنوضح ذَلِك فِي كتاب الِاجْتِهَاد إِن شَاءَ الله تَعَالَى. على أَن مَا قَالَه فِي كَون الْمُجْتَهد مَأْمُورا بِمَا غلب على ظَنّه سديد فِيمَا رامه فَإنَّا رُبمَا نقُول: إِن الْمُجْتَهد المتمسك بِضَرْب من الْقيَاس إِذا غلب على ظَنّه شَيْء وَفِي الْحَادِثَة نَص لم يبلغهُ " فَهُوَ مَأْمُور قطعا عِنْد الله بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده. وَإِن كَانَ الْقيَاس فِي مُخَالفَة النَّص مردودا. الحديث: 1688 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 (292) فصل 1689 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ ذهب بعض الضعفة من أهل خُرَاسَان إِلَى أَنه لَا يُرَاعى فِي الْجمع بَين الْفَرْع وَالْأَصْل نوع من " التَّحَرِّي " على التَّعْيِين وَلَكِن مهما رأى الْمُجْتَهد أَن يجمع بَين فرع وأصل، فَلَا يواخذ بِضَرْب الْجمع. وَنَفَوْا اعْتِبَار الْعلَّة فِي الأَصْل الْمَرْدُود إِلَيْهِ. 1690 - وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ / فِيهِ / هدم المقايس والعبر، وتسبب إِلَى إبِْطَال طرد الِاجْتِهَاد. وَالْأولَى لَك أَن تدخل دُخُول مقسم، فَتَقول: إِذا نفيتم اعْتِبَار عِلّة الأَصْل فَلَا تخلون أما أَن تَقولُوا: أَنه لَيْسَ فِي الأَصْل عِلّة منصوصة أَو مجمع عَلَيْهَا، فتوافقون على مذهبكم. الحديث: 1689 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 وَكَذَلِكَ إِن قُلْتُمْ: لم يتعبد الله عباده بِطَلَب عِلّة متعينة فِي معلومه، وَإِنَّمَا كلف الْمُجْتَهد أَن يعْمل على مَا يرَاهُ عِلّة فِي غَلَبَة الظَّن فَهَذَا مُسْتَقِيم بالْقَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين وَهُوَ أليق. وَإِن عنيتم بِنَفْي عِلّة الأَصْل، أَنه لَا اعْتِبَار لَهَا بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَيْسَ على الْمُجْتَهد إِلَّا الِاعْتِبَار بِضَرْب من التَّحَرِّي، فَهَذَا بهت عَظِيم. وَأول مَا يلزمكم / عَلَيْهِ أَن يُقَال: فسوغوا لكل عَامي أَن يلْحق الْفَرْع بِالْأَصْلِ وَلَا تخصصوا الْقيَاس بالمجتهدين، إِن لم تراعوا وَجها مَخْصُوصًا فِي الِاجْتِهَاد والتحري وإلحاق الْفَرْع بِالْأَصْلِ. فَإِن أحدا لَا يعجز عَن إِلْحَاق فرع بِأَصْل، إِذا رفض عَنهُ " التَّحَرِّي " والتدبر فِي طرق الِاجْتِهَاد. وَمن أوضح مَا يسْتَدلّ بِهِ عَلَيْهِم، أَن نقُول لَهُم: لم جوزتم إِلْحَاق الْفَرْع بِالْأَصْلِ من غير رِعَايَة وَجه من التَّحَرِّي. فَإِن قلتموه عقلا، فَلَيْسَ فِي الْعقل إِلَّا تَجْوِيز الأقيسة المجوزة شرعا وفَاقا فَمَا الظَّن بِمَا اخترعتموه؟ وَإِن جوزتم ذَلِك سمعا فأقيموا عَلَيْهِ دلَالَة سمعية، وهيهات! . 1691 - وَقد ضرب القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أَمْثِلَة مِنْهَا: أَنه قَالَ: فَلَو قَالَ قَائِل فِي إِجْرَاء الْأَحْكَام على السَّكْرَان فِي طَلَاقه وَغَيره، لما كَانَ السَّكْرَان معاقبا، وَجب أَن يكون معاقبا بِالطَّلَاق فَإِذا قيل لهَؤُلَاء: فَمَا وَجه الْجمع بَينهمَا؟ قَالُوا: لم يلْزمنَا أَكثر مِمَّا قُلْنَاهُ. الحديث: 1691 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 فَيُقَال لَهُم: وَلم قُلْتُمْ أَنه لما لحقه ضرب من الْعقَاب، يلْحقهُ هَذَا الضَّرْب الَّذِي نَحن فِيهِ؟ وَإِذا حققت عَلَيْهِم الطّلب فِي أَمْثَال ذَلِك، لم يبْق بِأَيْدِيهِم إِلَّا دَعْوَى عَارِية. وَمن هَذَا الْقَبِيل أَيْضا، اسْتدلَّ من اسْتدلَّ على جَوَاز الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي حق الْمَرِيض فَيَقُول: لما جَازَ لَهُ أَن يُصَلِّي جَالِسا - وَهُوَ ضرب من التَّخْفِيف - فَيَنْبَغِي أَن يجوز لَهُ الْجمع. فَيُقَال لَهُم: فَمَا / وَجه / الْجمع بَين الْفَرْع وَالْأَصْل؟ فَإِن اقتصروا على الدَّعْوَى وضح بطلَان قَوْلهم وَإِن قَالُوا: إِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك، لِأَن الْمُقْتَضى لجَوَاز الْقعُود فِي حق الْمَرِيض التَّخْفِيف. وَهَذَا الْمَعْنى مُتَحَقق فِيمَا نَحن فِيهِ. قُلْنَا لَهُم: الْآن قد " اعترفتم " بِاعْتِبَار ضرب من " التَّحَرِّي " وَهُوَ الْمَطْلُوب مِنْكُم ثمَّ يعرض مَا ذكرتموه على قوادح الْعِلَل، فَإِن سلمت صحت، وَإِلَّا حكم ببطلانها. (293) القَوْل فِي ذكر اخْتِلَاف القائسين فِي طرق إِدْرَاك الْعِلَل 1692 - مَا صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور من الْقَائِلين بِالْقِيَاسِ، أَنه لَا يشْتَرط فِي إِثْبَات عِلّة الأَصْل دلَالَة مَقْطُوعَة بهَا من نَص أَو إِجْمَاع. 1693 - وَذَهَبت شرذمة من الْقَائِلين بِالْقِيَاسِ، إِلَى أَن الْقيَاس الحديث: 1692 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 لَا يَصح، حَتَّى تكون عِلّة الأَصْل مَنْصُوصا عَلَيْهَا. وَأما إِذا لم يكن نَص وَلَا إِجْمَاع، فَلَا معنى لإستثارة عِلّة بالإجتهاد من الأَصْل بِنَاء على غَلَبَة الظَّن. ثمَّ اعتبروا فِي الْإِجْمَاع الَّذِي ذَكرُوهُ إِجْمَاع القائسين. وَقد أوضحنا بطلَان ذَلِك، وَبينا أَنهم لَيْسُوا كل الْأمة، وَلَا تقوم الْحجَّة بقَوْلهمْ. فَلَا نعيد مَا سبق. 1694 - وَهَا نَحن نُقِيم الْأَدِلَّة على بطلَان اشْتِرَاط النَّص على عِلّة الأَصْل، بعد تَقْدِيم، فَنَقُول: إِذا نَص صَاحب الشَّرِيعَة على عِلّة الأَصْل، فَهَل تَقولُونَ أَنه يجب طرد الْعلَّة / و / إِن لم / يتعبد بِالْقِيَاسِ أم لَا تَقولُونَ ذَلِك؟ فَإِن قُلْتُمْ: أَنه يجب طرد الْعلَّة الْمَنْصُوص عَلَيْهَا، وَإِن لم يتعبد بِالْقِيَاسِ تمسكا " بِمُقْتَضى " اللَّفْظ وموجبه " فَالْكَلَام " عَلَيْكُم من وَجْهَيْن. أَحدهمَا: أَن هَذَا إفصاح برد الْقيَاس وَتمسك بِمُوجب اللَّفْظ على زعمكم فَكيف تعتزون إِلَى الْقيَاس ثمَّ تنفونه؟ على أَنا قد قدمنَا بطلَان هَذَا الْمَذْهَب عِنْد ردنا على القاساني والنهرواني. وَإِن قُلْتُمْ أَن الْعلَّة الْمَنْصُوص الحديث: 1694 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 عَلَيْهَا، لَا تطرد إِلَّا بعد ثُبُوت التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فأوضحوا بِمَ عَرَفْتُمْ التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ؟ فَلَا يزالون فِي تردد حَتَّى يعتصموا بِالْإِجْمَاع وَنحن نعلم أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم كَانَ " يبتدرون " إِلَى الْقيَاس فِي الْحَوَادِث / مَا شَذَّ مِنْهَا وَمَا ظهر، ونعلم قطعا أَنهم كَانُوا لَا يتوقفون فِي إِلْحَاق الْفُرُوع بالأصول على ثُبُوت علل منصوصة بِأَلْفَاظ مُصَرح بهَا وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنهم اعتبروا طرق الْقيَاس فِي غوامض الْمسَائِل مَعَ " شغورها " عَن الْعِلَل المنصوصة فِي أُصُولهَا. فَبَطل مَا قَالُوهُ وَتبين أَن الطَّرِيق الَّذِي عرف بِهِ إِثْبَات أصل الْقيَاس، لَا يتَضَمَّن اشْتِرَاط مَا شرطوه. 1695 - وَمِمَّا نستدل بِهِ أَيْضا، فِي إبِْطَال اشْتِرَاط النَّص. أَن نقُول: إِذا اشترطتم كَون الْعلَّة فِي الأَصْل مَنْصُوصا عَلَيْهَا، وزعمتم أَن الْفَرْع يلْحق بِالْأَصْلِ قِيَاسا من غير توَسط، بِمُوجب " اللَّفْظ " فَبِمَ تنكرون على من يشْتَرط النَّص فِي أَن عِلّة الأَصْل معداة إِلَى الْفَرْع، كَمَا شرطتم النَّص فِي عِلّة الأَصْل؟ فَمَا " الْفَصْل " بَين المقالتين؟ فَإِن لم يكن / بُد / من اعْتِبَار النَّص فعموا. ثمَّ قَوْلكُم هَذَا يسوقكم إِلَى إبِْطَال الِاجْتِهَاد لَا محَالة. وَلَهُم كَلَام يتَّصل بِأَحْكَام الِاجْتِهَاد وَذَلِكَ أَنهم زَعَمُوا أَن عِلّة الأَصْل يجب أَن تكون الحديث: 1695 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 مَقْطُوعًا بهَا، وَإِلَّا فتكليف طلبَهَا، مَعَ أَن الْعقل لَا يدل عَلَيْهَا بِعَينهَا - وَلَيْسَت عَلَيْهَا دلَالَة سمعية - فالتكليف فِي طلبَهَا تَكْلِيف مَا لَا يقدر عَلَيْهِ. وَهَذَا لَا يتَوَجَّه على الْقَائِلين بتصويب الْمُجْتَهدين وَذَلِكَ أَنهم لَا يَقُولُونَ بِأَن عِلّة الأَصْل متعينة فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى فَتعين طلب العثور عَلَيْهَا. وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ يتَوَجَّه على الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد. (294) فصل سالك الْعلَّة 1696 - اعْلَم، أَن عِلّة الأَصْل تثبت بطرق، وَنحن نشِير إِلَيْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى، ثمَّ نذْكر بعد ذكر الصَّحِيح مِنْهَا، طرقا فَاسِدَة، تمسك بهَا بعض الْفُقَهَاء فِي إِثْبَات عِلّة الأَصْل، ونوضح فَسَادهَا. 1697 - فأقوى الطّرق فِي إِثْبَات عِلّة الأَصْل أَن يتضمنها كتاب أَو سنة. ثمَّ ذَلِك يَنْقَسِم: فَمِنْهُ مَا يكون مُصَرحًا بِهِ وَمِنْه مَا يُنبئ عَنهُ ضمنا. فَأَما مَا يكون مُصَرحًا بِهِ فنحو قَوْله تَعَالَى: {كي لَا يكون دولة بَين الْأَغْنِيَاء مِنْكُم} وَقَوله تَعَالَى: {من أجل ذَلِك كتبنَا على بني إسرءيل} وَقَوله تَعَالَى: {ذَلِك بِأَنَّهُم شاقوا الله وَرَسُوله وَمن يُشَاقق الله وَرَسُوله} الحديث: 1696 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 فَهَذِهِ الظَّوَاهِر وأمثالها من السّنة مصرحة بِإِثْبَات الْأَوْصَاف الْمَذْكُورَة فِيهَا عللا. وَالَّذِي يُنبئ عَن التَّعْلِيل ضمنا فتكثر أمثلته، وَلَكنَّا نذْكر مَا يَقع بِهِ الِاسْتِقْلَال. فَمِنْهُ مَا روى عَن نَبِي الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: (لايقضي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان) ففهم كَافَّة الْعلمَاء من ذَلِك، أَن الَّذِي راعاه رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] شغل الْغَضَب جاشه واقتضاه لرده عَن تَمام فكره فِي طلب الْحق فَكل مَا يحل ممحله فِي مَعْنَاهُ من غَلَبَة النّوم والجوع وَنَحْوهمَا فَهُوَ مثله. وألحقوا بِهَذَا الْقَبِيل مَا رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه لما سُئِلَ عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ، فَقَالَ: أينقص الرطب إِذا يبس؟ فَقَالُوا: نعم قَالَ: فَلَا إِذا. وَهَذَا بِأَن يلْحق بِالصَّرِيحِ أولى. وَمِمَّا يتَّصل بذلك، مَا رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: من أعتق شركا لَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 فِي " عبد " قوم عَلَيْهِ ففهم من مَضْمُون خطابه رِعَايَة الرّقّ، ثمَّ اقْتضى إِلْحَاق الْأمة بِالْعَبدِ. وَمِمَّا يتَّصل بالأنبياء عَن التَّعْلِيل، وَإِن لم يكن مُصَرحًا بِهِ، أَن يذكر صَاحب الشَّرِيعَة صفة فِي شَيْء ثمَّ يعقب تِلْكَ الصّفة بِإِثْبَات حكم، بِحَيْثُ يعلم فِي قَضيته الْخطاب أَن الحكم مُرْتَبِط بِالْوَصْفِ الْمُتَقَدّم. وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى /. {ويسئلونك عَن الْمَحِيض قل هُوَ أَذَى فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض} فعلق الاعتزال الَّذِي قدمه من ذكر الْأَذَى بِحرف الْفَاء. وَهُوَ يَقْتَضِي جَوَابا عَن أَمر سبق، ويتضمن ارتباطا بِمَا فرط من الْكَلَام. وألحقوا بذلك تَعْلِيق الحكم بِكُل اسْم مُشْتَقّ، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} وَقَوله تَعَالَى: {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} وَمِنْه قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (وَلَا تَبِيعُوا الطَّعَام إِلَّا مثلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 بِمثل) فَهُوَ مُشْتَقّ من الطّعْم، وَالْخطاب دَال على نَصبه عِلّة. وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ على ثُبُوت عِلّة الأَصْل، مَا تحقق من قضايا أَفعَال رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي قَضِيَّة التَّعْلِيق والارتباط. وَذَلِكَ نَحْو مَا تقرر لصحبه رَضِي الله عَنْهُم من تعلق سُجُوده بسهوه، وَمن تعلق سُجُوده عِنْد تِلَاوَة بعض الْآيَات لتلاوتها، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا أدركوه بقرائن الْأَحْوَال. فَهَذِهِ الطّرق الَّتِي يسْتَدلّ بهَا فِي إِثْبَات علل الْأُصُول. 1698 - فَإِن قَالَ قَائِل: فشيء مِمَّا ذكرتموه، لَيْسَ بِنَصّ غير قَابل للتأويل. إِذْ قد ترد لَفظه صيغتها التَّعْلِيل، وَلَا يُرَاد بهَا التَّعْلِيل. وتكثر نَظَائِر ذَلِك فِي مجاري الْخطاب فَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ التَّعْلِيل بالدلوك. فَمَا يؤمنكم أَن تكون الْأَلْفَاظ الَّتِي تمسكتم بهَا فِي إِثْبَات علل الْأُصُول، وقسمتموها إِلَى الصَّرِيح والمتضمن، معدولة عَن ظواهرها مَحْمُولَة على وُجُوه التَّجَوُّز. قيل لَهُم: نَحن لَا ننكر جَوَاز حملهَا على المحامل الَّتِي ذكرتموها، وَلَكِن ظواهرها تَقْتَضِي مَا قُلْنَاهُ فَلَا يجوز إِزَالَة ظواهرها، إِلَّا بِدلَالَة تقوم. إِذْ قد أجمع الْمُسلمُونَ على أَن مَا ذَكرنَاهَا من الظَّوَاهِر، لَيست من قبيل الحديث: 1698 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 المجملات الَّتِي لَا يجوز التَّمَسُّك بهَا. فَإِذا لم يكن من التَّمَسُّك بهَا بُد فيستحيل أَن يُقَال: أَنَّهَا تحمل على " وُجُوه " التَّجَوُّز فَتعين إجراؤها على ظواهرها. 1699 - فَلَو قَالَ قَائِل: فَإِذا تمسكتم بِشَيْء مِمَّا ذكرتموه فِي إِثْبَات عِلّة الأَصْل فَزعم الْخصم أَنِّي أزيل مَا تمسكتم بِهِ، بِدلَالَة قِيَاس فَهَل تجوزون ذَلِك؟ قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: هَيْهَات أَن نجوز ذَلِك! فَإِن الَّذِي يزِيل الظَّاهِر بِالْقِيَاسِ مطَالب بتصحيح عِلّة أصل قِيَاسه وَأقوى مَا يسْتَدلّ بِهِ المتمسك بِالْقِيَاسِ فِي إِثْبَات عِلّة أَصله ظَاهر مَا ذكرنَا، ثمَّ لَا نسلم اعتلاله عَن مثل مَا ألزمهُ. فَيُقَال لَهُ: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن مَا استدللت بِهِ فِي تثبيت عِلّة أصلك هُوَ إِزَالَة الظَّاهِر، بِالْقِيَاسِ الَّذِي اعترضت عَلَيْهِ؟ فانحسم هَذَا الْبَاب وَتعين إِجْرَاء الظَّوَاهِر فِي إِثْبَات علل الْأُصُول مَعَ مقتضياتها وَلَا يقْدَح فِيهَا بالأقيسة الَّتِي لم تثبت عللها قطعا. فأحط بذلك علما فَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ، أقوى الطّرق فِي إِثْبَات علل الْأُصُول. 1700 - وَألْحق مُعظم الْأُصُولِيِّينَ بذلك أَن يجمع القائسون على تعْيين عِلّة فِي الأَصْل فَجعلُوا إِجْمَاعهم دلَالَة على ثُبُوت عِلّة الأَصْل. قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا لَا يَصح عندنَا. فَإِن القائسين لَيْسُوا كل الْأمة وَلَا تقوم الْحجَّة بقَوْلهمْ. ثمَّ ردد القَاضِي جَوَابه فِي أثْنَاء الْكَلَام فَقَالَ: لَو جعلنَا إِجْمَاع القائسين إِمَارَة تبين غَلَبَة الظَّن فِي المقاييس كَانَ مُحْتملا وَإِن لم نقل أَنه يُفْضِي إِلَى الْقطع. الحديث: 1699 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 وَالَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ جَوَابه أَنه لَا أثر لإِجْمَاع القائسين اللَّهُمَّ / وَإِن تصور رُجُوع منكري الْقيَاس " عَن " الْإِنْكَار، ثمَّ يجمع الكافة على عِلّة، فَتثبت حِينَئِذٍ. 1701 - قطعا / وَمِمَّا / يسْتَدلّ بِهِ على ثُبُوت عِلّة الأَصْل أَن يحصر صِفَاته فِي تقديرها عللا، فَيبْطل كلهَا بطرِيق من طرق الْبطلَان إِلَّا صفة وَاحِدَة ويستدل بِبُطْلَان جَمِيعهَا، وَعدم بطلَان مَا نَصبه أَنه عِلّة سديدة. 1702 - وَلم يذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي تثبيت علل الْأُصُول طَريقَة، سوى مَا ذَكرنَاهَا. ثمَّ انعطف بعد ذَلِك على إبِْطَال طَرِيق يتَمَسَّك بهَا بعض الْفُقَهَاء فِي إِثْبَات علل الْأُصُول. 1703 - فمما أبْطلهُ مَا ذكره الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَق رَضِي الله عَنهُ وَقدره الحديث: 1701 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 طَريقَة فِي إِثْبَات عِلّة الأَصْل وَذَلِكَ أَنه قَالَ: لَيْسَ على " القائس " إِذا لم يجد شَيْئا مِمَّا قدمْنَاهُ إِلَّا أَن يعرض الْعلَّة الَّتِي استنبطها من الأَصْل، على مبطلات الْعِلَل فَإِن لم يجد مَا يقْدَح فِيهَا، وعرضها على أصُول الشَّرِيعَة فَلم يجد فِيهَا مَا يُنَافِي علته، فَيحكم بسلامة الْعلَّة، إِذا لم يبطل لَدَى الْعرض على الْأُصُول والقوادح. قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَهَذَا بَاطِل لَا أصل لَهُ، وقصاره الإجتزاء بِدَعْوَى مُجَرّدَة فَيُقَال للمتمسك بِهَذِهِ الطَّرِيقَة قصارى كلامك الإستدلال على صِحَة الْعلَّة بِعَدَمِ الدَّلِيل على فَسَادهَا فَلم زعمتم أَنَّهَا صحت إِذا لم تقم دلَالَة على فَسَادهَا وَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنَّهَا تفْسد بِعَدَمِ الدّلَالَة على صِحَّتهَا. فَإِن قلت: عدم دلَالَة الْفساد دلَالَة على صِحَّتهَا قيل لَك: بل عدم الدّلَالَة على صِحَّتهَا، دلَالَة على فَسَادهَا. فيتقابل الْقَوْلَانِ وتتجرد دَعْوَى. وَقد أطنب القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي إبِْطَال ذَلِك. وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ غنية. (الطَّرْد أَو الاطراد) 1704 - من الطّرق الَّتِي تمسك بهَا بعض الْفُقَهَاء من أَصْحَاب الحديث: 1704 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 الشَّافِعِي وَجَمِيع أَصْحَاب أبي حنيفَة فِي إِثْبَات عِلّة الأَصْل، اطرادها وَهَذَا من أَوْهَى الطّرق وأضعفها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 فَإِنَّهُم يَقُولُونَ " إِذا طُولِبَ التثبت عِلّة الأَصْل " الدَّلِيل عَلَيْهَا إطرادها وَإِن الحكم يُوجد مَتى وجدت. فَيُقَال " لَهُم " هَذَا الَّذِي ذكرتموه إعتصام مِنْكُم بِنَفس الْخلاف، فَإِنَّكُم طردتم عِلّة الأَصْل فِي الحكم الْمُتَنَازع فِيهِ، والخصم لَا يساعد على ثُبُوت الحكم فِي الْفَرْع إِلَّا مَعَ تَحْقِيق الْعلَّة، فَلم طردتم الْعلَّة فِي الصُّورَة الَّتِي نوزعتم فِيهَا، وَلم نصبتموها عِلّة فِيهَا؟ فَإِذا قُلْتُمْ: إِنَّمَا نصبناها لاطرادها، فمحصوله: إِنَّمَا طردناها لإطرادها. فَهُوَ تَعْلِيل الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى، وَهَذَا بَين لَا خَفَاء بِهِ. 1705 - وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك أَن نقُول: الْعِلَل السمعية لَيست بأدلة فِي أَنْفسهَا، وَلَيْسَت كالأدلة الْعَقْلِيَّة الَّتِي تدل بذواتها، وَلَا تتَصَوَّر فِي الْعقل أَنْفسهَا إِلَّا دَالَّة. ومآل القَوْل فِي الْعِلَل الشَّرْعِيَّة آئل إِلَى نصب صَاحب الشَّرِيعَة إِيَّاهَا امارات، وَلَا يثبت بقضايا الْعقل. وَإِنَّمَا يثبت بِدلَالَة السّمع. فَخرج من ذَلِك، أَن أصل الحكم الْمَطْلُوب لما افْتقر إِلَى دلَالَة سمعية لكَونه غير مدرك بقضية الْعقل، فَكَذَلِك انتصاب بعض الْأَوْصَاف إِمَارَة، يَنْبَغِي أَن يفْتَقر إِلَى دلَالَة سمعية. 1706 - فَإِذا طرد الطارد عِلّة فِي مسَائِل، فَيُقَال لَهُ: مَا الدَّلِيل على أَن الحديث: 1705 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 مَا طردته " باختيارك " نصب امارة فِي الصُّورَة الَّتِي طردت فِيهَا، وَهَذَا لَا مخلص مِنْهُ. ( الاطراد والانعكاس ) 1707 - وَمِمَّا يتَمَسَّك بِهِ مُعظم الْفُقَهَاء فِي / تثبيت عِلّة الأَصْل، أطرادها وانعكاسها قَالُوا: فَإِذا وجدنَا الحكم فِي الأَصْل، يُوجد بِوُجُود الْعلَّة / وَلَو قدر فقد الْعلَّة، انْتَفَى الحكم، فينصب ذَلِك آيَة فِي تثبيت مَا قدرناه عِلّة فِي الأَصْل. وَهَذَا مِمَّا ارْتَضَاهُ الطَّبَرِيّ وَغَيره. حَتَّى قَالُوا: الإنعكاس لَيْسَ بِشَرْط فِي الْعِلَل، كَمَا قدمْنَاهُ وَلكنه مَعَ الطَّرْد يدل على صِحَة الْعلَّة. الحديث: 1707 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 ثمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ: لَا يشْتَرط فِي تثبيت عِلّة الأَصْل أَن تطرد فِي انعكاسها كَمَا اطردت فِي طردها، وَلَكِن لَو ثَبت الحكم عِنْد ثُبُوت مَا قدرناه عِلّة، وانتفى الحكم عِنْد انتفائها وَلَو فِي صُورَة وَاحِدَة. فَيَقَع الإستقلال بذلك فِي تثبيت عِلّة الأَصْل. فَأَما الَّذِي يطرد وينعكس فنحو الشدَّة فِي الْخمر، فَإِن تَحْرِيمهَا يثبت عِنْد الشدَّة المسكرة، وينتفي عِنْد انتفائها فانتصبت الشدَّة - يَعْنِي الشدَّة المسكرة - علما " على " الحكم. وَأما انعكاس الْعلَّة فِي بعض الصُّور من غير اطراد، فنحو قَوْلنَا فِي مَسْأَلَة الرّجْعَة وَإِنَّهَا لَا تحصل بِالْوَطْءِ، فعل من يقدر على القَوْل، فَلَا تصح بِهِ الرّجْعَة، قِيَاسا على الْخلْوَة وَسَائِر الْأَفْعَال. فَإذْ قيل: أما فِي الْخلْوَة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 " فَإِنَّهُ " لَا تصح الرّجْعَة بهَا، مِمَّن قدر على القَوْل لَا مِمَّن لم يقدر عَلَيْهِ لِأَن الْأَخْرَس لَو خلا بالرجعية، لم تكن خلوته رَجْعَة. وَلَكنَّا نقُول: لهَذَا الْوَصْف تَأْثِير فِي الْجُمْلَة فِي إِشَارَة الْأَخْرَس، فَإِنَّهَا فعل وَاقع موقع القَوْل، وَلَو قدر الإقتدار على القَوْل، لم يَقع موقعه، فَيَقَع الِاكْتِفَاء بالانعكاس فِي هَذِه الصُّورَة الْوَاحِدَة. وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْمُرْتَد، ترك الصَّلَاة لمعصية بعد إِسْلَامه، فَوَجَبَ عَلَيْهِ " الْقَضَاء " أَصله الْمُسلم، إِذا أسلم وَترك الصَّلَاة. فَإِن قيل لنا: فَلَو سكر مكْرها، وَترك الصَّلَاة، لزمَه الْقَضَاء. قُلْنَا: يظْهر تَأْثِير مَا ذَكرْنَاهُ فِي زَوَال الْعقل بالجنون، فَإِنَّهُ إِن كَانَ سَببه مَعْصِيّة، فَلَا يُؤثر فِي إِسْقَاط الْقَضَاء، وَإِن كَانَ سَببه غير مَعْصِيّة أثر فِي إِسْقَاط الْقَضَاء. فنكتفي بِظُهُور التَّأْثِير فِي هَذِه الصُّورَة الْوَاحِدَة. إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تتبعه. 1708 - وَوجه هَذِه الطَّرِيقَة. أَنا وجدنَا الحكم يساوق وَصفا من الْأَوْصَاف فِي الأَصْل، ثمَّ وَجَدْنَاهُ يَنْتَفِي عِنْد انْتِفَاء ذَلِك الْوَصْف، أما على الاطراد، وَأما فِي بعض الصُّور، فنعلم ارتباط الحكم بذلك الْوَصْف، وتأثير ذَلِك الْوَصْف فِيهِ. وَلَيْسَ ذَلِك كالطرد الْمُجَرّد. فَإِنَّهُ اكْتِفَاء بِدَعْوَى. قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَهَذِه الطَّرِيقَة لَيست بمرضية فِي إِثْبَات الْعِلَل أَيْضا وَذَلِكَ أَن الْعَكْس لَا يشْتَرط فِي صِحَة الْأَدِلَّة. كَيفَ؟ وَلَا يشْتَرط فِي الحديث: 1708 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة فوجود الانعكاس وَعَدَمه بِمَثَابَة وَاحِدَة. 1709 - وَوجه التَّحْقِيق فِيهِ، أَنه إِذا علق الحكم على وجود أَمارَة، فَلَيْسَ من شَرط التَّعْلِيق بهَا. أَن يعلق ضد ذَلِك الحكم على عدم تِلْكَ الأمارة فَإِن وجود الْعلَّة وَعدمهَا إمارتان " فِي " تثبيت الحكم ونفيه. وَلَيْسَ سَبِيل " استشارة " الحكم من الْعِلَل فِي الشرعيات سَبِيل إثارة الْعِلَل الْعَقْلِيَّة معلولاتها، من حَيْثُ أَنَّهَا توجبها لذواتها. فَلَا تعلق لأحدى الأمارتين وَالْحكم المنوط بهَا بالأمارة الثَّانِيَة وَحكمهَا. وَوجه الْإِيضَاح فِيهِ أَن نقُول: لَو قَدرنَا ثُبُوت الحكم عِنْد ثُبُوت وصف وانتفاءه عِنْد انتفائه، وقدرنا مَعَ ذَلِك نصا من صَاحب الشَّرِيعَة، على أَن ذَلِك الْوَصْف لَيْسَ بعلة فِي الحكم، وَإِنَّمَا الْعلَّة فِيهِ غَيره / كَانَ ذَلِك سائغا فَإِذا جَازَ تَقْدِير نَصبه عِلّة شرعا، وَلم يَقْتَضِي الْعقل نَصبه عِلّة فَإِذا تقَابل جَوَاز نَصبه عِلّة، وَجَوَاز خُرُوجه عَن كَونه عِلّة مَعَ اطراده وانعكاسه، فعلى الَّذِي ينصبه عِلّة فِي الاطراد والإنعكاس، إِقَامَة الدَّلِيل على نَصبه عِلّة. وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ. الحديث: 1709 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 1710 - ثمَّ قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: إِذا قدرتم الشدَّة عِلّة لاطرادها وانعكاسها فقد تقارنها أَوْصَاف تُوجد بِوُجُود الشدَّة وتعدم بعدمها، وَذَلِكَ لَا يُوجب تَعْلِيق الحكم على بَعْضهَا. وَذَلِكَ نَحْو الرَّائِحَة الْمَخْصُوصَة الَّتِي تكون فِي الْخمر للشدة فَإِن هَذَا الضَّرْب مِمَّا يُوجد بِوُجُود الشدَّة ويعدم بعدمها. ثمَّ لَا يعلق الحكم عَلَيْهِ، فَبَطل رِعَايَة الاطراد والانعكاس. وَهَذَا فِيهِ نظر عِنْدِي، فَإِن الَّذِي يعْتَبر الشدَّة، لَيْسَ يعْنى بِهِ ضربا مَخْصُوصًا من الْأَعْرَاض وَلكنه يُشِير إِلَى هَذَا الضَّرْب من التَّغْيِير، وينطوي قَوْله على جمل من الْأَوْصَاف وَكلهَا تسمى شدَّة. فَمِنْهَا الرَّائِحَة الَّتِي تمثل بهَا القَاضِي رَضِي الله عَنهُ. وَفِيمَا قدمْنَاهُ أكمل غنية فِي إبِْطَال رِعَايَة الاطراد والانعكاس. 1711 - فَإِن قَالَ قَائِل: " آيَة " صِحَة الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، أَن يُوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها فَإِذا تحقق مثل هَذِه الطَّرِيقَة فِي الْعِلَل السمعية، فَيجب أَن يَقع الِاكْتِفَاء بهَا. قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل، من أوجه. مِنْهَا: أَن الاطراد والانعكاس ليسَا بأمارة فِي صِحَة الْعِلَل الْعَقْلِيَّة " ... الحديث: 1710 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 يصدنا عَن هَذَا الْمَقْصد ". ثمَّ نقُول: هلا قُلْتُمْ أَنه يَكْتَفِي فِي الْعِلَل السمعية بالاطراد وَلَا يشْتَرط فِي تصحيحها الأنعكاس، كَمَا لَا يشْتَرط فِي تَصْحِيح الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة انعكاس، فَتبين خبطهم بِمَا قَالُوهُ. 1712 - فَإِن قَالُوا: إِذا وجدنَا الحكم يساوق وَصفا فَيتَحَقَّق عِنْد وجوده، وينتفي عِنْد عَدمه، فيغلب على الظَّن ارتباطه بِهِ. والعلل السمعية مَبْنِيَّة على غلبات الظنون. قُلْنَا: هَذِه دَعْوَى. فَإِن غلب ذَلِك على ظَنك لم يغلب على ظن من لَا يعْتَبر الاطراد والانعكاس، فَمَا يُغْنِيك ادِّعَاء غَلَبَة ظن، وخصمك لَا يساعدك. (295) فصل (اتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ على حكم الأَصْل لَا يَقع بِهِ الِاكْتِفَاء) 1713 - إِذا نصب الْمُعَلل قِيَاسا، وَوَافَقَهُ خَصمه فِي حكم الأَصْل، فموافقة الْخصم إِيَّاه، لَا يَقع الِاكْتِفَاء بهَا حَتَّى يثبت الحكم فِي الأَصْل بطرِيق الشَّرْع. وَلَكِن استمرت الْعَادة بَين المتناظرين على الإجتزاء بالوفاق فِي حكم الحديث: 1712 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 الأَصْل، وَلَيْسَ كَذَلِك لمصير أهل النّظر إِلَى وفَاق الْخصم آيَة فِي صِحَة ثُبُوت الحكم فِي الأَصْل. إِذْ قدمنَا، أَن إِجْمَاع القائسين بأسرها حجَّة فِيهِ، فَمَا الظَّن بموافقة خصم لخصم! وَلَكِن لأهل النّظر " تواضع " بَين أظهرهم، يتبعونه لأغراض لَهُم. فكأنهم عِنْد الإتفاق على حكم الأَصْل، علمُوا ثُبُوت حكمه بِدلَالَة، سوى اتِّفَاقهم. وَلم يتناقشوا. إِذْ لم يقصدوها بالْكلَام. 1714 - ثمَّ اعْلَم أَن عِلّة الأَصْل لَا بُد من تقديرها فِي نَفسهَا أَولا. حَتَّى إِذا قدرت أُقِيمَت الدّلَالَة على كَونهَا عِلّة. ثمَّ عِلّة الأَصْل قد تكون " مدركة " بِالضَّرُورَةِ مثل أَن تنصب حلاوة الشَّيْء أَو شدته أَو مرارته عللا فِي الْأَحْكَام وَقد تكون عِلّة الأَصْل حكما من الْأَحْكَام، ثَابِتَة بأدلة السّمع. وَذَلِكَ نَحْو اعْتِبَار الْأكل عَامِدًا فِي صِيَام رَمَضَان، بِالْجِمَاعِ. وَالْجَامِع بَينهمَا يقدر الْعلَّة فِي الأَصْل كَونه إبطالا بِمَعْصِيَة، وَذَلِكَ حكم. وَقد تثبت عِلّة الأَصْل بغلبات الظنون. فَلَيْسَ من شَرط ثُبُوت / عِلّة الأَصْل الْقطع، كَمَا لَيْسَ من شَرط ثُبُوت كَونهَا عِلّة، الْقطع. فَلَو قدر القائس فِي أصل حكما، وَنصب عِلّة مَا تُفْضِي إِلَى غَلَبَة الظَّن فِي مجْرى الْعَادة، ثمَّ قدر ذَلِك الَّذِي غلب على ظَنّه عِلّة فِي حكم وُرُود عَلَيْهَا غَيرهَا. فيسوغ لَهُ ذَلِك كَمَا يسوغ ذَلِك فِي حكم الأَصْل. فَإِنَّهُ لَو نوزع فِي حكم الأَصْل، فثبته، ثمَّ قَاس عَلَيْهِ كَانَ سديدا. الحديث: 1714 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 1715 - ويتصل بذلك أَنه إِذا قدر فِي الأَصْل عِلّة، فَلَا يشْتَرط تحقق تِلْكَ الْعلَّة قطعا فِي الْفَرْع، وَلَكِن لَو غلب على ظَنّه ثُبُوتهَا فِي الْفَرْع بطرِيق يُفْضِي إِلَى غلبات الظنون، فَلهُ الْجمع بَين الْفَرْع وَالْأَصْل. فَخرج من هَذِه الْجُمْلَة أَنا لَا نشترط الْقطع فِي شَيْء من أَرْكَان الْقيَاس فَهَذِهِ جملَة مقنعة، تمهد لَك علل الْأُصُول وَمَا يَصح مِنْهَا وَمَا يفْسد. (296) القَوْل فِيمَا يثبت بِهِ فَسَاد الْعِلَل السمعية وبطلانها 1716 - اعْلَم، أَن الْكَلَام يَنْقَسِم فِي هَذَا الْبَاب إِلَى قطع وَغَلَبَة ظن. وَنحن نبدأ بالطرق الَّتِي تَقْتَضِي الْعلم بِفساد بعض الْعِلَل، ثمَّ نذْكر مَا نسلك مِنْهَا طرق غلبات الظنون. 1717 - فمما يعرف بِهِ فَسَاد الْعلَّة قطعا، مخالفتها للنَّص فِي مجْرى من مجاريها فَلَو ادّعى القائس حكما فِي الأَصْل على خلاف النَّص فِي الْكتاب أَو السّنة، أَو ادّعى تعليلا بِوَصْف، على خلاف النَّص أَو جمع فِي مَوضِع تَفْرِيق النَّص، أَو فرق فِي مَوضِع جمع النَّص. فَهُوَ بَاطِل مهما خَالف النَّص فِي ركن من أَرْكَانه. وَمِمَّا يعلم بِهِ فَسَاد الْعلَّة قطعا، مخالفتها الْإِجْمَاع فِي بعض مجاريه. وَالتَّفْصِيل فِيهِ كالتفصيل فِي النَّص. 1718 - وَمِمَّا ألحقهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ بِالْقطعِ فِي إِفْسَاد الْعلَّة، أَن تخَالف عِلّة صَاحب الشَّرِيعَة نَحْو مَا روينَا عَنهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي أَنه علل بِالنُّقْصَانِ فِي الحديث: 1715 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 الرطب فَكل عِلّة تخَالف هَذِه الْعلَّة فَهِيَ بَاطِلَة قطعا. هَكَذَا قَالَ - رَضِي الله عَنهُ. وَلم ينظر أَن ثُبُوت الْخَبَر بطرِيق يقطع بِهِ من تَوَاتر واستفاضة وَذَلِكَ أَن الروَاة وَإِن كَانُوا بصدد الزلل - فقد كلفنا قطعا - الْعَمَل بِمَا " يَرْوُونَهُ " وَالْخَبَر مقدم على الْقيَاس قطعا. وسنفرد هَذِه الْمَسْأَلَة بالْكلَام فِي آخر المقايس إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَلم ينظر أَيْضا رَضِي الله عَنهُ أَن كَون لفظ الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَابلا للتأويل، وَلم يجز تَأْوِيله بِالْقِيَاسِ. وَألْحق ذَلِك بالقطعيات وَقد قدمنَا فِي ذَلِك قولا كَافِيا. قلت وَفِي إِلْحَاقه بالقطعيات أدنى نظر، وَالله أعلم. وَمِمَّا ألحقهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ بِالْقطعِ فِي إِفْسَاد الْعلَّة أَن لَا يقوم على ثُبُوتهَا عِلّة علم أصلا بِوَجْه من الْوُجُوه فنقطع بفسادها. وَمِمَّا يلْتَحق بِالْقطعِ أَيْضا، أَن يحيد القائس عَن سنَن الْقيَاس ويسلك بالإستنباط مَسْلَك الْعقل، وَلَا يعْتَبر بمورد الشَّرْع. وَذَلِكَ نَحْو كَلَام الْمُعْتَزلَة فِيمَا يحرم وَيحل عقلا. وبنائهم الاستنباط / عَلَيْهِ / وإلحاقهم الْفُرُوع بالأصول فِي قَضِيَّة الْعقل فَهَذَا السَّبِيل بَاطِل قطعا. وسنستقصي القَوْل فِيهِ فِي آخر الْكتاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ. فَهَذِهِ طرق الْقطع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 1719 - وَتثبت فِي رد الْعِلَل طرق، ومسلكها غلبات الظنون، وَلَا يبلغ مبلغ الْقطع والتحق بذلك انتفاض الْعلَّة، وَتَخْصِيص الْمُعَلل / إِيَّاهَا فَكل من اعْتقد جَوَاز تَخْصِيص الْعلَّة كَانَ مُكَلّفا بالجري على مَا ثَبت عِنْده فِي حكم الْعلَّة. وكل من / اعْتقد منع التَّخْصِيص، كَانَ مُخَاطبا بقضية اعْتِقَاده. وسنفرد مَسْأَلَة التَّخْصِيص بالْكلَام. وَمِمَّا يلْحق بغلبات الظنون فِي ذَلِك مُقَابلَة الْقيَاس عُمُوما، فَمن النَّاس من يُسَلِّطهُ على الْعُمُوم وَمِنْهُم من يُسَلط الْعُمُوم عَلَيْهِ. وَمِمَّا يتَّصل بذلك قُصُور الْعلَّة وَعدم تعديها فَإِنَّهُ على اخْتِلَاف نذكرهُ وَيتبع كل فِيهِ بِمَا يَعْتَقِدهُ. 1720 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ. وَمن ذَلِك مُعَارضَة الْعلَّة مَعَ " تنافيهما " فِي الظَّاهِر فَالَّذِي صَار إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ، بِأَن الْمُصِيب " وَاحِد " أَن الْعلَّة مهما عارضتها عِلّة " فِي خلاف حكمهَا " فَإِن رجح المسؤول الحديث: 1719 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 " علته " بِوَجْه يتَّجه فِي مجاري الترجيحات وأفسد عِلّة الْمسَائِل سلمت علته. وَإِن تكن الْأُخْرَى فَسدتْ " علته " وَكَانَ ذَلِك انْقِطَاعًا مِنْهُ. قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَالَّذِي عندنَا - معاشر الْقَائِلين بتصويب الْمُجْتَهدين - أَن الْعلَّة لَا تقدح فِيهَا الْمُعَارضَة. وَلَكِن كل عِلّة تَقْتَضِي حكمهَا فِي حق مستنبطها، وَلَو " تساوتا " فِي حق مستنبط وَاحِد تخير بِالْأَخْذِ " بِأَيِّهِمَا " شَاءَ مَا نذكرهُ فِي كتاب الِاجْتِهَاد إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فَخرج من ذَلِك أَن مُعَارضَة الْعلَّة بِالْعِلَّةِ لَيست من القوادح. وَلَكِن من قَالَ بتصويب وَاحِد من الْمُجْتَهدين، عد مُعَارضَة الْعلَّة بِالْعِلَّةِ من ضروب القوادح وتكثر نَظَائِر مَا اخْتلف فِيهِ من القوادح، وَقد أَشَرنَا إِلَى بَعْضهَا وَنَذْكُر على تَرْتِيب الْكتاب بَابا فِيهَا. إِن شَاءَ الله تَعَالَى. (297) فصل طرق الاعتراضات على الْعلَّة 1721 - جمع بعض أَرْبَاب الْأُصُول طرق الإعتراضات على الْعلَّة، الحديث: 1721 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 فبلغوها اثْنَي عشر وَجها وَنحن نشِير إِلَيْهَا، ونوضح الْحق فِيهَا، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فَمِنْهَا: إِنْكَار عِلّة الأَصْل ومثاله: قَول أَصْحَاب أبي حنيفَة فِي إِخْرَاج الْفطْرَة عَن العَبْد الْكَافِر، كل زَكَاة وَجب إخْرَاجهَا عَن العَبْد الْمُسلم، وَجب إخْرَاجهَا عَن العَبْد الْكَافِر، كَزَكَاة عبد التِّجَارَة. فَيُقَال لَهُم: مَا ذكرتموه مَمْنُوع فِي الأَصْل. فَإِن زَكَاة عبد التِّجَارَة لَا يجب إخْرَاجهَا عَن العَبْد، وَإِنَّمَا تخرج عَن قِيمَته. وَمِنْهَا: إِنْكَار عِلّة الْفَرْع. وَذَلِكَ مثل قَول أَصْحَاب أبي حنيفَة فِي لعان الْأَخْرَس معنى يفْتَقر إِلَى الشَّهَادَة، فَلَا يَصح من الْأَخْرَس كَالشَّهَادَةِ. وَلَا نسلم لَهُم مَا قَالُوهُ فِي الْفَرْع من افتقار اللّعان إِلَى لفظ الشَّهَادَة. وَاعْلَم أَن كل مَا ذَكرْنَاهُ، لَيْسَ بقادح فِي نَفسه وَإِنَّمَا هُوَ سُؤال موجه يلجئ المعتمل فِي حكم الجدل إِلَى إِقَامَة الدّلَالَة، فَإِن عجز عَنْهَا " عد " مُنْقَطِعًا حِينَئِذٍ. وَمِنْهَا: إِنْكَار الْعلَّة فِي الأَصْل وَالْفرع. وَذَلِكَ نَحْو قَوْلهم فِي الْمُتَمَتّع إِذا لم يصم سقط عَنهُ الصَّوْم، لِأَنَّهُ بدل مُؤَقّت، فَسقط بِفَوَات وقته كَالْجُمُعَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 فَنَقُول: أما الْجُمُعَة فَلَيْسَتْ بِبَدَل. فَهَذَا منع عِلّة الأَصْل. وَعلة الْفَرْع مَمْنُوع من وَجه آخر وَذَلِكَ أَن الصَّوْم لَا يسلم فِيهِ التَّوْقِيت. إِذْ الصَّوْم الْمُؤَقت هُوَ الْمُخْتَص بِزَمَان. وَمِنْهَا: إِنْكَار الحكم فِي الأَصْل. وَذَلِكَ نَحْو قياسهم اللّعان على الشَّهَادَة فِي أَنه لَا يَصح من الْأَخْرَس، فَإِذا جَوَّزنَا شَهَادَة الْأَخْرَس كَانَ ذَلِك منعا لحكم الأَصْل. وَمِنْهَا: أَن لَا يتَعَدَّى الحكم من الأَصْل إِلَى الْفَرْع وَذَلِكَ نَحْو قَوْلهم فِي ضم الدَّنَانِير إِلَى الدَّرَاهِم فِي تَكْمِيل النّصاب، لِأَن زكاتهما ربع الْعشْر / فيضم أَحدهمَا إِلَى الآخر كالصحاح والمكسرة. فَنَقُول: الضَّم الَّذِي فِي الأَصْل هُوَ ضم بالأجزاء وَالضَّم فِي " الْفَرْع " هُوَ ضم بِاعْتِبَار الْقيمَة. فَلم " يعْتد " الضَّم الَّذِي فِي الأَصْل، إِلَى الْفَرْع. وَهَذَا الِاعْتِرَاض فِيهِ نظر. إِذْ يجوز الْجمع بَين الْفَرْع وَالْأَصْل فِي أصل الضَّم وَإِن اخْتلفَا فِي الْكَيْفِيَّة. وَمِنْهَا: الْمُطَالبَة بتصحيح الْعلَّة فِي الأَصْل، وَإِقَامَة الدّلَالَة عَلَيْهَا. وَمِنْهَا: القَوْل بِمُوجب الْعلَّة. وَمِنْهَا: نقض الْعلَّة، على مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَمِنْهَا: الْمُطَالبَة بتفسير لفظ الْعلَّة. نَحْو قَوْلنَا لأَصْحَاب أبي حنيفَة، إِذْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 قَالُوا: الْجِنْس أحد وصفي الْعلَّة / فِي / تَحْرِيم التَّفَاضُل فَيحرم النسأ كالوصف الثَّانِي. فَنَقُول: إِن إردتم بِالْوَصْفِ الثَّانِي الْمكيل لم نسلمه. وَإِن أردتم الطّعْم لم يَصح على أصلكم وكل تَفْسِير يُفْضِي تَفْصِيله إِلَى تمانع، فَهُوَ من الأسئلة الَّتِي تلجئ المسؤول إِلَى التَّفْسِير ثمَّ الدَّلِيل على مَا يتنازع فِيهِ. وَمِنْهَا: أَن يُخَالف الْقيَاس نصا " أَو " إِجْمَاعًا. وَمِنْهَا: قلب الْعلَّة، على مَا نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَمِنْهَا: معارضتها بِمِثْلِهَا. 1722 - وَاعْلَم أَن هَذَا التَّرْتِيب غير مرضِي، فَإِنَّهُ منطو على مختلفات. فَأَما الممانعات فِي الْعِلَل وَالْأَحْكَام فَلَا سَبِيل إِلَى عدهَا فِي القوادح. وَلَكِن الممانعات تلْزم الْمَسْئُول نصب الْأَدِلَّة. وَأما القَوْل بِالْمُوجبِ فَلَا يبطل العة فَإِن الْوِفَاق على مُوجب عِلّة الحديث: 1722 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 لَا يُبْطِلهَا أصلا. وَلَكِن إِذا رام الْمُعَلل بهَا إِثْبَات مُخْتَلف، فقوبل بِمُوجب علته، لم يستتب مُرَاده إِلَّا وَالْعلَّة صَحِيحَة. فَلَا وَجه لعد القَوْل بِالْمُوجبِ فِي قوادح الْعِلَل، وَلكنه يقْدَح فِي مَقَاصِد المعللين. وعجبا لهَذَا الْمُرَتّب كَيفَ أخر أقوى القوادح المفضي إِلَى الْقطع بِفساد الْعلَّة، وَهُوَ مُخَالفَة النُّصُوص وَالْإِجْمَاع. وَأما الْقلب فَسَيَأْتِي فِيهِ كَلَام، وَقد سبق الْكَلَام فِي مُعَارضَة الْعلَّة بِالْعِلَّةِ وَهَا نَحن فِي النَّقْض وَتَخْصِيص الْعلَّة إِن شَاءَ الله تَعَالَى. (298) القَوْل فِي تَخْصِيص الْعلَّة السمعية 1723 - اعْلَم، أَن الْعِلَل الْعَقْلِيَّة لَا يسوغ تخصيصها، وَمن شَرط صِحَّتهَا اطرادها. فَإِذا انتصب الْعلم عِلّة فِي كَون الْعَالم عَالما، وَجب طرد ذَلِك. فَلَا يَتَقَرَّر علم إِلَّا يُوجب هَذَا الحكم. وَلَا يَتَقَرَّر هَذَا الحكم إِلَّا مُوجبا عَن الْعلم شَاهدا غَائِبا. وَهَذَا يستقصى فِي غير هَذَا الْفَنّ. 1724 - وَإِنَّمَا مقصدنا الْعِلَل السمعية. وَقد اخْتلف النَّاس فِي جَوَاز تخصيصها فَمَا صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور من القائسين منع التَّخْصِيص والمصير الحديث: 1723 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 إِلَى / أَن / الانتقاض آيَة بطلَان الْعلَّة. والانتقاض هُوَ " وجود " مَا قدره المستنبط عِلّة مَعَ انْتِفَاء الحكم. وَذهب " أَصْحَاب " أبي حنيفَة إِلَى تَجْوِيز تَخْصِيص الْعلَّة، ويؤثر ذَلِك عَن أبي حنيفَة، وَقد حُكيَ عَن مَالك أَيْضا. وَحَقِيقَة هَذَا الأَصْل تؤول إِلَى مَا نبنيه. وَهُوَ أَن الْمُعَلل إِذا ناط بِالْعِلَّةِ حكما، فَكَأَنَّهُ يَقُول: هَذِه الْعلَّة علم للْحكم فِي كل صُورَة " عدمنا " فِيهَا النَّص فنقدرها أَمارَة بِشَرْط انْتِفَاء مَا يُبْطِلهَا. قَالُوا: وَهَذَا كَمَا يَقُول الْقَائِل مَا أخْبركُم بِهِ فلَان عني - وَأَنا صَاحبه - فاعلموا أَنه صَادِق فَإِن رددت عَلَيْهِ فاعلموا كذبه. فَهَذَا مَنْهَج مَذْهَبهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 1725 - ثمَّ اعلموا بعد ذَلِك إِن الَّذين / جوزوا / تَخْصِيص الْعلَّة المستأثرة المستنبطة، اخْتلفُوا فِي جَوَاز تَخْصِيص عِلّة صَاحب الشَّرِيعَة. فَذهب ذاهبون إِلَى جَوَاز ذَلِك /. وَذهب آخَرُونَ إِلَى منع تَخْصِيص عِلّة صَاحب الشَّرِيعَة، وَقَالُوا: إِذا وَردت لَفْظَة عَن صِيغَة التَّعْلِيل من صَاحب الشَّرِيعَة، فَإِن اطردت، جَازَ أَن تكون عِلّة. وَإِن عدم الحكم مَعَ وجودهَا، تبين لنا أَن صَاحب الشَّرِيعَة لم يُعلل بهَا أصلا، وَيحمل لَفظه فِي التَّعْلِيل على خلاف ظَاهره فَإِن لفظ التَّعْلِيل قد يرد، وَلَا يُرَاد بِهِ التَّعْلِيل. وَذَهَبت طَائِفَة من الْمُعْتَزلَة إِلَى الْفرق بَين الْحَظْر والتحليل. فَقَالُوا: مَا نصب علما للحظر " لم يجز " وَلَو اخْتصَّ بَطل. وَمَا نصب علما لتحليل أَو إِيجَاب أَو نَحْوهمَا مِمَّا لَا يكون حظرا، فتخصيصه لَا يُبطلهُ فَهَذَا بَيَان الْمذَاهب. 1726 - وَمَا صَار إِلَيْهِ الْفُقَهَاء وَمن لم يحصل حقائق الْأُصُول أَن هَذِه الْمَسْأَلَة من القطعيات حَتَّى قطعُوا بِبُطْلَان الْعلَّة إِذا انتقضت، كَمَا الحديث: 1725 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 " قطعُوا " ببطلانها إِذا ضادت نصا. قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ. وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك عندنَا، بل الْمَسْأَلَة من المجتهدات، فَلَا نقطع فِيهَا بِجَوَاب. وكل من أَخذ فِيهَا بِمُوجب غَلَبَة ظَنّه فَهُوَ مُصِيب. وَإِنَّمَا ذكرنَا لَك هَذَا، لِئَلَّا تطالب نَفسك بشرائط أَدِلَّة الْقطع " إِذا " توسطت الْمَسْأَلَة. 1727 - وَمن الْعلمَاء من يذكر فِي ذَلِك تَفْصِيلًا، فَيَقُول: إِن نصب الْمُعَلل الْعلَّة وأطلقها فنقضت عَلَيْهِ، كَانَ ذَلِك إبطالا. وَإِن قَالَ عِنْد نصب الْعلَّة إِلَّا أَن يمْنَع مِنْهَا مَانع، فَلَا يقْدَح النَّقْض فِي اعتلاله قلت: وَهَذَا تَفْصِيل يتَعَلَّق بتأديب الجدل، وَإِلَّا فَمن يعْتَقد أَن النَّقْص لَا يقْدَح فِي الْعلَّة، فَلَا يَنْبَغِي أَن يفصل بَين الْإِطْلَاق وَالِاسْتِثْنَاء. وَالَّذِي نختاره منع تَخْصِيص الْعِلَل المستفادة والواردة شرعا. 1728 - وَقد ذكر أَصْحَابنَا فِي ذَلِك " طرقا " مدخولة، مِنْهَا. مَا حُكيَ عَن " عَليّ بن حَمْزَة الطَّبَرِيّ " أَنه قَالَ فِي القَوْل بتخصيص الْعلَّة تكافؤ الحديث: 1727 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 الْأَدِلَّة، فَإِن قَائِلا لَو قَالَ: النَّبِيذ شراب مَائِع فَيحل كَالْمَاءِ. فَنَقُول لَهُ. بل هُوَ شراب مايع فَلَا يحل، كَالْخمرِ، فَلَا يكون أحد المعللين أولى من الثَّانِي مَعَ تنَاقض العلتين. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء. فَإِن كل مُعَلل مطَالب بتصحيح عِلّة أَصله، سَوَاء قَالَ التَّخْصِيص، أَو لم يقل. ثمَّ إِذا علل وَأثبت عِلّة الأَصْل، فَيكون قَول الْخصم بعد ذَلِك بِمَنْزِلَة مُعَارضَة الْعلَّة بِالْعِلَّةِ، وَقد سبق القَوْل فِيهِ. 1729 - وَقد ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَغَيره طَريقَة أُخْرَى فِي الِاسْتِدْلَال فَقَالُوا: لمن نصب عِلّة منتصبة " لَا بُد لَك " من إِثْبَات الْعلَّة بِالدَّلِيلِ. فَإِذا أثبت عِلّة الأَصْل بِالدَّلِيلِ ثمَّ جوزت اخْتِصَاص الْعلَّة فِي بعض الصُّور، فخصص الدّلَالَة بِالْأَصْلِ. وَقل أَن كل صُورَة تنصب فِيهَا هَذِه الْعلَّة، فَلَا بُد من إِقَامَة الدّلَالَة عَلَيْهَا على التَّخْصِيص. فَلَا نستفيد بِالْعِلَّةِ جمع الْفَرْع وَالْأَصْل فِي عِلّة دلّت عَلَيْهَا دلَالَة وَاحِدَة. الحديث: 1729 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 وَأَطْنَبَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَغَيره من ذَلِك أَن من اسْتَأْثر عِلّة وَإِنَّمَا نقصد جعلهَا أَمارَة فِي الحكم عَلَيْهَا. وَهَذَا فِيهِ نظر أَيْضا فَإِن لَهُم أَن يَقُولُوا: يقْصد المستنبط جعلهَا أَمارَة فِي كل صُورَة شغر عَن مَانع. 1730 - وَقد ألحق بعض أَصْحَابنَا الْعِلَل السمعية بالأدلة الْعَقْلِيَّة فَقَالُوا: مَا علق عَلَيْهِ الحكم فِي الشَّرِيعَة وَجعل علما فِيهِ، يصير بعد تعلق الحكم بِهِ بِمَنْزِلَة الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة. " وَلَا يصفوا اعْتِبَار طَريقَة " / من هَذِه الطّرق فَلَا فَائِدَة فِي الإسهاب فِيهَا. 1731 - وَالَّذِي أوثره لَك إِذا انتقضت عِلّة خصمك، وَقَالَ بالتخصيص أَن تطالبه فِي إِثْبَات عِلّة الأَصْل بِالدَّلِيلِ، وَهَذَا إِنَّمَا يتَبَيَّن بالإمتحان، وَأولى الطّرق هَذَا وَلم نقل إِلَّا بعد التنقير والتفحص. وَمِمَّا يُقَوي التَّمَسُّك بِهِ، أَن تَقول: الْعلَّة المطردة مِمَّا تمسك بهَا أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَلَا ريب " فِيهِ " وَلم تقم دلَالَة تَقْتَضِي تعبدنا بِكُل مَا يُسمى قِيَاسا، فَمَا وَقع الِاتِّفَاق عَلَيْهِ، فَهُوَ الثَّابِت. وَمَا لم تقم فِيهِ دلَالَة يلْتَحق بِمَا لَا يدل. الحديث: 1730 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 فَإِن شَرط مَا يتَمَسَّك بِهِ فِي إِثْبَات الحكم أَن يدل عَلَيْهِ مَا يقطع بِهِ وَهَذَا أَسد الطّرق إِن أثرت طرق الْحجَّاج. 1732 - وَمِمَّا تمسك بِهِ الْقَائِلُونَ بِجَوَاز التَّخْصِيص، مَا ذَكرْنَاهُ فِي خلال الْكَلَام من قَوْلهم أَنه لَا يبعد فِي الْعقل نصب الشَّيْء عِلّة إِلَّا أَن يمْنَع مِنْهُ مَانع. وَالْجَوَاب عَنهُ أَن نقُول: لَو سلم لكم ذَلِك، فَلَا حرج فِيهِ فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ من مجوزات الْعُقُول، فَلم تقم عَلَيْهِ دلَالَة تَقْتَضِي تثبيتها دَلِيلا. وَلَيْسَ كل مَا كَانَ من مجوزات الْعُقُول يحكم بتقريره، فَبَطل مَا قَالُوهُ. 1733 - وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَن قَالُوا: إِذا جَازَ لصَاحب الشَّرْع أَن يُطلق لفظا عَاما فِي ظَاهره، ثمَّ يخصصه فَيجوز ذَلِك للمعلل. فَيُقَال: إِذا منعنَا القَوْل بِالْعُمُومِ، لم يستقم مَا قلتموه. على أَن منع تَأْخِير " الْبَيَان " عَن وَقت الْحَاجة منع تَأْخِير التَّخْصِيص. ثمَّ نَظِير نصب الْعلَّة تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة إِذْ الْمُعَلل يحْتَاج إِلَى طرد علته، أَو تخصيصها فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. الحديث: 1732 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 (299) فصل الرَّد على من فرق بَين المنصوصة والمستنبطة وَمن فرق بَين عِلّة الْإِيجَاب وَعلة التَّحْرِيم 1734 - من قَالَ بِالْفَصْلِ بَين الْعلَّة " المستأثرة " " و " بَين عِلّة صَاحب الشَّرِيعَة فقد تحكم. وَالصَّحِيح التَّسْوِيَة بَينهمَا. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك، أَنه إِذا منع تَخْصِيص الْعلَّة المستأثرة - مَعَ علمنَا قطعا أَنَّهَا لَا توجب حكمهَا لعينها، وَلَكِن المستنبط يغلب على ظَنّه جعل صَاحب الشَّرِيعَة إِيَّاهَا عِلّة وأمارة - فَإِذا جوز تَخْصِيص الْمُصَرّح بِهِ من الْعِلَل فَلِأَن يجوز تَخْصِيص مَا نقدره شرعا أولى، وَهَذَا مَا لَا خَفَاء بِهِ. 1735 - فَإِن قَالُوا: إِذا كَانَت الْعلَّة منصوصة، فَلَا حَاجَة ينافيها إِلَى استنباط لنحتاج فِي الاستنباط إِلَى طرد. وَلَيْسَ كَذَلِك الْعلَّة المستأثرة. فَنَقُول: هَذَا لَا طائل تَحْتَهُ. فَإِنَّهُ إِذا جوزتم عدم الاطراد فِي الْعلَّة المنصوصة - ومقصده تَقْدِير النَّص على نصب الْعلَّة المستأثرة - فَيَنْبَغِي أَلا يُطَالب نَفسه فِي طَرِيق الاستنباط بالطرد. فَبَطل مَا قَالُوهُ جملَة وتفصيلا. الحديث: 1734 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 1736 - وَأما من قَالَ من الْمُعْتَزلَة بِجَوَاز تَخْصِيص عِلّة التَّحْلِيل وَالْوُجُوب وَمنع ذَلِك فِي عِلّة الْخطر، فَإِنَّمَا يحملهُ على ذَلِك أصل أَوْمَأ إِلَيْهِ فِيمَا سبق. وَهُوَ أَنهم قَالُوا: لَا تصح التَّوْبَة عَن قَبِيح مَعَ الْإِصْرَار على قَبِيح وَيصِح الْإِقْدَام على عبَادَة مَعَ ترك أُخْرَى. وَهَذَا يستقصى فِي غير هَذَا الْفَنّ. فَهَذَا جملَة القَوْل فِي تَخْصِيص الْعلَّة، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق. (300 فصل ) 1737 - إِذا منعنَا تَخْصِيص الْعلَّة وقدرنا اختصاصها " انتفاضا " وبطلانا، فَلَو علل الْمُعَلل، فَوجه القادح عَلَيْهِ نقضا، فرام الْمُعَلل دَفعه بالتفصيل وَالتَّفْسِير فَكل تَفْسِير يُنبئ عَنهُ ظَاهر اللَّفْظ وَقَضيته " فالتمسك " بِهِ بوضح اندفاع النَّقْض. وَمِثَال ذَلِك: إِنَّا إِذا قُلْنَا فِي الْمُتَوَلد بَين الشَّاء / والظباء " حَيَوَان تولد بَين حيوانين وَلَا زَكَاة فِي أَحدهمَا. فَلَا زَكَاة فِيهِ ". فَإِذا " ألزم الملزم " على هَذَا الاعتلال " بالمتولد " بَين المعلوفة والسائمة. كَانَ للمعلل أَن يَقُول: المعلوفة مِمَّا تجب الزَّكَاة فِيهَا على الْجُمْلَة وَلَيْسَ كَذَلِك الظبأ، وَقد قيدت الاعتلال بِنَفْي الزَّكَاة. وَظَاهر النَّفْي الْمُطلق. الحديث: 1736 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 1738 - يُنبئ عَن الْعُمُوم. فَهَذَا الضَّرْب مَقْبُول. وَلَا تَظنن أَن النَّقْض ينْدَفع بالتفسير وَلكنه ينْدَفع بقضية اللَّفْظ. اقْتِضَاء عُمُوم اللَّفْظ، وَالتَّفْسِير إِيضَاح لَهُ. وكل تَفْسِير لَا يُنبئ عَنهُ قَضِيَّة اللَّفْظ بِإِطْلَاقِهِ، فَلَا معول عَلَيْهِ فِي دفع النَّقْض. وَهُوَ مثل أَن يَقُول الْقَائِل مطعوم فَلَا يجوز بيع بعضه بِبَعْض مُتَفَاضلا فَإِذا نقض عَلَيْهِ اعتلاله بِالْبرِّ مَعَ الشّعير، فَلَا يَنْفَعهُ دفع النَّقْض أَن يَقُول اسْم المطعوم ينْطَلق على مَا يتحد جنسه وعَلى مَا يخْتَلف جنسه وَإِنَّمَا أخصصه وأفسره بِجِهَة من جِهَات احْتِمَاله، وَهِي إِذا اتَّحد الْجِنْس. وَلَا يقبل ذَلِك مِنْهُ. إِذْ ظَاهر لَفظه لَا يُنبئ عَن هَذَا التَّفْصِيل. وَلَو سَاغَ قبُول مثل ذَلِك لما تصور لَهُ لُزُوم نقضا أصلا، فَإِن كل مُعَلل نقضت علته، لَا يعجز عَن حمل الْعلَّة على صُورَة يطرد فِيهَا. الحديث: 1738 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 (بَاب يجمع أصولا مُتَفَرِّقَة فِي أَحْكَام الْقيَاس) (301) فصل جَوَاز تَعْلِيل الحكم بِأَكْثَرَ من عِلّة 1739 - مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم القائسين أَنه يجوز ثُبُوت الحكم بعلل تستقل كل وَاحِدَة مِنْهَا - لَو قدرت مُنْفَرِدَة - فِي اقْتِضَاء الحكم. نَحْو الحديث: 1739 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 الْمَرْأَة يجْتَمع فِيهَا الصَّوْم وَالْإِحْرَام وَالْحيض فَكل سَبَب من هَذِه الْأَسْبَاب - لَو قدر مُنْفَردا - تعلق بِهِ اقْتِضَاء تَحْرِيم الوطى، فَإِذا اجْتمعت فَالْحكم ثَابت بهَا " جمع ". 1740 - وَذهب بعض من لم يحصل مجاري الْقيَاس، إِلَى أَن الحكم لَا يُعلل بِأَكْثَرَ من عِلّة وَاحِدَة فَنَقُول: قد قدمنَا فِي أَبْوَاب سلفت، أَن سَبِيل الْعِلَل الشَّرْعِيَّة سَبِيل الأمارات وَذكرنَا أَنَّهَا لَا توجب الحكم لذواتها وأنفسها وَلَا يستبعد عقلا وَلَا سمعا أَن ينصب على تحقق الشَّيْء أَمَارَات، كَمَا لَا يستبعد نصب أَمارَة وَاحِدَة. وَهَذَا مَا لَا خَفَاء بِهِ. الحديث: 1740 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 1741 - ثمَّ نفرض الْكَلَام فِي أَمْثَال الصُّور الَّتِي صدرنا الْبَاب بهَا، ونقسم الْكَلَام فَنَقُول: تَحْرِيم الوطئ مُعَلل بِاتِّفَاق بَيْننَا وَبَين من يخالفنا فِي هَذَا الْفَصْل، فَمَا علته؟ فَإِن عين معنى من تِلْكَ الْمعَانِي، وَنفى مَا عداهُ قوبل قَوْله بِمثلِهِ. فَإِن عين معنى آخر سوى مَا عينه وَنفى مَا عداهُ عِلّة، فيتقابل الْقَوْلَانِ. وَإِن جعل جَمِيعهَا عِلّة وَاحِدَة كَانَ ذَلِك مستحيلا فَإنَّا نعلم أَن من حكم الْعلَّة، أَنَّهَا إِذا انخرمت لعدم وصف من أوصافها فَلَا يثبت الحكم بهَا، وَلَو فقد بعض مَعَاني الأَصْل، لم يرْتَفع الحكم فَدلَّ أَنَّهَا لَيست عِلّة. فَلَا يبْقى بعد بطلَان هَذِه الْأَقْسَام إِلَّا مَا قُلْنَاهُ. 1742 - فَإِن قَالُوا: كل هَذِه الْمعَانِي علل. وَلَكِن لَهَا أَحْكَام. وَإِنَّمَا المستنكر ثُبُوت حكم وَاحِد بعلل قَالُوا: فَحكم التَّحْرِيم بِالْحيضِ غير حكم التَّحْرِيم بالاحرام، فهما إِذا حكمان. وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ رَكِيك جدا، فَإِن تَحْرِيم الوطئ لَا يعقل تعدده فِي الصُّورَة الَّتِي فَرضنَا الْكَلَام فِيهَا، وَقد قدمنَا فِي ذَلِك مَا فِيهِ غنى، عِنْد نَفينَا اشْتِرَاط الإنعكاس فِي الْعِلَل السمعية. 1743 - فَإِن قيل لَو جَازَ ثُبُوت حكم بعلل مُخْتَلفَة، لجَاز ذَلِك فِي الْعِلَل الْعَقْلِيَّة وَلَا خلاف أَن الحكم الْوَاحِد، لَا يثبت بعلل عقلية مُخْتَلفَة. قيل لَهُم: لم جمعتم بَينهمَا؟ وَمَا وَجه تَحْقِيق هَذِه الدَّعْوَى فَلَا / يرجعُونَ إِلَى تَحْصِيل عِنْد توجه الطّلب. الحديث: 1741 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 (302) فصل جَوَاز التَّعْلِيل بِالْعِلَّةِ القاصرة 1744 - لَيْسَ من شَرط صِحَة الْعلَّة، تعديها عَن الْمحل الَّذِي قدرت عِلّة فِيهِ. هَذَا مَا صَار إِلَيْهِ الشَّافِعِي وَمَالك ومعظم الْمُحَقِّقين من الْأُصُولِيِّينَ، رَضِي الله عَنْهُم. الحديث: 1744 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 1745 - وَذهب بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة إِلَى منع ذَلِك. وشرطوا فِي صِحَة الْعلَّة تعديتها وَمِثَال صُورَة الْخلاف. تَعْلِيل الرِّبَا فِي الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم فِي كَونهمَا ثمنين. فَهَذَا صَحِيح، مَعَ أَن الْعلَّة لَا تعدوهما. وأبطل أَصْحَاب أبي حنيفَة رَحِمهم الله ذَلِك. 1746 - وَالدَّلِيل على تجويزه أَن نقُول: قد أوضحنا فِيمَا قدمنَا أَن الْعِلَل السمعية تحل مَحل الأمارات وَلَا اسْتِيعَاب فِي نصب الأمارات أَن نصبت فِي الشَّيْء: امارة تتخصص بِهِ وَلَا تعدوه. فَإِن نصب الأمارة يَنْقَسِم فَرُبمَا ينصب الناصب أَمارَة فِي أَشْيَاء، وَرُبمَا ينصبها فِي شَيْء وَاحِد، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك ويكشف الْحق فِيهِ، أَن نقُول: إِذا طردت عِلّة فِي مسَائِل فَهِيَ لَا تعدو تِلْكَ الْمسَائِل، كَمَا أَن الْعلَّة، لم تعد الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم. فَمَا من عِلّة يتَمَسَّك بهَا، إِلَّا وَهِي مُخْتَصَّة من وَجه، غير متعدية. 1747 - ومعول الْقَوْم فِي الْمَسْأَلَة على نُكْتَة وَاحِدَة. أَنهم قَالُوا: إِذا ثَبت الرِّبَا فِي الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم نصا. فَلَا فَائِدَة فِي تعليلها. فَإِن الْعلَّة إِنَّمَا تطلب لتفيد مَا لم يفده النَّص، فَإِذا اسْتَقل النَّص بِإِثْبَات حكم، فَلَا يبْقى لِلْعِلَّةِ الْمُطَابقَة لَهُ فَائِدَة. قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه نِهَايَة الْمحَال. فَإِن مُطَابقَة الْعلَّة النَّص يقويها وَلَا يضعفها، إِذْ لَو كَانَ فِي مَسْأَلَة نَص. فاطرد فِيهَا قِيَاس لم يكن النَّص مُبْطلًا للْقِيَاس بل كَانَ عاضدا لَهُ. وَكَذَلِكَ سَبِيل كل دَلِيلين، يَجْتَمِعَانِ فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة. الحديث: 1745 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 على أَنا نقُول: إِنَّمَا الْمَقْصُود من طلب الْعلَّة - وَإِن قصرت - أَن يعلم أَن الله تَعَالَى علق الحكم فِيهَا بِطَلَب تَعْلِيله بِوَصْف من الْأَوْصَاف. وَهَذَا مَا لَا استنكار فِيهِ أصلا. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك، اتِّفَاق الكافة على جَوَاز وُرُود الشَّرْع بِالتَّعْلِيلِ الْقَاصِر إِذْ لَو قَالَ صَاحب الشَّرِيعَة. حرمت عَلَيْكُم الرِّبَا فِي الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير لِكَوْنِهِمَا نقدين كَانَ ذَلِك جَائِزا، فَإِذا جَازَ وُرُود الشَّرْع بِهِ على صِحَة الْقُصُور، لم يستنكر استثارته واستنباطه. 1748 - ثمَّ ذكر أَصْحَابنَا فِي إِيضَاح فَائِدَة الْعلَّة القاصرة طرقا نَحن نذْكر مَا نرتضي مِنْهَا. فَمِنْهَا أَن قَالُوا: فائدتها ثُبُوت الحكم عِنْد ثُبُوتهَا وانتفاؤه عِنْد انتفائها. وَهَذَا الْقَائِل لَا يجوز تَعْلِيل الحكم بِالْعِلَّةِ اللَّازِمَة الَّتِي يتَوَقَّع زَوَالهَا مَعَ " وجود مَا " علل حكمه. وَهَذِه الطَّرِيقَة فِيهَا نظر. وَالصَّحِيح جَوَاز التَّعْلِيل بِالْعِلَّةِ اللَّازِمَة والمتحولة. وَذكر بَعضهم أَن فَائِدَة التَّعْلِيل بالثمنية نفي الرِّبَا عَن الْجَوَاهِر الَّتِي لَا تتَحَقَّق فِيهَا الثمنية. 1749 - فَإِن قَالَ قَائِل: فَالَّذِي ذكرتموه هُوَ " الْعَكْس " بِعَيْنِه، وَالْعَكْس لَيْسَ من شَرط صِحَة الْعلَّة، فكأنكم حصرتم فَائِدَة الْعلَّة فِي عكسها. الحديث: 1748 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 وَالْجَوَاب عَن ذَلِك أَن نقُول: لسنا نشترط الإنعكاس أصلا. وَلَا مهما ثَبت حكم فِي صُورَة بِنَصّ أَو غَيره، وانتفى الدَّلِيل عَن مثل ذَلِك الحكم فِي غير تِلْكَ الصُّورَة وَاقْتضى السبر جلب عِلّة قَاصِرَة فنعلم عِنْد بطلَان طرد الْعلَّة تعديها وَانْتِفَاء سَائِر الْأَدِلَّة فِي غير الصُّورَة الْمَطْلُوب تعليلها، أَن الحكم يَنْتَفِي بِغَيْر الصُّورَة المعللة. فَتدبر ذَلِك. 1750 - وَاعْلَم أَنا لَا نعلم بطرد الْعلَّة انْتِفَاء الحكم عِنْد انتفائها، وَلَكنَّا نعلم ذَلِك بالشرائط الَّتِي ذَكرنَاهَا وَالَّذِي / " نؤثر " لَك التعويل عَلَيْهِ، مَا قدمْنَاهُ من أَن طلب الْفَوَائِد على الْمنْهَج الَّذِي راموه ضرب من التعسف، وَالَّذِي يطْلب فِي الْعلَّة أَن يقدر ثُبُوتهَا أَمارَة لحكم، أما فِي صُورَة " إِذْ " نصب الأمارة إِلَى اخْتِيَار الناصب فَإِن شَاءَ عَداهَا وَإِن شَاءَ خصها. وَلذَلِك يَسْتَحِيل عِنْد ذَوي التَّحْقِيق وُرُود النُّطْق بِالتَّعْلِيلِ الْخَاص شرعا. فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. فَإِنَّهَا أَمَارَات لَا يشْتَرط فِيهَا مَا قدمْنَاهُ. 1751 - وَمِنْهَا أَن الحكم الْوَاحِد فِي الْعقل لَا يُعلل بالعلتين، لَا متماثلتين وَلَا مختلفتين غير متضادتين. وَأما الْعِلَل السمعية، فَلَيْسَتْ كَذَلِك، إِذْ قد تثبت علل مُخْتَلفَة لحكم وَاحِد، كَمَا قدمْنَاهُ. قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَإِذا جَوَّزنَا الْعلَّة القاصرة، فَلَا ننكر أَن تكون فِي الأَصْل عِلَّتَانِ، إِحْدَاهمَا قَاصِرَة وَالْأُخْرَى متعدية، فيقاس عَلَيْهِ بِالْعِلَّةِ الحديث: 1750 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 المتعدية. ثمَّ ثُبُوت الْعلَّة المتعدية فِي الأَصْل، لَا يمْنَع من الحكم بِصِحَّة القاصرة مَعهَا. 1752 - فَإِن قَالَ قَائِل: ألستم قُلْتُمْ: أَن فَائِدَة الْعلَّة القاصرة انْتِفَاء الحكم عِنْد انتفائها وَقد أبطلتم ذَلِك الأَصْل بِمَا ذكرتموه. قُلْنَا: لَو أحطت علما بِمَا سبق لأغناك ذَلِك عَن هَذَا السُّؤَال. فَإنَّا ذكرنَا أَن الْعلَّة القاصرة لَا توجب الحكم عِنْد انتفائها، وَلَكِن إِذا لم نجد عِلّة متعدية وَمَا قَامَت دلَالَة تَقْتَضِي مثل حكم الأَصْل لغيره. فَعِنْدَ اجْتِمَاع هَذِه الْأَوْصَاف، يَنْتَفِي الحكم " فِيمَا " عدا الأَصْل الْمُعَلل بِالْعِلَّةِ القاصرة. فَهَذَا قَوْلنَا فِي ثُبُوت الحكم الْوَاحِد بالعلل الْمُخْتَلفَة. 1753 - وَأما ثُبُوت الحكم الْوَاحِد بعلل " متضادة " فَلَا يَتَقَرَّر مَعَ تَصْوِير اجْتِمَاع الْعِلَل، لتضادها. وَلَكِن لَو قدرت ثُبُوت حكم عِنْد ثُبُوت معنى / ثمَّ قدر ذَلِك الحكم بِعَيْنِه مَعَ ضد ذَلِك الْمَعْنى، مُعَللا بذلك الضِّدّ، فَلَا يستبعد ذَلِك فِي حق مجتهدين، على قَوْلنَا بتصويب الْمُجْتَهدين. أَو فِي حق مُجْتَهد مَعَ تغاير الْوَقْت وتبدل الِاجْتِهَاد. (303) فصل (فِي ذكر جمل من أَحْكَام الْعِلَل الْعَقْلِيَّة وَالْفرق بَينهَا وَبَين الْعِلَل السمعية) 1754 - قد ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ جملا من أَحْكَام الْعِلَل الحديث: 1752 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 الْعَقْلِيَّة، وَمَا رام بذلك استقصاء القَوْل فِيهَا، وَلَكِن قصد التَّنْبِيه على مَا تفترق فِيهِ الْعِلَل الْعَقْلِيَّة والسمعية. فيحيط بذلك علما فِي مجاري الْكَلَام. 1755 - فَاعْلَم أَن الْعلَّة الْعَقْلِيَّة تفارق السمعية من أوجه: أَحدهَا: أَن الْعِلَل الْعَقْلِيَّة توجب أَحْكَامهَا لذواتها وأنفسها، حَتَّى لَا يسوغ تقديرها مَعَ انْتِفَاء الْأَحْكَام، وَلَيْسَ كَذَلِك السمعية، وَقد سبق القَوْل فِيهِ. وَمِنْهَا أَن الْعِلَل الشَّرْعِيَّة قد تفْتَقر فِي اقْتِضَاء الْأَحْكَام إِلَى شَرط، حَتَّى لَا تَقْتَضِيه دون الشَّرْط، وَلَيْسَ كَذَلِك الْعَقْلِيَّة. فَإِن قيل: أَلَيْسَ الْعلم يفْتَقر إِلَى الْحَيَاة فِي كَونه مُوجبا لحكمه؟ قُلْنَا: هَذَا زلل. فَإِن الْعلم لَا يفْتَقر إِلَى الْحَيَاة فِي إِيجَابه الحكم، وَلَكِن يفْتَقر إِلَى الْحَيَاة فِي ثُبُوته ووجوده، ثمَّ إِذا وجد، لم يكن إِلَّا مُوجبا. وَالْعلَّة السمعية قد تُوجد وَلَا توجب الحكم بِشَرْطِهِ. وَذَلِكَ نَحْو وجود الطّعْم فِي الجنسين، مَعَ انْتِفَاء شَرطه وَهُوَ اتِّحَاد الْجِنْس. وَمِنْهَا أَن الْعلَّة الْعَقْلِيَّة، لَا تكون إِلَّا معنى ثَابتا، وَلَا يسوغ أَن يكون النَّفْي عِلّة عقلا، وَيجوز أَن ينْتَصب الانتفاء عِلّة سمعا، فَإِن سَبِيلهَا سَبِيل " الْإِمَارَة " وَالنَّفْي قد يدل كَمَا يدل الْوُجُود وَمِنْهَا أَن الْعلَّة الْعَقْلِيَّة تخْتَص بِذَات من لَهُ الحكم مِنْهَا، اخْتِصَاص الْعلم الْقَائِم بمحله فَإِنَّمَا يُوجب الْعلم حكمه، للمحل الَّذِي قَامَ بِهِ. على مَذْهَب أهل الْحق، وَلَيْسَ كَذَلِك علل السّمع. الحديث: 1755 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 فَأَما إِذا اتَّحد الْمُجْتَهد، وَقدر معنى عِلّة وَقدر ضِدّه أَيْضا عِلّة، وكل وَاحِدَة من العلتين مُسْتَقلَّة بِنَفسِهَا فَهَذَا يبعد. على أَنا لَا نقطع فِي بُطْلَانه وَذَلِكَ نَحْو أَن يعلق حكم بِقِيَام " و " يعلق ذَلِك الحكم بِعَيْنِه بضد الْقيام وَهُوَ الْقعُود، وَهُوَ يستبعد ذَلِك. وَهَذَا مِمَّا يستقصى فِي كتاب الِاجْتِهَاد، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. 1756 - فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَل يسوغ ثُبُوت الحكم الْوَاحِد بأمارتين متماثلتين، لَو قدرت كل " وَاحِدَة " مِنْهُمَا مُنْفَرِدَة. لأفادت الحكم. قُلْنَا: هَذَا لَا معنى لَهُ. فَإِنَّهُمَا إِذا كَانَتَا متماثلتين، لَا يظْهر فيهمَا سَبِيل التَّعَدُّد فِي مَنْهَج الْقيَاس، فَإِن القائس يعلم كَون ذَلِك الْجِنْس علما " قدرَة " متحدا أَو مُتَعَددًا. فَلَيْسَ يُؤثر الِاتِّحَاد والتعدد فِيمَا هَذَا سَبيله فَهَذَا وَاضح. 1757 - ويتصل بِهَذَا الْفَصْل الَّذِي انتهينا إِلَيْهِ، أَن نعلم أَن الْعلَّة السمعية لَا تَتَضَمَّن حكمين مثلين على الْمُكَلف، مثل أَن نقُول: الشدَّة فِي الْخمر تَتَضَمَّن تحريمين. فَذَلِك بَاطِل. فَإِن التَّحْرِيم لَا يتزايد وَلَا يتَحَقَّق فِي الشَّيْء الْوَاحِد ثُبُوت عدد من التَّحْرِيم وَهَذَا بَين لَا خَفَاء بِهِ. " فَهَذَا الَّذِي حمل " فِي التَّفْرِقَة بَين الْعِلَل الْعَقْلِيَّة والسمعية، وَقد الحديث: 1756 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 يفْتَقر البابان من غير الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَلَيْسَ فِي استيعابها كَبِير غَرَض فِي هَذَا الْفَنّ. وَلَكِن من أحَاط علما بحقائق الْعِلَل الْعَقْلِيَّة فِي فن الْكَلَام عرف جملَة وُجُوه الِافْتِرَاق. (304) فصل (جَوَاز إِثْبَات الْكَفَّارَات وَالْحُدُود بِالْقِيَاسِ) 1758 - مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم القائسين، تسويغ إِثْبَات الْكَفَّارَات وَالْحُدُود بالأقيسة إِذا لم يمْنَع مِنْهَا بعض الْمَوَانِع الَّتِي قدمناها وَلَا فصل بَينهَا و / بَين / مَا عَداهَا من الْأُصُول الَّتِي تستنبط عللها. الحديث: 1758 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 1759 - وَذهب بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة رَحمَه الله إِلَى منع الْقيَاس فِي الْكَفَّارَات وَالْحُدُود ثمَّ لَهُم مناقضات واضطراب يبين فِي أثْنَاء الْفَصْل فَنَقُول: قدمنَا إِن الأقيسة سَبِيلهَا نصب الأمارات وَلَا تدل بذواتها على الْأَحْكَام لَوْلَا تَقْدِير نصبها عللا. فَإِذا وضح ذَلِك، فَلَا اسْتِحَالَة فِي نصب الأمارات فِي الْكَفَّارَات والعقوبات كَمَا لَا اسْتِحَالَة فِيهَا فِي " الْمُعَاوَضَات " وَالطَّلَاق وَالْعِتْق، وَمَا أشبههَا مِمَّا اتفقنا على اجراء الأقيسة فِيهَا، واستنباط مَعَانِيهَا. 1760 - وَمِمَّا نعول عَلَيْهِ أَن نقُول: من يمْنَع الْقيَاس فِيمَا فِيهِ نتكلم، لم يخل أما أَن يمنعهُ لكَون الْقيَاس غير مفض إِلَى الْعلم، فَيلْزم على ذَلِك إِلَّا نقبل فِيهِ اخبار الْآحَاد. وَأَن لَا نثبت الْعُقُوبَات بِشَهَادَة الشُّهُود، من حَيْثُ إِن شَهَادَة الشُّهُود لَا تفضى إِلَى الْقطع، مَعَ تَجْوِيز كذبهمْ. وَإِن منع الْقيَاس لاتساعه فِي أَصْلَب من أصُول من أصُول الشَّرِيعَة، فَهَذَا ادِّعَاء لَيْسَ فِي أصُول الشَّرِيعَة مَا يمْنَع من طرد الْقيَاس فِيهَا، فَلَا يذكرُونَ معنى يرومون بِهِ " منع " الْقيَاس إِلَّا ويلجيهم ذَلِك إِلَى رد أصل الْقيَاس. ثمَّ نقُول لَهُم: ألستم " قستم " " لُزُوم " الْكَفَّارَات بِالْأَكْلِ عَامِدًا فِي الحديث: 1759 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 نَهَار رَمَضَان على لُزُومهَا فِي المواقعة. فَهَل ذَلِك مِنْكُم، إِلَّا إِثْبَات كَفَّارَة فِي حق الطاعم بِالْقِيَاسِ. 1761 - فَإِن قَالُوا: ثَبت أصل الْكَفَّارَات بِالْقِيَاسِ وَلَكِن أثبتنا لَهَا محلا فِي الإلتزام وَهَذَا مَا لَا " استنكار " فِيهِ. فَيُقَال لَهُم: هَذَا ضرب من التَّدْلِيس، فَإِنَّكُم أثبتم وجوب الْكَفَّارَة قِيَاسا فِي حق / الطاعم، فَهُوَ تَصْرِيح مِنْكُم بِإِثْبَات الْكَفَّارَة بطرِيق الِاعْتِبَار. وَهَذَا سَبِيل قياسنا. فَإنَّا لَا نروم بِالْقِيَاسِ إِثْبَات كَفَّارَة زَائِدَة على الْكَفَّارَات، إِذْ قد منع الْإِجْمَاع ذَلِك، كَمَا منع إِثْبَات صَلَاة سادسة، وَحج ثَان، وَصَوْم شهر سوى رَمَضَان. فَبَطل مَا قَالُوهُ وَصحت مناقضتهم. 1762 - فَإِن قَالُوا: الْكَفَّارَات تدرأ بِالشُّبُهَاتِ وَكَذَلِكَ الْعُقُوبَات. والأقيسة لَا تُفْضِي إِلَّا إِلَى غلبات الظنون، فَلَا يثبت بهَا مَا يدْرَأ بِالشُّبْهَةِ. قيل لَهُم: فَلَا تثبتوها بِخَبَر الْوَاحِد وَلَا تحكموا فِيهَا بِشَهَادَة الشُّهُود على إِنَّا نقُول: الأقيسة، وَإِن كَانَت من غلبات الظنون، فقد قَامَت الدّلَالَة القاطعة على انتصاب غَلَبَة الظَّن، أَمارَة على الحكم. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الأَصْل برآءة الذمم عَن الدُّيُون والحقوق، ثمَّ تطرد فِيهَا الأقيسة. فَبَطل مَا قَالُوهُ. 1763 - فَإِن قَالُوا: الْعُقُوبَات وَجَبت لمقارنة الجرائم، وَالْكَفَّارَات وَجَبت تمحيصا للذنوب. ثمَّ مبالغ الذُّنُوب والآثام لَا يعلمهَا إِلَّا الله تَعَالَى. وَكَذَلِكَ مُوجبَات الْعُقُوبَات فَلَا سَبِيل إِلَى دركها بالعبر. الحديث: 1761 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 قيل لَهُم: هَذَا حدس مِنْكُم، وَتمسك بِبَعْض شبه نفاة الْقيَاس. فَإِن " لنفاة الْقيَاس أَن يَقُولُوا " إِن الْأَوْصَاف الَّتِي تعلقون الْأَحْكَام عَلَيْهَا لَا تنضبط وَلَا تَنْحَصِر، فليزم من ذَلِك حسم أَبْوَاب الْقيَاس جمع. فَبَطل مَا قَالُوهُ. 1764 - فَإِن قَالُوا: لَو جَازَ إِثْبَات كَفَّارَة بِالْقِيَاسِ، لجَاز إِثْبَات صَلَاة سادسة بِالْقِيَاسِ. قُلْنَا: كل مَا يمْنَع مِنْهُ الْمَوَانِع الْمُتَقَدّمَة، فَلَا تمسك فِيهِ بطرق الْقيَاس وكل مَا لَا يمْنَع مَانع جرى الْقيَاس فِيهِ. وَإِثْبَات صَلَاة سادسة يمْنَع مِنْهُ إِجْمَاع الْأمة، وَكَذَلِكَ إِثْبَات كَفَّارَة سوى الْكَفَّارَات الثَّابِتَة فِي الشَّرِيعَة. (305) فصل الْقلب 1765 - ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فصولا مُتَفَرِّقَة فِي الْقلب، وَمَا الحديث: 1764 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 يقْدَح مِنْهُ، وَمَا لَا يقْدَح مِنْهُ. إعلم، إِنَّا نَبْنِي القَوْل فِي الْقلب على القَوْل بإن الْمُصِيب وَاحِد ثمَّ نذْكر حكمه على القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين. إِن شَاءَ الله تَعَالَى. 1766 - وَأول مَا نحتاج أَن نبدأ بِهِ: الْإِيمَاء إِلَى تعَارض الْعِلَل. فَإِذا عورضت عِلّة بعلة، وهما متباينتان فِي " أصليهما " وفرعيهما، فعلى المسؤول فِي ذَلِك أَن يبطل عِلّة خَصمه لتسلم علته عَن الْمُعَارضَة. أَو يسْلك طرق الرجيح على مَا سَنذكرُهُ / فِي / سَبِيل تَرْجِيح الْعِلَل، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فَلَو عجز عَن الْإِبْطَال وَالتَّرْجِيح، كَانَ مُنْقَطِعًا. 1767 - فَإِذا وضح ذَلِك على هَذَا الأَصْل، فَمن قبيل الْمُعَارضَة أَيْضا مُعَارضَة عِلّة الأَصْل. مثل أَن يستنبط القائس من أَصله عِلّة وَيجمع بهَا بَين فرع وأصل، فَيَقُول الْمُعْتَرض: لَيست الْعلَّة فِي الأَصْل مَا علقت الحكم عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْعلَّة كَذَا. فعلى الْمُعَلل أَن يثبت عِلّة الأَصْل بطرِيق من الطّرق الَّتِي قدمناها فِي " بَاب إِثْبَات " الْعِلَل. فَإِذا قَامَت الدّلَالَة على علته، فَلَا يقْدَح الحديث: 1766 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 فِي قِيَاسه ذكر الْخصم عِلّة أُخْرَى اللَّهُمَّ / إِلَّا / وَإِن ثَبت للخصم مَا ادَّعَاهُ عِلّة، بطرِيق من طرق إِثْبَات الْعلَّة فتتعارض الْأَدِلَّة، وعَلى المسؤول إبِْطَال مَا قَالَه الْخصم، أَو سلوك طَرِيق التَّرْجِيح. 1768 - وَمِمَّا يَلِيق بذلك، إِن الْخصم لَو ذكر فِي الأَصْل عِلّة غير متعدية، وَقد ذكر الْمُعَلل عِلّة عَداهَا إِلَى الْفَرْع فَلَا يقْدَح مَا قَالَه فِي الْقيَاس. وللمعلل فِي الْجَواب طَرِيقَانِ أَحدهمَا: أَن يَقُول بالعلتين جَمِيعًا فِي الأَصْل. وَلَا يستنكر أَن يكون فِي الأَصْل عِلّة قَاصِرَة وَأُخْرَى متعدية. فتقاس عَلَيْهَا المتعدية وَإِن امْتنع الْقيَاس بالقاصرة. وَالْوَجْه الآخر أَن يَقُول: إِنَّمَا يقْدَح تعَارض العلتين إِذا تنافيا، وَلَيْسَ بَين الْعلَّة القاصرة وَالْعلَّة المتعدية تناف فِي مُوجب الْعلَّة القاصرة. وَلَيْسَ من شَرط الْعلَّة أَن يعْدم الحكم بعدمها، حَتَّى نقُول: إِن الْعلَّة القاصرة إِذا " لم يتَعَدَّى " فِي الْفَرْع لزم انْتِفَاء الحكم عَن الْفُرُوع. وَهَذَا بَين لكل متأمل. ومثاله إِنَّا إِذا قُلْنَا فِي ظِهَار الذمى: كل من صَحَّ طَلَاقه صَحَّ ظِهَاره كَالْمُسلمِ. فَإِذا قَالَ الْخصم: الْمَعْنى فِي الْمُسلم أَنه يَصح مِنْهُ التفكير فَيُقَال للسَّائِل إِن كَانَ حنفيا: هَذِه عِلّة قَاصِرَة، وأصلكم القَوْل بإبطالها، فَكيف نصبتموها الحديث: 1768 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 عِلّة؟ وَإِن لم يكن من نفاة الْعلَّة القاصرة، فكلا منا عَلَيْهِ بِمَا قدمْنَاهُ من الطَّرِيقَيْنِ. 1769 - فَإِذا ثبتَتْ هَذِه الْأُصُول، فالقلب يَنْقَسِم انقساما. فَمِنْهَا: أَن يقلب القالب عِلّة الْمُعَلل وَلَا يزِيد على تَبْدِيل الحكم. ويقر وصف الْعلَّة وَأَصلهَا قرارهما، وَذَلِكَ نَحْو قَول الْقَائِل: الرَّأْس عُضْو من اعضاء الْوضُوء، فَلَا يجزى فِي إِيصَال المَاء مَا يَقع عَلَيْهِ الإسم. كَالْيَدِ وَالرجل وَالْوَجْه. فيقلب القالب وَيَقُول: فَلَا يتَقَدَّر بِالربعِ، كالأصول الَّتِي ذكرهَا الْمُعَلل. وتكثر نَظَائِر ذَلِك. وَقد اخْتلف أَرْبَاب الْأُصُول فِي ذَلِك، فَمنهمْ من قَالَ: لَا يقْدَح الْقلب فِي الْقيَاس فَإِنَّهُ مُعَارضَة فِي غير مَقْصُود " الْمُعَلل " إِذْ مَقْصُود " الْمُعَلل " نفى الِاكْتِفَاء بِمَا يَقع عَلَيْهِ الإسم فَإِذا ذكر القالب نفي التَّقْدِير بِالربعِ، فقد تعرض لما لم يتَعَرَّض لَهُ الْمُعَلل، فَلم يقْدَح فِي اعتلال. وَذهب مُعظم الْأُصُولِيِّينَ إِلَى كَونه قادحا وَذَلِكَ إِن مُعَارضَة الْعلَّة بعلة أُخْرَى، يتَعَذَّر على الْمُعَلل الْجمع بَين موجبي العلتين. فتقرره قَادِح فِي الاعتلال، كَمَا قدمْنَاهُ. وَالْقلب لَا ينحط رتبته عَن الْمُعَارضَة، بل الْمُشَاركَة فِي الأَصْل الْوَاحِد أولى بالقدح وَمَا ذكره الْقَائِل الأول من أَن " القالب " لم يتَعَرَّض لما تعرض لَهُ الْمُعَلل، غير سديد. فَإِن الْمُعَلل إِن عدم الِاكْتِفَاء بِمَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم الحديث: 1769 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 فاصلة التقدر بمبلغ، وَلَا يُمكنهُ أَن يجمع بَين عدم اعْتِبَار الِاسْم، وَبَين نفي التقدر بِالربعِ، أَو غَيره من المبالغ. وللأولين أَن ينفصلوا عَن ذَلِك ويقولوا: لَا مُعْتَبر بأصول الْمذَاهب وَإِنَّمَا الْمُعْتَبر بمقصود الْمُعَلل: فَإِذا كَانَ مَقْصُود الْمُعَلل مباينا لمقصود " القالب " لم يحكم بِبُطْلَان الْعلَّة. وَهَذَا الْقَائِل يَقُول لَو تَعَارَضَت عِلَّتَانِ مشتملتان على أصلين " متباينين " على نَحْو هَذَا، لم يكن ذَلِك تَعَارضا قادحا. وَإِنَّمَا التَّعَارُض القادح أَن تشْتَمل إِحْدَى العلتين على إِثْبَات حكم، وتشتمل الثَّانِيَة على مَا يتَضَمَّن نَفْيه فِي قَضِيَّة الْعلَّة لَا مُوجب الْمَذْهَب. وَاعْلَم إِن الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة لَا يَنْتَهِي إِلَى الْقطع، فَكل " يَأْخُذ " بِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَاده على مَا قدمْنَاهُ فِي تَخْصِيص الْعلَّة. فَهَذَا ضرب من الْقلب. 1770 - وَمن ضروب الْقلب قلب التَّسْوِيَة. نَحْو أَن يَقُول الْمُعَلل فِي طَلَاق الْمُكْره مُكَلّف مَالك للطَّلَاق، فَلَا ينفذ طَلَاقه، كالمختار. فَيَقُول القالب: فيستوي إِقْرَاره وإنشاؤه، كالمختار. فَالَّذِينَ ردوا الضَّرْب الأول من الْقلب، ردوا هَذَا الضَّرْب الثَّانِي وَهُوَ الحديث: 1770 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 أولى بالإبطال. وَالَّذين حكمُوا بِأَن الضَّرْب الأول من الْقلب قَادِح فِي الْعلَّة اخْتلفُوا فِي هَذَا النَّوْع. فَذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى إِنَّه بَاطِل، غير قَادِح فِي الْعلَّة. وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ. وَذَلِكَ لِأَن مآل الْكَلَام فِيهِ اسْتِوَاء الْفَرْع وَالْأَصْل فِي عبارَة / مَعَ اخْتِلَافهمَا فِي الحكم فَإِن إِقْرَار الْمُخْتَار و " إنشاءه " للطَّلَاق نافذان. ورام " القالب " مِمَّا ذَكرُوهُ من التَّسْوِيَة، أَلا ينفذ أَمر الْمُكْره فَكَأَنَّهُ فِي التَّحْقِيق اسْتِيفَاء حكم الشَّيْء من ضِدّه. 1771 - وَالصَّحِيح عندنَا أَنا إِذا قُلْنَا: بالنوع الأول من الْقلب تَصْحِيح قلب التَّسْوِيَة على الْجُمْلَة. فَإِن القالب يَقُول حكم الاعتلال الاسْتوَاء فِي الْفَرْع وَالْأَصْل. وَهَذَا مَا لَا اخْتِلَاف فِيهِ، وَلَيْسَ على الْمُعَلل إِلَّا تَشْبِيه الْفَرْع بِالْأَصْلِ فِي الحكم الَّذِي يرومه. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك، أَنه يجوز وُرُود الشَّرْع بذلك، إِذْ لَو قَالَ صَاحب الشَّرِيعَة، حكم الْإِقْرَار والإنشاء مستويان، قبولا وردا. كَانَ ذَلِك مُسْتَقِيمًا. الحديث: 1771 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 وَيدخل على ذَلِك إِن الْمَقْصُود بالعلل إِثْبَات الْأَحْكَام. وَإِذا " تحقق " الاسْتوَاء الْمُجَرّد، فَلَيْسَ هُوَ بِحكم فِي نَفسه. وَإِنَّمَا هُوَ عبارَة عَن ثُبُوت حكمين وَلَيْسَ الاسْتوَاء حكما زَائِدا على ثبوتهما " ليقدر " ذَلِك حكما على حياله ويعول عَلَيْهِ فِي مُسَاوَاة الْفَرْع الأَصْل. فَإِن أَحْكَام الشَّرْع مضبوطة. وَلَيْسَ من جُمْلَتهَا الاسْتوَاء. فَتدبر ذَلِك. فَإِنَّهُ يقربك من الْقطع بِبُطْلَان قلب التَّسْوِيَة على مَا اخْتَارَهُ القَاضِي رَحمَه الله فَأَما إِذا أبطلنا كَون الاسْتوَاء حكما فَحكمه مُخْتَلف نفيا وإثباتا، فَيبْطل اسْتِيفَاء حكم الشَّيْء من ضِدّه، وَيَقَع فِي الْقلب ضروب يحكم بفسادها وسنشير إِلَيْهَا عِنْد ذكر جملَة من الاعتراضات الْفَاسِدَة. (306) فصل جعل الْمَعْلُول عِلّة وَالْعلَّة معلولا 1772 - إِذا قَالَ الْقَائِل من صَحَّ طَلَاقه، صَحَّ ظِهَاره الحديث: 1772 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 كَالْمُسلمِ. فَقَالَ الْمُعْتَرض: اجْعَل الْمَعْلُول عِلّة وَالْعلَّة معلولا فَإِنَّمَا صَحَّ طَلَاق الْمُسلم لإنه صَحَّ ظِهَاره وَلَا نقُول صَحَّ ظِهَاره لِأَنَّهُ صَحَّ طَلَاقه. فَهَذَا ضرب متداول بَين الْفُقَهَاء من الِاعْتِرَاض. وَهُوَ فَاسد عِنْد الْأُصُولِيِّينَ. 1773 - " وَلَك " فِي التفصي عَنهُ طرق: أَحدهَا أَن تَقول: أثبت عِلّة الأَصْل بِالدَّلِيلِ، وَلَا يلْزَمنِي أَكثر من ذَلِك فَإِن رام السَّائِل الدّلَالَة " فَلَيْسَ " عَلَيْهِ بعد إِقَامَة الدّلَالَة على الْعلَّة المستأثرة طلب ويؤول محصول الْكَلَام فِي ذَلِك إِلَى مُعَارضَة عِلّة الأَصْل بعلة. وَقد تقصينا القَوْل. 1774 - وسلك بعض الْأَئِمَّة طَريقَة أُخْرَى فَقَالُوا: لَا نستبعد الْجمع بَين الْقَوْلَيْنِ فيسوغ تَقْدِير الطَّلَاق معلولا بالظهار وَعلة فِيهِ، وَكَذَلِكَ يسوغ مثل ذَلِك فِي الظِّهَار. وَذَلِكَ لِأَن الْعِلَل الشَّرْعِيَّة، لَا توجب معلولاتها بأنفسها. وَإِنَّمَا هِيَ أَمَارَات مَنْصُوبَة على الْأَحْكَام " مُقَيّدَة " فِي انتصابها أَدِلَّة إِلَى نصب صَاحب الحديث: 1773 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 الشَّرِيعَة إِيَّاهَا إعلاما. فَلَا يبعد إِذا على هَذَا الأَصْل تَقْدِير شَيْئَيْنِ، كل وَاحِد مِنْهُمَا عِلّة فِي الثَّانِي وَدلَالَة عَلَيْهِ، ليَكُون دَالا على قرينَة مدلولاته. وَإِنَّمَا يستنكر جعل الْمَعْلُول عِلّة فِي العقليات. إِذْ الْعِلَل فِيهَا مُوجبَة معلولاتها بأنفسها وَجُمْلَة القَوْل فِي ذَلِك كُله، إِثْبَات عِلّة الأَصْل بطريقة من الطّرق الَّتِي فرطت. (307) فصل مُشْتَمل على طرق من الاعتراضات الْفَاسِدَة يتَوَصَّل بهَا إِلَى مَا ضاهاها إِن شَاءَ الله تَعَالَى 1775 - فَمِنْهَا أَن يَقُول الْقَائِل - وَقد نصبت عِلّة فِي إِيجَاب - نصب وَصفا من الْأَوْصَاف علما على حكم، وَسلم اعْتِبَاره من القوادح، وَلم يلْزمه أَن يَجعله علما / فِي كل حكم. 1776 - وَمن الاعتراضات الْفَاسِدَة مَا يُعَارض بِهِ كثير من الْفُقَهَاء فِي الحديث: 1775 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 مَسْأَلَة افتقار الطَّهَارَة إِلَى النِّيَّة، حَيْثُ قيس الْوضُوء بِالتَّيَمُّمِ. فَيَقُول: الْمُعْتَرض: الْوضُوء تقرر فِي الشَّرْع قبل التَّيَمُّم. فَلَو كَانَ التَّيَمُّم بِمَا فِيهِ من الْأَوْصَاف، عِلّة الْوضُوء لما تَأَخَّرت الْعلَّة عَن معلولاتها، وَهَذَا ضرب من الهذيان. فَإِن الْعِلَل السمعية لَا توجب الحكم لذواتها ليراعي ذَلِك فِيهَا، بل إِنَّمَا تنتصب أَدِلَّة إِذا نصبت وَهَذَا مِمَّا يسوغ فِيهَا تَقْدِير التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير. فَإِن قَالَ السَّائِل فبماذا كَانَ كل يعرف وجوب النِّيَّة فِي الْوضُوء، قبل شرع التيمم؟ قُلْنَا هَذَا تَكْلِيف شطط من الْمسَائِل، إِذْ لَيْسَ على المسؤول إِلَّا إِقَامَة الدّلَالَة فِي الْحَالة، والتعدي للأزمان السالفة حيد عَن حد النّظر. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن المعجزات تدل على صدق الرُّسُل قطعا، ثمَّ يسوغ تَقْدِير آيَات حَادِثَة، فتدل على الصدْق، وَإِن لم يكن قبل ذَلِك فوضح فَسَاد مَا قَالُوهُ من كل وَجه. 1777 - وَمن الاعتراضات الْفَاسِدَة، إِنَّا إِذا منعنَا النِّكَاح الْمَوْقُوف وَقُلْنَا: نِكَاح لَا يتَعَلَّق بِهِ الْحل، وَالْأَحْكَام المختصة بِهِ، فَلَا يحكم بِصِحَّتِهِ " كالمتفق " عَلَيْهِ من كل نِكَاح فَاسد. فَإِذا قَالَ السَّائِل الْحل الحكم. وخصائص النِّكَاح، فروعه وَلَا يسوغ الِاسْتِدْلَال على وصف الأَصْل بالفروع. الحديث: 1777 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 فَيُقَال لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه تعسف مِنْكُم. إِذْ يجوز أَن يقوم ثُبُوت هَذِه الْأَحْكَام علما لصِحَّة النِّكَاح. ويعد انتفاؤها علما لفساد النِّكَاح. 1778 - وَمن الاعتراضات الْفَاسِدَة، مَا يعْتَرض بِهِ على قَوْلك فِي تَحْرِيم النَّبِيذ مشتد مطرب فَيحرم كَالْخمرِ. فَيَقُول الْمُعْتَرض الْخمر يفسق شَارِب قليلها بِخِلَاف النَّبِيذ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء. فَإِن " افْتِرَاق " الأَصْل وَالْفرع فِي هَذَا الحكم لَا يمْنَع إجتماعهما فِي وصف التَّحْرِيم، إِذْ يُرَاعى فِي التفسيق الِاعْتِقَاد. وَلَو شربه مُعْتَقدًا تَحْرِيمه، فسق. 1779 - وَمن الاعتراضات الْفَاسِدَة أَن يَقُول الْمُعْتَرض لَا يجوز اسْتثِْنَاء الْإِثْبَات من النَّفْي من الْإِثْبَات. وَهَذَا سَاقِط من الْكَلَام. إِذْ يجوز نصب انْتِفَاء الشَّيْء أَمارَة لثُبُوت حكم آخر. وَكَذَلِكَ على الْعَكْس مِنْهُ. والاعتراضات الْفَاسِدَة لَا تَنْحَصِر، وَإِنَّمَا ذكرنَا بَعْضهَا لجريانها على أَلْسِنَة الْفُقَهَاء. 1780 - وَذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أنواعا من الْقلب وألحقها بالاعتراضات الْفَاسِدَة مِنْهَا أَن تكون عِلّة الْخصم مبينَة عَن مَقْصُوده فتعكس الحديث: 1778 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 عَلَيْهِ " بإبهام " نَحْو أَن يعتل معتل فِي إِسْقَاط الركوعين فِي كل رَكْعَة من صَلَاة الْكُسُوف فَيَقُول صَلَاة تُؤَدّى فِي جمَاعَة، فَلَا يتَكَرَّر فِي الرَّكْعَة الْوَاحِدَة ركوعان، كَالْجُمُعَةِ وَصَلَاة الْعِيدَيْنِ. فَإِن عكس عاكس فَقَالَ: فتختص بِزِيَادَة من بَين الصَّلَوَات، كصلوات الْجُمُعَة وَالْعِيدَيْنِ، وعنى بِالزِّيَادَةِ فِي الْجُمُعَة الْخطْبَة وَنَحْوهَا. فَهَذَا الضَّرْب فَاسد على كل مَذْهَب، وَسَوَاء قُلْنَا بتصويب الْمُجْتَهدين أَو لم نقل ذَلِك. وَذَلِكَ إِن الْمُعَلل صرح بمقصوده، والعاكس لم يتَعَرَّض لمقصوده، بل أبهم الاعتلال، فَلَيْسَ بَينهمَا تناف. وَهُوَ حيد عَن مَقْصُود الاعتلال. وَالَّذِي يُوضح بطلَان هَذَا الْعَكْس، إِن الزِّيَادَة الَّتِي أطلقها العاكس إِن رام فِيهَا تتبع إسم، فَلَا فَائِدَة فِيهِ. إِذْ الْمَقْصُود من الاعتلال إِثْبَات الْأَحْكَام. وَإِن رام بذلك إِثْبَات حكم فَالْحكم الَّذِي ثَبت فِي الْفَرْع هُوَ " مُنْتَفٍ " فِي الأَصْل حَقِيقَة وَهُوَ مَقْصُود الْمُخْتَلِفين. وَالَّذِي يُوضح بطلَان هَذَا الْفَنّ أَيْضا إِن الْمُعَلل يُمكنهُ عكس هَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 الْعَكْس بِأَن يَقُول: فَلَا تخْتَص بِزِيَادَة " فِي " رَكْعَات كالأصل الْمَقِيس عَلَيْهِ. فَيبْطل الْقلب بانقلابه. وتسلم الْعلَّة. 1781 - وَألْحق القَاضِي رَضِي الله عَنهُ بِهَذَا الْفَنّ ضربا آخر من الْقلب، وَهُوَ أَنه قَالَ: إِذا قَالَ الْحَنَفِيّ فِي تَقْدِير الْمهْر، إِنَّه مَال مُقَابل لعضو، فيتقدر فِي أَصله كالنصاب فِي السّرقَة. فَلَو قَالَ القالب لَا تتقدر استباحته بِعشْرَة كَالْيَدِ، فَإِنَّهَا لَا تستباح قصاصا بِعشر، وَإِذا قطعت حدا، فَلَيْسَ ذَلِك باستباحته. قَالَ فَهَذَا الضَّرْب من الْقلب مَرْدُود فَإِنَّهُ حائد عَن قصد الْمُعَلل إِذْ قَصده إِثْبَات التَّقْدِير فِي الأَصْل. فَلَا يقْدَح فِي اعتلاله، التَّعَرُّض لنفي مبلغ مَعْلُوم. وَهَذَا الَّذِي ذكره تشبث مِنْهُ برد أصل الْقلب، وَقد ذكرنَا فِيهِ اخْتِلَافا وَمن قدر الْقلب قادحا يعد هَذَا من القوادح. 1782 - فَإِن قَالَ قَائِل: قد وعدتم فِيمَا قدمتم، وَجه الْكَلَام فِي الْقلب مَعَ تصويب الْمُجْتَهدين. قُلْنَا: لَا يزِيد الْقلب على الْمُعَارضَة، وَقد ذكرنَا حكم الْمُعَارضَة مَعَ القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين. وسنزيده إيضاحا فِي كتاب الِاجْتِهَاد إِن شَاءَ الله تَعَالَى. 1783 - وَمِمَّا يلْتَحق بالْكلَام الْفَاسِد الْجَارِي بَين أظهر الْفُقَهَاء دفع النَّقْض بالتسوية بَين الْفَرْع وَالْأَصْل وَذَلِكَ نَحْو أَن يَقُول الْحَنَفِيّ من صَحَّ مِنْهُ الحديث: 1781 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 الابتياع صَحَّ مِنْهُ النِّكَاح كالحلال. فَيُقَال لَهُ: هَذَا ينْتَقض عَلَيْك مِمَّن تَحْتَهُ أَربع نسْوَة. وَمِمَّا يحاولون بِهِ دفع مثل هَذَا النَّقْض بِأَن يَقُولُوا: إِنَّمَا غرضنا التَّسْوِيَة بَين الْحَلَال وَالْحرَام. وَالَّذِي أوردتموه نقضا مِمَّا يَسْتَوِي / فِيهِ / الْمحل وَالْمحرم فَأَي رجل مِنْهُمَا كَانَ تَحْتَهُ أَربع نسْوَة لم يَصح مِنْهُ النِّكَاح. وَهَذَا فِي نِهَايَة الْبطلَان. مَعَ القَوْل بِأَن تَخْصِيص الْعلَّة انتقاضها. ويتضح فَسَاد ذَلِك من وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَن نقُول: لَا تخلون إِمَّا أَن تقيسوا على مَحل، لَيْسَ تَحْتَهُ أَربع نسْوَة، أَو تقيسوا على مَحل تَحْتَهُ أَربع نسْوَة. فَإِن قستم على مَحل تَحْتَهُ أَربع نسْوَة، فَكيف يَسْتَقِيم لَك مَعَ ذَلِك، ادِّعَاء الْحل فِي الأَصْل وَهُوَ مَمْنُوع إِجْمَاعًا، وَإِن قستم على من لَيْسَ تَحْتَهُ أَربع نسْوَة، فَكيف يتَحَقَّق مَا ذكرتموه من التَّسْوِيَة؟ وَهَذَا أصلكم! على إِن مَا ذكرتموه زِيَادَة نقص وَهَذَا بَين " للمتأمل ". 1784 - وَمِمَّا يذكرُونَ من هَذَا الْقَبِيل الدَّلِيل على النَّقْض. فمهما منع المعتل مَا ألزم نقضا، فقد انْدفع عَنهُ ذَلِك. وَلَو رام الْخصم إثْبَاته بِالدَّلِيلِ، حَتَّى إِذا ثَبت كَانَ نقضا، فَالْأَصَحّ إِن ذَلِك لَا يقبل فِي حكم النّظر. وَذهب بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة إِلَى إِن ذَلِك يقبل. وَكَانَ ينصره الحديث: 1784 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 الْحَرْبِيّ وَحكى عَن القَاضِي ابْن " نبوية " إِنَّه رأى إِن ذَلِك " مُحْتَمل " وَالأَصَح مَنعه فَإِن المعتل بِوَاحِد يحكم الْعلَّة على قَضِيَّة أَصله، وَلَو دلّ المناقض كَانَ منتقلا وسنتسقصي هَذَا الضَّرْب من الْكَلَام فِي الجدل إِن شَاءَ الله تَعَالَى. (308) القَوْل فِي الِاسْتِحْسَان وَالرَّدّ على الْقَائِلين بِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 فارغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 1785 - اعْلَم إِن مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْعلمَاء: تتبع الْأَدِلَّة وَبِنَاء الْأَحْكَام عَلَيْهَا، وَإِبْطَال الِاسْتِحْسَان إِذا لم يَتَرَتَّب على قَاعِدَة من قَوَاعِد الْأَدِلَّة. وَإِلَيْهِ صَار مَالك وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهمَا حَتَّى قَالَ الشَّافِعِي " من اسْتحْسنَ فَكَأَنَّمَا يشرع فِي الدّين ". 1786 - واشتهر عَن أبي حنيفَة القَوْل بالاستحسان، ثمَّ اخْتلف أَصْحَابه " فجماهير بَعضهم بِالْخِلَافِ " وَقَالَ: هُوَ ترك الْقيَاس بِمَا يستحسن عقلا. وَلَيْسَ على المستحسن إِقَامَة دلَالَة توجه عَلَيْهَا القوادح. وَإِنَّمَا هُوَ تلويح يعن فِي الْعقل. وَقَالَ بَعضهم الِاسْتِحْسَان إمالة فرع إِلَى أصل هُوَ ادّعى بِهِ. قَالُوا: وَمعنى ذَلِك إِنَّه تَخْصِيص الْعلَّة لِمَعْنى تَقْتَضِيه على قَوْلهم بِجَوَاز تَخْصِيص / الْعِلَل. الحديث: 1785 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 وَقَالَ الْكَرْخِي من متأخرى أَصْحَاب أبي حنيفَة الِاسْتِحْسَان ترك مَا يقدر دَلِيلا، بِمَا هُوَ أقوى مِنْهُ وَإِن يكون المستحسن غير مطَالب بِدَلِيل يَصح على مُقْتَضى السّير. ثمَّ إِنَّه مثل ذَلِك بأمثلة: فَقَالَ: إِذا طردنا عِلّة فاقتضت تِلْكَ الْعلَّة حكما فِي موردها بِخِلَاف مُوجب الْقيَاس ... . قد يكون ذَلِك كتابا أَو سنة أَو اتِّفَاقًا أَو وَجها من الِاسْتِدْلَال وَالِاعْتِبَار. فَأَما مَا اقْتضى الظِّهَار، وَفِيه الْعدْل عَن الْقيَاس فَهُوَ نَحْو خبر القهقهة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 ونبيذ التَّمْر. فالتمسك بالْخبر " أحسن ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 وَكَذَلِكَ الْقيَاس يَقْتَضِي تَخْصِيص الاجتزاء بالتعاطي فِي المستحقرات، من غير إِنْكَار مِمَّن سبق وَبَقِي. فالتمسك بِهِ أحسن من طرد الْقيَاس. وَأما مَا ترك فِيهِ الْقيَاس بِضَرْب من الِاسْتِدْلَال فنحو قَوْلهم: إِن من قَالَ: إِن فعلت كَذَا فَأَنا يَهُودِيّ. فَتلْزمهُ الْكَفَّارَة. فَإِن الْقيَاس - وَإِن اقْتضى - أَن لَا يَجْعَل ذَلِك يَمِينا فقد علمنَا إِن الْكَفَّارَة، إِنَّمَا وَجَبت فِي الْيَمين للتعرض لهتك الْحُرْمَة. والتبري من الدّين أعظم مِنْهُ إِلَى غير ذَلِك، فَجَائِز ثُبُوته. 1787 - فَإِذا أحطت علما بِمَا قُلْنَاهُ، فَوجه الْكَلَام فِي ذَلِك أَن نقُول: من زعم مِنْهُم أَنا نحيد من دَلِيل إِلَى دَلِيل هُوَ أقوى مِنْهُ وَهُوَ مِمَّا يظْهر ويعترض عَلَيْهِ وَيُجَاب عَن الاعتراضات فِيهِ فَلَا خلاف مَعَ هَؤُلَاءِ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي تَرْجِيح الْأَدِلَّة وإفسادها على مَا سبق من مَرَاتِب الْأَدِلَّة وَسَيَأْتِي طَرِيق التَّرْجِيح إِن شَاءَ الله تَعَالَى. 1788 - فَأَما من " يلْتَزم " مِنْهُم إِقَامَة الدّلَالَة، فَهُوَ الَّذِي نقصد الحديث: 1787 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 بالْكلَام، فَيُقَال: أَجمعت الْأمة قاطبة على إِن من قَالَ قولا بِغَيْر دَلِيل أَو أَمارَة مَنْصُوبَة شرعا فَالَّذِي يتَمَسَّك بِهِ بَاطِل. ثمَّ اجْمَعُوا على بطلَان اتِّبَاع الْهوى ومحصول مَا قلتموه ترك الدَّلِيل بِغَيْر دَلِيل. وَلَو سَاغَ ذَلِك لساغ لكل عَامي أَن يستحسن من غير وَجه الِاسْتِدْلَال ويرجح فِي طرق الْأَدِلَّة. فَإِن قَالَ قَائِل: أفتدركون بطلَان ذَلِك عقلا. قُلْنَا: " حاشا " أَن نقُول ذَلِك! إِذْ يسوغ فِي الْعقل تَجْوِيز مَا يخْطر للْعُلَمَاء وَغَيرهم اعلاما على أَحْكَام الله تَعَالَى لَو نصبت اعلاما، كَمَا نصبت غلبات الظنون اعلاما وَلَكِن اجمعت الْأمة على بطلَان ذَلِك. وَلَا تَجْتَمِع الْأمة على الضَّلَالَة، وَلَقَد قُلْنَا مَا قُلْنَاهُ شرعا. على أَنا نقُول لكل مستحسن بِمَ تنكر على من يستحسن ضد مَا استحسنت؟ فَلَا يجد لَهُ مدفعا. فَإِن سلك طرق التَّرْجِيح وَالِاسْتِدْلَال، فقد خرج عَن الِاسْتِحْسَان إِلَى طلب الدَّلِيل. 1789 - وَقد تمسك من صمم مِنْهُم على الْخُلُو فِي القَوْل بالاستحسان بظواهر الْكتاب مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه} ، وَقَوله: {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} . قَالُوا: فَهَذَا أَمر بِالْأَخْذِ بالأحسن. قُلْنَا: ثبتوا أَولا كَون مَا قلتموه منزلا، ثمَّ رتبوا عَلَيْهِ تخير الْأَحْسَن الحديث: 1789 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 وإيثاره. فَإِن الظَّاهِر من الْقُرْآن يدل على الْأَخْذ بالأحسن مِمَّا أنزل. على أَنا نقُول: فثبتوا إِن المُرَاد بِهِ الْأَحْسَن فِي توهم كل مستحسن وَبِمَ تنكرون على من يزْعم إِن الْأَحْسَن فِي الشَّرْع هُوَ الَّذِي يلائم الْأَدِلَّة ثمَّ نعارض هَذِه الْآيَة بِالْآيِ الَّتِي فِيهَا الْأَمر بِطَلَب الْأَدِلَّة. نَحْو قَوْله تَعَالَى: {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} وَقَوله تَعَالَى: {لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم} ، وَقَوله تَعَالَى: {أَفلا يتدبون القرءان} ... إِلَى غير ذَلِك وَقد أطنب الْأَصْحَاب فِي طرق الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. وَرَأَيْت الْقدر الَّذِي ذكرنَا كَافِيا فِي مَقْصُوده. (309) القَوْل فِي جَوَاز تَعْلِيل مَا ورد بِخِلَاف قِيَاس الأَصْل 1790 - إِذا اطرد ضرب من الْقيَاس فِي أصُول، ثمَّ ثَبت أصل كتاب أَو سنة أَو وفَاق، وَهُوَ على خلاف قِيَاس / الْأُصُول، فَهَل يسوغ استنباط عِلّة مِمَّا ورد، ليجمع بهَا بَين الْفَرْع وَالْأَصْل الْوَارِد على خلاف قِيَاس الْأُصُول. مَا صَار إِلَيْهِ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة فِي أصح الرِّوَايَات، وَغَيرهمَا من الْعلمَاء جَوَاز الْقيَاس " عَلَيْهَا " وَذهب بعض الْمُتَأَخِّرين من أَصْحَاب أبي حنيفه كالكرخي وَغَيره إِلَى أَن لَا يُقَاس على مَا هَذَا سَبيله. فمنعوا الحديث: 1790 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 الْقيَاس على مثل القهقهة فِي الصَّلَاة فِي كَونهَا مبطلة للطَّهَارَة، وَكَذَلِكَ نَبِيذ التَّمْر. منعُوا الْقيَاس عَلَيْهِ. 1791 - وَالدَّلِيل على جَوَاز الْقيَاس فَرضنَا الْكَلَام فِيهِ، أَن نقُول: قد ثَبت أصل الْقيَاس بِالدّلَالَةِ القاطعة، وسبيل الْقيَاس فِي الْمُخْتَلف فِيهِ كسبيل كل قِيَاس. فَإِن تَقْدِير عِلّة فِي الأَصْل مِمَّا لَا يبعد عقلا. وَلَا يمْنَع مِنْهُ مَانع شرعا، إِذا استجمعت شَرَائِط الصِّحَّة. الحديث: 1791 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 وَالَّذِي يُوضح ذَلِك، إِن الْقيَاس المطرد إِنَّمَا سَاغَ التَّمَسُّك / بِهِ / لكَونه مستنبطا من أصُول ثَابِتَة. وَالْأَصْل الَّذِي فِيهِ نتكلم، أحد الْأُصُول الثَّابِتَة. فَلَا مَانع من الاستنباط مِنْهَا، كَمَا لَا مَانع من الاستنباط من كل أصل قدروه. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك اتِّفَاقًا على جَوَاز وُرُود الشَّرْع بتعليل مثل " هَذَا " الأَصْل. فَإِذا سَاغَ وُرُود الشَّرْع بتعليله سَاغَ " تطلب " جملَته بطرِيق الاستثارة والاستنباط. وَمِمَّا نتمسك بِهِ أَيْضا أَن نقُول: إِذا وَردت لَفْظَة عَامَّة عَن صَاحب الشَّرِيعَة وَقَامَت دلَالَة على تخصيصها، فَلَا خلاف فِي جَوَاز الاستنباط " مِمَّا " خص عَن الْعُمُوم وَإِن أفْضى الاستنباط إِلَى الزِّيَادَة بالتخصيص، فَهُوَ سَائِغ فَإِذا لم يمْتَنع ذَلِك فَمَا الْمَانِع مِمَّا نَحن فِيهِ؟ 1792 - وَقد عولوا فِي منع الْقيَاس فِي الْمُخْتَلف فِيهِ على أَن قَالُوا: إِذا طردنا قِيَاس الْأُصُول وطرد طارد الْقيَاس " بِمَا شَذَّ " عَن الْأُصُول فَإِن كَانَ قِيَاس الْأُصُول أقوى فيلزمكم ترك الضَّرْب الآخر. وَكَذَلِكَ إِن كَانَ مثله. فَإِن تعَارض الْعِلَل يبطل الِاحْتِجَاج بهَا ويستحيل أَن يكون الْقيَاس المستنبط من الأَصْل الشاذ أقوى. الحديث: 1792 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه تحكم وَبِنَاء على مُجَرّد الدَّعْوَى، فَلَا نسلم لكم معنى الشذوذ فَإِن كل مَا ثَبت، فَهُوَ أصل فِي نَفسه. وَعدد الْأُصُول لَا يُغير أَحْكَام المغير على مَا سَنذكرُهُ فِي أَحْكَام التَّرْجِيح. فعلى هَذَا لَا يمْتَنع أَن يكون الْقيَاس المستنبط من هَذَا الأَصْل أقوى من غَيره. وشأن النَّاظر أَن يعرض علته على " مَا بِهِ " تمتحن الْعِلَل. فَبَطل مَا قَالُوهُ جملَة وتفصيلا. (310) فصل لَا يجوز ترك الْخَبَر الصَّحِيح إِذا ورد بِخِلَاف قِيَاس الْأُصُول 1793 - فِي متعسفي أَصْحَاب أبي حنيفَة من ترك الْخَبَر الصَّحِيح، إِذا ورد بِخِلَاف قِيَاس الْأُصُول. وَلذَلِك ردوا خبر الْمُصراة والعرايا وَهَذَا الحديث: 1793 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 مِمَّا لم يحدثه إِلَّا من نبغ من " نابغيهم " وَهِي مشابهة مِنْهُم لمنكري الْأَخْبَار. فَنَقُول لَهُم: قد أَقَمْنَا الدّلَالَة على وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد وَهَذَا قد استجمع شَرَائِط الصِّحَّة، وَالْقِيَاس على التَّحْقِيق تَقْدِير خبر فَإِن القائس يغلب على ظَنّه، إِن مَا نَصبه عِلّة، قد نَصبه صَاحب الشَّرِيعَة عِلّة، فالنص الْمُصَرّح بِهِ أولى من خبر مُقَدّر فافهمه واجتز بِهِ. على أَنا نقُول: لَا تَحْصِيل لما قلتموه من الْأُصُول فَكل مَا يثبت بِدلَالَة شَرْعِيَّة فَهُوَ أصل فَلَا يبْقى مَعَهم إِلَّا عدد الْأُصُول. وسنتكلم على بطلَان الِاعْتِبَار بهَا ثمَّ نقُول: فَمَا وَجه قبولكم لخَبر نَبِيذ التَّمْر وَخبر القهقهة؟ وَلَو اتبعت طرقهم لوجتهم دارين لكل خبر صَحِيح، متسرعين إِلَى قَول كل ضَعِيف وَعند ذَلِك يهذون بأصول الْقيَاس وَقِيَاس الْأُصُول فَيَقُولُونَ: تركْتُم فِي مَسْأَلَة الْمُصراة أصُول الْقيَاس، وَنحن تركنَا فِي القهقهة قِيَاس الْأُصُول. فَيُقَال لَهُم: أصُول الْقيَاس الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع فأوضحوا لنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 مخالفتنا لشَيْء مِنْهَا فِي مَسْأَلَة الْمُصراة. وَهَذَا أوضح من أَن يحْتَاج فِيهِ إِلَى بَيَان وَالْأولَى أَن " نشغل " كتَابنَا هَذَا بترهات من لَا يحصل هَذَا الْفَنّ. (311) فصل 1794 - إِذا اقْتصر على الِاسْتِدْلَال وحكموا بِصِحَّتِهَا وَنحن نشِير إِلَيْهِمَا فأحدهما: التَّقْسِيم الصَّحِيح. وَذَلِكَ إِذا كَانَ فِي الْمَسْأَلَة أَقسَام فَإِذا بَين الْمُسْتَدلّ بطلَان جَمِيعهَا إِلَّا الْقسم الَّذِي يرتضيه فَيثبت مَقْصُوده. قَالُوا: وَمِثَال ذَلِك أَن نقُول فِي مَسْأَلَة الصُّلْح على الْإِنْكَار، المَال المبذول لَا يَخْلُو أما أَن يكون مُقَابلا " للشَّيْء " أَو لَا يكون مُقَابلا لشَيْء وباطلا إِلَّا يكون مُقَابلا، فَإِنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ سَبيله سَبِيل التَّبَرُّعَات والهبات. وَقد اتَّفقُوا على خِلَافه. فَإِذا كَانَ مُقَابلا للشَّيْء، لم يخل أما أَن يُقَابل الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَة فَيبْطل، إِذْ لَو جَازَ ذَلِك، لجازت الْمُصَالحَة على دَعْوَى حد الْقَذْف وَإِمَّا أَن يكون مُقَابلا بالتحليف الَّذِي يثبت للْمُدَّعِي وَذَلِكَ بَاطِل. لإنهم قَالُوا بِصِحَّة الصُّلْح فِي دَعْوَى النِّكَاح، وَإِن لم يَصح عِنْدهم فِيهَا تَحْلِيف، فَثَبت إِن المَال المبذول، مُقَابل بِالْمَالِ الَّذِي ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي وَأنْكرهُ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ. وَهُوَ مَال لم يثبت فِيهِ " ملك " الْمُدَّعِي، فيستحيل لُزُوم الِاعْتِيَاض عَنهُ، فَهَذَا هُوَ وَجه فِي الِاسْتِدْلَال. وَقد صَححهُ أَرْبَاب الْأُصُول وَلم يتَعَرَّض لَهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ. الحديث: 1794 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 1795 - فَالصَّحِيح فِي ذَلِك عندنَا، على قِيَاس أُصُوله أَن نقُول: إِذا اشْتَمَلت الْمَسْأَلَة على أَقسَام، فأوضح المسؤول إِبْطَالهَا بآي من كتاب الله تَعَالَى أَو سنة من سنَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَو تمسك فِي بَعْضهَا بالِاتِّفَاقِ، فيسوغ ذَلِك مِنْهُ. وَأما إِذا رام إِبْطَاله ابْتِدَاء بِضَرْب من الِاعْتِبَار، مثل أَن يَقُول: لَو كَانَ مُقَابلا بِدَعْوَى، لوُجُوب أَن يَصح الصُّلْح عَن دَعْوَى حد الْقَذْف، فَمثل هَذَا الْكَلَام لَا يَقع بِهِ الِاسْتِقْلَال فِي الِاسْتِدْلَال. وَقد صَححهُ مُعظم أَرْبَاب الْأُصُول فِي الِاسْتِدْلَال. وللخصم أَن يَقُول: فَمَا الْجَامِع بَين الدعوتين ثمَّ إِذا جمع بَينهمَا فَلهُ مُطَالبَته بتثبيت عِلّة الأَصْل وكل مَا يُطَالب الْمُحَرر بِهِ. فَإِن أَرَادَ الَّذين قَالُوا بتصحيح هَذَا الضَّرْب فِي الِاسْتِدْلَال أَن يجوزه لكل اعْتِبَار يتَمَسَّك بِهِ فِي أَقسَام. فَهَذَا سديد وَلكنه تمسك بِالْقِيَاسِ وَلَا يَسْتَقِيم إنشاؤه مِنْهُم. وَإِن جوزوا الِاسْتِدْلَال بِهِ من غير تَحْرِير فَلَا نرى ذَلِك " صَحِيحا " وَهَذَا بَين إِذا تأملته. فَهَذَا أحد الضربين فِي الِاسْتِدْلَال. 1796 - وَالضَّرْب الثَّانِي الِاسْتِدْلَال بِالْأولَى، فقد صَححهُ مُعظم الْأُصُولِيِّينَ ومثاله: أَن يَقُول الْمُسْتَدلّ فِي مَسْأَلَة التَّيَمُّم، إِن التَّيَمُّم لَا يَصح لصَلَاة الْجِنَازَة مَعَ وجود المَاء، إِذا لم يَصح التَّيَمُّم خوفًا " أولى من صَلَاة الْجَمَاعَة " فَلِأَن لَا يجوز ذَلِك فِي صَلَاة الْجِنَازَة أولى. الحديث: 1795 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 وكما قَالَ الشَّافِعِي، إِذا وَجَبت الْكَفَّارَة فِي الْقَتْل خطأ، فَلِأَن تجب فِي الْعمد أولى. وَهَذَا الضَّرْب فِيهِ نظر أَيْضا. فَإِن للخصم أَن يَقُول: لم زعمت إِن التَّيَمُّم إِذا لم يجز لخوف / فَوَات / وَقت صَلَاة الْجَمَاعَة فَلَا يجوز لخوف فَوَات صَلَاة الْجِنَازَة، فيطالبه بِالْجمعِ وَيُوجه عَلَيْهِ القوادح فَلَا يمنعهُ من ذَلِك مَانع، فَلم يسْتَقلّ الأول فِي أَن يكون دَلِيلا بل هُوَ ضرب من التَّرْجِيح على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله. (312) القَوْل فِي تَرْجِيح الْعِلَل وطرقها 1797 - اعْلَم، وفقك الله، إِن التَّرْجِيح إِنَّمَا يَقع فِي الأمارات الَّتِي تَقْتَضِي غلبات الظنون، فَإِذا تَعَارَضَت مِنْهَا عِلَّتَانِ، فالمجتهد مُكَلّف بِأَن يرجح إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى. 1798 - وَالدَّلِيل / على ثُبُوت التَّرْجِيح، هُوَ الدَّلِيل على ثُبُوت أصل الْقيَاس فَإِن الَّذِي عولنا عَلَيْهِ فِي إثْبَاته إِجْمَاع الصَّحَابَة. وَكلما علمنَا تمسكهم بالأقيسة، فَكَذَلِك علمنَا تعلقهم بترجيح بَعْضهَا على بعض بِذكر وُجُوه الشّبَه الحديث: 1797 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 وَغَيرهَا من ضروب التَّرْجِيح فَإِذا ثَبت التَّمَسُّك بِأَصْل التَّرْجِيح. وَقد أكثروها وَنحن نشِير إِن شَاءَ الله تَعَالَى إِلَى جمل ترشد إِلَى أَمْثَالهَا. 1799 - فَمن أقوى مَا يَقع بهَا التَّرْجِيح أَن تكون إِحْدَى العلتين مُوَافقَة لكتاب الله تَعَالَى أَو سنة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَو لقَوْل صَحَابِيّ، عِنْد من يرى الِاحْتِجَاج بقول الصَّحَابِيّ. وَمِمَّا يقوى التَّرْجِيح بِهِ أَن تكون إِحْدَى العلتين منصوصة وَالْأُخْرَى مستنبطة بِالِاجْتِهَادِ. وَمِمَّا يَقع بِهِ التَّرْجِيح انعكاس الْعلَّة. وَهُوَ أَن يَنْتَفِي الحكم بانتفائها، فيغلب على الْقلب كَون الحكم مَنُوطًا بِهِ. وَمن ضروب التَّرْجِيح أَن يكون الحكم أحد الْأَصْلَيْنِ ثَابتا قطعا وَالْحكم فِي الأَصْل الثَّانِي مُخْتَلف فِيهِ على الْجُمْلَة وَإِن اتّفق الخصمان فَإِنَّهُ مَحل اجْتِهَاد والمجتهد لَا يوازي التَّمَسُّك بِالْقطعِ، فَلَو قَالَ الْخصم لخصمه، قد الحديث: 1799 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 اتفقنا على حكم الأَصْل، فَلَا يقْدَح خلاف من خَالف فَيُقَال لَهُ. إِنَّمَا وَقع التَّرْجِيح بِالْقطعِ وَعدم الْقطع، واتفاقنا على حكم الأَصْل لَا يلْحقهُ بالقطعيات. وَمن ضروب التَّرْجِيح أَن يكون أصل / أحد / القائسين، ثَابتا من غير قِيَاس وأصل قِيَاس ثَابتا بِقِيَاس. فَالَّذِي ثَبت أَصله نصا، أقوى وَهَذَا يداني الَّذِي فَرغْنَا مِنْهُ. وَمن ضروب التَّرْجِيح، أَن يستنبط أثنان من مُسَمّى بإسم مُطلق فِي الشَّرِيعَة فيخصص أَحدهمَا الأَصْل الْمُطلق فِي موارد استنباط الْعلَّة وَلَا يخصصه الثَّانِي فَالَّذِي لَا يخصص أولى. وَذَلِكَ نَحْو استنباط الشَّافِعِي من الْبر كَونه مطعوما واستنباط أبي حنيفَة كَونه مَكِيلًا. مَعَ علمنَا بإن هَذِه الْعلَّة تسوقه إِلَى الرِّبَا فِيمَا لَا يحصره الْكَيْل. فَهَذَا وَجه قوي فِي التَّرْجِيح. وَمن طرق التَّرْجِيح الأول كَمَا قدمْنَاهُ. وَمِنْهَا أَن تكون إِحْدَى العلتين صفة محسوسة، وَالْأُخْرَى حكما فَمن النَّاس من زعم أَن المحسوسة أولى وَمِنْهُم من زعم إِن الحكم أولى. فَإِن الْمَقْصد من الْقيَاس الحكم. وإلحاق الحكم بالحكم أولى. وَهَذِه مَسْأَلَة اجْتِهَاد وكل مؤاخذ فِيهَا بِمَا يُؤَدِّي اجْتِهَاده إِلَيْهِ. وَمِنْهَا أَن تكون عِلّة أَحدهمَا بِحَيْثُ لَا يسبقها الحكم الَّذِي ناط بهَا وَالْعلَّة الثَّانِيَة يسبقها حكمهَا وَذَلِكَ نَحْو قَوْلنَا فِي ثُبُوت نَجَاسَة الْكَلْب حَيَوَان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 نجس فِي حَيَاته أَو نجس السُّور، فَلَا يطهر جلده بالدباغ كالخنزير. فَهَذَا مقدم على قَول أَصْحَاب أبي حنيفَة، إِذْ قَالُوا: حَيَوَان يجوز الِانْتِفَاع بِهِ. فَإِن حكم الدّباغ قد يثبت قبل أَن يبلغ مبلغ الِانْتِفَاع. فالعلة الَّتِي يساوقها الحكم، أولى وَأظْهر تَأْثِيرا وَهَذَا يداني مَا قدمْنَاهُ من التَّرْجِيح بالانعكاس. وَمِنْهَا التَّرْجِيح بِكَثْرَة الْأَشْبَاه، على مَا قدمْنَاهُ فِي أَقسَام الْقيَاس وَإِلَّا ظهر إِنَّا وَإِن لم نجوز التَّمَسُّك بِهِ ابْتِدَاء، فَيجوز التَّرْجِيح بِهِ. وَمِنْهَا أَن تكون إِحْدَاهمَا مفسرة فِي مقصودها، وَالْأُخْرَى " مُبْهمَة " نَحْو أَن نقُول: أفطر بِغَيْر جماع، فَلَا تلْزمهُ الْكَفَّارَة، فَهَذَا أولى من قَول الْحَنَفِيّ أفطر بممنوع جنسه لما فِيهِ من " الْإِبْهَام ". وَمِنْهَا أَن تَقْتَضِي " إِحْدَى " العلتين النَّقْل عَن الْعَادة، وَالْأُخْرَى " الْبَقَاء " عَلَيْهَا فَمن النَّاس من جعل الناقلة أولى وَمِنْهُم من جعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 المبقية أولى، وَلكُل قَول وَجه. وَلَا يبلغان الْقطع، لنطنب فِيهِ. وَمِنْهَا: أَن يكون مَحل الِاجْتِهَاد عبَادَة يحْتَاط / لَهَا. فالتمسك بِالْعِلَّةِ الَّتِي تَتَضَمَّن الِاحْتِيَاط أولى. وَمِنْهُم من قَالَ: التَّمَسُّك " بِالَّتِي " توجب بَرَاءَة الذِّمَّة أولى. وعَلى هَذَا اخْتلفُوا فِي علتين توجب إِحْدَاهمَا " حدا " وَالْأُخْرَى تدرأه فَمنهمْ من قَالَ: الَّتِي تدرأ الْحَد أولى، فَإِن الْحُدُود تدرأ بِالشُّبُهَاتِ. وَمِنْهُم من قَالَ: الَّتِي تثبت أولى، لاشتمالها على زِيَادَة حكم. وَمِنْهَا أَن تكون إِحْدَاهمَا حاظرة مُحرمَة. وَالْأُخْرَى مبيحة. فَمنهمْ من جعل الحاظرة أولى لاشتمالها على زِيَادَة حكم، وَالأَصَح أَن لَا يَقع بذلك تَرْجِيح. فَإِن الْحل حكم، كَمَا أَن التَّحْرِيم حكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 وَمِنْهَا أَن تكون إِحْدَاهمَا متعدية وَالْأُخْرَى قَاصِرَة. فقد اخْتلفُوا فِي ذَلِك فَمنهمْ من جعل المتعدية أولى، لاشتمالها على زِيَادَة حكم. وَمِنْهُم من لم ير تَرْجِيح المتعدية وغلا بعض أَصْحَابنَا فرجح القاصرة على المتعدية، من حَيْثُ لَزِمت أَصْلهَا، وَهَذَا سَاقِط من الْكَلَام. وَمِنْهَا أَن تكون إِحْدَى العلتين مستوعبة لأطراف الْمَسْأَلَة. وَالْأُخْرَى مُخْتَصَّة بِبَعْضِهَا وَيجمع ضروبا من التَّرْجِيح " فصل " وَاحِد. وَهُوَ أَن تشْتَمل إِحْدَى العلتين على زِيَادَة حكم، فالمشتملة على الزِّيَادَة أولى عِنْد بَعضهم. وَأَشَارَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ إِلَى أَنه لَا يَقع بذلك التَّرْجِيح. فَإِن زِيَادَة الحكم لَيْسَ من علم الصِّحَّة إِذْ الْمُعَلل مطَالب بتصحيح علته. سَوَاء انطوت على حكم أَو على أَحْكَام. 1800 - وَمِمَّا خَاضَ فِيهِ الخائضون كَثْرَة الْأُصُول. مثل أَن تنطوي إِحْدَى العلتين على أصُول. وتنطوي الْأُخْرَى على وَاحِد. فَمنهمْ من جعل كَثْرَة الْأُصُول بِمَنْزِلَة كَثْرَة الروَاة فِي الحَدِيث، وَقد ذكرنَا فِي ذَلِك اخْتلَافهمْ. وَمِنْهُم من لم يرجح بِكَثْرَة الْأُصُول. وَهَذَا الحديث: 1800 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 مَا اخْتَارَهُ القَاضِي. فَإِن أَعْيَان الْأُصُول من الطَّرِيقَة " الْوَاحِدَة " فَلَا شكّ فِيهِ. وَلَو قَاس على أصل بِوَجْه وَاحِد، فَكَذَلِك لَا يُوجب تَرْجِيحا. فَإِن الدَّلِيل هُوَ مَا نَصبه عِلّة اتَّحد أَو تعدد. ثمَّ الَّذين جعلُوا عدد الْأُصُول تَرْجِيحا، اخْتلفُوا فِيهِ إِذا كثرت تعدد الْأَوْصَاف أولى من التَّمَسُّك بِعَدَد الْأُصُول. فالأكثرون صَارُوا إِلَى عدد الْأَوْصَاف أولى " فَإِنَّهَا " الْعِلَل. وَالْأُصُول هِيَ الْمحَال الَّتِي تطلب مِنْهَا الْعِلَل. فأنفس الْعِلَل أولى من محالها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 1801 - وَمِمَّا خَاضُوا فِيهِ أَن إِحْدَى العلتين إِذا كَانَت مركبة من أَوْصَاف وَالْأُخْرَى ذَات وصف فالأكثرون صَارُوا إِلَى أَن مَا يتحد وَصفه أولى لِأَنَّهُ يقل فِيهِ الِاجْتِهَاد وتكثر فروعه. فينطوي على زِيَادَة الحكم، ويضاهي علل الْعقل. وَمِنْهُم من قَالَ: لَا فرق بَينهمَا وَلَعَلَّه الصَّحِيح. فَإِن سَبِيل الْعِلَل السمعية سَبِيل الأمارات وَيجوز تَقْدِير وصفين أَمارَة. كَمَا يجوز ذَلِك فِي الْوَصْف الْوَاحِد. وَأما زِيَادَة الحكم فقد ذكرنَا أَنه لَا مَعْلُول عَلَيْهِ. وَأما مضاهاة الْعِلَل الْعَقْلِيَّة فَلَا أصل لَهُ فَإِن السمعية لَا تضاهي الْعَقْلِيَّة قطّ. فَتدبر ذَلِك. وَمن النَّاس من قدم المركبة على ذَات وصف. وَهَذَا بعيد جدا. 1802 - وَمِمَّا اخْتلفُوا فِيهِ أَن يكون لفظ عَام عَن صَاحب الشَّرِيعَة، واشتملت الْمَسْأَلَة على علتين إِحْدَاهمَا مخصصة، وَالْأُخْرَى " مبقية " للْعُمُوم فَمنهمْ من جعل المخصصة أولى وَمِنْهُم من جعل المستديمة للْعُمُوم أولى. وَهَذَا هُوَ الأولى عندنَا. فَإِنَّهَا تَتَضَمَّن تبقية ظَاهر على حَقِيقَته. الحديث: 1801 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 1803 - وَمِمَّا خَاضُوا فِيهِ أَيْضا أَن تشْتَمل إِحْدَى العلتين على إِيجَاب وَالْأُخْرَى على ندب. فَمنهمْ من قَالَ: الْمُوجبَة أولى، لاشتمالها على زِيَادَة. وَهَذَا فِيهِ نظر. فَإنَّا ذكرنَا أَن الاشتمال على زِيَادَة لَا يرجح بِهِ على الْوُجُوب لَيْسَ معنى النّدب وَزِيَادَة بل هُوَ حكم على حياله كالندب. 1804 - وَمِمَّا يذكر فِي التَّرْجِيح أَن تَتَضَمَّن / إِحْدَى العلتين النَّقْل عَن حكم الْعقل، عِنْد من يرى أَن الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع على حل أَو حظر. فَمنهمْ من جعل " الناقلة " أولى. وَمِنْهُم من جعل المبقية أولى. وَهَذَا فَاسد. لما ندل عَلَيْهِ أَن من الْأَحْكَام / مَا / لَا يسْتَدرك قبل وُرُود الشَّرَائِع عقلا. وَاعْلَم أَن طرق التَّرْجِيح لَا تَنْحَصِر. فَإِنَّهَا تلويحات " تجول " فِيهَا الاجتهادات، ويتوسع فِيهَا من توسع فِي فن الْفِقْه. الحديث: 1803 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 (كتاب الِاجْتِهَاد) (313) القَوْل فِي تصويب الْمُجْتَهدين وَذكر وُجُوه الْخلاف فِيهِ 1805 - اعْلَم، وفقك الله أَن مَا " يجْرِي " فِيهِ كَلَام الْعلمَاء يَنْقَسِم إِلَى الْمسَائِل القطعية وَإِلَى الْمسَائِل " المجتهدة " الْعَارِية " عَن " أَدِلَّة الْقطع. الحديث: 1805 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 1806 - / فَأَما الْمسَائِل القطعية فتنقسم إِلَى الْعَقْلِيَّة والسمعية / فَأَما الْعَقْلِيَّة " فَهِيَ " الَّتِي تنتصب فِيهَا أَدِلَّة الْقطع على الِاسْتِقْلَال وتفضى إِلَى الْمطلب من غير افتقار إِلَى تَقْدِير الشَّرْع، وَذَلِكَ مُعظم مسَائِل العقائد نَحْو / إِثْبَات حدث الْعَالم، و / إِثْبَات الْمُحدث و " قدمه " وَصِفَاته، وتبيين تنزيهه عَمَّا تلْزم فِيهِ مضاهاة الْحَوَادِث، وَإِثْبَات الْقدر وَإِثْبَات جَوَاز الرُّؤْيَة، وَإِبْطَال القَوْل بِخلق الْقُرْآن، وَتَحْقِيق " قدم " الْإِرَادَة. إِلَى غير ذَلِك من الْأُصُول. وَأما الشَّرْعِيَّة فَكل مَسْأَلَة، تنطوي على حكم من أَحْكَام التَّكْلِيف مَدْلُول " عَلَيْهَا " بِدلَالَة قَاطِعَة، من نَص أَو إِجْمَاع. 1807 - وَقد اخْتلفت " عِبَارَات " أَصْحَابنَا، إِذْ سئلوا عَن تَحْدِيد مسَائِل الْأُصُول. فَذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، عِبَارَات فِي مصنفاته، فَقَالَ فِي بَعْضهَا: حد الأَصْل " مَا لَا يجوز " وُرُود التَّعَبُّد فِيهِ إِلَّا بِأَمْر وَاحِد. فيندرج تَحت هَذَا الْحَد مسَائِل الِاعْتِقَاد. وَتخرج عَنهُ مسَائِل الشَّرْع أجمع قطعيها ومجتهدها. الحديث: 1806 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 وَقَالَ مرّة أُخْرَى: حد الأَصْل: مَا يَصح من النَّاظر العثور فِيهِ على الْعلم من غير تَقْدِير وُرُود الشَّرْع وزينت فِي هَذَا الْكتاب مَا ذكره فِي كتبه. وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي أَن يحد بهَا وأمثالها أصُول الدّين. " إِذْ " يدْخل عَلَيْهَا وجوب معرفَة الله تَعَالَى وَمَعْرِفَة صِفَاته، وَوُجُوب معرفَة النُّبُوَّة. " وَوُجُوب " معرفَة هَذِه الْأُصُول، من أصُول الدّين. فَلَا سَبِيل إِلَى إِلْحَاق هَذَا الْقَبِيل بمسائل الْفُرُوع. مَعَ علمنَا بِأَن الْوُجُوب لَا يثبت إِلَّا شرعا فَبَطل من هَذَا الْوَجْه حصر مسَائِل الْأُصُول فِي العقليات / وَكَذَلِكَ يجوز تَقْدِير نسخ وجوب الْمعرفَة عندنَا / لِأَن مَا ثَبت أَصله بِالشَّرْعِ يجوز فِيهِ تَقْدِير النّسخ. فالحد الصَّحِيح الَّذِي عول عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ من أصُول الدّين أَن قَالَ: كل مَسْأَلَة يحرم الْخلاف فِيهَا مَعَ اسْتِقْرَار الشَّرْع / وَيكون مُعْتَقد خِلَافه جَاهِلا، فَهِيَ من الْأُصُول سَوَاء استندت إِلَى العقليات، أَو لم تستند إِلَيْهَا /. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 1808 - فَإِن قَالَ / قَائِل: فالعقليات الَّتِي يتَكَلَّم فِيهَا أَرْبَاب الْكَلَام، وَيَقَع الِاسْتِقْلَال بذواتها / فِي العقائد، تعد من الْأُصُول، وَلَا يتَحَقَّق فِيهَا تَحْرِيم الْخلاف. قُلْنَا: إِن كَانَت " منوطة " بقاعدة / من قَوَاعِد الدّين. فَإِن كَانَت من الدقائق فَيحرم الْخلاف فِيهَا. وَإِن كَانَت لَا تتَعَلَّق بِشَيْء من الْقَوَاعِد فَلَا تعد من أصُول الدّين. وَإِنَّمَا اعتبارنا بأصول الدّين. 1809 - فَإِذا عرفت مَا هُوَ " الأَصْل " فَلَا تقل فِيمَا هَذَا سَبيله إِن كل مُجْتَهد مُصِيب بل الْمُصِيب وَاحِد وَمن عداهُ جَاهِل مُخطئ. وَهَذَا مَا صَار إِلَيْهِ كَافَّة الْأُصُولِيِّينَ، ... ... . . الحديث: 1808 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 إِلَّا عبيد الله بن الْحسن الْعَنْبَري. فَإِنَّهُ ذهب إِلَى أَن كل مُجْتَهد مُصِيب فِي الْأُصُول كَمَا أَن كل مُجْتَهد مُصِيب فِي الْفُرُوع. 1810 - ثمَّ اخْتلفت " الرِّوَايَة " عَنهُ فَقَالَ فِي أشهر / الرِّوَايَتَيْنِ: أَنا أصوب كل مُجْتَهد فِي الدّين تجمعهم الْملَّة، و " أما " الْكَفَرَة فَلَا يصوبون. وغلا بعض الروَاة عَنهُ [نصوب] الكافة من الْمُجْتَهدين دون الراكنين إِلَى " الْبِدْعَة " والمعرضين عَن أَمر الِاجْتِهَاد. وَحَقِيقَة مذْهبه تبين فِي الْخلاف. الحديث: 1810 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 فَهَذَا / بَيَان / أحد الْقسمَيْنِ وَهُوَ مسَائِل الْأُصُول. 1811 - فَأَما مسَائِل الْفُرُوع فَنَذْكُر حَدهَا أَولا. وَأَصَح مَا يُقَال فِيهَا أَن نقُول: كل حكم " فِي " أَفعَال الْمُكَلّفين، لم تقم عَلَيْهِ دلَالَة عقل وَلَا " ورد " فِي حكمه الْمُخْتَلف فِيهِ، دلَالَة سمعية قَاطِعَة فَهُوَ من الْفُرُوع. الحديث: 1811 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 1812 - " فَإِن " اخْتلفت فِيهِ الْعلمَاء فِي " مباينة " اجتهادهم، فَمَا حكمهم فِي التصويب والتخطئة؟ فَأَما نفاة الْقيَاس فقد قطعُوا، بِأَن الْمُصِيب وَاحِد " عينوه ". وَزَعَمُوا أَن من أَخطَأ الْحق الْمعِين فَهُوَ مأثوم مأزور! وَلم يقل " بِهَذَا " الْمَذْهَب من القائسين / إِلَّا / الْأَصَم وَبشر المريسي فَإِنَّهُمَا زعما أَن الْمُصِيب وَاحِد وَأَن الْمَطْلُوب وَاحِد وَمن تعداه الحديث: 1812 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 مأثوم. 1813 - وَصَارَ كَافَّة الْعلمَاء إِلَى نفي الْإِثْم والحرج فِي مسَائِل الْفُرُوع. وَاخْتلفُوا بعد ذَلِك فِي التصويب. 1814 - فَأَما الشَّافِعِي رَحمَه الله، فَلَيْسَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَة نَص على التَّخْصِيص لَا نفيا وَلَا إِثْبَاتًا. وَلَكِن اخْتلفت النقلَة عَنهُ " و " المستنبطون من قضايا " كَلَامه ". فَذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنه يَقُول: الْمُصِيب وَاحِد. ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ. فَذهب بَعضهم إِلَى أَنه كَانَ يَقُول: الْمُجْتَهد كلف الِاجْتِهَاد والعثور على الْحق، وَنصب لَهُ الدَّلِيل المفضي إِلَى الْعلم بِمَا كلف فَإِن أَصَابَهُ فَلهُ أَجْرَانِ. وَإِن أخطأه فالوزر محطوط عَنهُ لغموض الدَّلِيل. وَإِلَى هَذَا " الْمَذْهَب " صَار مُعظم الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد. وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن الْحق لَا دَلِيل عَلَيْهِ يُفْضِي " إِلَى الْعلم " بِهِ وَلكنه كالشيء " الْمكنون " يتَّفق العثور عَلَيْهِ، ويتفق تعديه. وَلَيْسَ على الحديث: 1813 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 الْعلم بِهِ دَلِيل. ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ. فَذهب بَعضهم إِلَى أَن العثور عَلَيْهِ مِمَّا يجب / على الْمُكَلف وَإِن لم يكن عَلَيْهِ دَلِيل يُفْضِي إِلَى الْعلم. وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن العثور " عَلَيْهِ " لَيْسَ بِوَاجِب. وَإِنَّمَا الْوَاجِب الِاجْتِهَاد وَهَذَا حَقِيقَة مَذْهَب من يَقُول " إِن " كل مُجْتَهد مُصِيب فِي اجْتِهَاده. 1815 - وَأما أَبُو حنيفَة فقد اخْتلفت الرِّوَايَة عَنهُ. وَالَّذِي يَصح عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول: كل مُجْتَهد مُصِيب فِي اجْتِهَاده، وأحدهم عاثر على الْحق وَالْبَاقُونَ مخطئون فِيهِ، وَكلهمْ على الصَّوَاب فِي الِاجْتِهَاد. 1816 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَالَّذِي توضح عندنَا من فحوى كَلَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ القَوْل " بتصويب " الْمُجْتَهدين. وَقد نقل ذَلِك الحديث: 1815 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي عَنهُ صَرِيحًا، وعد نصوصا منبئة عَمَّا " قَالَه ". وَالصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي أَن الْمُصِيب وَاحِد. 1817 - وَذَهَبت طَائِفَة من الْعلمَاء إِلَى أَن الْمُجْتَهد مَأْمُور بِطَلَب الْأَشْبَه. وَإِلَيْهِ صَار مُحَمَّد بن الْحسن وَأَبُو يُوسُف وَابْن شُرَيْح فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ. وَلَا يتَبَيَّن الْأَشْبَه إِلَّا بتفصيل. وسنفرد فِيهِ بَابا. فَهَذِهِ جملَة الْمذَاهب الَّتِي عدت القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين اجْتِهَادًا وَحكما. 1818 - وَمَا صَار إِلَيْهِ الْمُعْتَزلَة قاطبة أَن كل مُجْتَهد مُصِيب اجْتِهَادًا وَحكما. وَمَال شَيخنَا رَضِي الله عَنهُ إِلَى ذَلِك. وَهُوَ اخْتِيَار القَاضِي رَضِي الحديث: 1817 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 الله عَنهُ وكل من انْتَمَى إِلَى الْأُصُول. إِلَّا الْأُسْتَاذ أَبَا إِسْحَاق فَإِنَّهُ صَار إِلَى أَن الْمُصِيب وَاحِد. وَحكى الطَّبَرِيّ فِي ذَلِك عَن ابْن فورك وَالَّذِي عندنَا أَنه كَانَ يَقُول بتصويب الْمُجْتَهدين. 1819 - " وَنحن " الْآن نرد على الْعَنْبَري أَولا ثمَّ نذْكر شبه الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد ونتفصى عَن / جَمِيعهَا ثمَّ نذْكر أدلتنا ثمَّ نفرد بعد الحديث: 1819 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 ذَلِك ثَلَاثَة أَبْوَاب: أَحدهَا: فِي الرَّد على من قَالَ: كل مُجْتَهد مُصِيب فِي اجْتِهَاده. وَالثَّانِي: فِي الْقَائِلين بالأشبه. وَالثَّالِث: فِي القَوْل بالتخيير، مَعَ تصويب الْمُجْتَهدين. (314) مَسْأَلَة فِي الرَّد على الْعَنْبَري حَيْثُ قَالَ بتصويب الْمُجْتَهدين فِي مسَائِل الْأُصُول 1820 - فَنَقُول: لَا تَخْلُو من أحد أَمريْن فِي الْمُخْتَلِفين فِي نفي الصِّفَات وإثباتها وَالْقَوْل " بِخلق " الْقُرْآن وَقدمه، وَغَيرهمَا من مسَائِل الْأُصُول. إِمَّا أَن تَقول: كل وَاحِد من المذهبين حق وَهُوَ علم ثَابت مُتَعَلق بالمعلوم على مَا هُوَ بِهِ فَإِن قَالَ ذَلِك، فَهُوَ خُرُوج مِنْهُ إِلَى السفسطة، وَترك الضروريات وَجحد البدائه. فَإنَّا نعلم بضرورة الْعقل اسْتِحَالَة كَون الشَّيْء قَدِيما " حَادِثا " ثَابتا منفيا، جَائِزا مستحيلا. فَبَطل الْمصير إِلَى هَذَا الْقسم. وَتبين أَن أحد الْمُجْتَهدين هُوَ الْعَالم بِحَقِيقَة مَا فِيهِ الْكَلَام، وَالثَّانِي جَاهِل. وَإِن زعمت أَن كل مُجْتَهد مُصِيب فِي الْأُصُول تَعْنِي أَنه لم يُكَلف / إِلَّا الِاجْتِهَاد فَأَما العثور على الْحق، فَلم يتَعَلَّق بِهِ التَّكْلِيف لصعوبة مدركه الحديث: 1820 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 وَاخْتِلَاف " الأمارات " وغموض طرق الْأَدِلَّة فَإِن سلك هَذَا المسلك فِي القَوْل بالتصويب، وَقَالَ مَعَ ذَلِك بطرد مذْهبه فِي الْكفْر، فقد انْسَلَّ " من " الدّين. حَيْثُ عذر " الْكَفَرَة " فِي الْإِصْرَار على الْكفْر. 1821 - فَإِن قَالَ ذَلِك فِي الَّذين تجمعهم الْملَّة، كَانَ الْكَلَام عَلَيْهِ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَن نقُول: مَا الَّذِي حجرك عَن القَوْل بِأَن الْمُصِيب وَاحِد؟ فَإِن تمسك بغموض الْأَدِلَّة قيل لَهُ - فَالْكَلَام فِي النبوات والإحاطة بِصِفَات المعجزات، وتمييزها من " المخاريق " والكرامات " أغمض " عَن العارفين بأصول الديانَات من الْكَلَام فِي الْقدر وَغَيره مِمَّا " يخْتَلف " فِيهِ أهل الْملَّة، فَهَلا عذرت الْكَفَرَة بِمَا ذكرت؟ وَهَذَا مَا لَا محيص لَهُ عَنهُ. وَالْوَجْه الآخر من الْكَلَام أَن نقُول: مِمَّا خَاضَ فِيهِ أهل الْملَّة القَوْل بالتشبيه - تَعَالَى الله " عَن ذَلِك " علوا كَبِيرا - وَالْقَوْل بِخلق الْقُرْآن " إِلَى غير ذَلِك " مِمَّا يعظم خطره. الحديث: 1821 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 وَقد أجمع الْمُسلمُونَ قبل الْعَنْبَري على أَنه يجب على " الْمُسلم " إِدْرَاك " بطلَان " القَوْل بالتشبيه، وَلَا يسوغ الاضراب عَن معرفَة هَذَا وَأَمْثَاله من أصُول الْحَقَائِق. وَمَا قَالَ أحد مِمَّن مضى وَبَقِي إِنَّه لَا تجب معرفَة العقائد على الْحَقِيقَة، بل قَالُوا قاطبة، بِأَن معرفَة العقائد وَاجِبَة على كل مُكَلّف، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى رده. فَبَطل " مَا قَالَه " من كل وَجه. وَقد ذكرنَا فِي خلال الْكَلَام مَا عَلَيْهِ معول الرجل. (315) مَسْأَلَة فِي تصويب الْمُجْتَهدين فِي الْفُرُوع 1822 - " و " قدمنَا ذكر الْمذَاهب، و " هَا " نَحن الْآن نذْكر شبه الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد. فمما سبق إِلَى التَّمَسُّك بِهِ الْفُقَهَاء " الَّذين " لَا يحصلون حقائق الْأُصُول " أَن " قَالُوا: إِذا اخْتلف الْعلمَاء فِي تَحْلِيل وَتَحْرِيم، فَلَو قُلْنَا: إِن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُصِيب، كَانَ ذَلِك محالا من القَوْل وجمعا بَين متنافيين، فَإِن الشَّيْء الْوَاحِد يَسْتَحِيل " أَن يكون " حَلَالا حَرَامًا. الحديث: 1822 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 وأطنبوا فِيهِ. وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ، يُؤَدِّي إِلَى مقصودهم. " فَيُقَال " لَهُم: أول مَا " فتحتم " بِهِ كلامكم غلط. فَإِن الْعين الْوَاحِدَة لَا تحل وَلَا تحرم " إِذْ التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم لَا يتعلقان بالأعيان " وَإِنَّمَا يتعلقان بِأَفْعَال الْمُكَلّفين، فالمحرم فعل الْمُكَلف فِي الْعين والمحلل فعله فِيهِ. فهما إِذا شَيْئَانِ حرم أَحدهمَا وَحل الثَّانِي فَهَذَا وَجه لمفاتحتهم / بالْكلَام. 1823 - على أَنا نقُول: لَو تتبعناكم، فَإِنَّمَا المتنافي أَن يحرم الشَّيْء ويحلل على الشَّخْص الْوَاحِد فِي الْحَالة الْوَاحِدَة. وَلَيْسَ هَذَا سَبِيل الْمُجْتَهدين. فَإِن كل مُجْتَهد مؤاخذ بِاجْتِهَادِهِ، وتنزلت الْعين الدائرة " فِي النَّفْي وَالْإِثْبَات " / بَينهمَا مَعَ اخْتِلَاف اجتهاديهما منزلَة الْعين الْمَمْلُوكَة بَين مَالِكهَا / وَغير مَالِكهَا، وَهِي محللة مُحرمَة على غَيره وَكَذَلِكَ الْميتَة بَين الْمُضْطَر وَالْمُخْتَار / فَهَذَا أَكثر " من " أَن يُحْصى. فَبَطل الحديث: 1823 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 " ادِّعَاء " التَّنَاقُض. 1824 - وَرُبمَا يفْرض من قَالَ إِن الْمُصِيب وَاحِدًا صورا فِي " عين " دَعْوَى التَّنَاقُض وَنحن نذْكر مَا يَقع بِهِ الِاسْتِقْلَال حَتَّى " نستدل بطرق الْجَواب مِنْهَا على أَمْثَالهَا ". فمما تمسكوا بِهِ أَن قَالُوا: " إِذا قَالَ للْمَرْأَة زَوجهَا " فِي حَال الْغَضَب وَسَأَلته الطَّلَاق أَنْت بَائِن وَالزَّوْج شَافِعِيّ، يعْتَقد أَن الطَّلَاق لَا يَقع بذلك وَالْمَرْأَة حنفية، تعتقد وُقُوع الطَّلَاق. " قَالُوا ": فَإِذا زعمتم أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُصِيب، وَلَعَلَّهُمَا كَانَا مجتهدين. فالجمع بَين " القَوْل " بتصويبهما وتصويبه، يَقْتَضِي الْجمع بَين التسليط على الِاسْتِمْتَاع، وَالْمَنْع مِنْهُ. فَإِن الرجل متسلط على قَضِيَّة اجْتِهَاده على الِاسْتِمْتَاع. وَمن مُوجب اعْتِقَاده أَنه لَا يجوز " لَهَا أَن تَمنعهُ " استمتاعا مُبَاحا مِنْهَا لَهُ، وَمن مُوجب اعتقادها التَّحْرِيم وَوُجُوب الِامْتِنَاع وَهَذَا متناقض جدا. الحديث: 1824 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 " فَأول " مَا نفاتحهم بِهِ، أَن نقُول: " فَأنْتم " معاشر الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد لَا سَبِيل لكم إِلَى إِن " تنزل " الْمَرْأَة على قَوْله، أَو ينزل الرجل على قَوْلهَا، فَإِنَّكُم " لَا تعينون " فِي الظَّاهِر الْمُصِيب مِنْهُمَا فَمَا وَجه جوابكم، إِذا عنت هَذِه الْحَادِثَة فَكل مَا قدرتموه جَوَابا ظَاهرا فِي " حَقّهمَا " فَهُوَ حكم الله تَعَالَى / عندنَا ظَاهرا وَبَاطنا. فَإِن زَعَمُوا أَن الْأَمر بَينهمَا يُوقف إِلَى أَن يرفعا إِلَى حَاكم، فَيَقْضِي عَلَيْهِمَا بِمُوجب اعْتِقَاده قُلْنَا: فالوقف قبل الرّفْع حكم الله تَعَالَى عَلَيْهِمَا قطعا. وَإِذا رفعا إِلَيْهِ، فَمَا حكم بِهِ القَاضِي، فَهُوَ حكم الله تَعَالَى / قطعا وَإِن زَعَمُوا أَن الْمَرْأَة مأمورة بالإمتناع جهدها، وَالرجل مُبَاح لَهُ " الطّلب للاستمتاع " وَإِن ادى إِلَى قهرها، وَلم " يعدوا " ذَلِك " تناقضا " فِي ظَاهر الْجَواب، فَهُوَ الحكم عِنْد الله تَعَالَى " وَعِنْدنَا " ظَاهرا وَبَاطنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 " وَالْجُمْلَة " الكافية " فِي ذَلِك " " حكما " وتحقيقا مَا قدمْنَاهُ من أَن كل مَا " يقدره " الْقَائِلُونَ بِأَن الْمُصِيب وَاحِد " فِي " أَمْثَال هَذِه الْمسَائِل ويزعمون " أَن مَا وَقع " مِنْهُم فِي الظَّاهِر، فَهُوَ الحكم عندنَا فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن. 1825 - وَمِمَّا يتمسكون بِهِ من الصُّور، أَن الْمَرْأَة إِذا نكحت بِغَيْر ولي " أَولا " ثمَّ زَوجهَا وَليهَا ثَانِيًا، وَالَّذِي " تزوج " بهَا ثَانِيًا، شَافِعِيّ الْمَذْهَب يعْتَقد بطلَان نِكَاح الأول وَالَّذِي تزوج بهَا أَولا حَنَفِيّ يعْتَقد " صِحَة " النِّكَاح / الأول وَبطلَان الثَّانِي، وَالْمَرْأَة مترددة بَين دعويهما / وهما مجتهدان مثلا، فَمَا وَجه تصويبهما / فِي الْإِفْضَاء إِلَى تحليلها " لَهما " وتحريمها عَلَيْهِمَا " أَو " جمع الْحل وَالتَّحْرِيم فِي حق كل وَاحِد مِنْهُمَا؟ الحديث: 1825 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 قُلْنَا: فَلَو حدثت هَذِه الْمَسْأَلَة وسئلتم عَنْهَا " فبماذا " كُنْتُم تفصلون الحكم فِيهَا ظَاهرا. فَكل مَا أوجبتم بِهِ فِي ظَاهر الْأَمر وَلم " تعدوه " تناقضا، فَهُوَ حكم الله تَعَالَى عندنَا. وَإِن اجتزيت بِهَذَا الْقدر كَفاك. " و " إِن أردْت التَّفْصِيل / فِي الْجَواب قلت / من الْقَائِلين بِأَن الْمُصِيب وَاحِد من صَار فِي هَذِه الصُّورَة إِلَى الْوَقْف، حَتَّى يرفع الْأَمر إِلَى القَاضِي كَمَا قدمْنَاهُ فِي " الصُّورَة الأولى ". فعلى هَذَا نقُول حكم الله تَعَالَى " فِيهَا " الْوَقْف ظَاهرا وَبَاطنا حَتَّى يرفع " أَمرهمَا " إِلَى القَاضِي فينزلهما على اعْتِقَاد نَفسه. فَحكم الله تَعَالَى حِينَئِذٍ " عَلَيْهِمَا " ذَلِك. وَمِنْهُم من قَالَ: تسلم الْمَرْأَة إِلَى الزَّوْج الأول، فَإِنَّهُ نَكَحَهَا نِكَاحا يعْتَقد صِحَّته، وَهُوَ السَّابِق " بِهِ " فَلَا يبعد أَن نقُول: إِن هَذَا هُوَ الحكم. وَاعْلَم إِن هَذِه الْمَسْأَلَة وأمثالها من المجتهدات، وفيهَا " تقَابل " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 الِاحْتِمَالَات، " فيجتهد " الْمُجْتَهد / فِيهَا عندنَا وَمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده، فَهُوَ حق، من وقف أَو تَقْدِيم أَو غَيرهمَا من وُجُوه الْجَواب. وَقد أَكْثرُوا فِي إِيرَاد الصُّور، وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ " أكمل الْغنى " إِن شَاءَ الله تَعَالَى. 1826 - وَالَّذِي عول عَلَيْهِ الْأُسْتَاذ / أَبُو إِسْحَاق رَضِي الله عَنهُ / فِي الْمَسْأَلَة، لما رأى أَن ادِّعَاء التَّنَاقُض فِي " الْأَحْكَام " لَا وَجه لَهُ فالتزم التَّنَاقُض فِي الْأَدِلَّة. فَقَالَ: " لَا تثبت " الْأَحْكَام فِي آحَاد الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة إِلَّا بالأدلة، كَمَا لَا يثبت اصل الشَّرِيعَة المتلقاة من " تَبْلِيغ " الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا بالمعجزة الدَّالَّة على صدقه. وَقد اتّفق الْعلمَاء قاطبة على أَن الْأَحْكَام فِي جَوَاز الِاجْتِهَاد تستند إِلَى أَدِلَّة وأمارات. فَإِذا ثَبت هَذَا الأَصْل فَالَّذِي " اداه " اجْتِهَاده إِلَى الْحل متمسك بأمارة أَو دلَالَة تعم فِي قضيتها / وَلَا تخص هَذَا الْمُجْتَهد بِعَيْنِه، " وَكَذَلِكَ قَالَ " الحديث: 1826 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 بِالتَّحْرِيمِ معتصم بطريقة عَامَّة فِي قضيتها / إِذْ لَيْسَ فِي قَضيته دلَالَة من " الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة " اخْتِصَاص لبَعض الْمُجْتَهدين. فَالْقَوْل بتصويبهما فِي الْحل وَالتَّحْرِيم، مَعَ مَا مهدناه من أَنَّهُمَا لَا يثبتان إِلَّا بدلالتين وأمارتين ذهَاب إِلَى تَحْقِيق الأمارتين العامتين وتصحيحهما، وهما متناقضان. وَإِن لم يتناقض الْحل وَالتَّحْرِيم فِي حق رجلَيْنِ /. 1827 - وَقد انْفَصل بعض من لَا يُحَقّق مَقْصُود هَذِه الْمَسْأَلَة عَن هَذِه الدّلَالَة بِأَن قَالَ: إِنَّمَا يَسْتَقِيم هَذَا إِن لَو قُلْنَا: إِن مَا يتَمَسَّك بِهِ فِي صور " الاجتهادات " أَدِلَّة. " وَأما " وَقد قدمنَا " أَنَّهَا " لَيست بأدلة " فَلَا يلْزم " فِيهَا التَّنَاقُض. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء. فَإِن التَّنَاقُض فِي الأمارات المنصوبة على الْأَحْكَام كالتناقض فِي الدَّلَائِل الدَّالَّة على مدلولاتها بأنفسها من غير نصب فِيهَا. وَهَذَا بَين لَا خَفَاء بِهِ. 1828 - وَطَرِيق الْجَواب عَن ذَلِك، مَا ذكره القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي خلل الْأَحْكَام، وَذَلِكَ أَنه قَالَ: إِذا اخْتلف المجتهدان فِي تَعْلِيل الْبر فِي حكم الرِّبَا، فَألْحق أَحدهمَا بِهِ " فرعا " ونفاه الثَّانِي ومرجعهما إِلَى الِاجْتِهَاد الحديث: 1827 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 " فِي " وصف الْبر، فَلَيْسَ فِي وصف الْبر دلالتان دالتان بأنفسهما على النَّفْي وَالْإِثْبَات. ولسنا نقُول أَيْضا إِن صَاحب الشَّرْع نصب فِي الْبر عَلامَة مَعْلُومَة عِنْده وكلفنا العثور عَلَيْهَا " أَو " نصب فِيهِ " أمارتين " حَتَّى نقدر الأمارتين المنصوبتين متناقضتين أَو " متماثلتين " إِذْ لَو قُلْنَا بذلك، كُنَّا قائلين بِطَلَب شَيْء والعثور عَلَيْهِ، سوى الْعَمَل وَهَذَا قَول بِأَن الْحق طلب علم أَو " هُوَ " طلب الْأَشْبَه، وَنحن نبطل الطريقتين جَمِيعًا " فَخرج " من ذَلِك أَلا نقدر دلالتين وَلَا أمارتين منصوبتين على الْوَجْه الَّذِي فَرْضه الْمُسْتَدلّ علينا وَلَكِن نقُول: أَمارَة الحكم فِي حق كل وَاحِد غَلَبَة ظَنّه. كَأَن الرب تَعَالَى جعل " غَلَبَة " ظن كل مُجْتَهد علما على الحكم بِمُوجب ظَنّه. وَهَذَا مَا لَا يتَحَقَّق فِيهِ تنَاقض. فَتبين ذَلِك واعلمه فَإِنَّهُ " سر " الْمَسْأَلَة وَلَا يُحِيط بِهِ إِلَّا من تَأَكد غَرَضه فِيهَا. 1829 - وَلَا " تبقى " بعْدهَا علينا مؤونة، إِلَّا شَيْء وَاحِد. وَهُوَ الحديث: 1829 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 أَنهم إِن قَالُوا: إِذا زعمتم إِن الَّذِي يتَمَسَّك بِهِ الْمُجْتَهد " لَا نقدره " أَمارَة مَنْصُوبَة شرعا، فَمَاذَا " يَطْلُبهُ " الْمُجْتَهد؟ وَلَيْسَ عِنْده فِيمَا يطْلب عِلّة مَنْصُوبَة عِنْد الله تَعَالَى قبل طلبه، وَلَا يتَحَقَّق طلب من غير مَطْلُوب. وَهَذَا أصعب سُؤال لَهُم. وَلَو قَامَت - للقائل " بِأَن " الْمُصِيب وَاحِد - " حجَّة " لكَانَتْ هَذِه. وَلَا تحسبن ذَلِك تشككا. فَنحْن من القاطعين بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب. وسنتقصى عَن هَذَا السُّؤَال عِنْد ذكرنَا " الْأَشْبَه " إِن شَاءَ الله تَعَالَى. 1830 - وَمِمَّا / استدلوا بِهِ / فِي الْمَسْأَلَة أَن / قَالُوا: إِذا قُلْتُمْ إِن كل مُجْتَهد مُصِيب فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْقَائِل بِأَن الْمُصِيب وَاحِد، مُصِيب " أَيْضا ". وَهَذَا " لَا طائل " وَرَاءه. فَإنَّا " إِنَّمَا " نقُول بتصويب الحديث: 1830 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 الْمُجْتَهدين / فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد. وَهَذِه الْمَسْأَلَة الَّتِي نَحن فِيهَا من مسَائِل الْقطع، وَهِي " ملتحقة " بالقطعيات الَّتِي الْمُصِيب فِيهَا وَاحِد مُتَعَيّن. 1831 - وَمِمَّا تمسكوا بِهِ أَيْضا أَن قَالُوا: إِذا كَانَ مُجْتَهد مصيبا فَمَا فَائِدَة " التناظر وَالْحجاج "؟ وَمَا زَالَ الْعلمَاء من عهد الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِلَى عصرنا يتحاجون. ومطلب كل وَاحِد من المتناظرين دُعَاء خَصمه إِلَى مَا ينصره من الْمذَاهب. فَلَو كَانَ كل مُجْتَهد مصيبا مَأْمُورا بملازمة اجْتِهَاده، وَهُوَ الْحق عِنْد الله لما كَانَ فِي " طرق " الْحجَّاج وَالنَّظَر فَائِدَة. وَفِي إِجْمَاع الْعلمَاء على التناظر دَلِيل فَسَاد هَذَا الأَصْل. وأوضحوا ذَلِك أَن قَالُوا: كَمَا وجدناهم " يتحاجون " فِي أصُول الديانَات / فَكَذَلِك سبيلهم فِي الشرعيات، ثمَّ كَانَ نظرهم فِي العقليات لطلب الْعلم بالمنظور فِيهِ / فَكَذَلِك سَبِيل النّظر فِي الشرعيات. وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ بَاطِل من أوجه: - مِنْهَا أَن نقُول - " إِن أَنْتُم زعمتم " أَن الْمُصِيب وَاحِد. قيل لكم: فَإِذا اجْتهد الْمُجْتَهد، " فأداه " اجْتِهَاده إِلَى التَّحْرِيم فَهَل لَهُ فِي ظَاهر الحكم، الْأَخْذ بالتحليل؟ فَيَقُولُونَ فِي الحديث: 1831 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 جَوَاب ذَلِك أَن لَيْسَ لَهُ مُخَالفَة اجْتِهَاده فِي ظَاهر الْأَمر، والتناظر على زعمكم يتَضَمَّن خلاف ذَلِك. فقد لزمكم مَا ألزمتمونا. " وَالْوَجْه الآخر فِي الْجَواب " أَن نقُول: " مَا تلزمونه " من التناظر. ثَابت إِجْمَاعًا وَمَا ادعيتموه من غَرَض المتناظرين فَأنْتم منازعون فِيهِ. ولسنا نسلم أَن الْعلمَاء إِنَّمَا " يتناظرون " ليدعو كل وَاحِد " مِنْهُم " خَصمه إِلَى مذْهبه. فثبتوا ذَلِك! فَفِيهِ أَشد النزاع وَلَا سَبِيل لَهُم إِلَى إثْبَاته. فَإِن تمسكوا " بِبَعْض " عادات أهل الْعَصْر، قوبلوا بعادات الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. فَإِنَّهُم مَا تنَاظرُوا ليدعو " كل " صَاحبه إِلَى مذْهبه، وَإِنَّمَا تنَاظرُوا " لوجوه ". مِنْهَا التَّوَصُّل إِلَى التدرب فِي طرق الِاجْتِهَاد فَإِن التذاكر والتناظر من " أقوى المرشدين إِلَيْهِ " وَمن فَوَائِد النّظر أَيْضا، العثور على مَا يقطع بِهِ، والبحث عَن النُّصُوص، وَعَما يحل محلهَا. وإبداء فَوَائِد النّظر تبرع منا، فَلَيْسَ علينا إِلَّا ممانعتهم عَمَّا " ادعوهُ " من الْغَرَض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 1832 - وَلِلْقَوْمِ طرق " فِي " الِاسْتِدْلَال " تتَعَلَّق " بالسمعيات. مِنْهَا: أَنهم تمسكوا بقوله تَعَالَى فِي قصَّة دَاوُد وَسليمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام {ففهمنها سليمن وكلا ءاتينا حكما وعلما} / " قَالُوا " فَدلَّ الظَّاهِر على أَنَّهُمَا اجتهدا، صلوَات الله عَلَيْهِمَا و " وفْق " سُلَيْمَان للعثور على الْحق، وَهَذَا الْمَعْنى بقوله تَعَالَى: {ففهمنها سليمن} . وأكدوا الِاسْتِدْلَال بِأَن قَالُوا " كَانَت " الْوَاقِعَة من سَائل الْفُرُوع فَإِنَّهَا كَانَت فِي زرع نفشت فِيهِ غنم الْقَوْم، فأفسدته. " و " الْجَواب عَن ذَلِك من أوجه. أَحدهَا أَن نقُول: من أنكر اجْتِهَاد الْأَنْبِيَاء، لم يساعدكم على أَن الْمَسْأَلَة " كَانَت " اجتهادية وَكَذَلِكَ من نفى الزلل عَن الْأَنْبِيَاء، فينكر ذَلِك أَشد الْإِنْكَار، ثمَّ لَيْسَ فِي ظَاهر الْآيَة دَلِيل خطأ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام، بل فِي ظَاهرهَا مَا يدل على إِصَابَته. فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وكلا ءاتينا حكما وعلما} " فقد سقط " استدلالهم جملَة. وَأكْثر مَا تنبئ الحديث: 1832 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 عَنهُ الْآيَة " كَونهمَا " مصيبين، وَكَون مَا حكم " بِهِ " سُلَيْمَان أولى وَأحسن. " فَإِن " طالبونا بعد ذَلِك بِتَأْوِيل الْآيَة، لم تلزمنا إجابتهم / بعد مَا بَينا أَنه لَا اعتصام لَهُم فِي الْآيَة. ثمَّ إِن " تبرعنا " بالتأويل فَالْوَجْه فِيهِ أَنَّهُمَا صلوَات الله عَلَيْهِمَا اجتهدوا وَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا على حكم وَعلم. وَثَبت الحكمان بِمُوجب " اجتهاديهما " عَلَيْهِمَا السَّلَام " عَلَيْهِمَا " ثمَّ نسخ حكم دَاوُد بعد ثُبُوته. وَنزل النَّص بتقرير حكم سُلَيْمَان. فَهَذَا وَجه التَّأْوِيل. 1833 - وَمِمَّا استدلوا بِهِ " أَيْضا " وحسبوه من عمدهم، مَا رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: " إِذا اجْتهد الْحَاكِم، فَأصَاب، فَلهُ أَجْرَانِ وَإِن " اجْتهد " وَأَخْطَأ فَلهُ أجر " وَاحِد " / قَالُوا: فَثَبت الحديث: 1833 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 " أَن " رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خطأ " الْمُجْتَهد " وَلَا يتَصَوَّر مَعَ القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين ثُبُوت خطأ الْمُجْتَهد /. قُلْنَا: هَذَا من أَخْبَار الْآحَاد، وَالْمَسْأَلَة قَطْعِيَّة. ثمَّ نقُول. الْخَبَر مَحْمُول على مَا إِذا اجْتهد وَأَخْطَأ النَّص بعد بذل كنه مجهوده. 1834 - فَإِن قَالُوا: فَالَّذِي بذل مجهوده فِي طلب النَّص " وَلم يعثر عَلَيْهِ " فَحكم الله " عنْدكُمْ " مُوجب اجْتِهَاده، فَمَا معنى الْخَطَأ؟ قُلْنَا: لَيْسَ الْمَعْنى بالْخَطَأ أَنه " أَخطَأ " مَا كلف، وَلَكِن الْمَعْنى بِهِ " أَنه " أَخطَأ النَّص فَلم يصبهُ. ثمَّ نقُول: ظَاهر الْخَبَر يدل عَلَيْكُم فَإِنَّهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أثبت الْأجر فِي " حق " كل وَاحِد من الْمُجْتَهدين. " فَالَّذِي " أَخطَأ مَا كلف " فحط " الْوزر عَنهُ أَجْدَر مِنْهُ بِالْأَجْرِ " فَترك " التَّعَرُّض الحديث: 1834 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 " لحط " الْوزر والإفصاح بِإِثْبَات الْأجر، من أبين الْأَدِلَّة على انْتِفَاء الْخَطَأ الَّذِي فِيهِ " نزاعنا " فَبَطل مَا قَالُوهُ. فَهَذِهِ جمل عمدهم وَهِي ترشدك إِلَى أَمْثَالهَا. 1835 - " وَأما " أَدِلَّة الْقَائِل بتصويب الْمُجْتَهدين، فقد ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ طرقا فِي الدَّلِيل " وَقد " تأملتها فَرَأَيْت بَعْضهَا " مفتقرا " فِي ثُبُوتهَا إِلَى بعض، وَكَأَنَّهَا فِي التَّحْقِيق " أَرْكَان " دلَالَة وَاحِدَة " فنرى أَن نركب " مِنْهَا دلَالَة، ونستقصي " فِيهَا " وُجُوه الْكَلَام على السَّبِيل الَّتِي " اتبعها " القَاضِي. 1836 - فَنَقُول لمخالفينا: " الْحق الَّذِي " ادعيتم اتحاده عِنْد الله تَعَالَى لَا تخلون إِمَّا أَن تزعموا أَنا كلفنا العثور عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَن تزعموا أَنه لم يتَعَلَّق بِهِ حكم " التَّكْلِيف ". الحديث: 1835 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 فَإِن زعمتم أَنا لم نكلف العثور " عَلَيْهِ " فوجوده وَعَدَمه فِي حق الْمُكَلّفين بِمَثَابَة " وَاحِدَة " إِذْ لَيْسَ هُوَ " حَقًا " عَلَيْهِم وَهَذَا الْقسم مِمَّا لَا يَقُول " بِهِ الْخصم " فَلَا فَائِدَة فِي الإطناب. 1837 - " وَإِن " زَعَمُوا أَن الَّذِي هُوَ عِنْد الله تَعَالَى، قد كلفنا العثور عَلَيْهِ وَالْعَمَل بِمُوجبِه وَهُوَ مَذْهَب الْقَوْم، " فَهَذَا " بَاطِل لأصلين " نمهدهما ". " أَحدهمَا ": إِجْمَاع الْمُسلمين قاطبة على أَن كل مُجْتَهد مَأْمُور بِالْعَمَلِ على قَضيته اجْتِهَاده " فَإِذا " غلب على ظن أحد الْمُجْتَهدين " فِي واقعه الْحل " وَغلب على ظن الآخر، التَّحْرِيم فَلَا يسوغ للْمحرمِ الْأَخْذ بِغَيْر مُوجب اجْتِهَاده /. وَلَو حاد عَنهُ عصى واقترب إِلَى المأثم فَإِذا تقرر باطلاق الْأمة كَون كل مُجْتَهد مواخذا بِالْعَمَلِ بقضية اجْتِهَاده / " فَلَا الحديث: 1837 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 يَخْلُو " إِمَّا أَن يكون مَا عمل بِهِ حَقًا عِنْد الله تَعَالَى وَإِمَّا أَن لَا يكون " كَذَلِك ". فَإِن كَانَ حَقًا عِنْد الله تَعَالَى فَهُوَ الَّذِي نلتمسه، " فَلْيَكُن " على هَذَا الأَصْل " كل وَاحِد من الْمُجْتَهدين مصيبا ". " وَإِن " زَعَمُوا أَنه يجب عَلَيْهِ الْعَمَل ظَاهرا، وَيجوز أَن يكون مَنْهِيّا " عَنهُ " عِنْد الله تَعَالَى. فَهَذَا بَاب من الْجَهَالَة، لَا يرتضي الْمُحَقِّقُونَ سلوكه. فَإِن الْأمة أَجمعت على أَن " الْمُجْتَهد " مَأْمُور بِالْعَمَلِ بقضية اجْتِهَاده، حَتَّى لَو مَال " عَنْهَا " " لنسب " إِلَى المأثم وَإِن تغير اجْتِهَاده فِي الثَّانِي. فَكيف تجمع الْأمة على وجوب مَا يجوز كَونه مَنْهِيّا عَنهُ. وَهل هُوَ إِلَّا التَّنَاقُض الَّذِي ادعوهُ علينا فِي صدر شبههم فَهَذَا تمهيد أحد الْأَصْلَيْنِ. 1838 - وَأما الأَصْل / الثَّانِي فَهُوَ أَن نقُول: إِذا " قدرتم وُرُود الْعَمَل " بِمُوجب الِاجْتِهَاد حكما " و " الحديث: 1838 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 هُوَ الْحق / " فَلَا تخلون " إِمَّا أَن تزعموا أَنه مِمَّا يعلم، وَإِلَى الْعلم بِهِ سَبِيل، وَقد نصب عَلَيْهِ دَلِيل. وَإِمَّا أَن تَقولُوا: " هُوَ " مِمَّا أمرنَا بِالْعلمِ بِهِ، وَلَا دَلِيل " يفضى " إِلَيْهِ. وَإِمَّا أَن تَقولُوا: مَا كلفنا الْعلم بِهِ أصلا. فَإِن زعمتم أَنا كلفنا الْعلم بِهِ - وَإِلَيْهِ صَار مُعظم الْمُخَالفين - وَزَعَمُوا أَن عَلَيْهِ أَدِلَّة مَنْصُوبَة " و " لَو تمسك بهَا النَّاظر " لأفضت " بِهِ إِلَيْهِ، فَهَذَا بَاطِل من أوجه. أقربها: أَن الْأَدِلَّة فِي المجتهدات الْحكمِيَّة مضبوطة الْأَوْصَاف " وَلَيْسَت " تَقْتَضِي علما لذواتها، بِخِلَاف أَدِلَّة الْعُقُول، فَإِنَّهَا لَو اقْتَضَت علما لذواتها، لاقتضته من غير نصب. وَقد استقصينا القَوْل فِي ذَلِك فِي أَحْكَام الْقيَاس. فَإِذا بَطل تنزلها منزلَة الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة فِي اقتضائها الْعلم لذواتها " دلّ " " على " أَنَّهَا إِنَّمَا انتصبت " إمارات " شرعا ثمَّ نعلم أَنَّهَا فِي قَضِيَّة الشَّرْع لَيست مِمَّا يقطع " بهَا " إِذْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 " مِنْهَا " خبر الْوَاحِد، وَلَا يسوغ الْقطع بنقله. وَمِنْهَا " طرق " الأقيسة وَلَا يسوغ الْقطع " أَيْضا " بِإِصَابَة المستنبط لَهَا على مَنْهَج أصل مخالفينا / فَأنى يَسْتَقِيم كَونهَا مفضية إِلَى الْعلم مَعَ التشكك / والاسترابة فِي أُصُولهَا. وَهَذَا مَا لَا جَوَاب عَنهُ. فَبَطل من هَذَا الْوَجْه مَا ادعوهُ من أَنا كلفنا الْعلم بِالْحَقِّ، و " أَن " نصب عَلَيْهِ الدَّلِيل المفضي إِلَيْهِ. 1839 - وَمِمَّا يبطل ادِّعَاء الْعلم، مَا ذكره القَاضِي رَضِي الله عَنهُ من " أَن " الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ من التَّابِعين مَا زَالُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد وكل مِنْهُم يزْعم أَن كل مُجْتَهد " يتبع اجْتِهَاده " وَلَا يسوغ لَهُ الإضراب عَنهُ، وَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُم لَا يقطع بِأَن الَّذِي تمسك بِهِ هُوَ الْحق / وَالْكل مدعوون إِلَيْهِ / " وَمن لم يصل " إِلَيْهِ فقد أَخطَأ الْحق. وَأكْثر مَا كَانَ يَدعِيهِ " الْمُجْتَهد " مِنْهُم غَلَبَة الظَّن وترجيح الأمارات. " فَأَما " الْقطع، فَلم الحديث: 1839 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 يصر إِلَيْهِ أحد مِنْهُم " وَكَذَلِكَ " كل علم مَقْطُوع بِهِ. 1840 - " فَثَبت " بذلك ثبوتا وَاضحا انْتِفَاء الْعلم " من " المجتهدات، إِذْ لَو كُنَّا كلفنا إِصَابَته لما ذهب " عَنهُ من " فرطنا، وَلَو ذَهَبُوا عَنهُ كَانُوا متفقين على خلاف الْحق / وَلَا تَجْتَمِع الْأمة على الضَّلَالَة، وَالَّذِي يُحَقّق لَك مَا ذكرنَا، أَن أحدا مَا كَانَ يؤثم أَصْحَابه " بالعدول " عَن الْحق / فَلَو كَانَ الْوُصُول إِلَى الْحق متصورا، وَهُوَ وَاجِب / لَكَانَ من مَال عَنهُ وحاد عَن " إِصَابَته " تَارِكًا لواجب / يقدر على الْوُصُول إِلَيْهِ، فَلَمَّا لم يؤثم بعض الصَّحَابَة بَعْضًا " فِي المجتهدات " فَكَذَلِك / عُلَمَاء عصرنا، لَا يوثم بَعضهم " فِي المجتهدات " بَعْضًا على أَنهم قَالُوا من حكم الْوَاجِب أَن " يعْصى " الْمُكَلف بِتَرْكِهِ. الحديث: 1840 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 1841 - وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن النَّاس لما " افْتَرَقُوا " فِيمَا يَلِيق بالديانات دعوا " إِلَى الْحق، طَوْعًا أَو قهرا " وَذَلِكَ نَحْو مُخَالفَة الْخَوَارِج وخروجهم على " إِمَام الْحق " إِلَى غير ذَلِك. فَهَذَا عقد الدّلَالَة على الَّذين قَالُوا: إِنَّا كلفنا فِي المجتهدات الْعلم " و " نصب لنا عَلَيْهِ دَلِيل. 1842 - فَإِن قَالُوا: إِنَّا كلفنا الْعلم، وَلم ينصب عَلَيْهِ " دَلِيل " يُوصل إِلَيْهِ المتمسك بِهِ فَهَذَا " خرق لإِجْمَاع " الْأمة وَذَلِكَ أَنهم أَجمعُوا على أَن الْمُكَلف إِنَّمَا يُكَلف الْعلم فِيمَا يتَصَوَّر فِيهِ الِاسْتِدْلَال المفضي إِلَى الْعلم. على أَن أَرْبَاب التَّحْقِيق قَالُوا من أَحْكَام النّظر: أَن " الْعُلُوم تَنْقَسِم إِلَى ضَرُورِيّ وكسبي " فَأَما الضَّرُورِيّ فَلَا يفْتَقر فِي حُصُوله إِلَى دَلِيل / وَلكنه يحصل " بِفعل " الله تَعَالَى بديا غير مَقْدُور للْعَبد وَمَا هَذَا سَبيله، لَا يجوز أَن يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِهِ. إِذْ التَّكْلِيف إِنَّمَا يتَعَلَّق بِمَا يدْخل تَحت الْمَقْدُور. الحديث: 1841 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 وَأما الكسبي من الْعُلُوم " فَلَا يسوغ " حُصُوله مَقْدُورًا، إِلَّا أَن يكون مدلولا، إِذْ لَو لم نقل ذَلِك أدّى إِلَى بطلَان ارتباط النّظر بِالْعلمِ. وَهَذَا مِمَّا يستقصى فِي غير هَذَا الْفَنّ، على أَنه مجمع عَلَيْهِ من الْقَوْم. فَبَطل بِمَا ذَكرْنَاهُ أجمع، تَقْدِير علم " فِي الْوَاقِعَة " سوى الَّذِي " يعلم " فِي ظَاهر الامر. وَتبين أَن الْحق مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَاد كل مُجْتَهد. 1843 - وَقد وَجه المخالفون على أصل وَاحِد مِمَّا ذكرنَا أسولة، وَالدّلَالَة " تستقل " دون ذَلِك الأَصْل. وَذَلِكَ أَنهم " سألونا " أسولة فِي تمسكنا " بِأَن " الصَّحَابَة لم يوثم " بَعضهم " بَعْضًا، وَنحن نذكرها ونتقصى عَنْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى - على أَنا لَا نحتاج إِلَى هَذَا الأَصْل فِي " عقد " الدّلَالَة. وَفِيمَا عداهُ غنية. وَلَكِن لَا يتَوَجَّه عَلَيْهِ شَيْء من أسئلة الْخصم. 1844 - فَمَا سَأَلُوهُ أَن قَالُوا: " بِمَ " تنكرون على من يزْعم أَن بَعضهم كَانَ يؤثم بَعْضًا " وَلم " ادعيتم الْإِجْمَاع فِي ذَلِك. وَمَا دليلكم عَلَيْهِ؟ الحديث: 1843 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 وَالْجَوَاب عَن ذَلِك من وَجْهَيْن: - أَحدهمَا أَنا نعلم قطعا، أَن أَئِمَّة الصَّحَابَة كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِي الْمسَائِل ثمَّ يعظم / بَعضهم بَعْضًا وَلَا يستجيز إِطْلَاق اللِّسَان فِي أَصْحَابه بِهِ بل يُبرئهُ عَن كل " شين " على أَنهم كَانُوا لَا يَغُضُّونَ على مَا لَا يجوز الإغضاء عَلَيْهِ كَيفَ! " وَقد " كَانُوا يوجبون على كل مُجْتَهد أَن يَأْخُذ بِمُوجب اجْتِهَاده. وَهَذَا ثَابت قطعا فِي مذاهبهم ومذاهب أهل عصرنا. " فَأنى " يَسْتَقِيم مَعَ ذَلِك الحكم بالتأثيم؟ ثمَّ نقُول: إِن بعد عَلَيْكُم أَمر الصَّحَابَة، فإجماع أهل الْعَصْر يغنيكم. فَإِن أحدا مِنْهُم لَا يؤثم الْعلمَاء فِي المجتهدات. بل يسوغ " لكل مُجْتَهد تتبع " اجْتِهَاده بعد أَن لَا يألو " جهده ". 1845 - فَإِن قَالُوا: " قد " اشْتهر عَن أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] التناكر والتغليظ " فِي القَوْل " فِي المجتهدات، واشتهر " عَنْهُم أَيْضا " الانتساب الحديث: 1845 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 إِلَى الْخَطَأ ونسبته. " فمما " روى فِي ذَلِك. " مَا روى " عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ، أَنه قَالَ فِي تَوْرِيث الْجد مَعَ الْأَخ: أَلا يَتَّقِي " الله " زيد بن ثَابت يَجْعَل ابْن الابْن " ابْنا " وَلَا يَجْعَل " أَب " الابْن أَبَا. وَقَالَ فِي الْعَوْل: من شَاءَ باهلته وَالَّذِي أحصى رمل عالج عددا لم يَجْعَل فِي المَال نصفا وثلثين والمباهلة هِيَ الْمُلَاعنَة / من قَوْله (نبتهل) أَي نلتعن /. وَرُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ فِي قصَّة الْمَرْأَة الَّتِي أرسل إِلَيْهَا عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ رَسُوله يَنْهَاهَا عَن " الْفُجُور " وَكَانَت ترتقي سلما، فأجهضت جَنِينهَا لما بلغتهَا الرسَالَة. فَأَشَارَ بعض الصَّحَابَة على عمر رَضِي الله عَنهُ بأنك مؤدب، وَلَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 " عزم " عَلَيْك. فَقَالَ عَليّ عِنْد ذَلِك: " إِن " اجتهدوا فقد اخطأوا وَإِن لم يجتهدوا فقد غشوك، أرى عَلَيْك الدِّيَة. وَهَذَا تَصْرِيح " مِنْهُم " بتخطئتهم. وَبَاعَ زيد بن أَرقم عبدا لَهُ بيع الْعينَة. فَقَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَلا أخبروا زيد بن أَرقم، أَنه أبطل جهاده مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] / إِن لم يثبت /. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 وَنهى عمر رَضِي الله عَنهُ عَن المغالاة فِي " المهور " وَهُوَ يخْطب فَقَامَتْ إِلَيْهِ امْرَأَة " فَقَالَت " مَالك تحجر علينا فِي خيرة الله. فَقَالَ عمر صدقت. وكل النَّاس أفقه من عمر. " فاعترف " على نَفسه بالْخَطَأ. 1846 - واشتهر " عَن " الصَّحَابَة فِي المجتهدات " تَجْوِيز " الْخَطَأ على أنفسهم. فَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ " فِي كثير " مِنْهَا / إِن أصبت فَمن الله، وَإِن أَخْطَأت فَمن نَفسِي. وَقَالَ ابْن مَسْعُود فِي قصَّة بروع بنت واشق، إِن أصبت فَمن الله وَإِن / أَخْطَأت فَمن الشَّيْطَان. وَهَذِه الْقَبِيل " قد " اشْتهر عَنْهُم اشتهارا بَينا وَلَا معنى للخطأ فِي المجتهدات مَعَ القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين. هَذَا مَا تمسكوا بِهِ من الْآثَار. الحديث: 1846 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 1874 - وَأول مَا نفاتحهم، أَن نقُول: كَيفَ يَسْتَقِيم مِنْكُم حمل عادات " الصَّحَابَة " وشيمهم على خلاف مَا اجْمَعْ عَلَيْهِ أهل الْعَصْر؟ وَقد اجْمَعْ أهل الْعَصْر قاطبة على " أَن " مسَائِل الِاجْتِهَاد لَا يجْرِي / فِيهَا التأثيم وَإِنَّمَا يجْرِي التأثيم فِي أَن يُخَالف الرجل مُوجب اجْتِهَاده وَكَيف يسوغ مَعَ هَذَا الْإِجْمَاع أَن يَقع / التأثيم فِي الصَّحَابَة، مَعَ تنزههم عَمَّا يشينهم و " يحطهم " " عَمَّا " فَضلهمْ الله تَعَالَى " بِهِ ". فَتعين بعد ذَلِك علينا وَعَلَيْهِم تتبع مَا ذَكرُوهُ من الْآثَار بالتأويل. 1848 - وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن مَا " نقلوا " " فِيهِ " تَغْلِيظ القَوْل " مُخْتَلف فِيهِ " " وَقد اتّفق " أهل الْعَصْر على أَنه لَا يجْرِي فِيهِ التَّغْلِيظ مَعَ كَونه مُخْتَلفا فِيهِ. وَمِمَّا ذكر فِيهِ التَّغْلِيظ بيع الْعينَة. وَقد " أجمع " الْمُسلمُونَ على الحديث: 1874 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 " أَن " من بَاعَ على الْوَجْه الْمُخْتَلف فِيهِ " فَهَذَا " لَا يحبط " جهاده " مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَمِمَّا يُؤثر فِي التَّغْلِيظ، مسَائِل الْجد. " إِذْ " رُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: من أحب أَن يقتحم جراثيم جَهَنَّم فَلْيَتَكَلَّمْ فِي الْجد " بِرَأْيهِ " / وَهَذَا مَتْرُوك الظَّاهِر من وَجْهَيْن. أَحدهمَا: أَن التَّكَلُّم فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 الْجد لَا بُد مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَن الْخلاف فِيهِ لَا يحل مَحل تقحم الجراثيم، فقد انْدفع عَنَّا " مَا ذكره " من التأثيم، " حجاجا " " إِذْ " قد بَينا افتقار الْخصم إِلَى التَّأْوِيل وَإِزَالَة الظَّاهِر. 1849 - ثمَّ الْكَلَام على مَا ذَكرُوهُ من الْآثَار " من " أوجه: - أَحدهَا - أَن نقُول إِنَّهَا آحَاد. وَلَا تكَاد أَن تبلغ مبلغ الْقطع. وَالَّذِي تمسكنا بِهِ من اجماع أهل الْعَصْر فِي ترك التأثيم. واجماع الصَّحَابَة قطع لَا ريب فِيهِ. وَالْوَجْه الثَّانِي من الْكَلَام أَن نقُول: إِن صَحَّ التأثيم وتغليظ القَوْل فِي بعض الصُّور، فَذَلِك لِأَن المغلظ المؤثم اعْتقد أَن الَّذِي جرى الْكَلَام فِيهِ لَيْسَ من المجتهدات وحسبه من القطعيات " وَلذَلِك " غلظ القَوْل. وَالْأَمر على خلاف مَا " قدره " " فَأَما " الَّذِي يتفقون على كَونه مُجْتَهدا، فَيجْمَعُونَ على ترك التأثيم فِيهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 1850 - فَإِن قَالُوا: " فَكيف " حسب ابْن عَبَّاس مسئلة الْعَوْل قَطْعِيَّة؟ قُلْنَا: فلسنا نضمن / عصمَة ابْن عَبَّاس، وَلَا عصمَة من هُوَ أجل " مِنْهُ " من الصَّحَابَة. وغرضنا " بسياق " هَذَا الْكَلَام أَن نصرف " التَّغْلِيظ " عَن المجتهدات " فتدبرها ". 1851 - وَأما مَا تمسكوا بِهِ من الْآثَار المنطوية على " الانتساب " إِلَى الْخَطَأ وَالنِّسْبَة إِلَيْهِ، فَلَيْسَ يَلِيق بِمَا " اصلناه " من كفهم عَن " التأثيم " وَلَكِن " إِنَّمَا " تمسكوا بِهِ " بديا " فَنَقُول: لَا معتصم فِيهَا فَإِنَّهَا آحَاد. وَهِي مَعَ ذَلِك عرضة للتأويل. وَأما مَا " تعلقوا بِهِ " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 من النَّقْل من قَول بَعضهم، إِن أَخْطَأت فَمن نَفسِي، فَمَعْنَاه إِن أَخْطَأت نصا لم يبلغنِي، وَلَيْسَ الْمَعْنى بِهِ الْخَطَأ فِيمَا كلف. وَمَا روى عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ من الِاعْتِرَاف بالْخَطَأ فِي " المغالاة " فِي الْمهْر فَهُوَ على وَجهه. فَإِن ظَاهر نَهْيه رَضِي الله عَنهُ فِي خلال الْخطْبَة على مَلأ " من " الصَّحَابَة يُنبئ عَن الزّجر والردع وَفِيه الْإِفْضَاء إِلَى تَحْرِيم الْمُبَاح مَعَ " مهابة " عمر رَضِي الله عَنهُ فِي الْقُلُوب فَلَمَّا صدر مِنْهُ النَّهْي الْمُطلق، رأى استدراكه وَالِاعْتِرَاف على نَفسه. وَمَا روى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَهُوَ بصدد التَّأْوِيل أَيْضا. فَإِنَّهُ قَالَ: إِن اجتهدوا / فقد أخطاوا. مَعْنَاهُ: أخطأوا وَجه الرَّأْي الَّذِي " أبديته " ورأيته وَلَيْسَ الْمَعْنى أَنهم أخطأوا مَا كلفوا. فَهَذَا وَجه مَا تمسكوا بِهِ من الْآثَار. فقد نجزت الدّلَالَة الَّتِي " عقدناها ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 1852 - وَالْأولَى عندنَا إِذا خضت فِي الِاسْتِدْلَال أَن تقسم الْكَلَام على " خصمك " فَتَقول: فتصويب الْمُجْتَهدين عنْدك " مِمَّا يَسْتَحِيل الْمصير إِلَيْهِ عقلا، أَو هُوَ مِمَّا يمْتَنع شرعا، فان قَالَ: " هُوَ " مِمَّا يَسْتَحِيل عقلا " فقد " ألحق جَائِزا بالمحالات. فَإِن الَّذِي صَار إِلَيْهِ المصوبون لَو قدر " وُرُود " الشَّرْع بِهِ، لم يسْتَحل. فَإِن الرب تَعَالَى لَو قَالَ: آيَات احكامي على الْمُكَلّفين غلبات " ظنونهم " فَمن غلب على ظَنّه شَيْء " فَالْعَمَل بِمُوجبِه حكمي عَلَيْهِ ". فَهَذَا لَا يعد من المستحيلات. فَإِن عَادوا وتمسكوا فِي تَحْقِيق الاستحالة بِمَا ادعوهُ من طرق المناقضات، فَالْجَوَاب عَنْهَا هَين على مَا سبق. وَإِن زَعَمُوا أَن ذَلِك لَا يَسْتَحِيل عقلا، وَإِنَّمَا يمْتَنع شرعا فنقيم عَلَيْهِم الدّلَالَة الَّتِي سبقت، حِينَئِذٍ. وَإِنَّمَا رَأينَا هَذَا التَّقْسِيم لِأَن الْمُخَالفين يتسرعون إِلَى ادِّعَاء اسْتِحَالَة تصويب / الْمُجْتَهدين عقلا، حَتَّى إِذا سلكوا هَذَا الْمنْهَج هان الْكَلَام عَلَيْهِم، وَإِن ردوا الْأَمر إِلَى الشَّرْع " تمسكا " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 بِالدّلَالَةِ السَّابِقَة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 1853 - " نجز " " الْكَلَام " على الْقَائِلين بِأَن الْمُجْتَهد مَأْمُور بالعثور على الْحق وَأَن الْمُصِيب من الْمُجْتَهدين " وَاحِد ". " وَبَقِي علينا الْكَلَام فِي ثَلَاثَة فُصُول " احدها: " فِي " الرَّد على من قَالَ: كل مُجْتَهد مُصِيب فِي اجْتِهَاده. وَالثَّانِي: تَفْصِيل القَوْل فِي الْأَشْبَه. وَالثَّالِث: القَوْل بالتخيير / إِذا قُلْنَا بتصويب الْمُجْتَهدين / عِنْد تقَابل الأمارات. (316) فصل فِي الرَّد على من قَالَ كل مُجْتَهد مُصِيب فِي اجْتِهَاده 1854 - ذهب بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة / إِلَى أَن كل مُجْتَهد مُصِيب فِي اجْتِهَاده واحدهما مُصِيب فِي الحكم. وَالثَّانِي مُخطئ فِيهِ، ويؤثر ذَلِك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 عَن أبي حنيفَة / ويحكى عَن الْمُزنِيّ وَغَيره من أَصْحَاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ " مثله " وَذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ عَن الشَّافِعِي نصوصا دَالَّة على الْأَخْذ " فِيهَا " بِهَذَا المأخذ. 1855 - وَأول مَا نفاتح الْقَوْم بِهِ أَن نقُول " هَل يُكَلف " الْمُجْتَهد العثور على الْحق الْمَطْلُوب بِالِاجْتِهَادِ؟ فَلَا يخلون عِنْد ذَلِك إِمَّا أَن يَقُولُوا: لَا يتَعَيَّن على الْمُجْتَهد " إِلَّا " الِاجْتِهَاد، فَأَما العثور على الْحق فَلَا يُكَلف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 فَإِن سلكوا هَذِه " الطَّرِيقَة " فقد أفصحوا بمذهبنا " فَإِنَّهُم صوبوا كل مُجْتَهد فِيمَا كلف. على أَن " عباراتهم " " شنيعة " جدا كَأَنَّهُمْ أثبتوا حكما يتَعَلَّق بِهِ التَّكْلِيف وَهَذَا مَرْدُود بِاتِّفَاق. فَإِن الْأَحْكَام فِي المجتهدات وَغَيرهَا من الشرعيات " يتَعَلَّق " التَّكْلِيف بهَا إِجْمَاعًا إِذْ المستحيل ثُبُوت تَحْرِيم وَتَحْلِيل وَإِيجَاب وَندب من غير أَن يتَعَلَّق بِهِ تَكْلِيف مُكَلّف. 1856 - فَإِن قَالُوا: إِن الْمُجْتَهد مَأْمُور " بِالِاجْتِهَادِ " والعثور على الْحق كَمَا " قَالَه " الْأَولونَ. فَيُقَال لَهُم: فَهَل على الْحق دَلِيل؟ فَإِن قَالُوا: أجل! قيل لَهُم فَكيف يكون الْمُجْتَهد مصيبا فِي اجْتِهَاده، وَهُوَ لم يتَمَسَّك بِمَا يُفْضِي بِهِ إِلَى الْحق - إِمَّا بِأَن حاد عَن الدّلَالَة فَلم يتَعَلَّق بهَا، أَو فرط فَلم يكمل النّظر فِيهَا. فَلَا يَسْتَقِيم مَعَ هَذَا الأَصْل القَوْل بِأَن الْمُجْتَهد أدّى مَا كلف فِي اجْتِهَاده. 1857 - فَإِن قَالُوا: إِن بعض مَا أَتَى بِهِ من الِاجْتِهَاد، فقد أدّى مَا كلف فِيهِ وَلكنه " لم يتممه " فَنَقُول: فَمَا يُؤمنهُ أَنه لم يسْلك طَرِيق النّظر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 فِي الدّلَالَة وَلم / يضع نظره أَولا إِلَّا فِي شُبْهَة. مَعَ تَجْوِيز ذَلِك كَيفَ تطلقون القَوْل بتصويبه فِي الِاجْتِهَاد، على أَن الِاجْتِهَاد مِمَّا " لَا يَتَبَعَّض " فَإِذا " لم يكمل " لم يَصح شَيْء مِنْهُ. فَإِنَّهُ يطْلب لغيره، ويتنزل منزلَة الصَّلَاة يُؤَدِّي بَعْضهَا ثمَّ يطْرَأ عَلَيْهَا / " مَا " يُبْطِلهَا. على أَنا " نقُول " بعد مَا بَينا تناقضهم، نتمسك عَلَيْهِم بِالدّلَالَةِ القاطعة الَّتِي " لَا مخلص " مِنْهَا، " بِأَن نقُول " أَلَيْسَ مُجْتَهدا مَأْمُورا بِأَن يعْمل بِمُوجب اجْتِهَاده، مأثوما بالانكفاف عَنهُ، عَاصِيا بِتَرْكِهِ؟ / وَهَذَا حَقِيقَة الْوُجُوب وَلَا مُوجب إِلَّا الله، فَكيف يتَحَقَّق مَعَ ذَلِك أَن يَأْمُرهُ بالشَّيْء ويعصيه بِتَرْكِهِ / وَيجوز أَن يكون " مَنْهِيّا عَمَّا أَمر بِهِ " فَهَل هَذَا إِلَّا تنَاقض. لَا يستريب " فِيهِ " ذُو عقل! . 1858 - فَإِن قَالُوا: فَالَّذِي ذكرتموه يبطل عَلَيْكُم بِمَا لَو اجْتهد وَعمل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 بِمُوجب اجْتِهَاده ثمَّ تبين " لَهُ " أَنه أَخطَأ " نصا " فَإِنَّهُ كَانَ مَأْمُورا بِمُوجب اجْتِهَاده. ثمَّ تبين " لَهُ " أَنه كَانَ مخطئا. وَهَذَا مِمَّا يعدونه من أعظم القوادح فِيمَا تمسكنا بِهِ. فَنَقُول: إِذا لم يفرط الْمُجْتَهد فِي الطّلب وَشدَّة الْبَحْث عَن النُّصُوص، وَلم يتَمَكَّن من العثور عَلَيْهِ، فَحكم الله " تَعَالَى " عَلَيْهِ مُوجب اجْتِهَاده قطعا. ويتنزل منزلَة من لم يبلغهُ النَّاسِخ للْحكم. فَيكون " مُخَاطبا " - على الْأَصَح - بِمُوجب الْمَنْسُوخ إِلَى أَن يبلغهُ النَّاسِخ. وَإِذا صددناهم عَن ذَلِك ضَاقَ عَلَيْهِم كل مَسْلَك، وَاسْتمرّ لنا مَا طردناه من " الدَّلَائِل ". (317) فصل فِي القَوْل بالأشبه، وَذكر اخْتِلَاف النَّاس فِيهِ 1859 - ذهب طَائِفَة من الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن كل مُجْتَهد مُصِيب. وَلَا يُكَلف إِلَّا الْعَمَل بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده " لكنه " مَأْمُور عِنْد وضع الِاجْتِهَاد بِطَلَب الْأَشْبَه عِنْد الله تَعَالَى. ثمَّ إِذا طرد اجْتِهَاده فَلَا يُكَلف أَن يُصِيب الْأَشْبَه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 عِنْد الله تَعَالَى، وَلَكِن يعْمل بقضية اجْتِهَاده وَلم يقل بالأشبه إِلَّا المصوبون. وَإِلَيْهِ مَال عِيسَى بن أبان والكرخي فِي بعض رواياته. وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ مُحَمَّد بن الْحُسَيْن. 1860 - ثمَّ روجعوا فِي الْأَشْبَه، اخْتلفت أجوبتهم فِي بَيَانه. فَذهب بَعضهم إِلَى الْكَفّ عَن بَيَانه. وَهَذَا نِهَايَة " الْعين ". فَإِن مَا ذَكرُوهُ إِن كَانَ مَجْهُولا عِنْدهم / " فيستحيل " اعْتِقَاده وَإِن كَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 مَعْلُوما، يَأْتِي بِبَيِّنَتِهِ. وَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْأَشْبَه عِنْد الله تَعَالَى " أولى " طرق الشّبَه فِي المقايس والعبر. ومثلوا ذَلِك بِأَن قَالُوا: إِذا ألحق القايس الْأرز بِالْبرِّ بِوَصْف " الطّعْم " أَو بِوَصْف الْقُوت أَو الْكَيْل " فأحد " هَذِه الْأَوْصَاف أشبه عِنْد الله تَعَالَى وَأقرب فِي التَّمْثِيل. والمجتهد يُكَلف نَفسه بِالِاجْتِهَادِ، العثور عَلَيْهِ. ثمَّ لَا عَلَيْهِ أَن " لَو " أخطأه. وَذهب آخَرُونَ " فِي " تَفْسِير الْأَشْبَه إِلَى أَن قَالُوا: الْأَشْبَه عِنْد الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي لَو ورد النَّص تَقْديرا لما ورد إِلَّا بِهِ. 1861 - فَنَقُول لَهُم: إِذا صوبنا الْمُجْتَهدين، وأوجبنا على كل " وَاحِد " تتبع مُوجب اجْتِهَاده، وَجَعَلنَا كل وَاحِد على حق عِنْد الله تَعَالَى فَلَا معنى لتقدير الْأَشْبَه مَعَ ذَلِك. " على أَنا نقُول لَهُم ": هَل يُكَلف الْمُجْتَهد العثور على الْأَشْبَه، أم لَا يُكَلف ذَلِك؟ فَإِن لم يُكَلف العثور عَلَيْهِ، فَكيف يجب طلبه، مَعَ أَن الْمُجْتَهد يعْتَقد أَنه لَا يُكَلف العثور عَلَيْهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 وَإِن قُلْتُمْ: إِنَّه يجب العثور عَلَيْهِ، فَإِذا لم يعثر عَلَيْهِ الا وَاحِد من الْمُجْتَهدين، وَجب تخطئة البَاقِينَ. وَهَذَا خوض فِي الْمَذْهَب الأول الَّذِي ابطلناه " إِذْ لَا فصل " بَين تَقْدِير الْأَشْبَه، وَلَا دَلِيل يُوصل إِلَيْهِ / وَبَين تَقْدِير الْعلم، وَلَا دَلِيل يُوصل إِلَيْهِ / على أَن مَا " عولنا " عَلَيْهِ، يهدم الْمصير إِلَى الْأَشْبَه. فَإِنَّهُ يَسْتَحِيل الْجمع بَين قَول الْقَائِل: يجب على كل مُكَلّف / أَن يعْمل بِمُوجب اجْتِهَاده ويعصي بِتَرْكِهِ، وَيجوز أَن " يكون " " الأمثل " لَهُ غَيره. وَالْأَشْبَه عِنْد الله تَعَالَى ترك مَا " يعصيه " بِتَرْكِهِ. 1862 - ثمَّ نقُول: مَا ذكرتموه فِي الْأَشْبَه لَا معنى لَهُ. فَإِنَّكُم إِن عنيتم بِهِ مشابهة الْفَرْع الأَصْل فِي أَوْصَاف الذَّات فَهَذَا مُسْتَحِيل فِي طَرِيق اجْتِهَاد الشرعيات. فَإِن الشَّيْء خِلَافه كَمَا يُقَاس على مثله " فَلَا يعول فِي العبر " الشَّرْعِيَّة على تماثل الْأَوْصَاف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 " الذاتية ". وَإِن عنوا بالأشبه أَن الرب تَعَالَى نصب وَصفا من الْأَوْصَاف علما دون غَيره، فَكيف يَقُولُونَ مَعَ ذَلِك بتصويب الْمُجْتَهدين. وَهَذَا مَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ. 1863 - ثمَّ نقُول: لم يُؤثر عَن الْقَائِلين بالأشبه، إِلَّا المقالات الثَّلَاث الَّتِي حكيناها أَحدهَا الْكَفّ عَن التَّفْسِير، وَهُوَ " تورط " فِي الْجَهَالَة. وَالثَّانِي: التَّفْسِير " بِأولى " وُجُوه الْقيَاس وَهُوَ بَاطِل، فَإِن " الأول " لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون أولى عقلا، وَهُوَ بَاطِل، وَإِمَّا أَن يكون أولى بِمَعْنى أَنه علم " على الحكم " دون غَيره. فَهُوَ الْحق " إِذا " وَمَا سواهُ فخطأ. وَلَا معنى للاشبه سوى مَا قُلْنَاهُ. وان خسروا الْأَشْبَه بِأَنَّهُ الَّذِي لَو ورد النَّص لم يرد إِلَّا بِهِ. فَنَقُول: " فَقولُوا " إِن من أخطأه مَعَ أَنه " وَجب عَلَيْهِ طلبه " فَهُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 مُخطئ فَإِن قَالُوا: لَا نجعله مخطئا، لِأَنَّهُ " لم يرد " بِهِ النَّص قُلْنَا: فَلَا تجعلوه الْأَشْبَه " فَإِنَّهُ " لم يرد بِهِ النَّص. فَإِنَّهُ لَا معنى لكَونه أشبه / إِن / يرجع إِلَى ذَاته، " و " إِنَّمَا يكون اشبه بِنصب الشَّرِيعَة إِيَّاه علما على الحكم. فَإِذا لم ينصبه لم يكن لكَونه أشبه معنى. 1864 - فَإِن اسْتدلَّ الْقَائِلُونَ بالأشبه بنكتة وَاحِدَة على المصوبين فَقَالُوا: لَا بُد " للمجتهد " من مَطْلُوب " وَلَا يتَصَوَّر " طلب من غير مَطْلُوب. وَقد منعتم أَن يكون المبطلون علما، وانكرتم أَن يكون لله تَعَالَى " حكم معِين فِي الْحَادِثَة " أَو أَمارَة مَنْصُوبَة على الحكم يتَعَيَّن " العثور " عَلَيْهَا. فَإِذا أبطلتم مَعَ ذَلِك الْأَشْبَه، فَمَا الَّذِي تطلبونه؟ وَهَذَا أعظم سُؤال على المصوبين. وَرُبمَا يوضحون ذَلِك بِالِاجْتِهَادِ فِي الْقبْلَة فَيَقُولُونَ من خفيت عَلَيْهِ أَدِلَّة " الْقبْلَة " " فَهُوَ " مَأْمُور بطلبها، ثمَّ إِنَّا نكلفه أَن يُصَلِّي إِلَى الْجِهَة الَّتِي أدّى اجْتِهَاده إِلَيْهَا، وَلَكِن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 " يتأسس " اجْتِهَاده على طلب الْقبْلَة ثمَّ يعْمل بقضيتها. وَلَا يُكَلف سوى قَضِيَّة اجْتِهَاده. وَكَذَلِكَ قَوْلنَا فِي الْأَشْبَه. وَالْجَوَاب عَن ذَلِك أَن نقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه لَا يَصح مِنْكُم أَولا فَإِن معولكم فِيمَا ذكرتموه على أَن الطّلب من غير مَطْلُوب لَا يتَحَقَّق وَهَذَا ينعكس عَلَيْكُم مَعَ قَوْلكُم بِأَن العثور يجب على الْمَطْلُوب. فَإِذا لم توجبوا العثور على الْمَطْلُوب، وَعلم كل مُجْتَهد ذَلِك من نَفسه، فَأَي معنى لوُجُوب الطّلب؟ ثمَّ " يُقَال " " بِمَ " تنكرون على من يزْعم أَن الْمَطْلُوب بِالِاجْتِهَادِ غَلَبَة الظَّن! فمهما غلب " بطرِيق الِاجْتِهَاد " على ظن الْمُجْتَهد " ضرب " من الحكم فغلبة " ظَنّه " أَنه حكم لله تَعَالَى عَلَيْهِ. 1865 - فَإِن قَالُوا: " فمجرد " غَلَبَة الظَّن لَا ينْتَصب آيَة وفَاقا، حَتَّى تقع غَلَبَة الظَّن عَن اجْتِهَاد. وَالِاجْتِهَاد يَنْبَغِي أَن يَنْبَنِي على " قصد " مَطْلُوب. ويستحيل أَن يكون مَطْلُوب الْمُجْتَهد غَلَبَة " الظَّن " بل يطْلب شَيْئا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 ويغلب على ظَنّه أَنه أَصَابَهُ فَيكون ذَلِك ظن صدر عَن اجْتِهَاده " مُتَعَلق " بمطلوب وانتم إِذا لم تثبتوا مَطْلُوبا أصلا فَلَا يتَقَدَّر الِاجْتِهَاد. قُلْنَا: سَبِيل التَّوَصُّل إِلَى غَلَبَة الظَّن / مَا نذكرهُ الْآن وَهُوَ " أَن الْمُجْتَهد " يعلم أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم تمسكوا بِاعْتِبَار / الْعِلَل وَغَلَبَة الْأَشْبَاه وحكموا بِمَا يخْطر لَهُم من قضاياها فيسلك الْمُجْتَهد مسلكهم، مَعَ أَنه يعْتَقد عدم تعْيين " حكم " مُحَقّق أَو مُقَدّر فمهما قدر نَفسه سالكا مسلكهم فِي الْحَادِثَة الْوَاقِعَة فيغلب على ظَنّه عِنْد " ذَلِك " مُوجب اجْتِهَاده فقد وضح وَجه التَّوَصُّل إِلَى غَلَبَة الظَّن، من غير تَقْدِير الْأَشْبَه كَمَا صرتم إِلَيْهِ. " و " من غير تَقْدِير الْحق الكامن، كَمَا صَار إِلَيْهِ الْأَولونَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 (318) فصل القَوْل بالتخيير عِنْد تقَابل الأمارات / 1866 - فَإِن قَالَ " قَائِل " " إِذا " اجْتهد الْمُجْتَهد، " فتقابل " فِي ظَنّه وَجْهَان من الِاجْتِهَاد وَلم يتَرَجَّح أَحدهمَا على الآخر وهما متعلقان بحكمين متنافيين فَمَا قَوْلكُم فِي هَذِه الصُّور؟ قُلْنَا: أما من زعم أَن الْمُصِيب وَاحِد، فقد اخْتلفت أَقْوَالهم فِي هَذِه الصُّورَة. فَذهب بَعضهم إِلَى أَنه يُقَلّد عَالما " قد " قطع بِأحد وَجْهي اجْتِهَاده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه لَا يُقَلّد " عَالما " وَلَا يَأْخُذ بِاجْتِهَاد نَفسه وَلَكِن يتَوَقَّف، ويصمم على طرق التَّرْجِيح. 1867 - فَإِن تضيق الْأَمر فقد اخْتلف مانعوا التَّقْلِيد عِنْد ذَلِك. فَذهب ذاهبون إِلَى جَوَاز التَّقْلِيد فِي هَذِه الْحَالة، وَإِن " منعُوا " فِي غَيرهَا من الْأَحْوَال. وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه لَا يُقَلّد وَلَكِن يعْمل بِأَحَدِهِمَا. ويستقصى القَوْل فِي ذَلِك فِي كتاب التَّقْلِيد. إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَأما " المصوبون " فقد خير بَعضهم، وَمنع بَعضهم القَوْل بالتخيير " وصاروا " إِلَى التَّوَقُّف " أَو " التَّقْلِيد. وَزعم أَنه حكم الله تَعَالَى عَلَيْهِ قطعا. قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالصَّحِيح فِي ذَلِك عندنَا مَا صَار إِلَيْهِ شَيخنَا رَضِي الله عَنهُ. وَهُوَ أَن الْمُجْتَهد يتَخَيَّر فِي الْأَخْذ بِأَيّ الاجتهادين شَاءَ. وَالدَّلِيل " على ذَلِك " بطلَان التَّقْلِيد، على مَا نوضحه. فَإِذا بَطل التَّقْلِيد وَقد أوضحنا بِمَا قدمْنَاهُ أَن كل مُجْتَهد مُصِيب وَقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 اسْتَوَى فِي حَقه / الاجتهادان، فَلَا سَبِيل إِلَى الْأَخْذ بِمَا شَاءَ الا بِضيق الْوَقْت. فَينزل الحكمان فِي حَقه / منزلَة الْكَفَّارَة فِي حق الحانث. 1868 - فَإِن قَالَ قَائِل: فَفِي الْمصير إِلَى التَّخْيِير خرق الْإِجْمَاع. وَذَلِكَ أَنه إِذا نقل عَن الصَّحَابَة قَولَانِ فِي الْمَسْأَلَة فاجتهد فيهمَا الْمُجْتَهد و " تقاوم " الاجتهادان فِي حَقه، فَلَو صَار التَّخْيِير كَانَ قولا ثَالِثا وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَن من صَار إِلَى إِيجَاب رَقَبَة فِي حَادِثَة، مَعَ من صَار إِلَى إِيجَاب الْكسْوَة، لَا يوافقان من خير بَينهمَا. فَإِن الْمُخَير سلك مسلكا سوى مسلكهما. " فَمن " هَذَا الْوَجْه لزم اختراع قَول ثَالِث. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن التَّخْيِير / من الْأَحْكَام المعدودة فِي مَرَاتِب أَحْكَام الشَّرِيعَة ويتميز " بِهِ " بعض الْكَفَّارَات عَن بعض. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه يَنْقَلِب عَلَيْكُم على وَجه " لَا تَجِدُونَ " عَنهُ " مخلصا فَإنَّا نقُول: " إِذا " تقَابل الاجتهادان، وتضيق الحكم، وَلم يجد الْمُجْتَهد من يقلده. فَمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 قَوْلكُم فِي هَذِه الصُّورَة؟ فيضطرون إِلَى القَوْل بِأَنَّهُ يَأْخُذ " بِأَحَدِهِمَا و " يلْزمهُم " فِي هَذِه الصُّورَة مَا ألزمونا. فَإِن قَالُوا: يتَوَقَّف! فَكيف يُمكنهُم ذَلِك؟ وَقد صور عَلَيْهِم التَّضْيِيق وَمنع التَّأْخِير بِإِجْمَاع على أَن للخصم أَن يَقُول: التَّوَقُّف حكم " ثَالِث ". 1869 - ثمَّ نقُول: لسنا نقُول " إِن " التَّخْيِير يثبت " حكما " فِي حق الْمُجْتَهد حَتَّى يعْتَقد أَنه " ثَالِث " وَلَكِن يَأْخُذ بِأَحَدِهِمَا. و " يُوَافق من يَشَاء " من الْمُخْتَلِفين فِي الْعَصْر الْمَاضِي. وَهُوَ كالمستفتي يتَصَدَّى " لَهُ " مفتيان مستويان فِي كل الْأَوْصَاف " وفتوياهما " " لَهُ " مُخْتَلِفَانِ. فَيَأْخُذ بفتوى أَحدهمَا، وَلَا يكون ذَلِك تخييرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 فوضح / الِانْفِصَال عَمَّا ألزموه. 1870 - فَإِن قَالُوا: أَلَيْسَ معولكم على غَلَبَة الظَّن فِي كل مَا قدمتموه. " فَإِذا " تقَابل الاجتهادان فقد خلت الْمَسْأَلَة " عَن " غَلَبَة الظَّن. قُلْنَا: " إِذا " تقَابل الاجتهادان فتقابلهما أَمارَة فِي " إثارة " غَلَبَة الظَّن بالتخيير. وَهَذَا وَاضح / فافهمه وَقد انْقَضى الْكَلَام فِي تصويب الْمُجْتَهدين /. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 (319) بَاب " القَوْل " فِي جَوَاز " التَّعَبُّد " بِالْقِيَاسِ فِي حَضْرَة الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] 1871 - اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك فَذهب ذاهبون إِلَى منع " التَّعَبُّد " بِالْقِيَاسِ فِي " حَضْرَة " الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَذهب آخَرُونَ إِلَى جَوَاز ذَلِك عقلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 وَهُوَ الَّذِي نرتضيه. " فَإِن " الْجَائِز يتَمَيَّز عَن المستحيل بِانْتِفَاء وُجُوه الاستحالة. وَجُمْلَة وُجُوه الاستحالة منتفية فِي جَوَاز " وُرُود " " التَّعَبُّد " بِالْقِيَاسِ بِحَضْرَة الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " و " لَو قدر مُصَرحًا بِهِ، لم يسْتَحل بِأَن يَقُول صَاحب الشَّرِيعَة، إِذا عنت لكم حَادِثَة فَأنْتم بِالْخِيَارِ فِيهَا. " إِن " " أَحْبَبْتُم " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 " راجعتموني " لأخبركم بِحكم الله تَعَالَى " وَحيا " واجتهادا. " وَإِن " " أَحْبَبْتُم " فاجتهدوا. " فغلبة " ظنكم أَمارَة حكم الله تَعَالَى عَلَيْكُم. فَهَذَا لَا يَسْتَحِيل عقلا. لَا فِي صفة المتعبد تَعَالَى وَجل، وَلَا فِي صفة المتعبد / وَلَا فِي صفة التَّعَبُّد /. 1872 - فَإِن قَالُوا: من كَانَ بِحَضْرَة الرَّسُول، فَهُوَ قَادر على " التَّوَصُّل " إِلَى النَّص. وَلَا يسوغ الِاجْتِهَاد مَعَ الْقُدْرَة على الْوُصُول إِلَى النَّص. قُلْنَا: فَهَذَا أَيْضا دَعْوَى مِنْكُم. على أَنا نقُول: لَيْسَ كلامنا فِيمَا اسْتَقر فِيهِ نَص. وَإِنَّمَا كلامنا فِي حَادِثَة لم يُؤثر فِيهَا عَن الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] جَوَاب. فَهِيَ قبل مُرَاجعَة الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خَالِيَة عَن النَّص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 (320 فصل فِي بَيَان وُقُوع الِاجْتِهَاد فِي عصر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ) 1837 - فَإِن قَالَ قَائِل: قد ذكرْتُمْ جَوَاز التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ عقلا. " فَهَل ورد الشَّرْع بِهِ "؟ قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: أما " الَّذين " غَابُوا عَن مَجْلِسه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فقد صَحَّ تعبدهم بِالْقِيَاسِ فِي أَخْبَار " تلقتها " الْأمة بِالْقبُولِ. مِنْهَا حَدِيث معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ قَالَ لَهُ رَسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] / بِمَ تحكم؟ قَالَ: بِكِتَاب الله. قَالَ: فَإِن لم تَجِد؟ قَالَ: فبسنة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: / فَإِن لم تَجِد؟ قَالَ: فاجتهد رَأْيِي " وَلَا آلو " فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الْحَمد لله الَّذِي وفْق " رَسُول " رَسُول الله لما يرضاه رَسُول الله. ونعلم أَيْضا أَن الَّذين " بعدوا " عَن مَجْلِسه من ولَايَة " و " مستخلفيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 على العساكر والبلاد كَانَ يعن لَهُم من الْحَوَادِث مَا لَا نَص فِيهِ. وَكَانُوا " لَا يتوقفون " فِي جَمِيعهَا، وَرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يعلم ذَلِك مِنْهُم. فَهَذَا فِي " الْغَيْبَة " عَنهُ. " فَأَما " الَّذين كَانُوا بِحَضْرَتِهِ، فَلم تقم حجَّة شَرْعِيَّة فِي تعبدهم بِالْقِيَاسِ، وَإِن وَردت لَفْظَة " فَهِيَ " شَاذَّة أَو مُحْتَملَة للتأويل. (321) القَوْل فِي جَوَاز تعبد النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَص فِيهِ 1874 - اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك. فَذهب الَّذين أحالوا التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ إِلَى الجري على مُقْتَضى أصلهم فِي اسْتِحَالَة التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ. وَأما الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ فقد اخْتلفُوا أَيْضا. فَذهب بَعضهم إِلَى أَنه لَا يجوز أَن " يتعبد " الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِالْقِيَاسِ والتحري وَالِاجْتِهَاد. و " منعُوا " ذَلِك عقلا. وَذهب آخَرُونَ إِلَى جَوَاز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 " تعبده " بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَاد وألحقوا ذَلِك بجائزات الْعُقُول. " وَهُوَ " الَّذِي نختاره. 1875 - " و " الدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه / لَيْسَ فِيهِ وَجه من وُجُوه الاستحالة " لَا " فِي المتعبد تَعَالَى وَجل وَلَا فِي التَّعَبُّد، وَلَا فِي المتعبد " فَلَا يبعد " أَن يَقُول الله تَعَالَى لرَسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِذا وَقعت حَادِثَة، فاجتهد فِيهَا رَأْيك. فَمَا مَال إِلَيْهِ رَأْيك فَهُوَ الْحق وَهَذَا وَاضح " لكل " من تَأمله. الحديث: 1875 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 1876 - وَتمسك من أحَال تعبده بِالْقِيَاسِ، بطرق: مِنْهَا: أَن الْعَمَل بِالْقِيَاسِ، عمل " بِغَلَبَة " الظَّن. فَلَو تمسك بِهِ الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لَكَانَ يبلغ عَن ربه " شَرِيعَته " بِمُوجب غَلَبَة الظَّن / وَذَلِكَ مُسْتَحِيل فِي أَوْصَاف الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَنَقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل /. وَذَلِكَ أَن الْمُجْتَهد عندنَا يغلب على ظَنّه / أَولا، ثمَّ نقطع على الله سُبْحَانَهُ بِمُوجب غَلَبَة ظَنّه. ونعلم أَن غَلَبَة ظَنّه أَمارَة نصبها الله تَعَالَى / فِي مُوجبهَا. فَكَذَلِك الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] نقطع بِمَا يحكم بِهِ، و " ينزل " ذَلِك منزلَة مَا لَو قَالَ الله تَعَالَى لرَسُوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : مهما ظَنَنْت إقبال فلَان وقدومه " فاقطع بِهِ " فَإنَّك لَا تظن إِلَّا حَقًا. " فَهَذَا " سَائِغ " لَا اسْتِحَالَة " فِيهِ. 1877 - وَمِمَّا تمسكوا / بِهِ أَن قَالُوا: لَو سَاغَ الحديث: 1876 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 " لرَسُول الله " [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن يجْتَهد لساغ لغيره أَن يجْتَهد أَيْضا، ثمَّ يكون كل مُجْتَهد " مؤاخذا " بِاجْتِهَادِهِ، فَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى أَن يُخَالف " المجتهدون " رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، إِذا اخْتلفت الاجتهادات. وَفِي ذَلِك إبِْطَال الِاتِّبَاع والحط لمنزلة الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَالْجَوَاب عَن هَذَا " السُّؤَال " أَن نقُول: لَو رددنا إِلَى مُوجب الْعقل، لم يكن فِيمَا قلتموه اسْتِحَالَة. وكل مُجْتَهد مؤاخذ بِاجْتِهَادِهِ وَكَانَ " النَّبِي " [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لَا يَدْعُو الْمُجْتَهدين إِلَى اتِّبَاعه فَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى مُخَالفَة الِاتِّبَاع، فَهَذَا فِي سَبِيل " الْعقل ". وَلَكِن قَامَت دلَالَة الْإِجْمَاع على أَن مَا يقدم عَلَيْهِ الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي تَبْيِين الشَّرْع " لَا " على سَبِيل الِاخْتِصَاص " بِهِ " فَيجب اتِّبَاعه، وَلَا يجوز الاستبداد بالحكم على خلاف مَا بَينه. فمنعنا لذَلِك ترك الِاتِّبَاع، واستقلال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 كل مُجْتَهد بِنَفسِهِ. وَكَأن الرب تَعَالَى يَقُول: كل مُجْتَهد مؤاخذ بِاجْتِهَادِهِ، إِلَّا مَا كَانَ للنَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِيهِ اجْتِهَاد، فَهُوَ الْقدْوَة. 1878 - وَمِمَّا تمسكوا بِهِ أَيْضا، أَن قَالُوا: " لَو " جَازَ أَن يجْتَهد النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لجَاز أَن يُخطئ مرّة ويصيب أُخْرَى. وَفِي ذَلِك إبِْطَال الثِّقَة بِمَا يَقُوله. قُلْنَا: هَذِه غَفلَة عَظِيمَة مِنْكُم. فانا " لم نصور من آحَاد " الْمُجْتَهدين الْخَطَأ. على مَا " أوضحناه " من أصلنَا فِي تصويب الْمُجْتَهدين / فَكيف تظنون منا ذَلِك فِي اجْتِهَاد الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، على أَنا لَو قَدرنَا جَوَاز الْخَطَأ من سَائِر الْمُجْتَهدين / فَلَا نجوزه من الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . فَإِنَّهُ وَاجِب الْعِصْمَة فيتنزل فِي اجْتِهَاده منزلَة مَا لَو اجْتمع كَافَّة الْأمة على ضرب من الِاجْتِهَاد " إِجْمَاعًا " مِنْهُم فَلَا يسوغ خطاؤهم. وَإِن قُلْنَا إِن الْمُصِيب وَاحِد من " الْمُجْتَهدين " " وَيتَصَوَّر " خطأ " آحَاد " الْمُجْتَهدين. فَبَطل مَا قَالُوهُ. 1879 - وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَيْضا، لِأَن قَالُوا: لَو الحديث: 1878 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 " جَازَ " لرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن يجْتَهد، لجَاز لجبريل عَلَيْهِ السَّلَام أَن يجْتَهد. ويخبر الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن اجْتِهَاده / وَهُوَ يضيف الْكل إِلَى الْوَحْي فِيمَا بلغه جِبْرِيل فيخلط الْوَحْي بِغَيْرِهِ، وَفِيه لبس عَظِيم فِي الدَّلِيل. قُلْنَا: هَذَا رَكِيك من القَوْل فَإِن جِبْرِيل إِذا اجْتهد أخبر الرَّسُول بِاجْتِهَادِهِ / حَتَّى لَا ينْقل الْكل وَحيا، إِذا علم ان الْأَمر يلتبس " فبطلت " عصمتهم / ووضح جَوَاز تعبده بِالْقِيَاسِ. (322) فصل هَل وَقع تعبد الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِالِاجْتِهَادِ 1880 - فان قَالَ قَائِل: قد " ثبتمْ " جَوَاز تعبد الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِالِاجْتِهَادِ عقلا فَهَل " ورد ثُبُوت " ذَلِك سمعا؟ قُلْنَا: " اخْتلف اهل الْعلم " فِي ذَلِك فَذهب ذاهبون إِلَى أَنه ورد السّمع بذلك. وَقطع آخَرُونَ أَنه لم يرد الحديث: 1880 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 بِهِ / السّمع. 1881 - وَنحن نذْكر مَا تمسك بِهِ كل فريق، ونتكلم عَلَيْهِ " إِن شَاءَ الله تَعَالَى " فَأَما الَّذين نفوا وُرُود السّمع " بِهِ " فقد استدلوا، بِأَن قَالُوا: لَو كَانَ " شرع " لرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الِاجْتِهَاد لَكَانَ " لَا يتَوَقَّف " فِي كثير من الْأَحْكَام ينْتَظر " فِيهَا " الْوَحْي وَكَانَ " يتسرع " إِلَى الِاجْتِهَاد حَسْبَمَا " جوز " لَهُ. وَهَذَا بَاطِل. فَإِن للآخرين أَن يَقُولُوا: إِنَّمَا كَانَ يتَوَقَّف فِيمَا لم يكن للِاجْتِهَاد فِيهِ مساغ وَلم يكن لَهُ أصل يرد إِلَيْهِ اعْتِبَارا وَقِيَاسًا " إِذْ " لم يكن الحديث: 1881 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 قد اسْتَقر الشَّرْع و " تأسست " قَوَاعِده على أَنه لَا يبعد أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] خير بَين الِاجْتِهَاد وَبَين انْتِظَار الْوَحْي. " فَكَانَ يجْتَهد مرّة وينتظر الْوَحْي أُخْرَى ". وَمِمَّا استدلوا بِهِ " أَيْضا " أَن قَالُوا: لَو كَانَ " النَّبِي " [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يتَمَسَّك بِالِاجْتِهَادِ " لنقل ذَلِك " نقلا مستفيضا قَاطعا للريب. كَمَا نقل تمسكه بِالْوَحْي. وَهَذَا مَا لَا معتصم فِيهِ أَيْضا. إِذْ لَيْسَ من شَرط كل مَا يُؤثر عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ان يستفيض بل مِنْهُ مَا ينْقل آحادا، وَمِنْه مَا ينْقل استفاضة. على أَنه " لَا يجب " على الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن يُخْبِرهُمْ بمصادر احكامه و " مقتضياتها " وَتمسك هَؤُلَاءِ بالطرق الَّتِي قدمناها / فِي اسْتِحَالَة تعبده بِالِاجْتِهَادِ عقلا، وَقد قدمنَا الاجوبة عَنْهَا فَهَذَا كَلَام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 1882 - فَأَما الَّذين قَالُوا: أَن الشَّرْع ورد بتعبده [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِالِاجْتِهَادِ فقد استدلوا بِمَا جرى " فِي " أَمر أُسَارَى بدر. فَإِنَّهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فادهم بِاجْتِهَادِهِ " و " رَأْيه. وَلم يقدم على ذَلِك عَن قَضِيَّة وَحي وَلذَلِك عاتبه الرب تَعَالَى فِي قَوْله {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى حَتَّى يثخن فِي الأَرْض} الْآيَة. وَكَانَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَشَارَ " على " الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " بِقَتْلِهِم " فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عِنْد نزُول الْآيَة لقد كَانَ الْعَذَاب إِلَيْنَا أقرب من هَذِه " الشَّجَرَة " وَلَو أنزل، لما نجا مِنْهُ إِلَّا عمر. قَالُوا: فَهَذِهِ / الْآيَة " مَعَ " سَبَب نُزُولهَا دلَالَة وَاضِحَة على الحديث: 1882 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 حكمه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِالِاجْتِهَادِ. / قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: من زعم أَن هَذِه الْآيَة تدل على حكمه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِالِاجْتِهَادِ / فقد افترى " على الله تَعَالَى " بأعظم الْفِرْيَة " بِعَينهَا " فَإِن فِيهِ تعرضا " لتجويز " الْخَطَأ على رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مَعَ تَقْرِيره " عَلَيْهِ ". وَالنَّاس " على " حزبين فِي تَجْوِيز الْخَطَأ على " الرُّسُل " عَلَيْهِم السَّلَام " وَمن " جوزه مِنْهُم " لم يجوز " " تقريرهم " عَلَيْهِ. 1883 - فَإِن قيل: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنه لم يُقرر " لما " عوتب؟ قُلْنَا: فَعدم " التَّقْرِير " هُوَ أَلا ينفذ " مَا أَخطَأ " فِيهِ. فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يقتل الأسرى وينقض عهود المفاداة، فوضح بذلك الْبطلَان الحديث: 1883 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 فِي الِاسْتِدْلَال، " واستوى الْفَرِيقَانِ " فِي التَّأْوِيل. 1884 - فَإِن قيل: فَمَا تَأْوِيل الْآيَة بعد سُقُوط الِاحْتِجَاج. قيل: أما رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فقد كَانَ خير بَين الْقَتْل " والمن " والمفاداة والاسترقاق. كَمَا أنبأ قَوْله تَعَالَى {فإمَّا منا بعد وَإِمَّا فدَاء حَتَّى تضع الْحَرْب} عَن بعض هَذِه الْخلال. وَلَكِن خَاضَ أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي تخير بعض هَذِه الْخلال / حَتَّى كَأَنَّهُ بلغ مِنْهُم أَو من بَعضهم مبلغ قطع الرَّأْي والتحكم. فنقم الله تَعَالَى ذَلِك عَلَيْهِم. بيد أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَدخل نَفسه مَعَهم فِي مُوجب العتاب تكرما. وَالْآيَة تنبئي عَن " تبرئته " فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى} فَلَمَّا نجز حَدِيثه، خَاطب أَصْحَابه فَقَالَ {تُرِيدُونَ عرض الدُّنْيَا} وَنحن نعلم أَن الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لَا يُخَاطب بذلك. فقد عرضت عَلَيْهِ خَزَائِن الدُّنْيَا، فأباها / [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . الحديث: 1884 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 1885 - وَمِمَّا استدلوا بِهِ فِي وُرُود التَّعَبُّد بِالِاجْتِهَادِ، أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ فِي حكم الْحرم " لَا يعضد شَجَرهَا وَلَا يخْتَلى " خَلاهَا ". قَالَ الْعَبَّاس إِلَّا الْإِذْخر فَإِنَّهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتنَا، فَقَالَ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على الْفَوْر " إِلَّا الْإِذْخر " وَنحن نعلم " أَنه " مَا قَالَه إِلَّا اجْتِهَادًا. وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ، تحكم أَيْضا. " وَلَا يبعد " أَنه قَالَه وَحيا وَكَانَ مَعَه فِي ذَلِك الْوَقْت جِبْرِيل أَو ملك آخر " يسدده " فَبَطل معتصم الْفَرِيقَيْنِ. 1886 - وَالْمُخْتَار أَنه لم يرد فِي الشَّرْع دلَالَة يقطع بهَا فِي نفي الِاجْتِهَاد وَلَا فِي إثْبَاته. فَيتَوَقَّف فِيهِ على مورد " الشَّرْع ". الحديث: 1885 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 (323) بَاب القَوْل فِي تَخْرِيج الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ وَذكر مُرَاده فِيهِ 1887 - اشْتهر عَن الشَّافِعِي / رَضِي الله عَنهُ ذكر الْقَوْلَيْنِ فَصَاعِدا " فِي " الْحَادِثَة الْوَاحِدَة مَعَ الْعلم باستحالة اجْتِمَاعهمَا فِي الصِّحَّة فِي " حق الْمُجْتَهد الْوَاحِد ". الحديث: 1887 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 1888 - وَقد اعْترض عَلَيْهِ فِي ذَلِك " جعل " وَغَيره من متأخري الْمُعْتَزلَة وَنحن نذْكر مَا عولوا عَلَيْهِ من وُجُوه الِاعْتِرَاض " ونتفصى " " عَنْهَا " " ثمَّ نذْكر " وَجه تَخْرِيج الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ. 1889 - فمما اعْترضُوا بِهِ أَن قَالُوا: إِذا جمع الْجَامِع بَين قَوْلَيْنِ، أَحدهمَا التَّحْلِيل وَالْآخر التَّحْرِيم وذكرهما جَمِيعًا، وَلم يرجح " أَحدهمَا " على الثَّانِي، واضافهما إِلَى نَفسه، فِي مثل " الصِّيغَة الَّتِي يضيف بهَا " جملَة " الْمَذْهَب " إِلَى نَفسه، فَلَا يَخْلُو " حَاله " فِي ذَلِك، إِمَّا أَن يُرِيد " تَصْحِيح " الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا فِي حق الْمُجْتَهد الْوَاحِد - فَيكون ذَلِك تناقضا وتنافيا ومباهتة للضروريات " والبدائة " " و " إِن كَانَ لَا يعْتَقد ذَلِك، الحديث: 1888 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 فإطلاقة الْكَلَام على وَجه يُنبئ عَمَّا قُلْنَاهُ " يزريه " إِذْ لَيْسَ لأحد الْعلمَاء أَن يُطلق من القَوْل مَا ظَاهره الْغَلَط، وَهُوَ يُرِيد بِهِ خلاف ظَاهره. وَإِنَّمَا " يَصح " من صَاحب الشَّرِيعَة إِطْلَاق أَلْفَاظ مَحْمُولَة على خلاف ظواهرها، للْعلم بِوُجُوب حكمته وَثُبُوت عصمته وتنزهه عَن الزلل. فَهَذِهِ السَّابِقَة " تحمل المتأولين " على التَّأْوِيل. فَأَما آحَاد الْعلمَاء فَكل وَاحِد مِنْهُم بصدد الْخَطَأ، فَإِذا بدرت " مِنْهُ " لَفْظَة، ظَاهرهَا الْخَطَأ، وَلم تجب لَهُ الْعِصْمَة، حملت على الظَّاهِر. 1890 - وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ سَاقِط من الْكَلَام من أوجه: أَحدهَا: أَن لَو " سَاغَ " مَا قَالُوهُ، لوَجَبَ سد " بَاب " التَّجَوُّز والتوسع فِي الْكَلَام على غير صَاحب الشَّرِيعَة، حَتَّى لَا يجوز لأحد أَن " ينْطق " بمجازات اللُّغَة. وَيتَعَيَّن على الكافة النُّطْق " بحقائق " اللُّغَة، حَتَّى ينْسب النَّاطِق بالمجاز إِلَى السفة والعبث. فَلَمَّا لم يكن ذَلِك، بَطل مَا قَالُوهُ. الحديث: 1890 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 1891 - ثمَّ نقُول: أَلَيْسَ ورد " عَن " صَاحب الشَّرِيعَة أَلْفَاظ متأولة والمجوز لذَلِك - على زعمكم - مَا سبق من الْعلم بعصمته. " فَإِن " قَالُوا: أجل. قيل لَهُم: فَكيف يظنّ بالشافعي فِي مثل رتبته أَن " يحرم الشَّيْء ويحلله " مَعًا، ويعتقد " ذَلِك " اعتقادا. وَمن كَمَال الْعقل أَن يعرف الْمَرْء تنَافِي المتنافيات وتناقضها. فنعلم من الشَّافِعِي أَنه لم يسْلك هَذَا المسلك وَإِنَّمَا / سلك مسلكا غَيره، فينتصب ذَلِك قرينَة مُقَارنَة للظَّاهِر، نازلة منزلَة الْمُقَارن للْعُمُوم. وَهَذَا بَين لَا خَفَاء " بِهِ ". 1892 - فَإِن قَالُوا: لَو قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله " ظلمت وتعديت " أفتحمل ذَلِك على غير ظَاهره. قيل: لَا يضطرنا إِلَى حمله على خلاف ظَاهره شَيْء إِذْ يسوغ من الشَّافِعِي وَمِمَّنْ هُوَ أجل مِنْهُ، أَن يظلم. فَأَما أَن يعْتَقد كَون الشَّيْء حَلَالا حَرَامًا، فَلَا يتَحَقَّق ذَلِك مِنْهُ أصلا. 1893 - فَإِن قَالُوا: قد أبدع الشَّافِعِي / على " الصَّحَابَة " وخرق الْإِجْمَاع فِي ذكر الْقَوْلَيْنِ. فَإِن الصَّحَابَة لما اخْتلفُوا، لم يذكر أحد مِنْهُم فِي الحديث: 1891 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 الصُّورَة " الْوَاحِدَة " قَوْلَيْنِ. " قُلْنَا ": الْجَواب عَن ذَلِك من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنهم كَمَا لم يذكرُوا " قَوْلَيْنِ " لم يمنعوا ذكر الْقَوْلَيْنِ. " فَلَيْسَ فِي " كفهم عَن " ذكر " الشَّيْء مَا يدل على مَنعهم إِيَّاه. فَسقط مَا قَالُوهُ. ثمَّ نقُول: / كم ذكرُوا من وُجُوه الِاحْتِمَال فِي الْحَادِثَة الْوَاحِدَة وَلَكِن لم يصفوها بالأقوال / كَمَا ذكرُوا وُجُوه الِاحْتِمَال وَالِاجْتِهَاد " وَلم يسموه " ربطا وتحريرا وفرعا " و " أصلا، وَلم يذكرُوا من عِبَارَات متناظري الزَّمَان، إِلَّا الْقَلِيل. وَلَا يدل ذَلِك على خُرُوج أهل الزَّمَان عَن إِجْمَاعهم. 1894 - فَإِن قَالُوا: فَمَا وَجه تَخْرِيج الشَّافِعِي الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ وَمَا " مَعْنَاهُ "؟ الحديث: 1894 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 قُلْنَا: " قد اخْتلفت " فِي ذَلِك أجوبة أَصْحَابه. وَنحن نذْكر مَا ذَكرُوهُ ثمَّ نعول على الْأَصَح مِنْهُ " إِن شَاءَ الله تَعَالَى ". 1895 - فَذهب بَعضهم: إِلَى أَنه قصد بِذكر الْقَوْلَيْنِ، حِكَايَة مذهبين من مَذَاهِب الْعلمَاء. وَهَذَا غير سديد من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: إِنَّه قد يَجْعَل الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ فِي صُورَة لَا يُؤثر فِيهَا عَن الْعلمَاء قَول " على " التَّنْصِيص. وَالْآخر أَنه يضيف الْقَوْلَيْنِ إِلَى اجْتِهَاده وَلَا يجْرِي " فِي " ذَلِك مجْرى حِكَايَة الْمذَاهب. " فَإِنَّهُ إِذا حكى " الْمَذْهَب " فصيغة " كَلَامه فِي الْحِكَايَة تتَمَيَّز عِنْد كل " مُصَنف " عَن صِيغَة ذكره الْقَوْلَيْنِ. 1896 - وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الْمروزِي: إِنَّمَا ذكر الْقَوْلَيْنِ، ليبين " أَن " مَا عداهما فَاسد عِنْده، و " يحصر " الْحق، فِي قَوْلَيْنِ أَو ثَلَاثَة، الحديث: 1895 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 " على " مَا نذكرهُ. وَهَذَا الَّذِي ذكره فِيهِ نظر أَيْضا. فَإِن الشَّافِعِي لَا يقطع فِي المجتهدات بتخطئة غَيره. وَمن تدبر أُصُوله، عرف ذَلِك " مِنْهَا ". 1897 - وَالصَّحِيح فِي ذَلِك أَن نقُول: مَا يُؤثر فِيهِ عَن الشَّافِعِي قَولَانِ، فَهُوَ على أَقسَام. فَمِنْهُ / القَوْل الْجَدِيد و " القَوْل " الْقَدِيم. فقد وضح من مُقْتَضى كَلَامه أَنه بِذكرِهِ الْجَدِيد رَجَعَ عَن الْقَدِيم. فَلَا " يجْتَمع " لَهُ فِي أَمْثَال ذَلِك قَولَانِ. وَمِنْه أَن ينص على قَوْلَيْنِ فِي الْجَدِيد، وَلكنه يمِيل إِلَى أَحدهمَا، ويختاره " فَهُوَ " مذْهبه وَالْآخر لَيْسَ بقول لَهُ. وَإِنَّمَا ذكره أَولا تَوْطِئَة للْخلاف وتمهيدا لَهُ. وَلَو نَص على قَوْلَيْنِ فِي الْجَدِيد ثمَّ ذكر أَحدهمَا بعد ذَلِك، وأضرب عَن ذَلِك الثَّانِي " فَمَا " صَار إِلَيْهِ الْمُزنِيّ رَحمَه الله أَن ذَلِك رُجُوع مِنْهُ عَن الحديث: 1897 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 القَوْل الثَّانِي وَلما قَالَه وَجه. وَإِن " كَانَ " أنكرهُ مُعظم الْأَصْحَاب. 1898 - فَأَما إِذا نَص على قَوْلَيْنِ جَمِيعًا وَلم يرجح أَحدهمَا " بعد ذَلِك " على " الثَّانِي " " وَلم يقْتَصر " على أَحدهمَا بعد نَصه عَلَيْهِمَا وَنقل مثل ذَلِك - حَتَّى قَالَ الْمُحَقِّقُونَ - إِن هَذَا الْفَنّ لَا يكَاد يبلغ عشرا. 1899 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَالْوَجْه عِنْدِي أَنه قَالَ فِي مثل " هَذَا الْموضع " بالتخيير. وَكَانَ يَقُول بتصويب الْمُجْتَهدين. الحديث: 1898 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 وَهَذَا الَّذِي قَالَه غير " سديد " فَإِن الصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي أَن الْمُصِيب وَاحِد على أَن " فِيمَا " ذكره القَاضِي " دخلا عَظِيما " ونبين ذَلِك، بِأَن نمهد أصلا فِي التَّخْيِير. فَنَقُول: من قَالَ بالتخيير / على مَا قدمنَا القَوْل فِيهِ، إِنَّمَا يُمكنهُ القَوْل بالتخيير / فِي تَقْدِير واجبين. مثل أَن " يُؤَدِّي " أحد الاجتهادين إِلَى إِيجَاب شَيْء " وَالثَّانِي " إِلَى إِيجَاب غَيره. وَلَا يُؤَدِّي تَقْدِير جَمعهمَا على سَبِيل التَّخْيِير إِلَى تنَاقض وَينزل منزلَة " أَرْكَان " كَفَّارَة الْيَمين. فَإِذا تصورت الْمَسْأَلَة " بِهَذِهِ " الصُّورَة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 " سَاغَ " الْمصير إِلَى " أَن " التَّخْيِير " فيهمَا ". وَأما إِذا كَانَ / أحد الاجتهادين يُؤَدِّي إِلَى " التَّحْلِيل " وَيُؤَدِّي الثَّانِي إِلَى " التَّحْرِيم " فَلَا يتَصَوَّر التَّخْيِير فِي الْقَوْلَيْنِ إِذْ من المستحيل التَّخْيِير بَين " الْحَظْر والتحليل " وَهَذَا بَين لكل متأمل وَقد ذكره القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي خلال كَلَامه. وَكَذَلِكَ " لَا يتَحَقَّق " التَّخْيِير بَين محرمين. 1900 - فَإذْ وضح ذَلِك. فقد اخْتلف قَول الشَّافِعِي رَحمَه الله كثيرا فِي تَحْلِيل وَتَحْرِيم. فَكيف يُمكن " حمل " اخْتِلَاف قَوْله على " القَوْل " بالتخيير؟ فالسديد إِذا أَن نقُول فِي الْقسم الْأَخير الَّذِي الحديث: 1900 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 " ختمنا " الْكَلَام " بِهِ " - وَهُوَ أَن ينص على قَوْلَيْنِ فِي الْجَدِيد، وَلَا يخْتَار أَحدهمَا - " إِنَّه " لَيْسَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَة قَول / وَلَا مَذْهَب وَإِنَّمَا ذكر الْقَوْلَيْنِ ليتردد فيهمَا. وَعدم اخْتِيَاره لأَحَدهمَا لَا يكون ذَلِك خطأ مِنْهُ. بل علو رُتْبَة الرجل، وتوسعه فِي الْعلم، وَعلمه " بطرق " الْأَشْبَه / يمْنَع / أَن يتَّفق لَهُ ذَلِك. وَيبعد أَن يَبْتَدِئ " الرجل " مسَائِل الشَّرْع ويختمها وَلَا تعن " لَهُ " مَسْأَلَة إِلَّا ويغلب على ظَنّه فِي أول نظرة جَوَاب وَاحِد. 1901 - فَإِن قَالَ قَائِل: فَلَا معنى لقولكم: للشَّافِعِيّ قَولَانِ إِذْ لَيْسَ لَهُ على مَا زعمتم فِي مثل هَذِه الْمسَائِل قَول وَاحِد وَلَا قَولَانِ! قُلْنَا: " هَكَذَا نقُول " وَلَا نتحاشى مِنْهُ. وَإِنَّمَا وَجه الْإِضَافَة إِلَى الشَّافِعِي ذكره لَهما و " استقصاؤه " وُجُوه الْأَشْبَاه فيهمَا. فَهَذَا أَسد الطّرق وأوضحها. الحديث: 1901 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 وَقد شعب القَاضِي رَضِي الله عَنهُ كَلَامه فِي " هَذِه " الْمَسْأَلَة. وَالَّذِي " ذَكرْنَاهُ " لبابه وَتعلم ذَلِك إِذا طالعت كِتَابه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 (كتاب التَّقْلِيد) (324) القَوْل فِي حَقِيقَة التَّقْلِيد 1902 - اخْتلف أَرْبَاب الْأُصُول فِي حَقِيقَة التَّقْلِيد. فَذهب " بَعضهم " إِلَى أَن التَّقْلِيد " هُوَ " قبُول قَول الْقَائِل وَلَا يدْرِي من أَيْن يَقُول مَا يَقُول. وَهَذَا القَوْل غير مرضِي عندنَا. فَإِن التَّقْلِيد " منبئ عَن " الِاتِّبَاع المتعري عَن أصل الْحجَّة. فَإِذا لم يكن فِي تَحْدِيد التَّقْلِيد مَا يُنبئ عَن ذَلِك، لم يكن الْحَد مرضيا أصلا. الحديث: 1902 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 وَهَذَا الْقَائِل يَقُول إِذا " جَوَّزنَا " للرسول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الِاجْتِهَاد فقبول قَوْله " تَقْلِيد لَهُ " من حَيْثُ أَن الْقَائِل لَا يدْرِي / قَالَه الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . 1903 - وَذهب بَعضهم إِلَى أَن التَّقْلِيد قبُول قَول الْقَائِل / بِلَا حجَّة. الحديث: 1903 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 " و " من سلك هَذِه الطَّرِيقَة منع أَن يكون " قبُول " قَول النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] تقليدا، فَإِنَّهُ حجَّة فِي نَفسه وَهَذَا خلاف فِي عبارَة يهون موقعها عِنْد ذَوي التَّحْقِيق. 1904 - غير أَن الأولى فِي حد التَّقْلِيد - عندنَا - أَن نقُول: التَّقْلِيد هُوَ اتِّبَاع من لم يقم باتباعه حجَّة، وَلم يسْتَند إِلَى علم. فيندرج تَحت هَذَا الْحَد الْأَفْعَال والأقوال / وَقد خصص مُعظم الْمُحَقِّقين كَلَامهم بالْقَوْل. وَلَا معنى للاختصاص بِهِ. فَإِن الِاتِّبَاع فِي الْأَفْعَال / المبنية كالاتباع فِي الْأَقْوَال. ويندرج تَحت هَذَا الْحَد أصل فِي التَّقْلِيد، ذهل عَنهُ مُعظم الْأُصُولِيِّينَ. وَذَلِكَ أَن معظمهم مَعَ الِاخْتِلَاف فِي " تَحْدِيد " التَّقْلِيد " مجمعون على القَوْل بِأَن الْعَاميّ " مقلد للمفتي " فِيمَا يَأْخُذهُ " مِنْهُ. الحديث: 1904 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 وأدرجوه / تَحت الحدين السَّابِقين وَقَالُوا: إِن قُلْنَا ": أَن التَّقْلِيد قبُول قَول " الْقَائِل " بِلَا حجَّة، فقد تحقق ذَلِك فِي الْمُفْتِي، فَإِن قَوْله فِي نَفسه لَيْسَ بِحجَّة. وَإِن " حددنا " التَّقْلِيد بِأَنَّهُ قبُول الْقَائِل مَعَ الْجَهْل بمأخذه. فَهَذَا الْمَعْنى يتَحَقَّق فِي قَول الْمُفْتِي أَيْضا. 1905 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ. وَالَّذِي نختاره أَن ذَلِك لَيْسَ بتقليد أصلا. فَإِن قَول الْعَالم حجَّة فِي حق المستفتى. إِذْ الرب تَعَالَى وَجل نصب قَول الْعَالم علما فِي حق الْعَاميّ وَأوجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِهِ. كَمَا أوجب على الْعَالم الْعَمَل بِمُوجب اجْتِهَاده " وَعلمه " واجتهاده علم عَلَيْهِ " وَقَوله " علم " على " المستفتي. الحديث: 1905 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 1906 - وَيخرج لَك من هَذَا الأَصْل أَنه لَا يتَصَوَّر على " مَا " / نرتضيه تَقْلِيد مُبَاح فِي الشَّرِيعَة. لَا " فِي الْأُصُول وَلَا فِي الْفُرُوع " إِذا التَّقْلِيد هُوَ اتِّبَاع الَّذِي لم تقم بِهِ حجَّة. وَلَو سَاغَ تَسْمِيَة الْعَاميّ مُقَلدًا. مَعَ أَن قَول الْعَالم فِي حَقه وَاجِب الِاتِّبَاع، جَازَ أَن " يُسمى " " المتمسك " بالنصوص وَالْإِجْمَاع وأدلة الْعُقُول مُقَلدًا! وَهَذَا وَاضح " فِي " مَقْصُود. ثمَّ إِنَّا نذْكر بعد ذَلِك منع التَّقْلِيد فِي الْأُصُول، ثمَّ " فِي " الْفُرُوع. (325) القَوْل فِي منع التَّقْلِيد فِي الْأُصُول 1907 - اعْلَم، أَن هَذَا " الْبَاب " يرسم الْكَلَام فِيهِ فِي فن الْكَلَام بيد أَنا نذْكر مَا يَقع بِهِ الِاسْتِقْلَال، فَلَا يسوغ " لأحد " أَن يعول فِي معرفَة الله الحديث: 1906 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 تَعَالَى، و " فِي معرفَة " مَا يجب لَهُ من الْأَوْصَاف، " و " يجوز عَلَيْهِ ويتقدس عَنهُ " على " التَّقْلِيد. وَكَذَلِكَ القَوْل فِي جملَة قَوَاعِد العقائد. بل يجب " على " كل معترف أَن يسْتَدلّ فِي هَذِه الْأُصُول. و " لن " تقع لَهُ الْعُلُوم فِيهَا إِلَّا " عقب " النّظر الصَّحِيح. 1908 - وَذهب الحشوية إِلَى " القَوْل " بالتقليد فِي الْأُصُول لما أقعدهم عيهم " عَن " مبالغ " ذَوي " النّظر. الحديث: 1908 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 وَلم يُغْنِهِم تقاعسهم حَتَّى أزروا على ذَوي الْحجَّاج السالكين أَسد المناهج. وطرق الرَّد عَلَيْهِم كَثِيرَة. وَالْوَاحد مِنْهَا يَجْزِي " من " تَأمل. 1909 - فَنَقُول لَهُم: معاشر المقلدين! هَل علمْتُم أَن التَّقْلِيد يُفْضِي إِلَى الْعلم، أم لم تعلمُوا ذَلِك؟ فَإِن قُلْتُمْ: أَنا " لم نعلمهُ " - هُوَ كلمة الْحق - " فَفِي ضلال " تعمهون. و " بِهِ على أَنفسكُم " تعترفون وَإِن زعمتم: أَنا نعلم افضاءه إِلَى الْحق - فَلَا تخلون " اما " أَن تعلمُوا ذَلِك ضَرُورَة " و " بديهة أَو " لاتعلمون " ضَرُورَة و " لَا " بديهة. فَإِن ادعيتم الْعلم الضَّرُورِيّ، سَقَطت مكالمتكم ووضحت " مباهتتكم " وَلم تسلموا من معارضتكم بِدَعْوَى الضَّرُورَة فِي صد مَقَالَتَكُمْ. وَإِن هم زَعَمُوا أَنا " نعلم " إفضاء التَّقْلِيد إِلَى طرق التسديد بِالدّلَالَةِ الحديث: 1909 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 سئلوا عَن إِقَامَتهَا " وهيهات ". " فَإِن " خَاضُوا فِي ابتغائها وانتحائها، فقد خَاضُوا فِي النّظر من حَيْثُ لم يشعروا. 1910 - فَإِن " قَالُوا ": " إِنَّمَا " علمنَا إفضاء التَّقْلِيد إِلَى الْعلم بالتقليد، سئلوا عَن إِقَامَة الدَّلِيل على التَّقْلِيد الَّذِي جَعَلُوهُ أصلا للتقليد فيتسلسل عَلَيْهِم القَوْل، وَلَا يَجدونَ عَنهُ مخرجا. 1911 - فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا علمنَا افضاء التَّقْلِيد إِلَى الْعلم بِمَا فِي الْكتاب وَالسّنة من الْأَمر بالاتباع. قيل " لَهُم ": " وأنى " لكم التَّمَسُّك بِكِتَاب الله. وَلَا يثبت كتاب الله تَعَالَى إِلَّا بِحجَّة. فَبِمَ علمْتُم أَن الَّذِي " اعْتَصَمْتُمْ " بِهِ كتاب الله تَعَالَى. فَهَذِهِ ورطة لَا مخلص لَهُم " عَنْهَا ". الحديث: 1910 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 1912 - ثمَّ نقُول لَهُم: إِذا قلدتم فِي أصُول الدّين وَاحِدًا مِنْكُم، فَلَا شكّ أَنكُمْ لَا توجبون لمن اتبعتموه الْعِصْمَة وتجوزون عَلَيْهِ الزلل. فَمَا الَّذِي حملكم على اتِّبَاعه و " هَذَا " حَاله! فَإِن رجعتم إِلَى مُجَرّد القَوْل " فقد " " وسعتم " مَذَاهِب الدّين. وَأَقل مَا يلزمكم عَلَيْهِ، كف النكير عَن معتقدي الْبدع إِذا قلدوا " أَصْحَابهم ". فَإِن وَاحِدًا مِنْكُم لم يعول على حجاج. 1913 - فَإِن قَالُوا: " مَعنا " السوَاد الْأَعْظَم. وَقد وصّى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِاتِّبَاع السوَاد الْأَعْظَم. قُلْنَا: فَلَا جهل يزِيد على " الْفَنّ الَّذِي " أظهرتموه. فَإِنَّكُم " تنازعون فِي إِثْبَات رب الْمُرْسل " وتطالبون بِمَا فِيهِ " عصمتهم " فتستدلون فِيهِ بقول الحديث: 1912 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . ثمَّ لَا معول على السوَاد الْأَعْظَم فِي أصل الدّين. فَإِن سَواد الْكَفَرَة أعظم من سوادنا وَلَقَد كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي صدر الْإِسْلَام فِي شرذمة قَليلَة الْعدَد. وَلَيْسَ الْمَعْنى بِاتِّبَاع السوَاد الْأَعْظَم الِاتِّبَاع فِي أصُول الدّين. فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. ووضحت / فِي أصُول الدّين " غرتهم " " وشدحت " فِي أصُول العقائد " عورتهم ". 1914 - ثمَّ نقُول " لَهُم ": خبرونا! هَل فِي السَّمَوَات وَالْأَرضين حجَّة على ثُبُوت الصَّانِع؟ /. فَإِن أَنْكَرُوا ذَلِك انتسبوا إِلَى رد الْكتاب، وَهُوَ مفزعهم وَإِن أثبتوا الْحجَّة، سئلوا عَن وَجههَا. فيضطرون إِلَى الْخَوْض فِي الْحجَّاج. وَالْكَلَام عَلَيْهِم طَوِيل، وَهَذَا قَلِيل من كثير. 1915 واعتصم أَصْحَابنَا بِكُل ظَاهر فِي الْكتاب وَالسّنة يتَضَمَّن الحديث: 1914 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 " الْأَمر " بِالِاعْتِبَارِ والاحتجاج وَلَهُم جمل من الظَّوَاهِر، يهون الْكَلَام " عَلَيْهِم فِيهَا ". فَرَأَيْنَا الإضراب عَن تمسكهم " بهَا ". (326) القَوْل فِي منع التَّقْلِيد فِي الْفُرُوع 1916 - اعْلَم أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي جَوَاز التَّقْلِيد فِي الْفُرُوع. وَالْكَلَام فِي " هَذَا " يَنْقَسِم إِلَى أصلين. أَحدهمَا: تَقْلِيد الصَّحَابَة / وَالثَّانِي: تَقْلِيد من عداهم من الْعلمَاء فَأَما تَقْلِيد الصَّحَابَة / فسنفرده بالْكلَام بعد ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى. 1917 - وَأما تَقْلِيد " من " سواهُم - فقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ. فَذهب بَعضهم إِلَى أَنه يجوز للْعَالم / إِذا عنت حَادِثَة أَن يُقَلّد عَالما مَعَ اقتداره أَن يجْتَهد لنَفسِهِ، ثمَّ الَّذين سوغوا التَّقْلِيد فِي هَذِه الصُّورَة اخْتلفُوا فِي أَنه هَل يجوز / أَن يُقَلّد ليفتي بِمَا قلد " فِيهِ "؟ فَمنهمْ من الحديث: 1916 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 " جوز " ذَلِك. وَمِنْهُم من " أَبَاهُ ". 1918 - وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَنه لَا يجوز للْعَالم أَن يُقَلّد " عَالما " فِي مثل دَرَجَته. وَيجوز لَهُ أَن يُقَلّد من هُوَ أعلم " مِنْهُ " " مَعَ " استوائهما فِي كَون كل وَاحِد مِنْهُمَا " مُجْتَهدا ". وَإِلَى ذَلِك مَال مُحَمَّد بن الْحسن. 1919 - وَأَبُو حنيفَة كَانَ يجوز التَّقْلِيد مُطلقًا. 1920 - وَذهب الشَّافِعِي ومعظم الْعلمَاء إِلَى أَنه لَا يجوز للْعَالم " أَن يُقَلّد " الْعَالم. من غير الصَّحَابَة. 1921 - ثمَّ هَؤُلَاءِ اخْتلفُوا فِي صُورَة " وَاحِدَة ". " وَهِي " أَن الْعَالم إِذا استدت " عَلَيْهِ طرق الِاجْتِهَاد وتضيق عَلَيْهِ حكم الْحَادِثَة نَحْو الِاجْتِهَاد فِي الْقبْلَة مَعَ تضييق وَقت الصَّلَاة فَهَل يسوغ لَهُ - وَالْحَالة هَذِه - أَن يُقَلّد عَالما؟ . الحديث: 1918 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 فَمَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي منع التَّقْلِيد فِي هَذِه الصُّورَة أَيْضا وَأَجَازَ الْمُزنِيّ التَّقْلِيد فِي هَذِه الصُّورَة. 1922 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَالَّذِي نختاره / منع التَّقْلِيد. الحديث: 1922 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 وَإِذا قيل لنا: فَهَل فِي الشَّرْع " من " تَقْلِيد مُبَاح؟ أبيناه. فَإِن " ألزمونا " تَقْلِيد الْعَاميّ المستفتى - لم نجعله مُقَلدًا، على مَا أوضحنا القَوْل " فِيهِ " فِي الْبَاب السَّابِق. 1923 - وَنحن نقدم على الْخَوْض فِي الْحجَّاج فصلا، ذهل عَنهُ مُعظم الْمُتَكَلِّمين فِي هَذَا الْبَاب. فَنَقُول: لَو رددنا إِلَى جائزات الْعُقُول، لَكَانَ أَخذ الْعَالم بقول " عَالم " آخر من الجائزات - لَو قَامَت بِهِ حجَّة سمعية - وَلَيْسَ من المستحيلات. فَكَانَ يجوز أَن يَقُول الرب تَعَالَى، لكل عَالم " أَن يَأْخُذ " " بقول " عَالم مثله وَيتْرك الحديث: 1923 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 " الِاجْتِهَاد. " ثمَّ " لَو ثَبت ذَلِك لم يكن ذَلِك تقليدا. بل يصير قَول الْعَالم الْمُفْتِي علما وأمارة فِي حق الْعَالم المستفتى " وَيكون " متمسكا بِمَا نَصبه الله تَعَالَى حجَّة لَهُ. 1924 - ومعظم من خَاضَ فِي هَذَا " الْفَنّ " بنى الْأَدِلَّة بِنَاء يدل على منع التَّقْلِيد عقلا، وَنحن نذْكر مَا ذكره مانعوا التَّقْلِيد ونبين فَسَاده. ثمَّ نذْكر مَا عَلَيْهِ الْمعول، إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَجل. 1925 - فمما عولوا " عَلَيْهِ " أَن قَالُوا: كل عَالم بصدد " أَن يزل " فَإِذا لم تجب لَهُ الْعِصْمَة لم تقم بقوله الْحجَّة. " إِذا " كَانَ الْمُجْتَهد قَادِرًا على التَّمَسُّك بالحجاج / وَالِاجْتِهَاد. فَذَلِك / أَحْرَى لَهُ. وَهَذِه دَعْوَى مُجَرّدَة. فَيُقَال " لَهُم ": لم زعمتم أَن من لَا تجب لَهُ الْعِصْمَة الحديث: 1924 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 لَا يجوز الرُّجُوع إِلَى قَوْله. وَهل تنازعون إِلَّا فِي هَذَا؟ فَلَو قَالَ الرب تَعَالَى مهما صدر قَول من عَالم فاقبلوه. فَإِن جوزتم خطأه فَحكى " عَلَيْكُم " مُوجب " قَوْله " وَلَا عَلَيْكُم لَو أَخطَأ فِي نَفسه - كَانَ ذَلِك غير مُسْتَحِيل. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنا نرْجِع إِلَى قَول الروَاة " مَعَ " جَوَاز زللهم وَنَرْجِع إِلَى طرق الِاعْتِبَار فِي المجتهدات، وَإِن كُنَّا لَا نقطع بهَا. وَنَرْجِع إِلَى قَول الشُّهُود فِي الحكومات والخصومات، مَعَ أَنا لَا نقطع بصدقهم. فَبَطل التعويل على هَذِه الطَّرِيقَة. 1926 - وَمِمَّا عولوا " عَلَيْهِ " أَيْضا، أَن قَالُوا: إِذا / اسْتَوَى " العالمان " فِي " التَّمَكُّن من " الِاجْتِهَاد، " فيتنزلان " فِي ذَلِك منزلَة الْعَاميّ والعالم فِي أصل الدّين. فَإِنَّهُمَا لما اسْتَويَا فِي تصور الِاسْتِدْلَال / وَالنَّظَر من كل وَاحِد، مِنْهُمَا فِي أصل الدّين، لم يجز للعامي تَقْلِيد الْعَالم فِيمَا يقدر على الِاجْتِهَاد فِيهِ. فَكَذَلِك العالمان فِي الْفُرُوع فَيُقَال الحديث: 1926 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 " لَهُم ": هَذَا غير مُسْتَقِيم. " فَإنَّا " لَو قَدرنَا وُرُود الشَّرْع بتقليد الْعَالم الْعَالم فِي الْفُرُوع " لم يسْتَحل " كَمَا قدمْنَاهُ فِي صدر الْبَاب. وَلَو قَدرنَا وُرُود الشَّرْع بالتقليد " فِي " معرفَة الله تَعَالَى، لَكَانَ مستحيلا. فَإِن من شَرط وُرُود التَّكْلِيف معرفَة الْمُكَلف و " لن يعلم من طَرِيق " التَّقْلِيد. فَلَو قَالَ الله تَعَالَى - لَا تستدلوا و " أعلموني " لَكَانَ " ذَلِك " من قبيل تَكْلِيف الْمحَال. وَهَذَا بَين لكل من تَأمله. على أَن الِاجْتِهَاد فِي الْفُرُوع، إِنَّمَا هُوَ تمسك بِمَا لَا يقطع بِهِ، وَلَيْسَ كالاستدلال فِي الْأُصُول. فَكل مَا يوردونه يبطل بقريب من الطّرق الَّتِي ذَكرنَاهَا. 1927 - وَمِمَّا يستدلون بِهِ أَيْضا، أَن قَالُوا: لَو جَازَ للْعَالم تَقْلِيد الْعَالم لما افترق " المتبع " والمتبع. وَالشّرط أَن يُفَارق التَّابِع الْمَتْبُوع إِمَّا فِي علم وَإِمَّا فِي عصمَة. وَقد " عدما " جَمِيعًا فِي الْمُتَنَازع فِيهِ. الحديث: 1927 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 فَيُقَال " لَهُم " / وَهَذِه دَعْوَى أَيْضا. ثمَّ نقُول " و " / لم شرطتم اخْتِلَاف التَّابِع والمتبوع فِي الْعِصْمَة وَالْعلم؟ وَعَن هَذَا " تسئلون " فيضعف كل مَا " يعتصمون " بِهِ. وَرُبمَا يستدلون بظواهر، لَا تقوم بهَا حجَّة. وَهِي كَثِيرَة. 1928 - وَالَّذِي يجب " التعويل " عَلَيْهِ، أَن نقُول: لَو جَوَّزنَا للْعَالم أَن يُقَلّد الْعَالم، لَكَانَ قَوْله فِي حَقه علما مَنْصُوبًا على الحكم الْوَاجِب " عَلَيْهِ " و " ينزل " ذَلِك منزلَة سَائِر الْأَدِلَّة " المنصوبة " فِي الشرعيات، على مَا أوضحناه فِيمَا سبق. وَإِذا كَانَ كَذَلِك فيستحيل إثْبَاته دَلِيلا، عقلا. فَإِن الْأَدِلَّة السمعية يدْرك جَوَاز كَونهَا أَدِلَّة، بالعقول. فَأَما أَن يدْرك " ثُبُوتهَا " أَدِلَّة بالعقول " فَلَا ". الحديث: 1928 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 فَإِنَّهَا لَا تدل على مدلولاتها لأنفسها. وَإِنَّمَا تدل بِنصب صَاحب الشَّرِيعَة إِيَّاهَا أَدِلَّة. 1929 - فَإِذا أوضح ذَلِك قُلْنَا: قد قَامَت " الدّلَالَة " القاطعة على انتصاب المقاييس والعبر وَغَيرهَا من طرق " الِاجْتِهَاد " " أَدِلَّة ". وَبَقِي التَّقْلِيد على النزاع. وموارد الشَّرْع الَّتِي تلتمس / مِنْهَا دلالات الْقطع مضبوطة مِنْهَا: نُصُوص الْكتاب و " السّنة المستفيضة " واجماع الْأمة. وَلَيْسَ مَعَ خصومنا نَص كتاب وَلَا نَص سنة مستفيضة. وَلَا يَنْبَغِي الْإِجْمَاع فِي مَوضِع الْخلاف. " فَهَذِهِ مصَادر الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة القطعية، فَإِذا انسدت بَطل " كَون " قَول الْعَالم حجَّة فِي " حق " عَالم مثله. 1930 - فَإِن قَالُوا: أما الْإِجْمَاع فَلَا ندعيه. وَأما نُصُوص الْكتاب فَلم زعمتم انتفائها؟ وَهل هَذَا إِلَّا تمسك مِنْكُم بِالدَّعْوَى! وَكَذَلِكَ الْمُطَالبَة " فِي " السّنَن. الحديث: 1929 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 قيل لَهُم: هَذَا " الْآن " تعنت مِنْكُم وعناد. فَإنَّا قُلْنَا: لَيْسَ مَعكُمْ " نَص " كتاب لَا يقبل التَّأْوِيل، فِي إِثْبَات التَّقْلِيد، وَلَا يمكننا أَن نتلو الْقُرْآن عَلَيْكُم من أَوله إِلَى آخِره. و " لَكِن " تأملنا مَا " بِهِ " اعتصامكم من آي الْكتاب. فرأيناها لَا تبلغ " مبلغ " النُّصُوص. ويعارضها مَا هُوَ " أقوى " مِنْهَا فِي الِاحْتِجَاج. وَمَا قُلْنَاهُ فِي السّنَن يتَحَقَّق على هَذَا الْمنْهَج. إِذْ لَيْسَ " فِيهَا " " نَص ". وَلَو قدر كَانَ سَبيله الْآحَاد. وتتأكد هَذِه الدّلَالَة بِأَصْل نوضحه فَنَقُول: لَا ينْتَصب " الشَّيْء " دَلِيلا وعلما فِي الشرعيات إِلَّا بِدلَالَة قَاطِعَة. فَإِنَّهُ لَو ثَبت بِمَا لَا يقطع بِهِ " لاحتيج " إِلَى إِثْبَات " مثبته " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 " ثمَّ " يتسلسل القَوْل فِيهِ إِلَى " مَا لَا يتناهى " فَهَذِهِ هِيَ الدّلَالَة السديدة، وَمَا عَلَيْهَا معترض. 1931 - فَإِن قَالُوا: " أَكثر " / مَا ادعيتموه انْتِفَاء وُرُود الشَّرْع بِنصب الْعَالم علما فِي حق الْعَالم. وَعدم وُرُود الشَّرْع لَا يدل على تَحْرِيم التَّقْلِيد. فَإِن التَّحْرِيم يفْتَقر إِلَى دَلِيل. كَمَا أَن الْإِبَاحَة تفْتَقر إِلَى دَلِيل. " وَانْتِفَاء " دَلِيل الْإِبَاحَة لَا يدل على التَّحْرِيم. وَهَذَا لعمري سُؤال يجب الاعتناء بِالْجَوَابِ عَنهُ. فَنَقُول: إِذا ثَبت أَن قَول الْعَالم لم ينْتَصب علما وَشرعا، وَلم تقم " عَلَيْهِ " حجَّة وَمثل ذَلِك لَو قدر " لَكَانَ " " سَبيله " الشَّرْع. وَقد وضح " وجوب " الِاجْتِهَاد " بالأدلة " القاطعة. فَلَا سَبِيل إِلَى ترك مَا ثَبت قطعا، بِمَا لم يثبت. 1932 - هَذَا بِأَن نقُول: أجمع الْمُسلمُونَ على أَن من تصدى الحديث: 1931 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 " لَهُ " طَرِيقَانِ شرعيان / " و " وضح طَرِيق الشَّرْع فِي أَحدهمَا وجوبا، وَلم يرد الشَّرْع فِي الثَّانِي، لَا نفيا وَلَا إِثْبَاتًا فَيجب التَّمَسُّك بِمَا وضح الشَّرْع فِيهِ. وَهَذَا إِجْمَاع. فَإِذا ثَبت لنا انْتِفَاء الْأَدِلَّة السمعية، فَتثبت مُلَازمَة الِاجْتِهَاد بطرِيق الْإِجْمَاع. وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ. 1933 - وَأَوْمَأَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ إِلَى الِاسْتِدْلَال بالظواهر المنصوبة على الْأَمر بِالِاعْتِبَارِ، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {فاعتبروا يأولي الأبصر} وَقَوله تَعَالَى: {أَفلا يتدبرون القرءان} إِلَى غير ذَلِك من الظَّوَاهِر الدَّالَّة على وجوب الِاعْتِبَار. وَهِي سهلة الْمدْرك إِذا تتبعتها. وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم} . وَكَذَلِكَ شَوَاهِد من سنة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَلكنهَا آحَاد. 1934 - وكل مَا ذَكرْنَاهُ " دَلِيلا " فِي هَذَا الْفَصْل، فَهُوَ دَلِيل فِي جملَة فُصُول الْبَاب، فَيرد بِهِ على من جوز الْفَتْوَى بالتقليد، وعَلى من جوز تَقْلِيد الأعلم. و " طَرِيق " الرَّد على جَمِيعهم وَاحِد، غير مُخْتَلف. الحديث: 1933 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 (327) شبه الْمُخَالفين 1935 - فمما تمسكوا بِهِ، أَن قَالُوا: " إِذا " جَازَ للعامي أَن يُقَلّد الْعَالم لم يستبعد ذَلِك فِي الْعَالم. فَإِنَّهُ فِي حَال تَقْلِيده، غير عَالم بِمَا " قلد فِيهِ " كَمَا أَن الْعَاميّ غير عَالم بِمَا يستفتي " فِيهِ ". / وَهَذَا سَاقِط من الْكَلَام. إِذْ ذكرنَا أَن الْعَاميّ لَا يكون مُقَلدًا فِي استفتائه / وَلَكِن ينزل قَول الْعَالم فِي حَقه، منزلَة الْأَدِلَّة فِي حق الْمُجْتَهدين. وَقد قَامَت دلَالَة الاجماع على انتصاب قَول الْعَالم " علما " عَلَيْهِ، " وَلَا دَلِيل " على كَونه علما فِي حق الْعَالم. وَلَيْسَت هَذِه الْمَسْأَلَة مِمَّا يتَمَسَّك فِيهَا بالطرديات. " وسبيلك " فِي مفاتحة الْكَلَام عَلَيْهِم، إِذا تمسكوا بِهَذَا الطَّرْد أَن تطالبهم بِإِثْبَات عِلّة الأَصْل لتحَقّق بعد ذَلِك الْجمع بَين الْفَرْع وَالْأَصْل. وَلَا سَبِيل لَهُم إِلَى ذَلِك. 1936 - وَقد استدلوا بجملة من الظَّوَاهِر، أقواها قَوْله تَعَالَى: الحديث: 1935 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 {فسئلوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} وَهَذَا الْمُجْتَهد غير عَالم بالحادثة الَّتِي وَقعت، إِذْ لم يتَّفق اجْتِهَاده فِيهَا فَيَنْبَغِي أَن يسْأَل من يعلمهَا. فَنَقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه " يُخَالف " الظَّاهِر، وأقوال الْمُفَسّرين وَذَلِكَ أَن الْمَعْنى بِالْآيَةِ " تَوْجِيه " الْأَمر بالسؤال على الَّذين لَا يتمكنون من الِاجْتِهَاد. وفحوى الْآيَة / يُنبئ " عَن " ذَلِك. فَإِنَّهُ تَعَالَى قسم السَّائِل والمسؤول قسمَيْنِ. فوصف المسؤول بِكَوْنِهِ من أهل الذّكر. وَوصف السَّائِل بِأَنَّهُ لَا يعلم. " و " هَذَا الضَّرْب من التَّقْسِيم " مُصَرح " بِأَن السَّائِل من الَّذين " لَا يعدون " من الْعلمَاء. وَلَا ينْدَرج تَحْتَهُ " من " وَقعت لَهُ حَادِثَة، وَهُوَ قَادر على " دَرك " الحكم فِيهَا. وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك، أَن من جوز تَقْلِيد " الْعَاميّ " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 " للْعَالم " لم يشْتَرط أَن يكون الْمُقَلّد قد سبق مِنْهُ النّظر وَالِاجْتِهَاد قبل " استفتائه " " وَليكن " عَالما عِنْد " الاستفتاء " بل جوز أَن يبتدي المسؤول الِاجْتِهَاد بعد السُّؤَال فَيكون المسؤول " إِذا " على قَول المستدلين بِظَاهِر الْآيَة / " مِمَّن " لَا يعلم. وَهَذَا وَاضح جدا فِي رد استدلالهم. (328) فصل مَا الحكم فِيمَا إِذا تضيق الْوَقْت فِي حق الْمُجْتَهد وخشي الْفَوات؟ 1937 - إِذا وَقعت حَادِثَة، وفيهَا على الْمُجْتَهد " تَكْلِيف " وَلَو اجْتهد لفات مَا كلف - إِذْ الْوَقْت مضيق - وَلَو قلد عَالما قد فرغ من الِاجْتِهَاد لتمكن من إِقَامَة الْفَرْض. فَهَل " لَهُ " التَّقْلِيد فِي هَذِه الصُّورَة اخْتلف الحديث: 1937 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 أَصْحَاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ " فِيهِ ". 1938 - فَذهب الْمُزنِيّ إِلَى جَوَاز التَّقْلِيد، وَذهب غَيره إِلَى منع التَّقْلِيد. وَمن منع التَّقْلِيد اسْتدلَّ بِأَنَّهُ من الْمُجْتَهدين. وَقد " ثَبت " منع تَقْلِيد الْمُجْتَهدين فَلَا يعْتَبر ذَلِك " بِضيق " الْوَقْت و " لَا " سعته. " أَيْضا " " فَإنَّا نقدر " الِاجْتِهَاد - على القَوْل بِمَنْع التَّقْلِيد - شرطا فِيمَا " يقيمه " الْمُجْتَهد من " الحكم ". وَمَا كَانَ من الشَّرَائِط فَلَا يخْتَلف الحكم فِيهِ بخشية الْفَوات وَالدَّلِيل عَلَيْهِ ستر الْعَوْرَة وَالطَّهَارَة وَمَا عَداهَا من شَرَائِط الصَّلَاة. 1939 - قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَالْكَلَام فِي " هَذَا الضَّرْب " لَا يكَاد يلْحق " الْقطع " فَإنَّا وَإِن منعناه من التَّقْلِيد، فَيتَعَيَّن عَلَيْهِ إِقَامَة الْفَرْض من غير اجْتِهَاد على مَا يتَّفق. وَلَا نجْعَل الِاجْتِهَاد شرطا فِي إِقَامَة فرض. الحديث: 1938 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 فَإِذا كَانَ يُصَلِّي على الِاتِّفَاق عِنْد " التباس " أَمَارَات الْقبْلَة، فَلَا يبعد أَن يُصَلِّي مُقَلدًا وَالْمَسْأَلَة من الْفُرُوع فتدبرها. فَهَذَا " أحد " " قسمي " الْكَلَام فِي التَّقْلِيد. فَإنَّا " ذكرنَا " فِي صدر الْبَاب " أَن " نتكلم فِي فصلين: أَحدهمَا: تَقْلِيد الْعلمَاء بَعضهم بَعْضًا / من غير الصَّحَابَة. وَالثَّانِي: تَقْلِيد الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم. / وَبَقِي علينا الْكَلَام فِي تَقْلِيد الصَّحَابَة /. (329) القَوْل فِي تَقْلِيد الصَّحَابِيّ و " هَل " ينْتَصب قَوْله حجَّة؟ وَذكر " الْخلاف " فِيهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 1940 - اخْتلف الْعلمَاء فِي قَول الصَّحَابِيّ الْمُجْتَهد. الحديث: 1940 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 1941 - " فَذهب " الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم إِلَى أَنه حجَّة، يجب على الْمُجْتَهدين من " سَائِر أهل الْأَعْصَار " التَّمَسُّك بِهِ. ثمَّ قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَإِنَّمَا يكون حجَّة، إِذا لم يخْتَلف الصَّحَابَة وَلَكِن " نقل " قَول وَاحِد عَن وَاحِد. وَلم يظْهر بِخِلَاف. فَيكون حِينَئِذٍ حجَّة. وَإِن لم ينتشر. 1942 - وَقَالَ فِي بعض أَقْوَاله: إِذا اخْتلف الصَّحَابَة، فالتمسك بقول الْخُلَفَاء أولى وَهَذَا كالدليل على أَنه لم يسْقط الِاحْتِجَاج " بأقوال " الصَّحَابَة لأجل الِاخْتِلَاف. 1943 - وَقَالَ فِي بعض أَقْوَاله: الْقيَاس الْجَلِيّ يقدم على قَول الصَّحَابِيّ. الحديث: 1941 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 1944 - وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: إِن قَول الصَّحَابِيّ مقدم على الْقيَاس. الحديث: 1944 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 1945 - وَأَجْمعُوا " على " أَن قَول الصَّحَابِيّ لَا يكون حجَّة على الصَّحَابِيّ، وَالظَّاهِر من الْمذَاهب أَنهم إِذا اخْتلفُوا، سقط الِاحْتِجَاج بأقوالهم. 1946 - فنبدأ بِمَا تمسك بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَن قَول الصَّحَابِيّ حجَّة. فمما استدلوا بِهِ، مَا رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: " عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدِي ". فَنَقُول لَهُم: إِنَّمَا عَنى بِالسنةِ " و " الْأَمر " بالاتباع " فِيهَا لُزُوم الطَّاعَة للخلفاء والتحضيض على الانقياد وَالطَّاعَة بأقصى الْجهد. وَإِن زَعَمُوا أَن الْأَمر بالاقتداء عَام. فَمَا ذَكرُوهُ سَاقِط من وَجْهَيْن. أَحدهمَا: أَنا لَا نقُول بِالْعُمُومِ. وَالثَّانِي: أَن الحَدِيث غير منطو على صِيغَة عُمُوم. فَإِن السّنة لَيْسَ فِيهَا قَضِيَّة عُمُوم. بل هِيَ لَفْظَة مُحْتَملَة. الحديث: 1945 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 وَالدَّلِيل على ذَلِك، أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لَو كَانَ يُرِيد الِاحْتِجَاج بقول الصَّحَابِيّ على مَا يَعْتَقِدهُ المخالفون، لما خصص الْخُلَفَاء بِالذكر فَلَمَّا أَرَادَ بِمَا قَالَه الطَّاعَة، خصصه بالخلفاء. 1947 - وَمِمَّا استدلوا بِهِ مَا رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ ". فَنَقُول لَهُم: بِمَ تنكرون على من يزْعم، أَنه أَرَادَ بذلك أَمر الْعَوام فِي عصره بالاقتداء بالعلماء؟ فَإِن / قَالُوا: فاللفظة عَامَّة! قيل لَهُم: وَنحن لَا نقُول بِالْعُمُومِ على أَنكُمْ خصصتم اللَّفْظ فِي حق الصَّحَابَة، بَعضهم مَعَ بعض. وَالَّذِي يُوضح بطلَان احتجاجهم أَن اللَّفْظَة منبئة عَن تَخْيِير. وَالدَّلِيل على ذَلِك - أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ " /. فَهَذَا فِي " ظَاهره " يُنبئ عَن احتجاجهم فِي الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة " ثمَّ " يُخَيّر الْمُجْتَهد فِي الْأَخْذ بقول أَيهمْ شَاءَ / فَلَو اخْتلفُوا لسقط الِاحْتِجَاج بقَوْلهمْ عِنْد " مخالفينا " فَسقط استدلالهم من كل وَجه. الحديث: 1947 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 1948 - وَرُبمَا يتمسكون بجمل من الظَّوَاهِر، يؤول مرجعها إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ و " رُبمَا " يتمسكون " بطرق " من الْمَعْنى. فَيَقُولُونَ: أَصْحَاب الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَرَضي عَنْهُم، " شهدُوا " الْوَحْي والتنزيل ومواقع الْخطاب / وشهدوا قَرَائِن الْأَحْوَال / فَلَا يصدر القَوْل مِنْهُم - " مَعَ " وُرُود الشراع بِإِحْسَان الظَّن بهم - إِلَّا وَهُوَ حق. وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ لَا طائل " وَرَاءه " فَإِنَّهُم مَعَ مَا " ذَكرُوهُ " بصدد الزلل. وَلم تقم حجَّة قَاطِعَة على الِاسْتِدْلَال بقَوْلهمْ. وَلَا يدل الْعقل على ذَلِك أَيْضا. فَلم يبْق فِيمَا ذَكرُوهُ معتصم. 1949 - وَدَلِيلنَا فِي هَذِه " هُوَ " الَّذِي قدمْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَة الأولى فِي منع التَّقْلِيد فاطردها على وَجههَا. و" اعْتبر " بعض المعتبرين بِمَا إِذا اخْتلف الصَّحَابَة. وَاعْتبر بَعضهم ذَلِك بقول الصَّحَابَة بَعضهم على " بعض ". الحديث: 1948 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 و " الأولى " التعويل على النُّكْتَة الَّتِي قدمناها. " فَإنَّك " إِذا قست على صُورَة الِاخْتِلَاف " لم يسلم " قياسك " من سُؤال " إِذْ يَقُول الْمُخَالف: لَا استبعاد فِي " أَن " ينصب قَول الصَّحَابَة علما وَحجَّة شرعا من غير " اخْتِلَاف " وَإِذا ظهر " اخْتلَافهمْ " لم ينْتَصب حجَّة. وَالْجمع بَينهمَا ضرب من الطَّرْد. وَالْأَحْسَن - إِن أردْت التَّمَسُّك بِهَذَا الْفَصْل - أَن تورده مستفصلا مستفرقا. وَلَا تستدل بِهِ بديا. " فَقل مَا " يَسْتَقِيم للخصم طَرِيق من " الطّرق ". وَقد أطنب القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي كَلَام بعض " مخالفينا " على بعض. وَمن أحكم مَا قُلْنَاهُ، هان عَلَيْهِ " مَا " سواهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 (330) القَوْل فِي صفة الْعَالم الَّذِي يسوغ لَهُ الْفَتْوَى فِي الْأَحْكَام 1950 - اجْمَعُوا أَنه لَا يحل " لكل من " شدا شَيْئا من الْعلم أَن يُفْتِي. وَإِنَّمَا " يحل " لَهُ " الْفَتْوَى " وَيحل للْغَيْر قبُول قَوْله فِي الْفَتْوَى، إِذا استجمع " أوصافا ". 1951 - مِنْهَا: أَن يكون " عَالما " بطرق الْأَدِلَّة، ووجوهها الَّتِي مِنْهَا تدل وَالْفرق بَين عقليها وسمعيها وَيكون عَالما بقضايا الْخطاب مَا يحْتَمل مِنْهُ وَمَا لَا يحْتَمل، ووجوه الِاحْتِمَال وَالْخُصُوص والعموم. والمجمل والمفسر، والصريح والفحوى. وَالْجُمْلَة الجامعة لما " شَرطه " القَاضِي فِي هَذَا الْقَبِيل أَن يكون / عَالما / بأصول الْفِقْه. وَقد حددنا أصُول الْفِقْه بِمَا يتَمَيَّز بِهِ عَن سَائِر الْفُنُون. 1952 - وَمِمَّا يَشْتَرِطه فِي الْمُجْتَهد أَن يكون عَالما / بِالْآيَاتِ الحديث: 1950 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 الْمُتَعَلّقَة بِالْأَحْكَامِ من كتاب الله تَعَالَى. وَلَا يشْتَرط حفظ مَا عَداهَا من الْآيَات. 1953 - وَمِمَّا يَشْتَرِطه أَن يُحِيط " بِهِ " من سنَن الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ حَتَّى لَا يشذ مِنْهَا " إِلَّا " الْأَقَل. وَلَا يُكَلف الْإِحَاطَة بجميعها. فَإِن ذَلِك مِمَّا " لَا يَنْضَبِط ". الحديث: 1953 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 1954 - وَمِمَّا يشْتَرط أَن يكون ذَا دراية فِي " اللُّغَة والعربية " / وَلَا يشْتَرط أَن يُحِيط بمعظمها وفَاقا، فَإِن الْإِحَاطَة بمعظم اللُّغَة والعربية يستوعب الْعُمر، وَهَذِه رُتْبَة لم يَدعهَا أَئِمَّة اللُّغَة والعربية وَأَهْلهَا. وَإِنَّمَا يشْتَرط من اللُّغَة والعربية / قدر مَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى معرفَة الْكتاب وَالسّنة. وَلَا يجتزي بِأَن يَأْخُذ تَفْسِير الْآيَات وَالْأَخْبَار تقليدا. بل يشْتَرط أَن " يتدرب " فِي اللُّغَة والعربية بِحَيْثُ يكون مِنْهَا على ثِقَة و " خبْرَة ". 1955 - وَمِمَّا يشْتَرط أَن يكون عَالما بمطاعن الْأَخْبَار الْمُتَعَلّقَة بِالْأَحْكَامِ. وَلَا يشْتَرط " أَن يجمع " علم الحَدِيث. فَإِنَّهُ " يُجزئ " أَن الحديث: 1954 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 يُحِيط علما بِمَا / قَالَه أَئِمَّة الحَدِيث فِي الْأَخْبَار " الْمُتَّصِلَة " بِالْأَحْكَامِ. 1956 - وَمِمَّا يَشْتَرِطه: أَن يُحِيط علما بمعظم مَذَاهِب السّلف، فَإِنَّهُ لَو لم يحط بهَا، لم يَأْمَن خرق الْإِجْمَاع فِي الْفَتَاوَى. 1957 - ثمَّ يشْتَرط بعد ذَلِك أَن يكون ورعا فِي دينه. 1958 - وَقد " قَالَ " القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي " خلل " كَلَامه، مَا يدل على أَن " التبحر " فِي " فن " الْكَلَام، شَرط " فِي " استجماع أَوْصَاف الْمُجْتَهدين. " قلت " وَلست أرى ذَلِك شرطا. إِذْ الْأَئِمَّة فِي الحديث: 1956 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 " الْأَعْصَار " الخالية مَا زَالُوا " يفتون " فِي الْحَوَادِث وَكَانُوا لَا يستقلون بطرق حجاج الْمُتَكَلِّمين. وَقد اسْتدلَّ " الْأُسْتَاذ " أَبُو إِسْحَق " بقريب " مِمَّا ذكره القَاضِي رَضِي الله عَنْهُمَا. وَمَا صَار إِلَيْهِ الْفُقَهَاء قاطبة عدم اشْتِرَاط ذَلِك. (331) القَوْل فِي صفة المستفتى وَمَا عَلَيْهِ من الِاجْتِهَاد 1959 - أجمع الْعلمَاء على أَن الْعَاميّ لَا يجب عَلَيْهِ " سبر " طرق الحديث: 1959 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 الْأَدِلَّة فِي آحَاد الْمسَائِل. فَإِنَّهُ لَا " يبلغ " إِلَى ذَلِك، إِلَّا بِأَن يستجمع أَوْصَاف الْمُجْتَهدين. وَلَو كلفنا النَّاس " أَجْمَعِينَ " أَن " يبلغُوا " أنفسهم رُتْبَة الْمُفْتِينَ، لانقطعوا عَن أَسبَاب " المعاش " وأفضى ذَلِك إِلَى امْتنَاع الطّلب على الطّلبَة أَيْضا. 1960 - فَإِذا ثَبت " أَنه " لَا يجب " عَلَيْهِ " الِاجْتِهَاد فِي الحديث: 1960 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 " آحَاد " الْمسَائِل، وَإِنَّمَا فَرْضه الرُّجُوع / إِلَى قَول الْمُفْتِي، فَهَل عَلَيْهِ أَن يجْتَهد فِي أَعْيَان الْمُفْتِينَ؟ 1961 - ذهب بعض الْمُعْتَزلَة إِلَى أَنه لَا يجب عَلَيْهِ شَيْء من الِاجْتِهَاد وَهَذَا " اجتراء " مِنْهُم على خرق الْإِجْمَاع. فَإِن الْأمة " مجمعة " على أَن من عنت لَهُ حَادِثَة، " لم يسغْ " لَهُ أَن يستفتي فِيهَا كل من يتلقاه. وَلَو " نَفينَا " وجوب " الِاجْتِهَاد " جملَة، أفْضى ذَلِك إِلَى تَجْوِيز الاستفتاء من غير فحص وتنقير عَن أَحْوَال الْمُفْتِينَ. وَهَذَا تورط فِي مراغمة الِاتِّفَاق. 1962 - فَإِذا وضح بِمَا قدمْنَاهُ وجوب ضرب من الِاجْتِهَاد " فمبلغه " أَن " يسائل " عَن أَحْوَال الْعلمَاء، حَتَّى إِذا تقرر " لَدَيْهِ " بقول الْأَثْبَات والثقات " أَن " الَّذِي يستفتي " مِنْهُم " بَالغ مبلغ الِاجْتِهَاد، الحديث: 1961 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 " فيستفتيه " حِينَئِذٍ. 1963 - ثمَّ " ردد " القَاضِي رَضِي الله عَنهُ جَوَابه فَقَالَ: لَو قَالَ قَائِل: إِذا أخبرهُ بذلك عَدْلَانِ " متهديان " إِلَى مَا يخبران عَنهُ، فَلهُ الاجتزاء " بأخبارهما " كَانَ ذَلِك مُحْتملا. وَلَو قَالَ الْقَائِل: " إِنَّه " لَا يستفتي إِلَّا من " استفاضت " الْأَخْبَار عَن بُلُوغه مبلغ الِاجْتِهَاد، كَانَ مُحْتملا. وَإِلَى الْجَواب الْأَخير مَال " القَاضِي رَضِي الله عَنهُ ". وَالْمَسْأَلَة على الِاحْتِمَال كَمَا ترَاهَا. الحديث: 1963 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 (332) فصل هَل يجب تَقْلِيد الأعلم؟ وَالْقَوْل فِي تعَارض الْفتيا 1964 - إِذا لم يكن فِي الْبَلدة " الَّتِي " فِيهَا المستفتى، إِلَّا عَالم وَاحِد فيقلده، و " لَا يُكَلف " الِانْتِقَال عَنهُ. 1965 - وَإِن جمعت الْبَلدة الْعلمَاء وكل مِنْهُم بَالغ مبلغ الِاجْتِهَاد، فقد ذهب " بعض الْعلمَاء " إِلَى " أَن الْوَاجِب " عَلَيْهِ أَن يُقَلّد الأعلم مِنْهُم، وَلَا يسوغ " لَهُ " تَقْلِيد من عداهُ. الحديث: 1964 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 وَهَذَا غير " سديد " " وَالصَّحِيح " أَنه لَهُ أَن يُقَلّد من شَاءَ مِنْهُم. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الَّذِي ثَبت فِي شَرَائِط الْمُفْتِي مَا قدمْنَاهُ فَإِذا اتّصف الْمَرْء بِهِ سَاغَ تَقْلِيده، وَلم يثبت " فِي " أصُول الشَّرِيعَة رِعَايَة مَا " يزِيد " على الشَّرَائِط " الَّتِي " قدمناها. وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم انقسموا إِلَى الْفَاضِل والمفضول. وَكَانَ الصّديق رَضِي الله عَنهُ أفضلهم " على " مَذَاهِب أهل الْحق. " ثمَّ " لم يكلفوا المستفتين أَلا يستفتوا غَيره. بل " لم " يجمعوا السَّائِلين على أحد مِنْهُم تعيينا مِنْهُم وتخصيصا. فوضح بذلك أَنه لَا يتَعَيَّن على المستفتي التَّعَرُّض للأعلم. 1966 - فَإِن قَالَ قَائِل: فجوزوا على مَا ذكرتموه إِمَامَة الْمَفْضُول! الحديث: 1966 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 قُلْنَا: هَذَا " خوض " / مِنْكُم فِي غير هَذَا الْفَنّ. وَقد أَقَمْنَا / " فِيمَا " نَحن فِيهِ أوضح دلَالَة. فَمَا وَجه تمسككم بِالْإِمَامَةِ؟ . 1967 - وَذهب بعض من لَا حَظّ لَهُ فِي الْأُصُول إِلَى أَن المستفتى يَأْخُذ بأثقل الْأَجْوِبَة ويغلظ الْأَمر على نَفسه، إِذا تَعَارَضَت أجوبة الْعلمَاء: إِذْ الْحق ثقيل. الحديث: 1967 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 وَهَذَا تحكم من هَذَا الْقَائِل. فَإِن الثّقل " لَيْسَ " عَلامَة " الصِّحَّة " / فَرب ثقيل بَاطِل / وَرب سمح صَحِيح كَيفَ وَقد قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " بعثت بالحنيفية السمحة ". 1968 - فَإِن قَالَ قَائِل: فَإِن تعَارض " فتويان " فِي تَحْلِيل وَتَحْرِيم فَبِمَ يَأْخُذ المستفتى؟ قُلْنَا: يَأْخُذ بأسبقهما إِلَيْهِ. فَإِن بَدْرًا من عَالمين جَمِيعًا أَخذ بِأَيِّهِمَا شَاءَ. الحديث: 1968 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 (333) القَوْل فِي الْحَظْر وَالْإِبَاحَة قبل وُرُود السّمع 1969 - قد قدمنَا فِي صدر الْكتاب أَن الْعقل " لَا يحسن وَلَا يقبح " الحديث: 1969 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 فارغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 فَلَا تَحْسِين إِلَّا مَا حسنه الشَّرْع، وَلَا تقبيح إِلَّا مَا قبحته المناهي. 1970 - وَذَهَبت الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن الْعقل، يسْتَدرك بِهِ قبح القبائح وَحسن " المستحسنات " وَهَذَا يستقصى فِي أصُول الديانَات. بيد أَنا نذْكر عُقُود مذاهبم، لتَكون مِنْهَا على بَصِيرَة. 1971 - وَقد قسموا مدارك الْعُقُول فِي ذَلِك أَرْبَعَة أَقسَام: أَحدهَا: مَا يدْرك " بِالْعقلِ " من الْوُجُوب. وَهُوَ نَحْو وجوب شكر الْمُنعم وَمَعْرِفَة الصَّانِع، وَالْعدْل والإنصاف. وَالْقسم الثَّانِي: مَا يدْرك " حسنه " ندبا بِالْعقلِ. وَهُوَ " التفضل " وَالْإِحْسَان. وَالْقسم الثَّالِث: وَهُوَ مَا يدْرك قبحه وتحريمه عقلا، وَهُوَ الْجَهْل بالصانع وكفران النعم وضروب الظُّلم. وَالْقسم الرَّابِع: مَا يدْرك بِالْعقلِ إِبَاحَته. 1972 - ثمَّ إِنَّهُم قسموا هَذِه المدارك قسمَيْنِ. فزعموا أَن مِنْهَا مَا يدْرك بضرورة الْعقل من غير احْتِيَاج إِلَى الِاعْتِصَام " بالحجاج " وَهُوَ نَحْو وجوب الشُّكْر وَتَحْرِيم الكفران وَالظُّلم وَنَحْوهمَا الحديث: 1970 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 مِمَّا يفصلونه. وَالْقسم الثَّانِي: مَا يدْرك مُقْتَضَاهُ بِالْعقلِ - ردا إِلَى مَا علم اضطرارا - قِيَاسا واعتبارا. 1973 - ثمَّ قَالُوا: من الْأَفْعَال مَا لَا يدْرك فِيهَا حكم على التَّعْيِين بقضايا الْعُقُول. " وَذَلِكَ " نَحْو الْحُدُود ومبالغها " والصلوات " وَنصب الزكوات، إِلَى غَيرهَا. قَالُوا: فَهِيَ على صِفَات الْحسن أَو على صِفَات الْقَبِيح. وَلَكِن لَا سَبِيل فِي دلالات الْعقل يُفْضِي " إِلَيْهَا " وَإِنَّمَا يعلم مواقعها بِالسَّمْعِ. 1974 - ثمَّ قَالُوا: فالحسن مِنْهَا لطف فِي فعل الْوَاجِبَات الْعَقْلِيَّة وَاجْتنَاب الْمَحْظُورَات، الْمدْرك حظرها عقلا. وَالنَّهْي عَن الْقَبِيح مِنْهَا لطف - على الْوَجْه الَّذِي قدمْنَاهُ. فَهَذِهِ جملَة مذاهبهم. واستقصاء الْكَلَام عَلَيْهِم يَلِيق بالديانات. ومقصدنا أَن نتعرض لما عدا الشُّكْر والكفران وَمَا ضاهاهما، مِمَّا يسلمُونَ لنا أَن الْعقل لَا يدل عَلَيْهَا على التَّعْيِين والتخصيص. 1975 - وَقد اخْتلف أَرْبَاب الْأُصُول فِي هَذَا الضَّرْب. فَذهب البغداديون من الْمُعْتَزلَة: أَنَّهَا على الْحَظْر وَالْمَنْع، مَا لم يرد الحديث: 1973 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 إِذن وَذهب الْبَاقُونَ من الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن الْأَحْكَام قبل / وُرُود الشَّرْع، على الْإِبَاحَة. وَمَا صَار إِلَيْهِ أهل الْحق - لَا حكم على الْعُقَلَاء قبل وُرُود الشَّرْع. وعبروا عَن نفي الْأَحْكَام بِالْوَقْفِ وَلم يُرِيدُوا بذلك الْوَقْف الَّذِي يكون حكما فِي بعض مسَائِل الشَّرْع، وَإِنَّمَا عنوا بِهِ انْتِفَاء الْأَحْكَام. وَقد مَال بعض الْفُقَهَاء إِلَى الْحَظْر. وَمَال آخَرُونَ إِلَى الْإِبَاحَة. وَهَذَا لغفلتهم عَن تشعب ذَلِك عَن أصُول الْمُعْتَزلَة. مَعَ علمنَا بِأَنَّهُم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 مَا انتحوا مسالكهم وَمَا ابْتَغوا / مقاصدهم. 1976 - فَالْأولى بِنَا أَن نتكلم على الْقَائِلين بِالْإِبَاحَةِ أَولا، ثمَّ ننعطف على الْقَائِلين بالحظر. فَنَقُول: قد أوضحنا فِي صدر الْكتاب، أَن أَحْكَام الشَّرْع لَيست " أوصافا " رَاجِعَة إِلَى الْأَنْفس والذوات. و " إِنَّمَا هِيَ " قضايا كَلَام الرب تَعَالَى. فَإِذا لم يتَّصل بالعقلاء شرع اسْتَحَالَ تَقْدِير إِثْبَات حكم وَهَذَا بِنَاء. 1977 - وَإِن أَحْبَبْت إِفْرَاد الْمَسْأَلَة بِدَلِيل قلت: الْإِبَاحَة تنبئ عَن الْإِذْن، والمباح هُوَ الْمَأْذُون فِيهِ. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك، أَنه لَا يَخْلُو القَوْل فِيهِ من أحد قسمَيْنِ: إِمَّا أَن يُقَال: الْمُبَاح هُوَ الْمَأْذُون فِيهِ كَمَا قُلْنَاهُ. فَيبْطل إِثْبَات الْإِبَاحَة قبل اتِّصَال الْإِذْن بالعقلاء. وَإِن عَنى خصومنا بِالْإِبَاحَةِ انْتِفَاء الْحَرج عَن الْمُقدم " على " الشَّيْء " فَهُوَ مَا " الحديث: 1976 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 نساعده عَلَيْهِ. فَإنَّا لَا نقدر قبل وُرُود " الشَّرَائِع " حرجا أصلا. ويدور الْكَلَام بَيْننَا فِي عبارَة. وَنحن أسعد بِنَفْي الْإِبَاحَة. إِذْ الْإِبَاحَة تُضَاف إِلَى مُبِيح. وَلَو كَانَ يجتزي فِي تَحْقِيق سمة الْإِبَاحَة بِانْتِفَاء الْحَرج " لزم " وصف أَفعَال الْبَهَائِم والأطفال بِكَوْنِهَا مُبَاحَة. وَقد اتَّفقُوا على منع ذَلِك وَصفا وإطلاقا. 1978 - فَإِن قَالُوا: " بِمَ " تنكرون على من يزْعم أَن الْمُبَاح هُوَ الَّذِي دلّت الدّلَالَة على إِبَاحَته؟ قُلْنَا: هَذَا لَا طائل تَحْتَهُ. فَإِنَّكُم لم تفسروا الْإِبَاحَة بل أجملتموها " وعقلتموها " بِدلَالَة. وَهَذَا مَا لَا ينجيكم عَمَّا أُرِيد بكم. 1979 - فَإِن قَالُوا: فقد علم كل عَاقل " بعقله " " إِبَاحَته " مَا فِيهِ نزاعا. فَينزل ذَلِك منزلَة الْمُصَرّح بِهِ. الحديث: 1978 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 قُلْنَا: فَفِي هَذَا تنازعنا. فَلم قُلْتُمْ إِنَّه علم بعقله؟ على أَنه يلزمكم أَلا تحققوا الْإِبَاحَة فِي حق من " لم " تخطر لَهُ دلَالَة / الْإِبَاحَة من عقله. 1980 - وَمَا نعول عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَة أَن نقُول: " قد ثَبت " من أصلكم أَنه لَا يقطع بِإِبَاحَة الشَّيْء إِلَّا عِنْد الْقطع بِانْتِفَاء الضَّرَر عَاجلا وآجلا فِي الْإِقْدَام عَلَيْهِ. فَإِذا وضح ذَلِك فَمَا يؤمنكم أَن الَّذِي يقدم عَلَيْهِ الْمَرْء قبل اسْتِقْرَار الشَّرَائِع يضرّهُ فِي مآله. والمصلحة فِي دينه الْكَفّ عَنهُ. فَعِنْدَ ذَلِك حارت عُقُولهمْ وَتَفَرَّقَتْ آراؤهم. 1981 - فَذهب معظمهم إِلَى أَنا عرفنَا ذَلِك بِعَدَمِ نصب الْأَدِلَّة على الْحَظْر وَإِيجَاب اجْتِنَاب المضار، فَلَمَّا لم ينصب الرب تَعَالَى - على مَا فِيهِ نزاعنا - " دَلِيل " التَّحْرِيم، دلّ على التَّحْلِيل. قيل: فَبِمَ تنكرون على من يعكس عَلَيْكُم مقالكم، فَيَقُول: الْأَحْكَام على الْحَظْر إِذْ لَو كَانَت على الْإِبَاحَة " لنصبت " عَلَيْهَا دلَالَة دَالَّة على الْإِبَاحَة. فَعدم دلَالَة الْإِبَاحَة دَلِيل الْحَظْر. فَهَذَا مَا لَا يَجدونَ عَنهُ مخلصا. 1982 - وَمِمَّا نستدل بِهِ عَلَيْهِم - من أصولهم - أَن نقُول: من أصلكم أَن التَّعَرُّض لملك الْغَيْر من غير إِذْنه، " مِمَّا " يدْرك تَحْرِيمه عقلا. الحديث: 1980 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 وَجُمْلَة مَا يقدم الْمَرْء على تنَاوله ملك " للرب " تَعَالَى - فَلم أحللتم الْإِقْدَام عَلَيْهِ دون إِذْنه؟ فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا حرم التَّعَرُّض لملك الْغَيْر لتضرره، والرب تَعَالَى يتقدس عَن ذَلِك. قيل لَهُم: فَلَو صَحَّ رِعَايَة التضرر كَمَا قلتموه، لزم أَلا يحل تنَاول ملك الْغَيْر وَإِن أذن فِيهِ. لما يلْحقهُ من الضَّرَر. 1983 - فَإِن قَالُوا: إِذا كَانَ ذَلِك صادرا عَن إِذْنه " ومستفادا " عَن مُقَابلَة ضَرَره فِي ملكه، مدحا وثناء. وَأَقل مَا يستفيده مَا يَنَالهُ من الاهتزاز بِحُصُول مُرَاده /. فَنَقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل من أوجه: مِنْهَا: أَنه لَو جَازَ رِعَايَة مَا " يَنَالهُ " من السرُور، للَزِمَ أَن " نقُول ": لَا يجوز الاستظلال بِظِل جِدَار الْغَيْر، إِذا كَانَ يغمه ذَلِك. وَإِن كَانَ لَا يتَضَرَّر بِهِ. فَلَمَّا لم يعْتَبر " بِهِ " فِي التَّحْرِيم مَا ينَال من الْفَم. فَلَا " يعْتَبر " فِي التَّحْلِيل مَا ينَال من السرُور، على أَنه رُبمَا أَنه لَا يَنَالهُ بِإِذْنِهِ سرُور أصلا وَقد أذن فِيمَا يعظم ضَرَره عَلَيْهِ فَبَطل مَا عولوا عَلَيْهِ. الحديث: 1983 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 1984 - فَإِن استدلوا بقريب مِمَّا ذَكرْنَاهُ فَقَالُوا: إِذا ظهر الِانْتِفَاع - بِمَا فِيهِ نزاعنا - من كل وَجه واندفعت وُجُوه الضَّرَر، فَلَا وَجه إِلَّا الْإِبَاحَة / وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه مَا من شَيْء قدروه مُبَاحا، إِلَّا وَيجوز وُرُود الشَّرْع بِتَحْرِيمِهِ. وَلَو كَانَ وَاجِب الْإِبَاحَة لنَفسِهِ لما جَازَ ذَلِك فِيهِ. فَإِن قَالُوا: فَحَيْثُ يرد تَحْرِيمه، " فَذَلِك " لِأَن الْمصلحَة فِي تَحْرِيمه من وَقت وُرُود التَّحْرِيم. قُلْنَا: فَهَذَا بِنَاء مِنْكُم على أصلكم الْفَاسِد فِي الْمصلحَة. وَنحن لَا نوافقكم فِيهَا. على أَنه " يثبت " جَوَاز توقع الْمصلحَة فِي تَحْرِيمهَا جملَة وَبَطل الْقطع بإباحتها. 1985 - وَمِمَّا استدلوا بِهِ " أَيْضا " أَن قَالُوا: إِذا خلق الرب تَعَالَى الْأَجْسَام وَخلق فِيهَا طعومها، مَعَ جَوَاز خلوها عَن " الطَّعَام " فَلَا فَائِدَة فِي خلق " الطَّعَام فِيهَا. إِلَّا أَن يطْعمهَا الطامعون. الحديث: 1984 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 وَهَذَا " فاتر " من الْكَلَام. " وَأول " مَا فِيهِ. يمْنَعُونَ عَن جَوَاز خلو الْأَجْسَام عَن الطعوم، ثمَّ لَو سلم ذَلِك جدلا. فَمَا ذَكرُوهُ دَعْوَى مُجَرّدَة " فَمنهمْ " حَاجَة " إِلَى " أَن يثبتوا أَن فعل الرب تَعَالَى يُعلل. وَهَذَا مِمَّا يأباه أهل الْحق وَهُوَ مِمَّا يستقصى فِي التَّعْدِيل والتجوير. ثمَّ لَو سلم ذَلِك - أَيْضا - وَقيل بتعليل أَفعاله، فهم - على تَسْلِيم هَذَا الأَصْل - مطالبون بِأَن يثبتوا أَن الْمَقْصُود من خلق الطعوم مَا ذَكرُوهُ. فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. فَهَذَا سَبِيل الرَّد على الْقَائِلين بِالْإِبَاحَةِ. 1986 - فَأَما الْقَائِلُونَ بالحظر فَيُقَال لَهُم: إِذا حكمتم بحظر بعض " من " الْأَفْعَال وَهِي ذَات أضداد، فَإِن حرمتم الْفِعْل وضده - وَالْمحل لَا يَخْلُو عَنْهُمَا جَمِيعًا - كَانَ ذَلِك تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق. وَإِن حرمتم أحد الضدين لم تَكُونُوا أولى مِمَّن يحرم الآخر فيحلل ماحرمتموه. الحديث: 1986 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 ثمَّ نقُول لَهُم: قد قُلْتُمْ أَن مَا لَا ضَرَر فِيهِ على الْمَالِك، فتدرك إِبَاحَته عقلا / نَحْو الاستظلال بِظِل " الجدران " وَمَا أشبههَا. وَجُمْلَة " مَا لم ينْتَفع بِهِ "، ملك لله تَعَالَى. وَهُوَ يجل عَن التضرر، فَهَلا أبحتم تنَاوله لذَلِك. فيتسلط على الْقَائِلين بالحظر احتمالات التَّحْلِيل. كَمَا وجهنا على الْقَائِلين بالتحليل احتمالات الْحَظْر. 1987 - على أَنا نقُول لِلْقَائِلين بالحظر: أتعتقدون الْخطر وَصفا فِي الْمَحْظُور " أم " لَا تعتقدون ذَلِك؟ فَإِن " اعتقدتموه " وَصفا فِيهِ، أبطلنا مَا قَالُوهُ، بِالْبِنَاءِ على مَا قدمْنَاهُ من أصلنَا فِي الْأَحْكَام - " لَا يرجع " إِلَى أَوْصَاف الْمَحْكُوم فِيهَا. وَإِن لم يصرف الْحَظْر إِلَى أَوْصَاف الْمَحْظُور، لم يبْق لَهُم مصرف سوى قَضِيَّة كَلَام الله تَعَالَى وَجل، فَلَا يتَحَقَّق إِدْرَاكه قبل اتِّصَال الشَّرْع بِنَا. وَقد انْقَضتْ شبههم فِي خلل كلامنا. وَمضى مَا فِيهِ التفصي عَنْهَا الحديث: 1987 ¦ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 واستقصاء الْكَلَام فِي أَطْرَاف هَذِه الْمَسْأَلَة يتَعَلَّق بفن الْكَلَام. وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ غنية إِن شَاءَ الله عز وَجل. تمّ كتاب التَّلْخِيص بِحَمْد الله تَعَالَى وَحسن عونه. وَصلى الله على مُحَمَّد نبيه وَسلم تَسْلِيمًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481