الكتاب: أصول السرخسي المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (المتوفى: 483هـ) الناشر: دار المعرفة - بيروت عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- أصول السرخسي السرخسي الكتاب: أصول السرخسي المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (المتوفى: 483هـ) الناشر: دار المعرفة - بيروت عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] مُقَدّمَة بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْأَجَل الزَّاهِد شمس الْأَئِمَّة أَبُو بكر مُحَمَّد بن أبي سهل السَّرخسِيّ إملاء فِي يَوْم السبت سلخ شَوَّال سنة تسع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة فِي زَاوِيَة من حِصَار أوزجند الْحَمد لله الحميد الْمجِيد المبدىء المعيد الفعال لما يُرِيد ذِي الْبَطْش الشَّديد وَالْأَمر الحميد وَالْحكم الرشيد والوعد والوعيد نحمده على مَا أكرمنا بِهِ من مِيرَاث النُّبُوَّة ونشكره على مَا هدَانَا إِلَيْهِ بِمَا هُوَ أصل فِي الدّين والمروة وَهُوَ الْعلم الَّذِي هُوَ أنفس الأعلاق وَأجل مكتسب فِي الْآفَاق فَهُوَ أعز عِنْد الْكَرِيم من الكبريت الْأَحْمَر والزمرد الْأَخْضَر ونثارة الدّرّ والعنبر ونفيس الْيَاقُوت والجوهر من جمعه فقد جمع الْعِزّ والشرف وَمن عَدمه فقد عدم مجامع الْخَيْر واللطف يُقَوي الضَّعِيف وَيزِيد عز الشريف يرفع الخامل الحقير ويمول العائل الْفَقِير بِهِ يطْلب رضَا الرَّحْمَن وتستفتح أَبْوَاب الْجنان وينال الْعِزّ فِي الدّين وَالدُّنْيَا والمحمدة فِي البدء والعقبى لأَجله بعث الله النَّبِيين وختمهم بِسَيِّد الْمُرْسلين وَإِمَام الْمُتَّقِينَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى آله الطيبين وَبعد فَإِن من أفضل الْأُمُور وَأَشْرَفهَا عِنْد الْجُمْهُور بعد معرفَة أصل الدّين الِاقْتِدَاء بالأئمة الْمُتَقَدِّمين فِي بذل المجهود لمعْرِفَة الْأَحْكَام فبها يَتَأَتَّى الْفَصْل بَين الْحَلَال وَالْحرَام وَقد سمي الله تَعَالَى ذَلِك فِي مُحكم تَنْزِيله الْخَيْر الْكثير فَقَالَ {وَمن يُؤْت الْحِكْمَة فقد أُوتِيَ خيرا كثيرا} فسر ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَغَيره الْحِكْمَة بِعلم الْفِقْه وَهُوَ المُرَاد بقوله عز وَجل {ادْع إِلَى سَبِيل رَبك بالحكمة وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة} أَي بِبَيَان الْفِقْه ومحاسن الشَّرِيعَة فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرِوَايَة ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام خياركم فِي الْجَاهِلِيَّة خياركم فِي الْإِسْلَام إِذا تفقهوا وَإِلَى ذَلِك دَعَا الله الصَّحَابَة الَّذين هم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 أَعْلَام الدّين وقدوة الْمُتَأَخِّرين فَقَالَ {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يحذرون} وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا عبد الله بِشَيْء أفضل من الْفِقْه فِي الدّين ولفقيه وَاحِد أَشد على الشَّيْطَان من ألف عَابِد وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَلِيل من الْفِقْه خير من كثير من الْعَمَل غير أَن تَمام الْفِقْه لَا يكون إِلَّا باجتماع ثَلَاثَة أَشْيَاء الْعلم بالمشروبات والإتقان فِي معرفَة ذَلِك بِالْوُقُوفِ على النُّصُوص بمعانيها وَضبط الْأُصُول بفروعها ثمَّ الْعَمَل بذلك فتمام الْمَقْصُود لَا يكون إِلَّا بعد الْعَمَل بِالْعلمِ وَمن كَانَ حَافِظًا للمشروبات من غير إتقان فِي الْمعرفَة فَهُوَ من جملَة الروَاة وَبعد الإتقان إِذا لم يكن عَاملا بِمَا يعلم فَهُوَ فَقِيه من وَجه دون وَجه فَأَما إِذا كَانَ عَاملا بِمَا يعلم فَهُوَ الْفَقِيه الْمُطلق الَّذِي أَرَادَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ هُوَ أَشد على الشَّيْطَان من ألف عَابِد وَهُوَ صفة المقدمين من أَئِمَّتنَا أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد رَضِي الله عَنْهُم وَلَا يخفى ذَلِك على من يتَأَمَّل فِي أَقْوَالهم وأحوالهم عَن إنصاف فَذَلِك الَّذِي دَعَاني إِلَى إملاء شرح فِي الْكتب الَّتِي صنفها مُحَمَّد بن الْحسن رَحمَه الله بآكد إِشَارَة وأسهل عبارَة وَلما انْتهى الْمَقْصُود من ذَلِك رَأَيْت من الصَّوَاب أَن أبين للمقتسبين أصُول مَا بنيت عَلَيْهَا شرح الْكتب ليَكُون الْوُقُوف على الْأُصُول معينا لَهُم على فهم مَا هُوَ الْحَقِيقَة فِي الْفُرُوع ومرشدا لَهُم إِلَى مَا وَقع الْإِخْلَال بِهِ فِي بَيَان الْفُرُوع فالأصول مَعْدُودَة والحوادث ممدودة والمجموعات فِي هَذَا الْبَاب كَثِيرَة للْمُتَقَدِّمين والمتأخرين وَإِنَّا فِيمَا قصدته بهم من المقتدين رَجَاء أَن أكون من الْأَشْبَاه فَخير الْأُمُور الِاتِّبَاع وشرها الابتداع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه عَلَيْهِ أتكل وَإِلَيْهِ أبتهل وَبِه أَعْتَصِم وَله أستسلم وبحوله أعتضد وإياه أعْتَمد فَمن اعْتصمَ بِهِ فَازَ بالخيرات سَهْمه ولاح فِي الصعُود نجمه فأحق مَا يبْدَأ بِهِ فِي الْبَيَان الْأَمر والنهى لِأَن مُعظم الِابْتِلَاء بهما وبمعرفتهما تتمّ معرفَة الْأَحْكَام ويتميز الْحَلَال من الْحَرَام - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الْأَمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم أَن الْأَمر أحد أَقسَام الْكَلَام بِمَنْزِلَة الْخَبَر والاستخبار وَهُوَ عِنْد أهل اللِّسَان قَول الْمَرْء لغيره افْعَل وَلَكِن الْفُقَهَاء قَالُوا هَذِه الْكَلِمَة إِذا خَاطب الْمَرْء بهَا من هُوَ مثله أَو دونه فَهُوَ أَمر وَإِذا خَاطب بهَا من هُوَ فَوْقه لَا يكون أمرا لِأَن الْأَمر يتَعَلَّق بالمأمور فَإِن كَانَ الْمُخَاطب مِمَّن يجوز أَن يكون مَأْمُور الْمُخَاطب كَانَ أمرا وَإِن كَانَ مِمَّن لَا يجوز أَن يكون مأموره لَا يكون أمرا كَقَوْل الدَّاعِي اللَّهُمَّ اغْفِر لي وارحمني يكون سؤالا وَدُعَاء لَا أمرا ثمَّ المُرَاد بِالْأَمر يعرف بِهَذِهِ الصِّيغَة فَقَط وَلَا يعرف حَقِيقَة الْأَمر بِدُونِ هَذِه الصِّيغَة فِي قَول الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء وَقَالَ بعض أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ يعرف حَقِيقَة المُرَاد بِالْأَمر بِدُونِ هَذِه الصِّيغَة وعَلى هَذَا يبتني الْخلاف فِي أَفعَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا مُوجبَة أم لَا وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} أَي عَن سمته وطريقته فِي أَفعاله وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَمر فِرْعَوْن برشيد} وَالْمرَاد فعله وطريقته وَقَالَ تَعَالَى {وَأمرهمْ شُورَى بَينهم} أَي أفعالهم وَقَالَ تَعَالَى {وتنازعتم فِي الْأَمر} أَي فِيمَا تقدمون عَلَيْهِ من الْفِعْل وَقَالَ تَعَالَى {قل إِن الْأَمر كُله لله} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 المُرَاد الشَّأْن وَالْفِعْل وَالْعرب تَقول أَمر فلَان سديد مُسْتَقِيم أَي حَاله وأفعاله وَإِذا ثَبت أَن الْأَمر يعبر بِهِ عَن الْفِعْل كَانَ حَقِيقَة فِيهِ يُوضحهُ أَن الْعَرَب تفرق بَين جمع الْأَمر الَّذِي هُوَ القَوْل فَقَالُوا فِيهِ أوَامِر وَالْأَمر الَّذِي هُوَ الْفِعْل فَقَالُوا فِي جمعه أُمُور فَفِي التَّفْرِيق بَين الجمعين دلَالَة على أَن كل وَاحِد مِنْهُ حَقِيقَة وَمن يَقُول إِن اسْتِعْمَال الْأَمر فِي الْفِعْل بطرِيق الْمجَاز والاتساع فَلَا بُد لَهُ من بَيَان الْوَجْه الَّذِي اتَّسع فِيهِ لأَجله لِأَن الاتساع وَالْمجَاز لَا يكون إِلَّا بطرِيق مَعْلُوم يستعار اللَّفْظ بذلك الطَّرِيق لغير حَقِيقَته مجَازًا وَفِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خُذُوا عني مَنَاسِككُم وصلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي تنصيص على وجوب اتِّبَاعه فِي أَفعاله وَحجَّتنَا فِي ذَلِك أَن المُرَاد بِالْأَمر من أعظم الْمَقَاصِد فَلَا بُد من أَن يكون لَهُ لفظ مَوْضُوع هُوَ حَقِيقَة يعرف بِهِ اعْتِبَارا بِسَائِر الْمَقَاصِد من الْمَاضِي والمستقبل وَالْحَال وَهَذَا لِأَن الْعبارَات لَا تقصر عَن الْمَقَاصِد وَلَا يتَحَقَّق انْتِفَاء الْقُصُور إِلَّا بعد أَن يكون لكل مَقْصُود عبارَة هُوَ مَخْصُوص بهَا ثمَّ قد تسْتَعْمل تِلْكَ الْعبارَة لغيره مجَازًا بِمَنْزِلَة أَسمَاء الْأَعْيَان فَكل عين مُخْتَصّ باسم هُوَ مَوْضُوع لَهُ وَقد يسْتَعْمل فِي غَيره مجَازًا نَحْو أَسد فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة اسْم لعين وَإِن كَانَ يسْتَعْمل فِي غَيره مجَازًا يُوضحهُ أَن قَوْلنَا أَمر مصدر والمصادر لَا بُد أَن تُوجد عَن فعل أَو يُوجد عَنْهَا فعل على حسب اخْتِلَاف أهل اللِّسَان فِي ذَلِك ثمَّ لَا تَجِد أحدا من أهل اللِّسَان يُسَمِّي الْفَاعِل للشَّيْء آمرا أَلا ترى أَنهم لَا يَقُولُونَ للآكل والشارب آمرا فَبِهَذَا تبين أَن اسْم الْأَمر لَا يتَنَاوَل الْفِعْل حَقِيقَة وَلَا يُقَال الْأَمر اسْم عَام يدْخل تَحْتَهُ الْمُشْتَقّ وَغَيره لِأَن الْأَمر مُشْتَقّ فِي الأَصْل فَإِنَّهُ يُقَال أَمر يَأْمر أمرا فَهُوَ آمُر وَمَا كَانَ مشتقا فِي الأَصْل لَا يُقَال إِنَّه يتَنَاوَل الْمُشْتَقّ وَغَيره حَقِيقَة وَإِنَّمَا يُقَال ذَلِك فِيمَا هُوَ غير مُشْتَقّ فِي الأَصْل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 كاللسان وَنَحْوه وَفِي قَول الْقَائِل رَأَيْت فلَانا يَأْمر بِكَذَا وَيفْعل بِخِلَافِهِ دَلِيل ظَاهر على أَن الْفِعْل غير الْأَمر حَقِيقَة فَأَما مَا تلوا من الْآيَات فَنحْن لَا ننكر اسْتِعْمَال الْأَمر فِي غير مَا هُوَ حَقِيقَة فِيهِ لِأَن ذَلِك فِي الْقُرْآن على وُجُوه مِنْهَا الْقَضَاء قَالَ الله تَعَالَى {يدبر الْأَمر من السَّمَاء إِلَى الأَرْض} وَقَالَ تَعَالَى {أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر} وَمِنْهَا الدّين قَالَ الله تَعَالَى {حَتَّى جَاءَ الْحق وَظهر أَمر الله} وَمِنْهَا القَوْل قَالَ الله تَعَالَى {يتنازعون بَينهم أَمرهم} وَمِنْهَا الْوَحْي قَالَ الله تَعَالَى {يتنزل الْأَمر بَينهُنَّ} وَمِنْهَا الْقِيَامَة قَالَ تَعَالَى {أَتَى أَمر الله} وَمِنْهَا الْعَذَاب قَالَ الله تَعَالَى {فَمَا أغنت عَنْهُم آلِهَتهم الَّتِي يدعونَ من دون الله من شَيْء لما جَاءَ أَمر رَبك وَمَا زادوهم غير تتبيب} وَمِنْهَا الذَّنب قَالَ الله تَعَالَى {فذاقت وبال أمرهَا} فإمَّا أَن نقُول كل ذَلِك يرجع إِلَى شَيْء وَاحِد وَهُوَ أَن تَمام ذَلِك كُله بِاللَّه تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى {قل إِن الْأَمر كُله لله} ثمَّ فهمنا ذَلِك بِمَا هُوَ صِيغَة الْأَمر حَقِيقَة فَقَالَ {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} وكما قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه أَن نقُول لَهُ كن فَيكون} أَو نقُول مَا كَانَ حَقِيقَة لشَيْء لَا يجوز نَفْيه عَنهُ بِحَال وَمَا كَانَ مُسْتَعْملا بطرِيق الْمجَاز لشَيْء يجوز نَفْيه عَنهُ كاسم الْأَب فَهُوَ حَقِيقَة للْأَب الْأَدْنَى فَلَا يجوز نَفْيه عَنهُ ومجاز للْجدّ فَيجوز نَفْيه عَنهُ بِإِثْبَات غَيره ثمَّ يجوز نفي هَذِه الْعبارَة عَن الْفِعْل وَغَيره مِمَّا لَا يُوجد فِيهِ هَذِه الصِّيغَة فَإِن الْإِنْسَان إِذا قَالَ مَا أمرت الْيَوْم بِشَيْء كَانَ صَادِقا وَإِن كَانَ قد فعل أفعالا فَعرفنَا أَن الِاسْتِعْمَال فِيهِ مجَاز وَطَرِيق هَذَا الْمجَاز أَنهم فِي قَوْلهم أَمر فلَان سديد مُسْتَقِيم أجروا اسْم الْمصدر على الْمَفْعُول بِهِ كَقَوْلِهِم هَذَا الدِّرْهَم ضرب الْأَمِير وَهَذَا الثَّوْب نسج الْيمن وأيد مَا قُلْنَا مَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما خلع نَعْلَيْه فِي الصَّلَاة خلع النَّاس نعَالهمْ فَلَمَّا فرغ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام مَا حملكم على مَا صَنَعْتُم وَلَو كَانَ فعله يُوجب الِاتِّبَاع مُطلقًا لم يكن لهَذَا السُّؤَال مِنْهُ معنى وَلما وَاصل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاصل أَصْحَابه فَأنْكر عَلَيْهِم وَقَالَ إِنِّي لست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 كأحدكم إِنِّي أَبيت يطعمني رَبِّي ويسقيني وَفِي اسْتِعْمَال صِيغَة الْأَمر فِي قَوْله خُذُوا عني مَنَاسِككُم وصلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي بَيَان أَن نفس الْفِعْل لَا يُوجب الِاتِّبَاع لَا محَالة فقد كَانُوا مشاهدين لذَلِك وَلَو ثَبت بِهِ وجوب الِاتِّبَاع خلا هَذَا اللَّفْظ عَن فَائِدَة وَذَلِكَ لَا يجوز اعْتِقَاده فِي كَلَام صَاحب الشَّرْع فِيمَا يرجع إِلَى إحكام الْبَيَان فصل فِي بَيَان مُوجب الْأَمر الَّذِي يذكر فِي مُقَدّمَة هَذَا الْفَصْل اعْلَم أَن صِيغَة الْأَمر تسْتَعْمل على سَبْعَة أوجه على الْإِلْزَام كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله} وَقَالَ تَعَالَى {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} وعَلى النّدب كَقَوْلِه تَعَالَى {وافعلوا الْخَيْر} وَقَوله تَعَالَى {وأحسنوا} وعَلى الْإِبَاحَة كَقَوْلِه تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا أمسكن عَلَيْكُم} وعَلى الْإِرْشَاد إِلَى مَا هُوَ الأوثق كَقَوْلِه تَعَالَى {وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم} وعَلى التقريع كَقَوْلِه تَعَالَى {فَأتوا بِسُورَة من مثله} وعَلى التوبيخ كَقَوْلِه تَعَالَى {واستفزز من اسْتَطَعْت مِنْهُم بصوتك} وعَلى السُّؤَال كَقَوْلِه تَعَالَى {رَبنَا تقبل منا} وَلَا خلاف أَن السُّؤَال والتوبيخ والتقريع لَا يتَنَاوَلهُ اسْم الْأَمر وَإِن كَانَ فِي صُورَة الْأَمر وَلَا خلاف أَن اسْم الْأَمر يتَنَاوَل مَا هُوَ للإلزام حَقِيقَة ويختلفون فِيمَا هُوَ للْإِبَاحَة أَو الْإِرْشَاد أَو النّدب فَذكر الْكَرْخِي والجصاص رحمهمَا الله أَن هَذَا لَا يُسمى أمرا حَقِيقَة وَإِن كَانَ الِاسْم يتَنَاوَلهُ مجَازًا وَاخْتلف فِيهِ أَصْحَاب الشَّافِعِي فَمنهمْ من يَقُول اسْم الْأَمر يتَنَاوَل ذَلِك كُله حَقِيقَة وَمِنْهُم من يَقُول مَا كَانَ للنَّدْب يتَنَاوَلهُ اسْم الْأَمر حَقِيقَة لِأَنَّهُ يُثَاب على فعله ونيل الثَّوَاب يكون بِالطَّاعَةِ وَالطَّاعَة فِي الائتمار بِالْأَمر وَهَذَا لَيْسَ بِقَوي فَإِن نيل الثَّوَاب بِفعل النَّوَافِل من الصَّوْم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وَالصَّلَاة لِأَنَّهُ عمل بِخِلَاف هوى النَّفس الأمارة بالسوء على قصد ابْتِغَاء مرضاة الله تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى} وَلَيْسَ من ضَرُورَة هَذَا كَون الْعَمَل مَأْمُورا بِهِ والفريق الثَّانِي يَقُولُونَ مَا يُفِيد الْإِبَاحَة وَالنَّدْب فموجبه بعض مُوجب مَا هُوَ الْإِيجَاب لِأَن بِالْإِيجَابِ هَذَا وَزِيَادَة فَيكون هَذَا قاصرا لَا مغايرا وَالْمجَاز مَا جَاوز أَصله وتعداه وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن الِاسْم فِيهِ حَقِيقَة وَهَذَا ضَعِيف أَيْضا فَإِن مُوجب الْأَمر حَقِيقَة الْإِيجَاب وَقطع التَّخْيِير لِأَن ذَلِك من ضَرُورَة الْإِيجَاب وبالإباحة وَالنَّدْب لَا يَنْقَطِع التَّخْيِير عرفنَا أَن مُوجبه غير مُوجب الْأَمر حَقِيقَة وَإِنَّمَا يتَنَاوَلهُ اسْم الْأَمر مجَازًا وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْعَرَب تسمي تَارِك الْأَمر عَاصِيا وَبِه ورد الْكتاب قَالَ الله تَعَالَى {أفعصيت أَمْرِي} وَقَالَ الْقَائِل أَمرتك أمرا جَازِمًا فعصيتني وَكَانَ من التَّوْفِيق قتل ابْن هَاشم وَقَالَ دُرَيْد بن الصمَّة أَمرتهم أَمْرِي بمنعرج اللوى فَلم يستبينوا الرشد إِلَّا ضحى الْغَد فَلَمَّا عصوني كنت فيهم وَقد أرى غوايتهم فِي أنني غير مهتدي وتارك الْمُبَاح وَالْمَنْدُوب إِلَيْهِ لَا يكون عاصبا فَعرفنَا أَن الِاسْم لَا يتَنَاوَلهُ حَقِيقَة ثمَّ حد الْحَقِيقَة فِي الْأَسَامِي مَا لَا يجوز نَفْيه عَمَّا هُوَ حَقِيقَة فِيهِ ورأينا أَن الْإِنْسَان لَو قَالَ مَا أَمرنِي الله بِصَوْم سِتَّة من شَوَّال كَانَ صَادِقا وَلَو قَالَ مَا أَمرنِي الله بِصَوْم رَمَضَان كَانَ كَاذِبًا وَلَو قَالَ مَا أَمرنِي الله بِصَلَاة الضُّحَى كَانَ صَادِقا وَلَو قَالَ مَا أَمرنِي الله بِصَلَاة الظّهْر كَانَ كَاذِبًا فَفِي تَجْوِيز نفي صِيغَة الْأَمر عَن الْمَنْدُوب دَلِيل ظَاهر على أَن الِاسْم يتَنَاوَلهُ مجَازًا لَا حَقِيقَة فَأَما الْكَلَام فِي مُوجب الْأَمر فَالْمَذْهَب عِنْد جُمْهُور الْفُقَهَاء أَن مُوجب مطلقه الْإِلْزَام إِلَّا بِدَلِيل وَزعم ابْن سُرَيج من أَصْحَاب الشَّافِعِي أَن مُوجبه الْوَقْف حَتَّى يتَبَيَّن المُرَاد بِالدَّلِيلِ وَادّعى أَن هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي فقد ذكر فِي أَحْكَام الْقُرْآن فِي قَوْله {فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء} أَنه يحْتَمل أَمريْن وَأنكر هَذَا أَكثر أَصْحَابه وَقَالُوا مُرَاده أَنه يحْتَمل أَن يكون بِخِلَاف الْإِطْلَاق وَهَكَذَا قَالَ فِي الْعُمُوم إِنَّه يحْتَمل الْخُصُوص بِأَن يرد دَلِيل يَخُصُّهُ وَإِن كَانَ الظَّاهِر عِنْده الْعُمُوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وَزَعَمُوا أَنه جزم على أَن الْأَمر للْوُجُوب فِي سَائِر كتبه وَقَالَ بعض أَصْحَاب مَالك إِن مُوجب مطلقه الْإِبَاحَة وَقَالَ بَعضهم مُوجبه النّدب أما الواقفون فَيَقُولُونَ قد صَحَّ اسْتِعْمَال هَذِه الصِّيغَة لمعان مُخْتَلفَة كَمَا بَينا فَلَا يتَعَيَّن شَيْء مِنْهَا إِلَّا بِدَلِيل لتحَقّق الْمُعَارضَة فِي الِاحْتِمَال وَهَذَا فَاسد جدا فَإِن الصَّحَابَة امتثلوا أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا سمعُوا مِنْهُ صِيغَة الْأَمر من غير أَن اشتغلوا بِطَلَب دَلِيل آخر للْعَمَل وَلَو لم يكن مُوجب هَذِه الصِّيغَة مَعْلُوما بهَا لاشتغلوا بِطَلَب دَلِيل آخر للْعَمَل وَلَا يُقَال إِنَّمَا عرفُوا ذَلِك بِمَا شاهدوا من الْأَحْوَال لَا بِصِيغَة الْأَمر لِأَن من كَانَ غَائِبا مِنْهُم عَن مَجْلِسه اشْتغل بِهِ كَمَا بلغه صِيغَة الْأَمر حسب مَا اشْتغل بِهِ من كَانَ حَاضرا ومشاهدة الْحَال لَا تُوجد فِي حق من كَانَ غَائِبا وَحين دَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ فَأخر الْمَجِيء لكَونه فِي الصَّلَاة فَقَالَ لَهُ أما سَمِعت الله يَقُول {اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ} فاستدل عَلَيْهِ بِصِيغَة الْأَمر فَقَط وَعرف النَّاس كلهم دَلِيل على مَا قُلْنَا فَإِن من أَمر من تلْزمهُ طَاعَته بِهَذِهِ الصِّيغَة فَامْتنعَ كَانَ ملاما معاتبا وَلَو كَانَ الْمَقْصُود لَا يصير مَعْلُوما بهَا للاحتمال لم يكن معاتبا ثمَّ كَمَا أَن الْعبارَات لَا تقصر عَن الْمعَانِي فَكَذَلِك كل عبارَة تكون لِمَعْنى خَاص بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَلَا يثبت الِاشْتِرَاك فِيهِ إِلَّا بِعَارِض وَصِيغَة الْأَمر أحد تصاريف الْكَلَام فَلَا بُد من أَن يكون لِمَعْنى خَاص فِي أصل الْوَضع وَلَا يثبت الِاشْتِرَاك فِيهِ إِلَّا بِعَارِض مغير لَهُ بِمَنْزِلَة دَلِيل الْخُصُوص فِي الْعَام وَمن يَقُول بِأَن مُوجب مُطلق الْأَمر الْوَقْف لَا يجد بدا من أَن يَقُول مُوجب مُطلق النَّهْي الْوَقْف أَيْضا للاحتمال فَيكون هَذَا قولا باتحاد موجبهما وَهُوَ بَاطِل وَفِي القَوْل بِأَن مُوجب الْأَمر الْوَقْف إبِْطَال حقائق الْأَشْيَاء وَلَا وَجه للمصير إِلَيْهِ وَالِاحْتِمَال الَّذِي ذَكرُوهُ نعتبره فِي أَن لَا نجعله محكما بِمُجَرَّد الصِّيغَة لَا فِي أَن لَا يثبت مُوجبه أصلا أَلا ترى أَن من يَقُول لغيره إِن شِئْت فافعل كَذَا وَإِن شِئْت فافعل كَذَا كَانَ مُوجب كَلَامه التَّخْيِير عِنْد الْعُقَلَاء وَاحْتِمَال غَيره وَهُوَ الزّجر قَائِم كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {فَمن شَاءَ فليؤمن وَمن شَاءَ فليكفر} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وَأما الَّذين قَالُوا مُوجبه الْإِبَاحَة اعتبروا الِاحْتِمَال لكِنهمْ قَالُوا من ضَرُورَة الْأَمر ثُبُوت صفة الْحسن للْمَأْمُور بِهِ فَإِن الْحَكِيم لَا يَأْمر بالقبيح فَيثبت بمطلقه مَا هُوَ من ضَرُورَة هَذِه الصِّيغَة وَهُوَ التَّمْكِين من الْإِقْدَام عَلَيْهِ وَالْإِبَاحَة وَهَذَا فَاسد أَيْضا فصفة الْحسن بِمُجَرَّدِهِ تثبت بِالْإِذْنِ وَالْإِبَاحَة وَهَذِه الصِّيغَة مَوْضُوعَة لِمَعْنى خَاص فَلَا بُد أَن تثبت بمطلقها حسنا بِصفة وَيعْتَبر الْأَمر بِالنَّهْي فَكَمَا أَن مُطلق النَّهْي يُوجب قبح الْمنْهِي عَنهُ على وَجه يجب الِانْتِهَاء عَنهُ فَكَذَلِك مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي حسن الْمَأْمُور بِهِ على وَجه يجب الائتمار وَالَّذين قَالُوا بالندب ذَهَبُوا إِلَى أَن الْأَمر لطلب الْمَأْمُور بِهِ من الْمُخَاطب وَذَلِكَ يرجح جَانب الْإِقْدَام عَلَيْهِ ضَرُورَة وَهَذَا التَّرْجِيح قد يكون بالإلزام وَقد يكون بالندب فَيثبت أقل الْأَمريْنِ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقن بِهِ حَتَّى يقوم الدَّلِيل على الزِّيَادَة وَهَذَا ضَعِيف فَإِن الْأَمر لما كَانَ لطلب الْمَأْمُور بِهِ اقْتضى مطلقه الْكَامِل من الطّلب إِذْ لَا قُصُور فِي الصِّيغَة وَلَا فِي ولَايَة الْمُتَكَلّم فَإِنَّهُ مفترض الطَّاعَة بِملك الْإِلْزَام ثمَّ إِمَّا أَن يكون الْأَمر حَقِيقَة فِي الْإِيجَاب خَاصَّة فَعِنْدَ الْإِطْلَاق يحمل على حَقِيقَة أَو يكون حَقِيقَة فِي الْإِيجَاب وَالنَّدْب جَمِيعًا فَيثبت بمطلقه الْإِيجَاب لتَضَمّنه النّدب وَالزِّيَادَة لَا يجوز أَن يُقَال هُوَ للنَّدْب حَقِيقَة وللإيجاب مجَازًا لِأَن هَذَا يُؤَدِّي إِلَى تصويب قَول من قَالَ إِن الله لم يَأْمر بِالْإِيمَان وَلَا بِالصَّلَاةِ وَبطلَان هَذَا لَا يخفى على ذِي لب وَمَا قَالُوا يبطل بِلَفْظ الْعَام فَإِنَّهُ يتَنَاوَل الثَّلَاثَة فَمَا فَوق ذَلِك ثمَّ عِنْد الْإِطْلَاق لَا يحمل على الْمُتَيَقن وَهُوَ الْأَقَل وَإِنَّمَا يحمل على الْجِنْس لتكثير الْفَائِدَة بِهِ وَكَذَا صِيغَة الْأَمر وَلَو لم يكن فِي القَوْل بِمَا قَالُوا إِلَّا ترك الْأَخْذ بِالِاحْتِيَاطِ لَكَانَ ذَلِك كَافِيا فِي وجوب الْمصير إِلَى مَا قُلْنَا فَإِن الْمَنْدُوب بِفِعْلِهِ يسْتَحق الثَّوَاب وَلَا يسْتَحق بِتَرْكِهِ الْعقَاب وَالْوَاجِب يسْتَحق بِفِعْلِهِ الثَّوَاب وَيسْتَحق بِتَرْكِهِ الْعقَاب فَالْقَوْل بِأَن مُقْتَضى مُطلق الْأَمر الْإِيجَاب وَفِيه معنى الِاحْتِيَاط من كل وَجه أولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ثمَّ الدَّلِيل على صِحَة قَوْلنَا من الْكتاب قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ لمُؤْمِن وَلَا مُؤمنَة إِذا قضى الله وَرَسُوله أمرا أَن يكون لَهُم الْخيرَة من أَمرهم} فَفِي نفي التَّخْيِير بَيَان أَن مُوجب الْأَمر الْإِلْزَام ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَمن يعْص الله وَرَسُوله} وَلَا يكون عَاصِيا بترك الِامْتِثَال إِلَّا أَن يكون مُوجبه الْإِلْزَام وَقَالَ {مَا مَنعك أَلا تسْجد إِذْ أَمرتك} أَي أَن تسْجد فقد ذمه على الِامْتِنَاع من الِامْتِثَال والذم بترك الْوَاجِب وَقَالَ تَعَالَى {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره أَن تصيبهم فتْنَة} وَخَوف الْعقُوبَة فِي ترك الْوَاجِب وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول ترك الائتمار لَا يكون خلافًا فَإِن الْمَأْمُور فِي الصَّوْم هُوَ الْإِمْسَاك وَلَا شكّ فِي أَن ترك الائتمار بِالْفطرِ من غير عذر يكون خلافًا فِيمَا هُوَ الْمَأْمُور بِهِ ثمَّ الْأَمر يطْلب الْمَأْمُور بآكد الْوُجُوه يشْهد بِهِ الْكتاب وَالْإِجْمَاع والمعقول أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى {وَمن آيَاته أَن تقوم السَّمَاء وَالْأَرْض بأَمْره} فإضافة الْوُجُود وَالْقِيَام إِلَى الْأَمر ظَاهره يدل على أَن الإيجاد يتَّصل بِالْأَمر وَكَذَلِكَ قَوْله {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} فَالْمُرَاد حَقِيقَة هَذِه الْكَلِمَة عندنَا لَا أَن يكون مجَازًا عَن التكوين كَمَا زعم بَعضهم فَإنَّا نستدل بِهِ على أَن كَلَام الله غير مُحدث وَلَا مَخْلُوق لِأَنَّهُ سَابق على المحدثات أجمع وحرف الْفَاء للتعقيب فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن هَذِه الصِّيغَة لطلب الْمَأْمُور بآكد الْوُجُوه وَالْإِجْمَاع دَلِيل عَلَيْهِ فَإِن من أَرَادَ أَن يطْلب عملا من غَيره لَا يجد لفظا مَوْضُوعا لإِظْهَار مَقْصُوده سوى قَوْله افْعَل وَبِهَذَا يثبت أَن هَذِه الصِّيغَة مَوْضُوعَة لهَذَا الْمَعْنى خَاصَّة كَمَا أَن اللَّفْظ الْمَاضِي مَوْضُوع للمضي والمستقبل للاستقبال وَكَذَلِكَ الْحَال ثمَّ سَائِر الْمعَانِي الَّتِي وضعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الْأَلْفَاظ لَهَا كَانَت لَازِمَة لمطلقها إِلَّا أَن يقوم الدَّلِيل بِخِلَافِهِ فَكَذَلِك معنى طلب الْمَأْمُور بِهَذِهِ الصِّيغَة وَلِأَن قَوْلنَا أَمر فعل مُتَعَدٍّ لَازمه ائتمر والمتعدي لَا يتَحَقَّق بِدُونِ اللَّازِم فَهَذَا يَقْتَضِي أَن لَا يكون أمرا بِدُونِ الائتمار كَمَا لَا يكون كسرا بِدُونِ الانكسار وَحَقِيقَة الائتمار بِوُجُود الْمَأْمُور بِهِ إِلَّا أَن الْوُجُود لَو اتَّصل بِالْأَمر وَلَا صنع للمخاطب فِيهِ سقط التَّكْلِيف وَهَذَا لَا وَجه لَهُ لِأَن فِي الائتمار للمخاطب ضرب اخْتِيَار بِقدر مَا يَنْتَفِي بِهِ الْجَبْر وَيسْتَحق الثَّوَاب بالإقدام على الائتمار وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق إِذا اتَّصل الْوُجُود بِصِيغَة الْأَمر فَلم تثبت حَقِيقَة الْوُجُود بِهَذِهِ الصِّيغَة تَحَرُّزًا عَن القَوْل بالجبر فأثبتنا بِهِ آكِد مَا يكون من وُجُوه الطّلب وَهُوَ الْإِلْزَام أَلا ترى أَن بِمُطلق النَّهْي يثبت آكِد مَا يكون من طلب الإعدام وَهُوَ وجوب الِانْتِهَاء وَلَا يثبت الانعدام بِمُطلق النَّهْي وَكَذَلِكَ بِالْأَمر لِأَن إِحْدَى الصيغتين لطلب الإيجاد وَالْأُخْرَى لطلب الإعدام وَمن فروع هَذَا الْفَصْل الْأَمر بعد الْحَظْر فَالصَّحِيح عندنَا أَن مطلقه للْإِيجَاب أَيْضا لما قَررنَا أَن الْإِلْزَام مُقْتَضى هَذِه الصِّيغَة عِنْد الْإِمْكَان إِلَّا أَن يقوم دَلِيل مَانع وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي يَقُولُونَ مُقْتَضَاهُ الْإِبَاحَة لِأَنَّهُ لإِزَالَة الْحَظْر وَمن ضَرُورَته الْإِبَاحَة فَقَط فَكَأَن الْآمِر قَالَ كنت منعتك عَن هَذَا فَرفعت ذَلِك الْمَنْع وأذنت لَك فِيهِ فاستدلوا على هَذَا بقوله تَعَالَى {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض وابتغوا من فضل الله} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذا حللتم فاصطادوا} وَلَكنَّا نقُول إِبَاحَة الِاصْطِيَاد للْحَلَال بقوله {أحل لكم الطَّيِّبَات} الْآيَة لَا بِصِيغَة الْأَمر مَقْصُودا بِهِ وَكَذَلِكَ إِبَاحَة البيع بعد الْفَرَاغ من الْجُمُعَة بقوله {وَأحل الله البيع} لَا بِصِيغَة الْأَمر ثمَّ صِيغَة الْأَمر لَيست لإِزَالَة الْحَظْر وَلَا لرفع الْمَنْع بل لطلب الْمَأْمُور بِهِ وارتفاع الْحَظْر وَزَوَال الْمَنْع من ضَرُورَة هَذَا الطّلب فَإِنَّمَا يعْمل مُطلق اللَّفْظ فِيمَا يكون مَوْضُوعا لَهُ حَقِيقَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فصل فِي بَيَان مُقْتَضى مُطلق الْأَمر فِي حكم التّكْرَار الصَّحِيح من مَذْهَب عُلَمَائِنَا أَن صِيغَة الْأَمر لَا توجب التّكْرَار وَلَا تحتمله وَلَكِن الْأَمر بِالْفِعْلِ يَقْتَضِي أدنى مَا يكون من جنسه على احْتِمَال الْكل وَلَا يكون مُوجبا للْكُلّ إِلَّا بِدَلِيل وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا هَذَا إِذا لم يكن مُعَلّقا بِشَرْط وَلَا مُقَيّدا بِوَصْف فَإِن كَانَ فمقتضاه التّكْرَار بِتَكَرُّر مَا قيد بِهِ وَقَالَ الشَّافِعِي مطلقه لَا يُوجب التّكْرَار وَلَكِن يحْتَملهُ وَالْعدَد أَيْضا إِذا اقْترن بِهِ دَلِيل وَقَالَ بَعضهم مطلقه يُوجب التّكْرَار إِلَّا أَن يقوم دَلِيل يمْنَع مِنْهُ ويحكى هَذَا عَن الْمُزنِيّ وَاحْتج صَاحب هَذَا الْمَذْهَب بِحَدِيث أَقرع بن حَابِس رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْحَج أَفِي كل عَام أم مرّة فَقَالَ بل مرّة وَلَو قلت فِي كل عَام لَوَجَبَتْ وَلَو وَجَبت مَا قُمْتُم بهَا فَلَو لم تكن صِيغَة الْأَمر فِي قَوْله حجُّوا مُحْتملا التّكْرَار أَو مُوجبا لَهُ لما أشكل عَلَيْهِ ذَلِك فقد كَانَ من أهل اللِّسَان ولكان يُنكر عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُؤَاله عَمَّا لَيْسَ من محتملات اللَّفْظ فحين اشْتغل بِبَيَان معنى دفع الْحَرج فِي الِاكْتِفَاء بِمرَّة وَاحِدَة عرفنَا أَن مُوجب هَذِه الصِّيغَة التّكْرَار ثمَّ الْمرة من التّكْرَار بِمَنْزِلَة الْخَاص من الْعَام وَمُوجب الْعَام الْعُمُوم حَتَّى يقوم دَلِيل الْخُصُوص وَبَيَان هَذَا أَن قَول الْقَائِل افْعَل طلب الْفِعْل بِمَا هُوَ مُخْتَصر من الْمصدر الَّذِي هُوَ نِسْبَة الِاسْم وَهُوَ الْفِعْل وَحكم الْمُخْتَصر مَا هُوَ حكم المطول وَالِاسْم يُوجب إِطْلَاقه الْعُمُوم حَتَّى يقوم دَلِيل الْخُصُوص فَكَذَلِك الْفِعْل لِأَن للْفِعْل كلا وبعضا كَمَا للْمَفْعُول فمطلقه يُوجب الْكل ويحتمله ثمَّ الْكل لَا يتَحَقَّق إِلَّا بالتكرار واعتبروا الْأَمر بِالنَّهْي فَكَمَا أَن النَّهْي يُوجب إعدام الْمنْهِي عَنهُ عَاما فَكَذَلِك الْأَمر يُوجب إيجاده تَمامًا حَتَّى يقوم دَلِيل الْخُصُوص وَذَلِكَ يُوجب التّكْرَار لَا محَالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وَأما الشَّافِعِي رَحمَه الله فاحتج بِنَحْوِ هَذَا أَيْضا وَلَكِن على وَجه يتَبَيَّن بِهِ الْفرق بَين الْأَمر وَالنَّهْي وَيثبت بِهِ الِاحْتِمَال دون الْإِيجَاب وَذَلِكَ أَن قَوْله افْعَل يَقْتَضِي مصدرا على سَبِيل التنكير أَي افْعَل فعلا بَيَانه فِي قَوْله طلق أَي طلق طَلَاقا وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ على سَبِيل التنكير لِأَن ثُبُوته بطرِيق الِاقْتِضَاء للْحَاجة إِلَى تَصْحِيح الْكَلَام وبالمنكر يحصل هَذَا الْمَقْصُود فَيكون الثَّابِت بِمُقْتَضى هَذِه الصِّيغَة مَا هُوَ نكرَة فِي الْإِثْبَات والنكرة فِي الْإِثْبَات تخص كَقَوْلِه تَعَالَى {فَتَحْرِير رَقَبَة} وَلَكِن احْتِمَال التّكْرَار وَالْعدَد فِيهِ لَا يشكل لِأَن ذَلِك الْمُنكر مُتَعَدد فِي نَفسه أَلا ترى أَنه يَسْتَقِيم أَن يقرن بِهِ على وَجه التَّفْسِير وَتقول طَلقهَا اثْنَتَيْنِ أَو مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا وَيكون ذَلِك نصبا على التَّفْسِير وَلَو لم يكن اللَّفْظ مُحْتملا لَهُ لم يستقم تَفْسِيره بِهِ بِخِلَاف النَّهْي فصيغة النَّهْي عَن الْفِعْل تَقْتَضِي أَيْضا مصدرا على سَبِيل التنكير أَي لَا تفعل فعلا وَلَكِن النكرَة فِي النَّفْي تعم قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفورا} وَمن قَالَ لغيره لَا تَتَصَدَّق من مَالِي يتَنَاوَل النَّهْي كل دِرْهَم من مَاله بِخِلَاف قَوْله تصدق من مَالِي فَإِنَّهُ لَا يتَنَاوَل الْأَمر إِلَّا الْأَقَل على احْتِمَال أَن يكون مُرَاده كل مَاله وَلِهَذَا قَالَ إِن مُطلق الصِّيغَة لَا توجب التّكْرَار لِأَن ثُبُوت الْمصدر فِيهِ بطرِيق الِاقْتِضَاء وَلَا عُمُوم للمقتضى يُوضحهُ أَن هَذِه الصِّيغَة أحد أَقسَام الْكَلَام فَتعْتَبر بِسَائِر الْأَقْسَام وَقَول الْقَائِل دخل فلَان الدَّار إِخْبَار عَن دُخُوله على احْتِمَال أَن يكون دخل مرّة أَو مرَّتَيْنِ أَو مرَارًا فَكَذَلِك قَوْله ادخل يكون طلب الدُّخُول مِنْهُ على احْتِمَال أَن يكون المُرَاد مرّة أَو مرَارًا ثمَّ الْمُوجب مَا هُوَ الْمُتَيَقن بِهِ دون الْمُحْتَمل وَأما الَّذين قَالُوا فِي الْمُعَلق بِالشّرطِ أَو الْمُقَيد بِالْوَصْفِ إِنَّه يتَكَرَّر بِتَكَرُّر الشَّرْط وَالْوَصْف استدلوا بالعبادات الَّتِي أَمر الشَّرْع بهَا مُقَيّدا بِوَقْت أَو حَال وبالعقوبات الَّتِي أَمر الشَّرْع بإقامتها مُقَيّدا بِوَصْف أَن ذَلِك يتَكَرَّر بِتَكَرُّر مَا قيد بِهِ قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالصَّحِيح عِنْدِي أَن هَذَا لَيْسَ بِمذهب عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله فَإِن من قَالَ لامْرَأَته إِذا دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق لم تطلق بِهَذَا اللَّفْظ إِلَّا مرّة وَإِن تكَرر مِنْهَا الدُّخُول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وَلم تطلق إِلَّا وَاحِدَة وَإِن نوى أَكثر من ذَلِك وَهَذَا لِأَن الْمُعَلق بِالشّرطِ عِنْد وجود الشَّرْط كالمنجز وَهَذِه الصِّيغَة لَا تحْتَمل الْعدَد والتكرار عِنْد التَّنْجِيز فَكَذَلِك عِنْد التَّعْلِيق بِالشّرطِ إِذا وجد الشَّرْط وَإِنَّمَا يحْكى هَذَا الْكَلَام عَن الشَّافِعِي رَحمَه الله فَإِنَّهُ أوجب التَّيَمُّم لكل صَلَاة وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} إِلَى قَوْله {فَتَيَمَّمُوا} وَقَالَ ظَاهر هَذَا الشَّرْط يُوجب الطَّهَارَة عِنْد الْقيام إِلَى كل صَلَاة غير أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما صلى صلوَات بِوضُوء وَاحِد ترك هَذَا فِي الطَّهَارَة بِالْمَاءِ لقِيَام الدَّلِيل فَبَقيَ حكم التَّيَمُّم على مَا اقْتَضَاهُ أصل الْكَلَام وَهَذَا سَهْو فَالْمُرَاد بقوله {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} أَي وَأَنْتُم محدثون عَلَيْهِ اتّفق أهل التَّفْسِير وَبِاعْتِبَار إِضْمَار هَذَا السَّبَب يَسْتَوِي حكم الطَّهَارَة بِالْمَاءِ وَالتَّيَمُّم وَهَذَا هُوَ الْجَواب عَمَّا يستدلون بِهِ من الْعِبَادَات والعقوبات فَإِن تكررها لَيْسَ بِصِيغَة مُطلق الْأَمر وَلَا بِتَكَرُّر الشَّرْط بل بتجدد السَّبَب الَّذِي جعله الشَّرْع سَببا مُوجبا لَهُ فَفِي قَوْله تَعَالَى {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} أَمر بِالْأَدَاءِ وَبَيَان للسبب الْمُوجب وَهُوَ دلوك الشَّمْس فقد جعل الشَّرْع ذَلِك الْوَقْت سَببا مُوجبا للصَّلَاة إِظْهَارًا لفضيلة ذَلِك الْوَقْت بِمَنْزِلَة قَول الْقَائِل أد الثّمن للشراء وَالنَّفقَة للنِّكَاح يفهم مِنْهُ الْأَمر بِالْأَدَاءِ وَالْإِشَارَة إِلَى السَّبَب الْمُوجب لما طُولِبَ بِأَدَائِهِ وَلما أشكل على الْأَقْرَع بن حَابِس رَضِي الله عَنهُ حكم الْحَج حَتَّى سَأَلَ فقد كَانَ من الْمُحْتَمل أَن يكون وَقت الْحَج هُوَ السَّبَب الْمُوجب لَهُ بِجعْل الشَّرْع إِيَّاه لذَلِك بِمَنْزِلَة الصَّوْم وَالصَّلَاة وَمن الْمُحْتَمل أَن يكون السَّبَب مَا هُوَ غير متكرر وَهُوَ الْبَيْت وَالْوَقْت شَرط الْأَدَاء وَالنَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام بَين لَهُ بقوله بل مرّة أَن السَّبَب هُوَ الْبَيْت وَفِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام وَلَو قلت فِي كل عَام لَوَجَبَتْ دَلِيل على أَن مُطلق الْأَمر لَا يُوجب التّكْرَار لِأَنَّهُ لَو كَانَ مُوجبا لَهُ كَانَ الْوُجُوب فِي كل عَام بِصِيغَة الْأَمر لَا بِهَذَا القَوْل مِنْهُ وَقد نَص على أَنَّهَا كَانَت تجب بقوله لَو قلت فِي كل عَام ثمَّ الْحجَّة لنا فِي أَن هَذِه الصِّيغَة لَا توجب التّكْرَار وَلَا تحتمله أَن قَوْله افْعَل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 لطلب فعل مَعْلُوم بحركات تُوجد مِنْهُ وتنقضي وَتلك الحركات لَا تبقى وَلَا يتَصَوَّر عودهَا إِنَّمَا المتصور تجدّد مثلهَا وَلِهَذَا يُسمى تَكْرَارا مجَازًا من غير أَن يشكل على أحد أَن الثَّانِي غير الأول وَبِهَذَا تبين أَنه لَيْسَ فِي هَذِه الصِّيغَة احْتِمَال الْعدَد وَلَا احْتِمَال التّكْرَار أَلا ترى أَن من يَقُول لغيره اشْتَرِ لي عبدا لَا يتَنَاوَل هَذَا أَكثر من عبد وَاحِد وَلَا يحْتَمل الشِّرَاء مرّة بعد مرّة أَيْضا وَكَذَلِكَ قَوْله زَوجنِي امْرَأَة لَا يحْتَمل إِلَّا امْرَأَة وَاحِدَة وَلَا يحْتَمل تزويجا بعد تَزْوِيج إِلَّا أَن مَا بِهِ يتم فعله عِنْد الحركات الَّتِي تُوجد مِنْهُ لَهُ كل وَبَعض فَيثبت بالصيغة الْيَقِين الَّذِي هُوَ الْأَقَل للتيقن بِهِ وَيحْتَمل الْكل حَتَّى إِذا نَوَاه عملت نِيَّته فِيهِ وَلَيْسَ فِيهِ احْتِمَال الْعدَد أصلا فَلَا تعْمل نِيَّته فِي الْعدَد وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لامْرَأَته طَلِّقِي نَفسك أَو لأَجْنَبِيّ طَلقهَا إِنَّه يتَنَاوَل الْوَاحِد إِلَّا أَن يَنْوِي الثَّلَاث فتعمل نِيَّته لِأَن ذَلِك كل فِيمَا يتم بِهِ فعل الطَّلَاق وَلَو نوى اثْنَتَيْنِ لم تعْمل نِيَّته لِأَنَّهُ مُجَرّد نِيَّة الْعدَد إِلَّا أَن تكون الْمَرْأَة أمة فَتكون نِيَّته الثِّنْتَيْنِ فِي حَقّهَا نِيَّة كل الطَّلَاق وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لعَبْدِهِ تزوج يتَنَاوَل امْرَأَة وَاحِدَة إِلَّا أَن يَنْوِي اثْنَتَيْنِ فتعمل نِيَّته لِأَنَّهُ كل النِّكَاح فِي حق العَبْد لَا لِأَنَّهُ نوى الْعدَد وَلَا معنى لما قَالُوا إِن صِحَة اقتران الْعدَد والمرات بِهَذِهِ الصِّيغَة على سَبِيل التَّفْسِير لَهَا دَلِيل على أَن الصِّيغَة تحْتَمل ذَلِك لِأَن هَذَا الْقرَان عمله فِي تَغْيِير مُقْتَضى الصِّيغَة لَا فِي التَّفْسِير لما هُوَ من محتملات تِلْكَ الصِّيغَة بِمَنْزِلَة اقتران الشَّرْط وَالْبدل بِهَذِهِ الصِّيغَة أَلا ترى أَن قَول الْقَائِل لامْرَأَته أَنْت طَالِق ثَلَاثًا لَا يحْتَمل وُقُوع الثِّنْتَيْنِ بِهِ مَعَ قيام الثَّلَاث فِي ملكه وَلَا التَّأْخِير إِلَى مُدَّة وَلَو قرن بِهِ إِلَّا وَاحِدَة إِلَى شهر أَو اثْنَتَيْنِ كَانَ صَحِيحا وَكَانَ عَاملا فِي تَغْيِير مُقْتَضى الصِّيغَة لَا أَن يكون مُفَسرًا لَهَا وَلِهَذَا قُلْنَا إِذا قرن بالصيغة ذكر الْعدَد فِي الْإِيقَاع يكون الْوُقُوع بِلَفْظ الْعدَد لَا بِأَصْل الصِّيغَة حَتَّى لَو قَالَ لامْرَأَته طَلقتك ثَلَاثًا أَو قَالَ وَاحِدَة فَمَاتَتْ الْمَرْأَة قبل ذكر الْعدَد لم يَقع شَيْء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 فَبِهَذَا تبين أَن عمل هَذَا الْقرَان فِي التَّغْيِير وَالتَّفْسِير يكون مقررا للْحكم الْمُفَسّر لَا مغيرا يُحَقّق مَا ذَكرْنَاهُ أَن قَول الْقَائِل اضْرِب أَي اكْتسب ضربا وَقَوله طلق أَي أوقع طَلَاقا وَهَذِه صِيغَة فَرد فَلَا تحْتَمل الْجمع وَلَا توجبه وَفِي التّكْرَار وَالْعدَد جمع لَا محَالة والمغايرة بَين الْجمع والفرد على سَبِيل المضادة فَكَمَا أَن صِيغَة الْجمع لَا تحْتَمل الْفَرد حَقِيقَة فَكَذَا صِيغَة الْفَرد لَا تحْتَمل الْجمع حَقِيقَة بِمَنْزِلَة الِاسْم الْفَرد نَحْو قَوْلنَا زيد لَا يحْتَمل الْجمع وَالْعدَد فالبعض مِمَّا تتناوله هَذِه الصِّيغَة فَرد صُورَة وَمعنى وكل فَرد من حَيْثُ الْجِنْس معنى فَإنَّك إِذا قابلت هَذَا الْجِنْس بِسَائِر الْأَجْنَاس كَانَ جِنْسا وَاحِدًا وَهُوَ جمع صُورَة فَعِنْدَ عدم النِّيَّة لَا يتَنَاوَل إِلَّا الْفَرد صُورَة وَمعنى وَلَكِن فِيهِ احْتِمَال الْكل لكَون ذَلِك فَردا معنى بِمَنْزِلَة الْإِنْسَان فَإِنَّهُ فَرد لَهُ أَجزَاء وأبعاض وَالطَّلَاق أَيْضا فَرد جِنْسا وَله أَجزَاء وأبعاض فتعمل نِيَّة الْكل فِي الْإِيقَاع وَلَا تعْمل نِيَّة الثِّنْتَيْنِ أصلا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ معنى الفردية صُورَة وَلَا معنى فَلم يكن من محتملات الْكَلَام أصلا وعَلى هَذَا الأَصْل تخرج أَسمَاء الْأَجْنَاس مَا يكون مِنْهَا فَردا صُورَة أَو حكما أما الصُّورَة فكالماء وَالطَّعَام إِذا حلف لَا يشرب مَاء أَو لَا يَأْكُل طَعَاما يَحْنَث بِأَدْنَى مَا يتَنَاوَلهُ الِاسْم على احْتِمَال الْكل حَتَّى إِذا نوى ذَلِك لم يَحْنَث أصلا وَلَو نوى مِقْدَارًا من ذَلِك لم تعْمل نِيَّته لخلو الْمَنوِي عَن صِيغَة الفردية صُورَة وَمعنى والفرد حكما كاسم النِّسَاء إِذا حلف لَا يتَزَوَّج النِّسَاء فَهَذِهِ صِيغَة الْجمع وَلَكِن جعلت عبارَة عَن الْجِنْس مجَازًا لأَنا لَو جعلناها جمعا لم يبْق لحرف اللَّام الَّذِي هُوَ للمعهود فِيهِ فَائِدَة وَلَو جَعَلْنَاهُ جِنْسا كَانَ حرف الْعَهْد فِيهِ مُعْتَبرا فَإِنَّهُ يتَنَاوَل الْمَعْهُود من ذَلِك الْجِنْس وَيبقى معنى الْجمع مُعْتَبرا فِيهِ أَيْضا بِاعْتِبَار الْجِنْس فَيتَنَاوَل أدنى مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْجِنْس على احْتِمَال الْكل حَتَّى إِذا نَوَاه لم يَحْنَث قطّ وعَلى هَذَا لَو حلف لَا يَشْتَرِي العبيد أَو لَا يكلم بني آدم أَو وكل وَكيلا بِأَن يَشْتَرِي لَهُ الثِّيَاب فَإِن التَّوْكِيل صَحِيح بِخِلَاف مَا لَو وَكله بِأَن يَشْتَرِي لَهُ أثوابا على مَا بَيناهُ فِي الزِّيَادَات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وَحكي عَن عِيسَى بن أبان رَحمَه الله أَنه كَانَ يَقُول صِيغَة مُطلق الْأَمر فِيمَا لَهُ نِهَايَة مَعْلُومَة تحْتَمل التّكْرَار وَإِن كَانَ لَا يُوَجه إِلَّا بِالدَّلِيلِ وَفِيمَا لَيست لَهُ نِهَايَة مَعْلُومَة لَا تحْتَمل التّكْرَار لِأَن فِيمَا لَا نِهَايَة لَهُ يعلم يَقِينا أَن الْمُخَاطب لم يرد الْكل فَإِن ذَلِك لَيْسَ فِي وسع الْمُخَاطب وَلَا طَرِيق لَهُ إِلَى مَعْرفَته وَهَذَا نَحْو قَوْله صم وصل فَلَيْسَ لهَذَا الْجِنْس من الْفِعْل نِهَايَة مَعْلُومَة وَإِنَّمَا يعجز العَبْد عَن إِقَامَته بِمَوْتِهِ فَعرفنَا يَقِينا أَن المُرَاد بِهَذَا الْخطاب الْفَرد مِنْهُ خَاصَّة وَأما فِيمَا لَهُ نِهَايَة مَعْلُومَة كَالطَّلَاقِ وَالْعدة فَالْكل من محتملات الْخطاب وَذَلِكَ تَارَة يكون بتكرار التَّطْلِيق وَتارَة يكون بِالْجمعِ بَين التطليقات فِي اللَّفْظ فَيكون صِيغَة الْكَلَام مُحْتملا لَهُ كُله وَخرج على هَذَا الأَصْل قَول الرجل لامْرَأَته أَنْت طَالِق للسّنة أَو للعدة فَإِنَّهُ يحْتَمل نِيَّة الثَّلَاث فِي الْإِيقَاع جملَة وَاحِدَة وَنِيَّة التّكْرَار فِي أَن يَنْوِي وُقُوع كل تَطْلِيقَة فِي طهر على حِدة وَفِيمَا قَرَّرْنَاهُ من الْكَلَام دَلِيل على ضعف مَا ذهب إِلَيْهِ إِذا تَأَمَّلت وَالْكَلَام فِي مُقْتَضى صِيغَة الْفَرد دون مَا إِذا قرن بِهِ مَا يدل على التَّغْيِير من قَوْله للسّنة أَو للعدة وَاسْتدلَّ الْجَصَّاص رَحمَه الله على بطلَان قَول من يَقُول إِن مُطلق صِيغَة الْأَمر تَقْتَضِي التّكْرَار فَقَالَ بالامتثال مرّة وَاحِدَة يستجيز كل أحد أَن يَقُول إِنَّه أَتَى بالمأمور بِهِ وَخرج عَن مُوجب الْأَمر وَكَانَ مصيبا فِي ذَلِك فَلَو كَانَ مُوجبه التّكْرَار لَكَانَ آتِيَا بِبَعْض الْمَأْمُور بِهِ وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول فَإِذا أَتَى بِهِ ثَانِيًا وثالثا يُقَال أَيْضا فِي الْعَادة أَتَى بالمأمور بِهِ لِأَن قَائِل هَذَا لَا يكون مصيبا فِي ذَلِك فِي الْحَقِيقَة فَإِن الْمُخَاطب فِي الْمرة الثَّانِيَة مُتَطَوّع من عِنْده بِمثل مَا كَانَ مَأْمُورا بِهِ لَا أَن يكون آتِيَا بالمأمور بِهِ بِمَنْزِلَة الْمُصَلِّي أَربع رَكْعَات فِي الْوَقْت بعد صَلَاة الظّهْر يكون مُتَطَوعا بِمثل مَا كَانَ مَأْمُورا بِهِ إِلَّا أَن الَّذِي يُسَمِّيه آتِيَا بالمأمور بِهِ إِنَّمَا يُسَمِّيه بذلك توسعا ومجازا فَلهَذَا لَا نُسَمِّيه كَاذِبًا وَالله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 فصل فِي بَيَان مُوجب الْأَمر فِي حكم الْوَقْت الْأَمر نَوْعَانِ مُطلق عَن الْوَقْت ومقيد بِهِ فنبدأ بِبَيَان الْمُطلق قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالَّذِي يَصح عِنْدِي فِيهِ من مَذْهَب عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله أَنه على التَّرَاخِي فَلَا يثبت حكم وجوب الْأَدَاء على الْفَوْر بِمُطلق الْأَمر نَص عَلَيْهِ فِي الْجَامِع فَقَالَ فِيمَن نذر أَن يعْتَكف شهرا يعْتَكف أَي شهر شَاءَ وَكَذَلِكَ لَو نذر أَن يَصُوم شهرا وَالْوَفَاء بِالنذرِ وَاجِب بِمُطلق الْأَمر وَفِي كتاب الصَّوْم أَشَارَ فِي قَضَاء رَمَضَان إِلَى أَنه يقْضِي مَتى شَاءَ وَفِي الزَّكَاة وَصدقَة الْفطر وَالْعشر الْمَذْهَب مَعْلُوم فِي أَنه لَا يصير مفرطا بِتَأْخِير الْأَدَاء وَأَن لَهُ أَن يبْعَث بهَا إِلَى فُقَرَاء قرَابَته فِي بَلْدَة أُخْرَى وَكَانَ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي رَحمَه الله يَقُول مُطلق الْأَمر يُوجب الْأَدَاء على الْفَوْر وَهُوَ الظَّاهِر من مَذْهَب الشَّافِعِي رَحمَه الله فقد ذكر فِي كِتَابه إِنَّا استدللنا بِتَأْخِير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَج مَعَ الْإِمْكَان على أَن وقته موسع وَهَذَا مِنْهُ إِشَارَة إِلَى أَن مُوجب مُطلق الْأَمر على الْفَوْر حَتَّى يقوم الدَّلِيل وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي يَقُول هُوَ مَوْقُوف على الْبَيَان لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الصِّيغَة مَا ينبىء عَن الْوَقْت فَيكون مُجملا فِي حَقه وَهَذَا فَاسد جدا فَإِنَّهُم يوافقونا على ثُبُوت أصل الْوَاجِب بِمُطلق الْأَمر وَذَلِكَ يُوجب الْأَدَاء عِنْد الْإِمْكَان وَلَا إِمْكَان إِلَّا بِوَقْت فَثَبت بِدَلِيل الْإِشَارَة إِلَى الْوَقْت بِهَذَا الطَّرِيق ثمَّ بِهَذَا الْكَلَام يسْتَدلّ الْكَرْخِي فَيَقُول وَقت الْأَدَاء ثَابت بِمُقْتَضى الْحَال وَمُقْتَضى الْحَال دون مُقْتَضى اللَّفْظ وَلَا عُمُوم لمقْتَضى اللَّفْظ فَكَذَلِك لَا عُمُوم لما ثَبت بِمُقْتَضى الْحَال وَأول أَوْقَات إِمْكَان الْأَدَاء مُرَاد بالِاتِّفَاقِ حَتَّى لَو أدّى فِيهِ كَانَ ممتثلا لِلْأَمْرِ فَلَا يثبت مَا بعده مرَادا إِلَّا بِدَلِيل يُوضحهُ أَن التَّخْيِير يَنْتَفِي بِمُطلق الْأَمر بَين الْأَدَاء وَالتّرْك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 فَيثبت هَذَا الحكم وَهُوَ انْتِفَاء التَّخْيِير فِي أول أَوْقَات إِمْكَان الْأَدَاء كَمَا ثَبت حكم الْوُجُوب والتفويت حرَام بالِاتِّفَاقِ وَفِي هَذَا التَّأْخِير تَفْوِيت لِأَنَّهُ لَا يدْرِي أيقدر على الْأَدَاء فِي الْوَقْت الثَّانِي أَو لَا يقدر وبالاحتمال الثَّانِي لَا يثبت التَّمَكُّن من الْأَدَاء على وَجه يكون مُعَارضا للمتيقن بِهِ فَيكون تَأْخِيره عَن أول أَوْقَات الْإِمْكَان تفويتا وَلِهَذَا اسْتحْسنَ ذمه على ذَلِك إِذا عجز عَن الْأَدَاء وَلِأَن الْأَمر بِالْأَدَاءِ يفيدنا الْعلم بِالْمَصْلَحَةِ فِي الْأَدَاء وَتلك الْمصلحَة تخْتَلف باخْتلَاف الْأَوْقَات وَلِهَذَا جَازَ النّسخ فِي الْأَمر وَالنَّهْي وبمطلق الْأَمر يثبت الْعلم بِالْمَصْلَحَةِ فِي الْأَدَاء فِي أول أَوْقَات الْإِمْكَان وَلَا يثبت الْمُتَيَقن بِهِ فِيمَا بعده ثمَّ الْمُتَعَلّق بِالْأَمر اعْتِقَاد الْوُجُوب وَأَدَاء الْوَاجِب وَأَحَدهمَا وَهُوَ الِاعْتِقَاد يثبت بِمُطلق الْأَمر للْحَال فَكَذَلِك الثَّانِي وَاعْتبر الْأَمر بِالنَّهْي والانتهاء الْوَاجِب بِالنَّهْي يثبت على الْفَوْر فَكَذَلِك الائتمار الْوَاجِب بِالْأَمر وَحجَّتنَا فِي ذَلِك أَن قَول الْقَائِل لعَبْدِهِ افْعَل كَذَا السَّاعَة يُوجب الائتمار على الْفَوْر وَهَذَا أَمر مُقَيّد وَقَوله افْعَل مُطلق وَبَين الْمُطلق والمقيد مُغَايرَة على سَبِيل الْمُنَافَاة فَلَا يجوز أَن يكون حكم الْمُطلق مَا هُوَ حكم الْمُقَيد فِيمَا يثبت التَّقْيِيد بِهِ لِأَن فِي ذَلِك إِلْغَاء صفة الْإِطْلَاق وَإِثْبَات التَّقْيِيد من غير دَلِيل فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الصِّيغَة مَا يدل على التَّقْيِيد فِي وَقت الْأَدَاء فإثباته يكون زِيَادَة وَهُوَ نَظِير تَقْيِيد الْمحل فَإِن من قَالَ لعَبْدِهِ تصدق بِهَذَا الدِّرْهَم على أول فَقير يدْخل يلْزمه أَن يتَصَدَّق على أول من يدْخل إِذا كَانَ فَقِيرا وَلَو قَالَ تصدق بِهَذَا الدِّرْهَم لم يلْزمه أَن يتَصَدَّق بِهِ على أول فَقير يدْخل وَكَانَ لَهُ أَن يتَصَدَّق بِهِ على أَي فَقير شَاءَ لِأَن الْأَمر مُطلق فتعيين الْمحل فِيهِ يكون زِيَادَة وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه يتَحَقَّق الِامْتِثَال بِالْأَدَاءِ فِي أَي جُزْء عينه من أَوْقَات الْإِمْكَان فِي عمره وَلَو تعين للْأَدَاء الْجُزْء الأول لم يكن ممتثلا بِالْأَدَاءِ بعده وَفِي اتِّفَاق الْكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 على أَنه مؤدي الْوَاجِب مَتى أَدَّاهُ إِيضَاح لما قُلْنَا وَبِهَذَا تبين فَسَاد مَا قَالَ إِن الْمصلحَة فِي الْأَدَاء غير مَعْلُوم إِلَّا فِي أول أَوْقَات الْإِمْكَان فَإِن الْمُطَالبَة بِالْأَدَاءِ وامتثال الْأَمر لَا يحصل إِلَّا بِهِ أَلا ترى أَن بعد الانتساخ لَا يبْقى ذَلِك فَعرفنَا أَن بِمُطلق الْأَمر يصير معنى الْمصلحَة فِي الْأَدَاء مَعْلُوما لَهُ فِي أَي جُزْء أَدَّاهُ من عمره مَا لم يظْهر ناسخه والتفويت حرَام كَمَا قَالَ إِلَّا أَن الْفَوات لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِمَوْتِهِ وَلَيْسَ فِي مُجَرّد التَّأْخِير تَفْوِيت لِأَنَّهُ مُتَمَكن من الْأَدَاء فِي كل جُزْء يُدْرِكهُ من الْوَقْت بعد الْجُزْء الأول حسب تمكنه فِي الْجُزْء الأول وَمَوْت الْفجأَة نَادِر وَبِنَاء الْأَحْكَام على الظَّاهِر دون النَّادِر فَإِن قيل فوقت الْمَوْت غير مَعْلُوم لَهُ وبالإجماع بعد التَّمَكُّن من الْأَدَاء إِذا لم يؤد حَتَّى مَاتَ يكون مفرطا مفوتا آثِما فِيمَا صنع فبه يتَبَيَّن أَنه لَا يَسعهُ التَّأْخِير قُلْنَا الْوُجُوب ثَابت بعد الْأَمر وَالتَّأْخِير فِي الْأَدَاء مُبَاح لَهُ بِشَرْط أَن لَا يكون تفويتا وَتَقْيِيد الْمُبَاح بِشَرْط فِيهِ خطر مُسْتَقِيم فِي الشَّرْع كالرمي إِلَى الصَّيْد مُبَاح بِشَرْط أَن لَا يُصِيب آدَمِيًّا وَهَذَا لِأَنَّهُ مُتَمَكن من ترك هَذَا التَّرَخُّص بِالتَّأْخِيرِ وَلَا يُنكر كَونه مَنْدُوبًا للمسارعة إِلَى الْأَدَاء قَالَ الله تَعَالَى {فاستبقوا الْخيرَات} فَقُلْنَا بِأَنَّهُ يتَمَكَّن من الْبناء على الظَّاهِر من التَّأْخِير مَا دَامَ يَرْجُو أَن يبْقى حَيا عَادَة وَإِن مَاتَ كَانَ مفرطا لتمكنه من ترك التَّرَخُّص بِالتَّأْخِيرِ ثمَّ هَذَا الحكم إِنَّمَا يثبت فِيمَا لَا يكون مُسْتَغْرقا لجَمِيع الْعُمر فَأَما مَا يكون مُسْتَغْرقا لَهُ فَلَا يتَحَقَّق فِيهِ هَذَا الْمَعْنى واعتقاد الْوُجُوب مُسْتَغْرق جَمِيع الْعُمر وَكَذَلِكَ الِانْتِهَاء الَّذِي هُوَ مُوجب النَّهْي يسْتَغْرق جَمِيع الْعُمر فَأَما أَدَاء الْوَاجِب فَلَا يسْتَغْرق جَمِيع الْعُمر فَلَا يتَعَيَّن للْأَدَاء جُزْء من الْعُمر إِلَّا بِدَلِيل فَإِن جَمِيع الْعُمر فِي أَدَاء هَذَا الْوَاجِب كجميع وَقت الصَّلَاة لأَدَاء الصَّلَاة وَهُنَاكَ لَا يتَعَيَّن الْجُزْء الأول من الْوَقْت للْأَدَاء فِيهِ على وَجه لَا يَسعهُ التَّأْخِير عَنهُ فَكَذَلِك هَهُنَا وَمن أَصْحَابنَا من جعل هَذَا الْفَصْل على الْخلاف الْمَشْهُور بَين أَصْحَابنَا فِي الْحَج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 أَنه على الْفَوْر أم على التَّرَاخِي قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَعِنْدِي أَن هَذَا غلط من قَائِله فَالْأَمْر بأَدَاء الْحَج لَيْسَ بِمُطلق بل هُوَ موقت بأشهر الْحَج وَهِي شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر من ذِي الْحجَّة وَقد بَينا أَن الْمُطلق غير الْمُقَيد بِوَقْت وَلَا خلاف أَن وَقت أَدَاء الْحَج أشهر الْحَج ثمَّ قَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله تتَعَيَّن أشهر الْحَج من السّنة الأولى للْأَدَاء إِذا تمكن مِنْهُ وَقَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله لَا تتَعَيَّن ويسعه التَّأْخِير وَعَن أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ فِيهِ رِوَايَتَانِ ف مُحَمَّد يَقُول الْحَج فرض الْعُمر وَوقت أَدَائِهِ أشهر الْحَج من سنة من سني الْعُمر وَهَذَا الْوَقْت متكرر فِي عمر الْمُخَاطب فَلَا يجوز تعْيين أشهر الْحَج من السّنة الأولى إِلَّا بِدَلِيل وَالتَّأْخِير عَنْهَا لَا يكون تفويتا بِمَنْزِلَة تَأْخِير قَضَاء رَمَضَان وَتَأْخِير صَوْم الشَّهْرَيْنِ فِي الْكَفَّارَة فالأيام والشهور تَتَكَرَّر فِي الْعُمر وَلَا يكون مُجَرّد التَّأْخِير فِيهَا تفويتا فَكَذَلِك الْحَج أَلا ترى أَنه مَتى أدّى كَانَ مُؤديا للْمَأْمُور وَأَبُو يُوسُف يَقُول أشهر الْحَج من السّنة الأولى بعد الْإِمْكَان مُتَعَيّن الْأَدَاء لِأَنَّهُ فَرد فِي هَذَا الحكم لَا مُزَاحم لَهُ وَإِنَّمَا يتَحَقَّق التَّعَارُض وينعدم التَّعْيِين بِاعْتِبَار الْمُزَاحمَة وَلَا يدْرِي أَنه هَل يبْقى إِلَى السّنة الثَّانِيَة ليَكُون أشهر الْحَج مِنْهَا من جملَة عمره أم لَا وَمَعْلُوم أَن الْمُحْتَمل لَا يُعَارض المتحقق فَإِذا ثَبت انْتِفَاء الْمُزَاحمَة كَانَت هَذِه الْأَشْهر متعينة للْأَدَاء فالتأخير عَنْهَا يكون تفويتا كتأخيرة الصَّلَاة عَن الْوَقْت وَالصَّوْم عَن الشَّهْر إِلَّا أَنه إِذا بَقِي حَيا إِلَى أشهر الْحَج من السّنة الثَّانِيَة فقد تحققت الْمُزَاحمَة الْآن وَتبين أَن الأولى لم تكن متعينة فَلهَذَا كَانَ مُؤديا فِي السّنة الثَّانِيَة وَقَامَ أشهر الْحَج من هَذِه السّنة مقَام الأولى فِي التَّعْيِين لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر الْأَدَاء فِي وَقت مَاض وَلَا يدْرِي أيبقى بعد هَذَا أم لَا وَهَذَا بِخِلَاف الْأَمر الْمُطلق فبالتأخير عَن أول أَوْقَات الْإِمْكَان لَا يَزُول تمكنه من الْأَدَاء هُنَاكَ وَهَهُنَا يَزُول تمكنه من الْأَدَاء بِمُضِيِّ يَوْم عَرَفَة إِلَى أَن يدْرك هَذَا الْيَوْم من السّنة الثَّانِيَة وَلَا يدْرِي أيدركه أم لَا وَبِخِلَاف قَضَاء رَمَضَان فتأخيره عَن الْيَوْم الأول لَا يكون تفويتا أَيْضا لتمكنه مِنْهُ فِي الْيَوْم الثَّانِي وَلَا يُقَال بمجيء اللَّيْل يَزُول تمكنه ثمَّ لَا يدْرِي أيدرك الْيَوْم الثَّانِي أم لَا لِأَن الْمَوْت فِي لَيْلَة وَاحِدَة قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ظُهُور علاماته يكون فَجْأَة وَهُوَ نَادِر وَلَا يبْنى الحكم عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يبْنى على الظَّاهِر بِمَنْزِلَة موت الْمَفْقُود فَإِنَّهُ إِذا لم يبْق أحد من أقرانه حَيا يحكم بِمَوْتِهِ بِاعْتِبَار الظَّاهِر لِأَن بَقَاءَهُ بعد موت أقرانه نَادِر فَأَما مَوته فِي سنة لَا يكون نَادرا فَيثبت احْتِمَال الْمَوْت والحياة فِي هَذِه الْمدَّة على السوَاء فَلهَذَا كَانَ التَّأْخِير تفويتا وعَلى هَذَا صَوْم الْكَفَّارَة وَالتَّأْخِير هُنَاكَ لَا يكون تفويتا لِأَن تمكنه من الْأَدَاء لَا يَزُول بِمُضِيِّ بعض الشُّهُور فَأَما النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ الموقت فَإِنَّهُ يَنْقَسِم على ثَلَاثَة أَقسَام فَالْأول مَا يكون الْوَقْت ظرفا للْوَاجِب بِالْأَمر وَلَا يكون معيارا وَالثَّانِي مَا يكون الْوَقْت معيارا لَهُ وَالثَّالِث مَا هُوَ مُشكل مشتبه فنبدأ بِبَيَان الْقسم الأول وَذَلِكَ وَقت الصَّلَاة فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {إِن الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتا} ثمَّ الْوَقْت يكون ظرفا للْأَدَاء وشرطا لَهُ وسببا للْوُجُوب وَبَيَانه أَنه ظرف للْأَدَاء لصِحَّته فِي أَي جُزْء من أَجزَاء الْوَقْت أدّى وَهَذَا لِأَن الصَّلَاة عبَادَة مَعْلُومَة بأركانها فَإِذا لم يطول أَرْكَانهَا يصير مُؤديا فِي جُزْء قَلِيل من الْوَقْت فَإِذا طول مِنْهَا ركنا يخرج الْوَقْت قبل أَن يصير مُؤديا لَهَا فَعرفنَا أَن الْوَقْت لَيْسَ بمعيار وَلكنه ظرف للْأَدَاء وَهُوَ شَرط أَيْضا فالأداء إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الْوَقْت وَالتَّأْخِير عَنهُ يكون تفويتا وَمَعْلُوم أَن الْأَدَاء بأركان يتَحَقَّق من الْمُؤَدِّي قبل خُرُوج الْوَقْت فَعرفنَا أَن خُرُوج الْوَقْت مفوت بِاعْتِبَار أَنه يفوت بِهِ شَرط الْأَدَاء وَبَيَان أَنه سَبَب للْوُجُوب أَنه لَا يجوز تَعْجِيلهَا قبله وَأَن الْوَاجِب تخْتَلف صفته باخْتلَاف الْأَوْقَات فَهَذَا عَلامَة كَون الْوَقْت سَببا لوُجُوبهَا فَأَما مَا هُوَ الدَّلِيل على ذَلِك نذكرهُ فِي بَيَان أَسبَاب الشَّرَائِع فِي مَوْضِعه ثمَّ لَا يُمكن جعل جَمِيع الْوَقْت سَببا للْوُجُوب لِأَنَّهُ ظرف للْأَدَاء فَلَو جعل جَمِيع الْوَقْت سَببا لحصل الْأَدَاء قبل وجود السَّبَب أَولا يتَحَقَّق الْأَدَاء فِيمَا هُوَ ظرف للْأَدَاء فَإِن شُهُود جَمِيع الْوَقْت لَا يكون إِلَّا بعد مُضِيّ الْوَقْت فَلَا بُد أَن يَجْعَل جُزْء من الْوَقْت سَببا للْوُجُوب لِأَنَّهُ لَيْسَ بَين الْكل والجزء الَّذِي هُوَ أدنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 مِقْدَار مَعْلُوم وَإِذا تقرر هَذَا قُلْنَا الْجُزْء الأول من الْوَقْت سَبَب للْوُجُوب فبإدراكه يثبت حكم الْوُجُوب وَصِحَّة أَدَاء الْوَاجِب هَذَا معنى مَا نقل عَن مُحَمَّد بن شُجَاع رَحمَه الله أَن الصَّلَاة تجب بِأول جُزْء من الْوَقْت وجوبا موسعا وَهُوَ الْأَصَح وَأكْثر الْعِرَاقِيّين من مَشَايِخنَا يُنكرُونَ هَذَا وَيَقُولُونَ الْوُجُوب لَا يثبت فِي أول الْوَقْت وَإِنَّمَا يتَعَلَّق الْوُجُوب بآخر الْوَقْت ويستدلون على ذَلِك بِمَا لَو حَاضَت الْمَرْأَة فِي آخر الْوَقْت فَإِنَّهَا لَا يلْزمهَا قَضَاء تِلْكَ الصَّلَاة إِذا طهرت والمقيم إِذا سَافر فِي آخر الْوَقْت يُصَلِّي صَلَاة الْمُسَافِرين وَلَو ثَبت الْوُجُوب بِأول جُزْء من الْوَقْت لَكَانَ الْمُعْتَبر حَاله عِنْد ذَلِك وَكَذَلِكَ لَو مَاتَ فِي الْوَقْت لَقِي الله وَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَلَو ثَبت الْوُجُوب فِي أول الْوَقْت لكَانَتْ الرُّخْصَة فِي التَّأْخِير بعد ذَلِك مُقَيّدَة بِشَرْط أَلا يفوتهُ كَمَا بَينا فِي الْأَمر الْمُطلق ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ فِي صفة الْمُؤَدِّي فِي أول الْوَقْت فَمنهمْ من يَقُول هُوَ نفل يمْنَع لُزُوم الْفَرْض إِيَّاه فِي آخر الْوَقْت إِذا كَانَ على صفة يلْزمه الْأَدَاء فِيهَا بِحكم الْخطاب قَالَ لِأَنَّهُ يتَمَكَّن من ترك الْأَدَاء فِي أول الْوَقْت لَا إِلَى بدل وَهَذَا حد النَّفْل وَلَكِن بِأَدَائِهِ يحصل مَا هُوَ الْمَطْلُوب وَهُوَ إِظْهَار فَضِيلَة الْوَقْت فَيمْنَع لُزُوم الْفَرْض إِيَّاه فِي آخر الْوَقْت أَو يُغير صفة ذَلِك الْمُؤَدِّي حِين أدْرك آخر الْوَقْت بِمَنْزِلَة مصلي الظّهْر فِي بَيته يَوْم الْجُمُعَة إِذا شهد الْجُمُعَة مَعَ الإِمَام تَتَغَيَّر صفة الْمُؤَدى قبلهَا فَيصير نفلا بعد أَن كَانَ فرضا وَهَذَا غلط بَين فَإِنَّهُ لَا تتأدى لَهُ هَذِه الصَّلَاة إِلَّا بنية الظّهْر وَالظّهْر اسْم للْفَرض دون النَّفْل وَلَو نوى النَّفْل كَانَ مُؤديا للصَّلَاة وَلَا يمْنَع ذَلِك لُزُوم الْفَرْض إِيَّاه فِي آخر الْوَقْت وَلَا تَتَغَيَّر صفة الْمُؤَدى إِلَى صفة الْفَرْضِيَّة وَهَذَا لِأَن بِاعْتِبَار آخر الْوَقْت يجب الْأَدَاء وَلَيْسَ لوُجُوب الْأَدَاء أثر فِي الْمُؤَدى فَكيف يكون مغيرا صفة الْمُؤَدى وَمن يَقُول بِهَذَا القَوْل لَا يجد بدا من أَن يَقُول إِذا أدّيت الْجُمُعَة فِي أول الْوَقْت كَانَ الْمُؤَدى نفلا والتنفل بِالْجمعَةِ غير مَشْرُوع وَفِي قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وَإِن أول وَقت الظّهْر حِين تَزُول الشَّمْس مَا يبطل مَا قَالُوا لِأَن المُرَاد وَقت الْأَدَاء وَوقت الْوُجُوب فعلى مَا قَالَ هَذَا الْقَائِل لَا يكون هَذَا وَقت الْوُجُوب وَلَا وَقت أَدَاء الظّهْر فَهُوَ مُخَالف للنَّص وَمِنْهُم من قَالَ الْمُؤَدى فِي أول الْوَقْت مَوْقُوف على مَا يظْهر من حَاله فِي آخر الْوَقْت وَهَكَذَا القَوْل فِي الزَّكَاة إِذا عجلها قبل الْحول وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بِمَا قَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله فِي الزِّيَادَات إِذا عجل شَاة أَرْبَعِينَ وَدفعهَا إِلَى السَّاعِي ثمَّ تمّ الْحول وَفِي يَده ثَمَان وَثَلَاثُونَ فَلهُ أَن يسْتَردّ الْمَدْفُوع من السَّاعِي وَإِن كَانَ السَّاعِي تصدق بِهِ كَانَ تَطَوّعا لَهُ وَلَو تمّ الْحول وَفِي يَده تسع وَثَلَاثُونَ وَجَبت عَلَيْهِ الزَّكَاة إِذا كَانَ الْمُؤَدى قَائِما فِي يَد السَّاعِي بِعَيْنِه وَجَاز عَن الزَّكَاة وَهَذَا ضَعِيف أَيْضا فالأداء لَا يَصح إِلَّا بنية الظّهْر وَالظّهْر اسْم للْفَرض خَاصَّة وَلَو نوى الْفَرْض صحت نِيَّته وَلَو نوى النَّفْل لم تصح نِيَّته فِي حق أَدَاء الْفَرِيضَة فَلَو كَانَ حكم الْمُؤَدى التَّوَقُّف لاستوت فِيهِ النيتان ولتأدى بِمُطلق نِيَّة الصَّلَاة وَالْقَوْل بالتوقف فِي فعل قد أَمْضَاهُ لَا يكون قَوِيا فِي الصَّلَاة وَالزَّكَاة جَمِيعًا وَكَانَ الْكَرْخِي رَحمَه الله يَقُول الْمُؤَدى فرض على أَن يكون الْوُجُوب مُتَعَلقا بآخر الْوَقْت أَو بِالْفِعْلِ لِأَن الْوُجُوب إِنَّمَا لَا يثبت بِأول الْوَقْت لِانْعِدَامِ الدَّلِيل الْمعِين لذَلِك الْجُزْء فِي كَونه سَببا وبفعل الْأَدَاء يحصل التَّعْيِين فَيكون الْمُؤَدى وَاجِبا بِمَنْزِلَة مَا لَو بَاعَ قَفِيزا من صبرَة يتَعَيَّن البيع فِي قفيز بِالتَّسْلِيمِ وَلَو أدّى شَاة من أَرْبَعِينَ فِي الزَّكَاة يتَعَيَّن الْمُؤَدى وَاجِبا بِالْأَدَاءِ والحانث بِالْيَمِينِ إِذا كفر بِأحد الْأَشْيَاء يتَعَيَّن ذَلِك وَاجِبا بِأَدَائِهِ وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة رُجُوع إِلَى مَا قُلْنَا فَفِي هَذِه الْفُصُول الْوُجُوب ثَابت بِأَصْل السَّبَب قبل تعين الْوَاجِب بِالْأَدَاءِ فَكَذَلِك هُنَا الْوُجُوب ثَابت بِإِدْرَاك الْجُزْء الأول من الْوَقْت وَالتَّعْيِين يحصل بِالْأَدَاءِ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يُمكن إِثْبَات حكم الْوُجُوب بعد الْأَدَاء مَقْصُورا على الْحَال لِأَنَّهُ إِنَّمَا يجب على الْمَرْء مَا يَفْعَله لَا مَا قد فعله وَإِذا تقدم الْوُجُوب على الْفِعْل ضَرُورَة يتَحَقَّق بِهِ مَا قُلْنَا إِن الْوُجُوب وَصِحَّة الْأَدَاء يثبت بالجزء الأول من الْوَقْت ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله لما تقرر الْوُجُوب لزمَه الْأَدَاء على وَجه لَا يتَغَيَّر بِتَغَيُّر حَاله بعد ذَلِك بِعَارِض من حيض أَو سفر وَقُلْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 نَحن الْأَدَاء إِنَّمَا يجب بِالطَّلَبِ أَلا ترى أَن الرّيح إِذا هبت بِثَوْب إِنْسَان وألقته فِي حجر غَيره فالثوب ملك لصَاحبه وَلَا يجب على من فِي حجره أَدَاؤُهُ إِلَيْهِ قبل طلبه لِأَن حُصُوله فِي حجره كَانَ بِغَيْر صنعه فَكَذَلِك هَهُنَا الْوُجُوب تسببه كَانَ جبرا إِذْ لَا صنع للْعَبد فِيهِ فَإِنَّمَا يلْزمه أَدَاء الْوُجُوب عِنْد طلب من لَهُ الْحق وَقد خَيره من لَهُ الْحق فِي الْأَدَاء مَا لم يتضيق الْوَقْت يقرره أَن وجوب الْأَدَاء لَا يتَّصل بِثُبُوت حكم الْوُجُوب لَا محَالة فَإِن البيع بِثمن مُؤَجل يُوجب الثّمن فِي الْحَال إِذْ لَو كَانَ وجوب الثّمن مُتَأَخِّرًا إِلَى مُضِيّ الْأَجَل لم يَصح البيع ثمَّ وجوب الْأَدَاء يكون مُتَأَخِّرًا إِلَى حُلُول الْأَجَل فههنا أَيْضا وجوب الْأَدَاء يتَأَخَّر إِلَى توجه الْمُطَالبَة وَذَلِكَ بِاعْتِبَار استطاعة تكون مَعَ الْفِعْل فَقبل فعل الْأَدَاء لم تثبت الْمُطَالبَة على وَجه يَنْقَطِع بِهِ الْخِيَار وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن النَّائِم والمغمى عَلَيْهِ فِي جَمِيع الْوَقْت يثبت حكم الْوُجُوب فِي حَقّهمَا ثمَّ الْخطاب بِالْأَدَاءِ يتَأَخَّر إِلَى مَا بعد الانتباه والإفاقة وَالْحَاصِل أَنه يتَعَيَّن للسَّبَبِيَّة الْجُزْء الَّذِي يتَّصل بِهِ الْأَدَاء من الْوَقْت فَإِن اتَّصل بالجزء الأول كَانَ هُوَ السَّبَب وَإِلَّا تنْتَقل السَّبَبِيَّة إِلَى آخر الْجُزْء الثَّانِي ثمَّ إِلَى الثَّالِث هَكَذَا لمعنيين أَحدهمَا أَن فِي الْمُجَاوزَة عَن الْجُزْء الَّذِي يتَّصل بِهِ الْأَدَاء فِي جعله سَببا لَا ضَرُورَة وَلَيْسَ بَين الْأَدْنَى وَالْكل مِقْدَار يُمكن الرُّجُوع إِلَيْهِ وَالثَّانِي أَنه إِذا لم يتَّصل الْأَدَاء بالجزء الَّذِي تتَعَيَّن بِهِ السَّبَبِيَّة يكون تفويتا كَمَا إِذا لم يتَّصل الْأَدَاء بالجزء الْأَخير من الْوَقْت يكون تفويتا حَتَّى يصير دينا فِي الذِّمَّة وَلَا وَجه لجعله مفوتا مَا بَقِي الْوَقْت لِأَن الشَّرْع خَيره فِي الْأَدَاء فَعرفنَا أَن هَذَا الْمَعْنى تَخْيِير لَهُ فِي نقل السَّبَبِيَّة من جُزْء إِلَى جُزْء مَا بَقِي الْوَقْت وَاسِعًا يبْقى هَذَا الْخِيَار لَهُ فَلَا يكون مفرطا وَلِهَذَا لَا يلْزمه شَيْء إِذا مَاتَ وَلَا إِذا حَاضَت الْمَرْأَة لِأَن الِانْتِقَال يتَحَقَّق فِي حَقّهَا لبَقَاء خِيَارهَا والجزء الَّذِي تُدْرِكهُ من الْوَقْت بعد الْحيض لَا يُوجب عَلَيْهَا الصَّلَاة والجزء الَّذِي يُدْرِكهُ الْمُسَافِر بَعْدَمَا صَار مُسَافِرًا لَا يُوجب عَلَيْهِ إِلَّا رَكْعَتَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ثمَّ قَالَ زفر رَحمَه الله إِذا تضيق الْوَقْت على وَجه لَا يفصل عَن الْأَدَاء تتَعَيَّن السَّبَبِيَّة فِي ذَلِك الْجُزْء أَلا ترى أَنه يَنْقَطِع خِيَاره وَلَا يَسعهُ التَّأْخِير بعد ذَلِك فَلَا يتَغَيَّر بِمَا يعْتَرض بعد ذَلِك من سفر أَو مرض وَقُلْنَا نَحن إِنَّمَا لَا يَسعهُ التَّأْخِير كي لَا يفوت شَرط الْأَدَاء وَهُوَ الْوَقْت على مَا بَينا أَن الْوَقْت ظرف للْأَدَاء وَمَا بعده من آخر الْوَقْت صَالح لانتقال السَّبَبِيَّة إِلَيْهِ فَيحصل الِانْتِقَال بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا إِلَى آخر جُزْء من أَجزَاء الْوَقْت فتتعين السَّبَبِيَّة فِيهِ ضَرُورَة إِذا لم يبْق بعده مَا يحْتَمل انْتِقَال السَّبَبِيَّة إِلَيْهِ فَيتَحَقَّق التفويت بمضيه وَيعْتَبر صفة ذَلِك الْجُزْء وحاله عِنْد ذَلِك الْجُزْء حَتَّى إِذا كَانَت حَائِضًا لَا يلْزمهَا الْقَضَاء وَإِذا طهرت عَن الْحيض عِنْد ذَلِك الْجُزْء وأيامها عشرَة تلزمها الصَّلَاة نَص عَلَيْهِ فِي نَوَادِر أبي سُلَيْمَان فَإِذا أسلم الْكَافِر أَو أدْرك الصَّبِي عِنْد ذَلِك الْجُزْء يلْزمهُمَا الصَّلَاة وَإِذا كَانَ مُسَافِرًا عِنْد ذَلِك الْجُزْء يلْزمه صَلَاة السّفر وَلِهَذَا قُلْنَا إِنَّه إِذا طلعت الشَّمْس وَهُوَ فِي خلال الْفجْر يفْسد الْفَرْض لِأَن الْجُزْء الَّذِي يتَّصل بِهِ طُلُوع الشَّمْس من الْوَقْت سَبَب صَحِيح تَامّ فَثَبت الْوُجُوب بِصفة الْكَمَال فَلَا يتَأَدَّى فِي الْأَدَاء مَعَ النُّقْصَان بِخِلَاف مَا إِذا غربت الشَّمْس وَهُوَ فِي خلال صَلَاة الْعَصْر فَإِن الْجُزْء الَّذِي يتَّصل بِهِ الْغُرُوب من الْوَقْت فِي الْمَعْنى سَبَب فَاسد للنَّهْي الْوَارِد عَن الصَّلَاة بعد مَا تحمر الشَّمْس فَيثبت الْوُجُوب مَعَ النُّقْصَان بِحَسب السَّبَب وَقد وجد الْأَدَاء بِتِلْكَ الصّفة وَلَا يدْخل على هَذَا مَا إِذا انْعَدم مِنْهُ الْأَدَاء أصلا ثمَّ أدّى فِي الْيَوْم الثَّانِي بَعْدَمَا احْمَرَّتْ الشَّمْس فَإِنَّهُ لَا يجوز لِأَنَّهُ إِذا لم يشْتَغل بِالْأَدَاءِ حَتَّى مُضِيّ الْوَقْت فَحكم السَّبَبِيَّة يكون مُضَافا إِلَى جَمِيع الْوَقْت وَهُوَ سَبَب صَحِيح تَامّ وَإِنَّمَا يتَأَدَّى بِصفة النُّقْصَان عِنْد ضعف السَّبَب إِذا لم يصر دينا فِي الذِّمَّة واشتغاله بِالْأَدَاءِ يمْنَع صَيْرُورَته دينا فِي ذمَّته فَأَما إِذا لم يشْتَغل بِالْأَدَاءِ حَتَّى تحقق التفويت بِمُضِيِّ الْوَقْت صَار دينا فِي ذمَّته فَيثبت بِصفة الْكَمَال وَهَذَا هُوَ الِانْفِصَال عَن الْإِشْكَال الَّذِي يُقَال على هَذَا وَهُوَ مَا إِذا أسلم الْكَافِر بَعْدَمَا احْمَرَّتْ الشَّمْس وَلم يصل ثمَّ أَدَّاهَا فِي الْيَوْم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الثَّانِي بَعْدَمَا احْمَرَّتْ الشَّمْس فَإِنَّهُ لَا يجوز لِأَنَّهُ مَعَ تمكن النُّقْصَان فِي السَّبَبِيَّة إِذا مضى الْوَقْت صَار الْوَاجِب دينا فِي ذمَّته بِصفة الْكَمَال وَمَا ذهب إِلَيْهِ زفر ضَعِيف فَإِن من تذكر صَلَاة الظّهْر وَقد بَقِي إِلَى وَقت تغير الشَّمْس مِقْدَار مَا يُمكنهُ أَن يُصَلِّي فِيهِ رَكْعَة أَو رَكْعَتَيْنِ يمْنَع من الِاشْتِغَال بِالْأَدَاءِ وَإِن كَانَ وَقت التَّذَكُّر وقتا للفائتة بِالنَّصِّ لِأَنَّهُ لَا يتَمَكَّن من الْأَدَاء قبل تغير الشَّمْس وَإِذا تَغَيَّرت فَسدتْ صلَاته فَكَذَلِك عِنْد تضيق الْوَقْت يُؤمر بِالْأَدَاءِ وَلَا يَسعهُ التَّأْخِير لَا بِاعْتِبَار أَن السَّبَبِيَّة تتَعَيَّن فِي ذَلِك الْجُزْء وَلَكِن ليتَمَكَّن من الْأَدَاء فِيمَا هُوَ ظرف للْأَدَاء وَهُوَ الْوَقْت وَهَذَا التَّمَكُّن يفوت بِالتَّأْخِيرِ بعْدهَا وَمن حكم هَذَا الْوَقْت أَن التَّعْيِين لَا يثبت بقوله حَتَّى لَو قَالَ عينت هَذَا الْجُزْء إِن لم يشْتَغل بِالْأَدَاءِ بعده لَا يتَعَيَّن لِأَن خِيَاره لم يَنْقَطِع وَله أَن يُؤَخر الْأَدَاء بعد هَذَا القَوْل وَالتَّعْيِين من ضَرُورَة انْقِطَاع خِيَاره فِي نقل السَّبَبِيَّة من جُزْء إِلَى جُزْء وَذَلِكَ لَا يتم إِلَّا بِفعل الْأَدَاء كالمكفر إِذا قَالَ عينت الطَّعَام للتكفير بِهِ لَا يتَعَيَّن مَا لم يُبَاشر التَّكْفِير بِهِ وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول إِن نقل السَّبَبِيَّة من جُزْء إِلَى جُزْء تصرف فِي المشروعات وَلَيْسَ ذَلِك إِلَى العَبْد لِأَن الشَّرْع لما خَيره فقد جعل لَهُ هَذِه الْولَايَة فَيثبت لَهُ حق التَّصَرُّف بِهَذِهِ الصّفة لِأَن الشَّرْع قد ولاه ذَلِك كَمَا ثَبت لَهُ ولَايَة الْإِيجَاب فِيمَا كَانَ مَشْرُوعا غير وَاجِب بنذره وَمن حكمه أَنه لَا يمْنَع صِحَة أَدَاء صَلَاة أُخْرَى فِيهِ لِأَن الْوَقْت ظرف للْأَدَاء وللواجب أَرْكَان مَعْلُومَة يُؤَدِّيهَا بمنافع هِيَ حَقه وَبعد الْوُجُوب بقيت الْمَنَافِع حَقًا لَهُ أَيْضا فَكَانَ لَهُ أَن يتَصَرَّف فِيهَا بِالصرْفِ إِلَى أَدَاء وَاجِب آخر بِمَنْزِلَة من دفع ثوبا إِلَى خياط ليخيطه فِي هَذَا الْيَوْم فَإِنَّهُ يسْتَحق على الْخياط إِقَامَة الْعَمَل وَلَا يتَعَذَّر عَلَيْهِ خياطَة ثوب آخر فِي ذَلِك الْيَوْم لِأَن مَنَافِعه بقيت حَقًا لَهُ بعد مَا اسْتحق عَلَيْهِ خياطَة الثَّوْب بِالْإِجَارَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وَمن حكمه أَنه لَا يتَأَدَّى إِلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَن صرف مَا هُوَ حَقه من الْمَنَافِع إِلَى أَدَاء الْوَاجِب عَلَيْهِ لَا يكون إِلَّا بِالنِّيَّةِ وَمن حكمه اشْتِرَاط تعْيين النِّيَّة فِيهِ لِأَن مَنَافِعه لما بقيت على صفة يصلح لأَدَاء فرض الْوَقْت وَغَيره من الصَّلَوَات بهَا لم يتَعَيَّن فرض الْوَقْت مَا لم يُعينهُ بِالنِّيَّةِ وَاشْتِرَاط تعْيين الْوَقْت لإصابة فرض الْوَقْت حكم ثَبت شرعا فَلَا يسْقط ذَلِك بتقصير يكون من العَبْد فِي الْأَدَاء حَتَّى إِذا تضيق الْوَقْت على وَجه لَا يسع إِلَّا لأَدَاء الْفَرْض أَو لَا يسع لَهُ أَيْضا لَا يسْقط اعْتِبَار نِيَّة التَّعْيِين فِيهِ بِهَذَا الْمَعْنى وَأما الْقسم الثَّانِي وَهُوَ مَا يكون الْوَقْت معيارا لَهُ كَصَوْم رَمَضَان لِأَن ركن الصَّوْم هُوَ الْإِمْسَاك ومقداره لَا يعرف إِلَّا بوقته فَكَانَ الْوَقْت معيارا لَهُ بِمَنْزِلَة الْكَيْل فِي المكيلات وَمن حكمه أَن الْإِمْسَاك الَّذِي يُوجد مِنْهُ فِي الْأَيَّام من شهر رَمَضَان لما تعين لأَدَاء الْفَرْض لم يبْق غَيره مَشْرُوعا فِيهِ إِذْ لَا تصور لأَدَاء صَومينِ بإمساك وَاحِد وَمَا يتَصَوَّر فِي هَذَا الْوَقْت لَا يفضل عَن الْمُسْتَحق بِحَال فَلَا يكون غَيره مَشْرُوعا فِيهِ مُسْتَحقّا وَلَا مُتَصَوّر الْأَدَاء شرعا ثمَّ قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله يَسْتَوِي فِي هَذَا الحكم الْمُسَافِر والمقيم لِأَن وجوب صَوْم الشَّهْر يثبت بِشُهُود الشَّهْر فِي حق الْمُسَافِر وَلِهَذَا صَحَّ الْأَدَاء إِلَّا أَن الشَّرْع مكنه من التَّرَخُّص بِالْفطرِ لدفع الْمَشَقَّة عَنهُ فَإِذا ترك التَّرَخُّص كَانَ هُوَ والمقيم سَوَاء فَيكون صَوْمه عَن فرض رَمَضَان فتلغو نِيَّته لتطوع أَو لواجب آخر وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول إِذا نوى الْمُسَافِر وَاجِبا آخر صَحَّ صَوْمه عَمَّا نوى لِأَن انْتِفَاء صَوْم آخر فِي هَذَا الزَّمَان لَيْسَ من حكم الْوُجُوب وَاسْتِحْقَاق الْأَدَاء بمنافعه فَذَلِك مَوْجُود فِيمَا كَانَ الْوَقْت ظرفا لَهُ بل هُوَ من حكم تعينه مُسْتَحقّا للْأَدَاء فِيهِ وَلَا تعين فِي حق الْمُسَافِر فَهُوَ مُخَيّر بَين الْأَدَاء أَو التَّأْخِير إِلَى عدَّة من أَيَّام أخر فَلَا تَنْفِي صِحَة أَدَاء صَوْم آخر مِنْهُ بِهَذَا الْإِمْسَاك وَلِأَن الْوُجُوب وَإِن ثَبت فِي حَقه وَلَكِن التَّرَخُّص بِتَأْخِير أَدَاء الْوَاجِب ثَابت فِي حَقه أَيْضا وَهُوَ مَا ترك التَّرَخُّص حِين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 مَا صرف الْإِمْسَاك إِلَى مَا هُوَ دين فِي ذمَّته فَإِن ذَلِك أهم عِنْده وَإِذا كَانَ هُوَ بِالْفطرِ مترخصا لِأَن فِيهِ رفقا بِبدنِهِ فَلِأَن يكون فِي صرفه إِلَى وَاجِب آخر مترخصا لِأَنَّهُ نظر مِنْهُ لدينِهِ كَانَ أولى وعَلى الطَّرِيق الأول إِذا نوى النَّفْل كَانَ صَائِما عَن النَّفْل وعَلى الطَّرِيق الثَّانِي يكون صَائِما عَن الْفَرْض لِأَنَّهُ فِي نِيَّة النَّفْل لَا يكون مترخصا بِالصرْفِ إِلَى مَا هُوَ الأهم وَفِيه رِوَايَتَانِ عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله فَأَما الْمَرِيض إِذا صَامَ كَانَ صَوْمه عَن صَوْم رَمَضَان وَإِن نوى عَن وَاجِب آخر أَو نوى النَّفْل لِأَن الرُّخْصَة فِي حق الْمَرِيض إِنَّمَا تثبت إِذا تحقق عَجزه عَن أَدَاء الصَّوْم وَإِذا صَامَ فقد انْعَدم دَلِيل سَبَب الرُّخْصَة فِي حَقه فَكَانَ هُوَ كَالصَّحِيحِ وَأما الرُّخْصَة فِي حق الْمُسَافِر بِاعْتِبَار سَبَب ظَاهر قَامَ مقَام الْعذر الْبَاطِن وَهُوَ السّفر وَذَلِكَ لَا يَنْعَدِم بِفعل الصَّوْم فَيبقى لَهُ حق التَّرَخُّص وَهُوَ فِي نِيَّته وَاجِبا آخر مترخص كَمَا بَيناهُ وَقَالَ زفر رَحمَه الله وَلما تعين صَوْم الْفَرْض مَشْرُوعا فِي هَذَا الزَّمَان وركن الصَّوْم هُوَ الْإِمْسَاك فَالَّذِي يتَصَوَّر فِيهِ من الْإِمْسَاك مُسْتَحقّ الصّرْف إِلَيْهِ فَلَا يتَوَقَّف الصِّحَّة على عَزِيمَة مِنْهُ بل على أَي وَجه أَتَى بِهِ يكون من الْمُسْتَحق كمن اسْتَأْجر خياط 8 اليخيط لَهُ ثوبا بِعَيْنِه بِيَدِهِ فَسَوَاء خاطه على قَصده الْإِعَانَة أَو غَيره يكون من الْوَجْه الْمُسْتَحق وَمن عَلَيْهِ الزَّكَاة فِي نِصَاب بِعَيْنِه إِذا وهبه للْفَقِير يكون مُؤديا لِلزَّكَاةِ وَإِن لم ينْو لهَذَا الْمَعْنى وَلَكنَّا نقُول مَعَ تعين الصَّوْم مَشْرُوعا مَنَافِعه الَّتِي تُوجد فِي الْوَقْت بَاقِيَة حَقًا لَهُ وَهُوَ مَأْمُور بِأَن يُؤَدِّي بِمَا هُوَ حَقه مَا هُوَ مُسْتَحقّ عَلَيْهِ من الْعِبَادَة وَذَلِكَ بأَدَاء يكون مِنْهُ على اخْتِيَار فَلَا يتَحَقَّق ذَلِك بِدُونِ الْعَزِيمَة لِأَنَّهُ مَا لم يعزم على الصَّوْم لَا يكون صارفا مَاله إِلَى مَا هُوَ مُسْتَحقّ عَلَيْهِ فَإِن عدم الْعَزْم لَيْسَ بِشَيْء وَإِنَّمَا لَا يتَحَقَّق مِنْهُ صرف مَنَافِعه إِلَى أَدَاء صَوْم آخر لِأَنَّهُ غير مَشْرُوع فِي هَذَا الْوَقْت كَمَا لَا يتَحَقَّق مِنْهُ أَدَاء صَوْم بِاللَّيْلِ لِأَنَّهُ غير مَشْرُوع فِيهِ بِخِلَاف الْأَجِير فَفِي أجِير الْوَاحِد الْمُسْتَحق مَنَافِعه بِعَيْنِه وَفِي الْأَجِير الْمُشْتَرك الْمُسْتَحق هُوَ الْوَصْف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الَّذِي يحدث فِي الثَّوْب بِعَمَلِهِ وَذَلِكَ لَا يتَوَقَّف على عزم يكون مِنْهُ وَبِخِلَاف الزَّكَاة فالمستحق صرف جُزْء من المَال إِلَى الْمُحْتَاج ليَكُون كِفَايَة لَهُ من الله تَعَالَى وَقد تحقق ذَلِك فالهبة صَارَت عبارَة عَن الصَّدَقَة فِي حَقه مجَازًا لِأَن المبتغى بهَا وَجه الله تَعَالَى دون الْعِوَض من المصروف إِلَيْهِ وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يتَحَقَّق صرف مَاله إِلَى مَا هُوَ مَشْرُوع فِي الْوَقْت مُسْتَحقّا مَا لم يُعينهُ فِي عزيمته لِأَن معنى الْقرْبَة مُعْتَبر فِي الصّفة كَمَا هُوَ مُعْتَبر فِي الأَصْل فَكَمَا تشْتَرط عزيمته فِي أَدَاء أصل الصَّوْم ليتَحَقَّق معنى الْعِبَادَة يشْتَرط ذَلِك فِي وَصفه ليَكُون لَهُ اخْتِيَار فِي الصّفة كَمَا فِي الأَصْل وَمن قَالَ بنية النَّفْل يصير مصيبا للمشروع فقد أبعد لِأَنَّهُ لَو اعْتقد هَذِه الصّفة فِي الْمَشْرُوع فِي هَذَا الْوَقْت كفر بربه فَكيف يصير بِهَذِهِ الْعَزِيمَة مصيبا للمشروع وَلَكنَّا نقُول لما كَانَ الْمَشْرُوع فِي هَذَا الْوَقْت من الصَّوْم الَّذِي يتَصَوَّر أَدَاؤُهُ مِنْهُ وَاحِدًا عينا كَانَ هُوَ بِالْقَصْدِ إِلَى الصَّوْم مصيبا لَهُ فالواحد الْمعِين فِي زمَان أَو مَكَان يصاب باسم جنسه كَمَا يصاب باسم نَوعه وَكَانَ هَذَا فِي الْحَقِيقَة منا قولا بِمُوجب الْعلَّة أَن تعْيين الْمُسْتَحق فِي الْعَزِيمَة لَا بُد مِنْهُ وَلَكِن هَذَا التَّعْيِين يحصل بنية الصَّوْم لَا أَن نقُول التَّعْيِين غير مُعْتَبر وَلَكِن لَا يشْتَرط عزيمته فِي الْوَصْف مَقْصُودا لِأَن بعد وجود أصل الصَّوْم مِنْهُ فِي هَذَا الزَّمَان لَا اخْتِيَار لَهُ فِي صفته وَلِهَذَا لَا يتَصَوَّر أَدَاؤُهُ بِصفة أُخْرَى شرعا فَأَما إِذا نوى النَّفْل فَهَذَا الْوَصْف من نِيَّته لَغْو لِأَن النَّفْل غير مَشْرُوع فِيهِ كَمَا تلغو نِيَّة أَدَاء الصَّوْم فِي اللَّيْل لِأَنَّهُ غير مَشْرُوع فِيهِ وكما تلغو نِيَّة الْفَرْض خَارج رَمَضَان مِمَّن لَا فرض عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يعْتَبر من نِيَّته عَزِيمَة أصل الصَّوْم وَهُوَ مَأْمُور بِأَن يعْتَقد فِي صَوْم الْمَشْرُوع أَنه صَوْم فبه يكون مصيبا للمشروع وعَلى هَذَا نقُول فِيمَن نذر الصَّوْم فِي وَقت بِعَيْنِه خَارج رَمَضَان إِنَّه يتَأَدَّى مِنْهُ بِمُطلق النِّيَّة وَنِيَّة النَّفْل لِأَن الْمَشْرُوع فِي الْوَقْت قبل نَذره عين وَهُوَ النَّفْل وَقد جعل لَهُ الشَّرْع ولَايَة جعل الْمَشْرُوع وَاجِبا بنذره فبمطلق النِّيَّة يكون مصيبا للمشروع وَهُوَ الْمَنْذُور بِعَيْنِه وَنِيَّة النَّفْل مِنْهُ بعد النّذر لَغْو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 لِأَنَّهُ لما صَار وَاجِبا بنذره لم يبْق نفلا فِي حَقه فَأَما إِذا نوى وَاجِبا آخر كَانَ عَن ذَلِك الْوَاجِب لِأَن الْمَشْرُوع فِي الْوَقْت قبل نَذره كَانَ صَالحا لأَدَاء وَاجِب آخر بِهِ إِذا صرفه إِلَيْهِ بعزمه وَتلك الصلاحية لَا تنعدم بنذره لِأَن تصرف النَّاذِر صَحِيح فِي مَحل حَقه وَذَلِكَ فِي جعل مَا كَانَ مَشْرُوعا لَهُ نفلا وَاجِبا بنذره فَأَما نفي الصلاحية فَلَيْسَ من حَقه فِي شَيْء فَلَا يعْتَبر تصرفه فِيهِ وَإِذا بقيت الصلاحية تأدي الْوَاجِب الآخر بِهِ عِنْد عزمه بِخِلَاف شهر رَمَضَان فقد انْتَفَى فِيهِ صَلَاحِية الْإِمْسَاك لأَدَاء صَوْم آخر سوى الْفَرْض شرعا فتلغو نِيَّته لواجب آخر كَمَا تلغو نِيَّة النَّفْل وَقَالَ الشَّافِعِي صرف الْإِمْسَاك الَّذِي يتَصَوَّر مِنْهُ فِي نَهَار رَمَضَان إِلَى صَوْم الْفَرْض مُسْتَحقّ عَلَيْهِ من أول النَّهَار إِلَى آخِره وَلَا يتَحَقَّق هَذَا الصّرْف إِلَّا بعزيمته فَإِذا انعدمت الْعَزِيمَة فِي أول النَّهَار لم يكن ذَلِك الْجُزْء مصروفا إِلَى الصَّوْم وَهُوَ بالعزيمة بعد ذَلِك إِنَّمَا يكون صارفا لما بَقِي لَا لما مضى وَالصَّوْم مِنْهُ لَا يتَحَقَّق فِيمَا مضى وَلِهَذَا لَو نوى بعد الزَّوَال لَا يَصح وَلَا صِحَة لما بَقِي بِدُونِ مَا مضى أَلا ترى أَن الْأَهْلِيَّة لأَدَاء الْفَرَائِض تشرط من أول النَّهَار إِلَى آخِره فرجحت الْمُفْسد على الْمُصَحح إِذا انعدمت النِّيَّة فِي أول النَّهَار أخذا بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْعِبَادَة بِخِلَاف النَّفْل فَهُوَ غير مُقَدّر شرعا وأداؤه موكول إِلَى نشاطه فيتأدى بِقدر مَا يُؤَدِّيه مَعَ أَن هُنَاكَ لَو رجحنا الْمُفْسد فَاتَهُ الْأَدَاء لَا إِلَى خلف فرجحنا الْمُصَحح لكيلا يفوتهُ أصلا وَهَهُنَا يفوتهُ الْأَدَاء إِلَى خلف وَهَذَا بِخِلَاف مَا إِذا قدم النِّيَّة فَإِن مَا تقدم مِنْهُ من الْعَزِيمَة يكون قَائِما حكما إِذا جَاءَ وَقت الْأَدَاء وَفِي هَذَا الْمَعْنى أَوله وَآخره سَوَاء فتقترن الْعَزِيمَة بأَدَاء الْكل حكما أَلا ترى أَن صَوْم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الْقَضَاء بِهِ يتَأَدَّى وَلَا يتَأَدَّى بالعزيمة قبل الزَّوَال وَلَكنَّا نقُول مَا يتَأَدَّى بِهِ هَذَا الصَّوْم فِي حكم شَيْء وَاحِد فَإِنَّهُ لَا يحْتَمل التجزي فِي الْأَدَاء وبالاتفاق لَا يشْتَرط اقتران النِّيَّة بأَدَاء جَمِيعه فَإِنَّهُ لَو أُغمي عَلَيْهِ بعد الشُّرُوع فِي الصَّوْم يتَأَدَّى صَوْمه وَلَا يشْتَرط اقترانه بِأول حَالَة الْأَدَاء فَإِنَّهُ لَو قدم النِّيَّة تأدى صَوْمه وَإِن كَانَ غافلا عَنهُ عِنْد ابْتِدَاء الْأَدَاء بِالنَّوْمِ فَأَما أَن يكون ابْتِدَاء حَال الصَّوْم فِي أَنه يسْقط اعْتِبَار الْعَزِيمَة فِيهِ بِمَنْزِلَة الدَّوَام فِي الصَّلَاة أَو يكون حَال الِابْتِدَاء مُعْتَبرا بِحَال الدَّوَام وَكَانَ ذَلِك لدفع الْحَرج فوقت الشُّرُوع فِي الْأَدَاء هَهُنَا مشتبه بحرج الْمَرْء فِي الانتباه فِي ذَلِك الْوَقْت ثمَّ لَا ينْدَفع هَذَا الْحَرج بِجَوَاز تَقْدِيم النِّيَّة فِي جنس الصائمين ففيهم صبي يبلغ وَمَجْنُون يفِيق فِي آخر اللَّيْل وَفِي يَوْم الشَّك هُوَ مَمْنُوع من نِيَّة الْفَرْض قبل أَن يتَبَيَّن وَنِيَّة النَّفْل عِنْده لَا تتأدى إِذا تبين وَإِذا بَقِي معنى الْحَرج قُلْنَا لما صَحَّ الْأَدَاء بنية مُتَقَدّمَة وَإِن لم تقارن حَالَة الشُّرُوع وَلَا حَالَة الْأَدَاء فَلِأَن تصح بنية مُتَأَخِّرَة لاقترانها بِمَا هُوَ ركن الْأَدَاء كَانَ أولى وَتبين بِهَذَا أَن الْمَوْجُود من الْإِمْسَاك فِي أول النَّهَار لم يتَعَيَّن للفطر لِأَنَّهُ بَقِي مُتَمَكنًا من جعل الْبَاقِي صوما بعزيمته وَالْوَاحد الَّذِي لَا يتجزى فِي حكم لَا ينْفَصل بعضه من بعض فَمن ضَرُورَة بَقَاء الْإِمْكَان فِيمَا بَقِي بَقَاؤُهُ فِيمَا مضى حكما بِأَن تستند الْعَزِيمَة إِلَيْهِ لتوقف الْإِمْسَاك عَلَيْهِ وَلَكِن هَذَا إِذا وجدت الْعَزِيمَة فِي أَكثر الرُّكْن لِأَن الْأَكْثَر بِمَنْزِلَة الْكَمَال من وَجه فَكَمَا أَنه مَا بَقِي الْإِمْكَان فِي صرف جَمِيع الرُّكْن إِلَى مَا هُوَ الْمُسْتَحق بعزيمته يبْقى حكم صِحَة الْأَدَاء فَكَذَلِك إِذا بَقِي الْإِمْكَان فِي صرف أَكثر الرُّكْن إِلَى مَا هُوَ الْمُسْتَحق عَلَيْهِ بعزيمته لِأَن الْكل من وَجه يجوز إِقَامَته مقَام الْكل من جَمِيع الْوُجُوه حكما وَفِيه أَدَاء الْعِبَادَة فِي وَقتهَا فَيكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 الْمصير إِلَيْهِ أولى من الْمصير إِلَى التفويت لِانْعِدَامِ صفة الْكَمَال من جَمِيع الْوُجُوه وَهَذَا التَّرْجِيح أولى من التَّرْجِيح بِصفة الْعِبَادَة فَهِيَ حَالَة تبتنى على وجود الأَصْل وَالتَّرْجِيح بإيجاد أصل الشَّيْء أولى بالمصير إِلَيْهِ من التَّرْجِيح بِالصّفةِ وَالصّفة تتبع الأَصْل وَلَا يتبع الأَصْل الصّفة وعَلى هَذَا نقُول فِي الْمَنْذُور فِي وَقت بِعَيْنِه إِنَّه يتَأَدَّى بِمثل هَذِه الْعَزِيمَة لِأَنَّهُ بِهَذِهِ الْعَزِيمَة يكون مُؤديا للمشروع قبل نَذره والمشروع فِي الْوَقْت بعد نَذره على مَا كَانَ عَلَيْهِ من قبل فَيصير مُؤديا لَهُ بِهَذِهِ الْعَزِيمَة أَيْضا وَفِي أَدَائِهِ وَفَاء بالمنذور وَكَذَلِكَ فِي صَوْم الْقَضَاء يصير مُؤديا للمشروع فِي الْوَقْت بِهَذِهِ الْعَزِيمَة وَهُوَ النَّفْل وَأما الْقَضَاء فَهُوَ مُسْتَحقّ فِي ذمَّته لَا اتِّصَال لَهُ بِالْوَقْتِ قبل أَن يعزم على صرف الْمَشْرُوع فِي الْوَقْت إِلَيْهِ فَلم يتَوَقَّف إِمْسَاكه فِي أول النَّهَار عَلَيْهِ وَلم يزل تمكنه من أَدَاء مَا فِي ذمَّته بعزيمة تقترن بِالْجَمِيعِ من كل وَجه وَلِهَذَا لَا نصير إِلَى اعْتِبَار الْكل من وَجه وَاحِد فِيهِ وَلِهَذَا شرطنا الْأَهْلِيَّة فِي جَمِيع النَّهَار لِأَن مَعَ انعدام الْأَهْلِيَّة فِي أول النَّهَار لَا يثبت اسْتِحْقَاق الْأَدَاء والمصير إِلَى طلب الْكَمَال من وَجه لتقرر اسْتِحْقَاق الْأَدَاء فَإِذا لم تُوجد تِلْكَ الْأَهْلِيَّة فِي أول النَّهَار لم نشتغل بِطَلَب الْكَمَال من وَجه أَلا ترى أَنه يشْتَرط وجود الْأَهْلِيَّة لِلْعِبَادَةِ عِنْد النِّيَّة وَإِن سبقت وَقت الْأَدَاء وَلم يدل ذَلِك على اشْتِرَاط اقتران النِّيَّة بِرُكْن الْأَدَاء وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا فِي صَوْم النَّفْل إِنَّه لَا يتَأَدَّى بِدُونِ الْعَزِيمَة قبل الزَّوَال لِأَن الرُّكْن الَّذِي بِهِ يتَأَدَّى الصَّوْم كَمَا لَا يتجزى وجوبا لَا يتجزى وجودا وَلَا يتَصَوَّر الْأَدَاء إِلَّا بِكَمَالِهِ وَصفَة الْكَمَال لَا تثبت بِالنِّيَّةِ بعد الزَّوَال حَقِيقَة وَلَا حكما وَتثبت بِالنِّيَّةِ قبل الزَّوَال حكما بِاعْتِبَار إِقَامَة الْأَكْثَر مقَام الْكل وَلم يرد على مَا قُلْنَا الْإِمْسَاك الَّذِي ينْدب إِلَيْهِ الْمَرْء فِي يَوْم الْأَضْحَى إِلَى أَن يفرغ من الصَّلَاة فَإِن ذَلِك لَيْسَ بِصَوْم وَإِنَّمَا ندب إِلَيْهِ ليَكُون أول مَا يتَنَاوَلهُ فِي هَذَا الْيَوْم من القربان وَالنَّاس أضياف الله تَعَالَى يتَنَاوَل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 القربان فِي هَذَا الْيَوْم وَإِلَّا حسن أَن يكون أول مَا يتَنَاوَل مِنْهُ الضَّيْف طَعَام الضِّيَافَة وَلِهَذَا ثَبت هَذَا الحكم فِي حق أهل الْأَمْصَار دون أهل السوَاد فَلهم حق التَّضْحِيَة بعد طُلُوع الْفجْر وَلَيْسَ لأهل الْمصر أَن يضحوا إِلَّا بعد الصَّلَاة وَمن هَذَا الْجِنْس صَوْم الْكَفَّارَة وَالْقَضَاء فالوقت معيار لَهُ على معنى أَن مِقْدَاره يعرف بِهِ وَلكنه لَيْسَ بِسَبَب لوُجُوبه بِخِلَاف صَوْم رَمَضَان فالوقت هُنَاكَ معيار وَسبب الْوُجُوب على مَا نبينه فِي بَابه وَلِهَذَا لَا يتَحَقَّق قَضَاء صَوْم يَوْمَيْنِ فِي يَوْم وَاحِد وَأَدَاء كفارتين بِالصَّوْمِ فِي شَهْرَيْن لِأَن الْوَقْت معيار بِمَنْزِلَة الْكَيْل للمكيل فَكَمَا لَا يتَحَقَّق قفيزان فِي قفيز وَاحِد فِي حَالَة وَاحِدَة لَا يتَحَقَّق صَوْم يَوْمَيْنِ فِي يَوْم وَاحِد وَمن حكم هَذَا النَّوْع أَنه لَا يتَأَدَّى بِدُونِ الْعَزِيمَة مِنْهُ على الْأَدَاء فِي جَمِيع الْوَقْت وَأَنه لَا يتَحَقَّق الْفَوات فِيهِ مَا بَقِي حَيا وَقد قَررنَا هَذَا فِيمَا سبق وَأما الْقسم الثَّالِث وَهُوَ الْمُشكل فوقت الْحَج وَبَيَان الْإِشْكَال فِيهِ أَن الْحَج عبَادَة تتأدى بأركان مَعْلُومَة وَلَا يسْتَغْرق الْأَدَاء جَمِيع الْوَقْت فَمن هَذَا الْوَجْه (يشبه الصَّلَاة وَلَا يتَصَوَّر من الْأَدَاء فِي الْوَقْت فِي سنة وَاحِدَة إِلَّا حجَّة وَاحِدَة فَمن هَذَا الْوَجْه) يشبه الصَّوْم الَّذِي يكون الْوَقْت معيارا لَهُ وَفِي وقته اشْتِبَاه أَيْضا فالحج فرض الْعُمر وَوَقته أشهر الْحَج من سنة من سني الْعُمر وَأشهر الْحَج من السّنة الأولى تتَعَيَّن على وَجه لَا تفضل عَن الْأَدَاء وَبِاعْتِبَار أشهر الْحَج من السنين الَّتِي يَأْتِيهَا الْوَقْت تفضل عَن الْأَدَاء وَكَون ذَلِك من عمره مُحْتَمل فِي نَفسه فَكَانَ مشتبها ثمَّ يَتَرَتَّب على مَا قُلْنَا حكمان صِحَة الْأَدَاء بِاعْتِبَار الْوَقْت وَوُجُوب التَّعْجِيل بِكَوْن الْوَقْت مُتَعَيّنا وَفِي أحد الْحكمَيْنِ اتِّفَاق حَتَّى إِنَّه يكون مُؤديا فِي أَي سنة أَدَّاهُ للتيقن بِكَوْن ذَلِك من عمره ولاتساع الْوَقْت بإدراكه وَفِي الحكم الثَّانِي اخْتِلَاف فَعِنْدَ أبي يُوسُف رَحمَه الله الْوَقْت مُتَعَيّن قبل إِدْرَاك السّنة الثَّانِيَة فَلَا يَسعهُ التَّأْخِير وَعند مُحَمَّد رَحمَه الله الْوَقْت غير مُتَعَيّن مَا بَقِي حَيا فيسعه التَّأْخِير بِشَرْط أَن لَا يفوتهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وَمن حكمه أَنه بَعْدَمَا لزمَه الْأَدَاء بالتمكن مِنْهُ يصير مفوتا بِالْمَوْتِ قبل الْأَدَاء حَتَّى يُؤمر بِالْوَصِيَّةِ بِأَن يحجّ عَنهُ بِخِلَاف الصَّلَاة فَإِن هُنَاكَ بعد التَّمَكُّن من الْأَدَاء لَا يصير مفوتا إِذا مَاتَ فِي الْوَقْت قبل الْأَدَاء لِأَن الْوَقْت هُنَا مُقَدّر بعمره فبموته يتَحَقَّق مُضِيّ الْوَقْت وَقد تمكن من الْأَدَاء فَإِذا أخر حَتَّى مُضِيّ الْوَقْت كَانَ مفوتا وَهُنَاكَ الْوَقْت مُقَدّر بِزَمَان لَا يَنْتَهِي ذَلِك بِمَوْتِهِ فَلَا يكون هُوَ مفوتا بِتَأْخِير الْأَدَاء وَإِن مَاتَ لبَقَاء الْوَقْت فَلهَذَا لَا يلْزمه شَيْء وَيكون آثِما هُنَا إِذا مَاتَ بعد التَّمَكُّن بِتَأْخِير الْأَدَاء أما عِنْد أبي يُوسُف رَحمَه الله فَلِأَن وَقت الْأَدَاء كَانَ مُتَعَيّنا فالتأخير عَنهُ كَانَ تفويتا وَعند مُحَمَّد رَحمَه الله إِبَاحَة التَّأْخِير لَهُ كَانَ مُقَيّدا بِشَرْط وَهُوَ أَن يُؤَدِّيه فِي عمره فَإِذا انْعَدم هَذَا الشَّرْط كَانَ آثِما فِي التَّأْخِير لِأَنَّهُ تبين بِمَوْتِهِ أَن الْوَقْت كَانَ عينا وَأَن التَّأْخِير مَا كَانَ يَسعهُ بعد التَّمَكُّن من الْأَدَاء وَمن حكمه أَنه لَا يتَأَدَّى الْفَرْض بنية النَّفْل أما عِنْد مُحَمَّد رَحمَه الله فَلِأَن وَقت الْأَدَاء من عمره متسع يفضل عَن الْأَدَاء فَهُوَ كوقت الصَّلَاة وَعند أبي يُوسُف رَحمَه الله وَقت الْأَدَاء وَإِن كَانَ مُتَعَيّنا فالأداء يكون بأركان مَعْلُومَة فَيكون بِمَنْزِلَة الصَّلَاة بعد مَا تضيق الْوَقْت بهَا ثمَّ وَقت أَدَاء النَّفْل وَوقت أَدَاء الْفَرْض فِي الْحَج غير مُخْتَلف فَتَصِح مِنْهُ الْعَزِيمَة على أَدَاء النَّفْل فِيهِ وَبِه تنعدم الْعَزِيمَة على أَدَاء الْفَرْض وَبِدُون الْعَزِيمَة لَا يتَأَدَّى بِخِلَاف الصَّوْم فَلَا تصور لأَدَاء النَّفْل هُنَاكَ فِي الْوَقْت الْمعِين لأَدَاء الْفَرْض فتلغو نِيَّة النَّفْل هُنَاكَ وَيكون مُؤديا للْفَرض بعزيمة أصل النِّيَّة وَقَالَ الشَّافِعِي أَنا ألغي نِيَّته النَّفْل مِنْهُ أَيْضا لِأَنَّهُ نوع سفه فالحج لَا يتَأَدَّى إِلَّا بتحمل الْمَشَقَّة وَقطع الْمسَافَة وَلِهَذَا لم يجب فِي الْعُمر إِلَّا مرّة فنية النَّفْل قبل أَدَاء الْفَرْض تكون سفها وَالسَّفِيه عِنْدِي مَحْجُور عَلَيْهِ فتلغو نِيَّة النَّفْل بِهَذَا الطَّرِيق وَلَكِن بإلغاء نِيَّة النَّفْل لَا يَنْعَدِم أصل نِيَّته الْحَج لِأَن الصّفة تنفصل عَن الأَصْل فِي هَذِه الْعِبَادَة أَلا ترى أَن بانعدام صفة الصِّحَّة لَا يَنْعَدِم أصل الْإِحْرَام بِخِلَاف الصَّوْم فالصفة هُنَاكَ لَا تنفصل عَن الأَصْل أَلا ترى أَن بانعدام صفة الصِّحَّة يَنْعَدِم أصل الصَّوْم مَعَ أَن الْحَج قد يتَأَدَّى من غير عَزِيمَة كالمغمى عَلَيْهِ يحرم عَنهُ أَصْحَابه فَيصير هُوَ محرما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وَالرجل يحرم عَن أَبَوَيْهِ فَيصح وَإِن لم تُوجد الْعَزِيمَة مِنْهُمَا وَلَكنَّا نقُول الْوَاجِب عَلَيْهِ أَدَاء مَا هُوَ عبَادَة والمؤدى يكون عبَادَة وَقد بَينا أَن هَذَا الْوَصْف لَا يتَحَقَّق بِدُونِ اخْتِيَار يكون مِنْهُ بالعزم على الْأَدَاء وإعراضه عَن أَدَاء الْفَرْض بالعزم على أَدَاء النَّفْل يكون أبلغ من إعراضه عَن أَدَاء الْفَرْض بترك أصل الْعَزِيمَة وَفِي إِثْبَات الْحجر بِالطَّرِيقِ الَّذِي قَالَه انْتِفَاء اخْتِيَاره وَجعله مجبورا فِيهِ وَهَذَا يُنَافِي أَدَاء الْعِبَادَة فَيَعُود هَذَا القَوْل على مَوْضُوعه بِالنَّقْضِ وَأما الْإِحْرَام فعندنا شَرط الْأَدَاء بِمَنْزِلَة الطَّهَارَة للصَّلَاة وَلِهَذَا جَوَّزنَا تَقْدِيمه على وَقت الْحَج أَو أَقَمْنَا هُنَاكَ دلَالَة الِاسْتِعَانَة مقَام حَقِيقَة الِاسْتِعَانَة عِنْد الْحَاجة اسْتِحْسَانًا فَيصير الْعَزْم بِهِ على أَدَاء الْفَرْض مَوْجُودا حكما وَهَذَا الْمَعْنى يَنْعَدِم عِنْد الْعَزْم على النَّفْل وَمن حكمه أَنه يتَأَدَّى بِمُطلق نِيَّة الْحَج لَا بِاعْتِبَار أَنه يسْقط اشْتِرَاط نِيَّة التعين فِيهِ فَإِن الْوَقْت لما كَانَ قَابلا لأَدَاء الْفَرْض وَالنَّفْل فِيهِ لَا بُد من تعْيين الْفَرْض ليصير مؤدى وَلَكِن هَذَا التَّعْيِين ثَبت بِدلَالَة الْحَال فَإِن الْإِنْسَان فِي الْعَادة لَا يتَحَمَّل الْمَشَقَّة الْعَظِيمَة ثمَّ يشْتَغل بأَدَاء حجَّة أُخْرَى قبل أَدَاء حجَّة الْإِسْلَام وَدلَالَة الْعرف يحصل التَّعْيِين بهَا وَلَكِن إِذا لم يُصَرح بغَيْرهَا فَأَما مَعَ التَّصْرِيح يسْقط اعْتِبَار الْعرف كمن اشْترى بِدَرَاهِم مُطلقَة يتَعَيَّن نقد الْبَلَد بِدلَالَة الْعرف فَإِن صرح بِاشْتِرَاط نقد آخر عِنْد الشِّرَاء سقط اعْتِبَار ذَلِك الْعرف وَينْعَقد العقد بِمَا صرح بِهِ فصل فِي بَيَان حكم الْوَاجِب بِالْأَمر وَذَلِكَ نَوْعَانِ أَدَاء وَقَضَاء فالأداء تَسْلِيم عين الْوَاجِب بِسَبَبِهِ إِلَى مُسْتَحقّه قَالَ الله تَعَالَى {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا} وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أد الْأَمَانَة إِلَى من ائتمنك وَلَا تخن من خانك وَالْقَضَاء إِسْقَاط الْوَاجِب بِمثل من عِنْد الْمَأْمُور هُوَ حَقه قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام خَيركُمْ أحسنكم قَضَاء وَقَالَ رحم الله امْرأ سهل البيع وَالشِّرَاء سهل الْقَضَاء سهل الِاقْتِضَاء ويتبين هَذَا فِي الْمَغْصُوب رد الْغَاصِب عينه تَسْلِيم نفس الْوَاجِب عَلَيْهِ بِالْغَصْبِ ورد الْمثل بعد هَلَاك الْعين إِسْقَاط الْوَاجِب بِمثل من عِنْده فيسمى الأول أَدَاء وَالثَّانِي قَضَاء لحقه وَقد يدْخل النَّفْل فِي قسم الْأَدَاء على قَول من يَقُول مُقْتَضى الْأَمر النّدب أَو الْإِبَاحَة لِأَنَّهُ يسلم عين مَا ندب إِلَى تَسْلِيمه وَلَا يدْخل فِي قسم الْقَضَاء لِأَنَّهُ إِسْقَاط الْوَاجِب بِمثل من عِنْده وَلَا وجوب هُنَاكَ وَقد تسْتَعْمل عبارَة الْقَضَاء فِي الْأَدَاء مجَازًا لما فِيهِ من إِسْقَاط الْوَاجِب قَالَ الله تَعَالَى {فَإِذا قضيتم مَنَاسِككُم} وَقَالَ تَعَالَى {فَإِذا قضيت الصَّلَاة} وَقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 تسْتَعْمل عبارَة الْأَدَاء فِي الْقَضَاء مجَازًا لما فِيهِ من التَّسْلِيم إِلَّا أَن حَقِيقَة كل عبارَة مَا فسرناها بِهِ فَفِي الْأَدَاء معنى الِاسْتِقْصَاء وَشدَّة الرِّعَايَة فِي الْخُرُوج عَمَّا لزمَه وَذَلِكَ بِتَسْلِيم عين الْوَاجِب وَلَيْسَ فِي الْقَضَاء من معنى الِاسْتِقْصَاء وَشدَّة الرِّعَايَة شَيْء بل فِيهِ إِشَارَة إِلَى معنى التَّقْصِير من الْمَأْمُور وَذَلِكَ بِإِقَامَة مثل من عِنْده مقَام الْمَأْمُور بِهِ بعد فَوَاته وَاخْتلف مَشَايِخنَا فِي أَن وجوب الْقَضَاء بِالسَّبَبِ الَّذِي وَجب بِهِ الْأَدَاء أم بِدَلِيل آخر غير الْأَمر الَّذِي بِهِ وَجب الْأَدَاء (فالعراقيون يَقُولُونَ وجوب الْقَضَاء بِدَلِيل آخر غير الْأَمر الَّذِي بِهِ وَجب الْأَدَاء) لِأَن الْوَاجِب بِالْأَمر أَدَاء الْعِبَادَة وَلَا مدْخل للرأي فِي معرفَة الْعِبَادَة فَإِذا كَانَ نَص الْأَمر مُقَيّدا بِوَقْت كَانَ عبَادَة فِي ذَلِك الْوَقْت وَمعنى الْعِبَادَة إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي امْتِثَال الْأَمر وَفِي الْمُقَيد بِالْوَقْتِ لَا تصور لذَلِك بعد فَوَات الْوَقْت عرفنَا أَن الْوُجُوب بِدَلِيل مُبْتَدأ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى فِي الصَّوْم {فَعدَّة من أَيَّام أخر} وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام فِي الصَّلَاة من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا فليصلها إِذا ذكرهَا يُوضحهُ أَن الْأَدَاء بِفعل من الْمَأْمُور وَالْفِعْل الَّذِي يُوجد مِنْهُ فِي وَقت غير الْفِعْل الَّذِي يُوجد مِنْهُ فِي وَقت آخر فَإِذا كَانَ الْأَمر مُقَيّدا بِوَقْت لَا يتَنَاوَل فعل الْأَدَاء فِي وَقت آخر كمن اسْتَأْجر أَجِيرا فِي وَقت مَعْلُوم لعمل فمضي ذَلِك الْوَقْت لَا يلْزمه تَسْلِيم النَّفس لإِقَامَة الْعَمَل بِحكم ذَلِك العقد وَهَذَا لِأَن فِي التَّنْصِيص على التَّوْقِيت إِظْهَار فَضِيلَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الْوَقْت وَذَلِكَ لَا يحصل بِالْأَدَاءِ بعد مُضِيّ الْوَقْت فَعرفنَا أَنه إِن فَاتَ بِمُضِيِّ الْوَقْت فَإِنَّمَا يفوت على وَجه لَا يُمكن تَدَارُكه فَلَا يجب الْقَضَاء إِلَّا بِدَلِيل آخر وَأكْثر مَشَايِخنَا رَحِمهم الله على أَن الْقَضَاء يجب بِالسَّبَبِ الَّذِي بِهِ وَجب الْأَدَاء عِنْد فَوَاته وَهُوَ الْأَصَح فَإِن الشَّرْع لما نَص على الْقَضَاء فِي الصَّلَاة وَالصَّوْم كَانَ الْمَعْنى فِيهِ معقولا وَهُوَ أَن مثل الْمَأْمُور بِهِ فِي الْوَقْت مَشْرُوع حَقًا للْمَأْمُور بعد خُرُوج الْوَقْت وَخُرُوج الْوَقْت قبل الْأَدَاء لَا يكون مسْقطًا لأَدَاء الْوَاجِب فِي الْوَقْت بِعَيْنِه بل بِاعْتِبَار الْفَوات فيتقدر بِقدر مَا يتَحَقَّق فِيهِ الْفَوات وَهُوَ فَضِيلَة الْوَقْت فَلَا يبْقى ذَلِك مَضْمُونا عَلَيْهِ بعد مُضِيّ الْوَقْت إِلَّا فِي حق الْإِثْم إِذا تعمد التفويت فَأَما فِي أصل الْعِبَادَة التفويت لَا يتَحَقَّق بِمُضِيِّ الْوَقْت لكَون مثله مَشْرُوعا فِيهِ للْعَبد مُتَصَوّر الْوُجُود مِنْهُ حَقِيقَة وَحكما وَمَا يكون سُقُوطه للعجز بِسَبَب الْفَوات يتَقَدَّر بِقدر مَا يتَحَقَّق فِيهِ الْفَوات فَيبقى هُوَ مطالبا بِإِقَامَة الْمثل من عِنْده مقَام نفس الْوَاجِب بِالْأَمر وَهُوَ الْأَدَاء فِي الْوَقْت وَإِذا عقل هَذَا الْمَعْنى فِي الْمَنْصُوص عَلَيْهِ تعدى بِهِ الحكم إِلَى الْفَرْع وَهِي الْوَاجِبَات بِالنذرِ الموقت من الصَّوْم وَالصَّلَاة وَالِاعْتِكَاف وَهَذَا أشبه بأصول عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله فَإِنَّهُم قَالُوا لَو أَن قوما فَاتَتْهُمْ صَلَاة من صلوَات اللَّيْل فقضوها بِالنَّهَارِ بِالْجَمَاعَة جهر إمَامهمْ بِالْقِرَاءَةِ وَلَو فَاتَتْهُمْ صَلَاة من صلوَات النَّهَار فقضوها بِاللَّيْلِ لم يجْهر إمَامهمْ بِالْقِرَاءَةِ وَمن فَاتَتْهُ صَلَاة فِي السّفر فقضاها بعد الْإِقَامَة صلى رَكْعَتَيْنِ وَلَو فَاتَتْهُ حِين كَانَ مُقيما فقضاها فِي السّفر صلى أَرْبعا وَهَذَا لِأَن الْأَدَاء صَار مُسْتَحقّا بِالْأَمر فِي الْوَقْت وَنحن نعلم أَنه لَيْسَ الْمَقْصُود عين الْوَقْت فَمَعْنَى الْعِبَادَة فِي كَونه عملا بِخِلَاف هوى النَّفس أَو فِي كَونه تَعْظِيمًا لله تَعَالَى وثناء عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يخْتَلف باخْتلَاف الْأَوْقَات وَبَعْدَمَا صَار مَضْمُون التَّسْلِيم لَا يسْقط ذَلِك عَنهُ بترك الِامْتِثَال بل يَتَقَرَّر بِهِ حكم الضَّمَان إِلَّا أَن بِقدر مَا يتَحَقَّق الْعَجز عَن أَدَائِهِ بِالْمثلِ الَّذِي هُوَ قَائِم مقَامه يسْقط ضَرُورَة وَمَا وَرَاء ذَلِك يبْقى وَلِهَذَا قُلْنَا من فَاتَتْهُ صَلَاة من أَيَّام التَّكْبِير فقضاها بعد أَيَّام التَّكْبِير لم يكبر عقيبها لِأَن الْجَهْر بِالتَّكْبِيرِ دبر الصَّلَاة غير مَشْرُوع للْعَبد فِي غير أَيَّام التَّكْبِير بل هُوَ مَنْهِيّ عَنهُ لكَونه بِدعَة فبمضي الْوَقْت يتَحَقَّق الْفَوات فِيهِ فَيسْقط أصل الصَّلَاة مَشْرُوع لَهُ بعد أَيَّام التَّكْبِير فَيبقى الْوَاجِب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 بِاعْتِبَارِهِ وَكَذَلِكَ من فَاتَتْهُ الْجُمُعَة لم يقضها بعد مُضِيّ الْوَقْت لِأَن إِقَامَة الْخطْبَة مقَام رَكْعَتَيْنِ غير مَشْرُوع للْعَبد فِي غير ذَلِك الْوَقْت فبمضي الْوَقْت يتَحَقَّق الْعَجز فِيهِ وَتلْزَمهُ صَلَاة الظّهْر لِأَن مثله مَشْرُوع للْعَبد بعد مُضِيّ الْوَقْت وَمن نصر القَوْل الأول اسْتدلَّ بِمَا ذكره مُحَمَّد رَحمَه الله فِي الْجَامِع أَن من نذر أَن يعْتَكف شهر رَمَضَان فصَام وَلم يعْتَكف ثمَّ قضى اعْتِكَافه فِي الرمضان الثَّانِي لَا يجْزِيه عَن الْمَنْذُور وَلَو كَانَ وجوب الْقَضَاء بِمَا وَجب بِهِ الْأَدَاء وَهُوَ الْأَمر بِالْوَفَاءِ بِالنذرِ لجَاز لِأَن الثَّانِي مثل الأول فِي كَون الصَّوْم مَشْرُوعا فِيهِ مُسْتَحقّا عَلَيْهِ وَصِحَّة أَدَاء الِاعْتِكَاف بِهِ فَعرفنَا أَنه إِنَّمَا لم يجز لِأَن وجوب الْقَضَاء بِدَلِيل آخر وَهُوَ تَفْوِيت الْوَاجِب فِي الْوَقْت عِنْد مضيه على وَجه هُوَ مَقْدُور فِيهِ وَهَذَا السَّبَب يُوجب الِاعْتِكَاف دينا فِي ذمَّته فيلتحق باعتكاف يجب بِالنذرِ مُطلقًا عَن الْوَقْت فَلَا يتَأَدَّى بالاعتكاف فِي رَمَضَان وَلَكنَّا نقُول أصل النّذر أوجب عَلَيْهِ الِاعْتِكَاف ولوجوب الِاعْتِكَاف أثر فِي وجوب الصَّوْم بِاعْتِبَار أَنه شَرط فِيهِ وَشرط الشَّيْء تَابع لَهُ فموجب الأَصْل يكون مُوجبا لتَبعه إِلَّا أَنه امْتنع وجوب الصَّوْم بِهِ لعَارض على شرف الزَّوَال وَهُوَ اتِّصَاله بِوَقْت لَا يجوز أَن يجب الصَّوْم فِيهِ بِإِيجَاب من العَبْد فبمضي الْوَقْت قبل أَن يعْتَكف زَالَ هَذَا الِاتِّصَال وَتحقّق وجوب الصَّوْم لوُجُوب الِاعْتِكَاف فِي ذمَّته ثمَّ الصَّوْم الْوَاجِب فِي الذِّمَّة لَا يتَأَدَّى بِصَوْم رَمَضَان وَإِنَّمَا لم يجب عَلَيْهِ الصَّوْم لاتصال حكم الْأَدَاء بِصَوْم رَمَضَان وَقد انْقَطع ذَلِك حِين صَامَ فِي الرمضان الأول وَلم يعْتَكف حَتَّى إِنَّه لَو لم يصم وَلم يعْتَكف ثمَّ اعْتكف فِي قَضَاء الصَّوْم خرج عَن عُهْدَة الْمَنْذُور لبَقَاء الِاتِّصَال حِين لم يصم فِي رَمَضَان وَإِن تحقق مُضِيّ الْوَقْت وَبِهَذَا تبين فَسَاد مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ لِأَن وجوب الْقَضَاء لَو كَانَ بِدَلِيل آخر كَانَ سَببا آخر وَالنّذر بالاعتكاف مَا كَانَ مُتَّصِلا بِهِ فَلَا يتَأَدَّى بِاعْتِبَارِهِ كَمَا لَا يتَأَدَّى فِي الرمضان الثَّانِي وَإِن صَامَهُ يقرره أَن امْتنَاع وجوب الصَّوْم عَلَيْهِ بِالنذرِ لِمَعْنى شرف الْوَقْت الْمُضَاف إِلَيْهِ النّذر وَقد بَينا أَن شرف الْوَقْت يفوت بمضيه على وَجه لَا يُمكن تَدَارُكه فبفواته يَنْعَدِم مَا كَانَ مُتَعَلقا بِهِ وَهُوَ امْتنَاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وجوب الصَّوْم بِالنذرِ بالاعتكاف حَتَّى قَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله فِي رِوَايَة يبطل نَذره لِأَنَّهُ يبْقى اعتكافا بِغَيْر صَوْم وَذَلِكَ لَا يكون وَاجِبا وَقُلْنَا يجب الصَّوْم لوُجُوب الِاعْتِكَاف لِأَن بانعدام التبع لَا يَنْعَدِم الأَصْل وبوجوب الأَصْل يجب التبع عِنْد زَوَال الْمَانِع قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَاعْلَم بِأَن الْأَدَاء فِي الْأَمر الموقت يكون فِي الْوَقْت وَفِي غير الموقت يكون الْأَدَاء فِي الْعُمر لِأَن جَمِيع الْعُمر فِيهِ بِمَنْزِلَة الْوَقْت فِيمَا هُوَ موقت وَهُوَ أَنْوَاع ثَلَاثَة كَامِل وقاصر وَأَدَاء يشبه الْقَضَاء حكما فالكامل هُوَ الْأَدَاء الْمَشْرُوع بِصفتِهِ كَمَا أَمر بِهِ والقاصر بِأَن يتَمَكَّن نُقْصَان فِي صفته وَذَلِكَ مثل الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة بِالْجَمَاعَة فَهِيَ أَدَاء مَحْض وَالْأَدَاء من الْمُنْفَرد يكون قاصرا لنُقْصَان فِي صفة الْأَدَاء فَإِنَّهُ مَأْمُور بِالْأَدَاءِ بِالْجَمَاعَة وَلِهَذَا لَا يكون الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ عَزِيمَة فِي حق الْمُنْفَرد فِي صَلَاة اللَّيْل لِأَن ذَلِك من شبه الْأَدَاء الْمَحْض وَمن اقْتدى بِالْإِمَامِ من أول الصَّلَاة وأداها مَعَه كَانَ ذَلِك أَدَاء مَحْضا وَلَو اقْتدى بِهِ فِي الْقعدَة الْأَخِيرَة ثمَّ قَامَ وَأدّى الصَّلَاة كَانَ ذَلِك أَدَاء قاصرا لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهَا فِي الْوَقْت وَلكنه مُنْفَرد فِيمَا يُؤَدِّي لِأَن اقتداءه بِالْإِمَامِ فِيمَا فرغ الإِمَام من أَدَائِهِ لَا يتَحَقَّق فَكَانَ مُنْفَردا فِي الْأَدَاء وَإِن كَانَ مقتديا فِي التَّحْرِيمَة لِأَنَّهُ أدْركهَا مَعَ الإِمَام وَلِهَذَا لَا يَصح اقْتِدَاء الْغَيْر بِهِ وَتلْزَمهُ الْقِرَاءَة وَسُجُود السَّهْو لَو سَهَا لكَونه مُنْفَردا وَأَدَاء الْمُنْفَرد قَاصِر وَلِهَذَا لَا يجْهر بِالْقِرَاءَةِ وَلَو اقْتدى بِالْإِمَامِ فِي أول الصَّلَاة ثمَّ نَام خَلفه حَتَّى فرغ الإِمَام أَو سبقه الْحَدث فَذهب وَتَوَضَّأ ثمَّ جَاءَ بعد فرَاغ الإِمَام فَهُوَ مؤد يشبه أَدَاؤُهُ الْقَضَاء فِي الحكم لِأَن بِاعْتِبَار بَقَاء الْوَقْت هُوَ مؤد وَبِاعْتِبَار أَنه الْتزم أَدَاء الصَّلَاة مَعَ الإِمَام حِين تحرم مَعَه كَانَ هُوَ قَاضِيا لما فَاتَهُ بفراغ الإِمَام وَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ فِي حكم الْمُقْتَدِي حَتَّى لَا تلْزمهُ الْقِرَاءَة وَلَو سَهَا لَا يلْزمه سُجُود السَّهْو لِأَن الْقَضَاء بِصفة الْأَدَاء وَاجِب بِمَا وَجب بِهِ الْأَدَاء فَإِن قيل هَذَا على الْعَكْس فَصَاحب الشَّرْع جعل الْمَسْبُوق قَاضِيا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام وَمَا فاتكم فاقضوا فَكيف يَسْتَقِيم جعل الْمَسْبُوق مُؤديا وَجعل اللَّاحِق قَاضِيا حكما قُلْنَا قد بَينا أَن اسْتِعْمَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 إِحْدَى العبارتين مَكَان الْأُخْرَى مجَازًا جَائِز وَإِنَّمَا سمي الْمَسْبُوق قَاضِيا مجَازًا لما فِي فعله من إِسْقَاط الْوَاجِب أَو سَمَّاهُ قَاضِيا بِاعْتِبَار حَال الإِمَام وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْله وَمَا فاتكم فاقضوا وَنحن إِنَّمَا نجعله مُؤديا أَدَاء قاصرا بِاعْتِبَار حَاله وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا لَو أَن مُسَافِرًا اقْتدى بمسافر ونام خَلفه ثمَّ اسْتَيْقَظَ وَنوى الْإِقَامَة وَهُوَ فِي مَوضِع الْإِقَامَة أَو سبقه الْحَدث فَرجع إِلَى مصره وَتَوَضَّأ فَإِن كَانَ ذَلِك قبل فرَاغ الإِمَام من صلَاته صلى أَربع رَكْعَات وَإِن كَانَ بعد فَرَاغه صلى رَكْعَتَيْنِ إِلَّا أَن يتَكَلَّم فَحِينَئِذٍ يُصَلِّي أَرْبعا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة القَاضِي فِي الْإِتْمَام حكما وَوُجُوب الْقَضَاء بِالسَّبَبِ الَّذِي بِهِ وَجب الْأَدَاء فَلَا يتَغَيَّر إِلَّا بِمَا يتَغَيَّر بِهِ الأَصْل وَقبل فرَاغ الإِمَام نِيَّة الْإِقَامَة (وَدخُول مَوضِع الْإِقَامَة) مغير للْفَرض فِي حق الأَصْل وَهُوَ الإِمَام فَيكون مغيرا فِي حق من يقْضِي ذَلِك الأَصْل وَبعد الْفَرَاغ نِيَّة الْإِقَامَة وَدخُول الْمصر غير مغير للْفَرض فِي حق الأَصْل فَكَذَلِك لَا يُغير فِي حق من يقْضِي ذَلِك الأَصْل إِلَّا أَن يتَكَلَّم فَحِينَئِذٍ يَنْعَدِم معنى الْقَضَاء لِخُرُوجِهِ بالْكلَام من تحريمة الْمُشَاركَة وَهُوَ الْمُؤَدِّي لبَقَاء الْوَقْت فيتغير فَرْضه بنية الْإِقَامَة وَلَو كَانَ مَسْبُوقا صلى أَرْبعا فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ مؤد إتْمَام صلَاته أَدَاء قاصرا سَوَاء تكلم أَو لم يتَكَلَّم فرغ الإِمَام أَو لم يفرغ كَانَت نِيَّة الْإِقَامَة مُغيرَة للْفَرض لكَونه مُؤديا بِاعْتِبَار بَقَاء الْوَقْت وَأما الْقَضَاء فَهُوَ نَوْعَانِ بِمثل مَعْقُول كَمَا بَينا وبمثل غير مَعْقُول كالفدية فِي حق الشَّيْخ الفاني مَكَان الصَّوْم وإحجاج الْغَيْر بِمَالِه عِنْد فَوَات الْأَدَاء بِنَفسِهِ لعَجزه فَإِن ذَلِك ثَابت بِالنَّصِّ قَالَ الله تَعَالَى {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة طَعَام مِسْكين} أَي لَا يطيقُونَهُ هَكَذَا نقل عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَفِي الْحَج حَدِيث الخثعمية حَيْثُ قَالَت يَا رَسُول الله إِن فَرِيضَة الله تَعَالَى على عباده فِي الْحَج أدْركْت أبي شَيخا كَبِيرا لَا يَسْتَطِيع أَن يسْتَمْسك على الرَّاحِلَة أفيجزىء أَن أحج عَنهُ فَقَالَ أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين فقضيته أَكَانَ يقبل مِنْك فَقَالَت نعم فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام الله أَحَق أَن يقبل ثمَّ لَا مماثلة بَين الصَّوْم وَبَين الْفِدْيَة صُورَة وَلَا معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وَكَذَلِكَ لَا مماثلة بَين دفع المَال إِلَى من ينْفق على نَفسه فِي طَرِيق الْحَج وَبَين مُبَاشرَة أَدَاء الْحَج وَسُقُوط الْوَاجِب عَن الْمَأْمُور بِاعْتِبَار ذَلِك فَأَما أصل الْأَعْمَال يكون من الْحَاج دون المحجوج عَنهُ فَهُوَ قَضَاء بِمثل غير مَعْقُول وَمَا يكون بِهَذِهِ الصّفة لَا يَتَأَتَّى تَعديَة الحكم فِيهِ إِلَى الْفُرُوع فَيقْتَصر على مورد النَّص وَلِهَذَا قُلْنَا إِن النُّقْصَان الَّذِي يتَمَكَّن فِي الصَّلَاة بترك الِاعْتِدَال فِي الْأَركان لَا يضمن بِشَيْء سوى الْإِثْم لِأَنَّهُ لَيْسَ لذَلِك الْوَصْف مُنْفَردا عَن الأَصْل مثل صُورَة وَلَا معنى وَلذَلِك قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رحمهمَا الله فِيمَن لَهُ مِائَتَا دِرْهَم جِيَاد فَأدى زَكَاتهَا خَمْسَة زُيُوفًا لَا يلْزمه شَيْء آخر لِأَنَّهُ لَيْسَ لصفة الْجَوْدَة الَّتِي تحقق فِيهَا الْفَوات مثل صُورَة وَلَا معنى من حَيْثُ الْقيمَة فَإِنَّهَا لَا تتقوم شرعا عِنْد الْمُقَابلَة بجنسها وَقَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله يلْزمه أَدَاء الْفضل احْتِيَاطًا لِأَن سُقُوط قيمَة الْجَوْدَة فِي حكم الرِّبَا للْحَاجة إِلَى جعل الْأَمْوَال أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَة قطعا وَمعنى الرِّبَا لَا يتَحَقَّق فِيمَا وَجب عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ لله تَعَالَى بِمثلِهِ فِي صفة الْمَالِيَّة حَقِيقَة وَيقوم مقَامه فِي أَدَاء الْوَاجِب بِهِ احْتِيَاطًا وعَلى هَذَا نقُول رمي الْجمار يسْقط بِمُضِيِّ الْوَقْت لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مثل مَعْقُول صُورَة وَلَا معنى فَإِنَّهُ لم يشرع قربَة للْعَبد فِي غير ذَلِك الْوَقْت فَإِن قيل كَيفَ يَسْتَقِيم وَقد أوجبتم الدَّم عَلَيْهِ بِاعْتِبَار ترك رمي الْجمار قُلْنَا إِيجَاب الدَّم عَلَيْهِ لَا بطرِيق أَنه مثل للرمي قَائِم مقَامه بل لِأَنَّهُ جبر لنُقْصَان تمكن فِي نُسكه بترك الرَّمْي وجبر نُقْصَان النّسك بِالدَّمِ مَعْلُوم بِالنَّصِّ قَالَ الله تَعَالَى {ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} فَإِن قيل فقد جعلتم الْفِدْيَة مَشْرُوعَة مَكَان الصَّلَاة بِالْقِيَاسِ على الصَّوْم وَلَو كَانَ ذَلِك غير مَعْقُول الْمَعْنى لم يجز تَعديَة حكمه إِلَى الصَّلَاة بِالرَّأْيِ قُلْنَا لَا نعدي ذَلِك الحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 إِلَى الصَّلَاة بِالرَّأْيِ وَلَكِن يحْتَمل أَن يكون فِيهِ معنى مَعْقُول وَإِن كُنَّا لَا نقف عَلَيْهِ وَالصَّلَاة نَظِير الصَّوْم فِي الْقُوَّة أَو أهم مِنْهُ وَيحْتَمل أَنه لَيْسَ فِيهِ معنى مَعْقُول فَإِن مَا لَا نقف عَلَيْهِ لَا يكون علينا الْعَمَل بِهِ فلاحتمال الْوَجْه الأول يفْدي مَكَان الصَّلَاة ولاحتمال الْوَجْه الثَّانِي لَا يجب الْفِدَاء وَإِن فدى لم يكن بِهِ بَأْس فأمرناه بذلك احْتِيَاطًا لِأَن التَّصَدُّق بِالطَّعَامِ لَا يَنْفَكّ عَن معنى الْقرْبَة وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أتبع السَّيئَة الْحَسَنَة تمحها وَلِهَذَا لَا نقُول فِي الْفِدْيَة عَن الصَّلَاة إِنَّهَا جَائِزَة قطعا وَلَكنَّا نرجو الْقبُول من الله فضلا وَقَالَ مُحَمَّد فِي الزِّيَادَات يجْزِيه ذَلِك إِن شَاءَ الله وَكَذَلِكَ قَالَ فِي أَدَاء الْوَارِث عَن الْمُورث بِغَيْر أمره فِي الصَّوْم يجْزِيه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وعَلى هَذَا الأَصْل حكم الْأُضْحِية فالتقرب بإراقة الدَّم عرف بِنَصّ غير مَعْقُول الْمَعْنى فَيفوت بِمُضِيِّ الْوَقْت لِأَن مثله غير مَشْرُوع قربَة للْعَبد فِي غير ذَلِك الْوَقْت فَإِن قيل فعندكم يجب التَّصَدُّق بِالْقيمَةِ بعد مُضِيّ أَيَّام النَّحْر وَمَا ذَاك إِلَّا بِاعْتِبَار إِقَامَة الْقيمَة مقَام مَا يُضحي بِهِ وَقد أثبتم ذَلِك بِالرَّأْيِ قُلْنَا لَا كَذَلِك وَلَكِن يحْتَمل أَن يكون الْمَقْصُود بِمَا هُوَ الْوَاجِب فِي الْوَقْت إِيصَال مَنْفَعَة اللَّحْم إِلَى الْفُقَرَاء إِلَّا أَن الشَّرْع أمره بإراقة الدَّم لما فِيهَا من تطييب اللَّحْم وَتَحْقِيق معنى الضِّيَافَة فَالنَّاس أضياف الله تَعَالَى بلحوم الْأَضَاحِي فِي هَذِه الْأَيَّام وَيحْتَمل أَن يكون الْمَقْصُود إِرَاقَة الدَّم الَّذِي هُوَ نُقْصَان للمالية عِنْد مُحَمَّد رَحمَه الله وتفويت للمالية عِنْد أبي يُوسُف رَحمَه الله يتَبَيَّن ذَلِك بِالشَّاة الْمَوْهُوبَة إِذا ضحى بهَا الْمَوْهُوب لَهُ فَإِن الْوَاهِب لَا يرجع فِيهَا عِنْد أبي يُوسُف رَحمَه الله وَله أَن يرجع فِيهَا عِنْد مُحَمَّد رَحمَه الله لِأَنَّهَا نُقْصَان مَحْض إِلَّا أَن الِاحْتِمَال سَاقِط الِاعْتِبَار فِي مُقَابلَة النَّص فَفِي أَيَّام النَّحْر هُوَ قَادر على أَدَاء الْمَنْصُوص عَلَيْهِ بِعَيْنِه فَلَا يُصَار إِلَى الِاحْتِمَال بِإِقَامَة الْقيمَة مقَامه وَبعد مُضِيّ أَيَّام النَّحْر قد تحقق الْعَجز عَن أَدَاء الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فجَاء أَوَان اعْتِبَار الِاحْتِمَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وَاحْتِمَال الْوَجْه الأول يلْزمه التَّصَدُّق بِالْقيمَةِ لِأَن ذَلِك قربَة مَشْرُوعَة لَهُ فِي غير أَيَّام النَّحْر وَالْمعْنَى فِيهِ مَعْقُول وَالْأَخْذ بِالِاحْتِيَاطِ فِي بَاب الْعِبَادَات أصل فلاعتبار هَذَا الِاحْتِمَال ألزمناه التَّصَدُّق بِالْقيمَةِ لَا ليقوم ذَلِك مقَام إِرَاقَة الدَّم وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله من أدْرك الإِمَام فِي الرُّكُوع فِي صَلَاة الْعِيد لَا يَأْتِي بالتكبيرات فِي الرُّكُوع لِأَن محلهَا الْقيام وَقد فَاتَ وَمثل الْفَائِت غير مَشْرُوع لَهُ فِي حَالَة الرُّكُوع ليقيمه مقَام مَا عَلَيْهِ بطرِيق الْقَضَاء فَيتَحَقَّق الْفَوات فِيهِ وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله حَال الرُّكُوع مشبه بِحَالَة الْقيام لِاسْتِوَاء النّصْف الْأَسْفَل فِي الرُّكُوع وَبِه يُفَارق الْقَائِم الْقَاعِد فباعتبار هَذَا الشّبَه لَا يتَحَقَّق الْفَوات وتكبير الرُّكُوع مَحْسُوب من تَكْبِيرَات الْعِيد وَهُوَ مؤدي فِي حَالَة الِانْتِقَال فَإِذا كَانَت هَذِه الْحَالة محلا لبَعض تَكْبِيرَات الْعِيد نَجْعَلهَا عِنْد الْحَاجة محلا لجَمِيع التَّكْبِيرَات احْتِيَاطًا وعَلى هَذَا لَو ترك قِرَاءَة الْفَاتِحَة وَالسورَة فِي الْأَوليين قَضَاهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ وجهر لِأَن مَحل أَدَاء ركن الْقِرَاءَة الْقيام الَّذِي هُوَ ركن الصَّلَاة إِلَّا أَنه تعين الْقيام فِي الْأَوليين لذَلِك بِدَلِيل مُوجب للْعَمَل وَهُوَ خبر الْوَاحِد وَالْقِيَام فِي الْأُخْرَيَيْنِ مثل الْقيام فِي الْأَوليين فِي كَونه ركن الصَّلَاة ولهذه المشابهة لَا يتَحَقَّق الْفَوات وَيَقْضِي الْقِرَاءَة فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَلَو قَرَأَ الْفَاتِحَة فِي الْأَوليين وَلم يقْرَأ السُّورَة قضى السُّورَة فِي الْأُخْرَيَيْنِ لاعْتِبَار هَذَا الشّبَه أَيْضا وَالْقِيَام فِي الْأُخْرَيَيْنِ غير مَحل لقِرَاءَة السُّورَة أَدَاء وَهُوَ مَحل لقِرَاءَة السُّورَة قَضَاء بِالْمَعْنَى الَّذِي بَينا وَلَو قَرَأَ السُّورَة فِي الْأَوليين وَلم يقْرَأ الْفَاتِحَة لم يقْض الْفَاتِحَة فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِأَن الْقيام فِي الْأُخْرَيَيْنِ مَحل للفاتحة أَدَاء فَلَو قَرَأَهَا على وَجه الْقَضَاء كَانَ مغيرا بِهِ مَا هُوَ مَشْرُوع فِي صلَاته مَعَ وجود حَقِيقَة الْأَدَاء وَذَلِكَ لَيْسَ فِي ولَايَة العَبْد فَيتَحَقَّق فَوَات قِرَاءَة الْفَاتِحَة بِتَرْكِهَا فِي الْأَوليين لَا إِلَى خلف فَلَا بُد من القَوْل بسقوطها عَنهُ إِذْ لَا مثل لَهَا صُورَة أَو معنى ليقام مقَامهَا وَهَذِه الْأَقْسَام كلهَا تتَحَقَّق فِي حُقُوق الْعباد أَيْضا أما بَيَان الْأَدَاء الْمَحْض فَهُوَ فِي تَسْلِيم عين الْمَغْصُوب إِلَى الْمَغْصُوب مِنْهُ على الْوَجْه الَّذِي غصبه وَتَسْلِيم عين الْمَبِيع إِلَى المُشْتَرِي على الْوَجْه الَّذِي اقْتَضَاهُ العقد وَيتَفَرَّع عَلَيْهِ مَا لَو بَاعَ الْغَاصِب الْمَغْصُوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 من الْمَغْصُوب مِنْهُ أَو وهبه لَهُ وَسلمهُ فَإِنَّهُ يكون أَدَاء الْعين الْمُسْتَحق بِسَبَبِهِ وَيَلْغُو مَا صرح بِهِ وَكَذَلِكَ لَو أَن المُشْتَرِي شِرَاء فَاسِدا بَاعَ الْمَبِيع من البَائِع بعد الْقَبْض أَو وهبه وَسلمهُ يكون أَدَاء الْعين الْمُسْتَحق بِسَبَب فَسَاد البيع وعَلى هَذَا قُلْنَا لَو أطْعم الْغَاصِب الْمَغْصُوب مِنْهُ الطَّعَام الْمَغْصُوب أَو ألبسهُ الثَّوْب الْمَغْصُوب وَهُوَ لَا يعلم بِهِ فَإِنَّهُ يكون ذَلِك أَدَاء للعين الْمُسْتَحق بِالْغَصْبِ ويتأكد ذَلِك بِإِتْلَاف الْعين فَلَا يبْقى بعد ذَلِك للْمَغْصُوب مِنْهُ عَلَيْهِ شَيْء وَالشَّافِعِيّ أَبى ذَلِك فِي أحد قوليه لِأَن أَدَاء الْمُسْتَحق مَأْمُور بِهِ شرعا وَالْمَوْجُود مِنْهُ غرور فَلَا يَجْعَل ذَلِك أَدَاء للْمَأْمُور وَلَكِن يَجْعَل اسْتِعْمَالا مِنْهُ للْمَغْصُوب مِنْهُ فِي التَّنَاوُل فَكَأَنَّهُ تنَاول لنَفسِهِ فيتقرر عَلَيْهِ الضَّمَان وَهَذَا ضَعِيف فالغرور فِي إخْبَاره أَنه طَعَامه وَأَدَاء الْوَاجِب فِي وضع الطَّعَام بَين يَدَيْهِ وتمكينه مِنْهُ وهما غيران وبالقول إِنَّمَا جَاءَ الْغرُور بِجَهْل الْمَغْصُوب مِنْهُ لَا لنُقْصَان فِي تَمْكِينه فَلَا يخرج بِهِ من أَن يكون فعله أَدَاء لما هُوَ الْمُسْتَحق كَمَا لَو اشْترى عبدا ثمَّ قَالَ البَائِع للْمُشْتَرِي أعتق عَبدِي هَذَا وَأَشَارَ إِلَى الْمَبِيع فَأعْتقهُ المُشْتَرِي وَهُوَ لَا يعلم بِهِ فَإِنَّهُ يكون قَابِضا وَإِن كَانَ هُوَ مغرورا بِمَا أخبرهُ البَائِع بِهِ وَلَكِن قَبضه بِالْإِعْتَاقِ وَخبر البَائِع وَجَهل المُشْتَرِي غير مُؤثر فِي ذَلِك فَبَقيَ إِعْتَاقه قبضا تَاما وَمن الْأَدَاء التَّام تَسْلِيم الْمُسلم فِيهِ وَبدل الصّرْف فَإِن ذَلِك أَدَاء الْمُسْتَحق بِسَبَبِهِ حكما بطرِيق أَن الِاسْتِبْدَال مُتَعَذر فِيهِ شرعا قبل الْقَبْض فَيجْعَل كَأَن الْمَقْبُوض عين مَا تنَاوله العقد حكما وَإِن كَانَ غَيره فِي الْحَقِيقَة لِأَن العقد تنَاول الدّين والمقبوض عين وَأما الْأَدَاء الْقَاصِر وَهُوَ رد الْمَغْصُوب مَشْغُولًا بِالدّينِ أَو الْجِنَايَة بِسَبَب كَانَ مِنْهُ عِنْد الْغَاصِب وَمعنى الْقُصُور فِيهِ أَنه أَدَّاهُ لَا على الْوَصْف الَّذِي اسْتحق عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ فلوجود أصل الْأَدَاء قُلْنَا إِذا هلك فِي يَد الْمَالِك قبل الدّفع إِلَى ولي الْجِنَايَة برىء الْغَاصِب ولقصور فِي الصّفة قُلْنَا إِذا دفع إِلَى ولي الْجِنَايَة أَو بيع فِي الدّين يرجع الْمَالِك على الْغَاصِب بِقِيمَتِه كَأَن الرَّد لم يُوجد فَكَذَلِك البَائِع إِذا سلم الْمَبِيع وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 مُبَاح الدَّم فَهَذَا أَدَاء قَاصِر لِأَنَّهُ سلمه على غير الْوَصْف الَّذِي هُوَ مُقْتَضى العقد فَإِن هلك فِي يَد المُشْتَرِي لزمَه الثّمن لوُجُود أصل الْأَدَاء وَإِن قتل بِالسَّبَبِ الَّذِي صَار مُبَاح الدَّم رَجَعَ بِجَمِيعِ الثّمن عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله لِأَن الْأَدَاء كَانَ قاصرا فَإِذا تحقق الْفَوات بِسَبَب يُضَاف إِلَى مَا بِهِ صَار الْأَدَاء قاصرا جعل كَأَن الْأَدَاء لم يُوجد وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله الْأَدَاء قَاصِر لعيب فِي الْمحل فَإِن حل الدَّم فِي الْمَمْلُوك عيب وقصور الْأَدَاء بِسَبَب الْعَيْب يعْتَبر مَا بَقِي الْمحل قَائِما فَأَما إِذا فَاتَ بِسَبَب عيب حدث عِنْد المُشْتَرِي لم ينْتَقض بِهِ أصل الْأَدَاء وَقد تلف هُنَا بقتل أحدثه الْقَاتِل عِنْد المُشْتَرِي بِاخْتِيَارِهِ وَلَكِن أَبُو حنيفَة رَحمَه الله قَالَ اسْتِحْقَاق هَذَا الْقَتْل كَانَ بِالسَّبَبِ الَّذِي بِهِ صَار الْأَدَاء قاصرا فيحال بالتلف على أصل السَّبَب وَمن الْأَدَاء الْقَاصِر إِيفَاء بدل الصّرْف أَو رَأس مَال السّلم إِذا كَانَ زُيُوفًا فَإِنَّهُ قَاصِر بِاعْتِبَار أَنه دون حَقه فِي الصّفة وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله لَهُ أَن يرد الْمَقْبُوض فِي الْمجْلس ويطالبه بالجياد وَلَو هلك الْمَقْبُوض فِي يَده قبل أَن يردهُ لم يرجع بِشَيْء لِأَن بِاعْتِبَار الأَصْل كَانَ فعله أَدَاء فَمَا لم يَنْفَسِخ ذَلِك الْفِعْل لَا يَنْعَدِم معنى الْأَدَاء فِيهِ وَبعد هَلَاكه تعذر فسخ الْأَدَاء فِي الْهَالِك وَلَا يُمكن إِيجَاب مثله لِأَن الْمَقْبُوض ملك الْقَابِض فَلَا يكون مَضْمُونا عَلَيْهِ وَصفَة الْجَوْدَة مُنْفَرِدَة عَن الأَصْل لَيْسَ لَهَا مثل لَا صُورَة وَلَا معنى فِي أَمْوَال الرِّبَا فَسقط حَقه وَقَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله أستحسن أَن يرد مثل الْمَقْبُوض (لِأَن حَقه فِي الصّفة مرعي وتتعذر رعايته مُنْفَصِلا عَن الأَصْل فَيرد مثل الْمَقْبُوض) حَتَّى يُقَام ذَلِك مقَام رد الْعين عِنْد تعذر رد الْعين وينعدم بِهِ أصل الْأَدَاء فيطالبه بِالْأَدَاءِ الْمُسْتَحق بِسَبَبِهِ قَالَ وَهَذَا بِخِلَاف الزَّكَاة فِيمَا قبض الْفَقِير هُنَاكَ لَا يُمكن أَن يَجْعَل مَضْمُونا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ فِي الحكم كَأَنَّهُ بِقَبْضِهِ كِفَايَة لَهُ من الله تَعَالَى لَا من الْمُعْطِي وَبِدُون رد الْمثل يتَعَذَّر اعْتِبَار الْجَوْدَة مُنْفَرِدَة عَن الأَصْل أَلا ترى أَن الْمَقْبُوض وَإِن كَانَ قَائِما فِي يَده لَا يتَمَكَّن من رده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وَمن الْأَدَاء الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَة الْقَضَاء حكما أَن يتَزَوَّج امْرَأَة على عبد لغيره بِعَيْنِه ثمَّ يَشْتَرِي ذَلِك العَبْد فيسلمه إِلَيْهَا فَإِن ذَلِك يكون أَدَاء للعين الْمُسْتَحق بِسَبَبِهِ وَهُوَ التَّسْمِيَة فِي العقد وَلِهَذَا لَا يكون لَهَا أَن تمْتَنع من الْقبُول وَهَذَا لِأَن كَون الْمُسَمّى مَمْلُوكا لغير الزَّوْج لَا يمْنَع صِحَة التَّسْمِيَة وَثُبُوت الِاسْتِحْقَاق بهَا على الزَّوْج أَلا ترى أَنه تلْزمهُ الْقيمَة إِذا تعذر تَسْلِيم الْعين وَمَا ذَلِك إِلَّا لاسْتِحْقَاق الأَصْل غير أَن هَذَا أَدَاء هُوَ فِي معنى الْقَضَاء حكما فَإِن مَا اشْتَرَاهُ الزَّوْج قبل أَن يسلم إِلَيْهَا مَمْلُوك لَهُ حَتَّى لَو تصرف فِيهِ بِالْإِعْتَاقِ ينفذ تصرفه وَلَو أَعتَقته الْمَرْأَة قبل التَّسْلِيم إِلَيْهَا لَا ينْفد عتقهَا وَلَو كَانَ أَبَاهَا لم يعْتق عَلَيْهَا فَهَذَا التَّسْلِيم من الزَّوْج أَدَاء مَال من عِنْده مَكَان مَا اسْتحق عَلَيْهِ فَمن هَذَا الْوَجْه يشبه الْقَضَاء وَلَو قضى القَاضِي لَهَا بِالْقيمَةِ قبل أَن يَتَمَلَّكهُ الزَّوْج ثمَّ تملكه فسلمه إِلَيْهَا لم يكن ذَلِك أَدَاء مُسْتَحقّا بِالتَّسْمِيَةِ وَلَكِن يكون مُبَادلَة بِالْقيمَةِ الَّتِي تقرر حَقّهَا فِيهِ حَتَّى إِنَّهَا إِذا لم ترض بذلك لَا يكون للزَّوْج أَن يجبرها على الْقبُول بِخِلَاف مَا قبل الْقَضَاء لَهَا بِالْقيمَةِ وَأما الْقَضَاء بِمثل مَعْقُول فبيانه فِي ضَمَان الغصوب والمتلفات فَإِن الْغَاصِب يُؤَدِّي مَالا من عِنْده وَهُوَ مثل لما كَانَ مُسْتَحقّا عَلَيْهِ بِسَبَب الْغَصْب وَهُوَ نَوْعَانِ مثل صُورَة وَمعنى كَمَا فِي الْمكيل وَالْمَوْزُون وَمثل معنى لَا صُورَة وَالْمَقْصُود جبران حق الْمُتْلف عَلَيْهِ وَفِي الْمثل صُورَة وَمعنى هَذَا الْمَقْصُود أتم مِنْهُ فِي الْمثل معنى فَلَا يُصَار إِلَى الْمثل معنى لَا صُورَة إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة كَمَا لَا يُصَار إِلَى الْمثل إِلَّا عِنْد تعذر رد الْعين فَلَو أَرَادَ أَدَاء الْقيمَة مَعَ وجود الْمثل فِي أَيدي النَّاس كَانَ للْمَغْصُوب مِنْهُ أَن يمْتَنع من قبُوله وَإِذا انْقَطع الْمثل من أَيدي النَّاس فَحِينَئِذٍ تتَحَقَّق الضَّرُورَة فِي اعْتِبَار الْمثل فِي معنى الْمَالِيَّة وَسقط اعْتِبَار الْمثل صُورَة لتحَقّق فَوَاته ثمَّ قَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله تعْتَبر قِيمَته فِي آخر أَوْقَات وجوده لِأَن الضَّرُورَة تتَحَقَّق عِنْد انْقِطَاعه من أَيدي النَّاس وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله تعْتَبر وَقت الْخُصُومَة لِأَن الْمثل قَائِم بِالذِّمةِ حكما وَأَدَاء الْمثل بصورته موهوم بِأَن يصبر إِلَى أَوَانه فَإِنَّمَا تتَحَقَّق الضَّرُورَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 عِنْد الْمُطَالبَة وَذَلِكَ وَقت قَضَاء القَاضِي وَقَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله بالانقطاع يتَحَقَّق الْفَوات وَذَلِكَ غير مُوجب للضَّمَان إِنَّمَا الْمُوجب أصل الْغَصْب فَتعْتَبر قِيمَته وَقت الْغَصْب وَهَذَا لِأَن الْقيمَة خلف عَن رد الْعين وَلِهَذَا كَانَ قَضَاء وَالْخلف إِنَّمَا يكون وَاجِبا بِالسَّبَبِ الَّذِي بِهِ كَانَ الأَصْل وَاجِبا وَفِيمَا لَيْسَ لَهُ مثل صُورَة يجب قِيمَته وَقت الْغَصْب وَيكون ذَلِك قَضَاء بِالْمثلِ معنى لما تعذر اعْتِبَار الْمثل صُورَة حَتَّى إِن فِيمَا يتَعَذَّر اعْتِبَار الْمثل صُورَة وَمعنى بتحقق الْفَوات غير مُوجب شَيْئا سوى الْإِثْم وَذَلِكَ بِأَن يغصب زَوْجَة إِنْسَان أَو وَلَده فَإِن الْأَدَاء مُسْتَحقّ عَلَيْهِ وَلَو مَاتَ فِي يَده لم يضمن شَيْئا لتحَقّق الْفَوات بانعدام الْمثل صُورَة وَمعنى وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا الْمَنَافِع لَا تضمن بِالْمَالِ بطرِيق الْعدوان الْمَحْض لِأَن ضَمَان الْعدوان مُقَدّر بِالْمثلِ نصا وَلَا مماثلة بَين الْعين وَالْمَنْفَعَة صُورَة وَلَا معنى لِأَن من ضَرُورَة كَون الشَّيْء مثلا لغيره أَن يكون ذَلِك الْغَيْر مثلا لَهُ ثمَّ الْعين لَا تضمن بِالْمَنْفَعَةِ بطرِيق الْعدوان قطّ فَعرفنَا أَنه لَا مماثلة بَينهمَا وَكَذَلِكَ الْمَنْفَعَة لَا تضمن بِالْمَنْفَعَةِ فَإِن الْحجر المبنية على تقطيع وَاحِد وتؤاجر بِأُجْرَة وَاحِدَة لَا تكون مَنْفَعَة إِحْدَاهمَا مثلا لمَنْفَعَة الْأُخْرَى فِي ضَمَان الْعدوان مَعَ وجود المشابهة صُورَة وَمعنى فِي الظَّاهِر فَلِأَن لَا يضمن الْمَنْفَعَة بِالْعينِ وَلَا مشابهة بَينهمَا صُورَة وَلَا معنى كَانَ أولى وَانْتِفَاء المشابهة صُورَة لَا يخفى وَأما الْمَعْنى فَلِأَن الْمَنَافِع أَعْرَاض لَا تبقى وَقْتَيْنِ وَالْعين تبقى وَبَين مَا يبْقى وَبَين مَا لَا يبْقى تفَاوت عَظِيم فِي الْمَعْنى وَبِهَذَا تبين أَنه لَا مَالِيَّة فِي الْمَنْفَعَة حَقِيقَة لِأَن الْمَالِيَّة لَا تسبق الْوُجُود وَبعد الْوُجُود تثبت بالإحراز والتمول وَذَلِكَ لَا يتَصَوَّر فِيمَا لَا يبْقى وَقْتَيْنِ وَبِهَذَا تبين أَيْضا أَن الْإِتْلَاف وَالْغَصْب لَا يتَحَقَّق فِي الْمَنْفَعَة فَإِن الْمَعْدُوم لَيْسَ بِشَيْء فَلَا يتَحَقَّق فِيهِ فعل هُوَ غصب أَو إِتْلَاف وكما يُوجد يتلاشى وَفِي حَال تلاشيه لَا يتَصَوَّر فِيهِ الْغَصْب والإتلاف إِلَّا أَن الشَّرْع فِي حكم العقد جعل الْمَعْدُوم حَقِيقَة من الْمَنْفَعَة كالموجود أَو أَقَامَ الْعين المنتفع بِهِ مقَام الْمَنْفَعَة للْحَاجة إِلَى ذَلِك وَهَذِه الْحَاجة إِنَّمَا تتَحَقَّق فِي العقد فَيثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 هَذَا الحكم فِيمَا يَتَرَتَّب على العقد من الضَّمَان جَائِزا كَانَ أَو فَاسِدا لِأَن الْفَاسِد لَا يُمكن أَن يَجْعَل أصلا بِنَفسِهِ ليعرف حكمه من عينه فَلَا بُد من أَن يرد حكمه إِلَى الْجَائِز ثمَّ ضَمَان العقد فَاسِدا كَانَ أَو جَائِزا يبتنى على التَّرَاضِي لَا على التَّسَاوِي نصا والتراضي يتَحَقَّق مَعَ انعدام الْمُمَاثلَة فَلهَذَا كَانَ مَضْمُونا بِالْعقدِ فَاسِدا كَانَ أَو جَائِزا وَوُجُوب الضَّمَان يلْزمه الْخُرُوج عَنهُ بِالْأَدَاءِ فَيكون ذَلِك بِحَسب الْإِمْكَان يُوضحهُ أَن قوام الْأَعْرَاض بالأعيان وَالْعين يقوم بِنَفسِهِ وَلَا مماثلة بَين مَا يقوم بِنَفسِهِ وَبَين مَا يقوم بِغَيْرِهِ بل مَا يقوم بِنَفسِهِ أَزِيد فِي الْمَعْنى لَا محَالة وَلَكِن هَذِه الزِّيَادَة يسْقط اعْتِبَارهَا فِي ضَمَان العقد لوُجُود التَّرَاضِي فَاسِدا كَانَ العقد أَو جَائِزا وَلَا وَجه لإِسْقَاط اعْتِبَار هَذِه الزِّيَادَة فِي ضَمَان الْعدوان لِأَن بظُلْم الْغَاصِب لَا تسْقط حُرْمَة مَاله فَلَو أَوجَبْنَا عَلَيْهِ هَذِه الزِّيَادَة أهدرناها فِي حَقه وَلَو لم نوجب الضَّمَان لم يهدر حق الْمَغْصُوب مِنْهُ بل يتَأَخَّر إِلَى الْآخِرَة وضرر التَّأْخِير دون ضَرَر الإهدار وَإِذا ألزمناه أَدَاء الزِّيَادَة كَانَ ذَلِك مُضَافا إِلَيْنَا وَإِذا لم نوجب الضَّمَان لتعذر إِيجَاب الْمثل صُورَة وَمعنى لَا يكون سُقُوط حق الْمَغْصُوب مِنْهُ فِي حق أَحْكَام الدُّنْيَا مُضَافا إِلَيْنَا بِمَنْزِلَة من ضرب إنْسَانا ضربا لَا أثر لَهُ أَو شَتمه شتيمة لَا عُقُوبَة بهَا فِي الدُّنْيَا وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله إِذا قطع يَد إِنْسَان عمدا ثمَّ قَتله عمدا قبل الْبُرْء يتَخَيَّر الْوَلِيّ لِأَن الْقطع ثمَّ الْقَتْل مثل الأول صُورَة وَمعنى وَالْقَتْل بِدُونِ الْقطع مثل معنى فَالرَّأْي إِلَى الْوَلِيّ فِي ذَلِك وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله الْقَتْل بعد الْقطع قبل الْبُرْء تَحْقِيق لموجب الْفِعْل الأول وَالْقَتْل بِهِ من الْوَلِيّ يكون مثلا كَامِلا فَلَا يُصَار إِلَى الْقطع وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله هَذَا بِاعْتِبَار الْمَعْنى فَأَما من حَيْثُ الصُّورَة الْمثل الأول هُوَ الْقطع ثمَّ الْقَتْل وَالْقَتْل بعد الْقطع تَارَة يكون محققا لموجب الْفِعْل الأول وَتارَة يكون ماحيا أثر الْفِعْل الأول حَتَّى إِذا كَانَ الْقَاتِل غير الْقَاطِع كَانَ الْقصاص فِي النَّفس على الثَّانِي خَاصَّة فَلَا يسْقط اعْتِبَار الْمُمَاثلَة صُورَة بِهَذَا الْمَعْنى فَأَما الْقَضَاء بِمثل غير مَعْقُول فَهُوَ ضَمَان الْمُحْتَرَم الْمُتَقَوم الَّذِي لَيْسَ بِمَال بِمَا هُوَ مَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 معنى ضَمَان النَّفس والأطراف بِالْمَالِ فِي حَالَة الْخَطَأ فَإِنَّهُ ثَابت بِالنَّصِّ من غير أَن يعقل فِيهِ الْمَعْنى لِأَنَّهُ لَا مماثلة بَين الْآدَمِيّ وَالْمَال صُورَة وَلَا معنى فالآدمي مَالك لِلْمَالِ وَالْمَال مَخْلُوق لإِقَامَة مصَالح الْآدَمِيّ بِهِ ثمَّ الشَّرْع أوجب الدِّيَة فِي الْقَتْل خطأ فَمَا عقل من ذَلِك إِلَّا معنى الْمِنَّة على الْقَاتِل بِتَسْلِيم نَفسه لَهُ لعذر الْخَطَأ وَمعنى الْمِنَّة على الْمَقْتُول لصيانة دَمه عَن الهدر وَإِيجَاب مَال يقْضِي بِهِ حَوَائِجه أَو حوائج ورثته الَّذين يخلفونه وَلِهَذَا لَا يُوجِبهُ مَعَ إِمْكَانه إِيجَاب الْمثل بِصفتِهِ وَهُوَ الْقصاص لِأَنَّهُ هُوَ الْمثل صُورَة وَمعنى فَالْمَعْنى الْمَطْلُوب هُوَ الْحَيَاة وَفِي الْقصاص حَيَاة لَا فِي المَال فَإِذا لم تكن هَذِه الْحَالة فِي معنى الْمَنْصُوص عَلَيْهِ من كل وَجه يتَعَذَّر إلحاقها بِهِ وَإِيجَاب المَال وعَلى هَذَا الأَصْل لَو قتل من عَلَيْهِ الْقصاص إِنْسَان آخر لَا يضمن لمن لَهُ الْقصاص شَيْئا لِأَن ملك الْقصاص الثَّابِت لَهُ لَيْسَ بِمَال فَلَا يكون المَال مثلا لَهُ لَا صُورَة وَلَا معنى وَكَذَلِكَ لَو قتل زَوْجَة إِنْسَان لَا يضمن للزَّوْج شَيْئا بِاعْتِبَار مَا فَوت عَلَيْهِ من ملك النِّكَاح لِأَن ذَلِك لَيْسَ بِمَال فَلَا يكون المَال مثلا لَهُ صُورَة وَمعنى وَهَذَا لِأَن ملك النِّكَاح مَشْرُوع للسكن والنسل وَالْمَال بذلة لإِقَامَة الْمصَالح فَكيف يكون بَينهمَا مماثلة وَإِذا تحقق انعدام الْمثل تحقق الْفَوات وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا شُهُود الْعَفو عَن الْقصاص إِذا رجعُوا لم يضمنوا شَيْئا وَكَذَلِكَ الْمُكْره للْوَلِيّ على الْعَفو بِغَيْر حق لَا يضمن شَيْئا لِأَنَّهُ أتلف عَلَيْهِ مَا لَيْسَ بِمَال مُتَقَوّم وَلَا وَجه لإِيجَاب الضَّمَان هُنَا صِيَانة لملكه فِي الْقصاص فالعفو مَنْدُوب إِلَيْهِ شرعا وإهدار مثله لَا يقبح وَكَذَلِكَ قُلْنَا شُهُود الطَّلَاق بعد الدُّخُول إِذا رجعُوا لم يضمنوا للزَّوْج شَيْئا وَالْمكْره على الطَّلَاق بعد الدُّخُول كَذَلِك وَالْمَرْأَة إِذا ارْتَدَّت لَا تضمن للزَّوْج شَيْئا وَلَو جَامعهَا ابْن الزَّوْج لَا يضمن للزَّوْج شَيْئا لِأَنَّهُ أتلف عَلَيْهِ ملك النِّكَاح وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَال مُتَقَوّم فَلَا يكون المَال مثلا لَهُ صُورَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وَلَا معنى والصيانة هُنَا للمحل الْمَمْلُوك لَا للْملك الْوَارِد عَلَيْهِ أَلا ترى أَن إِزَالَة هَذَا الْملك بِالطَّلَاق صَحِيح من غير شُهُود وَولي وَعوض وَلِهَذَا قُلْنَا إِن الْبضْع لَا يتقوم عِنْد الْخُرُوج من ملك الزَّوْج وَإِن كَانَ يتقوم عِنْد الدُّخُول فِي ملكه لِأَن معنى الْخطر للمحل وَوقت التَّمَلُّك وَقت الِاسْتِيلَاء على الْمحل بِإِثْبَات الْملك فَيكون مُتَقَوّما لإِظْهَار خطره فَأَما وَقت الْخُرُوج فَهُوَ وَقت إِطْلَاق الْمحل وَإِزَالَة الِاسْتِيلَاء عَنهُ فَلَا يظْهر حكم التقوم فِيهِ وَلَا يدْخل على مَا قُلْنَا شُهُود الطَّلَاق قبل الدُّخُول إِذا رجعُوا فَإِنَّهُم يضمنُون نصف الصَدَاق للزَّوْج لأَنهم لَا يضمنُون شَيْئا من قيمَة مَا أتلفوا وَهُوَ الْبضْع فَقيمته مهر الْمثل وَلَا يضمنُون شَيْئا مِنْهُ وَلَكِن سُقُوط الْمُطَالبَة بِتَسْلِيم الْبضْع قبل الدُّخُول يكون مسْقطًا للمطالبة بِالْعِوَضِ الْمُسَمّى إِذا لم يكن ذَلِك بِسَبَب مُضَاف إِلَى الزَّوْج فهما بِالْإِضَافَة إِلَى الزَّوْج بِشَهَادَتِهِمَا على الطَّلَاق كالملزمين لَهُ نصف الصَدَاق حكما أَو كَأَنَّهُمَا فوتا عَلَيْهِ يَده فِي ذَلِك النّصْف بعد فَوَات تَسْلِيم الْبضْع فيكونان بِمَنْزِلَة الغاصبين فِي حَقه وَمن الْقَضَاء الَّذِي هُوَ فِي حكم الْأَدَاء مَا إِذا تزوج امْرَأَة على عبد بِغَيْر عينه فَأَتَاهَا بِالْقيمَةِ أجبرت على الْقبُول وَكَانَ ذَلِك قَضَاء بِالْمثلِ الْمُسَمّى من عِنْده وَهُوَ فِي معنى الْأَدَاء لِأَن العَبْد الْمُطلق مَعْلُوم الْجِنْس مَجْهُول الْوَصْف فباعتبار كَونه مَعْلُوم الْجِنْس يكون أَدَاء للمسمى بِتَسْلِيم العَبْد وَلِهَذَا لَو أَتَاهَا بِهِ أجبرت على الْقبُول وَمن حَيْثُ إِنَّه مَجْهُول الْوَصْف يتَعَذَّر عَلَيْهَا الْمُطَالبَة بِعَين الْمُسَمّى فَيكون تَسْلِيم الْقيمَة قَضَاء فِي حكم الْأَدَاء فتجبر على قبُولهَا بِخِلَاف العَبْد إِذا كَانَ بِعَيْنِه (أَو الْمكيل أَو الْمَوْزُون إِذا كَانَ مَوْصُوفا أَو معينا لِأَن الْمُسَمّى مَعْلُوم بِعَيْنِه) وَوَصفه فَتكون الْقيمَة بمقابلته قَضَاء لَيْسَ فِي معنى الْأَدَاء فَلَا تجبر على الْقبُول إِذا أَتَاهَا بِهِ إِلَّا عِنْد تحقق الْعَجز عَن تَسْلِيم مَا هُوَ الْمُسْتَحق كَمَا فِي ضَمَان الْغَصْب على مَا قَررنَا وَالله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 فصل فِي بَيَان مُقْتَضى الْأَمر فِي صفة الْحسن للْمَأْمُور بِهِ قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم أَن مُطلق مُقْتَضى الْأَمر كَون الْمَأْمُور بِهِ حسنا شرعا وَهَذَا الْوَصْف غير ثَابت للْمَأْمُور بِهِ بِنَفسِهِ فَإِنَّهُ أحد تصاريف الْكَلَام فَيتَحَقَّق فِي الْقَبِيح وَالْحسن جَمِيعًا لُغَة كَسَائِر التصريفات وَلَا نقُول إِنَّه ثَابت عقلا كَمَا زعم بعض مَشَايِخنَا رَحِمهم الله لِأَن الْعقل بِنَفسِهِ غير مُوجب عندنَا وَبَيَان كَونه ثَابتا شرعا أَن الله تَعَالَى لم يَأْمر بالفحشاء كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي مُحكم تَنْزِيله وَالْأَمر طلب إِيجَاد الْمَأْمُور بِهِ بأبلغ الْجِهَات وَلِهَذَا كَانَ مُطلقَة مُوجبا شرعا والقبيح وَاجِب الإعدام شرعا فَمَا هُوَ وَاجِب الإيجاد شرعا تعرف صفة الْحسن فِيهِ شرعا ثمَّ هُوَ فِي صفة الْحسن نَوْعَانِ حسن لِمَعْنى فِي نَفسه وَحسن لِمَعْنى فِي غَيره وَالنَّوْع الأول قِسْمَانِ حسن لعَينه لَا يحْتَمل السُّقُوط بِحَال وَحسن لعَينه قد يحْتَمل السُّقُوط فِي بعض الْأَحْوَال وَالْقسم الثَّانِي نَوْعَانِ أَيْضا حسن لِمَعْنى فِي غَيره وَذَلِكَ مَقْصُود فِي نَفسه لَا يحصل مِنْهُ مَا لأَجله كَانَ حسنا وَحسن لِمَعْنى فِي غَيره يتَحَقَّق بِوُجُودِهِ مَا لأَجله كَانَ حسنا وَأما النَّوْع الأول من الْقسم الأول فَهُوَ الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى وَصِفَاته فَإِنَّهُ مَأْمُور بِهِ قَالَ الله تَعَالَى {آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله} وَهُوَ حسن لعَينه وركنه التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ فالتصديق لَا يحْتَمل السُّقُوط بِحَال وَمَتى بدله بِغَيْرِهِ فَهُوَ كفر مِنْهُ على أَي وَجه بدله وَالْإِقْرَار حسن لعَينه وَهُوَ يحْتَمل السُّقُوط فِي بعض الْأَحْوَال حَتَّى إِنَّه إِذا بدله بِغَيْرِهِ بِعُذْر الْإِكْرَاه لم يكن ذَلِك كفرا مِنْهُ إِذا كَانَ مطمئن الْقلب بِالْإِيمَان وَهَذَا لِأَن اللِّسَان لَيْسَ بمعدن التَّصْدِيق وَلَكِن يعبر اللِّسَان عَمَّا فِي قلبه فَيكون دَلِيل التَّصْدِيق وجودا وعدما فَإِذا بدله بِغَيْرِهِ فِي وَقت يكون مُتَمَكنًا من إِظْهَاره يكون كَافِرًا وَإِذا زَالَ تمكنه من الْإِظْهَار بِالْإِكْرَاهِ لم يصر كَافِرًا لِأَن سَبَب الْخَوْف على نَفسه دَلِيل ظَاهر على بَقَاء التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ وَأَن الْحَامِل لَهُ على هَذَا التبديل حَاجته إِلَى دفع الْهَلَاك عَن نَفسه لَا تَبْدِيل الِاعْتِقَاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فَأَما فِي وَقت التَّمَكُّن تبديله دَلِيل تبدل الِاعْتِقَاد فَكَانَ ركن الْإِيمَان وجودا وعدما وَإِن كَانَ دون التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ لاحْتِمَاله السُّقُوط فِي بعض الْأَحْوَال وَمن هَذَا النَّوْع الصَّلَاة فَإِنَّهَا حَسَنَة لِأَنَّهَا تَعْظِيم لله تَعَالَى قولا وفعلا بِجَمِيعِ الْجَوَارِح وَهِي تحْتَمل السُّقُوط فِي بعض الْأَحْوَال فَكَانَت فِي صفة الْحسن نَظِير الْإِقْرَار وَلكنهَا لَيست بِرُكْن الْإِيمَان فِي جَمِيع الْأَحْوَال فالإقرار دَلِيل التَّصْدِيق وجودا وعدما وَالصَّلَاة لَا تكون دَلِيل التَّصْدِيق وجودا وعدما وَقد تدل على ذَلِك إِذا أَتَى بهَا على هَيْئَة مَخْصُوصَة وَلِهَذَا قُلْنَا إِذا صلى الْكَافِر بِجَمَاعَة الْمُسلمين يحكم بِإِسْلَامِهِ وَمِمَّا يشبه هَذَا النَّوْع معنى الزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج فالزكاة حَسَنَة لما فِيهَا من إِيصَال الْكِفَايَة إِلَى الْفَقِير الْمُحْتَاج بِأَمْر الله وَالصَّوْم حسن لما فِيهِ من قهر النَّفس الأمارة بالسوء فِي منع شهوتها بِأَمْر الله تَعَالَى وَالْحج حسن بِمَعْنى شرف الْبَيْت بِأَمْر الله تَعَالَى غير أَن هَذِه الوسائط لَا تخرجها من أَن تكون حَسَنَة لعينها فحاجة الْفَقِير كَانَ بِخلق الله تَعَالَى إِيَّاهَا على هَذِه الصّفة لَا بصنع بَاشرهُ بِنَفسِهِ وَكَون النَّفس أَمارَة بِخلق الله تَعَالَى إِيَّاهَا على هَذِه الصّفة لَا لكَونهَا جانية بِنَفسِهَا وَشرف الْبَيْت بِجعْل الله تَعَالَى إِيَّاه مشرفا بِهَذِهِ الصّفة فَعرفنَا أَنَّهَا فِي الْمَعْنى من النَّوْع الَّذِي هُوَ حسن لعَينه وَلِهَذَا جعلناها عبَادَة مَحْضَة وشرطنا للْوُجُوب فِيهَا الْأَهْلِيَّة الْكَامِلَة وَحكم هَذَا الْقسم وَاحِد وَهُوَ أَنه إِذا وَجب بِالْأَمر لَا يسْقط إِلَّا بِالْأَدَاءِ أَو بِإِسْقَاط من الْآمِر فِيمَا يحْتَمل السُّقُوط وَبَيَان الْقسم الثَّانِي فِي السَّعْي إِلَى الْجُمُعَة فَإِنَّهُ حسن لِمَعْنى فِي غَيره وَهُوَ أَنه يتَوَصَّل بِهِ إِلَى أَدَاء الْجُمُعَة وَذَلِكَ الْمَعْنى مَقْصُود بِنَفسِهِ لَا يصير مَوْجُودا بِمُجَرَّد وجود الْمَأْمُور بِهِ من السَّعْي وَحكمه أَنه يسْقط بِالْأَدَاءِ إِذا حصل الْمَقْصُود بِهِ وَلَا يسْقط إِذا لم يحصل الْمَقْصُود بِهِ حَتَّى إِنَّه إِذا حمله إِنْسَان إِلَى مَوضِع مكْرها بعد السَّعْي قبل أَدَاء الْجُمُعَة ثمَّ خلى عَنهُ كَانَ السَّعْي وَاجِبا عَلَيْهِ وَإِذا حصل الْمَقْصُود بِدُونِ السَّعْي بِأَن حمل مكْرها إِلَى الْجَامِع حَتَّى صلى الْجُمُعَة سقط اعْتِبَار السَّعْي وَلَا يتَمَكَّن بانعدامه نُقْصَان فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود وَإِذا سقط عَنهُ الْجُمُعَة لمَرض أَو سفر سقط عَنهُ السَّعْي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وَمن هَذَا النَّوْع الْوضُوء فَإِنَّهُ حسن لِمَعْنى فِي غَيره وَهُوَ التَّمَكُّن من أَدَاء الصَّلَاة وَمَا هُوَ الْمَقْصُود لَا يصير مؤدى بِعَيْنِه وَلِهَذَا جَوَّزنَا الْوضُوء والاغتسال بِغَيْر النِّيَّة وَمِمَّنْ لَيْسَ بِأَهْل لِلْعِبَادَةِ أَدَاء وَهُوَ الْكَافِر وَلَا يُنكر معنى الْقرْبَة فِي الْوضُوء حَتَّى إِذا قصد بِهِ التَّقَرُّب وَهُوَ من أَهله بِأَن تَوَضَّأ وَهُوَ متوضىء كَانَ مثابا على ذَلِك وَكَذَلِكَ إِذا تَوَضَّأ وَهُوَ مُحدث على قصد التَّقَرُّب فَإِنَّهُ تَطْهِير والتطهير حسن شرعا كتطهير الْمَكَان وَالثيَاب قَالَ الله تَعَالَى {أَن طهرا بَيْتِي للطائفين} وَقَالَ تَعَالَى {وثيابك فطهر} إِلَّا أَن مَا هُوَ شَرط أَدَاء الصَّلَاة يتَحَقَّق بِدُونِ هَذَا الْوَصْف وَهُوَ قصد التَّقَرُّب لِأَن شَرط أَدَاء الصَّلَاة أَن يقوم إِلَيْهَا طَاهِرا عَن الْحَدث وَبِدُون هَذَا الْوَصْف يَزُول الْحَدث وَهُوَ معنى قَوْلنَا إِنَّه يتَمَكَّن من أَدَاء الصَّلَاة بِالْوضُوءِ وَإِن لم يُنَوّه وَلكنه لَا يكون مثابا عَلَيْهِ ثمَّ حكمه حكم السَّعْي كَمَا بَينا إِلَّا أَن مَعَ انعدام السَّعْي يتم أَدَاء الْجُمُعَة وَبِدُون الْوضُوء لَا يجوز أَدَاء الصَّلَاة من الْمُحدث لِأَن من شَرط الْجَوَاز الطَّهَارَة عَن الْحَدث وَبَيَان النَّوْع الآخر فِي الصَّلَاة على الْمَيِّت وقتال الْمُشْركين وَإِقَامَة الْحُدُود فَالصَّلَاة على الْمَيِّت حَسَنَة لإسلام الْمَيِّت وَذَلِكَ معنى فِي غير الصَّلَاة مُضَاف إِلَى كسب وَاخْتِيَار كَانَ من العَبْد قبل مَوته وَبِدُون هَذَا الْوَصْف يكون قبيحا مَنْهِيّا عَنهُ يَعْنِي الصَّلَاة على الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا} وَكَذَلِكَ الْقِتَال مَعَ الْمُشْركين حسن لِمَعْنى فِي غَيره وَهُوَ كفر الْكَافِر أَو قَصده إِلَى محاربة الْمُسلمين وَذَلِكَ مُضَاف إِلَى اخْتِيَاره وَكَذَلِكَ الْقِتَال مَعَ أهل الْبَغي حسن لدفع فتنتهم ومحاربتهم عَن أهل الْعدْل وَكَذَا إِقَامَة الْحُدُود حسن لِمَعْنى الزّجر عَن الْمعاصِي وَتلك الْمعاصِي تُضَاف إِلَى كسب وَاخْتِيَار مِمَّن تُقَام عَلَيْهِ وَلَكِن لَا يتم إِلَّا بِحُصُول مَا لأَجله كَانَ حسنا وَحكم هَذَا النَّوْع أَنه يسْقط بعد الْوُجُوب بِالْأَدَاءِ وبانعدام الْمَعْنى الَّذِي لأَجله كَانَ يجب حَتَّى إِذا تحقق الانزجار عَن ارْتِكَاب الْمعاصِي أَو تصور إِسْلَام الْخلق عَن آخِرهم لَا تبقى فرضيته إِلَّا أَنه خلاف للْخَبَر لِأَنَّهُ لَا يتَحَقَّق انعدام هَذَا الْمَعْنى فِي الظَّاهِر وَكَذَلِكَ الصَّلَاة على الْمَيِّت تسْقط بِعَارِض مُضَاف إِلَى اخْتِيَاره من بغي أَو غَيره وَإِذا قَامَ بِهِ الْوَلِيّ مَعَ بعض النَّاس يسْقط عَن البَاقِينَ وَكَذَلِكَ الْقِتَال إِذا قَامَ بِهِ الْبَعْض سقط عَن البَاقِينَ لحُصُول الْمَقْصُود وَإِذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 تحقق صفة الْحسن للْمَأْمُور بِهِ قد ذهب بعض مَشَايِخنَا إِلَى أَن عِنْد إِطْلَاق الْأَمر يثبت النَّوْع الثَّانِي من الْحسن وَلَا يثبت النَّوْع الأول إِلَّا بِدَلِيل يقْتَرن بِهِ لِأَن ثُبُوت هَذِه الصّفة بطرِيق الِاقْتِضَاء وَإِنَّمَا ثَبت بِهَذَا الطَّرِيق الْأَدْنَى على مَا نبينه فِي بَاب الِاقْتِضَاء والأدنى هُوَ الْحسن لِمَعْنى فِي غَيره لَا لعَينه قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَن بِمُطلق الْأَمر يثبت حسن الْمَأْمُور بِهِ لعَينه شرعا فَإِن الْأَمر لطلب الإيجاد وبمطلقه يثبت أقوى أَنْوَاع الطّلب وَهُوَ الْإِيجَاب فَيثبت أَيْضا أَعلَى صِفَات الْحسن لِأَنَّهُ استعباد فَإِن قَوْله {أقِيمُوا الصَّلَاة} و {اعبدوني} هما فِي الْمَعْنى سَوَاء وَالْعِبَادَة لله تَعَالَى حَسَنَة لعينها وَلِأَن مَا يكون حسنا لِمَعْنى فِي غَيره فَهَذِهِ الصّفة لَهُ شبه الْمجَاز لِأَنَّهُ ثَابت من وَجه دون وَجه وَمَا يكون حسنا لعَينه فَهَذِهِ الصّفة لَهُ حَقِيقَة وبالمطلق تثبت الْحَقِيقَة دون الْمجَاز وَإِذا ثَبت هَذَا قُلْنَا اتّفق الْفُقَهَاء على ثُبُوت صفة الْجَوَاز مُطلقًا للْمَأْمُور بِهِ كَمَا قَررنَا أَن مُقْتَضى الْأَمر حسن الْمَأْمُور بِهِ حَقِيقَة وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بعد جَوَازه شرعا وَلِأَن مُقْتَضى مطلقه الْإِيجَاب وَلَا يجوز أَن يكون وَاجِب الْأَدَاء شرعا إِلَّا بعد أَن يكون جَائِزا شرعا وعَلى قَول بعض الْمُتَكَلِّمين بِمُطلق الْأَمر لَا يثبت جَوَاز الْأَدَاء حَتَّى يقْتَرن بِهِ دَلِيل وَاسْتَدَلُّوا على هَذَا بالظان عِنْد تضايق الْوَقْت أَنه على طَهَارَة فَإِنَّهُ مَأْمُور بأَدَاء الصَّلَاة شرعا لَا يكون جَائِزا إِذا أَدَّاهَا على هَذِه الصّفة وَمن أفسد حجه فَهُوَ مَأْمُور بِالْأَدَاءِ شرعا وَلَا يكون الْمُؤَدى جَائِزا إِذا أَدَّاهُ وَهَذَا سَهْو مِنْهُم فَإِن عندنَا من كَانَ عِنْده أَنه على طَهَارَة فصلى جَازَت صلَاته نَص عَلَيْهِ فِي كتاب التَّحَرِّي فِيمَا إِذا تَوَضَّأ بِمَاء نجس فَقَالَ صلَاته جَائِزَة مَا لم يعلم فَإِذا علم أَعَادَهُ فَإِن قيل فَإِذا جَازَت صلَاته كَيفَ تلْزمهُ الْإِعَادَة وَالْأَمر لَا يَقْتَضِي التّكْرَار قُلْنَا الْمُؤَدى جَائِز حَتَّى لَو مَاتَ قبل أَن يعلم لَقِي الله وَلَا شَيْء عَلَيْهِ فَأَما إِذا علم فقد تبدل حَاله وَوُجُوب الْأَدَاء بعد تبدل الْحَال لَا يكون تَكْرَارا وتحقيقه أَن الْأَمر يتَوَجَّه بِحَسب التَّوَسُّع قَالَ الله تَعَالَى {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} فَإِذا كَانَ عِنْده أَنه على طَهَارَة يثبت الْأَمر فِي حَقه على حسب مَا يَلِيق بِحَالهِ وَمن ضَرُورَته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الْجَوَاز على تِلْكَ الْحَالة وَإِذا تبدل حَاله بِالْعلمِ ثَبت الْأَمر بِالْأَدَاءِ كَمَا يَلِيق بِحَالهِ وَلَكِن لما كَانَ لَهُ طَرِيق يتَوَصَّل بِهِ إِلَى هَذِه الْحَالة إِذا تحرز وَأحسن النّظر لم يسْقط الْوَاجِب فِي هَذِه الْحَالة بِالْأَدَاءِ الأول وَإِن كَانَ مَعْذُورًا فِيهِ لدفع الْحَرج عَنهُ وَالْحج بمعزل مِمَّا قُلْنَا فالثابت بِالْأَمر وجوب أَدَاء الْأَعْمَال بِصفة الصِّحَّة وَأما بعد الْإِفْسَاد فالثابت وجوب التَّحَلُّل عَن الْإِحْرَام بطريقه وَهَذَا أَمر آخر سوى الأول والمأمور بِهِ فِي هَذَا الْأَمر مجزى فَإِن التَّحَلُّل بأَدَاء الْأَعْمَال بعد الْإِفْسَاد جَائِز شرعا ويحكى عَن أبي بكر الرَّازِيّ رَحمَه الله أَنه كَانَ يَقُول صفة الْجَوَاز وَإِن كَانَت تثبت بِمُطلق الْأَمر شرعا فقد تتَنَاوَل الْأَمر على مَا هُوَ مَكْرُوه شرعا أَيْضا وَاسْتدلَّ على ذَلِك بأَدَاء عصر يَوْمه بعد تغير الشَّمْس فَإِنَّهُ جَائِز مَأْمُور بِهِ شرعا وَهُوَ مَكْرُوه أَيْضا وَكَذَلِكَ قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} يتَنَاوَل طواف الْمُحدث عندنَا حَتَّى يكون طَوَافه ركن الْحَج وَذَلِكَ جَائِز مَأْمُور بِهِ شرعا وَيكون مَكْرُوها قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَن بِمُطلق الْأَمر كَمَا تثبت صفة الْجَوَاز وَالْحسن شرعا يثبت انْتِفَاء صفة الْكَرَاهَة لِأَن الْأَمر استعباد وَلَا كَرَاهَة فِي عبَادَة العَبْد لرَبه وَانْتِفَاء الْكَرَاهَة تثبت بِالْإِذْنِ شرعا وَمَعْلُوم أَن الْإِذْن دون الْأَمر فِي طلب إِيجَاد الْمَأْمُور بِهِ فَلِأَن يثبت انْتِفَاء الْكَرَاهَة بِالْأَمر أولى فَأَما الصَّلَاة بعد تغير الشَّمْس وَالْكَرَاهَة لَيست للصَّلَاة وَلَكِن للتشبه بِمن يعبد الشَّمْس والمأمور بِهِ هُوَ الصَّلَاة وَكَذَلِكَ الطّواف الْكَرَاهَة لَيست فِي الطّواف الَّذِي فِيهِ تَعْظِيم الْبَيْت بل لوصف فِي الطّواف وَهُوَ الْحَدث وَذَلِكَ لَيْسَ من الطّواف فِي شَيْء ثمَّ تكلم مَشَايِخنَا رَحِمهم الله فِيمَا إِذا انْعَدم صفة الْوُجُوب للْمَأْمُور بِهِ لقِيَام الدَّلِيل هَل تبقى صفة الْجَوَاز أم لَا فالعراقيون من مَشَايِخنَا يَقُولُونَ هُوَ على هَذَا الْخلاف عندنَا لَا تبقى وعَلى قَول الشَّافِعِي تبقى فيثبتون هَذَا الْخلاف فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليكفر يَمِينه ثمَّ ليأت بِالَّذِي هُوَ خير فَإِن صِيغَة الْأَمر بِهَذِهِ الصّفة توجب التَّكْفِير سَابِقًا على الْحِنْث وَقد انْعَدم هَذَا الْوُجُوب بِدَلِيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الْإِجْمَاع فَبَقيَ الْجَوَاز عِنْده وَلم يبْق عندنَا وحجته فِي ذَلِك أَن من ضَرُورَة وجوب الْأَدَاء جَوَاز الْأَدَاء وَالثَّابِت بضرورة النَّص كالمنصوص وَلَيْسَ من ضَرُورَة انْتِفَاء الْوُجُوب انْتِفَاء الْجَوَاز فَيبقى حكم الْجَوَاز بَعْدَمَا انْتَفَى الْوُجُوب بِالدَّلِيلِ وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بِصَوْم عَاشُورَاء فبانتساخ وجوب الْأَدَاء فِيهِ لم ينتسخ جَوَاز الْأَدَاء وَلَكنَّا نقُول مُوجب الْأَمر أَدَاء هُوَ مُتَعَيّن على وَجه لَا يتَخَيَّر العَبْد بَين الْإِقْدَام عَلَيْهِ وَبَين تَركه شرعا وَالْجَوَاز فِيمَا يكون العَبْد مُخَيّرا فِيهِ وَبَينهمَا مُغَايرَة على سَبِيل الْمُنَافَاة فَإِذا قَامَ الدَّلِيل على انتساخ مُوجب الْأَمر لَا يجوز إبْقَاء غير مُوجب الْأَمر مُضَافا إِلَى الْأَمر قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَن بِانْتِفَاء حكم الْوُجُوب لقِيَام الدَّلِيل ينتسخ الْأَمر وَيخرج من أَن يكون أمرا شرعا والمصير إِلَى بَيَان مُوجبه ابْتِدَاء وَبَقَاء فِي حَال مَا يكون أمرا شرعا فَأَما بعد خُرُوجه من أَن يكون أمرا شرعا فَلَا معنى للاشتغال بِهَذَا التَّكْلِيف وَبَعْدَمَا انتسخ الْأَمر بِصَوْم عَاشُورَاء لَا نقُول جَوَاز الصَّوْم فِي ذَلِك الْيَوْم مُوجب ذَلِك الْأَمر بل هُوَ مُوجب كَون الصَّوْم مَشْرُوعا فِيهِ للْعَبد كَمَا فِي سَائِر الْأَيَّام وَقد كَانَ ذَلِك ثَابتا قبل إِيجَاب الصَّوْم فِيهِ بِالْأَمر شرعا فَبَقيَ على مَا كَانَ حَتَّى إِذا بَقِي الْأَمر يبْقى حكم الْجَوَاز عندنَا وَلِهَذَا قُلْنَا الصَّحِيح الْمُقِيم إِذا صلى الظّهْر فِي بَيته يَوْم الْجُمُعَة جَازَت صلَاته وَالْوَاجِب عَلَيْهِ فِي الْمصر أَدَاء الْجُمُعَة بَعْدَمَا شرعت الْجُمُعَة وَلَكِن بَقِي أصل أَمر أَدَاء الظّهْر وَلِهَذَا يلْزمه بعد مُضِيّ الْوَقْت قَضَاء الظّهْر وَلَو شهد الْجُمُعَة بعد الظّهْر كَانَ مُؤديا فرض الْوَقْت فبه تبين أَن الْوَاجِب أَدَاء الْجُمُعَة دون أَدَاء الظّهْر إِذْ الْوَاجِب إِسْقَاط فرض الْوَقْت بأَدَاء الْجُمُعَة فَكَذَلِك يجب نقض الظّهْر الْمُؤَدِّي بأَدَاء الْجُمُعَة وَلِهَذَا سوينا بذلك بَين الْمَعْذُور وَغير الْمَعْذُور لِأَن جَوَاز ترك أَدَاء الْجُمُعَة للمعذور رخصَة فَلَا يتَغَيَّر بِهِ حكم مَا هُوَ عَزِيمَة وَالله أعلم فصل فِي بَيَان صفة الْحسن لما هُوَ شَرط أَدَاء اللَّازِم بِالْأَمر قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم أَن من شَرط وجوب أَدَاء الْمَأْمُور بِهِ الْقُدْرَة الَّتِي بهَا يتَمَكَّن الْمَأْمُور من الْأَدَاء لقَوْله تَعَالَى {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} وَلِأَن الْوَاجِب أَدَاء مَا هُوَ عبَادَة وَذَلِكَ عبارَة عَن فعل يكتسبه العَبْد عَن اخْتِيَار ليَكُون مُعظما فِيهِ ربه فينال الثَّوَاب وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق بِدُونِ هَذِه الْقُدْرَة غير أَنه لَا يشْتَرط وجودهَا وَقت الْأَمر لصِحَّة الْأَمر لِأَنَّهُ لَا يتَأَدَّى الْمَأْمُور الْأَدَاء وَذَلِكَ غير مَوْجُود سَابِقًا على الْأَدَاء فَإِن الِاسْتِطَاعَة لَا تسبق الْفِعْل وانعدامها عِنْد الْأَمر لَا يمْنَع صِحَة الْأَمر وَلَا يُخرجهُ من أَن يكون حسنا بِمَنْزِلَة انعدام الْمَأْمُور فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ رَسُولا إِلَى النَّاس كَافَّة قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس} وَقَالَ تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ الْمَوْجُودَة وَقت الْأَمر بِحَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وَإِنَّمَا يتَأَدَّى بالموجود مِنْهَا عِنْد {نذيرا للبشر} وَلَا شكّ أَنه أَمر جَمِيع من أرسل إِلَيْهِم بالشرائع ثمَّ صَحَّ الْأَمر فِي حق الَّذين وجدوا بعده ويلزمهم الْأَدَاء بِشَرْط أَن يبلغهم فيتمكنون من الْأَدَاء قَالَ تَعَالَى {لأنذركم بِهِ وَمن بلغ} وكما يحسن الْأَمر قبل وجود الْمَأْمُور بِهِ يحسن قبل وجود الْقُدْرَة الَّتِي يتَمَكَّن بهَا من الْأَدَاء وَلَكِن بِشَرْط التَّمَكُّن عِنْد الْأَدَاء أَلا ترى أَن التَّصْرِيح بِهَذَا الشَّرْط لَا يعْدم صفة الْحسن فِي الْأَمر فَإِن الْمَرِيض يُؤمر بِقِتَال الْمُشْركين إِذا برىء فَيكون ذَلِك حسنا قَالَ تَعَالَى {فَإِذا اطمأننتم فأقيموا الصَّلَاة} وَهَذَا الشَّرْط نَوْعَانِ مُطلق وكامل فالمطلق أدنى مَا يتَمَكَّن بِهِ من أَدَاء الْمَأْمُور بِهِ ماليا كَانَ أَو بدنيا لِأَن هَذَا شَرط وجوب الْأَدَاء فِي كل أَمر فضلا من الله تَعَالَى وَرَحْمَة خُصُوصا فِي حق هَذِه الْأمة فقد رفع الله عَنْهُم الْحَرج وَوضع عَنْهُم الإصر والأغلال وَفِي لُزُوم الْأَدَاء بِدُونِ هَذِه الْقُدْرَة من الْحَرج والثقل مَا لَا يخفى وعَلى هَذَا وجوب الطَّهَارَة بِالْمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يثبت فِي حَال عدم المَاء لِانْعِدَامِ هَذِه الْقُدْرَة وَكَذَلِكَ فِي حَال الْعَجز عَن الِاسْتِعْمَال إِلَّا بحرج بِأَن يخَاف زِيَادَة الْمَرَض أَو الْعَطش أَو يلْحقهُ نوع حرج فِي مَاله بِأَن لَا يُبَاع مِنْهُ بِثمن مثله وَكَذَلِكَ أَدَاء الصَّلَاة لَا يجب بِدُونِ هَذِه الْقُدْرَة وَلِهَذَا كَانَ وجوب الْأَدَاء بِحَسب مَا يتَمَكَّن مِنْهُ قَائِما أَو قَاعِدا أَو بِالْإِيمَاءِ وَكَذَلِكَ وجوب أَدَاء الْحَج لَا يكون إِلَّا بِهَذِهِ الْقُدْرَة بِملك الزَّاد وَالرَّاحِلَة لِأَن التَّمَكُّن من السّفر الَّذِي يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْأَدَاء لَا يكون إِلَّا بِهِ وَكَذَلِكَ وجوب أَدَاء الصَّدَقَة الْمَالِيَّة لَا يكون إِلَّا بِهَذَا الشَّرْط فَإِنَّهُ لَا يتَمَكَّن من الْأَدَاء عبَادَة إِلَّا بِملك المَال وَلِهَذَا لَا يعْتَبر التَّمَكُّن مِنْهُ بِمَال غَيره وَإِن أذن لَهُ فِي ذَلِك فِي وجوب الْأَدَاء بِخِلَاف الطَّهَارَة فصفة الْعِبَادَة هُنَاكَ غير مَقْصُودَة وَهنا مَقْصُودَة وَمَعَ ذَلِك صفة الْغَنِيّ فِي الْمُؤَدى مُعْتَبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 هُنَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا صَدَقَة إِلَّا عَن ظهر غنى وَبِدُون ملك المَال لَا تثبت صفة الْغنى وَلِهَذَا قَالَ زفر وَالشَّافِعِيّ رحمهمَا الله إِذا أسلم الْكَافِر أَو بلغ الصَّبِي أَو أَفَاق الْمَجْنُون أَو طهرت الْحَائِض فِي آخر الْوَقْت بِحَيْثُ لَا يتمكنون من أَدَاء الْفَرْض فِيمَا بَقِي من الْوَقْت لَا يلْزمهُم الْأَدَاء لِانْعِدَامِ الشَّرْط وَهُوَ التَّمَكُّن وَلَكِن علماءنا رَحِمهم الله قَالُوا يلْزمهُم أَدَاء الصَّلَاة اسْتِحْسَانًا لِأَن السَّبَب الْمُوجب جُزْء من الْوَقْت وَشرط وجوب الْأَدَاء كَون الْقُدْرَة على الْأَدَاء متوهم الْوُجُود لَا كَونه مُتَحَقق الْوُجُود فَإِن ذَلِك لَا يسْبق الْأَدَاء وَهَذَا التَّوَهُّم مَوْجُود هَهُنَا لجَوَاز أَن يظْهر فِي ذَلِك الْجُزْء من الْوَقْت امتداد بتوقف الشَّمْس فيسع الْأَدَاء كَمَا كَانَ لِسُلَيْمَان صلوَات الله عَلَيْهِ فَيثبت وجوب الْأَدَاء بِهِ ثمَّ الْعَجز عَن الْأَدَاء فِيهِ ظَاهر لينتقل الحكم إِلَى مَا هُوَ خلف عَن الْأَدَاء وَهُوَ الْقَضَاء بِمَنْزِلَة الْحلف على مس السَّمَاء تَنْعَقِد مُوجبَة للبر لتوهم الْكَوْن فِيمَا خلف عَلَيْهِ ثمَّ بِالْعَجزِ الظَّاهِر ينْتَقل الْوَاجِب فِي الْحَال إِلَى مَا هُوَ خلف عَنهُ وَهُوَ الْكَفَّارَة وَكَذَلِكَ الْحَدث فِي وَقت الصَّلَاة مِمَّن كَانَ عادما للْمَاء يكون مُوجبا للطَّهَارَة بِالْمَاءِ لتوهم الْقُدْرَة عَلَيْهَا ثمَّ تتحول إِلَى التُّرَاب بِاعْتِبَار الْعَجز الظَّاهِر فِي الْحَال غير أَن فِي فصل الْحَائِض بِشَرْط حَقِيقَة الطُّهْر فِي جُزْء من الْوَقْت بِأَن تكون أَيَّامهَا عشرَة أَو الحكم بِالطُّهْرِ بِدَلِيل شَرْعِي بِأَن تكون أَيَّامهَا دون الْعشْرَة فَيَنْقَطِع الدَّم وَالْبَاقِي من الْوَقْت مِقْدَار مَا يُمكنهَا أَن تَغْتَسِل فِيهِ وَتحرم للصَّلَاة وَهَذَا لِأَن فِي أوَامِر الْعباد صفة الْحسن وَلُزُوم الْأَدَاء يثبت بِهَذَا الْقدر من الْقُدْرَة فَإِن من قَالَ لامرىء اسْقِنِي مَاء غَدا يكون أمرا صَحِيحا مُوجبا للْأَدَاء فَلَا يتَعَيَّن للْحَال فَإِنَّهُ يقدر على ذَلِك فِي غَد لجَوَاز أَن يَمُوت قبله أَو يظْهر عَارض يحول بَينه وَبَين التَّمَكُّن من الْأَدَاء فَكَذَلِك فِي أوَامِر الشَّرْع وجوب الْأَدَاء يثبت بِهَذَا الْقدر ثمَّ هَذَا الشَّرْط مُخْتَصّ بِالْأَدَاءِ دون الْقَضَاء فَإِنَّهُ شَرط الْوُجُوب وَلَا يتَكَرَّر الْوُجُوب فِي وَاجِب وَاحِد فَلَا يشْتَرط بَقَاء هَذَا التَّمَكُّن لبَقَاء الْوَاجِب وَلَكِن إِن كَانَ الْفَوات بِمُضِيِّ الْوَقْت لَا عَن تَقْصِير مِنْهُ بَقِي الْأَدَاء وَاجِبا على أَن يَتَأَتَّى بالخلف وَهُوَ الْقَضَاء وَإِن كَانَ عَن تَقْصِير مِنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 فَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِك وَبِاعْتِبَار تعديه يَجْعَل الشَّرْط كالقائم حكما وَلِهَذَا قُلْنَا إِذا هلك المَال بعد وجوب الْحَج وَصدقَة الْفطر لَا يسْقط الْوَاجِب عَنهُ بذلك لِأَن التَّمَكُّن من الْأَدَاء بِملك المَال كَانَ شَرط وجوب الْأَدَاء فَيبقى الْوَاجِب وَإِن انْعَدم هَذَا الشَّرْط وَأما الْكَامِل مِنْهُ فالقدرة الميسرة للْأَدَاء وَهِي زَائِدَة على الأولى بِدَرَجَة كَرَامَة من الله تَعَالَى وَفرق مَا بَينهمَا أَنه لَا يتَغَيَّر بِالْأولَى صفة الْوَاجِب فَكَانَ شَرط الْوُجُوب فَلَا يعْتَبر بَقَاؤُهَا لبَقَاء الْوَاجِب وَالثَّانيَِة يُغير صفة الْوَاجِب فيجعلها سَمحا سهلا لينًا وَلِهَذَا يشْتَرط بَقَاؤُهَا بِبَقَاء الْوَاجِب لِأَنَّهُ مَتى وَجب الْأَدَاء بِصفة لَا يبْقى الْأَدَاء وَاجِبا إِلَّا بِتِلْكَ الصّفة وَلَا يكون الْأَدَاء بِهَذِهِ الصّفة بعد انعدام الْقُدْرَة الميسرة للْأَدَاء وَبَيَان هَذَا أَن الزَّكَاة تسْقط بِهَلَاك المَال بعد التَّمَكُّن من الْأَدَاء لِأَن الشَّرْع إِنَّمَا أوجب الْأَدَاء بِصفة الْيُسْر وَلِهَذَا خصّه بِالْمَالِ النامي وَمَا أوجب الْأَدَاء إِلَّا بعد مُضِيّ حول ليتَحَقَّق النَّمَاء فَيكون الْمُؤَدى جُزْءا من الْفضل قَلِيلا من كثير وَذَلِكَ غَايَة فِي الْيُسْر فَأَما أصل التَّمَكُّن من الْأَدَاء يثبت بِكُل مَال فَلَو بَقِي الْوَاجِب بعد هَلَاك المَال لم يكن الْمُؤَدى بِصفة الْيُسْر بل يكون بِصفة الْغرم فَلَا يكون الْبَاقِي ذَلِك الَّذِي وَجب وَلَا وَجه لإِيجَاب غَيره إِلَّا بِسَبَب متجدد وَلِهَذَا لَو اسْتهْلك المَال بَقِي عَلَيْهِ وجوب الْأَدَاء لِأَنَّهُ صَار النّصاب مَشْغُولًا بِحَق الْمُسْتَحق لِلزَّكَاةِ فالاستهلاك تعد مِنْهُ على مَحل الْحق بالتفويت وَذَلِكَ سَبَب مُوجب للغرم عَلَيْهِ كَالْعَبْدِ الْجَانِي إِذا اسْتَهْلكهُ مَوْلَاهُ وَهُوَ لَا يعلم بِجِنَايَتِهِ يصير غارما لقيمته وَإِن صَادف فعله ملكه بِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى فلوجود سَبَب آخر أمكن إِيجَاب الْأَدَاء لَا بِالصّفةِ الَّتِي بهَا وَجب ابْتِدَاء وَلَا يدْخل على هَذَا مَا إِذا هلك بعض النّصاب فَإِن الْوَاجِب يبْقى بِقدر مَا بَقِي مِنْهُ وَإِن كَانَ كَمَال النّصاب شَرط الْوُجُوب فِي الِابْتِدَاء لِأَن اشْتِرَاط كَمَال النّصاب لَيْسَ لأجل الْيُسْر حَتَّى يتَغَيَّر بِهِ صفة الْوَاجِب فَإِن أَدَاء دِرْهَم من أَرْبَعِينَ وَأَدَاء خَمْسَة من مِائَتَيْنِ فِي معنى الْيُسْر سَوَاء إِذْ كل وَاحِد مِنْهُمَا أَدَاء ربع الْعشْر وَلَكِن شَرط كَمَال النّصاب ليثبت بِهِ صفة الْغنى فِيمَن يجب عَلَيْهِ فالمطلوب بِالْأَدَاءِ إغناء الْمُحْتَاج وَإِنَّمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 يتَحَقَّق الإغناء بِصفة الْحسن من الْغَنِيّ كَمَا يتَحَقَّق التَّمْلِيك من الْمَالِك وأحوال النَّاس تخْتَلف فِي صفة الْغنى بِالْمَالِ فَجعل الشَّرْع لذَلِك حدا وَهُوَ ملك النّصاب تيسيرا ثمَّ هَذَا الْغنى شَرط وجوب الْأَدَاء بِمَنْزِلَة أدنى التَّمَكُّن الَّذِي هُوَ شَرط وجوب الْأَدَاء من غير أَن يكون مغيرا صفة الْوَاجِب فَلهَذَا لَا يشْتَرط بَقَاؤُهُ لبَقَاء الْوَاجِب وَلَكِن بِقدر مَا بَقِي من المَال يبْقى الْوَاجِب بِصفتِهِ لبَقَاء صفة الْيُسْر فِيهِ وعَلى هَذَا قُلْنَا يسْقط الْعشْر بِهَلَاك الْخَارِج قبل الْأَدَاء لِأَن الْقُدْرَة الميسرة شَرط الْأَدَاء فِيهِ فالعشر مؤونة الأَرْض النامية وَلَا يجب إِلَّا بعد تحقق الْخَارِج فَإِنَّمَا يجب قَلِيل من كثير من النَّمَاء فَيكون الْأَدَاء بِصفة الْيُسْر وَذَلِكَ لَا يبْقى بعد هَلَاك الْخَارِج وَكَذَلِكَ الْخراج لَا يبْقى إِذا اصطلم الزَّرْع آفَة لِأَن وجوب الْأَدَاء بِاعْتِبَار الْقُدْرَة الميسرة وَلِهَذَا يتَقَدَّر الْوَاجِب بِحَسب الرّبع حَتَّى إِذا قل الْخَارِج لَا يجب من الْخَارِج أَكثر من نصف الْخَارِج إِلَّا أَن عِنْد التَّمَكُّن من الزِّرَاعَة إِذا لم يفعل جعلت الْقُدْرَة الميسرة كالموجود حكما بتقصير كَانَ مِنْهُ فِي الزِّرَاعَة وَذَلِكَ لَا يُوجد فِيمَا إِذا اصطلم الزَّرْع آفَة فَلَو بَقِي الْخراج كَانَ غرما وَلِهَذَا قُلْنَا لَا يسْقط الْعشْر بِمَوْت من عَلَيْهِ مَعَ بَقَاء الْخَارِج لِأَن الْقُدْرَة الميسرة لأَدَاء المالي بِالْمَالِ تكون وَهُوَ بَاقٍ بعد مَوته فَيجْعَل هُوَ كالحي حكما بِاعْتِبَار خَلفه وَيكون أَدَاء الْوَاجِب بِالصّفةِ الَّتِي يثبت بهَا الْوُجُوب ابْتِدَاء وَكَذَلِكَ الزَّكَاة لَا تسْقط بِمَوْتِهِ فِي أَحْكَام الْآخِرَة وَلِهَذَا يُؤمر بالإيصاء بِهِ وتؤدى من ثلث مَاله بعد مَوته إِذا أوصى لبَقَاء الْقُدْرَة الميسرة وَبِاعْتِبَار حَيَاته حكما وَبَقَاء الْمحل الَّذِي هُوَ خَالص حَقه وَهُوَ الثُّلُث فَيكون الْأَدَاء مِنْهُ بِصفة الْيُسْر إِلَّا أَنه إِذا لم يوص لَا يبْقى فِي أَحْكَام الدُّنْيَا بعد مَوته لِأَن الْوَاجِب أَدَاء الْعِبَادَة وَبِاعْتِبَار الْخلَافَة الَّتِي تثبت بعد مَوته لَا يُمكن تَحْقِيق هَذَا الْوَصْف لِأَن ذَلِك يثبت من غير اخْتِيَار لَهُ مِنْهُ وَفِي الْعشْر معنى الْعِبَادَة لما لم يكن مَقْصُودا بَقِي بعد مَوته وَإِن لم يوص بِهِ وَكَذَلِكَ الْخراج إِذا حصل الْخَارِج ثمَّ هلك قبل أَدَائِهِ وعَلى هَذَا قُلْنَا إِن الحانث فِي يَمِينه إِذا عجز عَن التَّكْفِير بِالْمَالِ يجوز لَهُ أَن يكفر بِالصَّوْمِ لِأَن وجوب الْكَفَّارَة بِاعْتِبَار الْقُدْرَة الميسرة أَلا ترى أَنه ثَبت التخير شرعا فِي أَنْوَاع التَّكْفِير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 بِالْمَالِ وَالْوَاجِب أحد الْأَنْوَاع عِنْد أهل الْفِقْه بِخِلَاف مَا يَقُوله بعض الْمُتَكَلِّمين أَن الْكل وَاجِب لِاسْتِوَاء الْكل فِي صِيغَة الْأَمر والتخيير لإِسْقَاط الْوَاجِب بِمَا يُعينهُ مِنْهَا ويجعلون الْأَمر مثل قِيَاس النَّهْي فَإِن مثل هَذَا التَّخْيِير فِي النَّهْي لَا يخرج حكم النَّهْي من أَن يكون متناولا جَمِيع مَا تنَاوله الصِّيغَة فَكَذَلِك الْأَمر وَلَكنَّا نقُول فِي النَّهْي يتَحَقَّق وجوب الِانْتِهَاء فِي الْكل مَعَ ذكر حرف أَو لِأَن ذَلِك فِي مَوضِع النَّفْي وحرف أَو فِي مَوضِع النَّفْي يُوجب التَّعْمِيم قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفورا} فَأَما فِي بَاب الْكَفَّارَة ذكر حرف أَو فِي مَوضِع الْإِثْبَات فَإِنَّمَا يُفِيد الْإِيجَاب فِي أحد الْأَنْوَاع أَلا ترى أَنه لَو كفر بالأنواع كلهَا لم يكن مُؤديا للْوَاجِب فِي جَمِيعهَا ويستحيل أَن يكون وَاجِبا قبل الْأَدَاء ثمَّ إِذا أدّى يكون الْمُؤَدى نفلا لَا وَاجِبا ويتأدى الْوَاجِب بِنَوْع وَاحِد وَهَذَا النَّوْع مَنْصُوص عَلَيْهِ فَلَا يكون خلفا عَن غَيره وَلَو كَانَ الْكل وَاجِبا لم يسْقط الْوَاجِب فِي الْبَعْض بِدُونِ أَدَائِهِ أَو أَدَاء مَا هُوَ خلف عَنهُ فَعرفنَا أَن الْوَاجِب أحد الْأَنْوَاع والتخيير ليَكُون الْأَدَاء بِصفة الْيُسْر وَلِهَذَا تحول إِلَى الصَّوْم عِنْد الْعَجز عَن الْأَدَاء بِالْمَالِ وَالْمُعْتَبر فِيهِ الْعَجز للْحَال لَا تحقق الْعَجز بعجز مستدام فِي الْعُمر فَإِن فِي قَوْله تَعَالَى {فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام} مَا يدل على أَنه يعْتَبر الْعَجز فِي الْحَال إِذْ لَو اعْتبر الْعَجز فِي جَمِيع الْعُمر لم يتَحَقَّق أَدَاء الصَّوْم بعد هَذَا الْعَجز وَكَذَلِكَ التَّكْفِير بِالطَّعَامِ فِي الظِّهَار يعْتَبر الْعَجز فِي الْحَال عَن التَّكْفِير بِالصَّوْمِ وَلِهَذَا لَو مرض أَيَّامًا فَكفر بِالْإِطْعَامِ جَازَ فَتبين بِهَذَا كُله أَن الْمُعْتَبر فِي الْكَفَّارَة الْقُدْرَة الميسرة للْأَدَاء وَبعد هَلَاك المَال لَا يبْقى ذَلِك لَو بَقِي التَّكْفِير بِالْمَالِ عينا فجوزنا لَهُ التَّكْفِير بِالصَّوْمِ وَلَا تَفْصِيل هُنَا بَين أَن يهْلك المَال بصنعه أَو بِغَيْر صنعه لِأَن الْوَاجِب لَا يُصَادف المَال قبل الْأَدَاء وَلَا يَجْعَل المَال مَشْغُولًا بِهِ فَلَا يكون الِاسْتِهْلَاك تَعَديا على مَحل مَشْغُول بِحَق الْمُسْتَحق وَلِهَذَا لَا يسْقط بِهَلَاك المَال حَتَّى إِنَّه إِذا أيسر بِمَال آخر يلْزمه التَّكْفِير بِالْمَالِ لِأَن الْقُدْرَة الميسرة تثبت بِملك المَال وَلَا تخْتَص بِمَال دون مَال فَكَانَ المَال الْمُسْتَفَاد فِيهِ وَالْمَال الَّذِي عِنْده سَوَاء وَلِهَذَا لَا يعْتَبر فِيهِ كَون المَال ناميا وَلَا يعْتَبر صفة الْغنى فِيمَن يجب عَلَيْهِ لِأَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 بِالْوَاجِبِ لَيْسَ من نَمَاء المَال وَإِنَّمَا الشَّرْط فِيهِ الْقُدْرَة الميسرة للْأَدَاء على وَجه ينَال الثَّوَاب بِالْأَدَاءِ فَيكون ذَلِك ساترا لما لحقه لارتكاب الْمَحْظُور وَفِي هَذَا يَسْتَوِي المَال النامي وَغير النامي وَيخرج على مَا بَينا أَنه إِذا هلك المَال بعد وجوب الْحَج بِأَن كَانَ مَالِكًا للزاد وَالرَّاحِلَة وَقت خُرُوج الْقَافِلَة من بلدته فَإِنَّهُ لَا يسْقط عَنهُ الْحَج لِأَن الشَّرْط هُنَاكَ أدنى التَّمَكُّن دون الْيُسْر فاليسر فِي سفر الْحَج يكون بالخدم والمراكب والأعوان وَذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْط وَأدنى التَّمَكُّن شَرط وجوب الْأَدَاء فَلَا يشْتَرط بَقَاؤُهُ لبَقَاء الْوَاجِب وَكَذَلِكَ لَو هلك المَال بعد وجوب صَدَقَة الْفطر أَو هلك من وَجب عَلَيْهِ بعد وجوب الْأَدَاء فَإِنَّهُ لَا يسْقط الْوَاجِب لِأَن شَرط الْوُجُوب هُنَاكَ أدنى التَّمَكُّن وَصفَة الْغنى فِيمَن يجب عَلَيْهِ الْأَدَاء دون الْيُسْر وَلِهَذَا لَو ملك من مَال البذلة والمهنة فضلا على حَاجته مَا يُسَاوِي نِصَابا يجب عَلَيْهِ وَبِهَذَا النَّوْع من المَال يحصل أدنى التَّمَكُّن والغنى إِذا بلغ نِصَابا فَأَما صفة الْيُسْر فَهُوَ مُخْتَصّ بِالْمَالِ النامي ليَكُون الْأَدَاء من فضل المَال وَذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْط هُنَا فَعرفنَا أَن التَّمَكُّن والغنى شَرط وجوب الْأَدَاء بِاعْتِبَار أَنه غَنِي قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أغنوهم عَن الْمَسْأَلَة فِي مثل هَذَا الْيَوْم والإغناء إِنَّمَا يتَحَقَّق من الْغنى وَلم يتَغَيَّر صفة الْمُؤَدى بِهَذَا الشَّرْط فَلَا يشْتَرط بَقَاؤُهُ لبَقَاء الْوَاجِب وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا لَا تجب الزَّكَاة فِي مَال الْمَدْيُون بِقدر مَا عَلَيْهِ من الدّين لِأَن الْوُجُوب بِاعْتِبَار الْغنى واليسر وَذَلِكَ يَنْعَدِم بِالدّينِ والغنى إِنَّمَا يحصل بِفضل عَن حَاجته وَحَاجته إِلَى قَضَاء الدّين حَاجَة أَصْلِيَّة فَلَا يحصل الْغنى بِملك ذَلِك الْقدر من المَال وَلِهَذَا حل لَهُ أَخذ الصَّدَقَة وَهِي لَا تحل لَغَنِيّ وَإِنَّمَا تيَسّر الْأَدَاء إِذا كَانَ الْمُؤَدى فضل مَال غير مَشْغُول بحاجته وَكَذَلِكَ لَا تجب صَدَقَة الْفطر على الْمَدْيُون إِذا لم يملك نِصَابا فضلا عَن دينه لِأَن الْغَنِيّ يملك المَال مُعْتَبر فِي إِيجَاب صَدَقَة الْفطر على مَا بَينا أَنه إغناء للمحتاج وبحاجته إِلَى قَضَاء الدّين تنعدم صفة الْغنى وَإِن كَانَ الدّين على العَبْد الَّذِي هُوَ عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 للْخدمَة فعلى الْمولى أَن يُؤَدِّي عَنهُ صَدَقَة الْفطر لِأَن صفة الْغنى ثَابت لَهُ بِملك من النّصاب سوى هَذَا الْقدر وأصل الْمَالِيَّة غير مُعْتَبرَة فِيمَن يجب الْأَدَاء عَنهُ وَلِهَذَا تجب عَن وَلَده الْحر وَكَذَلِكَ الْغنى بِهِ غير مُعْتَبر فَإِنَّهُ يجب الْأَدَاء عَن الْمُدبر وَأم الْوَلَد وَإِن لم يكن هُوَ غَنِيا بِملكه فيهمَا فَكَذَلِك إِذا كَانَ العَبْد مَشْغُولًا بِالدّينِ لِأَن ذَلِك الدّين على العَبْد يُوجب اسْتِحْقَاق مَالِيَّته فَيخرج الْمولى من أَن يكون غَنِيا بِهِ وَلَو كَانَ هَذَا العَبْد الْمَدْيُون للتِّجَارَة لم يجب على الْمولى أَن يُؤَدِّي عَنهُ زَكَاة التِّجَارَة لِأَن الْغنى بِالْمَالِ الَّذِي يجب أَدَاء الزَّكَاة عَنهُ شَرط ليَكُون الْأَدَاء بِصفة الْيُسْر وَذَلِكَ يَنْعَدِم بِقِيَام الدّين على العَبْد وَلَا يدْخل على مَا ذكرنَا وجوب كَفَّارَة الْمُوسر على الْمَدْيُون مَعَ اعْتِبَار صفة الْيُسْر فِي التَّكْفِير بِالْمَالِ لِأَن الْمَذْكُور فِي كتاب الْأَيْمَان أَنه إِذا حنث فِي يَمِين وَله ألف دِرْهَم وَعَلِيهِ مثلهَا دين فَإِنَّهُ يكفر بِالصَّوْمِ بَعْدَمَا يقْضِي دينه بِالْمَالِ وَلم يتَعَرَّض لما قبل قَضَاء الدّين أَنه بِمَاذَا يكفر فَقَالَ بعض مَشَايِخنَا يكفر بِالصَّوْمِ أَيْضا لِأَن مَا فِي يَده من المَال مُسْتَحقّ بِدِينِهِ مَشْغُول بحاجته وَفِي التَّكْفِير بِالْمَالِ صفة الْيُسْر مُعْتَبر بِدَلِيل التَّخْيِير المثابت بِالنَّصِّ وبسبب الدّين يَنْعَدِم الْيُسْر فيكفر بِالصَّوْمِ وَمِنْهُم من يَقُول يلْزمه التَّكْفِير بِالْمَالِ لِأَن الْكَفَّارَة أوجبت ساترة أَو زاجرة وَمَا أوجبت شكرا للنعمة فَلَا تشبه الزَّكَاة من هَذَا الْوَجْه فَإِنَّهَا أوجبت شكرا للنعمة والغنى وَلِهَذَا يشْتَرط لإيجابها أتم وُجُوه الْغنى وَذَلِكَ بِالْمَالِ النامي وَحَاجته إِلَى قَضَاء الدّين بِالْمَالِ يعْدم تَمام الْغنى وَلَا يعْدم معنى حُصُول الثَّوَاب لَهُ إِذا تصدق بِهِ ليَكُون ذَلِك ساترا للإثم الَّذِي لحقه بارتكاب مَحْظُور الْيَمين وَهُوَ الْمَقْصُود بِالْكَفَّارَةِ قَالَ تَعَالَى {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} يُوضحهُ أَن معنى الإغناء غير مُعْتَبر فِي التَّكْفِير بِالْمَالِ أَلا ترى أَنه يحصل بِالْإِعْتَاقِ وَلَيْسَ فِيهِ إغناء وَلِهَذَا قُلْنَا يحصل التَّكْفِير بِالْمَالِ بِطَعَام الْإِبَاحَة وَإِن كَانَ الإغناء لَا يحصل بِهِ فَعرفنَا أَن الْمُعْتَبر فِي التَّكْفِير بِالْمَالِ أصل الْيُسْر لَا نهايته وتيسير الْأَدَاء قَائِم بِملك المَال مَعَ قيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الدّين عَلَيْهِ، فَأَما فِي الزَّكَاة الْمُعْتَبر هُوَ الإغناء، وَلِهَذَا لَا يتَأَدَّى إِلَّا بِتَمْلِيك المَال والإغناء لَا يتَحَقَّق مِمَّن لَيْسَ بغني كَامِل الْغنى وبسبب الدّين يَنْعَدِم الْغنى وَلِهَذَا يمْتَنع وجوب أَدَاء الزَّكَاة وَصدقَة الْفطر على الْمَدْيُون فصل فِي بَيَان مُوجب الْأَمر فِي حق الْكفَّار لَا خلاف أَنهم مخاطبون بِالْإِيمَان لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث إِلَى النَّاس كَافَّة لِيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَان قَالَ تَعَالَى {قل يَا أَيهَا النَّاس إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم جَمِيعًا} إِلَى قَوْله تَعَالَى {فآمنوا بِاللَّه وَرَسُوله} فَهَذَا الْخطاب مِنْهُ يتناولهم لَا محَالة وَلَا خلاف أَنهم مخاطبون بالمشروع من الْعُقُوبَات وَلِهَذَا تُقَام على أهل الذِّمَّة عِنْد تقرر أَسبَابهَا لِأَنَّهَا تُقَام بطرِيق الخزي والعقوبة لتَكون زاجرة عَن الْإِقْدَام على أَسبَابهَا وباعتقاد حُرْمَة السَّبَب يتَحَقَّق ذَلِك وَلَا تنعدم الْأَهْلِيَّة لإِقَامَة ذَلِك عَلَيْهِ بطريقه بل هُوَ جَزَاء وعقوبة فبالكفار أليق مِنْهُ بِالْمُؤْمِنِينَ وَلَا خلاف أَن الْخطاب بالمعاملات يتناولهم أَيْضا لِأَن الْمَطْلُوب بهَا معنى دُنْيَوِيّ وَذَلِكَ بهم أليق فقد آثروا الدُّنْيَا على الْآخِرَة وَلِأَنَّهُم ملتزمون لذَلِك فعقد الذِّمَّة يقْصد بِهِ الْتِزَام أَحْكَام الْمُسلمين فِيمَا يرجع إِلَى الْمُعَامَلَات فَيثبت حكم الْخطاب بهَا فِي حَقهم كَمَا يثبت فِي حق الْمُسلمين لوُجُود الِالْتِزَام إِلَّا فِيمَا يعلم لقِيَام الدَّلِيل أَنهم غير ملتزمين لَهُ وَلَا خلاف أَن الْخطاب بالشرائع يتناولهم فِي حكم الْمُؤَاخَذَة فِي الْآخِرَة لِأَن مُوجب الْأَمر اعْتِقَاد اللُّزُوم وَالْأَدَاء وهم يُنكرُونَ اللُّزُوم اعتقادا وَذَلِكَ كفر مِنْهُم بِمَنْزِلَة إِنْكَار التَّوْحِيد فَإِن صِحَة التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار بِالتَّوْحِيدِ لَا يكون مَعَ إِنْكَار شَيْء من الشَّرَائِع وَقَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله فِي السّير الْكَبِير من أنكر شَيْئا من الشَّرَائِع فقد أبطل قَول لَا إِلَه إِلَّا الله فقد ذكر بعض من لَا يعْتَمد على قَوْله من أهل زَمَاننَا فِي تصنيف لَهُ أَن الْمُسلم إِذا أنكر شَيْئا من الشَّرَائِع فَهُوَ كَافِر فِيمَا أنكرهُ مُؤمن فِيمَا سوى ذَلِك وَهُوَ شبه الْمحَال من الْكَلَام يبتلى ذَلِك هُوَ مُخَالف للرواية المنصوصة عَن الْمُتَقَدِّمين من أَصْحَابنَا رَحِمهم الله فَإِذا ثَبت أَنه ترك ذَلِك استحلالا وجحودا يكون كفرا مِنْهُ ظهر أَنه معاقب عَلَيْهِ فِي الْآخِرَة كَمَا هُوَ معاقب على أصل الْكفْر وَهُوَ المُرَاد بقوله تَعَالَى {وويل للْمُشْرِكين الَّذين لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة} أَي لَا يقرونَ بهَا وَقَالَ تَعَالَى الْمَرْء بِمثلِهِ لقلَّة التَّأَمُّل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 أَو إعجابه بِنَفسِهِ أعاذنا الله من ذَلِك وَمَعَ {مَا سلككم فِي سقر قَالُوا لم نك من الْمُصَلِّين} قيل فِي التَّفْسِير من الْمُسلمين المعتقدين فَرضِيَّة الصَّلَاة فَهَذَا معنى قَوْلنَا إِن الْخطاب يتناولهم فِيمَا يرجع إِلَى الْعقُوبَة فِي الْآخِرَة فَأَما فِي وجوب الْأَدَاء فِي أَحْكَام الدُّنْيَا فمذهب الْعِرَاقِيّين من مَشَايِخنَا رَحِمهم الله أَن الْخطاب يتناولهم أَيْضا وَالْأَدَاء وَاجِب عَلَيْهِم فَإِنَّهُم لَا يعاقبون على ترك الْأَدَاء إِذا لم يكن الْأَدَاء وَاجِبا عَلَيْهِم وَظَاهر مَا تلونا يدل على أَنهم يعاقبون فِي الْآخِرَة على الِامْتِنَاع من الْأَدَاء فِي الدُّنْيَا وَلِأَن الْكفْر رَأس الْمعاصِي فَلَا يصلح سَببا لاسْتِحْقَاق التَّخْفِيف وَمَعْلُوم أَن سَبَب الْوُجُوب متقرر فِي حَقهم وصلاحية الذِّمَّة لثُبُوت الْوَاجِب فِيهَا بِسَبَبِهِ مَوْجُود فِي حَقهم وَشرط وجوب الْأَدَاء التَّمَكُّن مِنْهُ وَذَلِكَ غير منعدم فِي حَقهم فَلَو سقط الْخطاب بِالْأَدَاءِ كَانَ ذَلِك تَخْفِيفًا وَالْكفْر لَا يصلح تَخْفِيفًا لذَلِك وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول إِن التَّمَكُّن من الْأَدَاء على هَذِه الصّفة لَا يتَحَقَّق حَتَّى لَو أدّى لم يكن ذَلِك معتدا بِهِ لِأَنَّهُ يتَمَكَّن بِهِ من الْأَدَاء بِشَرْط أَن يقدم الْإِيمَان وَالْخطاب بِهِ ثَابت فِي حَقه فَهُوَ نَظِير الْجنب والمحدث يتَمَكَّن من أَدَاء الصَّلَاة بِشَرْط الطَّهَارَة وَهُوَ مطَالب بذلك فَيكون مُتَمَكنًا من أَدَاء الصَّلَاة يتَوَجَّه عَلَيْهِ الْخطاب بأدائها مَعَ أَن انعدام التَّمَكُّن من الْأَدَاء بإصراره على الْكفْر وَهُوَ جَان فِي ذَلِك فَيجْعَل التَّمَكُّن قَائِما حكما إِذا كَانَ انعدامه بِسَبَب جِنَايَته أَلا ترى أَن زَوَال التَّمَكُّن بِسَبَب الشُّكْر لَا يسْقط الْخطاب بأَدَاء الْعِبَادَات وَكَذَلِكَ انعدام التَّمَكُّن بِسَبَب الْجَهْل إِذا كَانَ بتقصير مِنْهُ لَا يسْقط الْخطاب بِالْأَدَاءِ فبسبب الْكفْر أولى ومشايخ دِيَارنَا يَقُولُونَ إِنَّهُم لَا يخاطبون بأَدَاء مَا يحْتَمل السُّقُوط من الْعِبَادَات وَجَوَاب هَذِه الْمَسْأَلَة غير مَحْفُوظ من الْمُتَقَدِّمين من أَصْحَابنَا رَحِمهم الله نصا وَلَكِن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 مسائلهم تدل على ذَلِك فَإِن الْمُرْتَد إِذا أسلم لَا يلْزمه قَضَاء الصَّلَوَات الَّتِي تَركهَا فِي حَال الرِّدَّة عندنَا وَتلْزَمهُ عِنْد الشَّافِعِي وَالْمُرْتَدّ كَافِر وَاسْتدلَّ بعض أَصْحَابنَا على أَن الْخلاف بَيْننَا وَبَين الشَّافِعِي أَن تنصيص عُلَمَائِنَا أَن ذَلِك لَا يلْزمه الْقَضَاء بعد الْإِسْلَام دَلِيل على أَنه لم يكن مُخَاطبا بأدائها فِي حَالَة الْكفْر وَهَذَا ضَعِيف فسقوط الْقَضَاء عَن الْمُرْتَد وَالْكَافِر الْأَصْلِيّ بعد الْإِسْلَام بِوُجُود الدَّلِيل الْمسْقط وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف} وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام الْإِسْلَام يجب مَا قبله والسقوط بِإِسْقَاط من لَهُ الْحق لَا يكون دَلِيل انْتِفَاء أصل الْوُجُوب وَمِنْهُم من اسْتدلَّ على ذَلِك بِمن صلى فِي أول الْوَقْت ثمَّ ارْتَدَّ ثمَّ أسلم فِي آخر الْوَقْت فَعَلَيهِ أَدَاء فرض الْوَقْت عندنَا لِأَن بِالرّدَّةِ يَنْعَدِم خطاب الْأَدَاء فِي حَقه والاعتداد بِمَا مضى كَانَ بِنَاء عَلَيْهِ فَإِذا أسلم وَقد بَقِي شَيْء من الْوَقْت يثبت الْوُجُوب بِاعْتِبَارِهِ وَيصير مُخَاطبا بِالْأَدَاءِ ابْتِدَاء وعَلى قَول الشَّافِعِي لَا يلْزمه الْأَدَاء لِأَن الْخطاب بِالْأَدَاءِ لَا يَنْعَدِم فِي حَقه بِالرّدَّةِ فَبَقيَ الْمُؤَدى معتدا بِهِ وعَلى هَذَا لَو حج ثمَّ ارْتَدَّ ثمَّ أسلم وَلَكِن هَذَا ضَعِيف أَيْضا فَإِن الْمُؤَدى إِنَّمَا لَا يكون معتدا بِهِ بعد الرِّدَّة لِأَن الرِّدَّة تحبط الْعَمَل قَالَ الله تَعَالَى {وَمن يكفر بِالْإِيمَان فقد حَبط عمله} يَعْنِي مَا اكْتسب من الْعِبَادَات وَمَا حَبط لَا يكون معتدا فَلهَذَا ألزمناه الْأَدَاء ثَانِيًا وَمِنْهُم من جعل هَذِه الْمَسْأَلَة فرعا لأصل مَعْرُوف بَيْننَا وَبينهمْ أَن الشَّرَائِع عِنْدهم من نفس الْإِيمَان وهم مخاطبون بِالْإِيمَان (فيخاطبون بالشرائع وَعِنْدنَا الشَّرَائِع لَيست من نفس الْإِيمَان وهم مخاطبون بِالْإِيمَان) فَلَا يخاطبون بِالْأَدَاءِ بالشرائع الَّتِي تبتنى على الْإِيمَان مَا لم يُؤمنُوا وَهَذَا ضَعِيف أَيْضا فَإِنَّهُم مخاطبون بالعقوبات والمعاملات وَلَيْسَ شَيْء من ذَلِك من نفس الْإِيمَان أَيْضا فَالَّذِي يَصح من الِاسْتِدْلَال لمشايخنا رَحِمهم الله على هَذَا الْمَذْهَب لفظ مَذْكُور فِي الْكتاب وَهُوَ أَن من نذر أَن يَصُوم شهرا ثمَّ ارْتَدَّ ثمَّ أسلم فَلَيْسَ عَلَيْهِ من الصَّوْم الْمَنْذُور شَيْء لِأَن الرِّدَّة تبطل كل عبَادَة وَمَعْلُوم أَنه لم يرد بِهَذَا التَّعْلِيل الْعِبَادَة المؤداة فَهُوَ مَا أدّى الْمَنْذُور بعد فَعرف أَن الرِّدَّة تبطل وجوب أَدَاء كل عبَادَة فَيكون هَذَا شبه التَّنْصِيص عَن أَصْحَابنَا أَن الْخطاب بأَدَاء الشَّرَائِع الَّتِي تحْتَمل السُّقُوط لَا يتناولهم مَا لم يُؤمنُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وَالدَّلِيل على صِحَة هَذَا القَوْل أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لما بعث معَاذًا إِلَى الْيمن فَقَالَ ادعهم إِلَى شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله فَإِن هم أجابوك فأعلمهم أَن الله تَعَالَى فرض عَلَيْهِم خمس صلوَات فِي كل يَوْم وَلَيْلَة الحَدِيث فَفِي هَذَا تنصيص على أَن وجوب أَدَاء الشَّرَائِع يَتَرَتَّب على الْإِجَابَة إِلَى مَا دعوا إِلَيْهِ من أصل الدّين وَالدَّلِيل على ذَلِك من طَرِيق الْمَعْنى أَن الْأَمر بأَدَاء الْعِبَادَة لينال بِهِ الْمُؤَدِّي الثَّوَاب فِي الْآخِرَة حكما من الله تَعَالَى (كَمَا وعده فِي مُحكم تَنْزِيله وَالْكَافِر لَيْسَ بِأَهْل لثواب الْعِبَادَة عُقُوبَة لَهُ على كفره حكما من الله تَعَالَى) كَمَا أَن العَبْد لَا يكون أَهلا لملك المَال حكما من الله تَعَالَى وَالْمَرْأَة لَا تكون أَهلا لثُبُوت ملك الْمُتْعَة لَهَا على الرجل بِسَبَب النِّكَاح أَو بِسَبَب ملك الرَّقَبَة حكما من الله تَعَالَى وَإِذا تحقق انعدام الْأَهْلِيَّة للْكَافِرِ فِيمَا هُوَ الْمَطْلُوب بِالْأَدَاءِ يظْهر بِهِ انعدام الْأَهْلِيَّة للْأَدَاء وَبِدُون الْأَهْلِيَّة لَا يثبت وجوب الْأَدَاء وَبِه فَارق الْخطاب بِالْإِيمَان فَإِنَّهُ بِالْأَدَاءِ يصير أَهلا لما وعد الله الْمُؤمنِينَ فبه تبين الْأَهْلِيَّة للْأَدَاء أَيْضا فَإِن قيل هُوَ بِالْإِيمَان يصير أَهلا لما هُوَ مَوْعُود على أَدَاء الْعِبَادَات وَهُوَ مطَالب بِالْإِيمَان فَيَنْبَغِي أَن يَجْعَل فِي حكم توجه الْخطاب بِالْأَدَاءِ عَلَيْهِ كَأَن مَا هُوَ مطَالب بِهِ بِالْإِيمَان مَوْجُود فِي حَقه كَمَا جعل النُّطْفَة فِي الرَّحِم كالحي حكما فِي حق الْإِرْث وَالْوَصِيَّة وَالْإِعْتَاق وَيجْعَل الْبيض كالصيد حكما فِي وجوب الْجَزَاء على الْمحرم بكسره وَإِن لم يكن فِيهَا معنى الصيدية حَقِيقَة قُلْنَا هَذَا أَن لَو كَانَ مآل أمره الْإِيمَان بِاعْتِبَار الظَّاهِر كالبيض والنطفة فمآلهما إِلَى الْحَيَاة والصيدية مَا لم يفسدا ومآل أَمر الْكَافِر لَيْسَ للْإيمَان ظَاهرا بل الظَّاهِر من حَال كل معتقداته يستديم اعْتِقَاده ثمَّ هَذَا الْمَعْنى إِنَّمَا يَسْتَقِيم اعْتِبَاره إِذا كَانَ عِنْد إيمَانه يَتَقَرَّر وجوب الْأَدَاء فِيمَا يَتَقَرَّر سَببه فِي حَال الْكفْر فَيُقَال يُخَاطب بِالْأَدَاءِ على أَن يسلم فيتقرر وجوب الْأَدَاء كَمَا فِي النُّطْفَة وَالْبيض فَإِن حكم الْعتْق وَالْملك والصيدية يَتَقَرَّر إِذا تحقق صفة الْحَيَاة فيهمَا وَهَهُنَا يَنْعَدِم بالِاتِّفَاقِ فَإِنَّهُ بعد الْإِيمَان لَا يبْقى وجوب الْأَدَاء فِي شَيْء مِمَّا سبق فِي حَالَة الْكفْر فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن العَبْد من أهل مُبَاشرَة التَّصَرُّف الْمُوجب لملك المَال وَإِن لم يكن أَهلا لملك المَال فَكَذَلِك يجوز أَن يكون الْكَافِر يُخَاطب بأَدَاء الْعِبَادَات وَإِن لم يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 أَهلا لما هُوَ الْمَقْصُود بالآداء قُلْنَا صِحَة ذَلِك التَّصَرُّف من الْمَمْلُوك على أَن يخلفه الْمولى فِي حكمه أَو على أَن يَتَقَرَّر الحكم لَهُ إِذا أعتق كَالْمكَاتبِ فَأَما هُنَا لَا تثبت أَهْلِيَّة الْأَدَاء فِي حَقه على أَن يخلفه غَيره فِيمَا هُوَ المبتغي بِالْأَدَاءِ أَو على أَن يَتَقَرَّر ذَلِك لَهُ بعد إيمَانه وَهَذَا بِخِلَاف الْجنب والمحدث فِي الْخطاب بأَدَاء الصَّلَاة لِأَن الْأَهْلِيَّة لما هُوَ مَوْعُود للمصلين لَا يَنْعَدِم بالجنابة وَالْحَدَث وَلَكِن الطَّهَارَة شَرط الْأَدَاء وبانعدام الشَّرْط لَا تنعدم الْأَهْلِيَّة لأَدَاء الأَصْل وَمَا هَذَا إِلَّا نَظِير من يَقُول لغيره أعتق عَبدك عني على ألف دِرْهَم فَأعْتقهُ يَصح إِعْتَاقه عَن الْآمِر بِاعْتِبَار أَن الْملك فِي الْمحل شَرط الْإِعْتَاق فانعدامه عِنْد الْأَمر لَا يمْنَع صِحَة الْأَمر على أَن يكون مُوجبا للْحكم لَهُ إِذا وجد الشَّرْط عِنْد إِيجَاد الْعتْق وَلَو قَالَ الْمولى لعَبْدِهِ أعتق عَن نَفسك عبدا فَأعتق لم يَصح هَذَا الْأَمر وَلم يكن الْإِعْتَاق عَن العَبْد لِأَنَّهُ بِصفة الرّقّ يخرج من أَن يكون أَهلا للإعتاق عَن نَفسه فَلَا يَصح أمره إِيَّاه بِالْإِعْتَاقِ عَن نَفسه مَعَ انعدام الْأَهْلِيَّة وَتبين بِهَذَا أَن سُقُوط الْخطاب بِالْأَدَاءِ عَنْهُم لَيْسَ للتَّخْفِيف عَلَيْهِم كَمَا ظنُّوا بل لتحَقّق معنى الْعقُوبَة والنقمة فِي حَقهم فَإِن الْإِخْرَاج من الْأَهْلِيَّة لثواب الْعِبَادَة يكون نقمة يُوضحهُ أَن الْأَمر لطلب أَدَاء الْعِبَادَة وَهُوَ مَعَ صفة الْكفْر لَا يكون أَهلا لِلْعِبَادَةِ بل يحبط عمله كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وَقدمنَا إِلَى مَا عمِلُوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} وَمَعْلُوم أَن فِي الْعِبَادَة الْمَنْفَعَة للمؤدي الْمَأْمُور لَا للْآمِر قَالَ الله تَعَالَى {وَمن عمل صَالحا فلأنفسهم يمهدون} وَالْكَافِر لَا يسْتَحق هَذَا النّظر وَالْمَنْفَعَة عُقُوبَة لَهُ على كفره فَكيف يكون فِيهِ معنى التَّخْفِيف عَلَيْهِ والإيجاب من الْآمِر نظر من الشَّرْع للْمَأْمُور فَعَسَى أَن يقصر فِيمَا لَا يكون وَاجِبا عَلَيْهِ وَلَا يقصر فِي أَدَاء مَا هُوَ وَاجِب عَلَيْهِ وَالْكَافِر غير مُسْتَحقّ لهَذَا النّظر فقولنا وجوب الْأَدَاء لَا يتَنَاوَلهُ يكون تَغْلِيظًا عَلَيْهِ لَا تَخْفِيفًا وَلِهَذَا أثبتنا حكم وجوب الْأَدَاء فِيمَا يرجع إِلَى الْعقُوبَة فِي الْآخِرَة فِي حَقه ثمَّ هُوَ بإصراره على الْكفْر متْلف نَفسه حكما فِيمَا يرجع إِلَى مَا هُوَ الْمَقْصُود بالعبادات فَيكون بِمَنْزِلَة من قتل نَفسه حَقِيقَة وَلَا يَجْعَل قَاتل النَّفس حَقِيقَة كالحي حكما فِي توجه الْخطاب عَلَيْهِ بأَدَاء الْعِبَادَات لَا للتَّخْفِيف عَلَيْهِ فَكَذَلِك الْكَافِر لَا يَجْعَل مُتَمَكنًا من الْأَدَاء حكما مَعَ إصراره على الْكفْر لَا بطرِيق التَّخْفِيف عَلَيْهِ وَلَكِن تجْعَل ذمَّته كالمعدومة حكما فِي الصلاحية لوُجُوب أَدَاء الْعِبَادَات فِيهَا تَحْقِيقا لِمَعْنى الهوان فِي حَقهم الله تَعَالَى قَالَ {إِن هم إِلَّا كالأنعام بل هم أضلّ سَبِيلا} ثمَّ الْخطاب وَهُوَ أَن يلحقهم بالبهائم الَّتِي لَا ذمَّة لَهَا فِي هَذَا الحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 كَمَا وَصفهم بأَدَاء الْعِبَادَات ليسعى الْمَرْء بأدائها فِي فكاك نَفسه قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام النَّاس غاديان بَائِع نَفسه فموبقها ومشتر نَفسه فمعتقها يَعْنِي بالائتمار بالأوامر وَالْقَوْل بِأَن الْكَافِر لَيْسَ بِأَهْل للسعي فِي فكاك نَفسه مَا لم يُؤمن لَا يكون تَخْفِيفًا عَلَيْهِ وَهُوَ نَظِير أَدَاء بدل الْكِتَابَة لما كَانَ ليتوصل بِهِ الْمكَاتب إِلَى فكاك نَفسه فإسقاط الْمولى هَذِه الْمُطَالبَة عَنهُ عِنْد عَجزه بِالرَّدِّ فِي الرّقّ لَا يكون تَخْفِيفًا عَلَيْهِ فَإِن مَا بَقِي فِيهِ من ذل الرّقّ فَوق ضَرَر الْمُطَالبَة بِالْأَدَاءِ وَإِنَّمَا استنبطنا هَذَا من تَعْلِيل مُحَمَّد رَحمَه الله فِي قَوْله مَا فِيهِ من الشّرك أعظم من ذَلِك علل بِهِ فِي أَنه لَا يلْزمه كَفَّارَة الظِّهَار وَكَفَّارَة الْيَمين وَإِن حنث وَفِي الْكَفَّارَات معنى الْعِبَادَة على مَا بَينا أَنه ينَال بِهِ الثَّوَاب فَيكون مكفرا للذنب وَالْكَافِر لَيْسَ بِأَهْل لذَلِك فَلَا يثبت فِي حَقه الْخطاب بأَدَاء الْكَفَّارَة كَمَا لَا يثبت فِي حق العَبْد الْخطاب بالتكفير بِالْمَالِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْل لذَلِك وَنَظِير مَا قُلْنَا من الحسيات أَن مُطَالبَة الطَّبِيب الْمَرِيض بِشرب الدَّوَاء إِذا كَانَ يَرْجُو لَهُ الشِّفَاء يكون نظرا من الطَّبِيب لَا إِضْرَارًا بِهِ فَإِذا أيس من شفائه فَترك مُطَالبَته بِشرب الدَّوَاء لَا يكون ذَلِك تَخْفِيفًا عَلَيْهِ بل إجبارا لَهُ بِمَا هُوَ أَشد عَلَيْهِ من ضَرَر شرب الدَّوَاء وَهُوَ مَا يَذُوق من كأس الْحمام فَكَذَلِك هُنَا أَن الْكفَّار لَا يخاطبون بأَدَاء الشَّرَائِع لَا يتَضَمَّن معنى التَّخْفِيف عَلَيْهِم بل يكون فِيهِ بَيَان عظم الْوزر والعقوبة فِيمَا هُوَ مصر عَلَيْهِ من الشّرك وَالله أعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب النَّهْي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن مُوجب النَّهْي شرعا لُزُوم الِانْتِهَاء عَن مُبَاشرَة الْمنْهِي عَنهُ لِأَنَّهُ ضد الْأَمر أما من حَيْثُ اللُّغَة فصيغة الْأَمر لبَيَان أَن الْمَأْمُور بِهِ مِمَّا يَنْبَغِي أَن يكون وَصِيغَة النَّهْي لبَيَان أَنه مِمَّا يَنْبَغِي أَن لَا يكون وَأما شرعا فَالْأَمْر لطلب إِيجَاد الْمَأْمُور بِهِ على أبلغ الْوُجُوه مَعَ بَقَاء اخْتِيَار الْمُخَاطب فِي حَقِيقَة الإيجاد وَذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 فِي وجوب الائتمار وَالنَّهْي لطلب مُقْتَضى الِامْتِنَاع عَن الإيجاد على ابلغ الْوُجُوه مَعَ بَقَاء اخْتِيَار للمخاطب فِيهِ وَذَلِكَ بِوُجُوب الِانْتِهَاء فَإِذا تبين مُوجب النَّهْي قُلْنَا مُقْتَضى النَّهْي قبح الْمنْهِي عَنهُ شرعا كَمَا أَن مُقْتَضى الْأَمر حسن الائتمار بِهِ شرعا أَلا ترى أَن التَّحْرِيم لما كَانَ ضد الْإِحْلَال كَانَ مُقْتَضى أَحدهمَا ضد مُقْتَضى الآخر وَلِأَن صَاحب الشَّرْع جَاءَ بتتميم المحاسن وَنفي القبائح فَكَانَ نَهْيه مُوجبا قبح الْمنْهِي عَنهُ كَمَا كَانَ أمره مُوجبا صفة الْحسن للْمَأْمُور بِهِ فَإِن قيل لماذا لَا يَجْعَل مُقْتَضى النَّهْي شرعا حسن الِانْتِهَاء كَمَا كَانَ مُقْتَضى الْأَمر حسن الائتمار قُلْنَا لِأَنَّهُ يصير مقتضاهما وَاحِدًا وَبَينهمَا مُغَايرَة على سَبِيل المضادة ثمَّ الائتمار بِفعل يَقْصِدهُ الْمُخَاطب ويضاف وجوده إِلَى كَسبه فَيحسن الائتمار لكَون ذَلِك مُضَافا إِلَيْهِ فَأَما الِانْتِهَاء يكون بامتناعه عَن إِيجَاد الْفِعْل الْمنْهِي عَنهُ ثمَّ انعدامه لَا يكون مُضَافا إِلَى كَسبه وقصده بل الانعدام أصل فِيهِ مَا لم يوجده وَإِذا لم يكن مُضَافا إِلَى فعله الَّذِي هُوَ اخْتِيَاري لَا يَسْتَقِيم أَن يُوصف امْتِنَاعه عَن الإيجاد بالْحسنِ مَقْصُودا فَعرفنَا بِهِ أَن قبح الْمنْهِي عَنهُ ثَابت بِمُقْتَضى وجوب الِانْتِهَاء شرحا فَإِن قيل تَركه الْفِعْل الَّذِي يكون إيجادا فعل مَقْصُود مِنْهُ على مَا هُوَ مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة أَن ترك الْفِعْل فعل لما فِيهِ من اسْتِعْمَال أحد الضدين والانتهاء بِهِ يتَحَقَّق قُلْنَا هُوَ كَذَلِك وَلَكِن مُوجب النَّهْي هُوَ الِانْتِهَاء وَحَقِيقَته الِامْتِنَاع عَن الإيجاد ثمَّ إِن دَعَتْهُ نَفسه إِلَى الإيجاد يلْزمه التّرْك ليَكُون مُمْتَنعا وَالنَّهْي عَنهُ يبْقى عدما كَمَا كَانَ أَلا ترى أَن الِامْتِنَاع الَّذِي بِهِ يتَحَقَّق الِانْتِهَاء يسْتَغْرق جَمِيع الْعُمر وَالتّرْك الَّذِي هُوَ فعل مِنْهُ لَا يسْتَغْرق فَإِنَّهُ قبل أَن يعلم بِهِ يكون منتهيا بالامتناع عَنهُ وَلَا يكون مباشرا للْفِعْل الَّذِي هُوَ ترك الإيجاد فَإِن ذَلِك لَا يكون إِلَّا عَن قصد مِنْهُ بعد الْعلم بِهِ وَبَيَان هَذَا أَن الصَّائِم مَأْمُور بترك اقْتِضَاء السهرتين فِي حَال الصَّوْم فَلَا يتَحَقَّق مِنْهُ هَذَا الْفِعْل ركنا للصَّوْم حَتَّى يعلم بِهِ ويقصده والمعتدة مَمْنُوعَة من التَّزَوُّج وَالْخُرُوج والتطيب وَذَلِكَ ركن الِاعْتِدَاد وَيتم ذَلِك وَإِن لم تعلم بِهِ حَتَّى يحكم بِانْقِضَاء عدتهَا بِمُضِيِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الزَّمَان قبل أَن نشعر بِهِ وعَلى هَذَا لَو قَالَ لامْرَأَته إِن لم أشأ طَلَاقك فَأَنت طَالِق ثمَّ قَالَ لَا أَشَاء طَلَاقك لم تطلق وَلَو قَالَ إِن أَبيت طَلَاقك فَأَنت طَالِق ثمَّ قَالَ قد أَبيت طلقت لِأَن الإباء فعل يَقْصِدهُ ويكسبه فَيصير مَوْجُودا بقوله قد أَبيت وَلَا يكون ذَلِك مُسْتَغْرقا للمدة وَعدم الْمَشِيئَة عبارَة عَن امْتِنَاعه من الْمَشِيئَة وَذَلِكَ يسْتَغْرق عمره فَلَا يتَحَقَّق وجود الشَّرْط بقوله لَا أَشَاء وَلَا بامتناعه من الْمَشِيئَة فِي جُزْء من عمره وَإِذا تبين أَن مُقْتَضى النَّهْي قبح الْمنْهِي عَنهُ شرعا فَنَقُول الْمنْهِي عَنهُ فِي صفة الْقبْح قِسْمَانِ قسم مِنْهُ مَا هُوَ قَبِيح لعَينه وَقسم مِنْهُ مَا هُوَ قَبِيح لغيره وَهَذَا الْقسم يتنوع نَوْعَيْنِ نوع مِنْهُ مَا هُوَ قَبِيح لِمَعْنى جاوره جمعا وَنَوع مِنْهُ مَا هُوَ قَبِيح لِمَعْنى اتَّصل بِهِ وَصفا فَأَما بَيَان الْقسم الأول فِي الْعَبَث والسفه فَإِنَّهُمَا قبيحان شرعا لِأَن وَاضع اللُّغَة وضع هذَيْن الاسمين لما يكون خَالِيا عَن الْفَائِدَة ومبنى الشَّرْع على مَا هُوَ حِكْمَة لَا يَخْلُو عَن فَائِدَة فَمَا يَخْلُو عَن ذَلِك قطعا يكون قبيحا شرعا وَمن هَذَا النَّوْع فعل اللواطة فالمقصود من اقْتِضَاء الشَّهْوَة شرعا هُوَ النَّسْل وَهَذَا الْمحل لَيْسَ بِمحل لَهُ أصلا فَكَانَ قبيحا شرعا وَنَظِيره من الْعُقُود بيع الملاقيح والمضامين فَإِنَّهُ قَبِيح شرعا لِأَن البيع مُبَادلَة المَال بِالْمَالِ شرعا وَهُوَ مَشْرُوع لاستنماء المَال بِهِ وَالْمَاء فِي الصلب وَالرحم لَا مَالِيَّة فِيهِ فَلم يكن محلا للْبيع شرعا وَكَذَلِكَ الصَّلَاة بِغَيْر الطَّهَارَة لِأَن الشَّرْع قصر الْأَهْلِيَّة لأَدَاء الصَّلَاة على كَون الْمُصَلِّي طَاهِرا عَن الْحَدث والجنابة فتنعدم الْأَهْلِيَّة بانعدام صفة الطَّهَارَة وانعدام الْأَهْلِيَّة فَوق انعدام الْمَحَلِّيَّة فَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا قبيحا شرعا بِهَذَا الطَّرِيق وَحكم هَذَا النَّوْع من الْمنْهِي بَيَان أَنه غير مَشْرُوع أصلا لِأَن الْمَشْرُوع لَا يَخْلُو عَن حِكْمَة وَبِدُون الْأَهْلِيَّة والمحلية لَا تصور لذَلِك فَيعلم بِهِ أَنه غير مَشْرُوع أصلا وَبَيَان النَّوْع الثَّانِي من الْأَفْعَال وَطْء الرجل زَوجته فِي حَالَة الْحيض فَإِنَّهُ حرَام مَنْهِيّ عَنهُ وَلَكِن لِمَعْنى اسْتِعْمَال الْأَذَى وَاسْتِعْمَال الْأَذَى مجاور للْوَطْء جمعا غير مُتَّصِل بِهِ وَصفا وَلِهَذَا جَازَ لَهُ أَن يسْتَمْتع بهَا فِيمَا سوى مَوضِع خُرُوج الدَّم فِي قَول مُحَمَّد رَحمَه الله لِأَنَّهُ لَا يجاور فعله اسْتِعْمَال الْأَذَى وَفِي قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله يسْتَمْتع بهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فَوق المئزر ويجتنب مَا تَحْتَهُ احْتِيَاطًا لِأَنَّهُ لَا يَأْمَن الْوُقُوع فِي اسْتِعْمَال الْأَذَى إِذا استمتع بهَا فِي الْموضع الْقَرِيب من مَوضِع الْأَذَى وَنَظِير هَذَا النَّوْع من الْعُقُود والعبادات البيع وَقت النداء فَإِنَّهُ مَنْهِيّ عَنهُ لما فِيهِ من الِاشْتِغَال عَن السَّعْي إِلَى الْجُمُعَة بِغَيْرِهِ بَعْدَمَا تعين لُزُوم السَّعْي وَذَلِكَ يجاور البيع وَلَا يتَّصل بِهِ وَصفا وَالصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة مَنْهِيّ عَنْهَا لِمَعْنى شغل ملك الْغَيْر بِنَفسِهِ وَذَلِكَ مجاور لفعل الصَّلَاة جمعا غير مُتَّصِل بِهِ وَصفا فَعرفنَا أَن قبحه لِمَعْنى فِي غَيره وَحكم هَذَا النَّوْع أَنه يكون صَحِيحا مَشْرُوعا بعد النَّهْي من قبل أَن الْقبْح لما كَانَ بِاعْتِبَار فعل آخر سوى الصَّلَاة وَالْبيع وَالْوَطْء لم يكن مؤثرا فِي الْمَشْرُوع لَا أصلا وَلَا وَصفا أَلا ترى أَن الصَّائِم إِذا ترك الصَّلَاة يكون فعل الصَّوْم مِنْهُ عبَادَة صَحِيحَة هُوَ مُطِيع فِيهِ وَإِن كَانَ عَاصِيا فِي ترك الصَّلَاة وَهنا يكون مُطيعًا فِي الصَّلَاة وَإِن كَانَ عَاصِيا فِي شغل ملك الْغَيْر بِنَفسِهِ ومباشرا للْوَطْء الْمَمْلُوك بِالنِّكَاحِ وَإِن كَانَ عَاصِيا مرتكبا لِلْحَرَامِ بِاسْتِعْمَال الْأَذَى وَلِهَذَا قُلْنَا يثبت الْحل للزَّوْج الأول بِالْوَطْءِ الثَّانِي إِيَّاهَا فِي حَالَة الْحيض وَيثبت بِهِ إِحْصَان الواطىء أَيْضا وَأما النَّوْع الثَّالِث فبيانه فِي الزِّنَا فَإِنَّهُ وَطْء غير مَمْلُوك فَكَانَ قبيحا شرعا لِأَن الشَّرْع قصر ابْتِغَاء النَّسْل بِالْوَطْءِ على مَحل مَمْلُوك فَقَالَ الله تَعَالَى {إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم} وَنَظِيره من الْعُقُود الرِّبَا فَإِنَّهُ قَبِيح لِمَعْنى اتَّصل بِالْبيعِ وَصفا وَهُوَ انعدام الْمُسَاوَاة الَّتِي هِيَ شَرط جَوَاز البيع فِي هَذِه الْأَمْوَال شرعا وَمن الْعِبَادَات النَّهْي عَن صَوْم يَوْم الْعِيد وَأَيَّام التَّشْرِيق فَإِنَّهُ قَبِيح لِمَعْنى اتَّصل بِالْوَقْتِ الَّذِي هُوَ مَحل الْأَدَاء وَصفا وَهُوَ أَنه يَوْم عيد وَيَوْم ضِيَافَة ثمَّ لَا خلاف فِيمَا يكون من الْأَفْعَال الَّتِي يتَحَقَّق حسا من هَذَا النَّوْع أَنه فِي صفة الْقبْح مُلْحق بالقسم الأول فَإِن الزِّنَا وَشرب الْخمر حرَام لعَينه غير مَشْرُوع أصلا وَلِهَذَا تتَعَلَّق بهما الْعقُوبَة الَّتِي تندرىء بِالشُّبُهَاتِ وَمَا كَانَ مَشْرُوعا من وَجه وحراما لغيره لَا يَخْلُو عَن شُبْهَة فإيجاب الْعقُوبَة فيهمَا دَلِيل ظَاهر على أَن حرمتهما لعينهما وَذَلِكَ دَلِيل على قبح الْمنْهِي عَنهُ لعَينه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وَاخْتلفُوا فِيمَا يكون من هَذَا النَّوْع من الْعُقُود والعبادات قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله مُوجب مُطلق النَّهْي فِيهَا تَقْرِير الْمَشْرُوع مَشْرُوعا وَجعل أَدَاء العَبْد إِذا بَاشَرَهَا فَاسِدا إِلَّا بِدَلِيل وَقَالَ الشَّافِعِي مُوجب مُطلق النَّهْي فِي هَذَا النَّوْع انتساخ الْمنْهِي عَنهُ وَخُرُوجه من أَن يكون مَشْرُوعا أصلا إِلَّا بِدَلِيل وحجته فِي ذَلِك أَن النَّهْي ضد الْأَمر ثمَّ مُقْتَضى مُطلق الْأَمر شرع الْمَأْمُور بِهِ فَمُقْتَضى مُطلق النَّهْي ضِدّه وَهُوَ انعدام كَون الْمنْهِي عَنهُ مَشْرُوعا وَهَذَا لِأَن الْحَقِيقَة هُوَ المُرَاد من كل نوع حَتَّى يقوم دَلِيل الْمجَاز ثمَّ الْحَقِيقَة فِي مُطلق الْأَمر إِثْبَات صفة الْحسن فِي الْمَأْمُور بِهِ شرعا لعَينه لَا لغيره وَكَذَلِكَ الْحَقِيقَة فِي مُطلق النَّهْي إِثْبَات صفة الْقبْح فِي الْمنْهِي عَنهُ لعَينه لَا لغيره وَهَذَا لِأَن الْمُطلق ينْصَرف إِلَى الْكَامِل دون النَّاقِص فَإِن النَّاقِص مَوْجُود من وَجه دون وَجه وَمَعَ شُبْهَة الْعَدَم فِيهِ لَا يثبت مَا هُوَ الْحَقِيقَة فِيهِ فَبِهَذَا تبين أَن الْمُطلق يتَنَاوَل الْكَامِل والكمال فِي الْأَمر الَّذِي هُوَ طلب الإيجاد بِأَن يحسن الْمَأْمُور بِهِ لعَينه فَكَذَلِك الْكَمَال فِيمَا هُوَ طلب الإعدام إِثْبَات صفة الْقبْح فِي إيجاده لعَينه وَإِذا تقرر هَذَا خرج الْمنْهِي عَنهُ من أَن يكون مَشْرُوعا لمقْتَضى النَّهْي وَحكمه أما مُقْتَضَاهُ فَلِأَن أدنى دَرَجَات الْمَشْرُوع أَن يكون مُبَاحا والقبيح لعَينه لَا يجوز أَن يكون مُبَاحا فَكَذَلِك لَا يجوز أَن يكون مَشْرُوعا وَبِهَذَا تبين أَن النَّهْي بِمَعْنى النّسخ فِي إِخْرَاج الْمنْهِي عَنهُ من أَن يكون مَشْرُوعا وَأما حكمه فوجوب الِانْتِهَاء ليَكُون مُعظما مُطيعًا للناهي فِي الِانْتِهَاء وَيكون عَاصِيا لَا محَالة فِي ترك الِانْتِهَاء وَإِنَّمَا يكون عَاصِيا بِمُبَاشَرَة مَا هُوَ خلاف الْمَشْرُوع فَعرفنَا أَن بِالنَّهْي يخرج من أَن يكون مَشْرُوعا يقرره أَن الْمنْهِي عَنهُ لَا يكون مرضيا بِهِ أصلا وَإِن كَانَ لَا تنعدم بِهِ الْإِرَادَة وَالْقَضَاء والمشيئة بِمَنْزِلَة الْكفْر والمعاصي فَإِنَّهَا تكون من الْعباد بالإرادة والمشيئة وَالْقَضَاء وَلَا يكون مرضيا بِهِ قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} والمشروع مَا يكون مرضيا بِهِ قَالَ الله تَعَالَى {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا} الْآيَة فَبِهَذَا تبين أَن الْمنْهِي عَنهُ غير مَشْرُوع أصلا ثمَّ صفة الْقبْح فِي الْمنْهِي عَنهُ وَإِن كَانَ لِمَعْنى اتَّصل بِهِ وَصفا فَذَلِك دَلِيل على أَنه لم يبْق مَشْرُوعا لِأَن ذَلِك الْوَصْف لَا يُفَارق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الْمنْهِي عَنهُ وَمَعَ وجوده لَا يكون مَشْرُوعا فبه يخرج من أَن يكون مَشْرُوعا أصلا بِمَنْزِلَة نِكَاح الْمُعْتَدَّة وَالنِّكَاح بِغَيْر شُهُود فَإِن النَّهْي عَنْهُمَا كَانَ لِمَعْنى زَائِد على مَا بِهِ يتم العقد من فقد شَرط أَو زِيَادَة صفة فِي الْمحل ثمَّ يخرج بِهِ من أَن يكون مَشْرُوعا أصلا مُقَيّدا بِمَا هُوَ الحكم الْمَطْلُوب من النِّكَاح إِذا تقرر هَذَا فالمسائل تخرج لَهُ على هَذَا الأَصْل مِنْهَا أَن الزِّنَا لَا يُوجب حُرْمَة الْمُصَاهَرَة لِأَن ثُبُوتهَا بطرِيق النِّعْمَة والكرامة حَتَّى تكون أمهاتها وبناتها فِي حَقه كأمهاته وَبنَاته فِي الْمَحْرَمِيَّة فيستدعي سَببا مَشْرُوعا وَالزِّنَا قَبِيح لعَينه غير مَشْرُوع أصلا فَلَا يصلح سَببا لهَذِهِ الْكَرَامَة وَمِنْهَا أَن البيع الْفَاسِد نَحْو الرِّبَا وَالْبيع بِأَجل مَجْهُول وَبيع المَال بِالْخمرِ لَا يكون مُوجبا للْملك بِحَال لِأَن الْملك نعْمَة وكرامة أَلا ترى أَن صفة الْمَالِكِيَّة إِذا قوبلت بالمملوكية كَانَ معنى النِّعْمَة بالمالكية فيستدعي سَببا مَشْرُوعا والقبيح لعَينه لَا يكون مَشْرُوعا أصلا يقرره أَن النِّعْمَة تستدعي سَببا مرغوبا فِيهِ شرعا ليرغب الْعَاقِل فِي مُبَاشَرَته لتَحْصِيل النِّعْمَة والمنهي عَنهُ شرعا لَا يجوز أَن يكون مرغوبا فِيهِ شرعا وَمِنْهَا أَن الْغَصْب لَا يكون مُوجبا للْملك عِنْد تقرر الضَّمَان لهَذَا الْمَعْنى وَمِنْهَا أَن اسْتِيلَاء الْكفَّار على مَال الْمُسلم لَا يكون مُوجبا للْملك لَهُم شرعا لِأَن ذَلِك عدوان مَحْض فَلَا يكون ذَلِك مَشْرُوعا فِي نَفسه وَلَا يصلح سَببا لحكم مَشْرُوع مَرْغُوب فِيهِ وَمِنْهَا أَن صَوْم يَوْم الْعِيد لم يبْق بعد النَّهْي صوما مَشْرُوعا حَتَّى لَا يَصح الْتِزَامه بِالنذرِ لِأَن الصَّوْم الْمَشْرُوع عبَادَة وَالْعِبَادَة اسْم لما يكون الْمَرْء بمباشرته مُطيعًا لرَبه فَمَا يكون هُوَ بمباشرته عَاصِيا مرتكبا لِلْحَرَامِ لَا يكون صوما مَشْرُوعا وَمِنْهَا أَن العَاصِي فِي سَفَره كَالْعَبْدِ الْآبِق وقاطع الطَّرِيق لَا يترخص برخص الْمُسَافِرين لِأَن ثُبُوت ذَلِك بطرِيق النِّعْمَة لدفع الْحَرج عَنهُ عِنْد السّير المديد فَإِذا كَانَ سيره مَعْصِيّة لم يصلح سَببا لما هُوَ نعْمَة فِي حَقه إِذْ النِّعْمَة تستدعي سَببا مَشْرُوعا وَمَا يكون الْمَرْء عَاصِيا بمباشرته فَإِنَّهُ لَا يكون مَشْرُوعا وَمِنْهَا بيع الدّهن النَّجس فَإِنَّهُ لَا يكون مَشْرُوعا مُفِيدا لحكمه لِأَن النَّجَاسَة لما اتَّصَلت بالدهن وَصفا فَصَارَت بِحَيْثُ لَا تُفَارِقهُ خرج الدّهن من أَن يكون محلا للْبيع الْمَشْرُوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 والتحق بودك الْميتَة فَخرج من أَن يكون محلا للْبيع مُفِيدا لحكمه وَهُوَ الْملك كَمَا بَينا فِي بيع الملاقيح والمضامين قَالَ وَلَا يدْخل على مَا ذكرنَا الظِّهَار فَإِنَّهُ مُوجب لِلْكَفَّارَةِ الَّتِي هِيَ مَشْرُوعَة وَإِن كَانَ هُوَ فِي نَفسه قبيحا حَرَامًا لِأَنَّهُ مُنكر من القَوْل وزور هَذَا لِأَن الْكَفَّارَة مَشْرُوعَة جَزَاء على ارْتِكَاب الْمَحْظُور بِمَنْزِلَة الْحُدُود لَا أصلا بِنَفسِهِ على سَبِيل الْكَرَامَة وَالنعْمَة وَالْجَزَاء يَسْتَدْعِي سَببا مَحْظُورًا فَيكون الظِّهَار مَحْظُورًا يُحَقّق معنى السَّبَبِيَّة لما هُوَ فِي معنى الْجَزَاء وَلَا تعدم الصلاحية لذَلِك وَلَا يدْخل عَلَيْهِ استيلاد أحد الشَّرِيكَيْنِ الْجَارِيَة الْمُشْتَركَة فَإِنَّهُ يثبت النّسَب وَالْملك للمستولد فِي نصيب شَرِيكه وَذَلِكَ حكم مَشْرُوع يثبت بِسَبَب وَطْء مَحْظُور لِأَن ثُبُوت النّسَب بِاعْتِبَار وَطئه ملك نَفسه وَالنَّهْي بِاعْتِبَار أَن وطأه يُصَادف ملك الشَّرِيك أَيْضا وَملك الشَّرِيك مجاور لملكه جمعا غير مُتَّصِل بِملكه وَصفا وَكَانَ فِي الصلاحية لثُبُوت النّسَب بِهِ بِمَنْزِلَة الْوَطْء فِي حَالَة الْحيض ثمَّ إِنَّمَا يملك نصيب الشَّرِيك حكما لثُبُوت أُميَّة الْوَلَد فِي نصِيبه وَكَون الِاسْتِيلَاد مِمَّا لَا يحْتَمل الْوَصْف بالتجزي وَذَلِكَ غير مَحْظُور وَلَا يدْخل على هَذَا الطَّلَاق فِي حَالَة الْحيض أَو الطُّهْر الَّذِي جَامعهَا فِيهِ فَإِنَّهُ مَنْهِيّ عَنهُ وَمَعَ ذَلِك كَانَ وَاقعا مُوجبا لحكم مَشْرُوع وَهُوَ الْفرْقَة لِأَن هَذَا النَّهْي لأجل الْحيض وَهُوَ صفة الْمَرْأَة غير مُتَّصِل بِالطَّلَاق وَصفا وَلكنه مجاور لَهُ جمعا حِين أوقعه فِي وقته وَكَانَ النَّهْي لِمَعْنى الْإِضْرَار بهَا من حَيْثُ تَطْوِيل الْعدة عَلَيْهَا أَو تلبيس أَمر الْعدة عَلَيْهَا إِذا أوقع فِي الطُّهْر الَّذِي جَامعهَا فِيهِ وَذَلِكَ غير مُتَّصِل بِالطَّلَاق الَّذِي هُوَ سَبَب الْفرْقَة أصلا وَلَا وَصفا وَلَا يدْخل على مَا ذكرنَا إِحْرَام المجامع لأَهله فَإِنَّهُ ينْعَقد مُوجبا أَدَاء الْأَعْمَال وَإِن كَانَ مَنْهِيّا عَنهُ لِأَن النَّهْي عَن الْجِمَاع مَعَ عقد الْإِحْرَام وَالْجِمَاع غير مُتَّصِل بِالْإِحْرَامِ أصلا وَلَا وَصفا وَلِهَذَا كَانَ مُوجبا للْقَضَاء والشروع بِصفة الْفساد غير مُوجب للْقَضَاء بالِاتِّفَاقِ فَتبين بِهِ أَنه ينْعَقد صَحِيحا ثمَّ فسد لارتكاب الْمَحْظُور بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وَلَكِن الْإِحْرَام مَشْرُوع على أَنه لَا يخرج مِنْهُ الْمَرْء بَعْدَمَا شرع فِيهِ إِلَّا بِالطَّرِيقِ الَّذِي عينه الشَّرْع لِلْخُرُوجِ مِنْهُ وَهُوَ أَدَاء الْأَعْمَال أَو الدَّم عِنْد الْإِحْصَار فَيلْزمهُ أَدَاء الْأَعْمَال ليكتسب بِهِ طَرِيق الْخُرُوج من الْإِحْرَام شرعا وَذَلِكَ مَشْرُوع فَيجوز أَن يلْزمه أَدَاء الْأَعْمَال أَيْضا وَكَذَلِكَ لَو جَامعهَا بَعْدَمَا أحرم فَإِنَّهُ لَا يخرج إِلَّا بأَدَاء الْأَعْمَال لهَذَا الْمَعْنى وَلِأَن الْجِمَاع فِي الْإِحْرَام مَحْظُور شرعا فَيجوز أَن يُقَال مَا يلْزمه من أَدَاء الْأَعْمَال بعده على وَجه لَا يكون معتدا بِهِ فِي إِسْقَاط الْوَاجِب عَنهُ جَزَاء على ارْتِكَاب مَا هُوَ مَحْظُور وكلامنا فِيمَا هُوَ مَشْرُوع ابْتِدَاء لَا جَزَاء وَقبل الْجِمَاع لزمَه أَدَاء الْأَعْمَال بِسَبَب مَشْرُوع وَلَيْسَ إِلَى العَبْد ولَايَة تَغْيِير الْمَشْرُوع وَإِن كَانَ الْأَدَاء يفْسد بِفعل مِنْهُ كَمَا تفْسد الصَّلَاة بالتكلم فِيهَا وَلَا يتَغَيَّر بِهِ الْمَشْرُوع وَإِذا لم يصلح فعله مغيرا بَقِي طَرِيق الْخُرُوج بأَدَاء الْأَفْعَال مَشْرُوعا كَمَا كَانَ قبل الْجِمَاع وللشرع ولَايَة نفي الْمَشْرُوع وإخراجه من أَن يكون مَشْرُوعا كَمَا لَهُ ولَايَة الشَّرْع بِمُطلق نَهْيه الَّذِي هُوَ دَلِيل الْقبْح فِي الْمنْهِي عَنهُ فصلح أَن يكون مخرجا للمنهي عَنهُ من أَن يكون مَشْرُوعا فَلهَذَا لم يبْق مَشْرُوعا بعد النَّهْي وَحجَّتنَا مَا ذكره مُحَمَّد رَحمَه الله فِي كتاب الطَّلَاق فَإِنَّهُ قَالَ نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن صَوْم يَوْم الْعِيد وَأَيَّام التَّشْرِيق فنهانا عَمَّا يتكون وَعَما لَا يتكون وَالنَّهْي عَمَّا لَا يتكون لَغْو حَتَّى لَا يَسْتَقِيم أَن يُقَال للأعمى لَا تبصر وللآدمي لَا تطر وَمَعْلُوم أَنه إِنَّمَا نهى عَن صَوْم شَرْعِي فالإمساك الَّذِي يُسمى صوما لُغَة غير مَنْهِيّ عَنهُ وَمن أَتَى بِهِ لحمية أَو مرض أَو قلَّة اشتهاء لَا يكون مرتكبا للمنهي عَنهُ فَهَذَا دَلِيل على أَن الصَّوْم الَّذِي هُوَ عبَادَة مَشْرُوع فِي الْوَقْت بعد النَّهْي كَمَا كَانَ قبله وَتَقْرِير هَذَا الْكَلَام من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن مُوجب النَّهْي هُوَ الِانْتِهَاء وَإِنَّمَا يتَحَقَّق الِانْتِهَاء عَن شَيْء والمعدوم لَيْسَ بِشَيْء فَكَانَ من ضَرُورَة صِحَة النَّهْي مُوجبا للانتهاء كَون الْمنْهِي عَنهُ مَشْرُوعا فِي الْوَقْت فَكيف يَسْتَقِيم أَن يَجْعَل الْمنْهِي عَنهُ غير مَشْرُوع بِحكم النَّهْي بَعْدَمَا كَانَ مَشْرُوعا وَبِه تبين أَن النَّهْي ضد النّسخ فالنسخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 تصرف فِي الْمَشْرُوع بِالرَّفْع ثمَّ يَنْعَدِم أَدَاء العَبْد بِاعْتِبَار أَنه لم يبْق مَشْرُوعا وَلَيْسَ للْعَبد ولَايَة الشَّرْع وَالنَّهْي تصرف فِي منع الْمُخَاطب من أَدَاء مَا هُوَ مَشْرُوع فِي الْوَقْت فَيكون انعدام الْأَدَاء مِنْهُ انْتِهَاء عَمَّا نهي عَنهُ وَمُقْتَضى النَّهْي حُرْمَة الْفِعْل الَّذِي هُوَ أَدَاء لوُجُوب الِانْتِهَاء فَبَقيَ الْمَشْرُوع مَشْرُوعا كَمَا كَانَ وَيصير الْأَدَاء فَاسِدا حَرَامًا لِأَن فِيهِ ترك الِانْتِهَاء الْوَاجِب بِالنَّهْي وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة} فَإِنَّهُ كَانَ تَحْرِيمًا لفعل القربان وَلم يكن تَحْرِيمًا لعين الشَّجَرَة وكما لَا يتَصَوَّر تَحْرِيم قرْبَان الشَّجَرَة بِدُونِ الشَّجَرَة لَا يتَحَقَّق تَحْرِيم أَدَاء الصَّوْم فِي وَقت لَيْسَ فِيهِ صَوْم مَشْرُوع وَبِهَذَا الْحَرْف يتَبَيَّن الْفرق بَين الْأَفْعَال الحسية والعقود الْحكمِيَّة والعبادات الشَّرْعِيَّة فَإِنَّهُ لَيْسَ من ضَرُورَة حُرْمَة الْأَفْعَال الحسية انعدام التكون فَقُلْنَا تَأْثِير التَّحْرِيم فِي إخْرَاجهَا من أَن تكون مَشْرُوعَة أصلا وإلحاقها بِمَا هُوَ قَبِيح لعَينه وَمن ضَرُورَة تَحْرِيم الْعُقُود الشَّرْعِيَّة بَقَاء أَصْلهَا مَشْرُوعا إِذْ لَا تكون لَهَا إِذا لم تبْق مَشْرُوعَة وَبِدُون التكون لَا يتَحَقَّق تَحْرِيم فعل الْأَدَاء وَكَذَلِكَ فِي الْعِبَادَات فَكَانَ فِي إبْقَاء الْمَشْرُوع مَشْرُوعا مُرَاعَاة حَقِيقَة النَّهْي لَا أَن يكون تركا للْحَقِيقَة كَمَا قَرَّرَهُ الْخصم يُوضحهُ أَن صفة الْفساد للْعقد لَا يكون إِلَّا عِنْد وجود العقد فَإِن الصّفة لَا تسبق الْمَوْصُوف وَكَذَلِكَ فَسَاد الْمُؤَدى من الصَّوْم لَا يسْبق الْأَدَاء وَلَا أَدَاء إِذا لم يبْق مَشْرُوعا فبه تبين أَنه بَقِي مَشْرُوعا والمشروعات لَا تكون قبيحا لعَينه فَعرفنَا أَن الْقبْح لوصف اتَّصل بِهِ فَصَارَ بِهِ الْأَدَاء قبيحا فَاسِدا إِلَّا فِي مَوضِع يتَعَذَّر الْجمع بَين صفة الْحُرْمَة وَبَقَاء الأَصْل فَحِينَئِذٍ يَنْعَدِم ضَرُورَة وَيكون ذَلِك نسخا من طَرِيق الْمَعْنى فِي صُورَة النَّهْي لَا أَن يكون نهيا حَقِيقَة وَلَا ضَرُورَة هُنَا فالصوم وَالصَّلَاة يَسْتَقِيم أَن يكون أَصله مَشْرُوعا مَعَ كَون الْأَدَاء حَرَامًا كَصَوْم يَوْم الشَّك وَالصَّلَاة فِي وَقت مَكْرُوه وَكَذَلِكَ الْعُقُود الشَّرْعِيَّة يتَصَوَّر بَقَاء أَصْلهَا مَشْرُوعا مَعَ حُرْمَة مُبَاشرَة التَّصَرُّف وفساده كَالطَّلَاقِ فِي حَالَة الْحيض وَفِي الطُّهْر الَّذِي جَامع فِيهِ امْرَأَته وَتَقْرِير آخر أَن النَّهْي يُوجب إعدام الْمنْهِي عَنهُ بِفعل مُضَاف إِلَى كسب العَبْد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 واختياره لِأَنَّهُ ابتلاء كالأمر وَإِنَّمَا يتَحَقَّق الِابْتِلَاء إِذا بَقِي للْعَبد فِيهِ اخْتِيَار حَتَّى إِذا انْتهى مُعظما لحُرْمَة الناهي كَانَ مثابا عَلَيْهِ وَإِذا أقدم عَلَيْهِ تَارِكًا تَعْظِيم حُرْمَة الناهي كَانَ معاقبا على إيجاده وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك إِلَّا فِيمَا هُوَ مَشْرُوع فَبِهَذَا تبين أَن مُوجب النَّهْي إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الْعُقُود الشَّرْعِيَّة والعبادات إِذا كَانَت مَشْرُوعَة بعد النَّهْي فَأَما صفة الْقبْح فَهُوَ ثَابت بِمُقْتَضى النَّهْي وَلَكِن ثُبُوت الْمُقْتَضى لتصحيح الْمُقْتَضى لَا لإبطاله وَإِذا انْعَدم الْمَشْرُوع بِمُقْتَضى صفة الْقبْح يَنْعَدِم مُوجب النَّهْي وبانعدامه يبطل النَّهْي فَلَا يجوز إِثْبَات الْمُقْتَضى على وَجه يكون مُبْطلًا للمقتضي وَالشَّافِعِيّ رَحمَه الله فعل ذَلِك فَكَانَ قَوْله فَاسِدا وَنحن أثبتنا أصل النَّهْي مُوجبا للانتهاء ثمَّ أثبتنا الْمُقْتَضى بِحَسب الْإِمْكَان على وَجه لَا يبطل بِهِ الأَصْل وَلَكِن يثبت الْقبْح وَالْحُرْمَة صفة لأَدَاء العَبْد الْمَشْرُوع فِي الْوَقْت فَإِن الْقبْح إِذا كَانَ فِي وصف الشَّيْء لَا يعْدم أَصله كالإحرام بعد الْفساد فَإِنَّهُ يبْقى أَصله وَإِن كَانَ قبيحا لِمَعْنى اتَّصل بوصفه وَهُوَ الْفساد والعذر الَّذِي ذكره يرجع إِلَى تَحْقِيق مَا ذكرنَا فَإِن فَسَاد الْإِحْرَام بِالْجِمَاعِ حكم ثَابت شرعا وَإِلَى الشَّرْع ولَايَة إعدام أصل الْإِحْرَام فَلَو كَانَ من ضَرُورَة صفة الْفساد انعدام الأَصْل فِي المشروعات لَكَانَ الحكم بفساده شرعا معدما لأصله أَلا ترى أَن بِسَبَب الرِّدَّة يَنْعَدِم أصل الْإِحْرَام وَإِن كَانَ ذَلِك من أعظم الْجِنَايَات لِأَن حبوط الْعَمَل بِالرّدَّةِ حكم شَرْعِي وبسبب الْإِحْصَار يتَمَكَّن من الْخُرُوج من الْإِحْرَام قبل أَدَاء الْأَعْمَال وَذَلِكَ جِنَايَة من العَبْد وَلَكِن جَوَاز دفع ضَرَر اسْتِدَامَة الْإِحْرَام عَن نَفسه حكم شَرْعِي فيتمكن بِهِ من الْخُرُوج قبل أَدَاء الْأَعْمَال وَكَانَ مَا بَيناهُ نِهَايَة فِي التَّحْقِيق ومراعاة لحقيقة مُوجب النَّهْي وإثباتا بِمُقْتَضَاهُ بِحَسب الْإِمْكَان وَبِهَذَا يتَبَيَّن الْفرق بَين الْأَمر وَالنَّهْي على مَا اسْتدلَّ بِهِ الْخصم فَإِن مُطلق الْأَمر يُوجب حسن الْمَأْمُور بِهِ لعَينه لِأَنَّهُ طلب الإيجاد بأبلغ الْجِهَات فتمام ذَلِك بالوجود حَقِيقَة فَكَانَ فِي إِثْبَات صفة الْحسن بِمُقْتَضى الْأَمر على هَذَا الْوَجْه تَحْقِيق الْمَأْمُور بِهِ فَأَما النَّهْي فَطلب الإعدام بأبلغ الْجِهَات وَلَكِن مَعَ بَقَاء اخْتِيَار العَبْد فِيهِ ليَكُون مبتلى كَمَا فِي الْأَمر وَحَقِيقَة ذَلِك إِنَّمَا يتكون بِهِ فِيمَا هُوَ مَشْرُوع وَيبقى بعد النَّهْي مَشْرُوعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 فَيثبت مُقْتَضَاهُ على الْوَجْه الَّذِي يُوجِبهُ مَا هُوَ الْمُوجب الْأَصْلِيّ فِيهِ حَقِيقَة وكما أَن الْمَأْمُور بِهِ لَا يصير مَوْجُودا بِمُقْتَضى الْأَمر لِأَنَّهُ يَنْعَدِم بِهِ معنى الِابْتِلَاء فَكَذَلِك الْمنْهِي عَنهُ لَا يَنْعَدِم بِمُجَرَّد النَّهْي لتحقيق معنى الِانْتِهَاء وَإِذا لم يَنْعَدِم بَقِي مَشْرُوعا لَا محَالة وَبَيَان تَخْرِيج الْمسَائِل على هَذَا الأَصْل أَن نقُول الصَّوْم مَشْرُوع فِي كل يَوْم بِاعْتِبَار أَنه وَقت اقْتِضَاء الشَّهْوَة عَادَة وَالصَّوْم منع النَّفس عَن اقْتِضَاء الشَّهْوَة لابتغاء مرضاة الله تَعَالَى وَيَوْم الْعِيد كَسَائِر الْأَيَّام فِي هَذَا فَكَانَ الصَّوْم مَشْرُوعا فِيهِ وبالنهي لم يَنْعَدِم هَذَا الْمَعْنى ثمَّ النَّهْي لَيْسَ لِأَنَّهُ صَوْم شَرْعِي وَلَكِن لما فِيهِ من معنى رد الضِّيَافَة وَإِلَيْهِ وَقعت الْإِشَارَة فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهَا أَيَّام أكل وَشرب وَهَذَا الْمَعْنى بِاعْتِبَار صفة الْيَوْم وَهُوَ أَنه يَوْم عيد فَيثبت الْقبْح فِي الصّفة دون الأَصْل وَهُوَ أَنه يكون حرَام الْأَدَاء والمؤدى يكون عَاصِيا بارتكابه مَا هُوَ حرَام وَيبقى أصل الصَّوْم مَشْرُوعا فِي الْوَقْت لِأَنَّهُ مَشْرُوع بِاعْتِبَار أصل الْيَوْم وَلَا قبح فِيهِ وَلِهَذَا قُلْنَا يَصح الْتِزَامه بِالنذرِ لِأَنَّهُ بِالنذرِ يصير مُلْتَزما فِي ذمَّته مَا هُوَ عبَادَة مَشْرُوعَة فِي الْوَقْت وَلَا فَسَاد فِي الْمَشْرُوع وَذكر الْيَوْم لبَيَان مِقْدَار مَا الْتَزمهُ على مَا بَينا أَن الْوَقْت معيار للصَّوْم وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله (إِنَّه) لَا يلْزمه بِالشُّرُوعِ وَإِن أفْسدهُ بعد الشُّرُوع لَا يلْزمه الْقَضَاء لِأَن الشُّرُوع أَدَاء مِنْهُ فَيكون حَرَامًا فَاسِدا فَيكون هَذَا مطالبا بالكف عَنهُ شرعا لَا بإتمامه فَلَا يكون الْإِفْطَار جِنَايَة مِنْهُ على حق الشَّرْع وَلَا يبْقى فِي عهدته حَتَّى يحْتَاج إِلَى الْقَضَاء فَأَما بِالنذرِ فَلَا يصير مرتكبا لِلْحَرَامِ فَيصح نَذره وَيُؤمر بِالْخرُوجِ عَنهُ بِصَوْم يَوْم آخر وَبِه يتم التَّحَرُّز عَن ارْتِكَاب الْمحرم وَلَكِن لَو صَامَ فِيهِ خرج عَن مُوجب نَذره لِأَنَّهُ الْتزم الْمَشْرُوع فِي الْوَقْت ونتيقن أَنه أدّى الْمَشْرُوع فِي الْوَقْت إِذا صَامَ فَيسْقط عَنهُ الْوَاجِب وَإِن كَانَ الْأَدَاء فَاسِدا مِنْهُ كمن نذر أَن يعْتق عبدا بِعَيْنِه فَعمى ذَلِك العَبْد أَو كَانَ أعمى يتَأَدَّى الْمَنْذُور بإعتاقه وَلَا فرق بَينهمَا فَالْعَبْد مستهلك بِاعْتِبَار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وَصفه (قَائِم بِاعْتِبَار أَصله وَالصَّوْم فِي هَذَا الْوَقْت مَشْرُوع بِاعْتِبَار أَصله فَاسد الْأَدَاء بِاعْتِبَار وَصفه) وَلِهَذَا لَا يتَأَدَّى وَاجِب آخر بِصَوْم هَذَا الْيَوْم لِأَن ذَلِك وَجب فِي ذمَّته كَامِلا وبصفة الْفساد وَالْحُرْمَة فِي الْأَدَاء يَنْعَدِم الْكَمَال ضَرُورَة وعَلى هَذَا الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة فالأداء مَنْهِيّ لِمَعْنى هُوَ صفة الْوَقْت وَهُوَ أَنه وَقت مُقَارنَة الشَّيْطَان الشَّمْس على مَا ورد بِهِ الْأَثر فَلَا يَنْعَدِم أصل الْعِبَادَة مَشْرُوعا فِيهِ وَلَكِن يحرم الْأَدَاء وَيلْزم بِالشُّرُوعِ كَمَا يلْزم بِالنذرِ لِأَن الصَّلَاة عبَادَة مَعْلُومَة بأركانها وَالْوَقْت ظرف لَهَا لَا معيار فَلَا يصير مُؤديا بِمُجَرَّد الشُّرُوع وَالْمحرم هُوَ الْأَدَاء وَيتَصَوَّر بِهَذَا الشُّرُوع الْأَدَاء بِدُونِ صفة الْحُرْمَة بِأَن يصير حَتَّى تبيض الشَّمْس فَلم يكن الشُّرُوع فَاسِدا كَمَا لم يكن النّذر فَاسِدا فَيلْزمهُ الْقَضَاء لهَذَا وَلَكِن لَا يتَأَدَّى بِهِ وَاجِب آخر لِأَن النَّهْي بِاعْتِبَار وصف الْوَقْت الَّذِي هُوَ ظرف للْأَدَاء يُمكن نُقْصَانا فِي الْأَدَاء وَالْوَاجِب فِي ذمَّته بِصفة الْكَمَال فَلَا يتَأَدَّى بالناقص إِلَّا عصر يَوْمه فَإِن الْوُجُوب بِاعْتِبَار ذَلِك الْجُزْء الَّذِي هُوَ سَبَب وَإِنَّمَا يثبت الْوُجُوب بِصفة النُّقْصَان وَقد أدّى بِتِلْكَ الصّفة فَسقط عَنهُ الْوَاجِب وعَلى هَذَا قُلْنَا البيع الْفَاسِد يكون مَشْرُوعا بِأَصْلِهِ مُوجبا لحكمه وَهُوَ الْملك إِذا تأيد بِالْقَبْضِ لِأَن الْمَشْرُوع إِيجَاب وَقبُول من أَهله فِي مَحَله وبالشرط الْفَاسِد لَا يخْتل شَيْء من ذَلِك أَلا ترى أَن الشَّرْط لَو كَانَ جَائِزا لم يكن مبدلا لأصله بل يكون مغيرا لوصفه وَالشّرط الْفَاسِد لَا يكون معدما لأصله أَيْضا بل يكون مغيرا لوصفه فَصَارَ فَاسِدا وَلَيْسَ من ضَرُورَة صفة الْفساد فِيهِ انعدام أَصله لِأَن بِالْفَسَادِ يثبت صفة الْحُرْمَة وَهَذَا السَّبَب مَشْرُوع لإِثْبَات الْملك وَملك الْيَمين مَعَ صفة الْحُرْمَة يجْتَمع أَلا ترى أَن من اشْترى أمة مَجُوسِيَّة أَو مرتدة يثبت الْملك لَهُ مَعَ الْحُرْمَة وَأَن الْعصير إِذا تخمر يبْقى مَمْلُوكا لَهُ مَعَ الْحُرْمَة فَلهَذَا أثبتنا فِي البيع الْفَاسِد ملكا حَرَامًا مُسْتَحقّ الدّفع لفساد السَّبَب وَلم يَنْعَدِم بِهِ أصل الْمَشْرُوع بِخِلَاف النِّكَاح الْفَاسِد فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي النِّكَاح إِلَّا ملكا ضَرُورِيًّا يثبت بِهِ حل الِاسْتِمْتَاع وَلِهَذَا سمي ذَلِك الْملك حَلَالا فِي نَفسه وَمن ضَرُورَة فَسَاد السَّبَب ثُبُوت صفة الْحُرْمَة وَبَين الْحُرْمَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وَبَين ملك النِّكَاح مُنَافَاة فينعدم الْملك وَمن ضَرُورَة انعدامه خُرُوج السَّبَب من أَن يكون مَشْرُوعا لِأَن الْأَسْبَاب الشَّرْعِيَّة ترَاد لأحكامها وَثُبُوت النّسَب وَوُجُوب الْمهْر وَالْعدة من حكم الشُّبْهَة لَا من حكم أصل العقد شرعا وَهَذَا الْكَلَام يَتَّضِح فِي النِّكَاح بِغَيْر شُهُود فَإِن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا نِكَاح إِلَّا بِشُهُود إِخْبَار عَن عَدمه بِدُونِ هَذَا الشَّرْط فَيكون نفيا لَا نهيا بِمَنْزِلَة قَول الرجل لَا رجل فِي الدَّار وَكَذَلِكَ فِي نِكَاح الْمَحَارِم فَإِن النَّص الْوَارِد فِيهِ تَحْرِيم الْعين بقوله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم وبناتكم} إِلَى آخر الْآيَة وَلَا يجْتَمع الْحل وَالْحُرْمَة فِي مَحل وَاحِد فَكَانَ ذَلِك نفيا للْحلّ بِالنِّكَاحِ لَا نهيا وَكَذَلِكَ نِكَاح الْمُعْتَدَّة فَإِن قَوْله تَعَالَى {وَالْمُحصنَات من النِّسَاء} مَعْطُوف على قَوْله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} مَعْنَاهُ وَحرمت الْمُحْصنَات من النِّسَاء وَذَلِكَ عبارَة عَن مَنْكُوحَة الْغَيْر ومعتدته فَيكون نفيا لَا نهيا وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آباؤكم من النِّسَاء} فقد ظهر بِالدَّلِيلِ أَن الْحُرْمَة الثَّابِتَة بالمصاهرة هِيَ الثَّابِتَة بِالنّسَبِ على أَن تقوم الْمُصَاهَرَة مقَام النّسَب فِي ذَلِك فَكَانَ تَقْدِيره وَحرمت عَلَيْكُم مَا نكح آباؤكم وَتصير صُورَة النَّهْي عبارَة عَنهُ مجَازًا بِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى فَكَانَ نفيا كَمَا هُوَ مُوجب النّسخ لَا نهيا وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تنْكح الْأمة على الْحرَّة فَإِنَّهُ إِخْبَار فَيكون نفيا للنِّكَاح مَعَ أَن الدّلَالَة قد قَامَت على أَن الْأمة من جملَة الْمُحرمَات مَضْمُومَة إِلَى الْحرَّة فَإِن الْحل فِيهِ على النّصْف من حل الْحرَّة على مَا نبينه فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَمن ضَرُورَة حُرْمَة الْمحل انْتِفَاء النِّكَاح الْمَشْرُوع فِيهِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ وعَلى هَذَا عقد الرِّبَا فَإِنَّهُ نوع بيع وَلكنه فَاسد لَا بخلل فِي رُكْنه بل لِانْعِدَامِ شَرط الْجَوَاز وَهُوَ الْمُسَاوَاة فِي الْقدر فَكَمَا أَن بِوُجُود شَرط مُفسد لَا يَنْعَدِم أصل الْمَشْرُوع فَكَذَلِك بانعدام شَرط مجوز لَا يَنْعَدِم أصل الْمَشْرُوع وَثُبُوت ملك حرَام بِهِ كَمَا اقْتَضَاهُ مثل هَذَا السَّبَب فَإِن قيل قَوْله تَعَالَى {وَحرم الرِّبَا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 يُوجب نفي أَصله مَشْرُوعا كَقَوْلِه تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} بل أولى لِأَنَّهُ أضَاف هَذَا التَّحْرِيم إِلَى نَفسه وَهُنَاكَ الْحُرْمَة مُضَافَة إِلَى الْأُم قُلْنَا الرِّبَا عبارَة عَن الْفضل فَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَحرم الرِّبَا} أَي حرم اكْتِسَاب الْفضل الْخَالِي عَن الْعِوَض بِسَبَب التِّجَارَة وَنحن نثبت هَذِه الْحُرْمَة وَلَكِن بَينا أَنه لَيْسَ من ضَرُورَة الْحُرْمَة فِي ملك الْيَمين انْتِفَاء أصل الْملك وعَلى هَذَا قُلْنَا بيع العَبْد بِالْخمرِ فَإِن الْخمر فَاسد التقوم شرعا وَلم تنعدم بِهِ أصل الْمَالِيَّة الثَّابِتَة فِيهِ بالتمول فَإِن تموله مَا فسد شرعا لما فِيهِ من عرضية التخلل إِذْ التمول للشَّيْء عبارَة عَن صيانته وادخاره لوقت الْحَاجة وإمساك الْخمر إِلَى أَن يَتَخَلَّل لَا يكون حَرَامًا شرعا بِمَنْزِلَة من أحرم وَله صيد فَإِن الصَّيْد لَا يكون مُتَقَوّما فِي حق تصرفه حَتَّى لَا يتَمَكَّن من التَّصَرُّف فِيهِ وَيكون محرم الْعين فِي حَقه وَلَكِن لَا يَنْعَدِم أصل الْمَالِيَّة فِيهِ بِاعْتِبَار مَاله وَهُوَ مَا بعد التَّحَلُّل من الْإِحْرَام وَلِهَذَا اخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز هَذَا البيع فَمنهمْ من يَقُول هُوَ جَائِز بِالْقيمَةِ وَلَو قضى القَاضِي بِهَذَا نفذ قَضَاؤُهُ فَإِذا تبين أَنه لم يَنْعَدِم مَا هُوَ ركن العقد قُلْنَا ينْعَقد العقد مُوجبا حكمه فِي مَحل يقبله وَهُوَ العَبْد وَلَا ينْعَقد مُوجبا للْحكم فِي مَحل لَا يقبله وَهُوَ الْخمر حَتَّى لَا يملك الْخمر وَإِن قَبضه بِحكم العقد بِخِلَاف البيع بالميتة وَالدَّم فَإِنَّهُ لَا مَالِيَّة فِي الْميتَة وَالدَّم بِاعْتِبَار الْحَال وَلَا بِاعْتِبَار الْمَآل وَكَذَلِكَ جلد الْميتَة لَا مَالِيَّة فِيهِ بِاعْتِبَار الْحَال فَإِنَّهُ لَو ترك كَذَلِك فَإِنَّهُ يفْسد وَإِنَّمَا تحدث فِيهِ الْمَالِيَّة بصنع مكتسب وَهُوَ الدباغة وَلِهَذَا اتّفق الْعلمَاء على بطلَان هَذَا العقد وَلَو قضى قَاض بِجَوَازِهِ لم ينفذ قَضَاؤُهُ فلانعدام مَا هُوَ ركن العقد لم ينْعَقد العقد لِأَن انْعِقَاده شرعا لَا يكون بِدُونِ رُكْنه وعَلى هَذَا جَوَّزنَا بيع الدّهن الَّذِي وَقع فِيهِ نَجَاسَة لِأَن الدّهن مَال مُتَقَوّم وبوقوع النَّجَاسَة فِيهِ مَا انْعَدم أَصله وَلَا تغير وَصفه إِنَّمَا جاوره أَجزَاء النَّجَاسَة ولأجله حرم تنَاوله فَيكون بِمَنْزِلَة النَّهْي الَّذِي ورد لِمَعْنى فِي غير الْمنْهِي عَنهُ وَهُوَ غير مُتَّصِل بِهِ وَصفا وَمثل هَذَا النَّهْي لَا يمْنَع جَوَاز العقد كَمَا لَا يمْنَع كَمَال الْعِبَادَة وَلِهَذَا يتَأَدَّى الْفَرْض بأَدَاء الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ويتأدى صَوْم الْفَرْض فِي أَيَّام الْوِصَال إِذا نَوَاه لِأَن النَّهْي بالمجاورة لَا لِمَعْنى اتَّصل بِالْوَقْتِ الَّذِي يُؤدى فِيهِ الصَّوْم إِلَّا أَن الْوِصَال لَا يتَحَقَّق لِأَن الشَّرْع أخرج زمَان اللَّيْل من أَن يكون وقتا لركن الصَّوْم وَهُوَ الْإِمْسَاك بِاعْتِبَار أَن الْإِمْسَاك فِيهِ عَادَة فَكَانَ ذَلِك نسخا استعير لفظ النَّهْي لَهُ مجَازًا وَلَا كَلَام فِي جَوَاز ذَلِك إِنَّمَا الْكَلَام فِي مُوجب النَّهْي حَقِيقَة ثمَّ فِي البيع يُمكن تَمْيِيز الدّهن مِمَّا جاوره حكما فَيكون البيع متناولا للدهن دون النَّجَاسَة وَفِي التَّنَاوُل لَا يُمكن تَمْيِيز الدّهن مِمَّا جاوره فَلَا يحل تنَاوله فَلهَذَا جَازَ بيع الثَّوْب النَّجس وَلَا تجوز الصَّلَاة فِيهِ وعَلى هَذَا قُلْنَا العَاصِي فِي سَفَره يترخص بالرخص لِأَن سَبَب الرُّخْصَة السّير المديد وَهُوَ مَوْجُود بِصفة الْكَمَال لَا قبح فِي أَصله وَلَا فِي صفته وَإِنَّمَا الْقبْح فِي معنى جاوره وَهُوَ قَصده إِلَى قطع الطَّرِيق أَو تمرد العَبْد على مَوْلَاهُ أَلا ترى أَنه إِذا ترك قَصده بِقصد الْحَج خرج من أَن يكون عَاصِيا وَلم يتَغَيَّر سَفَره وَإِنَّمَا تبدل قَصده وَكَذَلِكَ العَبْد إِذا لحقه إِذن مَوْلَاهُ لم يتَغَيَّر سَفَره وَخرج من أَن يكون عَاصِيا وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا} إِن هَذَا النَّهْي لَا يعْدم أصل الشَّهَادَة للقاذف حَتَّى ينْعَقد النِّكَاح بِشَهَادَتِهِ وَلَكِن يفْسد أَدَاؤُهُ حَتَّى يخرج من أَن يكون أَهلا للعان لِأَن اللّعان أَدَاء وأداؤه فَاسد بعد هَذَا النَّهْي الْمُطلق وعَلى هَذَا قُلْنَا الزِّنَا لَا يُوجب حُرْمَة الْمُصَاهَرَة لِأَن الزِّنَا قَبِيح لعَينه وَحُرْمَة الْمُصَاهَرَة لَيست تثبت بِالزِّنَا وَلَا بِالْوَطْءِ الْحَلَال بِعَيْنِه إِنَّمَا الأَصْل فِيهِ الْوَلَد الْمَخْلُوق من الماءين وَهُوَ مُحْتَرم مَخْلُوق بِخلق الله تَعَالَى على أَي وَجه اجْتمع الماءان فِي الرَّحِم كَمَا قَالَ تَعَالَى {ثمَّ أَنْشَأْنَاهُ خلقا آخر} فَلَا يتَمَكَّن فِيهِ صفة الْقبْح وَتثبت الْحُرْمَة بطرِيق الْكَرَامَة لَهُ ثمَّ تتعدى الْحُرْمَة إِلَى أَطْرَافه وَإِلَى أَسبَاب خلقه فيقام السَّبَب وَهُوَ الْوَطْء فِي الْمحل الصَّالح لحدوث الْوَلَد فِيهِ مقَام نفس الْوَلَد فِي إِثْبَات الْحُرْمَة وَمَا قَامَ مقَام غَيره فِي إِثْبَات حكم فَإِنَّمَا تراعى صَلَاحِية السَّبَب للْحكم فِي الأَصْل لَا فِيمَا قَامَ مقَامه بِمَنْزِلَة التُّرَاب فَإِنَّهُ قَائِم مقَام المَاء فِي الطَّهَارَة وصلاحية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 السَّبَب لهَذَا الحكم فِي اسْتِعْمَال المَاء الَّذِي هُوَ الأَصْل لَا فِي اسْتِعْمَال التُّرَاب فَإِنَّهُ تلويث وَلِهَذَا لم يكن وَطْء الْميتَة والإتيان فِي غير المأتى وَوَطْء الصَّغِيرَة مُوجبا الْحُرْمَة لِأَن قيام الْوَطْء مقَام الْوَلَد فِي هَذَا الحكم بِاعْتِبَار كَون الْمحل محلا يخلق فِيهِ الْوَلَد وَذَلِكَ لَا يُوجد فِي هَذِه الْمَوَاضِع وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي اسْتِيلَاء الْكفَّار على أَمْوَالنَا إِذا تمّ بالإحراز فَهُوَ مُوجب للْملك لِأَن صفة الْحُرْمَة والقبح لهَذَا الْفِعْل بِوَاسِطَة الْعِصْمَة فِي الْمحل وَهَذِه الْوَاسِطَة ثَابِتَة من طَرِيق الحكم فِي حَقنا لَا فِي حَقهم فَإِنَّهُم لَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِك وَولَايَة الْإِلْزَام مُنْقَطِعَة بانعدام ولايتنا عَنْهُم فِي دَار الْحَرْب لِأَن هَذِه الْوَاسِطَة هِيَ الْعِصْمَة الثَّابِتَة بالإحراز بدار الْإِسْلَام عندنَا وَقد انْتَهَت هَذِه الْعِصْمَة بانتهاء سَببهَا حِين أحرزوها بدارهم حَتَّى إِن فِي زمَان الْإِحْرَاز لما كَانَت الْعِصْمَة عَن الاسترقاق بِالْحُرِّيَّةِ المتأكدة بِالْإِسْلَامِ وَلم تَنْتَهِ بالإحراز الْمَوْجُود مِنْهُم قُلْنَا لَا يملكُونَ رقابنا وعَلى هَذَا قُلْنَا الْغَصْب سَبَب مُوجب للْملك عِنْد تقرر الضَّمَان لِأَنَّهُ قَبِيح بِأَنَّهُ غصب وَالْملك لَا يثبت بِهِ وَإِنَّمَا يثبت الْملك للْغَاصِب بتملك الْمَغْصُوب مِنْهُ بدله وَهُوَ الْقيمَة عَلَيْهِ وَهَذَا حكم شَرْعِي لَا قبح فِيهِ بل فِيهِ حِكْمَة بَالِغَة وَهُوَ التَّحَرُّز عَن فضل خَال عَن الْعِوَض سَالم للْمَغْصُوب مِنْهُ شرعا فَإِنَّهُ إِذا اجْتمع الأَصْل وَالْبدل فِي ملكه يتَحَقَّق هَذَا الْمَعْنى فِيهِ مَعَ أَن الْملك إِنَّمَا لَا يبْقى للْمَغْصُوب مِنْهُ ليتم بِهِ شَرط سَلامَة الضَّمَان لَهُ فَإِن الضَّمَان ضَمَان جبر وَإِنَّمَا يجْبر الْفَائِت لَا الْقَائِم فَكَانَ انعدام ملكه فِي الْعين شرطا لِسَلَامَةِ الضَّمَان لَهُ وَشرط الشَّيْء تبعه فَإِنَّمَا تراعى صَلَاحِية السَّبَب فِي الأَصْل لَا فِي التبع وَفِي الْمُدبر على هَذَا الطَّرِيق نقُول لما سلم الضَّمَان للْمَغْصُوب مِنْهُ بِجعْل الأَصْل زائلا عَن ملكه حكما لِأَن الْمُدبر مُحْتَمل لذَلِك وَلِهَذَا لَو اكْتسب هُوَ كسبا ثمَّ لم يرجع من إباقه حَتَّى مَاتَ كَانَ ذَلِك الْكسْب للْغَاصِب وَإِنَّمَا لم يثبت الْملك للْغَاصِب فِيهِ صِيَانة لحق الْمُدبر وَالتَّدْبِير مُوجب حق الْعتْق لَهُ عِنْد الْمَوْت وَلِهَذَا امْتنع بَيْعه وَفِي الْقِنّ بعد مَا زَالَ ملك الْمَغْصُوب مِنْهُ لَا مَانع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 من دُخُوله فِي ملك الْغَاصِب الضَّامِن وَهَذَا أَحَق النَّاس بِهِ لِأَنَّهُ ملك عَلَيْهِ بدله أَو نقُول فِي الْمُدبر لَا يُمكن أَن يَجْعَل الضَّمَان بَدَلا عَن الْعين لِأَن من شَرطه انعدام ملكه فِي الْعين وَهَذَا الشَّرْط لَا يُمكن إيجاده بِحَق الْمُدبر فَجعلنَا الضَّمَان ضَمَان الْجِنَايَة وَاجِبا بِاعْتِبَار الْجِنَايَة على يَده وَهَذَا جَائِز عِنْد الضَّرُورَة وَلَا ضَرُورَة فِي الْقِنّ فَيجْعَل بَدَلا عَن الْعين وَلِهَذَا قُلْنَا لَو أَخذ الْقيمَة بطرِيق الصُّلْح بِغَيْر قَضَاء القَاضِي لَا يملك عَلَيْهِ الْمُدبر وَيملك عَلَيْهِ الْقِنّ وَهَذَا طَرِيق فِي تَخْرِيج جنس هَذِه الْمسَائِل فصل فِي بَيَان حكم الْأَمر وَالنَّهْي فِي أضدادهما قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم أَن الْعلمَاء يَخْتَلِفُونَ فيهمَا جَمِيعًا فنبين كل وَاحِد مِنْهُمَا على الِانْفِرَاد ليَكُون أوضح أما بَيَان حكم الْأَمر فقد قَالَ بعض الْمُتَكَلِّمين لَا حكم لِلْأَمْرِ فِي ضِدّه وَقَالَ الْجَصَّاص رَحمَه الله الْأَمر بالشَّيْء يُوجب النَّهْي عَن ضِدّه سَوَاء كَانَ لَهُ ضد وَاحِد أَو أضداد وَقَالَ بَعضهم يُوجب كَرَاهَة ضِدّه وَالْمُخْتَار عندنَا أَنه يَقْتَضِي كَرَاهَة ضِدّه وَلَا نقُول إِنَّه يُوجِبهُ أَو يدل عَلَيْهِ مُطلقًا وَحجَّة الْفَرِيق الأول أَن الضِّدّ مسكوت عَنهُ وَالسُّكُوت عَنهُ لَا يكون مُوجبا شَيْئا أَلا ترى أَن التَّعْلِيق بِشَرْط لَا يُوجب نفي الْمُعَلق قبل وجود الشَّرْط لِأَنَّهُ مسكوت عَنهُ فَيبقى على مَا كَانَ قبل التَّعْلِيق فَهُنَا أَيْضا الضِّدّ مسكوت عَنهُ فَيبقى على مَا كَانَ قبل الْأَمر يقرره أَن الْأَمر فِيمَا وضع لَهُ لَا يُوجب حكما فِيمَا لم يتَنَاوَلهُ النَّص إِلَّا بطرِيق التَّعْدِيَة إِلَيْهِ بعد التَّعْلِيل فَلِأَن لَا يُوجب حكما فِي ضد مَا وضع لَهُ كَانَ أولى وعَلى قَول هَؤُلَاءِ الذَّم وَالْإِثْم على من ترك الائتمار بِاعْتِبَار أَنه لم يَأْتِ بِمَا أَمر بِهِ قَالَ الْجَصَّاص رَحمَه الله وَهُوَ قَول قَبِيح فَإِن فِيهِ قولا بِاسْتِحْقَاق العَبْد الْعقُوبَة على مَا لم يَفْعَله وَاسْتِحْقَاق الْعقُوبَة إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار فعل فعله العَبْد ثمَّ إِنَّه بنى مذْهبه على أَن الْأَمر الْمُطلق يُوجب الائتمار على الْفَوْر فَقَالَ من ضَرُورَة وجوب الائتمار على الْفَوْر حُرْمَة التّرْك الَّذِي هُوَ ضِدّه وَالْحُرْمَة حكم النَّهْي فَكَانَ مُوجبا للنَّهْي عَن ضِدّه بِحكمِهِ يُوضحهُ أَن الْأَمر طلب الإيجاد للْمَأْمُور بِهِ على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 أبلغ الْجِهَات والاشتغال بضده يعْدم مَا وَجب بِالْأَمر وَهُوَ الإيجاد فَكَانَ حَرَامًا مَنْهِيّا عَنهُ لمقْتَضى حكم الْأَمر وَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ مَا يكون ضد وَاحِد أَو أضداد فَبِأَي ضد اشْتغل يَنْعَدِم مَا هُوَ الْمَطْلُوب أَلا ترى أَنه إِذا قَالَ لغيره اخْرُج من هَذِه الدَّار سَوَاء اشْتغل بالقعود فِيهَا أَو الِاضْطِجَاع أَو الْقيام يَنْعَدِم مَا أَمر بِهِ وَهُوَ الْخُرُوج وَهَذَا هُوَ الْحجَّة للفريق الثَّالِث إِلَّا أَنهم يَقُولُونَ حُرْمَة الضِّدّ بِهَذَا الطَّرِيق تثبت بِوَاسِطَة حكم الْأَمر فَإِنَّمَا ثَبت أدنى الْحُرْمَة فِيهِ لِأَن مَا ثَبت بطرِيق الدّلَالَة لَا يكون مثل الثَّابِت بِالنَّصِّ وَالثَّابِت بِالنَّصِّ ثَابت من كل وَجه وَهَذَا ثَابت من وَجه دون وَجه لتحقيق حكم الْأَمر وَيَكْفِي لذَلِك أدنى الْحُرْمَة بِمَنْزِلَة حُرْمَة تثبت بِالنَّهْي لِمَعْنى فِي غير الْمنْهِي عَنهُ غير مُتَّصِل بِالنَّهْي عَنهُ فَتثبت بِهِ الْكَرَاهَة فَقَط وَوجه القَوْل الْمُخْتَار هَذَا الْكَلَام أَيْضا إِلَّا أَنا نقُول ثُبُوت الْحُرْمَة بطرِيق الِاقْتِضَاء هُنَا لِأَن طلب الْوُجُود بِالْأَمر يَقْتَضِي حُرْمَة الضِّدّ وَلَا يثبت بِدلَالَة النَّص إِلَّا مثل مَا هُوَ ثَابت بِالنَّصِّ أَو أقوى مِنْهُ كالتنصيص على حُرْمَة التأفيف بِدَلِيل حُرْمَة الشتم لِأَن فِيهِ ذَلِك الْأَذَى وَزِيَادَة فَأَما مَا ثَبت بطرِيق الِاقْتِضَاء فَهُوَ ثَابت لأجل الضَّرُورَة وَإِنَّمَا يثبت بِقدر مَا ترْتَفع بِهِ الضَّرُورَة وَوُجُود أحد الضدين يَقْتَضِي انْتِفَاء الضِّدّ الآخر كالليل مَعَ النَّهَار فَكَانَ وجوب الْأَدَاء بِالْأَمر مقتضيا نفي الضِّدّ وَإِنَّمَا حرم الضِّدّ بِهَذَا الِاقْتِضَاء فَلهَذَا قُلْنَا إِن الْأَمر بالشَّيْء يَقْتَضِي كَرَاهَة ضِدّه لَا أَن يكون مُوجبا لَهُ أَو دَلِيلا عَلَيْهِ وَمَا ذكره الْجَصَّاص أَن مُطلق الْأَمر يُوجب الائتمار على الْفَوْر دَعْوَى مِنْهُ وَقد ذكرنَا أَن الرِّوَايَة بِخِلَاف ذَلِك وَالْجَوَاب عَمَّا قَالَه الْفَرِيق الأول أَن الضِّدّ مسكوت عَنهُ يَتَّضِح بالتقرير الَّذِي قُلْنَا فِي وَجه الْمُخْتَار وَهُوَ أَن ثُبُوت كَرَاهَة ضِدّه بطرِيق الِاقْتِضَاء والمقتضى مسكوت عَنهُ فَإِن مَا يكون مَنْصُوصا عَلَيْهِ لَا يكون ثُبُوته بطرِيق الِاقْتِضَاء وَلَا خلاف بَيْننَا وَبينهمْ أَن الِاقْتِضَاء طَرِيق صَحِيح لإِثْبَات الْمُقْتَضى وَإِن كَانَ مسكوتا عَنهُ بعد أَن يكون مُحْتَاجا إِلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا نَظِير التَّعْلِيق بِالشّرطِ فَإِن ذَلِك يُوجب وجود الحكم ابْتِدَاء عِنْد وجود الشَّرْط وَمن ضَرُورَة وجود الحكم عِنْد وجود الشَّرْط ابْتِدَاء أَن لَا يكون مَوْجُودا قبله وَلَكِن انعدامه قبل وجود الشَّرْط عدم أُصَلِّي فَلَا يصير مُضَافا إِلَى الْوُجُود عِنْد وجود الشَّرْط نصا وَلَا اقْتِضَاء لِأَن الْعَدَم الْأَصْلِيّ لَا يَسْتَدْعِي دَلِيلا معدما يُضَاف إِلَيْهِ وَأما هَهُنَا وجوب الْإِقْدَام على الإيجاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 يَقْتَضِي حُرْمَة التّرْك وَالْحُرْمَة الثَّابِتَة بِمُقْتَضى الشَّيْء تكون مُضَافا إِلَيْهِ فَجعلنَا قدر مَا يثبت من الْحُرْمَة وَهُوَ الْمُوجب للكراهة مُضَافا إِلَى الْأَمر اقْتِضَاء وَإِذا تبين حكم الْأَمر فَكَذَلِك حكم النَّهْي فِي ضِدّه على هَذِه الْأَقَاوِيل الْأَرْبَعَة فالفريق الأول يَقُولُونَ لَا حكم لَهُ فِي ضِدّه لِأَنَّهُ مسكوت عَنهُ ويستدلون على ذَلِك بقوله تَعَالَى {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} فَإِنَّهُ لَا يكون أمرا بضده وَهُوَ ترك قتل النَّفس إِذْ لَو كَانَ أمرا بِهِ لَكَانَ تَارِك قتل النَّفس مباشرا لفعل الطَّاعَة وَهُوَ الائتمار بِالْأَمر فَإِنَّهُ يكون مُسْتَحقّ الثَّوَاب الْمَوْعُود للمطيعين وَهَذَا فَاسد وَقَالَ الْجَصَّاص رَحمَه الله النَّهْي عَن الشَّيْء يُوجب ضِدّه إِن كَانَ لَهُ ضد وَاحِد وَإِن كَانَ لَهُ أضداد فَلَا مُوجب لَهُ فِي شَيْء من أضداده وَبَين ذَلِك فِي الْحَرَكَة والسكون فَإِن قَول الْقَائِل لَا تتحرك يكون أمرا بضده وَهُوَ السّكُون لِأَن للمنهي عَنهُ ضدا وَاحِدًا وَقَوله لَا تسكن لَا مُوجب لَهُ فِي ضِدّه لِأَن لَهُ أضدادا وَهِي الْحَرَكَة من الْجِهَات السِّت فَإِن السّكُون يَنْعَدِم من أَي جَانب كَانَت الْحَرَكَة فَلَا يتَعَيَّن وَاحِد من الأضداد مَأْمُورا بِهِ بِمُوجب النَّهْي وَإِذا قَالَ لغيره لَا تقم فللمنهي عَنهُ أضداد من الْقعُود والاضطجاع فَلَا مُوجب لهَذَا النَّهْي فِي شَيْء من أضداده قَالَ لِأَن مُوجب النَّهْي إعدام الْمنْهِي عَنهُ بأبلغ الْوُجُوه وَإِذا كَانَ لَهُ ضد وَاحِد فَمن ضَرُورَة وجوب الإعدام الْكَفّ عَن الإيجاد فَيكون النَّهْي مُوجبا الْأَمر بالضد بِحكمِهِ وَاسْتدلَّ على ذَلِك بقوله تَعَالَى {وَلَا يحل لَهُنَّ أَن يكتمن مَا خلق الله فِي أرحامهن} فَإِنَّهُ نهى عَن الكتمان وَهُوَ مُوجب الْأَمر بالإظهار وَلِهَذَا وَجب قبُول قَوْلهَا فِيمَا تخبره لِأَنَّهَا مأمورة بالإظهار وَنهى الْمحرم عَن لبس الْمخيط لَا يكون أمرا بِلبْس شَيْء عين من غير الْمخيط لِأَن للمنهي عَنهُ أضدادا هُنَا وبحكم النَّهْي لَا يثبت الْأَمر بِجَمِيعِ الأضداد وَلَيْسَ بَعْضهَا بِأولى من الْبَعْض يُوضح الْفرق بَينهمَا أَن مَعَ التَّصْرِيح بِالنَّهْي فِيمَا لَهُ ضد وَاحِد لَا يَسْتَقِيم التَّصْرِيح بِالْإِبَاحَةِ فِي الضِّدّ فَإِنَّهُ لَو قَالَ نهيتك عَن التحرك وأبحت لَك السّكُون أَو أَنْت بِالْخِيَارِ فِي السّكُون كَانَ كلَاما مختلا لِأَن مُوجب النَّهْي تَحْرِيم الْمنْهِي عَنهُ وَمَعَ تَحْرِيمه لَا يتَصَوَّر التَّخْيِير فِي ضِدّه لِاسْتِحَالَة انعدامهما جَمِيعًا وَصفَة الْإِبَاحَة تَقْتَضِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 التَّخْيِير وَبِهَذَا يتَبَيَّن فَسَاد مَا ذهب إِلَيْهِ الْفَرِيق الأول من أَن الضِّدّ مسكوت عَنهُ وَلَا تعويل على استدلالهم بِالنَّهْي عَن قتل النَّفس لأَنا نجْعَل ذَلِك بِمَنْزِلَة التَّصْرِيح بالكف عَن قتل النَّفس لتحقيق مُوجب النَّهْي وَالنَّاس تكلمُوا فِي أَن الْأَمر بالكف عَن قتل النَّفس مَا حكمه مِنْهُم من قَالَ معنى الِابْتِلَاء لَا يتَحَقَّق فِي مثل هَذَا لِأَن طبع كل وَاحِد يحملهُ على ذَلِك ونيل الثَّوَاب فِي الْعَمَل بِخِلَاف هوى النَّفس ليتَحَقَّق فِيهِ الِابْتِلَاء قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَنه ينَال بِهِ ثَوَاب المطيعين عِنْد قصد امْتِثَال الْأَمر وَإِظْهَار الطَّاعَة وَهَكَذَا نقُول إِذا ثَبت ذَلِك بِحكم النَّهْي فَأَما إِذا كَانَ للمنهي عَنهُ أضداد يَسْتَقِيم التَّصْرِيح بِالْإِبَاحَةِ فِي جَمِيع الأضداد بِأَن تَقول لَا تسكن وأبحت لَك التحرك من أَي جِهَة شِئْت فَعرفنَا أَنه لَا مُوجب لهَذَا النَّهْي فِي شَيْء من الأضداد وَقَول من يَقُول بِأَن مثل هَذَا النَّهْي يكون أمرا بأضداده يُؤَدِّي إِلَى القَوْل بِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر من العَبْد فعل مُبَاح أَو مَنْدُوب إِلَيْهِ فَإِن الْمنْهِي عَنهُ محرم وأضداده وَاجِب بِالْأَمر الثَّابِت بِمُقْتَضى النَّهْي فَكيف يتَصَوَّر مِنْهُ فعل مُبَاح أَو مَنْدُوب إِلَيْهِ وَفِي اتِّفَاق الْعلمَاء على أَن أَقسَام الْأَفْعَال الَّتِي يَأْتِي بهَا العَبْد عَن قصد أَرْبَعَة وَاجِب ومندوب إِلَيْهِ ومباح ومحظور دَلِيل على فَسَاد قَول هَذَا الْقَائِل وَأما الْفَرِيق الثَّالِث فَيَقُولُونَ مُوجب النَّهْي فِي ضِدّه إِثْبَات سنة تكون فِي الْقُوَّة كالواجب لِأَن هَذَا أَمر ثَبت بطرِيق الدّلَالَة فَيكون مُوجبه دون مُوجب الثَّابِت بِالنَّصِّ وعَلى القَوْل الْمُخْتَار يحْتَمل أَن يكون مقتضيا هَذَا الْمِقْدَار على قِيَاس مَا بَينا فِي الْأَمر وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ للمنهي عَنهُ أضداد فَإِنَّهُ يثبت هَذَا الْقدر من الْمُقْتَضِي فِي أَي أضداده يَأْتِي بِهِ الْمُخَاطب وَلِهَذَا قُلْنَا بِأَن النَّهْي عَن لبس الْمخيط فِي حَالَة الْإِحْرَام يثبت أَن السّنة لبس الْإِزَار والرداء وَذَلِكَ أدنى مَا يَقع بِهِ الْكِفَايَة من غير الْمخيط فَأَما قَوْله {وَلَا يحل لَهُنَّ أَن يكتمن مَا خلق الله فِي أرحامهن} فَهُوَ نسخ وَلَيْسَ بنهي بِمَنْزِلَة قَوْله تَعَالَى {لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد} وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أمرا بالإظهار بِوَاسِطَة أَن الكتمان لم يبْق مَشْرُوعا وَهُوَ نَظِير قَوْله لَا نِكَاح إِلَّا بِشُهُود وَقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 بَينا تَحْقِيق هَذَا الْمَعْنى فِيمَا سبق فَأَما بَيَان فَائِدَة الأَصْل الْمَذْكُور فِي هَذَا الْفَصْل من مسَائِل الْفِقْه أَن نقُول لما كَانَ الْأَمر مقتضيا كَرَاهَة الضِّدّ لم يكن ضِدّه مُفْسِدا لِلْعِبَادَةِ إِلَّا أَن يكون مفوتا لما هُوَ وَاجِب بِصِيغَة الْأَمر وَلَكِن يكون مَكْرُوها فِي نَفسه فَإِن الْمَأْمُور بِالْقيامِ فِي الصَّلَاة إِذا قعد لَا تفْسد صلَاته لِأَنَّهُ لم يفت بِهَذَا الضِّدّ مَا هُوَ الْوَاجِب بِالْأَمر وَهُوَ الْقيام إِذا أَتَى بِهِ بعد الْقعُود وَلَكِن الْقعُود مَكْرُوه فِي نَفسه وَلكَون النَّهْي مقتضيا فِي ضِدّه مَا بَينا من صفة السّنة قُلْنَا لَا يَنْعَدِم بالضد مَا هُوَ مُوجب صِيغَة النَّهْي فَإِن ركن الْعدة الِامْتِنَاع من الْخُرُوج والتزوج ثَبت ذَلِك بِصِيغَة النَّهْي قَالَ تَعَالَى {وَلَا يخْرجن} وَقَالَ {وَلَا تعزموا عقدَة النِّكَاح} فَإِن فعلت ذَلِك لم يَنْعَدِم بِهِ مَأْمُور مَا هُوَ ركن الِاعْتِدَاد حَتَّى تَنْقَضِي الْعدة بِخِلَاف الْكَفّ فِي بَاب الصَّوْم فَإِنَّهُ وَاجِب بِصِيغَة الْأَمر نصا قَالَ تَعَالَى {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} فينعدم الْأَدَاء بِمُبَاشَرَة الضِّدّ وَهُوَ الْأكل وعَلى هَذَا قُلْنَا العدتان تنقضيان بِمُضِيِّ مُدَّة وَاحِدَة لِأَن الْكَفّ فِي الْعدة ثَابت بِمُقْتَضى النَّهْي وَلَا تضايق فِيمَا هُوَ مُوجب النَّهْي نصا وَهُوَ التَّحْرِيم وَلَا يتَحَقَّق أَدَاء الصومين فِي يَوْم وَاحِد لتضايق الْوَقْت فِي ركن كل صَوْم وَهُوَ الْكَفّ إِلَى وَقت فَإِنَّهُ ثَابت بِالْأَمر نصا وَلَا يتَحَقَّق اجْتِمَاع الْكَفَّيْنِ فِي وَقت وَاحِد وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله من سجد فِي صلَاته على مَكَان نجس ثمَّ سجد على مَكَان طَاهِر جَازَت صلَاته لِأَن الْمَأْمُور بِهِ السُّجُود على مَكَان طَاهِر ومباشرة الضِّدّ بِالسُّجُود على مَكَان نجس لَا يفوت الْمَأْمُور بِهِ فَيكون مَكْرُوها فِي نَفسه وَلَا يكون مُفْسِدا للصَّلَاة وعَلى قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله تفْسد بِهِ الصَّلَاة لِأَن تأدي الْمَأْمُور بِهِ لما كَانَ بِاعْتِبَار الْمَكَان فَمَا يكون صفة للمكان الَّذِي يُؤدى الْفَرْض عَلَيْهِ يَجْعَل بِمَنْزِلَة الصّفة لَهُ حكما فَيصير هُوَ كالحامل للنَّجَاسَة إِذا سجد على مَكَان نجس والكف عَن حمل النَّجَاسَة مَأْمُور بِهِ فِي جَمِيع الصَّلَاة فَيفوت ذَلِك بِالسُّجُود على مَكَان نجس كَمَا أَن الْكَفّ عَن اقْتِضَاء الشَّهْوَة لما كَانَ مَأْمُورا بِهِ فِي جَمِيع وَقت الصَّوْم يتَحَقَّق الْفَوات بِالْأَكْلِ فِي جُزْء من الْوَقْت فِيهِ وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف بترك الْقِرَاءَة فِي شفع من التَّطَوُّع لَا يخرج عَن حُرْمَة الصَّلَاة لِأَنَّهُ مَأْمُور بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاة وَذَلِكَ نهي عَن ضِدّه اقْتِضَاء فَترك الْقِرَاءَة مَا لم يكن مفوتا للْفَرض لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 يكون مُفْسِدا وَمَعَ احْتِمَال أَدَاء شفع آخر بِهَذِهِ التَّحْرِيمَة لَا يتَحَقَّق فَوَات هَذَا الْفَرْض فَتبقى التَّحْرِيمَة صَحِيحَة قَابِلَة لبِنَاء شفع آخر عَلَيْهَا وَإِن فسد أَدَاء الشفع الأول بترك الْقِرَاءَة وَقَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله الْقِرَاءَة فرض من أول الصَّلَاة إِلَى آخرهَا حكما وَلِهَذَا لَا يصلح الْأُمِّي خَليفَة للقارىء وَإِن كَانَ قد رفع رَأسه من السَّجْدَة الْأَخِيرَة وأتى بِفَرْض الْقِرَاءَة فِي محلهَا وَإِذا كَانَ مستديما حكما يتَحَقَّق فَوَات مَا هُوَ الْفَرْض بترك الْقِرَاءَة فِي رَكْعَة فَيخرج بِهِ من تحريمة الصَّلَاة وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله كل شفع من التَّطَوُّع صَلَاة على حِدة وَلِهَذَا تفترض الْقِرَاءَة فِي كل رَكْعَة من الشفع عندنَا كَمَا تفترض فِي كل رَكْعَة من الْفجْر إِلَّا أَن بترك الْقِرَاءَة فِي رَكْعَة من التَّطَوُّع لَا يفوت مَا هُوَ الْمَأْمُور بِهِ من الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة نصا فَلَا تَنْقَطِع التَّحْرِيمَة وبترك الْقِرَاءَة فِي الرَّكْعَتَيْنِ يفوت مَا هُوَ الْفَرْض قطعا فَيكون ذَلِك قطعا للتحريمة وَهَكَذَا نقُول فِي الْفجْر فَإِن بترك الْقِرَاءَة فِي رَكْعَة يفْسد الْفَرْض وَلَكِن لَا تنْحَل التَّحْرِيمَة بل تنْقَلب تَطَوّعا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى يَقُول فِي التَّطَوُّع احْتِمَال بِنَاء شفع آخر عَلَيْهِ قَائِم فَإِذا فعل ذَلِك كَانَ الْكل فِي حكم صَلَاة وَاحِدَة وَلَا تَنْقَطِع التَّحْرِيمَة بترك الْقِرَاءَة فِي رَكْعَة مِنْهَا وَمثل هَذَا الِاحْتِمَال غير مَوْجُود فِي الْفجْر حَتَّى إِن فِي ظهر الْمُسَافِر لبَقَاء هَذَا الِاحْتِمَال بنية الْإِقَامَة قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رحمهمَا الله لَا تفْسد بترك الْقِرَاءَة فِي رَكْعَة مِنْهَا حَتَّى إِذا نوى الْإِقَامَة أتم صلَاته وَقضى مَا ترك من الْقِرَاءَة فِي الشفع الثَّانِي فيجزيه ذَلِك وعَلى هَذَا نقُول إِن بترك الْقِرَاءَة فِي التَّطَوُّع فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا لَا تنْحَل التَّحْرِيمَة عِنْده لاحْتِمَال بِنَاء شفع آخر عَلَيْهِ كَمَا فِي فصل الْمُسَافِر وَلكنه يفْسد لتحَقّق فَوَات مَا هُوَ فرض فِي هَذِه الصَّلَاة فَإِنَّهُ وَإِن بنى الشفع الثَّانِي على تحريمته لَا يخرج بِهِ من أَن يكون الشفع الأول صَلَاة على حِدة حَقِيقَة وَحكما وَلِهَذَا لَا يفْسد الشفع الأول بمفسد يعْتَرض فِي الشفع الثَّانِي والمسائل الَّتِي تخرج على هَذَا الأَصْل يكثر تعدادها وَالله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 فصل فِي بَيَان أَسبَاب الشَّرَائِع قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْأَمر وَالنَّهْي على الْأَقْسَام الَّتِي بيناها لطلب أَدَاء المشروعات فَفِيهَا معنى الْخطاب بِالْأَدَاءِ بعد الْوُجُوب بِأَسْبَاب جعلهَا الشَّرْع سَببا لوُجُوب المشروعات والموجب هُوَ الله تَعَالَى حَقِيقَة لَا تَأْثِير للأسباب فِي الْإِيجَاب بأنفسها وَالْخطاب يَسْتَقِيم أَن يكون سَببا مُوجبا للمشروعات إِلَّا أَن الله تَعَالَى جعل أسبابا أخر سوى الْخطاب سَبَب الْوُجُوب تيسيرا لِلْأَمْرِ على الْعباد حَتَّى يتَوَصَّل إِلَى معرفَة الْوَاجِبَات بِمَعْرِِفَة الْأَسْبَاب الظَّاهِرَة وَقد دلّ على مَا بَينا قَوْله تَعَالَى {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} فَإِن الْألف وَاللَّام دَلِيل على أَن المُرَاد أقِيمُوا الصَّلَاة الَّتِي أوجبتها عَلَيْكُم بِالسَّبَبِ الَّذِي جعلته سَببا لَهَا وأدوا الزَّكَاة الْوَاجِبَة عَلَيْكُم بِسَبَبِهَا كَقَوْل الْقَائِل أد الثّمن فَإِنَّمَا يفهم مِنْهُ الْخطاب بأَدَاء الثّمن الْوَاجِب بِسَبَبِهِ وَهُوَ البيع ثمَّ أصل الْوُجُوب فِي المشروعات جبر لَا صنع للْعَبد فِيهِ وَلَا اخْتِيَار فَإِن الْمُوجب هُوَ الله تَعَالَى تعبد الْعباد بِمَا أوجبهَا عَلَيْهِم فَكَمَا لَا صنع لَهُم فِي صفة الْعُبُودِيَّة الثَّابِتَة عَلَيْهِم لَا صنع لَهُم فِي أصل الْوُجُوب وَبِاعْتِبَار الْأَسْبَاب الَّتِي جعلهَا الشَّرْع سَببا لَا اخْتِيَار لَهُم فِي أصل الْوُجُوب أَيْضا كَمَا أَنه لَا اخْتِيَار لَهُم فِي السَّبَب فَأَما وجوب الْأَدَاء الثَّابِت بِالْخِطَابِ لَا يَنْفَكّ عَن اخْتِيَار يكون فِيهِ للْعَبد عِنْد الْأَدَاء وَبِه يتَحَقَّق معنى الْعِبَادَة والابتلاء فِي الْمُؤَدِّي وَهَذَا لِأَن التَّكْلِيف بِقدر الوسع شرعا وأصل الْوُجُوب يثبت بتقرر السَّبَب مَعَ انعدام الْخطاب بِالْأَدَاءِ الثَّابِت بِالْأَمر وَالنَّهْي فَإِن من مضى عَلَيْهِ وَقت الصَّلَاة وَهُوَ نَائِم تجب عَلَيْهِ الصَّلَاة حَتَّى يُؤدى الْفَرْض إِذا انتبه فالخطاب مَوْضُوع عَن النَّائِم وَكَذَلِكَ الْمغمى عَلَيْهِ إِذا لم يبْق لتِلْك الصّفة أَكثر من يَوْم وَلَيْلَة أَو الْمَجْنُون إِذا لم يَزْدَدْ جُنُونه على يَوْم وَلَيْلَة يثبت حكم وجوب الصَّلَاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 فِي حَقه حَتَّى يلْزمه الْقَضَاء وَالْخطاب مَوْضُوع عَنهُ أَلا ترى أَن الْمَجْنُون أَو الْمغمى عَلَيْهِ لَو كَانَ كَافِرًا فَكَمَا أَفَاق أسلم لم تلْزمهُ قَضَاء الصَّلَوَات لما لم يثبت الْوُجُوب فِي تِلْكَ الْحَالة فِي حَقه لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّة فَإِن الْأَسْبَاب إِنَّمَا توجب على من يكون أَهلا للْوُجُوب عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْمغمى عَلَيْهِ فِي جَمِيع شهر رَمَضَان أَو الْمَجْنُون فِي بعض الشَّهْر يثبت الْوُجُوب فِي حَقّهمَا حَتَّى يجب الْقَضَاء بعد الْإِفَاقَة وَالْخطاب مَوْضُوع عَنْهُمَا وَكَذَلِكَ الزَّكَاة على أصل الْخصم تجب على الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَالْخطاب مَوْضُوع عَنْهُمَا وبالاتفاق يجب عَلَيْهِمَا الْعشْر وَصدقَة الْفطر وَكَذَلِكَ يجب عَلَيْهِمَا حُقُوق الْعباد عِنْد تحقق الْأَسْبَاب مِنْهُمَا أَو من الْوَلِيّ على سَبِيل النِّيَابَة عَنْهُمَا كالصداق الَّذِي يلْزمهُمَا بتزويج الْوَلِيّ إيَّاهُمَا وَالْعِتْق الَّذِي يسْتَحقّهُ الْقَرِيب عَلَيْهِمَا عِنْد دُخُوله فِي ملكهمَا بِالْإِرْثِ وَإِن كَانَ الْخطاب مَوْضُوعا عَنْهُمَا إِذا تقرر هَذَا فَنَقُول الْأَسْبَاب الَّتِي جعلهَا الشَّرْع مُوجبا للمشروعات هِيَ الْأَسْبَاب الَّتِي تُضَاف المشروعات إِلَيْهَا وتتعلق بهَا شرعا لِأَن إِضَافَة الشَّيْء إِلَى الشَّيْء فِي الْحَقِيقَة تدل على أَنه حَادث بِهِ كَمَا يُقَال كسب فلَان أَي حدث لَهُ باكتسابه وَقد يُضَاف إِلَى الشَّرْط مجَازًا أَيْضا على معنى أَن وجوده يكون عِنْد وجود الشَّرْط وَلَكِن الْمُعْتَبر هُوَ الْحَقِيقَة حَتَّى يقوم دَلِيل الْمجَاز وَتعلق الشَّيْء بالشَّيْء يدل على نَحْو ذَلِك فحين رَأينَا إِضَافَة الصَّلَاة إِلَى الْوَقْت شرعا وتعلقها بِالْوَقْتِ شرعا أَيْضا حَتَّى تَتَكَرَّر بتكررها مَعَ أَن مُطلق الْأَمر لَا يُوجب التّكْرَار وَإِن كَانَ مُعَلّقا بِشَرْط أَلا ترى أَن الرجل إِذا قَالَ (لغيره) تصدق بدرهم من مَالِي لدلوك الشَّمْس لَا يَقْتَضِي هَذَا الْخطاب التّكْرَار ورأينا أَن وجوب الْأَدَاء الثَّابِت بقوله تَعَالَى {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} غير مَقْصُور على الْمرة الْوَاحِدَة ثَبت أَن تكْرَار الْوُجُوب بِاعْتِبَار تجدّد السَّبَب بدلوك الشَّمْس فِي كل يَوْم ثمَّ وجوب الْأَدَاء مُرَتّب عَلَيْهِ بِحكم هَذَا الْخطاب وحرف اللَّام فِي قَوْله تَعَالَى {لدلوك الشَّمْس} دَلِيل على تعلقهَا بذلك الْوَقْت كَمَا يُقَال تأهب للشتاء وتطهر للصَّلَاة وَلم يتَعَلَّق بهَا وجودا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 عِنْدهَا فَعرفنَا أَن تعلق الْوُجُوب بهَا بِجعْل الشَّرْع ذَلِك الْوَقْت سَببا لوُجُوبهَا فَنَقُول وجوب الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى كَمَا هُوَ بأسمائه وَصِفَاته بِإِيجَاب الله وَسَببه فِي الظَّاهِر الْآيَات الدَّالَّة على حدث الْعَالم لمن وَجب عَلَيْهِ وَهَذِه الْآيَات غير مُوجبَة لذاتها وعقل من وَجب عَلَيْهِ غير مُوجب عَلَيْهِ أَيْضا وَلَكِن الله تَعَالَى هُوَ الْمُوجب بِأَن أعطَاهُ آلَة يسْتَدلّ بِتِلْكَ الْآلَة على معرفَة الْوَاجِب كمن يَقُول لغيره هاك السراج فَإِن أَضَاء لَك الطَّرِيق فاسلكه كَانَ الْمُوجب للسلوك فِي الطَّرِيق هُوَ الْأَمر بذلك لَا الطَّرِيق بِنَفسِهِ وَلَا السراج فالعقل بِمَنْزِلَة السراج والآيات الدَّالَّة على حدث الْعَالم بِمَنْزِلَة الطَّرِيق والتصديق من العَبْد وَالْإِقْرَار بِمَنْزِلَة السلوك فِي الطَّرِيق فَهُوَ وَاجِب بِإِيجَاب الله تَعَالَى حَقِيقَة وَسَببه الظَّاهِر الْآيَات الدَّالَّة على حدث الْعَالم وَلِهَذَا تسمى عَلَامَات فَإِن الْعلم للشَّيْء لَا يكون مُوجبا لنَفسِهِ وَلَا نعني أَن هَذِه الْآيَات توجب وحدانية الله تَعَالَى ظَاهرا أَو حَقِيقَة وَإِنَّمَا نعني أَنَّهَا فِي الظَّاهِر سَبَب لوُجُوب التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار على العَبْد وَلكَون هَذِه الْآيَات دائمة لَا تحْتَمل التَّغَيُّر بِحَال إِذْ لَا يتَصَوَّر للمحدث أَن يكون غير مُحدث فِي شَيْء من الْأَوْقَات فَكَانَ فَرضِيَّة الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى دَائِما بدوام سَببه غير مُحْتَمل للنسخ والتبديل بِحَال وَلِهَذَا صححنا إِيمَان الصَّبِي الْعَاقِل لِأَن السَّبَب متقرر فِي حَقه وَالْخطاب بِالْأَدَاءِ مَوْضُوع عَنهُ بِسَبَب الصِّبَا لِأَن الْخطاب بِالْأَدَاءِ يحْتَمل السُّقُوط فِي بعض الْأَحْوَال وَلَكِن صِحَة الْأَدَاء بِاعْتِبَار تقرر السَّبَب الْمُوجب لَا بِاعْتِبَار وجوب الْأَدَاء كَالْبيع بِثمن مُؤَجل سَبَب لجَوَاز أَدَاء الثّمن قبل حُلُول الْأَجَل وَإِن لم يكن الْخطاب بِالْأَدَاءِ مُتَوَجها حَتَّى يحل الْأَجَل وَالْمُسَافر إِذا صَامَ فِي شهر رَمَضَان كَانَ صَحِيحا مِنْهُ فرضا لتقرر السَّبَب فِي حَقه وَإِن كَانَ الْخطاب بِالْأَدَاءِ مَوْضُوعا عَنهُ قبل إِدْرَاك عدَّة من أَيَّام أخر وَهَذَا لِأَن صِحَة الْأَدَاء تكون بِوُجُود مَا هُوَ الرُّكْن مِمَّن هُوَ أهل والركن هُوَ التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار والأهلية لذَلِك لَا تنعدم بالصبا فَبعد ذَلِك بامتناع صِحَة الْأَدَاء لَا يكون إِلَّا بِحجر شَرْعِي وَالْقَوْل بِالْحجرِ لأحد عَن الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى محَال فَأَما الصَّلَاة فواجبة بِإِيجَاب الله تَعَالَى بِلَا شُبْهَة وَسبب وُجُوبهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 فِي الظَّاهِر هُوَ الْوَقْت فِي حَقنا وأمرنا بأدائها بقوله تَعَالَى {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} أَي لوُجُوبهَا بدلوك الشَّمْس وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنَّهَا تنْسب إِلَى الْوَقْت شرعا فَيُقَال فرض الْوَقْت وَصَلَاة الْفجْر وَالظّهْر وَإِنَّمَا يُضَاف الْوَاجِب إِلَى سَببه وَكَذَلِكَ يتَكَرَّر الْوُجُوب بِتَكَرُّر الْوَقْت وَالْخطاب لَا يُوجب التّكْرَار وَهِي لَا تُضَاف إِلَى الْخطاب شرعا وَلَيْسَ هُنَا سوى الْوَقْت وَالْخطاب فَتبين بِهَذَا أَن الْوَقْت هُوَ السَّبَب وَلِهَذَا لَا يجوز تَعْجِيلهَا قبل الْوَقْت وَيجوز بعد دُخُول الْوَقْت مَعَ تَأْخِير لُزُوم الْأَدَاء بِالْخِطَابِ إِلَى آخر الْوَقْت فَإِن قيل لَا يفهم من وجوب الْعِبَادَة شَيْء سوى وجوب الْأَدَاء وَلَا خلاف أَن وجوب الْأَدَاء بِالْخِطَابِ فَمَا الَّذِي يكون وَاجِبا بِسَبَب الْوَقْت قُلْنَا الْوَاجِب بِسَبَب الْوَقْت مَا هُوَ الْمَشْرُوع نفلا فِي غير الْوَقْت الَّذِي هُوَ سَبَب للْوُجُوب وَبَيَان هَذَا فِي الصَّوْم فَإِنَّهُ مَشْرُوع نفلا فِي كل يَوْم وجد الْأَدَاء أَو لم يُوجد وَفِي رَمَضَان يكون مَشْرُوعا وَاجِبا بِسَبَب الْوَقْت سَوَاء وجد خطاب الْأَدَاء بِوُجُود شَرطه وَهُوَ التَّمَكُّن من الْأَدَاء أَو لم يُوجد أَلا ترى أَن من كَانَ مغمى عَلَيْهِ أَو نَائِما فِي وَقت الصَّلَاة ثمَّ أَفَاق بعد مُضِيّ الْوَقْت يصير مُخَاطبا بِالْأَدَاءِ لوُجُوبهَا عَلَيْهِ لوُجُود السَّبَب وَهُوَ الْوَقْت وَلَو كَانَ هَذَا الْمغمى عَلَيْهِ أَو النَّائِم غير بَالغ ثمَّ بلغ بعد مُضِيّ الْوَقْت ثمَّ أَفَاق وانتبه لم يكن عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا وَقد صَار مُخَاطبا عِنْد الْإِفَاقَة فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِصفة وَاحِدَة وَلَكِن لما انعدمت الْأَهْلِيَّة عِنْد وجود السَّبَب لم يثبت الْوُجُوب فِي حَقه فَلَمَّا وجدت الْأَهْلِيَّة فِي الْفَصْل الأول ثَبت الْوُجُوب وَمن بَاعَ بِثمن مُؤَجل فالثمن يجب بِنَفس العقد وَالْخطاب بِالْأَدَاءِ مُتَأَخّر إِلَى مُضِيّ الْأَجَل فَهَذَا مثله وَسبب وجوب الصَّوْم شُهُود الشَّهْر فِي حَال قيام الْأَهْلِيَّة وَلِهَذَا أضيف إِلَى الشَّهْر شرعا ويتكرر بِتَكَرُّر الشَّهْر وَلم يجب الْأَدَاء قبل وجود الشَّهْر وَجَاز بعد وَإِن كَانَ الْأَدَاء مُتَأَخِّرًا كَمَا فِي حق الْمَرِيض وَالْمُسَافر فَإِن الْأَمر بِالْأَدَاءِ فِي حَقّهمَا بعد إِدْرَاك عدَّة من أَيَّام أخر وَالْوُجُوب ثَابت فِي الشَّهْر بتقرر سَببه حَتَّى لَو صاما كَانَ ذَلِك فرضا أَلا ترى أَن من كَانَ مُسَافِرًا الصَّوْم وَلَو كَانَ بَالغا فِي رَمَضَان مُسَافِرًا لزمَه الْأَدَاء إِذا صَار مُقيما وحالهما عِنْد الْإِقَامَة بِصفة وَاحِدَة فَعرفنَا أَن الْوُجُوب ثَبت فِي حق أَحدهمَا بتقرر سَببه دون الآخر وَبَيَان مَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} مَعْنَاهُ فِي رَمَضَان غير بَالغ ثمَّ صَار مُقيما بَعْدَمَا بلغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 خَارج رَمَضَان لَا يلْزمه فليصم فِيهِ لِأَن الْوَقْت ظرف للصَّوْم وَإِنَّمَا يفهم من هَذَا فليصم فِيهِ الصَّوْم الْوَاجِب بشهوده وَلِهَذَا ظن بعض الْمُتَأَخِّرين مِمَّن صنف فِي هَذَا الْبَاب أَن سَبَب الْوُجُوب أَيَّام الشَّهْر دون اللَّيَالِي لِأَن صَلَاحِية الْأَدَاء مُخْتَصّ بِالْأَيَّامِ قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا غلط عِنْدِي بل فِي السَّبَبِيَّة للْوُجُوب الْأَيَّام والليالي سَوَاء فَإِن الشَّهْر اسْم لجزء من الزَّمَان يشْتَمل على الْأَيَّام والليالي وَإِنَّمَا جعله الشَّرْع سَببا لإِظْهَار فَضِيلَة هَذَا الْوَقْت وَهَذِه الْفَضِيلَة ثَابِتَة لليالي وَالْأَيَّام جَمِيعًا وَالرِّوَايَة مَحْفُوظَة فِي أَن من كَانَ مفيقا فِي أول لَيْلَة من الشَّهْر ثمَّ جن قبل أَن يصبح وَمضى الشَّهْر وَهُوَ مَجْنُون ثمَّ أَفَاق يلْزمه الْقَضَاء وَلَو لم يَتَقَرَّر السَّبَب فِي حَقه بِمَا شهد من الشَّهْر فِي حَالَة الْإِفَاقَة لم يلْزمه الْقَضَاء (وَكَذَلِكَ الْمَجْنُون إِذا أَفَاق فِي لَيْلَة من الشَّهْر ثمَّ جن قبل أَن يصبح ثمَّ أَفَاق بعد مُضِيّ الشَّهْر يلْزمه الْقَضَاء) وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن نِيَّة أَدَاء الْفَرْض تصح بعد دُخُول اللَّيْلَة الأولى بغروب الشَّمْس قبل أَن يصبح وَمَعْلُوم أَن نِيَّة أَدَاء الْفَرْض قبل تقرر سَبَب الْوُجُوب لَا يَصح أَلا ترى أَنه لَو نوى قبل غرُوب الشَّمْس لم تصح نِيَّته وأيد مَا قُلْنَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صُومُوا لرُؤْيَته فَإِنَّهُ نَظِير قَوْله تَعَالَى {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} وَقد بَينا فِي الصَّلَاة أَن فِي تقرر الْوُجُوب بتقرر السَّبَب لَا يعْتَبر التَّمَكُّن بِالْأَدَاءِ فَإِن من أسلم فِي آخر الْوَقْت بِحَيْثُ لَا يتَمَكَّن من أَدَاء الصَّلَاة فِي الْوَقْت يلْزمه فرض الْوَقْت فَهُنَا وَإِن لم يثبت التَّمَكُّن من الْأَدَاء بِشُهُود اللَّيْل يَتَقَرَّر سَبَب الْوُجُوب وَلَكِن بِشَرْط احْتِمَال الْأَدَاء فِي الْوَقْت وَلِهَذَا لَو أسلم فِي آخر يَوْم من رَمَضَان قبل الزَّوَال أَو بعده لم يلْزمه الصَّوْم وَإِن أدْرك جُزْءا من الشَّهْر لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا معنى احْتِمَال الْأَدَاء فِي الْوَقْت وَقد قَررنَا هَذَا فِيمَا سبق وَسبب وجوب الْحَج الْبَيْت وَلِهَذَا يُضَاف إِلَيْهِ شرعا قَالَ الله تَعَالَى {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وَلِهَذَا لَا يتَكَرَّر بِتَكَرُّر وَقت الْأَدَاء لِأَن مَا هُوَ السَّبَب غير متجدد فَأَما الْوَقْت فَهُوَ شَرط جَوَاز الْأَدَاء وَلَيْسَ بِسَبَب للْوُجُوب وَلَا يُقَال بِدُخُول شَوَّال يدْخل الْوَقْت ويتأخر الْأَدَاء إِلَى يَوْم عَرَفَة فَعرفنَا أَن الْوَقْت سَبَب للْوُجُوب إِذْ لَو لم يكن سَببا لَهُ لم يكن إِضَافَة الْوَقْت إِلَيْهِ مُفِيدا وَيُقَال أشهر الْحَج كَمَا يُقَال وَقت الصَّلَاة فَعرفنَا أَنه سَبَب فِيهِ وَهَذَا لِأَن عندنَا يجوز الْأَدَاء كَمَا دخل شَوَّال وَلَكِن هَذِه عبَادَة تشْتَمل على أَرْكَان بَعْضهَا مُخْتَصّ بِوَقْت وَمَكَان وَبَعضهَا لَا يخْتَص فَمَا كَانَ مُخْتَصًّا بِوَقْت أَو مَكَان لَا يجوز فِي غير ذَلِك الْوَقْت كَمَا لَا يجوز فِي غير ذَلِك الْمَكَان وَمَا لم يكن مُخْتَصًّا بِوَقْت فَهُوَ جَائِز فِي جَمِيع وَقت الْحَج حَتَّى إِن من أحرم فِي رَمَضَان وَطَاف وسعى لم يكن سَعْيه معتدا بِهِ من سعى الْحَج حَتَّى إِذا طَاف للزيارة يَوْم النَّحْر تلْزمهُ إِعَادَة السَّعْي وَلَو كَانَ طَاف وسعى فِي شَوَّال كَانَ سَعْيه معتدا بِهِ حَتَّى لَا يلْزمه إِعَادَته يَوْم النَّحْر لِأَن السَّعْي غير مُؤَقّت فَجَاز أَدَاؤُهُ فِي أشهر الْحَج وَأما الْوُقُوف موقت فَلم يجز أَدَاؤُهُ قبل وقته كَمَا لَا يجوز أَدَاء طواف الزِّيَارَة يَوْم عَرَفَة لِأَنَّهُ موقت بِيَوْم النَّحْر وكما لَا يجوز رمي الْيَوْم الثَّانِي فِي الْيَوْم الأول وَهُوَ نَظِير أَرْكَان الصَّلَاة فَإِن السُّجُود ترَتّب على الرُّكُوع فَلَا يعْتد بِهِ قبل الرُّكُوع وَلَا يدل ذَلِك على أَن الْوَقْت لَيْسَ بِوَقْت الْأَدَاء وَبِهَذَا تبين أَن الْوَقْت لَيْسَ بِسَبَب للْوُجُوب وَلكنه شَرط جَوَاز الْأَدَاء وَوُجُوب الْأَدَاء فِيهِ وَكَذَلِكَ الِاسْتِطَاعَة بِالْمَالِ لَيْسَ بِسَبَب للْوُجُوب فَإِن هَذِه عبَادَة بدنية وَإِنَّمَا كَانَ الْبَيْت سَببا لوُجُوبهَا لِأَنَّهَا عبَادَة هِجْرَة وزيارة تَعْظِيمًا لتِلْك الْبقْعَة فَلَا يصلح المَال سَببا لوُجُوبهَا وَلَا هُوَ شَرط لجَوَاز الْأَدَاء أَيْضا فالأداء من الْفَقِير صَحِيح وَإِن كَانَ لَا يملك شَيْئا وَإِنَّمَا المَال شَرط وجوب الْأَدَاء فَإِن السّفر الَّذِي يوصله إِلَى الْأَدَاء لَا يتهيأ لَهُ بِدُونِ الزَّاد وَالرَّاحِلَة إِلَّا بحرج عَظِيم والحرج مَدْفُوع فَعرفنَا أَن المَال شَرط وجوب الْأَدَاء وَهُوَ نَظِير عدَّة من أَيَّام أخر فِي بَاب الصَّوْم (فِي حق الْمُسَافِر) الاداء بتجدد هَذِه الْأَيَّام وَهنا أَيْضا لَا يتَكَرَّر وجوب الْأَدَاء بتجدد ملك الزَّاد وَالرَّاحِلَة فَعرفنَا أَنه شَرط لوُجُوب الْأَدَاء وَسبب وجوب الطَّهَارَة الصَّلَاة فَإِنَّهَا تُضَاف إِلَيْهَا شرعا فَيُقَال تطهر للصَّلَاة فَأَما الْحَدث فَهُوَ شَرط وجوب الْأَدَاء بِالْأَمر وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا} فَإِنَّهُ شَرط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وجوب الْأَدَاء حَتَّى كَانَ الْأَدَاء جَائِزا قبله وَلَا يتَكَرَّر وجوب {وُجُوهكُم} الْآيَة لَا أَن يكون سَببا للْوُجُوب وَكَيف يكون سَببا (للْوُجُوب) وَهُوَ نَاقض للطَّهَارَة فَمَا كَانَ مزيلا للشَّيْء رَافعا لَهُ لَا يصلح سَببا لوُجُوبه وَلِهَذَا جَازَ الْأَدَاء بِدُونِهِ وَكَانَ الْوضُوء على وضوء نورا على نور وَلَا يجب الْأَدَاء مَعَ تحقق الْحَدث بِدُونِ وجوب الصَّلَاة فَإِن الْجنب إِذا حَاضَت لَا يجب عَلَيْهَا الِاغْتِسَال مَا لم تطهر لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا وجوب الصَّلَاة وَبِهَذَا تبين أَن الطَّهَارَة لَيست بِعبَادة مَقْصُودَة وَلكنهَا شَرط الصَّلَاة وَمَا يكون شرطا للشَّيْء يتَعَلَّق بِهِ صِحَّته ووجوبه بِوُجُوب الأَصْل بِمَنْزِلَة اسْتِقْبَال الْقبْلَة فَإِن وُجُوبه بِوُجُوب الصَّلَاة وَالشُّهُود فِي بَاب النِّكَاح ثُبُوتهَا بِثُبُوت النِّكَاح لكَون الشُّهُود شرطا فِي النِّكَاح وَسبب وجوب الزَّكَاة المَال بِصفة أَن يكون نِصَابا ناميا أَلا ترى أَنه يُضَاف إِلَى المَال وَأَنه يتضاعف بتضاعف النصب فِي وَقت وَاحِد وَلَكِن الْوُجُوب بِوَاسِطَة غنى الْمَالِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا صَدَقَة إِلَّا عَن ظهر غنى والغنى لَا يحصل بِأَصْل المَال مَا لم يبلغ مِقْدَارًا وَذَلِكَ فِي النّصاب شرعا وَالْوُجُوب بِصفة الْيُسْر وَلَا يتم ذَلِك إِلَّا إِذا كَانَ المَال ناميا وَلِهَذَا يُضَاف إِلَى سَبَب النَّمَاء أَيْضا فَيُقَال زَكَاة السَّائِمَة وَزَكَاة التِّجَارَة فَأَما مُضِيّ الْحول فَهُوَ شَرط لوُجُوب الْأَدَاء من حَيْثُ إِن النَّمَاء لَا يحصل إِلَّا بِمُضِيِّ الزَّمَان وَلِهَذَا جَازَ الْأَدَاء بعد كَمَال النّصاب قبل حولان الْحول وَجَوَاز الْأَدَاء لَا يكون قبل تقرر سَبَب الْوُجُوب حَتَّى لَو أدّى قبل كَمَال النّصاب لم يجز فَإِن قيل الزَّكَاة يتَكَرَّر وُجُوبهَا فِي مَال وَاحِد بِاعْتِبَار الْأَحْوَال وبتكرر الشَّرْط لَا يَتَجَدَّد الْوَاجِب قُلْنَا لَيْسَ كَذَلِك بل يتَكَرَّر الْوُجُوب بتجدد النَّمَاء الَّذِي هُوَ وصف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 لِلْمَالِ وباعتباره يكون المَال سَببا للْوُجُوب فَإِن لمضي كل حول تَأْثِيرا فِي حُصُول النَّمَاء الْمَطْلُوب من عين السَّائِمَة بالدر والنسل وَالْمَطْلُوب من ربح عرُوض التِّجَارَة زِيَادَة الْقيمَة وَسبب وجوب صَدَقَة الْفطر على الْمُسلم الْغَنِيّ رَأس يموله بولايته عَلَيْهِ وَلِهَذَا يُضَاف إِلَيْهِ فَيُقَال صَدَقَة الرَّأْس ويتضاعف الْوَاجِب بِتَعَدُّد الرؤوس من الْأَوْلَاد الصغار والمماليك وَإِنَّمَا عرفنَا هَذَا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام أَدّوا عَن كل حر وَعبد وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أَدّوا عَمَّن تمونون وحرف عَن للانتزاع فَأَما أَن يكون المُرَاد طَرِيق الانتزاع بِالْوُجُوب على الرَّأْس ثمَّ أَدَاء الْغَيْر عَنهُ وَهَذَا بَاطِل فَإِنَّهُ لَا يجب على الْكَافِر وَالرَّقِيق وَالْفَقِير وَالصَّغِير فَعرفنَا أَن المُرَاد انتزاع الحكم عَن سَببه وَفِيه تنصيص على أَن الرَّأْس بِالصّفةِ الَّتِي قُلْنَا هُوَ السَّبَب الْمُوجب للْوُجُوب وَأما الْفطر فَهُوَ شَرط وجوب الْأَدَاء وَالْإِضَافَة إِلَيْهِ بطرِيق الْمجَاز على معنى أَن الْوُجُوب عِنْده يكون وَإِنَّمَا جعلنَا الْفطر شرطا وَالرَّأْس سَببا مَعَ وجود الْإِضَافَة إِلَيْهِمَا لِأَن تضَاعف الْوَاجِب بِتَعَدُّد الرؤوس دَلِيل مُحكم على أَنه سَبَب وَالْإِضَافَة دَلِيل مُحْتَمل فقد بَينا أَن الْإِضَافَة قد تكون إِلَى الشَّرْط مجَازًا وَلِأَن التَّنْصِيص على المئونة دَلِيل على أَن سَبَب الْوُجُوب الرَّأْس دون الْفطر فالمئونة إِنَّمَا تجب عَن الرؤوس وَلِهَذَا اشْتَمَل هَذَا الْوَاجِب على معنى المئونة وعَلى معنى الْعِبَادَة لِأَن صفة الْغنى فِيمَن يجب عَلَيْهِ الْأَدَاء يعْتَبر لوُجُوب الْأَدَاء وَذَلِكَ دَلِيل كَونه عبَادَة وَصفَة المئونة فِي الْمُؤَدِّي دَلِيل على أَنه بِمَنْزِلَة النَّفَقَة وَجَوَاز الْأَدَاء قبل الْفطر دَلِيل على أَن الْفطر لَيْسَ بِسَبَب فِي وجوب الْأَدَاء بِشُهُود وَقت الْفطر فِي حق من لَا يُؤَدِّي الصَّوْم أصلا دَلِيل على أَن الْفطر شَرط وجوب الْأَدَاء فَإِن الْكَافِر إِذا أسلم لَيْلَة الْعِيد أَو الصَّبِي بلغ أَو العَبْد عتق يلْزمه الْأَدَاء بِطُلُوع الْفجْر من يَوْم الْفطر وَلِهَذَا لَو أسلم بعد طُلُوع الْفجْر لم يلْزمه وَإِن أدْرك الْيَوْم لِأَن وَقت الْفطر عَن رَمَضَان فِي حق وجوب الصَّدَقَة عِنْد طُلُوع الْفجْر فَإِذا انعدمت الْأَهْلِيَّة عِنْد ذَلِك لم يجب الْأَدَاء وتكرر الْوُجُوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 بِتَكَرُّر الْفطر فِي كل سنة بِمَنْزِلَة تكَرر وجوب الزَّكَاة بِتَكَرُّر الْحول فَإِن الْوَصْف الَّذِي لأَجله كَانَ الرَّأْس مُوجبا وَهُوَ المئونة يَتَجَدَّد بِمُضِيِّ الزَّمَان كَمَا أَن النَّمَاء الَّذِي لأَجله كَانَ المَال سَببا للْوُجُوب يَتَجَدَّد بتجدد الْحول وَسبب وجوب الْعشْر الأَرْض النامية بِاعْتِبَار حَقِيقَة النَّمَاء وَسبب وجوب الْخراج الأَرْض النامية بِاعْتِبَار التَّمَكُّن من طلب النَّمَاء بالزراعة وَلِهَذَا لَو اصطلم الزَّرْع آفَة لم يجب الْعشْر وَلَا الْخراج وَلِهَذَا لم يجْتَمع الْعشْر وَالْخَرَاج بِسَبَب أَرض وَاحِدَة بِحَال لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مئونة الأَرْض النامية إِلَّا أَن الْعشْر الْوَاجِب جُزْء من النَّمَاء فَلَا بُد من حُصُول النَّمَاء ليثبت حكم الْوُجُوب فِي مَحَله بِسَبَبِهِ وَلِهَذَا كَانَ فِي الْعشْر معنى المئونة وَمعنى الْعِبَادَة فباعتبار أصل الأَرْض هُوَ مئونة لِأَن تملك الأَرْض سَبَب لوُجُوب مئونة شرعا وَبِاعْتِبَار كَون الْوَاجِب جُزْءا من النَّمَاء فِيهِ معنى الْعِبَادَة بِمَنْزِلَة الزَّكَاة وَفِي الْخراج معنى المئونة بِاعْتِبَار أصل الأَرْض وَمعنى المذلة بِاعْتِبَار التَّمَكُّن من طلب النَّمَاء بالزراعة فالاشتغال بالزراعة مَعَ الْإِعْرَاض عَن الْجِهَاد سَبَب للمذلة على مَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام رأى شَيْئا من آلَات الزِّرَاعَة فِي دَار فَقَالَ مَا دخل (هَذَا) بَيت قوم إِلَّا ذلوا وَلِهَذَا يتَكَرَّر وجوب الْعشْر بتجدد الْخَارِج لتجدد الْوَصْف وَهُوَ النَّمَاء وَلَا يتَكَرَّر وجوب الْخراج فِي حول وَاحِد بِحَال وَلِهَذَا جَازَ تَعْجِيل الْخراج قبل الزِّرَاعَة وَلم يجز تَعْجِيل الْعشْر لِأَن الأَرْض بِاعْتِبَار حَقِيقَة النَّمَاء توجب الْعشْر وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق قبل الزِّرَاعَة وَلِهَذَا أوجب أَبُو حنيفَة رَحمَه الله الْعشْر فِي قَلِيل الْخَارِج وَكَثِيره وَفِي كل مَا يستنبت فِي الأَرْض مِمَّا لَهُ ثَمَرَة بَاقِيَة وَمَا لَيست لَهُ ثَمَرَة بَاقِيَة سَوَاء لِأَن الْوُجُوب بِاعْتِبَار صفة النَّمَاء وَلَا مُعْتَبر بِصفة الْغنى فِيمَن يجب عَلَيْهِ بِاعْتِبَار النّصاب لأَجله وَسبب وجوب الْجِزْيَة الرَّأْس بِاعْتِبَار صفة مَعْلُومَة وَهُوَ أَن يكون كَافِرًا حرا لَهُ بنية صَالِحَة لِلْقِتَالِ وَلِهَذَا يُضَاف إِلَيْهِ فَيُقَال جِزْيَة الرَّأْس ويتكرر الْوُجُوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 بِتَكَرُّر الْحول بِمَنْزِلَة تكَرر وجوب الزَّكَاة فَإِن الْمَعْنى الَّذِي كَانَ الرَّأْس سَببا مُوجبا بِاعْتِبَار نصْرَة الْقِتَال وَهَذَا لِأَن أهل الذِّمَّة يصيرون منا دَارا والقتال بنصرة الدَّار وَاجِب على أَهلهَا وَلَا تصلح أبدانهم لهَذِهِ النُّصْرَة لميلهم إِلَى أهل الدَّار المعادية لدارنا اعتقادا فَأوجب عَلَيْهِم فِي أَمْوَالهم جِزْيَة عُقُوبَة لَهُم على كفرهم وخلفا عَن النُّصْرَة الَّتِي قَامَت بإصرارهم على الْكفْر فِي حَقنا وَلِهَذَا تصرف إِلَى الْمُجَاهدين الَّذين يقومُونَ بنصرة الدَّار وَهَذِه النُّصْرَة يَتَجَدَّد وُجُوبهَا بتجدد الْحَاجة فِي كل وَقت فَكَذَلِك مَا كَانَ خلفا عَنْهَا بتجدد وُجُوبهَا إِلَّا أَنه لَا نِهَايَة للْحَاجة إِلَى المَال فَيعْتَبر الْوَقْت لتجدد الْوُجُوب كَمَا يعْتَبر فِي الزَّكَاة وَسبب وجوب الْعُقُوبَات مَا يُضَاف إِلَيْهِ نَحْو الزِّنَا للرجم وَالْجَلد وَالسَّرِقَة للْقطع وَشرب الْخمر وَالْقَذْف للحد وَالْقَتْل الْعمد للْقصَاص وَسبب وجوب الْكَفَّارَات الَّتِي هِيَ دَائِرَة بَين الْعقُوبَة وَالْعِبَادَة مَا يُضَاف إِلَيْهِ من سَبَب مُتَرَدّد بَين الْحَظْر وَالْإِبَاحَة نَحْو الْيَمين المعقودة على أَمر فِي الْمُسْتَقْبل إِذا حنث فِيهَا وَالظِّهَار عِنْد الْعود وَالْفطر فِي رَمَضَان بِصفة الْجِنَايَة وَالْقَتْل بِصفة الْخَطَأ فَأَما سَبَب الْمَشْرُوع من الْمُعَامَلَات فَهُوَ تعلق الْبَقَاء الْمَقْدُور بتعاطيها وَبَيَان ذَلِك أَن الله تَعَالَى حكم بِبَقَاء الْعَالم إِلَى قيام السَّاعَة وَهَذَا الْبَقَاء إِنَّمَا يكون بِبَقَاء الْجِنْس وَبَقَاء النَّفس فبقاء الْجِنْس بالتناسل والتناسل بإتيان الذُّكُور الْإِنَاث فِي مَوضِع الْحَرْث وَالْإِنْسَان هُوَ الْمَقْصُود بذلك فشرع لذَلِك التناسل طَرِيقا لَا فَسَاد فِيهِ وَلَا ضيَاع وَهُوَ طَرِيق الازدواج بِلَا شركَة فَفِي التغالب فَسَاد الْعَالم وَفِي الشّركَة ضيَاع الْوَلَد لِأَن الْأَب إِذا اشْتبهَ يتَعَذَّر إِيجَاب مئونة الْوَلَد عَلَيْهِ وبالأمهات عجز عَن اكْتِسَاب ذَلِك بِأَصْل الجبلة فيضيع الْوَلَد وَبَقَاء النَّفس إِلَى أَجله إِنَّمَا يقوم بِمَا تقوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 بِهِ الْمصَالح للمعيشة وَذَلِكَ بِالْمَالِ وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ كل وَاحِد لكفايته لَا يكون حَاصِلا فِي يَده وَإِنَّمَا يتَمَكَّن من تَحْصِيله بِالْمَالِ فشرع سَبَب اكْتِسَاب المَال وَسبب اكْتِسَاب مَا فِيهِ كِفَايَة لكل وَاحِد وَهُوَ التِّجَارَة عَن ترَاض لما فِي التغالب من الْفساد وَالله لَا يحب الْفساد وَلِأَن الله تَعَالَى جعل الدُّنْيَا دَار محنة وابتلاء كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّا خلقنَا الْإِنْسَان من نُطْفَة أمشاج نبتليه} وَالْإِنْسَان الَّذِي هُوَ مَقْصُود غير مَخْلُوق فِي الدُّنْيَا لنيل اللَّذَّات وَقَضَاء الشَّهَوَات بل لِلْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ عمل بِخِلَاف هوى النَّفس قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} فَعرفنَا أَن مَا جعل لنا فِي الدُّنْيَا من اقْتِضَاء الشَّهَوَات بِالْأَكْلِ وَغير ذَلِك لَيْسَ لعين اقْتِضَاء الشَّهْوَة بل لحكم آخر وَهُوَ تعلق الْبَقَاء الْمَقْدُور بتعاطيها إِلَّا أَن فِي النَّاس مُطيعًا وعاصيا فالمطيع يرغب فِيهِ لَا لقَضَاء الشَّهْوَة بل لاتباع الْأَمر والعاصي يرغب فِيهِ لقَضَاء شَهْوَة النَّفس فَيتَحَقَّق الْبَقَاء الْمَقْدُور بِفعل الْفَرِيقَيْنِ وللمطيع الثَّوَاب بِاعْتِبَار قَصده إِلَى الْإِقْدَام عَلَيْهِ والعاصي مستوجب للعقاب بِاعْتِبَار قَصده فِي اتِّبَاع هوى النَّفس الأمارة بالسوء تبَارك الله الْحَكِيم الْخَبِير الْقَدِير هُوَ مَوْلَانَا فَنعم الْمولى وَنعم النصير فصل فِي بَيَان المشروعات من الْعِبَادَات وأحكامها قَالَ رَحمَه الله هَذِه المشروعات تَنْقَسِم على أَرْبَعَة أَقسَام فرض وواجب وَسنة وَنفل فالفرض اسْم لمقدر شرعا لَا يحْتَمل الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان وَهُوَ مَقْطُوع بِهِ لكَونه ثَابتا بِدَلِيل مُوجب للْعلم قطعا من الْكتاب أَو السّنة المتواترة أَو الْإِجْمَاع وَفِي الِاسْم مَا يدل على ذَلِك كُله فَإِن الْفَرْض لُغَة التَّقْدِير قَالَ الله تَعَالَى {فَنصف مَا فرضتم} أَي قدرتم بِالتَّسْمِيَةِ وَقَالَ تَعَالَى {سُورَة أنزلناها وفرضناها} أَي قَطعنَا الْأَحْكَام قطعا وَفِي هَذَا الِاسْم مَا ينبىء عَن شدَّة الرِّعَايَة فِي الْحِفْظ لِأَنَّهُ مَقْطُوع بِهِ وَمَا ينبىء عَن التَّخْفِيف لِأَنَّهُ مُقَدّر متناه كَيْلا يصعب علينا أَدَاؤُهُ وَيُسمى مَكْتُوبَة أَيْضا لِأَنَّهَا كتبت علينا فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ وَبَيَان هَذَا الْقسم فِي الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج فَإِن التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ بعد الْمعرفَة فرض مَقْطُوع بِهِ إِلَّا أَن التَّصْدِيق مستدام فِي جَمِيع الْعُمر لَا يجوز تبديله بِغَيْرِهِ بِحَال وَالْإِقْرَار لَا يكون وَاجِبا فِي جَمِيع الْأَحْوَال وَإِن كَانَ لَا يجوز تبديله بِغَيْرِهِ من غير عذر بِحَال والعبادات الَّتِي هِيَ أَرْكَان الدّين مقدرَة متناهية مَقْطُوع بهَا وَحكم هَذَا الْقسم شرعا أَنه مُوجب للْعلم اعتقادا بِاعْتِبَار أَنه ثَابت بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ وَلِهَذَا يكفر جاحده وَمُوجب للْعَمَل بِالْبدنِ للُزُوم الْأَدَاء بدليله فَيكون الْمُؤَدِّي مُطيعًا لرَبه والتارك للْأَدَاء عَاصِيا لِأَنَّهُ بترك الْأَدَاء مبدل للْعَمَل لَا للاعتقاد وضد الطَّاعَة الْعِصْيَان وَلِهَذَا لَا يكفر بالامتناع عَن الْأَدَاء فِيمَا هُوَ من أَرْكَان الدّين لَا من أصل الدّين إِلَّا أَن يكون تَارِكًا على وَجه الاستخفاف فَإِن استخفاف أَمر الشَّارِع كفر فَأَما بِدُونِ الاستخفاف فَهُوَ عَاص بِالتّرْكِ من غير عذر فَاسق لِخُرُوجِهِ من طَاعَة ربه فالفسق هُوَ الْخُرُوج يُقَال فسقت الرّطبَة إِذا خرجت من قشرها وَسميت الْفَأْرَة فويسقة لخروجها من جحرها وَلِهَذَا كَانَ الْفَاسِق مُؤمنا لِأَنَّهُ غير خَارج من أصل الدّين وأركانه اعتقادا وَلكنه خَارج من الطَّاعَة عملا وَالْكَافِر رَأس الْفُسَّاق فِي الْحَقِيقَة إِلَّا أَنه اخْتصَّ باسم هُوَ أعظم فِي الذَّم فاسم الْفَاسِق عِنْد الْإِطْلَاق يتنازل الْمُؤمن العَاصِي بِاعْتِبَار أَعماله فَأَما الْوَاجِب فَهُوَ مَا يكون لَازم الْأَدَاء شرعا ولازم التّرْك فِيمَا يرجع إِلَى الْحل وَالْحُرْمَة وَالِاسْم مَأْخُوذ من الْوُجُوب وَهُوَ السُّقُوط قَالَ الله تَعَالَى {فَإِذا وَجَبت جنوبها} أَي سَقَطت على الأَرْض فَمَا يكون سَاقِطا على الْمَرْء عملا بلزومه إِيَّاه من غير أَن يكون دَلِيله مُوجبا للْعلم قطعا يُسمى وَاجِبا أَو هُوَ سَاقِط فِي حق الِاعْتِقَاد قطعا وَإِن كَانَ ثَابتا فِي حق لُزُوم الْأَدَاء عملا وَالْفَرْض وَالْوَاجِب كل وَاحِد مِنْهُمَا لَازم إِلَّا أَن تَأْثِير الْفَرْضِيَّة أَكثر وَمِنْه سمي الحز فِي الْخَشَبَة فرضا لبَقَاء أَثَره على كل حَال وَيُسمى السُّقُوط على الأَرْض وجوبا لِأَنَّهُ قد لَا يبْقى أَثَره فِي الْبَاقِي فَمَا كَانَ ثَابتا بِدَلِيل مُوجب للْعَمَل وَالْعلم قطعا يُسمى فرضا لبَقَاء أَثَره وَهُوَ الْعلم بِهِ أدّى أَو لم يؤد وَمَا كَانَ ثَابتا بِدَلِيل مُوجب للْعَمَل غير مُوجب للْعلم يَقِينا بِاعْتِبَار شُبْهَة فِي طَرِيقه يُسمى وَاجِبا وَقيل الِاسْم مُشْتَقّ من الوجبة وَهِي الِاضْطِرَاب قَالَ الْقَائِل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وللفؤاد وجيب تَحت أبهره لدم الْغُلَام وَرَاء الْغَيْب بِالْحجرِ أَي اضْطِرَاب فلنوع شُبْهَة فِي دَلِيله يتَمَكَّن فِيهِ اضْطِرَاب فَسُمي وَاجِبا وَهَذَا نَحْو تعْيين قِرَاءَة الْفَاتِحَة فِي الصَّلَاة وتعديل الْأَركان وَالطَّهَارَة فِي الطّواف وَالسَّعْي فِي الْحَج وأصل الْعمرَة وَالْوتر وَالشَّافِعِيّ يُنكر هَذَا الْقسم ويلحقه بِالْفَرْضِ فَإِن كَانَ إِنْكَاره ذَلِك للاسم فقد بَينا معنى الِاسْم وَإِن كَانَ للْحكم فَهُوَ إِنْكَار فَاسد لِأَن ثُبُوت الحكم بِحَسب الدَّلِيل وَلَا خلاف بَيْننَا وَبَينه أَن هَذَا التَّفَاوُت يتَحَقَّق فِي الدَّلِيل فَإِن خبر الْوَاحِد لَا يُوجب علم الْيَقِين لاحْتِمَال الْغَلَط من الرَّاوِي وَهُوَ دَلِيل مُوجب للْعَمَل بِحسن الظَّن بالراوي وترجح جَانب الصدْق بِظُهُور عَدَالَته فَيثبت حكم هَذَا الْقسم بِحَسب دَلِيله وَهُوَ أَنه لَا يكفر جاحده لِأَن دَلِيله لَا يُوجب علم الْيَقِين وَيجب الْعَمَل بِهِ لِأَن دَلِيله مُوجب للْعَمَل ويضلل جاحده إِذا لم يكن متأولا بل كَانَ رادا لخَبر الْوَاحِد فَإِن كَانَ متأولا فِي ذَلِك مَعَ القَوْل بِوُجُوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد فَحِينَئِذٍ لَا يضلل ولوجوب الْعَمَل بِهِ يكون الْمُؤَدِّي مُطيعًا والتارك من غير تَأْوِيل عَاصِيا معاقبا وَهَذَا لِأَن الدّلَالَة قَامَت لنا على أَن الزِّيَادَة على النَّص نسخ فَلَا يثبت إِلَّا بِمَا يثبت النّسخ بِهِ والنسخ لَا يثبت بِخَبَر الْوَاحِد فَكَذَلِك لَا نثبت الزِّيَادَة فَلَا يكون مُوجبا للْعلم بِهَذَا الْمَعْنى وَلَكِن يجب الْعَمَل بِهِ لِأَن فِي الْعَمَل تَقْرِير الثَّابِت بِالنَّصِّ لَا نسخ لَهُ إِلَّا أَن هَذَا يشكل على بعض النَّاس قبل التَّأَمُّل على مَا حُكيَ عَن يُوسُف بن خَالِد السَّمْتِي رَحمَه الله قدمت على أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ فَسَأَلته عَن الصَّلَاة الْمَفْرُوضَة كم هِيَ فَقَالَ خمس فَسَأَلته عَن الْوتر فَقَالَ وَاجِب فَقلت لقلَّة تأملي كفرت فَتَبَسَّمَ فِي وَجْهي ثمَّ تَأَمَّلت فَعرفت أَن بَين الْوَاجِب وَالْفَرِيضَة فرق كَمَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض فيرحم الله أَبَا حنيفَة ويجازيه خيرا على مَا هَدَانِي إِلَيْهِ وَبَيَان هَذَا أَن فَرضِيَّة الْقِرَاءَة فِي الصَّلَوَات ثَابِتَة بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فاقرؤوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} وَتَعْيِين الْفَاتِحَة ثَابت بِخَبَر الْوَاحِد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فَمن جعل ذَلِك فرضا كَانَ زَائِدا على النَّص وَمن قَالَ يجب الْعَمَل بِهِ من غير أَن يكون فرضا كَانَ مقررا للثابت بِالنَّصِّ على حَاله وعاملا بِالدَّلِيلِ الآخر بِحَسب مُوجبه وَفِي القَوْل بفرضية مَا ثَبت بِخَبَر الْوَاحِد رفع للدليل الَّذِي فِيهِ شُبْهَة عَن دَرَجَته أَو حط للدليل الَّذِي لَا شُبْهَة فِيهِ عَن دَرَجَته وكل وَاحِد مِنْهُمَا تَقْصِير لَا يجوز الْمصير إِلَيْهِ بعد الْوُقُوف عَلَيْهِ بِالتَّأَمُّلِ وَكَذَلِكَ أصل الرُّكُوع وَالسُّجُود ثَابت بِالنَّصِّ وتعديل الْأَركان ثَابت بِخَبَر الْوَاحِد فَلَو أفسدنا الصَّلَاة بترك التَّعْدِيل كَمَا نفسدها بترك الْفَرِيضَة كُنَّا رفعنَا خبر الْوَاحِد عَمَّا هُوَ دَرَجَته فِي الْحجَّة وَلَو لم ندخل نُقْصَانا فِي الصَّلَاة بترك التَّعْدِيل كُنَّا حططناه عَن دَرَجَته من حَيْثُ إِنَّه مُوجب للْعَمَل وَكَذَلِكَ الْوتر فَإِنَّهُ ثَابت بِخَبَر الْوَاحِد فَلَو لم نثبت صفة الْوُجُوب فِيهِ عملا كَانَ فِيهِ إِخْرَاج خبر الْوَاحِد من أَن يكون مُوجبا للْعَمَل وَلَو جَعَلْنَاهُ فرضا كُنَّا قد ألحقنا خبر الْوَاحِد بِالنَّصِّ الَّذِي هُوَ مَقْطُوع بِهِ وَكَذَلِكَ شَرط الطَّهَارَة فِي الطّواف فَإِن فَرضِيَّة الطّواف بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ وَاشْتِرَاط الطَّهَارَة فِيهِ بِخَبَر الْوَاحِد حَيْثُ شبهه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالصَّلَاةِ فَالْقَوْل بِفساد أصل الطّواف عِنْد ترك الطَّهَارَة يكون إِلْحَاقًا لدليله بِالنَّصِّ الْمَقْطُوع بِهِ وَالْقَوْل بِأَنَّهُ يتَمَكَّن نُقْصَان فِي الطّواف حَتَّى يُعِيد مَا دَامَ بِمَكَّة وَإِذا رَجَعَ إِلَى أَهله يجْبر النُّقْصَان بِالدَّمِ يكون عملا بدليله كَمَا هُوَ مُوجبه وَكَذَلِكَ ترك الطّواف بِالْحَطِيمِ فَإِن كَون الْحطيم من الْبَيْت ثَبت بِخَبَر الْوَاحِد وَكَذَلِكَ السَّعْي فَإِن ثُبُوته بِخَبَر الْوَاحِد لِأَن الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْكتاب {فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن يطوف بهما} وَهَذَا لَا يُوجب الْفَرْضِيَّة وَكَذَلِكَ الْعمرَة ثُبُوتهَا بِخَبَر الْوَاحِد فَأَما الثَّابِت بِالنَّصِّ {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} وَهَذَا لَا يُوجب نَوْعَيْنِ من الزِّيَارَة قطعا وَالْأُضْحِيَّة وَصدقَة الْفطر على هَذَا أَيْضا تخرج وَأما السّنة فَهِيَ الطَّرِيقَة المسلوكة فِي الدّين مَأْخُوذَة من سنَن الطَّرِيق وَمن قَول الْقَائِل سنّ المَاء إِذا صبه حَتَّى جرى فِي طَرِيقه وَهُوَ اشتقاق مَعْرُوف وَالْمرَاد بِهِ شرعا مَا سنه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالصَّحَابَة بعده عندنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وَقَالَ الشَّافِعِي مُطلق السّنة يتَنَاوَل سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَط وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يرى تَقْلِيد الصَّحَابِيّ وَيَقُول الْقيَاس مقدم على قَول الصَّحَابِيّ فَإِنَّمَا يتبع حجَّته لَا فعله وَقَوله بِمَنْزِلَة من بعد الصَّحَابَة فَإِنَّهُ يتبع حجتهم لَا مُجَرّد فعلهم وَقَوْلهمْ إِذا لم يبلغُوا حد الْإِجْمَاع وَلِهَذَا قَالَ فِي قَول سعيد بن الْمسيب رَضِي الله عَنهُ إِن الْمَرْأَة تعاقل الرجل إِلَى ثلث الدِّيَة السّنة تَنْصَرِف إِلَى سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَذَلِكَ قَوْله فِي اسْتِحْقَاق الْفرْقَة بِسَبَب الْعَجز عَن النَّفَقَة السّنة أَنَّهَا تَنْصَرِف إِلَى طَريقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَكَذَلِكَ قَوْله فِي أَن الْحر لَا يقتل بِالْعَبدِ السّنة تَنْصَرِف إِلَى سنة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام) فَأَما عندنَا إِطْلَاق هَذَا اللَّفْظ لَا يُوجب الِاخْتِصَاص بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَمن سنّ سنة سَيِّئَة فَعَلَيهِ وزرها ووزر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَالسَّلَف كَانُوا يطلقون اسْم السّنة على طَريقَة أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَكَانُوا يَأْخُذُونَ الْبيعَة على سنة العمرين وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدِي عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول حكم السّنة هُوَ الِاتِّبَاع فقد ثَبت بِالدَّلِيلِ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُتبع فِيمَا سلك من طَرِيق الدّين قولا وفعلا وَكَذَلِكَ الصَّحَابَة بعده وَهَذَا الِاتِّبَاع الثَّابِت بِمُطلق السّنة خَال عَن صفة الْفَرْضِيَّة وَالْوُجُوب إِلَّا أَن يكون من أَعْلَام الدّين فَإِن ذَلِك بِمَنْزِلَة الْوَاجِب فِي حكم الْعَمَل على مَا قَالَ مَكْحُول رَحمَه الله السّنة سنتَانِ سنة أَخذهَا هدى وَتركهَا ضَلَالَة وَسنة أَخذهَا حسن وَتركهَا لَا بَأْس بِهِ فَالْأول نَحْو صَلَاة الْعِيد وَالْأَذَان وَالْإِقَامَة وَالصَّلَاة بِالْجَمَاعَة وَلِهَذَا لَو تَركهَا قوم استوجبوا اللوم والعتاب وَلَو تَركهَا أهل بَلْدَة وأصروا على ذَلِك قوتلوا عَلَيْهَا ليأتوا بهَا وَالثَّانِي نَحْو مَا نقل من طَريقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قِيَامه وقعوده ولباسه وركوبه وسننه فِي الْعِبَادَات متبوعة أَيْضا فَمِنْهَا مَا يكره تَركهَا وَمِنْهَا مَا يكون التارك مسيئا وَمِنْهَا مَا يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 المتبع لَهَا محسنا وَلَا يكون التارك مسيئا وعَلى هَذَا تخرج الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة فِي بَاب الْأَذَان من قَوْله يكره وَقد أَسَاءَ وَلَا بَأْس بِهِ وَحَيْثُ قيل يُعِيد فَهُوَ دَلِيل الْوُجُوب وعَلى هَذَا الْخلاف قَول الصَّحَابِيّ أمرنَا بِكَذَا ونهينا عَن كَذَا عندنَا لَا يَقْتَضِي مطلقه أَن يكون الْآمِر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعند الشَّافِعِي مطلقه يَقْتَضِي ذَلِك وَقد كَانُوا يطلقون لفظ الْأَمر على مَا أَمر بِهِ أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا كَمَا كَانُوا يطلقون لفظ السّنة على سنة العمرين وَتَمام بَيَان هَذَا يَتَأَتَّى فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأما النَّافِلَة فَهِيَ الزِّيَادَة وَمِنْه تسمى الْغَنِيمَة نفلا لِأَنَّهُ زِيَادَة على مَا هُوَ الْمَقْصُود بِالْجِهَادِ شرعا وَمِنْه سمي ولد الْوَلَد نَافِلَة لِأَنَّهُ زِيَادَة على مَا حصل للمرء بِكَسْبِهِ فالنوافل من الْعِبَادَات زَوَائِد مَشْرُوعَة لنا لَا علينا والتطوعات كَذَلِك فَإِن التَّطَوُّع اسْم لما يتَبَرَّع بِهِ الْمَرْء من عِنْده وَيكون محسنا فِي ذَلِك وَلَا يكون ملوما على تَركه فَهُوَ وَالنَّفْل سَوَاء وَحكمه شرعا أَنه يُثَاب على فعله وَلَا يُعَاقب على تَركه وَلِهَذَا قُلْنَا إِن الشفع الثَّانِي من ذَوَات الْأَرْبَع فِي حق الْمُسَافِر نفل لِأَنَّهُ يُثَاب على فعله وَلَا يُعَاقب على تَركه وَلِهَذَا جَوَّزنَا صَلَاة النَّفْل قَاعِدا مَعَ الْقُدْرَة على الْقيام وراكبا مَعَ الْقُدْرَة على النُّزُول بِالْإِيمَاءِ فِي حق الرَّاكِب وَإِن لم يكن مُتَوَجها إِلَى الْقبْلَة لِأَنَّهُ مَشْرُوع زِيَادَة لنا وَهُوَ مستدام غير مُقَيّد بِوَقْت وَفِي مُرَاعَاة تَمام الْأَركان والشرائط فِي جَمِيع الْأَوْقَات حرج ظَاهر فلدفع الْحَرج جَوَّزنَا الْأَدَاء على أَي وصف يشرع فِيهِ لتحقيق كَونه زِيَادَة لنا وَقَالَ الشَّافِعِي آخِره من جنس أَوله نفل فَكَمَا أَنه مُخَيّر فِي الِابْتِدَاء بَين أَن يشرع وَبَين أَن لَا يشرع لكَونه نفلا فَكَذَلِك يكون مُخَيّرا فِي الِانْتِهَاء وَإِذا ترك الْإِتْمَام فَإِنَّمَا ترك أَدَاء النَّفْل وَذَلِكَ لَا يلْزمه شَيْئا كَمَا فِي المظنون وَقُلْنَا نَحن الْمُؤَدِّي مَوْصُوف بِأَنَّهُ لله تَعَالَى وَقد صَار مُسلما بِالْأَدَاءِ وَلِهَذَا لَو مَاتَ كَانَ مثابا على ذَلِك فَيجب التَّحَرُّز عَن إِبْطَاله مُرَاعَاة لحق صَاحب الْحق وَهَذَا التَّحَرُّز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 لَا يتَحَقَّق إِلَّا بالإتمام فِيمَا لَا يحْتَمل الْوَصْف بالتجزي عبَادَة فَيجب الْإِتْمَام لهَذَا وَإِن كَانَ فِي نَفسه نفلا وَيجب الْقَضَاء إِذا أفْسدهُ لوُجُود التَّعَدِّي فِيمَا هُوَ حق الْغَيْر بِمَنْزِلَة الْمَنْذُور فالمنذور فِي الأَصْل مَشْرُوع نفلا وَلِهَذَا يكون مستداما كالنوافل إِلَّا أَن لمراعاة التَّسْمِيَة بِالنذرِ يلْزمه أَدَاء الْمَشْرُوع نفلا فَإِذا وَجب الِابْتِدَاء لمراعاة التَّسْمِيَة فَلِأَن يجب الْإِتْمَام لمراعاة مَا وجد مِنْهُ الِابْتِدَاء ابْتِدَاء كَانَ أولى وَهُوَ نَظِير الْحَج فَإِن الْمَشْرُوع مِنْهُ نفلا يصير وَاجِب الْأَدَاء لمراعاة التَّسْمِيَة حَقًا للشَّرْع فَكَذَلِك الْإِتْمَام بعد الشُّرُوع فِي الْأَدَاء يجب حَقًا للشَّرْع وَهَذَا هُوَ الطَّرِيق فِي بَيَان الْأَنْوَاع الْأَرْبَعَة وَمِمَّا هُوَ ثَابت بِخَبَر الْوَاحِد أَيْضا تَأْخِير الْمغرب للْحَاج إِلَى أَن يجمع بَينه وَبَين الْعشَاء فِي وَقت الْعشَاء بِالْمُزْدَلِفَةِ فَإِنَّهُ ثَابت بقوله عَلَيْهِ السَّلَام لأسامة بن زيد رَضِي الله عَنْهُمَا الصَّلَاة أمامك وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله لَو صلى الْمغرب فِي الطَّرِيق فِي وَقت الْمغرب يلْزمه الْإِعَادَة بِالْمُزْدَلِفَةِ مَا لم يطلع الْفجْر فَإِذا طلع الْفجْر يسْقط عَنهُ الْإِعَادَة لِأَن الْوُجُوب بِدَلِيل مُوجب للْعَمَل وَذَلِكَ الدَّلِيل يُوجب الْجمع بَينهمَا فِي وَقت الْعشَاء وَقد تحقق فَوَات هَذَا الْعَمَل بِطُلُوع الْفجْر فَلَو ألزمناه الْقَضَاء مُطلقًا كُنَّا قد أفسدنا مَا أَدَّاهُ أصلا وَذَلِكَ حكم ترك الْفَرِيضَة فَكَذَلِك التَّرْتِيب بَين الْفَوَائِت وَفرض الْوَقْت ثَابت بِخَبَر الْوَاحِد فَيكون مُوجبا للْعَمَل مَا لم يتضيق الْوَقْت لِأَن عِنْد التضيق تتَحَقَّق الْمُعَارضَة بتعين هَذَا الْوَقْت لأَدَاء فرض الْوَقْت وَكَذَلِكَ عِنْد كَثْرَة الْفَوَائِت لِأَن الثَّابِت بِخَبَر الْوَاحِد التَّرْتِيب عملا وَبعد التّكْرَار فِي الْفَوَائِت يتَحَقَّق فَوَات ذَلِك وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله إِذا ترك صَلَاة ثمَّ صلى شهرا وَهُوَ ذَاكر لَهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا قَضَاء الْفَائِتَة لِأَن فَسَاد الْخمس بعْدهَا لم يكن بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ ليجب قَضَاؤُهَا مُطلقًا وَإِنَّمَا كَانَ لوُجُوب التَّرْتِيب بِخَبَر الْوَاحِد وَقد سقط وجوب التَّرْتِيب عملا عِنْد كَثْرَة الصَّلَوَات فَلَا يلْزمه إِلَّا قَضَاء المتروكة وَالله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 فصل فِي بَيَان الْعَزِيمَة والرخصة قَالَ رَحمَه الله الْعَزِيمَة فِي أَحْكَام الشَّرْع مَا هُوَ مَشْرُوع مِنْهَا ابْتِدَاء من غير أَن يكون مُتَّصِلا بِعَارِض سميت عَزِيمَة لِأَنَّهَا من حَيْثُ كَونهَا أصلا مَشْرُوعا فِي نِهَايَة من الوكادة وَالْقُوَّة حَقًا لله تَعَالَى علينا بِحكم أَنه إلهنا وَنحن عبيده وَله الْأَمر يفعل مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُرِيد وعلينا الْإِسْلَام والانقياد والرخصة مَا كَانَ بِنَاء على عذر يكون للعباد وَهُوَ مَا استبيح للْعُذْر مَعَ بَقَاء الدَّلِيل الْمحرم وللتفاوت فِيمَا هُوَ أعذار الْعباد يتَفَاوَت حكم مَا هُوَ رخصَة والاسمان من حَيْثُ اللُّغَة يدلان على مَا ذكرنَا لِأَن الْعَزْم فِي اللُّغَة هُوَ الْقَصْد الْمُؤَكّد قَالَ الله تَعَالَى {فنسي وَلم نجد لَهُ عزما} أَي قصدا متأكدا فِي الْعِصْيَان وَقَالَ تَعَالَى {فاصبر كَمَا صَبر أولُوا الْعَزْم من الرُّسُل} وَمِنْه جعل الْعَزْم يَمِينا حَتَّى إِذا قَالَ الْقَائِل أعزم كَانَ حَالفا لِأَن الْعباد إِنَّمَا يؤكدون قصدهم بِالْيَمِينِ والرخصة فِي اللُّغَة عبارَة عَن الْيُسْر والسهولة يُقَال رخص السّعر إِذا تيسرت الْإِصَابَة لِكَثْرَة وجود الأشكال وَقلة الرغائب فِيهَا وَفِي عرف اللِّسَان تسْتَعْمل الرُّخْصَة فِي الْإِبَاحَة على طَرِيق التَّيْسِير يَقُول الرجل لغيره رخصت لَك فِي كَذَا أَي أبحته لَك تيسيرا عَلَيْك وَقد بَينا مَا هُوَ الْعَزِيمَة فِي الْفَصْل الْمُتَقَدّم فَإِن النَّوَافِل لكَونهَا مَشْرُوعَة ابْتِدَاء عَزِيمَة وَلِهَذَا لَا تحْتَمل التَّغْيِير بِعُذْر يكون للعباد حَتَّى لَا تصير مَشْرُوعَة وَزعم بعض أَصْحَابنَا أَنَّهَا لَيست بعزيمة لِأَنَّهَا شرعت جبرا للنقصان فِي أَدَاء مَا هُوَ عَزِيمَة من الْفَرَائِض أَو قطعا لطمع الشَّيْطَان فِي منع الْعباد من أَدَاء الْفَرَائِض من حَيْثُ إِنَّهُم لما رَغِبُوا فِي أَدَاء النَّوَافِل مَعَ أَنَّهَا لَيست عَلَيْهِم فَذَلِك دَلِيل رغبتهم فِي أَدَاء الْفَرَائِض بطرِيق الأولى وَالْأول أوجه فَهَذَا الَّذِي قَالُوا مَقْصُود الْأَدَاء فَأَما النَّوَافِل فمشروع ابْتِدَاء مستدام لَا يحْتَمل التَّغَيُّر بِعَارِض يكون من الْعباد وَأما الرُّخْصَة قِسْمَانِ أَحدهمَا حَقِيقَة وَالْآخر مجَاز فالحقيقة نَوْعَانِ أَحدهمَا أَحَق من الآخر وَالْمجَاز نَوْعَانِ أَيْضا أَحدهمَا أتم من الآخر فِي كَونه مجَازًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 فَأَما النَّوْع الأول فَهُوَ مَا استبيح مَعَ قيام السَّبَب الْمحرم وَقيام حكمه فَفِي ذَلِك الرُّخْصَة الْكَامِلَة بِالْإِبَاحَةِ لعذر العَبْد مَعَ قيام سَبَب الْحُرْمَة وَحكمهَا وَذَلِكَ نَحْو إِجْرَاء كلمة الشّرك على اللِّسَان بِعُذْر الْإِكْرَاه فَإِن حُرْمَة الشّرك باتة لَا ينكسف عَنهُ لضَرُورَة وجوب حق الله تَعَالَى فِي الْإِيمَان بِهِ قَائِم أَيْضا وَمَعَ هَذَا أُبِيح لمن خَافَ التّلف على نَفسه عِنْد الْإِكْرَاه إِجْرَاء الْكَلِمَة رخصَة لَهُ لِأَن فِي الِامْتِنَاع حَتَّى يقتل تلف نَفسه صُورَة وَمعنى وبإجراء الْكَلِمَة لَا يفوت مَا هُوَ الْوَاجِب معنى فَإِن التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ بَاقٍ وَالْإِقْرَار الَّذِي سبق مِنْهُ مَعَ التَّصْدِيق صَحَّ إيمَانه واستدامة الْإِقْرَار فِي كل وَقت لَيْسَ بِرُكْن إِلَّا أَن فِي إِجْرَاء كلمة الشّرك هتك حُرْمَة حق الله تَعَالَى صُورَة وَفِي الِامْتِنَاع مُرَاعَاة حَقه صُورَة وَمعنى فَكَانَ الِامْتِنَاع عَزِيمَة لِأَن الْمُمْتَنع مُطِيع ربه مظهر للصلابة فِي الدّين وَمَا يَنْقَطِع عَنهُ طمع الْمُشْركين وَهُوَ جِهَاد فَيكون أفضل والمترخص بإجراء الْكَلِمَة يعْمل لنَفسِهِ من حَيْثُ السَّعْي فِي دفع سَبَب الْهَلَاك عَنْهَا فَهَذِهِ رخصَة لَهُ إِن أقدم عَلَيْهَا لم يَأْثَم وَالْأول عَزِيمَة حَتَّى إِذا صَبر حَتَّى قتل كَانَ مأجورا وعَلى هَذَا الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر عِنْد خوف الْهَلَاك فَإِن السَّبَب الْمُوجب لذَلِك وَحكم السَّبَب وَهُوَ الْوُجُوب حَقًا لله تَعَالَى قَائِم وَلَكِن يرخص لَهُ فِي التّرْك وَالتَّأْخِير بِعُذْر كَانَ من جِهَته وَهُوَ خوف الْهَلَاك وعجزه عَن شدّ المعاضد عَنهُ وَلِهَذَا لَو أقدم على الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى يقتل كَانَ مأجورا لِأَنَّهُ مُطِيع ربه فِيمَا صنع وَفِي هَذَا الْفَصْل يُبَاح لَهُ الْإِقْدَام عَلَيْهِ وَإِن كَانَ يعلم أَنه لَا يتَمَكَّن من مَنعهم عَن الْمُنكر بِخِلَاف مَا إِذا أَرَادَ الْمُسلم أَن يحمل على جمَاعَة من الْمُشْركين وَهُوَ يعلم أَنه لَا ينْكَأ فيهم حَتَّى يقتل فَإِنَّهُ لَا يَسعهُ الْإِقْدَام لِأَن الفسقة معتقدون لما يَأْمُرهُم بِهِ وَإِن كَانُوا يعْملُونَ بِخِلَافِهِ فَفعله يكون مؤثرا فِي باطنهم لَا محَالة وَإِن لم يكن مؤثرا فِي ظَاهِرهمْ ويتفرق جمعهم عِنْد إقدامه على الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَإِن قَتَلُوهُ وَالْمَقْصُود تَفْرِيق جمعهم وَأما الْمُشْركُونَ غير معتقدين لما يَأْمُرهُم بِهِ الْمُسلم فَلَا يتفرق جمعهم بصنيعه فَإِذا كَانَ فعله لَا ينْكَأ فيهم كَانَ مضيعا نَفسه فِي الحملة عَلَيْهِم ملقيا بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَة لَا أَن يكون عَاملا لرَبه فِي إعزاز الدّين وَكَذَلِكَ تنَاول مَال الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه للْمُضْطَر عِنْد خوف الْهَلَاك فَإِنَّهُ رخصَة مَعَ قيام سَبَب الْحُرْمَة وَحكمهَا وَهُوَ حق الْمَالِك وَلِهَذَا وَجب الضَّمَان حَقًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 لَهُ وَكَذَلِكَ إِبَاحَة إِتْلَاف مَال الْغَيْر عِنْد تحقق الْإِكْرَاه فَإِنَّهُ رخصَة مَعَ قيام سَبَب الْحُرْمَة وَحكمهَا وَكَذَلِكَ إِبَاحَة الْإِفْطَار فِي رَمَضَان للمكره وَإِبَاحَة الْإِقْدَام على الْجِنَايَة على الصَّيْد للْمحرمِ وَلِهَذَا النَّوْع أَمْثِلَة كَثِيرَة وَالْحكم فِي الْكل وَاحِد لَهُ أَن يرخص بالإقدام على مَا فِيهِ رفع الْهَلَاك عَن نَفسه فَذَلِك وَاسع لَهُ تيسيرا من الشَّرْع عَلَيْهِ وَإِن امْتنع فَهُوَ أفضل لَهُ وَلم يكن فِي الِامْتِنَاع عَاملا فِي إِتْلَاف نَفسه بل يكون متمسكا بِمَا هُوَ الْعَزِيمَة وَالنَّوْع الثَّانِي مَا استبيح مَعَ قيام السَّبَب الْمحرم مُوجبا لحكمه إِلَّا أَن الحكم متراخ عَن السَّبَب (فلكون السَّبَب الْقَائِم مُوجبا للْحكم كَانَت الاستباحة ترخصا للمعذور وَلكَون الحكم متراخيا عَن السَّبَب) كَانَ هَذَا النَّوْع دون الأول فَإِن كَمَال الرُّخْصَة يبتنى على كَمَال الْعَزِيمَة فَإِذا كَانَ الحكم ثَابتا فِي السَّبَب فَذَلِك فِي الْعَزِيمَة أقوى مِنْهُ إِذا كَانَ الحكم متراخيا عَن السَّبَب بِمَنْزِلَة البيع بِشَرْط الْخِيَار مَعَ البيع البات وَالْبيع بِثمن مُؤَجل مَعَ البيع بِثمن حَال فَالْحكم وَهُوَ الْملك فِي الْمَبِيع والمطالبة بِالثّمن ثَابت فِي البات الْمُطلق متراخ عَن السَّبَب فِي المقرون بِشَرْط الْخِيَار أَو الْأَجَل وَبَيَان هَذَا النَّوْع فِي الصَّوْم فِي شهر رَمَضَان للْمُسَافِر وَالْمَرِيض فَإِن السَّبَب الْمُوجب شرعا وَهُوَ شُهُود الشَّهْر قَائِم وَلِهَذَا لَو أديا كَانَ الْمُؤَدى فرضا وَلَكِن الحكم متراخ إِلَى إِدْرَاك عدَّة من أَيَّام أخر وَلِهَذَا لَو مَاتَا قبل الْإِدْرَاك لم يلْزمهُمَا شَيْء وَلَو كَانَ الْوُجُوب ثَابتا للزمهما الْأَمر بالفدية عَنْهُمَا لِأَن ترك الْوَاجِب بِعُذْر يرفع الْإِثْم وَلَكِن لَا يسْقط الْخلف وَهُوَ الْقَضَاء أَو الْفِدْيَة والتعجيل بعد تَمام السَّبَب مَعَ تراخي الحكم صَحِيح كتعجيل الدّين الْمُؤَجل ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله لما كَانَ حكم الْوُجُوب مُتَأَخِّرًا إِلَى إِدْرَاك عدَّة من أَيَّام أخر كَانَ الْفطر أفضل ليَكُون إقدامه على الْأَدَاء متراخيا بعد ثُبُوت الحكم بِإِدْرَاك عدَّة من أَيَّام أخر وَقُلْنَا نَحن الصَّوْم أفضل لِأَن مَعَ إِبَاحَة التَّرَخُّص بِالْفطرِ للْمَشَقَّة الَّتِي تلْحقهُ بِالصَّوْمِ فِي الْمَرَض أَو السّفر السَّبَب الْمُوجب قَائِم فَكَانَ الْمُؤَدى للصَّوْم عَاملا لله تَعَالَى فِي إِدْرَاك الْفَرَائِض والمترخص بِالْفطرِ عَاملا لنَفسِهِ فِيمَا يرجع إِلَى الترفة فَالْأول عَزِيمَة والتمسك بالعزيمة أفضل مَعَ أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 فِي معنى الرُّخْصَة يشْتَرك الصَّوْم وَالْفطر فَمن وَجه الصَّوْم مَعَ الْجَمَاعَة فِي شهر رَمَضَان يكون أيسر من التفرد بِهِ بعد مُضِيّ الشَّهْر وَإِن كَانَ أشق على بدنه وَمن وَجه التَّرَخُّص بِالْفطرِ مَعَ أَدَاء الصَّوْم بعد الْإِقَامَة أيسر عَلَيْهِ لكيلا تَجْتَمِع عَلَيْهِ مشقتان فِي وَقت وَاحِد مشقة السّفر ومشقة أَدَاء الصَّوْم وَإِذا كَانَ فِي كل جَانب نوع ترفه يُخَيّر بَينهمَا للتيسير عَلَيْهِ وَبعد تحقق الْمُعَارضَة بَينهمَا يتَرَجَّح جَانب أَدَاء الصَّوْم لكَونه مُطيعًا فِيهِ عَاملا لله تَعَالَى إِلَّا أَن يخَاف الْهَلَاك على نَفسه إِن صَامَ فَحِينَئِذٍ يلْزمه أَن يفْطر لِأَنَّهُ إِن صَامَ فَمَاتَ كَانَ قَتِيل الصَّوْم وَهُوَ الْمُبَاشر لفعل الصَّوْم فَيكون قَاتلا نَفسه وعَلى الْمَرْء أَن يتحرز عَن قتل نَفسه بِخِلَاف مَا إِذا أكرهه ظَالِم على الْفطر فَلم يفْطر حَتَّى قَتله لِأَن الْقَتْل هُنَا مُضَاف إِلَى فعل الظَّالِم فَأَما هُوَ فِي الِامْتِنَاع عَن الْفطر عِنْد الْإِكْرَاه مستديم لِلْعِبَادَةِ مظهر للطاعة عَن نَفسه فِي الْعَمَل لله تَعَالَى وَذَلِكَ عمل الْمُجَاهدين وَبَيَان النَّوْع الثَّالِث فِي الإصر والأغلال الَّتِي كَانَت على من قبلنَا وَقد وَضعهَا الله تَعَالَى عَنَّا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم} وَقَالَ تَعَالَى {رَبنَا وَلَا تحمل علينا إصرا} الْآيَة فَهَذَا النَّوْع غير مَشْرُوع فِي حَقنا أصلا لَا بِنَاء على عذر مَوْجُود فِي حَقنا بل تيسيرا وتخفيفا علينا فَكَانَت رخصَة من حَيْثُ الِاسْم مجَازًا وَإِن لم تكن رخصَة حَقِيقَة لِانْعِدَامِ السَّبَب الْمُوجب للْحُرْمَة مَعَ الحكم بِالرَّفْع والنسخ أصلا فِي حَقنا فَإِن حَقِيقَة الرُّخْصَة فِي الاستباحة مَعَ قيام السَّبَب الْمحرم وَلَكِن لما كَانَ الرّفْع للتَّخْفِيف علينا والتسهيل سميت رخصَة مجَازًا وَأما بَيَان النَّوْع الرَّابِع فَمَا يستباح تيسيرا لخُرُوج السَّبَب من أَن يكون مُوجبا للْحكم مَعَ بَقَائِهِ مَشْرُوعا فِي الْجُمْلَة فَإِنَّهُ من حَيْثُ انعدام السَّبَب الْمُوجب للْحكم يشبه هَذَا النَّوْع الثَّالِث فَكَانَ مجَازًا وَمن حَيْثُ إِنَّه بَقِي السَّبَب مَشْرُوعا فِي الْجُمْلَة يشبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ أَن التَّرَخُّص بِاعْتِبَار عذر للعباد فَكَانَ معنى الرُّخْصَة فِيهِ حَقِيقَة من وَجه دون وَجه وَبَيَان هَذَا النَّوْع فِي فُصُول مِنْهَا السّلم فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع مَا لَيْسَ عِنْد الْإِنْسَان وَرخّص فِي السّلم وَالسّلم نوع بيع وَاشْتِرَاط العينية فِي الْمَبِيع الْمَشْرُوع قَائِم فِي الْجُمْلَة ثمَّ سقط هَذَا الشَّرْط فِي السّلم أصلا حَتَّى كَانَت العينية فِي الْمُسلم فِيهِ مفْسدَة للْعقد لَا مصححة وَكَانَ سُقُوط هَذَا الشَّرْط للتيسير على المحتاجين حَتَّى يتوصلوا إِلَى مقصودهم من الْأَثْمَان قبل إِدْرَاك غلاتهم ويتوصل صَاحب الدَّرَاهِم إِلَى مَقْصُوده من الرِّبْح فَكَانَت رخصَة من حَيْثُ إِخْرَاج السَّبَب من أَن يكون مُوجبا اعْتِبَار العينية فِيهِ مَعَ بَقَاء هَذَا النَّوْع من السَّبَب مُوجبا لَهُ فِي الْجُمْلَة وَكَذَلِكَ الْمسْح على الْخُفَّيْنِ رخصَة مَشْرُوعَة لليسر على معنى أَن استتار الْقدَم بالخف يمْنَع سرَايَة الْحَدث إِلَى الْقدَم لَا على معنى أَن الْوَاجِب من غسل الرجل يتَأَدَّى بِالْمَسْحِ وَلِهَذَا يشْتَرط أَن يكون اللّبْس على طَهَارَة فِي الرجلَيْن وَأَن يكون أول الْحَدث بعد اللّبْس طارئا على طَهَارَة كَامِلَة وَلَو نزع الْخُف بعد الْمسْح يلْزمه غسل رجلَيْهِ فَعرفنَا أَن التَّيْسِير من حَيْثُ إِخْرَاج السَّبَب الْمُوجب للْحَدَث من أَن يكون عَاملا فِي الرجل مَا دَامَ مستترا بالخف وَتقدم الْخُف على الرجل فِي قبُول حكم الْحَدث مَا لم يخلعهما مَعَ بَقَاء أصل السَّبَب فِي الْجُمْلَة وَكَذَلِكَ الزِّيَادَة فِي مُدَّة الْمسْح للْمُسَافِر فَإِنَّهُ رخصَة من حَيْثُ إِن السَّبَب لم يبْق فِي حَقه مُوجبا غسل الرجل بعد مُضِيّ يَوْم وَلَيْلَة مَا لم ينْزع الْخُف وعَلى هَذَا مَا ذكر فِي كتاب الْإِكْرَاه أَن من اضْطر إِلَى تنَاول الْميتَة أَو شرب الْخمر لخوف الْهَلَاك على نَفسه من الْجُوع أَو الْعَطش أَو للإكراه فَإِنَّهُ لَا يَسعهُ الِامْتِنَاع من ذَلِك وَلَو امْتنع حَتَّى مَاتَ كَانَ آثِما لِأَن السَّبَب غير مُوجب للْحكم عِنْد الضَّرُورَة للاستثناء الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا مَا اضطررتم إِلَيْهِ} فالمستثنى لَا يتَنَاوَلهُ الْكَلَام مُوجبا لحكمه وَلَكِن السَّبَب بِهَذَا الِاسْتِثْنَاء لم يَنْعَدِم أصلا فَكَانَت الرُّخْصَة ثَابِتَة بِاعْتِبَار عذر العَبْد خرج بِهِ السَّبَب من أَن يكون مُوجبا للْحكم فِي حَقه ويلتحق الْحَرَام فِي هَذِه الْحَالة فِي حَقه بالحلال لما انْعَدم سَبَب الْحُرْمَة فِي حَقه وَمن امْتنع من تنَاول الْحَلَال حَتَّى يتْلف نَفسه يكون آثِما يُوضحهُ أَن سَبَب الْحُرْمَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وجوب صِيَانة عقله عَن الِاخْتِلَاط أَو الْفساد بِشرب الْخمر وصيانة بدنه عَن ضَرَر تنَاول الْميتَة وصيانة الْبَعْض لَا يتَحَقَّق فِي إِتْلَاف الْكل فَكَانَ الِامْتِنَاع فِي هَذِه الْحَالة إتلافا للنَّفس من غير أَن يكون فِيهِ تَحْصِيل مَا هُوَ الْمَقْصُود بِالْحُرْمَةِ فَلَا يكون مُطيعًا لرَبه بل يكون متلفا نَفسه بترك التَّرَخُّص فَيكون آثِما وَمن هَذَا النَّوْع مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله إِنَّه لَا يجوز للْمُسَافِر أَن يُصَلِّي الظّهْر أَرْبعا فِي سَفَره وَإِن ذَلِك بِمَنْزِلَة مَا لَو صلى الْمُقِيم الْفجْر أَرْبعا لِأَن السَّبَب لم يبْق فِي حَقه مُوجبا إِلَّا رَكْعَتَيْنِ فَكَانَت الأخريان نفلا فِي حَقه وَلِهَذَا يُبَاح لَهُ تَركهمَا لَا إِلَى بدل وخلط النَّفْل بِالْفَرْضِ قصدا لَا يحل وَأَدَاء النَّفْل قبل إِكْمَال الْفَرْض يكون مُفْسِدا للْفَرض فَإِذا لم يقْعد الْقعدَة الأولى فَسدتْ صلَاته وَالشَّافِعِيّ رَحمَه الله يَقُول السَّبَب الْمُوجب لِلظهْرِ أَربع رَكْعَات إِلَّا أَنه رخص لَهُ فِي الِاكْتِفَاء بالركعتين لدفع مشقة السّفر فَإِن أكمل الصَّلَاة كَانَ مُؤديا للْفَرض بعد وجود سَببه فيستوي هُوَ والمقيم فِي ذَلِك كَمَا إِذا صَامَ الْمُسَافِر فِي شهر رَمَضَان وَجعل معنى الرُّخْصَة فِي تخييره بَين أَن يُؤَدِّي فرض الْوَقْت بِأَرْبَع رَكْعَات وَبَين أَن يُؤَدِّي رَكْعَتَيْنِ بِمَنْزِلَة العَبْد يَأْذَن لَهُ مَوْلَاهُ فِي أَدَاء الْجُمُعَة فَإِنَّهُ يتَخَيَّر بَين أَن يُؤَدِّي فرض الْوَقْت بِالْجمعَةِ رَكْعَتَيْنِ وَبَين أَن يُؤَدِّي بِالظّهْرِ أَرْبعا وَهَذَا غلط مِنْهُ يتَبَيَّن عِنْد التَّأَمُّل فِي مورد الشَّرْع على مَا رُوِيَ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ يَا رَسُول الله مَا بالنا نصلي فِي السّفر رَكْعَتَيْنِ وَنحن آمنون فَقَالَ هَذِه صَدَقَة تصدق الله عَلَيْكُم فاقبلوا صدقته وَنحن نعلم أَن المُرَاد التَّصَدُّق بالإسقاط عَنَّا وَمَا يكون وَاجِبا فِي الذِّمَّة فالتصدق مِمَّن لَهُ الْحق بإسقاطه يكون كالتصدق بِالدّينِ على من عَلَيْهِ الدّين وَمثل هَذَا الْإِسْقَاط إِذا لم يتَضَمَّن معنى التَّمْلِيك لَا يرْتَد بِالرَّدِّ كالعفو عَن الْقصاص وَكَذَلِكَ إِذا لم يكن فِيهِ معنى الْمَالِيَّة لَا يرْتَد بِالرَّدِّ وَلَا يتَوَقَّف على الْقبُول كَالطَّلَاقِ وَإِسْقَاط الشُّفْعَة فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن السَّبَب لم يبْق مُوجبا للزِّيَادَة على الرَّكْعَتَيْنِ بعد هَذَا التَّصَدُّق فَإِن معنى التَّرَخُّص فِي إِخْرَاج السَّبَب من أَن يكون مُوجبا للزِّيَادَة على الرَّكْعَتَيْنِ فِي حَقه لَا فِي التَّخْيِير فَإِن التَّخْيِير عبارَة عَن تَفْوِيض الْمَشِيئَة إِلَى الْمُخَير وتمليكه مِنْهُ وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق هُنَا فالعبادات إِنَّمَا تلزمنا بطرِيق الِابْتِلَاء قَالَ الله تَعَالَى {ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} وتفويض الْمَشِيئَة إِلَى العَبْد بِهَذِهِ الصّفة فِي أصل الْوُجُوب أَو فِي مِقْدَار الْوَاجِب يعْدم معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الِابْتِلَاء وَبِهَذَا تبين أَن المُرَاد من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاقبلوا صدقته بِالْوُقُوفِ على أَدَاء الْوَاجِب من غير خلط النَّفْل بِهِ وَهَكَذَا نقُول فِي الصَّوْم إِلَّا أَن الرُّخْصَة هُنَاكَ فِي تَأْخِير الحكم عَن السَّبَب وَلَيْسَ للعباد اخْتِيَار فِي رد ذَلِك إِلَّا أَن أصل السَّبَب مُوجب فِي حَقه وَلِهَذَا يلْزمه الْقَضَاء إِذا أدْرك عدَّة من أَيَّام أخر وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله وضع الْمُسَافِر شطر الصَّلَاة وَأَدَاء الصَّوْم يُحَقّق مَا ذكرنَا أَن الْمَشِيئَة التَّامَّة وَالِاخْتِيَار الْكَامِل لَا يثبت للْعَبد أصلا فَإِن ذَلِك بربوبته وَذَلِكَ معنى قَوْله تَعَالَى {وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار} أَي يتعالى أَن يكون لَهُ رَفِيق فِيمَا يخْتَار ويتعالى أَن يكون لَهُ اخْتِيَار لدفع ضَرَر عَنهُ وَهَذَا هُوَ الِاخْتِيَار الْكَامِل فَأَما الِاخْتِيَار للْعَبد لَا يَنْفَكّ عَن معنى الرِّفْق بِهِ وَذَلِكَ فِي أَن يجر إِلَى نَفسه مَنْفَعَة بِاخْتِيَارِهِ أَو يدْفع عَن نَفسه ضَرَرا أَلا ترى أَن الله تَعَالَى خير الْحَالِف بَين الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة فِي الْكَفَّارَة ليحصل للمكفر الرِّفْق لنَفسِهِ بِاخْتِيَارِهِ الْأَيْسَر عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يتَحَقَّق فِي التَّخْيِير بَين الْقَلِيل وَالْكثير فِي الْجِنْس الْوَاحِد بِوَجْه وَسَوَاء صلى رَكْعَتَيْنِ أَو أَرْبعا فَهُوَ ظهر وببداهة الْعُقُول يعلم أَن الرِّفْق مُتَعَيّن فِي أَدَاء الرَّكْعَتَيْنِ فَمن قَالَ بِأَنَّهُ يتَخَيَّر بَين الْأَقَل وَالْأَكْثَر من غير رفق لَهُ فِي ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يثبت لَهُ خيارا يَلِيق بالعبودية وَالْعجز وَخطأ هَذَا غير مُشكل وَمن يَقُول بِأَن للْعَبد أَن يرد مَا أسقط الله تَعَالَى عَنهُ بطرِيق التَّصَدُّق عَلَيْهِ فخطؤه لَا يشكل أَيْضا لِأَن عَفْو الله تَعَالَى عَن الْعباد فِي الْآخِرَة لَا يَقُول فِيهِ أحد من الْعُقَلَاء إِنَّه يرْتَد برد العَبْد وَإنَّهُ تَخْيِير للْعَبد وَهَذَا بِخِلَاف العَبْد الْمَأْذُون فِي أَدَاء الْجُمُعَة لِأَن الْجُمُعَة غير الظّهْر وَلِهَذَا لَا يجوز بِنَاء أَحدهمَا على الآخر وَعند الْمُغَايرَة لَا يتَعَيَّن الرِّفْق فِي الْأَقَل عددا فَأَما ظهر الْمُقِيم وَظهر الْمُسَافِر فواحد فِي الحكم فبالتخيير بَين الْقَلِيل وَالْكثير فِيهِ لَا يتَحَقَّق شَيْء من معنى الرِّفْق فِيهِ وَنَظِير هَذَا العَبْد الْجَانِي إِذا جنى جِنَايَة يُخَيّر الْمولى بَين الدّفع وَالْفِدَاء فَإِن أعْتقهُ الْمولى وَهُوَ لَا يعلم بِالْجِنَايَةِ أَو كَانَ الْجَانِي مُدبرا تكون على الْمولى قِيمَته وَلَا خِيَار لَهُ فِي ذَلِك لِأَن الْجِنْس لما كَانَ وَاحِدًا فالرفق كُله مُتَعَيّن فِي الْأَقَل وَكَذَلِكَ من اشْترى شَيْئا لم يره يثبت لَهُ خِيَار الرُّؤْيَة لتحقيق معنى الرِّفْق باسترداد الثّمن عِنْد فسخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 البيع وَفِي السّلم لَا يثبت خِيَار الرُّؤْيَة لِأَن برد الْمَقْبُوض لَا يتَوَصَّل إِلَى الرِّفْق باسترداد الثّمن وَلكنه يرجع بِمثل الْمَقْبُوض فَلَا يظْهر فِيهِ معنى الرِّفْق فَإِن قيل معنى الرِّفْق هُنَا يتَحَقَّق من حَيْثُ إِن ثَوَابه فِي أَدَاء الْأَرْبَع أَكثر وَأَدَاء الرَّكْعَتَيْنِ على بدنه أيسر فالتخيير لهَذَا الْمَعْنى قُلْنَا أَحْكَام الدُّنْيَا لَا تبنى على مَا هُوَ من أَحْكَام الْآخِرَة وَهُوَ نيل الثَّوَاب مَعَ أَن الثَّوَاب كُله فِي امْتِثَال الْأَمر بأَدَاء الْوَاجِب لَا فِي عدد الرَّكْعَات فَإِن جُمُعَة الْحر فِي الثَّوَاب لَا يكون دون ظهر العَبْد وفجر الْمُقِيم فِي الثَّوَاب لَا يكون دون ظَهره فَعرفنَا أَن هَذَا الْمَعْنى لَا يتَحَقَّق فِي ثَوَاب الصَّلَاة أَيْضا وَإِنَّمَا يتَحَقَّق معنى الرِّفْق فِي الصَّوْم من الْوَجْه الَّذِي قَررنَا أَن فِي الْفطر نوع رفق لَهُ وَفِي الصَّوْم نوع رفق آخر فَكَانَ التَّخْيِير بَينهمَا مُسْتَقِيمًا وَيخرج على هَذَا من نذر صَوْم سنة إِن فعل كَذَا فَفعل وَهُوَ مُعسر فَإِنَّهُ يتَخَيَّر بَين صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام وَبَين صَوْم سنة على قَول مُحَمَّد رَحمَه الله وَهُوَ رِوَايَة عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله أَنه رَجَعَ إِلَيْهِ قبل مَوته بأيام لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ حكما فَفِي صَوْم سنة وَفَاء بالمنذور وَأَدَاء مَا هُوَ قربَة ابْتِدَاء وَصَوْم ثَلَاثَة أَيَّام كَفَّارَة لما لحقه بخلف الْوَعْد الْمُؤَكّد بِالْيَمِينِ وَقد بَينا أَن التَّخْيِير عِنْد الْمُغَايرَة يتَحَقَّق فِيهِ معنى الرِّفْق وَلَا يدْخل على مَا ذكرنَا التَّخْيِير الْمَذْكُور فِي حق مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه فِيمَا الْتَزمهُ من الصَدَاق بَين الْأَقَل وَالْأَكْثَر فِي جنس وَاحِد كَمَا قَالَ تَعَالَى {على أَن تَأْجُرنِي ثَمَانِي حجج فَإِن أتممت عشرا فَمن عنْدك} لِأَن الزِّيَادَة على الثماني كَانَ فضلا من عِنْده مُتَبَرعا بِهِ فَأَما الْوَاجِب من الصَدَاق وَهُوَ الْأَقَل عندنَا هَكَذَا فِي مَسْأَلَة الْخلاف فالفرض رَكْعَتَانِ عندنَا وَالزِّيَادَة عَلَيْهِ نفل مَشْرُوع للْعَبد يتَبَرَّع بِهِ من عِنْده وَلَكِن الِاشْتِغَال بأَدَاء النَّفْل قبل إِكْمَال الْفَرْض مُفسد للْفَرض وَالله أعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب أَسمَاء صِيغَة الْخطاب فِي تنَاوله المسميات وأحكامها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن هَذِه الْأَسْمَاء أَرْبَعَة الْخَاص وَالْعَام والمشترك والمؤول فالخاص كل لفظ مَوْضُوع لِمَعْنى مَعْلُوم على الِانْفِرَاد وكل اسْم لمسمى مَعْلُوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 على الِانْفِرَاد وَمِنْه يُقَال اخْتصَّ فلَان بِملك كَذَا أَي انْفَرد بِهِ وَلَا شركَة للْغَيْر مَعَه وخصني فلَان بِكَذَا أَي أفرده لي وَفُلَان خَاص فلَان وَمِنْه سميت الْخَصَاصَة للانفراد عَن المَال وَعَن نيل أَسبَاب المَال مَعَ الْحَاجة وَمعنى الْخُصُوص فِي الْحَاصِل الِانْفِرَاد وَقطع الِاشْتِرَاك فَإِذا أُرِيد بِهِ خُصُوص الْجِنْس قيل إِنْسَان وَإِذا أُرِيد بِهِ خُصُوص النَّوْع قيل رجل وَإِذا أُرِيد بِهِ خُصُوص الْعين قيل زيد وَأما الْعَام كل لفظ يَنْتَظِم جمعا من الْأَسْمَاء لفظا أَو معنى ونعني بالأسماء هُنَا المسميات وَقَوْلنَا لفظا أَو معنى تَفْسِير للانتظام أَي يَنْتَظِم جمعا من الْأَسْمَاء لفظا مرّة كَقَوْلِنَا زيدون وَمعنى تَارَة كَقَوْلِنَا من وَمَا وَمَا أشبههما وَمعنى الْعُمُوم لُغَة الشُّمُول تَقول الْعَرَب عمهم الصّلاح وَالْعدْل أَي شملهم وَعم الخصب أَي شَمل الْبلدَانِ أَو الْأَعْيَان وَمِنْه سميت النَّخْلَة الطَّوِيلَة عميمة والقرابة إِذا اتسعت انْتَهَت إِلَى العمومة فَكل لفظ يَنْتَظِم جمعا من الْأَسْمَاء سمي عَاما لِمَعْنى الشُّمُول وَذَلِكَ نَحْو اسْم الشَّيْء فَإِنَّهُ يعم الموجودات كلهَا عندنَا وَذكر أَبُو بكر الْجَصَّاص رَحمَه الله أَن الْعَام مَا يَنْتَظِم جمعا من الْأَسَامِي أَو الْمعَانِي وَهَذَا غلط مِنْهُ فَإِن تعدد الْمعَانِي لَا يكون إِلَّا بعد التغاير وَالِاخْتِلَاف وَعند ذَلِك اللَّفْظ الْوَاحِد لَا ينتظمهما وَإِنَّمَا يحْتَمل أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا مرَادا بِاللَّفْظِ وَهَذَا يكون مُشْتَركا لَا عَاما وَلَا عُمُوم للمشترك عندنَا وَقد نَص الْجَصَّاص فِي كِتَابه على أَن الْمَذْهَب فِي الْمُشْتَرك أَنه لَا عُمُوم لَهُ فَعرفنَا أَن هَذَا سَهْو مِنْهُ فِي الْعبارَة أَو هُوَ مؤول وَمرَاده أَن الْمَعْنى الْوَاحِد بِاعْتِبَار أَنه يعم الْمحَال يُسمى مَعَاني مجَازًا فَإِنَّهُ يُقَال مطر عَام لِأَنَّهُ عَم الْأَمْكِنَة وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة معنى وَاحِد وَلَكِن لتَعَدد الْمحَال الَّذِي تنَاوله سَمَّاهُ مَعَاني وَلَكِن هَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيم إِذا قَالَ مَا يَنْتَظِم جمعا من الْأَسَامِي والمعاني قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَهَكَذَا رَأَيْته فِي بعض النّسخ من كِتَابه فَأَما قَوْله أَو الْمعَانِي فَهُوَ سَهْو مِنْهُ وَذكر أَن إِطْلَاق لفظ الْعُمُوم حَقِيقَة فِي الْمعَانِي وَالْأَحْكَام كَمَا هُوَ فِي الْأَسْمَاء والألفاظ وَيُقَال عمهم الْخَوْف وعمهم الخصب بِاعْتِبَار الْمَعْنى من غير أَن يكون هُنَاكَ لفظ وَهَذَا غلط أَيْضا فَإِن الْمَذْهَب أَنه لَا عُمُوم للمعاني حَقِيقَة وَإِن كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 يُوصف بِهِ مجَازًا وسيأتيك بَيَان هَذَا الْفَصْل فِي بَاب بَيَان إبِْطَال القَوْل بتخصيص الْعِلَل الشَّرْعِيَّة وَأما الْمُشْتَرك فَكل لفظ يشْتَرك فِيهِ معَان أَو أسام لَا على سَبِيل الانتظام بل على احْتِمَال أَن يكون كل وَاحِد هُوَ المُرَاد بِهِ على الِانْفِرَاد وَإِذا تعين الْوَاحِد مرَادا بِهِ انْتَفَى الآخر مثل اسْم الْعين فَإِنَّهُ للنَّاظِر ولعين المَاء وللشمس وللميزان وللنقد من المَال وللشيء الْمعِين لَا على أَن جَمِيع ذَلِك مُرَاد بِمُطلق اللَّفْظ وَلَكِن على احْتِمَال كَون كل وَاحِد مرَادا بِانْفِرَادِهِ عِنْد الْإِطْلَاق وَهَذَا لِأَن الِاسْم يتَنَاوَل كل وَاحِد من هَذِه الْأَشْيَاء بِاعْتِبَار معنى غير الْمَعْنى الآخر وَقد بَينا أَن لفظ الْوَاحِد لَا يَنْتَظِم الْمعَانِي الْمُخْتَلفَة وَبَيَان هَذَا فِي لفظ الْبَيْنُونَة فَإِنَّهُ يحْتَمل معنى الْإِبَانَة وَمعنى الْبَين وَمعنى الْبَيَان يَقُول الرجل بَان فلَان عني أَي هجرني وَبَان الْعُضْو من الْجِسْم أَي انْفَصل وَبَان لي كَذَا أَي ظهر فَيعلم أَن مُطلق اللَّفْظ لَا يَنْتَظِم هَذِه الْمعَانِي وَلَكِن يحْتَمل كل وَاحِد مِنْهَا أَن يكون مرَادا وَلِهَذَا سميناه مُشْتَركا فالاشتراك عبارَة عَن الْمُسَاوَاة وَفِي الِاحْتِمَال وجدت الْمُسَاوَاة بَينهمَا فَبَقيَ المُرَاد بِهِ مَجْهُولا لَا يُمكن الْعَمَل بمطلقه فِي الِابْتِدَاء بِمَنْزِلَة الْمُجْمل إِلَّا أَن الْفرق بَين الْمُشْتَرك والمجمل أَنه قد يتَوَصَّل إِلَى الْعَمَل بالمشترك عِنْد التَّأَمُّل فِي صِيغَة اللَّفْظ فيرجح بعض المحتملات وَيعرف أَنه هُوَ المُرَاد بِدَلِيل فِي اللَّفْظ من غير بَيَان آخر والمجمل مَا لَا يسْتَدرك بِهِ المُرَاد بِمُجَرَّد التَّأَمُّل فِي صِيغَة اللَّفْظ مَا لم يرجع فِي بَيَانه إِلَى الْمُجْمل ليصير المُرَاد بذلك الْبَيَان مَعْلُوما لَا بِدَلِيل فِي لفظ الْمُجْمل وَبَيَان الْمُشْتَرك فِي لفظ الْقُرْء فَبين الْعلمَاء اتِّفَاق أَنه يحْتَمل الْأَطْهَار وَيحْتَمل الْحيض وَأَنه غير مُنْتَظم لَهما بل إِذا حملناه على الْحيض لدَلِيل فِي اللَّفْظ وَهُوَ أَن الْمَرْأَة لَا تسمى ذَات الْقُرْء إِلَّا بِاعْتِبَار الْحيض فَيَنْتَفِي كَون الْأَطْهَار مرَادا عندنَا وَإِذا حمله الْخصم على الْأَطْهَار لدَلِيل فِي اللَّفْظ وَهُوَ الِاجْتِمَاع أخرج الْحيض من أَن يكون مرَادا بِاللَّفْظِ وعَلى هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله لَو أوصى بِثلث مَاله لمواليه وَله موَالٍ أعتقوه وموال أعتقهم لَا تصح الْوَصِيَّة لِأَن الِاسْم مُشْتَرك يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ هُوَ الْمولى الْأَعْلَى وَيحْتَمل الْأَسْفَل وَفِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الْمَعْنى تغاير فَالْوَصِيَّة للأعلى بِمَعْنى المجازاة وشكرا للنعم وللأسفل للزِّيَادَة فِي الإنعام والترحم عَلَيْهِ وَلَا يَنْتَظِم اللَّفْظ الْمَعْنيين جَمِيعًا للمغايرة بَينهمَا فَبَقيَ الْمُوصى لَهُ مَجْهُولا وَلَو حلف لَا يكلم موَالِيه يتَنَاوَل يَمِينه الْأَعْلَى والأسفل جَمِيعًا بِاعْتِبَار أَن الْمَعْنى الَّذِي دَعَاهُ إِلَى الْيَمين غير مُخْتَلف فِي الْأَعْلَى والأسفل فلإيجاد الْمَعْنى لَا يتَحَقَّق فِيهِ الِاشْتِرَاك بل اللَّفْظ فِي هَذَا الحكم بِمَنْزِلَة الْعَام فَإِن اسْم الشَّيْء يتَنَاوَل الموجودات كلهَا بِاعْتِبَار معنى وَاحِد وَهُوَ صفة الْوُجُود فَكَانَ منتظما للْكُلّ والمشترك احْتِمَاله الْجمع من الْأَشْيَاء بِاعْتِبَار معَان مُخْتَلفَة فَعرفنَا بِهِ أَن المُرَاد وَاحِد مِنْهَا فاسم الْمولى إِذا اسْتَعْملهُ فِيمَا يخْتَلف فِيهِ الْمَعْنى وَالْمَقْصُود كَانَ مُشْتَركا وَفِيمَا لَا يخْتَلف فِيهِ الْمَعْنى كَانَ بِمَنْزِلَة الْعَام وَأما المؤول فَهُوَ تبين بعض مَا يحْتَمل الْمُشْتَرك بغالب الرَّأْي وَالِاجْتِهَاد وَمن قَوْلك آل يؤول أَي رَجَعَ وأوليته بِكَذَا إِذا رجعته وصرفته إِلَيْهِ ومآل هَذَا الْأَمر كَذَا أَي تصير عاقبته إِلَيْهِ فالمؤول مَا تصير إِلَيْهِ عَاقِبَة المُرَاد بالمشترك بِوَاسِطَة الْأَمر قَالَ تَعَالَى {هَل ينظرُونَ إِلَّا تَأْوِيله} أَي عاقبته وَمَا يؤول إِلَيْهِ الْأَمر وَهُوَ خلاف الْمُجْمل فَالْمُرَاد بالمجمل إِنَّمَا يعرف بِبَيَان من الْمُجْمل وَذَلِكَ الْبَيَان يكون تَفْسِيرا يعلم بِهِ المُرَاد بِلَا شُبْهَة مَأْخُوذ من قَوْلك أَسْفر الصُّبْح إِذا أَضَاء وَظهر ظهورا منتشرا وأسفرت الْمَرْأَة عَن وَجههَا أَي كشفت وَجههَا وَهَذَا اللَّفْظ مقلوب من التَّفْسِير فَالْمَعْنى فيهمَا وَاحِد وَهُوَ الانكشاف والظهور على وَجه لَا شُبْهَة فِيهِ وَمِنْه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من فسر الْقُرْآن بِرَأْيهِ فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار يَعْنِي قطع القَوْل بِأَن المُرَاد هَذَا بِرَأْيهِ فَإِن من فعل ذَلِك فَكَأَنَّهُ نصب نَفسه صَاحب الْوَحْي فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار وَبِهَذَا تبين خطأ الْمُعْتَزلَة أَن كل مُجْتَهد مُصِيب لما هُوَ الْحق حَقِيقَة فالاجتهاد عبارَة عَن غَالب الرَّأْي فَمن يَقُول إِنَّه يسْتَدرك بِهِ الْحق قطعا بِلَا شُبْهَة فَإِنَّهُ دَاخل فِي جملَة من تناولهم هَذَا الحَدِيث وَصَارَ الْحَاصِل أَن الْعَام أَكثر انتظاما للمسميات من الْخَاص وَالْخَاص فِي معرفَة المُرَاد بِهِ أثبت من الْمُشْتَرك فَفِي الْمُشْتَرك احْتِمَال غير المُرَاد وَمَعَ الِاحْتِمَال لَا يتَحَقَّق الثُّبُوت والمشترك فِي إِمْكَان معرفَة المُرَاد عِنْد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 التَّأَمُّل فِي لَفظه أقوى من الْمُجْمل فَلَيْسَ فِي الْمُجْمل إِمْكَان ذَلِك بِدُونِ الْبَيَان على مَا نذكرهُ فِي بَابه إِن شَاءَ الله تَعَالَى فصل فِي بَيَان حكم الْخَاص قَالَ رَضِي الله عَنهُ حكم الْخَاص معرفَة المُرَاد بِاللَّفْظِ وَوُجُوب الْعَمَل بِهِ فِيمَا هُوَ مَوْضُوع لَهُ لُغَة لَا يَخْلُو خَاص عَن ذَلِك وَإِن كَانَ يحْتَمل أَن تغير اللَّفْظ عَن مَوْضُوعه عِنْد قيام الدَّلِيل فَيصير عبارَة عَنهُ مجَازًا وَلكنه غير مُحْتَمل للتَّصَرُّف فِيهِ بَيَانا فَإِنَّهُ مُبين فِي نَفسه عَامل فِيمَا هُوَ مَوْضُوع لَهُ بِلَا شُبْهَة وعَلى هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله فِي قَوْله تَعَالَى {ثَلَاثَة قُرُوء} إِن المُرَاد الْحيض لأَنا لَو حملناه على الْأَطْهَار كَانَ الِاعْتِدَاد بقرأين وَبَعض الثَّالِث وَلَو حملناه على الْحيض كَانَ التَّرَبُّص بِثَلَاثَة قُرُوء كوامل وَاسم الثَّلَاث مَوْضُوع لعدد مَعْلُوم لُغَة لَا يحْتَمل النُّقْصَان عَنهُ بِمَنْزِلَة اسْم الْفَرد فَإِنَّهُ لَا يحْتَمل الْعدَد وَاسم الْوَاحِد لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال الْمثنى فَفِي حمله على الْأَطْهَار ترك الْعَمَل بِلَفْظ الثَّلَاث فِيمَا هُوَ مَوْضُوع لَهُ لُغَة وَلَا وَجه للمصير إِلَيْهِ وَقُلْنَا فِي قَوْله {ارْكَعُوا واسجدوا} إِن فرض الرُّكُوع يتَأَدَّى بِأَدْنَى الانحطاط لِأَن اللَّفْظ لُغَة مَوْضُوع للميل عَن الاسْتوَاء يُقَال ركعت النَّخْلَة إِذا مَالَتْ وَركع الْبَعِير إِذا طأطأ رَأسه فإلحاق صفة الِاعْتِدَال بِهِ ليَكُون فرضا ثَابتا بِهَذَا النَّص لَا يكون عملا بِمَا وضع لَهُ هَذَا الْخَاص لُغَة وَلَكِن إِنَّمَا يكون وَفِي العثمانية إِنَّمَا يثبت بِصفة الِاعْتِدَال بِخَبَر الْوَاحِد فَيكون مُوجبا للْعَمَل مُمكنا للنقصان فِي الصَّلَاة إِذا تَركه وَلَا يكون مُفْسِدا للصَّلَاة لِأَن ذَلِك حكم ترك الثَّابِت بِالنَّصِّ وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} فالطواف مَوْضُوع لُغَة لِمَعْنى مَعْلُوم لَا شُبْهَة فِيهِ وَهُوَ الدوران حول الْبَيْت ثمَّ إِلْحَاق شَرط الطَّهَارَة بالدوران ليَكُون فرضا لَا يعْتد الطّواف بِدُونِهِ لَا يكون عملا بِهَذَا الْخَاص بل يكون نسخا لَهُ وَجعل الطَّهَارَة وَاجِبا فِيهِ حَتَّى يتَمَكَّن النُّقْصَان بِتَرْكِهِ يكون عملا بِمُوجب كل دَلِيل فَإِن ثُبُوت شَرط الطَّهَارَة بِخَبَر الْوَاحِد وَهُوَ مُوجب للْعَمَل فبتركه يتَمَكَّن النُّقْصَان فِي الْعَمَل شرعا فَيُؤْمَر بِالْإِعَادَةِ أَو الْجَبْر بِالدَّمِ ليرتفع بِهِ النُّقْصَان وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الْآيَة فَإِن اللَّفْظ مَوْضُوع لُغَة لغسل هَذِه الْأَعْضَاء ففرضية الْغسْل فِي المغسولات وَالْمسح فِي الممسوحات ثَابت بِهَذَا النَّص وَاشْتِرَاط النِّيَّة والموالاة وَالتَّرْتِيب وَالتَّسْمِيَة ليَكُون فرضا لَا يَزُول الْحَدث بِدُونِهَا مَعَ وجود الْغسْل وَالْمسح لَا يكون عملا بِهَذَا الْخَاص بل يكون نسخا لَهُ وَجعل ذَلِك وَاجِبا أَو سنة للإكمال كَمَا هُوَ مُوجب خبر الْوَاحِد يكون عملا بِكُل دَلِيل ومراعاة لمرتبة كل دَلِيل فَتبين أَن فِيمَا ذهب إِلَيْهِ الْخصم حط دَرَجَة النَّص عَن مرتبته أَو رفع دَرَجَة خبر الْوَاحِد فَوق مرتبته فَلَا يكون القَوْل بِهِ صَحِيحا وَقَالَ الشَّافِعِي فِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} فَإِن الْقطع لفظ خَاص لِمَعْنى مَعْلُوم فإبطال عصمَة المَال والتقوم الَّذِي كَانَ ثَابتا قبل فعل السّرقَة أَو بعده قبل الْقطع لَا يكون عملا بِهَذَا الْخَاص بل يكون زِيَادَة أثبتموه بِالرَّأْيِ أَو بِخَبَر الْوَاحِد فقد دَخَلْتُم فِيمَا أَبَيْتُم وَلَكنَّا نقُول مَا أثبتنا ذَلِك إِلَّا بِلَفْظ خَاص فِي الْآيَة وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {جَزَاء بِمَا كسبا نكالا من الله} فاسم الْجَزَاء يُطلق على مَا يجب حَقًا لله تَعَالَى بِمُقَابلَة أَفعَال الْعباد فَثَبت بِهَذَا اللَّفْظ الْخَاص أَن الْقطع حق الله تَعَالَى خَالِصا وَتبين بِهِ أَن سَببه جِنَايَة على حق الله تَعَالَى وَلَا يجب الْقطع إِلَّا بِاعْتِبَار الْعِصْمَة والتقوم فِي الْمَسْرُوق فبه يتَبَيَّن أَن الْعِصْمَة والتقوم عِنْد فعل السّرقَة صَار حَقًا لله تَعَالَى حَيْثُ وَجب الْقطع بِاعْتِبَارِهِ حَقًا لَهُ وَيتم ذَلِك بِالِاسْتِيفَاءِ لِأَن مَا يجب حَقًا لله تَعَالَى فتمامه يكون بِالِاسْتِيفَاءِ إِذْ الْمَقْصُود بِهِ الزّجر وَذَلِكَ يحصل بِالِاسْتِيفَاءِ وَبِهَذَا التَّحْقِيق تبين أَن الْعِصْمَة والتقوم لم يبْق حَقًا للْعَبد فَلَا يجب الضَّمَان بِهِ أَو عرفنَا ذَلِك من قَوْله تَعَالَى {جَزَاء بِمَا كسبا} فَإِن الْجَزَاء لُغَة يَسْتَدْعِي الْكَمَال من قَوْلهم جزى أَي قضى أَو جزأ بِالْهَمْزَةِ أَي كفى وَكَمَال الْجَزَاء بِاعْتِبَار كَمَال السَّبَب وَهُوَ أَن يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الْفِعْل حَرَامًا لعَينه فَمَعَ بَقَاء التقوم والعصمة حَقًا للْمَالِك لَا يكون الْفِعْل حَرَامًا لعَينه بل لغيره وَهُوَ حق الْمَالِك فَعرفنَا أَنه لم يبْق الْعِصْمَة والتقوم فِي الْمحل حَقًا للْعَبد عندنَا بِاعْتِبَار خَاص مَنْصُوص عَلَيْهِ وَلَا يدْخل عَلَيْهِ الْملك فَإِنَّهُ يبْقى للْمَالِك حَتَّى يسْتَردّهُ إِن كَانَ قَائِما بِعَيْنِه لِأَن مَعَ بَقَاء الْملك لَهُ لَا تنعدم صفة الْكَمَال فِي السَّبَب وَهُوَ كَون الْفِعْل حَرَامًا لعَينه أَلا ترى أَن الْعصير إِذا تخمر يبْقى مَمْلُوكا وَيكون الْفِعْل فِيهِ حَرَامًا لعَينه حَتَّى يجب الْحَد بشربه وَلَكِن لم يبْق مَعْصُوما مُتَقَوّما لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون بِمَنْزِلَة عصير الْغَيْر فَلَا يكون شربه حَرَامًا لعَينه ثمَّ وجوب الْقطع بِاعْتِبَار الْعِصْمَة والتقوم فِي مَحل مَمْلُوك فَأَما الْمَالِك فَهُوَ غير مُعْتَبر فِيهِ لعَينه بل ليظْهر السَّبَب بخصومته عِنْد الإِمَام وَلِهَذَا لَو ظهر بخصومة غير الْمَالِك نُقِيم الْحَد بخصومة الْمكَاتب وَالْعَبْد الْمَأْذُون الْمُسْتَغْرق بِالدّينِ فِي كَسبه وَالْمُتوَلِّيّ فِي مَال الْوَقْف وَنحن إِنَّمَا جعلنَا مَا وَجب الْقطع بِاعْتِبَارِهِ حَقًا لله تَعَالَى لضَرُورَة كَون الْوَاجِب مَحْض حق الله تَعَالَى وَذَلِكَ فِي الْعِصْمَة والتقوم دون أصل الْملك وَمن هَذِه الْجُمْلَة قَوْله تَعَالَى {أَن تَبْتَغُوا بأموالكم} فالابتغاء مَوْضُوع لِمَعْنى مَعْلُوم وَهُوَ الطّلب بِالْعقدِ وَالْبَاء للإلصاق فَثَبت لَهُ اشْتِرَاط كَون المَال مُلْصقًا بِهِ بالابتغاء تَسْمِيَة أَو وجوبا وَالْقَوْل بتراخيه عَن الابتغاء إِلَى وجود حَقِيقَة الْمَطْلُوب كَمَا قَالَه الْخصم فِي المفوضة أَنه لَا يجب الْمهْر لَهَا إِلَّا بِالْوَطْءِ يكون ترك الْعَمَل بالخاص فَيكون فِي معنى النّسخ لَهُ وَلَا يجوز الْمصير إِلَيْهِ بِالرَّأْيِ وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {قد علمنَا مَا فَرضنَا عَلَيْهِم فِي أَزوَاجهم} فالفرض لِمَعْنى مَعْلُوم لُغَة وَهُوَ التَّقْدِير وَالْكِتَابَة فِي قَوْله تَعَالَى {فَرضنَا} لِمَعْنى مَعْلُوم لُغَة وَهُوَ إِرَادَة الْمُتَكَلّم نَفسه فَالْقَوْل بِأَن الْمهْر غير مُقَدّر شرعا بل يكون إِيجَاب أَصله بِالْعقدِ وَبَيَان مِقْدَاره مفوضا إِلَى رَأْي الزَّوْجَيْنِ يكون ترك الْعَمَل بِهَذَا الْخَاص فَإِنَّمَا الْعَمَل بِهِ فِيمَا قُلْنَا إِن وجوب أَصله وَأدنى الْمِقْدَار فِيهِ ثَابت شرعا لَا خِيَار لَهُ فِيهِ للزوجين وَمن هَذَا النَّوْع مَا قَالَ مُحَمَّد وَالشَّافِعِيّ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِن طَلقهَا فَلَا تحل لَهُ من بعد حَتَّى تنْكح زوجا غَيره} إِن كلمة حَتَّى مَوْضُوع لِمَعْنى لُغَة وَهُوَ الْغَايَة وَالنِّهَايَة فَجعله لِمَعْنى مُوجب حلا حَادِثا يكون ترك الْعَمَل بِهَذَا الْخَاص وَإِنَّمَا الْعَمَل بِهِ فِي أَن يَجْعَل غَايَة للْحُرْمَة الْحَاصِلَة فِي الْمحل وَلَا حُرْمَة قبل اسْتِيفَاء عدد الطَّلَاق وَلَا تصور للغاية قبل وجود أصل الشَّيْء فَإِن الْمُنْتَهى بالغاية بعض الشَّيْء فَكيف يتَحَقَّق قبل وجود أَصله بل يكون وجود الزَّوْج الثَّانِي فِي هَذِه الْحَالة كَعَدَمِهِ وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رحمهمَا الله مَا تنَاوله هَذَا الْخَاص فَهُوَ غَايَة لما وضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 اللَّفْظ لَهُ وَهُوَ عقد الزَّوْج الثَّانِي فَإِن النِّكَاح وَإِن كَانَ حَقِيقَة للْوَطْء فقد يُطلق بِمَعْنى العقد وَالْمرَاد العقد هُنَا بِدَلِيل الْإِضَافَة إِلَى الْمَرْأَة وَإِنَّمَا يُضَاف إِلَيْهَا العقد لتحَقّق مُبَاشَرَته مِنْهَا وَلَا يُضَاف إِلَيْهَا الْوَطْء حَقِيقَة لِأَنَّهَا مَحل الْفِعْل لَا مُبَاشرَة للْوَطْء فَأَما شَرط الدُّخُول فأثبتناه بِحَدِيث مَشْهُور وَهُوَ مَا رُوِيَ أَن امْرَأَة رِفَاعَة جَاءَت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت إِن رِفَاعَة طَلقنِي فَبت طَلَاقي فَتزوّجت بِعَبْد الرَّحْمَن بن الزبير فَلم أجد مَعَه إِلَّا مثل هَذِه وأشارت إِلَى هدبة ثوبها كَانَت تتهمه بالعنة فَقَالَ أَتُرِيدِينَ أَن تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَة فَقَالَت نعم فَقَالَ لَا حَتَّى تَذُوقِي من عُسَيْلَته وَيَذُوق من عُسَيْلَتك فَفِي اشْتِرَاط الْوَطْء للعود إِشَارَة إِلَى السَّبَب الْمُوجب للْحلّ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لعن الله الْمُحَلّل والمحلل لَهُ وَلَا خلاف بَين الْعلمَاء أَن الْوَطْء من الزَّوْج الثَّانِي شَرط لحل الْعود إِلَى الأول بِهَذِهِ الْآثَار فَنحْن عَملنَا بِمَا هُوَ مُوجب أصل هَذَا الدَّلِيل بِصفتِهِ فجعلناه مُوجبا للْحلّ وهم أسقطوا اعْتِبَار هَذَا الْوَصْف من هَذَا الدَّلِيل اسْتِدْلَالا بِنَصّ لَيْسَ فِيهِ بَيَان أصل هَذَا الشَّرْط وَلَا صفته فَيكون هَذَا ترك الْعَمَل بِالدَّلِيلِ الْمُوجب لَهُ لَا عملا بِكُل خَاص فِيمَا هُوَ مَوْضُوع لَهُ لُغَة وَمن ذَلِك قَوْلنَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِن طَلقهَا فَلَا تحل لَهُ} لِأَن الْفَاء مَوْضُوع لُغَة للوصل والتعقيب فَذكره بعد الْخلْع الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى {فِيمَا افتدت بِهِ} يكون بَيَانا خَاصّا أَن إِيقَاع التطليقتين بعد الْخلْع مُتَّصِلا بِهِ يكون عَاملا مُوجبا حُرْمَة الْمحل بِخِلَاف مَا يَقُوله الْخصم إِن المختلعة لَا يلْحقهَا الطَّلَاق وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {الطَّلَاق مَرَّتَانِ} إِلَى قَوْله تَعَالَى {فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} فَفِي الْإِضَافَة إِلَيْهَا ثمَّ تَخْصِيص جَانبهَا بِالذكر بَيَان أَن الَّذِي يكون من جَانب الزَّوْج فِي الْخلْع عين مَا تنَاوله أول الْآيَة وَهُوَ الطَّلَاق لَا غَيره وَهُوَ الْفَسْخ فَجعل الْخلْع فسخا يكون ترك الْعَمَل بِهَذَا الْخَاص وَجعله طَلَاقا كَمَا هُوَ مُوجب هَذَا الْخَاص يكون عملا بالمنصوص هَذَا بَيَان الطَّرِيق فِيمَا يكون من هَذَا الْجِنْس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فصل فِي بَيَان حكم الْعَام قَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين مِمَّن لَا سلف لَهُم فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة حكمه الْوَقْف فِيهِ حَتَّى يتَبَيَّن المُرَاد مِنْهُ بِمَنْزِلَة الْمُشْتَرك أَو الْمُجْمل وَيُسمى هَؤُلَاءِ الواقفية إِلَّا أَن طَائِفَة مِنْهُم يَقُولُونَ يثبت بِهِ أخص الْخُصُوص وَفِيمَا وَرَاء ذَلِك الحكم هُوَ الْوَقْف حَتَّى يتَبَيَّن المُرَاد بِالدَّلِيلِ وَقَالَ الشَّافِعِي هُوَ مجْرى على عُمُومه مُوجب للْحكم فِيمَا تنَاوله مَعَ ضرب شُبْهَة فِيهِ لاحْتِمَال أَن يكون المُرَاد بِهِ الْخُصُوص فَلَا يُوجب الحكم قطعا بل على تجوز أَن يظْهر معنى الْخُصُوص فِيهِ لقِيَام الدَّلِيل بِمَنْزِلَة الْقيَاس فَإِنَّهُ يجب الْعَمَل بِهِ فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة لَا على أَن يكون مَقْطُوعًا بِهِ بل مَعَ تجوز احْتِمَال الْخَطَأ فِيهِ أَو الْغَلَط وَلِهَذَا جوز تَخْصِيص الْعَام بِالْقِيَاسِ ابْتِدَاء وبخبر الْوَاحِد فقد جعل الْقيَاس وَخبر الْوَاحِد الَّذِي لَا يُوجب الْعلم قطعا مقدما على مُوجب الْعَام حَتَّى جوز التَّخْصِيص بهما وَجعل الْخَاص أولى بالمصير إِلَيْهِ من الْعَام على هَذَا دلّت مسَائِله فَإِنَّهُ رجح خبر الْعَرَايَا على عُمُوم قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام التَّمْر بِالتَّمْرِ كَيْلا بكيل فِي حكم الْعَمَل بِهِ وَجعل هَذَا قولا وَاحِدًا لَهُ فِيمَا يحْتَمل الْعُمُوم وَفِيمَا لَا يحْتَمل الْعُمُوم لِانْعِدَامِ مَحَله فَقَالَ يجب الْعَمَل فيهمَا بِقدر الْإِمْكَان حَتَّى يقوم دَلِيل التَّخْصِيص على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا وَالْمذهب عندنَا أَن الْعَام مُوجب للْحكم فِيمَا يتَنَاوَلهُ قطعا بِمَنْزِلَة الْخَاص مُوجب للْحكم فِيمَا تنَاوله يَسْتَوِي فِي ذَلِك الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر إِلَّا فِيمَا لَا يُمكن اعْتِبَار الْعُمُوم فِيهِ لِانْعِدَامِ مَحَله فَحِينَئِذٍ يجب التَّوَقُّف إِلَى أَن يتَبَيَّن مَا هُوَ المُرَاد بِهِ بِبَيَان ظَاهر بِمَنْزِلَة الْمُجْمل فعلى هَذَا دلّت مسَائِل عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله قَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله فِي الزِّيَادَات إِذا أوصى بِخَاتم لرجل ثمَّ أوصى بفصه لآخر بعد ذَلِك فِي كَلَام مَقْطُوع فالحلقة للْمُوصى لَهُ بالخاتم والفص بَينهمَا نِصْفَانِ لِأَن الْإِيجَاب الثَّانِي فِي عين مَا أوجبه للْأولِ لَا يكون رُجُوعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 عَن الأول فيجتمع فِي الفص وصيتان إِحْدَاهمَا بِإِيجَاب عَام وَالْأُخْرَى بِإِيجَاب خَاص ثمَّ إِذا ثَبت الْمُسَاوَاة بَينهمَا فِي الحكم يَجْعَل الفص بَينهمَا نِصْفَيْنِ وَقَالَ فِي الْوَصَايَا لَو كَانَت الوصيتان بِهَذِهِ الصّفة فِي كَلَام مَوْصُول كَانَ الفص للْمُوصى لَهُ خَاصَّة لِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْكَلَام مَوْصُولا كَانَ آخِره بَيَانا لأوله فَيظْهر بِهِ أَن مُرَاده بِالْإِيجَابِ الْعَام الْحلقَة دون الفص وَقَالَ فِي الْمُضَاربَة إِذا اخْتلف الْمضَارب وَرب المَال فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص فَالْقَوْل قَول من يَدعِي الْعُمُوم أَيهمَا كَانَ فلولا الْمُسَاوَاة بَين الْخَاص وَالْعَام حكما فِيمَا يتَنَاوَلهُ لم يصر إِلَى التَّرْجِيح بِمُقْتَضى العقد قَالَ وَإِذا أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَة وأرخ كل مِنْهُمَا آخرهما تَارِيخا أولى سَوَاء كَانَ مُبينًا للْعُمُوم أَو الْخُصُوص فقد جعل الْعَام الْمُتَأَخر رَافعا للخاص الْمُتَقَدّم كَمَا جعل الْخَاص الْمُتَأَخر مُخَصّصا للعام الْمُتَقَدّم وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا بعد الْمُسَاوَاة وَظهر من مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله تَرْجِيح الْعَام على الْخَاص فِي الْعَمَل بِهِ نَحْو حفر بِئْر الناضح فَإِنَّهُ رجح قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من حفر بِئْرا فَلهُ مِمَّا حولهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعا على الْخَاص الْوَارِد فِي بِئْر الناضح أَنه سِتُّونَ ذِرَاعا فرجح قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام مَا أخرجت الأَرْض فَفِيهِ الْعشْر على الْخَاص الْوَارِد بقوله عَلَيْهِ السَّلَام لَيْسَ فِي الخضراوات صَدَقَة وَلَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة وَنسخ الْخَاص بِالْعَام أَيْضا كَمَا فعله فِي بَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمه فَإِنَّهُ جعل الْخَاص من حَدِيث العرنيين فِيهِ مَنْسُوخا بِالْعَام وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام استنزهوا عَن الْبَوْل فَإِن عَامَّة عَذَاب الْقَبْر مِنْهُ وَأكْثر مَشَايِخنَا رَحِمهم الله يَقُولُونَ أَيْضا إِن الْعَام الَّذِي لم يثبت خصوصه بِدَلِيل لَا يجوز تَخْصِيصه بِخَبَر الْوَاحِد وَلَا بِالْقِيَاسِ فزعموا أَن الْمَذْهَب هَذَا فَإِن قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب لَا يكون مُوجبا تَخْصِيص الْعُمُوم فِي قَوْله تَعَالَى {فاقرؤوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} حَتَّى لَا تتَعَيَّن قِرَاءَة الْفَاتِحَة فرضا وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ} عَام لم تَخْفِيفًا عَلَيْهِ فَلَا يجوز تَخْصِيصه بِخَبَر الْوَاحِد وَلَا بِالْقِيَاسِ (وَكَذَلِكَ قَوْله {وَمن دخله كَانَ آمنا} عَام لم يثبت تَخْصِيصه وَلَا يجوز تَخْصِيصه بِخَبَر الْوَاحِد يثبت خصومه فَإِن النَّاسِي جعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ذَاكِرًا حكما بطريقة إِقَامَة مِلَّته مقَام التَّسْمِيَة وَلَا بِالْقِيَاسِ) حَتَّى يثبت الْأَمْن بِسَبَب الْحرم الْمُبَاح الدَّم بِاعْتِبَار الْعُمُوم وَمَتى ثَبت التَّخْصِيص فِي الْعَام بدليله فَحِينَئِذٍ يجوز تَخْصِيصه بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس على مَا نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى أما الواقفون استدلوا بالاشتراك فِي الِاسْتِعْمَال فقد يسْتَعْمل لفظ الْعَام وَالْمرَاد بِهِ الْخَاص قَالَ تَعَالَى {الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس} وَالْمرَاد بِهِ رجل وَاحِد وَقد يسْتَعْمل لَفْظَة الْجَمَاعَة للفرد قَالَ تَعَالَى {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} وَقَالَ {رب ارْجِعُونِ} وَهَذَا فِي كَلَام الخطباء ونظم الشُّعَرَاء مَعْرُوف فَعِنْدَ الْإِطْلَاق يشْتَرك فِيهِ احْتِمَال الْعُمُوم وَاحْتِمَال الْخُصُوص فَيكون بِمَنْزِلَة الْمُشْتَرك يجب الْوَقْف فِيهِ حَتَّى يتَبَيَّن المُرَاد أَو نقُول لفظ الْعَام مُجمل فِي معرفَة المُرَاد بِهِ حَقِيقَة لاحْتِمَال أَن يكون المُرَاد بعض مَا تنَاوله وَذَلِكَ الْبَعْض لَا يُمكن مَعْرفَته بِالتَّأَمُّلِ فِي صِيغَة اللَّفْظ أَلا ترى أَنه يَسْتَقِيم أَن يقرن بِهِ على وَجه الْبَيَان وَالتَّفْسِير (مُطلق هَذَا اللَّفْظ) مَا هُوَ المُرَاد بِهِ من الْعُمُوم بِأَن نقُول جَاءَنِي الْقَوْم كلهم أَو أَجْمَعُونَ وَلَو كَانَ الْعُمُوم مُوجب مُطلق هَذَا اللَّفْظ لم يستقم تَفْسِيره بِلَفْظ آخر كالخاص فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيم أَن يقرن بِهِ مَا يكون ثَابتا بِمُوجبِه بِأَن يَقُول جَاءَنِي زيد كُله أَو جَمِيعه وَلما استقام ذَلِك فِي الْعَام عرفنَا أَنه غير مُوجب للإحاطة بِنَفسِهِ وَالْبَعْض الَّذِي هُوَ مُرَاد مِنْهُ غير مَعْلُوم فَيكون بِمَنْزِلَة الْمُجْمل وَالَّذين قَالُوا بأخص الْخُصُوص قَالُوا ذَلِك الْقدر يتَيَقَّن بِأَنَّهُ مُرَاد سَوَاء كَانَ المُرَاد الْخُصُوص أَو الْعُمُوم فللتيقن بِهِ جَعَلْنَاهُ مرَادا وَإِنَّمَا الْوَقْف فِيمَا وَرَاء ذَلِك وَبَيَانه أَن إِرَادَة الثَّلَاث من لفظ الْجَمَاعَة وَإِرَادَة الْوَاحِد من لفظ الْجِنْس مُتَيَقن بِهِ فمطلق اللَّفْظ فِي ذَلِك بِمَنْزِلَة الْإِحَاطَة عِنْد اقتران الْبَيَان بِاللَّفْظِ وَذَلِكَ مُوجب الْكَلَام فَكَذَلِك أخص الْخُصُوص مُوجب مُطلق لفظ الْعَام {اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} والاتباع لفظ خَاص فِي اللُّغَة بِمَعْنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وَالدَّلِيل لعامة الْفُقَهَاء على أَن الْعَام مُوجب الْعَمَل بِعُمُومِهِ قَوْله تَعَالَى مَعْلُوم وَفِي الْمنزل عَام وخاص فَيجب بِهَذَا الْخَاص اتِّبَاع جَمِيع الْمنزل والاتباع إِنَّمَا يكون بالاعتقاد وَالْعَمَل بِهِ وَلَيْسَ فِي التَّوَقُّف اتِّبَاع للمنزل فَعرفنَا أَن الْعَمَل وَاجِب بِجَمِيعِ مَا أنزل على مَا أوجبه صِيغَة الْكَلَام إِلَّا مَا يظْهر نسخه بِدَلِيل فقد ظهر الِاسْتِدْلَال بِالْعُمُومِ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على وَجه لَا يُمكن إِنْكَاره فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام حِين دَعَا أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاة فَلم يجبهُ بَين لَهُ خطأه فِيمَا صنع بالاستدلال بقوله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ} وَهَذَا عَام فَلَو كَانَ مُوجبه التَّوَقُّف على مَا زَعَمُوا لم يكن لاستدلاله عَلَيْهِ بِهِ معنى وَالصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي زمن الصّديق حِين خالفوه فِي الِابْتِدَاء فِي قتال مانعي الزَّكَاة استدلوا عَلَيْهِ بقوله عَلَيْهِ السَّلَام أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله وَهُوَ عَام ثمَّ اسْتدلَّ عَلَيْهِم بقوله تَعَالَى {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فَخلوا سبيلهم} فَرَجَعُوا إِلَى قَوْله وَهَذَا عَام وَحين أَرَادَ عمر رَضِي الله عَنهُ أَن يوظف الْجِزْيَة وَالْخَرَاج على أهل السوَاد اسْتدلَّ على من خَالفه فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى {وَالَّذين جاؤوا من بعدهمْ} وَقَالَ أرى لمن بعدكم فِي هَذَا الْفَيْء نَصِيبا وَلَو قسمته بَيْنكُم لم يبْق لمن بعدكم فِيهِ نصيب وَهَذِه الْآيَة فِي هَذَا الحكم نِهَايَة فِي الْعُمُوم وَلما هم عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ برجم الْمَرْأَة الَّتِي ولدت لسِتَّة أشهر اسْتدلَّ عَلَيْهِ ابْن عَبَّاس فَقَالَ أما إِنَّهَا لَو خاصمتكم بِكِتَاب الله لخصمتكم قَالَ الله تَعَالَى {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} وَقَالَ {وفصاله فِي عَاميْنِ} فَإِذا ذهب للفصال عامان بَقِي للْحَمْل سِتَّة أشهر وَهَذَا اسْتِدْلَال بِالْعَام وَحين اخْتلف عُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ وطئا بِملك الْيَمين قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَحَلَّتْهُمَا قَوْله تَعَالَى {أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم} وحرمتهما قَوْله تَعَالَى {وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ} فالأخذ بِمَا يحرم أولى احْتِيَاطًا فوافقه عُثْمَان فِي هَذَا إِلَّا أَنه قَالَ عِنْد تعَارض الدَّلِيلَيْنِ أرجح الْمُوجب للْحلّ بِاعْتِبَار الأَصْل وَحين اخْتلف عَليّ وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا إِذا كَانَت حَامِلا فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ تَعْتَد بأبعد الْأَجَليْنِ وَاسْتدلَّ بالآيتين قَوْله تَعَالَى {أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} وَقَوله تَعَالَى {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 قَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ من شَاءَ باهلته أَن سُورَة النِّسَاء الْقصرى نزلت بعد سُورَة النِّسَاء الطُّولى يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} نزلت بعد قَوْله تَعَالَى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} فاستدل بِهَذَا الْعَام على أَن عدتهَا بِوَضْع الْحمل لَا غير وَجعل الْخَاص فِي عدَّة الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا مَنْسُوخا بِهَذَا الْعَام فِي حق الْحَامِل وَاحْتج ابْن عمر على ابْن الزبير فِي التَّحْرِيم بالمصة والمصتين بقوله تَعَالَى {وأخواتكم من الرضَاعَة} وَاحْتج ابْن عَبَّاس على الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي الصّرْف بِعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْعُمُومِ الْمُوجب لحُرْمَة الرِّبَا من الْكتاب وَالسّنة فَرجع إِلَى قَوْلهم فَبِهَذَا تبين أَنهم اعتقدوا وجوب الْعَمَل بِالْعَام وإجراءه على عُمُومه وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول إِنَّهُم عرفُوا ذَلِك بِدَلِيل آخر من حَال شاهدوه أَو بِبَيَان سَمِعُوهُ لِأَن الْمَنْقُول احتجاج بَعضهم على بعض بِصِيغَة الْعُمُوم فَقَط وَفِي القَوْل بِمَا قَالَ هَذَا الْقَائِل تَعْطِيل الْمَنْقُول والإحالة على سَبَب آخر لم يعرف ثمَّ لُزُوم الْعَمَل بالمنزل حكم ثَابت إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَلَو كَانَ ذَلِك فِي حَقهم بِاعْتِبَار دَلِيل آخر مَا وسعهم ترك النَّقْل فِيهِ وَلَو نقلوا ذَلِك لظهر وانتشر يُؤَيّد مَا قُلْنَا حَدِيث أبي بكر رَضِي الله عَنهُ حِين بلغه اخْتِلَاف الصَّحَابَة فِي نقل الْأَخْبَار جمعهم فَقَالَ إِنَّكُم إِذا اختلفتم فَمن بعدكم يكون أَشد اخْتِلَافا الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ فِيكُم كتاب الله تَعَالَى فأحلوا حَلَاله وحرموا حرَامه وَلم يُخَالف أحد مِنْهُم فِي ذَلِك فَعرفنَا أَنهم عرفُوا المُرَاد بِعَين مَا هُوَ الْمَنْقُول إِلَيْنَا لَا بِدَلِيل آخر غير مَنْقُول إِلَيْنَا ثمَّ الْعُمُوم معنى مَقْصُود من الْكَلَام عَام بِمَنْزِلَة الْخُصُوص فَلَا بُد أَن يكون لَهُ لفظ مَوْضُوع يعرف الْمَقْصُود بذلك اللَّفْظ لِأَن الْأَلْفَاظ لَا تقصر عَن الْمعَانِي وَبَيَان هَذَا أَن الْمُتَكَلّم بِاللَّفْظِ الْخَاص لَهُ فِي ذَلِك مُرَاد لَا يحصل بِاللَّفْظِ الْعَام وَهُوَ تَخْصِيص الْفَرد بِشَيْء فَكَانَ لتَحْصِيل مُرَاده لفظ مَوْضُوع وَهُوَ الْخَاص والمتكلم بِاللَّفْظِ الْعَام بِمَعْنى الْعَام لَهُ مُرَاد فِي الْعُمُوم لَا يحصل ذَلِك بِاللَّفْظِ الْخَاص وَلَا يَتَيَسَّر عَلَيْهِ التَّنْصِيص على كل فَرد بِمَا هُوَ مُرَاد بِاللَّفْظِ فَإِن من أَرَادَ عتق جَمِيع عبيده فَإِنَّمَا يتَمَكَّن من تَحْصِيل هَذَا الْمَقْصُود بقوله عَبِيدِي أَحْرَار وَهَذَا لفظ عَام فَمن جعل مُوجبه الْوَقْف فَإِنَّهُ يشق على الْمُتَكَلّم بِأَن يحصل مَقْصُوده فِي الْعُمُوم بِاسْتِعْمَال صيغته وَمَا قَالُوا إِنَّه قد اسْتعْمل الْعَام بِمَعْنى الْخَاص قُلْنَا وَيسْتَعْمل أَيْضا بِمَعْنى الْإِحَاطَة على وَجه لَا يحْتَمل غَيره قَالَ تَعَالَى {أَن الله بِكُل شَيْء عليم} وَقَالَ تَعَالَى {إِن الله} الْعَام فَلَا بُد من أَن يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 لمراده لفظ مَوْضُوع لُغَة وَذَلِكَ صِيغَة الْعُمُوم {لَا يظلم مِثْقَال ذرة} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} فَهَذَا الِاسْتِعْمَال يمنعهُم عَن القَوْل بالتوقف فِي مُوجب الْعُمُوم ثمَّ الْعُمُوم بِهَذِهِ الصِّيغَة حَقِيقَة وَاحْتِمَال إِرَادَة الْمجَاز لَا يخرج الْحَقِيقَة من أَن تكون مُوجب مُطلق الْكَلَام أَلا ترى أَن بعد تعين الْإِحَاطَة فِيهِ بقوله تَعَالَى أَجْمَعُونَ أَو كلهم لَا يَنْتَفِي هَذَا الِاحْتِمَال من كل وَجه حَتَّى يَسْتَقِيم أَن يقرن بِهِ الِاسْتِثْنَاء قَالَ تَعَالَى {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيس} وَيَقُول الرجل جَاءَنِي الْقَوْم كلهم أَجْمَعُونَ إِلَّا فلَانا وَفُلَانًا ثمَّ هَذَا لَا يمْنَع القَوْل بِأَن مُوجبه الْإِحَاطَة فِيمَا تنَاوله فَكَذَلِك فِي مُطلق اللَّفْظ مَعَ أَنا لَا نقُول إِن مَا يقرن بِهِ يكون تَفْسِيرا وَلَكِن نقُول وَإِن كَانَ مُوجبه الْعُمُوم قطعا فَهُوَ غير مُحكم لاحْتِمَال إِرَادَة الْخُصُوص فِيهِ فَيصير بِمَا يقرن بِهِ محكما إِذا أطلق ذَلِك كَمَا فِي قَوْله جَاءَنِي الْقَوْم كلهم فَإِنَّهُ لَا يَنْفِي احْتِمَال الْخُصُوص بعد هَذَا إِذا لم يقرن بِهِ اسْتثِْنَاء يكون مغيرا لَهُ وَمثله فِي الْخَاص مَوْجُود فَإِن قَوْله جَاءَنِي فلَان خَاص مُوجب لما تنَاوله وَلكنه غير مُحكم فِيهِ لاحْتِمَال الْمجَاز فَإِذا قَالَ جَاءَنِي فلَان نَفسه يصير محكما وينتفي احْتِمَال الْمجَاز فِي أَن الَّذِي جَاءَهُ رَسُوله أَو عَبده أَو كِتَابه ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله أجعَل مُطلق الْعَام مُوجبا للْعَمَل فِيمَا تنَاوله وَلَكِن احْتِمَال الْخُصُوص فِيهِ قَائِم وَمَعَ الِاحْتِمَال لَا يصير مَقْطُوعًا بِهِ فَلَا أجعله مُوجبا للْعَمَل فِيمَا تنَاوله قطعا وَلَكنَّا نقُول المُرَاد بِمُطلق الْكَلَام مَا هُوَ الْحَقِيقَة فِيهِ والحقيقة مَا كَانَت الصِّيغَة مَوْضُوعَة لَهُ لُغَة وَهَذِه الصِّيغَة مَوْضُوعَة لمقصود الْعُمُوم فَكَانَت حَقِيقَة فِيهَا وَحَقِيقَة الشَّيْء ثَابت بِثُبُوتِهِ قطعا مَا لم يقم الدَّلِيل على مجازه كَمَا فِي لفظ الْخَاص فَإِن مَا هُوَ حَقِيقَة فِيهِ يكون ثَابتا بِهِ قطعا حَتَّى يقوم الدَّلِيل على صرفه إِلَى الْمجَاز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 فَإِن قَالَ قَائِل إِن الْخَاص أَيْضا لَا يُوجب مُوجبه قطعا لاحْتِمَال إِرَادَة الْمجَاز مِنْهُ وَإِنَّمَا يُوجب مُوجبه ظَاهرا مَا لم يتَبَيَّن أَنه لَيْسَ المُرَاد بِهِ الْمجَاز بِدَلِيل آخر بِمَنْزِلَة النَّص فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن بَقَاء الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ يكون ظَاهرا لَا مَقْطُوعًا بِهِ لاحْتِمَال النّسخ وَإِن لم يظْهر النَّاسِخ بعد قُلْنَا هَذَا فَاسد لِأَن مُرَاد الْمُتَكَلّم بالْكلَام مَا هُوَ مَوْضُوع لَهُ حَقِيقَة هَذَا مَعْلُوم وَإِرَادَة الْمجَاز موهوم والموهوم لَا يُعَارض الْمَعْلُوم وَلَا يُؤثر فِي حكمه وَكَذَلِكَ الْمجَاز لَا يُعَارض الْحَقِيقَة بل ثُبُوت الْمجَاز بِإِرَادَة الْمُتَكَلّم لَا بِصِيغَة الْكَلَام وَهِي إِرَادَة ناقلة للْكَلَام عَن حَقِيقَته فَمَا لم يظْهر النَّاقِل بدليله يثبت حكم الْكَلَام مَقْطُوعًا بِهِ بِمَنْزِلَة النَّص الْمُطلق يُوجب الحكم قطعا وَإِن احْتمل التَّغْيِير بِشَرْط تعلقه بِهِ أَو قيد بقيده وَلَكِن ذَلِك ناقل للْكَلَام عَن حَقِيقَته فَمَا لم يظْهر كَانَ حكم الْكَلَام ثَابتا قطعا بِخِلَاف النَّص فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن النَّص يُوجب الحكم فَأَما بَقَاء الحكم لَيْسَ من مُوجبَات النَّص وَلَكِن مَا ثَبت فَالْأَصْل فِيهِ الْبَقَاء حَتَّى يظْهر الدَّلِيل المزيل فَكَانَ بَقَاؤُهُ لنَوْع من اسْتِصْحَاب الْحَال وَعدم النَّاسِخ وَهَذَا الْمَعْدُوم غير مَقْطُوع بِهِ فَلهَذَا لَا يكون بَقَاء الحكم مَقْطُوعًا بِهِ فِي ذَلِك الْوَقْت حَتَّى إِن بعد وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما انْقَطع احْتِمَال النّسخ كَانَ الحكم الَّذِي لم يظْهر ناسخه بَاقِيا قطعا فَإِن قيل فَكَذَلِك عدم إِرَادَة الْمُتَكَلّم للمجاز لَيْسَ بِمَعْلُوم قطعا بل هُوَ ثَابت بِنَوْع من الظَّاهِر بِمَنْزِلَة عدم النَّاسِخ فِي ذَلِك الْوَقْت بِخِلَاف الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء فانعدامهما ثَابت بِالنَّصِّ لِأَن الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء يكون مُقَارنًا للنَّص فالإطلاق فِيهِ على وَجه يكون ساكتا عَن ذكر الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء تنصيص على عدم الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء قُلْنَا نعم وَلَكِن الْإِرَادَة الْمُغيرَة للخاص عَن حَقِيقَته يكون فِي بَاطِن الْمُتَكَلّم وَهُوَ غيب عَنَّا وَلَيْسَ فِي وسعنا الْوُقُوف على ذَلِك وَإِنَّمَا يثبت التَّكْلِيف شرعا بِحَسب الوسع فَمَا لَيْسَ فِي وسعنا الْوُقُوف عَلَيْهِ لَا يكون مُعْتَبرا أصلا إِلَى أَن يظْهر بدليله وَعند ظُهُوره بدليله يَجْعَل ثَابتا ابْتِدَاء فَقبل الظُّهُور يكون حكم الْخَاص ثَابتا قطعا وَهُوَ بِمَنْزِلَة خطاب الشَّرْع لَا يُوجب الحكم فِي حق الْمُخَاطب مَا لم يسمع بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وَسعه الْعَمَل بِهِ قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 السماع وَعند السماع يثبت الحكم فِي حَقه ابْتِدَاء كَأَن الْخطاب نزل الْآن وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لامْرَأَته إِن كنت تحبينني فَأَنت طَالِق أَو قَالَ إِن كنت تحبين النَّار فَأَنت طَالِق فَقَالَت أَنا أحب ذَلِك يَقع الطَّلَاق لِأَن حَقِيقَة الْمحبَّة والبغض فِي بَاطِنهَا وَلَا طَرِيق لنا إِلَى مَعْرفَته فَلَا يتَعَلَّق الطَّلَاق بحقيقته وَلَكِن طَرِيق معرفتنا فِي الظَّاهِر إخبارها فَيجْعَل الزَّوْج مُعَلّقا الطَّلَاق بإخبارها حكما فَإِذا قَالَت أحب يَقع الطَّلَاق لوُجُود مَا هُوَ الشَّرْط حَقِيقَة وَهُوَ الْخَبَر فَإِن الْخَبَر يحْتَمل الصدْق وَالْكذب وَإِذا ثَبت هَذَا فِي الْخَاص فَكَذَلِك فِي الْعَام فَإِن احْتِمَال الْخُصُوص بَاطِن وَهُوَ غيب عَنَّا مَا لم يظْهر بدليله فَقبل ظُهُوره يكون مُوجبا الحكم فِيمَا تنَاوله قطعا إِلَّا أَن الشَّافِعِي يَقُول مَعَ هَذَا احْتِمَال إِرَادَة الْخُصُوص لم يَنْعَدِم وَلَكِن لَيْسَ فِي وسعنا الْوُقُوف عَلَيْهِ عِنْد الْخطاب فَنَجْعَل الْعَام مُوجبا الحكم فِيمَا تنَاوله عملا وَلَا نجعله مُوجبا للْحكم قطعا فِيمَا يرجع إِلَى الْعلم بِهِ لبَقَاء احْتِمَال الْخُصُوص وَهَكَذَا أَقُول فِي الْخَاص الْإِرَادَة الْمُغيرَة فِيهَا احْتِمَال إِلَّا أَن ذَلِك مَانع عَن ثُبُوت حكم الْحَقِيقَة عملا بِهِ فَيكون فِي معنى النَّاسِخ الَّذِي هُوَ مبدل للْحكم أصلا والناسخ لَا يكون مقترنا بِالنَّصِّ الْمُوجب للْحكم بل إِنَّمَا يرد النّسخ على الْبَقَاء فَكَذَلِك فِي الْخَاص أجعَل ظُهُور إِرَادَة الْمجَاز بدليله عَاملا ابْتِدَاء فَقبل ظُهُوره يكون حكم الْخَاص ثَابتا قطعا وَأما إِرَادَة الْخُصُوص لَا يكون رَافعا للْحكم أصلا فَيبقى مُعْتَبرا مَعَ وجود الْعَمَل بِالْعَام فَلَا يثبت الْعلم بِمُوجبِه قطعا وعَلى هَذَا نقُول فِي قَوْله إِن كنت تحبينني إِنَّه يَقع الطَّلَاق إِذا أخْبرت بِهِ لِأَن مَا لَيْسَ فِي وَسعه الْوُقُوف عَلَيْهِ وَهُوَ حَقِيقَة الْمحبَّة والبغض بِحَال فَيسْقط اعْتِبَاره فِي حكم الْعَمَل وَلَو قَالَ إِن كنت تحبين النَّار فَأَنت طَالِق فَقَالَت أحب لَا يَقع الطَّلَاق لِأَن كذبهَا هَهُنَا مَعْلُوم قطعا فَإِن أحدا مِمَّن لَهُ طبع سليم لَا يحب النَّار وَيكون هَذَا بِمَنْزِلَة الْعَام الَّذِي لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال الْخُصُوص كَقَوْلِه تَعَالَى {أَن الله بِكُل شَيْء عليم} فَإِن حَقِيقَة الْمُوجب بِمثل هَذَا الْعَام مَعْلُوم قطعا بِخِلَاف الْعَام الَّذِي هُوَ مُحْتَمل الْخُصُوص وَلَكِن الْجَواب عَنهُ أَن نقُول كَمَا أَن الله تَعَالَى لم يكلفنا مَا لَيْسَ فِي وسعنا فقد أسقط عَنَّا مَا فِيهِ حرج علينا كَمَا قَالَ تَعَالَى {مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج} وَفِي اعْتِبَار الْإِرَادَة الْبَاطِنَة فِي الْعَام الَّذِي هُوَ مُحْتَمل لَهَا نوع حرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 فالتمييز بَين مَا هُوَ مُرَاد الْمُتَكَلّم وَبَين مَا لَيْسَ بِمُرَاد لَهُ قبل أَن يظْهر دَلِيله فِيهِ حرج عَظِيم وَسقط اعْتِبَاره شرعا ويقام السَّبَب الظَّاهِر الدَّال على مُرَاده وَهُوَ صِيغَة الْعُمُوم مقَام حَقِيقَة الْبَاطِن الَّذِي لَا يتَوَصَّل إِلَيْهِ إِلَّا بحرج أَلا ترى أَن خطاب الشَّرْع يتَوَجَّه على الْمَرْء إِذا اعتدل حَاله وَلَكِن اعْتِدَال الْحَال أَمر بَاطِن وَله سَبَب ظَاهر من حَيْثُ الْعَادة وَهُوَ الْبلُوغ عَن عقل فَأَقَامَ الشَّرْع هَذَا السَّبَب الظَّاهِر مقَام ذَلِك الْمَعْنى الْبَاطِن للتيسير ثمَّ دَار الحكم مَعَه وجودا وعدما حَتَّى إِنَّه وَإِن اعتدل حَاله قبل الْبلُوغ يَجْعَل ذَلِك كَالْمَعْدُومِ حكما فِي (حق) توجه الْخطاب عَلَيْهِ وَلَو لم يعتدل حَاله بعد الْبلُوغ عَن عقل كَانَ الْخطاب مُتَوَجها أَيْضا لهَذَا الْمَعْنى وَمن نظر عَن إنصاف لَا يشكل عَلَيْهِ أَن الْحَرج فِي التَّأَمُّل فِي إِرَادَة الْمُتَكَلّم ليتميز بِهِ مَا هُوَ مُرَاد لَهُ مِمَّا لَيْسَ بِمُرَاد فَوق الْحَرج بِالتَّأَمُّلِ فِي أَحْوَال الصّبيان ليتوقف على اعْتِدَال حَالهم وَهَذَا أصل كَبِير فِي الْفِقْه فَإِن الرُّخْصَة بِسَبَب السّفر تثبت لدفع الْمَشَقَّة كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر} ثمَّ حَقِيقَة الْمَشَقَّة بَاطِن تخْتَلف فِيهِ أَحْوَال النَّاس وَله سَبَب ظَاهر وَهُوَ السّير المديد فَأَقَامَ الشَّرْع هَذَا السَّبَب مقَام حَقِيقَة ذَلِك الْمَعْنى وَأسْقط وجود حَقِيقَة الْمَشَقَّة فِي حق الْمُقِيم لِانْعِدَامِ السَّبَب الظَّاهِر إِلَّا إِذا تحققت الضَّرُورَة عِنْد خوف الْهَلَاك على نَفسه فَذَلِك أَمر وَرَاء الْمَشَقَّة وَأثبت الحكم عِنْد وجود السَّبَب الظَّاهِر وَإِن لم تلْحقهُ الْمَشَقَّة حَقِيقَة وَكَذَلِكَ الِاسْتِبْرَاء فَإِنَّهُ يجب التَّحَرُّز عَن خلط الْمِيَاه المحترمة إِلَّا أَن ذَلِك بَاطِن وَله سَبَب ظَاهر وَهُوَ استحداث ملك الْوَطْء بِملك الْيَمين لِأَن زَوَال ملك الْيَمين لَا يُوجب مَا يسْتَدلّ بِهِ على بَرَاءَة الرَّحِم من عدَّة أَو اسْتِبْرَاء فَأَقَامَ الشَّرْع استحداث ملك الْوَطْء بِملك الْيَمين مقَام الْمَعْنى الْبَاطِن وَهُوَ اشْتِغَال الرَّحِم بِالْمَاءِ فِي حق وجوب التَّحَرُّز عَن الْخَلْط بالاستبراء وَلِهَذَا قُلْنَا لَو اشْتَرَاهَا من صبي أَو امْرَأَة أَو اشْتَرَاهَا وَهِي بكر أَو حَاضَت عِنْد البَائِع بعد الْوَطْء قبل أَن يَبِيعهَا يجب الِاسْتِبْرَاء لاعْتِبَار السَّبَب الظَّاهِر وَلِهَذَا قُلْنَا فِي النِّكَاح لَا يجب الِاسْتِبْرَاء وَإِن علم أَنَّهَا وطِئت قبل أَن يَتَزَوَّجهَا وطئا محرما بِأَن تزوج أمة كَانَ قد وَطئهَا قبل أَن يَتَزَوَّجهَا لِأَن الأَصْل فِي النِّكَاح الْحرَّة فَإِن الرّقّ عَارض والازدواج بَين الشخصين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 بِاعْتِبَار الأَصْل وَبِاعْتِبَار صفة الْحُرْمَة زَوَال ملك الْوَطْء عَن الْحرَّة يعقب عدَّة مُوجبَة بَرَاءَة الرَّحِم فَلَا تقع الْحَاجة إِلَى إِقَامَة استحداث ملك الْوَطْء بِالنِّكَاحِ مقَام حَقِيقَة اشْتِغَال الرَّحِم فِي إِيجَاب الِاسْتِبْرَاء للتحرز عَن الْخَلْط وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق السَّاعَة إِن كَانَ فِي علم الله أَن فلَانا يقدم إِلَى شهر فَقدم فلَان بعد تَمام الشَّهْر يَقع الطَّلَاق عَلَيْهَا عِنْد الْقدوم ابْتِدَاء بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ أَنْت طَالِق السَّاعَة إِن قدم فلَان إِلَى شهر وَمَعْلُوم أَن بعد قدومه قد تبين أَنه كَانَ فِي علم الله قدومه إِلَى شهر وَأَن التَّعْلِيق كَانَ بِشَرْط مَوْجُود حَقِيقَة وَلَكِن لما لم يكن لنا طَرِيق الْوُقُوف عَلَيْهِ إِلَّا بعد الْقدوم صَار الْقدوم الَّذِي بِهِ يتَبَيَّن لنا شرطا لوُقُوع الطَّلَاق (فَيَقَع الطَّلَاق) عِنْده ابْتِدَاء بِخِلَاف مَا لَو قَالَ أَنْت طَالِق السَّاعَة إِن كَانَ زيد فِي الدَّار ثمَّ علم بعد شهر أَن زيدا فِي الدَّار يَوْمئِذٍ فَإِنَّهُ يكون الطَّلَاق وَاقعا من حِين تكلم بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ لنا طَرِيق إِلَى الْوُقُوف على مَا جعله شرطا حَقِيقَة فَلَا يُقَام ظُهُوره عندنَا مقَام حَقِيقَته وَلَكِن تبين عِنْد ظُهُوره أَن الطَّلَاق كَانَ وَاقعا لِأَنَّهُ علقه بِشَرْط مَوْجُود وَالَّذِي تحقق مَا ذكرنَا أَن صَاحب الشَّرْع خاطبنا بِلِسَان الْعَرَب فَإِنَّمَا يفهم من خطاب الشَّرْع مَا يفهم من مخاطبات النَّاس فِيمَا بَينهم وَمن يَقُول لعَبْدِهِ أعْط هَذِه الْمِائَة الدِّرْهَم هَؤُلَاءِ بِالسَّوِيَّةِ وهم مائَة نفر نعلم قطعا أَن مُرَاده إِعْطَاء كل وَاحِد مِنْهُم درهما بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ أعْط كل وَاحِد مِنْهُم درهما وَكَذَلِكَ يفهم من الْخَاص وَالْعَام فِي مخاطبات الشَّرْع الحكم قطعا فِيمَا تنَاوله كل وَاحِد مِنْهُمَا وَمن قَالَ لغيره لَا تعْتق عَبدِي سالما ثمَّ قَالَ أعتق الْبيض من عَبِيدِي وَسَالم بِهَذِهِ الصّفة فَإِنَّهُ يكون لَهُ أَن يعتقهُ وبإعتاقه يكون ممتثلا لِلْأَمْرِ لَا مرتكبا للنَّهْي فَكَذَلِك نقُول فِي الْعَام الْمُتَأَخر فِي خطاب الشَّرْع إِنَّه يكون قَاضِيا فِيمَا تنَاوله على الْخَاص فَإِذا كَانَ حكم الْخَاص ثَابتا قطعا فِيمَا تنَاوله فَلَا بُد من أَن يكون الْعَام كَذَلِك ليَكُون قَاضِيا عَلَيْهِ فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن تَخْصِيص الْعَام بِالْقِيَاسِ وَخبر الْوَاحِد جَائِز وَمَعْلُوم أَن الْقيَاس وَخبر الْوَاحِد لَا يُوجب الْعلم قطعا فَكيف يكون رَافعا للْحكم الثَّابِت قطعا بِصِيغَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الْعُمُوم إِذا كَانَت هَذِه الصِّيغَة توجب مُوجبهَا قطعا قُلْنَا مثل هَذَا يلزمك فِي الْخَاص فَإِن صرفه عَن الْحَقِيقَة إِلَى الْمجَاز بِالْقِيَاسِ وَخبر الْوَاحِد جَائِز ثمَّ الْجَواب على مَا اخْتَارَهُ أَكثر مَشَايِخنَا رَحِمهم الله أَن تَخْصِيص الْعَام الَّذِي لم يثبت خصوصه ابْتِدَاء لَا يجوز بِالْقِيَاسِ (وَخبر الْوَاحِد) وَإِنَّمَا يجوز ذَلِك فِي الْعَام الَّذِي ثَبت خصوصه بِدَلِيل مُوجب من الحكم مثل مَا يُوجِبهُ الْعَام وَهُوَ خبر متأيد بالاستفاضة أَو مَشْهُور فِيمَا بَين السّلف أَو إِجْمَاع فَعِنْدَ وجود ذَلِك يتَبَيَّن بِالْقِيَاسِ وَخبر الْوَاحِد مَا هُوَ المُرَاد بِصِيغَة الْعَام بعد أَن خرج من أَن يكون مُوجبا للْحكم فِيمَا يتَنَاوَلهُ قطعا على مَا نبينه فِي فصل الْعَام إِذا دخله خُصُوص وَهَذَا لِأَن مَا أوجبه الْقيَاس أَو خبر الْوَاحِد يحْتَمل أَن يكون فِي جملَة مَا تنَاوله دَلِيل الْخُصُوص وَيحْتَمل أَن يكون فِي جملَة مَا تنَاوله صِيغَة الْعَام فَإِنَّمَا يرجح بِالْقِيَاسِ وَخبر الْوَاحِد أحد الِاحْتِمَالَيْنِ فَإِن قيل مَا ذهبت إِلَيْهِ أولى فَإِن الأَصْل هُوَ وجوب الْعَمَل بالأدلة الشَّرْعِيَّة مَا أمكن وَذَلِكَ فِي تَرْتِيب الْعَام على الْخَاص كَمَا قلت لَا فِي رفع الْخَاص بِالْعَام كَمَا قُلْتُمْ فَإِن من أثبت التَّعَارُض بَين الْخَاص وَالْعَام ترك الْعَمَل بالخاص أصلا وببعض مَا تنَاوله الْعَام وَمن قَالَ بترتيب الْعَام على الْخَاص هُوَ عَامل بِحَقِيقَة الْخَاص وبالعام أَيْضا فِيمَا تنَاوله بِحَسب الْإِمْكَان فَيكون هَذَا أولى بالمصير إِلَيْهِ قُلْنَا هَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيم بعد ثُبُوت الْإِمْكَان وَبعد مَا قَررنَا أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُوجب فِيمَا تنَاوله الحكم قطعا لَا إِمْكَان أَرَأَيْت لَو قَالَ قَائِل أَنا أعمل بِالْعَام فِي كل مَا تنَاوله وأحمل الْخَاص على الْمجَاز فأعمل بِهِ وَبِهَذَا الطَّرِيق يكون هَذَا عملا مِنْهُ بالدليلين لَا فَكَذَلِك قَوْلك أَنا أعمل بالخاص وأترك مُوجب الْعَام فِيمَا تنَاوله (لَا يكون) عملا بهما مَعَ أَن مُوجب الدَّلِيل لَيْسَ كُله الْعَمَل بِهِ بل الْعَمَل بِهِ والمدافعة بِهِ عِنْد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 التَّعَارُض بِمَنْزِلَة الشَّهَادَات فِي الْخُصُومَات بَين الْعباد فإثبات المدافعة عِنْد الْمُعَارضَة بَين الْخَاص وَالْعَام على مَا اقْتَضَاهُ مُوجب كل وَاحِد مِنْهُمَا لَا يكون تركا للْعَمَل بِأَحَدِهِمَا ثمَّ سوى الشَّافِعِي رَحمَه الله فِيمَا أثْبته من حكم الْعُمُوم بَين مَا يحْتَمل الْعُمُوم وَبَين مَا لَا يحْتَملهُ لعدم مَحَله فِيمَا هُوَ الْمُحْتَمل فَجعل كل وَاحِد مِنْهُمَا حجَّة لإِثْبَات الحكم مَعَ ضرب شُبْهَة وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَا يَسْتَوِي أَصْحَاب النَّار وَأَصْحَاب الْجنَّة} وَقَالَ تَعَالَى {أَفَمَن كَانَ مُؤمنا كمن كَانَ فَاسِقًا لَا يستوون} وَقَالَ تَعَالَى {قل هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ} فَإِن نفي الْمُسَاوَاة بَينهمَا على الْعُمُوم غير مُحْتَمل لعلمنا بالمساواة بَينهمَا فِي حكم الْوُجُود والإنسانية والبشرية وَالصُّورَة فَقَالَ مَعَ هَذَا الْعلم يكون هَذَا الْعَام حجَّة فِيمَا هُوَ الْمُمكن حَتَّى لَا يسوى بَين الْكَافِر وَالْمُؤمن فِي حكم الْقصاص وَفِي حكم شِرَاء العَبْد الْمُسلم وَلَا يشاكله لِأَن الْعَمَل بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيّ وَاجِب بِحَسب الْإِمْكَان وانعدام الْإِمْكَان فِيمَا لَا يحْتَملهُ بِمَنْزِلَة دَلِيل الْخُصُوص شرعا فَكَمَا أَن دَلِيل الْخُصُوص فِيمَا يحْتَمل الْعُمُوم لَا يخرج الْعَام بِصِيغَة الْعَام من الحكم فِيمَا يثبت من أَن يكون حجَّة فِيمَا وَرَاء ذَلِك فَكَذَلِك عدم احْتِمَال الْعُمُوم حسا لَا يخرج الْعَام من أَن يكون حجَّة فِيمَا يحْتَملهُ وَحَاصِل مذْهبه أَنه يُسَوِّي بَين مُحْتَمل الْحَال وَبَين مُحْتَمل اللَّفْظ فِيمَا يثبت بِصِيغَة الْعَام من الحكم وَفِيمَا يثبت من الشُّبْهَة الْمَانِعَة من الْعلم بِهِ قطعا وَنحن نقُول فِيمَا ذهب إِلَيْهِ تحقق الْحَرج الَّذِي هُوَ مَدْفُوع وَهُوَ الْوُقُوف على مُرَاد الْمُتَكَلّم ليعْمَل بِهِ فِيمَا يحْتَمل الْعُمُوم وَاعْتِبَار الْإِرَادَة الْمُغيرَة للْعُمُوم عَن حَقِيقَتهَا فِيمَا يحْتَمل الْعُمُوم حَتَّى لَا يكون مُوجبا قطعا فِيمَا تنَاوله وَقد بَينا أَن ذَلِك لَا يجوز شرعا وَبِه تبين فَسَاد التَّسْوِيَة بَين مُحْتَمل الْحَال وَبَين مُحْتَمل اللَّفْظ وَتبين أَن مُوجب الْعُمُوم لَا يثبت فِيمَا لَا يُمكن الْعَمَل بِعُمُومِهِ لِانْعِدَامِ مَحل الْعُمُوم وسنقرر هَذَا فِي الْفَصْل الَّذِي يَأْتِي وَهُوَ الْعَام إِذا خصص مِنْهُ شَيْء وَإِنَّمَا سوينا فِي مُوجب الْعَام بَين الْخَبَر وَالْأَمر وَالنَّهْي لِأَن ذَلِك حكم صِيغَة الْعُمُوم وَهَذِه الصِّيغَة متحققة فِي الْأَخْبَار كَمَا فِي الْأَمر وَالنَّهْي وَالله أعلم بِالصَّوَابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 فصل فِي بَيَان حكم الْعَام إِذا خصص مِنْهُ شَيْء قَالَ رَضِي الله عَنهُ (وَعَن وَالِديهِ كَانَ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي رَحمَه الله يَقُول من عِنْد نَفسه لَا على سَبِيل الْحِكَايَة عَن السّلف الْعَام إِذا لحقه خُصُوص لَا يبْقى حجَّة بل يجب التَّوَقُّف فِيهِ إِلَى الْبَيَان سَوَاء كَانَ دَلِيل الْخُصُوص مَعْلُوما أَو مَجْهُولا إِلَّا أَنه يجب بِهِ أخص الْخُصُوص إِذا كَانَ مَعْلُوما وَقَالَ بَعضهم إِذا خص مِنْهُ شَيْء مَجْهُول فَكَذَلِك الْجَواب وَإِن خص مِنْهُ شَيْء مَعْلُوم فَإِنَّهُ يبْقى مُوجبا الحكم فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص قطعا وَقَالَ بَعضهم هَكَذَا فِيمَا إِذا خص شَيْء مَعْلُوم وَإِن خص مِنْهُ شَيْء مَجْهُول يسْقط دَلِيل الْخُصُوص وَيبقى الْعَام مُوجبا حكمه كَمَا كَانَ قبل دَلِيل الْخُصُوص قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالصَّحِيح عِنْدِي أَن الْمَذْهَب عِنْد عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله فِي الْعَام إِذا لحقه خُصُوص يبْقى حجَّة فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص سَوَاء كَانَ الْمَخْصُوص مَجْهُولا أَو مَعْلُوما إِلَّا أَن فِيهِ شُبْهَة حَتَّى لَا يكون مُوجبا قطعا ويقينا بِمَنْزِلَة مَا قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي مُوجب الْعَام قبل الْخُصُوص وَالدَّلِيل على أَن الْمَذْهَب هَذَا أَن أَبَا حنيفَة رَضِي الله عَنهُ اسْتدلَّ على فَسَاد البيع بِالشّرطِ بنهي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع وَشرط وَهَذَا عَام دخله خُصُوص وَاحْتج على اسْتِحْقَاق الشُّفْعَة بالجوار إِذا كَانَ عَن ملاصقة بقول النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام الْجَار أَحَق بصقبه وَهَذَا عَام قد دخله خُصُوص وَاسْتدلَّ مُحَمَّد على فَسَاد بيع الْعقار قبل الْقَبْض بنهيه عَلَيْهِ السَّلَام عَن بيع مَا لم يقبض وَهُوَ عَام لحقه خُصُوص وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله خص هَذَا الْعَام بِالْقِيَاسِ فَعرفنَا أَنه حجَّة للْعَمَل من غير أَن يكون مُوجبا قطعا لِأَن الْقيَاس لَا يكون مُوجبا قطعا فَكيف يصلح أَن يكون مُعَارضا لما يكون مُوجبا قطعا وَتبين أَن هَذَا الْعَام دون الْخَبَر الْوَاحِد لِأَن الْقيَاس لَا يصلح مُعَارضا للْخَبَر الْوَاحِد عندنَا وَلِهَذَا أَخذنَا بالْخبر الْوَاحِد الْمُوجب للْوُضُوء عِنْد القهقهة فِي الصَّلَاة وَتَركنَا الْقيَاس بِهِ وَأَبُو حنيفَة أَخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 بِخَبَر الْوَاحِد فِي الْوضُوء بنبيذ التَّمْر وَترك الْقيَاس بِهِ ثمَّ إِن خبر الْوَاحِد لَا يُوجب الْعلم قطعا فَمَا هُوَ دونه أولى وَأما الْكَرْخِي احْتج وَقَالَ الْخُصُوص الَّذِي يلْحق الْعَام يسلب حَقِيقَته فَيصير مجَازًا ومجازه فِي مُرَاد الْمُتَكَلّم وَذَلِكَ لَا يتَبَيَّن إِلَّا بِبَيَان من جِهَته فَصَارَ مُجملا يجب التَّوَقُّف فِيهِ إِلَى الْبَيَان بِمَنْزِلَة صِيغَة الْعُمُوم فِيمَا لَا يحْتَمل الْعُمُوم نَحْو قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير} فَإِنَّهُ لما انْتَفَى حَقِيقَة الْعُمُوم فِيهِ لم يكن حجَّة بِدُونِ الْبَيَان فَكَذَلِك هَذَا وَهَذَا لِأَنَّهُ لَو بَقِي حجَّة فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص كَانَ حَقِيقَة وَلَا وَجه للْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي لفظ وَاحِد إِلَّا أَن يكون أخص الْخُصُوص مِنْهُ مَعْلُوما فَيكون ثَابتا بِهِ لكَونه متيقنا كَالَّذي يقوم فِيهِ دَلِيل الْبَيَان فِيمَا لَا يُمكن الْعَمَل فِيهِ بِحَقِيقَة الْعُمُوم وَلِأَن دَلِيل الْخُصُوص بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء فَإِنَّهُ يتَبَيَّن بِهِ أَن الْمَخْصُوص لم يكن دَاخِلا فِيمَا هُوَ المُرَاد بالْكلَام كَمَا يتَبَيَّن بِالِاسْتِثْنَاءِ أَن الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاءه وَلِهَذَا لَا يكون دَلِيل الْخُصُوص إِلَّا مُقَارنًا فَأَما مَا يكون طارئا فَهُوَ دَلِيل النّسخ لَا دَلِيل الْخُصُوص وَإِن كَانَ الْمُسْتَثْنى مَجْهُولا يصير مَا وَرَاءه بجهالته مَجْهُولا كَمَا أَن الْمُسْتَثْنى إِذا تمكن فِيهِ شكّ يصير مَا وَرَاءه مشكوكا فِيهِ حَتَّى إِذا قَالَ مماليكي أَحْرَار إِلَّا سالما وبزيغا لم يعْتق وَاحِد مِنْهُمَا وَإِن كَانَ الْمُسْتَثْنى أَحدهمَا لِأَنَّهُ مَشْكُوك فِيهِ فَيثبت حكم الشَّك فيهمَا وَإِذا صَار مَا بَقِي مَجْهُولا لم يصلح حجَّة بِنَفسِهِ بل يجب الْوَقْف فِيهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير} وَكَذَلِكَ إِن كَانَ دَلِيل الْخُصُوص مَعْلُوما لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون معلولا وَهُوَ الظَّاهِر فَإِن دَلِيل الْخُصُوص نَص على حِدة فَيكون قَابلا للتَّعْلِيل مَا لم يمْنَع مَانع من ذَلِك وبالتعليل لَا نَدْرِي أَن حكم الْخُصُوص إِلَى أَي مِقْدَار يتَعَدَّى فَيبقى مَا وَرَاءه مَجْهُولا أَيْضا وعَلى مَا قَالَه الْكَرْخِي يسْقط الِاحْتِجَاج بِأَكْثَرَ العمومات لِأَن أَكثر العمومات قد خص مِنْهَا شَيْء وَهَذَا خلاف مَا حكينا من مَذْهَب السّلف فِي الصَّدْر الأول فَإِنَّهُم احْتَجُّوا بالعمومات الَّتِي يلْحقهَا (خُصُوص كَمَا احْتَجُّوا بالعمومات الَّتِي لم يلْحقهَا خُصُوص ودعواه أَنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 يصير بِهِ مجَازًا كَلَام لَا) معنى لَهُ فَإِن الْحَقِيقَة مَا يكون مُسْتَعْملا فِي مَوْضُوعه وَالْمجَاز مَا يكون معدولا بِهِ عَن مَوْضُوعه وَإِذا كَانَ صِيغَة الْعُمُوم يتَنَاوَل الثَّلَاثَة حَقِيقَة كَمَا يتَنَاوَل الْمِائَة وَالْألف وَأكْثر من ذَلِك فَإِذا خص الْبَعْض من هَذِه الصِّيغَة كَيفَ يكون مجَازًا فِيمَا وَرَاءه وَهُوَ حَقِيقَة فِيهِ فَإِن قيل الْبَعْض غير الْكل من هَذِه الصِّيغَة وَإِذا كَانَ حَقِيقَة هَذِه الصِّيغَة للْكُلّ فَإِذا أُرِيد بِهِ الْبَعْض كَانَ مجَازًا فِيهِ ثمَّ هَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيم على مَا يَقُوله بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي رَحمَه الله أَنه لَا يجوز التَّخْصِيص من الْعُمُوم إِلَى أَن يبْقى مِنْهُ مَا دون الثَّلَاث فَأَما على أصلكم فَيجوز التَّخْصِيص إِلَى أَن لَا يبْقى مِنْهُ أَكثر من وَاحِد وَلَا شكّ أَن صِيغَة الْجمع لَا تتَنَاوَل الْوَاحِد حَقِيقَة قُلْنَا نعم وَلَكِن مَا وَرَاء الْمَخْصُوص يتَنَاوَلهُ مُوجب الْكَلَام على أَنه كل لَا بعض بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء فَإِن الْكَلَام يصير عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى بطرِيق أَنه كل لَا بعض وَلِهَذَا إِذا لم يبْق شَيْء بعد دَلِيل الْخُصُوص كَانَ نسخا لَا تَخْصِيصًا كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاء فَإِنَّهُ إِذا لم يبْق شَيْء بعد الِاسْتِثْنَاء بِحَال لَا يكون ذَلِك اسْتثِْنَاء صَحِيحا وَإِذا كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ دون الثَّلَاث فَهُوَ كل أَيْضا وَإِن كَانَا بِصِيغَة الْعُمُوم لِأَنَّهُ لَا يحْتَمل أَن يكون الْبَاقِي أَكثر من ذَلِك على وَجه يكون الْبَاقِي جمعا حَقِيقَة فَبِهَذَا الطَّرِيق صححنا التَّخْصِيص كَمَا يَصح اسْتثِْنَاء الْكل بِهَذَا الطَّرِيق فَإِنَّهُ لَو قَالَ مماليكي أَحْرَار إِلَّا فلَانا وَفُلَانًا وَلَيْسَ لَهُ سواهُمَا كَانَ الِاسْتِثْنَاء صَحِيحا لاحْتِمَال أَن يكون الْمُسْتَثْنى بَعْضًا إِذا كَانَ لَهُ سواهُمَا بِخِلَاف مَا لَو قَالَ مماليكي أَحْرَار إِلَّا مماليكي وَأما وَجه القَوْل الثَّانِي مَا بَينا أَن دَلِيل الْخُصُوص بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء فَإِذا كَانَ الْمَخْصُوص مَجْهُولا كَانَ مَا وَرَاءه مَجْهُولا أَيْضا والمجهول لَا يكون دَلِيلا مُوجبا وَأما إِذا كَانَ مَعْلُوما فَمَا وَرَاءه يكون مَعْلُوما أَيْضا وكما أَن الْكَلَام الْمُقَيد بِالِاسْتِثْنَاءِ يصير عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَيكون مَقْطُوعًا بِهِ إِذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 كَانَ الْمُسْتَثْنى مَعْلُوما فَكَذَلِك الْعَام إِذا لحقه خُصُوص مَعْلُوم يصير عبارَة عَمَّا وَرَاءه وَيكون مُوجبا فِيهِ مَا هُوَ حكم الْعَام لِأَن دَلِيل الْخُصُوص لَا يتَعَرَّض لما وَرَاءه فَيبقى الْعَام فِيمَا وَرَاءه حجَّة مُوجبَة قطعا وَلَا معنى لما قَالَ الْكَرْخِي رَحمَه الله إِنَّه يحْتَمل التَّعْلِيل لِأَنَّهُ إِذا كَانَ بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء لَا يحْتَمل التَّعْلِيل فَإِن الْمُسْتَثْنى مَعْدُوم على معنى أَنه لم يكن مرَادا بالْكلَام أصلا والعدم لَا يُعلل وعَلى هَذَا القَوْل يسْقط الِاحْتِجَاج بِآيَة السّرقَة لِأَنَّهُ لحقها خُصُوص مَجْهُول وَهُوَ ثمن الْمِجَن على مَا رُوِيَ كَانَت الْيَد لَا تقطع على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا دون ثمن الْمِجَن وَكَذَلِكَ بِآيَة البيع فَإِنَّهُ لحقها خُصُوص مَجْهُول وَهُوَ حُرْمَة الرِّبَا وَكَذَلِكَ بالعمومات الْمُوجبَة للعقوبة وَقد لحقها خُصُوص مَجْهُول وَهُوَ السُّقُوط بِاعْتِبَار تمكن الشُّبْهَة على مَا قَالَ رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ادرؤوا الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ وَوجه القَوْل الثَّالِث أَن التَّخْصِيص إِنَّمَا يكون بِكَلَام مُبْتَدأ بِصِيغَة على حِدة تتَنَاوَل بعض مَا تنَاوله الْعَام على خلاف مُوجبه مِمَّا لَو كَانَ طارئا كَانَ رَافعا على وَجه النّسخ فَإِذا كَانَ مُقَارنًا كَانَ ثَابتا وَمثل هَذَا لَا يصلح مغيرا صفة الْكَلَام الأول فَكيف يصلح مغيرا لَهُ وَهُوَ غير مُتَّصِل بِتِلْكَ الصِّيغَة فَبَقيَ الْكَلَام الأول صادرا من أَهله فِي مَحَله فَيكون مُوجبا حكمه وَحكم الْعَام أَنه كَانَ مُوجبا قطعا فَإِذا كَانَ الْمَخْصُوص مَعْلُوما بَقِي الْعَام فِيمَا وَرَاءه مُوجبا قطعا وَلَا يكون مُوجبا فِي مَوضِع الْخُصُوص لتحَقّق الْمُعَارضَة بَين دَلِيل الْخُصُوص والعموم فِيهِ فَإِذا كَانَ مَجْهُولا فِي نَفسه فالمجهول لَا يصلح مُعَارضا للمعلوم وَقد بَينا أَن الْعَام مُوجب للْحكم فِيمَا تنَاوله قطعا بِمَنْزِلَة الْخَاص فِيمَا تنَاوله فَإِذا لم تستقم الْمُعَارضَة بِكَوْن الْمعَارض مَجْهُولا سقط دَلِيل الْخُصُوص وَبَقِي حكم الْعَام على مَا كَانَ فِي جَمِيع مَا تنَاوله وَهَذَا بِخِلَاف الِاسْتِثْنَاء فَإِنَّهُ دَاخل على صِيغَة الْكَلَام أَلا ترى أَنه لَا يَسْتَقِيم بِدُونِ أصل الْكَلَام فَإِن قَول الْقَائِل إِلَّا زيدا لَا يكون مُفِيدا شَيْئا فَإِذا دخل على صِيغَة الْكَلَام كَانَ مغيرا لَهَا فَيكون أصل الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَذَلِكَ مَجْهُول عِنْد جَهَالَة الْمُسْتَثْنى والجهالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 فِي الْمُسْتَثْنى لَا تمنع صِحَة الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ يبين أَن صِيغَة الْكَلَام لم تتَنَاوَل الْمُسْتَثْنى أصلا وَمَا لم يتَنَاوَلهُ الْكَلَام فَلَا أثر للْجَهَالَة فِيهِ وَهَذَا بِخِلَاف صِيغَة الْعَام فِيمَا لَا يحْتَملهُ الْعُمُوم لِأَن الْكَلَام إِنَّمَا يكون مُفِيدا حكمه إِذا صدر من أَهله فِي مَحَله فَإِن البيع كَمَا لَا يَصح من الْمَجْنُون لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّة لَا يَصح فِي الْحر لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّيَّة فَكَذَلِك صِيغَة الْعُمُوم فِي مَحل لَا يقبل الْعُمُوم بِمَنْزِلَة الصَّادِر من غير أَهله فَلَا يكون مُوجبا حكم الْعُمُوم وَإِذا لم ينْعَقد مُوجبا حكم الْعَام وَلَيْسَ وَرَاءه شَيْء مَعْلُوم يُمكن أَن يَجْعَل الْكَلَام عبارَة عَنهُ بَقِي مُجملا فِيمَا هُوَ المُرَاد فَأَما إِذا صدر من أَهله فِي مَحَله كَانَ مُوجبا حكمه إِلَّا أَن يمْنَع مِنْهُ مَانع والمجهول لَا يصلح أَن يكون مَانِعا فَبَقيَ أصل الْكَلَام مُعْتَبرا فِي مُوجبه أَلا ترى أَن البَائِع بعد تَمام البيع إِذا أجل المُشْتَرِي فِي الثّمن أَََجَلًا مَجْهُولا من غير أَن يشْتَرط ذَلِك فِي أصل البيع يبْقى البيع مُوجبا حَالا للثّمن لِأَنَّهُ انْعَقَد مُوجبا لذَلِك وَهَذَا الْمَانِع وَهُوَ الْأَجَل لَا يصلح أَن يكون مُؤَخرا للمطالبة فَيبقى الحكم الأول على حَاله وَأما وَجه القَوْل الرَّابِع وَهُوَ الصَّحِيح أَن دَلِيل الْخُصُوص بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء فِي حق الحكم وبمنزلة النَّاسِخ بِاعْتِبَار الصِّيغَة لِأَن بِدَلِيل الْخُصُوص يتَبَيَّن بِأَن المُرَاد إِثْبَات الحكم فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص لَا أَن يكون المُرَاد رفع الحكم عَن الْموضع الْمَخْصُوص بعد أَن كَانَ ثَابتا وَلِهَذَا لَا يكون إِلَّا مُقَارنًا حَتَّى لَو كَانَ طارئا يَجْعَل نسخا لَا خُصُوصا لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يَجْعَل مُبينًا أَن المُرَاد مَا وَرَاءه وَمن حَيْثُ الصِّيغَة هُوَ كَلَام مُبْتَدأ مَفْهُوم بِنَفسِهِ مُفِيد للْحكم وَإِن لم تتقدمه صِيغَة الْعَام فَعرفنَا أَنه من حَيْثُ الصِّيغَة مُعْتَبر بِدَلِيل النّسخ لِأَنَّهُ مُنْفَصِل عَن الْعَام وَمن حَيْثُ الحكم هُوَ بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ مُتَّصِل بِهِ حكما حَتَّى لَا يجوز إِلَّا مُقَارنًا لَهُ فَلم يجز إِلْحَاقه بِأَحَدِهِمَا خَاصَّة بل يعْتَبر فِي كل حكم بنظيره كَمَا هُوَ الأَصْل فِيمَا تردد بَين شَيْئَيْنِ وَأخذ حظا مُعْتَبرا من كل وَاحِد مِنْهُمَا فَإِنَّهُ يعْتَبر بهما فَنَقُول إِذا كَانَ الْمُسْتَثْنى مَجْهُولا فاعتبار جَانب الصِّيغَة فِيهِ يسْقط دَلِيل الْخُصُوص وَيبقى حكم الْعَام فِي جَمِيع مَا تنَاوله وَاعْتِبَار جَانب الحكم فِيهِ وَهُوَ أَنه بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء يمْنَع ثُبُوت الحكم فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص لكَونه مَجْهُولا فَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 نبطل وَاحِدًا مِنْهُمَا بِالشَّكِّ وَمعنى هَذَا أَنا لَا نسقط دَلِيل الْخُصُوص لكَونه مَجْهُولا بِالشَّكِّ وَلَا نخرج مَا وَرَاءه من أَن يكون صِيغَة الْعَام حجَّة فِيهِ بِالشَّكِّ وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ الْمَخْصُوص مَعْلُوما فَإِنَّهُ من حَيْثُ الصِّيغَة هُوَ نَص على حِدة قَابل للتَّعْلِيل وبالتعليل مَا نَدْرِي مَا يتَعَدَّى إِلَيْهِ حكم الْخُصُوص مِمَّا تنَاوله صِيغَة الْعَام وَبِاعْتِبَار الحكم لَا يقبل التَّعْلِيل لِأَنَّهُ مُوجب للْحكم على أَنه تبين بِهِ أَن المُرَاد مَا وَرَاءه كالاستثناء وَهَذَا لَا يقبل التَّعْلِيل فاعتبار الصِّيغَة يخرج الْعَام من أَن يكون حجَّة فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص وَبِاعْتِبَار الحكم يُوجب أَن يكون الْعَام مُوجبا للْحكم قطعا فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص فَلَا يبطل معنى الْحجَّة بِالشَّكِّ وَلَكِن يتَمَكَّن فِيهِ ضرب شُبْهَة فَإِن مَا يكون ثَابتا من وَجه دون وَجه لَا يكون مَقْطُوعًا بِهِ وَالْحكم إِنَّمَا نثبت بِحَسب الدَّلِيل وَلِهَذَا كَانَ حجَّة مُوجبَة الْعَمَل بهَا وَلَا يكون مُوجبه الْعلم قطعا وَهَذَا بِخِلَاف دَلِيل النّسخ فَإِن عمله فِي رفع الحكم بِاعْتِبَار الْمُعَارضَة وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا فِيمَا تنَاوله النَّص بِعَيْنِه فَإِن التَّعْلِيل فِيهِ يُؤَدِّي إِلَى إِثْبَات الْمُعَارضَة بَين النَّص وَالْعلَّة المستنبطة بِالرَّأْيِ والرأي لَا يكون مُعَارضا للنَّص وَلِهَذَا لَا نشتغل بِالتَّعْلِيلِ فِي إِثْبَات النّسخ فَأَما دَلِيل الْخُصُوص وَإِن كَانَ نصا على حِدة فَإِنَّمَا يُوجب الحكم على الْوَجْه الَّذِي يُوجِبهُ الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ فِي معنى الحكم بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء كَمَا قَررنَا فَلَا يخرج من أَن يكون مُحْتملا للتَّعْلِيل وبطريق التَّعْلِيل تتمكن الشُّبْهَة فِيمَا يبْقى وَرَاء الْمَخْصُوص مِمَّا يكون الْعَام مُوجبا للْحكم فِيهِ وَلِهَذَا جَوَّزنَا تَخْصِيص هَذَا الْعَام بِالْقِيَاسِ لِأَن ثُبُوت الحكم بِهِ فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص مَعَ شكّ فِي أَصله وَاحْتِمَال فَيجوز أَن يكون الْقيَاس مُعَارضا لَهُ بِخِلَاف خبر الْوَاحِد فَإِنَّهُ لَا شكّ فِي أَصله وَإِنَّمَا الِاحْتِمَال فِي طَرِيقه بِاعْتِبَار توهم غلط الرَّاوِي أَو ميله عَن الصدْق إِلَى الْكَذِب فَمن حَيْثُ إِنَّه لَا شكّ فِيهِ مَتى ثَبت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أقوى من الْقيَاس فَلَا يصلح أَن يكون الْقيَاس مُعَارضا لَهُ وَبَيَان هَذِه الْأُصُول من الْفُرُوع أَن من جمع بَين حر وَعبد فباعهما بِثمن وَاحِد أَو بَين ميتَة وذكية أَو بَين خل وخمر لم يجز البيع أصلا لِأَن الْحر وَالْميتَة وَالْخمر لَا يَتَنَاوَلهَا العقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 أصلا فَيكون بَائِعا لما هُوَ مَال مُتَقَوّم مِنْهُمَا بِحِصَّتِهِ من الْألف إِذا قسم عَلَيْهِمَا وَالْبيع بِالْحِصَّةِ لَا ينْعَقد صَحِيحا ابْتِدَاء كَمَا لَو قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا العَبْد بِمَا يَخُصُّهُ من الْألف إِذا قسم على قِيمَته وعَلى قيمَة هَذَا العَبْد الآخر فَبِهَذَا الْفَصْل يتَبَيَّن مَا يكون بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء أَنه يَجْعَل الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى حكما وَلَو بَاعَ مِنْهُ عَبْدَيْنِ فَهَلَك أَحدهمَا قبل الْقَبْض أَو اسْتحق أَحدهمَا أَو كَانَ أَحدهمَا مُدبرا أَو مكَاتبا يبْقى العقد صَحِيحا فِي الآخر لِأَن العقد يتناولهما بِاعْتِبَار صفة الْمَالِيَّة والتقوم فيهمَا وَهُوَ الْمُعْتَبر فِي الْمحل لتناول العقد إِيَّاه ثمَّ خرج أَحدهمَا لصيانة حق مُسْتَحقّ إِمَّا للْعَبد فِي نَفسه أَو للْغَيْر أَو لتعذر التَّسْلِيم بهلاكه فَيبقى العقد فِي الآخر صَحِيحا بِحِصَّتِهِ وَهَذَا نَظِير دَلِيل النّسخ فَإِنَّهُ يرفع الحكم الثَّابِت فِي مِقْدَار مَا تنَاوله النَّص الَّذِي هُوَ نَاسخ وَيبقى مَا وَرَاء ذَلِك من حكم الْعَام على مَا كَانَ قبل وُرُود النَّاسِخ وَنَظِير دَلِيل الْخُصُوص البيع بِشَرْط الْخِيَار فَإِنَّهُ ينْعَقد صَحِيحا بِمَنْزِلَة مَا لَو لم يكن فِيهِ خِيَار وَفِي حق الحكم كَانَ غير مُنْعَقد على معنى أَن الحكم مُتَعَلق بِسُقُوط الْخِيَار على مَا يَأْتِيك بَيَانه فِي مَوْضِعه أَن شَرط الْخِيَار لَا يدْخل فِي أصل السَّبَب وَإِنَّمَا يدْخل على الحكم فَيجب اعْتِبَاره فِي كل جَانب بنظيره حَتَّى إِن بِاعْتِبَار السَّبَب إِذا سقط الْخِيَار اسْتحق المُشْتَرِي بزوائده الْمُتَّصِلَة أَو الْمُنْفَصِلَة وَبِاعْتِبَار الحكم إِذا أعتق المُشْتَرِي وَالْخيَار مَشْرُوط البَائِع ثمَّ سقط الْخِيَار لم ينفذ الْعتْق وعَلى هَذَا قَالَ فِي الزِّيَادَات لَو بَاعَ من رجل عَبْدَيْنِ وَشرط الْخِيَار فِي أَحدهمَا دون الآخر للْبَائِع أَو المُشْتَرِي فَإِن لم يكن ثمن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُسَمّى لم يجز العقد فِي وَاحِد مِنْهُمَا وَإِن كَانَ ثمن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُسَمّى جَازَ فِي وَاحِد مِنْهُمَا فَإِن لم يعين الْمَشْرُوط فِيهِ الْخِيَار مِنْهُمَا لم يجز العقد أَيْضا وَإِن عينا ذَلِك جَازَ العقد فِي الآخر وَلزِمَ بِالثّمن الْمُسَمّى لَهُ لِأَن اشْتِرَاط الْخِيَار بِاعْتِبَار الحكم يعْدم العقد فِي الْمَشْرُوط فِيهِ الْخِيَار فَإِذا كَانَ مَجْهُولا كَانَ العقد فِي الآخر ابْتِدَاء فِي الْمَجْهُول وَإِن كَانَ مَعْلُوما وَلم يكن ثمن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُسَمّى كَانَ العقد فِي الآخر ابْتِدَاء بِالْحِصَّةِ فَلَا ينْعَقد صَحِيحا وَبِاعْتِبَار السَّبَب كَانَ متناولا لَهما بِصفة الصِّحَّة فَإِذا كَانَ الَّذِي لَا خِيَار فِيهِ مِنْهُمَا مَعْلُوما وَكَانَ ثمنه مُسَمّى لزم العقد فِيهِ وَلم يَجْعَل العقد فِي الآخر بِمَنْزِلَة شَرط فَاسد فِي الَّذِي لَا خِيَار فِيهِ بِخِلَاف مَا قَالَه أَبُو حنيفَة رَحمَه الله فِيمَا إِذا بَاعَ حرا وعبدا وسمى ثمن كل وَاحِد مِنْهُمَا لم ينْعَقد البيع فِي العَبْد صَحِيحا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 لِأَن اشْتِرَاط قبُول العقد فِي الْحر شَرط فَاسد فقد جعله مَشْرُوطًا فِي قبُوله العقد فِي الْقِنّ حِين جمع بَينهمَا فِي الْإِيجَاب وَالْبيع يبطل بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَة وَأما اشْتِرَاط قبُول العقد فِي الَّذِي فِيهِ الْخِيَار لَا يكون شرطا فَاسِدا لِأَن البيع بِشَرْط الْخِيَار مُنْعَقد شرطا صَحِيحا من حَيْثُ السَّبَب فَكَانَ العقد فِي الآخر لَازِما وَالله أعلم فصل فِي بَيَان أَلْفَاظ الْعُمُوم أَلْفَاظ الْعُمُوم قِسْمَانِ عَام بصيغته وَمَعْنَاهُ وَقسم فَرد بصيغته عَام بِمَعْنَاهُ فَأَما مَا هُوَ عَام بصيغته وَمَعْنَاهُ فَكل لفظ هُوَ للْجمع نَحْو الرِّجَال وَالنِّسَاء وَالْمُسْلِمين وَالْمُشْرِكين وَالْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهَا عَام صِيغَة لِأَن وَاضع اللُّغَة وضع هَذِه الصِّيغَة للْجَمَاعَة قَالَ رجل ورجلان وَرِجَال وَامْرَأَة وَامْرَأَتَانِ وَنسَاء وَهُوَ عَام بِمَعْنَاهُ لِأَنَّهُ شَامِل لكل مَا تنَاوله عِنْد الْإِطْلَاق فأدنى مَا يُطلق عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظ الثَّلَاثَة لِأَن أدنى الْجمع الصَّحِيح ثَلَاثَة نَص عَلَيْهِ مُحَمَّد رَحمَه الله فِي السّير الْكَبِير فِي الْأَنْفَال وَغَيرهَا وَمن قَالَ لفُلَان على دَرَاهِم يلْزمه الثَّلَاثَة وَالْمَرْأَة إِذا اخْتلعت من زَوجهَا بِمَا فِي يَدهَا من دَرَاهِم فَإِذا لَيْسَ فِي يَدهَا شَيْء يلْزمهَا ثَلَاثَة دَرَاهِم لِأَن أدنى الْجمع مُتَيَقن بِهِ عِنْد ذكر الصِّيغَة وَفِيمَا زَاد عَلَيْهِ شكّ وَاحْتِمَال فَلَا يجب إِلَّا الْمُتَيَقن فَظن بعض أَصْحَابنَا رَحِمهم الله أَن على قَول أبي يُوسُف أدنى الْجمع اثْنَان على قِيَاس مَسْأَلَة الْجُمُعَة وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن عِنْده الْجمع الصَّحِيح ثَلَاثَة إِلَّا أَنه يَجْعَل الإِمَام من جملَة الْجمع الَّذِي تتأدى بهم الْجُمُعَة على قِيَاس سَائِر الصَّلَوَات فَإِن الإِمَام من جملَة الْجَمَاعَة وَلِهَذَا يقدم الإِمَام إِذا كَانَ خَلفه رجلَانِ فَصَاعِدا وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله الشَّرْط فِي الْجُمُعَة الْجَمَاعَة وَالْإِمَام جَمِيعًا فَلَا يكون الإِمَام محسوبا من عدد الْجَمَاعَة فَيشْتَرط ثَلَاثَة سواهُ وَفِي سَائِر الصَّلَوَات الإِمَام لَيْسَ بِشَرْط لأدائها فَيمكن أَن يَجْعَل الإِمَام من جملَة الْجَمَاعَة فَإِذا كَانَ مَعَ الإِمَام رجلَانِ اصطفا خَلفه وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي رَحِمهم الله يَقُولُونَ الْجَمَاعَة هِيَ الْمثنى فَصَاعِدا وَاسْتَدَلُّوا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام الِاثْنَان فَمَا فَوْقهمَا جمَاعَة وَلِأَن اسْم الْجَمَاعَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 حَقِيقَة فِيمَا فِيهِ معنى الِاجْتِمَاع وَذَلِكَ مَوْجُود فِي الِاثْنَيْنِ أَلا ترى أَن فِي الْوَصَايَا والمواريث جعل للمثنى حكم الْجَمَاعَة حَتَّى لَو أوصى لأقرباء فلَان يتَنَاوَل الْمثنى فَصَاعِدا وللاثنين من الْمِيرَاث مَا للثلاث فَصَاعِدا والأخوان يحجبان الْأُم من الثُّلُث إِلَى السُّدس بقوله تَعَالَى {فَإِن كَانَ لَهُ إخْوَة} وَفِي كتاب الله تَعَالَى إِطْلَاق عبارَة الْجمع على الْمثنى لقَوْله تَعَالَى {هَذَانِ خصمان اخْتَصَمُوا} وَقَالَ تَعَالَى {وَدَاوُد وَسليمَان} إِلَى قَوْله {وَكُنَّا لحكمهم شَاهِدين} وَقَالَ تَعَالَى {إِذْ تسوروا الْمِحْرَاب} إِلَى قَوْله تَعَالَى {خصمان بغى بَعْضنَا على بعض} وَكَذَلِكَ فِي اسْتِعْمَال النَّاس فَإِن الِاثْنَيْنِ يَقُولَانِ نَحن فعلنَا كَذَا بِمَنْزِلَة الثَّلَاثَة وَحجَّتنَا فِي ذَلِك قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَاحِد شَيْطَان والاثنان شيطانان وَالثَّلَاثَة ركب ثمَّ يَسْتَقِيم نفي صِيغَة الْجَمَاعَة عَن الْمثنى بِأَن يَقُول مَا فِي الدَّار رجال إِنَّمَا فِيهَا رجلَانِ وَقد بَينا أَن اللَّفْظ إِذا كَانَ حَقِيقَة فِي الشَّيْء لَا يَسْتَقِيم نَفْيه عَنهُ وَإِجْمَاع أهل اللُّغَة يشْهد بذلك فَإِنَّهُم يَقُولُونَ الْكَلَام ثَلَاثَة أَقسَام وحدان وتثنية وَجمع ثمَّ للوحدان أبنية مُخْتَلفَة وَكَذَلِكَ للْجمع وَلَيْسَ ذَلِك للتثنية إِنَّمَا لَهَا عَلامَة مَخْصُوصَة فَعرفنَا أَن الْمثنى غير الْجَمَاعَة وَلما وضعُوا للمثنى لفظا على حِدة فَلَو قُلْنَا بِأَن للمثنى حكم الْجَمَاعَة لَكَانَ اللَّفْظ الْمَوْضُوع للثَّلَاثَة على خلاف الْمَوْضُوع للمثنى تَكْرَارا مَحْضا وكل لفظ مَوْضُوع لفائدة جَدِيدَة أَلا ترى أَن بعد الثَّلَاث لم يوضع لما زَاد عَلَيْهَا لفظ على حِدة لما كَانَت صِيغَة الْجَمَاعَة تجمعها وَكَذَلِكَ اللَّفْظ الْمُفْرد والتثنية يذكر من غير عدد يُقَال رجل ورجلان (ثمَّ يذكر مَقْرُونا بِالْعدَدِ بعد ذَلِك فَيُقَال ثَلَاثَة رجال وَأَرْبَعَة رجال) وَلَا يُقَال وَاحِد رجل وَلَا اثْنَان رجلَانِ وَتَسْمِيَة الثَّلَاثَة جمَاعَة بِمَعْنى الِاجْتِمَاع كَمَا قَالُوا وَلَكِن اجْتِمَاع بِصفة وَهُوَ اجْتِمَاع لَا يتَحَقَّق أحد الْجَانِبَيْنِ يُقَابله الْمثنى من جَانب آخر فَأَما فِي الِاثْنَيْنِ يتعارض الْإِفْرَاد على التَّسَاوِي من حَيْثُ إِن كل وَاحِد من الْجَانِبَيْنِ فَرد فَعِنْدَ الانضمام يكون اسْم الْمثنى حَقِيقَة فيهمَا لَا اسْم الْجَمَاعَة وَتَأْويل الحَدِيث أَن فِي حكم الاصطفاف خلف الإِمَام الِاثْنَان فَمَا فَوْقهمَا جمَاعَة فقد بَينا الْمَعْنى فِيهِ فَأَما فِي الْمَوَارِيث فاستحقاق الِاثْنَيْنِ الثُّلثَيْنِ لَيْسَ بِالنَّصِّ الْوَارِد بِعِبَارَة الْجَمَاعَة وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَلَهُنَّ ثلثا مَا ترك} إِنَّمَا ذَلِك للثلاث فِيهِ معنى يُعَارض الْإِفْرَاد على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 التَّسَاوِي كَمَا فِي الثَّلَاثَة فَإِن الْفَرد من فَصَاعِدا وَإِنَّمَا اسْتِحْقَاق الِاثْنَيْنِ الثُّلثَيْنِ بِإِشَارَة النَّص فِي قَوْله {للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} فَإِن نصيب الابْن مَعَ الِابْنَة الثُّلُثَانِ فَيثبت بِهِ أَن ذَلِك حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ وَمَا بعده لبَيَان أَنَّهُنَّ وَإِن كن أَكثر من اثْنَتَيْنِ لَا يكون لَهُنَّ إِلَّا الثُّلُثَانِ عِنْد الِانْفِرَاد والحجب بالأخوين عَرفْنَاهُ بِاتِّفَاق الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على مَا رُوِيَ أَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ لعُثْمَان رَضِي الله عَنهُ الْإِخْوَة فِي لِسَان قَوْمك لَا يتَنَاوَل الِاثْنَيْنِ فَقَالَ نعم وَلَكِن لاستحي أَن أخالفهم فِيمَا رَأَوْا أَلا ترى أَن الْحجب ثَبت بالأخوات الْمُفْردَات بِهَذَا الطَّرِيق فَإِن اسْم الْإِخْوَة لَا يتَنَاوَل الْأَخَوَات الْمُفْردَات على أَن الِاسْم قد يتَنَاوَل الْمثنى مجَازًا لاعْتِبَار معنى الِاجْتِمَاع مُطلقًا فَبِهَذَا الطَّرِيق أثبتنا حكم الْحجب والتوريث للمثنى وَالْوَصِيَّة أُخْت الْمِيرَاث فَيكون مُلْحقًا بِهِ وَقَول الْمثنى نَحن فعلنَا كَذَا إِخْبَار عَن كل وَاحِد مِنْهُمَا عَن نَفسه وَعَن غَيره على أَن جعله تبعا لنَفسِهِ مجَازًا وَمثل هَذَا قد يكون من الْوَاحِد أَيْضا يَقُول قد فعلنَا كَذَا وأمرنا بِكَذَا وَهَذَا لَا يدل على أَن اسْم الْجَمَاعَة يتَنَاوَل الْفَرد حَقِيقَة وَفِيمَا تلونا من الْآيَات بَيَان أَن المتخاصمين كَانَا اثْنَيْنِ وَيحْتَمل أَن يكون الْحُضُور مَعَهُمَا جمَاعَة وَصِيغَة الْجَمَاعَة تَنْصَرِف إِلَيْهِم جَمِيعًا وعَلى هَذَا قَوْله تَعَالَى {فقد صغت قُلُوبكُمَا} فَإِن أَكثر الْأَعْضَاء المنتفع بهَا فِي الْبدن زوج فَمَا يكون فَردا لعظم الْمَنْفَعَة فِيهِ يَجْعَل بِمَنْزِلَة مَا هُوَ زوج فتستقيم الْعبارَة عَن تثنيته بِالْجمعِ وَيبين أَن أدنى الْجمع الصَّحِيح ثَلَاثَة صُورَة أَو معنى وعَلى هَذَا لَو قَالَ إِن اشْتريت عبيدا فعلي كَذَا أَو إِن تزوجت نسَاء فَإِنَّهُ لَا يَحْنَث إِلَّا بِالثَّلَاثَةِ فَصَاعِدا إِلَّا أَنه إِذا دخل الْألف وَاللَّام فِي هَذِه الصِّيغَة نَجْعَلهَا للْجِنْس مجَازًا لِأَن اللَّام لتعريف الرجل بِعَيْنِه وَقَالَ تَعَالَى {كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا فعصى فِرْعَوْن} الْمَعْهُود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 فِي الأَصْل فَإِن الرجل يَقُول رَأَيْت رجلا ثمَّ كلمت الرجل أَي ذَلِك الرَّسُول {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة} إِنَّه الْوَاحِد فَصَاعِدا وَقَالَ قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى {وليشهد عذابهما طَائِفَة من الْمُؤمنِينَ} إِنَّه الْوَاحِد فَصَاعِدا وَهَذَا لاعْتِبَار صِيغَة الْفَرد وجعلوه بِمَنْزِلَة الْجِنْس بِغَيْر حرف اللَّام كَمَا يكون مَعَ حرف اللَّام الَّذِي هُوَ للْعهد وعَلى هَذَا قُلْنَا لَو حلف لَا يشرب مَاء يَحْنَث بِشرب الْقَلِيل كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 لَو قَالَ المَاء لِأَن صيغته صِيغَة الْفَرد وَالْمرَاد بِهِ الْجِنْس فَيتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكثير سَوَاء قرن بِهِ اللَّام أَو لم يقرن لِأَنَّهُ لما خلا عَن معنى الْجَمَاعَة صِيغَة إِذْ لَيْسَ لَهُ وحدان كَانَ جِنْسا فإدخال الْألف وَاللَّام فِيهِ يكون للتَّأْكِيد كَالرّجلِ يَقُول رَأَيْت قوما وافدين وَرَأَيْت الْقَوْم الوافدين على فلَان كَانَ ذَلِك كتأكيد معنى الْجِنْس ثمَّ اسْم الْجِنْس يتَنَاوَل الْأَدْنَى حَقِيقَة من الْوَجْه الَّذِي قَررنَا أَنه لَو تصور أَن لَا يبْقى من المَاء إِلَّا ذَلِك الْقَلِيل كَانَ اسْم المَاء لَهُ حَقِيقَة وَلَا يتَغَيَّر ذَلِك بِكَثْرَة الْجِنْس وَقد قَالَ بعض مَشَايِخنَا رَحِمهم الله إِن الْحَالِف إِنَّمَا يمْنَع نَفسه بِيَمِينِهِ عَمَّا فِي وَسعه وَفِي وَسعه شرب الْقَلِيل من الْجِنْس وَلَيْسَ فِي وَسعه شرب الْجَمِيع فلعلمنا بِأَنَّهُ لم يرد جَمِيع الْجِنْس صرفناه إِلَى أقل مَا يتَنَاوَلهُ اسْم الْجِنْس على احْتِمَال أَن يكون مُرَاده الْكل حَتَّى إِذا نَوَاه لم يَحْنَث قطّ وَمن هَذَا الْقسم كلمة من فَإِنَّهَا كلمة مُبْهمَة وَهِي عبارَة عَن ذَات من يعقل وَهِي تحْتَمل الْخُصُوص والعموم أَلا ترى أَنه إِذا قيل من فِي الدَّار يَسْتَقِيم فِي جَوَابه فِيهَا فلَان وَفُلَان وَفُلَان وَإِذا قَالَ من أَنْت يَسْتَقِيم فِي جَوَابه أَنا فلَان فَمَتَى وصلت هَذِه الْكَلِمَة بمعهود كَانَت للخصوص وَإِذا وصلت بِغَيْر الْمَعْهُود تحْتَمل الْعُمُوم وَالْخُصُوص وَالْأَصْل فِيهَا الْعُمُوم قَالَ الله تَعَالَى {وَمِنْهُم من يستمع إِلَيْك} وَقَالَ {وَمِنْهُم من ينظر إِلَيْك} إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَلَو كَانُوا لَا يبصرون} وَقَالَ تَعَالَى {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} وَالْمرَاد الْعُمُوم وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه وَمن دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا إِذا قَالَ من شَاءَ من عَبِيدِي الْعتْق فَهُوَ حر فشاؤوا جَمِيعًا عتقوا لِأَن كلمة من تَقْتَضِي الْعُمُوم وَإِنَّمَا أضَاف الْمَشِيئَة إِلَى من دخل تَحت كلمة من فيتعمم بِعُمُومِهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد إِذا قَالَ من شِئْت من عَبِيدِي عتقه فَهُوَ حر فشاء عتقهم جَمِيعًا عتقوا أَيْضا لِأَن كلمة من تعم العبيد وَمن لتمييز هَذَا الْجِنْس من سَائِر الْأَجْنَاس بِمَنْزِلَة قَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان} وَإِضَافَة الْمَشِيئَة إِلَى خَاص لَا يُغير الْعُمُوم الثَّابِت بِكَلِمَة من كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَأذن لمن شِئْت مِنْهُم} وَقَالَ تَعَالَى {ترجي من تشَاء مِنْهُنَّ} وَلَكِن أَبُو حنيفَة رَحمَه الله قَالَ لَهُ أَن يعتقهم جَمِيعًا إِلَّا وَاحِدًا مِنْهُم لِأَن كلمة من للتعميم وَمن للتَّبْعِيض وَهُوَ الْحَقِيقَة فَإِذا أضَاف الْمَشِيئَة إِلَى خَاص يبْقى معنى الْخُصُوص مُعْتَبرا فِيهِ مَعَ الْعُمُوم فَيتَنَاوَل بَعْضًا عَاما وَذَلِكَ فِي أَن يتناولهم إِلَّا وَاحِدًا مِنْهُم وَإِنَّمَا رجحنا معنى الْعُمُوم فِيمَا تلونا من الْآيَتَيْنِ بِالْقَرِينَةِ الْمَذْكُورَة فِيهَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {واستغفر لَهُم الله} وَقَالَ تَعَالَى {ذَلِك أدنى أَن} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 إِلَى الْعَام الدَّاخِل تَحت كلمة من يرجح جَانب الْعُمُوم فِيهِ فَإِذا أضافها {تقر أعينهن} وعَلى احْتِمَال الْخُصُوص فِي هَذِه الْكَلِمَة قَالَ فِي السّير الْكَبِير إِذا قَالَ من دخل مِنْكُم هَذَا الْحصن أَولا فَلهُ من النَّفْل كَذَا فَدخل رجلَانِ مَعًا لم يسْتَحق وَاحِد مِنْهُمَا شَيْئا لِأَن الأول اسْم لفرد سَابق فَإِذا وَصله بِكَلِمَة من وَهُوَ تَصْرِيح بالخصوص يرجح معنى الْخُصُوص فِيهِ فَلَا يسْتَحق النَّفْل إِلَّا وَاحِد دخل سَابِقًا على الْجَمَاعَة ونظيرها كلمة مَا فَإِنَّهَا تسْتَعْمل فِي ذَات مَا لَا يعقل وَفِي صِفَات مَا يعقل حَتَّى إِذا قيل مَا زيد يَسْتَقِيم فِي جَوَابه عَالم أَو عَاقل وَإِذا قيل مَا فِي الدَّار يَسْتَقِيم فِي جَوَابه فرس وكلب وحمار وَلَا يَسْتَقِيم فِي الْجَواب رجل وَامْرَأَة فَعرفنَا أَنه يسْتَعْمل فِي ذَات مَا لَا يعقل بِمَنْزِلَة كلمة من فِي ذَات من يعقل أَلا ترى أَن فِرْعَوْن عَلَيْهِ اللَّعْنَة حِين قَالَ لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَمَا رب الْعَالمين وَقَالَ مُوسَى رب السَّمَوَات وَالْأَرْض أظهر التَّعَجُّب من جَوَابه حَتَّى نسبه إِلَى الْجُنُون يَعْنِي أَنا أسأله عَن الْمَاهِيّة وَهُوَ السُّؤَال عَن ذَات الشَّيْء أجوهر هُوَ أم عرض وَهُوَ يجيبني عَن الْمنية أَلا إِن الله تَعَالَى يتعالى عَمَّا سَأَلَ اللعين وَمن شَأْن الْحَكِيم إِذا سمع لَغوا أَن يعرض عَنهُ ويشتغل بِمَا هُوَ مُفِيد قَالَ تَعَالَى {وَإِذا سمعُوا اللَّغْو أَعرضُوا عَنهُ وَقَالُوا لنا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم} وَهَذَا لَيْسَ جَوَابا عَن اللَّغْو وَلَكِن إِعْرَاض عَنهُ وإتمام لذَلِك الْإِعْرَاض بالاشتغال بِمَا هُوَ مُفِيد وَكَذَلِكَ فعل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُ أظهر الْإِعْرَاض عَن اللَّغْو بالاشتغال بِمَا هُوَ مُفِيد وَهُوَ أَن الصَّانِع جلّ وَعلا إِنَّمَا يعرف بِالتَّأَمُّلِ فِي مصنوعاته وبمعرفة أَسْمَائِهِ وَصِفَاته وَفِي هَذَا بَيَان أَن اللعين أَخطَأ فِي طلب طَرِيق الْمعرفَة بالسؤال عَن الْمَاهِيّة وَقد تَأتي كلمة مَا بِمَعْنى من قَالَ تَعَالَى {وَمَا بناها} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 مَعْنَاهُ وَمن بناها إِلَّا أَن الْحَقِيقَة فِي كل كلمة مَا بَينا وعَلى هَذَا الأَصْل كَانَ الِاخْتِلَاف فِي قَوْله لامْرَأَته اخْتَارِي من الثَّلَاث مَا شِئْت فَاخْتَارَتْ الثَّلَاث فَإِن عِنْدهمَا تطلق ثَلَاثًا وَعند أبي حنيفَة رَحمَه الله ثِنْتَيْنِ بِمَنْزِلَة قَوْله أعتق من عَبِيدِي من شِئْت ولاحتمال معنى الْعُمُوم فِي كلمة مَا قُلْنَا إِذا قَالَ لأمته إِن كَانَ مَا فِي بَطْنك غُلَاما فَأَنت حرَّة فَولدت غُلَاما وَجَارِيَة إِنَّهَا لَا تعْتق لِأَن الشَّرْط أَن يكون جَمِيع مَا فِي بَطنهَا غُلَاما وَنَظِير هَاتين الْكَلِمَتَيْنِ كلمة الَّذِي فَإِنَّهَا مُبْهمَة مستعملة فِيمَا يعقل وَفِيمَا لَا يعقل وفيهَا معنى الْعُمُوم على نَحْو مَا فِي الْكَلِمَتَيْنِ حَتَّى إِذا قَالَ إِن كَانَ الَّذِي فِي بَطْنك غُلَاما كَانَ بِمَنْزِلَة قَوْله إِن كَانَ فِي بَطْنك غُلَاما وَكلمَة أَيْن وَحَيْثُ للتعميم فِي الْأَمْكِنَة قَالَ الله تَعَالَى {وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره} وَقَالَ تَعَالَى {أَيْنَمَا تَكُونُوا يدرككم الْمَوْت} وَلِهَذَا لَو قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق أَيْن شِئْت وَحَيْثُ شِئْت يقْتَصر على الْمجْلس لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفظه مَا يُوجب تَعْمِيم الْأَوْقَات وَأما مَتى كلمة مُبْهمَة لتعميم الْأَوْقَات وَلِهَذَا لَو قَالَ أَنْت طَالِق مَتى شِئْت لم يتَوَقَّف ذَلِك على الْمجْلس وَأما كلمة كل فَإِنَّهَا توجب الْإِحَاطَة على وَجه الْإِفْرَاد قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّا كل شَيْء خلقناه بِقدر} وَمعنى الْإِفْرَاد أَن كل وَاحِد من المسميات الَّتِي توصل بهَا كلمة كل يصير مَذْكُورا على سَبِيل الِانْفِرَاد كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَه غَيره لِأَن هَذِه الْكَلِمَة صلَة فِي الِاسْتِعْمَال حَتَّى لَا تسْتَعْمل وَحدهَا لخلوها عَن الْفَائِدَة وَهِي تحْتَمل الْخُصُوص نَحْو كلمة من إِلَّا أَن معنى الْعُمُوم فِيهَا يُخَالف معنى الْعُمُوم فِي كلمة من وَلِهَذَا استقام وَصلهَا بِكَلِمَة من قَالَ الله تَعَالَى {كل من عَلَيْهَا فان} حَتَّى لَو وصلت باسم نكرَة تَقْتَضِي الْعُمُوم فِي ذَلِك الِاسْم فَأَما إِذا قَالَ لعَبْدِهِ أعْط كل رجل من هَؤُلَاءِ درهما كَانَت مُوجبَة للْعُمُوم فيهم وَلِهَذَا لَو قَالَ كل امْرَأَة أَتَزَوَّجهَا فَهِيَ طَالِق فِي الْمرة الثَّانِيَة لِأَنَّهَا توجب الْعُمُوم فِيمَا وصلت بِهِ من الِاسْم دون الْفِعْل إِلَّا أَن توصل بِمَا فَحِينَئِذٍ مَا يتعقبها الْفِعْل دون الِاسْم لِأَنَّهُ يُقَال كلما ضرب وَلَا يُقَال كلما رجل فَيَقْتَضِي التَّعْمِيم فِيمَا يُوصل بِهِ قَالَ الله تَعَالَى {كلما نَضِجَتْ جُلُودهمْ} فَإِذا قَالَ كلما تزوجت امْرَأَة فَتزَوج تطلق كل امْرَأَة يَتَزَوَّجهَا على الْعُمُوم وَلَو تزوج امْرَأَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 مرَّتَيْنِ لم تطلق امْرَأَة مرَارًا تطلق فِي كل مرّة وَبَيَان الْفرق بَين كلمة من وَبَين كلمة كل فِيمَا يرجع إِلَى الْخُصُوص بِمَا ذكره مُحَمَّد فِي السّير الْكَبِير إِذا قَالَ من دخل هَذَا الْحصن أَولا فَلهُ كَذَا فَدخل رجلَانِ مَعًا لم يكن لوَاحِد مِنْهُمَا شَيْء وَلَو قَالَ كل من دخل هَذَا الْحصن أَولا فَلهُ كَذَا فَدخل عشرَة مَعًا اسْتحق كل وَاحِد مِنْهُم النَّفْل تَاما لأجل الْإِحَاطَة فِي كلمة كل على وَجه الْإِفْرَاد وكل وَاحِد من الداخلين كَأَنَّهُ فَرد لَيْسَ مَعَه غَيره وَهُوَ أول من النَّاس من الَّذين لم يدخلُوا فَاسْتحقَّ النَّفْل كَامِلا وَلَو دخل الْعشْرَة على التَّعَاقُب كَانَ النَّفْل للْأولِ خَاصَّة فِي الْفَصْلَيْنِ لاحْتِمَال الْخُصُوص فِي كلمة كل فَإِن الأول اسْم لفرد سَابق وَهَذَا الْوَصْف تحقق فِيهِ دون من دخل بعده وَكلمَة الْجَمِيع بِمَنْزِلَة كلمة كل فِي أَنَّهَا توجب الْإِحَاطَة وَلَكِن على وَجه الِاجْتِمَاع لَا على وَجه الْإِفْرَاد حَتَّى لَو قَالَ جَمِيع من دخل مِنْكُم الْحصن أَولا فَلهُ كَذَا فَدخل عشرَة مَعًا استحقوا نفلا وَاحِدًا بِخِلَاف قَوْله كل من دخل لِأَن لفظ الْجَمِيع للإحاطة على وَجه الِاجْتِمَاع وهم سَابِقُونَ بِالدُّخُولِ على سَائِر النَّاس وَكلمَة كل للإحاطة على وَجه الْإِفْرَاد فَكل وَاحِد مِنْهُم كالمنفرد بِالدُّخُولِ سَابِقًا على سَائِر النَّاس مِمَّن لم يدْخل وَلَو قَالَ جمَاعَة من أهل الْحَرْب آمنونا على بنينَا ولأحدهم ابْن وَبَنَات وللباقين بَنَات فَقَط ثَبت الْأمان لَهُم جَمِيعًا وَلَو قَالَ آمنُوا كل وَاحِد منا على بنيه فَإِنَّمَا الْأمان لأَوْلَاد الرجل الَّذِي لَهُ ابْن خَاصَّة دون الآخرين لِأَن الْإِحَاطَة فِي الأول على وَجه الِاجْتِمَاع وباختلاط الذّكر الْوَاحِد بجماعتهم بتناولهم اسْم الْبَنِينَ وَفِي الثَّانِي الْإِحَاطَة على سَبِيل الْإِفْرَاد فَإِنَّمَا يتَنَاوَل لفظ الْبَنِينَ أَوْلَاد الرجل الَّذِي لَهُ ابْن دون أَوْلَاد الَّذين لَهُم بَنَات فَقَط وَهَذِه الْكَلِمَات مَوْضُوعَة لِمَعْنى الْعُمُوم لُغَة غير معلولة وَنَوع آخر مِنْهَا النكرَة فَإِن النكرَة من الِاسْم للخصوص فِي أصل الْوَضع قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّا أرسلنَا إِلَيْكُم رَسُولا شَاهدا عَلَيْكُم كَمَا أرسلنَا} لِأَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الْمَقْصُود بِهِ تَسْمِيَة فَرد من الْأَفْرَاد {إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا} وَالْمرَاد رَسُول وَاحِد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خمس من الْإِبِل شَاة وَفِي الْعَادة يُقَال عبد من العبيد وَرجل من الرِّجَال وَلَا يُقَال رجال من الرِّجَال ثمَّ هَذِه النكرَة عِنْد الْإِطْلَاق لَا تعم عندنَا وَعند الشَّافِعِي رَحمَه الله تكون عَامَّة وَبَيَانه فِي قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِير رَقَبَة} فَهُوَ يَقُول هَذِه رَقَبَة عَامَّة يدْخل فِيهَا الصَّغِيرَة والكبيرة وَالذكر وَالْأُنْثَى والكافرة والمؤمنة والصحيحة والزمنة وَقد خص مِنْهَا الزمنة والمدبرة بِالْإِجْمَاع فَيجوز تَخْصِيص الْكَافِرَة مِنْهَا بِالْقِيَاسِ على كَفَّارَة الْقَتْل وَنحن نقُول هَذِه رَقَبَة مُطلقَة غير مُقَيّدَة بِوَصْف فالتقييد بِالْوَصْفِ يكون زِيَادَة وَلَا يكون تَخْصِيصًا فَيكون نسخا ورفعا لحكم الْإِطْلَاق إِذْ الْمُقَيد غير الْمُطلق وَبِهَذَا النَّص وَجب عتق رَقَبَة لَا عتق رِقَاب ثمَّ جَوَاز الْعتْق فِي جَمِيع مَا ذكره بِاعْتِبَار صَلَاحِية الْمحل لما وَجب بِالْأَمر وَهَذِه الصلاحية مَا ثبتَتْ بِهَذَا النَّص فقد كَانَت صَالِحَة للتحرير قبل وجوب الْعتْق بِهَذَا النَّص وَإِنَّمَا الثَّابِت بِهَذَا النَّص الْوُجُوب فَقَط وَلَيْسَ فِيهِ معنى الْعُمُوم كمن نذر أَن يتَصَدَّق بدرهم فَأَي دِرْهَم تصدق بِهِ خرج عَن نَذره لِأَن صَلَاحِية الْمحل للتصدق لم تكن بنذره إِنَّمَا الْوُجُوب بِالنذرِ وَلَيْسَ فِي الْوُجُوب معنى الْعُمُوم وَاشْتِرَاط الْملك فِي الرَّقَبَة لضَرُورَة التَّحْرِير الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فَإِن التَّحْرِير لَا يَصح من الْمَرْء إِلَّا فِي ملكه وَاشْتِرَاط صفة السَّلامَة لإِطْلَاق الرَّقَبَة لِأَن الْإِطْلَاق يَقْتَضِي الْكَمَال والزمنة قَائِمَة من وَجه مستهلكة من وَجه فَلَا تكون قَائِمَة مُطلقًا حَتَّى تتناولها اسْم الرَّقَبَة مُطلقًا وَلِهَذَا شَرط كَمَال الرّقّ أَيْضا لِأَن التَّحْرِير مَنْصُوص عَلَيْهِ مُطلقًا وَذَلِكَ إِعْتَاق كَامِل ابْتِدَاء وَفِي الْمُدبر وَأم الْوَلَد هَذَا من وَجه تَعْجِيل لما صَار مُسْتَحقّا لَهما مُؤَجّلا فَلَا يكون إعتاقا مُبْتَدأ مُطلقًا وعَلى هَذَا قُلْنَا الْمُنكر إِذا أُعِيد مُنْكرا فَالثَّانِي غير الأول لِأَن اسْم النكرَة يتَنَاوَل فَردا غير معِين وَفِي صرف الثَّانِي إِلَى مَا يتَنَاوَلهُ الأول نوع تعْيين فَلَا يكون نكرَة مُطلقًا وَهُوَ معنى قَول ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا لن يغلب عسر يسرين فَإِن الله تَعَالَى ذكر الْيُسْر مُنْكرا وَأَعَادَهُ مُنْكرا وَذكر الْعسر مُعَرفا بِالْألف وَاللَّام وَلَو كَانَ إِطْلَاق اسْم النكرَة يُوجب الْعُمُوم لم يكن الثَّانِي غير الأول بِمَنْزِلَة اسْم الْجِنْس وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة إِذا أقرّ بِمِائَة دِرْهَم فِي موطن وَأشْهد شَاهِدين ثمَّ أقرّ بِمِائَة فِي موطن آخر وَأشْهد شَاهِدين كَانَ الثَّانِي غير الأول وَلَو كتب صكا فِيهِ إِقْرَار بِمِائَة وَأشْهد شَاهِدين فِي مجْلِس ثمَّ شَاهِدين فِي مجْلِس آخر كَانَ المَال وَاحِدًا لِأَنَّهُ حِين أضَاف الْإِقْرَار إِلَى مَا فِي الصَّك صَار الثَّانِي مُعَرفا فَيتَنَاوَل مَا يتَنَاوَلهُ الأول فَقَط كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فعصى فِرْعَوْن الرَّسُول} وَلَو كَانَ فِي مجْلِس وَاحِد أقرّ مرَّتَيْنِ فَإِن الْعَام إِذا أُعِيد بصيغته فَالثَّانِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 لَا يتَنَاوَل إِلَّا مَا يتَنَاوَلهُ الأول فَالْمَال وَاحِد اسْتِحْسَانًا لِأَن للمجلس تَأْثِيرا فِي جمع الْكَلِمَات المتفرقة وَجعلهَا ككلمة وَاحِدَة فباعتباره يكون الثَّانِي مُعَرفا من وَجه وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد فِي المجلسين كَذَلِك بِاعْتِبَار الْعَادة لِأَن الْإِنْسَان يُكَرر الْإِقْرَار الْوَاحِد بَين يَدي كل فريق من الشُّهُود لِمَعْنى الاستيثاق وَالْمَال مَعَ الشَّك لَا يجب فلاحتمال الْإِعَادَة بطرِيق الْعَادة لم يلْزمه إِلَّا مَال وَاحِد ثمَّ هَذِه النكرَة تحْتَمل معنى الْعُمُوم إِذا اتَّصل بهَا دَلِيل الْعُمُوم وَذَلِكَ أَنْوَاع مِنْهَا النكرَة فِي مَوضِع النَّفْي فَإِنَّهَا تعم قَالَ تَعَالَى {فَلَا تدعوا مَعَ الله أحدا} وَالرجل يَقُول مَا رَأَيْت رجلا الْيَوْم فَإِنَّمَا يفهم مِنْهُ نفي هَذَا الْجِنْس على الْعُمُوم وَهَذَا التَّعْمِيم لَيْسَ بِصِيغَة النكرَة بل لمقتضاها وَبِه تبين معنى الْفرق بَين النكرَة فِي الْإِثْبَات والنكرة فِي النَّفْي لِأَن فِي مَوضِع الْإِثْبَات الْمَقْصُود إِثْبَات الْمُنكر وَفِي مَوضِع النَّفْي الْمَقْصُود نفي الْمُنكر فالصيغة فِي الْمَوْضِعَيْنِ تعْمل فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود إِلَّا أَن من ضَرُورَة نفي رُؤْيَة رجل مُنكر نفي رُؤْيَة جنس الرِّجَال فَإِنَّهُ بعد رُؤْيَة رجل وَاحِد لَو قَالَ مَا رَأَيْت الْيَوْم رجلا كَانَ كَاذِبًا أَلا ترى أَنه لَو أخبر بضده فَقَالَ رَأَيْت الْيَوْم رجلا كَانَ صَادِقا وَلَيْسَ من ضَرُورَة إِثْبَات رُؤْيَة رجل وَاحِد إِثْبَات رُؤْيَة غَيره فَهَذَا معنى قَوْلنَا النكرَة فِي النَّفْي تعم وَفِي الْإِثْبَات تخص وَمِمَّا يدل على الْعُمُوم فِي النكرَة الْألف وَاللَّام إِذا اتصلا بنكرة لَيْسَ فِي جِنْسهَا مَعْهُود قَالَ تَعَالَى {إِن الْإِنْسَان لفي خسر} وَقَالَ تَعَالَى {وَالسَّارِق والسارقة} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وَقَالَ تَعَالَى {الزَّانِيَة وَالزَّانِي} لما اتَّصل الْألف وَاللَّام بنكرة لَيْسَ فِي جِنْسهَا مَعْهُود أوجب الْعُمُوم وَلِهَذَا قُلْنَا لَو قَالَ الْمَرْأَة الَّتِي أَتَزَوَّجهَا طَالِق تطلق كل امْرَأَة يَتَزَوَّجهَا وَلَو قَالَ العَبْد الَّذِي يدْخل الدَّار من عَبِيدِي حر يعْتق كل عبد يدْخل الدَّار وَهَذَا لِأَن الْألف وَاللَّام للمعهود وَلَيْسَ هُنَا مَعْهُود فَيكون بِمَعْنى الْجِنْس مجَازًا كَالرّجلِ يَقُول فلَان يحب الدِّينَار وَمرَاده الْجِنْس وَفِي الْجِنْس معنى الْعُمُوم كَمَا بَينا وعَلى هَذَا لَو قَالَ لامْرَأَته أَنْت الطَّلَاق أَو أَنْت طَالِق الطَّلَاق يحْتَمل معنى الْعُمُوم فِيهِ حَتَّى إِذا نوى الثَّلَاث تقع الثَّلَاث وَلَكِن بِدُونِ النِّيَّة يتَنَاوَل الْوَاحِدَة لِأَنَّهَا أدنى الْجِنْس وَهِي الْمُتَيَقن بهَا وعَلى هَذَا قَالَ فِي الزِّيَادَات لَو وكل وَكيلا بشرَاء الثِّيَاب يَصح التَّوْكِيل بِدُونِ بَيَان الْجِنْس لِأَن عِنْد ذكر الْألف وَاللَّام يصير هَذَا بِمَعْنى الْجِنْس فَيتَنَاوَل الْأَدْنَى بِخِلَاف مَا لَو قَالَ ثيابًا أَو أثوابا فَإِن التَّوْكِيل لَا يكون صَحِيحا لجَهَالَة الْجِنْس فِيمَا يتَنَاوَلهُ التَّوْكِيل وَمن الدَّلِيل على التَّعْمِيم فِي النكرَة إِلْحَاق وصف عَام بهَا حَتَّى إِذا قَالَ وَالله لَا أكلم إِلَّا رجلا عَالما كَانَ لَهُ أَن يكلم كل عَالم لِأَن الْمُسْتَثْنى نكرَة فِي الْإِثْبَات وَلكنهَا مَوْصُوفَة بِصفة عَامَّة بِخِلَاف مَا لَو قَالَ إِلَّا رجلا فَكلم رجلَيْنِ فَإِنَّهُ يَحْنَث وَلَو قَالَ لامرأتين لَهُ وَالله لَا أقربكما إِلَّا يَوْمًا فالمستثنى يَوْم وَاحِد وَلَو قَالَ إِلَّا يَوْم أقربكما فِيهِ فَكل يَوْم يقربهما فِيهِ يكون مُسْتَثْنى لَا يَحْنَث بِهِ لِأَنَّهُ وصف النكرَة بِصفة عَامَّة وَمن جنس النكرَة كلمة أَي فَإِنَّهَا للخصوص بِاعْتِبَار أصل الْوَضع يَقُول أَي رجل أَتَاك وَأي دَار تريدها وَالْمرَاد الْفَرد فَقَط وَقَالَ تَعَالَى {أَيّكُم يأتيني بِعَرْشِهَا} وَالْمرَاد الْفَرد من المخاطبين بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى {يأتيني} فَإِنَّهُ لم يقل يأتوني وعَلى هَذَا لَو قَالَ لرجل أَي عَبِيدِي ضَربته فَهُوَ حر فضربهم لم يعْتق إِلَّا وَاحِد مِنْهُم لِأَن كلمة أَي يتَنَاوَل الْفَرد مِنْهُم فَإِن قيل أَلَيْسَ أَنه لَو قَالَ أَي عَبِيدِي ضربك فَهُوَ حر فضربوه عتقوا جَمِيعًا قُلْنَا نعم وَلَكِن كلمة أَي تتَنَاوَل الْفَرد مِمَّا يقرن بِهِ من النكرَة فَإِذا قَالَ ضربك فَإِنَّمَا يتَنَاوَل نكرَة مَوْصُوفَة بِفعل الضَّرْب وَهَذِه الصّفة عَامَّة إِلَى الْمُخَاطب لَا إِلَى النكرَة الَّتِي تتناولها كلمة أَي فَبَقيت نكرَة غير مَوْصُوفَة فَلهَذَا لَا تتَنَاوَل إِلَّا الْوَاحِد مِنْهُم وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى أَي فيتعمم بتعميم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الصّفة فيعتقون جَمِيعًا وَإِذا قَالَ ضَربته فَإِنَّمَا أضَاف الضَّرْب الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بالأمن وَالْمرَاد أَحدهمَا بِدَلِيل قَوْله {الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم} وَقَالَ تَعَالَى {ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} وَالْمرَاد بِهِ الْعُمُوم لِأَنَّهُ وصف النكرَة بِحسن الْعَمَل وَهِي صفة عَامَّة فَإِن قيل أَلَيْسَ أَنه لَو قَالَ لعبيده أَيّكُم حمل هَذِه الْخَشَبَة فَهُوَ حر فحملوها جَمِيعًا مَعًا والخشبة يُطيق حملهَا وَاحِد لم يعْتق وَاحِد مِنْهُم وَقد وصف النكرَة هُنَا بِصفة عَامَّة وَهُوَ الْحمل قُلْنَا مَا وصف النكرَة بِصفة الْحمل مُطلقًا بل بِحمْل الْخَشَبَة وَإِذا حملوها مَعًا فَكل وَاحِد مِنْهُم إِنَّمَا حمل بَعْضهَا وبوجود بعض الشَّرْط لَا ينزل شَيْء من الْجَزَاء حَتَّى لَو حملوها على التَّعَاقُب عتقوا جَمِيعًا لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم حمل الْخَشَبَة والنكرة الموصوفة تكون عَامَّة فَإِن قيل إِذا كَانَت الْخَشَبَة بِحَيْثُ لَا يُطيق حملهَا وَاحِد مِنْهُم عتقوا جَمِيعًا إِذا حملوها وَإِنَّمَا حمل كل وَاحِد مِنْهُم بَعْضهَا قُلْنَا إِذا كَانَت لَا يُطيق حملهَا وَاحِد فَقَط علمنَا أَنه وصف النكرَة بِأَصْل الْحمل لَا بِحمْل الْخَشَبَة وَإِنَّمَا علمنَا هَذَا من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنه إِنَّمَا يحث العبيد على مَا يتَحَقَّق مِنْهُم دون مَا لَا يتَحَقَّق وَالثَّانِي أَن مَقْصُوده إِذا كَانَت بِحَيْثُ يحملهَا وَاحِد معرفَة جلادتهم وَإِنَّمَا يحصل ذَلِك بِحمْل الْوَاحِد الْخَشَبَة لَا بِمُطلق الْحمل وَإِذا كَانَت بِحَيْثُ لَا يحملهَا وَاحِد فمقصوده أَن تصير الْخَشَبَة مَحْمُولَة إِلَى مَوضِع حَاجته وَإِنَّمَا يحصل هَذَا بِمُطلق فعل الْحمل من كل وَاحِد مِنْهُم فَهَذَا وَجه الْفرق بَين هَذِه الْفُصُول فصل وَأما حكم الْمُشْتَرك فالتوقف فِيهِ إِلَى أَن يظْهر المُرَاد بِالْبَيَانِ على اعْتِقَاد أَن مَا هُوَ المُرَاد حق وَيشْتَرط أَن لَا يتْرك طلب المُرَاد بِهِ إِمَّا بِالتَّأَمُّلِ فِي الصِّيغَة أَو الْوُقُوف على دَلِيل آخر بِهِ يتَبَيَّن المُرَاد لِأَن كَلَام الْحَكِيم لَا يَخْلُو عَن فَائِدَة وَإِذا كَانَ الْمُشْتَرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 مَا يحْتَمل مَعَاني على وَجه التَّسَاوِي فِي الِاحْتِمَال مَعَ علمنَا أَن المُرَاد وَاحِد مِنْهَا لَا جَمِيعهَا فَإِن الِاشْتِرَاك عبارَة عَن التَّسَاوِي وَذَلِكَ إِمَّا فِي الِاجْتِمَاع فِي التَّنَاوُل أَو فِي احْتِمَال التَّنَاوُل وَقد انْتَفَى معنى التَّسَاوِي فِي التَّنَاوُل فَتعين معنى التَّسَاوِي فِي الِاحْتِمَال وَوَجَب اعْتِقَاد الحقية فِيمَا هُوَ المُرَاد لِأَن ذَلِك فَائِدَة كَلَام الْحَكِيم ثمَّ يجب الِاشْتِغَال بِطَلَبِهِ ولطلبه طَرِيقَانِ إِمَّا التَّأَمُّل بالصيغة ليتبين بِهِ المُرَاد أَو طلب دَلِيل آخر يعرف بِهِ المُرَاد وبالوقوف على المُرَاد يَزُول معنى الِاحْتِمَال على التَّسَاوِي فَلهَذَا يجب ذَلِك بِحكم الصِّيغَة الْمُشْتَركَة وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله غصبت من فلَان شَيْئا فَإِن أصل الْإِقْرَار يَصح وَيجب بِهِ حق للْمقر لَهُ على الْمقر إِلَّا أَن فِي اسْم الشَّيْء احْتِمَالا فِي كل مَوْجُود على التَّسَاوِي وَلَكِن بِالتَّأَمُّلِ فِي صِيغَة الْكَلَام يعلم أَن مُرَاده المَال لِأَنَّهُ قَالَ غصبت وَحكم الْغَصْب لَا يثبت شرعا إِلَّا فِيمَا هُوَ مَال وَلَكِن لَا يعرف جنس ذَلِك المَال وَلَا مِقْدَاره بِالتَّأَمُّلِ فِي صِيغَة الْكَلَام فَيرجع فِيهِ إِلَى بَيَان الْمقر حَتَّى يجْبر على الْبَيَان وَيقبل قَوْله إِذا بَين مَا هُوَ مُحْتَمل وَأما حكم المؤول فوجوب الْعَمَل بِهِ على حسب وجوب الْعَمَل بِالظَّاهِرِ إِلَّا أَن وجوب الْعَمَل بِالظَّاهِرِ ثَابت قطعا وَوُجُوب الْعَمَل بالمؤول ثَابت مَعَ احْتِمَال السَّهْو والغلط فِيهِ فَلَا يكون قطعا بِمَنْزِلَة الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد لِأَن طَرِيقه غَالب الرَّأْي وَذَلِكَ لَا يَنْفَكّ عَن احْتِمَال السَّهْو والغلط وَبَيَان هَذَا فِيمَن أَخذ مَاء الْمَطَر فِي إِنَاء فَإِنَّهُ يلْزمه التَّوَضُّؤ بِهِ وَيحكم بِزَوَال الْحَدث بِهِ قطعا وَلَو وجد مَاء فِي مَوضِع فغلب على ظَنّه أَنه طَاهِر يلْزمه التَّوَضُّؤ بِهِ على احْتِمَال السَّهْو والغلط حَتَّى إِذا تبين أَن المَاء نجس يلْزمه إِعَادَة الْوضُوء وَالصَّلَاة وَأكْثر مسَائِل التَّحَرِّي على هَذَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب أَسمَاء صِيغَة الْخطاب فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاء وأحكامها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَذِه الْأَسْمَاء أَرْبَعَة الظَّاهِر وَالنَّص والمفسر والمحكم وَلها أضداد أَرْبَعَة الْخَفي والمشكل والمجمل والمتشابه أما الظَّاهِر فَهُوَ مَا يعرف المُرَاد مِنْهُ بِنَفس السماع من غير تَأمل وَهُوَ الَّذِي يسْبق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 إِلَى الْعُقُول والأوهام لظُهُوره مَوْضُوعا فِيمَا هُوَ المُرَاد مِثَاله قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم} وَقَالَ تَعَالَى {وَأحل الله البيع} وَقَالَ تَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} فَهَذَا وَنَحْوه ظَاهر يُوقف على المُرَاد مِنْهُ بِسَمَاع الصِّيغَة وَحكمه لُزُوم مُوجبه قطعا عَاما كَانَ أَو خَاصّا وَأما النَّص فَمَا يزْدَاد وضوحا بِقَرِينَة تقترن بِاللَّفْظِ من الْمُتَكَلّم لَيْسَ فِي اللَّفْظ مَا يُوجب ذَلِك ظَاهرا بِدُونِ تِلْكَ الْقَرِينَة وَزعم بعض الْفُقَهَاء أَن اسْم النَّص لَا يتَنَاوَل إِلَّا الْخَاص وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن اشتقاق هَذِه الْكَلِمَة من قَوْلك نصصت الدَّابَّة إِذا حملتها على سير فَوق السّير الْمُعْتَاد مِنْهَا بِسَبَب باشرته وَمِنْه المنصة فَإِنَّهُ اسْم للعرش الَّذِي يحمل عَلَيْهِ الْعَرُوس فَيَزْدَاد ظهورا بِنَوْع تكلّف فَعرفنَا أَن النَّص مَا يزْدَاد وضوحا لِمَعْنى من الْمُتَكَلّم يظْهر ذَلِك عِنْد الْمُقَابلَة بِالظَّاهِرِ عَاما كَانَ أَو خَاصّا إِلَّا أَن تِلْكَ الْقَرِينَة لما اخْتصّت بِالنَّصِّ دون الظَّاهِر جعل بَعضهم الِاسْم للخاص فَقَط وَقَالَ بَعضهم النَّص يكون مُخْتَصًّا بِالسَّبَبِ الَّذِي كَانَ السِّيَاق لَهُ فَلَا يثبت بِهِ مَا هُوَ مُوجب الظَّاهِر وَلَيْسَ كَذَلِك عندنَا فَإِن الْعبْرَة لعُمُوم الْخطاب لَا لخُصُوص السَّبَب عندنَا على مَا نبينه فَيكون النَّص ظَاهرا لصيغة الْخطاب نصا بِاعْتِبَار الْقَرِينَة الَّتِي كَانَ السِّيَاق لأَجلهَا وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَأحل الله البيع وَحرم الرِّبَا} فَإِنَّهُ ظَاهر فِي إِطْلَاق البيع نَص فِي الْفرق بَين البيع والربا بِمَعْنى الْحل وَالْحُرْمَة لِأَن السِّيَاق كَانَ لأَجله لِأَنَّهَا نزلت ردا على الْكَفَرَة فِي دَعوَاهُم الْمُسَاوَاة بَين البيع والربا كَمَا قَالَ تَعَالَى {ذَلِك بِأَنَّهُم قَالُوا إِنَّمَا البيع مثل الرِّبَا} وَقَوله تَعَالَى {فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء} ظَاهر فِي تَجْوِيز نِكَاح مَا يستطيبه الْمَرْء من النِّسَاء نَص فِي بَيَان الْعدَد لِأَن سِيَاق الْآيَة لذَلِك بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى {مثنى وَثَلَاث وَربَاع} وَقَوله تَعَالَى {فطلقوهن لعدتهن} نَص فِي الْأَمر بمراعاة وَقت السّنة عِنْد إِرَادَة الْإِيقَاع لِأَن السِّيَاق كَانَ لأجل ذَلِك ظَاهر فِي الْأَمر بِأَن لَا يزِيد على تَطْلِيقَة وَاحِدَة (فَإِن امْتِثَال هَذِه الصِّيغَة يكون بقوله طلقت وَبِهَذَا اللَّفْظ لَا يَقع الطَّلَاق إِلَّا وَاحِدَة وَالْأَمر مُوجب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الِامْتِثَال ظَاهرا فَتبين بِهَذَا أَن مُوجب النَّص مَا هُوَ مُوجب الظَّاهِر وَلكنه يزْدَاد على الظَّاهِر فِيمَا يرجع إِلَى الوضوح وَالْبَيَان بِمَعْنى عرف من مُرَاد الْمُتَكَلّم وَإِنَّمَا يظْهر ذَلِك عِنْد الْمُقَابلَة وَيكون النَّص أولى من الظَّاهِر وَأما الْمُفَسّر فَهُوَ اسْم للمكشوف الَّذِي يعرف المُرَاد بِهِ مكشوفا على وَجه لَا يبْقى مَعَه احْتِمَال التَّأْوِيل فَيكون فَوق الظَّاهِر وَالنَّص لِأَن احْتِمَال التَّأْوِيل قَائِم فيهمَا مُنْقَطع فِي الْمُفَسّر سَوَاء كَانَ ذَلِك مِمَّا يرجع إِلَى صِيغَة الْكَلَام بِأَن لَا يكون مُحْتملا إِلَّا وَجها وَاحِدًا وَلكنه لُغَة عَرَبِيَّة أَو اسْتِعَارَة دقيقة فَيكون مكشوفا بِبَيَان الصِّيغَة أَو يكون بِقَرِينَة من غير الصِّيغَة فيتبين بِهِ المُرَاد بالصيغة لَا لِمَعْنى من الْمُتَكَلّم فَيَنْقَطِع بِهِ احْتِمَال التَّأْوِيل إِن كَانَ خَاصّا وَاحْتِمَال التَّخْصِيص إِن كَانَ عَاما مِثَاله قَوْله تَعَالَى {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ} فَإِن اسْم الْمَلَائِكَة عَام فِيهِ احْتِمَال الْخُصُوص فبقوله {كلهم} يَنْقَطِع هَذَا الِاحْتِمَال وَيبقى احْتِمَال الْجمع والافتراق فبقوله {أَجْمَعُونَ} يَنْقَطِع احْتِمَال تَأْوِيل الِافْتِرَاق وَتبين أَن الْمُفَسّر حكمه زَائِد على حكم النَّص وَالظَّاهِر فَكَانَ ملزما مُوجبه قطعا على وَجه لَا يبْقى فِيهِ احْتِمَال التَّأْوِيل وَلَكِن يبْقى احْتِمَال النّسخ وَأما الْمُحكم فَهُوَ زَائِد على مَا قُلْنَا بِاعْتِبَار أَنه لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال النّسخ والتبديل وَهُوَ مَأْخُوذ من قَوْلك بِنَاء مُحكم أَي مَأْمُون الانتقاض وأحكمت الصِّيغَة أَي أمنت نقضهَا وتبديلها وَقيل بل هُوَ مَأْخُوذ من قَول الْقَائِل أحكمت فلَانا عَن كَذَا أَي رَددته قَالَ الْقَائِل أبني حنيفَة أحكموا سفهاءكم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم أَن أغضبا أَي امنعوا وَمِنْه حِكْمَة الْفرس لِأَنَّهَا تَمنعهُ من العثار وَالْفساد فالمحكم مُمْتَنع من احْتِمَال التَّأْوِيل وَمن أَن يرد عَلَيْهِ النّسخ والتبديل وَلِهَذَا سمى الله تَعَالَى المحكمات أم الْكتاب أَي الأَصْل الَّذِي يكون الْمرجع إِلَيْهِ بِمَنْزِلَة الْأُم للْوَلَد فَإِنَّهُ يرجع إِلَيْهَا وَسميت مَكَّة أم الْقرى لِأَن النَّاس يرجعُونَ إِلَيْهَا لِلْحَجِّ وَفِي آخر الْأَمر نَحْو قَوْله تَعَالَى {أَن الله بِكُل شَيْء عليم} فقد علم أَن هَذَا (وصف) دَائِم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 والمرجع مَا لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال التَّأْوِيل وَلَا احْتِمَال النّسخ والتبديل وَذَلِكَ لَا يحْتَمل السُّقُوط بِحَال وَإِنَّمَا يظْهر التَّفَاوُت فِي مُوجب هَذِه الْأَسَامِي عِنْد التَّعَارُض وَفَائِدَته ترك الْأَدْنَى بالأعلى وترجيح الْأَقْوَى على الأضعف وَلِهَذَا أَمْثِلَة فِي الْآثَار إِذا تَعَارَضَت نذكرها فِي بَيَان أَقسَام الْأَخْبَار إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأَمْثَاله من مسَائِل الْفِقْه مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله فِيمَن تزوج امْرَأَة شهرا فَإِنَّهُ يكون ذَلِك مُتْعَة لَا نِكَاحا لِأَن قَوْله تزوجت نَص للنِّكَاح وَلَكِن احْتِمَال الْمُتْعَة قَائِم فِيهِ وَقَوله شهرا مُفَسّر فِي الْمُتْعَة لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال النِّكَاح فَإِن النِّكَاح لَا يحْتَمل التَّوْقِيت بِحَال فَإِذا اجْتمعَا فِي الْكَلَام رجحنا الْمُفَسّر وحملنا النَّص على ذَلِك الْمُفَسّر فَكَانَ مُتْعَة لَا نِكَاحا وَقَالَ فِي الْجَامِع إِذا قَالَ الرجل لآخر لي عَلَيْك ألف دِرْهَم فَقَالَ الْحق أَو الصدْق أَو الْيَقِين كَانَ إِقْرَارا وَلَو قَالَ الْبر أَو الصّلاح لَا يكون إِقْرَارا فَإِن قَالَ الْبر الْحق أَو الْبر الصدْق أَو الْبر الْيَقِين كَانَ إِقْرَارا وَلَو قَالَ الصّلاح الْحق أَو الصّلاح الصدْق أَو الصّلاح الْيَقِين يكون ردا لكَلَامه وَلَا يكون إِقْرَارا لِأَن الْحق والصدق وَالْيَقِين صفة للْخَبَر ظَاهرا فَإِذا ذكره فِي مَوضِع الْجَواب كَانَ مَحْمُولا على الْخَبَر الَّذِي هُوَ تَصْدِيق بِاعْتِبَار الظَّاهِر مَعَ احْتِمَال فِيهِ وَهُوَ إِرَادَة ابْتِدَاء الْكَلَام أَي الصدْق أولى بك أَو الْحق أَو الْيَقِين أولى بالاشتغال من دَعْوَى الْبَاطِل فَأَما الْبر فَهُوَ اسْم لجَمِيع أَنْوَاع الْإِحْسَان لَا يخْتَص بالْخبر فَهُوَ وَإِن ذكر فِي مَوضِع الْجَواب يكون بِمَنْزِلَة الْمُجْمل لَا يفهم مِنْهُ الْجَواب عِنْد الِانْفِرَاد فَإِن قرن بِهِ مَا يكون ظَاهره للجواب وَذَلِكَ الصدْق أَو الْحق أَو الْيَقِين حمل ذَلِك الْمُجْمل على هَذَا الْبَيَان الظَّاهِر فَيكون إِقْرَارا فَأَما الصّلاح لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال الْخَبَر بل هُوَ مُحكم فِي أَنه ابْتِدَاء كَلَام لَا جَوَاب فَيحمل مَا يقرن بِهِ من الظَّاهِر على هَذَا الْمُحكم وَيجْعَل ذَلِك ردا لكَلَامه وَابْتِدَاء أَمر لَهُ بِاتِّبَاع الصّلاح وَترك دَعْوَى الْبَاطِل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وَأما الْخَفي فَهُوَ اسْم لما اشْتبهَ مَعْنَاهُ وخفي المُرَاد مِنْهُ بِعَارِض فِي الصِّيغَة يمْنَع نيل المُرَاد بهَا إِلَّا بِالطَّلَبِ مَأْخُوذ من قَوْلهم اختفى فلَان إِذا استتر فِي وَطنه وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُوقف عَلَيْهِ بِعَارِض حِيلَة أحدثه إِلَّا بالمبالغة فِي الطّلب من غير أَن يُبدل نَفسه أَو مَوْضِعه وَهُوَ ضد الظَّاهِر وَقد جعل بَعضهم ضد الظَّاهِر الْمُبْهم وَفَسرهُ بِهَذَا الْمَعْنى أَيْضا مَأْخُوذ من قَول الْقَائِل ليل بهيم إِذا عَم الظلام فِيهِ كل شَيْء حَتَّى لَا يهتدى فِيهِ إِلَّا بِحَدّ التَّأَمُّل قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَلَكِنِّي اخْتَرْت الأول لِأَن اسْم الْمُبْهم يتَنَاوَل الْمُطلق لُغَة تَقول الْعَرَب فرس بهيم أَي مُطلق اللَّوْن وَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أبهموا مَا أبهم الله تَعَالَى أَي أطْلقُوا مَا أطلق الله تَعَالَى وَلَا تقيدوا الْحُرْمَة فِي أُمَّهَات النِّسَاء بِالدُّخُولِ بالبنات وَبَيَان مَا ذكرنَا من معنى الْخَفي فِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} فَإِنَّهُ ظَاهر فِي السَّارِق الَّذِي لم يخْتَص باسم آخر سوى السّرقَة يعرف بِهِ خَفِي فِي الطرار والنباش فقد اختصا باسم آخر هُوَ سَبَب سرقتهما يعرفان بِهِ فَاشْتَبَهَ الْأَمر أَن اختصاصهما بِهَذَا الِاسْم لنُقْصَان فِي معنى السّرقَة أَو زِيَادَة فِيهَا وَلأَجل ذَلِك اخْتلف الْعلمَاء قَالَ أَبُو يُوسُف اخْتِصَاص النباش باسم هُوَ سَبَب سَرقته لَا يدل على نُقْصَان فِي سَرقته كالطرار وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله السّرقَة اسْم لأخذ المَال على وَجه مسارقة عين حافظه مَعَ كَونه قَاصِدا إِلَى حفظه باعتراض غَفلَة لَهُ من نوم أَو غَيره والنباش يسارق عين من عَسى يهجم عَلَيْهِ مِمَّن لَيْسَ بحافظ للكفن وَلَا قَاصد إِلَى حفظه فَهُوَ يبين أَن اخْتِصَاصه بِهَذَا الِاسْم لنُقْصَان فِي معنى السّرقَة وَكَذَلِكَ فِي اسْم السّرقَة مَا ينبىء عَن خطر الْمَسْرُوق بِكَوْنِهِ محرزا مَحْفُوظًا وَفِي اسْم النباش مَا يَنْفِي هَذَا الْمَعْنى بل ينبىء عَن ضِدّه من الهوان وَترك الْإِحْرَاز والتعدية فِي مثل هَذَا لإِيجَاب الْعقُوبَة الَّتِي تدرأ بِالشُّبُهَاتِ بَاطِلَة فَأَما الطرار فاختصاصه بذلك الِاسْم لزِيَادَة حذق ولطف مِنْهُ فِي جِنَايَته فَإِنَّهُ يسارق عين من يكون مُقبلا على الْحِفْظ قَاصِدا لذَلِك بفترة تعتريه فِي لَحْظَة فَذَلِك ينبىء عَن مُبَالغَة فِي جِنَايَة السّرقَة وتعدية الحكم بِمثلِهِ مُسْتَقِيم فِي الْحُدُود لِأَنَّهُ إِثْبَات حكم النَّص بطرِيق الأولى بِمَنْزِلَة حُرْمَة الشتم وَالضَّرْب بِالنَّصِّ الْمحرم للتأفيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ثمَّ حكم الْخَفي اعْتِقَاد الحقية فِي المُرَاد وَوُجُوب الطّلب إِلَى أَن يتَبَيَّن المُرَاد وفوقه الْمُشكل وَهُوَ ضد النَّص مَأْخُوذ من قَول الْقَائِل أشكل على كَذَا أَي دخل فِي أشكاله وَأَمْثَاله كَمَا يُقَال أحرم أَي دخل فِي الْحرم وأشتى أَي دخل فِي الشتَاء وأشأم أَي دخل الشَّام وَهُوَ اسْم لما يشْتَبه المُرَاد مِنْهُ بِدُخُولِهِ فِي أشكاله على وَجه لَا يعرف المُرَاد إِلَّا بِدَلِيل يتَمَيَّز بِهِ من بَين سَائِر الأشكال والمشكل قريب من الْمُجْمل وَلِهَذَا خَفِي على بَعضهم فَقَالُوا الْمُشكل والمجمل سَوَاء وَلَكِن بَينهمَا فرق فالتمييز بَين الأشكال ليوقف على المُرَاد قد يكون بِدَلِيل آخر وَقد يكون بالمبالغة فِي التَّأَمُّل حَتَّى يظْهر بِهِ الرَّاجِح فيتبين بِهِ المُرَاد فَهُوَ من هَذَا الْوَجْه قريب من الْخَفي وَلكنه فَوْقه فهناك الْحَاجة إِلَى التَّأَمُّل فِي الصِّيغَة وَفِي أشكالها وَحكمه اعْتِقَاد الحقية فِيمَا هُوَ المُرَاد ثمَّ الإقبال على الطّلب والتأمل فِيهِ إِلَى أَن يتَبَيَّن المُرَاد فَيعْمل بِهِ وَأما الْمُجْمل فَهُوَ ضد الْمُفَسّر مَأْخُوذ من الْجُمْلَة وَهُوَ لفظ لَا يفهم المُرَاد مِنْهُ إِلَّا باستفسار من الْمُجْمل وَبَيَان من جِهَته يعرف بِهِ المُرَاد وَذَلِكَ إِمَّا لتوحش فِي معنى الِاسْتِعَارَة أَو فِي صِيغَة عَرَبِيَّة مِمَّا يُسَمِّيه أهل الْأَدَب لُغَة غَرِيبَة والغريب اسْم لمن فَارق وَطنه وَدخل فِي جملَة النَّاس فَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُوقف على أَثَره إِلَّا بالاستفسار عَن وَطنه مِمَّن يعلم بِهِ وموجبه اعْتِقَاد الحقية فِيمَا هُوَ المُرَاد والتوقف فِيهِ إِلَى أَن يتَبَيَّن بِبَيَان الْمُجْمل ثمَّ استفساره ليبينه بِمَنْزِلَة من ضل عَن الطَّرِيق وَهُوَ يَرْجُو أَن يُدْرِكهُ بالسؤال مِمَّن لَهُ معرفَة بِالطَّرِيقِ أَو بِالتَّأَمُّلِ فِيمَا ظهر لَهُ مِنْهُ فَيحْتَمل أَن يدْرك بِهِ الطَّرِيق وَتبين أَن الْمُجْمل فَوق الْمُشكل فَإِن المُرَاد فِي الْمُشكل قَائِم وَالْحَاجة إِلَى تَمْيِيزه من أشكاله وَالْمرَاد فِي الْمُجْمل غير قَائِم وَلَكِن فِيهِ توهم معرفَة المُرَاد بِالْبَيَانِ وَالتَّفْسِير وَذَلِكَ الْبَيَان دَلِيل آخر غير مُتَّصِل بِهَذِهِ الصِّيغَة إِلَّا أَن يكون لفظ الْمُجْمل فِيهِ غَلَبَة الِاسْتِعْمَال لِمَعْنى فَحِينَئِذٍ يُوقف على المُرَاد بذلك الطَّرِيق بِمَنْزِلَة الْغَرِيب الَّذِي تأهل فِي غير بلدته وَصَارَ مَعْرُوفا فِيهَا فَإِنَّهُ يُوقف على أَثَره بِالطَّلَبِ فِي ذَلِك الْموضع وَبَيَان مَا ذكرنَا من الْمُجْمل فِي قَوْله تَعَالَى {وَحرم الرِّبَا} فَإِنَّهُ مُجمل لِأَن الرِّبَا عبارَة عَن الزِّيَادَة فِي أصل الْوَضع وَقد علمنَا أَنه لَيْسَ المُرَاد ذَلِك فَإِن البيع مَا شرع إِلَّا للاسترباح وَطلب الزِّيَادَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وَلَكِن المُرَاد حُرْمَة البيع بِسَبَب فضل خَال عَن الْعِوَض مَشْرُوط فِي العقد وَذَلِكَ فضل مَال أَو فضل حَال على مَا يعرف فِي مَوْضِعه وَمَعْلُوم أَن بِالتَّأَمُّلِ فِي الصِّيغَة لَا يعرف هَذَا بل بِدَلِيل آخر فَكَانَ مُجملا فِيمَا هُوَ المُرَاد وَكَذَلِكَ الصَّلَاة وَالزَّكَاة فهما مجملان لِأَن الصِّيغَة فِي أصل الْوَضع للدُّعَاء والنماء وَلَكِن بِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال شرعا فِي أَعمال مَخْصُوصَة يُوقف على المُرَاد بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ وَأما الْمُتَشَابه فَهُوَ اسْم لما انْقَطع رَجَاء معرفَة المُرَاد مِنْهُ لمن اشْتبهَ فِيهِ عَلَيْهِ وَالْحكم فِيهِ اعْتِقَاد الحقية وَالتَّسْلِيم بترك الطّلب والاشتغال بِالْوُقُوفِ على المُرَاد مِنْهُ سمي متشابها عِنْد بَعضهم لاشتباه الصِّيغَة بهَا وتعارض الْمعَانِي فِيهَا وَهَذَا غير صَحِيح فالحروف الْمُقطعَة فِي أَوَائِل السُّور من المتشابهات عِنْد أهل التَّفْسِير وَلَيْسَ فِيهَا هَذَا الْمَعْنى وَلَكِن معرفَة المُرَاد فِيهِ مَا يشبه لَفظه وَمَا يجوز أَن يُوقف على المُرَاد فِيهِ وَهُوَ بِخِلَاف ذَلِك لانْقِطَاع احْتِمَال معرفَة المُرَاد فِيهِ وَأَنه لَيْسَ لَهُ مُوجب سوى اعْتِقَاد الحقية فِيهِ وَالتَّسْلِيم كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله} فالوقف عندنَا فِي هَذَا الْموضع ثمَّ قَوْله تَعَالَى {والراسخون فِي الْعلم} ابْتِدَاء بِحرف الْوَاو لحسن نظم الْكَلَام وَبَيَان أَن الراسخ فِي الْعلم من يُؤمن بالمتشابه وَلَا يشْتَغل بِطَلَب المُرَاد فِيهِ بل يقف فِيهِ مُسلما هُوَ معنى قَوْله تَعَالَى {يَقُولُونَ آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا} وَهَذَا لِأَن الْمُؤمنِينَ فريقان مبتلي بالإمعان فِي الطّلب لضرب من الْجَهْل فِيهِ ومبتلي عَن الْوُقُوف فِي الطّلب لكَونه مكرما بِنَوْع من الْعلم وَمعنى الِابْتِلَاء من هَذَا الْوَجْه رُبمَا يزِيد على معنى الِابْتِلَاء فِي الْوَجْه الأول فَإِن فِي الِابْتِلَاء بِمُجَرَّد الِاعْتِقَاد مَعَ التَّوَقُّف فِي الطّلب بَيَان أَن مُجَرّد الْعقل لَا يُوجب شَيْئا وَلَا يدْفع شَيْئا فَإِنَّهُ يلْزمه اعْتِقَاد الحقية فِيمَا لَا مجَال لعقله فِيهِ ليعرف أَن الحكم لله يفعل مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُرِيد وَهَذَا هُوَ الْمَعْنى فِي الِابْتِلَاء بِهَذِهِ الْأَسَامِي الَّتِي فِيهَا تفَاوت يَعْنِي الْمُجْمل والمشكل والخفي فَإِن الْكل لَو كَانَ ظَاهرا جليا بَطل معنى الامتحان ونيل الثَّوَاب بالجهد بِالطَّلَبِ وَلَو كَانَ الْكل مُشكلا خفِيا لم يعلم مِنْهُ شَيْء حَقِيقَة فَأثْبت الشَّرْع هَذَا التَّفَاوُت فِي صِيغَة الْخطاب لتحقيق الْقُلُوب إِلَى محبتهم لحاجتهم إِلَى الرُّجُوع إِلَيْهِم وَالْأَخْذ بقَوْلهمْ والاقتداء بهم وَبَيَان مَا ذكرنَا من معنى الْمُتَشَابه من مسَائِل الْأُصُول أَن رُؤْيَة الله تَعَالَى بالأبصار فِي الْآخِرَة حق مَعْلُوم ثَابت بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وُجُوه} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 معنى الامتحان وَإِظْهَار فَضِيلَة الراسخين فِي الْعلم وتعظيم حرمتهم وَصرف {يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة} ثمَّ هُوَ مَوْجُود بِصفة الْكَمَال وَفِي كَونه مرئيا لنَفسِهِ وَلغيره معنى الْكَمَال إِلَّا أَن الْجِهَة مُمْتَنع فَإِن الله تَعَالَى لَا جِهَة لَهُ فَكَانَ متشابها فِيمَا يرجع إِلَى كَيْفيَّة الرُّؤْيَة والجهة مَعَ كَون أصل الرُّؤْيَة ثَابتا بِالنَّصِّ مَعْلُوما كَرَامَة للْمُؤْمِنين فَإِنَّهُم أهل لهَذِهِ الْكَرَامَة والتشابه فِيمَا يرجع إِلَى الْوَصْف لَا يقْدَح فِي الْعلم بِالْأَصْلِ وَلَا يبطل وَكَذَلِكَ الْوَجْه وَالْيَد على مَا نَص الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن مَعْلُوم وَكَيْفِيَّة ذَلِك من الْمُتَشَابه فَلَا يبطل بِهِ الأَصْل الْمَعْلُوم والمعتزلة خذلهم الله لاشتباه الْكَيْفِيَّة عَلَيْهِم أَنْكَرُوا الأَصْل فَكَانُوا معطلة بإنكارهم صِفَات الله تَعَالَى وَأهل السّنة وَالْجَمَاعَة نَصرهم الله أثبتوا مَا هُوَ الأَصْل الْمَعْلُوم بِالنَّصِّ وتوقفوا فِيمَا هُوَ الْمُتَشَابه وَهُوَ الْكَيْفِيَّة فَلم يجوزوا الِاشْتِغَال بِطَلَب ذَلِك كَمَا وصف الله تَعَالَى بِهِ الراسخين فِي الْعلم فَقَالَ {يَقُولُونَ آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا وَمَا يذكر إِلَّا أولُوا الْأَلْبَاب} فصل فِي بَيَان الْحَقِيقَة وَالْمجَاز الْحَقِيقَة اسْم لكل لفظ هُوَ مَوْضُوع فِي الأَصْل لشَيْء مَعْلُوم مَأْخُوذ من قَوْلك حق يحِق فَهُوَ حق وحاق وحقيق وَلِهَذَا يُسمى أصلا أَيْضا لِأَنَّهُ أصل فِيمَا هُوَ مَوْضُوع لَهُ وَالْمجَاز اسْم لكل لفظ هُوَ مستعار لشَيْء غير مَا وضع لَهُ مفعل من جَازَ يجوز سمي مجَازًا لتعديه عَن الْموضع الَّذِي وضع فِي الأَصْل لَهُ إِلَى غَيره وَمِنْه قَول الرجل لغيره حبك إيَّايَ مجَاز أَي هُوَ بِاللِّسَانِ دون الْقلب الَّذِي هُوَ مَوضِع الْحبّ فِي الأَصْل وَهَذَا الْوَعْد مِنْك مجَاز أَي الْقَصْد مِنْهُ الترويج دون التَّحْقِيق على مَا عَلَيْهِ وضع الْوَعْد فِي الأَصْل وَلِهَذَا يُسمى مستعارا لِأَن الْمُتَكَلّم بِهِ استعاره وبالاستعمال فِيمَا هُوَ مُرَاده بِمَنْزِلَة من اسْتعَار ثوبا للبس ولبسه وكل وَاحِد من النَّوْعَيْنِ مَوْجُود فِي كَلَام الله تَعَالَى وَكَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَلَام النَّاس فِي الْخطب والأشعار وَغير ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 حَتَّى كَاد الْمجَاز يغلب الْحَقِيقَة لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال وَبِه اتَّسع اللِّسَان وَحسن مخاطبات النَّاس بَينهم وَحكم الْحَقِيقَة وجود مَا وضع لَهُ أمرا كَانَ أَو نهيا خَاصّا كَانَ أَو عَاما وَحكم الْمجَاز وجود مَا استعير لأَجله كَمَا هُوَ حكم الْحَقِيقَة خَاصّا كَانَ أَو عَاما وَمن أَصْحَاب الشَّافِعِي رَحمَه الله من قَالَ لَا عُمُوم للمجاز وَلِهَذَا قَالُوا إِن قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء لَا يُعَارضهُ حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ وَلَا الصَّاع بالصاعين فَإِن المُرَاد بالصاع مَا يُكَال بِهِ وَهُوَ مجَاز لَا عُمُوم لَهُ وبالإجماع المطعوم مُرَاد بِهِ فَيخرج مَا سواهُ من أَن يكون مرَادا ويترجح قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ لِأَنَّهُ حَقِيقَة فِي مَوْضِعه فَيثبت الحكم بِهِ عَاما وَاسْتَدَلُّوا لإِثْبَات هَذِه الْقَاعِدَة بِأَن الْمصير إِلَى الْمجَاز لأجل الْحَاجة والضرورة فَأَما الأَصْل هُوَ الْحَقِيقَة فِي كل لفظ لِأَنَّهُ مَوْضُوع لَهُ فِي الأَصْل وَلِهَذَا لَا يُعَارض الْمجَاز الْحَقِيقَة بالِاتِّفَاقِ حَتَّى لَا يصير اللَّفْظ فِي المتردد بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي حكم الْمُشْتَرك وَهَذِه الضَّرُورَة ترْتَفع بِدُونِ إِثْبَات حكم الْعُمُوم للمجاز فَكَانَ الْمجَاز فِي هَذَا الْمَعْنى بِمَنْزِلَة مَا ثَبت بطرِيق الِاقْتِضَاء فَكَمَا لَا تثبت هُنَاكَ صفة الْعُمُوم لِأَن الضَّرُورَة ترْتَفع بِدُونِهِ فَكَذَلِك هَا هُنَا وَلَكنَّا نقُول الْمجَاز أحد نَوْعي الْكَلَام فَيكون بِمَنْزِلَة نوع آخر فِي احْتِمَال الْعُمُوم وَالْخُصُوص لِأَن الْعُمُوم للْحَقِيقَة لَيْسَ بِاعْتِبَار معنى الْحَقِيقَة بل بِاعْتِبَار دَلِيل آخر دلّ عَلَيْهِ فَإِن قَوْلنَا رجل اسْم لخاص فَإِذا قرن بِهِ الْألف وَاللَّام وَلَيْسَ هُنَاكَ مَعْهُود ينْصَرف إِلَيْهِ بِعَيْنِه كَانَ للْجِنْس فَيكون عَاما بِهَذَا الدَّلِيل وَكَذَا كل نكرَة إِذا قرن بهَا الْألف وَاللَّام فِيمَا لَا مَعْهُود فِيهِ يكون عَاما بِهَذَا الدَّلِيل وَقد وجد هَذَا الدَّلِيل فِي الْمجَاز وَالْمحل الَّذِي اسْتعْمل فِيهِ الْمجَاز قَابل للْعُمُوم فَتثبت بِهِ صفة الْعُمُوم بدليله كَمَا ثَبت فِي الْحَقِيقَة وَلِهَذَا جعلنَا قَوْله (وَلَا الصَّاع بالصاعين) عَاما لِأَن الصَّاع نكرَة قرن بهَا الْألف وَاللَّام وَمَا يحويه الصَّاع مَحل لصفة الْعُمُوم وَهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 لِأَن الْمجَاز مستعار ليَكُون قَائِما مقَام الْحَقِيقَة عَاملا عمله وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك إِلَّا بِإِثْبَات صفة الْعُمُوم فِيهِ أَلا ترى أَن الثَّوْب الملبوس بطرِيق الْعَارِية يعْمل عمل الملبوس بطرِيق الْملك فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود وَهُوَ دفع الْحر وَالْبرد وَلَو لم يَجْعَل كَذَلِك لَكَانَ الْمُتَكَلّم بالمجاز عَن اخْتِيَار مخلا بالغرض فَيكون مقصرا وَذَلِكَ غير مستحسن فِي الأَصْل وَقد ظهر اسْتِحْسَان النَّاس للمجازات والاستعارات فَوق استحسانهم للفظ الَّذِي هُوَ حَقِيقَة عرفنَا أَنه لَيْسَ فِي هَذِه الِاسْتِعَارَة تَقْصِير فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود وَأَن للمجاز من الْعَمَل مَا للْحَقِيقَة وَقَوْلهمْ إِن الْمجَاز يكون للضَّرُورَة بَاطِل فَإِن الْمجَاز مَوْجُود فِي كتاب الله تَعَالَى وَالله تَعَالَى يتعالى عَن أَن يلْحقهُ الْعَجز أَو الضَّرُورَة إِلَّا أَن التَّفَاوُت بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي اللُّزُوم والدوام من حَيْثُ إِن الْحَقِيقَة لَا تحْتَمل النَّفْي عَن موضعهَا وَالْمجَاز يحْتَمل ذَلِك وَهُوَ الْعَلامَة فِي معرفَة الْفرق بَينهمَا فَإِن اسْم الْأَب حَقِيقَة للْأَب الْأَدْنَى فَلَا يجوز نَفْيه عَنهُ بِحَال وَهُوَ مجَاز للْجدّ حَتَّى يجوز نَفْيه عَنهُ بِأَن يُقَال إِنَّه جد وَلَيْسَ بأب وَلِهَذَا تترجح الْحَقِيقَة عِنْد التَّعَارُض لِأَنَّهَا ألزم وأدوم وَالْمَطْلُوب بِكُل كلمة عِنْد الْإِطْلَاق مَا هِيَ مَوْضُوعَة لَهُ فِي الأَصْل فيترجح ذَلِك حَتَّى يقوم دَلِيل الْمجَاز بِمَنْزِلَة الملبوس يتَرَجَّح جِهَة الْملك للابس فِيهِ حَتَّى يقوم دَلِيل الْعَارِية إِلَّا إِذا كَانَت الْحَقِيقَة مهجورة فَحِينَئِذٍ يتَعَيَّن الْمجَاز لمعْرِفَة الْقَصْد إِلَى تَصْحِيح الْكَلَام وَينزل ذَلِك منزلَة دَلِيل الِاسْتِثْنَاء وَلِهَذَا قُلْنَا لَو حلف أَن لَا يَأْكُل من هَذِه الشَّجَرَة أَو من هَذَا الْقدر لَا ينْصَرف يَمِينه إِلَى عينهَا وَإِنَّمَا ينْصَرف إِلَى ثَمَرَة الشَّجَرَة وَمَا يطْبخ فِي الْقدر لِأَن الْحَقِيقَة مهجورة فَيتَعَيَّن الْمجَاز وَلَو حلف لَا يَأْكُل من هَذِه الشَّاة ينْصَرف يَمِينه إِلَى لَحمهَا لَا إِلَى لَبنهَا وسمنها لِأَن الْحَقِيقَة هُنَا غير مهجورة فَإِن عين الشَّاة تُؤْكَل فتترجح الْحَقِيقَة على الْمجَاز عِنْد إِطْلَاق اللَّفْظ وَلَو حلف لَا يَأْكُل من هَذَا الدَّقِيق فقد قَالَ بعض مَشَايِخنَا يَحْنَث إِذا أكل الدَّقِيق بِعَيْنِه لِأَنَّهُ مَأْكُول وَالأَصَح أَنه لَا يَحْنَث لِأَن أكل عين الدَّقِيق مهجور فَيَنْصَرِف يَمِينه إِلَى الْمجَاز وَهُوَ مَا يتَّخذ مِنْهُ الْخبز وَصَارَ دَلِيل الِاسْتِثْنَاء بِهَذَا الدَّلِيل نَحْو دَلِيل الِاسْتِثْنَاء فِيمَن حلف أَن لَا يسكن هَذِه الدَّار وَهُوَ ساكنها فَأخذ فِي النقلَة فِي الْحَال فَإِنَّهُ لَا يَحْنَث وَيصير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ذَلِك الْقدر من السُّكْنَى مُسْتَثْنى لمعْرِفَة مَقْصُوده وَهُوَ أَن يمْنَع نَفسه بِيَمِينِهِ عَمَّا فِي وَسعه دون مَا لَيْسَ فِي وَسعه وعَلى هَذَا لَو حلف لَا يُطلق وَقد كَانَ علق الطَّلَاق بِشَرْط قبل هَذِه الْيَمين فَوجدَ الشَّرْط لم يَحْنَث أَو كَانَ حلف بعد الْجرْح أَن لَا يقتل فَمَاتَ الْمَجْرُوح لم يَحْنَث وَيجْعَل ذَلِك بِمَنْزِلَة دَلِيل الِاسْتِثْنَاء بِمَعْرِِفَة مَقْصُوده وَمن أَحْكَام الْحَقِيقَة وَالْمجَاز أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي لفظ وَاحِد فِي حَالَة وَاحِدَة على أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا مرَادا بِحَال لِأَن الْحَقِيقَة أصل وَالْمجَاز مستعار وَلَا تصور لكَون اللَّفْظ الْوَاحِد مُسْتَعْملا فِي مَوْضُوعه مستعارا فِي مَوضِع آخر سوى مَوْضُوعه فِي حَالَة وَاحِدَة كَمَا لَا تصور لكَون الثَّوْب الْوَاحِد على اللابس ملكا وعارية فِي وَقت وَاحِد وَلِهَذَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {أَو لامستم النِّسَاء} المُرَاد الْجِمَاع دون اللَّمْس بِالْيَدِ لِأَن الْجِمَاع مُرَاد بالِاتِّفَاقِ حَتَّى يجوز التَّيَمُّم للْجنب بِهَذَا النَّص وَلَا تَجْتَمِع الْحَقِيقَة وَالْمجَاز مرَادا بِاللَّفْظِ فَإِذا كَانَ الْمجَاز مرَادا تتنحى الْحَقِيقَة وَلِهَذَا قُلْنَا النَّص الْوَارِد فِي تَحْرِيم الْخمر وَإِيجَاب الْحَد بشربه بِعَيْنِه لَا يتَنَاوَل سَائِر الْأَشْرِبَة المسكرة حَتَّى لَا يجب الْحَد بهَا مَا لم تسكر لِأَن الِاسْم للنيء من مَاء الْعِنَب المشتد حَقِيقَة ولسائر الْأَشْرِبَة المسكرة مجَازًا فَإِذا كَانَت الْحَقِيقَة مرَادا يتَنَحَّى الْمجَاز وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله فِيمَن أوصى لبني فلَان أَو لأَوْلَاد فلَان وَله بنُون لصلبه وَأَوْلَاد الْبَنِينَ فَإِن أَوْلَاد الْبَنِينَ لَا يسْتَحقُّونَ شَيْئا لِأَن الْحَقِيقَة مُرَادة فيتنحى الْمجَاز وَقَالَ فِي السّير إِذا استأمنوا على آبَائِهِم لَا يدْخل أجدادهم فِي ذَلِك وَإِذا استأمنوا على أمهاتهم لَا تدخل الْجدَّات فِي ذَلِك لِأَن الْحَقِيقَة مُرَادة فيتنحى الْمجَاز وعَلى هَذَا قَالَ فِي الْجَامِع لَو أَن عَرَبيا لَا وَلَاء عَلَيْهِ أوصى لمواليه وَله معتقون ومعتق المعتقين فَإِن الْوَصِيَّة لمعتقه وَلَيْسَ لمعتق الْمُعْتق شَيْء لِأَن الِاسْم للمعتقين حَقِيقَة بِاعْتِبَار أَنه بَاشر سَبَب إحيائهم بإحداث قُوَّة الْمَالِكِيَّة فيهم بِالْإِعْتَاقِ لِأَن الْحُرِّيَّة حَيَاة وَالرّق تلف حكما فَكَانُوا منسوبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 إِلَيْهِ بِالْوَلَاءِ حَقِيقَة كنسبة الْوَلَد إِلَى أَبِيه وَأما مُعتق الْمُعْتق يُسمى مولى لَهُ مجَازًا لِأَنَّهُ بِالْإِعْتَاقِ الأول جعله بِحَيْثُ يملك اكْتِسَاب سَبَب الْوَلَاء وَهُوَ الْإِعْتَاق فَيكون متسببا فِي الْوَلَاء الثَّانِي من هَذَا الْوَجْه وَيُسمى مولى لَهُ مجَازًا بطرِيق الِاتِّصَال من حَيْثُ السَّبَبِيَّة فَإِذا صَارَت الْحَقِيقَة مرَادا يتَنَحَّى الْمجَاز حَتَّى لَو لم يكن لَهُ معتقون فَالْوَصِيَّة لموَالِي الموَالِي لِأَن الْحَقِيقَة هُنَا غير مُرَادة فَيتَعَيَّن الْمجَاز وَلَو كَانَ لَهُ مُعتق وَاحِد وَالْوَصِيَّة بِلَفْظ الْجَمَاعَة فَاسْتحقَّ هُوَ نصف الثُّلُث كَانَ الْبَاقِي مردودا على الْوَرَثَة وَلَا يكون لموَالِي الموَالِي من ذَلِك شَيْء لِأَن الْحَقِيقَة هُنَا مُرَادة وَلَو كَانَ للْمُوصي موَالٍ أَعلَى وأسفل لم تصح الْوَصِيَّة لِأَن الِاسْم مُشْتَرك وكل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ يحْتَمل أَن يكون مرَادا إِلَّا أَنه لَا وَجه للْجمع بَينهمَا وَإِثْبَات الْعُمُوم لاخْتِلَاف الْمَعْنى وَالْمَقْصُود فَيبْطل أصل الْوَصِيَّة وَمَعْلُوم أَن التغاير بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَفِي الِاسْم الْمُشْتَرك لَا تغاير بِاعْتِبَار أصل الْوَضع ثمَّ لم يجز هُنَاكَ أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا مرَادا بِاللَّفْظِ فِي حَالَة وَاحِدَة فَلِأَن لَا يجوز ذَلِك فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز أولى فَإِن قيل هَذَا الأَصْل لَا يسْتَمر فِي الْمسَائِل فَإِن من حلف أَن لَا يضع قدمه فِي دَار فلَان يَحْنَث إِذا دَخلهَا مَاشِيا كَانَ أَو رَاكِبًا حافيا كَانَ أَو منتعلا وَحَقِيقَة وضع الْقدَم فِيهَا إِذا كَانَ حافيا وَكَذَلِكَ لَو قَالَ يَوْم يقدم فلَان فامرأته كَذَا فَقدم لَيْلًا أَو نَهَارا يَقع الطَّلَاق وَالِاسْم للنهار حَقِيقَة ولليل مجَاز وَلَو حلف لَا يدْخل دَار فلَان فَدخل دَارا يسكنهَا فلَان عَارِية أَو بِأَجْر يَحْنَث كَمَا لَو دخل دَارا مَمْلُوكَة لَهُ وَفِي السّير قَالَ لَو استأمن على بنيه يدْخل بنوه وَبَنُو بنيه وَلَو استأمن على موَالِيه وَهُوَ مِمَّن لَا وَلَاء عَلَيْهِ يدْخل فِي الْأمان موَالِيه وموالي موَالِيه فقد جمعتم بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي هَذِه الْفُصُول وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد إِذا قَالَ لله عَليّ أَن أَصوم رَجَب وَنوى بِهِ الْيَمين كَانَ نذرا ويمينا وَاللَّفْظ للنذر حَقِيقَة ولليمين مجَاز وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله إِذا حلف أَن لَا يشرب من الْفُرَات فَأخذ المَاء من الْفُرَات فِي كوز فشربه يَحْنَث كَمَا لَو كرع فِي الْفُرَات وَلَو حلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 لَا يَأْكُل من هَذِه الْحِنْطَة فَأكل من خبزها يَحْنَث كَمَا لَو أكل عينهَا وَفِي هَذَا جمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي اللَّفْظ فِي حَالَة وَاحِدَة قُلْنَا جَمِيع هَذِه الْمسَائِل تخرج مُسْتَقِيمًا على مَا ذكرنَا من الأَصْل عِنْد التَّأَمُّل فقد ذكرنَا أَن الْمَقْصُود مُعْتَبر وَأَنه ينزل ذَلِك منزلَة دَلِيل الِاسْتِثْنَاء فَفِي مَسْأَلَة وضع الْقدَم مَقْصُود الْحَالِف الِامْتِنَاع من الدُّخُول فَيصير بِاعْتِبَار مَقْصُوده كَأَنَّهُ حلف لَا يدْخل وَالدُّخُول قد يكون حافيا وَقد يكون منتعلا وَقد يكون رَاكِبًا فَعِنْدَ الدُّخُول حافيا يَحْنَث لَا بِاعْتِبَار حَقِيقَة وضع الْقدَم بل بِاعْتِبَار الدُّخُول الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود فَعرفنَا أَنه إِنَّمَا يَحْنَث فِي الْمَوَاضِع كلهَا لعُمُوم الْمجَاز لَا لعُمُوم الْحَقِيقَة وَكَذَلِكَ قَوْله يَوْم يقدم فلَان فالمقصود بِذكر الْيَوْم هُنَا الْوَقْت لِأَنَّهُ قرن بِهِ مَا هُوَ غير ممتد وَلَا يخْتَص ببياض النَّهَار وَالْيَوْم إِنَّمَا يكون عبارَة عَن بَيَاض النَّهَار إِذا قرن بِمَا يَمْتَد ليصير معيارا لَهُ حَتَّى إِذا قَالَ أَمرك بِيَدِك يَوْم يقدم فلَان فَقدم لَيْلًا لَا يصير الْأَمر بِيَدِهَا وَكَذَلِكَ إِذا قرن بِمَا يخْتَص بِالنَّهَارِ كَقَوْلِه لله عَليّ أَن أَصوم الْيَوْم الَّذِي يقدم فِيهِ فلَان فَأَما إِذا قرن بِمَا لَا يَمْتَد وَلَا يخْتَص بِأحد الْوَقْتَيْنِ يكون عبارَة عَن الْوَقْت كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمن يولهم يَوْمئِذٍ دبره} وَاسم الْوَقْت يعم اللَّيْل وَالنَّهَار فلعموم الْمجَاز قُلْنَا بِأَنَّهَا تطلق فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا حَتَّى إِذا قَالَ لَيْلَة يقدم فلَان فَقدم نَهَارا لم تطلق لِأَن الْحَقِيقَة هُنَا مُرَادة فيتنحى الْمجَاز وَفِي مَسْأَلَة دُخُول دَار فلَان الْمَقْصُود إِضَافَة السُّكْنَى وَذَلِكَ يعم السُّكْنَى بطرِيق الْملك وَالْعَارِية وَإِذا دخل دَارا يسكنهَا فلَان بِالْملكِ إِنَّمَا يَحْنَث لعُمُوم الْمجَاز لَا للْملك حَتَّى لَو كَانَ السَّاكِن فِيهَا غير فلَان لم يَحْنَث وَإِن كَانَت مَمْلُوكَة لفُلَان وَفِي مَسْأَلَتي السّير قِيَاس واستحسان فِي الْقيَاس يتَنَحَّى الْمجَاز فِي الْأمان كَمَا فِي الْوَصِيَّة وَفِي الِاسْتِحْسَان قَالَ الْمَقْصُود من الْأمان حقن الدَّم وَهُوَ مَبْنِيّ على التَّوَسُّع وَاسم الْأَبْنَاء والموالي من حَيْثُ الظَّاهِر يتَنَاوَل الْفُرُوع إِلَّا أَن الْحَقِيقَة تتقدم على الْمجَاز فِي كَونه مرَادا وَلَكِن مُجَرّد الصُّورَة تبقى شبهته فِي حقن الدَّم كَمَا ثَبت الْأمان بِمُجَرَّد الْإِشَارَة من الْفَارِس إِذا دَعَا الْكَافِر بهَا إِلَى نَفسه لصورة المسالمة وَإِن لم يكن ذَلِك حَقِيقَة فَإِن قيل لماذا لم تعْتَبر هَذِه الصُّورَة فِي إِثْبَات الْأمان للأجداد والجدات عِنْد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الاستئمان على الْآبَاء والأمهات قُلْنَا لِأَن الْحَقِيقَة إِذا صَارَت مرَادا فاعتبار هَذِه الصُّورَة لثُبُوت الحكم فِي مَحل آخر يكون بطرِيق التّبعِيَّة لَا محَالة وَبَنُو الْبَنِينَ وموالي الموَالِي تلِيق صفة التّبعِيَّة بحالهم فَأَما الأجداد والجدات لَا يكونُونَ تبعا للآباء والأمهات وهم الْأُصُول فَلهَذَا ترك اعْتِبَار الصُّورَة هُنَاكَ فِي إِثْبَات الْأمان لَهُم فَأَما مَسْأَلَة النّذر فقد قيل معنى النّذر هُنَاكَ يثبت بِلَفْظ وَمعنى الْيَمين بِلَفْظ آخر فَإِن قَوْله لله عِنْد إِرَادَة الْيَمين كَقَوْلِه بِاللَّه إِذْ الْبَاء وَاللَّام تتعاقبان قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا دخل آدم الْجنَّة فَللَّه مَا غربت الشَّمْس حَتَّى خرج وَقَوله عَليّ نذر وَنحن إِنَّمَا أَنْكَرْنَا اجْتِمَاع الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي لفظ وَاحِد مَعَ أَن تِلْكَ الْكَلِمَة نذر بصيغتها يَمِين بموجبها إِذا أَرَادَ الْيَمين لِأَن مُوجبهَا وجوب الْمَنْذُور بِهِ وَإِيجَاب الْمُبَاح يَمِين كتحريم الْحَلَال الْمُبَاح وَهُوَ نَظِير شِرَاء الْقَرِيب تملك بصيغته وإعتاق بِمُوجبِه وَأما مَسْأَلَة الشّرْب من الْفُرَات فالحنث عِنْدهَا بِاعْتِبَار عُمُوم الْمجَاز لِأَن الْمَقْصُود شرب مَاء الْفُرَات وَلَا تَنْقَطِع هَذِه النِّسْبَة بِجعْل المَاء فِي الْإِنَاء وَعند الكرع إِنَّمَا يَحْنَث لِأَنَّهُ شرب مَاء الْفُرَات حَتَّى لَو تحول من الْفُرَات إِلَى نهر آخر لم يَحْنَث إِن شرب مِنْهُ لِأَن النِّسْبَة قد انْقَطَعت عَن الْفُرَات بالتحول إِلَى نهر آخر وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله اعْتبر الْحَقِيقَة قَالَ الشّرْب من الْفُرَات حَقِيقَة مُعْتَادَة غير مهجورة وَإِنَّمَا يتَنَاوَل هَذَا اللَّفْظ المَاء بطرِيق الْمجَاز عَن قَوْلهم جرى النَّهر أَي المَاء فِيهَا وَإِذا صَارَت الْحَقِيقَة مرَادا يتَنَحَّى الْمجَاز وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَة الْحِنْطَة أَبُو حنيفَة اعْتبر الظَّاهِر فَقَالَ عين الْحِنْطَة مَأْكُول وَهُوَ مُرَاد مَقْصُود فيتنحى الْمجَاز وهما جعلا ذكر الْحِنْطَة عبارَة عَمَّا فِي بَاطِنهَا مجَازًا للْعُرْف فَإِنَّهُ يُقَال أهل بَلْدَة كَذَا يَأْكُلُون الْحِنْطَة وَالْمرَاد مَا فِيهَا من عين الْحِنْطَة وَإِنَّمَا يَحْنَث لعُمُوم الْمجَاز وَهُوَ أَنه تنَاول مَا فِيهَا وَهَذَا مَوْجُود فِيمَا إِذا أكل من خبزها فَخرجت الْمسَائِل على هَذَا الْحَرْف وَهُوَ اعْتِبَار عُمُوم الْمجَاز بِمَعْرِِفَة الْمَقْصُود لَا بِاعْتِبَار الْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَقد رَأَيْت بعض الْعِرَاقِيّين من أَصْحَابنَا رَحِمهم الله قَالُوا إِن الْحَقِيقَة وَالْمجَاز لَا يَجْتَمِعَانِ فِي لفظ وَاحِد فِي مَحل وَاحِد وَلَكِن فِي محلين مُخْتَلفين يجوز أَن يجتمعا وَهَذَا قريب بِشَرْط أَن لَا يكون الْمجَاز مزاحما للْحَقِيقَة مدخلًا للْجِنْس على صَاحب الْحَقِيقَة فَإِن الثَّوْب الْوَاحِد على اللابس يجوز أَن يكون نصفه ملكا وَنصفه عَارِية وَقد قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم وبناتكم} إِنَّه يتَنَاوَل الْجدَّات وَبَنَات الْبَنَات وَالِاسْم للْأُم حَقِيقَة وللجدات مجَاز وَكَذَلِكَ اسْم الْبَنَات لبنات الصلب حَقِيقَة ولأولاد الْبَنَات مجَاز وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آباؤكم} فَإِنَّهُ مُوجب حُرْمَة مَنْكُوحَة الْجد كَمَا يُوجب حُرْمَة مَنْكُوحَة الْأَب فَعرفنَا أَنه يجوز الْجمع بَينهمَا فِي لفظ وَاحِد وَلَكِن فِي محلين مُخْتَلفين حَتَّى يكون حَقِيقَة فِي أَحدهمَا مجَازًا فِي الْمحل الآخر وَهَذَا بِخِلَاف الْمُشْتَرك فالاحتمال هُنَاكَ بِاعْتِبَار مَعَاني مُخْتَلفَة وَلَا تصور لِاجْتِمَاع تِلْكَ الْمعَانِي فِي كلمة وَاحِدَة وَهنا تجمع الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي احْتِمَال الصِّيغَة لكل وَاحِد مِنْهُمَا معنى وَاحِدًا وَهُوَ الْأَصَالَة فِي الْآبَاء والأجداد والأمهات والجدات والولاد فِي حق الْأَوْلَاد وَلَكِن بَعْضهَا بِوَاسِطَة وَبَعضهَا بِغَيْر وَاسِطَة فَيكون هَذَا نَظِير مَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله فِي قَوْله تَعَالَى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} إِنَّه يتَنَاوَل جَمِيع أَجنَاس الأَرْض بِاعْتِبَار معنى يجمع الْكل وَهُوَ التصاعد من الأَرْض وَإِن كَانَ الِاسْم للتراب حَقِيقَة وَبَيَان الْفرق بَين الْمُشْتَرك وَبَين الْمجَاز مَعَ الْحَقِيقَة فِي الْمَعْنى الَّذِي ذكرنَا فِيمَا قَالَ فِي السّير لَو استأمن لمواليه وَله موَالٍ أَعلَى وأسفل فالأمان لأحد الْفَرِيقَيْنِ وَهُوَ مَا أَرَادَهُ الَّذِي آمنهُ وَإِن لم يرد شَيْئا يَأْمَن الْفَرِيقَانِ بِاعْتِبَار أَن الْأمان يتَنَاوَل أَحدهمَا لَا بِاعْتِبَار أَنه يتناولهما لِأَن الِاسْم مُشْتَرك وبمثله لَو كَانَ لَهُ موَالٍ وموالي موَالٍ ثَبت الْأمان لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا بِاعْتِبَار أَنه يجوز أَن يكون اللَّفْظ الْوَاحِد عَاملا بحقيقته فِي مَوضِع وبمجازه فِي مَوضِع آخر ثمَّ طَرِيق معرفَة الْحَقِيقَة السماع لِأَن الأَصْل فِيهِ الْوَضع وَلَا يصير ذَلِك مَعْلُوما إِلَّا بِالسَّمَاعِ بِمَنْزِلَة الْمَنْصُوص فِي أَحْكَام الشَّرْع وَطَرِيق الْوُقُوف عَلَيْهَا السماع فَقَط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وَإِنَّمَا طَرِيق معرفَة الْمجَاز الْوُقُوف على مَذْهَب الْعَرَب فِي الِاسْتِعَارَة دون السماع بِمَنْزِلَة الْقيَاس فِي أَحْكَام الشَّرْع فَإِن طَرِيق تَعديَة حكم النَّص إِلَى الْفُرُوع مَعْلُوم وَهُوَ التَّأَمُّل فِي مَعَاني النَّص وَاخْتِيَار الْوَصْف الْمُؤثر مِنْهَا لتعدية الحكم بهَا إِلَى الْفُرُوع فَإِذا وقف مُجْتَهد على ذَلِك وَأصَاب طَرِيقه كَانَ ذَلِك مسموعا مِنْهُ وَإِن لم يسْبق بِهِ فَكَذَلِك فِي الِاسْتِعَارَة إِذا وقف إِنْسَان على معنى تجوز الِاسْتِعَارَة بِهِ عِنْد الْعَرَب فاستعار بذلك الْمَعْنى وَاسْتعْمل لفظا فِي مَوضِع كَانَ مسموعا مِنْهُ وَإِن لم يسْبق بِهِ وعَلى هَذَا يجْرِي كَلَام البلغاء من الخطباء وَالشعرَاء فِي كل وَقت فَنَقُول طَرِيق الِاسْتِعَارَة عِنْد الْعَرَب الِاتِّصَال والاتصال بَين الشَّيْئَيْنِ يكون صُورَة أَو معنى فَإِن كل مَوْجُود مُتَصَوّر تكون لَهُ صُورَة وَمعنى فالاتصال لَا يكون إِلَّا بِاعْتِبَار الصُّورَة أَو بِاعْتِبَار الْمَعْنى فَأَما الِاسْتِعَارَة للاتصال معنى فنحو تَسْمِيَة الْعَرَب الشجاع أسدا للاتصال بَينهمَا فِي معنى الشجَاعَة وَالْقُوَّة والبليد حمارا لاتصال بَينهمَا فِي معنى البلادة والاستعارة للاتصال صُورَة نَحْو تَسْمِيَة الْعَرَب الْمَطَر سَمَاء فَإِنَّهُم يَقُولُونَ مَا زلنا نَطَأ السَّمَاء حَتَّى أَتَيْنَاكُم يعنون الْمَطَر لِأَنَّهَا تنزل من السَّحَاب وَالْعرب تسمي كل مَا علا فَوْقك سَمَاء وَيكون نزُول الْمَطَر من علو فَسَموهُ سَمَاء مجَازًا للاتصال صُورَة وَقَالَ تَعَالَى {أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط} وَالْغَائِط اسْم للمطمئن من الأَرْض وَسمي الْحَدث بِهِ مجَازًا لِأَن يكون فِي المطمئن من الأَرْض عَادَة وَهَذَا اتِّصَال من حَيْثُ الصُّورَة وَقَالَ تَعَالَى {أَو لامستم النِّسَاء} وَالْمرَاد الْجِمَاع لِأَن اللَّمْس سَببه صُورَة فَسَماهُ بِهِ مجَازًا وَقَالَ تَعَالَى {إِنِّي أَرَانِي أعصر خمرًا} وَإِنَّمَا يعصر الْعِنَب وَهُوَ مُشْتَمل على السّفل وَالْمَاء والقشر إِلَّا أَنه بالعصر يصير خمرًا فِي أَوَانه فَسَماهُ بِهِ مجَازًا لاتصال بَينهمَا فِي الذَّات صُورَة فسلكنا فِي الْأَسْبَاب الشَّرْعِيَّة والعلل هذَيْن الطَّرِيقَيْنِ فِي الِاسْتِعَارَة وَقُلْنَا يَصح الِاسْتِعَارَة للاتصال سَببا فَإِنَّهُ نَظِير الِاسْتِعَارَة للاتصال صُورَة فِي المحسوسات وللاتصال فِي الْمَعْنى الْمَشْرُوع الَّذِي جَاءَ لأَجله شرع يصلح الِاسْتِعَارَة وَهُوَ نَظِير الِاتِّصَال معنى فِي المحسوسات فَإِنَّهُ لَا خلاف بَين الْعلمَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 أَن صَلَاحِية الِاسْتِعَارَة غير مُخْتَصّ بطرِيق اللُّغَة وَأَن الِاتِّصَال فِي الْمعَانِي وَالْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة يصلح للاستعارة وَهَذَا لِأَن الِاسْتِعَارَة للقرب والاتصال وَذَلِكَ يتَحَقَّق فِي المحسوس وَغير المحسوس فالأحكام الشَّرْعِيَّة قَائِمَة بمعناها مُتَعَلقَة بأسبابها فَتكون مَوْجُودَة حكما بِمَنْزِلَة الْمَوْجُود حسا فَيتَحَقَّق معنى الْقرب والاتصال فِيهَا وَلِأَن المشروعات إِذا تَأَمَّلت فِي أَسبَابهَا وَجدتهَا دَالَّة على الحكم الْمَطْلُوب بهَا بِاعْتِبَار أصل اللُّغَة فِيمَا تكون معقولة الْمَعْنى وَالْكَلَام فِيهِ وَلَا اسْتِعَارَة فِيمَا لَا يعقل مَعْنَاهُ أَلا ترى أَن البيع مَشْرُوع لإِيجَاب الْملك وموضوع لَهُ أَيْضا فِي اللُّغَة وَقد اتّفق الْعلمَاء فِي جَوَاز اسْتِعَارَة لفظ التَّحْرِير لإيقاع الطَّلَاق بِهِ وَجوز الشَّافِعِي رَحمَه الله اسْتِعَارَة لفظ الطَّلَاق لإيقاع الْعتْق بِهِ وَالْأَئِمَّة من السّلف استعملوا الِاسْتِعَارَة بِهَذَا الطَّرِيق أَيْضا وَكتاب الله تَعَالَى نَاطِق بذلك يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي إِن أَرَادَ النَّبِي أَن يستنكحها} فَإِن الله تَعَالَى جعل هبتها نَفسهَا جَوَابا للاستنكاح وَهُوَ طلب النِّكَاح وَلَا خلاف أَن نِكَاح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ينْعَقد بِلَفْظ الْهِبَة على سَبِيل الِاسْتِعَارَة لَا على سَبِيل حَقِيقَة الْهِبَة فَإِن الْهِبَة لتمليك المَال فَلَا يكون عَاملا بحقيقتها فِيمَا لَيْسَ بِمَال وَلِأَنَّهَا لَا توجب الْملك إِلَّا بِالْقَبْضِ فِيمَا كَانَت حَقِيقَة فِيهِ فَكيف فِيمَا لَيست بِحَقِيقَة فِيهِ فَعرفنَا أَنَّهَا اسْتِعَارَة قَامَت مقَام النِّكَاح بطرِيق الْمجَاز وَكَذَلِكَ كَانَ يتَعَلَّق بنكاحه حكم الْقسم وَالطَّلَاق وَالْعدة وَإِن كَانَ معقودا بِلَفْظ الْهِبَة فَعرفنَا أَنه كَانَ بطرِيق الِاسْتِعَارَة على معنى أَن اللَّفْظ مَتى صَار مجَازًا عَن غَيره سقط اعْتِبَار حَقِيقَته وَصَارَ التَّكَلُّم بِهِ كالتكلم بِمَا هُوَ مجَاز عَنهُ ثمَّ لَيْسَ للرسالة أثر فِي معنى الخصوصية بِوُجُوه الْكَلَام فَإِن معنى الخصوصية هُوَ التَّخْفِيف والتوسعة وَمَا كَانَ يلْحقهُ حرج فِي اسْتِعْمَال لفظ النِّكَاح فقد كَانَ أفْصح النَّاس وَهَذِه جملَة لَا خلاف فِيهَا إِلَّا أَن الشَّافِعِي رَحمَه الله قَالَ نِكَاح غَيره لَا ينْعَقد بِهَذَا اللَّفْظ لِأَنَّهُ عقد مَشْرُوع لمقاصد لَا تحصى مِمَّا يرجع إِلَى مصَالح الدّين وَالدُّنْيَا وَلَفظ النِّكَاح وَالتَّزْوِيج يدل على ذَلِك بِاعْتِبَار أَنَّهَا تبتنى على الِاتِّحَاد فالتزويج تلفيق بَين الشَّيْئَيْنِ على وَجه يثبت بِهِ الِاتِّحَاد بَينهمَا فِي الْمَقْصُود كزوجي الْخُف ومصراعي بمصالح الْمَعيشَة وَلَيْسَ فِي هذَيْن اللَّفْظَيْنِ مَا يدل على التَّمْلِيك بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَلِهَذَا لَا يثبت ملك الْعين بهما فالألفاظ الْمَوْضُوعَة لإِيجَاب ملك الْعين فِيهَا قُصُور فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود بِالنِّكَاحِ إِلَّا أَن فِي حق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ينْعَقد نِكَاحه بِهَذَا اللَّفْظ مَعَ قُصُور فِيهِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ وتوسعة للغات عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {خَالِصَة لَك} وَفِي حق الْبَاب وَالنِّكَاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 بِمَعْنى الضَّم الَّذِي ينبىء عَن الِاتِّحَاد بَينهمَا فِي الْقيام غَيره لَا يصلح هَذَا اللَّفْظ لانعقاد النِّكَاح بِهِ لما فِيهِ من الْقُصُور وَهُوَ معنى مَا يَقُولُونَ إِنَّه عقد خَاص شرع بِلَفْظ خَاص وَنَظِيره الشَّهَادَة فَإِنَّهَا مَشْرُوعَة بِلَفْظ خَاص فَلَا تصلح بِلَفْظ آخر لقُصُور فِيهِ حَتَّى إِذا قَالَ الشَّاهِد أَحْلف لَا يكون شَهَادَة لِأَن لفظ الْحلف مُوجب بِغَيْرِهِ وَلَفظ الشَّهَادَة مُوجب بِنَفسِهِ قَالَ تَعَالَى {شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} وَكَذَلِكَ لفظ الْهِبَة لَا تَنْعَقِد بِهِ الْمُعَاوضَة الْمَحْضَة وَهِي البيع ابْتِدَاء وَكَأن ذَلِك لقُصُور فِيهَا وَفِي صفة الْمُعَاوضَة النِّكَاح أبلغ من البيع وعَلى هَذَا الأَصْل لم يجوزوا نقل الْأَخْبَار بِالْمَعْنَى من غير مُرَاعَاة اللَّفْظ وَلَكنَّا نقُول النِّكَاح مُوجب ملك الْمُتْعَة وَهَذِه الْأَلْفَاظ فِي مَحل ملك الْمُتْعَة توجب ملك الْمُتْعَة تبعا لملك الرَّقَبَة فَإِنَّهَا توجب ملك الرَّقَبَة وَملك الرَّقَبَة يُوجب ملك الْمُتْعَة فِي مَحَله فَكَانَ بَينهمَا اتِّصَالًا من حَيْثُ السَّبَبِيَّة وَهُوَ طَرِيق صَالح للاستعارة وَلَا حَاجَة إِلَى النِّيَّة لِأَن هَذَا الْمحل الَّذِي أضيف إِلَيْهِ مُتَعَيّن لهَذَا الْمجَاز وَهُوَ النِّكَاح وَالْحَاجة إِلَى النِّيَّة عِنْد الِاشْتِبَاه للتعيين وَمَا ذكرُوا من مَقَاصِد النِّكَاح فَهِيَ لكَونهَا غير محصورة بِمَنْزِلَة الثَّمَرَة كَمَا هُوَ الْمَطْلُوب من هَذَا العقد فَأَما الْمَقْصُود فإثبات الْملك عَلَيْهَا وَلِهَذَا وَجب الْبَدَل لَهَا عَلَيْهِ فَلَو كَانَ الْمَقْصُود مَا سواهَا من الْمَقَاصِد لم يجب الْبَدَل لَهَا عَلَيْهِ لِأَن تِلْكَ الْمَقَاصِد مُشْتَركَة بَينهمَا وَكَذَلِكَ جعل الطَّلَاق بيد الزَّوْج لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِك فإليه إِزَالَة الْملك وَإِذا ثَبت أَن الْمَقْصُود هُوَ الْملك وَهَذِه الْأَلْفَاظ مَوْضُوعَة لإِيجَاب الْملك ثمَّ لما انْعَقَد هَذَا العقد بِلَفْظ غير مَوْضُوع لإِيجَاب مَا هُوَ الْمَقْصُود وَهُوَ الْملك فَلِأَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ينْعَقد بِلَفْظ مَوْضُوع لإِيجَاب مَا هُوَ الْمَقْصُود وَهُوَ الْملك كَانَ أولى وَإِنَّمَا انْعَقَد هَذَا العقد بِلَفْظ النِّكَاح وَالتَّزْوِيج وَإِن لم يوضعا لإِيجَاب الْملك بهما فِي الأَصْل لِأَنَّهُمَا جعلا علما فِي إِثْبَات هَذَا الْملك بهما وَمَا يكون علما لشَيْء بِعَيْنِه فَهُوَ بِمَنْزِلَة النَّص فِيهِ فَيثبت الحكم بِهِ بِعَيْنِه وَلِهَذَا لم ينْعَقد بهما الْأَسْبَاب الْمُوجبَة لملك الْعين فَأَما الْأَلْفَاظ الْمَوْضُوعَة لإِيجَاب الْملك لَا يَنْتَفِي باسم الْعلم عَن هَذَا الْمحل وَقد تقرر صَلَاحِية الِاسْتِعَارَة بالاتصال من حَيْثُ السَّبَبِيَّة فَيثبت هَذَا الْملك بهَا بطرِيق الِاسْتِعَارَة فَإِن قيل الِاتِّصَال من حَيْثُ السَّبَبِيَّة لَا يخْتَص بِأحد الْجَانِبَيْنِ بل يكون من الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا ثمَّ لم يعْتَبر هَذَا الِاتِّصَال والقرب فِي إِثْبَات ملك الرَّقَبَة بِاللَّفْظِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوع لإِيجَاب ملك الْمُتْعَة فَكَذَلِك لَا يعْتَبر هَذَا الِاتِّصَال لإِثْبَات ملك الْمُتْعَة بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوع لإِثْبَات ملك الرَّقَبَة قُلْنَا الِاتِّصَال من حَيْثُ السَّبَبِيَّة نَوْعَانِ أَحدهمَا اتِّصَال الحكم بِالْعِلَّةِ وَذَلِكَ مُعْتَبر فِي صَلَاحِية الِاسْتِعَارَة من الْجَانِبَيْنِ لِأَن الْعلَّة غير مَطْلُوبَة لعينها بل لثُبُوت الحكم بهَا وَالْحكم لَا يثبت بِدُونِ الْعلَّة فَيتَحَقَّق معنى الْقرب والاتصال لافتقار كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى الآخر وَبَيَان هَذَا فِيمَا قَالَ فِي الْجَامِع إِذا قَالَ إِن ملكت عبدا فَهُوَ حر فَاشْترى نصف عبد ثمَّ بَاعه ثمَّ اشْترى النّصْف الثَّانِي لَا يعْتق فَإِن قَالَ عنيت الْملك مُتَفَرقًا كَانَ أَو مجتمعا يدين فِي الْقَضَاء وَفِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى وَيعتق النّصْف الْبَاقِي فِي ملكه وَلَو قَالَ إِن اشْتريت عبدا فَهُوَ حر فَاشْترى نصفه فَبَاعَهُ ثمَّ اشْترى النّصْف الْبَاقِي يعْتق هَذَا النّصْف فَإِن قَالَ عنيت الشِّرَاء مجتمعا يدين فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى فَلَا يعْتق هَذَا النّصْف وَقيل الشِّرَاء مُوجب للْملك وَالْملك حكم الشِّرَاء فيصلح أَن يكون ذكر الْملك مستعارا عَن ذكر الشِّرَاء إِذا نوى التَّفَرُّق فِيهِ وَيصْلح أَن يكون ذكر الشِّرَاء مستعارا عَن ذكر الْملك إِذا نوى الِاجْتِمَاع فِيهِ حَتَّى يعْمل بنيته من حَيْثُ الدّيانَة فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلَكِن فِيمَا فِيهِ تَخْفيف عَلَيْهِ لَا يدين فِي الْقَضَاء للتُّهمَةِ وَفِيمَا فِيهِ تَشْدِيد عَلَيْهِ يدين لانْتِفَاء التُّهْمَة وَالنَّوْع الآخر اتِّصَال الْفَرْع بِالْأَصْلِ وَالْحكم بِالسَّبَبِ فَإِن بِهَذَا الِاتِّصَال تصلح اسْتِعَارَة الأَصْل للفرع وَالسَّبَب للْحكم وَلَا تصلح اسْتِعَارَة الْفَرْع للْأَصْل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وَالْحكم للسبب لِأَن الأَصْل مستغن عَن الْفَرْع وَالْفرع مُحْتَاج إِلَى الأَصْل لِأَنَّهُ تَابع لَهُ فَيصير معنى الِاتِّصَال مُعْتَبرا فِيمَا هُوَ مُحْتَاج إِلَيْهِ دون مَا هُوَ مُسْتَغْنى عَنهُ وَهُوَ نَظِير الْجُمْلَة النَّاقِصَة إِذا عطفت على الْجُمْلَة الْكَامِلَة فَإِنَّهُ يعْتَبر اتِّصَال الْجُمْلَة النَّاقِصَة بالكاملة فِيمَا يرجع إِلَى إِكْمَال النَّاقِصَة لحاجتها إِلَى ذَلِك حَتَّى يتَوَقَّف أول الْكَلَام على آخِره وَلَا يعْتَبر اتِّصَال النَّاقِص بالكامل فِي حكم الْكَامِل لِأَنَّهُ مُسْتَغْنى عَنهُ فَملك الرَّقَبَة سَبَب ملك الْمُتْعَة بَينهمَا اتِّصَال من هَذَا الْوَجْه فَلهَذَا جَازَ اسْتِعَارَة السَّبَب للْحكم وَلَا يجوز اسْتِعَارَة الحكم للسبب وَاللَّفْظ الْمَوْضُوع لإِيجَاب ملك الرَّقَبَة يجوز أَن يستعار لإِيجَاب ملك الْمُتْعَة والموضوع لإِيجَاب ملك الْمُتْعَة لَا يصلح مستعارا لإِيجَاب ملك الرَّقَبَة وَلِهَذَا الطَّرِيق قُلْنَا إِن لفظ التَّحْرِير عَامل فِي إِيقَاع الطَّلَاق بِهِ مجَازًا لِأَنَّهَا مَوْضُوعَة لإِزَالَة ملك الرَّقَبَة وزوالها سَبَب لزوَال ملك الْمُتْعَة إِلَّا أَنه لَا يعْمل بِدُونِ النِّيَّة لِأَن الْمحل الْمُضَاف إِلَيْهِ غير مُتَعَيّن لهَذَا الْمجَاز بل هُوَ مَحل لحقيقة الْوَصْف بِالْحُرِّيَّةِ فَيحْتَاج إِلَى النِّيَّة ليتعين فِيهَا الِاسْتِعْمَال بطرِيق الْمجَاز وَلَفظ الطَّلَاق لَا يحصل بِهِ الْعتْق لِأَنَّهُ مَوْضُوع لإِزَالَة ملك الْمُتْعَة وَزَوَال ملك الْمُتْعَة لَيْسَ بِسَبَب لزوَال ملك الرَّقَبَة بل هُوَ حكم ذَلِك السَّبَب فَلَا يصلح اسْتِعَارَة الحكم للسبب كَمَا لَا يصلح اسْتِعَارَة الْفَرْع للْأَصْل لكَونه مُسْتَغْنى عَنهُ وَلَكِن الشَّافِعِي رَحمَه الله جوز هَذِه الِاسْتِعَارَة أَيْضا للقرب بَينهمَا من حَيْثُ المشابهة فِي الْمَعْنى وكل وَاحِد مِنْهُمَا إِزَالَة بطرِيق الْإِبْطَال مَبْنِيّ على الْغَلَبَة والسراية غير مُحْتَمل للْفَسْخ مُحْتَمل للتعليق بِالشّرطِ والإيجاب فِي الْمَجْهُول فللمناسبة بَينهمَا فِي هَذَا الْمَعْنى جوز اسْتِعَارَة كل وَاحِد مِنْهُمَا للْآخر وَلَكنَّا نقُول الْمُنَاسبَة فِي الْمَعْنى صَالح للاستعارة لَكِن لَا بِكُل وصف بل بِالْوَصْفِ الَّذِي يخْتَص بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا أَلا ترى أَنه لَا يُسمى الجبان أسدا وَلَا الشجاع حمارا للمناسبة بَينهمَا من حَيْثُ الحيوانية والوجود وَمَا أشبه ذَلِك وَيُسمى الشجاع أسدا للمناسبة بَينهمَا فِي الْوَصْف الْخَاص وَهُوَ الشجَاعَة وَهَذَا لِأَن اعْتِبَار هَذِه الْمُنَاسبَة بَينهمَا للاستعارة بِمَنْزِلَة اعْتِبَار الْمَعْنى فِي الْمَنْصُوص لتعدية الحكم بِهِ إِلَى الْفُرُوع ثمَّ لَا يَسْتَقِيم تَعْلِيل النَّص بِكُل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وصف بل بِوَصْف لَهُ أثر فِي ذَلِك الحكم لِأَنَّهُ لَو جوز التَّعْلِيل بِكُل وصف انْعَدم معنى الِابْتِلَاء أصلا فَكَذَلِك هَهُنَا لَو صححنا الِاسْتِعَارَة للمناسبة فِي أَي معنى كَانَ ارْتَفع معنى الامتحان واستوى الْعَالم وَالْجَاهِل فَعرفنَا أَنه إِنَّمَا تعْتَبر الْمُنَاسبَة فِي الْوَصْف الْخَاص وَلَا مُنَاسبَة هُنَا فِي الْوَصْف الَّذِي لأَجله وضع كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي الأَصْل فالطلاق مَوْضُوع للإطلاق بِرَفْع الْمَانِع من الانطلاق لَا بإحداث قُوَّة الانطلاق فِي الذَّات وَمِنْه إِطْلَاق الْإِبِل وَإِطْلَاق الْأَسير وَالْعتاق لإحداث معنى فِي الذَّات يُوجب الْقُوَّة من قَول الْقَائِل عتق الفرخ إِذا قوي حَتَّى طَار وَفِي ملك الْيَمين الْمَمْلُوك عَاجز عَن الانطلاق لضعف فِي ذَاته وَهُوَ أَنه صَار رَقِيقا مَمْلُوكا مقهورا مُحْتَاجا إِلَى إِحْدَاث قُوَّة فِيهِ يصير بهَا مَالِكًا مستوليا مستبدا بِالتَّصَرُّفِ والمنكوحة مالكة أَمر نَفسهَا وَلكنهَا محبوسة عِنْد الزَّوْج بِالْملكِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهَا فحاجتها إِلَى رفع الْمَانِع وَذَلِكَ يكون بِالطَّلَاق كَمَا يكون بِرَفْع الْقَيْد عَن الْأَسير وبحل العقال عَن الْبَعِير وَلَا مُنَاسبَة بَين رفع الْمَانِع وَبَين إِحْدَاث الْقُوَّة كَمَا لَا مُنَاسبَة بَين رفع الْقَيْد وَبَين الْبُرْء من الْمَرَض فَعرفنَا أَنه لَا وَجه للاستعارة بطرِيق الْمُنَاسبَة بَينهمَا فِي الْمَعْنى وَلَكِن بالاتصال من حَيْثُ السَّبَبِيَّة وَالْحكم وَقد بَينا أَن ذَلِك صَالح من أحد الْجَانِبَيْنِ دون الْجَانِب الآخر فَإِن قيل عنْدكُمْ الْإِجَازَة لَا تَنْعَقِد بِلَفْظ البيع نَص عَلَيْهِ فِي كتاب الصُّلْح حَيْثُ قَالَ بيع السُّكْنَى بَاطِل فَالْبيع سَبَب لملك الرَّقَبَة وَملك الرَّقَبَة سَبَب لملك الْمَنْفَعَة ثمَّ لم تصح الِاسْتِعَارَة بِهَذَا الطَّرِيق عنْدكُمْ مجَازًا وعَلى عكس هَذَا إِذا قَالَ لغيره أعتق عَبدك عني على ألف دِرْهَم فَقَالَ أعتقت يثبت التَّمَلُّك شِرَاء بِهَذَا الْكَلَام وَالْعِتْق لَيْسَ بِسَبَب للشراء ثمَّ كَانَ عبارَة عَنهُ مجَازًا وَكَذَلِكَ شِرَاء الْقَرِيب إِعْتَاق عنْدكُمْ وَالشِّرَاء لَيْسَ بِسَبَب الْعتْق ثمَّ كَانَ عبارَة عَنهُ قُلْنَا أما اسْتِعْمَال لفظ البيع فِي الْإِجَارَة فَإِنَّمَا لَا يجوز عندنَا لِانْعِدَامِ الْمحل لَا لِانْعِدَامِ الصلاحية للاستعارة لِأَنَّهُ إِن أضيف لفظ البيع إِلَى رَقَبَة الدَّار وَالْعَبْد فَهُوَ عَامل بحقيقته فِي تمْلِيك الْعين وَإِن أضيف إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 منفعتهما فالمنفعة مَعْدُومَة والمعدوم لَا يكون محلا للتَّمْلِيك وَاللَّفْظ مَتى صَار مجَازًا عَن غَيره يَجْعَل كَأَنَّهُ وجد التَّصْرِيح بِاللَّفْظِ الَّذِي هُوَ مجَاز عَنهُ وَلَو قَالَ أجرتك مَنَافِع هَذِه الدَّار لَا يَصح أَيْضا وَإِنَّمَا يَصح إِذا قَالَ أجرتك الدَّار بِاعْتِبَار إِقَامَة الْعين الْمُضَاف إِلَيْهِ العقد مقَام الْمَنْفَعَة وَلَفظ البيع مَتى أضيف إِلَى الْعين كَانَ عَاملا فِي حَقِيقَته حَتَّى لَو قَالَ الْحر لغيره بِعْتُك نَفسِي شهرا بِعشْرَة يجوز ذَلِك على وَجه الِاسْتِعَارَة عَن الْإِجَارَة لِأَن عين الْحر لَيْسَ بِمحل لما وضع لَهُ البيع حَقِيقَة وَأهل الْمَدِينَة يسمون الْإِجَارَة بيعا فَتجوز هَهُنَا الِاسْتِعَارَة للاتصال من حَيْثُ السَّبَبِيَّة وَأما قَوْله أعتق عَبدك عني فَمن يَقُول إِن ذَلِك مجَاز عَن الشِّرَاء فقد أَخطَأ خطأ فَاحِشا وَكَيف يكون ذَلِك مجَازًا عَنهُ وَهُوَ عَامل بحقيقته وَاللَّفْظ مَتى صَار مجَازًا عَن غَيره يسْقط اعْتِبَار حَقِيقَته وَفِي الْموضع الَّذِي لَا يثبت حَقِيقَة الْعتْق بِأَن يكون الْقَائِل صَبيا أَو عبدا مَأْذُونا لَا يثبت الشِّرَاء فَعرفنَا أَن ثُبُوت الشِّرَاء هُنَاكَ بطرِيق الِاقْتِضَاء للْحَاجة إِلَى تَحْصِيل الْمَقْصُود الَّذِي صرحنا بِهِ وَهُوَ الْإِعْتَاق عَنهُ فَإِن من شَرطه ثُبُوت الْملك لَهُ فِي الْمحل والمقتضى لَيْسَ من الْمجَاز فِي شَيْء وَكَذَلِكَ شِرَاء الْقَرِيب عندنَا لَيْسَ بِإِعْتَاق مجَازًا وَكَيف يكون ذَلِك وَهُوَ عَامل بحقيقته وَهُوَ ثُبُوت الْملك بِهِ وَلَا يجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي مَحل وَاحِد بل بطرِيق أَن الشِّرَاء مُوجب ملك الرَّقَبَة وَملك الرَّقَبَة متمم عِلّة الْعتْق فِي هَذَا الْمحل فَيصير الحكم وَهُوَ الْعتْق مُضَافا إِلَى السَّبَب الْمُوجب لما تتمّ بِهِ الْعلَّة بطرِيق أَنه بِمَنْزِلَة عِلّة الْعلَّة فَأَما أَن يكون بطرِيق الْمجَاز فَلَا وَمن أَحْكَام هَذَا الْفَصْل أَن اللَّفْظ مَتى كَانَ لَهُ حَقِيقَة مستعملة ومجاز مُتَعَارَف فعلى قَول أبي حنيفَة مطلقه يتَنَاوَل الْحَقِيقَة المستعملة دون الْمجَاز وعَلى قَوْلهمَا مطلقه يتناولهما بِاعْتِبَار عُمُوم الْمجَاز وَبَيَانه فِيمَا قُلْنَا إِذا حلف لَا يشرب من الْفُرَات أَو لَا يَأْكُل من هَذِه الْحِنْطَة وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة يبتني على أصل وَهُوَ أَن الْمجَاز عِنْدهمَا خلف عَن الْحَقِيقَة فِي إِيجَاب الحكم فَهُوَ الْمَقْصُود لَا نفس الْعبارَة وَبِاعْتِبَار الحكم يتَرَجَّح عُمُوم الْمجَاز على الْحَقِيقَة فَإِن الحكم بِهِ يثبت فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَعند أبي حنيفَة الْمجَاز خلف عَن الْحَقِيقَة فِي التَّكَلُّم بِهِ لَا فِي الحكم لِأَنَّهُ تصرف من الْمُتَكَلّم فِي عِبَارَته من حَيْثُ إِنَّه يَجْعَل عِبَارَته قَائِمَة مقَام عبارَة ثمَّ الحكم يثبت بِهِ أصلا بطرِيق أَنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 يَجْعَل كالمتكلم بِمَا كَانَ الْمجَاز عبارَة عَنهُ لَا أَنه خلف عَن الحكم وَإِذا كَانَ الْمجَاز خلفا فِي التَّكَلُّم لَا يثبت الْمُزَاحمَة بَين الأَصْل وَالْخلف فَيجْعَل اللَّفْظ عَاملا فِي حَقِيقَته عِنْد الْإِمْكَان وَإِنَّمَا يُصَار إِلَى إعماله بطرِيق الْمجَاز فِي الْموضع الَّذِي يتَعَذَّر إعماله فِي حَقِيقَته وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ إِذا قَالَ لعَبْدِهِ وَهُوَ أكبر سنا مِنْهُ هَذَا ابْني يعْتق عَلَيْهِ وعَلى قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله لَا يعْتق لِأَن صَرِيح كَلَامه محَال وَالْمجَاز عِنْدهمَا خلف عَن الْحَقِيقَة فِي إِيجَاب الحكم فَفِي كل مَوضِع يصلح أَن يكون السَّبَب منعقدا لإِيجَاب الحكم الْأَصْلِيّ يصلح أَن يكون منعقدا لإِيجَاب مَا هُوَ خلف عَن الأَصْل وَفِي كل مَوضِع لَا يُوجد فِي السَّبَب صَلَاحِية الِانْعِقَاد للْحكم الْأَصْلِيّ لَا ينْعَقد مُوجبا لما هُوَ خلف عَنهُ فَإِن قَوْله لامس السَّمَاء يصلح منعقدا لإِيجَاب مَا هُوَ الأَصْل وَهُوَ الْبر من حَيْثُ إِن السَّمَاء غير ممسوسة فيصلح أَن يكون منعقدا لإِيجَاب الْخلف عَنهُ وَهُوَ الْكَفَّارَة وَالْيَمِين الْغمُوس لَا تصلح سَببا لإِيجَاب مَا هُوَ الأَصْل وَهُوَ الْبر فَلَا يكون مُوجبا لما هُوَ خلف عَنهُ وَهُوَ الْكَفَّارَة فَهُنَا أَيْضا هَذَا اللَّفْظ فِي مَعْرُوف النّسَب الَّذِي يُولد مثله لمثله يصلح سَببا لإِيجَاب مَا هُوَ الأَصْل وَهُوَ ثُبُوت النّسَب إِلَّا أَنه امْتنع إعماله (للْحكم) لثُبُوت نسبه من الْغَيْر فَيكون مُوجبا لما هُوَ خلف عَنهُ وَهُوَ الْعتْق وفيمن هُوَ أكبر سنا مِنْهُ لَا يصلح سَببا لإِيجَاب مَا هُوَ الأَصْل فَلَا يكون مُوجبا لما هُوَ خلف عَنهُ وَلِهَذَا لَا تصير أم الْغُلَام أم الْوَلَد لَهُ هُنَا وَفِي مَعْرُوف النّسَب تصير أم ولد لَهُ على مَا نَص فِي كتاب الدَّعْوَى وعَلى هَذَا جعلنَا بيع الْحرَّة نِكَاحا لِأَن هُنَاكَ الْمَانِع من الحكم الَّذِي هُوَ أصل فِي هَذَا الْمحل شَرْعِي وَهُوَ تَأَكد الْحُرِّيَّة على وَجه لَا يحْتَمل الْإِبْطَال لَا بِاعْتِبَار أَن السَّبَب لَيْسَ بِصَالح لإِثْبَات الحكم الْأَصْلِيّ بِهِ فِي هَذَا الْمحل فَيكون منعقدا لإِثْبَات مَا هُوَ خلف عَنهُ وَهُوَ ملك الْمُتْعَة وَلَكِن أَبُو حنيفَة يَقُول الْمجَاز خلف عَن الْحَقِيقَة فِي التَّكَلُّم لَا فِي الحكم كَمَا قَررنَا فَالشَّرْط فِيهِ أَن يكون الْكَلَام صَالحا وصلاحيته بِكَوْنِهِ مُبْتَدأ وخبرا بِصِيغَة الْإِيجَاب وَهُوَ مَوْجُود هُنَا فَيكون عَاملا فِي إِيجَاب الحكم الَّذِي يقبله هَذَا الْمحل بطرِيق الْمجَاز على معنى أَنه سَبَب للتحرير فَإِن من ملك وَلَده يعْتق عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وَيصير معتقا لَهُ إِذا اكْتسب سَبَب تملكه فاللفظ مَتى صَار عبارَة عَن غَيره مجَازًا للاتصال من حَيْثُ السَّبَبِيَّة يسْقط اعْتِبَار حَقِيقَته وَبِاعْتِبَار مجازه مَا صَادف إِلَّا محلا صَالحا وَلما تبين أَنه خلف فِي التَّكَلُّم لَا فِي الحكم كَانَ عمله كعمل الِاسْتِثْنَاء وَالِاسْتِثْنَاء صَحِيح على أَن يكون عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَإِن لم يُصَادف أصل الْكَلَام محلا صَالحا لَهُ بِاعْتِبَار أَنه تصرف من الْمُتَكَلّم فِي كَلَامه حَتَّى لَو قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق ألفا إِلَّا تِسْعمائَة وَتِسْعَة وَتِسْعين لم تقع إِلَّا وَاحِدَة نَص عَلَيْهِ فِي الْمُنْتَقى وَمَعْلُوم أَن الْمحل غير صَالح لما صرح بِهِ وَمَعَ ذَلِك كَانَ الِاسْتِثْنَاء صَحِيحا لِأَنَّهُ تصرف من الْمُتَكَلّم فِي كَلَامه فَهُنَا كَذَلِك ثمَّ فِيهِ طَرِيقَانِ لأبي حنيفَة أَحدهمَا أَنه بِمَنْزِلَة التَّحْرِير ابْتِدَاء بِاعْتِبَار أَنه ذكر كلَاما هُوَ سَبَب للتحرير فِي ملكه وَهُوَ الْبُنُوَّة فَيصير محررا (بِهِ) ابْتِدَاء مجَازًا وَلِهَذَا لَا تصير الْأُم أم ولد لَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لتحرير الْغُلَام ابْتِدَاء تَأْثِير فِي إِيجَاب أُميَّة الْوَلَد (لأمه) وَلِأَنَّهُ لَا يملك إِيجَاب ذَلِك الْحق لَهَا بعبارته على الْحَقِيقَة ابْتِدَاء بل بِفعل هُوَ استيلاد وَلِهَذَا قَالَ فِي كتاب الدَّعْوَى لَو ورث رجلَانِ مَمْلُوكا ثمَّ ادّعى أَحدهمَا أَنه ابْنه يصير ضَامِنا لشَرِيكه قيمَة نصِيبه إِذا كَانَ مُوسِرًا بِاعْتِبَار أَن ذَلِك كالتحرير الْمُبْتَدَأ مِنْهُ وعَلى الطَّرِيق الآخر يَجْعَل هَذَا إِقْرَارا مِنْهُ بِالْحُرِّيَّةِ مجَازًا كَأَنَّهُ قَالَ عتق عَليّ من حِين ملكته فَإِن مَا صرح بِهِ وَهُوَ الْبُنُوَّة سَبَب لذَلِك وَهنا هُوَ الْأَصَح فقد قَالَ فِي كتاب الْإِكْرَاه إِذا أكره على أَن يَقُول هَذَا ابْني لَا يعْتق عَلَيْهِ وَالْإِكْرَاه إِنَّمَا يمْنَع صِحَة الْإِقْرَار بِالْعِتْقِ لَا صِحَة التَّحْرِير ابْتِدَاء وَوُجُوب الضَّمَان فِي مَسْأَلَة الدَّعْوَى بِهَذَا الطَّرِيق أَيْضا فَإِنَّهُ لَو قَالَ عتق عَليّ من حِين ملكته كَانَ ضَامِنا لشَرِيكه أَيْضا وعَلى هَذَا الطَّرِيق نقُول الْجَارِيَة تصير أم ولد لَهُ لِأَن كَلَامه كَمَا جعل إِقْرَارا بِالْحُرِّيَّةِ للْوَلَد جعل إِقْرَارا بأمية الْوَلَد للْأُم فَإِن مَا تكلم بِهِ سَبَب مُوجب هَذَا الْحق لَهَا فِي ملكه كَمَا هُوَ مُوجب حَقِيقَة الْحُرِّيَّة للْوَلَد وَبِهَذَا الطَّرِيق فِي مَعْرُوف النّسَب يثبت الْعتْق لَا بِالطَّرِيقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 الَّذِي قَالَا فَإِنَّهُ مكذب شرعا فِي الحكم الْأَصْلِيّ والمكذب فِي كَلَامه شرعا كالمكذب حَقِيقَة فِي إهدار كَلَامه أَلا ترى أَنه لَو أكره على أَن يَقُول لعَبْدِهِ هَذَا ابْني لَا يعْتق عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مكذب شرعا بِدَلِيل الْإِكْرَاه إِلَّا أَن دَلِيل التَّكْذِيب هُنَاكَ عَامل فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز جَمِيعًا وَهنا دَلِيل التَّكْذِيب وَهُوَ ثُبُوت نسبه من الْغَيْر عَامل فِي الْحَقِيقَة دون الْمجَاز وَهُوَ الْإِقْرَار بحريَّته من حِين ملكه وَلِهَذَا قُلْنَا لَو قَالَ لزوجته وَهِي مَعْرُوفَة النّسَب من غَيره هَذِه ابْنَتي لَا تقع الْفرْقَة بَينهمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَام مُوجب بطرِيق الْإِقْرَار فِي ملكه إِنَّمَا مُوجبه إِثْبَات النّسَب وَقد صَار مُكَذبا فِيهِ شرعا فَصَارَ أصل كَلَامه لَغوا وَبَيَان هَذَا أَن التّبعِيَّة لَا توجب الْفرْقَة وَلكنهَا تنَافِي النِّكَاح أصلا وَاللَّفْظ مَتى صَار مجَازًا عَن غَيره يَجْعَل قَائِما مقَام ذَلِك اللَّفْظ فَكَأَنَّهُ قَالَ مَا تَزَوَّجتهَا أَو مَا كَانَ بيني وَبَينهَا نِكَاح قطّ وَذَلِكَ لَا يُوجب الْفرْقَة وَكَذَلِكَ لَا يثبت بِهِ حرمتهَا عَلَيْهِ على وَجه يَنْتَفِي بِهِ النِّكَاح لِأَن فِي حكم الْحُرْمَة هَذَا الْإِقْرَار عَلَيْهَا لَا على نَفسه وَالْعين هِيَ الَّتِي تتصف بِالْحُرْمَةِ وَهُوَ مكذب شرعا فِي إِقْرَاره على غَيره وَلَا يدْخل على هَذَا مَا إِذا قَالَ لعَبْدِهِ يَا ابْني لِأَن النداء لاستحضار الْمُنَادِي بصورته لَا بِمَعْنَاهُ وَإِنَّمَا صَار هَذَا اللَّفْظ مجَازًا بِاعْتِبَار مَعْنَاهُ كَمَا بَينا فَأَما إِذا قَالَ يَا حر أَو يَا عَتيق فإعمال ذَلِك اللَّفْظ بِاعْتِبَار أَنه علم لإِسْقَاط الرّقّ بِهِ لَا بِاعْتِبَار الْمَعْنى فِيهِ فَكَانَ عَاملا على أَي وَجه أَضَافَهُ إِلَى الْمَمْلُوك وَالله أعلم فصل فِي بَيَان الصَّرِيح وَالْكِنَايَة الصَّرِيح هُوَ كل لفظ مَكْشُوف الْمَعْنى وَالْمرَاد حَقِيقَة كَانَ أَو مجَازًا يُقَال فلَان صرح بِكَذَا أَي أظهر مَا فِي قلبه لغيره من مَحْبُوب أَو مَكْرُوه بأبلغ مَا أمكنه من الْعبارَة وَمِنْه سمي الْقصر صرحا قَالَ تَعَالَى {وَقَالَ فِرْعَوْن يَا هامان ابْن لي صرحا} وَالْكِنَايَة بِخِلَاف ذَلِك وَهُوَ مَا يكون المُرَاد بِهِ مَسْتُورا إِلَى أَن يتَبَيَّن بِالدَّلِيلِ مَأْخُوذ من قَوْلهم كنيت وكنوت وَلِهَذَا كَانَ الصَّرِيح مَا يكون مَفْهُوم الْمَعْنى بِنَفسِهِ وَقد تكون الْكِنَايَة مَا لَا يكون مَفْهُوم الْمَعْنى بِنَفسِهِ فَإِن الْحَرْف الْوَاحِد يجوز أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 يكون كِنَايَة نَحْو هَاء الغائبة وكاف المخاطبة يَقُول الرجل هُوَ يفعل كَذَا وَهَذَا الْهَاء لَا يُمَيّز اسْما من اسْم فَتكون هَذِه الْكِنَايَة من الصَّرِيح بِمَنْزِلَة الْمُشْتَرك من الْمُفَسّر وَكَذَلِكَ كل اسْم هُوَ ضمير نَحْو أَنا وَأَنت وَنحن فَهُوَ كِنَايَة وكل مَا يكون مُتَرَدّد الْمَعْنى فِي نَفسه فَهُوَ كِنَايَة وَالْمجَاز قبل أَن يصير متعارفا بِمَنْزِلَة الْكِنَايَة أَيْضا لما فِيهِ من التَّرَدُّد وَمِنْه أخذت الكنية فَإِنَّهَا غير الِاسْم وَالِاسْم الصَّرِيح لكل شخص مَا جعل علما لَهُ ثمَّ يكنى بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَلَده فَيكون ذَلِك تعريفا لَهُ بِالْوَلَدِ الَّذِي هُوَ مَعْرُوف بِالنّسَبِ إِلَيْهِ وَهَذَا لَيْسَ من الْمجَاز فِي شَيْء وَلَكِن لما كَانَ معرفَة المُرَاد مِنْهُ بِغَيْرِهِ سمي كنية وعَلى هَذَا الاستعارات والتعريضات فِي الْكَلَام بِمَنْزِلَة الْكِنَايَة فَإِن الْعَرَب تكني الحبشي بِأبي الْبَيْضَاء والضرير بِأبي العيناء وَلَيْسَ بَينهمَا اتِّصَال بل بَينهمَا مضادة وَقد ذكرنَا أَن الْمجَاز حَده الِاتِّصَال بَينه وَبَين مَا جعل مجَازًا عَنهُ عرفنَا أَن الْكِنَايَة غير الْمجَاز وَلَكنهُمْ يكنون بالشَّيْء عَن الشَّيْء على وَجه السخرية أَو على وَجه التفاؤل فيكنون عَمَّا يذم بِمَا يمدح بِهِ على سَبِيل التفاؤل كَمَا يذكرُونَ صِيغَة الْأَمر على وَجه الزّجر والتهديد ويقولن تربت يداك على وَجه التعطف فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن حد الْكِنَايَة غير حد الْمجَاز ثمَّ حكم الصَّرِيح ثُبُوت مُوجبه بِنَفسِهِ من غير حَاجَة إِلَى عَزِيمَة وَذَلِكَ نَحْو لفظ الطَّلَاق وَالْعتاق فَإِنَّهُ صَرِيح فعلى أَي وَجه أضيف إِلَى الْمحل من نِدَاء أَو وصف أَو خبر كَانَ مُوجبا للْحكم حَتَّى إِذا قَالَ يَا حر أَو يَا طَالِق أَو أَنْت حر أَو أَنْت طَالِق أَو قد حررتك أَو قد طَلقتك يكون إيقاعا نوى أَو لم ينْو لِأَن عينه قَائِم مقَام مَعْنَاهُ فِي إِيجَاب الحكم لكَونه صَرِيحًا فِيهِ وَحكم الْكِنَايَة أَن الحكم بهَا لَا يثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 إِلَّا بِالنِّيَّةِ أَو مَا يقوم مقَامهَا من دلَالَة الْحَال لِأَن فِي المُرَاد بهَا معنى التَّرَدُّد فَلَا تكون مُوجبَة للْحكم مَا لم يزل ذَلِك التَّرَدُّد بِدَلِيل يقْتَرن بهَا وعَلى هَذَا سمى الْفُقَهَاء لفظ التَّحْرِيم والبينونة من كنايات الطَّلَاق وَهُوَ مجَاز عَن التَّسْمِيَة بِاعْتِبَار معنى التَّرَدُّد فِيمَا يتَّصل بِهِ هَذَا اللَّفْظ حَتَّى لَا يكون عَاملا إِلَّا بِالنِّيَّةِ فَسُمي كِنَايَة من هَذَا الْوَجْه مجَازًا فَأَما إِذا انْعَدم التَّرَدُّد بنية الطَّلَاق فاللفظ عَامل فِي حَقِيقَة مُوجبه حَتَّى يحصل بِهِ الْحُرْمَة والبينونة وَمَعْلُوم أَن مَا يكون كِنَايَة عَن غَيره فَإِن عمله كعمل مَا جعل كِنَايَة عَنهُ وَلَفظ الطَّلَاق لَا يُوجب الْحُرْمَة والبينونة بِنَفسِهِ فَعرفنَا أَنه عَامل بحقيقته وَإِنَّمَا سمي كِنَايَة مجَازًا إِلَّا قَوْله اعْتدي فَإِنَّهُ كِنَايَة لاحْتِمَاله وُجُوهًا مُتَغَايِرَة وَعند إِرَادَة الطَّلَاق لَا يكون اللَّفْظ عَاملا فِي حَقِيقَته فَإِن حَقِيقَته من بَاب الْعد والحساب وَذَلِكَ مُحْتَمل عدد الْأَقْرَاء وَغير ذَلِك فَإِذا نوى الطَّلَاق وَكَانَ بعد الدُّخُول وَقع الطَّلَاق بِمُقْتَضَاهُ من حَيْثُ إِن الاحتساب بِعَدَد الْأَقْرَاء من الْعدة لَا يكون إِلَّا بعد الطَّلَاق فَكَأَنَّهُ صرح بِالطَّلَاق وَلِهَذَا كَانَ الْوَاقِع رَجْعِيًا وَلَا يَقع بِهِ أَكثر من وَاحِدَة وَإِن نوى وَإِن كَانَ قبل الدُّخُول يَقع الطَّلَاق بِهِ عِنْد النِّيَّة على أَنه لفظ مستعار للطَّلَاق شرعا فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لسودة اعْتدي ثمَّ رَاجعهَا وَقَالَ لحفصة اعْتدي ثمَّ رَاجعهَا وَكَذَلِكَ قَوْله استبرئي رَحِمك وَكَذَلِكَ قَوْله أَنْت وَاحِدَة فَإِن فِي قَوْله وَاحِدَة احْتِمَال كَونه نعتا لَهَا أَو للتطليقة فَلَا يتَعَيَّن بِدُونِ النِّيَّة وَعند النِّيَّة يَقع الطَّلَاق بِهِ بطرِيق الْإِضْمَار أَي أَنْت طَالِق تَطْلِيقَة وَاحِدَة وَلِهَذَا كَانَ الْوَاقِع بِهِ رَجْعِيًا ثمَّ الأَصْل فِي الْكَلَام الصَّرِيح لِأَنَّهُ مَوْضُوع للإفهام والصريح هُوَ التَّام فِي هَذَا المُرَاد فَإِن الْكِنَايَة فِيهَا قُصُور بِاعْتِبَار الِاشْتِبَاه فِيمَا هُوَ المُرَاد وَلِهَذَا قُلْنَا إِن مَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ لَا يثبت بِالْكِنَايَةِ حَتَّى إِن الْمقر على نَفسه بِبَعْض الْأَسْبَاب الْمُوجبَة للعقوبة مَا لم يذكر اللَّفْظ الصَّرِيح كَالزِّنَا وَالسَّرِقَة لَا يصير مستوجبا للعقوبة وَإِن ذكر لفظا هُوَ كِنَايَة وَلِهَذَا لَا تُقَام هَذِه الْعُقُوبَات على الْأَخْرَس عِنْد إِقْرَاره بِهِ بإشارته لِأَنَّهُ لم يُوجد التَّصْرِيح بِلَفْظِهِ وَعند إِقَامَة الْبَيِّنَة عَلَيْهِ لِأَنَّهُ رُبمَا يكون عِنْده شُبْهَة لَا يتَمَكَّن من إظهارها فِي إِشَارَته وعَلى هَذَا لَو قذف رجل رجلا بِالزِّنَا فَقَالَ لَهُ رجل آخر صدقت فَإِن الثَّانِي لَا يسْتَوْجب الْحَد لِأَن مَا يلفظ بِهِ كِنَايَة عَن الْقَذْف لاحْتِمَال مُطلق التَّصْدِيق وُجُوهًا مُخْتَلفَة وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لغيره أما أَنا فلست بزان لَا يلْزمه حد الْقَذْف لِأَنَّهُ تَعْرِيض وَلَيْسَ بتصريح بنسبته إِلَى الزِّنَا فَيكون قاصرا فِي نَفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 فَإِن قيل أَلَيْسَ أَنه لَو قذف رجل رجلا بِالزِّنَا فَقَالَ آخر هُوَ كَمَا قلت فَإِن الثَّانِي يسْتَوْجب الْحَد وَهَذَا تَعْرِيض مُحْتَمل أَيْضا قُلْنَا نعم وَلَكِن كَاف التَّشْبِيه توجب الْعُمُوم عندنَا فِي الْمحل الَّذِي يحْتَملهُ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي قَول عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِنَّمَا أعطيناهم الذِّمَّة وبدلوا الْجِزْيَة لتَكون دِمَاؤُهُمْ كدمائنا وَأَمْوَالهمْ كأموالنا إِنَّه مجْرى على الْعُمُوم فِيمَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ وَمَا يثبت مَعَ الشُّبُهَات فَهَذَا الْكَاف أَيْضا مُوجبه الْعُمُوم لِأَنَّهُ حصل فِي مَحل يحْتَملهُ فَيكون نسبته إِلَى الزِّنَا قطعا بِمَنْزِلَة كَلَام الأول على مَا هُوَ مُوجب الْعَام عندنَا فصل فِي بَيَان جملَة مَا تتْرك بِهِ الْحَقِيقَة وَهِي خَمْسَة أَنْوَاع أَحدهَا دلَالَة الِاسْتِعْمَال عرفا وَالثَّانِي دلَالَة اللَّفْظ وَالثَّالِث سِيَاق النّظم وَالرَّابِع دلَالَة من وصف الْمُتَكَلّم وَالْخَامِس من مَحل الْكَلَام فَأَما الأول فَنَقُول تتْرك الْحَقِيقَة بِدلَالَة الِاسْتِعْمَال عرفا لِأَن الْكَلَام مَوْضُوع للإفهام وَالْمَطْلُوب بِهِ مَا تسبق إِلَيْهِ الأوهام فَإِذا تعارف النَّاس اسْتِعْمَاله لشَيْء عينا كَانَ ذَلِك بِحكم الِاسْتِعْمَال كالحقيقة فِيهِ وَمَا سوى ذَلِك لِانْعِدَامِ الْعرف كالمهجور لَا يتَنَاوَلهُ إِلَّا بِقَرِينَة أَلا ترى أَن اسْم الدَّرَاهِم عِنْد الْإِطْلَاق يتَنَاوَل نقد الْبَلَد لوُجُود الْعرف الظَّاهِر فِي التَّعَامُل بِهِ وَلَا يتَنَاوَل غَيره إِلَّا بِقَرِينَة لترك التَّعَامُل بِهِ ظَاهرا فِي ذَلِك الْموضع وَإِن لم يكن بَين النَّوْعَيْنِ فرق فِيمَا وضع الِاسْم لَهُ حَقِيقَة وَبَيَان هَذَا فِي اسْم الصَّلَاة فَإِنَّهَا للدُّعَاء حَقِيقَة قَالَ الْقَائِل وَصلي على دنها وارتسم وَهِي مجَاز لِلْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَة بأركانها سميت بِهِ لِأَنَّهَا شرعت للذّكر قَالَ تَعَالَى {وأقم الصَّلَاة لذكري} وَفِي الدُّعَاء ذكر وَإِن كَانَ يشوبه سُؤال ثمَّ عِنْد الْإِطْلَاق ينْصَرف إِلَى الْعِبَادَة الْمَعْلُومَة بأركانها سَوَاء كَانَ فِيهَا دُعَاء أَو لم يكن كَصَلَاة الْأَخْرَس وَإِنَّمَا تركت الْحَقِيقَة للاستعمال عرفا وَكَذَلِكَ الْحَج فَإِن اللَّفْظ للقصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 حَقِيقَة ثمَّ سميت الْعِبَادَة بهَا لما فِيهَا من الْعَزِيمَة وَالْقَصْد للزيارة فَعِنْدَ الْإِطْلَاق الِاسْم يتَنَاوَل الْعِبَادَة للاستعمال عرفا وَالْعمْرَة وَالصَّوْم وَالزَّكَاة وَغَيرهَا على هَذَا فَإِن نَظَائِر هَذَا أَكثر من أَن تحصى وَلِهَذَا قُلْنَا من نذر صَلَاة أَو حجا أَو مشيا إِلَى بَيت الله يلْزمه الْعِبَادَة وَإِن لم ينْو ذَلِك فالمشي إِلَى بَيت الله تَعَالَى غير الْحَج حَقِيقَة وَلَكِن للاستعمال عرفا ينْصَرف مُطلق اللَّفْظ إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لله عَليّ أَن أضْرب بثوبي حطيم الْكَعْبَة يلْزمه التَّصَدُّق بِالثَّوْبِ للاستعمال عرفا فاللفظ حَقِيقَة فِي غير ذَلِك وَمن حلف أَن لَا يَشْتَرِي رَأْسا ينْصَرف يَمِينه إِلَى مَا يتعارف بَيْعه فِي الْأَسْوَاق من الرؤوس على حسب مَا اخْتلفُوا فِيهِ وَكَانَ ذَلِك للاستعمال عرفا فَأَما من حَيْثُ الْحَقِيقَة الِاسْم يتَنَاوَل كل رَأس وَمن حلف أَن لَا يَأْكُل بيضًا يتَنَاوَل يَمِينه بيض الدَّجَاج والأوز خَاصَّة لاستعمال ذَلِك عِنْد الْأكل عرفا وَلَا يتَنَاوَل بيض الْحمام والعصفور وَمَا أشبه ذَلِك وَقد بَينا أَن الْعَام إِذا خص مِنْهُ شَيْء يصير شَبيه الْمجَاز وَبَيَان النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ دلَالَة اللَّفْظ فِيمَا إِذا حلف أَن لَا يَأْكُل لَحْمًا فَأكل لحم السّمك أَو الْجَرَاد لم يَحْنَث فِي يَمِينه لِأَنَّهُ أطلق اللَّحْم فِي لَفظه وَلحم السّمك (أَو الْجَرَاد) لَا يذكر إِلَّا بِقَرِينَة فَكَانَ قاصرا فِيمَا يتَنَاوَلهُ اسْم مُطلق اللَّحْم بِمَنْزِلَة الصَّلَاة على الْجِنَازَة فَإِنَّهُ قَاصِر فِيمَا يتَنَاوَلهُ مُطلق اسْم الصَّلَاة من حَيْثُ إِنَّه لَا يذكر إِلَّا بِالْقَرِينَةِ فَلَا يتَنَاوَلهُ الِاسْم بِدُونِ الْقَرِينَة فَإِن قيل أَلَيْسَ أَنه لَو أكل لحم خِنْزِير أَو لحم إِنْسَان فَإِنَّهُ يَحْنَث فِي يَمِينه وَهَذَا لَا يذكر إِلَّا بِقَرِينَة قُلْنَا نعم وَلَكِن ذكر الْقَرِينَة هُنَا لَيْسَ لقُصُور معنى اللحمية فيهمَا فَإِن اللَّحْم اسْم معنوي مَوْضُوع لما يتَوَلَّد من الدَّم وَلَا قُصُور فِي ذَلِك فِي لحم الْخِنْزِير والآدمي فَأَما لحم السّمك وَالْجَرَاد فَإِنَّهُ قَاصِر فِي ذَلِك الْمَعْنى لِأَنَّهُ لَا دم للسمك وَلَا للجراد فَكَذَلِك معنى الْغذَاء الْمَطْلُوب بِاللَّحْمِ لَا يتم بالسمك وَالْجَرَاد فَعرفنَا أَن الْقَرِينَة فِيهَا للقصور وَمعنى الْغذَاء الْمَطْلُوب بِاللَّحْمِ يتم فِي لحم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الْخِنْزِير والآدمي فَعرفنَا أَن الْقَرِينَة لبَيَان الْحُرْمَة لَا لقُصُور فِي معنى اللحمية وَلَيْسَ للْحُرْمَة تَأْثِير فِي الْمَنْع من إتْمَام شَرط الْحِنْث وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي قَوْله كل مَمْلُوك لي حر لَا يدْخل الْمكَاتب بِدُونِ النِّيَّة لِأَنَّهُ تلفظ بالمملوك وَالْمكَاتب مُتَرَدّد بَين كَونه مَالِكًا وَبَين كَونه مَمْلُوكا فَإِنَّهُ مَالك يدا وتصرفا مَمْلُوك رقا وَكَذَلِكَ صرح بِالْإِضَافَة إِلَيْهِ وَالْمكَاتب مُضَاف إِلَيْهِ من وَجه دون وَجه فللدلالة فِي لَفظه لَا يتَنَاوَلهُ الْكَلَام بِدُونِ النِّيَّة وَلَكِن يتَنَاوَلهُ مُطلق اسْم الرَّقَبَة الْمَذْكُورَة فِي قَوْله {أَو تَحْرِير رَقَبَة} لِأَنَّهُ يتَنَاوَل الذَّات المرقوق وَالرّق لَا ينْتَقض بِعقد الْكِتَابَة بِدَلِيل احتمالها الْفَسْخ وَاشْتِرَاط الْملك بِقدر مَا يَصح بِهِ التَّحْرِير وَذَلِكَ مَوْجُود فِي الْمكَاتب فيتأدى بِهِ الْكَفَّارَة وَكَذَلِكَ قَوْله كل امْرَأَة لَهُ طَالِق لَا يتَنَاوَل المختلعة بِغَيْر نِيَّة وَإِن كَانَت فِي الْعدة من غير النِّيَّة لبَقَاء ملك الْيَد وَزَوَال أصل ملك النِّكَاح وعَلى عكس مَا ذكرنَا من معنى الْقُصُور معنى الزِّيَادَة أَيْضا فَإِن أَبَا حنيفَة رَحمَه الله قَالَ من حلف لَا يَأْكُل فَاكِهَة فَأكل عنبا أَو رطبا أَو رمانا لم يَحْنَث وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله يَحْنَث لِأَن اسْم الْفَاكِهَة يَتَنَاوَلهَا عِنْد الْإِطْلَاق من غير قرينَة فَتكون كَامِلَة فِي الْمَعْنى الْمَطْلُوب بِهَذَا الِاسْم وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول هِيَ زِيَادَة على مَا هُوَ الْمَطْلُوب بِالِاسْمِ لِأَن اشتقاق اللَّفْظ من التفكه وَهُوَ التنعم قَالَ تَعَالَى {انقلبوا فكهين} أَي منعمين والتنعم زَائِد على مَا بِهِ القوام وَالرّطب وَالْعِنَب قوت يَقع بِهِ القوام وَالرُّمَّان فِي معنى الدَّوَاء وَقد يَقع بِهِ القوام أَيْضا وَهُوَ قوت فِي جملَة التوابل وَمَا يَقع بِهِ القوام فَهُوَ زَائِد على التنعم وَلِهَذَا عطف الله تَعَالَى الْفَاكِهَة عَلَيْهَا وَقَالَ {وَعِنَبًا} إِلَى قَوْله {وَفَاكِهَة وَأَبا} فللزيادة لَا يَتَنَاوَلهَا مُطلق الِاسْم كَمَا أَن للنقصان لَا يتَنَاوَل مُطلق الِاسْم للسمك وَالْجَرَاد وَكَذَلِكَ لَو حلف لَا يَأْكُل إدَامًا عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله الإدام مَا يصطبغ بِهِ لِأَنَّهُ تبع فَلَا يتَنَاوَل مَا يَتَأَتَّى أكله مَقْصُودا من الْجُبْن وَالْبيض وَاللَّحم وعَلى قَول مُحَمَّد رَحمَه الله يتَنَاوَل ذَلِك لكَمَال معنى المؤادمة وَهِي الْمُوَافقَة فِيهَا كَمَا فِي الْمَسْأَلَة الأولى وَعَن أبي يُوسُف رَحمَه الله رِوَايَتَانِ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَبَيَان النَّوْع الثَّالِث وَهُوَ سِيَاق النّظم فِي قَوْله تَعَالَى {فَمن شَاءَ فليؤمن وَمن شَاءَ فليكفر إِنَّا أَعْتَدْنَا للظالمين نَارا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 فَإِن بسياق النّظم يتَبَيَّن أَن المُرَاد هُوَ الزّجر والتوبيخ دون الْأَمر والتخيير وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} فَإِن بسياق النّظم يتَبَيَّن أَنه لَيْسَ المُرَاد مَا هُوَ مُوجب صِيغَة الْأَمر بِهَذِهِ الصّفة وعَلى هَذَا لَو أقرّ وَقَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم إِن شَاءَ الله لم يلْزمه شَيْء وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم لَيْسَ لَهُ عَليّ شَيْء إِن شَاءَ الله تلْزمهُ الْألف لِأَن قَوْله لَيْسَ رُجُوع وَصِيغَة قَوْله إِن شَاءَ الله صِيغَة التَّعْلِيق والإرسال وَالتَّعْلِيق كل وَاحِد مِنْهُمَا مُتَعَارَف بَين أهل اللِّسَان فَكَانَ ذَلِك من بَاب الْبَيَان لَا من بَاب الرُّجُوع وَوُجُوب المَال عَلَيْهِ من حكم إرْسَال الْكَلَام فَمَعَ صِيغَة التَّعْلِيق لَا يلْزمه حكم الْإِرْسَال بِاعْتِبَار سِيَاق النّظم وَقَالَ فِي السّير الْكَبِير لَو قَالَ مُسلم لحربي مَحْصُور انْزِلْ فَنزل كَانَ آمنا وَلَو قَالَ انْزِلْ إِن كنت رجلا فَنزل كَانَ فَيْئا وَلَو قَالَ لَهُ الْحَرْبِيّ المأسور فِي يَده الْأمان الْأمان وَقَالَ الْمُسلم فِي جَوَابه الْأمان الْأمان كَانَ آمنا حَتَّى لَو أَرَادَ قَتله بعد هَذَا فعلى أُمَرَاء الْجَيْش أَن يمنعوه من ذَلِك وَلَا يصدقونه فِي قَوْله أردْت رد كَلَامه وَلَو قَالَ الْأمان الْأمان ستعلم مَا تلقى أَو قَالَ الْأمان الْأمان تطلب أَو قَالَ لَا تعجل حَتَّى ترى لم يكن ذَلِك أَمَانًا بِدلَالَة سِيَاق النّظم وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لغيره اصْنَع فِي مَالِي مَا شِئْت إِن كنت رجلا أَو قَالَ طلق زَوْجَتي إِن كنت رجلا لم يكن توكيلا وَلَو قَالَ لغيره لي عَلَيْك ألف دِرْهَم فَقَالَ الآخر لَك عَليّ ألف دِرْهَم مَا أبعدك من ذَلِك لم يكن إِقْرَارا فَعرفنَا أَن بِدَلِيل سِيَاق النّظم تتْرك الْحَقِيقَة وَبَيَان النَّوْع الرَّابِع فِي قَوْله تَعَالَى {واستفزز من اسْتَطَعْت مِنْهُم بصوتك} فَإِن كل وَاحِد يعلم بِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَمْر لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يظنّ ظان بِأَن الله تَعَالَى يَأْمر بالْكفْر بِحَال فَتبين بِأَن المُرَاد الإقدار والإمكان لعلمنا أَن مَا يَأْتِي بِهِ اللعين يكون بإقدار الله تَعَالَى عَلَيْهِ إِيَّاه وَكَذَلِكَ قَول الْقَائِل اللَّهُمَّ اغْفِر لي يعلم أَنه سُؤال لَا أَمر لوصف الْمُتَكَلّم وَهُوَ أَن العَبْد الْمُحْتَاج إِلَى نعْمَة مَوْلَاهُ لَا يطْلب مِنْهُ النِّعْمَة إلزاما وَإِنَّمَا يسْأَله ذَلِك سؤالا وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لغيره تعال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 تغد عِنْدِي فَقَالَ وَالله لَا أتغدى ثمَّ رَجَعَ إِلَى بَيته فتغدى لَا يَحْنَث لِأَن الْمُتَكَلّم دَعَاهُ إِلَى الْغَدَاء الَّذِي بَين يَدَيْهِ وَقد أخرج كَلَامه مخرج الْجَواب فَإِذا تقيد الْخطاب بالمعلوم من إِرَادَة الْمُتَكَلّم يتَقَيَّد الْجَواب أَيْضا بِهِ وَكَذَلِكَ لَو قَامَت امْرَأَة لتخرج فَقَالَ لَهَا إِن خرجت فَأَنت طَالِق فَرَجَعت ثمَّ خرجت بعد ذَلِك الْيَوْم لم تطلق وعَلى هَذَا لَو قَالَت لَهُ زَوجته إِنَّك تَغْتَسِل فِي هَذِه الدَّار اللَّيْلَة من الْجَنَابَة فَقَالَ إِن اغْتَسَلت فَعَبْدي حر ثمَّ اغْتسل فِيهَا فِي (غير) تِلْكَ اللَّيْلَة أَو فِي تِلْكَ اللَّيْلَة من غير الْجَنَابَة لم يَحْنَث وَبَيَان النَّوْع الْخَامِس فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير} فَإِن بِدلَالَة مَحل الْكَلَام يعلم أَنه لَيْسَ المُرَاد نفي الْمُسَاوَاة بَينهمَا على الْعُمُوم بل فِيمَا يرجع إِلَى الْبَصَر فَقَط وَقد قُلْنَا إِن لفظ الْعُمُوم فِي غير الْمحل الْقَابِل للْعُمُوم يكون بِمَعْنى الْمُجْمل فَلَا يثبت بِهِ إِلَّا مَا يتَيَقَّن أَنه مُرَاد بِهِ وَيكون ذَلِك شبه الْمجَاز لدلَالَة مَحل الْكَلَام وعَلى هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَفِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ إِنَّه لَا يَقْتَضِي الْعُمُوم وارتفاع الحكم لِأَن بِمحل الْكَلَام يتَبَيَّن أَنه لَيْسَ المُرَاد أصل الْعَمَل فَإِن ذَلِك يتَحَقَّق بِغَيْر النِّيَّة وَمَعَ الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَالْإِكْرَاه فإمَّا أَن يكون المُرَاد الحكم أَو الْإِثْم وَلَا يجوز أَن يُقَال كل وَاحِد مِنْهُمَا مُرَاد لِأَنَّهُمَا يبتنيان على مَعْنيين متغايرين فَإِن الثَّوَاب على الْعَمَل الَّذِي هُوَ عبَادَة وَالْإِثْم بِالْعَمَلِ الَّذِي هُوَ محرم يبتني على الْعَزِيمَة وَالْقَصْد وَالْجَوَاز وَالْفساد الَّذِي هُوَ حكم يبتني على الْأَدَاء بالأركان والشرائط أَلا ترى أَن من تَوَضَّأ بِالْمَاءِ النَّجس وَهُوَ لَا يعلم بِهِ فصلى لم تجز صلَاته مُطلقًا حَتَّى لَو علم لزمَه الْإِعَادَة وَمَعَ ذَلِك إِذا لم يعلم وَلم يكن مِنْهُ التَّقْصِير كَانَ مُطيعًا بِاعْتِبَار قَصده وعزيمته فَيكون هَذَا بِمَنْزِلَة الْمُشْتَرك الَّذِي لَا عُمُوم لَهُ لتغاير الْمَعْنى فِيمَا يحْتَملهُ فَلَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ فِي حكم الْجَوَاز وَالْفساد إِلَّا بِدَلِيل يقْتَرن بِهِ فَيصير كالمؤول حِينَئِذٍ فَأَما مَا يعْتَرض من الدَّلِيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الْمُوجب للنسخ أَو التَّخْصِيص فَلَيْسَ من هَذَا الْبَاب فِي شَيْء وَإِنَّمَا هَذَا الْبَاب لمعْرِفَة الْوُجُوه فِيمَا يقْتَرن بالْكلَام فَيصير حَقِيقَة وَدَلِيل النّسخ والتخصيص كَلَام معَارض إِلَّا أَن النّسخ معَارض صُورَة وَحَقِيقَة والتخصيص معَارض صُورَة وَبَيَان معنى حَتَّى لَا يكون إِلَّا بالمقارن وَلَكِن ذَلِك الْمُقَارن إِنَّمَا يتَبَيَّن بِمَا هُوَ نسخ مُبْتَدأ صِيغَة فَعرفنَا أَنه لَيْسَ من هَذَا الْبَاب فِي شَيْء قَالَ رَضِي الله عَنهُ والعراقيون من مَشَايِخنَا رَحِمهم الله يَزْعمُونَ أَنه لَا عُمُوم للنصوص الْمُوجبَة لتَحْرِيم الْأَعْيَان نَحْو قَوْله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} وَقَوله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام حرمت الْخمر لعينها وَقَالُوا امْتنع ثُبُوت حكم الْعُمُوم فِي هَذِه الصُّورَة معنى لدلَالَة مَحل الْكَلَام وَهُوَ أَن الْحل وَالْحُرْمَة لَا تكون وَصفا للمحل وَإِنَّمَا تكون وَصفا لأفعالنا فِي الْمحل حَقِيقَة فَإِنَّمَا يصير الْمحل مَوْصُوفا بِهِ مجَازًا وَهَذَا غلط فَاحش فَإِن الْحُرْمَة بِهَذِهِ النُّصُوص ثَابِتَة للأعيان الموصوفة بهَا حَقِيقَة لِأَن إِضَافَة الْحُرْمَة إِلَى الْعين تنصيص على لُزُومه وتحققه فِيهِ فَلَو جعلنَا الْحُرْمَة صفة للْفِعْل لم تكن الْعين حَرَامًا أَلا ترى أَن شرب عصير الْغَيْر وَأكل مَال الْغَيْر فعل حرَام وَلم يكن ذَلِك دَلِيلا على حُرْمَة الْعين وَلُزُوم هَذَا الْوَصْف للعين وَلَكِن عمل هَذِه النُّصُوص فِي إِخْرَاج هَذِه الْمحَال من أَن تكون قَابِلَة للْفِعْل الْحَلَال وَإِثْبَات صفة الْحُرْمَة لَازِمَة لأعيانها فَيكون ذَلِك بِمَنْزِلَة النّسخ الَّذِي هُوَ رفع حكم وَإِثْبَات حكم آخر مَكَانَهُ فَبِهَذَا الطَّرِيق تقوم الْعين مقَام الْفِعْل فِي إِثْبَات صفة الْحُرْمَة والحل لَهُ حَقِيقَة وَهَذَا إِذا تَأَمَّلت فِي غَايَة التَّحْقِيق فَمَعَ إِمْكَان الْعَمَل بِهَذِهِ الصِّيغَة جعل هَذِه الحرمات مجَازًا بِاعْتِبَار أَنَّهَا صفة للْفِعْل لَا للمحل يكون خطأ فَاحِشا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 فصل فِي إبانة طَرِيق المُرَاد بِمُطلق الْكَلَام قد بَينا أَن الْكَلَام ضَرْبَان حَقِيقَة ومجاز وَأَنه لَا يحمل على الْمجَاز إِلَّا عِنْد تعذر حمله على الْحَقِيقَة فتمس الْحَاجة إِلَى معرفَة الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وَالطَّرِيق فِي ذَلِك هُوَ النّظر فِي السَّبَب الدَّاعِي إِلَى تَعْرِيف ذَلِك الِاسْم فِي الْأَسْمَاء الْمَوْضُوعَة لَا لِمَعْنى وَإِلَى تَعْرِيف الْمَعْنى فِي المعنويات فَمَا كَانَ أقرب فِي ذَلِك فَهُوَ أَحَق وَمَا كَانَ أَكثر إِفَادَة فَهُوَ أولى بِأَن يَجْعَل حَقِيقَة وَذَلِكَ يكون بطريقين التَّأَمُّل فِي مَحل الْكَلَام والتأمل فِي صِيغَة الْكَلَام أما بَيَان التَّأَمُّل فِي الْمحل فِي اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي مُوجب الْعَام فَعِنْدَ بَعضهم مُوجبه عِنْد الْإِطْلَاق أخص الْخُصُوص وَعِنْدنَا مُوجبه الْعُمُوم وَمَا قُلْنَاهُ أَحَق لِأَنَّهُ إِذا حمل على أخص الْخُصُوص يبْقى بعض مَا تنَاوله مُطلق الْكَلَام غير مُرَاد بِهِ وَالْمرَاد بالْكلَام تَعْرِيف مَا وضع الِاسْم لَهُ فَإِذا كَانَ صِيغَة الْعَام مَوْضُوعا لِمَعْنى الْعُمُوم كَانَ حمله عَلَيْهِ عِنْد الْإِطْلَاق أَحَق وَلِأَن الْخَاص اسْم آخر وَهُوَ مَا وضع لَهُ صِيغَة الْخَاص فَلَو جعلنَا صِيغَة الْعَام تناولا للخاص أَيْضا فَقَط كَانَ ذَلِك تَكْرَارا مُحصنا وَإِذا كَانَ الْمَقْصُود بِوَضْع الْأَسْمَاء فِي الأَصْل إِعْلَام المُرَاد فَحمل لفظين على شَيْء وَاحِد يكون تَكْرَارا وإخراجا لأحد اللَّفْظَيْنِ من أَن يكون مُفِيدا فَإِن قيل فَائِدَته التَّأْكِيد وتوسيع الْكَلَام قُلْنَا نعم وَلَكِن هَذَا فِي الْفَائِدَة دون الْفَائِدَة الْمَطْلُوبَة بِأَصْل الْوَضع وَالْإِطْلَاق يُوجب الْكَمَال فَإِذا حمل كل وَاحِد من اللَّفْظَيْنِ على فَائِدَة جَدِيدَة بِاعْتِبَار أصل الْوَضع كَانَ ذَلِك أولى من أَن يحمل على التّكْرَار لتوسعة الْكَلَام فهذان الدليلان من مَحل الْكَلَام قبل التَّأَمُّل فِي صِيغَة اللَّفْظ وَلِهَذَا حملنَا قَوْله تَعَالَى {أَو لامستم النِّسَاء} على المجامعة دون الْمس بِالْيَدِ لِأَنَّهُ إِذا حمل على الْمس بِالْيَدِ كَانَ تَكْرَارا لنَوْع حدث وَاحِد وَإِذا حمل على المجامعة كَانَ بَيَانا لنوعي الْحَدث وأمرا بِالتَّيَمُّمِ لَهما فَيكون أَكثر فَائِدَة مَعَ أَنه مَعْطُوف على مَا سبق وَالسَّابِق ذكر نَوْعي الْحَدث فَإِن قَوْله {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 أَي وَأَنْتُم محدثون ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَإِن كُنْتُم مرضى} إِلَى قَوْله {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا} فبدلالة مَحل الْكَلَام يتَبَيَّن أَن المُرَاد الْجِمَاع دون الْمس بِالْيَدِ وَبَيَان الدّلَالَة من صِيغَة الْكَلَام فِي قَوْله تَعَالَى {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله اللَّغْو مَا يكون خَالِيا عَن فَائِدَة الْيَمين شرعا ووضعا فَإِن فَائِدَة الْيَمين إِظْهَار الصدْق من الْخَبَر فَإِذا أضيف إِلَى خبر لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال الصدْق كَانَ خَالِيا عَن فَائِدَة الْيَمين فَكَانَ لَغوا وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله اللَّغْو مَا يجْرِي على اللِّسَان من غير قصد وَلَا خلاف فِي جَوَاز إِطْلَاق اللَّفْظ على كل وَاحِد مِنْهُمَا وَلَكِن مَا قُلْنَاهُ أَحَق لِأَن مَا يجْرِي على لِسَانه من غير قصد لَهُ اسْم آخر مَوْضُوع وَهُوَ الْخَطَأ الَّذِي هُوَ ضد الْعمد أَو السَّهْو الَّذِي هُوَ ضد التحفظ فَأَما مَا يكون خَالِيا عَن الْفَائِدَة لِمَعْنى فِي نَفسه لَا بِحَال الْمُتَكَلّم فَلَيْسَ لَهُ اسْم مَوْضُوع سوى أَنه لَغْو فَحَمله عَلَيْهِ أولى أَلا ترى إِلَى قَوْله {وَإِذا سمعُوا اللَّغْو أَعرضُوا عَنهُ} يَعْنِي الْكَلَام الْفَاحِش الَّذِي هُوَ خَال عَن فَائِدَة الْكَلَام بطرِيق الْحِكْمَة دون مَا يجْرِي من غير قصد فَإِن ذَلِك لَا عتب فِيهِ وَقَالَ تَعَالَى {لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا إِلَّا سَلاما} وَقَالَ تَعَالَى {والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تغلبون} وَمَعْلُوم أَن مُرَاد الْمُشْركين التعنت أَي إِن لم تقدروا على المغالبة بِالْحجَّةِ فاشتغلوا بِمَا هُوَ خَال عَن الْفَائِدَة من الْكَلَام ليحصل مقصودكم بطرِيق المغالبة دون المحاجة وَلم يكن مقصودهم التَّكَلُّم بِغَيْر قصد وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا مروا بِاللَّغْوِ مروا كراما} أَي صَبَرُوا عَن الْجَواب وَذَلِكَ فِي الْكَلَام الْخَالِي عَن الْفَائِدَة دون مَا يجْرِي من غير قصد وَلِأَن فَسَاد مَا يجْرِي من غير قصد بِاعْتِبَار معنى فِي الْمحل وَهُوَ الْقلب الَّذِي هُوَ السَّبَب الْبَاعِث على التَّكَلُّم وَفَسَاد مَا لَا فَائِدَة فِيهِ بِاعْتِبَار معنى فِي نفس الْكَلَام فَكَانَ هُوَ أقرب إِلَى الْحَقِيقَة فَيحمل اللَّفْظ عَلَيْهِ عِنْد الْإِطْلَاق وَكَذَا اخْتلفُوا فِي العقد فَقَالَ الْخصم العقد عبارَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 عَن الْقَصْد فَإِن الْعَزِيمَة سميت عقيدة وَقُلْنَا العقد اسْم لربط كَلَام بِكَلَام نَحْو ربط لفظ الْيَمين بالْخبر الَّذِي فِيهِ رَجَاء الصدْق لإِيجَاب حكم (بِكَلَام) وَهُوَ الصدْق مِنْهُ وَكَذَلِكَ ربط البيع بِالشِّرَاءِ لإِيجَاب حكمه وَهُوَ الْملك فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أقرب إِلَى الْحَقِيقَة لِأَن الْكَلِمَة بِاعْتِبَار الْوَضع من عقد الْحَبل وَهُوَ شدّ بعضه بِبَعْض وضده الْحل مِنْهُ تَقول الْعَرَب يَا عاقدا ذكر حلا وَقَالَ الْقَائِل ولقلب الْمُحب حل وَعقد ثمَّ يستعار (لربط الْإِيجَاب بِالْقبُولِ على وَجه ينْعَقد أَحدهمَا بِالْآخرِ حكما فيسمى عقدا ثمَّ يستعار) لما يكون سَببا لهَذَا الرَّبْط وَهُوَ عَزِيمَة الْقلب فَكَانَ ذَلِك دون العقد الَّذِي هُوَ ضد الْحل فِيمَا وضع الِاسْم لَهُ فَحَمله عَلَيْهِ يكون أَحَق وَمن ذَلِك مَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {ثَلَاثَة قُرُوء} إِنَّهَا الْحيض دون الْأَطْهَار لِأَن اللَّفْظ إِمَّا أَن يكون مأخوذا من الْقُرْء الَّذِي هُوَ الِاجْتِمَاع قَالَ تَعَالَى {فَإِذا قرأناه فَاتبع قرآنه} وَقَالَ الْقَائِل هجان اللَّوْن لم يقر أَجْنَبِيّا وَهَذَا الْمَعْنى فِي الْحيض أَحَق لِأَن معنى الِاجْتِمَاع فِي قطرات الدَّم على وَجه لَا بُد مِنْهُ ليَكُون حيضا فَإِنَّهُ مَا لم تمتد رُؤْيَة الدَّم لَا يكون حيضا وَإِن كَانَ الدَّم يجْتَمع فِي حَالَة الطُّهْر فِي رَحمهَا فالاسم حَقِيقَة للدم الْمُجْتَمع ثمَّ زَمَانه يُسمى بِهِ مجَازًا وَإِن كَانَ مأخوذا من الْوَقْت الْمَعْلُوم كَمَا قَالَ الْقَائِل إِذا هبت لِقَارِئِهَا الرِّيَاح وَقَالَ آخر لَهُ قرء كقرء الْحَائِض فَذَلِك بِزَمَان الْحيض أليق لِأَنَّهُ هُوَ الْوَقْت الْمَعْلُوم الَّذِي يحْتَاج إِلَى إِعْلَامه لمعْرِفَة مَا تعلق بِهِ من الْأَحْكَام وَإِن كَانَ مأخوذا من معنى الِانْتِقَال كَمَا يُقَال قَرَأَ النَّجْم إِذا انْتقل فحقيقة الِانْتِقَال تكون بِالْحيضِ لَا بِالطُّهْرِ إِذْ الطُّهْر أصل فباعتبار صِيغَة اللَّفْظ يتَبَيَّن أَن حمله على الْحيض أَحَق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وَكَذَلِكَ لفظ النِّكَاح فَإِنَّمَا نحمله على الْوَطْء والخصم على العقد وَمَا قُلْنَاهُ أَحَق لِأَن الِاسْم فِي أصل الْوَضع لِمَعْنى الضَّم والالتزام يَقُول الْقَائِل أنكح الصَّبْر أَي الْتَزمهُ وضمه إِلَيْك وَمعنى الضَّم فِي الْوَطْء يتَحَقَّق بِمَا يحصل من معنى الِاتِّحَاد بَين الواطئين عِنْد ذَلِك الْفِعْل وَلِهَذَا يُسمى جماعا ثمَّ العقد يُسمى نِكَاحا بِاعْتِبَار أَنه سَبَب يتَوَصَّل بِهِ إِلَى ذَلِك الضَّم فبالتأمل فِي صِيغَة اللَّفْظ يتَبَيَّن أَن الْوَطْء أَحَق بِهِ إِلَّا فِي الْموضع الَّذِي يتَعَذَّر حمله عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يحمل على مَا هُوَ مجَاز عَنهُ وَهُوَ العقد وَهَذَا هُوَ الحكم فِي كل لفظ مُحْتَمل للْحَقِيقَة وَالْمجَاز أَنه إِذا تعذر حمله على الْحَقِيقَة يحمل على الْمجَاز لتصحيح الْكَلَام وَهَذَا التَّعَذُّر إِمَّا لعدم الْإِمْكَان أَو لكَونه مَهْجُورًا عرفا أَو لكَونه مَهْجُورًا شرعا فَالَّذِي هُوَ مُتَعَذر نَحْو مَا إِذا حلف أَن لَا يَأْكُل من هَذِه النَّخْلَة أَو من هَذِه الكرمة فَإِن يَمِينه تَنْصَرِف إِلَى الثَّمَرَة لِأَن مَا هُوَ الْحَقِيقَة فِي كَلَامه مُتَعَذر وَأما المهجور عرفا فنحو مَا إِذا حلف أَن لَا يشرب من هَذِه الْبِئْر فَإِنَّهُ ينْصَرف يَمِينه إِلَى الشّرْب من مَاء الْبِئْر لِأَن الْحَقِيقَة وَهُوَ الكرع فِي الْبِئْر مهجورة وَاخْتلف مَشَايِخنَا أَنه إِذا كرع هَل يَحْنَث أم لَا فَمنهمْ من يَقُول يَحْنَث أَيْضا لِأَن الْحَقِيقَة لَا تتعطل وَإِن حمل اللَّفْظ على الْمجَاز وَسَوَاء أَخذ المَاء فِي كوز وشربه أَو كرع فِي الْبِئْر فقد شرب مَاء الْبِئْر فَيحنث وَمِنْهُم من يَقُول لَا يَحْنَث لِأَنَّهُ لما صَار الْمجَاز مرَادا سقط اعْتِبَار الْحَقِيقَة على مَا قَالَ فِي الْجَامِع لَو قَالَ لأجنبية إِن نكحتك فَعَبْدي حر ينْصَرف يَمِينه إِلَى العقد دون الْوَطْء وَلَو قَالَ لزوجته إِن نكحتك ينْصَرف إِلَى الْوَطْء دون العقد حَتَّى لَو أَبَانهَا ثمَّ تزَوجهَا لم يَحْنَث مَا لم يَطَأهَا وَلَو قَالَ للمطلقة الرَّجْعِيَّة إِن رَاجَعتك ينْصَرف إِلَى الرّجْعَة دون ابْتِدَاء العقد وَلَو قَالَ للمبانة إِن رَاجَعتك ينْصَرف إِلَى ابْتِدَاء العقد وَلَكِن الأول أوجه لَا بِاعْتِبَار الْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي كَونه مرَادا بِاللَّفْظِ بل بِاعْتِبَار عُمُوم الْمجَاز وَهُوَ شرب مَاء الْبِئْر بِأَيّ طَرِيق شربه وعَلى هَذَا قُلْنَا مُطلق التَّوْكِيل بِالْخُصُومَةِ ينْصَرف إِلَى الْجَواب وَإِن كَانَ ذَلِك مجَازًا لِأَن الْحَقِيقَة مهجورة شرعا فَإِن الْمُدَّعِي إِذا كَانَ محقا فالمدعي عَلَيْهِ لَا يملك الْإِنْكَار شرعا وَلَا يجوز لَهُ التَّوْكِيل بذلك فَيحمل اللَّفْظ على الْمجَاز عِنْد الْإِطْلَاق ثمَّ يَصح مِنْهُ الْإِنْكَار وَالْإِقْرَار بِاعْتِبَار معنى عُمُوم الْمجَاز وَهُوَ أَنه جَوَاب للخصم وَمن حلف أَن لَا يكلم هَذَا الصَّبِي فَكَلمهُ بَعْدَمَا صَار شَيخا يَحْنَث بِاعْتِبَار أَن الْحَقِيقَة مهجورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 شرعا فَإِن الصَّبِي سَبَب للترحم شرعا لَا للهجران فَيتَعَيَّن الْمجَاز لهَذَا وأمثلة هَذَا أَكثر من أَن تحصى وَالله أعلم بَاب بَيَان مَعَاني الْحُرُوف المستعملة فِي الْفِقْه قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْكَلَام عِنْد الْعَرَب اسْم وَفعل وحرف وكما يتَحَقَّق معنى الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي الْأَسْمَاء وَالْأَفْعَال فَكَذَلِك يتَحَقَّق فِي الْحُرُوف فَمِنْهُ مَا يكون مُسْتَعْملا فِي حَقِيقَته وَمِنْه مَا يكون مجَازًا عَن غَيره وَكثير من مسَائِل الْفِقْه تترتب على ذَلِك فَلَا بُد من بَيَان هَذِه الْحُرُوف وَذكر الطَّرِيق فِي تَخْرِيج الْمسَائِل عَلَيْهَا فَأولى مَا يبْدَأ بِهِ من ذَلِك حُرُوف الْعَطف الأَصْل فِيهِ الْوَاو فَلَا خلاف أَنه للْعَطْف (وَلَكِن عندنَا هُوَ للْعَطْف) مُطلقًا فَيكون مُوجبه الِاشْتِرَاك بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فِي الْخَبَر من غير أَن يَقْتَضِي مُقَارنَة أَو ترتيبا وَهُوَ قَول أَكثر أهل اللُّغَة وَقَالَ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي رَحمَه الله إِنَّه مُوجب للتَّرْتِيب وَقد ذكر ذَلِك الشَّافِعِي فِي أَحْكَام الْقُرْآن وَكَذَلِكَ جعل التَّرْتِيب ركنا فِي الْوضُوء لِأَن فِي الْآيَة عطف الْيَد على الْوَجْه بِحرف الْوَاو فَيجب التَّرْتِيب بِهَذَا النَّص أَلا ترى أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لما سَأَلُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد السَّعْي بِأَيِّهِمَا نبدأ قَالَ ابدؤوا بِمَا بَدَأَ الله تَعَالَى يُرِيد بِهِ قَوْله تَعَالَى {إِن الصَّفَا والمروة} فَفِي هَذَا تنصيص على أَن مُوجب الْوَاو التَّرْتِيب وَمَا وَجب تَرْتِيب السُّجُود على الرُّكُوع إِلَّا بقوله تَعَالَى {ارْكَعُوا واسجدوا} وَلَكنَّا نقُول هَذَا من بَاب اللِّسَان فطريق مَعْرفَته التَّأَمُّل فِي كَلَام الْعَرَب وَفِي الْأُصُول الْمَوْضُوعَة عِنْد أهل اللُّغَة بِمَنْزِلَة مَا لَو وَقعت الْحَاجة إِلَى معرفَة حكم الشَّرْع يكون طَرِيقه التَّأَمُّل فِي النُّصُوص من الْكتاب وَالسّنة وَالرُّجُوع إِلَى أصُول الشَّرْع وَعند التَّأَمُّل فِي كَلَام الْعَرَب وأصول اللُّغَة يتَبَيَّن أَن الْوَاو لَا توجب التَّرْتِيب فَإِن الْقَائِل يَقُول جَاءَنِي زيد وَعَمْرو يفهم من هَذَا الْإِخْبَار مجيئهما من غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 مُقَارنَة وَلَا تَرْتِيب حَتَّى يكون صَادِقا فِي خَبره سَوَاء جَاءَهُ عَمْرو أَولا ثمَّ زيد أَو زيد ثمَّ عَمْرو أَو جَاءَا مَعًا وَكَذَلِكَ وضعُوا الْوَاو للْجمع مَعَ النُّون يَقُولُونَ جَاءَنِي الزيدون أَي زيد وَزيد وَزيد وَالْقَائِل يَقُول لَا تَأْكُل السّمك وتشرب اللَّبن فيفهم مِنْهُ الْمَنْع من الْجمع بَينهمَا دون التَّرْتِيب على مَا قَالَ الْقَائِل لَا تنه عَن خلق وَتَأْتِي مثله عَار عَلَيْك إِذا فعلت عَظِيم وَلَو وضع مَكَان الْوَاو هُنَا الْفَاء لم يكن الْكَلَام مُسْتَقِيمًا فالفاء توجب ترتيبا من حَيْثُ إِنَّه للتعقيب مَعَ الْوَصْل فَلَو كَانَ مُوجب الْوَاو التَّرْتِيب لم يخْتل الْكَلَام بِذكر الْفَاء مَكَانَهُ وَكَذَلِكَ يتبدل الحكم أَيْضا إِذا ذكر الْوَاو مَكَان الْفَاء فَإِن من يَقُول لامْرَأَته إِن دخلت الدَّار وَأَنت طَالِق تطلق فِي الْحَال فَلَو كَانَ مُوجب الْوَاو التَّرْتِيب لَكَانَ هُوَ بِمَنْزِلَة الْفَاء فَيَنْبَغِي أَن يتَأَخَّر الطَّلَاق إِلَى وجود الشَّرْط وَأما من حَيْثُ الْوَضع لُغَة فلأنهم وضعُوا كل حرف ليَكُون دَلِيلا على معنى مَخْصُوص كَمَا فعلوا فِي الْأَسْمَاء وَالْأَفْعَال فالاشتراك لَا يكون إِلَّا لغفلة من الْوَاضِع أَو لعذر وتكرار اللَّفْظ لِمَعْنى وَاحِد يُوجب إخلاءه عَن الْفَائِدَة كَمَا قَررنَا فَلَا يَلِيق ذَلِك بالحكمة ثمَّ إِنَّهُم وضعُوا الْفَاء للوصل مَعَ التعقيب وَثمّ للتعقيب مَعَ التَّرَاخِي وَمَعَ للقران فَلَو قُلْنَا بِأَن الْوَاو توجب الْقرَان أَو التَّرْتِيب كَانَ تَكْرَارا بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَلَو قُلْنَا إِنَّه يُوجب الْعَطف مُطلقًا لَكَانَ لفائدة جَدِيدَة بِاعْتِبَار أصل الْوَضع ثمَّ يتنوع هَذَا الْعَطف أنواعا لكل نوع مِنْهُ حرف خَاص وَنَظِيره من الْأَسْمَاء الْإِنْسَان فَإِنَّهُ للآدمي مُطلقًا ثمَّ يتنوع أنواعا لكل نوع مِنْهُ اسْم خَاص بِأَصْل الْوَضع وَالتَّمْر كَذَلِك وَهُوَ نَظِير مَا قُلْنَا فِي اسْم الرَّقَبَة إِنَّه للذات مُطلقًا من غير أَن يكون دَالا على معنى التَّقْيِيد بِوَصْف فَكَذَلِك الْوَاو للْعَطْف (مُطلقًا) بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَلِهَذَا قُلْنَا الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي آيَة الْوضُوء الْغسْل وَالْمسح من غير تَرْتِيب وَلَا قرَان ثمَّ كَانَ التَّرْتِيب بِاعْتِبَار فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ للإكمال فيتأدى الرُّكْن بِمَا هُوَ الْمَنْصُوص وتتعلق صفة الْكَمَال بمراعاة التَّرْتِيب فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {ارْكَعُوا واسجدوا} فَإنَّا مَا عرفنَا التَّرْتِيب بِهَذَا النَّص إِذْ النُّصُوص فِيهِ متعارضة فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ {واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} وَلَكِن مُرَاعَاة ذَلِك التَّرْتِيب بِكَوْن الرُّكُوع مُقَدّمَة السُّجُود وَالْقِيَام مُقَدّمَة الرُّكُوع على مَا نبينه فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِن الصَّفَا والمروة} فَإِن مُرَاعَاة التَّرْتِيب بَينهمَا لَيْسَ بِاعْتِبَار هَذَا النَّص فَفِي النَّص بَيَان أَنَّهُمَا من شَعَائِر الله وَلَا تَرْتِيب فِي هَذَا وَإِنَّمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابدؤوا بِمَا بَدَأَ الله تَعَالَى على وَجه التَّقْرِيب إِلَى الأفهام لَا لبَيَان أَن الْوَاو توجب التَّرْتِيب فَإِن الَّذِي يسْبق إِلَى الأفهام فِي مخاطبات الْعباد أَن البدائية تدل على زِيَادَة الْعِنَايَة فَيظْهر بهَا نوع قُوَّة صَالِحَة للترجيح وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله فِيمَن أوصى بِقرب لَا تسع الثُّلُث لَهَا فَإِنَّهُ يبْدَأ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمُوصي إِذا اسْتَوَت فِي صفة اللُّزُوم لِأَن الْبِدَايَة تدل على زِيَادَة الاهتمام وَقد زعم بعض مَشَايِخنَا أَن معنى التَّرْتِيب يتَرَجَّح فِي الْعَطف الثَّابِت بِحرف الْوَاو فِي قَول أبي حنيفَة وَفِي قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد رَحِمهم الله يتَرَجَّح معنى الْقرَان وَخَرجُوا على هَذَا مَا إِذا قَالَ لامْرَأَته وَلم يدْخل بهَا إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق وَطَالِق وَطَالِق فَدخلت فَإِنَّهَا تطلق وَاحِدَة عِنْد أبي حنيفَة بِاعْتِبَار أَنه مترتب وُقُوع الثَّانِيَة على الأولى وَهِي تبين فِي الأولى لَا إِلَى عدَّة وَعِنْدَهُمَا تقع الثَّلَاث عَلَيْهَا بِاعْتِبَار أَنَّهُنَّ يقعن جملَة عِنْد الدُّخُول مَعًا وَهَذَا غلط فَلَا خلاف بَين أَصْحَابنَا أَن الْوَاو للْعَطْف مُطلقًا إِلَّا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ مُوجبه الِاشْتِرَاك بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فِي الْخَبَر وَقَوله إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق جملَة تَامَّة وَقَوله وَطَالِق جملَة نَاقِصَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا ذكر الشَّرْط فباعتبار الْعَطف يصير الْخَبَر الْمَذْكُور فِي الْجُمْلَة التَّامَّة كالمعاد فِي الْجُمْلَة النَّاقِصَة فَيتَعَلَّق كل تَطْلِيقَة بِالدُّخُولِ بِلَا وَاسِطَة وَعند الدُّخُول ينزلن جملَة كَمَا لَو كرر ذكر الشَّرْط مَعَ كل تَطْلِيقَة أَلا ترى أَنه إِذا قَالَ جَاءَنِي زيد وَعَمْرو كَانَ الْمَفْهُوم من هَذَا مَا هُوَ الْمَفْهُوم من قَوْله جَاءَنِي زيد جَاءَنِي عَمْرو وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول الْوَاو للْعَطْف وَإِنَّمَا يتَعَلَّق الطَّلَاق بِالشّرطِ كَمَا علقه وَهُوَ علق الثَّانِيَة بِالشّرطِ بِوَاسِطَة الأولى فَإِن من ضَرُورَة الْعَطف هَذِه الْوَاسِطَة فَالْأولى تتَعَلَّق بِالشّرطِ بِلَا وَاسِطَة وَالثَّانِي بِوَاسِطَة الأولى بِمَنْزِلَة الْقنْدِيل الْمُعَلق بالحبل بِوَاسِطَة الْحلق ثمَّ عِنْد وجود الشَّرْط ينزل مَا تعلق فَينزل كَمَا تعلق ولكنهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 يَقُولَانِ هَذَا أَن لَو كَانَ الْمُتَعَلّق بِالشّرطِ طَلَاقا وَلَيْسَ كَذَلِك بل الْمُتَعَلّق مَا سيصير طَلَاقا عِنْد وجود الشَّرْط إِذا وصل إِلَى الْمحل فَإِنَّهُ لَا يكون طَلَاقا بِدُونِ الْمحل ثمَّ هَذِه الْوَاسِطَة فِي الذّكر فتتفرق بِهِ أزمنة التَّعْلِيق وَذَلِكَ لَا يُوجب التَّفَرُّق فِي الْوُقُوع كَمَا لَو كرر الشَّرْط فِي كل تَطْلِيقَة وَبَينهمَا أَيَّام وَمَا قَالَه أَبُو حنيفَة رَحمَه الله أقرب إِلَى مُرَاعَاة حَقِيقَة اللَّفْظ وَمَعْلُوم أَنه عِنْد وجود الشَّرْط ذَلِك الملفوظ بِهِ يصير طَلَاقا فَإِذا كَانَ من ضَرُورَة الْعَطف إِثْبَات هَذِه الْوَاسِطَة ذكرا فَإِن عِنْد وجود الشَّرْط يصير ذَلِك طَلَاقا وَاقعا وَمن ضَرُورَة تفرق الْوُقُوع أَن لَا يَقع إِلَّا وَاحِدَة فَإِن هَذَا تبين بِهِ لَا إِلَى عدَّة كَمَا لَو نجز فَقَالَ أَنْت طَالِق وَطَالِق وَطَالِق وَقَالَ مَالك فِي التَّنْجِيز أَيْضا تطلق ثَلَاثًا لِأَن الْوَاو توجب الْمُقَارنَة أَلا ترى أَنه لَو قَالَ أَنْت طَالِق وَطَالِق وَطَالِق إِن دخلت الدَّار تطلق ثَلَاثًا عِنْد الدُّخُول جملَة وَهَذَا غلط فَإِن للقران حرفا مَوْضُوعا وَهُوَ مَعَ فَلَو حملنَا الْوَاو عَلَيْهِ كَانَ تَكْرَارا وَإِذا أخر الشَّرْط فِي التَّعْلِيق إِنَّمَا تطلق ثَلَاثًا لَا بِهَذَا الْمَعْنى بل لِأَن الأَصْل فِي الْكَلَام الْمَعْطُوف أَنه مَتى كَانَ فِي آخِره مَا يُغير مُوجب أَوله توقف أَوله على آخِره وَلِهَذَا لَو ذكر اسْتثِْنَاء فِي آخر الْكَلَام بَطل الْكل بِهِ فَكَذَلِك إِذا ذكر شرطا لِأَن بِالتَّعْلِيقِ بِالشّرطِ تبين أَن الْمَذْكُور أَولا لَيْسَ بِطَلَاق وَإِذا توقف أَوله على آخِره تعلق الْكل بِالشّرطِ جملَة وَإِذا كَانَ الشَّرْط سَابِقًا فَلَيْسَ فِي آخر الْكَلَام مَا يُغير مُوجب أَوله وَكَذَلِكَ فِي التَّنْجِيز فَإِن الأول طَلَاق سَوَاء ذكر الثَّانِي أَو لم يذكر فَإِذا لم يتَوَقَّف أَوله على آخِره بَانَتْ بِالْأولَى فلغت الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة لِانْعِدَامِ مَحل الْوُقُوع لَا لفساد فِي التَّكَلُّم أَو الْعَطف ثمَّ على قَول أبي يُوسُف رَحمَه الله تقع الأولى قبل أَن يفرغ من التَّكَلُّم بِالثَّانِيَةِ وَعند مُحَمَّد عِنْد الْفَرَاغ من التَّكَلُّم بِالثَّانِيَةِ تقع الأولى لجَوَاز أَن يلْحق بِكَلَامِهِ شرطا أَو اسْتثِْنَاء مغيرا وَمَا قَالَه أَبُو يُوسُف أَحَق فَإِنَّهُ مَا لم يَقع الطَّلَاق لَا يفوت الْمحل فَلَو كَانَ وُقُوع الأولى بعد الْفَرَاغ من التَّكَلُّم بِالثَّانِيَةِ لوقعا جَمِيعًا لوُجُود الْمحل مَعَ صِحَة التَّكَلُّم بِالثَّانِيَةِ وعَلى هَذَا قَالَ زفر رَحمَه الله لَو قَالَ لغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الْمَدْخُول بهَا أَنْت طَالِق وَاحِدَة وَعشْرين تطلق وَاحِدَة لِأَن الْوَاو للْعَطْف فَتبين بالواحدة قبل ذكر الْعشْرين وَلَكنَّا نقُول تِلْكَ كلمة وَاحِدَة حكما لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ أَن يعبر عَن هَذَا الْعدَد بِعِبَارَة أوجز من هَذَا وَعطف الْبَعْض على الْبَعْض يتَحَقَّق فِي كَلِمَتَيْنِ لَا فِي كلمة وَاحِدَة فَإِنَّمَا يَقع هُنَا عِنْد تَمام الْكَلَام فَتطلق ثَلَاثًا كَمَا لَو قَالَ وَاحِدَة وَنصفا تطلق اثْنَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لما صرح بِهِ عبارَة أوجز من ذَلِك فَكَانَت كلمة وَاحِدَة حكما وَعند زفر تطلق وَاحِدَة وعَلى هَذَا الأَصْل مَا قَالَ فِي الْجَامِع لَو تزوج أمتين بِغَيْر إِذن مولاهما ثمَّ أعتقهما الْمولى مَعًا جَازَ نِكَاحهمَا وَلَو قَالَ أعتقت هَذِه وَهَذِه جَازَ نِكَاح الأولى وَبَطل نِكَاح الثَّانِيَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي آخر كَلَامه مَا يُغير مُوجب أَوله فنكاح الأولى صَحِيح أعتق الثَّانِيَة أَو لم يعْتق وبنفوذ الْعتْق فِي الأولى تنعدم محلية النِّكَاح فِي حق الثَّانِيَة لِأَن الْأمة لَيست من المحللات مَضْمُومَة إِلَى الْحرَّة وَمثله لَو زوج مِنْهُ رضيعتين فِي عقدين بِغَيْر رِضَاهُ فأرضعتهما امْرَأَة ثمَّ أجَاز الزَّوْج نِكَاحهمَا مَعًا بَطل نِكَاحهمَا وَلَو قَالَ أجزت نِكَاح هَذِه وَهَذِه بَطل نِكَاحهمَا أَيْضا لِأَن فِي آخر كَلَامه مَا يُغير مُوجب أَوله فَإِن بآخر الْكَلَام يثبت الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ نِكَاحا وَذَلِكَ مُبْطل لنكاحهما فَيتَوَقَّف أول الْكَلَام على آخِره وَكَانَ الْفراء يَقُول الْوَاو للْجمع وَالْمَجْمُوع بِحرف الْوَاو كالمجموع بكناية الْجمع وَعِنْدنَا الْوَاو للْعَطْف والاشتراك على أَن يصير كل وَاحِد من الْمَذْكُورين كَأَنَّهُ مَذْكُور وَحده لَا على وَجه الْجمع بَينهمَا ذكرا وَبَيَان هَذَا فِيمَا إِذا كَانَ لرجل ثَلَاثَة أعبد فَقَالَ هَذَا حر أَو هَذَا وَهَذَا فَإِنَّهُ يُخَيّر فِي الْأَوَّلين وَيعتق الثَّالِث عينا كَأَنَّهُ قَالَ هَذَا حر أَو هَذَا حر وَعند الْفراء يُخَيّر فَإِن شَاءَ أوقع الْعتْق على (الأول وَإِن شَاءَ على) الثَّانِي وَالثَّالِث لِأَنَّهُ جمع بَينهمَا بِحرف الْوَاو فَكَأَنَّهُ جمع بكناية الْجمع فَقَالَ هَذَا حر وَهَذَانِ وَاسْتدلَّ بِمَا قَالَ فِي الْجَامِع رجل مَاتَ وَترك ثَلَاثَة أعبد قيمتهم سَوَاء وَترك ابْنا فَقَالَ الابْن أعتق وَالِدي هَذَا فِي مَرضه وَهَذَا وَهَذَا يعْتق من كل وَاحِد مِنْهُم ثلثه بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ أعتقهم وَلَو قَالَ أعتق هَذَا وَسكت ثمَّ قَالَ وَهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ثمَّ سكت ثمَّ قَالَ هَذَا يعْتق الأول كُله وَمن الثَّانِي نصفه وَمن الثَّالِث ثلثه وَلَكنَّا نقُول لَا وَجه لتصحيح كَلَامه على مَا قَالَه الْفراء لِأَن خبر الْمثنى غير خبر الْوَاحِد يُقَال للْوَاحِد حر وللاثنين حران وَالْمَذْكُور فِي كَلَامه من الْخَبَر قَوْله حر فَإِذا لم يَجْعَل كَانَ كل وَاحِد من الآخرين مُنْفَردا بِالذكر لَا يصلح أَن يكون الْخَبَر الْمَذْكُور خَبرا لَهما والعطف للاشتراك فِي الْخَبَر لَا لإِثْبَات خبر آخر وَإِذا جعلنَا الثَّالِث كالمنفرد بِالذكر صَار كَأَنَّهُ قَالَ أحد هذَيْن حر وَهَذَا فَيكون فِيهِ ضم الثَّالِث إِلَى الْمُعْتق من الْأَوَّلين لَا إِلَى غير الْمُعْتق فَلهَذَا عتق الثَّالِث وَمَسْأَلَة الْجَامِع إِنَّمَا تخرج على الأَصْل الَّذِي بَينا فَإِن فِي آخر كَلَامه مَا يُغير مُوجب أَوله لِأَن مُوجب أول الْكَلَام عتق الأول مجَّانا بِغَيْر سِعَايَة ويتغير ذَلِك بآخر كَلَامه عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله لِأَن المستسعي بِمَنْزِلَة الْمكَاتب (عِنْده) فيتغير حكم أصل الْعتْق وَعِنْدَهُمَا يتَغَيَّر حكم الْبَرَاءَة عَن السّعَايَة فَلهَذَا توقف أَوله على آخِره وَاخْتلفُوا فِي عطف الْجُمْلَة التَّامَّة على الْجُمْلَة التَّامَّة بِحرف الْوَاو نَحْو مَا إِذا قَالَ زَيْنَب طَالِق ثَلَاثًا وَعمرَة طَالِق فَإِنَّمَا تطلق عمْرَة وَاحِدَة وكل وَاحِد من الْكَلَامَيْنِ جملَة تَامَّة لِأَنَّهُ ابْتِدَاء وَخبر فالواو بَينهمَا عِنْد بعض مَشَايِخنَا لِمَعْنى الِابْتِدَاء يحسن نظم الْكَلَام كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {والراسخون فِي الْعلم} وَقَوله تَعَالَى {ويمح الله الْبَاطِل} وَقَوله تَعَالَى فِي حكم الْقَذْف {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا} فَإِنَّهُ ابْتِدَاء عندنَا قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح أَن هَذَا الْوَاو للْعَطْف أَيْضا عِنْدِي إِلَّا أَن الِاشْتِرَاك فِي الْخَبَر لَيْسَ من حكم بِمُجَرَّد الْعَطف بل بِاعْتِبَار حَاجَة الْمَعْطُوف إِلَيْهِ إِذا لم يذكر خَبرا وَلَا حَاجَة إِذا ذكر لَهُ خَبرا وَلِهَذَا عِنْد الْحَاجة جعلنَا خبر الْمَعْطُوف عين مَا هُوَ خبر الْمَعْطُوف عَلَيْهِ إِذا أمكن لَا غَيره لِأَن الْحَاجة ترْتَفع بِعَين ذَلِك حَتَّى إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق إِن دخلت هَذِه الدَّار وَإِن دخلت هَذِه الدَّار الْأُخْرَى فَإِنَّمَا يتَعَلَّق بِدُخُول الدَّار الثَّانِيَة تِلْكَ التطليقة لَا غَيرهَا حَتَّى لَو دخلت الدَّاريْنِ لم تطلق إِلَّا وَاحِدَة فَأَما إِذا تعذر ذَلِك بِأَن يَقُول فُلَانَة طَالِق وفلانة فَإِنَّهُ يَقع على الثَّانِيَة غير مَا وَقع على الأولى لِأَن الِاشْتِرَاك بَينهمَا فِي تَطْلِيقَة وَاحِدَة لَا يتَحَقَّق بِمَنْزِلَة قَوْله جَاءَنِي زيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وَعَمْرو فَإِنَّهُ إِخْبَار عَن مَجِيء كل وَاحِد مِنْهُمَا بِفعل على حِدة لِأَن مجيئهما بِفعل وَاحِد لَا يتَحَقَّق وعَلى هَذَا الأَصْل الَّذِي بَينا أَن الْوَاو لَا توجب التَّرْتِيب يخرج مَا قَالَ فِي كتاب الصَّلَاة وَيَنْوِي بالتسليمة الأولى من عَن يَمِينه من الْحفظَة وَالرِّجَال وَالنِّسَاء فَإِن مُرَاده الْعَطف لَا التَّرْتِيب وَكَذَلِكَ مُرَاده مِمَّا قَالَ فِي الْجَامِع الصَّغِير من الرِّجَال وَالنِّسَاء والحفظة فَإِن التَّرْتِيب (فِي النِّيَّة) لَا يتَحَقَّق فَعرفنَا أَن المُرَاد يجمعهُمْ فِي نِيَّته وَقد تكون الْوَاو بِمَعْنى الْحَال لِمَعْنى الْجمع أَيْضا فَإِن الْحَال يُجَامع ذَا الْحَال وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {حَتَّى إِذا جاؤوها وَفتحت أَبْوَابهَا} أَي جاؤوها حَال مَا تكون أَبْوَابهَا مَفْتُوحَة وعَلى هَذَا قَالَ فِي الْمَأْذُون إِذا قَالَ لعَبْدِهِ أد إِلَيّ ألفا وَأَنت حر إِنَّه لَا يعْتق مَا لم يؤد لِأَن الْوَاو بِمَعْنى الْحَال فَإِنَّمَا جعله حرا عِنْد الْأَدَاء وَقَالَ فِي السّير إِذا قَالَ افتحوا الْبَاب وَأَنْتُم آمنون لَا يأمنون مَا لم يفتحوا لِأَنَّهُ آمنهم حَال فتح الْبَاب وَإِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق وَأَنت مَرِيضَة تطلق فِي الْحَال لِأَن الْوَاو للْعَطْف فِي الأَصْل فَلَا يكون شرطا فَإِن قَالَ عنيت إِذا مَرضت يدين فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى لِأَنَّهُ عني بِالْوَاو الْحَال وَذَلِكَ مُحْتَمل فَكَأَنَّهُ قَالَ فِي حَال مَرضهَا وَكَذَلِكَ لَو قَالَ أَنْت طَالِق وَأَنت تصلين أَو وَأَنت مصلية وَقَالَ فِي الْمُضَاربَة إِذا قَالَ خُذ هَذِه الْألف واعمل بهَا مُضَارَبَة فِي الْبَز فَإِنَّهُ لَا يتَقَيَّد بصرفه فِي الْبَز وَله أَن يتجر فِيهَا مَا بدا لَهُ من وُجُوه التِّجَارَات لِأَن الْوَاو للْعَطْف فالإطلاق الثَّابِت بِأول الْكَلَام لَا يتَغَيَّر بِهَذَا الْعَطف وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله إِذا قَالَت الْمَرْأَة لزَوجهَا طَلقنِي وَلَك ألف دِرْهَم فَطلقهَا تجب الْألف عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ لَو قَالَ الزَّوْج أَنْت طَالِق وَعَلَيْك ألف دِرْهَم فَقبلت تجب الْألف وَفِيه طَرِيقَانِ لَهما أَحدهمَا أَنه اسْتعْمل الْوَاو بِمَعْنى الْبَاء مجَازًا فَإِن ذَلِك مَعْرُوف فِي الْقسم إِذْ لَا فرق بَين قَوْله وَالله وَبَين قَوْله بِاللَّه وَإِنَّمَا حملنَا على هَذَا الْمجَاز بِدلَالَة الْمُعَاوضَة فَإِن الْخلْع عقد مُعَاوضَة فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ احْمِلْ هَذَا الْمَتَاع إِلَى منزلي وَلَك دِرْهَم وَالثَّانِي أَن هَذَا الْوَاو للْحَال فَكَأَنَّهَا قَالَت طَلقنِي فِي حَال مَا يكون لَك عَليّ ألف دِرْهَم وَإِنَّمَا حملنَا على هَذَا لدلَالَة الْمُعَاوضَة كَمَا فِي قَوْله أد إِلَيّ ألفا وَأَنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 طَالِق بِخِلَاف الْمُضَاربَة فَلَا معنى لحرف الْبَاء هُنَاكَ حَتَّى يَجْعَل الْوَاو عبارَة عَنهُ وَلَا يُمكن حمله على معنى الْحَال لِانْعِدَامِ دلَالَة الْمُعَاوضَة فِيهِ وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول تطلق وَلَا شَيْء عَلَيْهَا لِأَن الْوَاو للْعَطْف حَقِيقَة وَبِاعْتِبَار هَذِه الْحَقِيقَة لَا يُمكن أَن يَجْعَل الْألف بَدَلا عَن الطَّلَاق فَلَو جعل بَدَلا إِنَّمَا يَجْعَل بِدلَالَة الْمُعَاوضَة وَذَلِكَ فِي الطَّلَاق زَائِد فَإِن الطَّلَاق فِي الْغَالِب يكون بِغَيْر عوض أَلا ترى أَن بِذكر الْعِوَض يصير كَلَام الزَّوْج بِمَعْنى الْيَمين حَتَّى لَا يُمكنهُ أَن يرجع عَنهُ قبل قبُولهَا وَلَا يجوز ترك الْحَقِيقَة بِاعْتِبَار دَلِيل زَائِد على مَا وضع لَهُ فِي الأَصْل بِخِلَاف الْإِجَارَة فَإِنَّهُ عقد مَشْرُوع بِالْبَدَلِ لَا يَصح بِدُونِهِ فَأمكن حمل اللَّفْظ على الْمجَاز بِاعْتِبَار معنى الْمُعَاوضَة فِيهِ لِأَنَّهُ أصل وَإِنَّمَا يَجْعَل الْوَاو للْحَال إِذا كَانَ بِصِيغَة تحْتَمل ذَلِك كَمَا فِي قَوْله أد وَأَنت حر انْزِلْ وَأَنت آمن فَإِن صِيغَة كَلَامه للْحَال لِأَنَّهُ خاطبه بِالْأولِ وَالْآخر بِصِيغَة وَاحِدَة ويتحقق عتقه فِي حَالَة الْأَدَاء ويتحقق أَمَانه فِي حَالَة النُّزُول لِأَن الْمَقْصُود أَن يعلم بمحاسن الشَّرِيعَة فَعَسَى يُؤمن وَذَلِكَ حَالَة النُّزُول فَأَما قَوْله خُذ هَذِه الْألف واعمل بهَا فِي الْبَز فَلَيْسَ فِي هَذِه الصِّيغَة احْتِمَال الْحَال لِأَن الْبَز لَا يكون حَالا لعمله وَقَوله أَنْت طَالِق وَأَنت مَرِيضَة للْعَطْف حَقِيقَة وَلَكِن فِيهِ احْتِمَال الْحَال إِذْ الطَّلَاق يتَحَقَّق فِي حَال الْمَرَض فلاعتبار الظَّاهِر لَا يدين فِي الْقَضَاء ولاحتمال كَونه مُحْتملا تعْمل نِيَّته فصل وَأما الْفَاء فَهُوَ للْعَطْف وموجبه التعقيب بِصفة الْوَصْل فَيثبت بِهِ تَرْتِيب وَإِن لطف ذَلِك لما بَينا أَن كل حرف يخْتَص بِمَعْنى فِي أصل الْوَضع إِذْ لَو لم يَجْعَل كَذَلِك خرج من أَن يكون مُفِيدا فَالْمَعْنى الَّذِي اخْتصَّ بِهِ الْفَاء مَا بَينا أَلا ترى أَن أهل اللِّسَان وصلوا حرف الْفَاء بالجزاء وسموه حرف الْجَزَاء لِأَن الْجَزَاء يتَّصل بِالشّرطِ على أَن يتعقب نُزُوله وجود الشَّرْط بِلَا فصل وَكَذَلِكَ يسْتَعْمل حرف الْفَاء لعطف الحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 على الْعلَّة يُقَال جَاءَ الشتَاء فتأهب وَيُقَال ضرب فأوجع أَي بذلك الضَّرْب وَأطْعم فأشبع أَي بذلك الطَّعَام وعَلى هَذَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لن يَجْزِي ولد وَالِده إِلَّا أَن يجده مَمْلُوكا فيشتريه فيعتقه أَي بذلك الشِّرَاء وَلِهَذَا جعلنَا الشِّرَاء إعتاقا فِي الْقَرِيب بِوَاسِطَة الْملك وَيَقُول خُذ من مَالِي ألف دِرْهَم فَصَاعِدا أَي فَمَا يزْدَاد عَلَيْهِ فَصَاعِدا وارتفاعا وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله فِيمَن قَالَ لغيره بِعْت مِنْك هَذَا العَبْد بِأَلف دِرْهَم وَقَالَ المُشْتَرِي فَهُوَ حر فَإِنَّهُ يعْتق وَيجْعَل قَابلا ثمَّ معتقا بِخِلَاف مَا لَو قَالَ هُوَ حر أَو وَهُوَ حر فَإِنَّهُ يكون ردا للْإِيجَاب لَا قبولا فَلَا يعْتق وَلَو قَالَ لخياط انْظُر إِلَى هَذَا الثَّوْب أيكفيني قَمِيصًا فَقَالَ نعم قَالَ فاقطعه فَقَطعه فَإِذا هُوَ لَا يَكْفِيهِ قَمِيصًا كَانَ الْخياط ضَامِنا لِأَن الْفَاء للوصل والتعقيب فَكَأَنَّهُ قَالَ فَإِن كفاني قَمِيصًا فاقطعه بِخِلَاف مَا لَو قَالَ اقطعه فَقَطعه فَإِذا هُوَ لَا يَكْفِيهِ قَمِيصًا فَإِنَّهُ لَا يكون ضَامِنا لوُجُود الْإِذْن مُطلقًا وَقد قَالَ بعض مَشَايِخنَا إِذا قَالَ لغير الْمَدْخُول بهَا إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق فطالق فطالق فَدخلت إِنَّهَا تطلق وَاحِدَة عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله بِاعْتِبَار أَن الْفَاء يَجْعَل مستعارا عَن الْوَاو مجَازًا لقرب أَحدهمَا من الآخر قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَن هَاهُنَا تطلق وَاحِدَة عِنْدهم جَمِيعًا لِأَن الْفَاء للتعقيب فَيثبت بِهِ تَرْتِيب بَين الثَّانِيَة وَالْأولَى فِي الْوُقُوع وَمَعَ التَّرْتِيب لَا يُمكن إِيقَاع الثَّانِيَة لِأَنَّهَا تبين بِالْأولَى وَمَعَ إِمْكَان اعْتِبَار الْحَقِيقَة لَا معنى للمصير إِلَى الْمجَاز وَالدَّلِيل على أَن الصَّحِيح هَذَا مَا قَالَ فِي الْجَامِع إِن دخلت هَذِه الدَّار فَدخلت هَذِه الدَّار الْأُخْرَى فَأَنت طَالِق فَإِن الشَّرْط أَن تدخل الثَّانِيَة بعد دُخُول الدَّار الأولى حَتَّى لَو دخلت فِي الثَّانِيَة قبل الأولى ثمَّ دخلت فِي الأولى لم تطلق بِخِلَاف مَا لَو قَالَ وَدخلت هَذِه الدَّار وَقد توصل الْفَاء بِمَا هُوَ عِلّة إِذا كَانَ مُحْتَمل الامتداد يَقُول الرجل لغيره أبشر فقد أَتَاك الْغَوْث وَهَذَا على سَبِيل بَيَان الْعلَّة للخطاب بالبشارة وَلَكِن لما كَانَ ذَلِك ممتدا صَحَّ ذكر حرف الْفَاء مَقْرُونا بِهِ وعَلى هَذَا الأَصْل لَو قَالَ لعَبْدِهِ أد إِلَيّ ألفا فَأَنت حر فَإِنَّهُ يعْتق وَإِن لم يؤد لِأَنَّهُ لبَيَان الْعلَّة أَي لِأَنَّك قد صرت حرا وَصفَة الْحُرِّيَّة تمتد وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لحربي انْزِلْ فَأَنت آمن كَانَ آمنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 نزل أَو لم ينزل لِأَن معنى كَلَامه انْزِلْ لِأَنَّك آمن والأمان ممتد فَأَما مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله فِيمَن يَقُول لفُلَان عَليّ دِرْهَم فدرهم إِنَّه يلْزمه دِرْهَمَانِ فَذَلِك لتحقيق معنى الْعَطف إِذْ الْمَعْطُوف غير الْمَعْطُوف عَلَيْهِ وَاعْتِبَار معنى الْوَصْل وَالتَّرْتِيب فِي الْوُجُوب لَا فِي الْوَاجِب أَو لما تعذر اعْتِبَار حَقِيقَة معنى حرف الْفَاء جعل عبارَة عَن الْوَاو مجَازًا فَكَأَنَّهُ قَالَ دِرْهَم وَدِرْهَم وَالشَّافِعِيّ يَقُول يلْزمه دِرْهَم وَاحِد لِأَن مَا هُوَ مُوجب حرف الْفَاء لَا يتَحَقَّق هَاهُنَا فَيكون صلَة للتَّأْكِيد كَأَنَّهُ قَالَ دِرْهَم فَهُوَ دِرْهَم وَلَكِن مَا قُلْنَاهُ أَحَق لِأَنَّهُ يضمر ليسقط بِهِ اعْتِبَار حرف الْفَاء والإضمار لتصحيح مَا وَقع التَّنْصِيص عَلَيْهِ لَا لإلغائه ثمَّ معنى الْعَطف مُحكم فِي هَذَا الْحَرْف فَلَا بُد من اعْتِبَاره بِحَسب الْإِمْكَان والمعطوف غير الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فَيلْزمهُ دِرْهَمَانِ لهَذَا فصل وَأما حرف ثمَّ فَهُوَ للْعَطْف على وَجه التعقيب مَعَ التَّرَاخِي هُوَ الْمَعْنى الَّذِي اخْتصَّ بِهِ هَذَا الْحَرْف بِأَصْل الْوَضع يَقُول الرجل (جَاءَنِي زيد ثمَّ عَمْرو فَإِنَّمَا يفهم مِنْهُ مَا يفهم من قَوْله) جَاءَنِي زيد وَبعده عَمْرو إِلَّا أَن عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله صفة هَذَا التَّرَاخِي أَن يكون بِمَنْزِلَة مَا لَو سكت ثمَّ اسْتَأْنف قولا بعد الأول لإتمام القَوْل بالتراخي وَعِنْدَهُمَا التَّرَاخِي بِهَذَا الْحَرْف فِي الحكم مَعَ الْوَصْل فِي التَّكَلُّم لمراعاة معنى الْعَطف فِيهِ وَبَيَان هَذَا فِيمَا إِذا قَالَ لغير الْمَدْخُول بهَا إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق ثمَّ طَالِق ثمَّ طَالِق عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله تتَعَلَّق الأولى بِالدُّخُولِ وَتَقَع الثَّانِيَة فِي الْحَال وتلغو الثَّالِثَة بِمَنْزِلَة قَوْله أَنْت طَالِق طَالِق طَالِق من غير حرف الْعَطف حَتَّى يَنْقَطِع بعض الْكَلَام عَن الْبَعْض وَعِنْدَهُمَا يتَعَلَّق الْكل بِالدُّخُولِ ثمَّ عِنْد الدُّخُول يظْهر التَّرْتِيب فِي الْوُقُوع فَلَا تقع إِلَّا وَاحِدَة لاعْتِبَار التَّرَاخِي بِحرف ثمَّ وَلَو أخر الشَّرْط ذكرا فَعِنْدَ أبي حنيفَة رَحمَه الله تطلق وَاحِدَة فِي الْحَال وَيَلْغُو مَا سواهَا وَعِنْدَهُمَا لَا تطلق مَا لم تدخل الدَّار فَإِذا دخلت طلقت وَاحِدَة وَلَو كَانَت مَدْخُولا بهَا فَإِن أخر الشَّرْط فَعِنْدَ أبي حنيفَة رَحمَه الله تطلق اثْنَتَيْنِ فِي الْحَال وتتعلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الثَّالِثَة بِالدُّخُولِ وَعِنْدَهُمَا مَا لم تدخل لَا يَقع شَيْء فَإِذا دخلت طلقت ثَلَاثًا وَلَو قدم الشَّرْط فَعِنْدَ أبي حنيفَة رَحمَه الله تقع الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة فِي الْحَال وتتعلق الأولى بِالدُّخُولِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَقع شَيْء مَا لم تدخل فَإِذا دخلت طلقت ثَلَاثًا هَكَذَا ذكر مُفَسرًا فِي النَّوَادِر وَقد يسْتَعْمل حرف ثمَّ بِمَعْنى الْوَاو مجَازًا قَالَ الله تَعَالَى {ثمَّ كَانَ من الَّذين آمنُوا} وَقَالَ تَعَالَى {ثمَّ الله شَهِيد على مَا يَفْعَلُونَ} وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من حلف على يَمِين وَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليأت الَّذِي هُوَ خير ثمَّ ليكفر يَمِينه إِن حرف ثمَّ فِي هَذِه الرِّوَايَة مَحْمُول على الْحَقِيقَة وَفِي الرِّوَايَة الَّتِي قَالَ فليكفر يَمِينه ثمَّ ليأت بِالَّذِي هُوَ خير حرف ثمَّ بِمَعْنى الْوَاو مجَازًا لِأَن صِيغَة الْأَمر للْإِيجَاب وَإِنَّمَا التَّكْفِير بعد الْحِنْث لَا قبله فحملنا هَذَا الْحَرْف على الْمجَاز لمراعاة حَقِيقَة الصِّيغَة فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود إِذْ لَو حملنَا حرف ثمَّ على الْحَقِيقَة كَانَ الْأَمر بالتكفير مَحْمُولا على الْمجَاز فَإِنَّهُ لَا يجب تَقْدِيم التَّكْفِير على الْحِنْث بالِاتِّفَاقِ فَكَانَ الأولى على هَذَا أَن يَجْعَل حرف ثمَّ بِمَعْنى حرف الْفَاء فَإِنَّهُ أقرب إِلَيْهِ من حرف الْوَاو وَإِنَّمَا لم نَفْعل ذَلِك لِأَن حرف الْفَاء يُوجب ترتيبا أَيْضا والحنث غير مُرَتّب على التَّكْفِير بِوَجْه فَلهَذَا جَعَلْنَاهُ بِمَعْنى الْوَاو فصل وَأما حرف بل هُوَ لتدارك الْغَلَط بِإِقَامَة الثَّانِي مقَام الأول وَإِظْهَار أَن الأول كَانَ غَلطا فَإِن الرجل يَقُول جَاءَنِي زيد بل عَمْرو أَو لَا بل عَمْرو فَإِنَّمَا يفهم مِنْهُ الْإِخْبَار بمجيء عَمْرو خَاصَّة وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى {بل كُنْتُم مجرمين} {بل مكر اللَّيْل وَالنَّهَار إِذْ تأمروننا أَن نكفر بِاللَّه} وعَلى هَذَا قَالَ زفر رَحمَه الله إِن من قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم بل أَلفَانِ يلْزمه ثَلَاثَة آلَاف لِأَن بل لتدارك الْغَلَط فَيكون إِقْرَارا بِأَلفَيْنِ ورجوعا عَن الْألف وَبَيَان أَنه كَانَ غَلطا وَلَكِن الْإِقْرَار صَحِيح وَالرُّجُوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 بَاطِل كَمَا لَو قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق وَاحِدَة بل اثْنَتَيْنِ تطلق ثَلَاثًا وَلَكنَّا نقُول يلْزمه أَلفَانِ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مَقْصُوده تدارك الْغَلَط بِنَفْي مَا أقرّ بِهِ أَولا بل تدارك الْغَلَط بِإِثْبَات الزِّيَادَة الَّتِي نفاها فِي الْكَلَام الأول بطرِيق الِاقْتِضَاء فَكَأَنَّهُ قَالَ بل مَعَ تِلْكَ الْألف ألف أُخْرَى فهما أَلفَانِ عَليّ أَلا ترى أَن الرجل يَقُول أَتَى عَليّ خَمْسُونَ سنة بل سِتُّونَ فَإِنَّهُ يفهم هَذَا من كَلَامه بل سِتُّونَ لعشرة زَائِدَة على الْخمسين الَّتِي أخْبرت بهَا أَولا وَلَكِن هَذَا يتَحَقَّق فِي الإخبارات لِأَنَّهَا تحْتَمل الْغَلَط وَلَا يتَحَقَّق فِي الإنشاءات فَلهَذَا جَعَلْنَاهُ موقعا اثْنَتَيْنِ رَاجعا عَن الأولى ورجوعه لَا يَصح فَتطلق ثَلَاثًا حَتَّى لَو قَالَ كنت طَلقتك أمس وَاحِدَة لَا بل اثْنَتَيْنِ تطلق اثْنَتَيْنِ لِأَن الْغَلَط فِي الْإِخْبَار يتَمَكَّن وَلَو قَالَ لغير الْمَدْخُول بهَا أَنْت طَالِق وَاحِدَة لَا بل اثْنَتَيْنِ تطلق وَاحِدَة لِأَنَّهُ بقوله بل اثْنَتَيْنِ أَولا بل اثْنَتَيْنِ يروم الرُّجُوع عَن الأولى وَذَلِكَ بَاطِل وَبَعْدَمَا بَانَتْ بِالْأولَى لم يبْق الْمحل ليَصِح إِيقَاع الثِّنْتَيْنِ عَلَيْهَا وَلَو قَالَ إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق وَاحِدَة لَا بل اثْنَتَيْنِ فَدخلت تطلق ثَلَاثًا بالِاتِّفَاقِ لِأَن مَعَ تعلق الأولى بِالشّرطِ بَقِي الْمحل على حَاله وَهُوَ بِهَذَا الْحَرْف تبين أَنه تعلق الثِّنْتَيْنِ بِالشّرطِ ابْتِدَاء لَا بِوَاسِطَة الأولى لِأَنَّهُ رَاجع عَن الأولى فَكَأَنَّهُ أعَاد ذكر الشَّرْط وَصَارَ كَلَامه فِي حكم يمينين فَعِنْدَ وجود الشَّرْط تقع الثَّلَاث جملَة لتَعلق الْكل بِالشّرطِ بِلَا وَاسِطَة بِخِلَاف مَا قَالَه أَبُو حنيفَة رَحمَه الله فِي حرف الْوَاو فَإِنَّهُ للْعَطْف فَيكون هُوَ مقررا للأولى ومعلقا الثَّانِيَة بِالشّرطِ بِوَاسِطَة الأولى فَعِنْدَ وجود الشَّرْط يقعن مُتَفَرقًا أَيْضا فَتبين بِالْأولَى قبل وُقُوع الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة وَالله أعلم فصل وَأما لَكِن فَهُوَ كلمة مَوْضُوعَة للاستدراك بعد النَّفْي تَقول مَا رَأَيْت زيدا لَكِن عمرا فَالْمَعْنى الَّذِي تخْتَص بِهِ هَذِه الْكَلِمَة بِاعْتِبَار أصل الْوَضع إِثْبَات مَا بعْدهَا فَأَما نفي مَا قبلهَا فثابت بدليله بِخِلَاف بل قَالَ تَعَالَى {فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِن الله قَتلهمْ وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} ثمَّ الْعَطف بهَا إِنَّمَا يكون عِنْد اتساق الْكَلَام فَإِن وجد ذَلِك كَانَ لتعليق النَّفْي بالإثبات الَّذِي بعْدهَا وَإِلَّا كَانَت للاستئناف وَبَيَان هَذَا فِي مسَائِل مَذْكُورَة فِي الْجَامِع مِنْهَا إِذا قَالَ رجل هَذَا العَبْد فِي يَدي لفُلَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 فَقَالَ الْمقر لَهُ مَا كَانَ لي قطّ وَلكنه لفُلَان فَإِن وصل كَلَامه فَهُوَ للْمقر لَهُ الثَّانِي وَإِن فصل فَهُوَ للْمقر لِأَن قَوْله مَا كَانَ لي قطّ تَصْرِيح بِنَفْي ملكه فِيهِ فَإِذا وصل بِهِ قَوْله لَكِن لفُلَان كَانَ بَيَانا أَنه نفي ملكه إِلَى الثَّانِي بِإِثْبَات الْملك لَهُ بقوله لَكِن فَإِن قطع كَلَامه كَانَ مَحْمُولا على نفي ملكه أصلا كَمَا هُوَ الظَّاهِر وَهُوَ رد للإقرار ثمَّ قَوْله وَلكنه لفُلَان شَهَادَة بِالْملكِ للثَّانِي على الْمقر وبشهادة الْفَرد لَا يثبت الْملك وَلَو أَن الْمقْضِي لَهُ بِالْعَبدِ بِالْبَيِّنَةِ قَالَ مَا كَانَ لي قطّ وَلكنه لفُلَان فَقَالَ الْمقر لَهُ قد كَانَ لَهُ فَبَاعَهُ أَو وهبه مني بعد الْقَضَاء لَهُ فَإِنَّهُ يكون للثَّانِي لِأَنَّهُ حِين وصل الْكَلَام فقد تبين أَنه نفي ملكه بإثباته للثَّانِي وَذَلِكَ يحْتَمل الْإِنْشَاء بِسَبَب كَانَ بعد الْقَضَاء فَيحمل على ذَلِك فِي حق الْمقر لَهُ إِلَّا أَن الْمقر يصير ضَامِنا قِيمَته للمقضي عَلَيْهِ لِأَن ظَاهر كَلَامه تَكْذِيب لشهوده وَإِقْرَار بِأَن الْقَضَاء بَاطِل وَهَذَا حجَّة عَلَيْهِ وَلَكِن إِنَّمَا يُقرر هَذَا الحكم بعد مَا تحول الْملك إِلَى الْمقر لَهُ فَيضمن قِيمَته للمقضي عَلَيْهِ وَلَو أَن أمة زوجت نَفسهَا من رجل بِمِائَة دِرْهَم بِغَيْر إِذن مَوْلَاهَا فَقَالَ الْمولى لَا أجيزه لَكِن أجيزه بِمِائَة وَخمسين أَو قَالَ لَكِن أجيزه إِن زدتني خمسين فَالْعقد بَاطِل لِأَن الْكَلَام غير متسق فَإِن نفي الْإِجَازَة وإثباتها بِعَينهَا لَا يتَحَقَّق فِيهِ معنى الْعَطف فيرتد العقد بقوله لَا أجيزه وَيكون قَوْله لَكِن أجيزه ابْتِدَاء بعد الِانْفِسَاخ وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم قرض فَقَالَ فلَان لَا وَلكنه غصب فَإِنَّهُ يلْزمه المَال لِأَن الْكَلَام متسق فيتبين بِآخِرهِ أَنه نفي السَّبَب لَا أصل المَال وَأَنه قد صدقه فِي الْإِقْرَار بِأَصْل المَال وَلَا تفَاوت فِي الحكم بَين السببين والأسباب مَطْلُوبَة للْأَحْكَام فَعِنْدَ انعدام التَّفَاوُت يتم تَصْدِيقه لَهُ فِيمَا أقرّ بِهِ فَيلْزمهُ المَال وعَلى هَذَا لَو قَالَ لَك عَليّ ألف دِرْهَم ثمن هَذِه الْجَارِيَة الَّتِي اشْتَرَيْتهَا مِنْك فَقَالَ الْجَارِيَة جاريتك مَا بعتها مِنْك وَلَكِن لي عَلَيْك ألف دِرْهَم يلْزمه المَال لِأَن الْكَلَام متسق وَفِي آخِره بَيَان أَنه مُصدق لَهُ فِي أصل المَال مكذب فِي السَّبَب وَلَا تفَاوت عِنْد سَلامَة الْجَارِيَة للْمقر فَيلْزمهُ المَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 فصل وَأما أَو فَهِيَ كلمة تدخل بَين اسْمَيْنِ أَو فعلين وموجبها بِاعْتِبَار أصل الْوَضع يتَنَاوَل أحد الْمَذْكُورين بَيَانه فِي قَوْله تَعَالَى {من أَوسط مَا تطْعمُونَ أهليكم أَو كسوتهم أَو تَحْرِير رَقَبَة} فَإِن الْوَاجِب فِي الْكَفَّارَة أحد الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة مَعَ إِبَاحَة التَّكْفِير بِكُل نوع مِنْهَا على الِانْفِرَاد وَلِهَذَا لَو كفر بالأنواع كلهَا كَانَ مُؤديا للْوَاجِب بِأحد الْأَنْوَاع فِي الصَّحِيح من الْمَذْهَب بِخِلَاف مَا يَقُوله بعض النَّاس وَقد بَينا هَذِه وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى فِي كَفَّارَة الْحلق {ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} وَفِي جَزَاء الصَّيْد {هَديا بَالغ الْكَعْبَة أَو كَفَّارَة طَعَام مَسَاكِين أَو عدل ذَلِك صياما} وَقد ظن بعض مَشَايِخنَا أَنَّهَا فِي أصل الْوَضع للتشكيك فَإِن الرجل إِذا قَالَ رَأَيْت زيدا وعمرا يكون مخبرا بِرُؤْيَة كل وَاحِد مِنْهُمَا عينا وَلَو قَالَ بل عمرا يكون مخبرا بِرُؤْيَة عَمْرو عينا وَلَو قَالَ أَو عمرا يكون مخبرا بِرُؤْيَة أَحدهمَا غير عين على أَنه شَاك فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا يجوز أَن يكون قد رَآهُ وَيجوز أَن يكون لم يره إِلَّا أَن فِي الابتداءات وَالْأَمر وَالنَّهْي يتَعَذَّر حمله على التشكيك فَإِن ذَلِك لَا يكون إِلَّا عِنْد التباس الْعلم بالشَّيْء فَيحمل على التَّخْيِير وَقرر هَذَا الْكَلَام فِي تصنيفه قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَعِنْدِي أَن هَذَا غير صَحِيح لِأَن الشَّك لَيْسَ بِأَمْر مَقْصُود حَتَّى يوضع لَهُ كلمة فِي أصل الْوَضع وَلَكِن هَذِه الْكَلِمَة لبَيَان أَن المتناول أحد الْمَذْكُورين كَمَا ذكرنَا إِلَّا أَن فِي الْإِخْبَار يُفْضِي إِلَى الشَّك بِاعْتِبَار مَحل الْكَلَام لَا بِاعْتِبَار هَذِه الْكَلِمَة كَمَا فِي قَوْله رَأَيْت زيدا أَو عمرا فَأَما فِي الإنشاءات لما تبدل الْمحل وانعدم الْمَعْنى الَّذِي لأَجله كَانَ معنى الشَّك فالثابت بِهَذِهِ الْكَلِمَة التَّخْيِير بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَهُوَ أَنَّهَا تتَنَاوَل أحد الْمَذْكُورين على إِثْبَات صفة الْإِبَاحَة فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا وَلِهَذَا قُلْنَا لَو قَالَ هَذَا العَبْد حر أَو هَذَا فَهُوَ وَقَوله أَحدهمَا حر سَوَاء يتَنَاوَل الْإِيجَاب أَحدهمَا وَيتَخَيَّر الْمولى فِي الْبَيَان على أَن يكون بَيَانه من وَجه كابتداء الْإِيقَاع حَتَّى يشْتَرط لصِحَّة الْبَيَان صَلَاحِية الْمحل للإيقاع وَمن وَجه هُوَ تعْيين للْوَاقِع وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله لَو جمع بَين عَبده ودابته وَقَالَ هَذَا حر أَو هَذَا لَغَا كَلَامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ أَحدهمَا حر لِأَن مَحل الْإِيجَاب أَحدهمَا بِغَيْر عينه وَإِذا لم يكن أحد الْعَبْدَيْنِ محلا صَالحا للْإِيجَاب فَغير الْمعِين مِنْهُمَا لَا يكون صَالحا وَبِدُون صَلَاحِية الْمحل لَا يَصح الْإِيجَاب أصلا وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول هَذَا الْإِيجَاب يتَنَاوَل أَحدهمَا بِغَيْر عينه على احْتِمَال التَّعْيِين أَلا ترى أَنَّهُمَا لَو كَانَا عَبْدَيْنِ تنَاول أَحدهمَا على احْتِمَال التَّعْيِين إِمَّا ببيانه أَو بانعدام الْمُزَاحمَة بِمَوْت أَحدهمَا فَيصح الْإِيجَاب هُنَا بِاعْتِبَار هَذَا الْمجَاز كَمَا هُوَ أصل أبي حنيفَة رَحمَه الله فِي الْعَمَل بالمجاز وَإِن تعذر الْعَمَل بِالْحَقِيقَةِ لعدم صَلَاحِية الْمحل لَهُ وَعِنْدَهُمَا الْمجَاز خلف عَن الْحَقِيقَة فِي الحكم فَإِذا لم يكن الْمحل صَالحا للْحكم حَقِيقَة يسْقط اعْتِبَار الْعَمَل بالمجاز وَقد بَينا هَذَا وعَلى هَذَا لَو قَالَ لثلاث نسْوَة لَهُ هَذِه طَالِق أَو هَذِه وَهَذِه تطلق الثَّالِثَة وَيتَخَيَّر فِي الْأَوليين بِمَنْزِلَة مَا لَو جمع بَين الْأَوليين فَقَالَ إِحْدَاكُمَا طَالِق وَهَذِه وَلِهَذَا قَالَ زفر رَحمَه الله فِي قَوْله وَالله لَا أكلم فلَانا أَو فلَانا وَفُلَانًا إِنَّه لَا يَحْنَث إِن كلم الأول وَحده مَا لم يكلم الثَّالِث مَعَه بِمَنْزِلَة قَوْله لَا أكلم أحد هذَيْن وَهَذَا وَلَكنَّا نقُول هُنَاكَ إِن كلم الأول وَحده يَحْنَث وَإِن كلم أحد الآخرين لَا يَحْنَث مَا لم يكلمهما لِأَنَّهُ أشرك بَينهمَا بِحرف الْوَاو وَالْخَبَر الْمَذْكُور يصلح للمثنى كَمَا يصلح للْوَاحِد فَإِنَّهُ يَقُول لَا أكلم هَذَا لَا أكلم هذَيْن فَيصير كَأَنَّهُ قَالَ لَا أكلم هَذَا أَو هذَيْن بِخِلَاف الطَّلَاق فهناك الْخَبَر الْمَذْكُور غير صَالح للمثنى إِذا جمعت بَينهمَا لِأَنَّهُ يُقَال للمثنى طالقان مَعَ أَن هُنَاكَ يُمكن أَن تجْعَل الثَّالِثَة كالمذكورة وَحدهَا فَإِن الحكم فِيهَا لَا يخْتَلف سَوَاء ضمت إِلَى الأولى أَو إِلَى الثَّانِيَة وَهنا الحكم فِي الثَّالِث يخْتَلف بالانضمام إِلَى الأول أَو الثَّانِي فَكَانَ ضمه إِلَى مَا يَلِيهِ أولى وعَلى هَذَا لَو قَالَ وكلت بِبيع هَذَا العَبْد هَذَا الرجل أَو هَذَا فَإِنَّهُ يَصح التَّوْكِيل اسْتِحْسَانًا بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ وكلت أَحدهمَا بِبيعِهِ حَتَّى لَا يشْتَرط اجْتِمَاعهمَا على البيع بِخِلَاف مَا لَو قَالَ وَهَذَا وَإِذا بَاعَ أَحدهمَا نفذ البيع وَلم يكن للْآخر بعد ذَلِك أَن يَبِيعهُ وَإِن عَاد إِلَى ملكه وَقبل البيع يُبَاح لكل وَاحِد مِنْهُمَا أَن يَبِيعهُ وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لوَاحِد بِعْ هَذَا العَبْد أَو هَذَا يثبت لَهُ الْخِيَار على أَن يَبِيع أَحدهمَا أَيهمَا شَاءَ بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ بِعْ أَحدهمَا فَأَما فِي البيع إِذا أَدخل كلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 أَو فِي الْمَبِيع أَو الثّمن فَالْبيع فَاسد للْجَهَالَة لِأَن مُوجب الْكَلِمَة التَّخْيِير وَمن لَهُ الْخِيَار مِنْهُمَا غير مَعْلُوم فَإِن كَانَ مَعْلُوما جَازَ فِي الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة اسْتِحْسَانًا وَلم يجز فِي الزِّيَادَة على ذَلِك لبَقَاء الْحَظْر بعد تعين من لَهُ الْخِيَار وَلَكِن الْيَسِير من الْحَظْر لَا يمْنَع جَوَاز العقد والفاحش مِنْهُ يمْنَع جَوَاز العقد فَأَما فِي النِّكَاح ف أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله تَعَالَى يَقُولَانِ يثبت التَّخْيِير بِهَذِهِ الْكَلِمَة إِذا كَانَ مُفِيدا بِأَن يَقُول لامْرَأَة تَزَوَّجتك على ألف دِرْهَم حَالا أَو على أَلفَيْنِ إِلَى سنة أَو تَزَوَّجتك على ألف دِرْهَم أَو مائَة دِينَار وَلَا يثبت الْخِيَار إِذا لم يكن مُفِيدا بِأَن يَقُول تَزَوَّجتك على ألف دِرْهَم أَو أَلفَيْنِ بل يجب الْأَقَل عينا لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي التَّخْيِير بَين الْقَلِيل وَالْكثير فِي جنس وَاحِد وَصِحَّة النِّكَاح لَا تتَوَقَّف على تَسْمِيَة الْبَدَل فوجوب المَال عِنْد التَّسْمِيَة فِي معنى الِابْتِدَاء بِمَنْزِلَة الْإِقْرَار بِالْمَالِ أَو الْوَصِيَّة أَو الْخلْع أَو الصُّلْح عَن دم الْعمد على مَال فَإِنَّمَا يثبت الْأَقَل لكَونه متيقنا بِهِ وَلِهَذَا كل مَا يصلح أَن يكون مُسَمّى فِي الصُّلْح عَن دم الْعمد يصلح أَن يكون مُسَمّى فِي النِّكَاح وَأَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ يَقُول يُصَار إِلَى تحكيم مهر الْمثل لِأَن التَّخْيِير الَّذِي هُوَ حكم هَذِه الْكَلِمَة يمْنَع كَون الْمُسَمّى مَعْلُوما قطعا والموجب الْأَصْلِيّ فِي النِّكَاح مهر الْمثل وَإِنَّمَا يَنْتَفِي ذَلِك الْمُوجب عِنْد تَسْمِيَة مَعْلُومَة قطعا فَإِذا انْعَدم ذَلِك بِحرف أَو وَجب الْمصير إِلَى الْمُوجب الْأَصْلِيّ بِخِلَاف الْخلْع وَالصُّلْح فَلَيْسَ فِي ذَلِك العقد مُوجب أُصَلِّي فِي الْبَدَل بل هُوَ صَحِيح من غير بدل يجب بِهِ فَلهَذَا أَوجَبْنَا الْقدر الميتقن بِهِ وَمَا زَاد على ذَلِك لكَونه مشكوكا فِيهِ يبطل وعَلى هَذَا قَالَ مَالك رَحمَه الله فِي حد قطاع الطَّرِيق إِن الإِمَام يتَخَيَّر فِي ظَاهر قَوْله تَعَالَى {أَن يقتلُوا أَو يصلبوا أَو تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف} فَإِن مُوجب الْكَلِمَة التَّخْيِير وَالْكَلَام مَحْمُول على حَقِيقَته حَتَّى يقوم دَلِيل الْمجَاز وَلَكنَّا نقُول فِي أول الْآيَة تنصيص على أَن الْمَذْكُور جَزَاء على الْمُحَاربَة والمحاربة أَنْوَاع كل نوع مِنْهَا مَعْلُوم من تخويف أَو أَخذ مَال أَو قتل نفس أَو جمع بَين الْقَتْل وَأخذ المَال وَهَذِه الْأَنْوَاع تَتَفَاوَت فِي صفة الْجِنَايَة وَالْمَذْكُور أجزية مُتَفَاوِتَة فِي معنى التَّشْدِيد فَوَقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الِاسْتِغْنَاء بِتِلْكَ الْمُقدمَة عَن بَيَان تَقْسِيم الأجزية على أَنْوَاع الْجِنَايَة نصا وَلَكِن هَذَا التَّقْسِيم ثَابت بِأَصْل مَعْلُوم وَهُوَ أَن الْجُمْلَة إِذا قوبلت بِالْجُمْلَةِ يَنْقَسِم الْبَعْض على الْبَعْض فَلهَذَا كَانَ الْجَزَاء على كل نوع عينا كَيفَ وَقد نزل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا التَّقْسِيم فِي أَصْحَاب أبي بردة وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله إِذا جمع بَين الْقَتْل وَأخذ المَال فللإمام الْخِيَار إِن شَاءَ قطع يَده ثمَّ قَتله وصلبه وَإِن شَاءَ قَتله وصلبه وَلم يقطعهُ لِأَن نوع الْمُحَاربَة مُتَعَدد صُورَة مُتحد معنى فَيتَخَيَّر لهَذَا وَقيل أَو هُنَا بِمَعْنى بل كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {فَهِيَ كالحجارة أَو أَشد قسوة} أَي بل أَشد قسوة فَيكون المُرَاد بل يصلبوا إِذا اتّفقت الْمُحَاربَة بقتل النَّفس وَأخذ المَال بل تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف إِذا أخذُوا المَال فَقَط بل ينفوا من الأَرْض إِذا خوفوا الطَّرِيق وَقد تستعار كلمة أَو للْعَطْف فَتكون بِمَعْنى الْوَاو قَالَ تَعَالَى {وأرسلناه إِلَى مائَة ألف أَو يزِيدُونَ} أَي وَيزِيدُونَ قَالَ الْقَائِل فَلَو كَانَ الْبكاء يرد شَيْئا بَكَيْت على زِيَاد أَو عنَاق على المرأين إِذْ مضيا جَمِيعًا لشأنهما بحزن واحتراق (أَي وعناق) بِدَلِيل قَوْله على المرأين إِذْ مضيا جَمِيعًا إِذا عرفنَا هَذَا فَنَقُول إِنَّمَا يحمل على هَذِه الِاسْتِعَارَة عِنْد اقتران الدَّلِيل بالْكلَام وَمن الدَّلِيل (على ذَلِك) أَن تكون مَذْكُورَة فِي مَوضِع النَّفْي قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفورا} مَعْنَاهُ وَلَا كفورا وَالدَّلِيل فِيهِ مَا قدمنَا أَن النكرَة فِي (مَوضِع) النَّفْي تعم وَلَا يُمكن إِثْبَات التَّعْمِيم إِلَّا أَن يَجْعَل بِمَعْنى وَاو الْعَطف وَلَكِن على أَن يتَنَاوَل كل وَاحِد مِنْهُمَا على الِانْفِرَاد لَا على الِاجْتِمَاع كَمَا هُوَ مُوجب حرف الْوَاو وَلِهَذَا قُلْنَا لَو قَالَ وَالله أكلم فلَانا أَو فلَانا فَإِنَّهُ يَحْنَث إِذا كلم أَحدهمَا بِخِلَاف قَوْله فلَانا وَفُلَانًا فَإِنَّهُ لَا يَحْنَث مَا لم يكلمهما وَلَكِن يتَنَاوَل كل وَاحِد (مِنْهُمَا) على الِانْفِرَاد حَتَّى لَا يثبت لَهُ الْخِيَار وَلَو كَانَ فِي الْإِيلَاء بِأَن قَالَ لَا أقرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 هَذِه أَو هَذِه فمضت الْمدَّة بانتا جَمِيعًا وَمن ذَلِك أَن يسْتَعْمل الْكَلِمَة فِي مَوضِع الْإِبَاحَة فَتكون بِمَعْنى الْوَاو حَتَّى يتَنَاوَل معنى الْإِبَاحَة كل وَاحِد من الْمَذْكُورين فَإِن الرجل يَقُول جَالس الْفُقَهَاء أَو الْمُتَكَلِّمين فيفهم (مِنْهُ) الْإِذْن بالمجالسة مَعَ كل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ والطبيب يَقُول للْمَرِيض كل هَذَا أَو هَذَا فَإِنَّمَا يفهم مِنْهُ أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا صَالح لَك وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا مَا حملت ظهورهما أَو الحوايا أَو مَا اخْتَلَط بِعظم} فالاستثناء من التَّحْرِيم إِبَاحَة ثمَّ تثبت الْإِبَاحَة فِي جَمِيع هَذِه الْأَشْيَاء فَعرفنَا أَن مُوجب هَذِه الْكَلِمَة فِي الْإِبَاحَة الْعُمُوم وَأَنه بِمَعْنى وَاو الْعَطف وَبَيَان الْفرق بَين الْإِبَاحَة والإيجاب أَن فِي الْإِيجَاب الِامْتِثَال بالإقدام على أَحدهمَا وَفِي الْإِبَاحَة تتَحَقَّق الْمُوَافقَة فِي الْإِقْدَام على كل وَاحِد مِنْهُمَا وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لَا أكلم أحدا إِلَّا فلَانا أَو فلَانا فَإِن لَهُ أَن يكلمهما من غير حنث وَلَو قَالَ لأَرْبَع نسْوَة لَهُ وَالله لَا أقربكن إِلَّا فُلَانَة أَو فُلَانَة فَإِنَّهُ لَا يكون موليا مِنْهُمَا جَمِيعًا حَتَّى لَا يَحْنَث إِن قربهما وَلَا تقع الْفرْقَة بَينه وَبَينهمَا بِمُضِيِّ الْمدَّة قبل القربان وَقد تستعار أَو بِمَعْنى حَتَّى قَالَ تَعَالَى {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء أَو يَتُوب عَلَيْهِم} أَي حَتَّى يَتُوب عَلَيْهِم وَفِي هَذِه الِاسْتِعَارَة معنى الْعَطف فَإِن غَايَة الشَّيْء تتصل بِهِ كَمَا يتَّصل الْمَعْطُوف بالمعطوف عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْجَامِع لَو قَالَ وَالله لأدخلن هَذِه الدَّار الْيَوْم أَو لأدخلن هَذِه الدَّار فَأَي الدَّاريْنِ دخل بر فِي يَمِينه لِأَنَّهُ ذكر الْكَلِمَة فِي مَوضِع الْإِثْبَات فَيَقْتَضِي التَّخْيِير فِي شَرط الْبر وَلَو قَالَ لَا أَدخل هَذِه الدَّار أَو لَا أَدخل هَذِه الدَّار (فَأَي الدَّاريْنِ دخل حنث فِي يَمِينه لِأَنَّهُ ذكرهَا فِي مَوضِع النَّفْي فَكَانَت بِمَعْنى وَلَا وَلَو قَالَ وَالله لَا أَدخل هَذِه الدَّار أَو أَدخل هَذِه الدَّار) الْأُخْرَى فَإِن دخل الأولى حنث فِي يَمِينه وَإِن دخل الثَّانِيَة أَولا بر فِي يَمِينه حَتَّى إِذا دخل الأولى بعد ذَلِك لَا يَحْنَث بِمَنْزِلَة قَوْله لَا أَدخل هَذِه الدَّار حَتَّى أَدخل هَذِه الدَّار فَكَأَن الدُّخُول فِي الْأُخْرَى غَايَة ليمينه فَإِذا دَخلهَا انْتَهَت الْيَمين وَإِن لم يدخلهَا حَتَّى دخل الأولى حنث لوُجُود الشَّرْط فِي فِيهِ للنَّفْي فِي أحد الْجَانِبَيْنِ ويتعذر إِثْبَات معنى الْعَطف لعدم المجانسة بَين الْمَذْكُورين فَيجْعَل بِمَعْنى الْغَايَة لِأَن حُرْمَة الدُّخُول الثَّابِت بِالْيَمِينِ يحْتَمل الامتداد فيليق بِهِ ذكر الْغَايَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى لَيْسَ لَك حَال بَقَاء الْيَمين وَإِنَّمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 جَعَلْنَاهُ هَكَذَا لِأَنَّهُ يتَعَذَّر اعْتِبَار معنى التَّخْيِير {من الْأَمر شَيْء أَو يَتُوب عَلَيْهِم} فَإِنَّهُ لَا يُمكن حمل الْكَلِمَة على الْعَطف إِذْ الْفِعْل لَا يعْطف على الِاسْم والمستقبل لَا يعْطف على الْمَاضِي وَنفي الْأَمر يحْتَمل الامتداد فَيجْعَل قَوْله {أَو يَتُوب} بِمَعْنى الْغَايَة وَلِأَنَّهُ نفي الدُّخُول فِي الدَّار الأولى فَإِذا دخل فِيهَا أَولا يَجْعَل كَأَن الْمَذْكُور آخرا من جنسه نفي فَيحنث بِالدُّخُولِ فِيهَا لهَذَا وَأثبت الدُّخُول فِي الدَّار الثَّانِيَة فَإِذا دَخلهَا أَولا يَجْعَل كَأَن الْأَخير من جنسه إِثْبَات كَمَا فِي قَوْله لأدخلن هَذِه الدَّار أَو لأدخلن هَذِه الدَّار فصل وَأما حَتَّى فَهِيَ للغاية بِاعْتِبَار أصل الْوَضع بِمَنْزِلَة إِلَى هُوَ الْمَعْنى الْخَاص الَّذِي لأَجله وضعت الْكَلِمَة قَالَ تَعَالَى {هِيَ حَتَّى مطلع الْفجْر} وَقَالَ تَعَالَى {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة عَن يَد} وَقَالَ تَعَالَى {حَتَّى يَأْذَن لي أبي} وَقَالَ تَعَالَى {حَتَّى يَأْتِيك الْيَقِين} فَمَتَى كَانَ مَا قبلهَا بِحَيْثُ يحْتَمل الامتداد وَمَا بعْدهَا يصلح للانتهاء بِهِ كَانَت عاملة فِي حَقِيقَة الْغَايَة وَلِهَذَا قُلْنَا إِذا حلف أَن يلازم غَرِيمه حَتَّى يَقْضِيه ثمَّ فَارقه قبل أَن يَقْضِيه دينه حنث لِأَن الْمُلَازمَة تحْتَمل الامتداد وَقَضَاء الدّين يصلح مَنْهِيّا للملازمة وَقَالَ فِي الزِّيَادَات لَو قَالَ عَبده حر إِن لم أضربك حَتَّى تَشْتَكِي يَدي أَو حَتَّى اللَّيْل أَو حَتَّى تصبح أَو حَتَّى يشفع فلَان ثمَّ ترك ضربه قبل هَذِه الْأَشْيَاء حنث لِأَن الضَّرْب بطرِيق التّكْرَار يحْتَمل الامتداد وَالْمَذْكُور بعد الْكَلِمَة صَالح للانتهاء فَيجْعَل غَايَة حَقِيقَة وَإِذا أقلع عَن الضَّرْب قبل الْغَايَة حنث إِلَّا فِي مَوضِع يغلب على الْحَقِيقَة عرف فَيعْتَبر ذَلِك لِأَن الثَّابِت بِالْعرْفِ ظَاهرا بِمَنْزِلَة الْحَقِيقَة حَتَّى لَو قَالَ إِن لم أضربك حَتَّى أَقْتلك أَو حَتَّى تَمُوت فَهَذَا على الضَّرْب الشَّديد بِاعْتِبَار الْعرف فَإِنَّهُ مَتى كَانَ قَصده الْقَتْل لَا يذكر لفظ الضَّرْب وَإِنَّمَا يذكر ذَلِك إِذا لم يكن قَصده الْقَتْل وَجعل الْقَتْل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 غَايَة لبَيَان شدَّة الضَّرْب عَادَة وَلَو قَالَ حَتَّى يغشى عَلَيْك أَو حَتَّى تبْكي فَهَذَا على حَقِيقَة الْغَايَة لِأَن الضَّرْب إِلَى هَذِه الْغَايَة مُعْتَاد وَقد تسْتَعْمل الْكَلِمَة للْعَطْف فَإِن بَين الْعَطف والغاية مُنَاسبَة بِمَعْنى التَّعَاقُب وَلَكِن مَعَ وجود معنى الْغَايَة فِيهَا يَقُول الرجل جَاءَنِي الْقَوْم حَتَّى زيد وَرَأَيْت الْقَوْم حَتَّى زيدا فَيكون للْعَطْف مَعَ اعْتِبَار معنى الْغَايَة لِأَنَّهُ يفهم بِهَذَا أَن زيدا أفضل الْقَوْم أَو أرذلهم وَقد يدْخل بِمَعْنى الْعَطف على جملَة فَإِن ذكر لَهُ خَبرا فَهُوَ خَبره وَإِلَّا فخبره من جنس مَا سبق يَقُول الرجل مَرَرْت بالقوم حَتَّى زيد غَضْبَان وَتقول أكلت السَّمَكَة حَتَّى رَأسهَا فَهَذَا مِمَّا لم يذكر خَبره وَهُوَ من جنس مَا سبق على احْتِمَال أَن يكون هُوَ الْأكل أَو غَيره وَلكنه إِخْبَار بِأَن رَأسهَا مَأْكُول أَيْضا وَلَو قَالَ حَتَّى رَأسهَا بِالنّصب كَانَ هَذَا عطفا أَي وأكلت رَأسهَا أَيْضا وَلَكِن بِاعْتِبَار معنى الْغَايَة وَمثل هَذَا فِي الْأَفْعَال تكون للجزاء إِذا كَانَ مَا قبلهَا يصلح سَببا لذَلِك وَمَا بعْدهَا يصلح أَن يكون جَزَاء فَيكون بِمَعْنى لَام كي قَالَ تَعَالَى {وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة} أَي لكيلا تكون فتْنَة وَقَالَ تَعَالَى {وزلزلوا حَتَّى يَقُول الرَّسُول} وَالْقِرَاءَة بِالنّصب تحْتَمل الْغَايَة مَعْنَاهُ إِلَى أَن يَقُول الرَّسُول فَيكون قَول الرَّسُول نِهَايَة من غير أَن يكون بِنَاء على مَا سبق كَمَا هُوَ مُوجب الْغَايَة أَنه لَا أثر لَهُ فِيمَا جعل غَايَة لَهُ وَيحْتَمل لكَي يَقُول الرَّسُول وَالْقِرَاءَة بِالرَّفْع تكون بِمَعْنى الْعَطف أَي وَيَقُول الرَّسُول وعَلى هَذَا قَالَ فِي الزِّيَادَات إِذا قَالَ إِن لم آتِك غَدا حَتَّى تغديني فَعَبْدي حر فَأَتَاهُ فَلم يغده لَا يَحْنَث لِأَن الْإِتْيَان لَيْسَ بمستدام فَلَا يحْتَمل الْكَلِمَة بِمَعْنى حَقِيقَة الْغَايَة وَمَا بعده يصلح جَزَاء فَيكون الْمَعْنى لكَي تغديني فقد جعل شَرط بره الْإِتْيَان على هَذَا الْقَصْد وَقد وجد وَكَذَلِكَ لَو قَالَ إِن لم تأتني حَتَّى أغديك فَأَتَاهُ وَلم يغده لم يَحْنَث وَقد يستعار للْعَطْف الْمَحْض كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ فِي الْقِرَاءَة بِالرَّفْع وَلَكِن هَذَا إِذا كَانَ الْمَذْكُور بعده لَا يصلح للجزاء فَيعْتَبر مُجَرّد الْمُنَاسبَة بَين الْعَطف والغاية فِي الِاسْتِعَارَة وعَلى هَذَا قَالَ فِي الزِّيَادَات إِذا قَالَ إِن لم آتِك حَتَّى أتغدى عنْدك الْيَوْم أَو إِن لم تأتني حَتَّى تتغدى عِنْدِي الْيَوْم فَأَتَاهُ ثمَّ لم يتغد عِنْده فِي ذَلِك الْيَوْم حنث لِأَن الْكَلِمَة بِمَعْنى الْعَطف فَإِن الْفِعْلَيْنِ من وَاحِد فَلَا يصلح الثَّانِي أَن يكون جَزَاء للْأولِ فَحمل على الْعَطف الْمَحْض لتصحيح الْكَلَام وَشرط الْبر وجود الْأَمريْنِ فِي الْيَوْم فَإِذا لم يوجدا حنث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 فَإِن قيل أهل النَّحْو لَا يعْرفُونَ هَذَا فَإِنَّهُم لَا يَقُولُونَ رَأَيْت زيدا حَتَّى عمرا بِاعْتِبَار الْعَطف قُلْنَا قد بَينا أَن فِي الاستعارات لَا يعْتَبر السماع وَإِنَّمَا يعْتَبر الْمَعْنى الصَّالح للاستعارة وَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ من الْمُنَاسبَة معنى صَالح لذَلِك فَهِيَ اسْتِعَارَة بديعة بنى عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله جَوَاب الْمَسْأَلَة عَلَيْهَا مَعَ أَن قَول مُحَمَّد رَحمَه الله حجَّة فِي اللُّغَة فَإِن أَبَا عبيد وَغَيره احْتج بقوله وَذكر ابْن السراج أَن الْمبرد سُئِلَ عَن معنى الغزالة فَقَالَ هِيَ الشَّمْس قَالَه مُحَمَّد بن الْحسن رَحمَه الله وَكَانَ فصيحا فَإِنَّهُ قَالَ لخادم لَهُ يَوْمًا انْظُر هَل دلكت الغزالة فَخرج ثمَّ دخل فَقَالَ لم أر الغزالة وَإِنَّمَا أَرَادَ مُحَمَّد هَل زَالَت الشَّمْس فعلى هَذَا يجوز أَن يَقُول الرجل رَأَيْت زيدا حَتَّى عمرا بِمَعْنى الْعَطف إِلَّا أَن الأولى أَن يَجْعَل هَذَا بِمَعْنى الْفَاء دون الْوَاو لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا للْعَطْف وَلَكِن فِي الْفَاء معنى التعقيب فَهُوَ أقرب إِلَى معنى الْمُنَاسبَة كَمَا بَينا فصل وَأما إِلَى فَهِيَ لانْتِهَاء الْغَايَة وَلِهَذَا تسْتَعْمل الْكَلِمَة فِي الْآجَال والديون قَالَ تَعَالَى {إِلَى أجل مُسَمّى} وعَلى هَذَا لَو قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق إِلَى شهر فَإِن نوى التَّنْجِيز فِي الْحَال تطلق وَيَلْغُو آخر كَلَامه وَإِن نوى التَّأْخِير يتَأَخَّر الْوُقُوع إِلَى مُضِيّ الشَّهْر وَإِن لم يكن لَهُ نِيَّة فعلى قَول زفر رَحمَه الله يَقع فِي الْحَال لِأَن تَأْخِير الشَّيْء لَا يمْنَع ثُبُوت أَصله (فَيكون بِمَنْزِلَة التَّأْجِيل فِي الدّين لَا يمْنَع ثُبُوت أَصله) وَعِنْدنَا لَا يَقع لِأَن الْكَلِمَة للتأخير فِيمَا يقرن بِهِ بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَقد قرنها بِأَصْل الطَّلَاق وَأَصلهَا يحْتَمل التَّأْخِير فِي التَّعْلِيق بِمُضِيِّ شهر أَو بِالْإِضَافَة إِلَى مَا بعد شهر فَأَما أصل الْيَمين لَا يحْتَمل التَّأْخِير فِي التَّعْلِيق وَالْإِضَافَة فَلهَذَا حملنَا الْكَلِمَة هُنَاكَ على تَأْخِير الْمُطَالبَة ثمَّ من الغايات بِهَذِهِ الْكَلِمَة مَا لَا يدْخل كَقَوْلِه تَعَالَى {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} وَمِنْهَا مَا يدْخل كَقَوْلِه {وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} وَالْحَاصِل فِيهِ أَن مَا يكون من الغايات قَائِما بِنَفسِهِ فَإِنَّهُ لَا يدْخل لِأَنَّهُ حد وَلَا يدْخل الْحَد فِي الْمَحْدُود وَلِهَذَا لَو قَالَ لفُلَان من هَذَا الْحَائِط إِلَى هَذَا كَانَ أصل الْكَلَام متناولا للغاية كَانَ ذكر الْغَايَة لإِخْرَاج مَا وَرَاءَهَا فَيبقى مَوضِع الْغَايَة دَاخِلا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} الْحَائِط لَا يدْخل الحائطان فِي الْإِقْرَار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وَمَا لَا يكون قَائِما بِنَفسِهِ فَإِن فَإِن الِاسْم عِنْد الْإِطْلَاق يتَنَاوَل الْجَارِحَة إِلَى الْإِبِط فَذكر الْغَايَة لإِخْرَاج مَا وَرَاءَهَا وَإِن كَانَ أصل الْكَلَام لَا يتَنَاوَل مَوضِع الْغَايَة أَو فِيهِ شكّ فَذكر الْغَايَة لمد الحكم إِلَى موضعهَا فَلَا تدخل الْغَايَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَى اللَّيْل} فَإِن الصَّوْم عبارَة عَن الْإِمْسَاك ومطلقه لَا يتَنَاوَل إِلَّا سَاعَة فَذكر الْغَايَة لمد الحكم إِلَى مَوضِع الْغَايَة وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله الْغَايَة تدخل فِي الْخِيَار لِأَن مطلقه يَقْتَضِي التَّأْبِيد وَلِأَن فِي لُزُوم البيع فِي مَوضِع الْغَايَة شكا وَفِي الْآجَال والإجارات لَا تدخل الغايات لِأَن الْمُطلق لَا يَقْتَضِي التَّأْبِيد وَفِي تَأْخِير الْمُطَالبَة وتمليك الْمَنْفَعَة فِي مَوضِع الْغَايَة شكّ وَفِي الْيَمين إِذا حلف لَا يكلم فلَانا إِلَى وَقت كَذَا تدخل الْغَايَة فِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله لِأَن مطلقه يَقْتَضِي التَّأْبِيد فَذكر الْغَايَة لإِخْرَاج مَا وَرَاءَهَا وَلَا تدخل فِي ظَاهر الرِّوَايَة لِأَن فِي حُرْمَة الْكَلَام وَوُجُوب الْكَفَّارَة فِي الْكَلَام فِي مَوضِع الْغَايَة شكا وعَلى هَذَا قَالَ زفر رَحمَه الله إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ من دِرْهَم إِلَى عشرَة أَو قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق من وَاحِدَة إِلَى ثَلَاث لَا تدخل الغايتان لِأَن الْغَايَة حد والمحدود غير الْحَد وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله تدخل الغايتان لِأَن هَذِه الْغَايَة لَا تقوم بِنَفسِهَا فَلَا تكون غَايَة مَا لم تكن ثَانِيَة وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله الْغَايَة الثَّانِيَة لَا تدخل لِأَن مُطلق الْكَلَام لَا يتَنَاوَلهُ وَفِي ثُبُوته شكّ وَلَكِن الْغَايَة الأولى تدخل للضَّرُورَة لِأَن الثَّانِيَة دَاخِلَة فِي الْكَلَام وَلَا تكون ثَانِيَة قبل دُخُول الأولى فصل وَأما على فَهُوَ للإلزام بِاعْتِبَار أصل الْوَضع لِأَن معنى حَقِيقَة الْكَلِمَة من علو الشَّيْء على الشَّيْء وارتفاعه فَوْقه وَذَلِكَ قَضِيَّة الْوُجُوب واللزوم وَلِهَذَا لَو قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم أَن مطلقه مَحْمُول على الدّين إِلَّا ثمَّ تسْتَعْمل الْكَلِمَة للشّرط بِاعْتِبَار أَن الْجَزَاء يتَعَلَّق بِالشّرطِ وَيكون لَازِما عِنْد وجوده وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {يبايعنك على أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا} أَن يصل بِكَلَامِهِ وَدِيعَة لِأَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 حَقِيقَته اللُّزُوم فِي الدّين وَقَالَ تَعَالَى {حقيق على أَن لَا أَقُول على الله إِلَّا الْحق} وعَلى هَذَا قَالَ فِي السّير إِذا قَالَ رَأس الْحصن آمنوني على عشرَة من أهل الْحصن إِن الْعشْرَة سواهُ وَالْخيَار فِي تعيينهم إِلَيْهِ لِأَنَّهُ شَرط ذَلِك لنَفسِهِ بِكَلِمَة على بِخِلَاف مَا لَو قَالَ آمنوني وَعشرَة أَو فعشرة أَو ثمَّ عشرَة فَالْخِيَار فِي تعْيين الْعشْرَة إِلَى من آمنهم لِأَن الْمُتَكَلّم عطف أمانهم على أَمَان نَفسه من غير أَن شَرط لنَفسِهِ فِي أمانهم شَيْئا وَقد تستعار الْكَلِمَة بِمَعْنى الْبَاء الَّذِي يصحب الأعواض لما بَين الْعِوَض والمعوض من اللُّزُوم والاتصال فِي الْوُجُوب حَتَّى إِذا قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا الشَّيْء على ألف دِرْهَم أَو آجرتك شهرا على دِرْهَم يكون بِمَعْنى الْبَاء لِأَن البيع وَالْإِجَارَة لَا تحْتَمل التَّعْلِيق بِالشّرطِ فَيحمل على هَذَا الْمُسْتَعَار لتصحيح الْكَلَام وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله إِذا قَالَت الْمَرْأَة لزَوجهَا طَلقنِي ثَلَاثًا على ألف دِرْهَم فَطلقهَا وَاحِدَة يجب ثلث الْألف بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَت بِأَلف دِرْهَم لِأَن الْخلْع عقد مُعَاوضَة وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول لَا يجب عَلَيْهَا شَيْء من الْألف وَيكون الْوَاقِع رَجْعِيًا لِأَن الطَّلَاق يحْتَمل التَّعْلِيق بِالشّرطِ وَإِن كَانَ مَعَ ذكر الْعِوَض وَلِهَذَا كَانَ بِمَنْزِلَة الْيَمين من الزَّوْج حَتَّى لَا يملك الرُّجُوع عَنهُ قبل قبُولهَا وَحَقِيقَة الْكَلِمَة للشّرط فَإِذا كَانَت مَذْكُورَة فِيمَا يحْتَمل معنى الشَّرْط يحمل عَلَيْهِ دون الْمجَاز وعَلى اعْتِبَار الشَّرْط لَا يلْزمهَا شَيْء من المَال لِأَنَّهَا شرطت إِيقَاع الثَّلَاث ليتم رِضَاهَا بِالْتِزَام المَال وَالشّرط يُقَابل الْمَشْرُوط جملَة وَلَا يُقَابله أَجزَاء وَقد يكون على بِمَعْنى من قَالَ تَعَالَى {إِذا اكتالوا على النَّاس يستوفون} أَي من النَّاس فصل وَكلمَة من للتَّبْعِيض بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَقد تكون لابتداء الْغَايَة يَقُول الرجل خرجت من الْكُوفَة وَقد تكون للتمييز يُقَال بَاب من حَدِيد وثوب من قطن وَقد تكون بِمَعْنى الْبَاء قَالَ تَعَالَى {يَحْفَظُونَهُ من أَمر الله} أَي بِأَمْر الله وَقد تكون صلَة قَالَ تَعَالَى {يغْفر لكم من ذنوبكم} وَقَالَ تَعَالَى {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وَفِي حمله على الصِّلَة يعْتَبر تعذر حمله على معنى وضع لَهُ بِاعْتِبَار الْحَقِيقَة أَو يستعار لَهُ مجَازًا وَتعْتَبر الْحَاجة إِلَى إتْمَام الْكَلَام بِهِ لِئَلَّا يخرج من أَن يكون مُفِيدا وعَلى هَذَا قَالَ فِي الْجَامِع إِن كَانَ مَا فِي يَدي من الدَّرَاهِم إِلَّا ثَلَاثَة فَإِذا فِي يَده أَرْبَعَة فَهُوَ حانث لِأَن الدِّرْهَم الرَّابِع بعض الدَّرَاهِم وَكلمَة من للتَّبْعِيض وَلَو قَالَت الْمَرْأَة لزَوجهَا اخلعني على مَا فِي يَدي من الدَّرَاهِم فَإِذا فِي يَدهَا دِرْهَم أَو دِرْهَمَانِ تلزمها ثَلَاثَة دَرَاهِم لِأَن من هُنَا صلَة لتصحيح الْكَلَام فَإِن الْكَلَام لَا يَصح إِلَّا بهَا حَتَّى إِذا قَالَت اخلعني على مَا فِي يَدي دَرَاهِم كَانَ الْكَلَام مختلا وَفِي الأول لَو قَالَ إِن كَانَ فِي يَدي دَرَاهِم كَانَ الْكَلَام صَحِيحا فَعمل الْكَلِمَة فِي التَّبْعِيض لَا فِي تَصْحِيح الْكَلَام وَقد بَينا الْمسَائِل على هَذِه الْكَلِمَة فِيمَا سبق فصل وَأما فِي فَهِيَ للظرف بِاعْتِبَار أصل الْوَضع يُقَال دَرَاهِم فِي صرة وعَلى اعْتِبَار هَذِه الْحَقِيقَة قُلْنَا إِذا قَالَ لغيره غصبتك ثوبا فِي منديل أَو تَمرا فِي قوصرة يلْزمه رد كليهمَا لِأَنَّهُ أقرّ (بِغَصب مظروف فِي ظرف فَلَا يتَحَقَّق ذَلِك إِلَّا) بغصبه لَهما ثمَّ الظّرْف أَنْوَاع ثَلَاثَة ظرف الزَّمَان وظرف الْمَكَان وظرف الْفِعْل فَأَما ظرف الزَّمَان فبيانه فِيمَا إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق فِي غَد فَإِنَّهَا تطلق غَدا بِاعْتِبَار أَنه جعل الْغَد ظرفا وصلاحية الزَّمَان ظرفا للطَّلَاق من حَيْثُ إِنَّه يَقع فِيهِ فَتَصِير مَوْصُوفَة فِي ذَلِك الزَّمَان بِأَنَّهَا طَالِق فَعِنْدَ الْإِطْلَاق كَمَا طلع الْفجْر تطلق فتتصف بِالطَّلَاق فِي جَمِيع الْغَد بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ أَنْت طَالِق غَدا وَإِن قَالَ نَوَيْت آخر النَّهَار لم يصدق عِنْدهمَا فِي الْقَضَاء كَمَا فِي قَوْله غَدا لِأَنَّهُ نوى التَّخْصِيص فِيمَا يكون مُوجبه الْعُمُوم وَعند أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ يدين فِي الْقَضَاء لِأَن ذكر حرف الظّرْف دَلِيل على أَن المُرَاد جُزْء من الْغَد فالوقوع إِنَّمَا يكون فِي جُزْء وَلَكِن ذَلِك الْجُزْء مُبْهَم فِي كَلَامه فَعِنْدَ عدم النِّيَّة قُلْنَا كَمَا وجد جُزْء من الْغَد تطلق فَإِذا نوى آخر النَّهَار كَانَ هَذَا بَيَانا للمبهم وَهُوَ مُصدق فِي بَيَان مُبْهَم كَلَامه فِي الْقَضَاء بِخِلَاف قَوْله غَدا فاللفظ هُنَاكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 متناول لجَمِيع الْغَد فنية آخر النَّهَار تكون تَخْصِيصًا وعَلى هَذَا لَو قَالَ إِن صمت الشَّهْر فَهُوَ على صَوْم جَمِيع الشَّهْر وَلَو قَالَ إِن صمت فِي الشَّهْر فَهُوَ على صَوْم سَاعَة بِاعْتِبَار الْمَعْنى الَّذِي قُلْنَا وَأما ظرف الْمَكَان فبيانه فِي قَوْله أَنْت طَالِق فِي الدَّار أَو فِي الْكُوفَة فَإِنَّهُ يَقع الطَّلَاق عَلَيْهَا حَيْثُمَا تكون لِأَن الْمَكَان لَا يصلح ظرفا (للطَّلَاق) فَإِن الطَّلَاق إِذا وَقع فِي مَكَان فَهُوَ وَاقع فِي الْأَمْكِنَة كلهَا وَهِي إِذا اتصفت بِالطَّلَاق فِي مَكَان تتصف بِهِ فِي الْأَمْكِنَة كلهَا إِلَّا أَن يَقُول عنيت إِذا دخلت فَحِينَئِذٍ لَا يَقع الطَّلَاق مَا لم تدخل بِاعْتِبَار أَنه كنى بِالْمَكَانِ عَن الْفِعْل الْمَوْجُود فِيهِ أَو أضمر الْفِعْل فِي كَلَامه فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْت طَالِق فِي دخولك الدَّار وَهَذَا هُوَ ظرف الْفِعْل على معنى أَن الْفِعْل لَا يصلح ظرفا للطَّلَاق حَقِيقَة وَلَكِن بَين الظّرْف وَالشّرط مُنَاسبَة من حَيْثُ الْمُقَارنَة أَو من حَيْثُ تعلق الْجَزَاء بِالشّرطِ بِمَنْزِلَة قوام المظروف بالظرف فَتَصِير الْكَلِمَة بِمَعْنى الشَّرْط مجَازًا ثمَّ إِن كَانَ الْفِعْل سَابِقًا أَو مَوْجُودا فِي الْحَال يكون تنجيزا وَإِن كَانَ منتظرا يتَعَلَّق الْوُقُوع بِوُجُودِهِ كَمَا هُوَ حكم الشَّرْط وعَلى هَذَا لَو قَالَ أَنْت طَالِق فِي حيضتك وَهِي حَائِض تطلق فِي الْحَال وَإِن قَالَ أَنْت طَالِق فِي مَجِيء حيضتك فَإِنَّهَا لَا تطلق حَتَّى تحيض وَقَالَ فِي الْجَامِع إِذا قَالَ أَنْت طَالِق فِي مَجِيء يَوْم لم تطلق حَتَّى يطلع الْفجْر من الْغَد وَلَو قَالَ فِي مُضِيّ يَوْم فَإِن قَالَ ذَلِك بِاللَّيْلِ فَهِيَ طَالِق كَمَا غربت الشَّمْس من الْغَد وَإِن قَالَ ذَلِك بِالنَّهَارِ لم تطلق حَتَّى يَجِيء مثل هَذِه السَّاعَة من الْغَد وعَلى هَذَا قَالَ فِي السّير الْكَبِير إِذا قَالَ رَأس الْحصن آمنوني فِي عشرَة فَهُوَ أحد الْعشْرَة لِأَن معنى الظّرْف فِي الْعدَد بِهَذَا يتَحَقَّق وَالْخيَار فِي التِّسْعَة إِلَى الَّذِي آمنهم لَا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا شَرط لنَفسِهِ شَيْئا فِي أَمَان من ضمهم إِلَى نَفسه ليكونوا عشرَة وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ عشرَة دَرَاهِم فِي عشرَة تلْزمهُ عشرَة لِأَن الْعدَد لَا يصلح ظرفا لمثله بِلَا شُبْهَة إِلَّا أَن يَعْنِي حرف مَعَ فَإِن فِي يَأْتِي بِمَعْنى مَعَ قَالَ تَعَالَى {فادخلي فِي عبَادي} أَي مَعَ عبَادي فَإِذا قَالَ ذَلِك فَحِينَئِذٍ وكما أَن فِي يكون بِمَعْنى مَعَ يكون بِمَعْنى من قَالَ تَعَالَى {وارزقوهم فِيهَا} يلْزمه عشرُون وَلَكِن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 بِدُونِ هَذِه النِّيَّة لَا يلْزمه لِأَن المَال بِالشَّكِّ لَا يجب أَي مِنْهَا وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق وَاحِدَة فِي وَاحِدَة فَهِيَ طَالِق وَاحِدَة إِلَّا أَن يَقُول نَوَيْت مَعَ فَحِينَئِذٍ تطلق اثْنَتَيْنِ دخل بهَا أم لم يدْخل بهَا وَإِن قَالَ عنيت الْوَاو فَذَلِك صَحِيح أَيْضا على مَا هُوَ مَذْهَب أهل النَّحْو أَن أَكثر حُرُوف الصلات يُقَام بَعْضهَا مقَام بعض فَعِنْدَ هَذِه النِّيَّة تطلق اثْنَتَيْنِ إِن كَانَ دخل بهَا وَوَاحِدَة إِن لم يدْخل بهَا بِمَنْزِلَة قَوْله وَاحِدَة وَوَاحِدَة وَقَالَ فِي الزِّيَادَات إِذا قَالَ أَنْت طَالِق فِي مَشِيئَة الله أَو فِي إِرَادَته لم تطلق بِمَنْزِلَة قَوْله إِن شَاءَ الله كَمَا جعل قَوْله فِي دخولك الدَّار بِمَنْزِلَة قَوْله إِن دخلت الدَّار إِلَّا فِي قَوْله فِي علم الله فَإِنَّهَا تطلق لِأَن الْعلم يسْتَعْمل عَادَة بِمَعْنى الْمَعْلُوم يُقَال علم أبي حنيفَة وَيَقُول الرجل اللَّهُمَّ اغْفِر لنا علمك فِينَا أَي معلومك وعَلى هَذَا الْمَعْنى يَسْتَحِيل جعله بِمَعْنى الشَّرْط فَإِن قيل لَو قَالَ فِي قدرَة الله لم تطلق وَقد تسْتَعْمل الْقُدْرَة بِمَعْنى الْمَقْدُور فقد يَقُول من يستعظم شَيْئا هَذِه قدرَة الله تَعَالَى قُلْنَا معنى هَذَا الِاسْتِعْمَال أَنه أثر قدرَة الله تَعَالَى إِلَّا أَنه قد يُقَام الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَام الْمُضَاف وَمثله لَا يتَحَقَّق فِي الْعلم وَمن هَذَا الْجِنْس أَسمَاء الظروف وَهِي مَعَ وَقبل وَبعد وَعند فَأَما مَعَ فَهِيَ للمقارنة حَقِيقَة وَإِن كَانَ قد تسْتَعْمل بِمَعْنى بعد قَالَ تَعَالَى {إِن مَعَ الْعسر يسرا} وعَلى اعْتِبَار حَقِيقَة الْوَضع قُلْنَا إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق وَاحِدَة مَعَ وَاحِدَة تطلق اثْنَتَيْنِ سَوَاء دخل بهَا أَو لم يدْخل بهَا وَكَذَلِكَ لَو قَالَ مَعهَا وَاحِدَة لِأَنَّهُمَا تقترنان فِي الْوُقُوع فِي الْوَجْهَيْنِ وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ مَعَ كل دِرْهَم من هَذِه الدَّرَاهِم الْعشْرَة دِرْهَم فَعَلَيهِ عشرُون درهما وَأما قبل فَهِيَ للتقديم قَالَ تَعَالَى {من قبل أَن نطمس وُجُوهًا} وَلِهَذَا لَو قَالَ لامْرَأَته وَقت الضحوة أَنْت طَالِق قبل غرُوب الشَّمْس تطلق للْحَال بِخِلَاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 الْملك الَّذِي كَانَ للمورث فَإِن الوارثة خلَافَة وَقد بَينا أَن عِنْده اسْتِصْحَاب الْحَال فِيمَا يرجع إِلَى الْإِبْقَاء حجَّة على الْغَيْر وَلَكنَّا نقُول هَذَا الْبَقَاء حق الْمُورث فَأَما فِي حق الْوَارِث فصفة الْمَالِكِيَّة تثبت لَهُ ابْتِدَاء واستصحاب الْحَال لَا يكون حجَّة فِيهِ بِوَجْه وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله إِذا ادّعى عينا فِي يَد إِنْسَان أَنه لَهُ مِيرَاث من أَبِيه وَأقَام الشَّاهِدين فشهدا أَن هَذَا كَانَ لِأَبِيهِ لم تقبل هَذِه الشَّهَادَة وَفِي قَول أبي يُوسُف الآخر تقبل لِأَن الوارثة خلَافَة فَإِنَّمَا يبْقى للْوَارِث الْملك الَّذِي كَانَ للمورث وَلِهَذَا يرد بِالْعَيْبِ وَيصير مغرورا فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُورث وَمَا ثَبت فَهُوَ بَاقٍ لاستغناء الْبَقَاء عَن دَلِيل وهما يَقُولَانِ فِي حق الْوَارِث هَذَا فِي معنى ابْتِدَاء التَّمَلُّك لِأَن صفة الْمَالِكِيَّة تثبت لَهُ فِي هَذَا المَال بعد أَن لم يكن مَالِكًا وَإِنَّمَا يكون الْبَقَاء فِي حق الْمُورث أَن لَو حضر بِنَفسِهِ يدعى أَن الْعين ملكه فَلَا جرم إِذا شهد الشَّاهِدَانِ أَنه كَانَ لَهُ كَانَت شَهَادَة مَقْبُولَة كَمَا إِذا شَهدا أَنه لَهُ فَأَما إِذا كَانَ الْمُدعى هُوَ الْوَارِث وَصفَة الْمَالِكِيَّة للْوَارِث تثبت ابْتِدَاء بعد موت الْمُورث فَهَذِهِ الشَّهَادَة لَا تكون حجَّة للْقَضَاء بِالْملكِ لَهُ لِأَن طَرِيق الْقَضَاء بهَا اسْتِصْحَاب الْحَال وَذَلِكَ غير صَحِيح فصل وَمن هَذِه الْجُمْلَة الإستدلال بتعارض الْأَشْبَاه وَذَلِكَ نَحْو احتجاج زفر رَحمَه الله فِي أَنه لَا يجب غسل الْمرَافِق فِي الْوضُوء لِأَن من الغايات مَا يدْخل وَمِنْهَا مَا لَا يدْخل فَمَعَ الشَّك لَا تثبت فَرضِيَّة الْغسْل فِيمَا هُوَ غَايَة بِالنَّصِّ لِأَن هَذَا فِي الْحَقِيقَة احتجاج بِلَا دَلِيل لإِثْبَات حكم فَإِن الشَّك الَّذِي يَدعِيهِ أَمر حَادث فَلَا يثبت حُدُوثه إِلَّا بِدَلِيل فَإِن قَالَ دَلِيله تعَارض الْأَشْبَاه قُلْنَا وتعارض الْأَشْبَاه أَيْضا حَادث فَلَا يثبت إِلَّا بِالدَّلِيلِ فَإِن قَالَ الدَّلِيل عَلَيْهِ مَا أعده من الغايات مِمَّا يدْخل بِالْإِجْمَاع وَمَا لَا يدْخل بِالْإِجْمَاع قُلْنَا وَهل تعلم أَن هَذَا الْمُتَنَازع فِيهِ من أحد النَّوْعَيْنِ بِدَلِيل فَإِن قَالَ أعلم ذَلِك قُلْنَا فَإِذن عَلَيْك أَن لَا تشك فِيهِ بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 تلْحقهُ بِمَا هُوَ من نَوعه بدليله وَإِن قَالَ لَا أعلم ذَلِك قُلْنَا قد اعْترفت بِالْجَهْلِ فَإِن كَانَ هَذَا مِمَّا يُمكن الْوُقُوف عَلَيْهِ بِالطَّلَبِ فَإِنَّمَا جهلته عَن تَقْصِير مِنْك فِي طلبه وَذَلِكَ لَا يكون حجَّة أصلا وَإِن كَانَ مِمَّا لَا يُمكن الْوُقُوف عَلَيْهِ بعد الطّلب كنت مَعْذُورًا فِي الْوُقُوف فِيهِ وَلَكِن هَذَا الْعذر لَا يصير حجَّة لَك على غَيْرك مِمَّن يزْعم أَنه قد ظهر عِنْده دَلِيل إِلْحَاقه بِأحد النَّوْعَيْنِ فَعرفنَا أَن حَاصِل كَلَامه احتجاج بِلَا دَلِيل فصل وَمن هَذِه الْجُمْلَة الِاحْتِجَاج بالاطراد على صِحَة الْعلَّة إِمَّا وجودا أَو وجودا وعدما فَإِنَّهُ احتجاج بِلَا دَلِيل فِي الْحَقِيقَة وَمن حَيْثُ الظَّاهِر هُوَ احتجاج بِكَثْرَة أَدَاء الشَّهَادَة وَقد بَينا أَن كَثْرَة أَدَاء الشَّهَادَة وتكرارها من الشَّاهِد لَا يكون دَلِيل صِحَة شَهَادَته ثمَّ الاطراد عبارَة عَن سَلامَة الْوَصْف عَن النقوض والعوارض والناظر وَإِن بَالغ فِي الإجتهاد بِالْعرضِ على الْأُصُول الْمَعْلُومَة عِنْده فالخصم لَا يعجز من أَن يَقُول عِنْدِي أصل آخر هُوَ مُنَاقض لهَذَا الْوَصْف أَو معَارض فجهلك بِهِ لَا يكون حجَّة لَك على فَتبين من هَذَا الْوَجْه أَنه احتجاج بِلَا دَلِيل وَلكنه فَوق من تقدم فِي الإحتجاج بِهِ من حَيْثُ الظَّاهِر لِأَن من حَيْثُ الظَّاهِر الْوَصْف صَالح وَيحْتَمل أَن يكون حجَّة للْحكم إِذا ظهر أَثَره عِنْد التَّأَمُّل وَلَكِن لكَونه فِي الْحَقِيقَة اسْتِدْلَالا على صِحَّته بِعَدَمِ النقوض والعوارض لم يصلح أَن يكون حجَّة لإِثْبَات الحكم فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن النُّصُوص بعد ثُبُوتهَا يجب الْعَمَل بهَا وَاحْتِمَال وُرُود النَّاسِخ لَا يُمكن شُبْهَة فِي الإحتجاج بهَا قبل أَن يظْهر النَّاسِخ فَكَذَلِك مَا تقدم قُلْنَا أما بعد وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا احْتِمَال للنسخ فِي كل نَص كَانَ حكمه ثَابتا عِنْد وَفَاته فَأَما فِي حَال حَيَاته فَهَكَذَا نقُول إِن الِاحْتِجَاج لَا يكون صَحِيحا لِأَن احْتِمَال بَقَاء الحكم وَاحْتِمَال قيام دَلِيل النّسخ فِيهِ كَانَ بِصفة وَاحِدَة وَقد قَررنَا هَذَا فِي بَاب النّسخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 مَبِيعًا وَالْمَبِيع الدّين لَا يكون إِلَّا سلما وعَلى هَذَا لَو قَالَ لعَبْدِهِ إِن أَخْبَرتنِي بقدوم فلَان فَأَنت حر فَهَذَا على الْخَبَر الْحق الَّذِي يكون بعد الْقدوم لِأَن مفعول الْخَبَر مَحْذُوف هُنَا وَقد دلّ عَلَيْهِ حرف الْبَاء الَّذِي هُوَ للإلصاق كَقَوْل الْقَائِل بِسم الله أَي بدأت بِسم الله فَيكون معنى كَلَامه إِن أَخْبَرتنِي خَبرا مُلْصقًا بقدوم فلَان والقدوم اسْم لفعل مَوْجُود فَلَا يتَنَاوَل الْخَبَر بِالْبَاطِلِ وَلَو قَالَ إِن أَخْبَرتنِي أَن فلَانا قد قدم فَهَذَا على الْخَبَر حَقًا كَانَ أَو بَاطِلا لِأَنَّهُ لما لم يذكر حرف الْبَاء فالمذكور صَالح لِأَن يكون مفعول الْخَبَر وَأَن وَمَا بعده مصدر وَالْخَبَر إِنَّمَا يكون بِكَلَام لَا يفعل فَكَأَنَّهُ قَالَ إِن أَخْبَرتنِي بِخَبَر قدوم فلَان وَالْخَبَر اسْم لكَلَام يدل على الْقدوم وَلَا يُوجد عِنْده الْقدوم لَا محَالة وعَلى هَذَا قَالَ فِي الزِّيَادَات إِذا قَالَ أَنْت طَالِق بِمَشِيئَة الله أَو بإرادته أَو بِحكمِهِ لم تطلق وَكَذَلِكَ سَائِر أخواتها لِأَن الْبَاء للإلصاق فَيكون دَلِيلا على معنى الشَّرْط مفضيا إِلَيْهِ وعَلى هَذَا قَالَ فِي الْجَامِع إِذا قَالَ لامْرَأَته إِن خرجت من هَذِه الدَّار إِلَّا بإذني تحْتَاج إِلَى الْإِذْن فِي كل مرّة لِأَن الْبَاء للإلصاق فَإِنَّمَا جعل الْمُسْتَثْنى خُرُوجًا مُلْصقًا بِالْإِذْنِ وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بتجديد الْإِذْن فِي كل مرّة قَالَ تَعَالَى {وَمَا نَتَنَزَّل إِلَّا بِأَمْر رَبك} أَي مأمورين بذلك وَلَو قَالَ إِن خرجت إِلَّا أَن آذن لَك فَهَذَا على الْإِذْن مرّة (وَاحِدَة) لِأَنَّهُ يتَعَذَّر الْحمل هَهُنَا على الِاسْتِثْنَاء لمُخَالفَة الْجِنْس فِي صِيغَة الْكَلَام فَيحمل على معنى الْغَايَة مجَازًا لما بَينهمَا من الْمُنَاسبَة وَعَلِيهِ دلّ قَوْله تَعَالَى {إِلَّا أَن يحاط بكم} {إِلَّا أَن تقطع قُلُوبهم} أَي حَتَّى ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي فِي قَوْله تَعَالَى {وامسحوا برؤوسكم} إِن الْبَاء للتَّبْعِيض فَإِنَّمَا يلْزمه مسح بعض الرَّأْس وَذَلِكَ أدنى مَا يتَنَاوَلهُ الِاسْم وَقَالَ مَالك الْبَاء صلَة للتَّأْكِيد بِمَنْزِلَة قَوْله تَعَالَى {تنْبت بالدهن} كَأَنَّهُ قَالَ وامسحوا رؤوسكم فَيلْزمهُ مسح جَمِيع الرَّأْس وَقُلْنَا أما التَّبْعِيض فَلَا وَجه لَهُ لِأَن الْمَوْضُوع للتَّبْعِيض حرف من والتكرار والاشتراك لَا يثبت بِأَصْل الْوَضع وَلَا وَجه لحمله على الصِّلَة لما فِيهِ من معنى الإلغاء أَو الْحمل على غير فَائِدَة مَقْصُودَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وَهِي التوكيد وَلَكنَّا نقُول الْبَاء للإلصاق بِاعْتِبَار أصل الْوَضع فَإِذا قرنت بِآلَة الْمسْح يتَعَدَّى الْفِعْل بهَا إِلَى مَحل الْمسْح فَيتَنَاوَل جَمِيعه كَمَا يَقُول الرجل مسحت الْحَائِط بيَدي ومسحت رَأس الْيَتِيم بيَدي فَيتَنَاوَل كُله وَإِذا قرنت بِمحل الْمسْح يتَعَدَّى الْفِعْل بهَا إِلَى الْآلَة فَلَا تَقْتَضِي الِاسْتِيعَاب وَإِنَّمَا تَقْتَضِي إلصاق الْآلَة بِالْمحل وَذَلِكَ لَا يستوعب الْكل عَادَة ثمَّ أَكثر الْآلَة ينزل منزلَة الْكَمَال فيتأدى الْمسْح بإلصاق ثَلَاثَة أَصَابِع بِمحل الْمسْح وَمعنى التَّبْعِيض إِنَّمَا يثبت بِهَذَا الطَّرِيق لَا بِحرف الْبَاء فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن فِي التَّيَمُّم حكم الْمسْح ثَبت بقوله تَعَالَى {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} ثمَّ الِاسْتِيعَاب فِيهِ شَرط قُلْنَا أما على رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط فِيهِ الِاسْتِيعَاب لهَذَا الْمَعْنى وَأما على ظَاهر الرِّوَايَة فَإِنَّمَا عرفنَا الِاسْتِيعَاب هُنَاكَ إِمَّا بِإِشَارَة الْكتاب وَهُوَ أَن الله تَعَالَى أَقَامَ التَّيَمُّم فِي هذَيْن العضوين مقَام الْغسْل عِنْد تعذر الْغسْل والاستيعاب فِي الْغسْل فرض بِالنَّصِّ فَكَذَلِك فِيمَا قَامَ مقَامه أَو عرفنَا ذَلِك بِالسنةِ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لعمَّار رَضِي الله عَنهُ يَكْفِيك ضربتان ضَرْبَة للْوَجْه وضربة للذراعين وَمن هَذَا الْفَصْل حُرُوف الْقسم وَالْأَصْل فِيهَا بِاعْتِبَار الْوَضع الْبَاء حَتَّى يَسْتَقِيم اسْتِعْمَالهَا مَعَ إِظْهَار الْفِعْل وَمَعَ إضماره فَإِن الْبَاء للإلصاق وَهِي تدل على مَحْذُوف كَمَا بَينا وَقَول الرجل بِاللَّه بِمَعْنى أقسم (أَو أَحْلف) بِاللَّه كَمَا قَالَ تَعَالَى {يحلفُونَ بِاللَّه مَا قَالُوا} وَكَذَلِكَ يَسْتَقِيم وَصلهَا بِسَائِر الْأَسْمَاء وَالصِّفَات وَبِغير الله إِذا حلف بِهِ مَعَ التَّصْرِيح بِالِاسْمِ أَو الْكِنَايَة عَنهُ بِأَن يَقُول بِأبي أَو بك لَأَفْعَلَنَّ أَو بِهِ لَأَفْعَلَنَّ فَيصح اسْتِعْمَاله فِي جَمِيع هَذِه الْوُجُوه لمقصود الْقسم بِاعْتِبَار أصل الْوَضع ثمَّ قد تستعار الْوَاو مَكَان الْبَاء فِي صلَة الْقسم لما بَينهمَا من الْمُنَاسبَة صُورَة وَمعنى أما الصُّورَة فَلِأَن خُرُوج كل وَاحِد مِنْهُمَا من الْمخْرج الصَّحِيح بِضَم الشفتين وَأما الْمَعْنى فَلِأَن فِي الْعَطف إلصاق الْمَعْطُوف بالمعطوف عَلَيْهِ وحرف الْبَاء للإلصاق إِلَّا أَن الْوَاو تسْتَعْمل فِي الْمُضمر (دون الْمظهر لَا يُقَال أَحْلف وَالله لِأَنَّهُ يشبه قسمَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 لِأَن قَوْله وَالله وَحده قسم ظَاهرا وَكَذَا أَحْلف أَو أقسم بِخِلَاف قَوْله أَحْلف بِاللَّه فالباء لصلة الْفِعْل دون الْمُضمر لِأَن هَذَا الإستعمال لتوسعة صلَة الْقسم لَا لِمَعْنى الإلصاق فَلَو اسْتعْمل فيهمَا كَانَ مستعارا عَاما وَلَا حَاجَة إِلَى ذَلِك وَإِنَّمَا الْحَاجة إِلَى الإستعارة لصلة الْقسم حَتَّى يشبه قسمَيْنِ وَلِهَذَا لَا يسْتَعْمل مَعَ الْكِنَايَة نَحْو الْكَاف وَالْهَاء وَمَعَ الأسم الصَّرِيح يسْتَعْمل فِي جَمِيع الْأَسْمَاء وَالصِّفَات نَحْو قَوْله والرحمن والرب ثمَّ التَّاء تسْتَعْمل أَيْضا فِي صلَة الْقسم قَالَ تَعَالَى {وتالله لأكيدن أصنامكم} وَهَذَا لما بَين حرف التَّاء وَالْوَاو من الْمُنَاسبَة فَإِنَّهُمَا من حُرُوف الزَّوَائِد فِي كَلَام الْعَرَب يُقَام أَحدهمَا مقَام الآخر فِي التراث مَعَ الوراث والتورية والوورية وَمَا أشبه ذَلِك وَلما كَانَ الْمَقْصُود بِهَذَا الإستعمال توسعة صلَة الْقسم لشدَّة الْحَاجة إِلَى ذَلِك خَاصَّة كَانَ التَّاء أخص من الْوَاو لمَكَان أَن الْوَاو مستعار لَيْسَ بِأَصْل فِي صلَة الْقسم وَلِهَذَا يخْتَص باسم الله حَتَّى لَا يَسْتَقِيم أَن يَقُول تالرحمن كَمَا يَسْتَقِيم والرحمن وَمَعَ حذف هَذِه الصلات يَسْتَقِيم الْقسم أَيْضا لاعْتِبَار معنى التَّخْفِيف والتوسعه حَتَّى إِذا قَالَ الله يكون يَمِينا وَلَكِن الْمَذْهَب عِنْد نحويى الْبَصْرَة الذّكر بِالنّصب وَعند نحويى الْكُوفَة بالخفض وَهُوَ الْأَظْهر عِنْد الْفُقَهَاء وَمِمَّا هُوَ مَوْضُوع بِمَعْنى الْقسم قَوْله وأيم الله إِلَّا أَن الْمَذْهَب عِنْد نحويى الْكُوفَة أَن مَعْنَاهُ أَيمن وَهُوَ جمع يَمِين وَمِنْه قَول الْقَائِل: ... فَقَالَت يَمِين الله مَالك حِيلَة ... وَمَا إِن أرى عَنْك الغواية تنجلى ... وَعند نحويى الْبَصْرَة هَذِه كلمة مَوْضُوعَة فِي صلات الْقسم لَا اشتقاق لَهَا نَحْو صه ومه والهمزة فِيهَا للوصل أَلا ترى أَنَّهَا تسْقط إِذا نقدمها حرف بِمَنْزِلَة سَائِر حُرُوف الْوَصْل وَلَو كَانَت لبِنَاء صِيغَة الْجمع لم تسْقط إِذا تقدمها حرف وَمِمَّا يُؤدى إِلَى معنى الْقسم قَوْله لعمر الله قَالَ تَعَالَى {لعمرك} وَاللَّام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 للإبتداء وَعمر بِمَعْنى الْبَقَاء فَيكون الْمَعْنى لبَقَاء الله والبقاء من صِفَات الله تَعَالَى فَيكون هُوَ بِهَذَا اللَّفْظ مُصَرحًا بِمَا هُوَ مَقْصُود الْقسم فَيجْعَل قسما بِمَنْزِلَة قَوْله وَالله الباقى أَلا ترى أَنه لَو قَالَ لغيره جعلت لَك هذت العَبْد ملكا بِأَلف دِرْهَم كَانَ بيما لتصريحه بِمَا هُوَ مَقْصُود البيع وَيجْعَل ذَلِك بِمَنْزِلَة التَّصْرِيح بِلَفْظ البيع وَمن ذَلِك حُرُوف الشَّرْط وهى إِن وَإِذا وَإِذا مَا وَمَتى وَمَتى مَا وَكلما وَمن وَمَا وَبِاعْتِبَار أصل الْوَضع حرف الشَّرْط على الخلوص إِن فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا معنى الْوَقْت وَإِنَّمَا يتعقبها الْفِعْل دون الأسم وهى عَلامَة الشَّرْط فَالشَّرْط فعل منتظر فِي الْمُسْتَقْبل هُوَ على خطر الْوُجُود يقْصد نَفْيه أَو إثْبَاته أَلا ترى أَنه يَسْتَقِيم أَن يَقُول إِن زرتنى أكرمتك وَإِن أعطيتنى كافيتك وَلَا يَسْتَقِيم أَن يَقُول إِن جَاءَ غَدا أكرمتك لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مجىء الْغَد معنى الْخطر وَلَا يتعقب الْكَلِمَة اسْم لِأَن معنى الْخطر فِي الْأَسْمَاء لَا يتَحَقَّق فَإِن قيل لَا كَذَلِك فقد قَالَ الله تَعَالَى {إِن امْرُؤ هلك لَيْسَ لَهُ ولد} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن امْرَأَة خَافت من بَعْلهَا نُشُوزًا} قُلْنَا ذَلِك على معنى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير أى إِن هلك امْرُؤ وَإِن خَافت امْرَأَة فَإِن أهل اللُّغَة مجمعون على أَن الذى يتعقب حرف الشَّرْط الْفِعْل دون الأسم وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لامْرَأَته إِن لم أطلقك فَأَنت طَالِق إِنَّهَا لَا تطلق حَتَّى يَمُوت الزَّوْج لِأَنَّهُ جعل الشَّرْط انعدام فعل التَّطْلِيق مِنْهُ وَذَلِكَ لَا يتَيَقَّن بِهِ مَا دَامَ حَيا وَإِن مَاتَت الْمَرْأَة فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ تطلق أَيْضا قبل أَن تَمُوت بِلَا فصل لِأَن فعل التَّطْلِيق لَا يتَحَقَّق بِدُونِ الْمحل وبفوات الْمحل يتَحَقَّق الشَّرْط وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى لَا تطلق لِأَنَّهَا مَا لم تمت بِفعل التَّطْلِيق يتَحَقَّق من الزَّوْج وَبعد مَوتهَا لَا يَقع الطَّلَاق عَلَيْهَا بِخِلَاف الزَّوْج فَإِنَّهُ كَمَا أشرف على الْهَلَاك فقد وَقع الْيَأْس عَن فعل التَّطْلِيق مِنْهُ ثمَّ حكم الشَّرْط امْتنَاع ثُبُوت الحكم بِالْعِلَّةِ أصلا مالم يبطل التَّعْلِيق بِوُجُود الشَّرْط وأمثله هَذَا فِي مسَائِل الْفِقْه كَثِيرَة وَأما إِذا فعلى قَول نحويى الْكُوفَة تسْتَعْمل هى للْوَقْت تَارَة وللشرط تَارَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 فيجازي بهَا مرّة إِذا أُرِيد بهَا الشَّرْط وَلَا يجازي بهَا مرّة إِذا أُرِيد بهَا الْوَقْت وَإِذا اسْتعْملت للشّرط لم يكن فِيهَا معنى الْوَقْت وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وعَلى قَول نَحْويي الْبَصْرَة هِيَ للْوَقْت بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَإِن اسْتعْملت للشّرط فَهِيَ لَا تَخْلُو عَن معنى الْوَقْت بِمَنْزِلَة مَتى فَإِنَّهَا للْوَقْت وَإِن كَانَ قد يجازي بهَا فَإِن المجازاة بهَا لَازِمَة فِي غير مَوضِع الِاسْتِفْهَام والمجازاة بإذا جَائِزَة غير لَازِمَة وَهَذَا قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله وَبَيَان الْمَسْأَلَة مَا إِذا قَالَ إِذا لم أطلقك فَأَنت طَالِق أَو إِذا مَا لم أطلقك فَإِن عَنى بهَا الْوَقْت تطلق فِي الْحَال وَإِن عَنى الشَّرْط لم تطلق حَتَّى تَمُوت وَإِن لم تكن لَهُ نِيَّة فعلى قَول أبي حنيفَة لَا تطلق حَتَّى يَمُوت وعَلى قَوْلهمَا تطلق فِي الْحَال قَالَا إِن إِذا تسْتَعْمل للْوَقْت غَالِبا وتقرن بِمَا لَيْسَ فِيهِ معنى الْخطر فَإِنَّهُ يُقَال الرطب إِذا اشْتَدَّ الْحر وَالْبرد إِذا جَاءَ الشتَاء وَلَا يَسْتَقِيم مَكَانهَا إِن قَالَ تَعَالَى {إِذا الشَّمْس كورت} و {إِذا السَّمَاء انفطرت} وَذَلِكَ كَائِن لَا محَالة فَعرفنَا أَنه لَا يَنْفَكّ عَن معنى الْوَقْت اسْتِعْمَالا وتستعمل فِي جَوَاب الشَّرْط قَالَ تَعَالَى {وَإِن تصبهم سَيِّئَة بِمَا قدمت أَيْديهم إِذا هم يقنطون} وَمَا يسْتَعْمل فِي المجازاة لَا يكون مَحْض الشَّرْط فَعرفنَا أَنَّهَا بِمَعْنى مَتى فَإِنَّهَا لَا تنفك عَن معنى الْوَقْت وَإِن كَانَ المجازاة بهَا ألزم من المجازاة بإذا وَإِذا ثَبت هَذَا قُلْنَا قد أضَاف الطَّلَاق إِلَى وَقت فِي الْمُسْتَقْبل هُوَ خَال عَن إِيقَاع الطَّلَاق فِيهِ عَلَيْهَا وكما سكت فقد وجد ذَلِك الْوَقْت فَتطلق أَلا ترى أَنه لَو قَالَ لامْرَأَته إِذا شِئْت فَأَنت طَالِق لم تتوقت الْمَشِيئَة بِالْمَجْلِسِ بِمَنْزِلَة قَوْله مَتى شِئْت بِخِلَاف قَوْله إِن شِئْت وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله اعْتمد مَا قَالَ أهل الْكُوفَة إِن إِذا قد تسْتَعْمل بمحض الشَّرْط وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ الْفراء بقول الْقَائِل استغن مَا أَغْنَاك رَبك بالغنى وَإِذا تصبك خصَاصَة فَتحمل مَعْنَاهُ إِن تصبك خصَاصَة فَإِن حمل على معنى الشَّرْط لم يَقع الطَّلَاق حَتَّى يَمُوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وَإِن حمل على معنى الْوَقْت وَقع الطَّلَاق فِي الْحَال وَالطَّلَاق بِالشَّكِّ لَا يَقع وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي قَوْله إِذا شِئْت إِنَّه لَا يتوقت بِالْمَجْلِسِ لِأَن الْمَشِيئَة صَارَت إِلَيْهَا بِيَقِين فَلَو جعلنَا الْكَلِمَة بِمَنْزِلَة إِن خرج الْأَمر من يَدهَا بِالْقيامِ وَلَو جعلناها بِمَنْزِلَة مَتى لم يخرج الْأَمر من يَدهَا بِالشَّكِّ وَأما مَتى فَهِيَ للْوَقْت بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَلَكِن لما كَانَ الْفِعْل يَليهَا دون الِاسْم جعلناها فِي معنى الشَّرْط وَلِهَذَا صَحَّ المجازاة بهَا غير أَنَّهَا لَا تنفك عَن معنى الْوَقْت بِحَال فَإِذا قَالَ لامْرَأَته مَتى لم أطلقك فَأَنت طَالِق أَو مَتى مَا لم أطلقك فَأَنت طَالِق طلقت كَمَا سكت لوُجُود وَقت بعد كَلَامه لم يطلقهَا فِيهِ وَلِهَذَا لم نذْكر فِي حُرُوف الشَّرْط كلمة كل لِأَن الِاسْم يَليهَا دون الْفِعْل فَإِنَّهَا تجمع الْأَسْمَاء ويستقيم أَن يُقَال كل رجل وَلَا يَسْتَقِيم أَن يُقَال كل دخل وفيهَا معنى الشَّرْط بِاعْتِبَار أَن الِاسْم الَّذِي يتعقبها يُوصف بِفعل لَا محَالة ليتم كل الْكَلَام وَذَلِكَ الْفِعْل يصير فِي معنى الشَّرْط حَتَّى لَا ينزل الْجَزَاء إِلَّا بِوُجُودِهِ بَيَانه فِيمَا إِذا قَالَ كل امْرَأَة أَتَزَوَّجهَا وكل عبد أشتريه وَذكرنَا فِي حُرُوف الشَّرْط كلمة كلما لِأَن الْفِعْل يتعقبها دون الِاسْم يُقَال كلما دخل وَكلما خرج وَلَا يُقَال كلما زيد وَقد قدمنَا الْكَلَام فِي بَيَان كلما وَمن وَمَا وَمِمَّا هُوَ فِي معنى الشَّرْط لَو على مَا يرْوى عَن أبي يُوسُف أَنه إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق لَو دخلت الدَّار لم تطلق مَا لم تدخل كَقَوْلِه إِن دخلت لِأَن لَو تفِيد معنى الترقب فِيمَا يقرن بِهِ مِمَّا يكون فِي الْمُسْتَقْبل فَكَانَ بِمَعْنى الشَّرْط من هَذَا الْوَجْه وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق لَو حسن خلقك عَسى أَن أراجعك تطلق فِي الْحَال لِأَن لَو هُنَا إِنَّمَا تقرن بالمراجعة الَّتِي تترقب فِي الْمُسْتَقْبل فتخلو كلمة الْإِيقَاع عَن معنى الشَّرْط وَأما لَوْلَا فَهِيَ بِمَعْنى الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهَا تسْتَعْمل لنفي شَيْء بِوُجُود غَيره قَالَ تَعَالَى {وَلَوْلَا رهطك لرجمناك} وعَلى هَذَا قَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله فِي قَوْله أَنْت طَالِق لَوْلَا دخولك الدَّار إِنَّهَا لَا تطلق وَتجْعَل هَذِه الْكَلِمَة بِمَعْنى الِاسْتِثْنَاء ذكره الْكَرْخِي رَحمَه الله فِي الْمُخْتَصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وبالأخرى إِلَى فروع أخر فَلَا يكون انعدام الْعلَّة مَعَ بَقَاء الحكم فِي مَوضِع ثَابتا بِالْعِلَّةِ الْأُخْرَى دَلِيل فَسَاد الْعلَّة فَأَما الْمُفَارقَة فَمن النَّاس من ظن أَنَّهَا مفاقهة ولعمري الْمُفَارقَة مفاقهة وَلَكِن فِي غير هَذَا الْموضع فَأَما على وَجه الِاعْتِرَاض على الْعِلَل المؤثرة تكون مجادلة لَا فَائِدَة فِيهَا فِي مَوضِع النزاع وَبَيَان هَذَا من وُجُوه ثَلَاثَة أَحدهَا أَن شَرط صِحَة الْقيَاس لتعدية الحكم إِلَى الْفُرُوع تَعْلِيل الأَصْل بِبَعْض أَوْصَافه لَا بِجَمِيعِ أَوْصَافه وَقد بَينا أَنه مَتى كَانَ التَّعْلِيل بِجَمِيعِ أَوْصَاف الأَصْل لَا يكون مقايسة فبيان الْمُفَارقَة بَين الأَصْل وَالْفرع بِذكر وصف آخر لَا يُوجد ذَلِك فِي الْفَرْع وَيرجع إِلَى بَيَان صِحَة المقايسة فَأَما أَن يكون ذَلِك اعتراضا على الْعلَّة فَلَا ثمَّ ذكر وصف آخر فِي الأَصْل يكون ابْتِدَاء دَعْوَى والسائل جَاهِل مسترشد فِي موقف الْمُنكر إِلَى أَن تتبين لَهُ الْحجَّة لَا فِي مَوضِع الدَّعْوَى وَإِن اشْتغل بِإِثْبَات دَعْوَاهُ فَذَلِك لَا يكون سعيا فِي إِثْبَات الحكم الْمَقْصُود وَإِنَّمَا يكون سعيا فِي إِثْبَات الحكم فِي الأَصْل وَهُوَ مفروغ عَنهُ وَلَا يتَّصل مَا يُثبتهُ بالفرع إِلَّا من حَيْثُ إِنَّه يَنْعَدِم ذَلِك الْمَعْنى فِي الْفَرْع وبالعدم لَا يثبت الِاتِّصَال وَقد بَينا أَن الْعَدَم لَا يصلح أَن يكون مُوجبا شَيْئا فَكَانَ هَذَا مِنْهُ اشتغالا بِمَا لَا فَائِدَة فِيهِ وَالثَّالِث مَا بَينا أَن الحكم فِي الأَصْل يجوز أَن يكون معلولا بعلتين ثمَّ يتَعَدَّى الحكم إِلَى بعض الْفُرُوع بِإِحْدَى العلتين دون الْأُخْرَى فَبَان انعدام فِي الْفَرْع الْوَصْف الَّذِي يروم بِهِ السَّائِل الْفرق وَإِن سلم لَهُ أَنه عِلّة لإِثْبَات الحكم فِي الأَصْل فَذَلِك لَا يمْنَع الْمُجيب من أَن يعدي حكم الأَصْل إِلَى الْفَرْع بِالْوَصْفِ الَّذِي يَدعِيهِ أَنه عِلّة للْحكم وَمَا لَا يكون قدحا فِي كَلَام الْمُجيب فاشتغال السَّائِل بِهِ يكون اشتغالا بِمَا لَا يُفِيد وَإِنَّمَا المفاقهة فِي الممانعة حَتَّى يبين الْمُجيب تَأْثِير علته فالفقه حِكْمَة باطنة وَمَا يكون مؤثرا فِي إِثْبَات الحكم شرعا فَهُوَ الْحِكْمَة الْبَاطِنَة والمطالبة بِهِ تكون مفاقهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 فَأَما الْإِعْرَاض عَنهُ والاشتغال بِالْفرقِ يكون قبولا لما فِيهِ احْتِمَال أَن لَا يكون حجَّة لإِثْبَات الحكم واشتغالا بِإِثْبَات الحكم بِمَا لَيْسَ بِحجَّة أصلا فِي مَوضِع النزاع وَهُوَ عدم الْعلَّة فَتبين أَن هَذَا لَيْسَ من المفاقهة فِي شَيْء وَالله أعلم فصل الممانعة قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الممانعة أصل الِاعْتِرَاض على الْعلَّة المؤثرة من حَيْثُ إِن الْخصم الْمُجيب يَدعِي أَن حكم الْحَادِثَة مَا أجَاب بِهِ فَإِذا لم يسلم لَهُ ذَلِك يذكر وَصفا يَدعِي أَنه عِلّة مُوجبَة للْحكم فِي الأَصْل الْمجمع عَلَيْهِ وَأَن هَذَا الْفَرْع نَظِير ذَلِك الأَصْل فيتعدى ذَلِك الحكم بِهَذَا الْوَصْف إِلَى الْفَرْع وَفِي هَذَا الحكم دعويان فَهُوَ أظهر فِي الدَّعْوَى من الأول أَي حكم الْحَادِثَة وَإِن كَانَت المناظرة لَا تتَحَقَّق إِلَّا بِمَنْع دَعْوَى السَّابِق عرفنَا أَنَّهَا لَا تتَحَقَّق إِلَّا بِمَنْع هَذِه الدَّعَاوَى أَيْضا فَيكون هُوَ مُحْتَاجا إِلَى إِثْبَات دعاويه بِالْحجَّةِ والسائل مُنكر فَلَيْسَ عَلَيْهِ سوى الْمُطَالبَة لإِقَامَة الْحجَّة بِمَنْزِلَة الْمُنكر فِي بَاب الدَّعَاوَى والخصومات وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَاحب الشَّرْع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ للْمُدَّعِي (أَلَك بَيِّنَة) وبالممانعة يتَبَيَّن الْعَوَارِض وَيظْهر الْمُدَّعِي من الْمُنكر والملزم من الدَّافِع بَعْدَمَا ثَبت شرعا أَن حجَّة أَحدهمَا غير حجَّة الآخر ثمَّ الممانعة على أَرْبَعَة أوجه ممانعة فِي نفس الْعلَّة وممانعة فِي الْوَصْف الَّذِي يذكر الْعِلَل أَنه عِلّة وممانعة فِي شَرط صِحَة الْعلَّة أَنه مَوْجُود فِي ذَلِك الْوَصْف وممانعة فِي الْمَعْنى الَّذِي بِهِ صَار ذَلِك الْوَصْف عِلّة للْحكم أما الممانعة فِي نفس الْعلَّة فَكَمَا بَينا أَن كثيرا من الْعِلَل إِذا تَأَمَّلت فِيهَا تكون احتجاجا بِلَا دَلِيل وَذَلِكَ لَا يكون حجَّة على الْخصم الْإِثْبَات // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب بَيَان الْأَحْكَام الثَّابِتَة بِظَاهِر النَّص دون الْقيَاس والرأي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ رَضِي الله عَنهُ هَذِه الْأَحْكَام تَنْقَسِم أَرْبَعَة أَقسَام الثَّابِت بِعِبَارَة النَّص وَالثَّابِت بإشارته وَالثَّابِت بدلالته وَالثَّابِت بِمُقْتَضَاهُ فَأَما الثَّابِت بالعبارة فَهُوَ مَا كَانَ السِّيَاق لأَجله وَيعلم قبل التَّأَمُّل أَن ظَاهر النَّص متناول لَهُ وَالثَّابِت بِالْإِشَارَةِ مَا لم يكن السِّيَاق لأَجله لكنه يعلم بِالتَّأَمُّلِ فِي معنى اللَّفْظ من غير زِيَادَة فِيهِ وَلَا نُقْصَان وَبِه تتمّ البلاغة وَيظْهر الإعجاز وَنَظِير ذَلِك من المحسوس أَن ينظر الْإِنْسَان إِلَى شخص هُوَ مقبل عَلَيْهِ وَيدْرك آخَرين بلحظات بَصَره يمنة ويسرة وَإِن كَانَ قَصده رُؤْيَة الْمقبل إِلَيْهِ فَقَط وَمن رمى سَهْما إِلَى صيد فَرُبمَا يُصِيب الصيدين بِزِيَادَة حذقه فِي ذَلِك للْعَمَل فإصابته الَّذِي قصد مِنْهُمَا مُوَافق للْعَادَة وإصابة الآخر فضل على مَا هُوَ الْعَادة حصل بِزِيَادَة حذقه وَمَعْلُوم أَنه يكون مباشرا فعل الِاصْطِيَاد فيهمَا فَكَذَلِك هُنَا الحكم الثَّابِت بِالْإِشَارَةِ والعبارة كل وَاحِد مِنْهُمَا يكون ثَابتا بِالنَّصِّ وَإِن كَانَ عِنْد التَّعَارُض قد يظْهر بَين الْحكمَيْنِ تفَاوت كَمَا نبينه وَبَيَان هذَيْن النَّوْعَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى {للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين} فالثابت بالعبارة فِي هَذِه الْآيَة نصيب من الْفَيْء لَهُم لِأَن سِيَاق الْآيَة لذَلِك كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي أول الْآيَة {مَا أَفَاء الله على رَسُوله} الْآيَة وَالثَّابِت بِالْإِشَارَةِ أَن الَّذين هَاجرُوا من مَكَّة قد زَالَت أملاكهم عَمَّا خلفوا بِمَكَّة لاستيلاء الْكفَّار عَلَيْهَا فَإِن الله تَعَالَى سماهم فُقَرَاء وَالْفَقِير حَقِيقَة من لَا يملك المَال لَا من بَعدت يَده عَن المَال لِأَن الْفقر ضد الْغنى والغني من يملك حَقِيقَة المَال لَا من قربت يَده من المَال حَتَّى لَا يكون الْمكَاتب غَنِيا حَقِيقَة وَإِن كَانَ فِي يَده أَمْوَال وَابْن السَّبِيل غَنِي حَقِيقَة وَإِن بَعدت يَده عَن المَال لقِيَام ملكه وَمُطلق الْكَلَام مَحْمُول على حَقِيقَته وَهَذَا حكم ثَابت بِصِيغَة الْكَلَام من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان فَعرفنَا أَنه ثَابت بِإِشَارَة النَّص وَلَكِن لما كَانَ لَا يتَبَيَّن ذَلِك إِلَّا بِالتَّأَمُّلِ اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ لاختلافهم فِي التَّأَمُّل وَلِهَذَا قيل الْإِشَارَة من الْعبارَة بِمَنْزِلَة الْكِنَايَة للْعلم قطعا بِمَنْزِلَة الثَّابِت بالعبارة وَمِنْه مَا لَا يكون مُوجبا للْعلم وَذَلِكَ عِنْد اشْتِرَاك معنى الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي الِاحْتِمَال مرَادا بالْكلَام وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} فالثابت بالعبارة والتعريض من التَّصْرِيح أَو بِمَنْزِلَة الْمُشكل من الْوَاضِح فَمِنْهُ مَا يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 مُوجبا ظُهُور الْمِنَّة للوالدة على الْوَلَد لِأَن السِّيَاق يدل على ذَلِك وَالثَّابِت بِالْإِشَارَةِ أَن أدنى مُدَّة الْحمل سِتَّة أشهر فقد ثَبت بِنَصّ آخر أَن مُدَّة الفصال حولان كَمَا قَالَ تَعَالَى {وفصاله فِي عَاميْنِ} فَإِنَّمَا يبْقى للْحَمْل سِتَّة أشهر وَلِهَذَا خَفِي ذَلِك على أَكثر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم واختص بفهمه ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فَلَمَّا ذكر لَهُم ذَلِك قبلوا مِنْهُ واستحسنوا قَوْله وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وعَلى الْمَوْلُود لَهُ رزقهن وكسوتهن بِالْمَعْرُوفِ} فالثابت بالعبارة وجوب نَفَقَتهَا على الْوَالِد فَإِن السِّيَاق لذَلِك وَالثَّابِت بِالْإِشَارَةِ أَحْكَام مِنْهَا أَن نِسْبَة الْوَلَد إِلَى الْأَب لِأَنَّهُ أضَاف الْوَلَد إِلَيْهِ بِحرف اللَّام فَقَالَ {وعَلى الْمَوْلُود لَهُ} فَيكون دَلِيلا على أَنه هُوَ الْمُخْتَص بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَهُوَ دَلِيل على أَن للْأَب تَأْوِيلا فِي نفس الْوَلَد وَمَاله فَإِن الْإِضَافَة بِحرف اللَّام دَلِيل الْملك كَمَا يُضَاف العَبْد إِلَى سَيّده فَيُقَال هَذَا العَبْد لفُلَان وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله أَنْت وَمَالك لأَبِيك ولثبوت التَّأْوِيل لَهُ فِي نَفسه وَمَاله قُلْنَا لَا يسْتَوْجب الْعقُوبَة بِإِتْلَاف نَفسه وَلَا يحد بِوَطْء جَارِيَته وَإِن علم حرمتهَا عَلَيْهِ والمسائل على هَذَا كَثِيرَة وَهُوَ دَلِيل أَيْضا على أَن الْأَب لَا يُشَارِكهُ فِي النَّفَقَة على الْوَلَد غَيره لِأَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَص بِالْإِضَافَة إِلَيْهِ وَالنَّفقَة تبتني على هَذِه الْإِضَافَة كَمَا وَقعت الْإِشَارَة إِلَيْهِ فِي الْآيَة بِمَنْزِلَة نَفَقَة العَبْد فَهِيَ إِنَّمَا تجب على سَيّده لَا يُشَارِكهُ غَيره فِيهَا وَفِيه دَلِيل أَيْضا على أَن اسْتِئْجَار الْأُم على الْإِرْضَاع فِي حَال قيام النِّكَاح بَينهمَا لَا يجوز لِأَنَّهُ جعل النَّفَقَة لَهَا عَلَيْهِ بِاعْتِبَار عمل الْإِرْضَاع بقوله تَعَالَى {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين} فَلَا يسْتَوْجب بدلين بِاعْتِبَار عمل وَاحِد وَهُوَ دَلِيل أَيْضا على مَا يسْتَحق بِعَمَل الْإِرْضَاع من النَّفَقَة وَالْكِسْوَة لَا يشْتَرط فِيهِ إِعْلَام الْجِنْس وَالْقدر وَإِنَّمَا يعْتَبر فِيهِ الْمَعْرُوف فَيكون دَلِيلا لأبي حنيفَة رَحمَه الله فِي جَوَاز اسْتِئْجَار الظِّئْر بطعامها وكسوتها // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 فصل الْقلب وَالْعَكْس قَالَ رَضِي الله عَنهُ تَفْسِير الْقلب لُغَة جعل أَعلَى الشَّيْء أَسْفَله وأسفله أَعْلَاهُ من قَول الْقَائِل قلبت الْإِنَاء إِذا نكسه أَو هُوَ جعل بطن الشَّيْء ظهرا وَالظّهْر بَطنا من قَول الْقَائِل قلبت الجراب إِذا جعل بَاطِنه ظَاهرا وَظَاهره بَاطِنا وقلبت الْأَمر إِذا جعله ظهرا لبطن وقلب الْعلَّة على هذَيْن الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ نَوْعَانِ أَحدهمَا جعل الْمَعْلُول عِلّة وَالْعلَّة معلولا وَهَذَا مُبْطل لِلْعِلَّةِ لِأَن الْعلَّة هِيَ الْمُوجبَة شرعا والمعلول هُوَ الحكم الْوَاجِب بِهِ فَيكون فرعا وتبعا لِلْعِلَّةِ وَإِذا جعل التبع أصلا وَالْأَصْل تبعا كَانَ ذَلِك دَلِيل بطلَان الْعلَّة وَبَيَانه فِيمَا قَالَ الشَّافِعِي فِي الذِّمِّيّ إِنَّه يجب عَلَيْهِ الرَّجْم لِأَنَّهُ من جنس من يجلد بكره مائَة فيرجم ثيبه كَالْمُسلمِ فيقلب عَلَيْهِ فَنَقُول فِي الأَصْل إِنَّمَا يجلد بكره لِأَنَّهُ يرْجم ثيبه فَيكون ذَلِك قلبا مُبْطلًا لعلته بِاعْتِبَار أَن مَا جعل فرعا صَار أصلا وَمَا جعله أصلا صَار تبعا وَكَذَلِكَ قَوْله الْقِرَاءَة ركن يتَكَرَّر فرضا فِي الْأَوليين فيتكرر أَيْضا فرضا فِي الْأُخْرَيَيْنِ كالركوع وَهَذَا النَّوْع من الْقلب إِنَّمَا يَتَأَتَّى عِنْد التَّعْلِيل بِحكم لحكم فَأَما إِذا كَانَ التَّعْلِيل بِوَصْف لَا يرد عَلَيْهِ هَذَا الْقلب إِذْ الْوَصْف لَا يكون حكما شَرْعِيًّا يثبت بِحكم آخر وَطَرِيق المخلص عَن هَذَا الْقلب أَن لَا يذكر هَذَا على سَبِيل التَّعْلِيل بل على سَبِيل الِاسْتِدْلَال بِأحد الْحكمَيْنِ على الآخر فَإِن الِاسْتِدْلَال بِحكم على حكم طَرِيق السّلف فِي الْحَوَادِث روينَا ذَلِك عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَعَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَلَكِن شَرط هَذَا الِاسْتِدْلَال أَن يثبت أَنَّهُمَا نظيران متساويان فَيدل كل وَاحِد مِنْهُمَا على صَاحبه هَذَا على ذَاك فِي حَال وَذَاكَ على هَذَا فِي حَال بِمَنْزِلَة التوأم فَإِنَّهُ يثبت حريَّة الأَصْل لأَحَدهمَا أَيهمَا كَانَ بِثُبُوتِهِ للْآخر وَيثبت الرّقّ فِي أَيهمَا كَانَ بِثُبُوتِهِ للْآخر وَذَلِكَ نَحْو مَا يَقُوله عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله وَبَيَانه فِيمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا إِن الصَّوْم عبَادَة تلْزم بِالنذرِ فتلزم بِالشُّرُوعِ كَالْحَجِّ فَلَا يَسْتَقِيم قلبهم علينا لِأَن الْحَج إِنَّمَا يلْزم بِالنذرِ لِأَنَّهُ يلْزم بِالشُّرُوعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 لأَنا نستدل بِأحد الْحكمَيْنِ على الآخر بعد ثُبُوت الْمُسَاوَاة بَينهمَا من حَيْثُ إِن الْمَقْصُود بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا تَحْصِيل عبَادَة زَائِدَة هِيَ مَحْض حق الله تَعَالَى على وَجه يكون الْمَعْنى فِيهَا لَازِما وَالرُّجُوع عَنْهَا بعد الْأَدَاء حرَام وإبطالها بعد الصِّحَّة جِنَايَة فَبعد ثُبُوت الْمُسَاوَاة بَينهمَا يَجْعَل هَذَا دَلِيلا على ذَاك تَارَة وَذَاكَ على هَذَا تَارَة وَكَذَلِكَ قَوْلنَا فِي الثّيّب الصَّغِيرَة من يكون موليا عَلَيْهِ فِي مَاله تَصرفا يكون موليا عَلَيْهِ فِي نَفسه تَصرفا كالبكر وَفِي الْبكر الْبَالِغَة من لَا يكون موليا عَلَيْهِ فِي مَاله تَصرفا لَا يكون موليا عَلَيْهِ فِي نَفسه تَصرفا كَالرّجلِ يكون اسْتِدْلَالا صَحِيحا بِأحد الْحكمَيْنِ على الآخر إِذْ الْمُسَاوَاة قد تثبت بَين التصرفين من حَيْثُ إِن ثُبُوت الْولَايَة فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا بِاعْتِبَار حَاجَة الْمولى عَلَيْهِ وعجزه عَن التَّصَرُّف بِنَفسِهِ فَلَا يَسْتَقِيم قلبهم إِذا ذكرنَا هَذَا على وَجه الِاسْتِدْلَال لِأَن جَوَاز الِاسْتِدْلَال بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا على الآخر يدل على قُوَّة المشابهة والمساواة وَهُوَ الْمَقْصُود بالاستدلال بِخِلَاف مَا علل بِهِ الشَّافِعِي فَإِنَّهُ لَا مُسَاوَاة بَين الْجلد وَالرَّجم أما من حَيْثُ الذَّات فَالرَّجْم عُقُوبَة غَلِيظَة تَأتي على النَّفس وَالْجَلد لَا وَمن حَيْثُ الشَّرْط الرَّجْم يَسْتَدْعِي من الشَّرَائِط مَا لَا يَسْتَدْعِي عَلَيْهِ الْجلد كالثيوبة وَكَذَلِكَ لَا مُسَاوَاة بَين ركن الْقِرَاءَة وَبَين الرُّكُوع فَإِن الرُّكُوع فعل هُوَ أصل فِي الرَّكْعَة وَالْقِرَاءَة ذكر هُوَ زَائِد حَتَّى إِن الْعَاجِز عَن الْأَذْكَار الْقَادِر على الْأَفْعَال يُؤَدِّي الصَّلَاة وَالْعَاجِز عَن الْأَفْعَال الْقَادِر على الْأَذْكَار لَا يُؤَدِّيهَا وَيسْقط ركن الْقِرَاءَة بالاقتداء عندنَا وَعند خوف فَوت الرَّكْعَة بالِاتِّفَاقِ وَلَا يسْقط ركن الرُّكُوع وَكَذَلِكَ لَا مُسَاوَاة بَين الشفع الثَّانِي وَالشَّفْع الأول فِي الْقِرَاءَة فَإِنَّهُ يسْقط فِي الشفع الثَّانِي شطر مَا كَانَ مَشْرُوعا فِي الشفع الأول وَهُوَ قِرَاءَة السُّورَة وَالْوَصْف الْمَشْرُوع فِيهِ فِي الشفع الأول وَهُوَ الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ وَمَعَ انعدام الْمُسَاوَاة لَا يُمكن الِاسْتِدْلَال بِأَحَدِهِمَا على الآخر وَالْقلب يبطل التَّعْلِيل على وَجه المقايسة وَالنَّوْع الثَّانِي من الْقلب هُوَ جعل الظَّاهِر بَاطِنا بِأَن يَجْعَل الْوَصْف الَّذِي // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 فِي المصروف إِلَيْهِ وَهِي المسكنة وَجعل الْوَاجِب فعل الْإِطْعَام فَيكون ذَلِك دَلِيلا على أَنه مَشْرُوع لاعْتِبَار حَاجَة الْمحل ثمَّ هَذِه الْحَاجة تتجدد بتجدد الْأَيَّام فَجعلنَا الْمِسْكِين الْوَاحِد فِي عشرَة أَيَّام بِمَنْزِلَة عشرَة مَسَاكِين فِي جَوَاز الصّرْف إِلَيْهِ وَلِهَذَا لم نجوز صرف جَمِيع الْكَفَّارَة إِلَى مِسْكين وَاحِد دفْعَة وَاحِدَة فَإِن قيل فقد جوزتم صرف الْكسْوَة أَيْضا إِلَى مِسْكين وَاحِد فِي عشرَة أَيَّام وَالْحَاجة إِلَى الْكسْوَة لَا تتجدد (فِي) كل يَوْم وَإِنَّمَا ذَلِك فِي كل سِتَّة أشهر أَو أَكثر قُلْنَا قد بَينا أَن التَّكْفِير فِي الْكسْوَة يحصل بالتمليك وَالْحَاجة الَّتِي تكون بِاعْتِبَار التَّمْلِيك لَا نِهَايَة لَهَا فتجعل متجددة حكما بتجدد الْأَيَّام وَلِهَذَا قَالَ بعض مَشَايِخنَا إِذا فرق الْإِطْعَام فِي يَوْم وَاحِد يجوز أَيْضا وَإِن أدّى الْكل مِسْكينا وَاحِدًا لِأَن تجدّد الْحَاجة بتجدد الْوَقْت مَعْلُوم وحقيقتها يتَعَذَّر الْوُقُوف عَلَيْهِ فَيجْعَل بِاعْتِبَار كل سَاعَة كَأَن الْحَاجة متجددة حكما وَلَكِن هَذَا فِي التَّمْلِيك فَأَما فِي التَّمْكِين لَا يتَحَقَّق هَذَا وَأَكْثَرهم على أَن فِي الْكسْوَة يعْتَبر هَذَا الْمَعْنى الْحكمِي فَأَما فِي الطَّعَام يعْتَبر بتجدد الْأَيَّام لِأَن الْمَنْصُوص عَلَيْهِ الْإِطْعَام وَحَقِيقَته فِي التَّمْكِين من الطَّعَام وَمعنى تجدّد الْحَاجة إِلَى ذَلِك لَا يتَحَقَّق إِلَّا بتجدد الْأَيَّام وَمن ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أغنوهم عَن الْمَسْأَلَة فِي مثل هَذَا الْيَوْم فالثابت بالعبارة وجوب أَدَاء صَدَقَة الْفطر فِي يَوْم الْعِيد إِلَى الْفَقِير والسياق لذَلِك وَالثَّابِت بِالْإِشَارَةِ أَحْكَام مِنْهَا أَنَّهَا لَا تجب إِلَّا على الْغَنِيّ لِأَن الإغناء إِنَّمَا يتَحَقَّق من الْغَنِيّ وَمِنْهَا أَن الْوَاجِب الصّرْف إِلَى الْمُحْتَاج لِأَن إغناء الْغَنِيّ لَا يتَحَقَّق وَإِنَّمَا يتَحَقَّق إغناء الْمُحْتَاج وَمِنْهَا أَنه يَنْبَغِي أَن يعجل أداءها قبل الْخُرُوج إِلَى الْمصلى ليستغني عَن الْمَسْأَلَة ويحضر الْمُصَلِّي فارغ الْقلب من قوت الْعِيَال فَلَا يحْتَاج إِلَى السُّؤَال وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف لَا يجوز صرفهَا إِلَّا إِلَى فُقَرَاء الْمُسلمين فَفِي قَوْله (فِي مثل هَذَا الْيَوْم) إِشَارَة إِلَى ذَلِك يَعْنِي أَنه يَوْم عيد للْفُقَرَاء والأغنياء جَمِيعًا وَإِنَّمَا يتم ذَلِك للْفُقَرَاء إِذا استغنوا عَن السُّؤَال فِيهِ وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رَضِي الله عَنْهُمَا هُوَ كَذَلِك وَلَكِن فِي هَذَا إِشَارَة إِلَى النّدب أَن الأولى أَن يصرفهُ إِلَى فُقَرَاء الْمُسلمين كَمَا أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الأولى أَن يعجل أداءها قبل الصَّلَاة وَإِن كَانَ التَّأْخِير جَائِزا وَمِنْهَا أَن وجوب الْأَدَاء يتَعَلَّق بِطُلُوع الْفجْر لِأَن الْيَوْم اسْم للْوَقْت من طُلُوع الْفجْر إِلَى غرُوب الشَّمْس وَإِنَّمَا يُغْنِيه عَن الْمَسْأَلَة فِي ذَلِك الْيَوْم أَدَاء فِيهِ وَمِنْهَا أَنه يتَأَدَّى الْوَاجِب بِمُطلق المَال لِأَنَّهُ اعْتبر الإغناء وَذَلِكَ يحصل بِالْمَالِ الْمُطلق وَرُبمَا يكون حُصُوله بِالنَّقْدِ أتم من حُصُوله بِالْحِنْطَةِ وَالشعِير وَالتَّمْر وَمِنْهَا أَن الأولى أَن يصرف صدقته إِلَى مِسْكين وَاحِد لِأَن الإغناء بذلك يحصل وَإِذا فرقها على الْمَسَاكِين كَانَ هَذَا فِي الإغناء دون الأول وَمَا كَانَ أكمل فِيمَا هُوَ الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فَهُوَ أفضل فَهَذِهِ أَحْكَام عرفناها بِإِشَارَة النَّص وَهُوَ معنى جَوَامِع الْكَلم الَّذِي قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُوتيت جَوَامِع الْكَلم وَاخْتصرَ لي اختصارا هَذَا مِثَال بَيَان الثَّابِت بِعِبَارَة النَّص وإشارته من الْكتاب وَالسّنة فَأَما الثَّابِت بِدلَالَة النَّص فَهُوَ مَا ثَبت بِمَعْنى النّظم لُغَة لَا استنباطا بِالرَّأْيِ لِأَن للنظم صُورَة مَعْلُومَة وَمعنى هُوَ الْمَقْصُود بِهِ فالألفاظ مَطْلُوبَة للمعاني وَثُبُوت الحكم بِالْمَعْنَى الْمَطْلُوب بِاللَّفْظِ بِمَنْزِلَة الضَّرْب لَهُ صُورَة مَعْلُومَة وَمعنى هُوَ الْمَطْلُوب بِهِ وَهُوَ الإيلام ثمَّ ثُبُوت الحكم بِوُجُود الْمُوجب لَهُ فَكَمَا أَن فِي الْمُسَمّى الْخَاص ثُبُوت الحكم بِاعْتِبَار الْمَعْنى الْمَعْلُوم بالنظم لُغَة فَكَذَلِك فِي الْمُسَمّى الْخَاص الَّذِي هُوَ غير مَنْصُوص عَلَيْهِ يثبت الحكم بذلك الْمَعْنى وَيُسمى ذَلِك دلَالَة النَّص فَمن حَيْثُ إِن الحكم غير ثَابت فِيهِ بتناول صُورَة النَّص إِيَّاه لم يكن ثَابتا بِعِبَارَة النَّص وَمن حَيْثُ إِنَّه ثَابت بِالْمَعْنَى الْمَعْلُوم بِالنَّصِّ لُغَة كَانَ دلَالَة النَّص وَلم يكن قِيَاسا فَالْقِيَاس معنى يستنبطه بِالرَّأْيِ مِمَّا ظهر لَهُ أثر فِي الشَّرْع ليتعدى بِهِ الحكم إِلَى مَا لَا نَص فِيهِ لَا استنباط بِاعْتِبَار معنى النّظم لُغَة كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ مثل بِمثل جعلنَا الْغلَّة هِيَ الْكَيْل وَالْوَزْن بِالرَّأْيِ فَإِن ذَلِك لَا تتناوله صُورَة النّظم وَلَا مَعْنَاهَا لُغَة وَلِهَذَا اخْتصَّ الْعلمَاء بِمَعْرِِفَة الاستنباط بِالرَّأْيِ ويشترك فِي معرفَة دلَالَة النَّص كل من لَهُ بصر فِي معنى الْكَلَام لُغَة فَقِيها أَو غير فَقِيه وَمِثَال مَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ وَلَا تنهرهما} فَإِن للتأفيف صُورَة مَعْلُومَة وَمعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 لأَجله ثبتَتْ الْحُرْمَة وَهُوَ الْأَذَى حَتَّى إِن من لَا يعرف هَذَا الْمَعْنى من هَذَا اللَّفْظ أَو كَانَ من قوم هَذَا فِي لغتهم إكرام لم تثبت الْحُرْمَة فِي حَقه ثمَّ بِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى الْمَعْلُوم لُغَة تثبت الْحُرْمَة فِي سَائِر أَنْوَاع الْكَلَام الَّتِي فِيهَا هَذَا الْمَعْنى كالشتم وَغَيره وَفِي الْأَفْعَال كالضرب وَنَحْوه وَكَانَ ذَلِك مَعْلُوما بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ لِأَن قدر مَا فِي التأفيف من الْأَذَى مَوْجُود فِيهِ وَزِيَادَة وَمِثَال هَذَا مَا رُوِيَ أَن ماعزا زنى وَهُوَ مُحصن فرجم وَقد علمنَا أَنه مَا رجم لِأَنَّهُ مَاعِز بل لِأَنَّهُ زنى فِي حَالَة الْإِحْصَان فَإِذا ثَبت هَذَا الحكم فِي غَيره كَانَ ثَابتا بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ وَكَذَلِكَ أوجب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكَفَّارَة على الْأَعرَابِي بِاعْتِبَار جِنَايَته لَا لكَونه أَعْرَابِيًا فَمن وجدت مِنْهُ مثل تِلْكَ الْجِنَايَة يكون الحكم فِي حَقه ثَابتا بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ وَهَذَا لِأَن الْمَعْنى الْمَعْلُوم بِالنَّصِّ لُغَة بِمَنْزِلَة الْعلَّة الْمَنْصُوص عَلَيْهَا شرعا على مَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْهِرَّة إِنَّهَا لَيست بنجسة إِنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم والطوافات ثمَّ هَذَا الحكم يثبت فِي الْفَأْرَة والحية بِهَذِهِ الْعلَّة فَلَا يكون ثَابتا بِالْقِيَاسِ بل بِدلَالَة النَّص وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام للمستحاضة إِنَّه دم عرق انفجر فتوضئي لكل صَلَاة ثمَّ ثَبت ذَلِك الحكم فِي سَائِر الدِّمَاء الَّتِي تسيل من الْعُرُوق فَيكون ثَابتا بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ وَلِهَذَا جعلنَا الثَّابِت بِدلَالَة النَّص كَالثَّابِتِ بِإِشَارَة النَّص وَإِن كَانَ يظْهر بَينهمَا التَّفَاوُت عِنْد الْمُقَابلَة وكل وَاحِد مِنْهُمَا ضرب من البلاغة أَحدهمَا من حَيْثُ اللَّفْظ وَالْآخر من حَيْثُ الْمَعْنى وَلِهَذَا جَوَّزنَا إِثْبَات الْعُقُوبَات وَالْكَفَّارَات بِدلَالَة النَّص وَإِن كُنَّا لَا نجوز ذَلِك بِالْقِيَاسِ فأوجبنا حد قطاع الطَّرِيق على الردء بِدلَالَة النَّص لِأَن عبارَة النَّص الْمُحَاربَة وَصُورَة ذَلِك بِمُبَاشَرَة الْقِتَال وَمَعْنَاهَا لُغَة قهر الْعَدو والتخويف على وَجه يَنْقَطِع بِهِ الطَّرِيق وَهَذَا معنى مَعْلُوم بالمحاربة لُغَة والردء مبَاشر لذَلِك كالمقاتل وَلِهَذَا اشْتَركُوا فِي الْغَنِيمَة فيقام الْحَد على الردء بِدلَالَة النَّص من هَذِه الْوُجُوه وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله يجب الْحَد فِي اللواطة على الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ بِدلَالَة نَص الزِّنَا فالزنا اسْم لفعل معنوي لَهُ غَرَض وَهُوَ اقْتِضَاء الشَّهْوَة على قصد سفح المَاء بطرِيق حرَام لَا شُبْهَة فِيهِ وَقد وجد هَذَا كُله فِي اللواطة فاقتضاء الشَّهْوَة بِالْمحل المشتهي وَذَلِكَ بِمَعْنى الْحَرَارَة واللين أَلا ترى أَن الَّذين لَا يعْرفُونَ الشَّرْع لَا يفصلون بَينهمَا وَالْقَصْد مِنْهُ السفاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 لِأَن النَّسْل لَا تصور لَهُ فِي هَذَا الْمحل وَالْحُرْمَة هُنَا أبلغ من الْحُرْمَة فِي الْفِعْل الَّذِي يكون فِي الْقبل فَإِنَّهَا حُرْمَة لَا تنكشف بِحَال وَإِنَّمَا يُبدل اسْم الْمحل فَقَط فَيكون الحكم ثَابتا بِدلَالَة النَّص لَا بطرِيق الْقيَاس وَأَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ يَقُول هُوَ قَاصِر فِي الْمَعْنى الَّذِي وَجب الْحَد بِاعْتِبَارِهِ فَإِن الْحَد مَشْرُوع زجرا وَذَلِكَ عِنْد دُعَاء الطَّبْع إِلَيْهِ وَدُعَاء الطَّبْع إِلَى مُبَاشرَة هَذَا الْفِعْل فِي الْقبل من الْجَانِبَيْنِ فَأَما فِي الدبر دُعَاء الطَّبْع إِلَيْهِ من جَانب الْفَاعِل لَا من جَانب الْمَفْعُول بِهِ وَفِي بَاب الْعُقُوبَات تعْتَبر صفة الْكَمَال لما فِي النُّقْصَان من شُبْهَة الْعَدَم ثمَّ فِي الزِّنَا إِفْسَاد الْفراش وَإِتْلَاف الْوَلَد حكما فَإِن الْوَلَد الَّذِي يتخلق من المَاء فِي ذَلِك الْمحل لَا يعرف لَهُ وَالِد لينفق عَلَيْهِ وبالنساء عجز عَن الِاكْتِسَاب والإنفاق وَلَا يُوجد هَذَا الْمَعْنى فِي الدبر فَإِنَّمَا فِيهِ مُجَرّد تَضْييع المَاء بالصب فِي غير مَحل منبت وَذَلِكَ قد يكون مُبَاحا بطرِيق الْعَزْل فَعرفنَا أَنه دون الزِّنَا فِي الْمَعْنى الَّذِي لأَجله أوجب الْحَد وَلَا مُعْتَبر بتأكد الْحُرْمَة فِي حكم الْعقُوبَة أَلا ترى أَن حُرْمَة الدَّم وَالْبَوْل آكِد من حُرْمَة الْخمر ثمَّ الْحَد يجب بِشرب الْخمر وَلَا يجب بِشرب الدَّم وَالْبَوْل للتفاوت فِي معنى دُعَاء الطَّبْع من الْوَجْه الَّذِي قَررنَا وَلِهَذَا قُلْنَا فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا قَود إِلَّا بِالسَّيْفِ إِن الْقصاص يجب إِذا حصل الْقَتْل بِالرُّمْحِ أَو النشابة لِأَن لعبارة النَّص معنى مَعْلُوما فِي اللُّغَة وَذَلِكَ الْمَعْنى كَامِل فِي الْقَتْل بِالرُّمْحِ والنشابة وَقد عرفنَا أَن المُرَاد بِذكر السَّيْف الْقَتْل بِهِ لَا قَبضه وَإِنَّمَا السَّيْف آلَة يحصل بِهِ الْقَتْل فَإِذا حصل بِآلَة أُخْرَى مثل ذَلِك الْقَتْل تعلق حكم الْقصاص بِهِ بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ ثمَّ قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله الْمَعْنى الْمَعْلُوم بِذكر السَّيْف لُغَة أَنه نَاقض للبنية بِالْجرْحِ وَظُهُور أَثَره فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن فَلَا يثبت هَذَا الحكم فِيمَا لَا يماثله فِي هَذَا الْمَعْنى وَهُوَ الْحجر والعصا وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله الْمَعْنى الْمَعْلُوم بِهِ لُغَة أَن النَّفس لَا تطِيق احْتِمَاله وَدفع أَثَره فَيثبت الحكم بِهَذَا الْمَعْنى فِي الْقَتْل بالمثقل وَيكون ثَابتا بِدلَالَة النَّص قَالَا لِأَن الْقَتْل نقض البنية وَذَلِكَ بِفِعْلِهِ لَا تحتمله البنية مَعَ صفة السَّلامَة وَهَذَا الْمَعْنى فِي المثقل أظهر فَإِن إِلْقَاء حجر الرَّحَى والاسطوانة على إِنْسَان لَا تحتمله البنية بِنَفسِهَا وَالْقَتْل بِالْجرْحِ لَا تحتمله البنية بِوَاسِطَة السَّرَايَة وَإِذا كَانَ هَذَا أتم فِي الْمَعْنى الْمُعْتَبر كَانَ ثُبُوت الحكم فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 بِدلَالَة النَّص كَمَا فِي الضَّرْب مَعَ التأفيف وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول الْمُعْتَبر فِي بَاب الْعُقُوبَات صفة الْكَمَال فِي السَّبَب لما فِي النُّقْصَان من شُبْهَة الْعَدَم والكمال فِي نقض البنية بِمَا يكون عَاملا فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن جَمِيعًا فاعتبار مُجَرّد عدم احْتِمَال البنية إِيَّاه مَعَ صفة السَّلامَة ظَاهرا لتعدية الحكم غير مُسْتَقِيم فِيمَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ وَإِنَّمَا يَسْتَقِيم ذَلِك فِيمَا يثبت بِالشُّبُهَاتِ كالدية وَالْكَفَّارَة فَأَما مَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ وَيعْتَبر فِيهِ الْمُمَاثلَة فِي الِاسْتِيفَاء بِالنَّصِّ لَا بُد من اعْتِبَار صفة الْكَمَال فِيهِ وَدَلِيل النُّقْصَان حكم الذَّكَاة فَإِنَّهُ يخْتَص بِمَا ينْقض البنية ظَاهرا وَبَاطنا وَلَا يعْتَبر فِيهِ مُجَرّد عدم احْتِمَال البنية إِيَّاه وَمَا قَالَه إِن الْجرْح وَسِيلَة كَلَام لَا معنى لَهُ فإننا لَا نعني بِفعل الْقَتْل الْجِنَايَة على الْجِسْم وَلَا على الرّوح إِذْ لَا تتَصَوَّر بِالْجِنَايَةِ على الرّوح من الْعباد والجسم تبع وَالْمَقْصُود هُوَ النَّفس الَّذِي هُوَ عبارَة عَن الطبائع فالجناية عَلَيْهَا إِنَّمَا تتمّ بإراقة الدَّم وَذَلِكَ بِعَمَل يكون جارحا مؤثرا فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن جَمِيعًا وَلِهَذَا كَانَ الغرز بالإبرة مُوجبا للْقصَاص لِأَنَّهُ مسيل للدم مُؤثر فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن إِلَّا أَنه لَا يكون مُوجبا الْحل فِي الذَّكَاة لِأَن الْمُعْتَبر هُنَا تسييل جَمِيع الدَّم المسفوح ليتميز بِهِ الطَّاهِر من النَّجس وَلِهَذَا اخْتصَّ بِقطع الْحُلْقُوم والأوداج عِنْد التيسر وَلم يثبت حكم الْحل بالنَّار أَيْضا لِأَنَّهَا تُؤثر فِي الظَّاهِر حسما فَلَا يتَمَيَّز بِهِ الطَّاهِر من النَّجس بل يمْتَنع بِهِ من سيلان الدَّم وَمن ذَلِك أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لما أوجب الْكَفَّارَة على الْأَعرَابِي بِجِنَايَتِهِ الْمَعْلُومَة بِالنَّصِّ لُغَة أَوجَبْنَا على الْمَرْأَة أَيْضا مثل ذَلِك بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ فَإِن الْأَعرَابِي سَأَلَ عَن جِنَايَته بقوله هَلَكت وأهلكت وَقد علمنَا أَنه لم يرد الْجِنَايَة على الْبضْع لِأَن فعل الْجِمَاع حصل مِنْهُ فِي مَحل مَمْلُوك لَهُ فَلَا يكون جِنَايَة لعَينه أَلا ترى أَنه لَو كَانَ نَاسِيا لصومه لم يكن ذَلِك مِنْهُ جِنَايَة أصلا فَعرفنَا أَن جِنَايَته كَانَ على الصَّوْم بِاعْتِبَار تَفْوِيت رُكْنه الَّذِي يتَأَدَّى بِهِ وَقد علم أَن ركن الصَّوْم الْكَفّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 عَن اقْتِضَاء شَهْوَة الْبَطن و (شَهْوَة) الْفرج وَوُجُوب الْكَفَّارَة للزجر عَن الْجِنَايَة على الصَّوْم ثمَّ دُعَاء الطَّبْع إِلَى اقْتِضَاء شَهْوَة الْبَطن أظهر مِنْهُ إِلَى اقْتِضَاء شَهْوَة الْفرج وَوقت الصَّوْم وَقت اقْتِضَاء شَهْوَة الْبَطن عَادَة يَعْنِي النَّهر فَأَما اقْتِضَاء شَهْوَة الْفرج يكون بالليالي عَادَة فَكَانَ الحكم ثَابتا بِدلَالَة النَّص من هَذَا الْوَجْه فَإِن الْجِمَاع آلَة لهَذِهِ الْجِنَايَة كَالْأَكْلِ وَقد بَينا أَنه لَا مُعْتَبر بالآلة فِي الْمَعْنى الَّذِي يَتَرَتَّب الحكم عَلَيْهِ وَهُوَ نَظِير قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لن يَجْزِي ولد وَالِده إِلَّا أَن يجده مَمْلُوكا فيشتريه فيعتقه وكما يصير معتقا بِالشِّرَاءِ يصير معتقا بِقبُول الْهِبَة وَالصَّدَََقَة فِيهِ لِأَن الشِّرَاء سَبَب لما يتم بِهِ عِلّة الْعتْق وَهُوَ الْملك وَقبُول الْهِبَة مثل الشِّرَاء فِي ذَلِك ثمَّ الْجِنَايَة على الصَّوْم بِهَذِهِ الصّفة تتمّ مِنْهَا بالتمكين كَمَا تتمّ بِهِ من الرجل بالإيلاج وَمعنى دُعَاء الطَّبْع فِي جَانبهَا كَهُوَ فِي جَانب الرجل فالكفارة تلزمها بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ وَمن ذَلِك قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام للَّذي أكل نَاسِيا فِي شهر رَمَضَان إِن الله أطعمك وسقاك فتم على صومك ثمَّ أثبتنا هَذَا الحكم فِي الَّذِي جَامع نَاسِيا بِدلَالَة النَّص فَإِن تَفْوِيت ركن الصَّوْم حَقِيقَة لَا يخْتَلف بِالنِّسْيَانِ والعمد وَلَكِن النسْيَان معنى مَعْلُوم لُغَة وَهُوَ أَنه مَحْمُول عَلَيْهِ طبعا على وَجه لَا صنع لَهُ فِيهِ وَلَا لأحد من الْعباد فَكَانَ مُضَافا إِلَى من لَهُ الْحق وَالْجِمَاع فِي حَالَة النسْيَان مثل الْأكل فِي هَذَا الْمَعْنى فَيثبت الحكم فِيهِ بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ إِذْ الْمَخْصُوص من الْقيَاس لَا يُقَاس عَلَيْهِ غَيره فَإِن قيل الْجِمَاع لَيْسَ نَظِير الْأكل من كل وَجه فَإِن وَقت أَدَاء الصَّوْم وَقت الْأكل عَادَة وَوقت الْأَسْبَاب المفضية إِلَى الْأكل من التَّصَرُّف فِي الطَّعَام وَغير ذَلِك فيبتلى فِيهِ بِالنِّسْيَانِ غَالِبا وَهُوَ لَيْسَ بِوَقْت الْجِمَاع عَادَة وَالصَّوْم أَيْضا يُضعفهُ عَن الْجِمَاع وَلَا يزِيد فِي شَهْوَته كَمَا يزِيد فِي شَهْوَة الْأكل فَيَنْبَغِي أَن يَجْعَل الْجِمَاع من النَّاسِي فِي الصَّوْم بِمَنْزِلَة الْأكل من النَّاسِي فِي الصَّلَاة لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا نَادِر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 قُلْنَا نعم فِي الْجِمَاع هَذَا النَّوْع من التَّقْصِير وَلَكِن فِيهِ زِيَادَة فِي دُعَاء الطَّبْع إِلَيْهِ من حَيْثُ إِن الشبق قد يغلب على الْمَرْء على وَجه لَا يصبر عَن الْجِمَاع وَعند غَلَبَة الشبق يذهب من قلبه كل شَيْء سوى ذَلِك الْمَقْصُود وَلَا يُوجد مثل هَذَا الشبق فِي الْأكل فَتكون هَذِه الزِّيَادَة بِمُقَابلَة ذَلِك الْقُصُور حَتَّى تتَحَقَّق الْمُسَاوَاة بَينهمَا وَلَكِن لَا تعْتَبر هَذِه الزِّيَادَة عِنْد ذكر الصَّوْم فِي حق الْكَفَّارَة لِأَن غَلَبَة الشبق بِهَذِهِ الصّفة تنعدم بِإِبَاحَة الْجِمَاع لَيْلًا وَلِأَنَّهُ لَا يكون إِلَّا نَادرا وَصفَة الْكَمَال لَا تبتنى على مَا هُوَ نَادِر وَإِنَّمَا تبتنى على مَا هُوَ الْمُعْتَاد وَإِنَّمَا طَرِيق الْقيَاس فِي هَذَا مَا سلكه الشَّافِعِي رَحمَه الله حَيْثُ جعل الْمُكْره والخاطىء بِمَنْزِلَة النَّاسِي بِاعْتِبَار وصف الْعذر فَإِن الكره وَالْخَطَأ غير النسْيَان صُورَة وَمعنى فَالْحكم الثَّابِت بِالنِّسْيَانِ لَا يكون ثَابتا بالْخَطَأ والكره بِدلَالَة النَّص بل يكون بطرِيق الْقيَاس وَهُوَ قِيَاس فَاسد فَإِن الكره مُضَاف إِلَى غير من لَهُ الْحق وَهُوَ الْمُكْره وَالْخَطَأ مُضَاف إِلَى المخطىء أَيْضا وَهُوَ مِمَّا يَتَأَتَّى عَنهُ التَّحَرُّز فِي الْجُمْلَة فَلم يكن فِي معنى مَا لَا صنع للعباد فِيهِ أصلا أَلا ترى أَن الْمَرِيض يُصَلِّي قَاعِدا ثمَّ لَا تلْزمهُ الْإِعَادَة إِذا برأَ بِخِلَاف الْمُقَيد ث وَمن ذَلِك أَن الله تَعَالَى لما أوجب الْقَضَاء على الْمُفطر فِي رَمَضَان بِعُذْر وَهُوَ الْمَرِيض وَالْمُسَافر أَوجَبْنَا على الْمُفطر بِغَيْر عذر بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ فَإِن فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَنْعَدِم أَدَاء الصَّوْم الْوَاجِب فِي الْوَقْت وَالْمَرَض وَالسّفر عذر فِي الْإِسْقَاط لَا فِي الْإِيجَاب فَعرفنَا أَن وجوب الْقَضَاء عَلَيْهِمَا لِانْعِدَامِ الْأَدَاء فِي الْوَقْت بِالْفطرِ لُغَة وَقد وجد هَذَا الْمَعْنى بِعَيْنِه إِذا أفطر من غير عذر فَيلْزمهُ الْقَضَاء بِدلَالَة النَّص ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله بِهَذَا الطَّرِيق أوجبت الْكَفَّارَة فِي قتل الْعمد لِأَن النَّص جَاءَ بِإِيجَاب الْكَفَّارَة فِي قتل الْخَطَأ وَلَكِن الْخَطَأ عذر مسْقط فَعرفنَا أَن وجوب الْكَفَّارَة بِاعْتِبَار أصل الْقَتْل دون صفة الْخَطَأ وَذَلِكَ مَوْجُود فِي الْعمد وَزِيَادَة فَتجب الْكَفَّارَة فِي الْعمد بِدلَالَة النَّص وَبِهَذَا الطَّرِيق أوجبت الْكَفَّارَة فِي الْغمُوس لِأَن فِي الْمَعْقُود على أَمر فِي الْمُسْتَقْبل وَجَبت الْكَفَّارَة بِاعْتِبَار جِنَايَته لما فِي الْإِقْدَام على الْحِنْث من هتك حُرْمَة اسْم الله تَعَالَى وَذَلِكَ مَوْجُود فِي الْغمُوس وَزِيَادَة فَإِنَّهَا محظورة لأجل الاستشهاد بِاللَّه تَعَالَى كَاذِبًا وَهَذَا هُوَ صفة الْحَظْر فِي المعقودة على أَمر فِي الْمُسْتَقْبل بعد الْحِنْث وَلَكنَّا نقُول هَذَا الِاسْتِدْلَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 فَاسد لِأَن الْوَاجِب بِالنَّصِّ الْكَفَّارَة وَهِي اسْم لعبادة فِيهَا معنى الْعقُوبَة تبعا من حَيْثُ إِنَّهَا أوجبت جَزَاء وَلكنهَا تتأدى بِفعل هُوَ عبَادَة وَالْمَقْصُود بهَا نيل الثَّوَاب ليَكُون مكفرا للذنب وَإِنَّمَا يحصل ذَلِك بِمَا هُوَ عبَادَة كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} فيستدعي سَببا مترددا بَين الْحَظْر وَالْإِبَاحَة لِأَن الْعُقُوبَات الْمَحْضَة سَببهَا مَحْظُور مَحْض والعبادات الْمَحْضَة سَببهَا مَا لَا حظر فِيهِ فالمتردد يَسْتَدْعِي سَببا مترددا وَذَلِكَ فِي قتل الْخَطَأ فَإِنَّهُ من حَيْثُ الصُّورَة رمى إِلَى الصَّيْد أَو إِلَى الْكَافِر وَهُوَ الْمُبَاح وَبِاعْتِبَار الْمحل يكون مَحْظُورًا لِأَنَّهُ أصَاب آدَمِيًّا مُحْتَرما فَأَما الْعمد فَهُوَ مَحْظُور مَحْض فَلَا يصلح سَببا لِلْكَفَّارَةِ وَكَذَلِكَ المعقودة على أَمر فِي الْمُسْتَقْبل فِيهَا تردد فَإِن تَعْظِيم الْمقسم بِهِ فِي الِابْتِدَاء وَذَلِكَ مَنْدُوب إِلَيْهِ وَلِهَذَا شرعت فِي بيعَة نصْرَة الْحق وفيهَا معنى الْحَظْر أَيْضا قَالَ تَعَالَى {وَلَا تجْعَلُوا الله عرضة لأيمانكم} وَقَالَ تَعَالَى {واحفظوا أَيْمَانكُم} وَالْمرَاد الْحِفْظ بالامتناع عَن الْيَمين فلكونها دَائِرَة بَين الْحَظْر وَالْإِبَاحَة تصلح سَببا لِلْكَفَّارَةِ فَأَما الْغمُوس مَحْظُور مَحْض لِأَن الْكَذِب بِدُونِ الاستشهاد بِاللَّه تَعَالَى حرَام لَيْسَ فِيهِ شُبْهَة الْإِبَاحَة فَمَعَ الاستشهاد بِاللَّه تَعَالَى أولى فَكَانَ الْغمُوس بِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى كَالزِّنَا وَالرِّدَّة فَلَا يصلح سَببا لوُجُوب الْكَفَّارَة وَلَا يدْخل عَلَيْهِ الْقَتْل بالمثقل على قَول أبي حنيفَة فَإِنَّهُ مُوجب لكفارة وَإِن كَانَ مَحْظُورًا مَحْضا لِأَن المثقل لَيْسَ بِآلَة للْقَتْل بِأَصْل الْخلقَة وَإِنَّمَا هُوَ آلَة للتأديب أَلا ترى أَن إجراءه للتأديب بِهِ وَالْمحل قَابل للتأديب مُبَاح فلتمكن الشُّبْهَة من حَيْثُ الْآلَة يصير الْفِعْل فِي معنى الدائر وَلِهَذَا لم يَجعله مُوجبا للعقوبة فَجعله مُوجبا لِلْكَفَّارَةِ وَلَا يدْخل على هَذَا قتل الْحَرْبِيّ الْمُسْتَأْمن (عمدا) فَإِنَّهُ غير مُوجب لِلْكَفَّارَةِ وَإِن لم تمكن فِيهِ شُبْهَة حَتَّى لم يكن مُوجبا للْقصَاص لِأَن امْتنَاع وجوب الْقصاص هُنَاكَ لِانْعِدَامِ الْمُمَاثلَة بَين المحلين لَا لشُبْهَة وَلِهَذَا يجب الْقصاص على الْمُسْتَأْمن بقتل الْمُسْتَأْمن نَص عَلَيْهِ فِي السّير الْكَبِير وَإِن كَانَ امْتنَاع وجوب الْقصاص لأجل الشُّبْهَة فَتلك الشُّبْهَة فِي الْمحل لَا فِي الْفِعْل وَفِي الْقصاص مُقَابلَة الْمحل بِالْمحل وَلِهَذَا لَا تجب الدِّيَة مَعَ وجوب الْقصاص فَأَما الْكَفَّارَة جَزَاء الْفِعْل وَلَا شُبْهَة فِي الْفِعْل هُنَاكَ بل هُوَ مَحْظُور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 مَحْض فَلم يكن مُوجبا لِلْكَفَّارَةِ فَأَما فِي المثقل الشُّبْهَة فِي الْفِعْل بِاعْتِبَار أَن الْآلَة لَيست بِآلَة الْقَتْل وَالْفِعْل لَا يَتَأَتَّى بِدُونِ الْآلَة فاعتبرنا هَذِه الشُّبْهَة فِي الْقصاص وَالْكَفَّارَة جَمِيعًا وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله أَيْضا يجب سُجُود السَّهْو على من زَاد أَو نقص فِي صلَاته عمدا لِأَن وجوب السُّجُود عَلَيْهِ عِنْد السَّهْو بِاعْتِبَار تمكن النُّقْصَان فِي صلَاته وَذَلِكَ مَوْجُود فِي الْعمد وَزِيَادَة فَيثبت الحكم فِيهِ بِدلَالَة النَّص وَقُلْنَا هَذَا الِاسْتِدْلَال فَاسد لِأَن السَّبَب الْمُوجب بِالنَّصِّ شرعا هُوَ السَّهْو على مَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لكل سَهْو سَجْدَتَانِ بعد السَّلَام والسهو يَنْعَدِم إِذا كَانَ عَامِدًا فَهَذَا هُوَ الْمِثَال فِي بَيَان الثَّابِت بِدلَالَة النَّص وَالنَّوْع الرَّابِع وَهُوَ الْمُقْتَضى وَهُوَ عبارَة عَن زِيَادَة على الْمَنْصُوص عَلَيْهِ يشْتَرط تَقْدِيمه ليصير المنظوم مُفِيدا أَو مُوجبا للْحكم وبدونه لَا يُمكن إِعْمَال المنظوم فَكَانَ الْمُقْتَضى مَعَ الحكم مضافين إِلَى النَّص ثابتين بِهِ الحكم بِوَاسِطَة الْمُقْتَضى بِمَنْزِلَة شِرَاء الْقَرِيب يثبت بِهِ الْملك وَالْعِتْق على أَن يَكُونَا مضافين إِلَى الشِّرَاء الْعتْق بِوَاسِطَة الْملك فَعرفنَا أَن الثَّابِت بطرِيق الِاقْتِضَاء بِمَنْزِلَة الثَّابِت بِدلَالَة النَّص لَا بِمَنْزِلَة الثَّابِت بطرِيق الْقيَاس إِلَّا أَن عِنْد الْمُعَارضَة الثَّابِت بِدلَالَة النَّص أقوى لِأَن النَّص يُوجِبهُ بِاعْتِبَار الْمَعْنى لُغَة والمقتضى لَيْسَ من موجباته لُغَة وَإِنَّمَا ثَبت شرعا للْحَاجة إِلَى إِثْبَات الحكم بِهِ وَلَا عُمُوم للمقتضى عندنَا وَقَالَ الشَّافِعِي للمقتضى عُمُوم لِأَن الْمُقْتَضى بِمَنْزِلَة الْمَنْصُوص فِي ثُبُوت الحكم بِهِ حَتَّى كَانَ الحكم الثَّابِت بِهِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ فَكَذَلِك فِي إِثْبَات صفة الْعُمُوم فِيهِ فَيجْعَل كالمنصوص وَلَكنَّا نقُول ثُبُوت الْمُقْتَضى للْحَاجة والضرورة حَتَّى إِذا كَانَ الْمَنْصُوص مُفِيدا للْحكم بِدُونِ الْمُقْتَضى لَا يثبت الْمُقْتَضى لُغَة وَلَا شرعا وَالثَّابِت بِالْحَاجةِ يتَقَدَّر بِقَدرِهَا وَلَا حَاجَة إِلَى إِثْبَات صفة الْعُمُوم للمقتضى فَإِن الْكَلَام مُفِيد بِدُونِهِ وَهُوَ نَظِير تنَاول الْميتَة لما أُبِيح للْحَاجة تتقدر بِقَدرِهَا وَهُوَ سد الرمق وَفِيمَا وَرَاء ذَلِك من الْحمل والتمول والتناول إِلَى الشِّبَع لَا يثبت حكم الْإِبَاحَة فِيهِ بِخِلَاف الْمَنْصُوص فَإِنَّهُ عَامل بِنَفسِهِ فَيكون بِمَنْزِلَة حل الذكية يظْهر فِي حكم التَّنَاوُل وَغَيره مُطلقًا يُوضحهُ أَن الْمُقْتَضى تبع للمقتضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 فَإِنَّهُ شَرطه ليَكُون مُفِيدا وَشرط الشَّيْء يكون تبعه وَلِهَذَا يكون ثُبُوته بشرائط الْمَنْصُوص فَلَو جعل هُوَ كالمنصوص خرج من أَن يكون تبعا والعموم حكم صِيغَة النَّص خَاصَّة فَلَا يجوز إثْبَاته فِي الْمُقْتَضى وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا إِذا قَالَ لغيره أعتق عَبدك عني على ألف دِرْهَم فَأعْتقهُ وَقع الْعتْق عَن الْآمِر وَعَلِيهِ الْألف لِأَن الْأَمر بِالْإِعْتَاقِ عَنهُ يَقْتَضِي تمْلِيك الْعين مِنْهُ بِالْبيعِ ليتَحَقَّق الْإِعْتَاق عَنهُ وَهَذَا الْمُقْتَضى يثبت مُتَقَدما وَيكون بِمَنْزِلَة الشَّرْط لِأَنَّهُ وصف فِي الْمحل وَالْمحل للتَّصَرُّف كالشرط فَكَذَا مَا يكون وَصفا للمحل وَإِنَّمَا يثبت بِشَرْط الْعتْق لَا بِشَرْط البيع مَقْصُودا حَتَّى يسْقط اعْتِبَار الْقبُول فِيهِ وَلَو كَانَ الْآمِر مِمَّن لَا يملك الْإِعْتَاق لم يثبت البيع بِهَذَا الْكَلَام وَلَو صرح الْمَأْمُور بِالْبيعِ بِأَن قَالَ بِعته مِنْك بِأَلف دِرْهَم وأعتقته لم يجز عَن الْآمِر وَبِهَذَا تبين أَن الْمُقْتَضى لَيْسَ كالمنصوص عَلَيْهِ فِيمَا وَرَاء مَوضِع الْحَاجة وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف إِذا قَالَ أعتق عَبدك عني بِغَيْر شَيْء فَأعْتقهُ يَقع الْعتْق عَن الْآمِر لِأَن الْملك بطرِيق الْهِبَة يثبت هُنَا بِمُقْتَضى الْعتْق فَيثبت على شَرَائِط الْعتْق وَيسْقط اعْتِبَار شَرطه مَقْصُودا وَهُوَ الْقَبْض كَمَا يسْقط اعْتِبَار الْقبُول فِي البيع بل أولى لِأَن الْقبُول ركن فِي البيع وَالْقَبْض شَرط فِي الْهِبَة فَلَمَّا سقط اعْتِبَار مَا هُوَ الرُّكْن لكَونه ثَابتا بِمُقْتَضى الْعتْق فَلِأَن يسْقط اعْتِبَار مَا هُوَ شَرط أولى وَلِهَذَا لَو قَالَ أعتق عَبدك عني على ألف (دِرْهَم) ورطل من خمر يَقع الْعتْق عَن الْآمِر وَلَو أكره الْمَأْمُور على أَن يعْتق عَبده عَنهُ بِأَلف دِرْهَم يَقع الْعتْق عَن الْآمِر وَبيع الْمُكْره فَاسد وَالْقَبْض شَرط لوُقُوع الْملك فِي البيع الْفَاسِد ثمَّ سقط اعْتِبَاره إِذا كَانَ بِمُقْتَضى الْعتْق وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله قَالَا الْمُقْتَضى تبع للمقتضي وَالْقَبْض فعل لَيْسَ من جنس القَوْل وَلَا هُوَ دونه حَتَّى يُمكن إثْبَاته تبعا لَهُ وَبِدُون الْقَبْض الْملك لَا يحصل بِالْهبةِ فَلَا يُمكن تَنْفِيذ الْعتْق عَن الْآمِر وَلَا وَجه لجعل العَبْد قَابِضا نَفسه للْآمِر لِأَنَّهُ لَا يسلم لَهُ بِالْعِتْقِ شَيْء من ملك الْمولى وَإِنَّمَا يبطل ملك الْمولى ويتلاشى بِالْإِعْتَاقِ وَلَا وَجه لإِسْقَاط الْقَبْض هُنَا بطرِيق الِاقْتِضَاء لِأَن الْعَمَل بالمقتضى شَرْعِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 فَإِنَّمَا يعْمل فِي إِسْقَاط مَا يحْتَمل السُّقُوط دون مَا لَا يحْتَمل وَشرط الْقَبْض لوُقُوع الْملك فِي الْهِبَة لَا يحْتَمل السُّقُوط بِحَال بِخِلَاف الْقبُول فِي البيع فقد يحْتَمل السُّقُوط أَلا ترى أَن الْإِيجَاب وَالْقَبُول جَمِيعًا يحْتَمل السُّقُوط حَتَّى ينْعَقد البيع بالتعاطي من غير قَول فَلِأَن يحْتَمل مُجَرّد الْقبُول السُّقُوط كَانَ أولى وَلَو قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا الثَّوْب بِعشْرَة فاقطعه فَقَطعه وَلم يقل شَيْئا كَانَ البيع بَينهمَا تَاما وَالْفَاسِد من البيع مُعْتَبر بالجائز فِي الحكم لِأَن الْفَاسِد لَا يُمكن أَن يَجْعَل أصلا يتعرف حكمه من نَفسه وَإِذا كَانَ مَا ثَبت الْملك بِهِ فِي البيع الْجَائِز يحْتَمل السُّقُوط إِذا كَانَ ضمنا لِلْعِتْقِ فَكَذَلِك مَا يثبت بِهِ الْملك فِي البيع الْفَاسِد وَبَيَان مَا ذكرنَا من الْخلاف بَيْننَا وَبَين الشَّافِعِي فِيمَا إِذا قَالَ إِن أكلت فَعَبْدي حر وَنوى طَعَاما دون طَعَام عِنْده تعْمل نِيَّته لِأَن الْأكل يَقْتَضِي مَأْكُولا وَذَلِكَ كالمنصوص عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ إِن أكلت طَعَاما وَلما كَانَ للمقتضي عُمُوم على قَوْله عمل فِيهِ نِيَّته التَّخْصِيص وَعِنْدنَا لَا تعْمل لِأَنَّهُ لَا عُمُوم للمقتضى وَنِيَّة التَّخْصِيص فِيمَا لَا عُمُوم لَهُ لَغْو بِخِلَاف مَا لَو قَالَ إِن أكلت طَعَاما وعَلى هَذَا لَو قَالَ إِن شربت أَو قَالَ إِن لبست أَو قَالَ إِن ركبت وعَلى هَذَا قُلْنَا لَو قَالَ إِن اغْتَسَلت اللَّيْلَة وَنوى الِاغْتِسَال من الْجَنَابَة لم تعْمل نِيَّته بِخِلَاف مَا لَو قَالَ إِن اغْتَسَلت غسلا فَإِن هُنَاكَ نِيَّته تعْمل فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ لَو قَالَ إِن اغْتسل اللَّيْلَة فِي هَذِه الدَّار وَقَالَ عنيت فلَانا لم تعْمل نِيَّته لِأَن الْفَاعِل لَيْسَ فِي لَفظه وَإِنَّمَا يثبت بطرِيق الِاقْتِضَاء بِخِلَاف مَا لَو قَالَ إِن اغْتسل أحد فِي هَذِه الدَّار اللَّيْلَة وعَلى هَذَا لَو قَالَ لامْرَأَته اعْتدي وَنوى الطَّلَاق فَإِن وُقُوع الطَّلَاق بطرِيق الِاقْتِضَاء لِأَنَّهَا لَا تَعْتَد قبل تقدم الطَّلَاق فَيصير كَأَنَّهُ قَالَ طَلقتك فاعتدي وَلَكِن ثُبُوته بطرِيق الِاقْتِضَاء وَلِهَذَا كَانَ الْوَاقِع رَجْعِيًا وَلَا تعْمل نِيَّته الثَّلَاث فِيهِ وَبعد الْبَيْنُونَة والشروع فِي الْعدة يَقع الطَّلَاق بِهَذَا اللَّفْظ وَرُبمَا يسْتَدلّ الشَّافِعِي رَحمَه الله بِهَذَا فِي أَن الْمُقْتَضى كالمنصوص عَلَيْهِ وَهُوَ خَارج على مَا ذكرنَا فَإنَّا نجعله كالمنصوص عَلَيْهِ بِقدر الْحَاجة وَهُوَ أَن يصير الْمَنْصُوص مُفِيدا مُوجبا للْحكم فَأَما فِيمَا وَرَاء ذَلِك فَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَقد رَأَيْت لبَعض من صنف فِي هَذَا الْبَاب أَنه ألحق الْمَحْذُوف بالمقتضى وَسوى بَينهمَا فَخرج على هَذَا الأَصْل قَوْله تَعَالَى {واسأل الْقرْيَة} وَقَالَ المُرَاد الْأَهْل يثبت ذَلِك بِمُقْتَضى الْكَلَام لِأَن السُّؤَال للتبيين فَإِنَّمَا ينْصَرف إِلَى من يتَحَقَّق مِنْهُ الْبَيَان ليَكُون مُفِيدا دون من لَا يتَحَقَّق مِنْهُ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ وَلم يرد بِهِ الْعين لِأَنَّهُ يتَحَقَّق مَعَ هَذِه الْأَعْذَار فَلَو حمل عَلَيْهِ كَانَ كذبا وَلَا إِشْكَال أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَعْصُوما عَن ذَلِك فَعرفنَا بِمُقْتَضى الْكَلَام أَن المُرَاد الحكم ثمَّ حمله الشَّافِعِي على الحكم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة قولا بِالْعُمُومِ فِي الْمُقْتَضى وَجعل ذَلِك كالمنصوص عَلَيْهِ وَلَو قَالَ رفع عَن أمتِي حكم الْخَطَأ كَانَ ذَلِك عَاما وَلِهَذَا الأَصْل قَالَ لَا يَقع طَلَاق الخاطىء وَالْمكْره وَلَا يفْسد الصَّوْم بِالْأَكْلِ مكْرها وَقُلْنَا لَا عُمُوم للمقتضي وَحكم الْآخِرَة وَهُوَ الْإِثْم مُرَاد بِالْإِجْمَاع وَبِه ترْتَفع الْحَاجة وَيصير الْكَلَام مُفِيدا فَيبقى مُعْتَبرا فِي حكم الدُّنْيَا كَذَلِك قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ لَيْسَ المُرَاد عين الْعَمَل فَإِن ذَلِك مُتَحَقق بِدُونِ النِّيَّة وَإِنَّمَا المُرَاد الحكم ثَبت ذَلِك بِمُقْتَضى الْكَلَام فَقَالَ الشَّافِعِي يعم ذَلِك حكم الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فِيمَا يَسْتَدْعِي الْقَصْد والعزيمة من الْأَعْمَال قولا بِعُمُوم الْمُقْتَضى وَقُلْنَا المُرَاد حكم الْآخِرَة وَهُوَ أَن ثَوَاب الْعَمَل بِحَسب النِّيَّة لِأَن ثُبُوته بطرِيق الِاقْتِضَاء وَلَا عُمُوم للمقتضى وَعِنْدِي أَن هَذَا سَهْو من قَائِله فَإِن الْمَحْذُوف غير الْمُقْتَضى لِأَن من عَادَة أهل اللِّسَان حذف بعض الْكَلَام للاختصار إِذا كَانَ فِيمَا بَقِي مِنْهُ دَلِيل على الْمَحْذُوف ثمَّ ثُبُوت هَذَا الْمَحْذُوف من هَذَا الْوَجْه يكون لُغَة وَثُبُوت الْمُقْتَضى يكون شرعا لَا لُغَة وعلامة الْفرق بَينهمَا أَن الْمُقْتَضى تبع يَصح بِاعْتِبَارِهِ الْمُقْتَضِي إِذا صَار كالمصرح بِهِ والمحذوف لَيْسَ بتبع بل عِنْد التَّصْرِيح بِهِ ينْتَقل الحكم إِلَيْهِ لَا أَن يثبت مَا هُوَ الْمَنْصُوص وَلَا شكّ أَن مَا ينْقل غير مَا يصحح الْمَنْصُوص وَبَيَان هَذَا أَن فِي قَوْله أعتق عَبدك عني محذوفا وَيثبت التَّمْلِيك بطرِيق الِاقْتِضَاء ليَصِح الْمَنْصُوص وَفِي قَوْله {واسأل الْقرْيَة} الْأَهْل مَحْذُوف للاختصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 فَإِن فِيمَا بَقِي من الْكَلَام دَلِيل عَلَيْهِ وَعند التَّصْرِيح بِهَذَا الْمَحْذُوف يتَحَوَّل السُّؤَال عَن الْقرْيَة إِلَى الْأَهْل لَا أَن يتَحَقَّق بِهِ الْمَنْصُوص وَكَذَلِكَ فِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام رفع عَن أمتِي الْخَطَأ فَإِن عِنْد التَّصْرِيح بالحكم يتَحَوَّل الرّفْع إِلَى الحكم لَا إِلَى مَا وَقع التَّنْصِيص عَلَيْهِ مَعَ الْمَحْذُوف وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لم يثبت الْعُمُوم هُنَا لِأَن الْمَحْذُوف بِمَنْزِلَة الْمُشْتَرك فِي أَنه يحْتَمل كل وَاحِد من الْأَمريْنِ على الِانْفِرَاد وَلَا عُمُوم للمشترك فَأَما أَن يَجْعَل الْمَحْذُوف ثَابتا بِمُقْتَضى الْكَلَام فَلَا ويتبين من هَذَا أَن مَا كَانَ محذوفا لَيْسَ بطرِيق الِاقْتِضَاء فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَة الثَّابِت لُغَة فَإِن كَانَ بِحَيْثُ يحْتَمل الْعُمُوم يثبت فِيهِ صفة الْعُمُوم وعَلى هَذَا مَا إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق أَو طَلقتك وَنوى ثَلَاثًا فَإِن على قَول الشَّافِعِي تعْمل نِيَّته لِأَن قَوْله طَالِق يَقْتَضِي طَلَاقا وَذَلِكَ كالمنصوص عَلَيْهِ فتعمل نِيَّته الثَّلَاث فِيهِ قولا بِالْعُمُومِ فِي الْمُقْتَضى وَقُلْنَا نَحن إِن قَوْله طَالِق نعت فَرد ونعت الْفَرد لَا يحْتَمل الْعدَد وَالنِّيَّة إِنَّمَا تعْمل إِذا كَانَ الْمَنوِي من محتملات اللَّفْظ وَلَا يُمكن إِعْمَال نِيَّة الْعدَد بِاعْتِبَار الْمُقْتَضى لِأَنَّهُ لَا عُمُوم للمقتضي وَلِأَن الْمُقْتَضى لَا يَجْعَل كالمصرح بِهِ فِي أصل الطَّلَاق فَكيف يَجْعَل كالمصرح بِهِ فِي عدد الطَّلَاق وَبَيَانه أَنه إِذا قَالَ لامْرَأَته زوري أَبَاك أَو حجي وَنوى بِهِ الطَّلَاق لم تعْمل نِيَّته وَمَعْلُوم أَن مَا صرح بِهِ يَقْتَضِي ذَهَابًا لَا محَالة ثمَّ لم يَجْعَل بِمَنْزِلَة قَوْله اذهبي حَتَّى تعْمل نِيَّته الطَّلَاق فِيهِ يقرره أَن قَوْله طَالِق نعت للْمَرْأَة فَإِنَّمَا يعْتَبر فِيهِ من الْمُقْتَضى مَا يكون قَائِما بالموصوف وَالطَّلَاق من هَذَا اللَّفْظ مُقْتَضى هُوَ ثَابت بالواصف شرعا فَإِنَّهُ لَا يكون صَادِقا فِي هَذَا الْوَصْف بِدُونِ طَلَاق يَقع عَلَيْهَا فَيجْعَل موقعا ليتَحَقَّق هَذَا الْوَصْف مِنْهُ صدقا وَمثل هَذَا الْمُقْتَضى لَا يكون كالمصرح بِهِ شرعا بِمَنْزِلَة الْحَال الَّذِي هُوَ قَائِم بالمخاطب وَهُوَ بعده عَن مَوضِع الْحَج وَعَن الزِّيَارَة فَإِن اقْتِضَاء الذّهاب لما كَانَ لذَلِك الْمَعْنى لَا لما هُوَ قَائِم بالمنصوص لَا يَجْعَل كالمصرح بِهِ بِخِلَاف قَوْله أَنْت بَائِن فَإِن ذَلِك نعت فَرد نصا حَتَّى لَا يسع نِيَّة الْعدَد فِيهِ لَو نوى اثْنَتَيْنِ وَلَكِن الْبَيْنُونَة تتصل بِالْمحل فِي الْحَال وَهِي نَوْعَانِ قَاطِعَة للْملك وقاطعة للْحلّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 الَّذِي هُوَ وصف الْمحل فنية الثَّلَاث إِنَّمَا تميز أحد نَوْعي مَا تنَاوله نَص كَلَامه فَأَما الطَّلَاق لَا يتَّصل بِالْمحل مُوجبا حكمه فِي الْحَال بل حكم انْقِطَاع الْملك بِهِ يتَأَخَّر إِلَى انْقِضَاء الْعدة وَحكم انْقِطَاع الْحل بِهِ يتَأَخَّر إِلَى تَمام الْعدة وَإِنَّمَا يُوصف الْمحل للْحَال بِهِ لانعقاد الْعلَّة (فِيهِ) مُوجبا للْحكم فِي أَوَانه وانعقاد الْعلَّة لَا يتنوع فَلم يكن الْمَنوِي من محتملات لَفظه أصلا وعَلى هَذَا قَوْله طَلقتك فَإِن صِيغَة الْخَبَر عَن فعل مَاض بِمَنْزِلَة قَوْله ضربتك فالمصدر الْقَائِم بِهَذِهِ الصِّيغَة يكون مَاضِيا أَيْضا فَلَا يسع فِيهِ معنى الْعُمُوم بِوَجْه بِخِلَاف قَوْله طَلِّقِي نَفسك فَإِن صيغته أَمر بِفعل فِي الْمُسْتَقْبل لطلب ذَلِك الْفِعْل مِنْهَا فالمصدر الْقَائِم بِهَذِهِ الصِّيغَة يكون مُسْتَقْبلا أَيْضا وَذَلِكَ الطَّلَاق فَيكون بِمَنْزِلَة غَيره من أَسمَاء الْأَجْنَاس فِي احْتِمَال الْعُمُوم وَالْخُصُوص فبدون النِّيَّة يثبت بِهِ أخص الْخُصُوص على احْتِمَال الْكل فَإِذا نوى الثَّلَاث عملت نِيَّته لِأَنَّهُ من محتملات كَلَامه وَإِذا نوى اثْنَتَيْنِ لم تعْمل لِأَنَّهُ لَا احْتِمَال للعدد فِي صِيغَة كَلَامه وعَلى هَذَا لَو قَالَ إِن خرجت وَنوى الْخُرُوج إِلَى مَكَان بِعَيْنِه لم تعْمل نِيَّته وَلَو نوى السّفر تعْمل نِيَّته لِأَن السّفر نوع من أَنْوَاع الْخُرُوج وَهُوَ ثَابت بِاعْتِبَار صِيغَة كَلَامه أَلا ترى أَن الْخُرُوج لغير السّفر بِخِلَاف الْخُرُوج للسَّفر فِي الحكم فَأَما الْمَكَان فَلَيْسَ من صِيغَة كَلَامه فِي شَيْء وَإِن كَانَ الْخُرُوج يكون إِلَى مَكَان لَا محَالة فَلم تعْمل نِيَّة التَّخْصِيص فِيهِ لما لم يكن من مُقْتَضى صِيغَة الْكَلَام بِخِلَاف الأول وَكَذَلِكَ لَو قَالَ إِن ساكنت فلَانا وَنوى المساكنة فِي مَكَان بِعَيْنِه لم تعْمل نِيَّته أصلا وَلَو نوى المساكنة فِي بَيت وَاحِد تعْمل نِيَّته بِاعْتِبَار أَنه نوى أتم مَا يكون من المساكنة فَإِن أَعم مَا يكون من المساكنة فِي بَلْدَة وَالْمُطلق من المساكنة فِي عرف النَّاس فِي دَار وَاحِدَة وَأتم مَا يكون من المساكنة فِي بَيت وَاحِد فَهَذِهِ النِّيَّة ترجع إِلَى بَيَان نوع المساكنة الثَّابِتَة بِصِيغَة كَلَامه بِخِلَاف تعين الْمَكَان فَإِن قيل أَلَيْسَ أَنه لَو قَالَ لولد لَهُ أم مَعْرُوفَة وَهُوَ فِي يَده هَذَا ابْني ثمَّ جَاءَت أمه بعد موت الْمُدَّعِي فصدقته وَادعت مِيرَاثهَا مِنْهُ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّهُ يقْضى لَهَا بِالْمِيرَاثِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وَمَعْلُوم أَن النِّكَاح بَينهمَا بِمُقْتَضى دَعْوَى النّسَب ثمَّ يَجْعَل كالتصريح بِهِ حَتَّى يثبت النِّكَاح صَحِيحا وَيجْعَل قَائِما إِلَى موت الزَّوْج فَيكون لَهَا الْمِيرَاث فَلَو كَانَ ثُبُوت الْمُقْتَضى بِاعْتِبَار الْحَاجة فَقَط لما ثبتَتْ هَذِه الْأَحْكَام لِانْعِدَامِ الْحَاجة فِيهَا قُلْنَا ثُبُوت النِّكَاح هُنَا بِدلَالَة النَّص لَا بِمُقْتَضَاهُ فَإِن الْوَلَد اسْم مُشْتَرك إِذْ لَا يتَصَوَّر ولد فِينَا إِلَّا بوالد ووالدة فالتنصيص على الْوَلَد يكون تنصيصا على الْوَالِد والوالدة دلَالَة بِمَنْزِلَة التَّنْصِيص على الْأَخ يكون كالتنصيص على أَخِيه إِذْ الْأُخوة لَا تتَصَوَّر إِلَّا بَين شَخْصَيْنِ وَقد بَينا أَن الثَّابِت بِدلَالَة النَّص يكون ثَابتا بِمَعْنى النَّص لُغَة لَا أَن يكون ثَابتا بطرِيق الِاقْتِضَاء مَعَ أَن اقْتِضَاء النِّكَاح هُنَا كاقتضاء الْملك فِي قَوْله أعتق عَبدك عني على ألف (دِرْهَم) وَبَعْدَمَا ثَبت العقد بطرِيق الِاقْتِضَاء يكون بَاقِيا لَا بِاعْتِبَار دَلِيل يبْقى بل لِانْعِدَامِ دَلِيل المزيل فَعرفنَا أَنه منته بَينهمَا بالوفاة وانتهاء النِّكَاح بِالْمَوْتِ سَبَب لاسْتِحْقَاق الْمِيرَاث وَبَعْدَمَا بَينا هَذِه الْحُدُود نقُول الثَّابِت بِمُقْتَضى النَّص لَا يحْتَمل التَّخْصِيص لِأَنَّهُ لَا عُمُوم لَهُ والتخصيص فِيمَا فِيهِ احْتِمَال الْعُمُوم وَالثَّابِت بِدلَالَة النَّص لَا يحْتَمل التَّخْصِيص أَيْضا لِأَن التَّخْصِيص بَيَان أَن أصل الْكَلَام غير متناول لَهُ وَقد بَينا أَن الحكم الثَّابِت بِالدّلَالَةِ ثَابت بِمَعْنى النَّص لُغَة وَبَعْدَمَا كَانَ معنى النَّص متناولا لَهُ لُغَة لَا يبْقى احْتِمَال كَونه غير متناول لَهُ وَإِنَّمَا يحْتَمل إِخْرَاجه من أَن يكون موبجا للْحكم فِيهِ بِدَلِيل يعْتَرض وَذَلِكَ يكون نسخا لَا تَخْصِيصًا وَأما الثَّابِت بِإِشَارَة النَّص فَعِنْدَ بعض مَشَايِخنَا رَحِمهم الله لَا يحْتَمل الْخُصُوص أَيْضا لِأَن معنى الْعُمُوم فِيمَا يكون سِيَاق الْكَلَام لأَجله فَأَما مَا تقع الْإِشَارَة إِلَيْهِ من غير أَن يكون سِيَاق الْكَلَام لَهُ فَهُوَ زِيَادَة على الْمَطْلُوب بِالنَّصِّ وَمثل هَذَا لَا يسع فِيهِ معنى الْعُمُوم حَتَّى يكون مُحْتملا للتخصيص قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَنه يحْتَمل ذَلِك لِأَن الثَّابِت بِالْإِشَارَةِ كَالثَّابِتِ بالعبارة من حَيْثُ إِنَّه ثَابت بِصِيغَة الْكَلَام والعموم بِاعْتِبَار الصِّيغَة فَكَمَا أَن الثَّابِت بِعِبَارَة النَّص يحْتَمل التَّخْصِيص فَكَذَلِك الثَّابِت بإشارته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 فصل وَقد عمل قوم فِي النُّصُوص بِوُجُوه هِيَ فَاسِدَة عندنَا فَمِنْهَا مَا قَالَ بَعضهم إِن التَّنْصِيص على الشَّيْء باسم الْعلم يُوجب التَّخْصِيص وَقطع الشّركَة بَين الْمَنْصُوص وَغَيره من جنسه فِي الحكم لِأَنَّهُ لَو لم يُوجب ذَلِك لم يظْهر للتخصيص فَائِدَة وحاشا أَن يكون شَيْء من كَلَام صَاحب الشَّرْع غير مُفِيد وأيد هَذَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَاء من المَاء فالأنصار فَهموا التَّخْصِيص من ذَلِك حَتَّى استدلوا بِهِ على نفي وجوب الِاغْتِسَال بالإكسال وهم كَانُوا أهل اللِّسَان وَهَذَا فَاسد عندنَا بِالْكتاب وَالسّنة فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {مِنْهَا أَرْبَعَة حرم ذَلِك الدّين الْقيم فَلَا تظلموا فِيهِنَّ أَنفسكُم} وَلَا يدل ذَلِك على إِبَاحَة الظُّلم فِي غير الْأَشْهر الْحرم وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا إِلَّا أَن يَشَاء الله} ثمَّ لَا يدل ذَلِك على تَخْصِيص الِاسْتِثْنَاء بالغد دون غَيره من الْأَوْقَات فِي الْمُسْتَقْبل وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم وَلَا يغتسلن فِيهِ من الْجَنَابَة ثمَّ لَا يدل ذَلِك على التَّخْصِيص بالجنابة دون غَيرهَا من أَسبَاب الِاغْتِسَال والأمثلة لهَذَا تكْثر ثمَّ إِن عنوا بقَوْلهمْ إِن التَّخْصِيص يدل على قطع الْمُشَاركَة وَهُوَ أَن الحكم يثبت بِالنَّصِّ فِي الْمَنْصُوص خَاصَّة فأحد لَا يخالفهم فِي هَذَا فَإِن عندنَا فِيمَا هُوَ من جنس الْمَنْصُوص الحكم يثبت بعلة النَّص لَا بِعَيْنِه وَإِن عنوا أَن هَذَا التَّخْصِيص يُوجب نفي الحكم فِي غير الْمَنْصُوص فَهُوَ بَاطِل لِأَنَّهُ غير متناول لَهُ أصلا فَكيف يُوجب نفيا أَو إِثْبَاتًا للْحكم فِيمَا لم يتَنَاوَلهُ ثمَّ سِيَاق النَّص لإِيجَاب الحكم وَنفي الحكم ضِدّه فَلَا يجوز أَن يكون من وَاجِبَات نَص الْإِيجَاب وَلِأَن الْمَذْهَب عِنْد فُقَهَاء الْأَمْصَار جَوَاز تَعْلِيل النُّصُوص لتعدية الحكم بهَا إِلَى الْفُرُوع فَلَو كَانَ التَّخْصِيص مُوجبا نفي الحكم فِي غير الْمَنْصُوص لَكَانَ التَّعْلِيل بَاطِلا لِأَنَّهُ يكون ذَلِك قِيَاسا فِي مُقَابلَة النَّص وَمن لَا يجوز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 الْعَمَل بِالْقِيَاسِ فَإِنَّمَا لَا يجوزه لاحْتِمَال فِيهِ بَين أَن يكون صَوَابا أَو خطأ لَا لنَصّ يمْنَع مِنْهُ بِمَنْزِلَة الْعَمَل بِخَبَر الْفَاسِق فَإِنَّهُ لَا يعْمل بِخَبَرِهِ لضعف فِي سَنَده لَا لنَصّ فِي خَبره مَانع من الْعَمَل بِهِ وَالْأَنْصَار إِنَّمَا استدلوا بلام التَّعْرِيف الَّتِي هِيَ مستغرقة للْجِنْس أَو الْمَعْهُود فِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام المَاء من المَاء وَنحن نقُول بِهِ فِي الحكم الثَّابِت لعين المَاء وَفَائِدَة التَّخْصِيص عندنَا أَن يتَأَمَّل المستنبطون فِي عِلّة النَّص فيثبتون الحكم بهَا فِي غير الْمَنْصُوص عَلَيْهِ من الْمَوَاضِع لينالوا بِهِ دَرَجَة المستنبطين وثوابهم وَهَذَا لَا يحصل إِذا ورد النَّص عَاما متناولا للْجِنْس ويحكى عَن الثَّلْجِي رَحمَه الله أَنه كَانَ يَقُول هَذَا إِذا لم يكن الْمَنْصُوص عَلَيْهِ باسم الْعلم محصورا بِعَدَد نصا نَحْو خبر الرِّبَا فَإِن كَانَ محصورا بِعَدَد فَذَلِك يدل على نفي الحكم فِيمَا سواهَا لِأَن فِي إِثْبَات الحكم فِيمَا سواهَا إبِْطَال الْعدَد الْمَنْصُوص وَذَلِكَ لَا يجوز فبهذه الْوَاسِطَة يكون مُوجبا للنَّفْي وَاسْتدلَّ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خمس فواسق يقتلن فِي الْحل وَالْحرم وَبِقَوْلِهِ أحلّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ فَإِن ذَلِك يدل على نفي الحكم فِيمَا عدا الْمَذْكُور وَالصَّحِيح أَن التَّنْصِيص لَا يدل على ذَلِك فِي شَيْء من الْمَوَاضِع لما بَينا من الْمعَانِي ثمَّ ذكر الْعدَد لبَيَان الحكم بِالنَّصِّ ثَابت فِي الْعدَد الْمَذْكُور فَقَط وَقد بَينا أَن فِي غير الْمَذْكُور إِنَّمَا يثبت الحكم بعلة النَّص لَا بِالنَّصِّ فَلَا يُوجب ذَلِك إبِْطَال الْعدَد الْمَنْصُوص وَمِنْهَا مَا قَالَه الشَّافِعِي رَحمَه الله إِن التَّنْصِيص على وصف فِي الْمُسَمّى لإِيجَاب الحكم يُوجب نفي ذَلِك الحكم عِنْد عدم ذَلِك الْوَصْف بِمَنْزِلَة مَا لَو نَص على نفي الحكم عِنْد عدم الْوَصْف وَعِنْدنَا النَّص مُوجب للْحكم عِنْد وجود ذَلِك الْوَصْف وَلَا يُوجب نفي ذَلِك الحكم عِنْد انعدامه أصلا وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {من فَتَيَاتكُم الْمُؤْمِنَات} فَإِن عِنْده إِبَاحَة نِكَاح الْأمة (لما كَانَ مُقَيّدا بِصفة الْإِيمَان بِالنَّصِّ أوجب النَّفْي بِدُونِ هَذَا الْوَصْف فَلَا يجوز نِكَاح الْأمة الْكِتَابِيَّة وَعِنْدنَا لَا يُوجب ذَلِك وَلِهَذَا جَوَّزنَا نِكَاح الْأمة) الْكِتَابِيَّة وَقَالَ تَعَالَى {من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن} فَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله لما ورد حُرْمَة الربيبة بِسَبَب الدُّخُول بِامْرَأَة مُقَيّدَة بِوَصْف وَهِي أَن تكون من نِسَائِهِ أوجب ذَلِك نفي الْحُرْمَة عِنْد عدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 ذَلِك الْوَصْف فَلَا تثبت الْحُرْمَة بِالزِّنَا وَعِنْدنَا لَا يُوجب النَّص نفي الحكم عِنْد انعدام الْوَصْف فَتثبت الْحُرْمَة بِالزِّنَا وَفِي الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرض صَدَقَة الْفطر على كل حر وَعبد من الْمُسلمين فعلى مذْهبه أوجب هَذَا النَّص نفي الحكم عِنْد عدم الْوَصْف فَلَا تجب الصَّدَقَة عَن العَبْد الْكَافِر وَعِنْدنَا لَا يُوجب ذَلِك وَلَكِن النَّص المختتم بِهَذَا الْوَصْف لَا يتَنَاوَل الْكفَّار وَالنَّص الْمُطلق وَهُوَ قَوْله أَدّوا عَن كل حر وَعبد يتناولهم لِأَنَّهُ غير مختتم بِهَذَا التَّقْيِيد فَيجب الْأَدَاء عَن العَبْد الْكَافِر بذلك النَّص وَهُوَ بِمَنْزِلَة من يَقُول لغيره أعتق عَبِيدِي ثمَّ يَقُول أعتق الْبيض من عَبِيدِي فَلَا يُوجب ذَلِك النَّهْي عَن إِعْتَاق غير الْبيض بَعْدَمَا كَانَ ثَابتا بِاللَّفْظِ الْمُطلق وَاسْتدلَّ الشَّافِعِي رَحمَه الله لإِثْبَات مذْهبه عَلَيْهِ السَّلَام فِي خمس من الْإِبِل السَّائِمَة شَاة فَإِن ذَلِك يُوجب نفي الزَّكَاة فِي غير السَّائِمَة فَكَأَنَّهُ قَالَ وَلَا زَكَاة فِي غير السَّائِمَة إِذْ لَو لم يَجْعَل كَذَلِك فَلَا بُد من إِيجَاب الزَّكَاة فِي العوامل بِخَبَر الْمُطلق وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي خمس من الْإِبِل شَاة وبالإجماع بَيْننَا وَبَيْنكُم لَا تجب الزَّكَاة فِي غير السَّائِمَة وَلما نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ربح مَا لم يضمن أفهمنا ذَلِك إِبَاحَة ربح مَا قد ضمن كَأَنَّهُ نَص عَلَيْهِ وَلِأَن النَّص لما أوجب الحكم فِي الْمُسَمّى الْمُشْتَمل على أَوْصَاف مُقَيّدا بِوَصْف من تِلْكَ الْأَوْصَاف صَار ذَلِك الْوَصْف بِمَنْزِلَة الشَّرْط لإِيجَاب الحكم على معنى أَنه لَا يثبت الحكم بِالنَّصِّ بعد وجود الْمُسَمّى مَا لم يُوجد ذَلِك الْوَصْف فلولا ذكر الْوَصْف لَكَانَ الحكم ثَابتا قبل وجوده وَهَذَا أَمارَة الشَّرْط فَإِن قَوْله لامْرَأَته أَنْت طَالِق إِن دخلت الدَّار لَا يكون مُوجبا وُقُوع الطَّلَاق مَا لم تدخل وَبِدُون هَذَا الشَّرْط كَانَ مُوجبا للطَّلَاق قبل الدُّخُول وَقد يكون الْوَصْف بِمَنْزِلَة الشَّرْط حَتَّى لَو قَالَ لَهَا إِن دخلت الدَّار راكبة فَأَنت طَالِق كَانَ الرّكُوب شرطا وَإِن كَانَ مَذْكُورا على سَبِيل الْوَصْف لَهَا قَالَ وَقد ثَبت من أُصَلِّي أَن التَّقْيِيد بِالشّرطِ يفهمنا نفي الحكم عِنْد عدم الشَّرْط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 فَكَذَلِك التَّقْيِيد بِالْوَصْفِ وَهَذَا بِخِلَاف الِاسْم فَإِنَّهُ مَذْكُور للتعريف لَا لتعليق الحكم بِهِ (فَأَما الْوَصْف الَّذِي هُوَ ذكر للْحَال وَهُوَ معنوي يصلح أَن يكون لتعليق الحكم بِهِ) فَيكون مُوجبا نفي الحكم عِنْد عَدمه دلَالَة وَلِأَن بِالِاسْمِ يثبت الحكم ابْتِدَاء كَمَا ثَبت بِالْعِلَّةِ بِخِلَاف الْوَصْف الَّذِي هُوَ فِي معنى الشَّرْط وسنقرر هَذَا الْفرق فِي الْفَصْل الثَّانِي وَاسْتدلَّ عُلَمَاؤُنَا بقوله تَعَالَى {وَبَنَات خَالك وَبَنَات خَالَاتك اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك} ثمَّ التَّقْيِيد بِهَذَا الْوَصْف لَا يُوجب نفي الْحل فِي اللَّاتِي لم يهاجرن مَعَه بالِاتِّفَاقِ وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوهَا إسرافا وبدارا أَن يكبروا} ثمَّ التَّقْيِيد بِهَذَا الْوَصْف لَا يُفِيد إِبَاحَة الْأكل بِدُونِ هَذَا الْوَصْف وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا أَنْت مُنْذر من يخشاها} {إِنَّمَا تنذر من اتبع الذّكر} وَهُوَ نَذِير للبشر فَعرفنَا أَن التَّقْيِيد بِالْوَصْفِ لَا يفهمنا نفي الْمَنْصُوص عَلَيْهِ عِنْد عدم ذَلِك الْوَصْف ثمَّ أَكثر مَا فِيهِ أَن الْوَصْف الْمُؤثر بِمَنْزِلَة الْعلَّة للْحكم وَلَا خلاف أَن الحكم يثبت بِالْعِلَّةِ إِذا وجدت فَإِن الْعلَّة لَا توجب نفي الحكم عِنْد انعدامها فَكَذَلِك الْوَصْف الْمَذْكُور فِي النَّص يُوجب ثُبُوت الحكم عِنْد وجوده وَلَا يُوجب نفي الحكم عِنْد عَدمه وَلِهَذَا جعلنَا الْوَصْف الْمُؤثر إِذا كَانَ مَنْصُوصا عَلَيْهِ بِمَنْزِلَة الْعلَّة للْحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ فَقُلْنَا صفة السّوم بِمَنْزِلَة الْعلَّة لإِيجَاب الزَّكَاة فِي خمس من الْإِبِل وَلِهَذَا يُضَاف الزَّكَاة إِلَيْهَا فَيُقَال زَكَاة السَّائِمَة والواجبات تُضَاف إِلَى أَسبَابهَا حَقِيقَة بِمَنْزِلَة من يَقُول لغيره أعتق عَبدِي الصَّالح أَو طلق امْرَأَتي البذيئة فَإِن ذكر هَذَا الْوَصْف دَلِيل على أَنه هُوَ الْمُؤثر للْحكم وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن الْوَصْف لَيْسَ فِي معنى الشَّرْط كَمَا زعم وَقَوله إِن دخلت راكبة إِنَّمَا جعلنَا الرّكُوب شرطا لكَونه مَعْطُوفًا على الشَّرْط فَإِن حكم الْمَعْطُوف حكم الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فَأَما الْوَصْف المقرون بِالِاسْمِ يكون بِمَنْزِلَتِهِ وَالِاسْم لَيْسَ فِي معنى الشَّرْط لإِثْبَات الحكم فَكَذَلِك الْوَصْف المقرون بِهِ وَلَو كَانَ شرطا فعندنا تَعْلِيق الحكم بِالشّرطِ يُوجب وجود الحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 عِنْد وجود الشَّرْط وَلَا يُوجب النَّفْي عِنْد عدم الشَّرْط بل ذَلِك بَاقٍ على مَا كَانَ قبل التَّعْلِيق على مَا نبينه وَإِنَّمَا لَا نوجب الزَّكَاة فِي الْحَوَامِل بِاعْتِبَار نَص آخر وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا زَكَاة فِي العوامل والحوامل أَو بِاعْتِبَار أَن صفة السّوم صَار بِمَنْزِلَة الْعلَّة فِي حكم الزَّكَاة على مَا قَررنَا وعَلى هَذَا قَالَ زفر رَحمَه الله فِيمَن لَهُ أمة ولدت ثَلَاثَة أَوْلَاد فِي بطُون مُخْتَلفَة فَقَالَ الْأَكْبَر ابْني يثبت نسب الآخرين مِنْهُ لِأَن التَّنْصِيص على الدعْوَة مُقَيّدا بالأكبر لَا مُوجب لَهُ فِي نفي نسب الآخرين وَقد تبين ثُبُوت نسب الْأَكْبَر مِنْهُ أَنَّهَا كَانَت أم ولد لَهُ من ذَلِك الْوَقْت وَأم الْوَلَد فرَاش للْمولى يثبت نسب وَلَدهَا مِنْهُ بِغَيْر دَعْوَة وَعِنْدنَا لَا يثبت نسب الآخرين مِنْهُ لَا للتَّقْيِيد بِالْوَصْفِ فَإِنَّهُ لَو أَشَارَ إِلَى الْأَكْبَر وَقَالَ هَذَا ابْني لَا يثبت نسب الآخرين مِنْهُ أَيْضا وَمَعْلُوم أَن التَّنْصِيص بِالِاسْمِ لَا يُوجب نفي الحكم فِي غير الْمُسَمّى بذلك الِاسْم وَلَكِن إِنَّمَا لَا يثبت نسبهما مِنْهُ لِأَن السُّكُوت عَن الْبَيَان بعد تحقق الْحَاجة دَلِيل النَّفْي ويفترض على الْمَرْأَة دَعْوَة النّسَب فِيمَا هُوَ مَخْلُوق من مَائه لِأَنَّهُ كَمَا لَا يحل لَهُ أَن يَدعِي نسب (مَا هُوَ غير مَخْلُوق من مَائه لَا يحل لَهُ أَن يَنْفِي نسب) الْمَخْلُوق من مَائه وَقبل الدعْوَة النّسَب يثبت مِنْهُ على سَبِيل الِاحْتِمَال حَتَّى يملك نَفْيه وَإِنَّمَا يصير مَقْطُوعًا بِهِ على وَجه لَا يملك نَفْيه بالدعوة فَكَانَ ذَلِك فرضا عَلَيْهِ وَإِذا تقرر بِهَذَا تحقق الْحَاجة إِلَى الْبَيَان كَانَ سُكُوته عَن دَعْوَة نسب الآخرين دَلِيل النَّفْي لَا تَخْصِيصه الْأَكْبَر بالدعوة فَلهَذَا لَا يثبت نسبهما مِنْهُ وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله إِذا قَالَ شُهُود الْوَارِث لَا نعلم لَهُ وَارِثا غَيره فِي أَرض كَذَا إِن الشَّهَادَة تقبل لِأَن هَذِه الزِّيَادَة لَا توجب عَلَيْهِم توارث آخر فِي غير ذَلِك الْموضع فكأنهم سكتوا عَن ذكر هَذِه الزِّيَادَة وَقَالُوا لَا نعلم لَهُ وَارِثا غَيره وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد قَالَا لَا تقبل هَذِه الشَّهَادَة لَا لِأَنَّهَا توجب ذَلِك وَلَكِن لتمكن التُّهْمَة فَإِنَّهُ يحْتَمل أَنَّهُمَا خصا ذَلِك الْمَكَان للتحرز عَن الْكَذِب وعلمهما بوارث آخر لَهُ فِي غير ذَلِك الْمَكَان وَلَكِن الشَّهَادَة ترد بالتهمة فَأَما الحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 لَا يثبت نفيا وَلَا إِيجَابا بالتهمة بل بِالْحجَّةِ الْمَعْلُومَة وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول كَمَا تحْتَمل هَذِه الزِّيَادَة مَا قَالَا تحْتَمل الْمُبَالغَة فِي التَّحَرُّز عَن الْكَذِب بِاعْتِبَار أَنَّهُمَا تفحصا فِي ذَلِك الْموضع دون سَائِر الْمَوَاضِع وَيحْتَمل تَحْقِيق الْمُبَالغَة فِي نفي وَارِث آخر أَي لَا نعلم لَهُ وَارِثا آخر فِي مَوضِع كَذَا مَعَ أَنه مولده ومنشؤه فأحرى أَن لَا يكون لَهُ وَارِث آخر فِي مَوضِع آخر وبمثل هَذَا الْمُحْتَمل لَا تتمكن التُّهْمَة وَلَا يمْنَع الْعَمَل بِشَهَادَتِهِمَا وَمِنْهَا أَن الحكم مَتى تعلق بِشَرْط بِالنَّصِّ فَعِنْدَ الشَّافِعِي رَحمَه الله ذَلِك النَّص يُوجب انعدام الحكم عِنْد انعدام الشَّرْط كَمَا يُوجب وجود الحكم عِنْد وجود الشَّرْط وَعِنْدنَا لَا يُوجب النَّص ذَلِك بل يُوجب ثُبُوت الحكم عِنْد وجود الشَّرْط فَأَما انعدام الحكم عِنْد عدم الشَّرْط فَهُوَ بَاقٍ على مَا كَانَ قبل التَّعْلِيق وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمن لم يسْتَطع مِنْكُم طولا أَن ينْكح الْمُحْصنَات الْمُؤْمِنَات} الْآيَة فَإِن النَّص لما ورد بِحل نِكَاح الْأمة مُعَلّقا بِشَرْط عدم طول الْحرَّة جعل الشَّافِعِي ذَلِك كالتنصيص على حُرْمَة نِكَاح الْأمة عِنْد وجود طول الْحرَّة وَعِنْدنَا النَّص لَا يُوجب ذَلِك وَلَكِن الحكم بعد هَذَا النَّص عِنْد وجود طول الْحرَّة على مَا كَانَ عَلَيْهِ أَن لَو لم يرد هَذَا النَّص وَقَالَ تَعَالَى {ويدرأ عَنْهَا الْعَذَاب أَن تشهد أَربع شَهَادَات بِاللَّه} قَالَ الشَّافِعِي لما تعلق بِالنَّصِّ دَرْء الْعَذَاب عَنْهَا بِشَرْط أَن تَأتي بِكَلِمَات اللّعان كَانَ ذَلِك تنصيصا على إِقَامَة الْحَد عَلَيْهَا إِذا لم تأت بِكَلِمَات اللّعان وَعِنْدنَا لَا يُوجب ذَلِك حَتَّى لَا يُقَام عَلَيْهَا الْحَد وَإِن امْتنعت من كَلِمَات اللّعان وَجه قَول الشَّافِعِي أَن التَّعْلِيق بِالشّرطِ يُؤثر فِي الحكم دون السَّبَب على اعْتِبَار أَنه لَوْلَا التَّعْلِيق لَكَانَ الحكم ثَابتا فَإِن قَوْله لعَبْدِهِ أَنْت حر مُوجب عتقه فِي الْحَال لَوْلَا قَوْله إِن دخلت الدَّار فبالتعليق يتَأَخَّر نزُول الْعتْق وَلَا يَنْعَدِم أصل السَّبَب وَبِهَذَا تبين أَن التَّعْلِيق كَمَا يُوجب الحكم عِنْد وجود الشَّرْط يُوجب نفي الحكم قبل وجود الشَّرْط بِمَنْزِلَة التَّأْجِيل وبمنزلة خِيَار الشَّرْط فِي البيع فَإِنَّهُ يدْخل على الحكم دون السَّبَب حَتَّى يتَأَخَّر الحكم إِلَى سُقُوط الْخِيَار مَعَ قيام السَّبَب وَهُوَ نَظِير التَّعْلِيق الْحسي فَإِن تَعْلِيق الْقنْدِيل بِحَبل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 سَمَاء الْبَيْت يمْنَع وُصُوله إِلَى مَوضِع من الأَرْض لَوْلَا التَّعْلِيق وَلَا يعْدم أَصله وَبِهَذَا فَارق الشَّرْط الْعلَّة فَإِن الحكم يثبت ابْتِدَاء بِوُجُود الْعلَّة فَلَا يكون انعدام الحكم قبل وجود الْعلَّة مُضَافا إِلَى الْعلَّة بِاعْتِبَار أَنَّهَا نفت الحكم قبل وجودهَا بل انْعَدم لِانْعِدَامِ سَببه فَأَما الشَّرْط فمغير للْحكم بعد وجود سَببه فَكَانَ مَانِعا من ثُبُوت الحكم قبل وجوده كَمَا كَانَ مثبتا وجود الحكم عِنْد وجوده وعَلى هَذَا الأَصْل لم يجوز تَعْلِيق الطَّلَاق وَالْعتاق بِالْملكِ لِأَن تَأْثِير الشُّرُوط فِي منع حكم لولاه كَانَ مَوْجُودا بِسَبَبِهِ وَلَوْلَا التَّعْلِيق هُنَا كَانَ لَغوا وَشرط قيام الْملك فِي الْمحل عِنْد التَّعْلِيق لِأَن السَّبَب لَا يتَحَقَّق بِدُونِ الْملك وتأثير الشَّرْط فِي تَأْخِير الحكم إِلَى وجوده بعد تقرر السَّبَب بِمَنْزِلَة الْأَجَل فَيشْتَرط قيام الْملك فِي الْمحل عِنْد التَّعْلِيق ليتقرر السَّبَب ثمَّ يتَأَخَّر الحكم إِلَى وجود الشَّرْط بِالتَّعْلِيقِ وَلِهَذَا لم يجوز نِكَاح الْأمة لمن قدر على نِكَاح الْحرَّة لِأَن الْحل مُعَلّق بِشَرْط عدم طول الْحرَّة بِالنَّصِّ وَذَلِكَ يُوجب نفي الحكم عِنْد وجود طول الْحرَّة كَمَا يُوجب إثْبَاته عِنْد عدم طول الْحرَّة هَذَا هُوَ الْمَفْهُوم من الْكَلَام فَإِن من يَقُول لغيره إِن دخل عَبدِي الدَّار فَأعْتقهُ يفهم مِنْهُ وَلَا تعتقه إِن لم يدْخل الدَّار وَالْعَمَل بالنصوص وَاجِب بمنظومها ومفهومها وَلِهَذَا جوز تَعْجِيل الْكَفَّارَة بعد الْيَمين قبل الْحِنْث لِأَن السَّبَب هُوَ الْيَمين وَلِهَذَا تُضَاف الْكَفَّارَة إِلَيْهَا وَالْأَصْل أَن الْوَاجِبَات تُضَاف إِلَى أَسبَابهَا فَأَما الْحِنْث شَرط يتَعَلَّق وجوب الْأَدَاء بِهِ ويتضح هَذَا فِيمَا إِذا قَالَ إِن فعلت كَذَا فعلي كَفَّارَة يَمِين وَالتَّعْلِيق بِالشّرطِ بِمَنْزِلَة التَّأْجِيل عِنْده فَلَا يمْنَع جَوَاز التَّعْجِيل قبله بِمَنْزِلَة الدّين الْمُؤَجل إِلَّا أَن هَذَا فِي المالي دون البدني لِأَن تَأْثِير التَّعْلِيق بِالشّرطِ فِي تَأْخِير وجوب الْأَدَاء فِي الْحُقُوق الْمَالِيَّة الْوُجُوب ينْفَصل عَن الْأَدَاء من حَيْثُ إِن الْوَاجِب قبل الْأَدَاء مَال مَعْلُوم كَمَا فِي حُقُوق الْعباد فَأَما فِي البدني الْوَاجِب فعل يتَأَدَّى بِهِ فَلَا يتَحَقَّق انْفِصَاله عَن الْأَدَاء وبالتعليق بِالشّرطِ يتَأَخَّر وجوب الْأَدَاء فَيتَأَخَّر تقرر السَّبَب أَيْضا ضَرُورَة لِأَن أَحدهمَا لَا ينْفَصل عَن الآخر وَنَظِيره من حُقُوق الْعباد الشِّرَاء مَعَ الِاسْتِئْجَار فَإِن بشرَاء الْعين يثبت الْملك وَيتم السَّبَب قبل فعل التَّسْلِيم وبالاستئجار لَا يثبت الْملك فِي الْمَنْفَعَة قبل الِاسْتِيفَاء لِأَنَّهَا لَا تبقى وَقْتَيْنِ وَلَا يتَصَوَّر تَسْلِيمهَا بعد وجودهَا بل يقْتَرن التَّسْلِيم بالوجود فَإِنَّمَا تصير معقودا عَلَيْهَا مَمْلُوكا بِالْعقدِ عِنْد الِاسْتِيفَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 فَكَذَلِك فِي حُقُوق الله تَعَالَى يفصل بَين المالي والبدني من هَذَا الْوَجْه أَلا ترى أَن من قَالَ لله عَليّ أَن أَتصدق بدرهم رَأس الشَّهْر فَتصدق بِهِ فِي الْحَال جَازَ لهَذَا الْمَعْنى وَدَلِيلنَا على أَن التَّعْلِيق بِالشّرطِ لَا يُوجب نفي الحكم قبله من الْكتاب قَوْله تَعَالَى {فَإِذا أحصن فَإِن أتين بِفَاحِشَة} الْآيَة وَلَا خلاف أَنه يلْزمهَا الْحَد الْمَذْكُور جَزَاء على الْفَاحِشَة وَإِن لم تحصن وَقَالَ تَعَالَى {فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا} وَحكم الْكِتَابَة لَا يَنْتَفِي قبل هَذَا الشَّرْط ثمَّ حَقِيقَة الْكَلَام تبتنى على معرفَة عمل الشَّرْط فَنَقُول التَّعْلِيق بِالشّرطِ تصرف فِي أصل الْعلَّة لَا فِي حكمهَا من حَيْثُ إِنَّه يتَبَيَّن بِالتَّعْلِيقِ أَن الْمَذْكُور لَيْسَ بِسَبَب قبل وجود الشَّرْط وَلَكِن بِعرْض أَن يصير سَببا عِنْد وجوده فأوان وجود الحكم ابْتِدَاء حَال وجود الشَّرْط بِمَنْزِلَة مَا ذكره الْخصم فِي الْعلَّة إِلَّا أَن فرق مَا بَينهمَا أَن الحكم يُوجد عِنْد وجود الشَّرْط ابْتِدَاء وَلكنه يُضَاف إِلَى الْعلَّة ثبوتا بِهِ وَإِلَى الشَّرْط وجودا عِنْده فَكَمَا أَن قبل وجود الْعلَّة انعدام الحكم أصل غير مُضَاف إِلَى الْعلَّة فَكَذَلِك قبل وجود الشَّرْط وَبَيَان هَذَا الْكَلَام من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن السَّبَب هُوَ الْإِيقَاع وَالْمُعَلّق بِالشّرطِ يَمِين وَهِي غير الْإِيقَاع وينتقض الْيَمين إِذا صَار إيقاعا بِوُجُود الشَّرْط وَالثَّانِي أَن صِحَة الْإِيجَاب بِاعْتِبَار رُكْنه وَمحله أَلا ترى أَن شطر البيع كَمَا لَا يكون سَببا لِانْعِدَامِ تَمام الرُّكْن فَكَذَلِك بيع الْحر لَا يكون سَببا لِأَنَّهُ غير مُضَاف إِلَى مَحَله فَكَذَلِك فِي الطَّلَاق وَالْعتاق شطر الْكَلَام الَّذِي هُوَ إِيجَاب (كَمَا لَا يكون سَببا فَالْكَلَام الَّذِي هُوَ إِيجَاب) مَا لم يتَّصل بِالْمحل لَا يكون سَببا وَالتَّعْلِيق بِالشّرطِ يمْنَع وُصُوله إِلَى الْمحل بالِاتِّفَاقِ وَلكنه بِعرْض أَن يتَّصل بِالْمحل إِذا وجد الشَّرْط كَمَا أَن شَرط البيع بِعرْض أَن يصير سَببا إِذا وجد الشّطْر الثَّانِي وَكَذَلِكَ شطر النّصاب لَيْسَ بِسَبَب لِلزَّكَاةِ بِمَنْزِلَة النّصاب الْكَامِل فِي ملك من لَيْسَ بِأَهْل لوُجُوب الزَّكَاة عَلَيْهِ وَهُوَ الْكَافِر وَلَكِن بِعرْض أَن يصير سَببا وَنَظِيره من الحسيات الرَّمْي فَإِن نَفسه لَيْسَ بقتل وَلكنه بِعرْض أَن يصير قتلا إِذا اتَّصل بِالْمحل وَإِذا كَانَ هُنَاكَ مجن منع وُصُوله إِلَى الْمحل فأحد لَا يَقُول بِأَن الْمِجَن مَانع لما هُوَ قتل وَلَكِن لما كَانَ يصير قتلا لَو اتَّصل بِالْمحل عِنْد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 عدم الْمِجَن فَكَذَلِك التَّعْلِيق بِالشّرطِ فِي الحكميات وَبِهَذَا تبين أَنه وهم حَيْثُ جعل التَّعْلِيق كالتأجيل فَإِن التَّأْجِيل لَا يمْنَع وُصُول السَّبَب بِالْمحل لِأَن سَبَب وجوب التَّسْلِيم فِي الدّين وَالْعين جَمِيعًا العقد وَمحل الدّين الذِّمَّة والتأجيل لَا يمْنَع ثُبُوت الدّين فِي الذِّمَّة وَلَا ثُبُوت الْملك فِي الْمَبِيع وَإِنَّمَا يُؤَخر الْمُطَالبَة وَهُوَ مُحْتَمل السُّقُوط فَيسْقط الْأَجَل بالتعجيل ويتحقق أَدَاء الْوَاجِب وَهنا التَّعْلِيق يمْنَع الْوُصُول إِلَى الْمحل وَقبل الْوُصُول (إِلَى الْمحل) لَا يتم السَّبَب وَلَا يتَصَوَّر أَدَاء الْوَاجِب قبل تَمام السَّبَب وَلِهَذَا لم نجوز التَّكْفِير قبل الْحِنْث لِأَن أدنى دَرَجَات السَّبَب أَن يكون طَرِيقا إِلَى الحكم وَالْيَمِين مَانع من الْحِنْث الَّذِي تعلق بِهِ وجوب الْكَفَّارَة على مَا قَرَّرَهُ فَإِنَّهَا مُوجبَة للبر وَالْبر يفوت بِالْحِنْثِ وَفِي الْحِنْث نقض الْيَمين كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَا تنقضوا الْأَيْمَان بعد توكيدها} ويستحيل أَن يُقَال فِي شَيْء إِنَّه سَبَب لحكم لَا يثبت ذَلِك الحكم إِلَّا بعد انتقاضه فَعرفنَا أَنه بِعرْض أَن يصير سَببا عِنْد وجود الشَّرْط فَلهَذَا كَانَ مُضَافا إِلَيْهِ وَقبل أَن يصير سَببا لَا يتَحَقَّق الْأَدَاء وفرقه بَين المالي والبدني بَاطِل فَإِن بعد تَمام السَّبَب الْأَدَاء جَائِز فِي البدني والمالي جَمِيعًا وَإِن تَأَخّر وجوب الْأَدَاء كالمسافر إِذا صَامَ فِي شهر رَمَضَان وَهَذَا لِأَن الْوَاجِب لله على العَبْد فعل هُوَ عبَادَة فَأَما المَال وَمَنَافع الْبدن فَإِنَّهُ يتَأَدَّى الْوَاجِب بهما فَكَمَا أَن فِي الْبدن مَعَ تملق وجوب الْأَدَاء بِالشّرطِ لَا يكون السَّبَب تَاما فَكَذَلِك فِي المالي بِخِلَاف حُقُوق الْعباد فَإِن الْوَاجِب للعباد مَال لَا فعل لِأَن الْمَقْصُود مَا ينْتَفع مِنْهُ العَبْد أَو ينْدَفع عَنهُ الخسران بِهِ وَذَلِكَ بِالْمَالِ دون الْفِعْل وَلِهَذَا إِذا ظفر بِجِنْس حَقه فاستوفى تمّ الِاسْتِيفَاء وَإِن لم يُوجد فعل هُوَ أَدَاء مِمَّن عَلَيْهِ فَأَما حُقُوق الله تَعَالَى وَاجِبَة بطرِيق الْعِبَادَة وَنَفس المَال لَيْسَ بِعبَادة إِنَّمَا الْعِبَادَة اسْم لعمل يباشره العَبْد بِخِلَاف هوى النَّفس لابتغاء مرضاة الله تَعَالَى وَفِي هَذَا المالي والبدني سَوَاء وَهَذَا التَّعْلِيق لَا يشبه بتعليق الْقنْدِيل بالحبل لِأَن الْقنْدِيل كَانَ مَوْجُودا بِذَاتِهِ قبل التَّعْلِيق فَعرفنَا أَن عمل التَّعْلِيق فِي تَفْرِيغ الْمَكَان الَّذِي كَانَ مَشْغُولًا بِهِ من الأَرْض قبل التَّعْلِيق وَهنا قبل التَّعْلِيق مَا كَانَ الحكم مَوْجُودا فَكَانَ تَأْثِير التَّعْلِيق فِي تَأْخِير السَّبَبِيَّة للْحكم إِلَى وجود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 الشَّرْط وَلِهَذَا جَوَّزنَا تَعْلِيق الطَّلَاق وَالْإِعْتَاق بِالْملكِ لِأَن الْمُتَعَلّق قبل وجود الشَّرْط يَمِين وَمحل الِالْتِزَام بِالْيَمِينِ الذِّمَّة فَأَما الْملك فِي الْمحل إِنَّمَا يشْتَرط لإِيجَاب الطَّلَاق وَالْإِعْتَاق وَهَذَا الْكَلَام للْحَال لَيْسَ بِإِيجَاب وَلكنه بِعرْض أَن يصير إِيجَابا فَإِن تَيَقنا بِوُجُود الْملك فِي الْمحل حِين يصير إِيجَابا بوصوله إِلَى الْمحل صححنا التَّعْلِيق بِاعْتِبَارِهِ وَإِن لم نتيقن بذلك بِأَن كَانَ الشَّرْط مِمَّا لَا أثر لَهُ فِي إِثْبَات الْملك فِي الْمحل شرطنا الْملك فِي الْحَال ليصير كَلَامه إِيجَابا عِنْد وجود الشَّرْط بِاعْتِبَار الظَّاهِر وَهُوَ أَن مَا علم ثُبُوته فَالْأَصْل بَقَاؤُهُ وَلَكِن بِهَذَا الظَّاهِر دون الْملك الَّذِي يتَيَقَّن بِهِ عِنْد وجود الشَّرْط فصحة التَّعْلِيق بِاعْتِبَار ذَلِك النَّوْع دَلِيل على صِحَة التَّعْلِيق بِاعْتِبَار هَذَا الْملك بطرِيق أولى وَلَيْسَ التَّعْلِيق كاشتراط الْخِيَار فِي البيع فَإِن ذَلِك لَا يدْخل على أصل السَّبَب لِأَن البيع لَا يحْتَمل الْحَظْر وَفِي جعله مُتَعَلقا بِشَرْط لَا نَدْرِي أَن يكون أَو لَا يكون حظر تَامّ وَلِهَذَا كَانَ الْقيَاس أَن لَا يجوز البيع مَعَ خِيَار الشَّرْط وَلَكِن السّنة جوزت ذَلِك لحَاجَة النَّاس بِاعْتِبَار أَن الْخِيَار دخل على الحكم دون السَّبَب فَإِن الحكم يحْتَمل التَّأْخِير عَن السَّبَب فَجعل الحكم مُتَعَلقا بِشَرْط إِسْقَاط الْخِيَار مَعَ ثُبُوت السَّبَب لِأَن السَّبَب مُحْتَمل للْفَسْخ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود وَهُوَ دفع الضَّرَر يحصل بِهَذَا الطَّرِيق وَهُوَ أقل غررا فَأَما الطَّلَاق وَالْعتاق فَأصل السَّبَب فيهمَا يحْتَمل التَّعْلِيق بِالشّرطِ فَإِذا وجد التَّعْلِيق نصا يثبت الْحَظْر الْكَامِل فيهمَا بِأَن تعلق صيرورتهما سَببا بِوُجُود الشَّرْط وَالدَّلِيل على الْفرق من جِهَة الحكم أَنه لَو حلف أَن لَا يَبِيع فَبَاعَ بِشَرْط الْخِيَار حنث فِي يَمِينه وَلَو حلف أَن لَا يُطلق امْرَأَته فعلق طَلاقهَا بِالشّرطِ لم يَحْنَث مَا لم يُوجد الشَّرْط وعَلى هَذَا جَوَّزنَا نِكَاح الْأمة لمن لَهُ طول الْحرَّة لِأَن التَّعْلِيق بِالشّرطِ لَا يُوجب نفي الحكم قبله فَيجْعَل الْحل ثَابتا قبل وجود هَذَا الشَّرْط بِالْآيَاتِ الْمُوجبَة لحل الْإِنَاث للذكور وَهَكَذَا نقُول فِي قَوْله إِن دخل عَبدِي الدَّار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فَأعْتقهُ فَإِن ذَلِك لَا يُوجب نفي الحكم قبله حَتَّى إِنَّه لَو كَانَ قَالَ أَولا أعتق عَبدِي ثمَّ قَالَ أعْتقهُ إِن دخل الدَّار جَازَ لَهُ أَن يعتقهُ قبل الدُّخُول بِالْأَمر الأول وَلَا يَجْعَل هَذَا الثَّانِي نهيا عَن الأول (فَإِن قيل لَا خلاف أَن الحكم الْمُتَعَلّق بِالشّرطِ يثبت عِنْد وجود الشَّرْط وَإِذا كَانَ الحكم ثَابتا هُنَا قبل وجود الشَّرْط فَكيف يتَصَوَّر ثُبُوته عِنْد وجود الشَّرْط إِذْ لَا يجوز أَن يكون الحكم الْوَاحِد ثَابتا فِي الْحَال ومتعلقا بِشَرْط منتظر قُلْنَا حل الْوَطْء لَيْسَ بِثَابِت قبل النِّكَاح وَلكنه مُتَعَلق بِشَرْط النِّكَاح فِي الْآيَات الَّتِي لَيْسَ فِيهَا هَذَا الشَّرْط الزَّائِد ومتعلق بهَا وَبِهَذَا الشَّرْط فِي هَذِه الْآيَة وَإِنَّمَا يتَحَقَّق مَا ادّعى من التضاد فِيمَا هُوَ مَوْجُود فَأَما فِيمَا هُوَ مُتَعَلق فَلَا لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون الحكم مُتَعَلقا بِشَرْط وَذَلِكَ الحكم بِعَيْنِه مُتَعَلقا بِشَرْط آخر قبله أَو بعده أَلا ترى أَن من قَالَ لعَبْدِهِ إِذا جَاءَ يَوْم الْخَمِيس فَأَنت حر ثمَّ قَالَ إِذا جَاءَ يَوْم الْجُمُعَة فَأَنت حر كَانَ الثَّانِي صَحِيحا وَإِن كَانَ مَجِيء يَوْم الْجُمُعَة لَا يكون إِلَّا بعد مَجِيء يَوْم الْخَمِيس حَتَّى لَو أخرجه من ملكه فجَاء يَوْم الْخَمِيس ثمَّ أَعَادَهُ إِلَى ملكه فجَاء يَوْم الْجُمُعَة يعْتق بِاعْتِبَار التَّعْلِيق الثَّانِي) فَإِن قيل مَعَ هَذَا لَا يجوز أَن يكون الشَّيْء الْوَاحِد كَمَال الشَّرْط لإِثْبَات حكم وَهُوَ بعض الشَّرْط لإِثْبَات ذَلِك الحكم أَيْضا وَمَا قُلْتُمْ يُؤَدِّي إِلَى هَذَا فَإِن عقد النِّكَاح كَمَال الشَّرْط فِي سَائِر الْآيَات سوى قَوْله تَعَالَى {وَمن لم يسْتَطع مِنْكُم طولا} وَهُوَ بعض الشَّرْط فِي هَذِه الْآيَة إِذا قُلْتُمْ بِأَن الحكم يثبت ابْتِدَاء عِنْد وجود هَذَا الشَّرْط قُلْنَا إِنَّمَا لَا يجوز هَذَا بِنَصّ وَاحِد فَأَما بنصين فَهُوَ جَائِز أَلا ترى أَنه لَو قَالَ لعَبْدِهِ أَنْت حر إِن أكلت ثمَّ قَالَ أَنْت حر إِن أكلت وشربت صَحَّ كل وَاحِد مِنْهُمَا وَيكون الْأكل كَمَال الشَّرْط بِالتَّعْلِيقِ الأول وَبَعض الشَّرْط فِي التَّعْلِيق الثَّانِي حَتَّى لَو بَاعه فَأكل فِي غير ملكه ثمَّ اشْتَرَاهُ فَشرب فَإِنَّهُ يعْتق لتَمام الشَّرْط فِي التَّعْلِيق الثَّانِي وَهُوَ فِي ملكه وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ زفر رَحمَه الله إِن التَّعْلِيق لَا يبطل بِفَوَات الْمحل حَتَّى لَو قَالَ لامْرَأَته إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق ثَلَاثًا ثمَّ طَلقهَا ثَلَاثًا لم يبطل التَّعْلِيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وَلَو قَالَ لأمته إِن دخلت الدَّار فَأَنت حرَّة ثمَّ أعْتقهَا لم يبطل التَّعْلِيق حَتَّى إِذا ارْتَدَّت وَلَحِقت بدار الْحَرْب فسبيت وملكها ثمَّ دخلت الدَّار عتقت قَالَ لِأَن التَّعْلِيق بِالشّرطِ يمْنَع الْوُصُول إِلَى الْمحل والمتعلق بِالشّرطِ لَا يكون طَلَاقا وَلَا سَببا للطَّلَاق قبل وجود الشَّرْط وَاشْتِرَاط الْمَحَلِّيَّة لتَمام السَّبَب وَثُبُوت الحكم عِنْد الْوُصُول إِلَيْهِ بِمَنْزِلَة اشْتِرَاط الْملك فَكَمَا لَا يبطل التَّعْلِيق بعد صِحَّته بانعدام الْملك فِي الْمحل بِأَن بَاعَ العَبْد أَو أبان الْمَرْأَة وَانْقَضَت عدتهَا فَكَذَلِك لَا يبطل بانعدام الْمَحَلِّيَّة وَهَذَا لِأَن توهم الْمَحَلِّيَّة عِنْد وجود الشَّرْط قَائِم كتوهم الْملك وَإِذا كَانَ يَصح ابْتِدَاء التَّعْلِيق بِاعْتِبَار توهم الْملك عِنْد وجود الشَّرْط فِي هَذِه الْيَمين لِأَن الْملك الْمَوْجُود عِنْد التَّعْلِيق متوهم الْبَقَاء عِنْد وجود الشَّرْط لَا مُتَيَقن الْبَقَاء فَلِأَن يبْقى التَّعْلِيق صَحِيحا بِاعْتِبَار هَذَا التَّوَهُّم كَانَ أولى أَلا ترى أَن التَّعْلِيق بِالْملكِ يبْقى بِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى حَتَّى إِذا قَالَ لأجنبية كلما تَزَوَّجتك فَأَنت طَالِق ثَلَاثًا فَتَزَوجهَا وَطلقت ثَلَاثًا ثمَّ تزَوجهَا ثَانِيًا بعد زوج تطلق أَيْضا وَلَكنَّا نقُول بانعدام الْمحل يبطل التَّعْلِيق لِأَن صِحَة التَّعْلِيق بِاعْتِبَار الْمَحْلُوف بِهِ وَهُوَ مَا يصير طَلَاقا عِنْد وجود الشَّرْط وَلَا تصور لذَلِك بِدُونِ الْمحل وبالتطليقات الثَّلَاث تحقق فَوَات الْمحل لِأَن الحكم الْأَصْلِيّ للطَّلَاق زَوَال صفة الْحل عَن الْمحل وَلَا تصور لذَلِك بعد حُرْمَة الْمحل بالتطليقات الثَّلَاث فلانعدام الْمَحْلُوف بِهِ من هَذَا الْوَجْه يبطل التَّعْلِيق لَا لِأَن الْمُتَعَلّق بِالشّرطِ تَطْلِيقَات ذَلِك الْملك وَتَحْقِيق هَذَا أَنه لَا بُد لصِحَّة التَّعْلِيق من الْمحل (أَيْضا) حَتَّى لَا يَصح التَّعْلِيق بِالْعِتْقِ مُضَافا إِلَى الْبَهِيمَة إِلَّا أَن قيام الْملك فِي الْمحل لَا يشْتَرط لِأَن التَّعْلِيق بِالشّرطِ لَيْسَ هُوَ الطَّلَاق الْمَمْلُوك وَإِذا كَانَت صِحَة التَّعْلِيق تستدعي الْمحل لم يبْق صَحِيحا بعد فَوَات الْمحل لِأَن فِيمَا يرجع إِلَى الْمحل الْبَقَاء بِمَنْزِلَة الِابْتِدَاء وتوهم الْمَحَلِّيَّة على الْوَجْه الَّذِي قَالَ لَا يعْتَبر لصِحَّة التَّعْلِيق فِي الِابْتِدَاء فَإِنَّهُ لَو قَالَ لأجنبية إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق أَو قَالَ ذَلِك للمطلقة ثَلَاثًا لم يَصح التَّعْلِيق وَإِن كَانَ يتَوَهَّم الْملك والمحلية عِنْد وجود الشَّرْط فَإِذا لم يعْتَبر ذَلِك لصِحَّة التَّعْلِيق فِي الِابْتِدَاء لَا يعْتَبر لبَقَائه صَحِيحا بِخِلَاف مَا إِذا صرح بِالْإِضَافَة إِلَى الْملك فَإِن اعْتِبَار ذَلِك التَّعْلِيق بالتيقن بِالْملكِ والمحلية عِنْد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وجود الشَّرْط يُوضحهُ أَن الْمُتَعَلّق وَإِن لم تكن التطليقات الْمَمْلُوكَة لَهُ وَلَكِن فِي التَّعْلِيق شُبْهَة ذَلِك على معنى أَنه مَا صَحَّ إِلَّا بِاعْتِبَارِهِ بِمَنْزِلَة الْغَصْب فَإِن مُوجبه رد الْعين وَلَكِن فِيهِ شُبْهَة وجوب ضَمَان الْقيمَة بِهِ وَقد اعْتبرنَا الشُّبْهَة حَتَّى أثبتنا الْملك عِنْد تقرر الضَّمَان من وَقت الْغَصْب فَهُنَا أَيْضا لَا بُد من اعْتِبَار هَذِه الشُّبْهَة وَبَعْدَمَا أوقع الثَّلَاث قد ذهبت التطليقات الْمَمْلُوكَة كلهَا فَلهَذَا لَا يبْقى التَّعْلِيق وَمن هَذِه الْجُمْلَة مَا قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله إِن الْمُطلق مَحْمُول على الْمُقَيد سَوَاء كَانَ فِي حَادِثَة وَاحِدَة أَو فِي حادثتين لِأَن الشَّيْء الْوَاحِد لَا يجوز أَن يكون مُطلقًا ومقيدا وَالْمُطلق سَاكِت والمقيد نَاطِق فَكَانَ هُوَ أولى بِأَن يَجْعَل أصلا وَيَبْنِي الْمُطلق عَلَيْهِ فَيثبت الحكم مُقَيّدا بهما كَمَا فِي نُصُوص الزَّكَاة فَإِن الْمُطلق عَن صفة السّوم مَحْمُول على الْمُقَيد بِصفة السّوم فِي حكم الزَّكَاة بالِاتِّفَاقِ وَكَذَلِكَ نُصُوص الشَّهَادَة فَإِن الْمُطلق عَن صفة الْعَدَالَة مَحْمُول على الْمُقَيد بهَا فِي اشْتِرَاط الْعَدَالَة فِي الشَّهَادَات كلهَا وَكَذَلِكَ نُصُوص الْهَدَايَا فَإِن الْمُطلق عَن التَّبْلِيغ وَهُوَ هدي الْمُتْعَة وَالْقرَان مَحْمُول على الْمُقَيد بالتبليغ وَهُوَ جَزَاء الصَّيْد يَعْنِي قَوْله {هَديا بَالغ الْكَعْبَة} حَتَّى يجب التَّبْلِيغ فِي الْهَدَايَا كلهَا وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ فِي حادثتين لِأَن التَّقْيِيد بِالْوَصْفِ بِمَنْزِلَة التَّعْلِيق بِالشّرطِ على مَا قَررنَا وكما أوجب نفي الحكم فِيهِ قبل وجود الشَّرْط أوجب فِي نَظِيره اسْتِدْلَالا بِهِ وَلِهَذَا شَرط الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الْيَمين وَالظِّهَار اسْتِدْلَالا بكفارة الْقَتْل لِأَن الْكل كَفَّارَة بالتحرير فَيكون بَعْضهَا نَظِير بعض بِمَنْزِلَة الطَّهَارَة فَإِن تَقْيِيد الْأَيْدِي بالمرافق فِي الْوضُوء جعل تقييدا فِي نَظِيره وَهُوَ التَّيَمُّم لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا طَهَارَة وَهَذَا بِخِلَاف مقادير الْكَفَّارَات والعبادات من الصَّلَوَات وَغَيرهَا لِأَن ثُبُوتهَا بالنصوص باسم الْعلم لَا بِالصّفةِ الَّتِي تجْرِي مجْرى الشَّرْط وَقد بَينا أَن اسْم الْعلم لَا يُوجب نفي الحكم قبل وجوده فِي الْمُسَمّى بِهِ فَكيف يُوجب ذَلِك فِي غَيره وَلَا يلْزَمنِي على هَذَا التَّتَابُع فِي صَوْم كَفَّارَة الْيَمين فَإِنِّي لَا أوجبه اسْتِدْلَالا بالمقيد بالتتابع فِي صَوْم الظِّهَار وَالْقَتْل لِأَن هَذَا الْمُطلق يُعَارض فِيهِ نَظَائِره من النُّصُوص فَمِنْهَا مُقَيّد بِصفة التَّتَابُع وَمِنْهَا مُقَيّد بِصفة التَّفَرُّق يَعْنِي صَوْم الْمُتْعَة قَالَ تَعَالَى {وَسَبْعَة إِذا رجعتم} حَتَّى لَو لم يفرق الصَّوْم فِيهَا لم يجز فَلَا يكون حملهَا على أَحدهمَا بِأولى من الآخر وَلأَجل هَذَا التَّعَارُض أثبتنا فِيهَا حكم الْإِطْلَاق بِالصَّوْمِ الْمُقَيد بالتتابع فِي بَاب الْكَفَّارَات فَذَلِك يلزمكم اشْتِرَاط صفة الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الْيَمين اعْتِبَارا بنظيرها فِي كَفَّارَة الْقَتْل وَعِنْدنَا هَذَا أبعد من الأول لِأَن الْعلَّة وَاحِدَة هُنَاكَ وَالْحكم مُخْتَلف وَهنا الحكم وَالْعلَّة جَمِيعًا مُخْتَلف فَكيف يُمكن تعرف حكم من حكم آخر أَو تعرف عِلّة من عِلّة أُخْرَى ثمَّ الدَّلِيل لنا من الْكتاب قَوْله تَعَالَى {لَا تسألوا} ثمَّ هَذَا يلزمكم فَإِنَّكُم أثبتم صفة التَّتَابُع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 فِي صَوْم كَفَّارَة الْيَمين اعْتِبَارا {عَن أَشْيَاء إِن تبد لكم تَسُؤْكُمْ} وَفِي الرُّجُوع إِلَى الْمُقَيد ليعرف مِنْهُ حكم الْمُطلق إقدام على هَذَا الْمنْهِي عَنهُ لما فِيهِ من ترك الْإِبْهَام فِيمَا أبهم الله تَعَالَى وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ أبهموا مَا أبهم الله وَاتبعُوا مَا بَين وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ أم الْمَرْأَة مُبْهمَة فأبهموها وَإِنَّمَا أَرَادَ قَوْله {وَأُمَّهَات نِسَائِكُم} فَإِن حرمتهَا مُطلقَة وَحُرْمَة الربيبة مُقَيّدَة بقوله تَعَالَى {من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن} وَهَذَا غير مَذْكُور على وَجه الشَّرْط بل على وَجه الزِّيَادَة فِي تَعْرِيف النِّسَاء فَإِن النِّسَاء الْمَذْكُورَة فِي قَوْله {وَأُمَّهَات نِسَائِكُم} معرف بِالْإِضَافَة إِلَيْنَا وَفِي قَوْله تَعَالَى {من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن} زِيَادَة تَعْرِيف أَيْضا بِمَنْزِلَة قَول الرجل عبد امْرَأَتي وَعبد امْرَأَتي الْبَيْضَاء فَلَا يكون ذَلِك فِي معنى الشَّرْط حَتَّى يكون دَلِيلا على نفي الحكم قبل وجوده كَمَا توهمه الْخصم وَكَذَلِكَ فِي كَفَّارَة الْقَتْل ذكر صفة الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة لتعريف الرَّقَبَة الْمَشْرُوعَة كَفَّارَة لَا على وَجه الشَّرْط وَإِنَّمَا لَا يجزىء الْكَافِر لِأَنَّهَا غير مَشْرُوعَة لَا لِانْعِدَامِ شَرط الْجَوَاز فِيمَا هُوَ مَشْرُوع كَمَا لَا تجزىء إِرَاقَة الدَّم وتحرير نصف الرَّقَبَة لِأَن الْكَفَّارَة مَا عرفت إِلَّا شرعا فَمَا لَيْسَ بمشروع لَا يحصل بِهِ التَّكْفِير وَفِي الْموضع الَّذِي هُوَ مَشْرُوع يحصل بِهِ التَّكْفِير وَلَا شكّ أَن انعدام كَونه مَشْرُوعا فِي مَوضِع لَا يُوجب نفي كَونه مَشْرُوعا فِي مَوضِع آخر وَلَو كَانَ مُوجبا لذَلِك لم يجز الْعَمَل بِهِ مَعَ النَّص الْمُطلق الَّذِي هُوَ دَلِيل كَونه مَشْرُوعا وَبِهَذَا تبين أَن فِيمَا ذهب إِلَيْهِ قولا بتناقض الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة أَو ترك الْعَمَل بِبَعْضِهَا ثمَّ للمطلق حكم وَهُوَ الْإِطْلَاق فَإِن للإطلاق معنى مَعْلُوما وَله حكم مَعْلُوم وللمقيد كَذَلِك فَكَمَا لَا يجوز حمل الْمُقَيد على الْمُطلق لإِثْبَات حكم الْإِطْلَاق فِيهِ لَا يجوز حمل الْمُطلق على الْمُقَيد لإِثْبَات حكم التَّقْيِيد فِيهِ وَلَئِن سلمنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 أَن الْقَيْد الْمَذْكُور بِمَنْزِلَة الشَّرْط وَأَنه يُوجب نفي الحكم قبله فِيهِ فَلَا يُوجب ذَلِك فِي غَيره مَا لم تثبت الْمُمَاثلَة (بَينهمَا وَلَا مماثلة) فِي الْمَعْنى بَين أم الْمَرْأَة وابنتها لِأَن أم الْمَرْأَة تبرز إِلَى زوج ابْنَتهَا قبل الزفاف عَادَة والربيبة تمنع من ذَلِك بعد الزفاف فضلا عَمَّا قبله وَكَذَلِكَ لَا مماثلة بَين سَبَب كَفَّارَة الْقَتْل وَبَين سَائِر أَسبَاب الْكَفَّارَة فَإِن الْقَتْل بِغَيْر حق لَا يكون فِي معنى الْجِنَايَة كالظهار أَو الْيَمين وَلَا مماثلة فِي الحكم أَيْضا فالرقبة عين فِي كَفَّارَة الْقَتْل وَلَا مدْخل للإطعام فِيهَا وَالصَّوْم مُقَدّر بشهرين مُتَتَابعين وَفِي الظِّهَار للإطعام مدْخل عِنْد الْعَجز عَن الصَّوْم وَفِي الْيَمين يتَخَيَّر بَين ثَلَاثَة أَشْيَاء وَيَكْفِي إطْعَام عشرَة مَسَاكِين وَعند الْعَجز يتَأَدَّى بِصَوْم ثَلَاثَة أَيَّام فَمَعَ انعدام الْمُمَاثلَة فِي السَّبَب وَالْحكم كَيفَ يَجْعَل مَا يدل على نفي الحكم فِي كَفَّارَة الْقَتْل دَلِيلا على النَّفْي فِي كَفَّارَة الْيَمين وَالظِّهَار وَإِذا كَانَ هُوَ لَا يعْتَبر الصَّوْم فِي كَفَّارَة الْيَمين بِالصَّوْمِ فِي سَائِر الْكَفَّارَات فِي صفة التَّتَابُع لِانْعِدَامِ الْمُمَاثلَة فَكيف يَسْتَقِيم مِنْهُ اعْتِبَار الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الْيَمين بِالرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَة الْقَتْل وَمَا ذكره من الْعذر بَاطِل فالمطلق فِي كَفَّارَة إِنَّمَا يحمل على الْمُقَيد فِي الْكَفَّارَة أَيْضا وَلَيْسَ فِي صَوْم الْكَفَّارَة مُقَيّد بالتفرق فَإِن صَوْم الْمُتْعَة لَيْسَ بكفارة بل هُوَ نسك بِمَنْزِلَة إِرَاقَة الدَّم الَّذِي كَانَ الصَّوْم خلفا عَنهُ ثمَّ هُوَ غير مُقَيّد بالتفرق فَإِنَّهُ وَإِن فرقه قبل الرُّجُوع لَا يجوز وَلكنه مُضَاف إِلَى وَقت بِحرف إِذا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَسَبْعَة إِذا رجعتم} والمضاف إِلَى وَقت لَا يجوز قبل ذَلِك الْوَقْت كَصَوْم رَمَضَان قبل شُهُود الشَّهْر وَصَلَاة الظّهْر قبل زَوَال الشَّمْس وَعِنْدنَا شَرط التَّتَابُع فِيهِ لَيْسَ بِحمْل الْمُطلق على الْمُقَيد بل بِقِرَاءَة ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ (فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات) وقراءته لَا تكون دون خبر يرويهِ وَقد كَانَ مَشْهُور إِلَى عهد أبي حنيفَة رَحمَه الله وبالخبر الْمَشْهُور تثبت الزِّيَادَة على النَّص على مَا نبينه فَإِن قيل لماذا لم تجْعَلُوا قِرَاءَته كنص آخر ثمَّ عملتم بهما جَمِيعًا كَمَا فَعلْتُمْ فِي صَدَقَة الْفطر حَيْثُ أوجبتم الصَّدَقَة عَن العَبْد الْكَافِر بِالنَّصِّ الْمُطلق وَعَن العَبْد الْمُسلم بِالنَّصِّ الْمُقَيد قُلْنَا لِأَن الحكم هُنَا وَاحِد وَهُوَ تأدي الْكَفَّارَة بِالصَّوْمِ فبعدما صَار مُقَيّدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 بِنَصّ لَا يبْقى ذَلِك الحكم بِعَيْنِه مُطلقًا فَأَما فِي صَدَقَة الْفطر النصان فِي بَيَان السَّبَب دون الحكم وَأحد السببين لَا يَنْفِي السَّبَب الآخر فَيجوز أَن يكون ملك العَبْد الْمُطلق سَببا لوُجُوب صَدَقَة الْفطر بِأحد النصين وَملك العَبْد الْمُسلم سَببا بِالنَّصِّ الآخر وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله يجوز التَّيَمُّم بِكُل مَا هُوَ من جنس الأَرْض بِاعْتِبَار النَّص الْمُطلق وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا وبالتراب بِاعْتِبَار النَّص الْمُقَيد وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام التُّرَاب طهُور الْمُسلم لِأَن الْمحل مُخْتَلف وَإِن كَانَ الحكم وَاحِدًا فيستقيم إِثْبَات الْمَحَلِّيَّة بِاعْتِبَار كل نَص فِي شَيْء آخر فَأَما التَّيَمُّم إِلَى الْمرَافِق فَلم نشترطه بِحمْل الْمُطلق على الْمُقَيد إِذْ لَو جَازَ ذَلِك لَكَانَ الأولى إِثْبَات التَّيَمُّم فِي الرَّأْس وَالرجل اعْتِبَارا بِالْوضُوءِ وَإِنَّمَا عرفنَا ذَلِك بِنَصّ فِيهِ وَهُوَ حَدِيث الأسلع أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علمه التَّيَمُّم ضربتين ضَرْبَة للْوَجْه وضربة للذراعين إِلَى الْمرْفقين وَهُوَ مَشْهُور يثبت بِمثلِهِ التَّقْيِيد فَإِذا صَار مُقَيّدا لَا يبْقى ذَلِك الحكم بِعَيْنِه مُطلقًا فَأَما صفة السَّائِمَة فِي الزَّكَاة فَهُوَ ثَابت بِالنَّصِّ الْمُقَيد وَإِنَّمَا لَا نوجب الزَّكَاة فِي غير السَّائِمَة لنَصّ مُوجب للنَّفْي وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا زَكَاة فِي العوامل لَا بِاعْتِبَار حمل الْمُطلق على الْمُقَيد وَاشْتِرَاط الْعَدَالَة فِي الشَّهَادَات بِاعْتِبَار وجوب التَّوَقُّف (وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} أَي توقفوا) فِي خبر الْفَاسِق بِالنَّصِّ وَبِاعْتِبَار قَوْله تَعَالَى {مِمَّن ترْضونَ من الشُّهَدَاء} وَالْفَاسِق لَا يكون مرضيا لَا بِحمْل الْمُطلق على الْمُقَيد وَاشْتِرَاط التَّبْلِيغ فِي الْهَدَايَا بِاعْتِبَار النَّص الْوَارِد فِيهِ وَهُوَ أَن الله تَعَالَى بعد ذكر الْهَدَايَا قَالَ {ثمَّ محلهَا إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق} أَو بِمُقْتَضى اسْم الْهَدْي فَإِنَّهُ اسْم لما يهدي إِلَى مَوضِع وبمجرد اسْم الْكَفَّارَة لَا تثبت الْمُمَاثلَة بَين وَاجِبَات مُتَفَاوِتَة فِي أَنْفسهَا ليتعرف حكم بَعْضهَا من بعض كَمَا لَا تثبت الْمُمَاثلَة بَين الصَّلَوَات فِي مِقْدَار الرَّكْعَات والشرائط نَحْو الْخطْبَة وَالْجَمَاعَة فِي صَلَاة الْجُمُعَة حَتَّى يعْتَبر بَعْضهَا بِبَعْض وَإِن جمعهَا اسْم الصَّلَاة وَصَارَ حَاصِل الْكَلَام أَن النَّفْي ضد الْإِثْبَات فالنص الْمُوجب لإِثْبَات حكم لَا يُوجب ضد ذَلِك الحكم بعبارته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وَلَا بإشارته وَلَا بدلالته وَلَا بِمُقْتَضَاهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ من جملَة مَا لَا يسْتَغْنى عَنهُ حَتَّى يكون مقتضيا إِيَّاه فإثبات النَّفْي بِهِ بعد هَذَا لَا يكون إِلَّا إِثْبَات الحكم بِلَا دَلِيل والاحتجاج بِلَا حجَّة وَذَلِكَ بَاطِل على مَا نثبته فِي بَابه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَنحن إِذا قُلْنَا يثبت بالمطلق حكم الْإِطْلَاق وبالمقيد حكم التَّقْيِيد فقد عَملنَا بِكُل دَلِيل بِحَسب الْإِمْكَان والتفاوت بَين الْعَمَل بِالدَّلِيلِ وَبَين الْعَمَل بِلَا دَلِيل لَا يخفى على كل متأمل وَمن هَذَا الْجِنْس مَا قَالَه الشَّافِعِي رَحمَه الله إِن الْأَمر بالشَّيْء يَقْتَضِي النَّهْي عَن ضِدّه وَالنَّهْي عَن الشَّيْء يكون أمرا بضده وَقد بَينا فَسَاد هَذَا الْكَلَام فِيمَا سبق وَمن هَذِه الْجُمْلَة قَول بعض الْعلمَاء إِن الْعَام يخْتَص بِسَبَبِهِ وَعِنْدنَا هَذَا على أَرْبَعَة أوجه أَحدهَا أَن يكون السَّبَب مَنْقُولًا مَعَ الحكم نَحْو مَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَهَا فَسجدَ وَأَن ماعزا زنى فرجم وَنَحْو قَوْله تَعَالَى {إِذا تداينتم بدين إِلَى أجل مُسَمّى فاكتبوه} وَهَذَا يُوجب تَخْصِيص الحكم بِالسَّبَبِ الْمَنْقُول لِأَنَّهُ لما نقل مَعَه فَذَلِك تنصيص على أَنه بِمَنْزِلَة الْعلَّة للْحكم الْمَنْصُوص وكما لَا يثبت الحكم بِدُونِ علية لَا يبْقى بِدُونِ الْعلَّة مُضَافا إِلَيْهَا بل الْبَقَاء بِدُونِهَا يكون مُضَافا إِلَى عِلّة أُخْرَى وَالثَّانِي أَن لَا يكون السَّبَب مَنْقُولًا وَلَكِن الْمَذْكُور مِمَّا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ وَلَا يكون مفهوما بِدُونِ السَّبَب الْمَعْلُوم بِهِ فَهَذَا يتَقَيَّد بِهِ أَيْضا نَحْو قَول الرجل أَلَيْسَ لي عنْدك كَذَا فَيَقُول بلَى أَو يَقُول أَكَانَ من الْأَمر كَذَا فَيَقُول نعم أَو أجل فَهَذِهِ الْأَلْفَاظ لَا تستقل بِنَفسِهَا مفهومة الْمَعْنى فتتقيد بالسؤال الْمَذْكُور الَّذِي كَانَ سَببا لهَذَا الْجَواب حَتَّى جعل إِقْرَارا بذلك وَبِاعْتِبَار أصل اللُّغَة بلَى مَوْضُوع للجواب عَن صِيغَة نفي فِيهِ معنى الِاسْتِفْهَام كَمَا قَالَ تَعَالَى {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} وَنعم جَوَاب لما هُوَ مَحْض الِاسْتِفْهَام قَالَ تَعَالَى {فَهَل وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا قَالُوا نعم} وَأجل تصلح لَهما وَقد تسْتَعْمل بلَى وَنعم فِي جَوَاب مَا لَيْسَ باستفهام على أَن يقدر فِيهِ معنى الِاسْتِفْهَام أَو يكون مستعارا عَنهُ هَذَا مَذْهَب أهل اللُّغَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 فَأَما مُحَمَّد رَحمَه الله فقد ذكر فِي كتاب الْإِقْرَار مسَائِل بناها على هَذِه الْكَلِمَات من غير اسْتِفْهَام فِي السُّؤَال أَو احْتِمَال اسْتِفْهَام وَجعلهَا إِقْرَارا صَحِيحا بطرِيق الْجَواب وَكَأَنَّهُ ترك اعْتِبَار حَقِيقَة اللُّغَة فِيهَا لعرف الِاسْتِعْمَال وَالثَّالِث أَن يكون مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ مَفْهُوم الْمَعْنى وَلكنه خرج جَوَابا للسؤال وَهُوَ غير زَائِد على مِقْدَار الْجَواب فَبِهَذَا يتَقَيَّد بِمَا سبق وَيصير مَا ذكر فِي السُّؤَال كالمعاد فِي الْجَواب لِأَنَّهُ بِنَاء عَلَيْهِ وَبَيَان هَذَا فِيمَا إِذا قَالَ لغيره تعال تغد معي فَقَالَ إِن تغديت فَعَبْدي حر فَهَذَا يخْتَص بذلك الْغَدَاء وَلَو قَالَت لَهُ امْرَأَته إِنَّك تَغْتَسِل فِي هَذِه الدَّار اللَّيْلَة من جَنَابَة فَقَالَ إِن اغْتَسَلت فَعَبْدي حر فَإِنَّهُ يخْتَص بذلك الِاغْتِسَال الْمَذْكُور فِي السُّؤَال وَالرَّابِع أَن يكون مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ زَائِدا على مَا يتم بِهِ الْجَواب بِأَن يَقُول إِن تغديت الْيَوْم أَو إِن اغْتَسَلت اللَّيْلَة فموضع الْخلاف هَذَا الْفَصْل فعندنا لَا يخْتَص مثل هَذَا الْعَام بِسَبَبِهِ لِأَن فِي تَخْصِيصه بِهِ إِلْغَاء الزِّيَادَة وَفِي جعله نصا مُبْتَدأ اعْتِبَار الزِّيَادَة الَّتِي تكلم بهَا وإلغاء الْحَال وَالْعَمَل بالْكلَام لَا بِالْحَال فإعمال كَلَامه مَعَ إِلْغَاء الْحَال أولى من إِلْغَاء بعض كَلَامه وَفِيمَا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ قيدناه بِالسَّبَبِ بِاعْتِبَار أَن الْكل صَار بِمَنْزِلَة الْمَذْكُور وبمنزلة كَلَام وَاحِد فَلَا يجوز إِعْمَال بعضه دون الْبَعْض فَفِي هَذَا الْموضع لِأَن لَا يجوز إِعْمَال بعض كَلَامه وإلغاء الْبَعْض كَانَ أولى إِلَّا أَن يَقُول نَوَيْت الْجَواب فَحِينَئِذٍ يدين فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى وَتجْعَل تِلْكَ الزِّيَادَة للتوكيد وعَلى قَول بعض الْعلمَاء هَذَا يحمل على الْجَواب أَيْضا بِاعْتِبَار الْحَال فَيكون ذَلِك عملا بالمسكوت وتركا للْعَمَل بِالدَّلِيلِ لِأَن الْحَال مسكوت عَنهُ وَالِاسْتِدْلَال بالمسكوت يكون اسْتِدْلَالا بِلَا دَلِيل فَكيف يجوز بِاعْتِبَارِهِ ترك الْعَمَل بِالدَّلِيلِ وَهُوَ الْمَنْصُوص وَالدَّلِيل على صِحَة مَا قُلْنَا إِن بَين أهل التَّفْسِير اتِّفَاقًا أَن نزُول آيَة الظِّهَار كَانَ بِسَبَب خَوْلَة ثمَّ لم يخْتَص الحكم بهَا ونزول آيَة الْقَذْف كَانَ بِسَبَب قصَّة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا ثمَّ لم يخْتَص بهَا ونزول آيَة اللّعان كَانَ بِسَبَب مَا قَالَ سعد بن عبَادَة ثمَّ لم يخْتَص بِهِ وَدخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 فَوَجَدَهُمْ يسلفون فِي الثِّمَار السّنة والسنتين فَقَالَ من أسلم فليسلم فِي كيل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم فقد كَانَ سَبَب هَذَا النَّص إسْلَامهمْ إِلَى أجل مَجْهُول ثمَّ لم يخْتَص هَذَا النَّص بذلك السَّبَب وأمثلة هَذَا كثير فَعرفنَا أَن الْعَام لَا يخْتَص بِسَبَبِهِ وَمن هَذِه الْجُمْلَة تَخْصِيص الْعَام بغرض الْمُتَكَلّم فَإِن من النَّاس من يَقُول يخْتَص الْكَلَام بِمَا يعلم من غَرَض الْمُتَكَلّم لِأَنَّهُ يظْهر بِكَلَامِهِ غَرَضه فَيجب بِنَاء كَلَامه فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص والحقيقة وَالْمجَاز على مَا يعلم من غَرَضه وَيجْعَل ذَلِك الْغَرَض كالمذكور وعَلى هَذَا قَالُوا الْكَلَام الْمَذْكُور للمدح والذم وَالثنَاء وَالِاسْتِثْنَاء لَا يكون لَهُ عُمُوم لأَنا نعلم أَنه لم يكن غَرَض الْمُتَكَلّم بِهِ الْعُمُوم وَعِنْدنَا هَذَا فَاسد لِأَنَّهُ ترك مُوجب الصِّيغَة بِمُجَرَّد التشهي وَعمل بالمسكوت فَإِن الْغَرَض مسكوت عَنهُ فَكيف يجوز الْعَمَل بالمسكوت وَترك الْعَمَل بالمنصوص بِاعْتِبَارِهِ وَلَكِن الْعَام يعرف بصيغته فَإِذا وجدت تِلْكَ الصِّيغَة وَأمكن الْعَمَل بحقيقتها يجب الْعَمَل والإمكان قَائِم مَعَ اسْتِعْمَال الصِّيغَة للمدح والذم (فَإِن الْمَدْح الْعَام وَالثنَاء الْعَام من عَادَة أهل اللِّسَان وَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاء والذم) وَاعْتِبَار الْغَرَض اعْتِبَار نوع احْتِمَال ولأجله لَا يجوز ترك الْعَمَل بِحَقِيقَة الْكَلَام وَمن ذَلِك مَا قَالَه بعض الْأَحْدَاث من الْفُقَهَاء إِن الْقُرْآن فِي النّظم يُوجب الْمُسَاوَاة فِي الحكم وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَا رفث وَلَا فسوق وَلَا جِدَال فِي الْحَج} فَإِن هَذِه جمل قرن بَعْضهَا بِبَعْض بِحرف النّظم وَهُوَ الْوَاو وَقَالُوا يَسْتَوِي حكمهَا فِي الْحَج وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} إِن ذَلِك يُوجب سُقُوط الزَّكَاة عَن الصَّبِي لِأَن الْقرَان فِي النّظم دَلِيل الْمُسَاوَاة فِي الحكم فَلَا تجب الزَّكَاة على من لَا تجب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَعِنْدنَا هَذَا فَاسد وَهُوَ من جنس الْعَمَل بالمسكوت وَترك الْعَمَل بِالدَّلِيلِ لأَجله فَإِن كلا من الْجمل مَعْلُوم بِنَفسِهِ وَلَيْسَ فِي وَاو النّظم دَلِيل الْمُشَاركَة بَينهمَا فِي الحكم إِنَّمَا ذَلِك فِي وَاو الْعَطف وَفرق مَا بَينهمَا أَن وَاو النّظم تدخل بَين جملتين كل وَاحِدَة مِنْهُمَا تَامَّة بِنَفسِهَا مستغنية عَن خبر الآخر كَقَوْل الرجل جَاءَنِي زيد وَتكلم عَمْرو فَذكر الْوَاو بَينهمَا لحسن النّظم وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {لنبين لكم ونقر فِي الْأَرْحَام مَا نشَاء} وَقَالَ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 لَا للْعَطْف تَعَالَى {فَإِن يَشَأْ الله يخْتم على قَلْبك ويمح الله الْبَاطِل} وَأما وَاو الْعَطف فَإِنَّهُ يدْخل بَين جملتين أَحدهمَا نَاقص وَالْآخر تَامّ بِأَن لَا يكون خبر النَّاقِص مَذْكُورا فَلَا يكون مُفِيدا بِنَفسِهِ وَلَا بُد من جعل الْخَبَر الْمَذْكُور للْأولِ خَبرا للثَّانِيَة حَتَّى يصير مُفِيدا كَقَوْل الرجل جَاءَنِي زيد وَعَمْرو فَهَذَا الْوَاو للْعَطْف لِأَنَّهُ لم يذكر لعَمْرو خَبرا وَلَا يُمكن جعل (هَذَا) الْخَبَر الأول خَبرا لَهُ إِلَّا بِأَن يَجْعَل الْوَاو للْعَطْف حَتَّى يصير ذَلِك الْخَبَر كالمعاد لِأَن مُوجب الْعَطف الِاشْتِرَاك بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فِي الْخَبَر فَمن قَالَ بالْقَوْل الأول فقد ذهب إِلَى التَّسْوِيَة بَين وَاو الْعَطف وواو النّظم بِاعْتِبَار أَن الْوَاو فِي أصل اللُّغَة للْعَطْف وَمُوجب الْعَطف الِاشْتِرَاك وَمُطلق الِاشْتِرَاك يَقْتَضِي التَّسْوِيَة فَذَلِك دَلِيل على أَن الْقرَان فِي النّظم يُوجب الْمُسَاوَاة فِي الحكم ثمَّ الأَصْل أَنا نفهم من خطاب صَاحب الشَّرْع مَا يتفاهم من المخاطبات بَيْننَا وَمن يَقُول امْرَأَته طَالِق وَعَبده حر إِن دخل الدَّار فَإِنَّهُ يقْصد الِاشْتِرَاك بَين الْمَذْكُورين فِي التَّعْلِيق بِالشّرطِ وَذَلِكَ يفهم من كَلَامه حَتَّى يَجْعَل الْكل مُتَعَلقا بِالشّرطِ وَإِن كَانَ كل وَاحِد من الْكَلَامَيْنِ تَاما لكَونه مُبْتَدأ وخبرا مَفْهُوم الْمَعْنى بِنَفسِهِ فَعَلَيهِ يحمل أَيْضا مُطلق كَلَام صَاحب الشَّرْع وَلَكنَّا نقُول الْمُشَاركَة فِي الْخَبَر عِنْد وَاو الْعَطف لحَاجَة الْجُمْلَة النَّاقِصَة إِلَى الْخَبَر لَا لعين الْوَاو وَهَذِه الْحَاجة تنعدم فِي وَاو النّظم لِأَن كل وَاحِد من الْكَلَامَيْنِ تَامّ بِمَا ذكر لَهُ من الْخَبَر فَكَانَ هَذَا الْوَاو ساكتا عَمَّا يُوجب الْمُشَاركَة فإثبات الْمُشَاركَة بِهِ يكون اسْتِدْلَالا بالمسكوت يُوضحهُ أَنه لَو كَانَت الْمُشَاركَة تثبت بِاعْتِبَار هَذَا الْوَاو لثبتت فِي خبر كل جملَة إِذْ لَيْسَ خبر إِحْدَى الجملتين بذلك بِأولى من الآخر وَهَذَا خلاف مَا عَلَيْهِ إِجْمَاع أهل اللِّسَان فَأَما إِذا قَالَ امْرَأَته طَالِق وَعَبده حر إِن دخل الدَّار فَكل وَاحِد مِنْهُمَا تَامّ فِي نَفسه إيقاعا لَا تَعْلِيقا بِالشّرطِ وَالتَّعْلِيق تصرف سوى الْإِيقَاع فَفِيمَا يرجع إِلَى التَّعْلِيق إِحْدَى الجملتين نَاقِصَة فأثبتنا الْمُشَاركَة بَينهمَا فِي حكم التَّعْلِيق بواو الْعَطف حَتَّى إِذا لم يذكر الشَّرْط وَكَانَ كَلَامه إيقاعا لم تثبت الْمُشَاركَة بَينهمَا فِي الْخَبَر وَجعل وَاو النّظم مائَة دِينَار وَلفُلَان ألف دِرْهَم إِلَّا عشرَة يَجْعَل الِاسْتِثْنَاء من آخر الْمَالَيْنِ ذكرا لِأَن بِالِاسْتِثْنَاءِ لَا يخرج الْكَلَام من أَن يكون إِقْرَارا وَبِاعْتِبَار الْإِقْرَار كل وَاحِد من الجملتين تَامَّة فَيكون الْوَاو للنظم وينصرف الِاسْتِثْنَاء إِلَى مَا يَلِيهِ خَاصَّة وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 لتحسين الْكَلَام بِهِ فَإِنَّهُ مُسْتَعْمل كَمَا بَينا وَلِهَذَا لَو قَالَ لفُلَان عَليّ إِن هَذَا الْوَاو للنظم حَتَّى ينْصَرف الِاسْتِثْنَاء إِلَى سمة الْفسق دون مَا تقدمه وَالشَّافِعِيّ يَجْعَل هَذَا الْوَاو للْعَطْف وَالْوَاو الَّذِي فِي قَوْله {وَلَا تقبلُوا لَهُم} للنظم حَتَّى يكون الِاسْتِثْنَاء منصرفا إِلَيْهِمَا دون الْجلد فَلَا يسْقط الْجلد بِالتَّوْبَةِ وَالصَّحِيح مَا قُلْنَا فَإِن من حَيْثُ الصِّيغَة معنى الْعَطف يتَحَقَّق فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقبلُوا} وَلَا يتَحَقَّق فِي قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} لِأَن قَول الْقَائِل اجْلِسْ وَلَا تَتَكَلَّم يكون عطفا صَحِيحا فَكَذَلِك قَوْله تَعَالَى {فاجلدوا} {وَلَا تقبلُوا} لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا خطاب للأئمة فَأَما قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} لَيْسَ بخطاب للأئمة وَلَكِن إِخْبَار عَن وصف القاذفين فَلَا يصلح مَعْطُوفًا على مَا هُوَ خطاب فجعلناه للنظم وَكَذَلِكَ من حَيْثُ الْمَعْنى قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقبلُوا} صَالح لِأَن يكون متمما للحد مَعْطُوفًا على الْجلد فَإِن إهدار قَوْله فِي الشَّهَادَات شرعا مؤلم كالجلد وَهَذَا الْأَلَم عِنْد الْعُقَلَاء يزْدَاد على ألم الْجلد فيصلح متمما للحد زاجرا عَن سَببه وَلِهَذَا خُوطِبَ بِهِ الْأَئِمَّة فَإِن إِقَامَة الْحَد إِلَيْهِم فَأَما قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} فَمَعْنَاه العاصون وَذَلِكَ بَيَان لجريمة الْقَاذِف فَلَا يصلح جَزَاء على الْقَذْف حَتَّى يكون متمما للحد بل الْمَقْصُود بِهِ إِزَالَة إِشْكَال كَانَ يَقع عَسى وَهُوَ أَن الْقَذْف خبر متميل وَرُبمَا يكون حسبَة إِذا كَانَ الرَّامِي صَادِقا وَله أَرْبَعَة من الشُّهُود وَالزَّانِي مصر فَكَانَ يَقع الْإِشْكَال أَنه لما كَانَ سَببا لوُجُوب عُقُوبَة تندرىء بِالشُّبُهَاتِ فأزال الله هَذَا الْإِشْكَال بقوله {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} أَي العاصون بهتك ستر الْعِفَّة من غير فَائِدَة حِين عجزوا عَن إِقَامَة أَرْبَعَة من الشُّهَدَاء وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإذْ لم يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِك عِنْد الله هم الْكَاذِبُونَ} ويتبين بِهَذَا التَّحْقِيق أَن الْعَمَل بِالنَّصِّ كَمَا يُوجِبهُ فِيمَا قُلْنَا فَإنَّا جعلنَا الْعَجز عَن إِقَامَة أَرْبَعَة كَمَا هُوَ مُوجب حرف ثمَّ فَإِنَّهُ للتعقيب مَعَ التَّرَاخِي وَجَعَلنَا الْوَاو فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقبلُوا} للْعَطْف فَكَانَ رد الشَّهَادَة متمما للحد كَمَا هُوَ مُوجب من الشُّهَدَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 مضموما إِلَى الْقَذْف ليتَحَقَّق بهما السَّبَب الْمُوجب للعقوبة وَاو الْعَطف وَجَعَلنَا الْوَاو فِي قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ} للنظم كَمَا هُوَ مُقْتَضى صِيغَة الْكَلَام وَالشَّافِعِيّ ترك الْعَمَل بِحرف ثمَّ وَجعل نفس الْقَذْف مُوجبا للحد وَجعل الْوَاو فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقبلُوا} للنظم وَفِي قَوْله {وَأُولَئِكَ} للْعَطْف وكل ذَلِك مُخَالف لمقْتَضى صِيغَة الْكَلَام فَكَانَ الصَّحِيح مَا قُلْنَاهُ وَمن هَذِه الْجُمْلَة حكم الْجمع الْمُضَاف إِلَى جمَاعَة نَحْو قَوْله تَعَالَى {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة} وَقَوله تَعَالَى {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} فَإِن من النَّاس من يَقُول حِكْمَة حَقِيقَة الْجَمَاعَة فِي حق كل وَاحِد مِمَّن أضيف إِلَيْهِم وَزَعَمُوا أَن حَقِيقَة الْكَلَام هَذَا فَإِن الْمُضَاف إِلَى جمَاعَة يكون مُضَافا إِلَى كل وَاحِد مِنْهُم وَإِذا كَانَت الصِّيغَة الَّتِي بهَا حصلت الْإِضَافَة صِيغَة الْجَمَاعَة وَبهَا يثبت الحكم فِي كل وَاحِد مِنْهُم مَا هُوَ مُقْتَضى هَذِه الصِّيغَة قولا بِحَقِيقَة الْكَلَام أَلا ترى أَن الْإِضَافَة لَو حصلت بِصِيغَة الْفَرد تثبت فِي كل وَاحِد مِنْهُم الحكم الَّذِي هُوَ مُوجب تِلْكَ الصِّيغَة وَعِنْدنَا هَذَا فَاسد وَهُوَ من جنس القَوْل بالمسكوت وَلَكِن مُقْتَضى هَذِه الصِّيغَة مُقَابلَة الْآحَاد بالآحاد على مَا قَالَ فِي الْجَامِع إِذا قَالَ لامرأتين لَهُ إِذا ولدتما وَلدين فأنتما طالقان فَولدت كل وَاحِدَة مِنْهُمَا ولدا طلقتا وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ إِذا حضتما حيضتين أَو قَالَ إِذا دخلتما هَاتين الدَّاريْنِ فَدخلت كل وَاحِدَة مِنْهُمَا دَارا فهما طالقان وَلَا يشْتَرط دُخُول كل وَاحِدَة مِنْهُمَا فِي الدَّاريْنِ جَمِيعًا وَمَا قُلْنَاهُ هُوَ الْمَعْلُوم من مخاطبات النَّاس فَإِن الرجل يَقُول لبس الْقَوْم ثِيَابهمْ وحلقوا رؤوسهم وركبوا دوابهم وَإِنَّمَا يفهم من ذَلِك أَن كل وَاحِد مِنْهُم لبس ثَوْبه وَركب دَابَّته وَحلق رَأسه وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَول الشَّاعِر وَإِنَّا نرى أقدامنا فِي نعَالهمْ وآنفنا بَين اللحى والحواجب وَالْمرَاد مَا قُلْنَا وَكتاب الله يشْهد بِهِ قَالَ تَعَالَى {جعلُوا أَصَابِعهم فِي آذانهم واستغشوا ثِيَابهمْ} وَالْمرَاد أَن كل وَاحِد مِنْهُم جعل أُصْبُعه فِي أُذُنه لَا فِي آذان الْجَمَاعَة واستغشى ثَوْبه وَقَالَ تَعَالَى {فقد صغت قُلُوبكُمَا} وَالْمرَاد فِي حق كل وَاحِدَة مِنْهُمَا قَلبهَا وَقَالَ تَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وَالْمرَاد قطع يَد وَاحِدَة من كل وَاحِد مِنْهُمَا لَا قطع جَمِيع مَا يُسمى يدا من كل وَاحِد مِنْهُمَا لاتفاقنا على أَن بِالسَّرقَةِ الْوَاحِدَة لَا تقطع إِلَّا يَد وَاحِدَة من السَّارِق وَقد بَينا أَن مُطلق الْكَلَام مَحْمُول على مَا يتفاهمه النَّاس فِي مخاطباتهم فَهُوَ اعْتِبَار الصِّيغَة بِدُونِ الْإِضَافَة وَالْمَنْصُوص عَلَيْهِ الصِّيغَة مَعَ الْإِضَافَة إِلَى الْجَمَاعَة وَمَعَ الْإِضَافَة إِلَى الْجَمَاعَة مُوجب الصِّيغَة حَقِيقَة لَيْسَ مَا ادعوا بل مُوجبه مَا قُلْنَا لِأَن مَا ادعوا يثبت بِدُونِ الْإِضَافَة إِلَى الْجَمَاعَة (وَمَا قُلْنَا لَا يثبت بِدُونِ الْإِضَافَة إِلَى الْجَمَاعَة) فَعرفنَا أَن حَقِيقَة الْعَمَل بالمنصوص فِيمَا قُلْنَا وَفِيمَا قَالُوا ترك الْعَمَل بِالدَّلِيلِ الْمَنْصُوص وَعمل بالمسكوت فَيكون فَاسِدا هَذَا بَيَان الطَّرِيق فِيمَا هُوَ فَاسد من وُجُوه الْعَمَل بالمنصوص كَمَا ذهب إِلَيْهِ بعض النَّاس وَقد بَينا الطَّرِيق الصَّحِيح من ذَلِك فِي أول الْبَاب فَمن فهم الطَّرِيقَيْنِ يَتَيَسَّر عَلَيْهِ تَمْيِيز الصَّحِيح من الِاسْتِدْلَال بِجَمِيعِ النُّصُوص وَالْفَاسِد وَإِن خَفِي عَلَيْهِ شَيْء فَهُوَ يخرج بِالتَّأَمُّلِ على مَا بَينا من كل طَرِيق وَالله أعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب بَيَان الْحجَّة الشَّرْعِيَّة وأحكامها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْحجَّة لُغَة اسْم من قَول الْقَائِل حج أَي غلب وَمِنْه يُقَال لج فحج وَيَقُول الرجل حاججته فحججته أَي ألزمته بِالْحجَّةِ فَصَارَ مَغْلُوبًا ثمَّ سميت الْحجَّة فِي الشَّرِيعَة لِأَنَّهُ يلْزمنَا حق الله تَعَالَى بهَا على وَجه يَنْقَطِع بهَا الْعذر وَيجوز أَن يكون مأخوذا من معنى الرُّجُوع إِلَيْهِ كَمَا قَالَ الْقَائِل يحجون بَيت الزبْرِقَان المزعفرا أَي يرجعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْه حج الْبَيْت فَإِن النَّاس يرجعُونَ إِلَيْهِ معظمين لَهُ قَالَ تَعَالَى {وَإِذ جعلنَا الْبَيْت مثابة للنَّاس وَأمنا} والمثابة الْمرجع فسميت الْحجَّة لوُجُوب الرُّجُوع إِلَيْهَا من حَيْثُ الْعَمَل بهَا شرعا وَيَسْتَوِي إِن الرُّجُوع إِلَيْهَا بِالْعَمَلِ بهَا وَاجِب شرعا فِي الْوَجْهَيْنِ على مَا نبينه فِي بَاب خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالْبَيِّنَة كالحجة فَإِنَّهَا مُشْتَقَّة من الْبَيَان وَهُوَ أَن يظْهر للقلب وَجه الْإِلْزَام بهَا سَوَاء كَانَ ظهورا مُوجبا للْعلم أَو دون ذَلِك لِأَن الْعَمَل يجب فِي الْوَجْهَيْنِ وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {فِيهِ آيَات بَيِّنَات} أَي عَلَامَات ظاهرات كَانَت مُوجبَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 للْعلم قطعا أَو كَانَت مُوجبَة للْعَمَل دون الْعلم قطعا لِأَن والبرهان كَذَلِك فَإِنَّهُ مُسْتَعْمل اسْتِعْمَال الْحجَّة فِي لِسَان الْفُقَهَاء وَأما الْآيَة فمعناها لُغَة الْعَلامَة قَالَ الله تَعَالَى {فِيهِ آيَات بَيِّنَات} وَقَالَ الْقَائِل وَغير آيها الْعَصْر ومطلقها فِي الشَّرِيعَة ينْصَرف إِلَى مَا يُوجب الْعلم قطعا وَلِهَذَا سميت معجزات الرُّسُل آيَات قَالَ الله تَعَالَى {وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى تسع آيَات بَيِّنَات} وَقَالَ تَعَالَى {فاذهبا بِآيَاتِنَا} فَإِن قيل من النَّاس من جحد رِسَالَة الرُّسُل بعد رُؤْيَة المعجزات وَالْوُقُوف عَلَيْهَا وَلَو كَانَت مُوجبَة للْعلم قطعا لما أنكرها أحد بعد المعاينة قُلْنَا هَذِه الْآيَات لَا توجب الْعلم خَبرا فَإِنَّهَا لَو أوجبت ذَلِك انْعَدم الثَّوَاب وَالْعِقَاب بهَا أصلا وَإِنَّمَا توجب الْعلم بِاعْتِبَار التَّأَمُّل فِيهَا عَن إنصاف لَا عَن تعنت وَمَعَ هَذَا التَّأَمُّل يثبت الْعلم بهَا قطعا وَإِنَّمَا جَحدهَا من جَحدهَا للإعراض عَن هَذَا التَّأَمُّل كَمَا ذكر الله تَعَالَى فِي قَوْله {وَقَالُوا قُلُوبنَا فِي أكنة مِمَّا تدعونا إِلَيْهِ} وَفِي قَوْله {لَا تسمعوا لهَذَا الْقُرْآن والغوا فِيهِ} وَقد كَانَ فيهم من جحد تعنتا بَعْدَمَا علم يَقِينا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وجحدوا بهَا واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} وَأما الدَّلِيل فَهُوَ فعيل من فَاعل الدّلَالَة بِمَنْزِلَة عليم من عَالم وَمِنْه قَوْلهم يَا دَلِيل المتحيرين أَي هاديهم إِلَى مَا يزِيل الْحيرَة عَنْهُم وَمِنْه سمي دَلِيل الْقَافِلَة أَي هاديهم إِلَى الطَّرِيق فَسُمي باسم فعله وَفِي الشَّرِيعَة هُوَ اسْم لحجة منطق يظْهر بِهِ مَا كَانَ خفِيا فَإِن مَا قدمْنَاهُ يكون مُوجبا تَارَة ومظهرا تَارَة وَالدَّلِيل خَاص لما هُوَ مظهر فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن الدُّخان دَلِيل على النَّار وَالْبناء دَلِيل على الْبَانِي عِنْده كَمَا قَالَ تَعَالَى {قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} وَقَالَ تَعَالَى {فوجدا فِيهَا} وَلَا نطق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 هُنَاكَ قُلْنَا إِنَّمَا يُطلق الِاسْم على ذَلِك مجَازًا بِحُصُول معنى الظُّهُور {جدارا يُرِيد أَن ينْقض فأقامه} وَقَالَ الْقَائِل وعظتك أَحْدَاث صمت وكل ذَلِك مجَاز ثمَّ الدَّلِيل مجَازًا كَانَ أَو حَقِيقَة يكون مظْهرا ظهورا مُوجبا للْعلم بِهِ أَو دون ذَلِك وَالشَّاهِد كالدليل سَوَاء كَانَ مظْهرا على وَجه يثبت الْعلم بِهِ أَو لَا يثبت بِهِ علم الْيَقِين بِمَنْزِلَة الشَّهَادَات على الْحُقُوق فِي مجَالِس الْحُكَّام قَالَ رَضِي الله عَنهُ ثمَّ اعْلَم بِأَن الْأُصُول فِي الْحجَج الشَّرْعِيَّة ثَلَاثَة الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْأَصْل الرَّابِع وَهُوَ الْقيَاس هُوَ الْمَعْنى المستنبط من هَذِه الْأُصُول الثَّلَاثَة وَهِي تَنْقَسِم قسمَيْنِ قسم مُوجب للْعلم قطعا ومجوز غير مُوجب للْعلم وَإِنَّمَا سميناه مجوزا لِأَنَّهُ يجب الْعَمَل بِهِ وَالْأَصْل أَن الْعَمَل بِغَيْر علم لَا يجوز قَالَ تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} فسميناه مجوزا بِاعْتِبَار أَنه يجب الْعَمَل بِهِ وَإِن لم يكن مُوجبا للْعلم قطعا فَأَما الْمُوجب للْعلم من الْحجَج الشَّرْعِيَّة أَنْوَاع أَرْبَعَة كتاب الله وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المسموع مِنْهُ وَالْمَنْقُول عَنهُ بالتواتر وَالْإِجْمَاع وَالْأَصْل فِي كل ذَلِك لنا السماع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أسمعنا مَا أُوحِي إِلَيْهِ من الْقُرْآن بقرَاءَته علينا وَالْمَنْقُول عَنهُ بطرِيق متواتر بِمَنْزِلَة المسموع عَنهُ فِي وُقُوع الْعلم بِهِ على مَا نبينه وَكَذَلِكَ الْإِجْمَاع فَإِن إِجْمَاع هَذِه الْأمة إِنَّمَا كَانَت حجَّة مُوجبَة للْعلم بِالسَّمَاعِ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله تَعَالَى لَا يجمع أمته على الضَّلَالَة وَالسَّمَاع مِنْهُ مُوجب للْعلم لقِيَام الدّلَالَة على أَن الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام يكون مَعْصُوما عَن الْكَذِب وَالْقَوْل بِالْبَاطِلِ فَهَذَا بَيَان قَوْلنَا إِن الأَصْل فِي ذَلِك كُله السماع من رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصل فِي بَيَان الْكتاب وَكَونه حجَّة قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْكتاب هُوَ الْقُرْآن الْمنزل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَكْتُوب فِي دفات الْمَصَاحِف الْمَنْقُول إِلَيْنَا على الأحرف السَّبْعَة الْمَشْهُورَة نقلا متواترا لِأَن مَا دون الْمُتَوَاتر لَا يبلغ دَرَجَة العيان وَلَا يثبت بِمثلِهِ الْقُرْآن مُطلقًا وَلِهَذَا قَالَت الْأمة لَو صلى بِكَلِمَات تفرد بهَا ابْن مَسْعُود لم تجز صلَاته لِأَنَّهُ لم يُوجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 فِيهِ النَّقْل الْمُتَوَاتر وَبَاب الْقُرْآن بَاب يَقِين وإحاطة فَلَا يثبت بِدُونِ النَّقْل الْمُتَوَاتر كَونه قُرْآنًا وَمَا لم يثبت أَنه قُرْآن فتلاوته فِي الصَّلَاة كتلاوة خبر فَيكون مُفْسِدا للصَّلَاة فَإِن قيل بِكَوْنِهِ معجزا يثبت أَنه قُرْآن بِدُونِ النَّقْل الْمُتَوَاتر قُلْنَا لَا خلاف أَن مَا دون الْآيَة غير معجز وَكَذَلِكَ الْآيَة القصيرة وَلِهَذَا لم يجوز أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله الصَّلَاة إِلَّا بِقِرَاءَة ثَلَاث آيَات قصار أَو آيَة طَوِيلَة لِأَن المعجز السُّورَة وأقصر السُّور ثَلَاث آيَات يَعْنِي الْكَوْثَر وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله قَالَ الْوَاجِب بِالنَّصِّ قِرَاءَة مَا تيَسّر من الْقُرْآن وبالآية القصيرة يحصل ذَلِك فيتأدى فرض الْقِرَاءَة وَإِن كَانَ يكره الِاكْتِفَاء بذلك وَجَاء فِيمَا ذكرنَا أَن مَا دون الْآيَة وَالْآيَة القصيرة لَيْسَ بمعجز وَهُوَ قُرْآن يثبت بِهِ الْعلم قطعا فَظهر أَن الطَّرِيق فِيهِ النَّقْل الْمُتَوَاتر مَعَ أَن كَونه معجزا دَلِيل على صدق الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يخبر بِهِ وَلَيْسَ بِدَلِيل فِي نَفسه على أَنه كَلَام الله لجَوَاز أَن يقدر الله تَعَالَى رَسُوله على كَلَام يعجز الْبشر عَن مثله كَمَا أقدر عِيسَى على إحْيَاء الْمَوْتَى وعَلى أَن يخلق من الطين كَهَيئَةِ الطير فينفخ فِيهِ فَيكون طيرا بِإِذن الله فَعرفنَا أَن الطَّرِيق فِيهِ النَّقْل الْمُتَوَاتر وَإِنَّمَا اعْتبرنَا الْإِثْبَات فِي دفات الْمَصَاحِف لِأَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم إِنَّمَا أثبتوا الْقُرْآن فِي دفات الْمَصَاحِف لتحقيق النَّقْل الْمُتَوَاتر فِيهِ وَلِهَذَا أمروا بتجريد الْقُرْآن فِي الْمَصَاحِف وكرهوا التعاشير وأثبتوا فِي الْمَصَاحِف مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ ثمَّ نقل إِلَيْنَا نقلا متواترا فَثَبت بِهِ الْعلم قطعا وَلما ثَبت بِهَذَا الطَّرِيق أَنه كَلَام الله تَعَالَى ثَبت أَنه حجَّة مُوجبَة للْعلم قطعا لعلمنا يَقِينا أَن كَلَام الله لَا يكون إِلَّا حَقًا فَإِن قيل فالتسمية نقلت إِلَيْنَا مَكْتُوبَة فِي الْمَصَاحِف بقلم الْوَحْي لمبدأ الْفَاتِحَة ومبدأ كل سُورَة سوى سُورَة بَرَاءَة ثمَّ لم تجعلوها آيَة من الْفَاتِحَة وَلَا من أول كل سُورَة مَعَ النَّقْل الْمُتَوَاتر من الْوَجْه الَّذِي قررتم قُلْنَا قد ذكر أَبُو بكر الرَّازِيّ رَحمَه الله أَن الصَّحِيح من الْمَذْهَب عندنَا أَن التَّسْمِيَة آيَة منزلَة من الْقُرْآن لَا من أول السُّورَة وَلَا من آخرهَا وَلِهَذَا كتبت للفصل بَين السُّور فِي الْمُصحف بِخَط على حِدة لتَكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 الْكِتَابَة بقلم الْوَحْي دَلِيلا على أَنَّهَا منزلَة للفصل وَالْكِتَابَة بِخَط على حِدة دَلِيلا على أَنَّهَا لَيست من أول السُّورَة وَظَاهر مَا ذكر فِي الْكتاب عُلَمَاؤُنَا يشْهد بِهِ فَإِنَّهُم قَالُوا ثمَّ يفْتَتح الْقِرَاءَة ويخفي بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فقد قطعُوا التَّسْمِيَة عَن التَّعَوُّذ وأدخلوها فِي الْقِرَاءَة وَلَكِن قَالُوا لَا يجْهر بهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ من ضَرُورَة كَونهَا آيَة من الْقُرْآن الْجَهْر بهَا بِمَنْزِلَة الْفَاتِحَة فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَإِنَّمَا قَالُوا يخفي بهَا ليعلم أَنَّهَا لَيست بِآيَة من أول الْفَاتِحَة فَإِن الْمُتَعَيّن فِي حق الإِمَام الْجَهْر بِالْفَاتِحَةِ وَالسورَة فِي الْأَوليين وعَلى هَذَا نقُول يكره للْجنب وَالْحَائِض قِرَاءَة التَّسْمِيَة على قصد قِرَاءَة الْقُرْآن لِأَن من ضَرُورَة كَونهَا آيَة من الْقُرْآن حُرْمَة الْقِرَاءَة على الْجنب وَالْحَائِض وَلَكِن لَا يتَأَدَّى بهَا فرض الْقِرَاءَة فِي الرَّكْعَة عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله لاشتباه الْآثَار وَاخْتِلَاف الْعلمَاء وَأدنى دَرَجَات الِاخْتِلَاف الْمُعْتَبر إيراث الشُّبْهَة بِهِ وَمَا كَانَ فرضا مَقْطُوعًا بِهِ لَا يتَأَدَّى بِمَا فِيهِ شُبْهَة ولسنا نعني الشُّبْهَة فِي كَونهَا من الْقُرْآن بل فِي كَونهَا آيَة تَامَّة فَإِنَّهُ لَا خلاف فِي أَنَّهَا من الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى {وَإنَّهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} فَإِن قيل فقد أثبتم بِقِرَاءَة ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات كَونه قُرْآنًا فِي حق الْعَمَل بِهِ وَلم يُوجد فِيهِ النَّقْل الْمُتَوَاتر وَلم تثبتوا فِي التَّسْمِيَة مَعَ النَّقْل الْمُتَوَاتر كَونهَا آيَة من الْقُرْآن فِي حكم الْعَمَل وَهُوَ وجوب الْجَهْر بهَا فِي الصَّلَاة وتأدي الْقِرَاءَة بهَا قُلْنَا نَحن مَا أثبتنا بِقِرَاءَة ابْن مَسْعُود كَون تِلْكَ الزِّيَادَة قُرْآنًا وَإِنَّمَا جعلنَا ذَلِك بِمَنْزِلَة خبر رَوَاهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعلمنا أَنه مَا قَرَأَ بهَا إِلَّا سَمَاعا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَخَبره مَقْبُول فِي وجوب الْعَمَل بِهِ وبمثل هَذَا الطَّرِيق لَا يُمكن إِثْبَات هَذَا الحكم فِي التَّسْمِيَة لِأَن بِرِوَايَة الْخَبَر وَإِن علم صِحَّته لَا يثبت حكم جَوَاز الصَّلَاة وَلِأَنَّهُ لَيْسَ من ضَرُورَة كَونهَا آيَة من الْقُرْآن وجوب الْجَهْر بهَا على مَا بَينا أَن الْفَاتِحَة لَا يجْهر بهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَمَا كَانَ ثُبُوته بطرِيق الِاقْتِضَاء يتَقَدَّر الحكم فِيهِ بِقدر الضَّرُورَة لِأَنَّهُ لَا عُمُوم للمقتضى ثمَّ قَالَ كثير من مَشَايِخنَا إِن إعجاز الْقُرْآن فِي النّظم وَفِي الْمَعْنى جَمِيعًا خُصُوصا على قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله حَيْثُ قَالَا بِالْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلَاة لَا يتَأَدَّى فرض الْقِرَاءَة وَإِن كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ أَنه هُوَ المُرَاد لِأَن الْفَرْض قِرَاءَة المعجز وَذَلِكَ فِي النّظم وَالْمعْنَى جَمِيعًا قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالَّذِي يَتَّضِح لي أَنه لَيْسَ مُرَادهم من هَذَا أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 الْمَعْنى بِدُونِ النّظم غير معجز فالأدلة على كَون الْمَعْنى معجزا ظَاهِرَة مِنْهَا أَن المعجز كَلَام الله (وَكَلَام الله تَعَالَى) غير مُحدث وَلَا مَخْلُوق والألسنة كلهَا محدثة الْعَرَبيَّة والفارسية وَغَيرهمَا فَمن يَقُول الإعجاز لَا يتَحَقَّق إِلَّا بالنظم فَهُوَ لَا يجد بدا من أَن يَقُول بِأَن المعجز مُحدث وَهَذَا مِمَّا لَا يجوز القَوْل بِهِ وَالثَّانِي أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بعث إِلَى النَّاس كَافَّة (وَآيَة نبوته الْقُرْآن الَّذِي هُوَ معجز فَلَا بُد من القَوْل بِأَنَّهُ حجَّة لَهُ على النَّاس كَافَّة) وَمَعْلُوم أَن عجز العجمي عَن الْإِتْيَان بِمثل الْقُرْآن بلغَة الْعَرَب لَا يكون حجَّة عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يعجز أَيْضا عَن الْإِتْيَان بِمثل شعر امرىء الْقَيْس وَغَيره بلغَة الْعَرَب وَإِنَّمَا يتَحَقَّق عَجزه عَن الْإِتْيَان بِمثل الْقُرْآن بلغته فَهَذَا دَلِيل وَاضح على أَن معنى الإعجاز فِي الْمَعْنى تَامّ وَلِهَذَا جوز أَبُو حنيفَة رَحمَه الله الْقِرَاءَة بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلَاة ولكنهما قَالَا فِي حق من لَا يقدر على الْقِرَاءَة بِالْعَرَبِيَّةِ الْجَواب هَكَذَا وَهُوَ دَلِيل على أَن الْمَعْنى عِنْدهمَا معجز فَإِن فرض الْقِرَاءَة سَاقِط عَمَّن لَا يقدر على قِرَاءَة المعجز أصلا وَلم يسْقط عَنهُ الْفَرْض أصلا بل يتَأَدَّى بِالْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ فَأَما إِذا كَانَ قَادِرًا على الْقِرَاءَة بِالْعَرَبِيَّةِ لم يتأد الْفَرْض فِي حَقه بِالْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ عِنْدهمَا لَا لِأَنَّهُ غير معجز وَلَكِن لِأَن مُتَابعَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالسَّلَف فِي أَدَاء هَذَا الرُّكْن فرض فِي حق من يقدر عَلَيْهِ وَهَذِه الْمُتَابَعَة فِي الْقِرَاءَة بِالْعَرَبِيَّةِ إِلَّا أَن أَبَا حنيفَة اعْتبر هَذَا فِي كَرَاهَة الْقِرَاءَة بِالْفَارِسِيَّةِ فَأَما فِي تأدي أصل الرُّكْن بِقِرَاءَة الْقُرْآن فَإِنَّهُ اعْتبر مَا قَرَّرْنَاهُ فصل فِي بَيَان حد الْمُتَوَاتر من الْأَخْبَار وموجبها الْمُتَوَاتر مَا اتَّصل بِنَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر مَأْخُوذ من قَول الْقَائِل تَوَاتَرَتْ الْكتب إِذا اتَّصَلت بَعْضهَا بِبَعْض فِي الْوُرُود مُتَتَابِعًا وحد ذَلِك أَن يَنْقُلهُ قوم لَا يتَوَهَّم اجْتِمَاعهم وتواطؤهم على الْكَذِب لِكَثْرَة عَددهمْ وتباين أمكنتهم عَن قوم مثلهم هَكَذَا إِلَى أَن يتَّصل برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيكون أَوله كآخره وأوسطه كطرفيه وَذَلِكَ نَحْو نقل أعداد الرَّكْعَات وأعداد الصَّلَوَات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 ومقادير الزَّكَاة والديات وَمَا أشبه ذَلِك وَهَذَا لِأَن الِاتِّصَال لَا يتَحَقَّق إِلَّا بعد انْقِطَاع شُبْهَة الِانْفِصَال وَإِذا انْقَطَعت شُبْهَة الِانْفِصَال ضاهى ذَلِك المسموع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن النَّاس على همم شَتَّى وَذَلِكَ يَبْعَثهُم على التباين فِي الْأَهْوَاء والمرادات فَلَا يردهم عَن ذَلِك إِلَى شَيْء وَاحِد إِلَّا جَامع أَو مَانع وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا اتِّفَاق صنعوه أَو سَماع اتَّبعُوهُ فَإِذا انْقَطَعت تُهْمَة الاختراع لِكَثْرَة عَددهمْ وتباين أمكنتهم تعين جِهَة السماع وَلِهَذَا كَانَ مُوجبا علم الْيَقِين عِنْد جُمْهُور الْفُقَهَاء وَمن النَّاس من يَقُول الْخَبَر لَا يكون حجَّة أصلا وَلَا يَقع الْعلم بِهِ بِوَجْه وَكَيف يَقع الْعلم بِهِ والمخبرون هم الَّذين توَلّوا نَقله وَإِنَّمَا وُقُوع الْعلم بِمَا لَيْسَ من صنع الْبشر وَيكون خَارِجا عَن مقدورهم فَأَما مَا يكون من صنع الْبشر ويتحقق مِنْهُم الِاجْتِمَاع على اختراعه قلوا أَو كَثُرُوا فَذَلِك لَا يكون مُوجبا للْعلم أصلا هَذَا قَول فريق مِمَّن يُنكر رِسَالَة الْمُرْسلين وَهَذَا الْقَائِل سَفِيه يزْعم أَنه لَا يعرف نَفسه وَلَا دينه وَلَا دُنْيَاهُ وَلَا أمه وَلَا أَبَاهُ بِمَنْزِلَة من يُنكر العيان من السوفسطائية فَلَا يكون الْكَلَام مَعَه على سَبِيل الِاحْتِجَاج وَالِاسْتِدْلَال فَكيف يكون ذَلِك وَمَا يثبت بالاستدلال من الْعلم دون مَا ثَبت بالْخبر الْمُتَوَاتر فَإِن هَذَا يُوجب علما ضَرُورِيًّا وَالِاسْتِدْلَال لَا يُوجب ذَلِك وَإِنَّمَا الْكَلَام مَعَه من حَيْثُ التَّقْرِير عِنْد الْعُقَلَاء بِمَا لَا يشك هُوَ وَلَا أحد من النَّاس فِي أَنه مُكَابَرَة وَجحد لما يعلم اضطرارا بِمَنْزِلَة الْكَلَام مَعَ من يزْعم أَنه لَا حَقِيقَة للأشياء المحسوسة فَنَقُول إِذا رَجَعَ الْإِنْسَان إِلَى نَفسه علم أَنه مَوْلُود اضطرارا بالْخبر كَمَا علم أَن وَلَده مَوْلُود بالمعاينة وَعلم أَن أَبَوَيْهِ كَانَا من جنسه بالْخبر كَمَا علم أَن أَوْلَاده من جنسه بالعيان وَعلم أَنه كَانَ صَغِيرا ثمَّ شَابًّا بالْخبر كَمَا علم ذَلِك من وَلَده بالعيان وَعلم أَن السَّمَاء وَالْأَرْض كَانَتَا قبله على هَذِه الصّفة بالْخبر كَمَا يعلم أَنَّهُمَا على هَذِه الصّفة للْحَال بالعيان وَعلم أَن آدم أَبُو الْبشر على وَجه لَا يتَمَكَّن فِيهِ شُبْهَة فَمن أنكر شَيْئا من هَذِه الْأَشْيَاء فَهُوَ مكابر جَاحد لما هُوَ مَعْلُوم ضَرُورَة بِمَنْزِلَة من أنكر العيان وَلَا نقُول إِن هَذَا الْعلم يحصل بِفعل المخبرين بل بِمَا هُوَ من صنع الله تَعَالَى وَهُوَ أَنه خلق الْخلق أطوارا على طباع مُخْتَلفَة وهمم متباينة يَبْعَثهُم على ذَلِك الِاخْتِلَاف والتباين فالاتفاق بعد ذَلِك مَعَ الْأَسْبَاب الْمُوجبَة للِاخْتِلَاف لَا يكون إِلَّا بِجَامِع يجمعهُمْ على ذَلِك كَمَا قَررنَا وَفِيه حِكْمَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 بَالِغَة وَهُوَ بَقَاء الْأَحْكَام بعد وَفَاة الْمُرْسلين على مَا كَانَت عَلَيْهِ فِي حياتهم فَإِن النُّبُوَّة ختمت برسولنا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى النَّاس كَافَّة وَقد أمرنَا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ والتيقن بِمَا يخبر بِهِ قَالَ تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} وَهَذَا الْخطاب يتَنَاوَل الْمَوْجُودين فِي عصره وَالَّذين يُؤمنُونَ بِهِ إِلَى قيام السَّاعَة وَمَعْلُوم أَن الطَّرِيق فِي الرُّجُوع إِلَيْهِ لَيْسَ إِلَّا الرُّجُوع إِلَى مَا نقل عَنهُ بالتواتر فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن هَذَا كالمسموع مِنْهُ فِي حَيَاته وَقد قَامَت الدّلَالَة على أَنه كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يتَكَلَّم إِلَّا بِالْحَقِّ خُصُوصا فِيمَا يرجع إِلَى بَيَان الدّين فَيثبت مِنْهُ بِالسَّمَاعِ علم الْيَقِين وَمن النَّاس من يَقُول إِن مَا يثبت بالتواتر علم طمأنينة الْقلب لَا علم الْيَقِين وَمعنى هَذَا أَنه يثبت الْعلم بِهِ مَعَ بَقَاء توهم الْغَلَط أَو الْكَذِب وَلَكِن لرجحان جَانب الصدْق تطمئِن الْقُلُوب إِلَيْهِ فَيكون ذَلِك علم طمأنينة مثل مَا يثبت بِالظَّاهِرِ لَا علم الْيَقِين قَالُوا لِأَن التَّوَاتُر إِنَّمَا يثبت بِمَجْمُوع آحَاد وَمعنى احْتِمَال الْكَذِب ثَابت فِي خبر كل وَاحِد من تِلْكَ الْآحَاد فبالاجتماع لَا يَنْعَدِم هَذَا الِاحْتِمَال بِمَنْزِلَة اجْتِمَاع السودَان على شَيْء لَا يعْدم صفة السوَاد الْمَوْجُود فِي كل وَاحِد مِنْهُم قبل الِاجْتِمَاع وَهَذَا لِأَنَّهُ كَمَا يتَوَهَّم أَن يجتمعوا على الصدْق فِيمَا ينقلون يتَوَهَّم أَن يجتمعوا على الْكَذِب إِذْ الْخَبَر يحْتَمل كل وَاحِد من الوصفين على السوَاء أَلا ترى أَن النَّصَارَى وَالْيَهُود اتَّفقُوا على قتل عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وصلبه ونقلوا ذَلِك فِيمَا بَينهم نقلا متواترا وَقد كَانُوا أَكثر منا عددا ثمَّ كَانَ ذَلِك كذبا لَا أصل لَهُ وَالْمَجُوس اتَّفقُوا على نقل معجزات زرادشت وَقد كَانُوا أَكثر منا عددا ثمَّ كَانَ ذَلِك كذبا لَا أصل لَهُ فَعرفنَا أَن احْتِمَال التواطؤ على الْكَذِب لَا يَنْتَفِي بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر وَمَعَ بَقَائِهِ لَا يثبت علم الْيَقِين فَإِنَّمَا الثَّابِت بِهِ علم طمأنينة بِمَنْزِلَة من يعلم حَيَاة رجل ثمَّ يمر بداره فَيسمع النوح وَيرى آثَار التهيؤ لغسل الْمَيِّت وَدَفنه فيخبرونه أَنه قد مَاتَ ويعزونه ويعزيهم فيتبدل بِهَذَا الْحَادِث الْعلم الَّذِي كَانَ (لَهُ) حَقِيقَة ويعلمه مَيتا على وَجه طمأنينة الْقلب مَعَ احْتِمَال أَن ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 كُله حِيلَة مِنْهُم وتلبيس لغَرَض كَانَ لأَهله فِي ذَلِك فَهَذَا مثله وَهَذَا قَول رذل أَيْضا فَإِن هَذَا الْقَائِل إِنَّه لَا يعلم الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام حَقِيقَة وَلَا يَصح إيمَانه مَا لم يعرف الرُّسُل حَقِيقَة فَهُوَ بِمَنْزِلَة من يزْعم أَنه لَا يعرف الصَّانِع حَقِيقَة فَعرفنَا أَنه مُفسد لدينِهِ بِاخْتِيَار هَذَا القَوْل ثمَّ هُوَ جَاحد لما يُعلمهُ كل عَاقل ضَرُورَة فَإنَّا إِذا رَجعْنَا إِلَى مَوضِع الْمعرفَة وَهُوَ الْقلب وَوجدنَا أَن الْمعرفَة بالمتواتر من الْأَخْبَار يثبت على الْوَجْه الَّذِي يثبت بالعيان لأَنا نعلم أَن فِي الدُّنْيَا مَكَّة وبغداد بالْخبر على وَجه لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال الشَّك كَمَا نعلم بَلْدَتنَا بالمعاينة ونعرف الْجِهَة إِلَى مَكَّة يَقِينا بالْخبر كَمَا نَعْرِف الْجِهَة إِلَى مَنَازلنَا يَقِينا بالمعاينة وَمن أَرَادَ الْخُرُوج من هَذِه الْبَلدة إِلَى بُخَارى يَأْخُذ فِي السّير إِلَى نَاحيَة الْمغرب كَمَا أَن من أَرَادَ أَن يخرج إِلَى كاشغر يَأْخُذ فِي السّير إِلَى نَاحيَة الْمشرق وَلَا يشك فِي ذَلِك أحد وَلَا يخطئه بِوَجْه وَإِنَّمَا عرف ذَلِك بالْخبر فَلَو لم يكن ذَلِك مُوجبا علم الْيَقِين لَكَانَ هُوَ مخاطرا بِنَفسِهِ وَمَاله خُصُوصا فِي زمَان الْخَوْف فَيَنْبَغِي أَن يكون فعله ذَلِك خطأ وَفِي اتِّفَاق النَّاس كلهم على خِلَافه مَا يدْفع زعم هَذَا الزاعم وَمَا استدلوا بِهِ من نقل النَّصَارَى وَالْيَهُود قتل الْمَسِيح وصلبه فَهُوَ وهم لِأَن النَّقْل الْمُتَوَاتر لم يُوجد فِي ذَلِك فَإِن النَّصَارَى إِنَّمَا نقلوا ذَلِك عَن أَرْبَعَة نفر كَانُوا مَعَ الْمَسِيح فِي بَيت إِذْ الحواريون كَانُوا قد اختفوا أَو تفَرقُوا حِين هم الْيَهُود بِقَتْلِهِم وَإِنَّمَا بَقِي مَعَ الْمَسِيح أَرْبَعَة نفر يوحنا ويوقنا وَمتْن ومارقيش ويتحقق من هَذِه الْأَرْبَعَة التواطؤ على مَا هُوَ كذب لَا أصل لَهُ وَقد بَينا أَن حد التَّوَاتُر مَا يَسْتَوِي طرفاه ووسطه وَالْيَهُود إِنَّمَا نقلوا ذَلِك عَن سَبْعَة نفر كَانُوا دخلُوا الْبَيْت الَّذِي كَانَ فِيهِ الْمَسِيح وَأُولَئِكَ يتَحَقَّق مِنْهُم التواطؤ على الْكَذِب وَقد رُوِيَ أَنهم كَانُوا لَا يعْرفُونَ الْمَسِيح حَقِيقَة حَتَّى دلهم عَلَيْهِ رجل يُقَال لَهُ يهوذا وَكَانَ يَصْحَبهُ قبل ذَلِك فاجتعل مِنْهُم ثَلَاثِينَ درهما وَقَالَ إِذا رَأَيْتُمُونِي أقبل رجلا فاعلموا أَنه صَاحبكُم وبمثل هَذَا لَا يحصل مَا هُوَ حد التَّوَاتُر فَإِن قيل الصلب قد شَاهده الْجَمَاعَة الَّتِي لَا يتَصَوَّر مِنْهُم التواطؤ على الْكَذِب عَادَة فَيتَحَقَّق مَا هُوَ حد التَّوَاتُر فِي الْإِخْبَار بصلبه قُلْنَا لَا كَذَلِك فَإِن فعل الصلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 إِنَّمَا تناوشوه عدد قَلِيل من النَّاس ثمَّ سَائِر النَّاس يعتمدون خبرهم أَن المصلوب فلَان وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ من بعد من غير تَأمل فِيهِ فَفِي الطباع نفرة عَن التَّأَمُّل فِي المصلوب والحلي تَتَغَيَّر بِهِ أَيْضا فيتمكن فِيهِ الِاشْتِبَاه بِاعْتِبَار هَذِه الْوُجُوه فَعرفنَا أَنه كَمَا لَا يتَحَقَّق النَّقْل الْمُتَوَاتر فِي قَتله لَا يتَحَقَّق فِي صلبه وَالثَّانِي أَن النَّقْل الْمُتَوَاتر مِنْهُم فِي قتل رجل علموه عِيسَى وصلبه وَهَذَا النَّقْل مُوجب علم الْيَقِين فِيمَا نقلوه وَلَكِن لم يكن الرجل عِيسَى وَإِنَّمَا كَانَ مشبها بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَكِن شبه لَهُم} وَقد جَاءَ فِي الْخَبَر أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لمن كَانَ مَعَه من يُرِيد مِنْكُم أَن يلقِي الله شبهي عَلَيْهِ فَيقْتل وَله الْجنَّة فَقَالَ رجل أَنا فَألْقى الله تَعَالَى شبه عِيسَى عَلَيْهِ فَقتل وَرفع عِيسَى إِلَى السَّمَاء فَإِن قيل هَذَا القَوْل فِي نِهَايَة من الْفساد لِأَن فِيهِ قولا بِإِبْطَال المعارف أصلا وبتكذيب العيان وَإِذا جوزتم هَذَا فَمَا يؤمنكم من مثله فِيمَا ينْقل بالتواتر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن السامعين إِنَّمَا سمعُوا ذَلِك من رجل كَانَ عِنْدهم أَنه مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يكن إِيَّاه وَإِنَّمَا ألْقى الله شبهه على غَيره وَمَعَ هَذَا القَوْل لَا يتَحَقَّق الْإِيمَان بالرسل لمن يعانيهم لجَوَاز أَن يكون شبه الرُّسُل ملقى على غَيرهم كَيفَ وَالْإِيمَان بالمسيح كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِم فِي ذَلِك الْوَقْت فَمن ألقِي عَلَيْهِ شبه الْمَسِيح فقد كَانَ الْإِيمَان بِهِ وَاجِبا بزعمكم وَفِي هَذَا قَول بِأَن الله تَعَالَى أوجب على عباده الْكفْر بِالْحجَّةِ فَأَي قَول أقبح من هَذَا قُلْنَا الْأَمر لَيْسَ كَمَا توهمتم فَإِن إِلْقَاء شبه الْمَسِيح على غَيره غير مستبعد فِي الْقُدْرَة وَلَا فِي الْحِكْمَة بل فِيهِ حِكْمَة بَالِغَة وَهُوَ دفع شَرّ الْأَعْدَاء عَن الْمَسِيح فقد كَانُوا عزموا على قَتله وَفِي هَذَا دفع عَنهُ مَكْرُوه الْقَتْل بِوَجْه لطيف وَللَّه لطائف فِي دفع الْأَذَى عَن الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام وَالَّذين قصدوه بِالْقَتْلِ قد علم الله مِنْهُم أَنهم لَا يُؤمنُونَ بِهِ فَألْقى شبهه على غَيره على سَبِيل الاستدراج لَهُم ليزدادوا طغيانا ومرضا إِلَى مرضهم وَمثل ذَلِك لَا يتَوَهَّم فِي حق قوم يأْتونَ الرُّسُل ليؤمنوا بِهِ ويتعظوا بوعظه فَظهر أَن الْفَاسِد قَول من يَقُول بِأَن هَذَا يُؤَدِّي إِلَى إبِْطَال المعارف والتكذيب بالرسل وَيرد ظَاهر قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن شبه لَهُم} وَبَيَان أَن هَذَا غير مستبعد ظهر إِبْلِيس عَلَيْهِ اللَّعْنَة مرّة فِي صُورَة شيخ من أهل نجد وَمرَّة فِي صُورَة سراقَة بن مَالك وكلم الْمُشْركين فِيمَا كَانُوا هموا بِهِ فِي بَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِيه نزل قَوْله تَعَالَى {وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 فِي الْقُدْرَة غير مُشكل فَإِن إِلْقَاء الشّبَه دون إِيجَاد الأَصْل لَا محَالة وَقد الْآيَة وَرَأَتْ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا دحْيَة الْكَلْبِيّ مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا أخْبرته بذلك قَالَ كَانَ معي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَرَأى ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا جِبْرِيل أَيْضا فِي صُورَة دحْيَة الْكَلْبِيّ ورأته الصَّحَابَة حِين أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صُورَة أَعْرَابِي ثَائِر الرَّأْس يسْأَله معالم الدّين فَعرفنَا أَن مثل هَذَا غير مستبعد فِي زمن الرُّسُل وَأرى الله تَعَالَى الْمُشْركين فِي أعين الْمُسلمين قَلِيلا يَوْم بدر مَعَ كَثْرَة عَددهمْ لِأَنَّهُ لَو أَرَاهُم كثرتهم وعدتهم لامتنعوا من قِتَالهمْ فَأَرَاهُم بِصفة الْقلَّة حَتَّى رَغِبُوا فِي قِتَالهمْ وقتلوهم كَمَا قَالَ تَعَالَى {ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا} فَعرفنَا أَن مثله غير مستبعد فَأَما نقل الْمَجُوس مَا نقلوه عَن زرادشت فَذَلِك كُله تخييلات بِمَنْزِلَة فعل المشعوذين أَو لعب النِّسَاء وَالصبيان إِلَّا مَا ينْقل أَنه أَدخل قَوَائِم فرس الْملك كشتاسب فِي بَطْنه ثمَّ أخرجه وَهَذَا إِنَّمَا ينْقل أَنه فعله فِي مجْلِس الْملك بَين يَدي خواصه وَأُولَئِكَ يتَصَوَّر مِنْهُم الِاجْتِمَاع على الْكَذِب فَلَا يثبت (بِهِ) النَّقْل الْمُتَوَاتر كَيفَ وَقد رُوِيَ أَن الْملك لما اختبره وَعلم خبثه ودهاءه وواطأه على أَن يُؤمن بِهِ وَيجْعَل هُوَ أحد أَرْكَان دينه دَعَاهُ النَّاس إِلَى تَعْظِيم الْمُلُوك وتحسين أفعالهم ومراعاة حُقُوقهم فِي كل حق وباطل وَيكون هُوَ من وَرَائه بِالسَّيْفِ يجْبر النَّاس على الدُّخُول فِي دينه وَحَملهمْ على هَذِه المواطأة حَاجتهم إِلَى ذَلِك فَإِنَّهُ لم يكن لذَلِك الْملك بَيت قديم فِي الْملك فَكَانَ النَّاس لَا يعظمونه فاحتالوا بِهَذِهِ الْحِيلَة ثمَّ نقلوا عَنهُ أمورا بعد ذَلِك بَين يَدي الْملك وخاصته وكل ذَلِك كذب لَا أصل لَهُ فَإِن قيل مثل هَذِه المواطأة لَا تنكتم عَادَة فَكيف انكتم فِي ذَلِك الْوَقْت حَتَّى اتَّفقُوا على الْإِيمَان بِهِ وَكَذَلِكَ من بعدهمْ إِلَى زمَان طَوِيل وَجعلُوا ينقلون ذَلِك نقلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 متواترا قُلْنَا إِنَّمَا لَا تنكتم المواطأة الَّتِي تكون بَين جمع عَظِيم فَأَما مَا يكون بَين الْملك وخواصه تنكتم فَإِنَّهُم رصد لحفظ الْأَسْرَار وَإِنَّمَا يخصهم الْملك بِهَذَا الشَّرْط لِأَن تَدْبِير الْملك لَا يتم مستويا إِلَّا بِحِفْظ الْأَسْرَار وَهَذَا مَعْرُوف فِي عَادَة أهل كل زمَان أَن المواطأة الَّتِي تكون بَين الْملك وخواصه لَا تظهر للعوام فَعرفنَا أَنه لَا يُوجد النَّقْل الْمُوجب لعلم الْيَقِين فِي شَيْء من هَذِه الْأَخْبَار فَأَما أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَضي عَنْهُم فقد كَانُوا من قبائل مُخْتَلفَة وَكَانُوا عددا لَا يتَوَهَّم اجْتِمَاعهم وتواطؤهم على الاختراع عَادَة لكثرتهم فَعرفنَا أَن مَا نقلوه عَنهُ بِمَنْزِلَة المسموع مِنْهُ فِي كَونه مُوجبا علم الْيَقِين لِأَنَّهُ لما انْتَفَى تُهْمَة احْتِمَال المواطأة تعين جِهَة السماع فَإِن قيل مَعَ هَذَا توهم الِاتِّفَاق على الْكَذِب غير مُنْقَطع لِأَنَّهُ لَيْسَ شَرط التَّوَاتُر اجْتِمَاع أهل الدُّنْيَا وَإِذا اجْتمع أهل بَلْدَة أَو عامتهم على شَيْء يثبت بِهِ التَّوَاتُر كَيفَ وَقد نقل الْأَخْبَار عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابه وهم كَانُوا عسكره لما تحقق مِنْهُم الِاجْتِمَاع على صحبته مَعَ تبَاين أمكنتهم فَذَلِك يُوهم الِاتِّفَاق مِنْهُم على نقل مَا لَا أصل لَهُ قُلْنَا مثل هَذَا الِاتِّفَاق من الْجمع الْعَظِيم خلاف الْعَادة وَهُوَ نَادِر غَايَة وَعَادَة وَالْبناء على مَا هُوَ مُعْتَاد الْبشر أَلا ترى أَن المعجزات توجب الْعلم بِالنُّبُوَّةِ قطعا لكَونهَا خَارِجَة عَن حد مُعْتَاد الْبشر وَلَو أَن وَاحِدًا قَالَ فِي زَمَاننَا صعدت السَّمَاء وَكلمت الْمَلَائِكَة نقطع القَوْل بِأَنَّهُ كَاذِب لكَون مَا يخبر بِهِ خَارِجا عَمَّا هُوَ الْمُعْتَاد والتوهم بعد ذَلِك غير مُعْتَبر وَلِهَذَا قُلْنَا لَو شهد شَاهِدَانِ على رجل أَنه طلق امْرَأَته يَوْم النَّحْر بِمَكَّة وآخران أَنه أعتق عَبده فِي ذَلِك الْيَوْم بِعَيْنِه بكوفة لَا تقبل الشَّهَادَة لِأَن كَون الْإِنْسَان فِي يَوْم وَاحِد بِمَكَّة وكوفة مُسْتَحِيل عَادَة فَيسْقط مَا وَرَاءه من التَّوَهُّم يُوضحهُ أَنه لَو كَانَ هُنَا توهم الِاتِّفَاق على الْكَذِب لظهر ذَلِك فِي عصرهم أَو بعد ذَلِك إِذا تطاول الزَّمَان فقد كَانُوا ثَلَاثِينَ ألفا أَو أَكثر والمواطأة فِيمَا بَين مثل هَذَا الْجمع الْعَظِيم لَا ينكتم عَادَة بل يظْهر كَيفَ وَقد اخْتَلَط بهم المُنَافِقُونَ وجواسيس الْكَفَرَة كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَفِيكُمْ سماعون لَهُم} وَقد كَانَ فِي الْمُسلمين أَيْضا من يلقِي إِلَى الْكفَّار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 بالمودة وَيظْهر لَهُم سر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحَرْب وَغَيره وَالْإِنْسَان يضيق صَدره عَن سره حَتَّى يفشيه إِلَى غَيره ويستكتمه ثمَّ السَّامع يفشيه إِلَى غَيره حَتَّى يصير ظَاهرا عَن قريب فَلَو كَانَ هُنَا توهم المواطأة لظهر ذَلِك فَالْقَوْل بِأَنَّهُ كَانَ بَينهم مواطأة وانكتم أصلا شبه الْمحَال وَهُوَ بِمَنْزِلَة قَول من يزْعم أَن الْكفَّار عارضوا الْقُرْآن بِمثلِهِ ثمَّ انكتم ذَلِك فَإِن هَذَا الْكَلَام بالِاتِّفَاقِ بَين الْمُسلمين شبه الْمحَال لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام تحداهم فِي محافلهم أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن أَو سُورَة مِنْهُ فَلَو قدرُوا على ذَلِك لما أَعرضُوا عَنهُ إِلَى بذل النُّفُوس وَالْأَمْوَال وَالْحرم فِي غَزَوَاته وَلَو عارضوه بِهِ لما خَفِي ذَلِك فقد كَانَ الْمُشْركُونَ يَوْمئِذٍ أَكثر من الْمُسلمين وَلَو لم يظْهر الْآن فِيمَا بَين الْمُسلمين لظهر فِي ديار الشّرك إِذْ لَا خوف لَهُم وَتلك الْمُعَارضَة حجَّة لَهُم لَو كَانَت وَالْإِنْسَان على نقل الْحجَّة يكون أحرص مِنْهُ على نقل الشُّبْهَة كَيفَ وَقد نقلت كَلَام مسليمة ومخاريق المتنبئين من غير أَن يكون لشَيْء من ذَلِك أصل فَكَمَا تبين بِهَذَا التَّقْرِير انْقِطَاع توهم الْمُعَارضَة وَكَون الْقُرْآن حجَّة مُوجبَة للْعلم قطعا فَكَذَلِك يَنْقَطِع هَذَا التَّوَهُّم فِي الْمُتَوَاتر من الْأَخْبَار فَإِن قيل لكَونه خلاف الْعَادة أثبتنا علم طمأنينة الْقلب بِهِ وَلكَون الِاتِّفَاق مُتَوَهمًا لم نثبت بِهِ علم الْيَقِين كَمَا ذكرنَا من حَال من رأى آثَار الْمَوْت فِي دَار إِنْسَان وَأخْبر بِمَوْتِهِ قُلْنَا طمأنينة الْقلب فِي الأَصْل إِنَّمَا تكون بِمَعْرِِفَة حَقِيقَة الشَّيْء فَإِن امْتنع ثُبُوت ذَلِك فِي مَوضِع فَذَلِك لغفلة من النَّاظر حَيْثُ اكْتفى بِالظَّاهِرِ وَلَو تَأمل وجد فِي طلب الْبَاطِن لظهر عِنْده التلبيس وَالْفساد كَمَا يكون فِي حق الْمخبر بِمَوْت الْمَيِّت وَإِنَّمَا تتَحَقَّق هَذِه الْغَفْلَة فِي مَوضِع يكون وَرَاء مَا غَايَته حد آخر بِمَنْزِلَة مَا يرَاهُ النَّائِم فِي مَنَامه فَإِن عِنْده أَن مَا يرَاهُ هُوَ الْحَقِيقَة فِي ذَلِك الْوَقْت وَلَكِن لما كَانَ وَرَاء هَذَا الْحَد حد آخر للمعرفة فَوْقه وَهُوَ مَا يكون فِي حَالَة الْيَقَظَة فباعتبار هَذِه الْمُقَابلَة يظْهر أَن مَا يرَاهُ فِي النّوم لم يكن مُوجبا للمعرفة حَقِيقَة فَأَما هُنَا لَيْسَ وَرَاء الطُّمَأْنِينَة الثَّابِتَة بِخَبَر التَّوَاتُر حد آخر للْعلم فَوْقه على مَا بَينا أَن الثَّابِت بِخَبَر التَّوَاتُر وَالثَّابِت بالمعاينة فِي وُقُوع الْعلم بِهِ سَوَاء فالموجب للْعلم هُنَا معنى فِي قُوَّة الدَّلِيل وَهُوَ انْقِطَاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 توهم المواطأة وَمثل هَذَا كلما ازْدَادَ الْمَرْء التَّأَمُّل فِيهِ ازْدَادَ يَقِينا فالتشكيك فِيهِ يكون دَلِيل نُقْصَان الْعقل بِمَنْزِلَة التشكيك فِي حقائق الْأَشْيَاء المحسوسة والطمأنينة الَّتِي تكون بِاعْتِبَار كَمَال الْعقل تكون عبارَة عَن معرفَة الشَّيْء حَقِيقَة لَا محَالة وَبِهَذَا يتَبَيَّن فَسَاد قَوْلهم إِنَّه لَيْسَ فِي الْجَمَاعَة إِلَّا اجْتِمَاع الْأَفْرَاد لِأَن مثل هَذِه الطُّمَأْنِينَة لَا تثبت بِخَبَر الْفَرد وتوهم الْكَذِب فِي ذَلِك الْخَبَر غير خَارج عَن حد الْمُعْتَاد ثمَّ هَذَا بَاطِل فَإِن الْوَاحِد منا يُمكنهُ أَن يتَكَلَّم بحروف الهجاء كلهَا وَهل لقَائِل أَن يَقُول لقدرته على ذَلِك يتَوَهَّم مِنْهُ أَن يَأْتِي بِمثل الْقُرْآن فَفِيهِ تِلْكَ الْحُرُوف بِعَينهَا وَكَذَلِكَ الغبي منا يُمكنهُ أَن يتَكَلَّم بِكُل حِكْمَة من شعر امرىء الْقَيْس وَغَيره ثمَّ لَا يَقُول أحد إِنَّه لقدرته على ذَلِك يقدر على (إنْشَاء) قصيدة مثل تِلْكَ القصيدة وَقد يتَكَلَّم الْإِنْسَان عَن ظن وفراسة فَيُصِيب مرّة ثمَّ لَا يَقُول أحد إِنَّه يُصِيب فِي كل مَا يتَكَلَّم (بِهِ) بِهَذَا الطَّرِيق اعْتِبَارا للجملة بالفرد واتفاق مثل هَذَا الْجمع على الصدْق كَانَ بِجَامِع جمعهم عَلَيْهِ وَهُوَ دُعَاء الدّين والمروءة على الصدْق وَإِنَّمَا تَدعِي انْقِطَاع توهم اتِّفَاقهم مَعَ اخْتِلَاف الطبائع والأهواء من غير جَامع يجمعهُمْ على ذَلِك فَأَما عِنْد وجود الْجَامِع فَهُوَ مُوَافق للمعتاد فَإِن قيل لَو تَوَاتر الْخَبَر عِنْد القَاضِي بِأَن الَّذِي فِي يَد زيد ملك عَمْرو لم يقْض لَهُ بِالْملكِ بِدُونِ إِقَامَة الْبَيِّنَة وَلَو ثَبت لَهُ علم الْيَقِين بذلك لتمكن من الْقَضَاء بِهِ قُلْنَا هَذَا أَولا يلْزم الْخصم فَإِنَّهُ يثبت علم طمأنينة الْقلب بِخَبَر التَّوَاتُر وَبِه يتَمَكَّن من الْقَضَاء لِأَن بِشَهَادَة الشَّاهِدين لَا يثبت فَوق ذَلِك فَأَما عندنَا فَيحْتَمل أَن يُقَال بِأَنَّهُ يقْضِي لِأَنَّهُ مَأْمُور شرعا بِأَن يقْضِي بِالْعلمِ وَيحْتَمل أَن لَا يقْضِي بِمَنْزِلَة مَا لَو صَار مَعْلُوما لَهُ بمعاينة السَّبَب قبل أَن يُقَلّد الْقَضَاء فِيمَا ثَبت مَعَ الشُّبُهَات وَفِيمَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ من الْحُدُود الَّتِي هِيَ لله تَعَالَى وَإِن صَار مَعْلُوما لَهُ بَعْدَمَا قلد الْقَضَاء لم يقْض بِهِ مَا لم تشهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 الشُّهُود وَعلم الْيَقِين يثبت لَهُ بمعاينة السَّبَب لَا محَالة أَلا ترى أَن الشَّاهِد لَو قَالَ أخبر لم يجز للْقَاضِي أَن يقْضِي بقوله وَفِيمَا يرجع إِلَى الْعلم لَا فرق بَين قَوْله أشهد وَبَين قَوْله أخبر فَعرفنَا أَن فِي بَاب الْقَضَاء تعْتَبر الشَّرَائِط سوى الْعلم بالشَّيْء ليتَمَكَّن القَاضِي من الْقَضَاء بِهِ ثمَّ الْمَذْهَب عِنْد عُلَمَائِنَا أَن الثَّابِت بالمتواتر من الْأَخْبَار علم ضَرُورِيّ كَالثَّابِتِ بالمعاينة وَأَصْحَاب الشَّافِعِي يَقُولُونَ الثَّابِت بِهِ علم يَقِين وَلكنه مكتسب لَا ضَرُورِيّ بِمَنْزِلَة مَا يثبت من الْعلم بِالنُّبُوَّةِ عِنْد معرفَة المعجزات فَإِنَّهُ علم يَقِين وَلكنه مكتسب لَا ضَرُورِيّ وَهَذَا لِأَن فِيمَا يكون ضَرُورِيًّا لَا يتَحَقَّق الِاخْتِلَاف فِيمَا بَين النَّاس وَإِذا وجدنَا النَّاس مُخْتَلفين فِي ثُبُوت علم الْيَقِين بالْخبر الْمُتَوَاتر عرفنَا أَنه مكتسب وَلَكنَّا نقُول هَذَا فَاسد فَإِنَّهُ لَو كَانَ طَرِيق هَذَا الْعلم الِاكْتِسَاب لاختص بِهِ من يكون من أهل الِاكْتِسَاب ورأينا أَنه لَا يخْتَص هَذَا الْعلم بِمن يكون من أهل الِاكْتِسَاب فَكل وَاحِد منا فِي صغره كَانَ يعلم أَبَاهُ وَأمه بالْخبر كَمَا يُعلمهُ بعد الْبلُوغ وَلَو كَانَ طَرِيقه الِاكْتِسَاب لتمكن الْمَرْء من أَن يتْرك هَذَا الِاكْتِسَاب فَلَا يَقع لَهُ الْعلم وبالاتفاق الْعلم الَّذِي يحصل بِخَبَر التَّوَاتُر لَا يتَمَكَّن الْمَرْء من دَفعه بكسب يباشره أَو بالامتناع من اكتسابه فَعرفنَا أَنه ثَابت ضَرُورَة فَأَما المعجزة فهناك يحْتَاج إِلَى (أَن) تميز المعجزة من المخرقة وتمييز مَا يكون فِي حد مَقْدُور الْبشر مِمَّا يكون خَارِجا من ذَلِك وَلَا طَرِيق إِلَى هَذَا التَّمْيِيز إِلَّا بالاستدلال فَعرفنَا أَن الْعلم الثَّابِت بِهِ طَرِيقه طَرِيق الِاسْتِدْلَال وَقد بَينا أَنه لَا خلاف بَين من لَهُم عقول كَامِلَة فِي الْعلم الْوَاقِع بِخَبَر الْمُتَوَاتر وَإِنَّمَا الِاخْتِلَاف ناشىء من نُقْصَان الْعقل لبَعض النَّاس وَترك التَّأَمُّل وَذَلِكَ دَلِيل وسواس يعتري بعض النَّاس كَمَا يكون فِي الْمَعْلُوم بالحواس وبالاتفاق لَا يعْتَبر هَذَا الِاخْتِلَاف فِي الْمَعْلُوم بالحواس وَيكون الْعلم الْوَاقِع بِهِ ضَرُورِيًّا فَكَذَلِك فِي الْمَعْلُوم بِخَبَر التَّوَاتُر ثمَّ اخْتلف مَشَايِخنَا فِيمَا هُوَ متواتر الْفَرْع آحَاد الأَصْل من الْأَخْبَار وَهُوَ الَّذِي تسميه الْفُقَهَاء فِي حيّز التَّوَاتُر وَالْمَشْهُور من الْأَخْبَار فَكَانَ أَبُو بكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 الرَّازِيّ رَحمَه الله يَقُول هَذَا أحد قسمي الْمُتَوَاتر على معنى أَنه يثبت بِهِ علم الْيَقِين وَلكنه علم اكْتِسَاب كَمَا قَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي فِي الْقسم الآخر وَكَانَ عِيسَى بن أبان رَحمَه الله يَقُول لَا يكون الْمُتَوَاتر إِلَّا مَا يُوجب الْعلم ضَرُورِيًّا فَأَما النَّوْع الثَّانِي فَهُوَ مَشْهُور وَلَيْسَ بمتواتر وَهُوَ الصَّحِيح عندنَا وَبَيَان هَذَا النَّوْع فِي كل حَدِيث نَقله عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عدد يتَوَهَّم اجْتِمَاعهم على الْكَذِب وَلَكِن تَلَقَّتْهُ الْعلمَاء بِالْقبُولِ وَالْعَمَل بِهِ فباعتبار الأَصْل هُوَ من الْآحَاد وَبِاعْتِبَار الْفَرْع هُوَ متواتر وَذَلِكَ نَحْو خبر الْمسْح على الْخُفَّيْنِ وَخبر تَحْرِيم الْمُتْعَة بعد الْإِبَاحَة وَخبر تَحْرِيم نِكَاح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا وعَلى خَالَتهَا وَخبر حُرْمَة التَّفَاضُل فِي الْأَشْيَاء السِّتَّة وَمَا أشبه ذَلِك أما أَبُو بكر الرَّازِيّ كَانَ يَقُول لما تَوَاتر نقل هَذَا الْخَبَر إِلَيْنَا من قوم لَا يتَوَهَّم اجْتِمَاعهم على الْكَذِب فقد أوجب لنا ذَلِك علم الْيَقِين وَانْقطع بِهِ توهم الِاتِّفَاق فِي الصَّدْر الأول لِأَن الَّذين تلقوهُ بِالْقبُولِ وَالْعَمَل بِهِ لَا يتَوَهَّم اتِّفَاقهم على الْقبُول إِلَّا بِجَامِع جمعهم على ذَلِك وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا تعين جَانب الصدْق فِي الَّذين كَانُوا أَهلا من رُوَاته وَلَكِن إِنَّمَا عرفنَا هَذَا بالاستدلال فَلهَذَا سمينا الْعلم الثَّابِت بِهِ مكتسبا وَإِن كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ بِمَنْزِلَة الْعلم بِمَعْرِِفَة الصَّانِع أَلا ترى أَن النّسخ يثبت بِمثل هَذِه الْأَخْبَار فَإِنَّهُ يثبت بهَا الزِّيَادَة على كتاب الله تَعَالَى وَالزِّيَادَة على النَّص نسخ وَلَا يثبت نسخ مَا يُوجب علم الْيَقِين إِلَّا بِمثل مَا يُوجب علم الْيَقِين وَجه قَول عِيسَى أَن مَا يكون مُوجبا علم الْيَقِين فَإِنَّهُ يكفر جاحده كَمَا فِي الْمُتَوَاتر الَّذِي يُوجب الْعلم ضَرُورَة وبالاتفاق لَا يكفر جَاحد الْمَشْهُور من الْأَخْبَار فَعرفنَا أَن الثَّابِت بِهِ علم طمأنينة الْقلب لَا علم الْيَقِين وَهَذَا لِأَنَّهُ وَإِن تَوَاتر نَقله من الْفَرِيق الثَّانِي وَالثَّالِث فقد بَقِي فِيهِ شُبْهَة توهم الْكَذِب عَادَة بِاعْتِبَار الأَصْل فَإِن رُوَاته عدد يسير وَعلم الْيَقِين إِنَّمَا يثبت إِذا اتَّصل بِمن هُوَ مَعْصُوم عَن الْكَذِب على وَجه لَا يبْقى فِيهِ شُبْهَة الِانْفِصَال وَقد بَقِي هُنَا شُبْهَة الِانْفِصَال بِاعْتِبَار الأَصْل فَيمْنَع ثُبُوت علم الْيَقِين بِهِ يقرره أَن الْعلم الْوَاقِع لنا بِمثل هَذَا النَّقْل إِنَّمَا يكون قبل التَّأَمُّل فِي شُبْهَة الِانْفِصَال فَأَما عِنْد التَّأَمُّل فِي هَذِه الشُّبْهَة يتَمَكَّن نُقْصَان فِيهِ فَعرفنَا أَنه علم طمأنينة فَأَما الْعلم الْوَاقِع بِمَا هُوَ متواتر بِأَصْلِهِ وفرعه فَهُوَ يزْدَاد قُوَّة بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ثمَّ قد بَينا أَن التَّفَاوُت يظْهر عِنْد الْمُقَابلَة فَإِذا لم يكن وَرَاء الْقسم الأول حد آخر عرفنَا أَن الثَّابِت بِهِ علم ضَرُورَة وَلما كَانَ وَرَاء الْقسم الثَّانِي حد آخر عرفنَا أَن الثَّابِت بِهِ علم طمأنينة وَلَكِن مَعَ هَذَا تجوز الزِّيَادَة على النَّص بِهَذَا النَّوْع من الْأَخْبَار لِأَن الْعلمَاء لما تَلَقَّتْهُ بِالْقبُولِ وَالْعَمَل بِهِ كَانَ دَلِيلا مُوجبا فَإِن الْإِجْمَاع من الْعَصْر الثَّانِي وَالثَّالِث دَلِيل مُوجب شرعا فَلهَذَا جَوَّزنَا بِهِ الزِّيَادَة على النَّص وَلَكِن مَعَ هَذَا بَقِي فِيهِ شُبْهَة توهم الِانْفِصَال فَلَا يكفر جاحده وَمَا هَذَا إِلَّا نَظِير مَا تقدم بَيَانه فَإِن الْعلم بِكَوْن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام مَبْعُوثًا إِلَى بني إِسْرَائِيل ثَابت بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر أصلا وفرعا على وَجه لم يبْق فِيهِ توهم الشُّبْهَة لأحد ثمَّ بنقلهم الْمُتَوَاتر أَنه قتل أَو صلب لَا يثبت الْعلم لِأَن ذَلِك آحَاد الأَصْل متواتر الْفَرْع كَمَا قَررنَا فَإِن قيل (فَكَانَ يَنْبَغِي) أَن يثبت بِهِ طمأنينة الْقلب كَمَا أثبتم هُنَا قُلْنَا إِنَّمَا لم نثبت لِأَنَّهُ اعْترض مَا هُوَ أقوى مِنْهُ فِيمَا يرجع إِلَى الْعلم وَهُوَ إِخْبَار علام الغيوب بِأَنَّهُم مَا قَتَلُوهُ يَقِينا والحجج الَّتِي تثبت بهَا طمأنينة الْقلب إِذا اعْترض عَلَيْهَا مَا هُوَ أقوى لم يبْق علم طمأنينة الْقلب بهَا ثمَّ ذكر عِيسَى رَحمَه الله أَن هَذَا النَّوْع من الْأَخْبَار يَنْقَسِم إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام قسم يضلل جاحده وَلَا يكفر وَذَلِكَ نَحْو خبر الرَّجْم وَقسم لَا يضلل جاحده وَلَكِن يخطأ ويخشى عَلَيْهِ المأثم وَذَلِكَ نَحْو خبر الْمسْح بالخف وَخبر حُرْمَة التَّفَاضُل وَقسم لَا يخْشَى على جاحده المأثم وَلَكِن يخطأ فِي ذَلِك وَهُوَ الْأَخْبَار الَّتِي اخْتلف فِيهَا الْفُقَهَاء فِي بَاب الْأَحْكَام وَهَذَا الَّذِي قَالَه صَحِيح بِنَاؤُه على تلقي الْعلمَاء إِيَّاه بِالْقبُولِ ثمَّ الْعَمَل بِمُوجبِه فَإِن خبر الرَّجْم اتّفق عَلَيْهِ الْعلمَاء من الصَّدْر الأول وَالثَّانِي وَإِنَّمَا خَالف فِيهِ الْخَوَارِج وخلافهم لَا يكون قدحا فِي الْإِجْمَاع وَلِهَذَا قَالَ يضلل جاحده فَأَما خبر الْمسْح فَفِيهِ شُبْهَة الِاخْتِلَاف فِي الصَّدْر الأول فَإِن عَائِشَة وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم كَانَا يَقُولَانِ سلوا هَؤُلَاءِ الَّذين يرَوْنَ الْمسْح هَل مسح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد سُورَة الْمَائِدَة وَالله مَا مسح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد سُورَة الْمَائِدَة وَقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 نقل رجوعهما عَن ذَلِك أَيْضا وَكَذَلِكَ خبر الصّرْف فقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه كَانَ يجوز التَّفَاضُل مستدلا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة وَقد نقل رُجُوعه عَن ذَلِك فلشبهة الِاخْتِلَاف فِي الصَّدْر الأول قُلْنَا بِأَنَّهُ لَا يضلل جاحده وَلَكِن يخْشَى عَلَيْهِ المأثم وَلِأَن بِاعْتِبَار رجوعهم يثبت الْإِجْمَاع (وَقد ثَبت الْإِجْمَاع) على قبُوله من الصَّدْر الثَّانِي وَالثَّالِث وَلَا يسع مُخَالفَة الْإِجْمَاع فَلهَذَا يخْشَى على جاحده المأثم وَأما النَّوْع الثَّالِث فقد ظهر فِيهِ الِاخْتِلَاف فِي كل قرن فَكل من ترجح عِنْده جَانب الصدْق فِيهِ بِدَلِيل عمل بِهِ وَكَانَ لَهُ أَن يخطىء صَاحبه وَلَكِن لَا يخْشَى عَلَيْهِ المأثم فِي ذَلِك لِأَنَّهُ صَار إِلَيْهِ عَن اجْتِهَاد وَالْإِثْم فِي الْخَطَأ مَوْضُوع عَن الْمُجْتَهد على مَا نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأما الْغَرِيب المستنكر فَإِنَّهُ يخْشَى المأثم على الْعَامِل بِهِ وَذَلِكَ نَحْو خبر الْقَتْل فِي الْقسَامَة وَخبر الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين لِأَنَّهُ مُخَالف لظَاهِر الْقُرْآن وَقد ترك الْعلمَاء فِي الْقرن الأول وَالثَّانِي الْعَمَل بِهِ فبه يقرب من الْكَذِب كَمَا أَن الْمَشْهُور يقرب من الصدْق بتلقيهم إِيَّاه بِالْقبُولِ وَالْعَمَل بِهِ فَكَمَا يخْشَى المأثم هُنَاكَ على ترك الْعَمَل بِهِ لقُرْبه من الصدْق فَكَذَلِك يخْشَى على من يعْمل بالغريب المستنكر لقُرْبه من الْكَذِب وَالثَّابِت بِمثلِهِ مُجَرّد الظَّن وَمن الظَّن مَا يَأْثَم الْمَرْء باتباعه قَالَ تَعَالَى {وظننتم ظن السوء} وَقَالَ تَعَالَى {إِن بعض الظَّن إِثْم} وَهُوَ نَظِير من يصير إِلَى التَّحَرِّي عِنْد اشْتِبَاه الْقبْلَة فَيعْمل بِهِ مَعَ وجود الدَّلِيل وَيتْرك الْعَمَل بِالدَّلِيلِ وَلَا شكّ فِي تأثيم من يدع الْعَمَل بِالدَّلِيلِ وَيعْمل بِالظَّنِّ فَهَذَا مثله وَالله أعلم ذكر عِيسَى رَحمَه الله أَنه لَيْسَ لما ينْعَقد بِهِ التَّوَاتُر حد مَعْلُوم من حَيْثُ الْعدَد وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن خبر التَّوَاتُر يثبت علم الْيَقِين وَلَا يُوجد حد من حَيْثُ الْعدَد يثبت بِهِ علم الْيَقِين وَإِذا انْتقصَ مِنْهُ بفرد لَا يثبت علم الْيَقِين وَلَكنَّا نعلم أَن بِالْعدَدِ الْيَسِير لَا يثبت ذَلِك لتوهم المواطأة بَينهم وبالجمع الْعَظِيم يثبت ذَلِك لِانْعِدَامِ توهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 المواطأة فَإِنَّمَا يَبْنِي على هَذَا أَنه مَتى كَانَ المخبرون بِحَيْثُ يُؤمن تواطؤهم عَادَة يكون خبرهم متواترا وَالْحُدُود نَوْعَانِ مِنْهُ مَا يكون متميز الْأَطْرَاف وَالْوسط كالمقادير فِي الْحُدُود الشَّرْعِيَّة وَمِنْه مَا يكون متميز الْأَطْرَاف مُشكل الْوسط كالسير بالأميال وَالْأكل بالأرطال فَهَذَا مِمَّا هُوَ متميز الْأَطْرَاف مُشكل الْوسط وَالطَّرِيق فِيهِ مَا بَينا فصل فِي بَيَان أَن إِجْمَاع هَذِه الْأمة مُوجب للْعلم قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم أَن إِجْمَاع هَذِه الْأمة مُوجب للْعلم قطعا كَرَامَة لَهُم على الدّين لَا لانْقِطَاع توهم اجْتِمَاعهم على الضلال بِمَعْنى مَعْقُول فاليهود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس أَكثر منا عددا وَقد وجد مِنْهُم الْإِجْمَاع على الضَّلَالَة وَلِأَن الِاتِّفَاق قد يتَحَقَّق من الْخلف على وَجه الْمُتَابَعَة للآباء من غير حجَّة كَمَا أخبر الله تَعَالَى عَن الْكَفَرَة بقوله تَعَالَى {إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة} وَقَالَ تَعَالَى {اتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله} فَعرفنَا أَنه إِنَّمَا جعل اجْتِمَاع هَذِه الْأمة حجَّة شرعا كَرَامَة لَهُم على الدّين فَهَذَا مَذْهَب الْفُقَهَاء وَأكْثر الْمُتَكَلِّمين وَقَالَ النظام وَقوم من الإمامية لَا يكون الْإِجْمَاع حجَّة مُوجبَة للْعلم بِحَال لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا اجْتِمَاع الْأَفْرَاد وَإِذا كَانَ قَول كل فَرد غير مُوجب للْعلم لكَونه غير مَعْصُوم عَن الْخَطَأ فَكَذَلِك أقاويلهم بَعْدَمَا اجْتَمعُوا لِأَن توهم الْخَطَأ لَا يَنْعَدِم بالاجتماع أَلا ترى أَن كل وَاحِد مِنْهُم لما كَانَ إنْسَانا قبل الِاجْتِمَاع فَبعد الِاجْتِمَاع هم نَاس وكل وَاحِد من القادرين حَالَة الِانْفِرَاد لَا يصير عَاجِزا بعد الِاجْتِمَاع وكل وَاحِد من العميان عِنْد الِانْفِرَاد لَا يصير بَصيرًا بالاجتماع وَلَا تصير جُمْلَتهمْ أَيْضا بِهَذِهِ الصّفة بعد الِاجْتِمَاع وَهَذَا الْكَلَام ظَاهر التَّنَاقُض وَالْفساد فقد ثَبت بالاجتماع مَا لَا يكون ثَابتا عِنْد الِانْفِرَاد فِي المحسوسات والمشروعات فَإِن الْأَفْرَاد لَا يقدرُونَ على حمل خَشَبَة ثَقيلَة وَإِذا اجْتَمعُوا قدرُوا على ذَلِك واللقمة الْوَاحِدَة من الطَّعَام والقطرة من المَاء لَا تكون مشبعة وَلَا مروية ثمَّ عِنْد الِاجْتِمَاع تصير مشبعة ومروية وَهَذَا لِأَن بالاجتماع يحدث مَا لم يكن عِنْد الِانْفِرَاد وَهُوَ الدَّلِيل الْجَامِع لَهُم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ وَقد قَررنَا هَذَا فِي الْخَبَر الْمُتَوَاتر وَمن أنكر كَون الْإِجْمَاع حجَّة مُوجبَة للْعلم فقد أبطل أصل الدّين فَإِن مدَار أصُول الدّين ومرجع الْمُسلمين إِلَى إِجْمَاعهم فالمنكر لذَلِك يسْعَى فِي هدم أصل الدّين وسنقرر هَذَا فِي آخر الْفَصْل ثمَّ الدَّلِيل على أَن الْإِجْمَاع من هَذِه الْأمة حجَّة مُوجبَة شرعا وَأَنَّهُمْ إِذا اجْتَمعُوا على شَيْء فَالْحق فِيمَا اجْتَمعُوا عَلَيْهِ قطعا وَإِذا اخْتلفُوا فِي شَيْء فَالْحق لَا يعدوهم أصلا الْكتاب وَالسّنة أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر} وَكلمَة خير بِمَعْنى أفعل فَيدل على النِّهَايَة فِي الْخَيْرِيَّة وَذَلِكَ دَلِيل ظَاهر على أَن النِّهَايَة فِي الْخَيْرِيَّة فِيمَا يَجْتَمعُونَ عَلَيْهِ ثمَّ فسر ذَلِك بِأَنَّهُم يأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر وَإِنَّمَا جعلهم خير أمة بِهَذَا وَالْمَعْرُوف الْمُطلق مَا هُوَ حق عِنْد الله تَعَالَى فَأَما مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَاد الْمُجْتَهدين فَإِنَّهُ غير مَعْرُوف مُطلقًا إِذْ الْمُجْتَهد يخطىء ويصيب وَلكنه مَعْرُوف فِي حَقه على معنى أَنه يلْزمه الْعَمَل بِهِ مَا لم يتَبَيَّن خَطؤُهُ فَفِي هَذَا بَيَان أَن الْمَعْرُوف الْمُطلق مَا يَجْتَمعُونَ عَلَيْهِ فَإِن قيل هَذَا يَقْتَضِي كَون كل وَاحِد مِنْهُم آمرا بِالْمَعْرُوفِ كَمَا ذكرنَا فِي مُوجب الْجمع الْمُضَاف إِلَى جمَاعَة وبالإجماع اجْتِهَاد كل وَاحِد مِنْهُم بِانْفِرَادِهِ لَا يكون مُوجبا للْعلم قطعا قُلْنَا لَا بل المُرَاد هُنَا أَن جَمِيع الْأمة أَو أَكْثَرهم بِهَذِهِ الصّفة وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى {وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لن نؤمن لَك} {وَإِذ قتلتم نفسا فادارأتم فِيهَا} وَكَانَ ذَلِك من بَعضهم وَيُقَال فِي بذلة الْكَلَام بَنو هَاشم حكماء وَأهل الْكُوفَة فُقَهَاء وَإِنَّمَا يُرَاد بَعضهم فيتبين بِهَذَا التَّحْقِيق أَن المُرَاد بَيَان أَن الْأَكْثَر من هَذِه الْأمة إِذا اجْتَمعُوا على شَيْء فَهُوَ الْمَعْرُوف مُطلقًا وَأَنَّهُمْ إِذا اخْتلفُوا فِي شَيْء فالمعروف الْمُطلق لَا يعدو أَقْوَالهم وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} الْآيَة فقد جعل الله اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ بِمَنْزِلَة مشاقة الرَّسُول فِي استيجاب النَّار ثمَّ قَول الرَّسُول مُوجب للْعلم قطعا فَكَذَلِك مَا اجْتمع عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَا يجوز أَن يُقَال المُرَاد اجْتِمَاع الخصلتين لِأَن فِي ذكرهمَا دَلِيلا على أَن تَأْثِير أَحدهمَا كتأثير الآخر بِمَنْزِلَة قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 إِلَى قَوْله {وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما} وأيد هَذَا قَوْله تَعَالَى {وَلم يتخذوا من دون الله وَلَا رَسُوله وَلَا الْمُؤمنِينَ وليجة} فَفِي هَذَا تنصيص على أَن من اتخذ وليجة من دون الْمُؤمنِينَ فَهُوَ بِمَنْزِلَة من اتخذ وليجة من دون الرَّسُول وَقَالَ تَعَالَى {وليمكنن لَهُم دينهم الَّذِي ارتضى لَهُم} وَفِيه تنصيص على أَن المرضي عِنْد الله مَا هم عَلَيْهِ حَقِيقَة وَمَعْلُوم أَن الارتضاء مُطلقًا لَا يكون بالْخَطَأ وَإِن كَانَ المخطىء مَعْذُورًا وَإِنَّمَا يكون بِمَا هُوَ الصَّوَاب فَعرفنَا أَن الْحق مُطلقًا فِيمَا اجْتَمعُوا عَلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} وَالْوسط الْعدْل المرضي قَالَ تَعَالَى {أوسطهم} أَي أعدلهم وأرضاهم قولا وَقَالَ الْقَائِل هم وسط يرضى الْأَنَام بحكمهم أَي عدل فَفِي الْوَصْف لَهُم بِالْعَدَالَةِ تنصيص على أَن الْحق مَا يَجْتَمعُونَ عَلَيْهِ ثمَّ جعلهم شُهَدَاء على النَّاس وَالشَّاهِد مُطلقًا من يكون قَوْله حجَّة فَفِي هَذَا بَيَان أَن إِجْمَاعهم حجَّة على النَّاس وَأَنه مُوجب للْعلم قطعا وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول الشُّهُود فِي الْحُقُوق عِنْد القَاضِي وَإِن جعلت شَهَادَتهم حجَّة فَإِنَّهَا لَا تكون مُوجبَة للْعلم قطعا وَهَذَا لِأَن شَهَادَتهم حجَّة فِي حق القَاضِي بِاعْتِبَار أَنه مَأْمُور بِالْقضَاءِ بِالظَّاهِرِ فَإِن مَا وَرَاءه غيب عَنهُ وَلَا طَرِيق لَهُ إِلَى مَعْرفَته فَيكون حجَّة بِحَسب ذَلِك وَأما هُنَا فقد جعل الله تَعَالَى هَذِه الْأمة شُهَدَاء على النَّاس بِمَا هُوَ حق الله تَعَالَى (على النَّاس وَهُوَ علام الغيوب لَا تخفى عَلَيْهِ خافية فَإِن مَا يكون حجَّة لحق الله تَعَالَى) على النَّاس مَا يكون مَوْصُوفا بِأَنَّهُ حق قطعا كَيفَ وَقد جعل الله شَهَادَتهم على النَّاس كَشَهَادَة الرَّسُول عَلَيْهِم فَقَالَ تَعَالَى {وَيكون الرَّسُول عَلَيْكُم شَهِيدا} وَشَهَادَة الرَّسُول حجَّة مُوجبَة للْعلم قطعا لِأَنَّهُ مَعْصُوم عَن القَوْل بِالْبَاطِلِ فَتبين بِهَذِهِ الْمُقَابلَة أَن شَهَادَة الْأمة فِي حق النَّاس بِهَذِهِ الصّفة وَلَا يجوز أَن يُقَال هَذَا فِي حكم الْآخِرَة لِأَنَّهُ لَا تَفْصِيل فِي الْآيَة وَلِأَن مَا فِي الْآخِرَة يكون أَدَاء الشَّهَادَة فِي مجْلِس الْقَضَاء وَالْقَاضِي علام الغيوب عَالم بحقائق الْأُمُور فَمَا لم يَكُونُوا عَالمين بِمَا هُوَ الْحق فِي الدُّنْيَا لَا يصلحون للْأَدَاء بِهَذِهِ الصّفة فِي الْآخِرَة فِي قَوْله تَعَالَى {فَكيف إِذا جِئْنَا من كل أمة بِشَهِيد وَجِئْنَا بك على هَؤُلَاءِ} مَعَ أَن الشَّهَادَة فِي الْآخِرَة مَذْكُورَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 فِي الْآيَتَيْنِ من كتاب الله تَعَالَى {شَهِيدا} وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَيَوْم نبعث من كل أمة شَهِيدا} الْآيَة فَتبين أَن المُرَاد بِمَا تلونا الشَّهَادَة بِحُقُوق الله تَعَالَى على النَّاس فِي الدُّنْيَا وَلَا يُقَال كَمَا وصف الله هَذِه الْأمة بِأَنَّهُم شُهَدَاء فقد وصف بِهِ أهل الْكتاب قَالَ تَعَالَى {يَا أهل الْكتاب لم تصدُّونَ عَن سَبِيل الله من آمن تَبْغُونَهَا عوجا وَأَنْتُم شُهَدَاء} وَقَالَ تَعَالَى {بِمَا استحفظوا من كتاب الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء} ثمَّ لم يدل ذَلِك على أَن إِجْمَاعهم مُوجب للْعلم وَهَذَا لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا جعلهم شُهَدَاء بِمَا أَخذ الْمِيثَاق بِهِ عَلَيْهِم وَهُوَ بَيَان نعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كِتَابهمْ للنَّاس كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق الَّذين أُوتُوا الْكتاب لتبيننه} الْآيَة وَلَو بينوا كَانَ بيانهم حجَّة إِلَّا أَنهم لما تعنتوا وَاشْتَغلُوا بِالْحَسَدِ وَطلب الرياسة كفرُوا بذلك وَإِنَّمَا سماهم أهل الْكتاب بِاعْتِبَار مَا كَانُوا عَلَيْهِ من قبل وَلذَلِك جعلهم شُهَدَاء على حفظ الْكتاب فَمَا لم يبدلوا كَانَ قَوْلهم حجَّة وَلَكنهُمْ حرفوا وغيروا ذَلِك فَلهَذَا لَا يكون قَوْلهم حجَّة فَأَما هُنَا فقد جعل الله هَذِه الْأمة شُهَدَاء على النَّاس فَعرفنَا أَن قَوْلهم حجَّة فِي إِلْزَام حُقُوق الله على النَّاس إِلَى قيام السَّاعَة وَلَا يُقَال فقد ثَبت حق الله بِمَا لَا يُوجب الْعلم قطعا نَحْو خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس وَهَذَا لِأَن خبر الْوَاحِد حجَّة بِاعْتِبَار أَنه كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَوله حجَّة مُوجبَة للْعلم قطعا وَلَكِن امْتنع ثُبُوت الْعلم بِهِ لشُبْهَة فِي النَّقْل وَاحْتمل ذَلِك لضَرُورَة فَقدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقِيَاس لَا يكون حجَّة لإِثْبَات الحكم ابْتِدَاء بل بتعدية الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ إِلَى مَحل لَا نَص فِيهِ وَاحْتمل ذَلِك لضَرُورَة حاجتنا إِلَى ذَلِك فَأَما هُنَا فقد جعل الله تَعَالَى الْأمة شُهَدَاء على النَّاس مُطلقًا وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا إِذا كَانَ الْحق مُطلقًا فِيمَا يشْهدُونَ بِهِ فَإِن قيل وصف الله تَعَالَى إيَّاهُم بِهَذَا لَا يكون دَلِيلا على أَنه لَا يتَوَهَّم اجْتِمَاعهم على مَا هُوَ ضَلَالَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} فَفِيهِ بَيَان أَنه خلقهمْ لِلْعِبَادَةِ ثمَّ لَا يمْنَع ذَلِك توهم اجْتِمَاعهم على ترك الْعِبَادَة قُلْنَا اللَّام الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى {ليكونوا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 {ليكونوا} يدل على أَنه جعلهم بِهَذِهِ الصّفة كَرَامَة لَهُم ليَكُون قَوْلهم حجَّة على النَّاس فِي حق الله كَمَا يَقُول إِنَّه جعل النَّاس أحرارا ليكونوا أَهلا للْملك فَإِنَّمَا يفهم مِنْهُ أَن الْأَهْلِيَّة للْملك ثَابت لَهُم بِاعْتِبَار الْحُرِّيَّة فهاهنا أَيْضا يفهم من الْآيَة أَن قَوْلهم حجَّة على النَّاس بِاعْتِبَار صفة الوساطة لَهُم وَهَكَذَا كَانَ يَقْتَضِي ظَاهر قَوْله تَعَالَى {إِلَّا ليعبدون} غير أَنا لَو حملنَا على هَذَا الظَّاهِر خرجت الْعِبَادَة من أَن ينالها ثَوَاب أَو عِقَاب بِتَرْكِهَا لِأَن ذَلِك يثبت بِاخْتِيَار يكون من العَبْد عِنْد الْإِقْدَام عَلَيْهِ فَعرفنَا أَن المُرَاد من قَوْله {إِلَّا ليعبدون} إِلَّا وَعَلَيْهِم الْعِبَادَة لي وَبِأَن بترك الظَّاهِر فِي مَوضِع لقِيَام الدَّلِيل لَا يمْنَع الْعَمَل بِالظَّاهِرِ فِيمَا سواهُ وَتبين أَن مَا نَحن فِيهِ نَظِير شَهَادَة الرَّسُول علينا كَمَا ذكره الله مَعْطُوفًا على هَذِه الصّفة لَا نَظِير مَا اسْتشْهدُوا بِهِ وَأما السّنة فقد جَاءَت مستفيضة مَشْهُورَة فِي ذَلِك فَمِنْهَا حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من سره بحبوحة الْجنَّة فليلزم الْجَمَاعَة فَإِن الشَّيْطَان مَعَ الْوَاحِد وَهُوَ من الِاثْنَيْنِ أبعد وَمِنْهَا حَدِيث معَاذ رَضِي الله عَنهُ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث لَا يغل عَلَيْهِنَّ قلب مُسلم إخلاص الْعَمَل لله تَعَالَى ومناصحة وُلَاة الْأَمر وَلُزُوم جمَاعَة المسلمينومنها قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَد الله مَعَ الْجَمَاعَة فَمن شَذَّ شَذَّ فِي النَّار وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام من خَالف الْجَمَاعَة قيد شبر فقد خلع ربقة الْإِسْلَام من عُنُقه وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن الله لَا يجمع أمتِي على الضَّلَالَة وَلما سُئِلَ عَن الخميرة الَّتِي يتعاطاها النَّاس قَالَ مَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن وَمَا رَآهُ الْمُسلمُونَ قبيحا فَهُوَ عِنْد الله قَبِيح والْآثَار فِي هَذَا الْبَاب كَثِيرَة تبلغ حد التَّوَاتُر لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم إِذا رُوِيَ حَدِيثا فِي هَذَا الْبَاب سَمعه فِي جمع وَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد من ذَلِك الْجمع فَذَلِك بِمَنْزِلَة الْمُتَوَاتر كالإنسان إِذا رأى الْقَافِلَة بعد انصرافها من مَكَّة وَسمع من كل فريق وَاحِدًا يَقُول قد حجَجنَا فَإِنَّهُ يثبت لَهُ علم الْيَقِين بِأَنَّهُم حجُّوا فِي تِلْكَ السّنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وَشَيْء من الْمَعْقُول يشْهد بِهِ فَإِن الله تَعَالَى جعل الرَّسُول خَاتم النَّبِيين وَحكم بِبَقَاء شَرِيعَته إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَأَنه لَا نَبِي بعده وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي على الْحق ظَاهِرين لَا يضرهم من ناوأهم فَلَا بُد من أَن تكون شَرِيعَته ظَاهِرَة فِي النَّاس إِلَى قيام السَّاعَة وَقد انْقَطع الْوَحْي بوفاته فَعرفنَا ضَرُورَة أَن طَرِيق بَقَاء شَرِيعَته عصمَة الله أمته من أَن يجتمعوا على الضَّلَالَة فَإِن فِي الِاجْتِمَاع على الضَّلَالَة رفع الشَّرِيعَة وَذَلِكَ يضاد الْمَوْعُود من الْبَقَاء وَإِذا ثَبت عصمَة جَمِيع الْأمة من الِاجْتِمَاع على الضَّلَالَة ضاهى مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ المسموع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ مُوجب للْعلم قطعا فَهَذَا مثله وَهَذَا معنى مَا قُلْنَا إِن عِنْد الِاجْتِمَاع يحدث مَا لم يكن ثَابتا بالأفراد وَهُوَ نَظِير القَاضِي إِذا نفذ قَضَاء بِاجْتِهَاد فَإِنَّهُ يلْزم ذَلِك على وَجه لَا يحْتَمل النَّقْض وَإِن كَانَ ذَلِك فَوق الِاجْتِهَاد وَكَانَ ذَلِك لصيانة الْقَضَاء الَّذِي هُوَ من أَسبَاب الدّين فَلِأَن يثبت هُنَا مَا ادعينا صِيَانة لأصل الَّذين كَانَ أولى فَإِن قيل كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تقوم السَّاعَة إِلَّا على شرار النَّاس وَقَالَ لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى لَا يُقَال فِي الأَرْض الله قُلْنَا فِي صِحَة هَذَا الحَدِيث نظر هُوَ فِي الظَّاهِر مُخَالف لكتاب الله {الله ولي الَّذين آمنُوا يخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} وَمن كَانَ الله وليه فَهُوَ ظَاهر أبدا وَمعنى قَوْله يخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور أَي من ظلمات الْكفْر وَالْبَاطِل إِلَى نور الْإِيمَان وَالْحق فَذَلِك دَلِيل على أَن الْحق مَا يتفقون عَلَيْهِ فِي كل وَقت وَقَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُم وَمَلَائِكَته} الْآيَة وَلَو ثَبت الحَدِيث فَالْمُرَاد بَيَان أَن أهل الشَّرّ يغلبُونَ فِي آخر الزَّمَان مَعَ بَقَاء الصَّالِحين المتمسكين بِالْحَقِّ فيهم وَالْمرَاد بِالْحَدِيثِ الآخر بَيَان الْحَال بَين نفخة الْفَزع ونفخة الْبَعْث فَإِن قيام السَّاعَة عِنْد نفخة الْبَعْث وَعند ذَلِك لم يبْق فِي الأَرْض من بني آدم أحد حَيا ثمَّ الْكَلَام بعد هَذَا فِي سَبَب الْإِجْمَاع وركنه وأهلية من ينْعَقد بِهِ الْإِجْمَاع وَشَرطه وَحكمه من الْكتاب وَالسّنة أما الْكتاب فنحو الْإِجْمَاع على حُرْمَة الْأُمَّهَات وَالْبَنَات سَببه قَوْله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم وبناتكم} وَأما من حَيْثُ السّنة فنحو الْإِجْمَاع على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 فصل السَّبَب قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن سَبَب الْإِجْمَاع قد يكون توقيفا أَن فِي الْيَدَيْنِ الدِّيَة وَفِي إِحْدَاهمَا نصف الدِّيَة وَالْإِجْمَاع على أَنه لَا يجوز بيع الطَّعَام المُشْتَرِي قبل الْقَبْض وَمَا أشبه ذَلِك فَإِن سَببه السّنة المروية فِي الْبَاب وَمن ذَلِك مَا يكون مستنبطا بِالِاجْتِهَادِ على مَا هُوَ الْمَنْصُوص عَلَيْهِ من الْكتاب أَو السّنة وَذَلِكَ نَحْو إِجْمَاعهم على توظيف الْخراج على أهل السوَاد فَإِن عمر رَضِي الله عَنهُ حِين أَرَادَ ذَلِك خَالفه بِلَال مَعَ جمَاعَة من أَصْحَابه حَتَّى تَلا عَلَيْهِم قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين جاؤوا من بعدهمْ} قَالَ أرى لمن بعدكم فِي هَذَا الْفَيْء نَصِيبا فَلَو قسمتهَا بَيْنكُم لم يبْق لمن بعدكم فِيهَا نصيب فَأَجْمعُوا على قَوْله وَسبب إِجْمَاعهم هَذَا الاستنباط وَلما اخْتلفُوا فِي الْخَلِيفَة بعد رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ عمر إِن رَسُول الله اخْتَار أَبَا بكر لأمر دينكُمْ فَيكون أرضني بِهِ لأمر دنياكم فَأَجْمعُوا على خِلَافَته وَسبب إِجْمَاعهم هَذَا الاستنباط وَمِنْهَا مَا يكون عَن رَأْي نَحْو إِجْمَاعهم على أجل الْعنين وإجماعهم على الْحَد على شَارِب الْخمر على مَا رُوِيَ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ لما شاورهم فِي ذَلِك قَالَ عَليّ إِنَّه إِذا شرب هذي وَإِذا هذي افترى وحد المفترين فِي كتاب الله ثَمَانُون جلدَة وَهَكَذَا قَالَه ابْن عَوْف وَكَانَ عَليّ يَقُول مَا من أحد أقيم عَلَيْهِ حدا فَيَمُوت فأجد من ذَلِك فِي نَفسِي شَيْئا إِلَّا حد الْخمر فَإِنَّهُ ثَبت بآرائنا فَإِن قيل كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا وَإِثْبَات الْحَد بِالرَّأْيِ لَا يكون قُلْنَا لَا نقُول إِثْبَات أصل الْحَد كَانَ بِالرَّأْيِ بل بِالسنةِ وَهُوَ مَا ثَبت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِالضَّرْبِ بِالْجَرِيدِ وَالنعال فِي شرب الْخمر إِلَّا أَنهم بالتفحص عرفُوا مِقْدَار مَا ضرب فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ أَن الَّذين كَانُوا عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ أَرْبَعُونَ نَفرا وَضرب كل وَاحِد بنعليه فنقلوا بِالرَّأْيِ من النِّعَال إِلَى الجلدات اسْتِدْلَالا بِحَدّ الْقَذْف وأثبتوا الْمِقْدَار بِالنَّصِّ فَأَجْمعُوا أَن حد الْخمر ثَمَانُون جلدَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وَكَانَ ابْن جرير رَحمَه الله يَقُول الْإِجْمَاع الْمُوجب للْعلم قطعا لَا يصدر عَن خبر الْوَاحِد وَلَا عَن قِيَاس لِأَن خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس لَا يُوجب الْعلم قطعا فَمَا يصدر عَنهُ كَيفَ يكون مُوجبا لذَلِك وَلِأَن النَّاس يَخْتَلِفُونَ فِي الْقيَاس هَل هُوَ حجَّة أم لَا فَكيف يصدر الْإِجْمَاع عَن نفس الْخلاف وَهَذَا غلط بَين فقد بَينا أَن إِجْمَاع هَذِه الْأمة حجَّة شرعا بِاعْتِبَار عينه لَا بِاعْتِبَار دَلِيله فَمن يَقُول بِأَنَّهُ لَا يكون إِلَّا صادرا عَن دَلِيل مُوجب للْعلم فَإِنَّهُ يَجْعَل الْإِجْمَاع لَغوا وَإِنَّمَا يثبت الْعلم بذلك الدَّلِيل فَهُوَ وَمن يُنكر كَون الْإِجْمَاع حجَّة أصلا سَوَاء وَخبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس وَإِن لم يكن مُوجبا للْعلم بِنَفسِهِ فَإِذا تأيد بِالْإِجْمَاع فَذَلِك يضاهي مَا لَو تأيد بِآيَة من كتاب الله أَو بِالْعرضِ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والتقرير مِنْهُ على ذَلِك فَيصير مُوجبا للْعلم من هَذَا الطَّرِيق قطعا وَقد كَانَ فِي الصَّدْر الأول اتِّفَاق على اسْتِعْمَال الْقيَاس وَكَونه حجَّة على مَا نبينه وَإِنَّمَا أظهر الْخلاف بعض أهل الْكَلَام مِمَّن لَا نظر لَهُ فِي الْفِقْه وَبَعض الْمُتَأَخِّرين مِمَّن لَا علم لَهُ بِحَقِيقَة الْأَحْكَام وَأُولَئِكَ لَا يعْتد بخلافهم وَلَا يؤنس بوفاقهم ثمَّ الْإِجْمَاع الثَّابِت بِهَذِهِ الْأَسْبَاب يثبت انْتِقَاله إِلَيْنَا بِالطَّرِيقِ الَّذِي يثبت بِهِ انْتِقَال السّنة المروية عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ (تَارَة) يكون بالتواتر وَتارَة بالاشتهار وَتارَة بالآحاد وَذَلِكَ نَحْو مَا يرْوى عَن عُبَيْدَة السَّلمَانِي قَالَ مَا اجْتمع أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على شَيْء كاجتماعهم على الْمُحَافظَة على الْأَرْبَع قبل الظّهْر وعَلى الْإِسْفَار بِالْفَجْرِ وعَلى تَحْرِيم نِكَاح الْأُخْت فِي عدَّة الْأُخْت وَقَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فِي تَكْبِيرَات الْجِنَازَة كل ذَلِك قد كَانَ وَقد رَأَيْت أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكبرُونَ عَلَيْهَا أَرْبعا وَمن النَّاس من أنكر ثُبُوت الْإِجْمَاع بِخَبَر الْوَاحِد لِأَن الْإِجْمَاع يُوجب الْعلم قطعا وَخبر الْوَاحِد لَا يُوجب ذَلِك وَهَذَا خطأ بَين فَإِن قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُوجب للْعلم أَيْضا ثمَّ يجوز أَن يثبت ذَلِك بِالنَّقْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 بطرِيق الْآحَاد على أَن يكون مُوجبا للْعَمَل دون الْعلم فَكَذَلِك الْإِجْمَاع يجوز أَن يثبت بِالنَّقْلِ بطرِيق الْآحَاد على أَن يكون مُوجبا الْعَمَل وسنقرر هَذَا فِي بَيَان الحكم إِن شَاءَ الله تَعَالَى فصل الرُّكْن ركن الْإِجْمَاع نَوْعَانِ الْعَزِيمَة والرخصة فالعزيمة هُوَ اتِّفَاق الْكل على الحكم بقول سمع مِنْهُم أَو مُبَاشرَة الْفِعْل فِيمَا يكون من بَابه على وَجه يكون ذَلِك مَوْجُودا من الْعَام وَالْخَاص فِيمَا يَسْتَوِي الْكل فِي الْحَاجة إِلَى مَعْرفَته لعُمُوم الْبلوى فِيهِ كتحريم الزِّنَا والربا وَتَحْرِيم الْأُمَّهَات وَأَشْبَاه ذَلِك ويشترك فِيهِ جَمِيع عُلَمَاء الْعَصْر وَفِيمَا لَا يحْتَاج الْعَام إِلَى مَعْرفَته لعدم الْبلوى الْعَام بهم فِيهِ كَحُرْمَةِ الْمَرْأَة على عَمَّتهَا وخالتها وفرائض الصَّدقَات وَمَا يجب فِي الزروع وَالثِّمَار وَمَا أشبه ذَلِك وَهَذَا لِأَن ركن الشَّيْء مَا يقوم بِهِ أَصله فَإِنَّمَا يقوم أصل الْإِجْمَاع فِي النَّوْعَيْنِ بِهَذَا وَأما الرُّخْصَة وَهُوَ أَن ينتشر القَوْل من بعض عُلَمَاء أهل الْعَصْر ويسكت الْبَاقُونَ عَن إِظْهَار الْخلاف وَعَن الرَّد على الْقَائِلين بعد عرض الْفَتْوَى عَلَيْهِم أَو صَيْرُورَته مَعْلُوما لَهُم بالانتشار والظهور فالإجماع يثبت بِهِ عندنَا وَمن الْعلمَاء من يَقُول بِهَذَا الطَّرِيق لَا يثبت الْإِجْمَاع ويحكى عَن الشَّافِعِي رَحمَه الله أَنه كَانَ يَقُول إِن ظهر القَوْل من أَكثر الْعلمَاء والساكتون نفر يسير مِنْهُم يثبت بِهِ الْإِجْمَاع وَإِن انْتَشَر القَوْل من وَاحِد أَو اثْنَيْنِ والساكتون أَكثر عُلَمَاء الْعَصْر لَا يثبت بِهِ الْإِجْمَاع وَجه قَوْلهم إِن السُّكُوت مُحْتَمل قد يكون للموافقة وَقد يكون للمهابة والتقية مَعَ إِضْمَار الْخلاف والمحتمل لَا يكون حجَّة خُصُوصا فِيمَا يُوجب الْعلم قطعا أَلا ترى أَن فِيمَا هُوَ مُخْتَلف فِيهِ السُّكُوت لَا يكون دَلِيلا على شَيْء لكَونه مُحْتملا ويستدلون على صِحَة هَذِه الْقَاعِدَة بِمَا رُوِيَ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ لما شاور الصَّحَابَة فِي مَال فضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 عِنْده للْمُسلمين فأشاروا عَلَيْهِ بِتَأْخِير الْقِسْمَة والإمساك إِلَى وَقت الْحَاجة وَعلي رَضِي الله عَنهُ فِي الْقَوْم سَاكِت فَقَالَ لَهُ مَا تَقول يَا أَبَا الْحسن فَقَالَ لم تجْعَل يقينك شكا وعلمك جهلا أرى أَن تقسم ذَلِك بَين الْمُسلمين وروى فِيهِ حَدِيثا فَهُوَ لم يَجْعَل سُكُوته دَلِيل الْمُوَافقَة لَهُم حَتَّى سَأَلَهُ واستخار عَليّ رَضِي الله عَنهُ السُّكُوت مَعَ كَون الْحق عِنْده فِي خلافهم وَلما شاور عمر الصَّحَابَة فِي إملاص المغيبة الَّتِي بعث بهَا فَفَزِعت فَقَالُوا إِنَّمَا أَنْت مؤدب وَمَا أردْت إِلَّا الْخَيْر فَلَا شَيْء عَلَيْك وَعلي رَضِي الله عَنهُ فِي الْقَوْم سَاكِت فَقَالَ مَا تَقول يَا أَبَا الْحسن فَقَالَ إِن كَانَ هَذَا جهد رَأْيهمْ فقد أخطؤوا وَإِن قاربوك فقد غشوك أرى عَلَيْك الْغرَّة فَقَالَ أَنْت صدقتني فقد استخار السُّكُوت مَعَ إِضْمَار الْخلاف وَلم يَجْعَل عمر سُكُوته دَلِيل الْمُوَافقَة حَتَّى استنطقه وَلما بَين ابْن عَبَّاس حجَّته فِي مَسْأَلَة الْعَوْل للصحابة قَالُوا لَهُ هلا قلت هَذَا لعمر فَقَالَ كَانَ رجلا مهيبا فهبته وَفِي رِوَايَة مَنَعَنِي درته من ذَلِك وَكَانَ عِيسَى بن أبان يَقُول ترك النكير لَا يكون دَلِيل الْمُوَافقَة بِدَلِيل حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ فَإِنَّهُ حِين قَالَ أقصرت الصَّلَاة أم نسيتهَا يَا رَسُول الله فَنظر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أبي بكر وَعمر وَقَالَ أَحَق مَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ وَلَو كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ترك النكير دَلِيل الْمُوَافقَة لاكتفى بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُم وَلما استنطقهم فِي الصَّلَاة من غير حَاجَة وَكَانَ الْكَرْخِي رَحمَه الله يَقُول السُّكُوت على النكير فِيمَا يكون مُجْتَهدا فِيهِ لَا يكون دَلِيل الْمُوَافقَة لِأَنَّهُ لَيْسَ لأحد الْمُجْتَهدين أَن يُنكر على صَاحبه بِاجْتِهَادِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَن يبين لَهُ مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده فالسكوت فِي مثله لَا يكون دَلِيل الْمُوَافقَة وَجه قَوْلنَا إِنَّه لَو شَرط لانعقاد الْإِجْمَاع التَّنْصِيص من كل وَاحِد مِنْهُم على قَوْله وَإِظْهَار الْمُوَافقَة مَعَ الآخرين قولا أدّى إِلَى أَن لَا ينْعَقد الْإِجْمَاع أبدا لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر اجْتِمَاع أهل الْعَصْر كلهم على قَول يسمع ذَلِك مِنْهُم إِلَّا نَادرا وَفِي الْعَادة إِنَّمَا يكون ذَلِك بانتشار الْفَتْوَى من الْبَعْض وسكوت البَاقِينَ وَفِي اتفاقنا على كَون الْإِجْمَاع حجَّة وطريقا لمعْرِفَة الحكم دَلِيل على بطلَان قَول هَذَا الْقَائِل وَهَذَا لِأَن المتعذر كالممتنع ثمَّ تَعْلِيق الشَّيْء بِشَرْط هُوَ مُمْتَنع يكون نفيا لَا صلَة فَكَذَا تَعْلِيقه بِشَرْط هُوَ مُتَعَذر وَهَذَا لِأَن الله تَعَالَى رفع عَنَّا الْحَرج كَمَا لم يكلفنا مَا لَيْسَ فِي وسعنا وَلَيْسَ فِي وسع عُلَمَاء الْعَصْر السماع من الَّذين كَانُوا قبلهم يقرونَ فَكَانَ ذَلِك سَاقِطا عَنْهُم فَكَذَلِك يتَعَذَّر السماع من جَمِيع عُلَمَاء الْعَصْر وَالْوُقُوف على قَول كل وَاحِد مِنْهُم فِي حكم حَادِثَة حَقِيقَة لما فِيهِ من الْحَرج الْبَين فَيَنْبَغِي أَن يَجْعَل اشتهار الْفَتْوَى من الْبَعْض وَالسُّكُوت من البَاقِينَ كَافِيا فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع لِأَن السامعين من الْعلمَاء الْمُجْتَهدين لَا يحل لَهُم السُّكُوت عَن إِظْهَار الْخلاف إِذا كَانَ الحكم عِنْدهم خلاف مَا ظهر وسكوتهم مَحْمُول على الْوَجْه الَّذِي يحل فَبِهَذَا الطَّرِيق يَنْقَطِع معنى التَّسَاوِي فِي الِاحْتِمَال ويترجح جَانب إِظْهَار الْمُوَافقَة وَمثل هَذَا السُّكُوت لَا يرجح أحد الْجَانِبَيْنِ فِيمَا يكون مُخْتَلفا فِيهِ فَيبقى مُحْتملا على ظَاهره وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله إِنَّمَا يثبت الْإِجْمَاع إِذا اشْتهر القَوْل من أَكْثَرهم لِأَن هَذَا الْقدر مِمَّا يَتَأَتَّى وَإِقَامَة السُّكُوت مقَام إِظْهَار الْمُوَافقَة لدفع الْحَرج فيتقدر بِقَدرِهِ وَلَا حرج فِي اعْتِبَار ظُهُور القَوْل من الْأَكْثَر وَلِأَن الْأَقَل يَجْعَل تبعا للْأَكْثَر فَإِذا كَانَ الْأَكْثَر سكُوتًا يَجْعَل ذَلِك كسكوت الْكل وَإِذا ظهر القَوْل من الْأَكْثَر يَجْعَل كظهوره من الْكل وَلَكنَّا نقُول الْمَعْنى الَّذِي لأَجله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 جعل سكُوت الْأَقَل بِمَنْزِلَة إِظْهَار الْمُوَافقَة أَنه لَا يحل لَهُم ترك إِظْهَار الْخلاف إِذا كَانَ الحكم عِنْدهم خلاف ذَلِك وَهَذَا الْمَعْنى فِيمَا يشْتَهر من وَاحِد أَو اثْنَيْنِ أظهر لِأَن تمكن الْأَكْثَر من إِظْهَار الْخلاف يكون أبين فَلِأَن يَجْعَل سكوتهم عَن إِظْهَار الْخلاف بعد مَا اشْتهر القَوْل دَلِيل الْمُوَافقَة كَانَ أولى وَأما حَدِيث الْقِسْمَة فَإِنَّمَا سكت عَليّ رَضِي الله عَنهُ لِأَن مَا أشاروا بِهِ على عمر كَانَ حسنا فَإِن للْإِمَام أَن يُؤَخر الْقِسْمَة فِيمَا يفضل عِنْده من المَال ليَكُون معدا لنائبة تنوب الْمُسلمين وَلَكِن كَانَ الْقِسْمَة أحسن عِنْد عَليّ لِأَنَّهُ أقرب إِلَى أَدَاء الْأَمَانَة وَالْخُرُوج عَمَّا يحمل من الْعهْدَة وَفِي مثل هَذَا الْموضع لَا يجب إِظْهَار الْخلاف وَلَكِن إِذا سُئِلَ يجب بَيَان الْأَحْسَن فَلهَذَا سكت عَليّ فِي الِابْتِدَاء وَحين سَأَلَهُ بَين الْوَجْه الْأَحْسَن عِنْده وَكَذَا حَدِيث الإملاص فَإِن مَا أشاروا بِهِ من الحكم كَانَ صَوَابا لِأَنَّهُ لم يُوجد من عمر رَضِي الله عَنهُ مُبَاشرَة صنع بهَا وَلَا تسبب هُوَ جِنَايَة وَلَكِن إِلْزَام الْغرَّة مَعَ هَذَا يكون أبعد من القيل والقال وَيكون أقرب إِلَى بسط الْعدْل وَحسن الرِّعَايَة فَلهَذَا سكت فِي الِابْتِدَاء وَلما استنطقه بَين أولى الْوَجْهَيْنِ عِنْده يُوضحهُ أَن مُجَرّد السُّكُوت عَن إِظْهَار الْخلاف لَا يكون دَلِيل الْمُوَافقَة عندنَا مَا بَقِي مجْلِس الْمُشَاورَة وَلم يفصل الحكم بعد فَإِنَّمَا يكون هَذَا حجَّة أَن لَو فصل عمر الحكم بقَوْلهمْ أَو ظهر مِنْهُ توقف فِي الْجَواب وَيكون عَليّ رَضِي الله عَنهُ ساكتا بعد ذَلِك وَلم ينْقل هَذَا فَإِنَّمَا يحمل سُكُوته فِي الِابْتِدَاء على أَنه لتجربة أفهامهم أَو لتعظيم الْفَتْوَى الَّذِي يُرِيد إِظْهَاره بِاجْتِهَادِهِ حَتَّى لَا يزدري بِهِ أحد من السامعين أَو ليروي النّظر فِي الْحَادِثَة ويميزه من الْأَشْبَاه حَتَّى يتَبَيَّن لَهُ مَا هُوَ الصَّوَاب فيظهره وَالظَّاهِر أَنه لَو لم يستنطقه عمر رَضِي الله عَنهُ لَكَانَ هُوَ بَين مَا يسْتَقرّ عَلَيْهِ رَأْيه من الْجَواب قبل إبرام الحكم وانقضاء مجْلِس الْمُشَاورَة فَأَما حَدِيث ابْن عَبَّاس فقد قيل إِنَّه لَا يكَاد يَصح لِأَن عمر رَضِي الله عَنهُ كَانَ يقدم ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَكَانَ يَدعُوهُ فِي مجْلِس الشورى مَعَ الْكِبَار من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 الصَّحَابَة لما عرف من فطنته وَحسن ذهنه وبصيرته وَقد أَشَارَ عَلَيْهِ بأَشْيَاء فَقبل ذَلِك وَاسْتَحْسنهُ وَكَانَ يَقُول لَهُ غص يَا غواص شنشنة أعرفهَا من أخزم يَعْنِي أَنه شبه الْعَبَّاس فِي رَأْيه ودهائه فَكيف يَسْتَقِيم مَعَ هَذَا أَن يُقَال إِنَّه امْتنع من بَيَان قَوْله وحجته لعمر مهابة لَهُ وَإِن صَحَّ فَهَذِهِ المهابة إِنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَار مَا عرف من فضل رَأْي عمر وفقهه فَمَنعه ذَلِك من الِاسْتِقْصَاء فِي المحاجة مَعَه كَمَا يكون من حَال الشبَّان مَعَ ذَوي الْأَسْنَان من الْمُجْتَهدين فِي كل عصر فَإِنَّهُم يهابون الْكِبَار فَلَا يستقصون فِي المحاجة مَعَهم حسب مَا يَفْعَلُونَ مَعَ الأقران وَمَتى كَانَ (النَّاس) فِي تقية من عمر فِي إِظْهَار الْحق مَعَ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَيْنَمَا دَار الْحق فعمر مَعَه وَكَانَ أَلين وأسرع قبولا للحق من غَيره حَتَّى كَانَ يشاورهم وَيَقُول لَهُم لَا خير فِيكُم إِذا لم تَقولُوا لنا وَلَا خير فِينَا إِذا لم نسْمع مِنْكُم رحم الله امْرأ أهْدى إِلَى أَخِيه عيوبه فَمَعَ طلب الْبَيَان مِنْهُ بِهَذِهِ الصّفة لَا يتَوَهَّم أَن يهابه أحد فَلَا يظْهر عِنْده حكم الشَّرْع مهابة لَهُ وَحَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ رَضِي الله عَنهُ قُلْنَا مُجَرّد السُّكُوت عَن النكير لَا يكون دَلِيل الْمُوَافقَة عندنَا وَلَكِن مَعَ ترك إِظْهَار مَا هُوَ الْحق عِنْده بعد مُضِيّ مُدَّة المهلة وَلم تُوجد هَذِه الصّفة فِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ فَإِنَّهُ كَمَا أظهر مقَالَته سَأَلَ رَسُول الله أَبَا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَكَانَ الْكَلَام فِي الصَّلَاة يَوْمئِذٍ مُبَاحا فَمَا كَانَ هُنَاكَ مَا يمنعهُم من الْكَلَام وَأحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يتعرف مَا عِنْدهم من خلاف لَهُ أَو وفَاق وَذَلِكَ مُسْتَقِيم قبل أَن يحصل الْمَقْصُود بِالسُّكُوتِ وَإِن كَانَ يحصل ذَلِك بسكوتهم عَن إِظْهَار الْخلاف أَن لَو قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لإتمام الصَّلَاة وَلم يستنطقهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وَكَذَلِكَ مَا قَالَه الْكَرْخِي رَحمَه الله فَهُوَ خَارج على هَذَا الْحَرْف لأَنا لَا نجْعَل مُجَرّد السُّكُوت عَن النكير دَلِيل الْمُوَافقَة بل ترك إِظْهَار مَا عِنْده مِمَّا هُوَ مُخَالف لما انْتَشَر وَهَذَا وَاجِب على كل مُجْتَهد من عُلَمَاء الْعَصْر لَا يُبَاح لَهُ السُّكُوت عَنهُ بعد مَا انْتَشَر قَول بِخِلَاف قَوْله وبلغه ذَلِك فَإِنَّمَا يحمل السُّكُوت على الْوَجْه الَّذِي يحل لَهُ شرعا وَلِهَذَا اعْتبرنَا فِي ثُبُوت الْإِجْمَاع بِهَذَا الطَّرِيق أَن يسكت بعد عرض الْفَتْوَى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا لم يبلغهُ قَول هُوَ مُخَالف لما عِنْده وَمَا لم يسْأَل عَنهُ لَا يلْزمه الْبَيَان وَإِنَّمَا يكون ذَلِك بعد عرض الْفَتْوَى عَلَيْهِ وَبعد مُضِيّ مُدَّة المهلة أَيْضا لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى التروي وَإِلَى رد الْحَادِثَة إِلَى الْأَشْبَاه ليميز الْأَشْبَه بالحادثة من بَين الْأَشْبَاه بِرَأْيهِ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِك إِلَّا بِمدَّة فَإِذا مَضَت الْمدَّة وَلم يظْهر خلاف مَا بلغه كَانَ ذَلِك دَلِيلا على الْوِفَاق بِاعْتِبَار الْعَادة فَإِن قيل كَانَ يَنْبَغِي أَن لَا تَنْتَهِي هَذِه الْمدَّة إِلَّا بِمَوْتِهِ لِأَن الْإِنْسَان قد يكون متفكرا فِي شَيْء مُدَّة عمره فَلَا يسْتَقرّ فِيهِ رَأْيه على شَيْء وَقد يرى رَأيا فِي شَيْء ثمَّ يظْهر لَهُ رَأْي آخر فَيرجع عَن الأول فعلى هَذَا مُدَّة التروي لَا تَنْتَهِي إِلَّا بِمَوْتِهِ قُلْنَا لَا كَذَلِك بل إِذا مضى من الْمدَّة مَا يتَمَكَّن فِيهِ من النّظر وَالِاجْتِهَاد فَعَلَيهِ إِظْهَار مَا تبين لَهُ بِاجْتِهَادِهِ من توقف فِي الْجَواب أَو خلاف أَو وفَاق لَا يحل لَهُ السُّكُوت عَن الْإِظْهَار إِلَّا عِنْد الْمُوَافقَة وَبَعْدَمَا ثَبت الْإِجْمَاع بِهَذَا الطَّرِيق فَلَيْسَ لَهُ أَن يرجع عَنهُ بِرَأْي يعرض لَهُ لِأَن الْإِجْمَاع مُوجب للْعلم قطعا بِمَنْزِلَة النَّص فَكَمَا لَا يجوز ترك الْعَمَل بِالنَّصِّ بِاعْتِبَار رَأْي يعْتَرض لَهُ لَا يجوز مُخَالفَة الْإِجْمَاع بِرَأْي يعْتَرض لَهُ بَعْدَمَا انْعَقَد الْإِجْمَاع بدليله وَكَذَلِكَ إِن لم يعرض عَلَيْهِ الْفَتْوَى وَلَكِن اشْتهر الْفَتْوَى فِي النَّاس على وَجه يعلم أَنه بلغ ذَلِك الساكتين من عُلَمَاء الْعَصْر فَإِن ذَلِك يقوم مقَام الْعرض عَلَيْهِم لِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِم إِظْهَار الْخلاف الَّذِي عِنْدهم إِن كَانُوا يَعْتَقِدُونَ خلاف ذَلِك على وَجه ينتشر هَذَا الْخلاف مِنْهُم كَمَا انْتَشَر القَوْل الأول ليَكُون الثَّانِي مُعَارضا للْأولِ وَلَو أظهرُوا ذَلِك لانتشر فسكوتهم عَن الْإِظْهَار الثَّابِت بِدَلِيل عدم الانتشار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 دَلِيل على الْمُوَافقَة بِهَذَا الطَّرِيق أثبتنا كَون الْقُرْآن معجزا لِأَن الْعَرَب مَا عارضوا بِمثلِهِ وَلَو فعلوا لانتشر ذَلِك وعجزهم عَن الْمُعَارضَة بعد التحدي دَلِيل على أَنه معجز فَإِن قيل فقد اشْتهر فَتْوَى النَّاس بِجَوَاز الْمُزَارعَة بعد أبي حنيفَة قولا وفعلا مَعَ سكُوت أَصْحَاب أبي حنيفَة عَن النكير وَلم يكن ذَلِك دَلِيل الْمُوَافقَة قُلْنَا كَمَا انْتَشَر ذَلِك فقد انْتَشَر أَيْضا الْخلاف من أَصْحَاب أبي حنيفَة لمن أجَاز الْمُزَارعَة مُحَاجَّة ومناظرة وَإِنَّمَا تركُوا التشنيع على من يُبَاشر ذَلِك لِأَنَّهُ ظهر عِنْد النَّاس نوع رُجْحَان لقَوْل من أجازها فَأخذُوا بذلك وَذَلِكَ يمْنَع الْقَائِلين بفسادها من أَن يظهروا منع النَّاس من ذَلِك لعلمهم أَن النَّاس لَا يمتنعون بِاعْتِبَار مَا ظهر لَهُم بِمَنْزِلَة القَاضِي إِذا قضى فِي فصل مُجْتَهد فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يجب على الْمُجْتَهد الَّذِي يعْتَقد خِلَافه أَن يظْهر للنَّاس خطأ القَاضِي لعلمه أَن النَّاس لَا يَأْخُذُونَ بقوله ولاعتقاده أَن قَضَاء القَاضِي بِمَا قضى بِهِ نَافِذ وَأَن ذَلِك الْجَانِب ترجح بِالْقضَاءِ فَترك النكير على من يُبَاشر الْمُزَارعَة بِهَذِهِ المثابة يُحَقّق مَا قُلْنَا إِن من عَادَة المتشاورين من الْعَوام فِي شَيْء يهمهم من أَمر الدُّنْيَا وَيتَعَلَّق بِهِ بعض مصالحهم أَن الْبَعْض إِذا أظهر فِيهِ رَأيا وَعند الْبَعْض خلاف ذَلِك فَإِنَّهُم لَا يمتنعون من إِظْهَار مَا عِنْدهم إِلَّا نَادرا وَلَا يبْنى الحكم على النَّادِر فَإِذا كَانَ هَذَا فِي أَمر الدُّنْيَا مَعَ أَن السُّكُوت عَن الْإِظْهَار يحل فِيهِ شرعا فَلِأَن يكون أَمر الدّين وَمَا يرجع إِلَى إِظْهَار حكم الله تَعَالَى بِهَذِهِ الصّفة حَتَّى يكون السُّكُوت فِيهِ دَلِيل الْوِفَاق كَانَ أولى فَكَذَلِك الْعَادة من حَال من يسمع مَا هُوَ مستبعد عَنهُ أَن لَا يمْتَنع من إِظْهَار النكير عِنْده بل يكون ذَلِك جلّ همه أَلا ترى أَنه لَو أخبر مخبر أَن الْخَطِيب يَوْم الْجُمُعَة لما صعد الْمِنْبَر رَمَاه إِنْسَان بِسَهْم فَقتله وَسمع ذَلِك مِنْهُ قوم شهدُوا الْجُمُعَة وَلم يعرفوا من ذَلِك شَيْئا فَإِنَّهُ لَا يكون فِي همتهم شَيْء أسبق من إِظْهَار الْإِنْكَار عَلَيْهِ وَقد بَينا أَن مَا عَلَيْهِ الْعَادة الظَّاهِرَة لَا يجوز تَركه فِي الْأَحْكَام فَتبين بِاعْتِبَار هَذِه الْعَادة أَن السُّكُوت دَلِيل الْمُوَافقَة وَنحن نعلم أَنه قد كَانَ عِنْد الصَّحَابَة أَن إِجْمَاعهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 حجَّة مُوجبَة للْعلم قطعا فَإِذا علم السَّاكِت هَذَا يفترض عَلَيْهِ بَيَان مَا عِنْده ليتَحَقَّق الْخلاف وَيخرج مَا اشْتهر من أَن يكون حكم الْحَادِثَة قطعا وَالسُّكُوت إِن لم يدل على الْمُوَافقَة فَلَا إِشْكَال أَنه لَا يدل على الْخلاف وَمن هَذَا الْجِنْس مَا إِذا اخْتلفُوا فِي حَادِثَة على أقاويل محصورة فَإِن الْمَذْهَب عندنَا أَن هَذَا يكون دَلِيل الْإِجْمَاع مِنْهُم على أَنه لَا قَول فِي هَذِه الْحَادِثَة سوى هَذِه الْأَقَاوِيل حَتَّى لَيْسَ لأحد أَن يحدث فِيهِ قولا آخر بِرَأْيهِ وَعند بَعضهم هَذَا من بَاب السُّكُوت الَّذِي هُوَ مُحْتَمل أَيْضا فَكَمَا لَا يدل على نفي الْخلاف لَا يدل على نفي قَول آخر فِي الْحَادِثَة فَإِن ذَلِك نوع تعْيين وَلَا يثبت بالمحتمل وَلَكنَّا نقُول قد بَينا أَنهم إِذا اخْتلفُوا على أقاويل فَنحْن نعلم أَن الْحق لَا يعدو أقاويلهم وَهَذَا بِمَنْزِلَة التَّنْصِيص مِنْهُم على أَن مَا هُوَ الْحق حَقِيقَة فِي هَذِه الْأَقَاوِيل وماذا بعد الْحق إِلَّا الضلال وَكَذَلِكَ هَذَا الحكم فِي اخْتِلَاف بَين أهل كل عصر إِلَّا على قَول بعض مَشَايِخنَا فَإِنَّهُم يَقُولُونَ هَذَا فِي أقاويل الصَّحَابَة خَاصَّة لما لَهُم من الْفضل والسابقة وَلَكِن الْمَعْنى الَّذِي أَشَرنَا إِلَيْهِ يُوجب الْمُسَاوَاة وعَلى هَذَا قَالُوا فِيمَا ظهر من بعض الْخُلَفَاء عَن الصَّحَابَة أَنه قَالَ فِي خطبَته على الْمِنْبَر وَلم يظْهر من أحد مِنْهُم خلاف لذَلِك فَإِن ذَلِك إِجْمَاع مِنْهُم بِهَذَا الطَّرِيق وَقد قَالَ بعض من لَا يعبأ بقوله الْإِجْمَاع الْمُوجب للْعلم قطعا لَا يكون إِلَّا فِي مثل مَا اتّفق عَلَيْهِ النَّاس من مَوضِع الْكَعْبَة وَمَوْضِع الصَّفَا والمروة وَمَا أشبه ذَلِك وَهَذَا ضَعِيف جدا فَإِنَّهُ يُقَال لهَذَا الْقَائِل بِأَيّ طَرِيق عرفت إِجْمَاع الْمُسلمين على هَذَا بطرِيق سماعك نصا من كل وَاحِد من آحادهم فَإِن قَالَ نعم ظهر للنَّاس كذبه وَإِن قَالَ لَا وَلَكِن بتنصيص الْبَعْض وسكوت البَاقِينَ عَن إِظْهَار الْخلاف فَنَقُول كَمَا ثَبت بِهَذَا الطَّرِيق الْإِجْمَاع مِنْهُم على هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي لَا يشك فِيهَا أحد فَكَذَلِك ثَبت الْإِجْمَاع مِنْهُم بِهَذَا الطَّرِيق فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فصل الْأَهْلِيَّة زعم بعض النَّاس أَن الْإِجْمَاع الْمُوجب للْعلم لَا يكون إِلَّا بِاتِّفَاق فرق الْأمة أهل الْحق وَأهل الضَّلَالَة جَمِيعًا لِأَن الْحجَّة إِجْمَاع الْأمة وَمُطلق اسْم الْأمة يتَنَاوَل الْكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 فَأَما الْمَذْهَب عندنَا أَن الْحجَّة اتِّفَاق كل عَالم مُجْتَهد مِمَّن هُوَ غير مَنْسُوب إِلَى هوى وَلَا معلن بفسق فِي كل عصر لِأَن حكم الْإِجْمَاع إِنَّمَا يثبت بِاعْتِبَار وصف لَا يثبت إِلَّا بِهَذِهِ الْمعَانِي وَذَلِكَ صفة الوساطة كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا} وَهُوَ عبارَة عَن الْخِيَار الْعُدُول المرضيين وَصفَة الشَّهَادَة بقوله {لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} فَلَا بُد من اعْتِبَار الْأَهْلِيَّة لأَدَاء الشَّهَادَة وَصفَة الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَذَلِكَ يُشِير إِلَى فَرضِيَّة الِاتِّبَاع فِيمَا يأمرون بِهِ وَينْهَوْنَ عَنهُ وَإِنَّمَا يفترض اتِّبَاع الْعدْل المرضي فِيمَا يَأْمر بِهِ وثبوته بطرِيق الْكَرَامَة على الدّين والمستحق للكرامات مُطلقًا من كَانَ بِهَذِهِ الصّفة فَأَما أهل الْأَهْوَاء فَمن يكفر فِي هَوَاهُ فاسم الْأمة لَا يتَنَاوَلهُ مُطلقًا وَلَا هُوَ مُسْتَحقّ للكرامة الثَّابِتَة للْمُؤْمِنين وَمن يضلل فِي هَوَاهُ إِذا كَانَ يَدْعُو النَّاس إِلَى مَا يَعْتَقِدهُ فَهُوَ يتعصب لذَلِك على وَجه يخرج بِهِ إِلَى صفة السَّفه والمجون فَيكون مُتَّهمًا فِي أَمر الدّين لَا مُعْتَبر بقوله فِي إِجْمَاع الْأمة وَلِهَذَا لم يعْتَبر خلاف الروافض فِي إِمَامَة أبي بكر وَلَا خلاف الْخَوَارِج فِي خلَافَة عَليّ فَإِن كَانَ لَا يَدْعُو النَّاس إِلَى هَوَاهُ وَلكنه مَشْهُور بِهِ فقد قَالَ بعض مَشَايِخنَا فِيمَا يضلل هُوَ فِيهِ لَا مُعْتَبر بقوله لِأَنَّهُ إِنَّمَا يضلل لمُخَالفَته نصا مُوجبا للْعلم فَكل قَول كَانَ بِخِلَاف النَّص فَهُوَ بَاطِل وَفِيمَا سوى ذَلِك يعْتَبر قَوْله وَلَا يثبت الْإِجْمَاع مَعَ مُخَالفَته لِأَنَّهُ من أهل الشَّهَادَة وَلِهَذَا كَانَ مَقْبُول الشَّهَادَة فِي الْأَحْكَام قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَنه إِن كَانَ مُتَّهمًا بالهوى وَلكنه غير مظهر لَهُ فَالْجَوَاب هَكَذَا فَأَما إِذا كَانَ مظْهرا لهواه فَإِنَّهُ لَا يعْتد بقوله فِي الْإِجْمَاع لِأَن الْمَعْنى الَّذِي لأَجله قبلت شَهَادَته لَا يُوجد هُنَا فَإِنَّهَا تقبل لانْتِفَاء تُهْمَة الْكَذِب على مَا قَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله قوم عظموا الذُّنُوب حَتَّى جعلوها كفرا لَا يتهمون بِالْكَذِبِ فِي الشَّهَادَة وَهَذَا يدل على أَنهم لَا يؤتمنون فِي أَحْكَام الشَّرْع وَلَا يعْتَبر قَوْلهم فِيهِ فَإِن الْخَوَارِج هم الَّذين يَقُولُونَ إِن الذَّنب نَفسه كفر وَقد أكفروا أَكثر الصَّحَابَة الَّذين عَلَيْهِم مدَار أَحْكَام الشَّرْع وَإِنَّمَا عرفناها بنقلهم فَكيف يعْتَمد قَول هَؤُلَاءِ فِي أَحْكَام الشَّرْع وَأدنى مَا فِيهِ أَنهم لَا يتعلمون ذَلِك إِذا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ كفر الناقلين وَلَا مُعْتَبر بقول الْجُهَّال فِي الْأَحْكَام فَأَما من كَانَ محقا فِي اعْتِقَاده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وَلكنه فَاسق فِي تعاطيه فالعراقيون يَقُولُونَ لَا يعْتد بقوله فِي الْإِجْمَاع أَيْضا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْل لأَدَاء الشَّهَادَة وَلِأَن التَّوَقُّف فِي قَوْله وَاجِب بِالنَّصِّ وَذَلِكَ يَنْفِي وجوب الِاتِّبَاع قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَنه إِذا كَانَ مُعْلنا لفسقه فَكَذَلِك الْجَواب لِأَنَّهُ لما لم يتحرز من إعلان مَا يَعْتَقِدهُ بَاطِلا فَكَذَلِك لَا يتحرز من إعلان قَول يعْتَقد بُطْلَانه بَاطِنا فَأَما إِذا لم يكن مظْهرا للفسق فَإِنَّهُ يعْتد بقوله فِي الْإِجْمَاع وَإِن علم فسقه حَتَّى ترد شَهَادَته لِأَنَّهُ لَا يخرج بِهَذَا من الْأَهْلِيَّة للشَّهَادَة أصلا وَلَا من الْأَهْلِيَّة للكرامة بِسَبَب الدّين أَلا ترى أَنا نقطع القَوْل لمن يَمُوت مُؤمنا مصرا على فسقه أَنه لَا يخلد فِي النَّار فَإِذا كَانَ هُوَ أَهلا للكرامة بِالْجنَّةِ فِي الْآخِرَة فَكَذَلِك فِي الدُّنْيَا بِاعْتِبَار قَوْله فِي الْإِجْمَاع فَأَما كَونه عَالما مُجْتَهدا فَهُوَ مُعْتَبر فِي الحكم الَّذِي يخْتَص بمعرفته وَالْحَاجة إِلَيْهِ الْعلمَاء وعَلى هَذَا قُلْنَا من يكون متكلما غير عَالم بأصول الْفِقْه والأدلة الشَّرْعِيَّة فِي الْأَحْكَام لَا يعْتد بقوله فِي الْإِجْمَاع هَكَذَا نقل عَن الْكَرْخِي وَكَذَلِكَ من يكون مُحدثا لَا بصر لَهُ فِي وُجُوه الرَّأْي وطرق المقاييس الشَّرْعِيَّة لَا يعْتد بقوله فِي الْإِجْمَاع لِأَن هَذَا فِيمَا يَبْنِي عَلَيْهِ حكم الشَّرْع بِمَنْزِلَة الْعَاميّ وَلَا يعْتد بقول الْعَاميّ فِي إِجْمَاع عُلَمَاء الْعَصْر لِأَنَّهُ لَا هِدَايَة لَهُ فِي الحكم الْمُحْتَاج إِلَى مَعْرفَته فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْمَجْنُون حَتَّى لَا يعْتد بمخالفته ثمَّ قَالَ بعض الْعلمَاء الَّذين هم بِالصّفةِ الَّتِي قُلْنَا من أهل الْعَصْر مَا لم يبلغُوا حدا لَا يتَوَهَّم عَلَيْهِم التواطؤ على الْبَاطِل لَا يثبت الْإِجْمَاع الْمُوجب للْعلم باتفاقهم أَلا ترى أَن حكم التَّوَاتُر لَا يثبت بخبرهم مَا لم يبلغُوا هَذَا الْحَد فَكَذَلِك حكم الْإِجْمَاع بقَوْلهمْ لِأَن بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا يثبت علم الْيَقِين وَالأَصَح عندنَا أَنهم إِذا كَانُوا جمَاعَة وَاتَّفَقُوا قولا أَو فَتْوَى من الْبَعْض مَعَ سكُوت البَاقِينَ فَإِنَّهُ ينْعَقد الْإِجْمَاع بِهِ وَإِن لم يبلغُوا حد التَّوَاتُر بِخِلَاف الْخَبَر فَإِن ذَلِك مُحْتَمل للصدق وَالْكذب فَلَا بُد من مُرَاعَاة معنى يَنْتَفِي بِهِ تُهْمَة الْكَذِب بكثرتهم أَلا ترى أَن صفة الْعَدَالَة لَا تعْتَبر هُنَاكَ وَهَذَا إِظْهَار حكم ابْتِدَاء لَيْسَ فِيهِ من معنى احْتِمَال تُهْمَة الْكَذِب شَيْء إِنَّمَا فِيهِ توهم الْخَطَأ فَإِذا كَانُوا جمَاعَة فالأمن عَن ذَلِك ثَابت شرعا كَرَامَة لَهُم بِسَبَب الدّين وَصفَة الْعَدَالَة على مَا قَررنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 فَإِن قيل لَا يُؤمن على هَؤُلَاءِ إعلان الْفسق أَو الضَّلَالَة أَو الرِّدَّة مثلا بَعْدَمَا انْعَقَد الْإِجْمَاع مِنْهُم فَكيف يُؤمن الْخَطَأ بِاعْتِبَار اجْتِمَاعهم وَعَن هَذَا الْكَلَام جوابان لمشايخنا رَحِمهم الله أَحدهمَا أَنا لَا نجوز هَذَا على جَمَاعَتهمْ بَعْدَمَا كَانَ إِجْمَاعهم مُوجبا للْعلم فِي حكم الشَّرْع فَإِن الله تَعَالَى يعصمهم من ذَلِك لِأَن إِجْمَاعهم صَار بِمَنْزِلَة النَّص عَن صَاحب الشَّرِيعَة فَكَمَا أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَعْصُوما عَن هَذَا نقطع القَوْل بِهِ لِأَن قَوْله مُوجب للْعلم فَكَذَلِك جمَاعَة الْعلمَاء إِذا ثَبت لَهُم هَذِه الدرجَة وَهُوَ أَن قَوْلهم مُوجب للْعلم كَرَامَة بِسَبَب الدّين وَالثَّانِي أَنه وَإِن تحقق هَذَا مِنْهُم فَإِن الله تَعَالَى يُقيم آخَرين مقامهم ليَكُون الحكم ثَابتا بإجماعهم لِأَن الدّين مَحْفُوظ إِلَى قيام السَّاعَة على مَا قَالَ رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق حَتَّى يَأْتِي أَمر الله فَمَا يعْتَرض على الْأَوَّلين لَا يُؤثر فِي حكم الْإِجْمَاع لقِيَام أمثالهم مقامهم بِمَنْزِلَة مَوْتهمْ وَقَالَ بعض الْعلمَاء الْإِجْمَاع الْمُوجب للْعلم لَا يكون إِلَّا بِإِجْمَاع الصَّحَابَة الَّذين كَانُوا خير النَّاس بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَنهم صحبوه وسمعوا مِنْهُ علم التَّنْزِيل والتأويل وَأثْنى عَلَيْهِم فِي آثَار مَعْرُوفَة فهم المختصون بِهَذِهِ الْكَرَامَة وَهَذَا ضَعِيف عندنَا فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا أثنى عَلَيْهِم فقد أثنى على من بعدهمْ فَقَالَ خير النَّاس قَرْني الَّذين أَنا فيهم ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ فَفِي هَذَا بَيَان أَن أهل كل عصر يقومُونَ مقامهم فِي صفة الْخَيْرِيَّة إِذا كَانُوا على مثل اعْتِقَادهم والمعاني الَّتِي بيناها لإِثْبَات هَذَا الحكم بهَا من صفة الوساطة وَالشَّهَادَة وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ لَا يخْتَص بِزَمَان وَلَا بِقوم وَثُبُوت هَذَا الحكم بِالْإِجْمَاع لتحقيق بَقَاء حكم الشَّرْع إِلَى قيام السَّاعَة وَذَلِكَ لَا يتم مَا لم يَجْعَل إِجْمَاع أهل كل عصر حجَّة كإجماع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَإِن قيل ف أَبُو حنيفَة رَحمَه الله قَالَ بِخِلَاف هَذَا لِأَنَّهُ قَالَ مَا جَاءَنَا عَن الصَّحَابَة اتبعناهم وَمَا جَاءَنَا عَن التَّابِعين زاحمناهم قُلْنَا إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ من جملَة التَّابِعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 فَإِنَّهُ رأى أَرْبَعَة من الصَّحَابَة أنس بن مَالك وَعبد الله بن أبي أوفى وَأَبُو الطُّفَيْل وَعبد الله بن حَارِث بن جُزْء الزبيدِيّ رَضِي الله عَنْهُم وَقد كَانَ مِمَّن يجْتَهد فِي عهد التَّابِعين وَيعلم النَّاس حَتَّى نَاظر الشّعبِيّ فِي مَسْأَلَة النّذر بالمعصية فَمَا كَانَ ينْعَقد إِجْمَاعهم بِدُونِ قَوْله فَلهَذَا قَالَ ذَلِك لَا لِأَنَّهُ كَانَ لَا يرى إِجْمَاع من بعد الصَّحَابَة حجَّة وَمن النَّاس من يَقُول الْإِجْمَاع الَّذِي هُوَ حجَّة إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة خَاصَّة لأَنهم أهل حَضْرَة الرَّسُول وَقد بَين رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام خُصُوصِيَّة تِلْكَ الْبقْعَة فِي آثَار فَقَالَ إِن الْإِسْلَام ليأرز إِلَى الْمَدِينَة كَمَا تأرز الْحَيَّة إِلَى جحرها وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن الدَّجَّال لَا يدخلهَا وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام من أَرَادَ أَهلهَا بِسوء أذابه الله كَمَا يذوب الْملح فِي المَاء وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن الْمَدِينَة تَنْفِي الْخبث كَمَا يَنْفِي الْكِير خبث الْحَدِيد وَلَكِن مَا قَررنَا من الْمعَانِي لَا يخْتَص بمَكَان دون مَكَان ثمَّ إِن كَانَ مُرَاد الْقَائِل أَهلهَا الَّذين كَانُوا فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهَذَا لَا يُنَازع فِيهِ أحد وَإِن كَانَ المُرَاد أَهلهَا فِي كل عصر فَهُوَ قَول بَاطِل لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي بقْعَة من الْبِقَاع الْيَوْم فِي دَار الْإِسْلَام قوم هم أقل علما وَأظْهر جهلا وَأبْعد عَن أَسبَاب الْخَيْر من الَّذين هم بِالْمَدِينَةِ فَكيف يستجاز القَوْل بِأَنَّهُ لَا إِجْمَاع فِي أَحْكَام الدّين إِلَّا إِجْمَاعهم وَالْمرَاد بالآثار حَال الْمَدِينَة فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين كَانَت الْهِجْرَة فَرِيضَة كَانَ الْمُسلمُونَ يَجْتَمعُونَ فِيهَا وَأهل الْخبث وَالرِّدَّة لَا يقرونَ فِيهَا وَقد تكون الْبقْعَة محروسة وَإِن كَانَ من يسكنهَا على غير الْحق أَلا ترى أَن مَكَّة كَانَت محروسة عَام الْفِيل مَعَ أَن أَهلهَا كَانُوا مُشْرِكين يَوْمئِذٍ وَمن النَّاس من يَقُول لَا إِجْمَاع إِلَّا لعترة الرَّسُول لأَنهم المخصوصون بِقرَابَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَسْبَاب الْعِزّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي تَارِك فِيكُم الثقلَيْن كتاب الله وعترتي إِن تمسكتم بهما لم تضلوا بعدِي وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا} الْمُوجب للْعلم بِاعْتِبَار نُصُوص ومعاني لَا يخْتَص ذَلِك بِأَهْل الْبَيْت وَالنّسب لَيْسَ من ذَلِك فِي شَيْء فالتخصيص بِهِ يكون زِيَادَة كَيفَ وَقد قَالَ تَعَالَى {وَاتبع} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وَلَكنَّا نقُول أَنْوَاع الْكَرَامَة لأهل الْبَيْت مُتَّفق عَلَيْهِ وَلَكِن حكم الْإِجْمَاع سَبِيل من أناب إِلَيّ فَكل من كَانَ منيبا إِلَى ربه فَهُوَ دَاخل فِي هَذِه الْآيَة وَهُوَ مُرَاد بقوله تَعَالَى {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} كَمَا ذكرنَا من الِاسْتِدْلَال بِهِ فصل الشَّرْط زعم بعض النَّاس أَن انْقِرَاض الْعَصْر شَرط لثُبُوت حكم الْإِجْمَاع وَهُوَ قَول الشَّافِعِي رَحمَه الله أَيْضا لِأَن قبل انْقِرَاض الْعَصْر إِذا بدا لبَعْضهِم رَأْي خلاف رَأْي الْجَمَاعَة فَإِن مَا ظهر لَهُ فِي الِانْتِهَاء بِمَنْزِلَة الْمَوْجُود فِي الِابْتِدَاء وَلَو كَانَ مَوْجُودا لم ينْعَقد إِجْمَاعهم بِدُونِ قَوْله فَكَذَلِك إِذا اعْترض لَهُ ذَلِك وَلَا يَقع الْأَمْن عَن هَذَا إِلَّا بانقراض الْعَصْر على ذَلِك الْإِجْمَاع أَلا ترى أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ كَانَ يُسَوِّي بَين النَّاس فِي العطايا وَكَانُوا لَا يخالفونه فِي ذَلِك ثمَّ فضل عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي العطايا فِي خِلَافَته وَلَا يظنّ بِهِ مُخَالفَة الْجَمَاعَة فَعرفنَا أَن بِدُونِ انْقِرَاض الْعَصْر لَا يثبت حكم الْإِجْمَاع وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ اتّفق رَأْيِي ورأي عمر على أَن أُمَّهَات الْأَوْلَاد لَا يبعن وأنهن أَحْرَار عَن دبر من الموَالِي ثمَّ رَأَيْت أَن أرقهن فَلَو ثَبت الْإِجْمَاع قبل انْقِرَاض الْعَصْر لما استجاز خلاف الْإِجْمَاع بِرَأْيهِ وَأما عندنَا انْقِرَاض الْعَصْر لَيْسَ بِشَرْط لِأَن الْإِجْمَاع لما انْعَقَد بِاعْتِبَار اجْتِمَاع مَعَاني الَّذِي قُلْنَا كَانَ الثَّابِت بِهِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ وكما أَن الثَّابِت بِالنَّصِّ لَا يخْتَص بِوَقْت دون وَقت فَكَذَلِك الثَّابِت بِالْإِجْمَاع وَلَو شرطنا انْقِرَاض الْعَصْر لم يثبت الْإِجْمَاع أبدا لِأَن بعض التَّابِعين فِي عصر الصَّحَابَة كَانَ يزاحمهم فِي الْفَتْوَى فيتوهم أَن يَبْدُو لَهُ رَأْي بعد أَن لم يبْق أحد من الصَّحَابَة وَهَكَذَا فِي الْقرن الثَّانِي وَالثَّالِث فَيُؤَدِّي إِلَى سد بَاب حكم الْإِجْمَاع (أصلا) وَهَذَا بَاطِل وَلَكنَّا نقُول بعد مَا ثَبت الْإِجْمَاع مُوجبا للْعلم باتفاقهم فَلَيْسَ لأحد أَن يظْهر خلاف ذَلِك بِرَأْيهِ لَا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 أهل ذَلِك الْعَصْر وَلَا من غَيرهم كَمَا لَا يكون لَهُ أَن يُخَالف النَّص بِرَأْيهِ وَهَذَا بِخِلَاف رَأْيه قبل انْعِقَاد الْإِجْمَاع لِأَن الدَّلِيل الْمُوجب للْعلم لم يَتَقَرَّر هُنَاكَ فَكَانَ قَوْله مُعْتَبرا فِي منع انْعِقَاد الْإِجْمَاع وَأما حَدِيث التَّسْوِيَة فِي الْعَطاء فقد كَانَ مُخْتَلفا فِي الِابْتِدَاء على مَا رُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ لأبي بكر لَا تجْعَل من لَا سَابِقَة لَهُ فِي الْإِسْلَام كمن لَهُ سَابِقَة فَقَالَ أَبُو بكر هم إِنَّمَا عمِلُوا لله فأجرهم على الله فَتبين أَن هَذَا الْفَصْل كَانَ مُخْتَلفا فِي الِابْتِدَاء فَلهَذَا مَال عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِلَى التَّفْضِيل وَحَدِيث أُمَّهَات الْأَوْلَاد فالمروي أَن عليا رَضِي الله عَنهُ قَالَ ثمَّ رَأَيْت أَن أرقهن يَعْنِي أَن لَا أعتقهن بِمَوْت الْمولى حَتَّى يكون الْوَارِث أَو الْوَصِيّ هُوَ الْمُعْتق لَهَا كَمَا دلّ عَلَيْهِ ظَاهر بعض الْآثَار المروية عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ المُرَاد جَوَاز بيعهنَّ إِذْ لَيْسَ من ضَرُورَة الرّقّ جَوَاز البيع لَا محَالة وَكَانَ الْكَرْخِي رَحمَه الله يَقُول شَرط الْإِجْمَاع أَن يجْتَمع عُلَمَاء الْعَصْر كلهم على حكم وَاحِد فَأَما إِذا اجْتمع أَكْثَرهم على شَيْء وَخَالفهُم وَاحِد أَو اثْنَان لم يثبت حكم الْإِجْمَاع وَهَذَا قَول الشَّافِعِي رَحمَه الله أَيْضا لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ وَلِأَنَّهُ لَا مُعْتَبر بالقلة وَالْكَثْرَة فِي الْمَعْنى الَّذِي يبتنى عَلَيْهِ حكم الْإِجْمَاع وبالاتفاق لَو كَانَ فريق مِنْهُم على قَول وفريق مثلهم على قَول آخر فَإِنَّهُ لَا يثبت حكم الْإِجْمَاع فَكَذَلِك إِذا كَانَ أَكْثَرهم على قَول وَنَفر يسير مِنْهُم على خلاف ذَلِك لَا يثبت حكم الْإِجْمَاع قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي مَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو بكر الرَّازِيّ رَحمَه الله أَن الْوَاحِد إِذا خَالف الْجَمَاعَة فَإِن سوغوا لَهُ ذَلِك الِاجْتِهَاد لَا يثبت حكم الْإِجْمَاع بِدُونِ قَوْله بِمَنْزِلَة خلاف ابْن عَبَّاس للصحابة فِي زوج وأبوين وَامْرَأَة وأبوين أَن للْأُم ثلث جَمِيع المَال وَإِن لم يسوغوا لَهُ الِاجْتِهَاد وأنكروا (عَلَيْهِ) قَوْله فَإِنَّهُ يثبت حكم الْإِجْمَاع بِدُونِ قَوْله بِمَنْزِلَة قَول ابْن عَبَّاس فِي حل التَّفَاضُل فِي أَمْوَال الرِّبَا فَإِن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لم يسوغوا لَهُ هَذَا الِاجْتِهَاد حَتَّى رُوِيَ أَنه رَجَعَ إِلَى قَوْلهم فَكَانَ الْإِجْمَاع ثَابتا بِدُونِ قَوْله وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله فِي الْإِمْلَاء لَو قضى القَاضِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 بِجَوَاز بيع الدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ لم ينفذ قَضَاؤُهُ لِأَنَّهُ مُخَالف للْإِجْمَاع وَالدَّلِيل على صِحَة هَذَا القَوْل قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام يَد الله مَعَ الْجَمَاعَة فَمن شَذَّ شَذَّ فِي النَّار وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم يَعْنِي مَا عَلَيْهِ عَامَّة الْمُؤمنِينَ فَفِي هَذَا إِشَارَة إِلَى أَن قَول الْوَاحِد لَا يُعَارض قَول الْجَمَاعَة ولأنا لَو شرطنا هَذَا أدّى إِلَى أَن لَا ينْعَقد الْإِجْمَاع أبدا لِأَنَّهُ لَا بُد أَن يكون فِي عُلَمَاء الْعَصْر وَاحِد أَو اثْنَان مِمَّن لم يسمع ذَلِك الْفَتْوَى أصلا وَمِمَّنْ يرى خلاف ذَلِك وَإِنَّمَا كَانَ الْإِجْمَاع حجَّة بِاعْتِبَار ظُهُور وَجه الصَّوَاب فِيهِ بالاجتماع عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يظْهر هَذَا فِي قَول الْجَمَاعَة لَا فِي قَول الْوَاحِد أَلا ترى أَن قَول الْوَاحِد لَا يكون مُوجبا للْعلم وَإِن لم يكن بمقابلته جمَاعَة يخالفونه وَقَول الْجَمَاعَة مُوجب للْعلم إِذا لم يكن هُنَاكَ وَاحِد يخالفهم فَكَذَلِك مَعَ وجود هَذَا الْوَاحِد لِأَن قَوْله لَا يُعَارض قَوْلهم بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ على كل قَول جمَاعَة فهناك الْمُعَارضَة تتَحَقَّق وَالْمرَاد من قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ إِذا لم يكن هُنَاكَ دَلِيل مُوجبا للْعلم بِخِلَاف قَول من يَهْتَدِي بِهِ أَلا ترى أَنه إِذا كَانَ هُنَاكَ نَص بِخِلَاف قَول الْوَاحِد لم يجز اتِّبَاعه وَلم يكن هَذَا الحَدِيث متناولا لَهُ وَحكي عَن أبي حَازِم القَاضِي رَحمَه الله أَن الْخُلَفَاء الرَّاشِدين إِذا اتَّفقُوا على شَيْء فَذَلِك إِجْمَاع مُوجب للْعلم وَلَا يعْتد بِخِلَاف من خالفهم فِي ذَلِك لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدِي عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ وَلِهَذَا لم يعْتَبر خلاف زيد للخلفاء فِي تَوْرِيث ذَوي الْأَرْحَام وَأمر المعتصم برد الْأَمْوَال الَّتِي اجْتمعت فِي بَيت المَال مِمَّا أخذت من تركات فِيهَا ذَوُو الْأَرْحَام فَأنْكر ذَلِك عَلَيْهِ أَبُو سعيد البردعي رَحمَه الله وَقَالَ هَذَا شَيْء أمضى على قَول زيد فَقَالَ لَا أَعْتَد خلاف زيد فِي مُقَابلَة قَول الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَقد قضيت بذلك فَلَيْسَ لأحد أَن يُبطلهُ بعدِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 فصل الحكم ذكر هِشَام عَن مُحَمَّد رحمهمَا الله الْفِقْه أَرْبَعَة مَا فِي الْقُرْآن وَمَا أشبهه وَمَا جَاءَت بِهِ السّنة وَمَا أشبههَا وَمَا جَاءَ عَن الصَّحَابَة وَمَا أشبهه وَمَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا وَمَا أشبهه فَفِي هَذَا بَيَان أَن مَا أجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة فَهُوَ بِمَنْزِلَة الثَّابِت بِالْكتاب وَالسّنة فِي كَونه مَقْطُوعًا بِهِ حَتَّى يكفر جاحده وَهَذَا أقوى مَا يكون من الْإِجْمَاع فَفِي الصَّحَابَة أهل الْمَدِينَة وعترة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا خلاف بَين من يعْتد بقَوْلهمْ إِن هَذَا الْإِجْمَاع حجَّة مُوجبَة للْعلم قطعا فيكفر جاحده كَمَا يكفر جَاحد مَا ثَبت بِالْكتاب أَو بِخَبَر متواتر فَإِن قيل كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا وتوهم الْخَطَأ لم يَنْعَدِم بإجماعهم أصلا فَإِن رَأْيهمْ لَا يكون فَوق رَأْي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد قَالَ تَعَالَى {عَفا الله عَنْك لم أَذِنت لَهُم} وَقَالَ تَعَالَى {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى} الْآيَة فَفِي هَذَا إِشَارَة إِلَى أَنه قد كَانَ وَقع لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخَطَأ فِي بعض مَا فعل بِهِ بِرَأْيهِ فَعرفنَا أَنه لَا يُؤمن الْخَطَأ فِي رَأْي دون رَأْيه أصلا قُلْنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَعْصُوما عَن التَّقْرِير على الْخَطَأ خُصُوصا فِي إِظْهَار أَحْكَام الدّين وَلِهَذَا كَانَ قَوْله مُوجبا علم الْيَقِين واتباعه فرض على الْأمة قَالَ تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} وسنقرر هَذَا الْكَلَام فِي مَوْضِعه (إِن شَاءَ الله تَعَالَى) فَإِذا ثَبت هَذَا فِيمَا ثَبت بتنصيص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَذَلِك فِيمَا يثبت بِإِجْمَاع الصَّحَابَة فَإِنَّهُ لَا يبْقى فِيهِ توهم الْخَطَأ بعد إِجْمَاعهم حَتَّى يكفر جاحده وَقَوله وَمَا أشبهه المُرَاد مِنْهُ أَن الصَّحَابَة إِذا اخْتلفُوا فِي حَادِثَة على أقاويل فَإِن ذَلِك اتِّفَاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 مِنْهُم على أَنه لَا قَول سوى مَا ذكرُوا فِيهَا وَأَن الْحق لَا يعدو أقاويلهم حَتَّى لَيْسَ لأحد بعدهمْ أَن يخترع قولا آخر بِرَأْيهِ وَلِهَذَا قُلْنَا إِن الصَّحَابَة لما اخْتلفُوا فِي مِقْدَار جعل الْآبِق على أقاويل كَانَ ذَلِك اتِّفَاقًا مِنْهُم على أَن الْحق لَا يعدو أقاويلهم فَلَيْسَ لأحد بعدهمْ أَن يخترع فِيهِ قولا آخر بِرَأْيهِ إِلَّا أَن هَذَا الْإِجْمَاع دون الأول فِي الحكم لِأَن ثُبُوته بطرِيق الِاسْتِدْلَال وَأَصله مسكوت عَنهُ فَلَا يكفر جاحده مثل هَذَا الْإِجْمَاع فَإِن قيل أَلَيْسَ أَنكُمْ قُلْتُمْ فِيمَن قَالَ لامْرَأَته اخْتَارِي فَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا وَقعت تَطْلِيقَة بَائِنَة وَإِن اخْتَارَتْ زَوجهَا لم يَقع شَيْء وَقد كَانَت الصَّحَابَة فِيهَا على قَوْلَيْنِ سوى هَذَا ثمَّ اخترعتم قولا ثَالِثا برأيكم قُلْنَا مَا فعلنَا ذَلِك فَإِن الْكَرْخِي رَحمَه الله ذكر مَذْهَبنَا عَن معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ فَلَيْسَ ذَلِك بِخُرُوج عَن أقاويلهم وَفِي قَوْله مَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا بَيَان أَن إِجْمَاع أهل كل عصر حجَّة وَلَكِن هَذَا فِي الحكم دون مَا سبق وَهُوَ بِمَنْزِلَة خبر مَشْهُور حَتَّى لَا يكفر جاحده وَلَكِن يجوز النّسخ بِهِ لِأَن بَين من يعْتد بقَوْلهمْ من الْعلمَاء اخْتِلَافا فِيهِ وَدون هَذَا بِدَرَجَة أَيْضا الْإِجْمَاع بعد الِاخْتِلَاف فِي الْحَادِثَة إِذا كَانَت مُخْتَلفا فِيهَا فِي عصر ثمَّ اتّفق أهل عصر آخر بعدهمْ على أحد الْقَوْلَيْنِ فقد قَالَ بعض الْعلمَاء هَذَا لَا يكون إِجْمَاعًا وَعِنْدنَا هُوَ إِجْمَاع وَلكنه بِمَنْزِلَة خبر الْوَاحِد فِي كَونه مُوجبا للْعَمَل غير مُوجب للْعلم قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ شَيخنَا (الإِمَام الْحلْوانِي رَحمَه الله) يَقُول هَذَا على قَول مُحَمَّد رَحمَه الله يكون إِجْمَاعًا فَأَما على قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف رحمهمَا الله لَا يكون إِجْمَاعًا فَإِن الرِّوَايَة مَحْفُوظَة عَن مُحَمَّد رَحمَه الله أَن قَضَاء القَاضِي بِجَوَاز بيع أم الْوَلَد بَاطِل وَقد كَانَ هَذَا مُخْتَلفا فِيهِ بَين الصَّحَابَة ثمَّ اتّفق من بعدهمْ على أَنه لَا يجوز بيعهَا فَكَانَ هَذَا قَضَاء بِخِلَاف الْإِجْمَاع عِنْد مُحَمَّد وعَلى قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف رحمهمَا الله ينفذ قَضَاء القَاضِي بِهِ لشُبْهَة الِاخْتِلَاف فِي الصَّدْر الأول وَلَا يثبت الْإِجْمَاع مَعَ وجود الِاخْتِلَاف فِي الصَّدْر الأول قَالَ رَضِي الله عَنهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وَالْأَوْجه عِنْدِي أَن هَذَا إِجْمَاع عِنْد أَصْحَابنَا جَمِيعًا للدليل الَّذِي دلّ على أَن إِجْمَاع أهل كل عصر إِجْمَاع مُعْتَبر وَإِنَّمَا ينفذ قَضَاء القَاضِي بِجَوَاز بيعهَا لشُبْهَة الِاخْتِلَاف فِي أَن مثل هَذَا هَل يكون إِجْمَاعًا فعلى اعْتِبَار هَذِه الشُّبْهَة يكون قَضَاؤُهُ فِي مُجْتَهد فِيهِ فَلهَذَا نفذه أَبُو حنيفَة رَحمَه الله وَجه قَول الْفَرِيق الأول أَن الْحجَّة إِجْمَاع الْأمة وَالَّذِي كَانَ مُخَالفا فِي الصَّدْر الأول من الْأمة وبموته لَا يبطل قَوْله فَلَا يثبت الْإِجْمَاع بِدُونِ قَوْله أَلا ترى أَنه لَو بَقِي حَيا إِلَى هَذَا الْوَقْت لم ينْعَقد الْإِجْمَاع بِدُونِ قَوْله فَكَذَلِك إِذا كَانَ مَيتا لِأَن اعْتِبَار قَوْله لدليله لَا لِحَيَاتِهِ وَلِأَنَّهُ لَو ثَبت الْإِجْمَاع بعده لوَجَبَ القَوْل بتضليله وَلَا نظن أحدا يَقُول هَذَا لِابْنِ عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي زوج وأبوين وَإِن أَجمعُوا بعده على خلاف قَوْله وَلَا لِابْنِ مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فِي تَقْدِيم ذَوي الْأَرْحَام على مولى الْعتَاقَة وَإِن أَجمعُوا بعده على خلاف قَوْله وَقد قُلْتُمْ إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت خلية وَنوى ثَلَاثًا ثمَّ وَطئهَا فِي الْعدة وَقَالَ علمت أَنَّهَا عَليّ حرَام لَا يلْزمه الْحَد لِأَن عمر رَضِي الله عَنهُ كَانَ يَرَاهَا تَطْلِيقَة رَجْعِيَّة وَقد أَجمعُوا بعده على خلاف ذَلِك وَلِهَذَا صَحَّ نِيَّة الثَّلَاث فِيهِ فَدلَّ أَن الْإِجْمَاع لَا يثبت بِمثل هَذَا وَجه قَوْلنَا إِن الْمُعْتَبر إِجْمَاع أهل كل عصر لما بَينا أَن الْمَقْصُود كَون أَحْكَام الشَّرْع مَحْفُوظَة وَأَن ثُبُوت هَذَا الحكم بِاعْتِبَار الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَذَلِكَ يخْتَص بِهِ الْأَحْيَاء من أهل الْعَصْر دون من مَاتَ قبلهم فَكَمَا أَن لَا يعْتَبر توهم قَول مِمَّن يَأْتِي بعدهمْ بِخِلَاف قَوْلهم فِي منع ثُبُوت حكم الْإِجْمَاع فَكَذَلِك لَا يعْتَبر قَول وَاحِد كَانَ قبلهم إِذا اجْتَمعُوا فِي عصرهم على خِلَافه وَيجْعَل هَذَا الْإِجْمَاع بِمَنْزِلَة التَّقْدِير من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَو عرض عَلَيْهِ الْفَتْوَى وَمَعْلُوم أَنه لَو عرض عَلَيْهِ فَقَالَ الصَّوَاب هَذَا فَإِنَّهُ تثبت الْحجَّة بِهِ وَلَا يضلل الْقَائِل بِخِلَافِهِ قبل هَذَا التَّنْصِيص فَكَذَلِك هُنَا لَا يضلل الْقَائِل بِخِلَافِهِ قبل هَذَا الْإِجْمَاع أَلا ترى أَن أهل قبَاء كَانُوا يصلونَ إِلَى بَيت الْمُقَدّس بَعْدَمَا نزلت فَرضِيَّة التَّوَجُّه إِلَى الْكَعْبَة حَتَّى أَتَاهُم آتٍ فَأخْبرهُم واستداروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 كَهَيْئَتِهِمْ وَجوز رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلَاتهم لِأَن ذَلِك كَانَ قبل الْعلم بِالنَّصِّ النَّاسِخ وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَ يَقُول بِإِبَاحَة الْمُتْعَة ثمَّ رَجَعَ إِلَى قَول الصَّحَابَة وَيثبت الْإِجْمَاع بِرُجُوعِهِ لَا محَالة وَلم يكن ذَلِك مُوجبا تضليله فِيمَا كَانَ يُفْتِي بِهِ قبل هَذَا فَأَما مَا إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت خلية فَإِنَّمَا أسقطنا الْحَد هُنَاكَ بِالْوَطْءِ لَا لِأَن اتِّفَاق أهل الْعَصْر بعد الْخلاف لَيْسَ بِإِجْمَاع وَلَكِن للشُّبْهَة المتمكنة فِي هَذَا الْإِجْمَاع بِسَبَب اخْتِلَاف الْعلمَاء فَإِن الْحَد يسْقط بِأَدْنَى شُبْهَة وَالله أعلم بِالْحَقِيقَةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الْكَلَام فِي قبُول أَخْبَار الْآحَاد وَالْعَمَل بهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فُقَهَاء الْأَمْصَار رَحِمهم الله خبر الْوَاحِد الْعدْل حجَّة للْعَمَل بِهِ فِي أَمر الدّين وَلَا يثبت بِهِ علم الْيَقِين وَقَالَ بعض من لَا يعْتد بقوله خبر الْوَاحِد لَا يكون حجَّة فِي الدّين أصلا وَقَالَ بعض أهل الحَدِيث يثبت بِخَبَر الْوَاحِد علم الْيَقِين مِنْهُم من اعْتبر فِيهِ عدد الشَّهَادَة ليَكُون حجَّة وَمِنْهُم من اعْتبر أقْصَى عدد الشَّهَادَة وَهُوَ الْأَرْبَعَة فَأَما الْفَرِيق الأول استدلوا بقوله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَإِذا كَانَ خبر الْوَاحِد لَا يُوجب الْعلم لم يجز اتِّبَاعه وَالْعَمَل بِهِ بِهَذَا الظَّاهِر وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَقولُوا على الله إِلَّا الْحق} وَخبر الْوَاحِد إِذا لم يكن مَعْصُوما عَن الْكَذِب (مُحْتَمل للكذب) والغلط فَلَا يكون حَقًا على الْإِطْلَاق وَلَا يجوز القَوْل بِإِيجَاب الْعَمَل بِهِ فِي الدّين وَقَالَ تَعَالَى {إِلَّا من شهد بِالْحَقِّ وهم يعلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا} وَمعنى الصدْق فِي خبر الْوَاحِد غير ثَابت إِلَّا بطرِيق الظَّن وَلِأَن خبر الْوَاحِد مُحْتَمل للصدق وَالْكذب وَالنَّص الَّذِي هُوَ مُحْتَمل لَا يكون مُوجبا للْعَمَل بِنَفسِهِ مَعَ أَن كل وَاحِد من المحتملين فِيهِ يجوز أَن يكون شرعا فَلِأَن لَا يجوز الْعَمَل بِمَا هُوَ مُحْتَمل للكذب وَالْكذب بَاطِل أصلا كَانَ أولى وَلَا يدْخل على مَا ذكرنَا أُمُور الْمُعَامَلَات لِأَن الَّذِي يَتَرَتَّب عَلَيْهَا حُقُوق الْعباد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 والعباد يعجزون عَن إِظْهَار كل حق لَهُم بطرِيق لَا يبْقى فِيهِ شكّ وشبهة فلأجل الضَّرُورَة جَوَّزنَا الِاعْتِمَاد فِيهَا على خبر الْوَاحِد وَلِهَذَا سقط اعْتِبَار اشْتِرَاط الْعَدَالَة فِيهِ أَيْضا فَأَما هُنَا الثَّابِت مَا هُوَ حق لله وَالله مَوْصُوف بِكَمَال الْقُدْرَة يتعالى عَن أَن يلْحقهُ ضَرُورَة أَو عجز عَن إِظْهَار حُقُوقه بِمَا لَا يبْقى فِيهِ شكّ وشبهة فَلهَذَا لَا يَجْعَل الْمُحْتَمل للصدق وَالْكذب حجَّة فِيهِ وعَلى هَذَا تخرج الشَّهَادَات أَيْضا فَإِن الْقيَاس فِيهَا أَن لَا يكون حجَّة مَعَ بَقَاء احْتِمَال الْكَذِب تَرَكْنَاهُ بالنصوص وبالمعنى الَّذِي أَشَرنَا إِلَيْهِ أَنَّهَا مَشْرُوعَة لإِثْبَات حُقُوق الْعباد وَالْحَاجة إِلَيْهَا تتجدد للعباد فِي كل وَقت وهم يعجزون عَن إِثْبَات كل حق لَهُم بِمَا لَا يكون مُحْتملا وَلِأَن القَوْل بِمَا قُلْتُمْ يُؤَدِّي إِلَى أَن يزْدَاد دَرَجَة الْمخبر الَّذِي هُوَ غير مَعْصُوم عَن الْكَذِب على الْمخبر الْمَعْصُوم عَن الْكَذِب يَعْنِي من ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي فَإِن خَبره فِي أول أمره إِنَّمَا كَانَ وَاجِب الْقبُول باقتران المعجزات بِهِ فَمن يَقُول بِأَن خبر غَيره يكون مَقْبُولًا من غير دَلِيل يقْتَرن بِهِ فقد زَاد دَرَجَة هَذَا الْمخبر على دَرَجَة الرَّسُول وَأي قَول أظهر فَسَادًا من هَذَا وَلَا خلاف أَن أصل الدّين كالتوحيد وصفات الله وَإِثْبَات النُّبُوَّة لَا يكون إِلَّا بطرِيق يُوجب الْعلم قطعا وَلَا يكون فِيهِ شكّ وَلَا شُبْهَة فَكَذَلِك فِيمَا يكون من أَمر الدّين وَحجَّتنَا فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {إِن الَّذين يكتمون مَا أنزلنَا من الْبَينَات} الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق الَّذين أُوتُوا الْكتاب لتبيننه للنَّاس} الْآيَة فَفِي هَاتين الْآيَتَيْنِ نهى لكل وَاحِد عَن الكتمان وَأمر بِالْبَيَانِ على مَا هُوَ الحكم فِي الْجمع الْمُضَاف إِلَى جمَاعَة أَنه يتَنَاوَل كل وَاحِد مِنْهُم وَلِأَن أَخذ الْمِيثَاق من أصل الدّين وَالْخطاب للْجَمَاعَة بِمَا هُوَ أصل الدّين يتَنَاوَل كل وَاحِد من الْآحَاد وَمن ضَرُورَة توجه الْأَمر بالإظهار على كل وَاحِد أَمر السَّامع بِالْقبُولِ مِنْهُ وَالْعَمَل بِهِ إِذْ أَمر الشَّرْع لَا يَخْلُو عَن فَائِدَة حميدة وَلَا فَائِدَة فِي النَّهْي عَن الكتمان وَالْأَمر بِالْبَيَانِ سوى هَذَا وَلَا يدْخل عَلَيْهِ الْفَاسِق فَإِنَّهُ دَاخل فِي عُمُوم الْأَمر بِالْبَيَانِ ثمَّ لَا يقبل بَيَانه فِي الدّين لِأَنَّهُ مَخْصُوص من هَذَا النَّص بِنَصّ آخر وَهُوَ مَا فِيهِ أَمر بالتوقف فِي خبر الْفَاسِق ثمَّ هُوَ مزجور عَن اكْتِسَاب سَبَب الْفسق مَأْمُور بِالتَّوْبَةِ عَنهُ ثمَّ يَتَرَتَّب الْبَيَان عَلَيْهِ فعلى هَذَا الْوَجْه بَيَانه يُفِيد وجوب القَوْل وَالْعَمَل بِهِ وَقَالَ تَعَالَى {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة} الْآيَة والفرقة اسْم للثَّلَاثَة فَصَاعِدا فالطائفة من الْفرْقَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 بَعْضهَا وَهُوَ الْوَاحِد أَو الِاثْنَان فَفِي أَمر الطَّائِفَة بالتفقه وَالرُّجُوع إِلَى قَومهمْ للإنذار كي يحذروا تنصيص على أَن الْقبُول وَاجِب على السامعين من الطَّائِفَة وَأَنه يلْزمهُم الحذر بإنذار الطَّائِفَة وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بِالْحجَّةِ وَلَا يُقَال الطَّائِفَة اسْم للْجَمَاعَة لِأَن الْمُتَقَدِّمين اخْتلفُوا فِي تَفْسِير الطَّائِفَة قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب هُوَ اسْم للْوَاحِد وَقَالَ عَطاء اسْم للاثنين وَقَالَ الزُّهْرِيّ لثَلَاثَة وَقَالَ الْحسن لعشرة فَيكون هَذَا اتِّفَاقًا مِنْهُم أَن الِاسْم يحْتَمل أَن يتَنَاوَل كل وَاحِد من هَذِه الْأَعْدَاد وَلم يقل أحد بِالزِّيَادَةِ على الْعشْرَة وَمَعْلُوم أَن بِخَبَر الْعشْرَة لَا يَنْتَفِي توهم الْكَذِب وَلَا يخرج من أَن يكون مُحْتملا فَعرفنَا أَنه لَا يشْتَرط لوُجُوب الْعَمَل كَون الْمخبر بِحَيْثُ لَا يبْقى فِي خَبره تُهْمَة الْكَذِب ثمَّ الْأَصَح مَا قَالَه مُحَمَّد بن كَعْب فقد قَالَ قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى {وليشهد عذابهما طَائِفَة} الْوَاحِد فَصَاعِدا وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا} نقل فِي سَبَب النُّزُول أَنَّهُمَا كَانَا رجلَيْنِ وَفِي سِيَاق الْآيَة مَا يدل عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى {فأصلحوا بَينهمَا} وَلم يقل بَينهم وَقَالَ {فأصلحوا بَين أخويكم} فقد سمي الرجلَيْن طائفتين فَإِن قيل هَذَا بعيد فَإِن هَاء التَّأْنِيث لَا تلْحق بنعت الْوَاحِد من الذُّكُور قُلْنَا هَذَا عِنْد ذكر الرجل فَأَما عِنْد ذكر النَّعْت يصلح للفرد من الذُّكُور وَالْإِنَاث فللعرب عَادَة فِي إِلْحَاق هَاء التَّأْنِيث بِهِ وَكتاب الله يشْهد بِهِ قَالَ تَعَالَى {وَإِن تدع مثقلة إِلَى حملهَا لَا يحمل مِنْهُ شَيْء} وَالْمرَاد الْوَاحِد لَا من الْإِنَاث خَاصَّة بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى {وَلَو كَانَ ذَا قربى} فَإِن قيل هَذَا خطاب لجَمِيع الطوائف بالإنذار وهم يبلغون حد التَّوَاتُر وَيكون خبرهم مستفيضا مشتهرا قُلْنَا لَا كَذَلِك فالجمع الْمُضَاف إِلَى جمَاعَة يتَنَاوَل كل وَاحِد مِنْهُم كَقَوْل الْقَائِل لبس الْقَوْم ثِيَابهمْ وَفِي قَوْله تَعَالَى {إِذا رجعُوا إِلَيْهِم} مَا يدل على مَا قُلْنَا لِأَن الرُّجُوع إِنَّمَا يتَحَقَّق مِمَّن كَانَ خَارِجا من الْقَوْم ثمَّ صَار قادما عَلَيْهِم وإتيان جَمِيع الطوائف إِلَى كل قوم للإنذار لَا يكون رُجُوعا إِلَيْهِم مَعَ أَن هَذَا لَو كَانَ شرطا لبينه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُم وكلفهم أَن يفعلوه وَلَو فَعَلُوهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 لاشتهر وَلم ينْقل شَيْء من ذَلِك فِي الْآثَار وَالَّذِي يتَحَقَّق بهم الْإِجْمَاع للدوران للإنذار لَا يَنْقَطِع توهم الْكَذِب عَن خبرهم لبَقَاء احْتِمَال التواطؤ بَينهم فَكَانَ الِاسْتِدْلَال قَائِما وَإِن ساعدناهم على هَذَا التَّأْوِيل فَإِن قيل عندنَا الرَّاجِع إِلَى كل فريق مَأْمُور بالإنذار بِمَا سَمعه لِقَوْمِهِ وَإِن لم يكن عَلَيْهِم أَن يقبلُوا ذَلِك مِنْهُ بل الْمَقْصُود أَن يشْتَهر ذَلِك وَعند الاشتهار تَنْتفِي تُهْمَة الْكَذِب فَتَصِير حجَّة حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَة الشَّاهِد الْوَاحِد فَإِنَّهُ مَأْمُور بأَدَاء الشَّهَادَة وَإِن كَانَ الْعَمَل بِشَهَادَتِهِ لَا يجب مَا لم يتم الْعدَد بِشَاهِد آخر وَتظهر الْعَدَالَة بالتزكية قُلْنَا الشَّاهِد إِذا كَانَ وَحده فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَدَاء الشَّهَادَة لِأَن ذَلِك لَا ينفع الْمُدَّعِي وَرُبمَا يضر بِالشَّاهِدِ فَلَو لم يكن خبر الْوَاحِد حجَّة لوُجُوب الْعَمَل لما وَجب الْإِنْذَار بِمَا سمع ثمَّ لما ثَبت بِالنَّصِّ أَنه مَأْمُور بالإنذار ثَبت أَنه يجب الْقبُول مِنْهُ لِأَنَّهُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ كَانَ مَأْمُورا بالإنذار ثمَّ كَانَ قَوْله ملزما للسامعين كَيفَ وَقد بَين الله تَعَالَى حكم الْقبُول وَالْعَمَل بِهِ فِي إِشَارَة بقوله {لَعَلَّهُم يحذرون} أَي لكَي يحذروا عَن الرَّد والامتناع عَن الْعَمَل بعد لُزُوم الْحجَّة إيَّاهُم كَمَا قَالَ تَعَالَى {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} وَالْأَمر بالحذر لَا يكون إِلَّا بعد توجه الْحجَّة فَدلَّ أَن خبر الْوَاحِد مُوجب للْعَمَل وَلِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى النَّاس كَافَّة قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس} وَقد بلغ الرسَالَة بِلَا خلاف وَمَعْلُوم يَقِينا أَنه مَا أَتَى كل أحد فَبَلغهُ مشافهة وَلكنه بلغ قوما بِنَفسِهِ وَآخَرين برَسُول أرسل إِلَيْهِم وَآخَرين بِكِتَاب وَكتابه إِلَى مُلُوك الْآفَاق مَشْهُور لَا يُمكن إِنْكَاره فَلَو لم يكن خبر الْوَاحِد حجَّة لما كَانَ مبلغا رسالات ربه بِهَذَا الطَّرِيق إِلَى النَّاس كَافَّة وَقد فتحت الْبلدَانِ النائية على عَهده كاليمن والبحرين وَهُوَ مَا أَتَاهُم بِنَفسِهِ وَلكنه بعث عَاملا إِلَى كل نَاحيَة ليعلمهم الْأَحْكَام على مَا هُوَ سير الْمُلُوك الْيَوْم فِي بعث الْعمَّال إِلَى الْبلدَانِ لأجل أُمُور الدُّنْيَا فَلَو لم يكن خبر الْوَاحِد حجَّة فِي أُمُور الدّين لما اكْتفى بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حق الَّذين آمنُوا وَكَانُوا بالبعد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 حَضرته وَكَذَلِكَ المخدرات فِي بُيُوتهنَّ لم يحضرن مَجْلِسه فِي كل حَادِثَة وَلَكِن أَزوَاجهنَّ كَانُوا يسمعُونَ أَحْكَام الدّين من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيرجعون إلَيْهِنَّ ويعلمونهن فَلَو لم يكن خبر الْوَاحِد حجَّة لكلفهن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِتْيَان إِلَيْهِ للسماع مِنْهُ وَلَو فعل ذَلِك لاشتهر وَلَا يُقَال إِنَّمَا اكْتفى بذلك لِأَن من بَعثه رَسُول الله معلما إِلَى قوم لَا يَقُول لَهُم إِلَّا مَا هُوَ حق صدق فَكَانَ ذَلِك كَرَامَة لرَسُول الله وَلَا يُوجد مثل ذَلِك فِي حق غَيرهم من المخبرين لِأَنَّهُ لَو كَانَ بِهَذِهِ الصّفة لنقل هَذَا السَّبَب كَرَامَة لَهُم ولأعقابهم أَلا ترى أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين خص وَاحِدًا من الصَّحَابَة بِشَيْء اشْتهر ذَلِك بِالنَّقْلِ نَحْو قَوْله فِي حَنْظَلَة رَضِي الله عَنهُ إِن الْمَلَائِكَة غسلته وَفِي جَعْفَر رَضِي الله عَنهُ إِن لَهُ جناحين يطير بهما فِي الْجنَّة ثمَّ كَمَا أَن من بَعثه رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام خَلِيفَته فِي التَّبْلِيغ فَكل من سمع شَيْئا فِي أَمر الدّين فَهُوَ خَلِيفَته فِي التَّبْلِيغ مَأْمُور من جِهَته بِالْبَيَانِ كالمبعوث لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَلا فليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب وَلقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام نضر الله امْرأ سمع منا مقَالَة فوعاها كَمَا سَمعهَا ثمَّ أَدَّاهَا إِلَى من يسْمعهَا فَرب حَامِل فقه إِلَى غير فَقِيه وَرب حَامِل فقه إِلَى مَا هُوَ أفقه مِنْهُ فَيَنْبَغِي أَن يثبت ترجح جَانب الصدْق فِي خبر كل عدل أَيْضا كَرَامَة لرَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي قَوْله (فَرب حَامِل فقه) بَيَان أَن مَا يخبر بِهِ الْوَاحِد فقه وَالْفِقْه فِي الدّين مَا يكون حجَّة ولأنا نعلم أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُل الطَّعَام وَمَا كَانَ يزرع بِنَفسِهِ ليتيقن بِصفة الْحل فِيمَا يَأْكُلهُ وَقد كَانَ مَأْمُورا بِأَكْل الطّيب قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات} وَرُبمَا كَانَ يهدي إِلَيْهِ على مَا رُوِيَ أَن سلمَان رَضِي الله عَنهُ أهدي إِلَيْهِ طبقًا من رطب وَأَن بَرِيرَة رَضِي الله عَنْهَا كَانَت تهدي إِلَيْهِ وَكَانَ يدعى إِلَى طَعَام فَلَو لم يكن خبر الْوَاحِد حجَّة للْعَمَل بِهِ فِي حق الله تَعَالَى لما اعْتمد ذَلِك فِيمَا يَأْكُلهُ وَلَا يُقَال كَانَ يعلم من طَرِيق الْوَحْي حل مَا يتَنَاوَلهُ لِأَنَّهُ مَا كَانَ منتظر الْوَحْي عِنْد أكله أَلا ترى أَنه تنَاول لقْمَة من الشَّاة المصلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 فَلَمَّا لم يسغها سَأَلَ عَن شَأْنهَا فَأخْبر بذلك فَأمر بالتصدق بهَا وَتَنَاول لقْمَة من الشَّاة المسمومة فَعرفنَا أَنه مَا كَانَ ينْتَظر الْوَحْي عِنْد كل أَكلَة وَالَّذِي يُؤَيّد مَا قُلْنَا حكم الشَّهَادَات فَإِن الله تَعَالَى أَمر القَاضِي بِالْقضَاءِ بِالشَّهَادَةِ وَمَعْلُوم أَن الِاحْتِمَال يبْقى بعد شَهَادَة شَاهِدين فَلَو كَانَ شَرط وجوب الْعَمَل بالْخبر انْتِفَاء تُهْمَة الْكَذِب من كل وَجه لما وَجب على القَاضِي الْقَضَاء بِالشَّهَادَةِ مَعَ بَقَاء هَذَا الِاحْتِمَال فَإِن قيل الشَّهَادَات لإِظْهَار حُقُوق الْعباد وَقد بَينا أَن هَذَا الشَّرْط غير مُعْتَبر فِيمَا هُوَ من حُقُوق الْعباد قُلْنَا كَمَا يجب الْقَضَاء بِمَا هُوَ من حُقُوق الْعباد عِنْد أَدَاء الشَّهَادَة يجب الْقَضَاء بِمَا هُوَ من حُقُوق الله تَعَالَى كَحَد الشّرْب وَالسَّرِقَة وَالزِّنَا ثمَّ وجوب الْقَضَاء بِالشَّهَادَةِ من حُقُوق الله تَعَالَى حَتَّى إِذا امْتنع من غير عذر يفسق وَإِذا لم ير ذَلِك أصلا يكفر إِلَّا أَن سَببه حق العَبْد وَبِه لَا يخرج من أَن يكون حَقًا لله تَعَالَى كَالزَّكَاةِ فَإِنَّهَا تجب حَقًا لله تَعَالَى بِسَبَب مَال هُوَ حق العَبْد وَقد يَتَرَتَّب على خبر الْوَاحِد فِي الْمُعَامَلَات مَا هُوَ حق الله تَعَالَى نَحْو الْإِخْبَار بِطَهَارَة المَاء ونجاسته والإخبار بِأَن هَذَا الشَّيْء أهداه إِلَيْك فلَان وَأَن فلَانا وكلني بِبيع هَذَا الشَّيْء فَإِنَّهُ يَتَرَتَّب على هَذَا كُله مَا هُوَ حق الله تَعَالَى وَهُوَ إِبَاحَة التَّنَاوُل فَإِن الْحل وَالْحُرْمَة من حق الله وَلَا يظنّ بِأحد أَنه لَا يرى الِاعْتِمَاد فِي مثل هَذَا على خبر الْوَاحِد فَإِنَّهُ يتَعَذَّر بِهِ على النَّاس الْوُصُول إِلَى حوائجهم أَلا ترى أَنه وَإِن أخبرهُ أَن الْعين ملكه بِبيعِهِ فَمن الْجَائِز أَنه غَاصِب وَإِذا ألجأته الضَّرُورَة إِلَى التَّسْلِيم فِي هَذَا يُقَاس عَلَيْهِ مَا سواهُ ويتبين بِهِ فَسَاد اشْتِرَاط انْتِفَاء تُهْمَة الْكَذِب عَن الْخَبَر للْعَمَل بِهِ فِيمَا هُوَ من حق الله تَعَالَى وَبِهَذَا يتَبَيَّن خطأ من زعم أَن هَذَا عمل بِغَيْر علم فَإِنَّهُ عندنَا عمل بِعلم هُوَ ثَابت من حَيْثُ الظَّاهِر وَلكنه غير مَقْطُوع بِهِ وَقد سمى الله تَعَالَى مثله علما فَقَالَ {وَمَا شَهِدنَا إِلَّا بِمَا علمنَا} وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِك سَمَاعا من مخبر أخْبرهُم بِهِ وَقَالَ {فَإِن علمتموهن مؤمنات} وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك بِاعْتِبَار غَالب الرَّأْي واعتماد نوع من الظَّاهِر فَدلَّ على أَن مثله علم لَا ظن إِنَّمَا الظَّن عِنْد خبر الْفَاسِق وَلِهَذَا أَمر الله بالتوقف فِي خَبره وَبَين الْمَعْنى فِيهِ بقوله {أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 فَيكون ذَلِك بَيَانا أَن من اعْتمد خبر الْعدْل فِي الْعَمَل بِهِ يكون مصيبا بِعلم لَا بِجَهَالَة إِلَّا أَن ذَلِك (علم) بِاعْتِبَار الظَّاهِر لِأَن عَدَالَته ترجح جَانب الصدْق فِي خَبره وَإِذا كَانَ هَذَا النَّوْع من الظَّاهِر يصلح حجَّة للْقَضَاء بِهِ فَلِأَن يصلح حجَّة للْعَمَل بِهِ فِي أَمر الدّين كَانَ أولى لِأَن هَذَا الحكم أسْرع ثبوتا أَلا ترى أَن بِالْقِيَاسِ يثبت وَمَعْلُوم أَن هَذَا الِاحْتِمَال فِي الْقيَاس أظهر وَالْقِيَاس دون خبر الْوَاحِد وَمن لَا يجوز الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد هُنَا يفزع إِلَى الْقيَاس فَكيف يَسْتَقِيم ترك الْعَمَل بِمَا هُوَ أقوى لبَقَاء احْتِمَال فِيهِ والفزع إِلَى مَا هُوَ دونه وَهَذَا الِاحْتِمَال فِيهِ أظهر فَإِن قيل هَذَا سَهْو فَإِن الْكَلَام فِي إِثْبَات الحكم ابْتِدَاء وَالْقِيَاس لَا يصلح لنصب الحكم ابْتِدَاء وَإِنَّمَا ذَلِك بِالسَّمَاعِ مِمَّن ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي وَقد كَانَ مَعْصُوما عَن مثل هَذَا الِاحْتِمَال فِي خَبره فَعرفنَا أَنه لَا يثبت الحكم ابْتِدَاء إِلَّا بِخَبَر يضاهي السماع مِنْهُ وَذَلِكَ بِأَن يبلغ حد التَّوَاتُر إِلَّا أَن فِي الْقَضَاء تركنَا هَذَا الشَّرْط لضَرُورَة بِالنَّاسِ فَإِنَّهُم يَحْتَاجُونَ إِلَى إِظْهَار حُقُوقهم بِالْحجَّةِ عِنْد القَاضِي وَلَا يتمكنون من مثل هَذَا الْخَبَر فِي كل حق يجب لبَعْضهِم على بعض قُلْنَا رَضِينَا بِهَذَا الْكَلَام ونقول حاجتنا إِلَى معرفَة أَحْكَام الدّين وَحُقُوق الله تَعَالَى علينا لنعمل بِهِ مثل حَاجَة من كَانَ فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحَضْرَتِهِ وَكَانُوا يسمعُونَ مِنْهُ وَمَعْلُوم أَن بعد تطاول الزَّمَان لَا يُوجد مثل هَذَا الْخَبَر فِي كل حكم من أَحْكَام الشَّرْع فَوَجَبَ أَن يَجْعَل خبر الْوَاحِد فِيهِ حجَّة للْعَمَل بِاعْتِبَار الظَّاهِر لتحَقّق الْحَاجة إِلَيْهِ كَمَا جعل مثل هَذِه الْحَاجة مُعْتَبرا فِي وجوب الْقَضَاء على القَاضِي بِالشَّهَادَةِ مَعَ بَقَاء الِاحْتِمَال مَعَ أَنه لَيْسَ الطَّرِيق مَا قَالُوا فِي بَاب الْقَضَاء فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يسمع الْخُصُومَة فِي حُقُوق الْعباد وَيَقْضِي بالشهادات والأيمان وَكَانَ يَقُول إِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ أَقْْضِي بِمَا أسمع فَمن قضيت لَهُ بِشَيْء من حق أَخِيه فَكَأَنَّمَا أقطع لَهُ قِطْعَة من النَّار وَمَعْلُوم أَن مثل هَذِه الضَّرُورَة مَا كَانَ يتَحَقَّق فِي حَقه فقد كَانَ الْوَحْي ينزل عَلَيْهِ وَلَو كَانَ توهم الْكَذِب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 فِي شَهَادَة الشُّهُود يمْنَع بِثُبُوت الْعلم فِي (حق) الْعَمَل بِشَهَادَتِهِم لما قضى رَسُول الله بِالشَّهَادَةِ قطّ فَإِنَّهُ كَانَ مُتَمَكنًا من الْقَضَاء بِعلم وَذَلِكَ بِأَن ينْتَظر نزُول الْوَحْي عَلَيْهِ فَمَا كَانَ يجوز لَهُ أَن يقْضِي بِغَيْر علم وَقد نقل قضاياه مَشْهُورا بالشهادات والأيمان فَهُوَ دَلِيل على صِحَة مَا قُلْنَا والْآثَار عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد أَكثر من أَن تحصى وَأشهر من أَن تخفى ذكر مُحَمَّد رَحمَه الله بَعْضهَا فِي الِاسْتِحْسَان وَأورد أَكْثَرهَا عِيسَى بن أبان رَحمَه الله مستدلا بِجَوَاز الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد وَلَكنَّا لم نشتغل بهَا لشهرتها ولعلمنا أَن الْخُصُوم يتعنتون فَيَقُولُونَ كَيفَ يحتجون على وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد بالآحاد من الْأَخْبَار وَهُوَ نفس الْخلاف فَلهَذَا اشتغلنا بالاستدلال بِمَا هُوَ شبه المحسوس فَكَأَن عِيسَى ابْن أبان إِنَّمَا اسْتدلَّ بهَا لكَونهَا مَشْهُورَة فِي حيّز التَّوَاتُر وَلِأَن الْعَمَل بِالْقِيَاسِ جَائِز فِيمَا لَا نَص فِيهِ ثَبت ذَلِك بِاتِّفَاق الصَّحَابَة وَخبر الْوَاحِد أقوى من الْقيَاس لِأَن الْمَعْمُول بِهِ وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا شُبْهَة فِيهِ وَإِنَّمَا الشُّبْهَة فِي طَرِيق الِاتِّصَال بِهِ وَفِي الْقيَاس الشُّبْهَة وَالِاحْتِمَال فِي الْمَعْنى الْمَعْمُول بِهِ وَالطَّرِيق فيهمَا غَالب الرَّأْي فَكَانَ جَوَاز الْعَمَل بِالْقِيَاسِ دَلِيلا على جَوَاز الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد بِالطَّرِيقِ الأولى يقرره أَن الْعَاميّ إِذا سَأَلَ الْمُفْتِي حادثته فَأفْتى بِشَيْء يلْزمه الْعَمَل بِهِ وَلَو سَأَلَهُ عَن اعْتِقَاده فِي ذَلِك فَأخْبر أَنه مُعْتَقد لما يفتيه بِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَن يعْتَمد قَوْله وَفِيه احْتِمَال السَّهْو وَالْكذب وَلَكِن بِاعْتِبَار فقهه يتَرَجَّح جَانب الْإِصَابَة وَبِاعْتِبَار عَدَالَته يتَرَجَّح جَانب الصدْق فِيهِ فَيجب الْعَمَل بِهِ فَكَذَلِك فِيمَا يخبر بِهِ الْعدْل لِأَن جَانب الصدْق يتَرَجَّح بِظُهُور عَدَالَته وَمَا قَالُوا إِن فِي هَذَا إِثْبَات زِيَادَة دَرَجَة لخَبر غير الْمَعْصُوم على خبر الْمَعْصُوم غلط بَين فَإِن الْحَاجة إِلَى ظُهُور المعجزات لثُبُوت علم الْيَقِين بنبوته وليكون خَبره مُوجبا علم الْيَقِين وَلَا يثبت مثل ذَلِك بِخَبَر مثل هَذَا الْمخبر أَلا ترى أَن الْعَمَل بِخَبَر الْمخبر فِي الْمُعَامَلَات جَائِز عدلا كَانَ أَو فَاسِقًا إِذا وَقع فِي قلب السَّامع أَنه صَادِق وَلَا يكون فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 هَذَا قولا بِزِيَادَة خَبره على خبر الْمَعْصُوم عَن الْكَذِب وَأما من قَالَ بِأَن خبر الْوَاحِد يُوجب الْعلم فقد اسْتدلَّ بِمَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لِمعَاذ حِين وَجهه إِلَى الْيمن ثمَّ أعلمهم أَن الله تَعَالَى فرض عَلَيْهِم صَدَقَة فِي أَمْوَالهم وَمرَاده الْإِعْلَام بالإخبار وَأما إِذا لم يكن خبر الْوَاحِد مُوجبا للْعلم للسامع لَا يكون ذَلِك إعلاما وَلِأَن الْعَمَل يجب بِخَبَر الْوَاحِد وَلَا يجب الْعَمَل إِلَّا بِعلم قَالَ تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَلِأَن الله تَعَالَى قَالَ فِي نبأ الْفَاسِق {أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة} وضد الْجَهَالَة الْعلم وضد الْفسق الْعَدَالَة فَفِي هَذَا بَيَان أَن الْعلم إِنَّمَا لَا يَقع بِخَبَر الْفَاسِق وَأَنه يثبت بِخَبَر الْعدْل ثمَّ قد يثبت بالآحاد من الْأَخْبَار مَا يكون الحكم فِيهِ الْعلم فَقَط نَحْو عَذَاب الْقَبْر وسؤال مُنكر وَنَكِير ورؤية الله تَعَالَى بالأبصار فِي الْآخِرَة فَبِهَذَا وَنَحْوه يتَبَيَّن أَن خبر الْوَاحِد مُوجب للْعلم وَلَكنَّا نقُول هَذَا الْقَائِل كَأَنَّهُ خَفِي عَلَيْهِ الْفرق بَين سُكُون النَّفس وطمأنينة الْقلب وَبَين علم الْيَقِين فَإِن بَقَاء احْتِمَال الْكَذِب فِي خبر غير الْمَعْصُوم معاين لَا يُمكن إِنْكَاره وَمَعَ الشُّبْهَة وَالِاحْتِمَال لَا يثبت الْيَقِين وَإِنَّمَا يثبت سُكُون النَّفس وطمأنينة الْقلب بترجح جَانب الصدْق بِبَعْض الْأَسْبَاب وَقد بَينا فِيمَا سبق أَن علم الْيَقِين لَا يثبت بالمشهور من الْأَخْبَار بِهَذَا الْمَعْنى فَكيف يثبت بِخَبَر الْوَاحِد وطمأنينة الْقلب نوع علم من حَيْثُ الظَّاهِر فَهُوَ المُرَاد بقوله (ثمَّ أعلمهم) وَيجوز الْعَمَل بِاعْتِبَارِهِ كَمَا يجوز الْعَمَل بِمثلِهِ فِي بَاب الْقبْلَة عِنْد الِاشْتِبَاه وينتفي بِاعْتِبَار مُطلق الْجَهَالَة لِأَنَّهُ يتَرَجَّح جَانب الصدْق بِظُهُور الْعَدَالَة بِخِلَاف خبر الْفَاسِق فَإِنَّهُ يتَحَقَّق فِيهِ الْمُعَارضَة من غير أَن يتَرَجَّح أحد الْجَانِبَيْنِ فَأَما الْآثَار المروية فِي عَذَاب الْقَبْر وَنَحْوهَا فبعضها مَشْهُورَة وَبَعضهَا آحَاد وَهِي توجب عقد الْقلب عَلَيْهِ والابتلاء بِعقد الْقلب على الشَّيْء بِمَنْزِلَة الِابْتِلَاء بِالْعَمَلِ بِهِ أَو أهم فَإِن ذَلِك لَيْسَ من ضرورات الْعلم قَالَ تَعَالَى {وجحدوا بهَا واستيقنتها أنفسهم} وَقَالَ تَعَالَى {يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم} فَتبين أَنهم تركُوا عقد الْقلب على ثُبُوته بعد الْعلم بِهِ وَفِي هَذَا بَيَان أَن هَذِه الْآثَار لَا تنفك عَن معنى وجوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 الْعَمَل بهَا ويحكى عَن النظام أَن خبر الْوَاحِد عِنْد اقتران بعض الْأَسْبَاب بِهِ مُوجب للْعلم ضَرُورَة قَالَ أَلا ترى أَن من مر بِبَاب فَرَأى آثَار غسل الْمَيِّت وَسمع عجوزا تخرج من الدَّار وَهِي تَقول مَاتَ فلَان فَإِنَّهُ يعلم مَوته ضَرُورَة بِهَذَا الْخَبَر لاقتران هَذَا السَّبَب بِهِ قَالَ وَهُوَ علم يحدثه الله تَعَالَى فِي قلب السَّامع بِمَنْزِلَة الْعلم للسامع بِخَبَر التَّوَاتُر إِذْ لَيْسَ فِي التَّوَاتُر إِلَّا مَجْمُوع الْآحَاد وَيجوز القَوْل بِأَن الله تَعَالَى يحدثه فِي قلب بعض السامعين دون الْبَعْض كَمَا أَنه يحدث الْوَلَد بِبَعْض الْوَطْء دون الْبَعْض وَهَذَا قَول بَاطِل فَإِن مَا يكون ثَابتا ضَرُورَة لَا يخْتَلف النَّاس فِيهِ بِمَنْزِلَة الْعلم الْوَاقِع بالمعاينة وَالْعلم الْوَاقِع بِخَبَر التَّوَاتُر ثمَّ فِي هَذَا إبِْطَال أَحْكَام الشَّرْع من الرُّجُوع إِلَى الْبَينَات والأيمان عِنْد تعَارض الدعْوَة وَالْإِنْكَار والمصير إِلَى اللّعان عِنْد قذف الزَّوْج زَوجته فَإِن الْقَرَائِن من أبين الْأَسْبَاب وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يكون خبر الزَّوْج مُوجبا الْعلم ضَرُورَة فَلَا يجوز للْقَاضِي عِنْد ذَلِك أَن يصير إِلَى اللّعان وَكَذَلِكَ فِي سَائِر الْخُصُومَات يَنْبَغِي أَن ينْتَظر إِلَى أَن يحصل لَهُ علم الضَّرُورَة بِخَبَر المخبرين فَيعْمل بِهِ واقتران المعجزات بأخبار الرُّسُل من أقوى الْأَسْبَاب ثمَّ الْعلم الْحَاصِل بِالنُّبُوَّةِ يكون كسبيا لَا ضَرُورِيًّا فَكيف يَسْتَقِيم مَعَ هَذَا لأحد أَن يَقُول إِن بِخَبَر الْوَاحِد يثبت الْعلم الضَّرُورِيّ بِحَال من الْأَحْوَال فَإِن قيل فقد قُلْتُمْ الْآن إِن من جحد الرسَالَة فَإِنَّمَا جحد بعد الْعلم بهَا فَدلَّ أَن الْعلم الضَّرُورِيّ كَانَ ثَابتا بالْخبر قُلْنَا إِنَّمَا كَانَ ذَلِك من قوم متعنتين عرفُوا نعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونبوته من كِتَابهمْ ثمَّ جَحَدُوا عنادا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِن فريقا مِنْهُم ليكتمون الْحق وهم يعلمُونَ} وَلَا يظنّ أحد أَن جَمِيع الْكفَّار كَانُوا عَالمين بذلك ضَرُورَة ثمَّ تواطؤا على الْجُحُود على ذَلِك لِأَن فِي هَذَا القَوْل نفي الْعلم بِخَبَر التَّوَاتُر فَإِن ثُبُوت الْعلم بِهِ بِاعْتِبَار انْتِفَاء تُهْمَة التواطؤ فَكيف يجوز إِثْبَات علم الضَّرُورِيّ عِنْد خبر الْوَاحِد بطرِيق يدل على نفي الْعلم بِخَبَر التَّوَاتُر وبمثله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 يتَبَيَّن عوار المبطلين وَالله ولي الْمُتَّقِينَ فَأَما خبر الْمخبر بِالْمَوْتِ إِنَّمَا يُوجب سُكُون النَّفس وطمأنينة الْقلب أَلا ترى أَنه إِذا شككه آخر بقوله اختفى صَاحب الدَّار من السُّلْطَان فأظهر هَذَا تشكك فِيهِ وَلَو كَانَ الثَّابِت لَهُ علما ضَرُورِيًّا لما تشكك فِيهِ بِخَبَر الْوَاحِد وَأما من شَرط عدد الشَّهَادَة اسْتدلَّ فِيهِ بالنصوص الْوَارِدَة فِي بَاب الشَّهَادَات فَإِن الشَّرْع اعْتبر ذَلِك لثُبُوت الْعلم على وَجه يجب الْعَمَل بِهِ فَعرفنَا أَن بِدُونِ ذَلِك لَا يثبت الْعلم على وَجه يجب الْعَمَل بِهِ فِي خبر متميل بَين الصدْق وَالْكذب وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ حِين شهد عِنْده الْمُغيرَة بن شُعْبَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أطْعم الْجدّة السُّدس قَالَ ائْتِ بِشَاهِد آخر فَشهد مَعَه مُحَمَّد بن مسلمة رَضِي الله عَنهُ وَلما روى أَبُو مُوسَى لعمر خبر الاسْتِئْذَان فَقَالَ ائْتِ بِشَاهِد آخر فَشهد مَعَه أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنْهُم وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فِي حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس رَضِي الله عَنْهَا لَا نَدع كتاب رَبنَا وَلَا سنة نَبينَا لقَوْل امْرَأَة لَا نَدْرِي أصدقت أم كذبت وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي حَدِيث أبي سِنَان الْأَشْجَعِيّ رَضِي الله عَنهُ فِي مهر الْمثل مَاذَا نصْنَع بقول أَعْرَابِي بوال على عقبه فِي هَذَا بَيَان أَنهم كَانُوا لَا يقبلُونَ خبر الْوَاحِد وَكَانُوا يعتبرون لطمأنينة الْقلب عدد الشَّهَادَة كَمَا كَانُوا يعتبرون لذَلِك صفة الْعَدَالَة وَمن بَالغ فِي الِاحْتِيَاط فقد اعْتبر أقْصَى عدد الشَّهَادَة لِأَن مَا دون ذَلِك مُحْتَمل وَتَمام الرجحان عِنْد انْقِطَاع الِاحْتِمَال بِحَسب الْإِمْكَان وَلَكنَّا نستدل بقوله تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر} وَمَعْلُوم أَن هَذَا النَّعْت لكل مُؤمن فَهُوَ تنصيص على أَن قَول كل مُؤمن فِي بَاب الدّين يكون أمرا بِالْمَعْرُوفِ ونهيا عَن الْمُنكر وَإِنَّمَا يكون كَذَلِك إِذا كَانَ يجب الْعَمَل بِمَا يَأْمر بِهِ من الْمَعْرُوف فاشتراط الْعدَد فِي الْأَمريْنِ يكون زِيَادَة وَجَمِيع مَا ذكرنَا حجَّة على هَؤُلَاءِ وَلَا حجَّة لَهُم فِي شَيْء مِمَّا ذكرُوا فَإِن هَذِه الْآثَار إِنَّمَا تكون حجَّة لَهُم إِذا أثبتوا النَّقْل فِيهَا من اثْنَيْنِ عَن اثْنَيْنِ حَتَّى اتَّصل بهم لِأَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 بِدُونِ ذَلِك لَا تقوم الْحجَّة عِنْدهم وَلَا يتَمَكَّن أحد من إِثْبَات هَذَا فِي شَيْء من أَخْبَار الْآحَاد ثمَّ إِنَّمَا طلب أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ شَاهدا آخر من الْمُغيرَة لِأَنَّهُ شكّ فِي خَبره بِاعْتِبَار معنى وقف عَلَيْهِ أَو بِاعْتِبَار أَنه أخبر أَن هَذَا الْقَضَاء من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ بِمحضر من الْجَمَاعَة فَأحب أَن يستثبت لذَلِك وَكَذَلِكَ عمر رَضِي الله عَنهُ إِنَّمَا أَمر أَبَا مُوسَى أَن يَأْتِي بِشَاهِد آخر لِأَنَّهُ أخبر بِمَا تعم بِهِ الْبلوى فَيحْتَاج الْخَاص وَالْعَام إِلَى مَعْرفَته فَأحب أَن يستثبته وَلَو لم يَأْتِ بِشَاهِد آخر لَكَانَ يقبل حَدِيثه أَيْضا وَذكر بعض الْمُتَأَخِّرين من مَشَايِخنَا رَحِمهم الله أَنه لَا يقبل حَدِيثه لَو لم يَأْتِ بِشَاهِد آخر فِي ذَلِك الْوَقْت لِأَن فِي الروَاة يَوْمئِذٍ كَثْرَة فَكَانَ لَا تتَحَقَّق الضَّرُورَة فِي الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد وَمثله لَا يُوجد بعد تطاول الزَّمَان وَلَكِن الْأَصَح هُوَ الأول وَعَلِيهِ نَص مُحَمَّد رَحمَه الله فِي كتاب الِاسْتِحْسَان فَقَالَ لَو لم يَأْتِ بِشَاهِد آخر لَكَانَ يقبل حَدِيثه أَيْضا أَلا ترى أَنه قبل حَدِيث ضحاك بن سُفْيَان رَضِي الله عَنهُ فِي تَوْرِيث الْمَرْأَة من دِيَة زَوجهَا وَقبل حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ فِي الطَّاعُون حِين رَجَعَ من الشَّام وَقبل حَدِيثه أَيْضا فِي أَخذ الْجِزْيَة من الْمَجُوس وَلم يطْلب مِنْهُ شَاهدا آخر وَإِنَّمَا لم يقبل حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس لكَونه مُخَالفا للْكتاب وَالسّنة فَإِن السُّكْنَى لَهَا مَنْصُوص عَلَيْهِ فِي قَوْله {أسكنوهن من حَيْثُ سكنتم} وَهِي قَالَت وَلم يَجْعَل لي رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام نَفَقَة وَلَا سُكْنى وَإِنَّمَا لم يقبل عَليّ رَضِي الله عَنهُ حَدِيث أبي سِنَان لمَذْهَب لَهُ كَانَ ينْفَرد بِهِ وَهُوَ أَنه كَانَ لَا يقبل رِوَايَة الْأَعْرَاب وَكَانَ يحلف الرَّاوِي إِذا روى لَهُ حَدِيثا إِلَّا أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَلا ترى أَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ لما لم يكن هَذَا من مذْهبه قبل حَدِيث أبي سِنَان وسر بِهِ وَبَاب الشَّهَادَات لَيْسَ نَظِير بَاب الْأَخْبَار بالِاتِّفَاقِ فَفِي الشَّهَادَة كل امْرَأتَيْنِ تقومان مقَام رجل وَاحِد وَفِي الْأَخْبَار الرِّجَال وَالنِّسَاء سَوَاء وَلَكِن نقُول اشْتِرَاط الْعدَد فِي الشَّهَادَات عَرفْنَاهُ بِالنَّصِّ من غير أَن يعقل فِيهِ معنى فَإِن الْعلم الْحَاصِل بِخَبَر الْوَاحِد الْعدْل لَا يزْدَاد بانضمام مثله إِلَيْهِ وَانْتِفَاء تُهْمَة الْكَذِب لَا يحصل أَيْضا بنصاب الشَّهَادَة فَعرفنَا أَن ذَلِك مِمَّا اسْتَأْثر الله بِعِلْمِهِ وَالْوَاجِب علينا فِيهِ اتِّبَاع النَّص وَبَاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 الْأَخْبَار لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَلا ترى أَنه لَا اخْتِصَاص فِي بَاب الْأَخْبَار بِلَفْظ الشَّهَادَة وَلَا بِمَجْلِس الْقَضَاء وَأَن الشَّهَادَات الْمُوجبَة للْقَضَاء تخْتَص بذلك وَكَذَلِكَ حكم الْأَخْبَار لَا يخْتَلف باخْتلَاف الْمخبر بِهِ من أَحْكَام الدّين وتختلف باخْتلَاف الْمَشْهُود بِهِ فَيثبت بعض الْأَحْكَام بِشَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال وَلَا يثبت الْبَعْض وَيثبت الْبَعْض بِشَهَادَة امْرَأَة وَاحِدَة وَقد جعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَهَادَة خُزَيْمَة رَضِي الله عَنهُ حجَّة تَامَّة وسنقرر هَذَا الْكَلَام فِي الْفَصْل الثَّانِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى فصل فِي بَيَان أَقسَام مَا يكون خبر الْوَاحِد فِيهِ حجَّة قَالَ رَضِي الله عَنهُ هَذِه أَرْبَعَة أَقسَام أَحدهَا أَحْكَام الشَّرْع الَّتِي هِيَ فروع الدّين فِيمَا يحْتَمل النّسخ والتبديل فَإِنَّهَا وَاجِبَة لله تَعَالَى علينا يلْزمنَا أَن ندين بهَا وَهِي نَوْعَانِ مَا لَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ كالعبادات وَغَيرهَا وَخبر الْوَاحِد الْعدْل حجَّة فِيهَا لإِيجَاب الْعَمَل من غير اشْتِرَاط عدد وَلَا لفظ بل بأوصاف تشْتَرط فِي الْمخبر على مَا نبينه وَهَذَا لِأَن الْمُعْتَبر فِيهِ رُجْحَان جَانب الصدْق لَا انْتِفَاء احْتِمَال الْكَذِب وَذَلِكَ حَاصِل من غير عدد وَلَا تعْيين لفظ وَلَيْسَ لزِيَادَة الْعدَد وَتَعْيِين اللَّفْظ تَأْثِير فِي انْتِفَاء تُهْمَة الْكَذِب وَالصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم كَانُوا يقبلُونَ مثل هَذِه الْأَخْبَار من الْوَاحِد لإِيجَاب الْعَمَل من غير اشْتِرَاط زِيَادَة الْعدَد إِلَّا على سَبِيل الِاحْتِيَاط من بَعضهم نَحْو مَا رُوِيَ أَن عليا رَضِي الله عَنهُ كَانَ يحلف الرَّاوِي على مَا قَالَ كنت إِذا لم أسمع حَدِيثا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحَدثني بِهِ غَيره حلفته وحَدثني أَبُو بكر وَصدق أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ مَا أذْنب عبد ذَنبا ثمَّ تَوَضَّأ فَأحْسن الْوضُوء وَصلى ثمَّ اسْتغْفر ربه إِلَّا غفر لَهُ فَفِي هَذَا بَيَان أَنه كَانَ يحْتَاط فَيحلف الرَّاوِي وَمَا كَانَ يشْتَرط زِيَادَة الْعدَد وَلَا تعْيين لفظ الشَّهَادَة فَلَو كَانَ ذَلِك شرطا لاستوى فِيهِ المتقدمون والمتأخرون كَمَا فِي الشَّهَادَات فِي الْأَحْكَام وَأما مَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ فقد رُوِيَ عَن أبي يُوسُف رَحمَه الله فِي الأمالي أَن خبر الْوَاحِد فِيهِ حجَّة أَيْضا وَهُوَ اخْتِيَار الْجَصَّاص رَحمَه الله وَكَانَ الْكَرْخِي رَحمَه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 الله يَقُول خبر الْوَاحِد فِيهِ لَا يكون حجَّة وَجه القَوْل الأول أَن الْمُعْتَبر فِي خبر الْوَاحِد ليَكُون حجَّة ترجح جَانب الصدْق وَعند ذَلِك يكون الْعَمَل بِهِ وَاجِبا فِيمَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ وَفِيمَا يثبت بِالشُّبُهَاتِ كَمَا فِي الْبَينَات وَلَو كَانَ مُجَرّد الِاحْتِمَال مَانِعا للْعَمَل فِيمَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ لم يجز الْعَمَل فِيهَا بِالْبَيِّنَةِ وَكَذَلِكَ يجوز الْعَمَل فِيهَا بِدلَالَة النَّص مَعَ بَقَاء الِاحْتِمَال وَوجه القَوْل الآخر أَن فِي اتِّصَال خبر الْوَاحِد بِمن يكون قَوْله حجَّة مُوجبَة للْعلم شُبْهَة وَمَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ لَا يجوز إثْبَاته بِمَا فِيهِ شُبْهَة أَلا ترى أَنه لَا يجوز إثْبَاته بِالْقِيَاسِ وَإِنَّمَا جَوَّزنَا إثْبَاته بالشهادات بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَة مِنْكُم} وَمَا كَانَ ثَابتا بِالنَّصِّ بِخِلَاف الْقيَاس لَا يلْحق بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ من كل وَجه وَخبر الْوَاحِد لَيْسَ فِي معنى الشَّهَادَة من كل وَجه وَالْقسم الثَّانِي حُقُوق الْعباد الَّتِي فِيهَا إِلْزَام مَحْض ويشترك فِيهَا أهل الْملَل وَهَذَا لَا يثبت بِخَبَر الْوَاحِد إِلَّا بِشَرْط الْعدَد وَتَعْيِين لفظ الشَّهَادَة والأهلية وَالْولَايَة لِأَنَّهَا تبتنى على منازعات متحققة بَين النَّاس بعد التَّعَارُض بَين الدَّعْوَى وَالْإِنْكَار وَإِنَّمَا شرعت مرجحة لأحد الْجَانِبَيْنِ فَلَا يصلح نفس الْخَبَر مرجحا للْخَبَر إِلَّا بِاعْتِبَار زِيَادَة توكيد من لفظ شَهَادَة أَو يَمِين فهما للتوكيد أَلا ترى أَن كَلِمَات اللّعان شرع فِيهَا لفظ الشَّهَادَة وَالْيَمِين للتوكيد وَزِيَادَة الْعدَد أَيْضا للتوكيد وطمأنينة الْقلب إِلَى قَول الْمثنى أظهر إِذْ الْوَاحِد يمِيل إِلَى الْوَاحِد عَادَة قَلما يتَّفق الِاثْنَان على الْميل إِلَى الْوَاحِد فِي حَادِثَة وَاحِدَة وَلِأَن الْخُصُومَات إِنَّمَا تقع بِاعْتِبَار الهمم الْمُخْتَلفَة للنَّاس والمصير إِلَى التزوير والاشتغال بالحيل والأباطيل فِيهَا ظَاهر فَجَعلهَا الشَّرْع حجَّة بِشَرْط زِيَادَة الْعدَد وَتَعْيِين لفظ الشَّهَادَة تقليلا لِمَعْنى الْحِيَل والتزوير فِيهَا بِحَسب وسع الْقُضَاة وَلَيْسَ هَذَا نَظِير الْقسم الأول فَإِن السَّامع هُنَاكَ حَاجته إِلَى الدَّلِيل للْعَمَل بِهِ لَا إِلَى رفع دَلِيل مَانع وَخبر الْوَاحِد بِاعْتِبَار حسن الظَّن بالراوي دَلِيل صَالح لذَلِك فَأَما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 فِي المنازعات فالحاجة إِلَى رفع مَا مَعَه من الدَّلِيل وَهُوَ الْإِنْكَار الَّذِي هُوَ معَارض لدعوى الْمُدَّعِي فاشتراط الزِّيَادَة فِي الْخَبَر هُنَا لهَذَا الْمَعْنى وَمن الْقسم الأول الشَّهَادَة على رُؤْيَة هِلَال رَمَضَان إِذا كَانَ بالسماء عِلّة فالثابت بِهِ حق الله تَعَالَى على عباده وَهُوَ أَدَاء الصَّوْم وَمن الْقسم الثَّانِي الشَّهَادَة على هِلَال الْفطر فالثابت بِهِ حق الْعباد لِأَن فِي الْفطر مَنْفَعَة لَهُم وَهُوَ مُلْزم إيَّاهُم وَمن ذَلِك أَيْضا الْإِخْبَار بِالْحُرْمَةِ بِسَبَب الرَّضَاع فِي ملك النِّكَاح أَو ملك الْيَمين فَإِنَّهُ يبتني على زَوَال الْملك لِأَن ثُبُوت الْحل لَا يكون بِدُونِ الْملك فانتفاؤه يُوجب انْتِفَاء الْملك وَالْملك من حُقُوق الْعباد فَإِن كَانَ الْحل وَالْحُرْمَة من حُقُوق الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْإِخْبَار بِالْحُرْمَةِ فِي الْأمة فَإِن حُرْمَة الْفرج وَإِن كَانَ من حق الله تَعَالَى فثبوتها يبتني على زَوَال الْملك الَّذِي هُوَ حق الْعباد فَلَا يكون خبر الْوَاحِد حجَّة فِيهَا بِدُونِ شَرَائِط الشَّهَادَة بِخِلَاف الْخَبَر بِطَهَارَة المَاء ونجاسته وَالْخَبَر بِحل الطَّعَام وَالشرَاب وحرمته فَإِن ذَلِك من الْقسم الأول لِأَن ثُبُوت الْملك لَيْسَ من ضَرُورَة ثُبُوت الْحل فِيهِ وَزَوَال الْحل لَا يبتنى على زَوَال الْملك فِيهِ ضَرُورَة وَمِمَّا اخْتلفُوا فِيهِ التَّزْكِيَة فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف رَضِي الله عَنْهُمَا هِيَ من الْقسم الأول لَا يعْتَبر فِيهَا الْعدَد وَلَا لفظ الشَّهَادَة لِأَن الثَّابِت بهَا تقرر الْحجَّة وَجَوَاز الْقَضَاء وَذَلِكَ حق الشَّرْع وَعند مُحَمَّد رَحمَه الله هُوَ نَظِير الْقسم الثَّانِي فِي اشْتِرَاط الْعدَد فِيهَا لِأَنَّهُ يتَعَلَّق بهَا مَا هُوَ حق الْعباد وَهُوَ اسْتِحْقَاق الْقَضَاء للْمُدَّعِي بِحقِّهِ وَالْقسم الثَّالِث الْمُعَامَلَات الَّتِي تجْرِي بَين الْعباد مِمَّا لَا يتَعَلَّق بهَا اللُّزُوم أصلا وَخبر الْوَاحِد فِيهَا حجَّة إِذا كَانَ الْمخبر مُمَيّزا عدلا كَانَ أَو غير عدل صَبيا كَانَ أَو بَالغا كَافِرًا كَانَ أَو مُسلما وَذَلِكَ نَحْو الوكالات والمضاربات وَالْإِذْن للعبيد فِي التِّجَارَة وَالشِّرَاء من الوكلاء والملاك حَتَّى إِذا أخبرهُ صبي مُمَيّز أَو كَافِر أَو فَاسق أَن فلَانا وَكله أَو أَن مَوْلَاهُ أذن لَهُ فَوَقع فِي قلبه أَنه صَادِق يجوز لَهُ أَن يشْتَغل بِالتَّصَرُّفِ بِنَاء على خَبره فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقبل هَدِيَّة الطَّعَام من الْبر التقي وَغَيره وَكَانَ يَشْتَرِي من الْكَافِر أَيْضا والمعاملات بَين النَّاس فِي الْأَسْوَاق من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 لدن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى يَوْمنَا هَذَا ظَاهر لَا يخفى على وَاحِد مِنْهُم لَا يشترطون الْعَدَالَة فِيمَن يعاملونه وَأَنَّهُمْ يعتمدون خبر كل مُمَيّز يُخْبِرهُمْ بذلك لما فِي اشْتِرَاط الْعَدَالَة فِيهِ من الْحَرج الْبَين وَالْفرق بَين هَذَا وَبَين مَا سبق من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن الضَّرُورَة (هُنَا) تتَحَقَّق بِالْحَاجةِ إِلَى قبُول خبر كل مُمَيّز لِأَن الْإِنْسَان قَلما يجد الْعدْل ليَبْعَثهُ إِلَى غُلَامه أَو وَكيله وَلَا دَلِيل مَعَ السَّامع سوى هَذَا الْخَبَر وَلَا يتَمَكَّن من الرُّجُوع إِلَيْهِ للْعَمَل وَكَذَلِكَ الْمُتَصَرف مَعَ الْوَكِيل فَإِن أقْصَى مَا يُمكنهُ أَن يرجع إِلَى الْمُوكل وَلَعَلَّه غَاصِب غير مَالك أَيْضا وللضرورة تَأْثِير فِي التَّخْفِيف وَلَا يتَحَقَّق مثل هَذِه الضَّرُورَة فِي الْأَخْبَار فِيمَا يرجع إِلَى أَحْكَام الشَّرْع لِأَن فِي الْعُدُول من الروَاة كَثْرَة ويتمكن السَّامع من الرُّجُوع إِلَى دَلِيل آخر يعْمل بِهِ إِذا لم يَصح الْخَبَر عِنْده وَهُوَ الْقيَاس الصَّحِيح وَالثَّانِي وَهُوَ أَن هَذِه الْأَخْبَار غير ملزمة لِأَن العَبْد وَالْوَكِيل يُبَاح لَهما الْإِقْدَام على التَّصَرُّف من غير أَن يلْزمهُمَا ذَلِك وَاشْتِرَاط الْعَدَالَة ليترجح جَانب الصدْق من الْخَبَر فيصلح أَن يكون ملزما وَذَلِكَ فِيمَا يتَعَلَّق بِهِ اللُّزُوم من أَحْكَام الشَّرْع دون مَا لَا يتَعَلَّق بِهِ اللُّزُوم من الْمُعَامَلَات ثمَّ هَذِه الْحَالة حَالَة المسالمة وَاشْتِرَاط زِيَادَة الْعدَد وَاللَّفْظ فِي الشَّهَادَة إِنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَار الْمُنَازعَة وَالْخُصُومَة فَيسْقط اعْتِبَار ذَلِك عِنْد المسالمة وعَلى هَذَا بنى الْمسَائِل فِي آخر الِاسْتِحْسَان فَقَالَ إِذا قَالَ كَانَ هَذَا الْعين لي فِي يَد فلَان غصبا فأخذتها مِنْهُ لم يجز للسامع أَن يعْتَمد خَبره لِأَنَّهُ فِي خَبره يُشِير إِلَى الْمُنَازعَة وَلَو قَالَ تَابَ من غصبه فَرده على جَازَ أَن يعْتَمد خَبره إِذا وَقع فِي قلبه أَنه صَادِق لِأَنَّهُ يُشِير إِلَى المسالمة وَكَذَلِكَ لَو تزوج امْرَأَة فَأخْبرهُ مخبر بِأَنَّهَا حرمت عَلَيْهِ بِسَبَب عَارض من رضَاع أَو غَيره يجوز لَهُ أَن يعْتَمد خَبره ويتزوج أُخْتهَا وَلَو أخبرهُ أَنَّهَا كَانَت مُحرمَة عَلَيْهِ عِنْد العقد لم يقبل خَبره لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحُرْمَة الطارئة معنى الْمُنَازعَة وَفِي الْمُقَارنَة للْعقد يتَحَقَّق ذَلِك فإقدامه على مُبَاشرَة العقد تَصْرِيح مِنْهُ بِأَنَّهَا حَلَال لَهُ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَة إِذا أخْبرت بِأَن الزَّوْج طَلقهَا وَهُوَ غَائِب يجوز لَهَا أَن تعتمد خبر الْمخبر وتتزوج بعد انْقِضَاء الْعدة بِخِلَاف مَا إِذا أخْبرت أَن العقد كَانَ بَينهمَا بَاطِلا فِي الأَصْل بِمَعْنى من الْمعَانِي والمسائل على هَذَا الأَصْل كَثِيرَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وَالْقسم الرَّابِع مَا يتَعَلَّق بِهِ اللُّزُوم من وَجه دون وَجه من الْمُعَامَلَات وَذَلِكَ نَحْو الْحجر على العَبْد الْمَأْذُون وعزل الْوَكِيل فَإِن الْحجر نَظِير الْإِطْلَاق فَمن هَذَا الْوَجْه هُوَ غير مُلْزم إِيَّاه شَيْئا وَلكنه لَو تصرف بعد ثُبُوت الْحجر كَانَ ذَلِك ملزما إِيَّاه الْعهْدَة فَفِي هَذَا الْخَبَر معنى اللُّزُوم من هَذَا الْوَجْه ثمَّ على قَول أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ يشْتَرط فِي هَذَا الْخَبَر أحد شرطي الشَّهَادَة إِمَّا الْعدَد أَو الْعَدَالَة وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد هَذَا نَظِير مَا سبق وَالشّرط فِيهِ أَن يكون الْمخبر مُمَيّزا عدلا كَانَ أَو غير عدل حَتَّى إِذا أخبر فَاسق العَبْد بِأَن مَوْلَاهُ قد حجر عَلَيْهِ يصير مَحْجُورا عِنْدهمَا اعْتِبَارا للحجر بِالْإِطْلَاقِ فَالْمَعْنى الَّذِي ذكرنَا فِيهِ مَوْجُود هُنَا وَقِيَاسًا للمخبر الْفُضُولِيّ على مَا إِذا كَانَ رَسُول الْمولى وَكَذَلِكَ إِذا أخبر الْوَكِيل بِأَن الْمُوكل عَزله أَو أخْبرت الْبكر بِأَن وَليهَا زَوجهَا فَسَكَتَتْ أَو أخبر الشَّفِيع بِبيع الدَّار فَسكت عَن طلب الشُّفْعَة أَو أخبر الْمولى بِأَن عَبده جنى فَأعْتقهُ ف أَبُو حنيفَة يَقُول فِي هَذِه الْفُصُول كلهَا خبر الْفَاسِق غير مُعْتَبر إِذا نَشأ الْخَبَر من عِنْده لِأَن فِيهِ معنى اللُّزُوم فَإِنَّهُ يلْزمه الْكَفّ عَن التَّصَرُّف إِذا أخبرهُ بِالْحجرِ والعزل ويلزمها النِّكَاح إِذا سكتت بعد الْعلم والكف عَن طلب الشُّفْعَة إِذا سكت بعد الْعلم وَالدية إِذا أعتق بعد الْعلم بِالْجِنَايَةِ وَخبر الْفَاسِق لَا يكون ملزما لِأَن التَّوَقُّف فِي خبر الْفَاسِق ثَابت بِالنَّصِّ وَمن ضَرُورَته أَن لَا يكون ملزما بِخِلَاف الرَّسُول فَإِن عِبَارَته كعبارة الْمُرْسل ثمَّ بالمرسل حَاجَة إِلَى تَبْلِيغ ذَلِك وقلما يجد عدلا يَسْتَعْمِلهُ فِي الْإِرْسَال إِلَى عَبده ووكيله فَأَما الْفُضُولِيّ فمتكلف لَا حَاجَة بِهِ إِلَى هَذَا التَّبْلِيغ وَالسَّامِع غير مُحْتَاج إِلَيْهِ أَيْضا لِأَنَّهُ مَعَه دَلِيل يعتمده للتَّصَرُّف إِلَى أَن يبلغهُ مَا يرفعهُ فَلهَذَا شرطنا الْعَدَالَة فِي الْخَبَر فِي هَذَا الْقسم وَلَا يشْتَرط الْعدَد لِأَن اشْتِرَاطهَا لأجل مُنَازعَة متحققة وَذَلِكَ غير مَوْجُود هُنَا فَإِن كَانَ الْمخبر هُنَا فاسقين فقد قَالَ بَعضهم يثبت بخبرهما لوُجُود أحد الشَّرْطَيْنِ وَقَالَ بَعضهم لَا يثبت لِأَن خبر الْفَاسِقين لَا يصلح للإلزام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 كَخَبَر الْفَاسِق الْوَاحِد وَلَفظ الْكتاب مشتبه فَإِنَّهُ قَالَ حَتَّى يُخبرهُ رجلَانِ أَو رجل عدل فَقيل مَعْنَاهُ رجلَانِ عدل أَو رجل عدل لِأَن صِيغَة هَذَا النَّعْت للفرد وَالْجَمَاعَة وَاحِد أَلا ترى أَنه يُقَال شَاهدا عدل وَمن اعْتمد القَوْل الأول قَالَ اشْتِرَاط زِيَادَة الْعدَد للتوكيد هُنَا بِمَنْزِلَة اشْتِرَاط الْعدَد فِي إِخْبَار الْعُدُول فِي الشَّهَادَات فَإِنَّهَا للتوكيد وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بِمَا قَالَ فِي الِاسْتِحْسَان لَو أخبر أحد المخبرين بِطَهَارَة المَاء وَالْآخر بِنَجَاسَتِهِ وَأَحَدهمَا عدل وَالْآخر غير عدل فَإِنَّهُ يعْتَمد خبر الْعدْل مِنْهُمَا وَلَو كَانَ فِي أحد الْجَانِبَيْنِ مخبران وَفِي الْجَانِب الآخر وَاحِد واستووا فِي صفة الْعَدَالَة فَإِنَّهُ يَأْخُذ بقول الِاثْنَيْنِ وَكَذَلِكَ فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل كَمَا يرجح خبر الْعدْل على خبر غير الْعدْل يتَرَجَّح خبر الْمثنى من الْعُدُول على خبر الْوَاحِد فَعرفنَا أَن فِي زِيَادَة الْعدَد معنى التوكيد وَالَّذِي أسلم فِي دَار الْحَرْب إِذا لم يعلم بِوُجُوب الْعِبَادَات عَلَيْهِ حَتَّى مضى زمَان لم يلْزمه الْقَضَاء فَإِن أخبرهُ بذلك فَاسق فقد قَالَ مَشَايِخنَا هُوَ على الْخلاف أَيْضا عِنْد أبي حنيفَة لَا يعْتَبر هَذَا الْخَبَر فِي إِيجَاب الْقَضَاء عَلَيْهِ وَعِنْدَهُمَا يعْتَبر قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَنه يعْتَبر الْخَبَر هُنَا فِي إِيجَاب الْقَضَاء عِنْدهم جَمِيعًا لِأَن هَذَا الْمخبر نَائِب عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَأْمُور من جِهَته بالتبليغ كَمَا قَالَ أَلا فليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب فَهُوَ بِمَنْزِلَة رَسُول الْمَالِك إِلَى عَبده ثمَّ هُوَ غير متكلف فِي هَذَا الْخَبَر وَلكنه مسْقط عَن نَفسه مَا لزمَه من الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ فَلهَذَا يعْتَبر خَبره فصل فِي أَقسَام الروَاة الَّذين يكون خبرهم حجَّة قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الروَاة قِسْمَانِ مَعْرُوف ومجهول فالمعروف نَوْعَانِ من كَانَ مَعْرُوفا بالفقه والرأي فِي الِاجْتِهَاد وَمن كَانَ مَعْرُوفا بِالْعَدَالَةِ وَحسن الضَّبْط وَالْحِفْظ وَلكنه قَلِيل الْفِقْه فالنوع الأول كالخلفاء الرَّاشِدين والعبادلة وَزيد بن ثَابت ومعاذ بن جبل وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَعَائِشَة وَغَيرهم من الْمَشْهُورين بالفقه من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وخبرهم حجَّة مُوجبَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 للْعلم الَّذِي هُوَ غَالب الرَّأْي ويبتنى عَلَيْهِ وجوب الْعَمَل سَوَاء كَانَ الْخَبَر مُوَافقا للْقِيَاس أَو مُخَالفا لَهُ فَإِن كَانَ مُوَافقا للْقِيَاس تأيد بِهِ وَإِن كَانَ مُخَالفا للْقِيَاس يتْرك الْقيَاس وَيعْمل بالْخبر وَكَانَ مَالك بن أنس يَقُول يقدم الْقيَاس على خبر الْوَاحِد فِي الْعَمَل بِهِ لِأَن الْقيَاس حجَّة بِإِجْمَاع السّلف من الصَّحَابَة وَدَلِيل الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع أقوى من خبر الْوَاحِد فَكَذَلِك مَا يكون ثَابتا بِالْإِجْمَاع وَلَكنَّا نقُول ترك الْقيَاس بالْخبر الْوَاحِد فِي الْعَمَل بِهِ أَمر مَشْهُور فِي الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ من السّلف لَا يُمكن إِنْكَاره حَتَّى يسمون ذَلِك معدولا بِهِ عَن الْقيَاس وَعَلِيهِ دلّ حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ فَإِن حمل ابْن مَالك رَضِي الله عَنهُ حِين روى لَهُ حَدِيث الْغرَّة فِي الْجَنِين قَالَ كدنا أَن نقضي فِيهِ برأينا فِيمَا فِيهِ قَضَاء عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخِلَاف مَا قضى بِهِ وَفِي رِوَايَة لَوْلَا مَا رويت لرأينا خلاف ذَلِك وَقَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ كُنَّا نخابر وَلَا نرى بذلك بَأْسا حَتَّى أخبرنَا رَافع بن خديج رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام نهى عَن إكراء الْمزَارِع فتركناه لأجل قَوْله وَلِأَن قَول الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُوجب للْعلم بِاعْتِبَار أَصله وَإِنَّمَا الشُّبْهَة فِي النَّقْل عَنهُ فَأَما الْوَصْف الَّذِي بِهِ الْقيَاس فالشبهة وَالِاحْتِمَال فِي أَصله لأَنا لَا نعلم يَقِينا أَن ثُبُوت الحكم الْمَنْصُوص بِاعْتِبَار هَذَا الْوَصْف من بَين سَائِر الْأَوْصَاف وَمَا يكون الشُّبْهَة فِي أَصله دون مَا تكون الشُّبْهَة فِي طَرِيقه بعد التيقن بِأَصْلِهِ يُوضحهُ أَن الشُّبْهَة هُنَا بِاعْتِبَار توهم الْغَلَط وَالنِّسْيَان فِي الرَّاوِي وَذَلِكَ عَارض وَهُنَاكَ بِاعْتِبَار التَّرَدُّد بَين هَذَا الْوَصْف وَسَائِر الْأَوْصَاف وَهُوَ أصل ثمَّ الْوَصْف الَّذِي هُوَ معنى من الْمَنْصُوص كالخبر والرأي وَالنَّظَر فِيهِ كالسماع وَالْقِيَاس كالعمل بِهِ وَلَا شكّ أَن الْوَصْف سَاكِت عَن الْبَيَان وَالْخَبَر بَيَان فِي نَفسه فَيكون الْخَبَر أقوى من الْوَصْف فِي الْإِبَانَة وَالسَّمَاع أقوى من الرَّأْي فِي الْإِصَابَة وَلَا يجوز ترك الْقوي بالضعيف فَأَما الْمَعْرُوف بِالْعَدَالَةِ والضبط وَالْحِفْظ كَأبي هُرَيْرَة وَأنس بن مَالك رَضِي الله عَنْهُمَا وَغَيرهمَا مِمَّن اشْتهر بالصحبة مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالسَّمَاع مِنْهُ مُدَّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 طَوِيلَة فِي الْحَضَر وَالسّفر فَإِن أَبَا هُرَيْرَة مِمَّن لَا يشك أحد فِي عَدَالَته وَطول صحبته مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى قَالَ لَهُ (زر غبا تَزْدَدْ حبا) وَكَذَلِكَ فِي حسن حفظه وَضَبطه فقد دَعَا لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك على مَا رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ يَزْعمُونَ أَن أَبَا هُرَيْرَة يكثر الرِّوَايَة وَإِنِّي كنت أصحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ملْء بَطْني وَالْأَنْصَار يشتغلون بِالْقيامِ على أَمْوَالهم والمهاجرون بتجاراتهم فَكنت أحضر إِذا غَابُوا وَقد حضرت مَجْلِسا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ (من يبسط مِنْكُم رِدَاءَهُ حَتَّى أفيض فِيهِ مَقَالَتي فيضمها إِلَيْهِ ثمَّ لَا ينساها) فبسطت بردة كَانَت عَليّ فَأَفَاضَ فِيهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مقَالَته ثمَّ ضممتها إِلَى صَدْرِي فَمَا نسيت بعد ذَلِك شَيْئا وَلَكِن مَعَ هَذَا قد اشْتهر من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنهُ وَمن بعدهمْ مُعَارضَة بعض رواياته بِالْقِيَاسِ هَذَا ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا لما سَمعه يروي (توضؤوا مِمَّا مسته النَّار) قَالَ أَرَأَيْت لَو تَوَضَّأت بِمَاء سخن أَكنت تتوضأ مِنْهُ أَرَأَيْت لَو ادهن أهلك بدهن فادهنت بِهِ شاربك أَكنت تتوضأ مِنْهُ فقد رد خَبره بِالْقِيَاسِ حَتَّى رُوِيَ أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ (لَهُ) يَا ابْن أخي إِذا أَتَاك الحَدِيث فَلَا تضرب لَهُ الْأَمْثَال وَلَا يُقَال إِنَّمَا رده بِاعْتِبَار نَص آخر عِنْده وَهُوَ مَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَتَى بكتف مؤربة فَأكلهَا وَصلى وَلم يتَوَضَّأ لِأَنَّهُ لَو كَانَ عِنْده نَص لما تكلم بِالْقِيَاسِ وَلَا أعرض عَن أقوى الحجتين أَو كَانَ سَبيله أَن يطْلب التَّارِيخ بَينهمَا ليعرف النَّاسِخ من الْمَنْسُوخ أَو أَن يخصص اللَّحْم من ذَلِك الْخَبَر بِهَذَا الحَدِيث فَحَيْثُ اشْتغل بِالْقِيَاسِ وَهُوَ مَعْرُوف بالفقه والرأي من بَين الصَّحَابَة على وَجه لَا يبلغ دَرَجَة أبي هُرَيْرَة فِي الْفِقْه ودرجته عرفنَا أَنه استخار التَّأَمُّل فِي رِوَايَته إِذا كَانَ مُخَالفا للْقِيَاس وَلما سَمعه يروي من حمل جَنَازَة فَليَتَوَضَّأ قَالَ أيلزمنا الْوضُوء فِي حمل عيدَان يابسة وَلما سَمِعت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن أَبَا هُرَيْرَة يروي أَن ولد الزِّنَا شَرّ الثَّلَاثَة قَالَت كَيفَ يَصح هَذَا وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 وَهَذَا عَام دخله خُصُوص وَرُوِيَ أَن عَائِشَة قَالَت لِابْنِ أَخِيهَا أَلا تعجب من كَثْرَة رِوَايَة هَذَا الرجل وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حدث بِأَحَادِيث لَو عدهَا عَاد لأحصاها وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ رَضِي الله عَنهُ كَانُوا يَأْخُذُونَ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَيدعونَ وَقَالَ لَو كَانَ ولد الزِّنَا شَرّ الثَّلَاثَة لما انْتظر بِأُمِّهِ أَن تضع وَهَذَا نوع قِيَاس وَلما بلغ عمر رَضِي الله عَنهُ أَن أَبَا هُرَيْرَة يروي مَا لَا يعرف قَالَ لتكفن عَن هَذَا أَو لألحقنك بجبال دوس فلمكان مَا اشْتهر من السّلف فِي هَذَا الْبَاب قُلْنَا مَا وَافق الْقيَاس من رِوَايَته فَهُوَ مَعْمُول بِهِ وَمَا خَالف الْقيَاس فَإِن تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ فَهُوَ مَعْمُول بِهِ وَإِلَّا فَالْقِيَاس الصَّحِيح شرعا مقدم على رِوَايَته فِيمَا ينسد بَاب الرَّأْي فِيهِ وَلَعَلَّ ظَانّا يظنّ أَن فِي مقالتنا ازدراء بِهِ ومعاذ الله من ذَلِك فَهُوَ مقدم فِي الْعَدَالَة وَالْحِفْظ والضبط كَمَا قَررنَا وَلَكِن نقل الْخَبَر بِالْمَعْنَى كَانَ مستفيضا فيهم وَالْوُقُوف على كل معنى أَرَادَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكَلَامِهِ أَمر عَظِيم فقد أُوتِيَ جَوَامِع الْكَلم على مَا قَالَ أُوتيت جَوَامِع الْكَلم وَاخْتصرَ لي اختصارا وَمَعْلُوم أَن النَّاقِل بِالْمَعْنَى لَا ينْقل إِلَّا بِقدر مَا فهمه من الْعبارَة وَعند قُصُور فهم السَّامع رُبمَا يذهب عَلَيْهِ بعض المُرَاد وَهَذَا الْقُصُور لَا يشكل عِنْد الْمُقَابلَة بِمَا هُوَ فقه (لفظ) رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلتوهم هَذَا الْقُصُور قُلْنَا إِذا انسد بَاب الرَّأْي فِيمَا رُوِيَ وتحققت الضَّرُورَة بِكَوْنِهِ مُخَالفا للْقِيَاس الصَّحِيح فَلَا بُد من تَركه لِأَن كَون الْقيَاس الصَّحِيح حجَّة ثَابت بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع فَمَا خَالف الْقيَاس الصَّحِيح من كل وَجه فَهُوَ فِي الْمَعْنى مُخَالف للْكتاب وَالسّنة الْمَشْهُورَة وَالْإِجْمَاع وَبَيَان هَذَا فِي حَدِيث الْمُصراة فَإِن الْأَمر برد صَاع من تمر مَكَان اللَّبن قل أَو كثر مُخَالف للْقِيَاس الصَّحِيح من كل وَجه لِأَن تَقْدِير الضَّمَان فِي العدوانات بِالْمثلِ أَو الْقيمَة حكم ثَابت بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَكَذَلِكَ فِيمَا يرويهِ سَلمَة بن المحبق أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 قَالَ فِيمَن وطىء جَارِيَة امْرَأَته فَإِن طاوعته فَهِيَ لَهُ وَعَلِيهِ مثلهَا وَإِن استكرهها فَهِيَ حرَّة وَعَلِيهِ مثلهَا فَإِن الْقيَاس الصَّحِيح يرد هَذَا الحَدِيث ويتبين أَنه كالمخالف للْكتاب وَالسّنة الْمَشْهُورَة وَالْإِجْمَاع ثمَّ هَذَا النَّوْع من الْقُصُور لَا يتَوَهَّم فِي الرَّاوِي إِذا كَانَ فَقِيها لِأَن ذَلِك لَا يخفى عَلَيْهِ لقُوَّة فقهه فَالظَّاهِر أَنه إِنَّمَا روى الحَدِيث بِالْمَعْنَى عَن بَصِيرَة فَإِنَّهُ علم سَمَاعه (من رَسُول الله كَذَلِك مُخَالفا للْقِيَاس وَلَا تُهْمَة فِي رِوَايَته فكأنا سمعنَا ذَلِك) من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيلزمنا ترك كل قِيَاس بمقابلته وَلِهَذَا قلت رِوَايَة الْكِبَار من فُقَهَاء الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَلا ترى إِلَى مَا رُوِيَ عَن عَمْرو بن مَيْمُون قَالَ صَحِبت ابْن مَسْعُود سِنِين فَمَا سمعته يروي حَدِيثا إِلَّا مرّة وَاحِدَة فَإِنَّهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ أَخذه البهر وَالْفرق وَجعلت فرائصه ترتعد فَقَالَ نَحْو هَذَا أَو قَرِيبا مِنْهُ أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول كَذَا فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن الْوُقُوف على مَا أَرَادَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مَعَاني كَلَامه كَانَ عَظِيما عِنْدهم فَلهَذَا قلت رِوَايَة الْفُقَهَاء مِنْهُم فَإِذا صحت الرِّوَايَة عَنْهُم فَهُوَ مقدم على الْقيَاس وَمَعَ هَذَا كُله فالكبار من أَصْحَابنَا يعظمون رِوَايَة هَذَا النَّوْع مِنْهُم ويعتمدون قَوْلهم فَإِن مُحَمَّدًا رَحمَه الله ذكر عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله أَنه أَخذ بقول أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ فِي مِقْدَار الْحيض وَغَيره وَكَانَ دَرَجَة أبي هُرَيْرَة فَوق دَرَجَته فَعرفنَا بِهَذَا أَنهم مَا تركُوا الْعَمَل بروايتهم إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة لانسداد بَاب الرَّأْي من الْوَجْه الَّذِي قَررنَا فَأَما الْمَجْهُول فَإِنَّمَا نعني بِهَذَا اللَّفْظ من لم يشْتَهر بطول الصُّحْبَة مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا عرف بِمَا رُوِيَ من حَدِيث أَو حديثين نَحْو وابصة بن معبد وَسَلَمَة بن المحبق وَمَعْقِل بن سِنَان الْأَشْجَعِيّ رَضِي الله عَنْهُم وَغَيرهم وَرِوَايَة هَذَا النَّوْع على خَمْسَة أوجه أَحدهَا أَن يشْتَهر لقبُول الْفُقَهَاء رِوَايَته وَالرِّوَايَة عَنهُ وَالثَّانِي أَن يسكتوا عَن الطعْن فِيهِ بَعْدَمَا يشْتَهر وَالثَّالِث أَن يَخْتَلِفُوا فِي الطعْن فِي رِوَايَته وَالرَّابِع أَن يطعنوا فِي رِوَايَته من غير خلاف بَينهم فِي ذَلِك وَالْخَامِس أَن لَا تظهر رِوَايَته وَلَا الطعْن فِيهِ فِيمَا بَينهم أما من قبل السّلف مِنْهُ رِوَايَته وجوزوا النَّقْل عَنهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْمَشْهُورين فِي الرِّوَايَة لأَنهم مَا كَانُوا متهمين بالتقصير فِي أَمر الدّين وَمَا كَانُوا يقبلُونَ الحَدِيث حَتَّى يَصح عِنْدهم أَنه يروي عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فإمَّا أَن يكون قبولهم لعلمهم بعدالته وَحسن ضَبطه أَو لِأَنَّهُ مُوَافق لما عِنْدهم مِمَّا سَمِعُوهُ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من بعض الْمَشْهُورين يروي عَنهُ وَكَذَلِكَ إِن سكتوا عَن الرَّد بَعْدَمَا اشْتهر رِوَايَته عِنْدهم لِأَن السُّكُوت بعد تحقق الْحَاجة لَا يحل إِلَّا على وَجه الرِّضَا بالمسموع فَكَانَ سكوتهم عَن الرَّد دَلِيل التَّقْرِير بِمَنْزِلَة مَا لَو قبلوه وردوا عَنهُ وَكَذَلِكَ مَا اخْتلفُوا فِي قبُوله وَرِوَايَته عَنهُ عندنَا لِأَنَّهُ حِين قبله بعض الْفُقَهَاء الْمَشْهُورين مِنْهُم فَكَأَنَّهُ روى ذَلِك بِنَفسِهِ وَبَيَان هَذَا فِي حَدِيث معقل بن سِنَان أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى لبروع بنت واشق الأشجعية بِمهْر مثلهَا حِين مَاتَ عَنْهَا زَوجهَا وَلم يسم لَهَا صَدَاقا فَإِن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قبل رِوَايَته وسر بِهِ لما وَافق قَضَاءَهُ قَضَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعلي رَضِي الله عَنهُ رده فَقَالَ مَاذَا نصْنَع بقول أَعْرَابِي بوال على عقبه حسبها الْمِيرَاث لَا مهر لَهَا فَلَمَّا اخْتلفُوا فِيهِ فِي الصَّدْر الأول أَخذنَا بروايته لِأَن الْفُقَهَاء من الْقرن الثَّانِي كعلقمة ومسروق وَالْحسن وَنَافِع بن جُبَير قبلوا رِوَايَته فَصَارَ معدلا بِقبُول الْفُقَهَاء رِوَايَته وَكَذَلِكَ أَبُو الْجراح صَاحب راية الأشجعيين صدقه فِي هَذِه الرِّوَايَة وَكَأن عليا رَضِي الله عَنهُ إِنَّمَا لم يقبل رِوَايَته لِأَنَّهُ كَانَ مُخَالفا للْقِيَاس عِنْده وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قبل رِوَايَته لِأَنَّهُ كَانَ مُوَافقا للْقِيَاس عِنْده فَتبين بِهَذَا أَن رِوَايَة مثل هَذَا فِيمَا يُوَافق الْقيَاس يكون مَقْبُولًا ثمَّ الْعَمَل يكون بالرواية وَأما إِذا ردوا عَلَيْهِ رِوَايَته وَلم يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يجوز الْعَمَل بروايته لأَنهم كَانُوا لَا يتهمون برد الحَدِيث الثَّابِت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا بترك الْعَمَل بِهِ وترجيح الرَّأْي بِخِلَافِهِ عَلَيْهِ فاتفاقهم على الرَّد دَلِيل على أَنهم كذبوه فِي هَذِه الرِّوَايَة وَعَلمُوا أَن ذَلِك وهم مِنْهُ وَلَو قَالَ الرَّاوِي أوهمت لم يعْمل بروايته فَإِذا ظهر دَلِيل ذَلِك مِمَّن هُوَ فَوْقه أولى وَبَيَان هَذَا فِي حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس فَإِن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ لَا نَدع كتاب رَبنَا وَلَا سنة نَبينَا بقول امْرَأَة لَا نَدْرِي أصدقت أم كذبت قَالَ عِيسَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 بن أبان رَحمَه الله مُرَاده من الْكتاب وَالسّنة الْقيَاس الصَّحِيح فَإِن ثُبُوته بِالْكتاب وَالسّنة وَهُوَ قِيَاس الشّبَه فِي اعْتِبَار النَّفَقَة بِالسُّكْنَى من حَيْثُ إِن كل وَاحِد مِنْهُمَا حق مَالِي مُسْتَحقّ بِالنِّكَاحِ فَإِن قيل هَذَا إِشَارَة إِلَى غير مَا أَشَارَ إِلَيْهِ عمر فَإِنَّهُ لم يقل لَا نقبل حَدِيثهَا لعلمنا أَنَّهَا أوهمت وَلَكِن قَالَ لَا نَدع كتاب رَبنَا لأَنا لَا نَدْرِي أصدقت أم كذبت قُلْنَا فِي قَوْله لَا نَدْرِي إِشَارَة إِلَى هَذَا الْمَعْنى فَإِن قبُول الرِّوَايَة وَالْعَمَل بِهِ يبتني على ظُهُور رُجْحَان جَانب الصدْق وَهُوَ بَين أَنه لم يظْهر رُجْحَان جَانب الصدْق فِي رِوَايَتهَا والرأي يدل على خلاف رِوَايَتهَا فنترك رِوَايَتهَا ونعمل بِالْقِيَاسِ الصَّحِيح وَفِي الْمَعْنى لَا فرق بَين هَذَا وَبَين قَوْله لَا نقبل رِوَايَتهَا بِمَنْزِلَة القَاضِي يرد شَهَادَة الْفَاسِق بقوله ائْتِ بِشَاهِد آخر ائْتِ بِحجَّة وَمن هَذَا النَّحْو حَدِيث سهل بن أبي حثْمَة رَضِي الله عَنهُ فِي الْقسَامَة أتحلفون وتستحقون دم صَاحبكُم وَحَدِيث بسرة رَضِي الله عَنْهَا من مس ذكره فَليَتَوَضَّأ وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة من أصبح جنبا فَلَا صَوْم لَهُ وَأما مَا لم يشْتَهر عِنْدهم وَلم يعارضوه بِالرَّدِّ فَإِن الْعَمَل بِهِ لَا يجب وَلَكِن يجوز الْعَمَل بِهِ إِذا وَافق الْقيَاس لِأَن من كل من الصَّدْر الأول فالعدالة ثَابِتَة لَهُ بِاعْتِبَار الظَّاهِر لِأَنَّهُ فِي زمَان الْغَالِب من أَهله الْعُدُول على مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام خير النَّاس قَرْني الَّذِي أَنا فيهم ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ فباعتبار الظَّاهِر يتَرَجَّح جَانب الصدْق فِي خَبره وَبِاعْتِبَار أَنه لم تشتهر رِوَايَته فِي السّلف يتَمَكَّن تُهْمَة الْوَهم فِيهِ فَيجوز الْعَمَل بِهِ إِذا وَافق الْقيَاس على وَجه حسن الظَّن بِهِ وَلَكِن لَا يجب الْعَمَل بِهِ لِأَن الْوُجُوب شرعا لَا يثبت بِمثل هَذَا الطَّرِيق الضَّعِيف وَلِهَذَا جوز أَبُو حنيفَة الْقَضَاء بِشَهَادَة المستور وَلم يُوجب على القَاضِي الْقَضَاء لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْقرن الثَّالِث وَالْغَالِب على أَهله الصدْق فَأَما فِي زَمَاننَا رِوَايَة مثل هَذَا لَا يكون مَقْبُولًا وَلَا يَصح الْعَمَل بِهِ مَا لم يتأيد بِقبُول الْعُدُول رِوَايَته لِأَن الْفسق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 غلب على أهل هَذَا الزَّمَان وَلِهَذَا لم يجوز أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد الْقَضَاء بِشَهَادَة المستور قبل ظُهُور عَدَالَته فَصَارَ الْحَاصِل أَن الحكم فِي رِوَايَة الْمَشْهُور الَّذِي لم يعرف بالفقه وجوب الْعَمَل وَحمل رِوَايَته على الصدْق إِلَّا أَن يمْنَع مِنْهُ مَانع وَهُوَ أَن يكون مُخَالفا للْقِيَاس وَأَن الحكم فِي رِوَايَة الْمَجْهُول أَنه لَا يكون حجَّة للْعَمَل إِلَّا أَن يتأيد بمؤيد وَهُوَ قبُول السّلف أَو بَعضهم رِوَايَته وَالله أعلم فصل فِي بَيَان شَرَائِط الرَّاوِي حدا وتفسيرا وَحكما قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن هَذِه الشَّرَائِط أَرْبَعَة الْعقل والضبط وَالْعَدَالَة وَالْإِسْلَام أما اشْتِرَاط الْعقل فَلِأَن الْخَبَر الَّذِي يرويهِ كَلَام منظوم لَهُ معنى مَعْلُوم وَلَا بُد من اشْتِرَاط الْعقل فِي الْمُتَكَلّم من الْعباد ليَكُون قَوْله كلَاما مُعْتَبرا فَالْكَلَام الْمُعْتَبر شرعا مَا يكون عَن تَمْيِيز وَبَيَان لَا عَن تلقين وهذيان أَلا ترى أَن من الطُّيُور من يسمع مِنْهُ حُرُوف منظومة وَيُسمى ذَلِك لحنا لَا كلَاما وَكَذَلِكَ إِذا سمع من إِنْسَان صَوته بحروف منظومة لَا يدل على معنى مَعْلُوم لَا يُسمى ذَلِك كلَاما فَعرفنَا أَن معنى الْكَلَام فِي الشَّاهِد مَا يكون مُمَيّزا بَين أَسمَاء الْأَعْلَام فَمَا لَا يكون بِهَذِهِ الصّفة يكون كلَاما صُورَة لَا معنى بِمَنْزِلَة مَا لَو صنع من خشب صُورَة آدَمِيّ لَا يكون آدَمِيًّا لِانْعِدَامِ معنى الْآدَمِيّ فِيهِ ثمَّ التَّمْيِيز الَّذِي بِهِ يتم الْكَلَام بصورته وَمَعْنَاهُ لَا يكون إِلَّا بعد وجود الْعقل فَكَانَ الْعقل شرطا فِي الْمخبر لِأَن خَبره أحد أَنْوَاع الْكَلَام فَلَا يكون مُعْتَبرا إِلَّا بِاعْتِبَار عقله وَأما الضَّبْط فَلِأَن قبُول الْخَبَر بِاعْتِبَار معنى الصدْق فِيهِ وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك إِلَّا بِحسن ضبط الرَّاوِي من حِين يسمع إِلَى حِين يروي فَكَانَ الضَّبْط لما هُوَ معنى هَذَا النَّوْع من الْكَلَام بِمَنْزِلَة الْعقل الَّذِي بِهِ يَصح أصل الْكَلَام شرعا وَأما الْعَدَالَة فَلِأَن الْكَلَام فِي خبر من هُوَ غير مَعْصُوم عَن الْكَذِب فَلَا تكون جِهَة الصدْق مُتَعَيّنا فِي خَبره لعَينه وَإِنَّمَا يتَرَجَّح جَانب الصدْق بِظُهُور عَدَالَته لِأَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 الْكَذِب مَحْظُور عقله فنستدل بانزجاره عَن سَائِر مَا نعتقده مَحْظُورًا على انزجاره عَن الْكَذِب الَّذِي نعتقده مَحْظُورًا أَو لما كَانَ منزجرا عَن الْكَذِب فِي أُمُور الدُّنْيَا فَذَلِك دَلِيل انزجاره عَن الْكَذِب فِي أُمُور الدّين وَأَحْكَام الشَّرْع بِالطَّرِيقِ الأولى فَأَما إِذا لم يكن عدلا فِي تعاطيه فاعتبار جَانب تعاطيه يرجح معنى الْكَذِب فِي خَبره لِأَنَّهُ لما لم يبال من ارْتِكَاب سَائِر الْمَحْظُورَات مَعَ اعْتِقَاده حرمته فَالظَّاهِر أَنه لَا يُبَالِي من الْكَذِب مَعَ اعْتِقَاده حرمته وَاعْتِبَار جَانب اعْتِقَاده يدل على الصدْق فِي خَبره فَتَقَع الْمُعَارضَة وَيجب التَّوَقُّف وَإِذا كَانَ تَرْجِيح جَانب الصدْق بِاعْتِبَار عَدَالَته وَبِه يصير الْخَبَر حجَّة للْعَمَل شرعا فَعرفنَا أَن الْعَدَالَة فِي الرَّاوِي شَرط لكَون خَبره حجَّة فَأَما اشْتِرَاط الْإِسْلَام لانْتِفَاء تُهْمَة الْكَذِب لَا بِاعْتِبَار نُقْصَان حَال الْمخبر بل بِاعْتِبَار زِيَادَة شَيْء فِيهِ يدل على كذبه فِي خَبره وَذَلِكَ لِأَن الْكَلَام فِي الْأَخْبَار الَّتِي يثبت بهَا أَحْكَام الشَّرْع وهم يعادوننا فِي أصل الدّين بِغَيْر حق على وَجه هُوَ نِهَايَة فِي الْعَدَاوَة فيحملهم ذَلِك على السَّعْي فِي هدم أَرْكَان الدّين بِإِدْخَال مَا لَيْسَ مِنْهُ فِيهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الله تَعَالَى فِي قَوْله {لَا يألونكم خبالا} أَي لَا يقصرون فِي الْإِفْسَاد عَلَيْكُم وَقد ظهر مِنْهُم هَذَا بطرِيق الكتمان فَإِنَّهُم كتموا نعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونبوته من كِتَابه بَعْدَمَا أَخذ عَلَيْهِم الْمِيثَاق بِإِظْهَار ذَلِك فَلَا يُؤمنُونَ من أَن يقصدوا مثل ذَلِك بِزِيَادَة هِيَ كذب لَا أصل لَهُ بطرِيق الرِّوَايَة بل هَذَا هُوَ الظَّاهِر فلأجل هَذَا شرطنا الْإِسْلَام فِي الرَّاوِي لكَون خَبره حجَّة وَلِهَذَا لم تجوز شَهَادَتهم على الْمُسلمين لِأَن الْعَدَاوَة رُبمَا تحملهم على الْقَصْد للإضرار بِالْمُسْلِمين بِشَهَادَة الزُّور كَمَا لَا تقبل شَهَادَة ذِي الضغن لظُهُور عداوته بِسَبَب الْبَاطِن وَقَبلنَا شَهَادَة بَعضهم على بعض لِانْعِدَامِ هَذَا الْمَعْنى الْبَاعِث على الْكَذِب فِيمَا بَينهم وَبِهَذَا تبين أَن رد خَبره لَيْسَ لعين الْكفْر بل لِمَعْنى زَائِد يُمكن تُهْمَة الْكَذِب فِي خَبره بِمَنْزِلَة شَهَادَة الْأَب للْوَلَد فَإِنَّهَا لَا تكون مَقْبُولَة لِمَعْنى زَائِد يُمكن تُهْمَة الْكَذِب فِي شَهَادَته وَهُوَ شَفَقَة الْأُبُوَّة وميله إِلَى وَلَده طبعا وَأما بَيَان حد هَذِه الشُّرُوط وتفسيرها فَنَقُول الْعقل نور فِي الصَّدْر بِهِ يبصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 الْقلب عِنْد النّظر فِي الْحجَج بِمَنْزِلَة السراج فَإِنَّهُ نور تبصر الْعين بِهِ عِنْد النّظر فترى مَا يدْرك بالحواس لَا أَن السراج يُوجب رُؤْيَة ذَلِك وَلكنه يدل الْعين عِنْد النّظر عَلَيْهِ فَكَذَلِك نور الصَّدْر الَّذِي هُوَ الْعقل يدل الْقلب على معرفَة مَا هُوَ غَائِب عَن الْحَواس من غير أَن يكون مُوجبا لذَلِك بل الْقلب يدْرك (بِالْعقلِ) ذَلِك بِتَوْفِيق الله تَعَالَى وَهُوَ فِي الْحَاصِل عبارَة عَن الِاخْتِيَار الَّذِي يبتنى عَلَيْهِ الْمَرْء مَا يَأْتِي بِهِ وَمَا يذر مِمَّا لَا يَنْتَهِي إِلَى إِدْرَاكه سَائِر الْحَواس فَإِن الْفِعْل أَو التّرْك لَا يعْتَبر إِلَّا لحكمة وعاقبة حميدة وَلِهَذَا لَا يعْتَبر من الْبَهَائِم لخلوه عَن هَذَا الْمَعْنى وَالْعَاقبَة الحميدة لَا تتَحَقَّق فِيمَا يَأْتِي بِهِ الْإِنْسَان من فعل أَو ترك لَهُ إِلَّا بعد التَّأَمُّل فِيهِ بعقله فَمَتَى ظَهرت أَفعاله على سنَن أَفعَال الْعُقَلَاء كَانَ ذَلِك دَلِيلا لنا على أَنه عَاقل مُمَيّز وَأَن فعله وَقَوله لَيْسَ يَخْلُو عَن حِكْمَة وعاقبة حميدة وَهَذَا لِأَن الْعقل لَا يكون مَوْجُودا فِي الْآدَمِيّ بِاعْتِبَار أَصله وَلكنه خلق من خلق الله تَعَالَى يحدث شَيْئا فَشَيْئًا ثمَّ يتَعَذَّر الْوُقُوف على وجود كل جُزْء مِنْهُ بِحَسب مَا يمْضِي من الزَّمَان على الصَّبِي إِلَى أَن يبلغ صفة الْكَمَال فَجعل الشَّرْع الْحَد لمعْرِفَة كَمَال الْعقل هُوَ الْبلُوغ تيسيرا لِلْأَمْرِ علينا لِأَن اعْتِدَال الْحَال عِنْد ذَلِك يكون عَادَة وَالله تَعَالَى هُوَ الْعَالم حَقِيقَة بِمَا يحدثه من ذَلِك فِي كل أحد من عباده من نُقْصَان أَو كَمَال وَلَكِن لَا طَرِيق لنا إِلَى الْوُقُوف على حد ذَلِك فَقَامَ السَّبَب الظَّاهِر فِي حَقنا مقَام الْمَطْلُوب حَقِيقَة تيسيرا وَهُوَ الْبلُوغ مَعَ انعدام الآفة ثمَّ يسْقط اعْتِبَار مَا يُوجد من الْعقل للصَّبِيّ قبل هَذَا الْحَد شرعا لدفع الضَّرَر عَنهُ لَا للإضرار بِهِ فَإِن الصِّبَا سَبَب للنَّظَر لَهُ وَلِهَذَا لم يعْتَبر فِيمَا يتَرَدَّد بَين الْمَنْفَعَة والمضرة وَيعْتَبر فِيمَا يتمخض مَنْفَعَة لَهُ ثمَّ خَبره فِي أَحْكَام الشَّرْع لَا يكون حجَّة للإلزام دفعا لضَرَر الْعهْدَة عَنهُ كَمَا لَا يَجْعَل وليا فِي تَصَرُّفَاته فِي أُمُور الدُّنْيَا دفعا لضَرَر الْعهْدَة عَنهُ وَلِهَذَا صَحَّ سَمَاعه وتحمله للشَّهَادَة قبل الْبلُوغ إِذا كَانَ مُمَيّزا فقد كَانَ فِي الصَّحَابَة من سمع فِي حَالَة الصغر وروى بعد الْبلُوغ وَكَانَت رِوَايَته مَقْبُولَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِك من معنى ضَرَر لُزُوم الْعهْدَة شَيْء وَإِنَّمَا يكون ذَلِك فِي الْأَدَاء فَيشْتَرط لفسخه أَدَائِهِ على وَجه يكون حجَّة كَونه عَاقِلا مُطلقًا وَلَا يحصل ذَلِك إِلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 باعتدال حَاله ظَاهرا كَمَا بَينا وَصَارَ الْحَاصِل أَن الْعَاقِل نَوْعَانِ من يُصِيب بعض الْعقل على وَجه يتَمَكَّن من التَّمْيِيز بِهِ بَين مَا يضرّهُ وَمَا يَنْفَعهُ وَلكنه نَاقص فِي نَفسه كَالصَّبِيِّ قبل الْبلُوغ وَالْمَعْتُوه الَّذِي يعقل وعاقل هُوَ كَامِل الْعقل وَهُوَ الْبَالِغ الَّذِي لَا آفَة بِهِ فَإِن بالآفة يسْتَدلّ تَارَة على انعدام الْعقل بعد الْبلُوغ كَالْمَجْنُونِ وَتارَة على نُقْصَان الْعقل كَمَا فِي حق الْمَعْتُوه فَإِذا انعدمت الآفة كَانَ اعْتِدَال الظَّاهِر بِالْبُلُوغِ دَلِيلا على كَمَال الْعقل الَّذِي هُوَ الْبَاطِن وَالْمُطلق من كل شَيْء يتَنَاوَل الْكَامِل مِنْهُ فاشتراط الْعقل لصِحَّة خَبره على وَجه يكون حجَّة دَلِيل على أَنه يشْتَرط كَمَال الْعقل فِي ذَلِك فَأَما الضَّبْط فَهُوَ عبارَة عَن الْأَخْذ بِالْجَزْمِ وَتَمَامه فِي الْأَخْبَار أَن يسمع حق السماع ثمَّ يفهم الْمَعْنى الَّذِي أُرِيد بِهِ ثمَّ يحفظ ذَلِك (بِجهْدِهِ ثمَّ يثبت على ذَلِك) بمحافظة حُدُوده ومراعاة حُقُوقه بتكراره إِلَى أَن يُؤَدِّي إِلَى غَيره لِأَن بِدُونِ السماع لَا يتَصَوَّر الْفَهم وَبعد السماع إِذا لم يفهم معنى الْكَلَام لم يكن ذَلِك سَمَاعا مُطلقًا بل يكون ذَلِك سَماع صَوت لَا سَماع كَلَام هُوَ خبر وَبعد فهم الْمَعْنى يتم التَّحَمُّل وَذَلِكَ يلْزمه الْأَدَاء كَمَا تحمل وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِك إِلَّا بحفظه والثبات على ذَلِك إِلَى أَن يُؤَدِّي ثمَّ الْأَدَاء إِنَّمَا يكون مَقْبُولًا مِنْهُ بِاعْتِبَار معنى الصدْق فِيهِ وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِهَذَا وَلِهَذَا لم يجوز أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ أَدَاء الشَّهَادَة لمن عرف خطه فِي الصَّك وَلَا يتَذَكَّر الْحَادِثَة لِأَنَّهُ غير ضَابِط لما تحمل وَبِدُون الضَّبْط لَا يجوز لَهُ أَدَاء الشَّهَادَة ثمَّ الضَّبْط نَوْعَانِ ظَاهر وباطن فَالظَّاهِر مِنْهُ بِمَعْرِِفَة صِيغَة المسموع وَالْوُقُوف على مَعْنَاهُ لُغَة وَالْبَاطِن مِنْهُ بِالْوُقُوفِ على معنى الصِّيغَة فِيمَا يبتنى عَلَيْهِ أَحْكَام الشَّرْع وَهُوَ الْفِقْه وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بالتجربة والتأمل بعد معرفَة مَعَاني اللُّغَة وأصول أَحْكَام الشَّرْع وَلِهَذَا لم تقبل رِوَايَة من اشتدت غفلته إِمَّا خلقَة أَو مُسَامَحَة ومجازفة لِأَن الضَّبْط ظَاهرا لَا يتم مِنْهُ عَادَة وَمَا يكون شرطا يُرَاعِي وجوده بِصفة الْكَمَال وَلِهَذَا لم يثبت السّلف الْمُعَارضَة بَين رِوَايَة من لم يعرف بالفقه وَرِوَايَة من عرف بالفقه لِانْعِدَامِ الضَّبْط بَاطِنا مِمَّن لم يعرف بالفقه على مَا يرْوى عَن عَمْرو بن دِينَار أَن جَابر بن زيد أَبَا الشعْثَاء روى لَهُ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم قَالَ عَمْرو فَقلت لجَابِر إِن ابْن شهَاب أَخْبرنِي عَن يزِيد بن الْأَصَم أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام تزَوجهَا وَهُوَ حَلَال فَقَالَ إِنَّهَا كَانَت خَالَة ابْن عَبَّاس وَهُوَ أعلم بِحَالِهَا فَقلت وَقد كَانَت خَالَة يزِيد بن الْأَصَم أَيْضا فَقَالَ أَنى يَجْعَل يزِيد بن الْأَصَم بوال على عقبه إِلَى ابْن عَبَّاس فَدلَّ أَن رِوَايَة غير الْفَقِيه لَا تكون مُعَارضَة لرِوَايَة الْفَقِيه وَهَذَا التَّرْجِيح لَيْسَ إِلَّا بِاعْتِبَار تَمام الضَّبْط من الْفَقِيه وَكَأن الْمَعْنى فِيهِ أَن نقل الْخَبَر بِالْمَعْنَى كَانَ مَشْهُورا فيهم فَمن لَا يكون مَعْرُوفا بالفقه رُبمَا يقصر فِي أَدَاء الْمَعْنى بِلَفْظِهِ بِنَاء على فهمه ويؤمن مثل ذَلِك من الْفَقِيه وَلِهَذَا قُلْنَا إِن الْمُحَافظَة على اللَّفْظ فِي زَمَاننَا أولى من الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى لتَفَاوت ظَاهر بَين النَّاس فِي فهم الْمَعْنى فَإِن قيل كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا وَنقل الْقُرْآن صَحِيح مِمَّن لَا يفهم مَعْنَاهُ قُلْنَا أصل النَّقْل فِي الْقُرْآن من أَئِمَّة الْهدى الَّذين كَانُوا خير الورى بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا نقلوا بعد تَمام الضَّبْط ثمَّ من بعدهمْ إِنَّمَا ينْقل بعد جهد شَدِيد يكون مِنْهُ فِي التَّعَلُّم وَالْحِفْظ واستدامة الْقِرَاءَة وَلَو وجد مثل ذَلِك فِي الْخَبَر لَكنا نجوز نَقله أَيْضا مَعَ أَن الله تَعَالَى وعد حفظ الْقُرْآن عَن تَحْرِيف المبطلين بقوله تَعَالَى {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} وَبِهَذَا النَّص عرفنَا انْقِطَاع طمع الْمُلْحِدِينَ عَن الْقُرْآن فصححنا النَّقْل فِيهِ مِمَّن يكون ضابطا لَهُ ظَاهرا وَإِن كَانَ لَا يعرف مَعْنَاهُ وَمثل ذَلِك لَا يُوجد فِي الْأَخْبَار فَكَانَ تَمام الضَّبْط فِيهَا بِمَا قُلْنَا مَعَ أَن هُنَاكَ يتَعَلَّق بالنظم أَحْكَام مِنْهَا حُرْمَة الْقِرَاءَة على الْجنب وَالْحَائِض وَجَوَاز الصَّلَاة بهَا فِي قَول بعض الْعلمَاء وَكَون النّظم معجزا فَأَما فِي الْأَخْبَار الْمُعْتَبر هُوَ الْمَعْنى المُرَاد بالْكلَام فتمام الضَّبْط إِنَّمَا يكون بِالْوُقُوفِ على مَا هُوَ المُرَاد وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله لَا تجوز الشَّهَادَة على الْكتاب والختم إِذا لم يعرف الشَّاهِد مَا فِي بَاطِن الْكتاب لِأَن الضَّبْط فِي الشَّهَادَة شَرط للْأَدَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 وَالْمَقْصُود مَا فِي بَاطِن الْكتاب لَا عين الْكتاب فَلَا يتم ضَبطه إِلَّا بِمَعْرِِفَة ذَلِك وَلِهَذَا اسْتحبَّ المتقدمون من السّلف تقليل الرِّوَايَة وَمن كَانَ أكْرمهم وأدوم صُحْبَة وَهُوَ الصّديق رَضِي الله عَنهُ كَانَ أقلهم رِوَايَة حَتَّى رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ إِذا سئلتم عَن شَيْء فَلَا ترووا وَلَكِن ردوا النَّاس إِلَى كتاب الله تَعَالَى وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ أقلوا الرِّوَايَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا شريككم وَلما قيل ل زيد بن أَرقم أَلا تروي لنا عَن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام شَيْئا فَقَالَ قد كبرنا ونسينا وَالرِّوَايَة عَن رَسُول الله شَدِيد وَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا كُنَّا نَحْفَظ الحَدِيث والْحَدِيث يحفظ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَما إِذا ركبتم الصعب والذلول فهيهات فقد جمع أهل الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب آثارا كَثِيرَة ولأجلها قلت رِوَايَة أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ حَتَّى قَالَ بعض الطاعنين إِنَّه كَانَ لَا يعرف الحَدِيث وَلم يكن على مَا ظن بل كَانَ أعلم أهل عصره بِالْحَدِيثِ وَلَكِن لمراعاة شَرط كَمَال الضَّبْط قلت رِوَايَته وَبَيَان هَذَا أَن الْإِنْسَان قد يَنْتَهِي إِلَى مجْلِس وَقد مضى صدر من الْكَلَام فيخفي على الْمُتَكَلّم حَاله لتوقفه على مَا مضى من كَلَامه مِمَّا يكون بعده بِنَاء عَلَيْهِ فقلما يتم ضبط هَذَا السَّامع لِمَعْنى مَا يسمع بعد مَا فَاتَهُ أول الْكَلَام وَلَا يجد فِي تَأمل ذَلِك أَيْضا لِأَنَّهُ لَا يرى نَفسه أَهلا بِأَن يُؤْخَذ الدّين عَنهُ ثمَّ يكون من قَضَاء الله تَعَالَى أَن يصير صَدرا يرجع إِلَيْهِ فِي معرفَة أَحْكَام الدّين فَإِذا لم يتم ضَبطه فِي الِابْتِدَاء لم يَنْبغ لَهُ أَن يجازف فِي الرِّوَايَة وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يشْتَغل بِمَا وجد مِنْهُ الْجهد التَّام فِي ضَبطه فيستدل بِكَثْرَة الرِّوَايَة مِمَّن كَانَ حَاله فِي الِابْتِدَاء بِهَذِهِ الصّفة على قلَّة المبالاة وَلِهَذَا ذمّ السّلف الصَّالح كَثْرَة الرِّوَايَة وَهَذَا معنى مُعْتَبر فِي الرِّوَايَات والشهادات جَمِيعًا أَلا ترى أَن من اشْتهر فِي النَّاس بخصلة دَالَّة على قلَّة المبالاة من قَضَاء الْحَاجة بمرأى الْعين من النَّاس أَو الْأكل فِي الْأَسْوَاق يتَوَقَّف فِي شَهَادَته فَهَذَا بَيَان تَفْسِير الضَّبْط وَأما الْعَدَالَة فَهِيَ الاسْتقَامَة يُقَال فلَان عَادل إِذا كَانَ مُسْتَقِيم السِّيرَة فِي الْإِنْصَاف وَالْحكم بِالْحَقِّ وَطَرِيق عَادل سمي بِهِ الجادة وضده الْجور وَمِنْه يُقَال طَرِيق جَائِر إِذا كَانَ من البنيات ثمَّ الْعَدَالَة نَوْعَانِ ظَاهِرَة وباطنة فالظاهرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 تثبت بِالدّينِ وَالْعقل على معنى أَن من أَصَابَهَا فَهُوَ عدل ظَاهرا لِأَنَّهُمَا يحملانه على الاسْتقَامَة ويدعوانه إِلَى ذَلِك والباطنة لَا تعرف إِلَّا بِالنّظرِ فِي معاملات الْمَرْء وَلَا يُمكن الْوُقُوف على نِهَايَة ذَلِك لتَفَاوت بَين النَّاس فيهمَا وَلَكِن كل من كَانَ مُمْتَنعا من ارْتِكَاب مَا يعْتَقد الْحُرْمَة فِيهِ فَهُوَ على طَرِيق الاسْتقَامَة فِي حُدُود الدّين وعَلى هَذِه الْعَدَالَة نَبْنِي حكم رِوَايَة الْخَبَر فِي كَونه حجَّة لِأَن مَا تثبت بِهِ الْعَدَالَة الظَّاهِرَة بعارضة هوى النَّفس والشهوة الَّذِي تصده عَن الثَّبَات على طَرِيق الاسْتقَامَة فَإِن الْهوى أصل فِيهِ سَابق على إِصَابَة الْعقل وَلَا يزايله بَعْدَمَا رزق الْعقل وَبَعْدَمَا اجْتمعَا فِيهِ يكون عدلا من وَجه دون وَجه فَيكون حَاله كَحال الصَّبِي الْعَاقِل وَالْمَعْتُوه الَّذِي يعقل من جملَة الْعُقَلَاء وَقد بَينا أَن الْمُطلق يَقْتَضِي الْكَامِل فَعرفنَا أَن الْعدْل مُطلقًا من يتَرَجَّح أَمر دينه على هَوَاهُ وَيكون مُمْتَنعا بِقُوَّة الدّين عَمَّا يعْتَقد الْحُرْمَة فِيهِ من الشَّهَوَات وَلِهَذَا قَالَ فِي كتاب الشَّهَادَات إِن من ارْتكب كَبِيرَة فَإِنَّهُ لَا يكون عدلا فِي الشَّهَادَة وَفِيمَا دون الْكَبِيرَة من الْمعاصِي إِن أصر على ارْتِكَاب شَيْء لم يكن مَقْبُول الشَّهَادَة وَكَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يكون مَقْبُول الشَّهَادَة أصر أَو لم يصر لِأَنَّهُ فَاسق بِخُرُوجِهِ عَن الْحَد الْمَحْدُود لَهُ شرعا وَالْفَاسِق لَا يكون عدلا فِي الشَّهَادَة إِلَّا أَن فِي القَوْل بِهَذَا سد الْبَاب أصلا فَغير الْمَعْصُوم لَا يتَحَقَّق مِنْهُ التَّحَرُّز عَن الزلات أجمع لِأَن لله تَعَالَى على الْعباد فِي كل لَحْظَة أمرا ونهيا يتَعَذَّر عَلَيْهِم الْقيام بحقهما وَلَكِن التَّحَرُّز عَن الْإِصْرَار بالندم وَالرُّجُوع عَنهُ غير مُتَعَذر والحرج مَدْفُوع وَلَيْسَ فِي التَّحَرُّز عَن ارْتِكَاب الْكَبَائِر الْمُوجبَة للحد معنى الْحَرج فَلهَذَا بنينَا حكم الْعَدَالَة على التَّحَرُّز المتأتي عَمَّا يعْتَقد الْحُرْمَة فِيهِ وَلِهَذَا قُلْنَا صَاحب الْهوى إِذا كَانَ مُمْتَنعا عَمَّا يعْتَقد الْحُرْمَة فِيهِ فَهُوَ مَقْبُول الشَّهَادَة وَإِن كَانَ فَاسِقًا فِي اعْتِقَاده ضَالًّا لِأَنَّهُ بِسَبَب الغلو فِي طلب الْحجَّة والتعمق فِي اتِّبَاعه أَخطَأ الطَّرِيق فضل عَن سَوَاء السَّبِيل وَشدَّة اتِّبَاع الْحجَّة لَا تمكن تُهْمَة الْكَذِب فِي شَهَادَته وَإِن أَخطَأ الطَّرِيق وَكَذَلِكَ الْكَافِر من أهل الشَّهَادَة إِذا كَانَ عدلا فِي تعاطيه بِأَن كَانَ منزجرا عَمَّا يعْتَقد الْحُرْمَة فِيهِ إِلَّا أَنه غير مَقْبُول الشَّهَادَة على الْمُسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 لأجل عَدَاوَة ظَاهِرَة تحمله على التقول عَلَيْهِ وَهِي عَدَاوَة بِسَبَب بَاطِل فَتكون مبطلة للشَّهَادَة وَلِهَذَا قُلْنَا الرّقّ وَالْأُنُوثَة والعمى لَا تقدح فِي الْعَدَالَة أصلا وَإِن كَانَت تمنع من قبُول الشَّهَادَة أَو تمكن نُقْصَانا فِيهَا لِأَنَّهُ لَا تَأْثِير لهَذِهِ الْمعَانِي فِي الْحمل على ارْتِكَاب مَا يعْتَقد الْحُرْمَة فِيهِ وَالْعَدَالَة تبتنى على ذَلِك وَلِهَذَا لم يَجْعَل الْفَاسِق والمستور عدلا مُطلقًا فِي حكم الشَّهَادَة حَتَّى لَا يجوز الْقَضَاء بِشَهَادَة الْفَاسِق وَإِن كَانَ لَو قضى بِهِ القَاضِي نفذ وَلَا يجب الْقَضَاء بِشَهَادَة المستور قبل ظُهُور حَاله وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله وَلما لم يكن خبر الْفَاسِق والمستور حجَّة فخبر الْمَجْهُول أَحْرَى أَن لَا يكون حجَّة وَقُلْنَا نَحن الْمَجْهُول من الْقُرُون الثَّلَاثَة عدل بتعديل صَاحب الشَّرْع إِيَّاه مَا لم يتَبَيَّن مِنْهُ مَا يزِيل عَدَالَته فَيكون خَبره حجَّة على الْوَجْه الَّذِي قَررنَا وَأما الْإِسْلَام فَهُوَ عبارَة عَن شريعتنا وَهُوَ نَوْعَانِ أَيْضا ظَاهر وباطن فَالظَّاهِر يكون بالميلاد بَين الْمُسلمين والنشوء على طريقتها شَهَادَة وَعبادَة وَالْبَاطِن يكون بالتصديق وَالْإِقْرَار بِاللَّه كَمَا هُوَ بصفاته وأسمائه وَالْإِقْرَار بملائكته وَكتبه وَرُسُله والبعث بعد الْمَوْت وَالْقدر خَيره وشره من الله تَعَالَى وَقبُول أَحْكَامه وشرائعه فَمن استوصف فوصف ذَلِك كُله فَهُوَ مُسلم حَقِيقَة وَكَذَلِكَ إِن كَانَ مُعْتَقدًا لذَلِك كُله فَقبل أَن يستوصف هُوَ مُؤمن فِيمَا بَينه وَبَين ربه حَقِيقَة وَقَالَ فِي الْجَامِع الْكَبِير إِذا بلغت الْمَرْأَة فاستوصفت الْإِسْلَام فَلم تصف فَإِنَّهَا تبين من زَوجهَا وَقد كُنَّا حكمنَا بِصِحَّة النِّكَاح بِظَاهِر إسْلَامهَا ثمَّ يحكم بِفساد النِّكَاح حِين لم تحسن أَن تصف وَجعل ذَلِك ردة مِنْهَا وَقد استقصى بعض مَشَايِخنَا فِي هَذَا فَقَالُوا ذكر الْوَصْف على سَبِيل الْإِجْمَال لَا يَكْفِي مَا لم يكن عَالما بِحَقِيقَة مَا يذكر لِأَن حفظ الْفِقْه غير حفظ الْمَعْنى أَلا ترى أَن من يذكر أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَلَا يعرف من هُوَ لَا يكون مُؤمنا بِهِ فَإِن النَّصَارَى يَزْعمُونَ أَنهم يُؤمنُونَ بِعِيسَى وَعِنْدهم أَنه ولد الله فَلَا يكون ذَلِك مِنْهُم معرفَة لعيسى الَّذِي هُوَ عبد الله وَرَسُوله وَلَكنَّا نقُول فِي الْمصير إِلَى هَذَا الِاسْتِقْصَاء حرج بَين فَالنَّاس يتفاوتون فِي ذَلِك تَفَاوتا ظَاهرا وَأَكْثَرهم لَا يقدرُونَ على بَيَان تَفْسِير صِفَات الله تَعَالَى وأسمائه على الْحَقِيقَة وَلَكِن ذكر الْأَوْصَاف على الْإِجْمَال يَكْفِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 لثُبُوت الْإِيمَان حَقِيقَة أَلا ترى أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يمْتَحن النَّاس بذلك حَتَّى قَالَ للأعرابي الَّذِي شهد بِرُؤْيَة الْهلَال أَتَشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله فَقَالَ نعم فَقَالَ الله أكبر يَكْفِي الْمُسلمين أحدهم وَلما سَأَلَهُ جِبْرِيل عَن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام لأجل تَعْلِيم النَّاس معالم الدّين بَين ذَلِك على سَبِيل الْإِجْمَال وَكتاب الله يشْهد بذلك قَالَ تَعَالَى {فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فَإِن علمتموهن مؤمنات فَلَا ترجعوهن} وَقد كَانَ هَذَا الامتحان من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْمُسْلِمين بالاستيصاف على الْإِجْمَال وَهَذَا لِأَن الْمُطلق عِنْد الاستيصاف يكون مَحْمُولا على الْكَامِل كَمَا هُوَ الأَصْل وَقد يعجز الْمَرْء عَن إِظْهَار مَا يَعْتَقِدهُ بعبارته فَيَنْبَغِي أَن يكون الاستيصاف بِذكر ذَلِك على وَجه اسْتِفْهَام الْمُخَاطب أَنه هَل يعْتَقد كَذَا وَكَذَا فَإِذا قَالَ نعم كَانَ مُؤمنا حَقِيقَة وَإِن كَانَ قَالَ لَا أعرف مَا تَقول أَو لَا أعتقد ذَلِك فَحِينَئِذٍ يحكم بِكُفْرِهِ وَكَذَلِكَ من ظهر مِنْهُ أَمَارَات الْمعرفَة نَحْو أَدَاء الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة مَعَ الْمُسلمين فَإِن ذَلِك يقوم مقَام الْوَصْف فِي الحكم بإيمانه مُطلقًا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِذا رَأَيْتُمْ الرجل يعْتَاد الْجَمَاعَات فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَان وَلَا يخْتَلف مَا ذكرنَا بِالرّقِّ وَالْحريَّة والذكورة وَالْأُنُوثَة والعمى وَالْبَصَر فَلهَذَا جعلنَا خبر هَؤُلَاءِ فِي كَونه حجَّة فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة بِصفة وَاحِدَة لِأَن الشَّرَائِط الَّتِي يبتنى عَلَيْهَا وجوب قبُول الْخَبَر يتَحَقَّق فِي الْكل أما العَبْد فَلَا شكّ فِي استجماع هَذِه الشَّرَائِط فِيهِ وَإِن لم يكن من أهل الشَّهَادَة لِأَن الْأَهْلِيَّة للشَّهَادَة تبتنى على الْأَهْلِيَّة للولاية على الْغَيْر وَالرّق يَنْفِي هَذِه الْولَايَة وَهَذَا لِأَن الشَّهَادَة تَنْفِيذ القَوْل على الْغَيْر وَذَلِكَ يَنْعَدِم فِي الْخَبَر من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن الْمخبر لَا يلْزم أحدا شَيْئا وَلَكِن السَّامع إِنَّمَا يلْتَزم باعتقاده أَن الْمخبر عَنهُ مفترض الطَّاعَة (فَإِذا ترجح جَانب الصدْق فِي خبر الْمخبر ضاهى ذَلِك المسموع مِمَّن هُوَ مفترض الطَّاعَة) فِي اعْتِقَاده فَيلْزمهُ الْعَمَل بِاعْتِبَار اعْتِقَاده كَالْقَاضِي يلْزمه الْقَضَاء بِالشَّهَادَةِ بتقلده هَذِه الْأَمَانَة لَا بإلزام الشَّاهِد إِيَّاه فَإِن كَلَام الشَّاهِد يلْزم الْمَشْهُود عَلَيْهِ دون القَاضِي وَبَيَان هَذَا أَن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا صَلَاة إِلَّا بِقِرَاءَة لَيْسَ فِي ظَاهره إِلْزَام أحد شَيْئا بل بَيَان صفة تتأدى بِهِ الصَّلَاة إِذا أرادها بِمَنْزِلَة قَول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الْقَائِل لَا خياطَة إِلَّا بالإبرة وَالثَّانِي أَن الْمخبر يلْتَزم أَولا ثمَّ يتَعَدَّى حكم اللُّزُوم إِلَى غَيره من السامعين فَأَما الشَّاهِد فَإِنَّهُ يلْزم غَيره ابْتِدَاء وَلِهَذَا جعلنَا العَبْد بِمَنْزِلَة الْحر فِي الشَّهَادَة الَّتِي يكون فِيهَا الْتِزَام على الْوَجْه الَّذِي يكون فِي الْخَبَر وَهُوَ الشَّهَادَة على رُؤْيَة هِلَال رَمَضَان ثمَّ قد صَحَّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُجيب دَعْوَة الْمَمْلُوك فَدلَّ أَنه كَانَ يعْتَمد خَبره بِأَن مَوْلَاهُ أذن لَهُ وسلمان رَضِي الله عَنهُ حِين كَانَ عبدا أَتَاهُ بِصَدقَة فاعتمد خَبره وَأمر أَصْحَابه بِالْأَكْلِ ثمَّ أَتَاهُ بهدية فاعتمد خَبره وَأكل مِنْهُ وَكَانَ يعْتَمد خبر بَرِيرَة رَضِي الله عَنْهَا قبل أَن تعْتق وَبعد عتقهَا فَدلَّ أَن الْمَمْلُوك فِي حكم قبُول الْخَبَر كَالْحرِّ وَأَن الْأُنْثَى فِي ذَلِك كالذكر وَإِن تَفَاوتا فِي حكم الشَّهَادَة لِأَنَّهُ يشْتَرط الْعدَد فِي النِّسَاء لثُبُوت معنى الشَّهَادَة وَفِي بَاب الْخَبَر الْعدَد لَيْسَ بِشَرْط فَكَمَا فَارق الشَّهَادَة الْخَبَر فِي اشْتِرَاط أصل الْعدَد فَكَذَلِك فِي اشْتِرَاط الْعدَد فِي النِّسَاء أَلا ترى أَن الصَّحَابَة كَانُوا يرجعُونَ إِلَى أَزوَاج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يشكل عَلَيْهِم من أَمر الدّين فيعتمدون خبرهن وَقَالَ رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام تأخذون ثُلثي دينكُمْ من عَائِشَة وَأما الْعَمى فَإِنَّهُ لَا يُؤثر فِي الْخَبَر لِأَنَّهُ لَا يقْدَح فِي الْعَدَالَة أَلا ترى أَنه قد كَانَ فِي الرُّسُل من ابْتُلِيَ بذلك كشعيب وَيَعْقُوب وَكَانَ فِي الصَّحَابَة من ابْتُلِيَ بِهِ كَابْن أم مَكْتُوم وعتبان بن مَالك رَضِي الله عَنْهُمَا وَفِيهِمْ من كف بَصَره كَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَجَابِر وواثلة بن الْأَسْقَع رَضِي الله عَنْهُم وَالْأَخْبَار المروية عَنْهُم مَقْبُولَة وَلم يشْتَغل أحد بِطَلَب التَّارِيخ فِي ذَلِك أَنهم رووا فِي حَالَة الْبَصَر أم بعد الْعَمى وَهَذَا بِخِلَاف الشَّهَادَة فَإِن شَهَادَتهم إِنَّمَا لَا تقبل لحَاجَة الشَّاهِد إِلَى تَمْيِيز بَين الْمَشْهُود لَهُ والمشهود عَلَيْهِ عِنْد الْأَدَاء وَهَذَا التَّمْيِيز من الْبَصِير يكون بالمعاينة وَمن الْأَعْمَى بالاستدلال وَبَينهمَا تفَاوت يُمكن التَّحَرُّز عَنهُ فِي جنس الشُّهُود وَفِي رِوَايَة الْخَبَر لَا حَاجَة إِلَى هَذَا التَّمْيِيز فَكَانَ الْأَعْمَى والبصير فِيهِ سَوَاء والمحدود فِي الْقَذْف بعد التَّوْبَة فِي رِوَايَة الْخَبَر كَغَيْرِهِ فِي ظَاهر الْمَذْهَب فَإِن أَبَا بكرَة رَضِي الله عَنهُ مَقْبُول الْخَبَر وَلم يشْتَغل أحد بِطَلَب التَّارِيخ فِي خَبره أَنه روى بَعْدَمَا أقيم عَلَيْهِ الْحَد أم قبله بِخِلَاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 الشَّهَادَة فَإِن رد شَهَادَته من تَمام حَده ثَبت ذَلِك بِالنَّصِّ وَرِوَايَة الْخَبَر لَيست فِي معنى الشَّهَادَة أَلا ترى أَنه لَا شَهَادَة للنِّسَاء فِي الْحُدُود أصلا وروايتهن فِي بَاب الْحُدُود كَرِوَايَة الرِّجَال وَفِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه لَا يكون الْمَحْدُود فِي الْقَذْف مَقْبُول الرِّوَايَة لِأَنَّهُ مَحْكُوم بكذبه بِالنَّصِّ قَالَ تَعَالَى {فَأُولَئِك عِنْد الله هم الْكَاذِبُونَ} والمحكوم بِالْكَذِبِ فِيمَا يرجع إِلَى التعاطي لَا يكون عدلا وَمن شَرط كَون الْخَبَر حجَّة الْعَدَالَة مُطلقًا كَمَا بَينا فصل فِي بَيَان ضبط الْمَتْن وَالنَّقْل بِالْمَعْنَى قَالَ بعض أهل الحَدِيث مُرَاعَاة اللَّفْظ فِي الرِّوَايَة وَاجِب على وَجه لَا يجوز النَّقْل بِالْمَعْنَى من غير مُرَاعَاة اللَّفْظ بِحَال وَذَلِكَ مَنْقُول عَن ابْن سِيرِين قَالَ بعض أهل النّظر قَول الصَّحَابِيّ على سَبِيل الْحِكَايَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَقْوَاله وأفعاله لَا يكون حجَّة بل يجب طلب لفظ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك الْبَاب حَتَّى يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ وَهَذَا قَول مهجور وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء مُرَاعَاة اللَّفْظ فِي النَّقْل أولى وَيجوز النَّقْل بِالْمَعْنَى بعد حسن الضَّبْط على تَفْصِيل نذكرهُ فِي آخر الْفَصْل وَقد نقل ذَلِك عَن الْحسن وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ فَأَما من لم يجوز ذَلِك اسْتدلَّ بقوله عَلَيْهِ السَّلَام نضر الله امْرأ سمع مَقَالَتي فوعاها وأداها كَمَا سَمعهَا فَرب حَامِل فقه إِلَى غير فَقِيه وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ فقد أَمر بمراعاة اللَّفْظ فِي النَّقْل وَبَين الْمَعْنى فِيهِ وَهُوَ تفَاوت النَّاس فِي الْفِقْه والفهم وَاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى يُوجب الْحجر عَاما عَن تَبْدِيل اللَّفْظ بِلَفْظ آخر وَهَذَا لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُوتِيَ من جَوَامِع الْكَلم والفصاحة فِي الْبَيَان مَا هُوَ نِهَايَة لَا يُدْرِكهُ فِيهِ غَيره فَفِي التبديل بِعِبَارَة أُخْرَى لَا يُؤمن التحريف أَو الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فِيمَا كَانَ مرَادا لَهُ وَحجَّتنَا فِي ذَلِك مَا اشْتهر من قَول الصَّحَابَة أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكَذَا ونهانا عَن كَذَا وَلَا يمْتَنع أحد من قبُول ذَلِك إِلَّا من هُوَ متعنت وروينا عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ إِذا روى حَدِيثا قَالَ نَحْو هَذَا أَو قَرِيبا مِنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ وَكَانَ أنس رَضِي الله عَنهُ إِذا روى حَدِيثا قَالَ فِي آخِره أَو كَمَا قَالَ رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام فَدلَّ أَن النَّقْل بِالْمَعْنَى كَانَ مَشْهُورا فيهم وَكَذَلِكَ الْعلمَاء بعدهمْ يذكرُونَ فِي تصانيفهم بلغنَا نَحوا من ذَلِك وَهَذَا لِأَن نظم الحَدِيث لَيْسَ بمعجز وَالْمَطْلُوب مِنْهُ مَا يتَعَلَّق بِمَعْنَاهُ وَهُوَ الحكم من غير أَن يكون لَهُ تعلق بِصُورَة النّظم وَقد علمنَا أَن الْأَمر بالتبليغ لما هُوَ الْمَقْصُود بِهِ فَإِذا كمل ذَلِك بِالنَّقْلِ بِالْمَعْنَى كَانَ ممتثلا لما أَمر بِهِ من النَّقْل لَا مرتكبا لِلْحَرَامِ وَإِنَّمَا يعْتَبر النّظم فِي نقل الْقُرْآن لِأَنَّهُ معجز مَعَ أَنه قد ثَبت أَيْضا فِيهِ نوع رخصَة ببركة دُعَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي قَوْله أنزل الْقُرْآن على سَبْعَة أحرف إِلَّا أَن فِي ذَلِك رخصَة من حَيْثُ الْإِسْقَاط وَهَذَا من حَيْثُ التَّخْفِيف والتيسير وَمعنى الرُّخْصَة يتَحَقَّق بالطريقين كَمَا تقدم بَيَانه إِذا عرفنَا هَذَا فَنَقُول الْخَبَر إِمَّا أَن يكون محكما لَهُ معنى وَاحِد مَعْلُوم بِظَاهِر الْمَتْن أَو يكون ظَاهرا مَعْلُوم الْمَعْنى بِظَاهِرِهِ على احْتِمَال شَيْء آخر كالعام الَّذِي يحْتَمل الْخُصُوص والحقيقة الَّتِي تحْتَمل الْمجَاز أَو يكون مُشكلا أَو يكون مُشْتَركا يعرف المُرَاد بالتأويل أَو يكون مُجملا لَا يعرف المُرَاد بِهِ إِلَّا بِبَيَان أَو يكون متشابها أَو يكون من جَوَامِع الْكَلم فَأَما الْمُحكم يجوز نَقله بِالْمَعْنَى لكل من كَانَ عَالما بِوُجُوه اللُّغَة لِأَن المُرَاد بِهِ مَعْلُوم حَقِيقَة وَإِذا كَسَاه الْعَالم باللغة عبارَة أُخْرَى لَا يتَمَكَّن فِيهِ تُهْمَة الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فَأَما الظَّاهِر فَلَا يجوز نَقله بِالْمَعْنَى إِلَّا لمن جمع إِلَى الْعلم باللغة الْعلم بِفقه الشَّرِيعَة لِأَنَّهُ إِذا لم يكن عَالما بذلك لم يُؤمن إِذا كَسَاه عبارَة أُخْرَى أَن لَا تكون تِلْكَ الْعبارَة فِي احْتِمَال الْخُصُوص وَالْمجَاز مثل الْعبارَة الأولى وَإِن كَانَ ذَلِك هُوَ المُرَاد بِهِ وَلَعَلَّ الْعبارَة الَّتِي يروي بهَا تكون أَعم من تِلْكَ الْعبارَة لجهله بِالْفرقِ بَين الْخَاص وَالْعَام فَإِذا كَانَ عَالما بِفقه الشَّرِيعَة يَقع الْأَمْن عَن هَذَا التَّقْصِير مِنْهُ عِنْد تَغْيِير الْعبارَة فَيجوز لَهُ النَّقْل بِالْمَعْنَى كَمَا كَانَ يَفْعَله الْحسن وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ رَحِمهم الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 فَأَما الْمُشكل والمشترك لَا يجوز فيهمَا النَّقْل بِالْمَعْنَى أصلا لِأَن المُرَاد بهما لَا يعرف إِلَّا بالتأويل والتأويل يكون بِنَوْع من الرَّأْي كالقياس فَلَا يكون حجَّة على غَيره وَأما الْمُجْمل فَلَا يتَصَوَّر فِيهِ النَّقْل بِالْمَعْنَى لِأَنَّهُ لَا يُوقف على الْمَعْنى فِيهِ إِلَّا بِدَلِيل آخر والمتشابه كَذَلِك لأَنا ابتلينا بالكف عَن طلب الْمَعْنى فِيهِ فَكيف يتَصَوَّر نَقله بِالْمَعْنَى وَأما مَا يكون من جَوَامِع الْكَلم كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام الْخراج بِالضَّمَانِ وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام العجماء جَبَّار وَمَا أشبه ذَلِك فقد جوز بعض مَشَايِخنَا نَقله بِالْمَعْنَى على الشَّرْط الَّذِي ذكرنَا فِي الظَّاهِر قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَنه لَا يجوز ذَلِك لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ مَخْصُوصًا بِهَذَا النّظم على مَا رُوِيَ أَنه قَالَ أُوتيت جَوَامِع الْكَلم أَي خصصت بذلك فَلَا يقدر أحد بعده على مَا كَانَ هُوَ مَخْصُوصًا بِهِ وَلَكِن كل مُكَلّف بِمَا فِي وَسعه وَفِي وَسعه نقل ذَلِك اللَّفْظ ليَكُون مُؤديا إِلَى غَيره مَا سَمعه مِنْهُ بِيَقِين وَإِذا نَقله إِلَى عِبَارَته لم يُؤمن الْقُصُور فِي الْمَعْنى الْمَطْلُوب بِهِ ويتيقن بالقصور فِي النّظم الَّذِي هُوَ من جَوَامِع الْكَلم وَكَانَ هَذَا النَّوْع هُوَ مُرَاد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله ثمَّ أَدَّاهَا كَمَا سَمعهَا فصل فِي بَيَان الضَّبْط بِالْكِتَابَةِ والخط قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْكِتَابَة نَوْعَانِ تذكرة وَإِمَام فالتذكرة هُوَ أَن ينظر فِي الْمَكْتُوب فيتذكر بِهِ مَا كَانَ مسموعا لَهُ وَالنَّقْل بِهَذَا الطَّرِيق جَائِز سَوَاء كَانَ مَكْتُوبًا بِخَطِّهِ أَو بِخَط غَيره وَذَلِكَ الْخط مَعْرُوف أَو مَجْهُول لِأَنَّهُ إِنَّمَا ينْقل مَا يحفظ غير أَن النّظر فِي الْكتاب كَانَ مذكرا لَهُ فَلَا يكون دون التفكر وَلَو تفكر فَتذكر جَازَ لَهُ أَن يروي وَيكون خَبره حجَّة فَكَذَلِك إِذا نظر فِي الْكتاب فَتذكر وَلِهَذَا الْمَقْصُود ندب إِلَى الْكتاب على مَا جَاءَ فِي الحَدِيث قيدوا الْعلم بِالْكتاب وَقَالَ إِبْرَاهِيم كَانُوا يَأْخُذُونَ الْعلم حفظا ثمَّ أُبِيح لَهُم الْكِتَابَة لما حدث بهم من الكسل وَلِأَن النسْيَان مركب فِي الْإِنْسَان لَا يُمكنهُ أَن يحفظ نَفسه مِنْهُ إِلَّا مَا كَانَ خَاصّا لرَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام بقوله سنقرئك فَلَا تنسى إِلَّا مَا شَاءَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 الله وَلِهَذَا الِاسْتِثْنَاء وَقع لرَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام تردد فِي قِرَاءَته سُورَة الْمُؤمنِينَ فِي صَلَاة الْفجْر حَتَّى قَالَ لأبي رَضِي الله عَنهُ (هلا ذَكرتني) فَثَبت أَن النسْيَان مِمَّا لَا يُسْتَطَاع الِامْتِنَاع مِنْهُ إِلَّا بحرج بَين والحرج مَدْفُوع وَبعد النسْيَان النّظر فِي الْكتاب طَرِيق للتذكر وَالْعود إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْحِفْظ وَإِذا عَاد كَمَا كَانَ فَالرِّوَايَة تكون عَن ضبط تَامّ وَأما النَّوْع الثَّانِي فَهُوَ أَن لَا يتَذَكَّر عِنْد النّظر وَلكنه يعْتَمد الْخط وَذَلِكَ يكون فِي فُصُول ثَلَاثَة رِوَايَة الحَدِيث وَالْقَاضِي يجد فِي خريطته سجلا مخطوطا بِخَطِّهِ من غير أَن يتَذَكَّر الْحَادِثَة وَالشَّاهِد يرى خطه فِي الصَّك وَلَا يتَذَكَّر الْحَادِثَة ف أَبُو حنيفَة رَحمَه الله أَخذ فِي الْفُصُول الثَّلَاثَة بِمَا هُوَ الْعَزِيمَة وَقَالَ لَا يجوز لَهُ أَن يعْتَمد الْكتاب مَا لم يتَذَكَّر لِأَن النّظر فِي الْكتاب لمعْرِفَة الْقلب كالنظر فِي الْمرْآة للرؤية بِالْعينِ ثمَّ النّظر فِي الْمرْآة إِذا لم تفده إدراكا لَا يكون مُعْتَبرا فالنظر فِي الْكتاب إِذا لم يفده تذكرا يكون هدرا وَهَذَا لِأَن الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة وتنفيذ الْقَضَاء لَا يكون إِلَّا بِعلم والخط يشبه الْخط فبصورة الْخط لَا يَسْتَفِيد علما من غير التَّذَكُّر وَمَا كَانَ الْفساد فِي سَائِر الْأَدْيَان إِلَّا بالاعتماد على الصُّور بِدُونِ الْمَعْنى وروى بشر بن الْوَلِيد عَن أبي يُوسُف رحمهمَا الله أَن فِي السّجل وَرِوَايَة الْأَثر يجوز لَهُ أَن يعْتَمد الْخط وَإِن لم يتَذَكَّر بِهِ وَفِي الصَّك لَا يجوز لَهُ ذَلِك وروى ابْن رستم عَن مُحَمَّد رحمهمَا الله أَن ذَلِك جَائِز فِي الْفُصُول كلهَا وَمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رخصَة للتيسير على النَّاس ثمَّ هَذِه الرُّخْصَة تتنوع أنواعا إِمَّا أَن يكون الْكتاب بِخَطِّهِ أَو بِخَط رجل مَعْرُوف ثِقَة موقع بتوقيعه أَو بِخَط رجل مَعْرُوف غير ثِقَة أَو غير موقع أَو بِخَط مَجْهُول أما أَبُو يُوسُف رَحمَه الله فَقَالَ السّجل يكون فِي خريطة القَاضِي مَخْتُومًا بختمه وَكَانَ فِي يَده أَيْضا فباعتبار الظَّاهِر يُؤمن فِيهِ التزوير والتبديل بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَان وَالْقَاضِي مَأْمُور بِاتِّبَاع الظَّاهِر فِي الْقَضَاء فَلهُ أَن يعْتَمد السّجل فِي ذَلِك وَكَذَلِكَ كتاب الْمُحدث إِذا كَانَ فِي يَده وَإِن لم يكن السّجل فِي يَد القَاضِي فَلَيْسَ لَهُ أَن يعتمده لِأَن التزوير والتغيير فِيهِ عَادَة لما يبتنى عَلَيْهِ من الْمَظَالِم والخصومات وَمثله فِي كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 الحَدِيث لَيْسَ بعادة فَلَا فرق فِيهِ بَين أَن يكون فِي يَده أَو فِي يَد أَمِين آخر لم يظْهر مِنْهُ خِيَانَة فِي مثله وَأما الصَّك فَيكون بيد الْخصم فَلَا يَقع الْأَمْن فِيهِ عَن التَّغْيِير والتزوير حَتَّى إِذا كَانَ فِي يَد الشَّاهِد كَانَ الْجَواب فِيهِ مثل الْجَواب فِي السّجل وَالْحَاصِل أَنه بنى هَذِه الرُّخْصَة على مَا يُوقع الْأَمْن عَن التَّغْيِير وَالتَّعْدِيل عَادَة وَمُحَمّد رَحمَه الله أثبت الرُّخْصَة فِي الصَّك أَيْضا وَإِن لم يكن فِي يَده إِذا علم أَن الْمَكْتُوب خطه على وَجه لَا يبْقى فِيهِ شُبْهَة لَهُ لِأَن الْبَاقِي بعد ذَلِك توهم التَّغْيِير وَله أثر بَين يُوقف عَلَيْهِ فَإِذا لم يظْهر ذَلِك فِيهِ جَازَ اعْتِمَاده فَأَما إِذا وجد الْكتاب بِخَط بَين وَهُوَ مَعْلُوم عِنْده أَو بِخَط رجل مَعْرُوف موثق بِهِ فَإِنَّهُ يجوز لَهُ أَن يَقُول وجدت بِخَط فلَان كَذَا لَا يزِيد على ذَلِك ثمَّ إِن كَانَ ذَلِك الْخط مُنْفَردا لَيْسَ مَعَه شَيْء آخر فَإِنَّهُ لَا يكون حجَّة وَإِن كَانَ مَعَه غَيره فَذَلِك يُوقع الْأَمْن عَن التزوير بطرِيق الْعَادة فَيجوز اعْتِمَاده على وَجه الرُّخْصَة (وَهَذَا فِي الْأَخْبَار خَاصَّة) فَأَما فِي الشَّهَادَة وَالْقَضَاء فَلَا لِأَن ذَلِك من مظالم الْعباد يعْتَبر فِيهِ من الِاسْتِقْصَاء مَا لَا يعْتَبر فِي رِوَايَة الْأَخْبَار وَاشْتِرَاط الْعلم فِيهِ مَنْصُوص عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى {إِلَّا من شهد بِالْحَقِّ وهم يعلمُونَ} وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام للشَّاهِد إِذا رَأَيْت مثل هَذَا الشَّمْس فاشهد وَإِلَّا فدع فصل فِي بَيَان وُجُوه الِانْقِطَاع قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الِانْقِطَاع نَوْعَانِ انْقِطَاع صُورَة وَانْقِطَاع معنى أما صُورَة الِانْقِطَاع صُورَة فَفِي الْمَرَاسِيل من الْأَخْبَار وَلَا خلاف بَين الْعلمَاء فِي مَرَاسِيل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَنَّهَا حجَّة لأَنهم صحبوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا يَرْوُونَهُ عَن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام مُطلقًا يحمل على أَنهم سَمِعُوهُ مِنْهُ أَو من أمثالهم وهم كَانُوا أهل الصدْق وَالْعَدَالَة وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْبَراء بن عَازِب رَضِي الله عَنْهُمَا بقوله مَا كل مَا نحدثكم بِهِ سمعناه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا كَانَ يحدث بَعْضنَا بَعْضًا وَلَكنَّا لَا نكذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 فَأَما مَرَاسِيل الْقرن الثَّانِي وَالثَّالِث حجَّة فِي قَول عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يكون حجَّة إِلَّا إِذا تأيد بِآيَة أَو سنة مَشْهُورَة أَو اشْتهر الْعَمَل بِهِ من السّلف أَو اتَّصل من وَجه آخر قَالَ وَلِهَذَا جعلت مَرَاسِيل سعيد بن الْمسيب حجَّة لِأَنِّي اتبعتها فَوَجَدتهَا مسانيد احْتج فِي ذَلِك فَقَالَ الْخَبَر إِنَّمَا يكون حجَّة بِاعْتِبَار أَوْصَاف فِي الرَّاوِي وَلَا طَرِيق لمعْرِفَة تِلْكَ الْأَوْصَاف فِي الرَّاوِي إِذا كَانَ غير مَعْلُوم الأَصْل فَلَا تقوم الْحجَّة بِمثل هَذِه الرِّوَايَة وإعلامه بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ فِي حَيَاته وبذكر اسْمه وَنسبه بعد وَفَاته فَإِذا لم يذكرهُ أصلا فقد تحقق انْقِطَاع هَذَا الْخَبَر عَن رَسُول الله وَالْحجّة فِي الْخَبَر باتصاله برَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام فَبعد الِانْقِطَاع لَا يكون حجَّة وَلَا يُقَال إِن رِوَايَة الْعدْل عَنهُ تكون تعديلا لَهُ وَإِن لم يذكر اسْمه لِأَن طَرِيق معرفَة الْجرْح وَالْعَدَالَة الِاجْتِهَاد وَقد يكون الْوَاحِد عدلا عِنْد إِنْسَان مجروحا عِنْد غَيره بِأَن يقف مِنْهُ على مَا كَانَ الآخر لَا يقف عَلَيْهِ أَلا ترى أَن شُهُود الْفَرْع إِذا شهدُوا على شَهَادَة الْأُصُول من غير ذكرهم فِي شَهَادَتهم لَا تكون شَهَادَتهم حجَّة لهَذَا الْمَعْنى يُوضحهُ أَنه قد كَانَ فيهم من يروي عَمَّن هُوَ مَجْرُوح عِنْده على مَا قَالَ الشّعبِيّ رَحمَه الله حَدثنِي الْحَارِث وَكَانَ وَالله كذابا فَعرفنَا أَن بروايته عَنهُ لَا يثبت فِيهِ مَا يشْتَرط فِي الرَّاوِي فَيكون خَبره حجَّة وَلِأَن النَّاس تكلفوا بِحِفْظ الْأَسَانِيد فِي بَاب الْأَخْبَار فَلَو كَانَت الْحجَّة تقوم بالمراسيل لَكَانَ تكلفهم اشتغالا بِمَا لَا يُفِيد فيبعد أَن يُقَال اجْتمع النَّاس على مَا لَيْسَ بمفيد وَلَكنَّا نقُول الدَّلَائِل الَّتِي دلّت على كَون خبر الْوَاحِد حجَّة من الْكتاب وَالسّنة كلهَا تدل على كَون الْمُرْسل من الْأَخْبَار حجَّة ثمَّ قد ظهر الْإِرْسَال من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَمن بعدهمْ ظهورا لَا يُنكره إِلَّا متعنت أما من الصَّحَابَة فبيانه فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من أصبح جنبا فَلَا صَوْم لَهُ وَلما أنْكرت ذَلِك عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَ هِيَ أعلم حَدثنِي بِهِ الْفضل بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فقد أرسل الرِّوَايَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غير سَماع مِنْهُ وَقيل إِن ابْن عَبَّاس مَا سمع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا بضعَة عشر حَدِيثا وَقد كثرت رِوَايَته مُرْسلا وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك سَمَاعا من غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر وَإِنَّمَا سمع ذَلِك من أَخِيه الْفضل ونعمان بن بشير رَضِي الله عَنْهُم مَا سمع من رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا حَدِيثا وَاحِدًا وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام إِن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح سَائِر جسده وَإِذا فَسدتْ فسد سَائِر جسده أَلا وَهِي الْقلب ثمَّ كثرت رِوَايَته عَن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام مُرْسلا وَالْحسن وَسَعِيد بن الْمسيب رَضِي الله عَنْهُمَا وَغَيرهمَا من أَئِمَّة التَّابِعين كَانَ كثيرا مَا يروون مُرْسلا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى قيل أَكثر مَا رَوَاهُ سعيد بن الْمسيب مُرْسلا إِنَّمَا سَمعه من عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ الْحسن كنت إِذا اجْتمع لي أَرْبَعَة من الصَّحَابَة على حَدِيث أَرْسلتهُ إرْسَالًا وَقَالَ ابْن سِيرِين رَضِي الله عَنهُ مَا كُنَّا نسند الحَدِيث إِلَى أَن وَقعت الْفِتْنَة فَقَالَ الْأَعْمَش قلت لإِبْرَاهِيم إِذا رويت لي حَدِيثا عَن عبد الله فأسنده لي فَقَالَ إِذا قلت لَك حَدثنِي فلَان عَن عبد الله فَهُوَ ذَاك وَإِذا قلت لَك قَالَ عبد الله فَهُوَ غير وَاحِد وَلِهَذَا قَالَ عِيسَى بن أبان الْمُرْسل أقوى من الْمسند فَإِن من اشْتهر عِنْده حَدِيث (بِأَن سَمعه) بطرق طوى الْإِسْنَاد لوضوح الطَّرِيق عِنْده وَقطع الشَّهَادَة بقوله قَالَ رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَإِذا سَمعه بطرِيق وَاحِد لَا يَتَّضِح الْأَمر عِنْده على وَجه لَا يبْقى لَهُ فِيهِ شُبْهَة فيذكره مُسْندًا على قصد أَن يحملهُ من يحمل عَنهُ فَإِن قيل فعلى هَذَا يَنْبَغِي أَن يجوز النّسخ بالمرسل كَمَا يجوز بَين الْأَخْبَار بالمشهور عنْدكُمْ قُلْنَا إِنَّمَا لم يجز ذَلِك لِأَن قُوَّة الْمُرْسل من هَذَا الْوَجْه بِنَوْع من الِاجْتِهَاد فَيكون نَظِير قُوَّة تثبت بطرِيق الْقيَاس والنسخ بِمثلِهِ لَا يجوز ثمَّ رِوَايَة هَؤُلَاءِ الْكِبَار مُرْسلا أما إِن كَانَ بِاعْتِبَار سماعهم مِمَّن لَيْسَ بِعدْل عِنْدهم أَو بِاعْتِبَار سماعهم من عدل مَعَ اعْتِقَادهم أَن ذَلِك لَيْسَ بِحجَّة أَو على اعْتِقَادهم أَن الْمُرْسل حجَّة كالمسند وَالْأول بَاطِل فَإِن من يستجيز الرِّوَايَة عَمَّن يعرفهُ غير عدل بِهَذِهِ الصّفة لَا يعْتَمد رِوَايَته مُرْسلا وَلَا مُسْندًا وَلَا يجوز أَن يظنّ بهم هَذَا وَالثَّانِي بَاطِل لِأَنَّهُ قَول بِأَنَّهُم كتموا مَوضِع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 الْحجَّة بترك الْإِسْنَاد مَعَ علمهمْ أَن الْحجَّة لَا تقوم بِدُونِهِ فَتعين الثَّالِث وَهُوَ أَنهم اعتقدوا أَن الْمُرْسل حجَّة كالمسند وَكفى باتفاقهم حجَّة وَقَالَ الشَّافِعِي فِي بعض كتبه إِنَّمَا أرْسلُوا ليطلب ذَلِك فِي الْمسند وَهَذَا كَلَام فَاسد لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يُقَال لم يكن عِنْدهم إِسْنَاد ذَلِك أَو كَانَ وَلم يذكرُوا وَالْأول بَاطِل لِأَن فِيهِ قولا بِأَنَّهُم تخرصوا مَا لم يسمعوا ليطلب ذَلِك فِي المسموعات وَلَا يجوز ذَلِك لمن هُوَ دونهم فَكيف بهم وَالثَّانِي بَاطِل لِأَنَّهُ إِذا كَانَ عِنْدهم الْإِسْنَاد وَقد علمُوا أَن الْحجَّة لَا تقوم بِدُونِهِ فَلَيْسَ فِي تَركه إِلَّا الْقَصْد إِلَى إتعاب النَّفس بِالطَّلَبِ وَلَو قَالَ من أنكر الِاحْتِجَاج بِخَبَر الْوَاحِد إِنَّهُم إِنَّمَا رووا ذَلِك ليطلب ذَلِك فِي الْمُتَوَاتر لَا يكون هَذَا الْكَلَام مَقْبُولًا مِنْهُ بالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِك هَذَا يقرره أَن الْمُفْتِي إِذا قَالَ للمستفتي قضى رَسُول الله فِي هَذِه الْحَادِثَة بِكَذَا كَانَ عَلَيْهِ أَن يعْمل بِهِ وَإِن لم يذكر لَهُ إِسْنَادًا فَكَذَلِك إِذا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَا وَلَو قَالَ روى فلَان عَن فلَان قبل ذَلِك مِنْهُ وَإِن لم يقل حَدثنِي وَلَا سمعته مِنْهُ وَهَذَا فِي معنى الْإِرْسَال فَإِن قَالَ إِنَّمَا نجيزه على هَذَا الْوَجْه عَمَّن لَقِي فَيحمل مُطلق كَلَامه على المسموع مِنْهُ قُلْنَا لما جَازَ حمل كَلَامه على هَذَا وَإِن لم ينص عَلَيْهِ لتحسين الظَّن بِهِ فَكَذَلِك يجوز حمل كَلَامه عِنْد الْإِرْسَال على السماع مِمَّن هُوَ عدل بِاعْتِبَار الظَّاهِر لتحسين الظَّن بِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا طَرِيق لنا إِلَى معرفَة الشَّرَائِط للرواية فِيمَن لم يُدْرِكهُ إِلَّا بِالسَّمَاعِ مِمَّن أدْركهُ وَإِذا كَانَ من أدْركهُ عدلا ثِقَة فَإِنَّهُ لَا يروي عَنهُ مُطلقًا مَا لم يعرف استجماع الشَّرَائِط فِيهِ فبروايته عَنهُ يثبت لنا استجماع الشَّرَائِط أَلا ترى أَنه لَو أسْند الرِّوَايَة إِلَيْهِ يثبت استجماع الشَّرَائِط فِيهِ بروايته عَنهُ فَكَذَلِك إِذا أرْسلهُ بل أولى لِأَنَّهُ إِذا أسْند إِلَيْهِ فَإِنَّمَا شهد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ روى ذَلِك فَإِذا أرسل فَإِنَّمَا يشْهد على رَسُول الله أَنه قَالَ ذَلِك وَمن علم أَنه لَا يستجيز الشَّهَادَة على غير رَسُول الله بِالْبَاطِلِ فَكيف يظنّ أَن يستجيز الشَّهَادَة على رَسُول الله بِالْبَاطِلِ مَعَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار يُوضحهُ أَن القَاضِي إِذا كتب سجلا فِيهِ قَضَاؤُهُ فِي حَادِثَة وَأشْهد على ذَلِك كَانَ ذَلِك حجَّة وَإِن لم يبين اسْم الشُّهُود فِي المسجل وَمَا كَانَ ذَلِك إِلَّا بِهَذَا الطَّرِيق وَهَذَا بِخِلَاف الشُّهُود على شَهَادَة الْغَيْر لِأَن الْعلمَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 مُخْتَلفُونَ فِي أَن عِنْد الرُّجُوع هَل يجب الضَّمَان على شُهُود الأَصْل أم لَا فَلَعَلَّ القَاضِي مِمَّن يرى تضمينهم فَلَا يتَمَكَّن من الْقَضَاء بِهِ إِذا لم يَكُونُوا معلومين عِنْده وَمثل هَذَا لَا يتَحَقَّق فِي بَاب الْأَخْبَار مَعَ أَن شَاهد الْفَرْع يَنُوب عَن شَاهد الأَصْل فِي نقل شَهَادَته أَلا ترى أَنه لَو أشهد قوما على شَهَادَته فَسَمعهُ آخَرُونَ لم يكن لَهُم أَن يشْهدُوا على شَهَادَته بِخِلَاف رِوَايَة الْأَخْبَار وَإِذا كَانَ الفرعي يعبر عَن الأَصْل بِشَهَادَتِهِ لم يجد بدا من ذكره ليَكُون معبرا أَلا ترى أَنه لَو قَالَ أشهد عَن فلَان لم يكن ذَلِك مَقْبُولًا وَهنا لَو قَالَ أروي عَن فلَان كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ ثمَّ اشْتِغَال النَّاس بِالْإِسْنَادِ كاشتغالهم بالتكلف لسَمَاع الحَدِيث من وُجُوه وَذَلِكَ لَا يدل على أَن خبر الْوَاحِد لَا يكون حجَّة فَكَذَلِك اشتغالهم بِالْإِسْنَادِ لَا يكون دَلِيلا على أَن الْمُرْسل لَا يكون حجَّة فَأَما مَرَاسِيل من بعد الْقُرُون الثَّلَاثَة فقد كَانَ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي رَحمَه الله لَا يفرق بَين مَرَاسِيل أهل الْأَعْصَار وَكَانَ يَقُول من تقبل رِوَايَته مُسْندًا تقبل رِوَايَته مُرْسلا للمعنى الَّذِي ذكرنَا وَكَانَ عِيسَى بن أبان رَحمَه الله يَقُول من اشْتهر فِي النَّاس بِحمْل الْعلم مِنْهُ تقبل رِوَايَته مُرْسلا وَمُسْندًا وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ مُحَمَّد بن الْحسن رَحمَه الله وَأَمْثَاله من الْمَشْهُورين بِالْعلمِ وَمن لم يشْتَهر بِحمْل النَّاس الْعلم مِنْهُ مُطلقًا وَإِنَّمَا اشْتهر بالرواية عَنهُ فَإِن مُسْنده يكون حجَّة ومرسله يكون مَوْقُوفا إِلَى أَن يعرض على من اشْتهر بِحمْل الْعلم عَنهُ وَأَصَح الْأَقَاوِيل فِي هَذَا مَا قَالَه أَبُو بكر الرَّازِيّ رَضِي الله عَنهُ أَن مُرْسل من كَانَ من الْقُرُون الثَّلَاثَة حجَّة مَا لم يعرف مِنْهُ الرِّوَايَة مُطلقًا عَمَّن لَيْسَ بِعدْل ثِقَة ومرسل من كَانَ بعدهمْ لَا يكون حجَّة إِلَّا من اشْتهر بِأَنَّهُ لَا يروي إِلَّا عَمَّن هُوَ عدل ثِقَة لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام شهد للقرون الثَّلَاثَة بِالصّدقِ والخيرية فَكَانَت عدالتهم ثَابِتَة بِتِلْكَ الشَّهَادَة مَا لم يتَبَيَّن خلافهم وَشهد على من بعدهمْ بِالْكَذِبِ بقوله ثمَّ يفشو الْكَذِب فَلَا تثبت عَدَالَة من كَانَ فِي زمن شهد على أَهله بِالْكَذِبِ إِلَّا بِرِوَايَة من كَانَ مَعْلُوم الْعَدَالَة يعلم أَنه لَا يروي إِلَّا عَن عدل وَإِلَى نَحْو هَذَا أَشَارَ عُرْوَة بن الزبير رَضِي الله عَنْهُمَا حِين روى لعمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ فَقَالَ أَتَشهد بِهِ على رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ نعم فَمَا يَمْنعنِي من ذَلِك وَقد أَخْبرنِي بِهِ الْعدْل الرِّضَا فَقبل عمر بن عبد الْعَزِيز رِوَايَته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وَاخْتلف أَصْحَاب الحَدِيث فِي مُنْقَطع من وَجه مُتَّصِل من وَجه آخر فَمنهمْ من قَالَ سقط اعْتِبَار الِاتِّصَال فِيهِ بالانقطاع من وَجه وَكَأن هَذَا الْقَائِل جعل الِانْقِطَاع بسكوت رَاوِي الْفَرْع عَن تَسْمِيَة رَاوِي الأَصْل دَلِيل الْجرْح فِيهِ وَإِذا اسْتَوَى الْمُوجب للعدالة والموجب للجرح يغلب الْجرْح وَأَكْثَرهم على أَن هَذَا يكون حجَّة لوُجُود الِاتِّصَال فِيهِ بطرِيق وَاحِد وَالطَّرِيق الآخر الَّذِي هُوَ مُنْقَطع يَجْعَل كَأَن لبس لِأَن ذَلِك الطَّرِيق سَاكِت عَن الرَّاوِي وحاله أصلا وَفِي الطَّرِيق الْمُتَّصِل بَيَان لَهُ وَلَا مُعَارضَة بَين السَّاكِت والناطق فَأَما النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ الِانْقِطَاع معنى يَنْقَسِم قسمَيْنِ إِمَّا أَن يكون ذَلِك الْمَعْنى بِدَلِيل معَارض أَو نُقْصَان فِي حَال الرَّاوِي يثبت بِهِ الِانْقِطَاع فَأَما الْقسم الأول وَهُوَ ثُبُوت الِانْقِطَاع بِدَلِيل معَارض فعلى أَرْبَعَة أوجه إِمَّا أَن يكون مُخَالفا لكتاب الله تَعَالَى أَو لسنة مَشْهُورَة عَن رَسُول الله أَو يكون حَدِيثا شاذا لم يشْتَهر فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى وَيحْتَاج الْخَاص وَالْعَام إِلَى مَعْرفَته أَو يكون حَدِيثا قد أعرض عَنهُ الْأَئِمَّة من الصَّدْر الأول بِأَن ظهر مِنْهُم الِاخْتِلَاف فِي تِلْكَ الْحَادِثَة وَلم تجر بَينهم المحاجة بذلك الحَدِيث فَأَما الْوَجْه الأول وَهُوَ مَا إِذا كَانَ الحَدِيث مُخَالفا لكتاب الله تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يكون مَقْبُولًا وَلَا حجَّة للْعَمَل بِهِ عَاما كَانَت الْآيَة أَو خَاصّا نصا أَو ظَاهرا عندنَا على مَا بَينا أَن تَخْصِيص الْعَام بِخَبَر الْوَاحِد لَا يجوز ابْتِدَاء وَكَذَلِكَ ترك الظَّاهِر فِيهِ وَالْحمل على نوع من الْمجَاز لَا يجوز بِخَبَر الْوَاحِد عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وَقد بَينا هَذَا وَدَلِيلنَا فِي ذَلِك قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام كل شَرط لَيْسَ فِي كتاب الله تَعَالَى فَهُوَ بَاطِل وَكتاب الله أَحَق وَالْمرَاد كل شَرط هُوَ مُخَالف لكتاب الله تَعَالَى لَا أَن يكون المُرَاد مَا لَا يُوجد عينه فِي كتاب الله تَعَالَى فَإِن عين هَذَا الحَدِيث لَا يُوجد فِي كتاب الله تَعَالَى وبالإجماع من الْأَحْكَام مَا هُوَ ثَابت بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس وَإِن كَانَ لَا يُوجد ذَلِك فِي كتاب الله تَعَالَى فَعرفنَا أَن المُرَاد مَا يكون مُخَالفا لكتاب الله تَعَالَى وَذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 تنصيص على أَن كل حَدِيث هُوَ مُخَالف لكتاب الله تَعَالَى فَهُوَ مَرْدُود وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام تكْثر الْأَحَادِيث لكم بعدِي فَإِذا رُوِيَ لكم عني حَدِيث فاعرضوه على كتاب الله تَعَالَى فَمَا وَافقه فاقبلوه وَاعْلَمُوا أَنه مني وَمَا خَالفه فَردُّوهُ وَاعْلَمُوا أَنِّي مِنْهُ بَرِيء وَلِأَن الْكتاب مُتَيَقن بِهِ وَفِي اتِّصَال الْخَبَر الْوَاحِد برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شُبْهَة فَعِنْدَ تعذر الْأَخْذ بهما لَا بُد من أَن يُؤْخَذ بالمتيقن وَيتْرك مَا فِيهِ شُبْهَة وَالْعَام وَالْخَاص فِي هَذَا سَوَاء لما بَينا أَن الْعَام مُوجب للْحكم فِيمَا يتَنَاوَلهُ قطعا كالخاص وَكَذَلِكَ النَّص وَالظَّاهِر سَوَاء لِأَن الْمَتْن من الْكتاب مُتَيَقن بِهِ وَمتْن الحَدِيث لَا يَنْفَكّ عَن شُبْهَة لاحْتِمَال النَّقْل بِالْمَعْنَى ثمَّ قوام الْمَعْنى بِالْمَتْنِ فَإِنَّمَا يشْتَغل بالترجيح من حَيْثُ الْمَتْن أَولا إِلَى أَن يَجِيء إِلَى الْمَعْنى وَلَا شكّ أَن الْكتاب يتَرَجَّح بِاعْتِبَار النَّقْل الْمُتَوَاتر فِي الْمَتْن على خبر الْوَاحِد فَكَانَت مُخَالفَة الْخَبَر للْكتاب دَلِيلا ظَاهرا على الزيافة فِيهِ وَلِهَذَا لم يقبل عُلَمَاؤُنَا خبر الْوضُوء من مس الذّكر لِأَنَّهُ مُخَالف للْكتاب فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا} يَعْنِي الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ فقد مدحهم بذلك وسمى فعلهم تطهرا وَمَعْلُوم أَن الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ لَا يكون إِلَّا بِمَسّ الذّكر فَالْحَدِيث الَّذِي يَجْعَل مَسّه حَدثا بِمَنْزِلَة الْبَوْل يكون مُخَالفا لما فِي الْكتاب لِأَن الْفِعْل الَّذِي هُوَ حدث لَا يكون تطهرا وَكَذَلِكَ لم يقبل حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس فِي أَن لَا نَفَقَة للمبتوتة لِأَنَّهُ مُخَالف للْكتاب وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أسكنوهن من حَيْثُ سكنتم من وجدكم} وَلَا خلاف أَن المُرَاد وأنفقوا عَلَيْهِنَّ من وجدكم فَالْمُرَاد الْحَائِل فَإِنَّهُ عطف عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَإِن كن أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضعن حَملهنَّ} وَكَذَلِكَ لم يقبل خبر الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين لِأَنَّهُ مُخَالف للْكتاب من أوجه فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} الْآيَة وَقَوله واستشهدوا أَمر بِفعل هُوَ مُجمل فِيمَا يرجع إِلَى عدد الشُّهُود كَقَوْل الْقَائِل كل يكون مُجملا فِيمَا يرجع إِلَى بَيَان الْمَأْكُول فَيكون مَا بعده تَفْسِيرا لذَلِك الْمُجْمل وبيانا لجَمِيع مَا هُوَ المُرَاد بِالْأَمر وَهُوَ استشهاد رجلَيْنِ فَكَذَا أَو أَذِنت لَك أَن تعامل فلَانا فَإِن لم يكن ففلانا يكون ذَلِك بَيَانا لجَمِيع مَا هُوَ المُرَاد بِالْأَمر وَالْإِذْن وَإِذا ثَبت أَن جَمِيع مَا هُوَ الْمَذْكُور فِي الْآيَة كَانَ خبر الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين زَائِدا عَلَيْهِ وَالزِّيَادَة على النَّص كالنسخ عندنَا يقرره قَوْله تَعَالَى {وَأدنى أَلا ترتابوا} فقد فَإِن لم يَكُونَا فَرجل وَامْرَأَتَانِ كَقَوْل الْقَائِل كل طَعَام كَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 فَإِن لم يكن نَص على أَن أدنى مَا تَنْتفِي بِهِ الرِّيبَة شَهَادَة شَاهِدين بِهَذِهِ الصّفة وَلَيْسَ دون الْأَدْنَى شَيْء آخر تَنْتفِي بِهِ الرِّيبَة وَلِأَنَّهُ نقل الحكم من استشهاد الرجل الثَّانِي بعد شَهَادَة الشَّاهِد الْوَاحِد إِلَى استشهاد امْرَأتَيْنِ مَعَ أَن حُضُور النِّسَاء مجَالِس الْقَضَاء لأَدَاء الشَّهَادَة خلاف الْعَادة وَقد أمرن بالقرار فِي الْبيُوت شرعا فَلَو كَانَ يَمِين الْمُدَّعِي مَعَ الشَّاهِد الْوَاحِد حجَّة لما نقل الحكم إِلَى استشهاد امْرَأتَيْنِ وَهُوَ خلاف الْمُعْتَاد مَعَ تمكن الْمُدَّعِي من إتْمَام حجَّته بِيَمِينِهِ وبمثل هَذَا الطَّرِيق جعلنَا شَهَادَة أهل الذِّمَّة بَعضهم على بعض حجَّة لِأَن الله تَعَالَى نقل الحكم عَن استشهاد مُسلمين على وَصِيَّة الْمُسلم إِلَى استشهاد ذميين بقوله تَعَالَى {أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ} مَعَ أَن حُضُور أهل الذِّمَّة مجَالِس الْقُضَاة لأَدَاء الشَّهَادَة خلاف الْمُعْتَاد فَذَلِك دَلِيل ظَاهر على أَن الْحجَّة تقوم بِشَهَادَتِهِم فِي الْجُمْلَة وَهُوَ دَلِيل أَيْضا على رد خبر الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين لِأَنَّهُ نقل الحكم إِلَى استشهاد ذميين عِنْد عدم شَاهِدين مُسلمين فَلَو كَانَ الشَّاهِد الْوَاحِد مَعَ يَمِين الْمُدَّعِي حجَّة لَكَانَ الأولى بَيَان ذَلِك عِنْد الْحَاجة وَذكر فِي الْآيَة يَمِين الشَّاهِدين ظَاهرا عِنْد الرِّيبَة مَعَ أَن ذَلِك لَيْسَ بِحجَّة الْيَوْم (لأجل النّسخ) فَلَو كَانَ بِيَمِين الْمُدَّعِي تَنْتفِي الرِّيبَة أَو تتمّ الْحجَّة لَكَانَ الأولى ذكر يَمِينه عِنْد الْحَاجة فبهذه الْوُجُوه يتَبَيَّن أَن خبر الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين مُخَالف للْكتاب فتركنا الْعَمَل بِهِ لهَذَا وَكَذَلِكَ الْغَرِيب من أَخْبَار الْآحَاد إِذا خَالف السّنة الْمَشْهُورَة فَهُوَ مُنْقَطع فِي حكم الْعَمَل بِهِ لِأَن مَا يكون متواترا من السّنة أَو مستفيضا أَو مجمعا عَلَيْهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْكتاب فِي ثُبُوت علم الْيَقِين بِهِ وَمَا فِيهِ شُبْهَة فَهُوَ مَرْدُود فِي مُقَابلَة الْيَقِين وَكَذَلِكَ الْمَشْهُور من السّنة فَإِنَّهُ أقوى من الْغَرِيب لكَونه أبعد عَن مَوضِع الشُّبْهَة وَلِهَذَا جَازَ النّسخ بالمشهور دون الْغَرِيب فالضعيف لَا يظْهر فِي مُقَابلَة الْقوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 وَلِهَذَا لم يعْمل بِخَبَر الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين لِأَنَّهُ مُخَالف للسّنة الْمَشْهُورَة وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي وَالْيَمِين على من أنكر من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن فِي هَذَا الحَدِيث بَيَان أَن الْيَمين فِي جَانب الْمُنكر دون الْمُدَّعِي وَالثَّانِي أَن فِيهِ بَيَان أَنه لَا يجمع بَين الْيَمين وَالْبَيِّنَة فَلَا تصلح الْيَمين متممة للبينة بِحَال وَلِهَذَا الأَصْل لم يعْمل أَبُو حنيفَة بِخَبَر سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ فِي بيع الرطب بِالتَّمْرِ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ أينتقص إِذا جف قَالُوا نعم قَالَ فَلَا إِذا لِأَنَّهُ مُخَالف للسّنة الْمَشْهُورَة وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام التَّمْر بِالتَّمْرِ مثل بِمثل من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن فِيهَا اشْتِرَاط الْمُمَاثلَة فِي الْكَيْل مُطلقًا لجَوَاز العقد فالتقييد بِاشْتِرَاط الْمُمَاثلَة فِي أعدل الْأَحْوَال وَهُوَ بعد الجفوف يكون زِيَادَة وَالثَّانِي أَنه جعل فضلا يظْهر بِالْكَيْلِ هُوَ الْحَرَام فِي السّنة الْمَشْهُورَة فَجعل فضل يظْهر عِنْد فَوَات وصف مَرْغُوب فِيهِ رَبًّا حَرَامًا يكون مُخَالفا لذَلِك الحكم إِلَّا أَن أَبَا يُوسُف ومحمدا قَالَا السّنة الْمَشْهُورَة لَا تتَنَاوَل الرطب لِأَن مُطلق اسْم التَّمْر لَا يتَنَاوَلهُ بِدَلِيل أَن من حلف لَا يَأْكُل تَمرا فَأكل رطبا لم يَحْنَث وَلَو حلف لَا يَأْكُل هَذَا الرطب فَأَكله بعد مَا صَار تَمرا لم يَحْنَث فَإِذا لم تتناوله السّنة الْمَشْهُورَة وَجب إِثْبَات الحكم فِيهِ بالْخبر الآخر وَأَبُو حنيفَة قَالَ التَّمْر اسْم للثمرة الْخَارِجَة من النّخل من حِين تَنْعَقِد صورتهَا إِلَى أَن تدْرك وَمَا يخْتَلف عَلَيْهِ أَحْوَال وأوصاف حسب مَا يكون على الْآدَمِيّ لَا يتبدل بِهِ اسْم الْعين وَفِي الْأَيْمَان تتْرك الْحَقَائِق لدلَالَة الْعرف وَالْيَمِين تتقيد بِوَصْف فِي الْعين إِذا كَانَ دَاعيا إِلَى الْيَمين فَفِي هذَيْن النَّوْعَيْنِ من الانتقاد للْحَدِيث علم كثير وصيانة للدّين بليغة فَإِن أصل الْبدع والأهواء إِنَّمَا ظهر من قبل ترك عرض أَخْبَار الْآحَاد على الْكتاب وَالسّنة الْمَشْهُورَة فَإِن قوما جعلوها أصلا مَعَ الشُّبْهَة فِي اتصالها برَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَمَعَ أَنَّهَا لَا توجب علم الْيَقِين ثمَّ تأولوا عَلَيْهَا الْكتاب وَالسّنة الْمَشْهُورَة فَجعلُوا التبع متبوعا وَجعلُوا الأساس مَا هُوَ غير مُتَيَقن بِهِ فوقعوا فِي الْأَهْوَاء والبدع بِمَنْزِلَة من أنكر خبر الْوَاحِد فَإِنَّهُ لما لم يجوز الْعَمَل بِهِ احْتَاجَ إِلَى الْقيَاس ليعْمَل بِهِ وَفِيه أَنْوَاع من الشُّبْهَة أَو إِلَى اسْتِصْحَاب الْحَال وَهُوَ لَيْسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 بِحجَّة أصلا وَترك الْعَمَل بِالْحجَّةِ إِلَى مَا لَيْسَ بِحجَّة يكون فتحا لباب الْآحَاد وَجعل مَا هُوَ غير مُتَيَقن بِهِ أصلا ثمَّ تَخْرِيج مَا فِيهِ التيقن عَلَيْهِ يكون فتحا لباب الْأَهْوَاء والبدع وكل وَاحِد مِنْهُمَا زيف مَرْدُود وَإِنَّمَا سَوَاء السَّبِيل مَا ذهب إِلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله من إِنْزَال كل حجَّة منزلتها فَإِنَّهُم جعلُوا الْكتاب وَالسّنة الْمَشْهُورَة أصلا ثمَّ خَرجُوا عَلَيْهِمَا مَا فِيهِ بعض الشُّبْهَة وَهُوَ الْمَرْوِيّ بطرِيق الْآحَاد مِمَّا لم يشْتَهر فَمَا كَانَ مِنْهُ مُوَافقا للمشهور قبلوه وَمَا لم يَجدوا فِي الْكتاب وَلَا فِي السّنة الْمَشْهُورَة لَهُ ذكرا قبلوه أَيْضا وأوجبوا الْعَمَل بِهِ وَمَا كَانَ مُخَالفا لَهما ردُّوهُ على أَن الْعَمَل بِالْكتاب وَالسّنة أوجب من الْعَمَل بالغريب بِخِلَافِهِ وَمَا لم يجدوه فِي شَيْء من الْأَخْبَار وصاروا حِينَئِذٍ إِلَى الْقيَاس فِي معرفَة حكمه لتحَقّق الْحَاجة إِلَيْهِ وَأما الْقسم الثَّالِث وَهُوَ الْغَرِيب فِيمَا يعم بِهِ الْبلوى وَيحْتَاج الْخَاص وَالْعَام إِلَى مَعْرفَته للْعَمَل بِهِ فَإِنَّهُ زيف لِأَن صَاحب الشَّرْع كَانَ مَأْمُورا بِأَن يبين للنَّاس مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَقد أَمرهم بِأَن ينقلوا عَنهُ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من بعدهمْ فَإِذا كَانَت الْحَادِثَة مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى فَالظَّاهِر أَن صَاحب الشَّرْع لم يتْرك بَيَان ذَلِك للكافة وتعليمهم وَأَنَّهُمْ لم يتْركُوا نَقله على وَجه الاستفاضة فحين لم يشْتَهر النَّقْل عَنْهُم عرفنَا أَنه سَهْو أَو مَنْسُوخ أَلا ترى أَن الْمُتَأَخِّرين لما نقلوه اشْتهر فيهم فَلَو كَانَ ثَابتا فِي الْمُتَقَدِّمين لاشتهر أَيْضا وَمَا تفرد الْوَاحِد بنقله مَعَ حَاجَة الْعَامَّة إِلَى مَعْرفَته وَلِهَذَا لم تقبل شَهَادَة الْوَاحِد من أهل الْمصر على رُؤْيَة هِلَال رَمَضَان إِذا لم يكن بالسماء عِلّة وَلم يقبل قَول الْوَصِيّ فِيمَا يَدعِي من إِنْفَاق مَال عَظِيم على الْيَتِيم فِي مُدَّة يسيرَة وَإِن كَانَ ذَلِك مُحْتملا لِأَن الظَّاهِر يكذبهُ فِي ذَلِك وعَلى هَذَا الأَصْل لم نعمل بِحَدِيث الْوضُوء من مس الذّكر لِأَن بسرة تفردت بروايته مَعَ عُمُوم الْحَاجة لَهُم إِلَى مَعْرفَته فَالْقَوْل بِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام خصها بتعليم هَذَا الحكم مَعَ أَنَّهَا لَا تحْتَاج إِلَيْهِ وَلم يعلم سَائِر الصَّحَابَة مَعَ شدَّة حَاجتهم إِلَيْهِ شبه الْمحَال وَكَذَلِكَ خبر الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار وَخبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 الْوضُوء من حمل الْجِنَازَة وعَلى هَذَا لم يعْمل عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله بِخَبَر الْجَهْر بِالتَّسْمِيَةِ وَخبر رفع الْيَدَيْنِ عِنْد الرُّكُوع وَعند رفع الرَّأْس من الرُّكُوع لِأَنَّهُ لم يشْتَهر النَّقْل فِيهَا مَعَ حَاجَة الْخَاص وَالْعَام إِلَى مَعْرفَته فَإِن قيل فقد قبلتم الْخَبَر الدَّال على وجوب الْوتر وعَلى وجوب الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق فِي الْجَنَابَة وَهُوَ خبر الْوَاحِد فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى قُلْنَا لِأَنَّهُ قد اشْتهر أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فعله وَأمر بِفِعْلِهِ فَأَما الْوُجُوب حكم آخر سوى الْفِعْل وَذَلِكَ مِمَّا يجوز أَن يُوقف عَلَيْهِ بعض الْخَواص لينقلوه إِلَى غَيرهم فَإِنَّمَا قبلنَا خبر الْوَاحِد فِي هَذَا الحكم فَأَما أصل الْفِعْل فَإِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ بِالنَّقْلِ المستفيض وَأما الْقسم الرَّابِع وَهُوَ مَا لم تجر المحاجة بِهِ بَين الصَّحَابَة مَعَ ظُهُور الِاخْتِلَاف بَينهم فِي الحكم فَإِنَّهُ زيف لأَنهم الْأُصُول فِي نقل الدّين لَا يتهمون بِالْكِتْمَانِ وَلَا يتْرك الِاحْتِجَاج بِمَا هُوَ الْحجَّة والاشتغال بِمَا لَيْسَ بِحجَّة فَإِذا ظهر مِنْهُم الِاخْتِلَاف فِي الحكم وَجَرت المحاجة بَينهم فِيهِ بِالرَّأْيِ والرأي لَيْسَ بِحجَّة مَعَ ثُبُوت الْخَبَر فَلَو كَانَ الْخَبَر صَحِيحا لاحتج بِهِ بَعضهم على بعض حَتَّى يرْتَفع بِهِ الْخلاف الثَّابِت بَينهم بِنَاء على الرَّأْي فَكَانَ إِعْرَاض الْكل عَن الِاحْتِجَاج بِهِ دَلِيلا ظَاهرا على أَنه سَهْو مِمَّن رَوَاهُ بعدهمْ أَو هُوَ مَنْسُوخ وَذَلِكَ نَحْو مَا يرْوى الطَّلَاق بِالرِّجَالِ وَالْعدة بِالنسَاء فَإِن الْكِبَار من الصَّحَابَة اخْتلفُوا فِي هَذَا وأعرضوا عَن الِاحْتِجَاج بِهَذَا الحَدِيث أصلا فَعرفنَا أَنه غير ثَابت أَو مؤول وَالْمرَاد بِهِ أَن إِيقَاع الطَّلَاق إِلَى الرِّجَال وَكَذَلِكَ مَا يرْوى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ابْتَغوا فِي أَمْوَال الْيَتَامَى خيرا كَيْلا تأكلها الصَّدَقَة فَإِن الصَّحَابَة اخْتلفُوا فِي وجوب الزَّكَاة فِي مَال الصَّبِي وأعرضوا عَن الِاحْتِجَاج بِهَذَا الحَدِيث أصلا فَعرفنَا أَنه غير ثَابت إِذْ لَو كَانَ ثَابتا لاشتهر فيهم وَجَرت المحاجة بِهِ بعد تحقق الْحَاجة إِلَيْهِ بِظُهُور الِاخْتِلَاف فَفِي الانتقاد بِالْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلين تظهر الزيافة معنى للمقابلة بِمَنْزِلَة نقد الْبَلَد إِذا قوبل بِنَقْد أَجود مِنْهُ تظهر الزيافة فِيهِ وَفِي الانتقاد بِالْوَجْهَيْنِ الآخرين إِظْهَار الزيافة معنى من حَيْثُ إِنَّه تقَوِّي فِيهِ شُبْهَة الِانْقِطَاع بِمَنْزِلَة نقد تبين فِيهِ زِيَادَة غش على مَا هُوَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 النَّقْد الْمَعْهُود فَيصير زيفا مردودا من هَذَا الْوَجْه وَالشَّافِعِيّ أعرض عَن طلب الِانْقِطَاع معنى واشتغل بِبِنَاء الحكم على ظَاهر الِانْقِطَاع فِي الْمُرْسل فَترك الْعَمَل بِهِ مَعَ قُوَّة الْمَعْنى فِيهِ كَمَا هُوَ دأبه ودأبنا فَإِنَّهُ يَبْنِي على الظَّاهِر أَكثر الْأَحْكَام وعلماؤنا يبنون الْفِقْه على الْمعَانِي المؤثرة الَّتِي يَتَّضِح الحكم عِنْد التَّأَمُّل فِيهَا وَأما النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ مَا يبتنى على نُقْصَان حَال الرَّاوِي فبيان ذَلِك فِي فُصُول مِنْهَا خبر المستور وَالْفَاسِق وَالْكَافِر وَالصَّبِيّ وَالْمَعْتُوه والمغفل والمساهل وَصَاحب الْهوى أما المستور فقد نَص مُحَمَّد رَحمَه الله فِي كتاب الِاسْتِحْسَان على أَن خَبره كَخَبَر الْفَاسِق وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه بِمَنْزِلَة الْعدْل فِي رِوَايَة الْأَخْبَار لثُبُوت الْعَدَالَة لَهُ ظَاهرا بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ) الْمُسلمُونَ عدُول بَعضهم على بعض وَلِهَذَا جوز أَبُو حنيفَة الْقَضَاء بِشَهَادَة الْمُسْتَوْرد فِيمَا يثبت مَعَ الشُّبُهَات إِذا لم يطعن الْخصم وَلَكِن مَا ذكره فِي الِاسْتِحْسَان أصح فِي زَمَاننَا فَإِن الْفسق غَالب فِي أهل هَذَا الزَّمَان فَلَا تعتمد رِوَايَة الْمُسْتَوْرد مَا لم تتبين عَدَالَته كَمَا لم تعتمد شَهَادَته فِي الْقَضَاء قبل أَن تظهر عَدَالَته وَهَذَا بِحَدِيث عباد بن كثير أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَا تحدثُوا عَمَّن لَا تعلمُونَ بِشَهَادَتِهِ وَلِأَن فِي رِوَايَة الحَدِيث معنى الْإِلْزَام فَلَا بُد من أَن يعْتَمد فِيهِ دَلِيل مُلْزم وَهُوَ الْعَدَالَة الَّتِي تظهر بالتفحص عَن أَحْوَال الرَّاوِي وَأما الْفَاسِق فقد ذكر فِي كتاب الِاسْتِحْسَان أَنه إِذا أخبر بِطَهَارَة المَاء أَو بِنَجَاسَتِهِ أَو بِحل الطَّعَام وَالشرَاب وحرمته فَإِن السَّامع يحكم رَأْيه فِي ذَلِك فَإِن وَقع عِنْده أَنه صَادِق فَعَلَيهِ أَن يعْمل بِخَبَرِهِ وَإِلَّا لم يعْمل بِهِ وعَلى هَذَا قَالَ بعض مَشَايِخنَا رَحِمهم الله الْجَواب كَذَلِك فِيمَا يرويهِ الْفَاسِق قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَن خَبره لَا يكون حجَّة لِأَنَّهُ غير مَقْبُول الشَّهَادَة وَفِي حل الطَّعَام وحرمته وطهارة المَاء ونجاسته إِنَّمَا اعْتبر خَبره إِذا تأيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 بِأَكْثَرَ الرَّأْي لأجل الضَّرُورَة لِأَن ذَلِك حكم خَاص رُبمَا يتَعَذَّر الْوُقُوف عَلَيْهِ من جِهَة غَيره وَمثل هَذِه الضَّرُورَة لَا يتَحَقَّق فِي رِوَايَة الْخَبَر فَإِن فِي الْعُدُول كَثْرَة يُمكن الْوُقُوف على معرفَة الحَدِيث بِالسَّمَاعِ مِنْهُم فَلَا حَاجَة إِلَى الِاعْتِمَاد على رِوَايَة الْفَاسِق فِيهِ ثمَّ فِي الْمُعَامَلَات جعل خبر الْفَاسِق مَقْبُولًا لأجل الضَّرُورَة أَيْضا فَإِن الْمُعَامَلَة تكْثر بَين النَّاس وَلَا يُوجد عدل يرجع إِلَيْهِ فِي كل خبر من ذَلِك النَّوْع إِلَّا أَن ذَلِك يَنْفَكّ عَن معنى الْإِلْزَام فجوز الِاعْتِمَاد فِيهِ على خبر الْفَاسِق مُطلقًا والحل وَالْحُرْمَة فِيهِ معنى الْإِلْزَام من وَجه فَلهَذَا لم نجْعَل خبر الْفَاسِق فِيهِ مُعْتَمدًا على الْإِطْلَاق حَتَّى يَنْضَم إِلَيْهِ غَالب الرَّأْي وَمن النَّاس من لم يَجْعَل خبر الْفَاسِق مَقْبُولًا فِي الْمُعَامَلَة أَيْضا لظَاهِر قَوْله تَعَالَى {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وَرُوِيَ أَن الْآيَة نزلت فِي الْوَلِيد بن عقبَة حِين بَعثه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُصدقا إِلَى قوم فَرجع إِلَيْهِ وَقَالَ إِنَّهُم هموا بقتلي فَأَرَادَ رَسُول الله أَن يعْتَمد خَبره وَيبْعَث إِلَيْهِم خيلا لِأَنَّهُ مَا كَانَ ظَاهر الْفسق عِنْده فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة وَمَا أخبر بِهِ كَانَ من الْمُعَامَلَات خَالِيا عَن الْإِلْزَام وَمَعَ ذَلِك أَمر الله تَعَالَى بالتوقف فِي هَذَا النبأ من الْفَاسِق وَلَكنَّا نقُول كَانَ ذَلِك خَبرا مستنكرا فَإِنَّهُ أخبر أَنهم ارْتَدُّوا بِمَنْع الزَّكَاة وجحودها وهموا بقتْله وَفِيه إِلْزَام الْجِهَاد مَعَهم وَنحن نقُول إِن من ثَبت فسقه لَا يعْتَبر خَبره فِي مثل هَذَا فَأَما فِي الْمُعَامَلَات الَّتِي تنفك عَن معنى الْإِلْزَام فَيجوز اعْتِمَاد خَبره لأجل الضَّرُورَة إِذْ الْفسق يرجح معنى الْكَذِب فِي خَبره من غير أَن يكون مُوجبا الحكم بِأَنَّهُ كَاذِب فِي خَبره لَا محَالة وَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ مَعَ الْفسق من أهل الشَّهَادَة فَأَما الْكَافِر فَإِنَّهُ لَا تعتمد رِوَايَته فِي بَاب الْأَخْبَار أصلا وَكَذَلِكَ فِي طَهَارَة المَاء ونجاسته إِلَّا أَنه إِذا وَقع فِي قلب السَّامع أَنه صَادِق فِيمَا يخبر بِهِ من نَجَاسَة المَاء فَالْأَفْضَل لَهُ أَن يريق المَاء ثمَّ يتَيَمَّم وَلَا تجوز صلَاته بِالتَّيَمُّمِ قبل إِرَاقَة المَاء لِأَنَّهُ لَا يعْتَمد خَبره فِي بَاب الدّين أصلا فَيبقى مُجَرّد غَلَبَة الظَّن وَذَلِكَ لَا يجوز لَهُ الصَّلَاة بِالتَّيَمُّمِ مَعَ وجود المَاء بِخِلَاف الْفَاسِق فهناك يلْزمه أَن يتَوَضَّأ بذلك المَاء إِذا وَقع فِي قلبه أَنه صَادِق فِي الْإِخْبَار بِطَهَارَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 المَاء وَإِن أخبر بِنَجَاسَة المَاء وَوَقع فِي قلبه أَنه صَادِق فَالْأولى لَهُ أَن يريق المَاء وَيتَيَمَّم فَإِن تيَمّم وَلم يرق المَاء جَازَت صلَاته وَأما خبر الصَّبِي فقد ذكر فِي الِاسْتِحْسَان بعد ذكر الْفَاسِق وَالْكَافِر وَكَذَلِكَ الصَّبِي وَالْمَعْتُوه إِذا عقلا مَا يَقُولَانِ فَزعم بعض مَشَايِخنَا أَن المُرَاد الْعَطف على الْفَاسِق وَأَن خَبره بِمَنْزِلَة خبر الْفَاسِق فِي طَهَارَة المَاء ونجاسته وَالأَصَح أَن المُرَاد عطفه على الْكَافِر فَإِن الصَّبِي لَيْسَ من أهل الشَّهَادَة أصلا كَمَا أَن الْكَافِر لَيْسَ من أهل الشَّهَادَة على الْمُسلمين بِخِلَاف الْفَاسِق فَهُوَ من أهل الشَّهَادَة وَإِن لم يكن مَقْبُول الشَّهَادَة لفسقه (و) لِأَن الصَّبِي بِخَبَرِهِ يلْزم الْغَيْر ابْتِدَاء من غير أَن يلْتَزم شَيْئا لِأَنَّهُ غير مُخَاطب كالكافر يلْزم غَيره من غير أَن يلْتَزم لِأَنَّهُ غير مُعْتَقد للْحكم الَّذِي يخبر بِهِ فَأَما الْفَاسِق فيلتزم أَولا ثمَّ يلْزم غَيره وَلِأَن الْولَايَة المتعدية تبتنى على الْولَايَة الْقَائِمَة للمرء على نَفسه وَالْفَاسِق من أهل هَذِه الْولَايَة فَيكون أَهلا للولاية المتعدية أَيْضا بِخِلَاف الصَّبِي وَالْمَعْتُوه بِمَنْزِلَة الصَّبِي فقد سوى عُلَمَاؤُنَا بَينهمَا فِي الْأَحْكَام فِي الْكتب لنُقْصَان عقلهما وَمن النَّاس من يَقُول رِوَايَة الصَّبِي فِي بَاب الدّين مَقْبُولَة وَإِن لم يكن هُوَ مَقْبُول الشَّهَادَة لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّة للولاية بِمَنْزِلَة رِوَايَة العَبْد وَاسْتدلَّ فِيهِ بِحَدِيث أهل قبَاء فَإِن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَتَاهُم وَأخْبرهمْ بتحويل الْقبْلَة إِلَى الْكَعْبَة وهم كَانُوا فِي الصَّلَاة فاستداروا كَهَيْئَتِهِمْ وَكَانَ ابْن عمر يَوْمئِذٍ صَغِيرا على مَا رُوِيَ أَنه عرض على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم بدر أَو يَوْم أحد على حسب مَا اخْتلف الروَاة فِيهِ وَهُوَ ابْن أَربع عشرَة سنة فَرده وتحويل الْقبْلَة كَانَ قبل بدر بشهرين فقد اعتمدوا خَبره فِيمَا لَا يجوز الْعَمَل بِهِ إِلَّا بِعلم وَهُوَ الصَّلَاة إِلَى الْكَعْبَة وَلم يُنكر عَلَيْهِم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَكنَّا نقُول قد رُوِيَ أَن الَّذِي أَتَاهُم أنس بن مَالك وَقد روى عبد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 بن عمر فَإنَّا نحمل على أَنَّهُمَا جَاءَ أَحدهمَا بعد الآخر وأخبرا بذلك وَإِنَّمَا تحولوا معتمدين على خبر الْبَالِغ وَهُوَ أنس بن مَالك أَو كَانَ ابْن عمر بَالغا يَوْمئِذٍ وَإِنَّمَا رده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْقِتَال لضعف بنيته يَوْمئِذٍ لَا لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرا فَإِن ابْن أَربع عشرَة سنة يجوز أَن يكون بَالغا فَأَما الْمُغَفَّل فَإِن كَانَ أغلب أَحْوَاله التيقظ فَهُوَ بِمَنْزِلَة من لَا غَفلَة بِهِ فِي الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة لِأَن مَا بِهِ من الْغَفْلَة يسير قَلما يَخْلُو الْعدْل عَن مثله إِلَّا من عصمه الله تَعَالَى وَإِن تفاحش مَا بِهِ من الْغَفْلَة حَتَّى ظهر ذَلِك فِي أغلب أُمُوره فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْمَعْتُوه لِأَن مَا يلْزم من النُّقْصَان فِي الْمَرْء بطرِيق الْعَادة يَجْعَل بِمَنْزِلَة الثَّابِت بِأَصْل الْخلقَة أَلا ترى أَنه يتَرَجَّح معنى السَّهْو والغلط فِي الرِّوَايَة باعتبارهما جَمِيعًا كَمَا يتَرَجَّح جَانب الْكَذِب بِاعْتِبَار فسق الرَّاوِي وَأما المساهل فَهُوَ كالمغفل فَإِنَّهُ اسْم لمن يجازف فِي الْأُمُور وَلَا يُبَالِي بِمَا يَقع لَهُ من السَّهْو والغلط وَلَا يشْتَغل فِيهِ بالتدارك بعد أَن يعلم بِهِ فَيكون بِمَنْزِلَة الْمُغَفَّل إِذا ظهر ذَلِك فِي أَكثر أُمُوره وَأما صَاحب الْهوى فقد بَينا أَن الصَّحِيح أَنه لَا تعتمد رِوَايَته فِي أَحْكَام الدّين وَإِن كَانَت شَهَادَتهم مَقْبُولَة إِلَّا الخطابية فَإِن الْهوى لَا يكون مرجحا جَانب الْكَذِب فِي شَهَادَته على مَا قَررنَا إِلَّا الخطابية وهم ضرب من الروافض يجوزون أَدَاء الشَّهَادَة إِذا حلف الْمُدَّعِي بَين أَيْديهم أَنه محق فِي دَعْوَاهُ وَيَقُولُونَ الْمُسلم لَا يحلف كَاذِبًا فَفِي هَذَا الِاعْتِقَاد مَا يرجح جَانب الْكَذِب فِي شَهَادَتهم لتوهم أَنهم اعتمدوا ذَلِك وَكَذَلِكَ قَالُوا فِيمَن يعْتَقد أَن الإلهام حجَّة مُوجبَة للْعلم لَا تقبل شَهَادَته لتوهم أَن يكون اعْتمد ذَلِك فِي أَدَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 الشَّهَادَة بِنَاء على اعْتِقَاده فَأَما من سواهُم من أهل الْأَهْوَاء لَيْسَ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ من الْهوى مَا يُمكن تُهْمَة الْكَذِب فِي شَهَادَتهم لِأَن الشَّهَادَة من بَاب الْمَظَالِم والخصومات وَلَا يتعصب صَاحب الْهوى بِهَذَا الطَّرِيق مَعَ من هُوَ محق فِي اعْتِقَاده حَتَّى يشْهد عَلَيْهِ كَاذِبًا فَأَما فِي أَخْبَار الدّين فيتوهم بِهَذَا التعصب لإفساد طَرِيق الْحق على من هُوَ محق حَتَّى يجِيبه إِلَى مَا يَدْعُو إِلَيْهِ من الْبَاطِل فَلهَذَا لَا تعتمد رِوَايَته وَلَا تجْعَل حجَّة فِي بَاب الدّين وَالله أعلم فصل فِي بَيَان أَقسَام الْأَخْبَار قَالَ رَضِي الله عَنهُ هَذِه الْأَقْسَام أَرْبَعَة خبر يُحِيط الْعلم بصدقه وَخبر يُحِيط الْعلم بكذبه وَخبر يحتملهما على السوَاء وَخبر يتَرَجَّح فِيهِ أحد الْجَانِبَيْنِ فَالْأول أَخْبَار الرُّسُل المسموعة مِنْهُم فَإِن جِهَة الصدْق مُتَعَيّن فِيهَا لقِيَام الدّلَالَة على أَنهم معصومون عَن الْكَذِب وَثُبُوت رسالتهم بالمعجزات الْخَارِجَة عَن مَقْدُور الْبشر عَادَة وَحكم هَذَا النَّوْع اعْتِقَاد الحقية فِيهِ والائتمار بِهِ بِحَسب الطَّاقَة قَالَ تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} وَالنَّوْع الثَّانِي نَحْو دَعْوَى فِرْعَوْن الربوبية مَعَ قيام آيَات الْحَدث فِيهِ ظَاهرا وَدَعوى الْكفَّار أَن الْأَصْنَام آلِهَة أَو أَنَّهَا شفعاؤهم عِنْد الله أَو أَنَّهَا تقربهم إِلَى الله زلفى مَعَ التيقن بِأَنَّهَا جمادات وَنَحْو دَعْوَى زرادشت وماني ومسيلمة وَغَيرهم من المتنبئين النُّبُوَّة مَعَ ظُهُور أَفعَال تدل على السَّفه مِنْهُم وَأَنَّهُمْ لم يبرهنوا على ذَلِك إِلَّا بِمَا هُوَ مخرفة من جنس أَفعَال المشعوذين فالعلم يُحِيط بكذب هَذَا النَّوْع وَحكمه اعْتِقَاد الْبطلَان فِيهِ ثمَّ الِاشْتِغَال برده بِاللِّسَانِ وَالْيَد بِحَسب مَا تقع الْحَاجة إِلَيْهِ فِي دفع الْفِتْنَة وَالنَّوْع الثَّالِث نَحْو خبر الْفَاسِق فِي أَمر الدّين فَفِيهِ احْتِمَال الصدْق بِاعْتِبَار فَالْحكم فِيهِ التَّوَقُّف إِلَى أَن يظْهر مَا يتَرَجَّح بِهِ أحد الْجَانِبَيْنِ عملا بقوله تَعَالَى {فَتَبَيَّنُوا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 دينه وعقله وَاحْتِمَال الْكَذِب بِاعْتِبَار تعاطيه واستوى الجانبان فِي الِاحْتِمَال وَالنَّوْع الرَّابِع نَحْو شَهَادَة الْفَاسِق إِذا ردهَا القَاضِي فَإِن بِقَضَائِهِ يتَرَجَّح جَانب الْكَذِب فِيهِ وَخبر الْمَحْدُود فِي الْقَذْف عِنْد إِقَامَة الْحَد عَلَيْهِ وَحكمه أَنه لَا يجوز الْعَمَل بِهِ بعد ذَلِك لتعين جَانب الْكَذِب فِيهِ فِيمَا يُوجب الْعَمَل وَمن هَذَا النَّوْع خبر الْعدْل المستجمع لشرائط الرِّوَايَة فِي بَاب الدّين فَإِنَّهُ يتَرَجَّح جَانب الصدْق فِيهِ بِوُجُود دَلِيل شَرْعِي مُوجب للْعَمَل بِهِ وَهُوَ صَالح للترجيح وَالْمَقْصُود هَذَا النَّوْع وَلِهَذَا النَّوْع أَطْرَاف ثَلَاثَة طرف السماع وطرف الْحِفْظ وطرف الْأَدَاء فطرف السماع نَوْعَانِ عَزِيمَة ورخصة فالعزيمة مَا تكون بِحَسب الِاسْتِمَاع وَهُوَ أَرْبَعَة أوجه وَجْهَان من ذَلِك حَقِيقَة وَأَحَدهمَا أَحَق من الآخر ووجهان من ذَلِك عَزِيمَة فيهمَا شُبْهَة الرُّخْصَة فالوجهان الْأَوَّلَانِ قِرَاءَة الْمُحدث عَلَيْك وَأَنت تسمع وقراءتك على الْمُحدث وَهُوَ يسمع ثمَّ استفهامك إِيَّاه بِقَوْلِك أهوَ كَمَا قَرَأت عَلَيْك فَيَقُول نعم وَأهل الحَدِيث يَقُولُونَ الْوَجْه الأول أَحَق لِأَنَّهُ طَرِيق رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ الَّذِي كَانَ يحدث أَصْحَابه ثمَّ نقلوه عَنهُ وَهُوَ أبعد من الْخَطَأ والسهو فَيكون أَحَق فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود وَهُوَ تحمل الْأَمَانَة بِصفة تَامَّة وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله أَن قراءتك على الْمُحدث أقوى من قِرَاءَة الْمُحدث عَلَيْك وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة لكَونه مَأْمُون السَّهْو والغلط وَلِأَنَّهُ كَانَ يذكر مَا يذكرهُ حفظا وَكَانَ لَا يكْتب وَلَا يقْرَأ الْمَكْتُوب أَيْضا وَإِنَّمَا كلامنا فِيمَن يخبر عَن كتاب لَا عَن (حفظه حَتَّى إِذا كَانَ يروي عَن حفظ لَا عَن كتاب فقراءته أقوى لِأَنَّهُ يتحدث بِهِ) حَقِيقَة فَأَما إِذا كَانَ يروي عَن كتاب فالجانبان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 سَوَاء فِي معنى التحدث بِمَا فِي الْكتاب أَلا ترى أَن فِي الشَّهَادَات لَا فرق بَين أَن يقْرَأ من عَلَيْهِ الْحق ذكر إِقْرَاره عَلَيْك وَبَين أَن تَقْرَأهُ عَلَيْهِ ثمَّ تستفهمه هَل تقر بِجَمِيعِ مَا قرأته عَلَيْك فَيَقُول نعم وَبِكُل وَاحِد من الطَّرِيقَيْنِ يجوز أَدَاء الشَّهَادَة وَبَاب الشَّهَادَة أضيق من بَاب رِوَايَة الْخَبَر فَكَانَ الْمَعْنى فِيهِ أَن نعم جَوَاب مُخْتَصر وَلَا فرق فِي الْجَواب بَين الْمُخْتَصر والمشبع فَيصير مَا تقدم كالمعاد فِي الْجَواب كُله ثمَّ للطَّالِب من الرِّعَايَة عِنْد الْقِرَاءَة عَادَة مَا لَيْسَ للمحدث فَعِنْدَ قِرَاءَة الْمُحدث لَا يُؤمن من الْخَطَأ فِي بعض مَا يقْرَأ لقلَّة رعايته ويؤمن ذَلِك إِذا قَرَأَ الطَّالِب لشدَّة رعايته فَإِن قيل عِنْد قِرَاءَة الطَّالِب يتَوَهَّم أَن يسهو الْمُحدث عَن بعض مَا يسمع وينتفي هَذَا التَّوَهُّم إِذا قَرَأَهُ الْمُحدث لشدَّة رِعَايَة الطَّالِب فِي ضبط مَا يسمع مِنْهُ قُلْنَا هُوَ كَذَلِك وَلَكِن السَّهْو عَن سَماع الْبَعْض مِمَّا لَا يُمكن التَّحَرُّز عَنهُ عَادَة وَهُوَ أيسر مِمَّا يَقع بِسَبَب الْخَطَأ فِي الْقِرَاءَة فمراعاة ذَلِك الْجَانِب أولى والوجهان الْآخرَانِ الْكِتَابَة والرسالة فَإِن الْمُحدث إِذا كتب إِلَى غَيره على رسم الْكتب وَذكر فِي كِتَابه حَدثنِي فلَان عَن فلَان إِلَى آخِره ثمَّ قَالَ وَإِذا جَاءَك كتابي هَذَا وفهمت مَا فِيهِ فَحدث بِهِ عني فَهَذَا صَحِيح وَكَذَلِكَ لَو أرسل إِلَيْهِ رَسُولا فَبَلغهُ على هَذِه الصّفة فَإِن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ مَأْمُورا بتبليغ الرسَالَة وَبلغ إِلَى قوم مشافهة وَإِلَى آخَرين بِالْكتاب وَالرَّسُول وَكَانَ ذَلِك تبليغا تَاما وَكَذَلِكَ فِي زَمَاننَا يثبت من الْخُلَفَاء تَقْلِيد السلطنة وَالْقَضَاء بِالْكتاب وَالرَّسُول بِهَذَا الطَّرِيق كَمَا يثبت بالمشافهة إِلَّا أَن الْمُخْتَار فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلين للراوي أَن يَقُول حَدثنِي فلَان وَفِي الْوَجْهَيْنِ الآخرين أَن يَقُول أَخْبرنِي لِأَن فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلين شافهه الْمُحدث بالإسماع فَيكون مُحدثا لَهُ وَفِي الْوَجْهَيْنِ الآخرين لم يشافهه وَلكنه مخبر لَهُ بكتابه فَإِن الْكتاب مِمَّن بعد كالخطاب مِمَّن حضر وَالرَّسُول كالكتاب أَو أقوى لِأَن معنى الضَّبْط يُوجد فيهمَا ثمَّ الرَّسُول نَاطِق وَالْكتاب غير نَاطِق وعَلى هَذَا ذكر فِي الزِّيَادَات إِذا حلف أَن لَا يتحدث بسر فلَان أَو لَا يتَكَلَّم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 بِهِ فَكتب بِهِ أَو أرسل رَسُولا لم يَحْنَث وَلَو تكلم بِهِ مشافهة يَحْنَث وَلَو حلف لَا يخبر بِهِ فَكتب أَو أرسل يَحْنَث بِمَنْزِلَة مَا لَو تكلم بِهِ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الله تَعَالَى أكرمنا بكتابه وَرَسُوله ثمَّ لَا يجوز لأحد أَن يَقُول حَدثنِي الله وَلَا كلمني الله إِنَّمَا ذَلِك لمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام خَاصَّة كَمَا قَالَ تَعَالَى {وكلم الله مُوسَى تكليما} وَيجوز أَن يَقُول أخبرنَا الله بِكَذَا أَو أَنبأَنَا ونبأنا فَلهَذَا كَانَ الْمُخْتَار فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلين حَدثنِي وَفِي الْوَجْهَيْنِ الآخرين أَخْبرنِي وَأما الرُّخْصَة فِيهِ فمما لَا تكون فِيهِ إسماع وَذَلِكَ الْإِجَازَة والمناولة وَشرط الصِّحَّة فِي ذَلِك أَن يكون مَا فِي الْكتاب مَعْلُوما للمجاز لَهُ مفهوما لَهُ وَأَن يكون الْمُجِيز من أهل الضَّبْط والإتقان قد علم جَمِيع مَا فِي الْكتاب وَإِذا قَالَ حِينَئِذٍ أجزت لَك أَن تروي عني مَا فِي هَذَا الْكتاب كَانَ صَحِيحا لِأَن الشَّهَادَة تصح بِهَذِهِ الصّفة فَإِن الشَّاهِد إِذا وقف على جَمِيع مَا فِي الصَّك وَكَانَ ذَلِك مَعْلُوما لمن عَلَيْهِ الْحق فَقَالَ أجزت لَك أَن تشهد عَليّ بِجَمِيعِ مَا فِي هَذَا الْكتاب كَانَ صَحِيحا فَكَذَلِك رِوَايَة الْخَبَر والأحوط للمجاز لَهُ أَن يَقُول عِنْد الرِّوَايَة أجَاز لي فلَان فَإِن قَالَ أَخْبرنِي فَهُوَ جَائِز أَيْضا وَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَن يَقُول حَدثنِي فَإِن ذَلِك مُخْتَصّ بالإسماع وَلم يُوجد والمناولة لتأكيد الْإِجَازَة فيستوى الحكم فِيمَا إِذا وجدا جَمِيعًا أَو وجدت الْإِجَازَة وَحدهَا فَأَما إِذا كَانَ المستجيز غير عَالم بِمَا فِي الْكتاب فقد قَالَ بعض مَشَايِخنَا إِن على قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله لَا تصح هَذِه الْإِجَازَة وعَلى قَول أبي يُوسُف رَحمَه الله تصح على قِيَاس اخْتلَافهمْ فِي كتاب القَاضِي إِلَى القَاضِي وَكتاب الشَّهَادَة فَإِن علم الشَّاهِد بِمَا فِي الْكتاب شَرط فِي قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله وَلَا يكون شرطا فِي قَول أبي يُوسُف رَحمَه الله لصِحَّة أَدَاء الشَّهَادَة قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَن هَذِه الْإِجَازَة لَا تصح فِي قَوْلهم جَمِيعًا إِلَّا أَن أَبَا يُوسُف اسْتحْسنَ هُنَاكَ لأجل الضَّرُورَة فالكتب تشْتَمل على أسرار لَا يُرِيد الْكَاتِب والمكتوب إِلَيْهِ أَن يقف عَلَيْهَا غَيرهمَا وَذَلِكَ لَا يُوجد فِي كتب الْأَخْبَار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 ثمَّ الْخَبَر أصل الدّين أمره عَظِيم وخطبه جسيم فَلَا وَجه للْحكم بِصِحَّة تحمل الْأَمَانَة فِيهِ قبل أَن يصير مَعْلُوما مفهوما لَهُ أَلا ترى أَنه لَو قَرَأَ عَلَيْهِ الْمُحدث فَلم يسمع وَلم يفهم لم يجز لَهُ أَن يروي وَالْإِجَازَة إِذا لم يكن مَا فِي الْكتاب مَعْلُوما لَهُ دون ذَلِك كَيفَ تجوز الرِّوَايَة بِهَذَا الْقدر وإسماع الصّبيان الَّذين لَا يميزون وَلَا يفهمون نوع تبرك استحسنه النَّاس فَأَما أَن يثبت بِمثلِهِ نقل الدّين فَلَا وَكَذَلِكَ من حضر مجْلِس السماع واشتغل بِقِرَاءَة كتاب آخر غير مَا يَقْرَؤُهُ القارىء أَو اشْتغل بِالْكِتَابَةِ لشَيْء آخر أَو اشْتغل بتحدث أَو لَغْو أَو لَهو أَو اشْتغل عَن السماع لغفلة أَو نوم فَإِن سَمَاعه لَا يكون صَحِيحا مُطلقًا لَهُ الرِّوَايَة إِلَّا أَن مِقْدَار مَا لَا يُمكن التَّحَرُّز عَنهُ من السَّهْو والغفلة يَجْعَل عفوا للضَّرُورَة فَأَما عِنْد الْقَصْد فَهُوَ غير مَعْذُور وَلَا يَأْمَن أَن يحرم بِسَبَب ذَلِك حَظه ونعوذ بِاللَّه فَأَما إِذا قَالَ الْمُحدث أجزت لَك أَن تروي عني مسموعاتي فَإِن ذَلِك غير صَحِيح بالِاتِّفَاقِ بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ رجل لآخر اشْهَدْ عَليّ بِكُل صك تَجِد فِيهِ إقراري فقد أجزت لَك ذَلِك فَإِن ذَلِك بَاطِل وَقد نقل عَن بعض أَئِمَّة التَّابِعين أَن سَائِلًا سَأَلَهُ الْإِجَازَة بِهَذِهِ الصّفة فتعجب وَقَالَ لأَصْحَابه هَذَا يطْلب مني أَن أُجِيز لَهُ أَن يكذب عَليّ وَبَعض الْمُتَأَخِّرين جوزوا ذَلِك على وَجه الرُّخْصَة لضَرُورَة المستعجلين وَلَكِن فِي هَذِه الرُّخْصَة سد بَاب الْجهد فِي الدّين وَفتح بَاب الكسل فَلَا وَجه للمصير إِلَيْهِ فَأَما الْكتب المصنفة الَّتِي هِيَ مَشْهُورَة فِي أَيدي النَّاس فَلَا بَأْس لمن نظر فِيهَا وَفهم شَيْئا مِنْهَا وَكَانَ متقنا فِي ذَلِك أَن يَقُول قَالَ فلَان كَذَا أَو مَذْهَب فلَان كَذَا من غير أَن يَقُول حَدثنِي أَو أَخْبرنِي لِأَنَّهَا مستفيضة بِمَنْزِلَة الْخَبَر الْمَشْهُور وَبَعض الْجُهَّال من الْمُحدثين استبعدوا ذَلِك حَتَّى طعنوا على مُحَمَّد رَحمَه الله فِي كتبه المصنفة وَحكي أَن بَعضهم قَالَ لمُحَمد بن الْحسن رَحمَه الله أسمعت هَذَا كُله من أبي حنيفَة فَقَالَ لَا فَقَالَ أسمعته من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 أبي يُوسُف فَقَالَ لَا وَإِنَّمَا أَخذنَا ذَلِك مذاكرة فَقَالَ كَيفَ يجوز إِطْلَاق القَوْل بِأَن مَذْهَب فلَان كَذَا أَو قَالَ فلَان كَذَا بِهَذَا الطَّرِيق وَهَذَا جهل لِأَن تصنيف كل صَاحب مَذْهَب مَعْرُوف فِي أَيدي النَّاس مَشْهُور كموطأ مَالك رَحمَه الله وَغير ذَلِك فَيكون بِمَنْزِلَة الْخَبَر الْمَشْهُور يُوقف بِهِ على مَذْهَب المُصَنّف وَإِن لم نسْمع مِنْهُ فَلَا بَأْس بِذكرِهِ على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا بعد أَن يكون أصلا مُعْتَمدًا يُؤمن فِيهِ التَّصْحِيف وَالزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فَأَما بَيَان طرق الْحِفْظ فَهُوَ نَوْعَانِ عَزِيمَة ورخصة فالعزيمة فِيهِ أَن يحفظ المسموع من وَقت السماع والفهم إِلَى وَقت الْأَدَاء وَكَانَ هَذَا مَذْهَب أبي حنيفَة فِي الْأَخْبَار والشهادات جَمِيعًا وَلِهَذَا قلت رِوَايَته وَهُوَ طَرِيق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا بَينه للنَّاس وَأما الرُّخْصَة فِيهِ أَن يعْتَمد الْكتاب إِلَّا أَنه إِذا نظر فِي الْكتاب فَتذكر فَهُوَ عَزِيمَة أَيْضا وَلكنه مشبه بِالرُّخْصَةِ وَإِذا لم يتَذَكَّر فَهُوَ مَحْض الرُّخْصَة على قَول من يجوز ذَلِك وَقد بَينا فِيمَا سبق وَالْأَدَاء أَيْضا نَوْعَانِ عَزِيمَة ورخصة فالعزيمة أَن يُؤَدِّي على الْوَجْه الَّذِي سَمعه بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ والرخصة فِيهِ أَن يُؤَدِّي بعبارته معنى مَا فهمه عِنْد سَمَاعه وَقد بَينا ذَلِك وَمن نوع الرُّخْصَة التَّدْلِيس وَهُوَ أَن يَقُول قَالَ فلَان كَذَا لمن لقِيه وَلَكِن لم يسمع مِنْهُ فيوهم السامعين أَنه قد سمع ذَلِك مِنْهُ وَكَانَ الْأَعْمَش وَالثَّوْري يفْعَلَانِ ذَلِك وَكَانَ شُعْبَة يَأْبَى ذَلِك ويستبعده غَايَة الاستبعاد حَتَّى كَانَ يَقُول لِأَن أزني أحب إِلَيّ من أَن أدلس وَالصَّحِيح القَوْل الأول وَقد بَينا أَن الصَّحَابَة كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك فَيَقُول الْوَاحِد مِنْهُم قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَا فَإِذا رُوجِعَ فِيهِ قَالَ سمعته من فلَان يرويهِ عَن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَمَا كَانَ يُنكر بَعضهم على بعض ذَلِك فَعرفنَا أَنه لَا بَأْس بِهِ وَأَن هَذَا النَّوْع لَا يكون تدليسا مُطلقًا فَإِنَّهُ لَا يجوز لأحد أَن يُسَمِّي أحدا من الصَّحَابَة مدلسا وَإِنَّمَا التَّدْلِيس الْمُطلق أَن يسْقط اسْم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 رَوَاهُ لَهُ ويروى عَن رَاوِي الأَصْل على قصد الترويج بعلو الْإِسْنَاد فَإِن هَذَا الْقَصْد غير مَحْمُود فَأَما إِذا لم يكن على هَذَا الْقَصْد وَإِنَّمَا كَانَ على قصد التَّيْسِير على السامعين بِإِسْقَاط تَطْوِيل الْإِسْنَاد عَنْهُم أَو على قصد التَّأْكِيد بالعزم على أَنه قَول رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام قطعا فَهَذَا لَا بَأْس بِهِ وَمَا نقل عَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ مَحْمُول على هَذَا النَّوْع وَتجوز الرِّوَايَة عَمَّن اشْتهر بِهَذَا الْفِعْل إِذا علم أَنه لَا يُدَلس إِلَّا فِيمَا سَمعه عَن ثِقَة فَأَما إِذا كَانَ يروي عَمَّن لَيْسَ بِثِقَة وَيُدَلس بِهَذِهِ الصّفة لَا تجوز الرِّوَايَة عَنهُ بَعْدَمَا اشْتهر بالتدليس وَاخْتلف الْعلمَاء فِي فصل من هَذَا الْجِنْس وَهُوَ أَن الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ أمرنَا بِكَذَا أَو نهينَا عَن كَذَا أَو السّنة كَذَا فَالْمَذْهَب عندنَا أَنه لَا يفهم من هَذَا الْمُطلق الْإِخْبَار بِأَمْر رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام أَو أَنه سنة رَسُول الله وَقَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم ينْصَرف إِلَى ذَلِك عِنْد الْإِطْلَاق وَفِي الْجَدِيد قَالَ لَا ينْصَرف إِلَى ذَلِك بِدُونِ الْبَيَان لاحْتِمَال أَن يكون المُرَاد سنة الْبلدَانِ أَو الرؤساء حَتَّى قَالَ فِي كل مَوضِع قَالَ مَالك رَحمَه الله السّنة ببلدنا كَذَا فَإِنَّمَا أَرَادَ سنة سُلَيْمَان بن بِلَال وَهُوَ كَانَ عريفا بِالْمَدِينَةِ وعَلى قَوْله الْقَدِيم أَخذ بقول سعيد بن الْمسيب رَضِي الله عَنهُ فِي الْعَاجِز عَن النَّفَقَة إِنَّه يفرق بَينه وَبَين امْرَأَته لِأَنَّهُ حمل قَول سعيد السّنة على سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَذَلِكَ أَخذ بقوله فِي أَن الْمَرْأَة تعاقل الرجل إِلَى ثلث الدِّيَة بقول سعيد فِيهِ السّنة فَحمل ذَلِك على سنة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَلم نَأْخُذ نَحن بذلك لأَنا علمنَا أَن مُرَاده سنة زيد ورجحنا قَول عَليّ وَعبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا على قَول زيد رَضِي الله عَنهُ بِالْقِيَاسِ الصَّحِيح وَحجَّتنَا فِي ذَلِك أَن الْأَمر وَالنَّهْي يتَحَقَّق من غير رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا يتَحَقَّق مِنْهُ قَالَ تَعَالَى {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} وَعند الْإِطْلَاق لَا يثبت إِلَّا أدنى الْكَمَال أَلا ترى أَن مُطلق قَول الْعَالم أمرنَا بِكَذَا لَا يحمل على أَنه أَمر الله أنزلهُ فِي كِتَابه نصا فَكَذَلِك لَا يحمل على أَنه أَمر رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام نصا لاحْتِمَال أَن يكون الْآمِر غَيره مِمَّن يجب مُتَابَعَته وَكَذَلِكَ السّنة فقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء من بعدِي وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 أجرهَا وَأجر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَمن سنّ سنة سَيِّئَة فَعَلَيهِ وزرها ووزر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَقد ظهر من عَادَة الصَّحَابَة التَّقْيِيد عِنْد إِرَادَة سنة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام بِالْإِضَافَة إِلَيْهِ على مَا قَالَ عمر لصبي بن معبد هديت لسنة نبيك وَقَالَ عقبَة بن عَامر رَضِي الله عَنهُ ثَلَاث سَاعَات نَهَانَا رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام أَن نصلي فِيهِنَّ وَقَالَ صَفْوَان بن عَسَّال رَضِي الله عَنهُ (أمرنَا رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام إِذا كُنَّا سفرا أَن لَا ننزع خفافنا ثَلَاثَة أَيَّام ولياليها) الحَدِيث فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَنهم إِذا أطْلقُوا هَذَا اللَّفْظ فَإِنَّهُ لَا يكون مُرَادهم الْإِضَافَة إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نصا وَمَعَ الِاحْتِمَال لَا يثبت التَّعْيِين بِغَيْر دَلِيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 فصل فِي الْخَبَر يلْحقهُ التَّكْذِيب من جِهَة الرَّاوِي أَو من جِهَة غَيره أما مَا يلْحقهُ من جِهَة الرَّاوِي فَأَرْبَعَة أَقسَام أَحدهَا أَن يُنكر الرِّوَايَة أصلا وَالثَّانِي أَن يظْهر مِنْهُ مُخَالفَة للْحَدِيث قولا أَو عملا قبل الرِّوَايَة أَو بعْدهَا أَو لم يعلم التَّارِيخ وَالثَّالِث أَن يظْهر مِنْهُ تعْيين شَيْء مِمَّا هُوَ من محتملات الْخَبَر تَأْوِيلا أَو تَخْصِيصًا وَالرَّابِع أَن يتْرك الْعَمَل بِالْحَدِيثِ أصلا فَأَما الْوَجْه الأول فقد اخْتلف فِيهِ أهل الحَدِيث من السّلف فَقَالَ بَعضهم بإنكار الرَّاوِي يخرج الحَدِيث من أَن يكون حجَّة وَقَالَ بَعضهم لَا يخرج (من أَن يكون حجَّة) وَبَيَان هَذَا فِيمَا رَوَاهُ ربيعَة عَن سُهَيْل بن أبي صَالح من حَدِيث الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين ثمَّ قيل لسهيل إِن ربيعَة يروي عَنْك هَذَا الحَدِيث فَلم يذكرهُ وَجعل يروي وَيَقُول حَدثنِي ربيعَة عني وَهُوَ ثِقَة وَقد عمل الشَّافِعِي بِالْحَدِيثِ مَعَ إِنْكَار الرَّاوِي وَلم يعْمل بِهِ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله وَذكر سُلَيْمَان بن مُوسَى عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل الحَدِيث ثمَّ روى أَن ابْن جريج سَأَلَ الزُّهْرِيّ عَن هَذَا الحَدِيث فَلم يعرفهُ ثمَّ عمل بِهِ مُحَمَّد وَالشَّافِعِيّ مَعَ إِنْكَار الرَّاوِي وَلم يعْمل بِهِ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف لإنكار الرَّاوِي إِيَّاه وَقَالُوا يَنْبَغِي أَن يكون هَذَا الْفَصْل على الِاخْتِلَاف بَين عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله بِهَذِهِ الصّفة وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِمَا لَو ادّعى رجل عِنْد قَاض أَنه قضى لَهُ بِحَق على هَذَا الْخصم وَلم يعرف القَاضِي قَضَاءَهُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدين على قَضَائِهِ بِهَذِهِ الصّفة فَإِن على قَول أبي يُوسُف لَا يقبل القَاضِي هَذِه الْبَيِّنَة وَلَا ينفذ قَضَاءَهُ بهَا وعَلى قَول مُحَمَّد يقبلهَا وَينفذ قَضَاءَهُ فَإِذا ثَبت هَذَا الْخلاف بَينهمَا فِي قَضَاء يُنكره القَاضِي فَكَذَلِك فِي حَدِيث يُنكره الرَّاوِي الأَصْل وعَلى هَذَا مَا يَحْكِي من المحاورة الَّتِي جرت بَين أبي يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله فِي الرِّوَايَة عَن أبي حنيفَة فِي ثَلَاث مسَائِل من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 الْجَامِع الصَّغِير وَقد بيناها فِي شرح الْجَامِع الصَّغِير فَإِن مُحَمَّدًا ثَبت على مَا رَوَاهُ عَن أبي يُوسُف عَنهُ بعد إِنْكَار أبي يُوسُف وَأَبُو يُوسُف لم يعْتَمد رِوَايَة مُحَمَّد عَنهُ حِين لم يتَذَكَّر وَزعم بعض مَشَايِخنَا أَن على قِيَاس قَول عُلَمَائِنَا يَنْبَغِي أَن لَا يبطل الْخَبَر بإنكار رَاوِي الأَصْل إِلَّا على قَول زفر رَحمَه الله وردوا هَذَا إِلَى قَول زوج الْمُعْتَدَّة أَخْبَرتنِي أَن عدتهَا قد انْقَضتْ وَهِي تنكر فَإِن على قَول زفر لَا يبْقى الْخَبَر مَعْمُولا بِهِ بعد إنكارها وَعِنْدنَا يبْقى مَعْمُولا بِهِ إِلَّا فِي حَقّهَا وَالْأول أصح فَإِن جَوَاز نِكَاح الْأُخْت والأربع لَهُ هُنَا عندنَا بِاعْتِبَار ظُهُور انْقِضَاء الْعدة فِي حَقه (بقوله) لكَونه أَمينا فِي الْإِخْبَار عَن أَمر بَينه وَبَين ربه لَا لاتصال الْخَبَر بهَا وَلِهَذَا لَو قَالَ انْقَضتْ عدتهَا وَلم يضف الْخَبَر إِلَيْهَا كَانَ الحكم كَذَلِك فِي الصَّحِيح من الْجَواب فَأَما الْفَرِيق الأول فقد احْتَجُّوا بِحَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ رَضِي الله عَنهُ فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لما قَالَ لأبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا (أَحَق مَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ) فَقَالَا نعم فَقَامَ فَأَتمَّ صلَاته وَقبل خبرهما عَنهُ وَإِن لم يذكرهُ وَعمر قبل خبر أنس بن مَالك عَنهُ فِي أَمَان الهرمزان بقوله لَهُ أَتكَلّم كَلَام حَيّ وَإِن لم يذكر ذَلِك وَلِأَن النسْيَان غَالب على الْإِنْسَان فقد يحفظ الْإِنْسَان شَيْئا وَيَرْوِيه لغيره ثمَّ ينسى بعد مُدَّة فَلَا يتذكره أصلا والراوي عَنهُ عدل ثِقَة فبه يتَرَجَّح جَانب الصدْق فِي خَبره ثمَّ لَا يبطل ذَلِك بنسيانه وَهَذَا بِخِلَاف الشَّهَادَة على الشَّهَادَة فَإِن شَاهد الأَصْل إِذا أنكرهُ لم يكن للْقَاضِي أَن يقْضِي بِشَهَادَتِهِ لِأَن الفرعي هُنَاكَ لَيْسَ بِشَاهِد على الْحق ليقضي بِشَهَادَتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ ثَابت فِي نقل شَهَادَة الْأَصْلِيّ وَلِهَذَا لَو قَالَ أشهد على فلَان لَا يكون صَحِيحا مَا لم يقل أشهدنى على شَهَادَته وَأَمرَنِي بِالْأَدَاءِ فَأَنا أشهد على شَهَادَته ثمَّ الْقَضَاء يكون بِشَهَادَة الْأَصْلِيّ وَمَعَ إِنْكَار لَا تثبت شَهَادَته فِي مجْلِس الْقَضَاء فَأَما هُنَا الفرعي إِنَّمَا يروي الحَدِيث بِاعْتِبَار سَماع صَحِيح لَهُ من الْأَصْلِيّ وَلَا يبطل ذَلِك بإنكار الْأَصْلِيّ بِنَاء على نسيانه وَأما الْفَرِيق الثَّانِي استدلوا بِحَدِيث عمار رَضِي الله عَنهُ حِين قَالَ لعمر أما تذكر إِذْ كُنَّا فِي الْإِبِل فأجنبت فتمعكت فِي التُّرَاب ثمَّ سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك فَقَالَ أما كَانَ يَكْفِيك أَن تضرب بيديك الأَرْض فتمسح بهما وَجهك وذراعيك فَلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 يرفع عمر رَضِي الله عَنهُ رَأسه وَلم يعْتَمد رِوَايَته مَعَ أَنه كَانَ عدلا ثِقَة لِأَنَّهُ روى عَنهُ وَلم يتَذَكَّر هُوَ مَا رَوَاهُ فَكَانَ لَا يرى التَّيَمُّم للْجنب بعد ذَلِك وَلِأَن بِاعْتِبَار تَكْذِيب الْعَادة يخرج الحَدِيث من أَن يكون حجَّة مُوجبَة للْعَمَل كَمَا قَررنَا فِيمَا سبق وَتَكْذيب الرَّاوِي أدل على الوهن من تَكْذِيب الْعَادة وَهَذَا لِأَن الْخَبَر إِنَّمَا يكون مَعْمُولا بِهِ إِذا اتَّصل برَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَقد انْقَطع هَذَا الِاتِّصَال بإنكار رَاوِي الأَصْل لِأَن إِنْكَاره حجَّة فِي حَقه فتنتفي بِهِ رِوَايَته الحَدِيث أَو يصير هُوَ مناقضا بإنكاره وَمَعَ التَّنَاقُض لَا تثبت رِوَايَته وَبِدُون رِوَايَته لَا يثبت الِاتِّصَال فَلَا يكون حجَّة كَمَا فِي الشَّهَادَة على الشَّهَادَة وكما يتَوَهَّم نِسْيَان رَاوِي الأَصْل يتَوَهَّم غلط رَاوِي الْفَرْع فقد يسمع الْإِنْسَان حَدِيثا فيحفظه وَلَا يحفظ من سمع مِنْهُ فيظن أَنه سَمعه من فلَان وَإِنَّمَا سَمعه من غَيره فأدنى الدَّرَجَات فِيهِ أَن يَقع التَّعَارُض فِيمَا هُوَ متوهم فَلَا يثبت الِاتِّصَال من جِهَته وَلَا من جِهَة غَيره لِأَنَّهُ مَجْهُول وبالمجهول لَا يثبت الِاتِّصَال وَأما حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ فَإِنَّمَا يحمل على أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام تذكر ذَلِك عِنْد خبرهما وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر فَإِنَّهُ كَانَ مَعْصُوما عَن التَّقْرِير على الْخَطَأ وَحَدِيث عمر مُحْتَمل لذَلِك أَيْضا فَرُبمَا تذكر حِين شهد بِهِ غَيره فَلهَذَا عمل بِهِ أَو تذكر غَفلَة من نَفسه وشغل الْقلب بِشَيْء فِي ذَلِك الْوَقْت وَقد يكون هَذَا للمرء بِحَيْثُ يُوجد شَيْء مِنْهُ ثمَّ لَا يذكرهُ فَأَخذه بِالِاحْتِيَاطِ وَجعله آمنا من هَذَا الْوَجْه وَنحن لَا نمْنَع من مثل هَذَا الِاحْتِيَاط وَإِنَّمَا ندعي أَنه لَا يبْقى مُوجبا للْعَمَل مَعَ إِنْكَار رَاوِي الأَصْل وكما أَن رَاوِي الْفَرْع عدل ثِقَة فراوي الأَصْل كَذَلِك وَذَلِكَ يرجح جَانب الصدْق فِي إِنْكَاره أَيْضا فتتحقق الْمُعَارضَة من هَذَا الْوَجْه وَأدنى مَا فِيهِ أَن يتعارض قولاه فِي الرِّوَايَة وَالْإِنْكَار فَيبقى الْأَمر على مَا كَانَ قبل رِوَايَته وَأما الْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ مَا إِذا ظهر مِنْهُ الْمُخَالفَة قولا أَو عملا فَإِن كَانَ ذَلِك بتاريخ قبل الرِّوَايَة فَإِنَّهُ لَا يقْدَح فِي الْخَبَر وَيحمل على أَنه كَانَ ذَلِك مذْهبه قبل أَن يسمع الحَدِيث فَلَمَّا سمع الحَدِيث رَجَعَ إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ إِن لم يعلم التَّارِيخ لِأَن الْحمل على أحسن الْوَجْهَيْنِ وَاجِب مَا لم يتَبَيَّن خِلَافه وَهُوَ أَن يكون ذَلِك مِنْهُ قبل أَن يبلغهُ الحَدِيث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 ثمَّ رَجَعَ إِلَى الحَدِيث وَأما إِذا علم ذَلِك مِنْهُ بتاريخ بعد الحَدِيث فَإِن الحَدِيث يخرج بِهِ من أَن يكون حجَّة لِأَن فتواه بِخِلَاف الحَدِيث أَو عمله من أبين الدَّلَائِل على الِانْقِطَاع وَأَنه الأَصْل للْحَدِيث فَإِن الْحَالَات لَا تَخْلُو إِمَّا إِن كَانَت الرِّوَايَة تقولا مِنْهُ لَا عَن سَماع فَيكون وَاجِب الرَّد أَو تكون فتواه وَعَمله بِخِلَاف الحَدِيث على وَجه قلَّة المبالاة والتهاون بِالْحَدِيثِ فَيصير بِهِ فَاسِقًا لَا تقبل رِوَايَته أصلا أَو يكون ذَلِك مِنْهُ عَن غَفلَة ونسيان وَشَهَادَة الْمُغَفَّل لَا تكون حجَّة فَكَذَلِك خَبره أَو يكون ذَلِك مِنْهُ على أَنه علم انتساخ حكم الحَدِيث وَهَذَا أحسن الْوُجُوه فَيجب الْحمل عَلَيْهِ تحسينا للظن بروايته وَعَمله فَإِنَّهُ روى على طَرِيق إبْقَاء الْإِسْنَاد وَعلم أَنه مَنْسُوخ فَأفْتى بِخِلَافِهِ أَو عمل بالناسخ دون الْمَنْسُوخ وكما يتَوَهَّم أَن يكون فتواه أَو عمله بِنَاء على غَفلَة أَو نِسْيَان يتَوَهَّم أَن تكون رِوَايَته بِنَاء على غلط وَقع لَهُ وَبِاعْتِبَار التَّعَارُض بَينهمَا يَنْقَطِع الِاتِّصَال وَبَيَان هَذَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ يغسل الْإِنَاء من ولوغ الْكَلْب سبعا ثمَّ صَحَّ من فتواه أَنه يطهر بِالْغسْلِ ثَلَاثًا فحملنا على أَنه كَانَ علم انتساخ هَذَا الحكم أَو علم بِدلَالَة الْحَال أَن مُرَاد رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام النّدب فِيمَا وَرَاء الثَّلَاثَة وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ متعتان كَانَتَا على عهد رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَأَنا أنهِي عَنْهُمَا وأعاقب عَلَيْهِمَا مُتْعَة النِّسَاء ومتعة الْحَج فَإِنَّمَا يحمل هَذَا على علمه بالانتساخ وَلِهَذَا قَالَ ابْن سِيرِين هم الَّذين رووا الرُّخْصَة فِي الْمُتْعَة وهم الَّذين نهوا عَنْهَا وَلَيْسَ فِي رَأْيهمْ مَا يرغب عَنهُ وَلَا فِي نصيحتهم مَا يُوجب التُّهْمَة وَأما فِي الْعَمَل فبيان هَذَا فِي حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا (أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا) ثمَّ صَحَّ أَنَّهَا زوجت ابْنة أَخِيهَا عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر رَضِي الله عَنْهُمَا فبعملها بِخِلَاف الحَدِيث يتَبَيَّن النّسخ وَحَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يرفع يَدَيْهِ عِنْد الرُّكُوع وَعند رفع الرَّأْس من الرُّجُوع ثمَّ قد صَحَّ عَن مُجَاهِد قَالَ صَحِبت ابْن عمر سِنِين وَكَانَ لَا يرفع يَدَيْهِ إِلَّا عِنْد تَكْبِيرَة الِافْتِتَاح فَيثبت بِعَمَلِهِ بِخِلَاف الحَدِيث نسخ الحكم وَأما الْوَجْه الثَّالِث وَهُوَ تَعْيِينه بعض محتملات الحَدِيث فَإِن ذَلِك لَا يمْنَع كَون الحَدِيث مَعْمُولا بِهِ على ظَاهره من قبل أَنه إِنَّمَا فعل ذَلِك بِتَأْوِيل وتأويله لَا يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 حجَّة على غَيره وَإِنَّمَا الْحجَّة الحَدِيث وبتأويله لَا يتَغَيَّر ظَاهر الحَدِيث فَيبقى مَعْمُولا بِهِ على ظَاهره وَهُوَ وَغَيره فِي التَّأْوِيل والتخصيص سَوَاء وَبَيَان هَذَا فِي حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ الْمُتَبَايعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا وَهَذَا يحْتَمل التَّفَرُّق بالأقوال وَيحْتَمل التَّفَرُّق بالأبدان ثمَّ حمله ابْن عمر على التَّفَرُّق بالأبدان حَتَّى روى عَنهُ أَنه كَانَ إِذا أوجب البيع مَشى هنيهة وَلم نَأْخُذ بتأويله لِأَن الحَدِيث فِي احْتِمَال كل وَاحِد من الْأَمريْنِ كالمشترك فتعيين أحد المحتملين فِيهِ يكون تَأْوِيلا لَا تَصرفا فِي الحَدِيث وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ ثمَّ قد ظهر من فَتْوَى ابْن عَبَّاس أَن الْمُرْتَدَّة لَا تقتل فَقَالَ هَذَا تَخْصِيص لحق الحَدِيث من الرَّاوِي وَذَلِكَ بِمَنْزِلَة التَّأْوِيل لَا يكون حجَّة على غَيره فَأَنا آخذ بِظَاهِر الحَدِيث وَأوجب الْقَتْل على الْمُرْتَدَّة وَأما ترك الْعَمَل بِالْحَدِيثِ أصلا فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْعَمَل بِخِلَاف الحَدِيث حَتَّى يخرج بِهِ من أَن يكون حجَّة لِأَن ترك الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرَام كَمَا أَن الْعَمَل بِخِلَافِهِ حرَام وَمن هَذَا النَّوْع ترك ابْن عمر الْعَمَل بِحَدِيث رفع الْيَدَيْنِ عِنْد الرُّكُوع كَمَا بَينا وَأما مَا يكون من جِهَة غير الرَّاوِي فَهُوَ قِسْمَانِ أَحدهمَا مَا يكون من جِهَة الصَّحَابَة وَالثَّانِي مَا يكون من جِهَة أَئِمَّة الحَدِيث فَأَما مَا يكون من الصَّحَابَة فَهُوَ نَوْعَانِ على مَا ذكره عِيسَى بن أبان رَحمَه الله أَحدهمَا أَن يعْمل بِخِلَاف الحَدِيث بعض الْأَئِمَّة من الصَّحَابَة وَهُوَ مِمَّن يعلم أَنه لَا يخفى عَلَيْهِ مثل ذَلِك الحَدِيث فَيخرج الحَدِيث بِهِ من أَن يكون حجَّة لِأَنَّهُ لما انْقَطع توهم أَنه لم يبلغهُ وَلَا يظنّ بِهِ مُخَالفَة حَدِيث صَحِيح عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَوَاء رَوَاهُ هُوَ أَو غَيره فَأحْسن الْوُجُوه فِيهِ أَنه علم انتساخه أَو أَن ذَلِك الحكم لم يكن حتما فَيجب حمله على هَذَا وَبَيَانه فِيمَا روى الْبكر بالبكر جلد مائَة وتغريب عَام وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ جلد مائَة ورجم بِالْحِجَارَةِ ثمَّ صَحَّ عَن الْخُلَفَاء أَنهم أَبَوا الْجمع بَين الْجلد وَالرَّجم بعد علمنَا أَنه لم يخف عَلَيْهِم الحَدِيث لشهرته فَعرفنَا بِهِ انتساخ هَذَا الحكم وَكَذَلِكَ صَحَّ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَوْله وَالله لَا أنفي أحدا أبدا وَقَول عَليّ رَضِي الله عَنهُ كفى بِالنَّفْيِ فتْنَة مَعَ علمنَا أَنه لم يخف عَلَيْهِمَا الحَدِيث فاستدللنا بِهِ على انتساخ حكم الْجمع بَين الْجلد والتغريب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 وَكَذَلِكَ مَا يرْوى أَن عمر رَضِي الله عَنهُ حِين فتح السوَاد من بهَا على أَهلهَا وأبى أَن يقسمها بَين الْغَانِمين مَعَ علمنَا أَنه لم يخف عَلَيْهِ قسْمَة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام خَيْبَر بَين أَصْحَابه حِين افتتحها فاستدللنا بِهِ على أَنه علم أَن ذَلِك لم يكن حكما حتما من رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام على وَجه لَا يجوز غَيره فِي الْغَنَائِم فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ كَانَ يطبق فِي الصَّلَاة بعد مَا ثَبت انتساخه بِحَدِيث مَشْهُور فِيهِ أَمر بِالْأَخْذِ بالركب ثمَّ خَفِي عَلَيْهِ ذَلِك حَتَّى لم يَجْعَل عمله دَلِيلا على أَن الحَدِيث الَّذِي فِيهِ أَمر بِالْأَخْذِ بالركب مَنْسُوخ أَو أَن الْأَخْذ بالركب لَا يكون عينا فِي الصَّلَاة قُلْنَا مَا خَفِي على ابْن مَسْعُود حَدِيث الْأَمر بِالْأَخْذِ بالركب وَإِنَّمَا وَقع عِنْده أَنه على سَبِيل الرُّخْصَة فَكَانَ تلحقهم الْمَشَقَّة فِي التطبيق مَعَ طول الرُّكُوع لأَنهم كَانُوا يخَافُونَ السُّقُوط على الأَرْض فَأمروا بِالْأَخْذِ بالركب تيسيرا عَلَيْهِم لَا تعيينا عَلَيْهِم فلأجل هَذَا التَّأْوِيل لم يتْرك الْعَمَل بِظَاهِر الحَدِيث الَّذِي فِيهِ أَمر بِالْأَخْذِ بالركب وَالْوَجْه الثَّانِي أَن يظْهر مِنْهُ الْعَمَل بِخِلَاف الحَدِيث وَهُوَ مِمَّن يجوز أَن يخفى عَلَيْهِ ذَلِك الحَدِيث فَلَا يخرج الحَدِيث من أَن يكون حجَّة بِعَمَلِهِ بِخِلَافِهِ وَبَيَان هَذَا فِيمَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام رخص للحائض فِي أَن تتْرك طواف الصَّدْر ثمَّ صَحَّ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهَا تقيم حَتَّى تطهر فَتَطُوف وَلَا تتْرك بِهَذَا الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ رخصَة لجَوَاز أَن يكون ذَلِك خَفِي عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ مَا يرْوى عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ لَا يُوجب إِعَادَة الْوضُوء على من قهقه فِي الصَّلَاة وَلَا يتْرك بِهِ الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الْمُوجب للْوُضُوء من القهقهة فِي الصَّلَاة لجَوَاز أَن يكون ذَلِك خَفِي عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَول ابْن عمر لَا يحجّ أحد عَن أحد لَا يمْنَع الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الْوَارِد فِي الإحجاج عَن الشَّيْخ الْكَبِير لجَوَاز أَن يكون ذَلِك خَفِي عَلَيْهِ وَهَذَا لِأَن الحَدِيث مَعْمُول بِهِ إِذا صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يتْرك الْعَمَل بِهِ بِاعْتِبَار عمل مِمَّن هُوَ دونه بِخِلَافِهِ وَإِنَّمَا تحمل فتواه بِخِلَاف الحَدِيث على أحسن الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ أَنه إِنَّمَا أفتى بِهِ بِرَأْيهِ لِأَنَّهُ خَفِي عَلَيْهِ النَّص وَلَو بلغه لرجع إِلَيْهِ فعلى من يبلغهُ الحَدِيث بطرِيق صَحِيح أَن يَأْخُذ بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 وَأما مَا يكون من أَئِمَّة الحَدِيث فَهُوَ الطعْن فِي الروَاة وَذَلِكَ نَوْعَانِ مُبْهَم ومفسر ثمَّ الْمُفَسّر نَوْعَانِ مَا لَا يصلح أَن يكون طَعنا وَمَا يصلح أَن يكون وَالَّذِي يصلح نَوْعَانِ مُجْتَهد فِيهِ أَو مُتَّفق عَلَيْهِ والمتفق عَلَيْهِ نَوْعَانِ أَن يكون مِمَّن هُوَ مَشْهُور بِالنَّصِيحَةِ والإتقان أَو مِمَّن هُوَ مَعْرُوف بالتعصب والعداوة فَأَما الطعْن الْمُبْهم فَهُوَ عِنْد الْفُقَهَاء لَا يكون جرحا لِأَن الْعَدَالَة بِاعْتِبَار ظَاهر الدّين ثَابت لكل مُسلم خُصُوصا من كَانَ من الْقُرُون الثَّلَاثَة فَلَا يتْرك ذَلِك بطعن مُبْهَم أَلا ترى أَن الشَّهَادَة أضيق من رِوَايَة الْخَبَر فِي هَذَا ثمَّ الطعْن الْمُبْهم من الْمُدعى عَلَيْهِ لَا يكون جرحا فَكَذَلِك من الْمُزَكي وَلَا يمْتَنع الْعَمَل بِالشَّهَادَةِ لأجل الطعْن الْمُبْهم فَلِأَن لَا يخرج الحَدِيث بالطعن الْمُبْهم من أَن يكون حجَّة أولى وَهَذَا للْعَادَة الظَّاهِرَة أَن الْإِنْسَان إِذا لحقه من غير مَا يسوءه فَإِنَّهُ يعجز عَن إمْسَاك لِسَانه فِي ذَلِك الْوَقْت حَتَّى يطعن فِيهِ طَعنا مُبْهما إِلَّا من عصمه الله تَعَالَى ثمَّ إِذا طلب مِنْهُ تَفْسِير ذَلِك لَا يكون لَهُ أصل والمفسر الَّذِي لَا يصلح أَن يكون طَعنا لَا يُوجب الْجرْح أَيْضا وَذَلِكَ مثل طعن بعض المتعنتين فِي أبي حنيفَة أَنه دس ابْنه ليَأْخُذ كتب أستاذه حَمَّاد فَكَانَ يروي من ذَلِك وَهَذَا إِن صَحَّ فَهُوَ لَا يصلح طَعنا بل هُوَ دَلِيل الإتقان فقد كَانَ هُوَ لَا يستجيز الرِّوَايَة إِلَّا عَن حفظ وَالْإِنْسَان لَا يقوى اعْتِمَاده على جَمِيع مَا يحفظه فَفعل ذَلِك ليقابل حفظه بكتب أستاذه فَيَزْدَاد بِهِ معنى الإتقان وَكَذَلِكَ الطعْن بالتدليس على من يَقُول حَدثنِي فلَان عَن فلَان وَلَا يَقُول قَالَ حَدثنِي فلَان فَإِن هَذَا لَا يصلح أَن يكون طَعنا لِأَن هَذَا يُوهم الْإِرْسَال وَإِذا كَانَ حَقِيقَة الْإِرْسَال دَلِيل زِيَادَة الإتقان على مَا بَينا فَمَا يُوهم الْإِرْسَال كَيفَ يكون طَعنا وَمِنْه الطعْن بالتلبيس على من يكنى عَن الرَّاوِي وَلَا يذكر اسْمه وَلَا نسبه نَحْو رِوَايَة سُفْيَان الثَّوْريّ بقوله حَدثنَا أَبُو سعيد من غير بَيَان يعلم بِهِ أَن هَذَا ثِقَة أَو غير ثِقَة وَنَحْو رِوَايَة مُحَمَّد بقوله أخبرنَا الثِّقَة من غير تَفْسِير فَإِن هَذَا مَحْمُول على أحسن الْوُجُوه وَهُوَ صِيَانة الرَّاوِي من أَن يطعن فِيهِ (بعض) من لَا يُبَالِي وصيانة السَّامع من أَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 يبتلى بالطعن فِي أحد من غير حجَّة على أَن من يكون مطعونا فِي بعض رواياته بِسَبَب لَا يُوجب عُمُوم الطعْن فِيهِ فَذَلِك لَا يمْنَع قبُول رِوَايَته وَالْعَمَل بِهِ فِيمَا سوى ذَلِك نَحْو الْكَلْبِيّ وَأَمْثَاله ثمَّ سُفْيَان الثَّوْريّ مِمَّن لَا يخفى حَاله فِي الْفِقْه وَالْعَدَالَة وَلَا يظنّ بِهِ إِلَّا أحسن الْوُجُوه وَكَذَلِكَ مُحَمَّد بن الْحسن فَتحمل الْكِنَايَة مِنْهُمَا عَن الرَّاوِي على أَنَّهُمَا قصدا صيانته وَكَيف يَجْعَل ذَلِك طَعنا وَالْقَوْل بِأَنَّهُ ثِقَة شَهَادَة بِالْعَدَالَةِ لَهُ وَمن ذَلِك أَيْضا طعن بعض الْجُهَّال فِي مُحَمَّد بن الْحسن بِأَنَّهُ سَأَلَ عبد الله بن الْمُبَارك رَحمَه الله أَن يروي لَهُ أَحَادِيث ليسمعها مِنْهُ فَأبى فَلَمَّا قيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ لَا تعجبني أخلاقه فَإِن هَذَا إِن صَحَّ لم يصلح أَن يكون طَعنا لِأَن أَخْلَاق الْفُقَهَاء لَا توَافق أَخْلَاق الزهاد فِي كل وجع فهم بِمحل الْقدْوَة والزهاد بِمحل الْعُزْلَة وَقد يحسن فِي مقَام الْعُزْلَة مَا يقبح فِي مقَام الْقدْوَة أَو على عكس ذَلِك فَكيف يصلح أَن يكون هَذَا طَعنا لَو صَحَّ مَعَ أَنه غير صَحِيح فقد رُوِيَ عَن ابْن الْمُبَارك أَنه قَالَ لَا بُد أَن يكون فِي كل زمَان من يحيي بِهِ الله للنَّاس دينهم ودنياهم فَقيل لَهُ من بِهَذِهِ الصّفة فِي هَذَا الزَّمَان فَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن فَهَذَا يتَبَيَّن أَنه لَا أصل لذَلِك الطعْن وَمن ذَلِك الطعْن بركض الدَّوَابّ فَإِن ذَلِك من عمل الْجِهَاد لِأَن السباق على الأفراس والأقدام مَشْرُوع ليتقوى بِهِ الْمَرْء على الْجِهَاد فَمَا يكون من جنسه مَشْرُوع لَا يصلح أَن يكون طَعنا وَمن ذَلِك الطعْن بِكَثْرَة المزاح فَإِن ذَلِك مُبَاح شرعا إِذا لم يتَكَلَّم بِمَا لَيْسَ بِحَق على مَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يمازح وَلَا يَقُول إِلَّا حَقًا وَلَكِن هَذَا بِشَرْط أَن لَا يكون متخبطا مجازفا يعْتَاد الْقَصْد إِلَى رفع الْحجَّة والتلبيس بِهِ أَلا ترى إِلَى مَا رُوِيَ أَن عليا رَضِي الله عَنهُ كَانَ بِهِ دعابة وَقد ذكر ذَلِك عمر حِين ذكر اسْمه فِي الشورى وَلم يذكرهُ على وَجه الطعْن فَعرفنَا أَن عينه لَا يكون طَعنا وَمن ذَلِك الطعْن بحداثة سنّ الرَّاوِي فَإِن كثيرا من الصَّحَابَة كَانُوا يروون فِي حَدَاثَة سنهم مِنْهُم ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَلَكِن هَذَا بِشَرْط الإتقان عِنْد التَّحَمُّل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 فِي الصغر وَعند الرِّوَايَة بعد الْبلُوغ وَلِهَذَا أَخذنَا بِحَدِيث عبد الله بن ثَعْلَبَة بن صعير رَضِي الله عَنهُ فِي صَدَقَة الْفطر أَنه نصف صَاع من بر ورجحنا حَدِيثه على حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ فِي التَّقْدِير بِصَاع من بر لِأَن حَدِيثه أحسن متْنا فَذَلِك دَلِيل الإتقان وَوَافَقَهُ رِوَايَة ابْن عَبَّاس أَيْضا وَالشَّافِعِيّ أَخذ بِحَدِيث النُّعْمَان بن بشير رَضِي الله عَنْهُمَا فِي إِثْبَات حق الرُّجُوع للوالد فِيمَا يهب لوَلَده وَقد رُوِيَ أَنه نحله أَبوهُ غُلَاما وَهُوَ ابْن سبع سِنِين فَعرفنَا أَن مثل هَذَا لَا يكون طَعنا عِنْد الْفُقَهَاء وَمن ذَلِك الطعْن بِأَن رِوَايَة الْأَخْبَار لَيست بعادة لَهُ فَإِن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ مَا اعْتَادَ الرِّوَايَة وَلَا يظنّ بِأحد أَنه يطعن فِي حَدِيثه بِهَذَا السَّبَب وَقبل رَسُول الله شَهَادَة الْأَعرَابِي على رُؤْيَة هِلَال رَمَضَان والأعرابي مَا كَانَ اعْتَادَ الرِّوَايَة وَقد كَانَ فِي الصَّحَابَة من يمْتَنع من الرِّوَايَة فِي عَامَّة الْأَوْقَات وَفِيهِمْ من يشْتَغل بالرواية فِي عَامَّة الْأَوْقَات ثمَّ لم يرجح أحد رِوَايَة من اعْتَادَ ذَلِك على من لم يعْتد الرِّوَايَة وَهَذَا لِأَن الْمُعْتَبر هُوَ الإتقان وَرُبمَا يكون إتقان من لم تصر الرِّوَايَة عَادَة لَهُ فِيمَا يروي أَكثر من إتقان من اعْتَادَ الرِّوَايَة وَمن ذَلِك الطعْن بالاستكثار من تَفْرِيع مسَائِل الْفِقْه فَإِن ذَلِك دَلِيل الِاجْتِهَاد وَقُوَّة الخاطر فيستدل بِهِ على حسن الضَّبْط والاتقان فَكيف يصلح أَن يكون طَعنا وَمَا يكون مُجْتَهدا فِيهِ الطعْن بِالْإِرْسَال وَقد بَينا أَنه لَيْسَ بطعن عندنَا لِأَنَّهُ دَلِيل تَأَكد الْخَبَر وإتقان الرَّاوِي فِي السماع من غير وَاحِد وَأما الطعْن الْمُفَسّر بِمَا يكون مُوجبا للجرح فَإِن حصل مِمَّن هُوَ مَعْرُوف بالتعصب أَو مُتَّهم بِهِ لظُهُور سَبَب باعث لَهُ على الْعَدَاوَة فَإِنَّهُ لَا يُوجب الْجرْح وَذَلِكَ نَحْو طعن الْمُلْحِدِينَ والمتهمين بِبَعْض الْأَهْوَاء المضلة فِي أهل السّنة وَطعن بعض من ينتحل مَذْهَب الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي بعض الْمُتَقَدِّمين من كبار أَصْحَابنَا فَإِنَّهُ لَا يُوجب الْجرْح لعلمنا أَنه كَانَ عَن تعصب وعداوة فَأَما وُجُوه الطعْن الْمُوجب للجرح فَرُبمَا يَنْتَهِي إِلَى أَرْبَعِينَ وَجها يطول الْكتاب بِذكر تِلْكَ الْوُجُوه وَمن طلبَهَا فِي كتاب الْجرْح وَالتَّعْدِيل وقف عَلَيْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 فصل فِي بَيَان الْمُعَارضَة بَين النُّصُوص وَتَفْسِير الْمُعَارضَة وركنها وَحكمهَا وَشَرطهَا قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْحجَج الشَّرْعِيَّة من الْكتاب وَالسّنة لَا يَقع بَينهمَا التَّعَارُض والتناقض وضعا لِأَن ذَلِك من أَمَارَات الْعَجز وَالله يتعالى عَن أَن يُوصف بِهِ وَإِنَّمَا يَقع التَّعَارُض لجهلنا بالتاريخ فَإِنَّهُ يتَعَذَّر بِهِ علينا التَّمْيِيز بَين النَّاسِخ والمنسوخ أَلا ترى أَن عِنْد الْعلم بالتاريخ لَا تقع الْمُعَارضَة بِوَجْه وَلَكِن الْمُتَأَخر نَاسخ للمتقدم فَعرفنَا أَن الْوَاجِب فِي الأَصْل طلب التَّارِيخ ليعلم بِهِ النَّاسِخ من الْمَنْسُوخ وَإِذا لم يُوجد ذَلِك يَقع التَّعَارُض بَينهمَا فِي حَقنا من غير أَن يتَمَكَّن التَّعَارُض فِيمَا هُوَ حكم الله تَعَالَى فِي الْحَادِثَة وَلأَجل هَذَا يحْتَاج إِلَى معرفَة تَفْسِير الْمُعَارضَة وركنها وَشَرطهَا وَحكمهَا فَأَما التَّفْسِير فَهِيَ الممانعة على سَبِيل الْمُقَابلَة يُقَال عرض لي كَذَا أَي استقبلني فَمَنَعَنِي مِمَّا قصدته وَمِنْه سميت الْمَوَانِع عوارض فَإِذا تقَابل الحجتان على سَبِيل المدافعة والممانعة سميت مُعَارضَة وَأما الرُّكْن فَهُوَ تقَابل الحجتين المتساويتين على وَجه يُوجب كل وَاحِد مِنْهُمَا ضد مَا توجبه الْأُخْرَى كالحل وَالْحُرْمَة وَالنَّفْي وَالْإِثْبَات لِأَن ركن الشَّيْء مَا يقوم بِهِ ذَلِك الشَّيْء وبالحجتين المتساويتين تقوم الْمُقَابلَة إِذا لَا مُقَابلَة للضعيف مَعَ الْقوي وَأما الشَّرْط فَهُوَ أَن يكون تقَابل الدَّلِيلَيْنِ فِي وَقت وَاحِد وَفِي مَحل وَاحِد لِأَن المضادة والتنافي لَا يتَحَقَّق بَين الشَّيْئَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ وَلَا فِي محلين حسا وَحكما وَمن الحسيات اللَّيْل وَالنَّهَار لَا يتَصَوَّر اجْتِمَاعهمَا فِي وَقت وَاحِد وَيجوز أَن يكون بعض الزَّمَان نَهَارا وَالْبَعْض لَيْلًا وَكَذَلِكَ السوَاد مَعَ الْبيَاض مجتمعان فِي الْعين فِي محلين وَلَا تصور لاجتماعهما فِي مَحل وَاحِد وَمن الحكميات النِّكَاح فَإِنَّهُ يُوجب الْحل فِي الْمَنْكُوحَة وَالْحُرْمَة فِي أمهَا وبنتها وَلَا يتَحَقَّق التضاد بَينهمَا فِي محلين حَتَّى صَحَّ إثباتهما بِسَبَب وَاحِد وَالصَّوْم يجب فِي وَقت وَالْفطر فِي وَقت آخر وَلَا يتَحَقَّق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 معنى التضاد بَينهمَا باخْتلَاف الْوَقْت فَعرفنَا أَن شَرط التضاد والتمانع اتِّحَاد الْمحل وَالْوَقْت وَمن الشَّرْط أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا مُوجبا على وَجه يجوز أَن يكون نَاسِخا للْآخر إِذا عرف التَّارِيخ بَينهمَا وَلِهَذَا قُلْنَا يَقع التَّعَارُض بَين الْآيَتَيْنِ وَبَين الْقِرَاءَتَيْن وَبَين السنتين وَبَين الْآيَة وَالسّنة الْمَشْهُورَة لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يجوز أَن يكون نَاسِخا إِذا علم التَّارِيخ بَينهمَا على مَا نبينه فِي بَاب النّسخ وَلَا يَقع التَّعَارُض بَين القياسين لِأَن أَحدهمَا لَا يجوز أَن يكون نَاسِخا للْآخر فَإِن النّسخ لَا يكون إِلَّا فِيمَا هُوَ مُوجب للْعلم وَالْقِيَاس لَا يُوجب ذَلِك وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا عَن تَارِيخ وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق فِي القياسين وَكَذَلِكَ لَا يَقع التَّعَارُض فِي أقاويل الصَّحَابَة لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا (إِنَّمَا) قَالَ ذَلِك عَن رَأْيه وَالرِّوَايَة لَا تثبت بِالِاحْتِمَالِ وكما أَن الرأيين من وَاحِد لَا يصلح أَن يكون أَحدهمَا نَاسِخا للْآخر فَكَذَلِك من اثْنَيْنِ وَأما الحكم فَنَقُول مَتى وَقع التَّعَارُض بَين الْآيَتَيْنِ فالسبيل الرُّجُوع إِلَى سَبَب النُّزُول ليعلم التَّارِيخ بَينهمَا فَإِذا علم ذَلِك كَانَ الْمُتَأَخر نَاسِخا للمتقدم فَيجب الْعَمَل بالناسخ وَلَا يجوز الْعَمَل بالمنسوخ فَإِن لم يعلم ذَلِك فَحِينَئِذٍ يجب الْمصير إِلَى السّنة لمعْرِفَة حكم الْحَادِثَة وَيجب الْعَمَل بذلك إِن وجد فِي السّنة لِأَن الْمُعَارضَة لما تحققت فِي حَقنا فقد تعذر علينا الْعَمَل بالآيتين إِذْ لَيست إِحْدَاهمَا بِالْعَمَلِ بهَا أولى من الْأُخْرَى والتحقق بِمَا لَو لم يُوجد حكم الْحَادِثَة فِي الْكتاب فَيجب الْمصير إِلَى السّنة فِي معرفَة الحكم وَكَذَلِكَ إِن وَقع التَّعَارُض بَين السنتين وَلم يعرف التَّارِيخ فَإِنَّهُ يُصَار إِلَى مَا بعد السّنة فِيمَا يكون حجَّة فِي حكم الْحَادِثَة وَذَلِكَ قَول الصَّحَابِيّ أَو الْقيَاس الصَّحِيح على مَا بَينا من قبل فِي التَّرْتِيب فِي الْحجَج الشَّرْعِيَّة لِأَن عِنْد الْمُعَارضَة يتَعَذَّر الْعَمَل بالمتعارضين فَفِي حكم الْعَمَل يَجْعَل ذَلِك كَالْمَعْدُومِ أصلا وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا ادّعى رجلَانِ نِكَاح امْرَأَة وَأقَام كل وَاحِد مِنْهُمَا الْبَيِّنَة وَتعذر تَرْجِيح إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِوَجْه من الْوُجُوه فَإِنَّهُ تبطل الحجتان وَيصير كَأَنَّهُ لم يقم كل وَاحِد مِنْهُمَا الْبَيِّنَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 فَأَما إِذا وَقع التَّعَارُض بَين القياسين فَإِن أمكن تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر بِدَلِيل شَرْعِي وَذَلِكَ قُوَّة فِي أَحدهمَا لَا يُوجد مثله فِي الآخر يجب الْعَمَل بالراجح وَيكون ذَلِك بِمَنْزِلَة معرفَة التَّارِيخ فِي النُّصُوص وَإِن لم يُوجد ذَلِك فَإِن الْمُجْتَهد يعْمل بِأَيِّهِمَا شَاءَ لَا بِاعْتِبَار أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا حق أَو صَوَاب فَالْحق أَحدهمَا وَالْآخر خطأ على مَا هُوَ الْمَذْهَب عندنَا فِي الْمُجْتَهد أَنه يُصِيب تَارَة ويخطىء أُخْرَى وَلكنه مَعْذُور فِي الْعَمَل بِهِ فِي الظَّاهِر مَا لم يتَبَيَّن لَهُ الْخَطَأ بِدَلِيل أقوى من ذَلِك وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي طَرِيق الِاجْتِهَاد مُصِيب وَإِن لم يقف على الصَّوَاب بِاجْتِهَادِهِ وطمأنينة الْقلب إِلَى مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده يصلح أَن يكون دَلِيلا فِي حكم الْعَمَل شرعا عِنْد تحقق الضَّرُورَة بِانْقِطَاع الْأَدِلَّة قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام الْمُؤمن ينظر بِنور الله وَقَالَ فراسة الْمُؤمن لَا تخطىء وَلِهَذَا جَوَّزنَا التَّحَرِّي فِي بَاب الْقبْلَة عِنْد انْقِطَاع الْأَدِلَّة الدَّالَّة على الْجِهَة وحكمنا بِجَوَاز الصَّلَاة سَوَاء تبين أَنه أصَاب جِهَة الْكَعْبَة أَو أَخطَأ لِأَنَّهُ اعْتمد فِي عمله دَلِيلا شَرْعِيًّا وَإِلَيْهِ أَشَارَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ بقوله قبْلَة المتحري جِهَة قَصده وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ مُخَيّرا عِنْد تعَارض القياسين لأجل الضَّرُورَة لِأَنَّهُ إِن ترك الْعَمَل بهما للتعارض احْتَاجَ إِلَى اعْتِبَار الْحَال لبِنَاء حكم الْحَادِثَة عَلَيْهِ إِذْ لَيْسَ بعد الْقيَاس دَلِيل شَرْعِي يرجع إِلَيْهِ فِي معرفَة حكم الْحَادِثَة وَالْعَمَل بِالْحَال عمل بِلَا دَلِيل وَلَا إِشْكَال أَن الْعَمَل بِدَلِيل شَرْعِي فِيهِ احْتِمَال الْخَطَأ وَالصَّوَاب يكون أولى من الْعَمَل بِلَا دَلِيل وَلَكِن هَذِه الضَّرُورَة إِنَّمَا تتَحَقَّق فِي القياسين وَلَا تتَحَقَّق فِي النصين لِأَنَّهُ يَتَرَتَّب عَلَيْهِمَا دَلِيل شَرْعِي يرجع إِلَيْهِ فِي معرفَة حكم الْحَادِثَة لهَذَا لَا يتَخَيَّر هُنَاكَ فِي الْعَمَل بِأَيّ النصين شَاءَ وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا إِذا كَانَ فِي السّفر وَمَعَهُ إناءان فِي أَحدهمَا مَاء طَاهِر وَفِي الآخر مَاء نجس وَلَا يعرف الطَّاهِر من النَّجس فَإِنَّهُ يتحَرَّى للشُّرْب وَلَا يتحَرَّى للْوُضُوء بل يتَيَمَّم لِأَن فِي حق الشّرْب لَا يجد بَدَلا يصير إِلَيْهِ فِي تَحْصِيل مَقْصُوده فَلهُ أَن يصير إِلَى التَّحَرِّي لتحَقّق الضَّرُورَة وَفِي حكم الطَّهَارَة يجد شَيْئا آخر يطهر بِهِ عِنْد الْعَجز عَن اسْتِعْمَال المَاء الطَّاهِر وَهُوَ التَّيَمُّم فَلَا يتَحَقَّق فِيهِ الضَّرُورَة وبسبب الْمُعَارضَة يَجْعَل لعادم المَاء فَيصير إِلَى التَّيَمُّم وَقُلْنَا فِي المساليخ إِذا اسْتَوَت الذكية وَالْميتَة فَفِي حَالَة الضَّرُورَة بِأَن لم يجد حَلَالا سوى ذَلِك جَازَ لَهُ التَّحَرِّي وَعند عدم الضَّرُورَة بِوُجُود طَعَام حَلَال لَا يكون لَهُ أَن يصير إِلَى التَّحَرِّي وَلِهَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 لم يجوز التَّحَرِّي فِي الْفروج أصلا عِنْد اخْتِلَاط الْمُعتقَة عينا بِغَيْر الْمُعتقَة لِأَن جَوَاز ذَلِك بِاعْتِبَار الضَّرُورَة وَلَا مدْخل للضَّرُورَة فِي إِبَاحَة الْفرج بِدُونِ الْملك بِخِلَاف الطَّعَام وَالشرَاب ثمَّ إِذا عمل بِأحد القياسين وَحكم بِصِحَّة عمله بِاعْتِبَار الظَّاهِر يصير ذَلِك لَازِما لَهُ حَتَّى لَا يجوز لَهُ أَن يتْركهُ وَيعْمل بِالْآخرِ من غير دَلِيل مُوجب لذَلِك وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي الثَّوْبَيْنِ إِذا كَانَ أَحدهمَا طَاهِرا وَالْآخر نجسا وَهُوَ لَا يجد ثوبا آخر فَإِنَّهُ يصير إِلَى التَّحَرِّي لتحَقّق الضَّرُورَة فَإِنَّهُ لَو ترك لبسهما لَا يجد شَيْئا آخر يُقيم بِهِ فرض السّتْر الَّذِي هُوَ شَرط جَوَاز الصَّلَاة وَبَعْدَمَا صلى فِي أحد الثَّوْبَيْنِ بِالتَّحَرِّي لَا يكون لَهُ أَن يُصَلِّي فِي الثَّوْب الآخر لأَنا حِين حكمنَا بِجَوَاز الصَّلَاة فِي ذَلِك الثَّوْب فَذَلِك دَلِيل شَرْعِي مُوجب طَهَارَة ذَلِك الثَّوْب وَالْحكم بِنَجَاسَة الثَّوْب الآخر فَلَا تجوز الصَّلَاة فِيهِ بعد ذَلِك إِلَّا بِدَلِيل أقوى مِنْهُ فَإِن قيل أَلَيْسَ أَنه لَو تحرى عِنْد اشْتِبَاه الْقبْلَة وَصلى صَلَاة إِلَى جِهَة ثمَّ وَقع تحريه على جِهَة أُخْرَى يجوز لَهُ أَن يُصَلِّي فِي الْمُسْتَقْبل إِلَى الْجِهَة الثَّانِيَة وَلم يَجْعَل ذَلِك دَلِيلا على أَن جِهَة الْقبْلَة مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده فِي الِابْتِدَاء قُلْنَا لِأَن هُنَاكَ الحكم بِجَوَاز الصَّلَاة إِلَى تِلْكَ الْجِهَة لَا يتَضَمَّن الحكم بِكَوْنِهَا جِهَة الْكَعْبَة لَا محَالة أَلا ترى أَنه وَإِن تبين لَهُ الْخَطَأ بِيَقِين بِأَن استدبر الْكَعْبَة جَازَت صلَاته وَفِي الثَّوْب من ضَرُورَة الحكم بِجَوَاز الصَّلَاة فِي ثوب الحكم بِطَهَارَة ذَلِك الثَّوْب حَتَّى إِذا تبين أَنه كَانَ نجسا تلْزمهُ إِعَادَة الصَّلَاة وَالْعَمَل بِالْقِيَاسِ من هَذَا الْقَبِيل فَإِن صِحَة الْعَمَل بِأحد القياسين يتَضَمَّن الحكم بِكَوْنِهِ حجَّة للْعَمَل بِهِ ظَاهرا وَلِهَذَا لَو تبين نَص بِخِلَافِهِ بَطل حكم الْعَمَل بِهِ فَلهَذَا كَانَ الْعَمَل بِأحد القياسين مَانِعا لَهُ من الْعَمَل بِالْقِيَاسِ الآخر بعد مَا لم يتَبَيَّن دَلِيل أقوى مِنْهُ وَوجه آخر أَن التَّعَارُض بَين النصين إِنَّمَا يَقع لجهلنا بالتاريخ بَينهمَا وَالْجهل لَا يصلح دَلِيلا على حكم شَرْعِي من حَيْثُ الْعلم لَا من حَيْثُ الْعَمَل وَالِاخْتِيَار حكم شَرْعِي لَا يجوز أَن يثبت بِاعْتِبَار هَذَا الْجَهْل فَأَما التَّعَارُض بَين القياسين بِاعْتِبَار كَون كل وَاحِد مِنْهُمَا صَالحا للْعَمَل بِهِ فِي أصل الْوَضع وَإِن كَانَ أَحدهمَا صَوَابا حَقِيقَة وَالْآخر خطأ وَلَكِن من حَيْثُ الظَّاهِر هُوَ مَعْمُول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 بِهِ شرعا مَا لم يتَبَيَّن وَجه الْخَطَأ فِيهِ فإثبات الْخِيَار بَينهمَا فِي حكم الْعَمَل إِذا رجح أَحدهمَا بِنَوْع فراسة يكون إِثْبَات الحكم بِدَلِيل شَرْعِي ثمَّ إِذا عمل بِأَحَدِهِمَا صَحَّ ذَلِك بِالْإِجْمَاع فَلَا يكون لَهُ أَن ينْقض مَا نفذ من الْقَضَاء مِنْهُ بِالْإِجْمَاع وَلَا يصير إِلَى الْعَمَل بِالْآخرِ إِلَّا بِدَلِيل هُوَ أقوى من الأول فَإِن قيل لَو ثَبت الْخِيَار لَهُ فِي الْعَمَل بالقياسين لَكَانَ يبْقى خِيَاره بَعْدَمَا عمل بِأَحَدِهِمَا فِي حَادِثَة حَتَّى يكون لَهُ أَن يعْمل بِالْآخرِ فِي حَادِثَة أُخْرَى كَمَا فِي كَفَّارَة الْيَمين فَإِنَّهُ لَو عين أحد الْأَنْوَاع فِي تَكْفِير يَمِين بِهِ يبْقى خِيَاره فِي تعْيين نوع آخر فِي كَفَّارَة يَمِين أُخْرَى قُلْنَا هُنَاكَ التَّخْيِير ثَبت على أَن كل وَاحِد من الْأَنْوَاع صَالح للتكفير بِهِ بِدَلِيل مُوجب للْعلم وَهنا الْخِيَار مَا ثَبت بِمثل هَذَا الدَّلِيل بل بِاعْتِبَار أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا صَالح للْعَمَل بِهِ ظَاهرا مَعَ علمنَا بِأَن الْحق أَحدهمَا وَالْآخر خطأ فَبعد مَا تأيد أَحدهمَا بنفوذ الْقَضَاء بِهِ لَا يكون لَهُ أَن يصير إِلَى الآخر إِلَّا بِدَلِيل هُوَ أقوى من الأول وَهَذَا لِأَن جِهَة الصَّوَاب تترجح بِعَمَلِهِ فِيمَا عمل بِهِ وَمن ضَرُورَته ترجح جَانب الْخَطَأ فِي الآخر ظَاهرا فَمَا لم يرْتَفع ذَلِك بِدَلِيل سوى مَا كَانَ مَوْجُودا عِنْد الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا لَا يكون لَهُ أَن يصير إِلَى الْعَمَل بِالْآخرِ وَالْحَاصِل أَن فِيمَا لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال الِانْتِقَال من مَحل إِلَى مَحل إِذا تعين الْمحل بِعَمَلِهِ لَا يبْقى لَهُ خِيَار بعد ذَلِك كالنجاسة فِي الثَّوْب فَإِنَّهَا لَا تحْتَمل الِانْتِقَال من ثوب إِلَى ثوب فَإِذا تعين بِصَلَاتِهِ فِي أحد الثَّوْبَيْنِ صفة الطَّهَارَة فِيهِ والنجاسة فِي الآخر لَا يبْقى لَهُ رَأْي فِي الصَّلَاة فِي الثَّوْب الآخر مَا لم يثبت طَهَارَته بِدَلِيل مُوجب للْعلم وَفِي بَاب الْقبْلَة فرض التَّوَجُّه يحْتَمل الِانْتِقَال أَلا ترى أَنه انْتقل من بَيت الْمُقَدّس إِلَى الْكَعْبَة وَمن عين الْكَعْبَة إِلَى الْجِهَة إِذا بعد من مَكَّة وَمن جِهَة الْكَعْبَة إِلَى سَائِر الْجِهَات إِذا كَانَ رَاكِبًا فَإِنَّهُ يُصَلِّي حَيْثُمَا تَوَجَّهت بِهِ رَاحِلَته فَبعد مَا صلى بِالتَّحَرِّي إِلَى جِهَة إِذا تحول رَأْيه ينْتَقل فرض التَّوَجُّه إِلَى تِلْكَ الْجِهَة أَيْضا لِأَن الشَّرْط أَن يكون مبتلى فِي التَّوَجُّه عِنْد الْقيام إِلَى الصَّلَاة وَإِنَّمَا يتَحَقَّق هَذَا إِذا صلى إِلَى الْجِهَة الَّتِي وَقع عَلَيْهَا تحريه وَكَذَلِكَ حكم الْعَمَل بِالْقِيَاسِ فِي المجتهدات فَإِن الْقَضَاء الَّذِي نفذ بِالْقِيَاسِ فِي مَحل لَا يحْتَمل الِانْتِقَال إِلَى مَحل آخر فَيلْزم ذَلِك فَأَما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 فِيمَا وَرَاء ذَلِك الحكم مُحْتَمل للانتقال فَإِن الْكَلَام فِي حكم يحْتَمل النّسخ وَشرط الْعَمَل بِالْقِيَاسِ أَن يكون مبتلى بِطَلَب الطَّرِيق بِاعْتِبَار أصل الْوَضع شرعا فَإِذا اسْتَقر رَأْيه على أَن الصَّوَاب هُوَ الآخر كَانَ عَلَيْهِ أَن يعْمل فِي الْمُسْتَقْبل وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا إِذا طلق إِحْدَى امرأتيه بِعَينهَا ثمَّ نسي أَو أعتق أحد المملوكين بِعَيْنِه ثمَّ نسي لَا يثبت لَهُ خِيَار الْبَيَان لِأَن الْوَاقِع من الطَّلَاق وَالْعتاق لَا يحْتَمل الِانْتِقَال من مَحل إِلَى مَحل آخر وَإِنَّمَا ثبتَتْ الْمُعَارضَة بَين المحلين فِي حَقه لجهله بِالْمحل الَّذِي عينه عِنْد الْإِيقَاع وجهله لَا يثبت الْخِيَار لَهُ شرعا وبمثله لَو أوجب فِي أَحدهمَا بِغَيْر عينه ابْتِدَاء كَانَ لَهُ الْخِيَار فِي الْبَيَان لِأَن تعْيين الْمحل كَانَ مَمْلُوكا لَهُ شرعا كابتداء الْإِيقَاع وَلكنه بِمُبَاشَرَة الْإِيقَاع أسقط مَا كَانَ لَهُ من الْخِيَار فِي أصل الْإِيقَاع وَلم يسْقط مَا كَانَ لَهُ من الْخِيَار فِي التَّعْيِين فَيبقى ذَلِك الْخِيَار ثَابتا لَهُ شرعا وَمِمَّا يثبت فِيهِ حكم التَّعَارُض سُؤْر الْحمار والبغل فقد تَعَارَضَت الْأَدِلَّة فِي الحكم بِطَهَارَتِهِ ونجاسته وَقد بَينا هَذَا فِي فروع الْفِقْه وَلَكِن لَا يُمكن الْمصير إِلَى الْقيَاس بعد هَذَا التَّعَارُض لِأَن الْقيَاس لَا يصلح لنصب الحكم بِهِ ابْتِدَاء فَوَجَبَ الْعَمَل بِدَلِيل فِيهِ بِحَسب الْإِمْكَان وَهُوَ الْمصير إِلَى الْحَال فَإِن المَاء كَانَ طَاهِرا فِي الأَصْل فَيبقى طَاهِرا نَص عَلَيْهِ فِي غير مَوضِع من النَّوَادِر حَتَّى قَالَ لَو غمس الثَّوْب فِي سُؤْر الْحمار تجوز الصَّلَاة فِيهِ وَلَا يَتَنَجَّس الْعُضْو أَيْضا بِاسْتِعْمَالِهِ لِأَنَّهُ عرق طَاهِر فِي الأَصْل وَهَذَا الدَّلِيل لَا يصلح أَن يكون مُطلقًا أَدَاء الصَّلَاة بِهِ وَحده لِأَن الْحَدث كَانَ ثَابتا قبل اسْتِعْمَاله فَلَا يَزُول بِاسْتِعْمَالِهِ بِيَقِين فشرطنا ضم التَّيَمُّم إِلَيْهِ حَتَّى يحصل التيقن بِالطَّهَارَةِ الْمُطلقَة لأَدَاء الصَّلَاة وَكَذَلِكَ الْخُنْثَى إِذا لم يظْهر فِيهِ دَلِيل يتَرَجَّح بِهِ صفة الذُّكُورَة أَو الْأُنُوثَة فَإِنَّهُ يكون مُشكل الْحَال يَجْعَل بِمَنْزِلَة الذُّكُور فِي بعض الْأَحْكَام وبمنزلة الْإِنَاث فِي الْبَعْض على حسب مَا يدل عَلَيْهِ الْحَال فِي كل حكم وَكَذَلِكَ الْمَفْقُود فَإِنَّهُ يَجْعَل بمنزله الْحَيّ فِي مَال نَفسه حَتَّى لَا يُورث عَنهُ وبمنزلة الْمَيِّت فِي الْإِرْث من الْغَيْر لِأَن أمره مُشكل فَوَجَبَ الْمصير إِلَى الْحَال لأجل الضَّرُورَة وَالْحكم بِمَا يدل عَلَيْهِ الْحَال فِي كل حَادِثَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 وَأما بَيَان المخلص عَن المعارضات فَنَقُول يطْلب هَذَا المخلص أَولا من نفس الْحجَّة فَإِن لم يُوجد فَمن الحكم فَإِن لم يُوجد فباعتبار الْحَال فَإِن لم يُوجد فبمعرفة التَّارِيخ نصا فَإِن لم يُوجد فبدلالة التَّارِيخ فَأَما الْوَجْه الأول وَهُوَ الطّلب المخلص من نفس الْحجَّة فبيانه من أوجه أَحدهَا أَن يكون أحد النصين محكما وَالْآخر مُجملا أَو مُشكلا فَإِن بِهَذَا يتَبَيَّن أَن التَّعَارُض حَقِيقَة غير مَوْجُود بَين النصين وَإِن كَانَ مَوْجُودا ظَاهرا فيصار إِلَى الْعَمَل بالحكم دون الْمُجْمل والمشكل وَكَذَلِكَ إِن كَانَ أَحدهمَا نصا من الْكتاب أَو السّنة الْمَشْهُورَة وَالْآخر خبر الْوَاحِد وَكَذَلِكَ إِن كَانَ أَحدهمَا مُحْتملا للخصوص فَإِنَّهُ يَنْتَفِي معنى التَّعَارُض بتخصيصه بِالنَّصِّ الآخر وَبَيَانه من الْكتاب فِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} وَقَوله تَعَالَى فِي الْمُسْتَأْمن {ثمَّ أبلغه مأمنه} فَإِن التَّعَارُض يَقع بَين النصين ظَاهرا وَلَكِن قَوْله {فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} عَام يحْتَمل الْخُصُوص فَجعلنَا قَوْله تَعَالَى {ثمَّ أبلغه مأمنه} دَلِيل تَخْصِيص الْمُسْتَأْمن من ذَلِك وَمن السّنة قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا فليصلها إِذا ذكرهَا فَإِن ذَلِك وَقتهَا وَنَهْيه عَن الصَّلَاة فِي ثَلَاث سَاعَات فالتعارض بَين النصين ثَبت ظَاهرا وَلَكِن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فليصلها إِذا ذكرهَا بِعرْض التَّخْصِيص فَيجْعَل النَّص الآخر دَلِيل التَّخْصِيص حَتَّى يَنْتَفِي بِهِ التَّعَارُض وَكَذَلِكَ إِن ظهر عمل النَّاس بِأحد النصين دون الآخر لِأَن الَّذِي ظهر الْعَمَل بِهِ بَين النَّاس ترجح بِدَلِيل الْإِجْمَاع فَيَنْتَفِي بِهِ معنى التَّعَارُض بَينهمَا مَعَ أَن الظَّاهِر أَن اتِّفَاقهم على الْعَمَل بِهِ لكَونه مُتَأَخِّرًا نَاسِخا لما كَانَ قبله وبالعلم بالتاريخ يَنْتَفِي التَّعَارُض فَكَذَلِك بِالْإِجْمَاع الدَّال عَلَيْهِ وَإِن كَانَ الْمَعْمُول بِهِ سَابِقًا فَذَلِك دَلِيل على أَن الآخر مؤول أَو سَهْو من بعض الروَاة إِن كَانَ فِي الْأَخْبَار لِأَن الْمَنْسُوخ إِذا اشْتهر فناسخه يشْتَهر بعده أَيْضا كَمَا اشْتهر تَحْرِيم الْمُتْعَة بعد الْإِبَاحَة واشتهر إِبَاحَة زِيَارَة الْقُبُور وإمساك لُحُوم الْأَضَاحِي وَالشرب فِي الْأَوَانِي بعد النَّهْي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 وَلَو اشْتهر النَّاسِخ لما أَجمعُوا على الْعَمَل بِخِلَافِهِ فَبِهَذَا الطَّرِيق تَنْتفِي الْمُعَارضَة وكما يَنْتَفِي التَّعَارُض بِدَلِيل الْإِجْمَاع يثبت التَّعَارُض بِدَلِيل الْإِجْمَاع فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام سُئِلَ عَن مِيرَاث الْعمة وَالْخَالَة فَقَالَ لَا شَيْء لَهما وَقَالَ الْخَال وَارِث من لَا وَارِث لَهُ فَمن حَيْثُ الظَّاهِر لَا تعَارض بَين الْحَدِيثين لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي مَحل آخر وَلَكِن ثَبت بِإِجْمَاع النَّاس أَنه لَا فرق بَين الْخَال وَالْخَالَة والعمة فِي صفة الوراثة فباعتبار هَذَا الْإِجْمَاع يَقع التَّعَارُض بَين النصين ثمَّ رجح عُلَمَاؤُنَا الْمُثبت مِنْهُمَا وَرجح الشَّافِعِي مَا كَانَ مَعْلُوما بِاعْتِبَار الأَصْل وَهُوَ عدم اسْتِحْقَاق الْمِيرَاث وَبَيَان الطّلب المخلص من حَيْثُ الحكم أَن التَّعَارُض إِنَّمَا يَقع للمدافعة بَين الْحكمَيْنِ فَإِن كَانَ الحكم الثَّابِت بِأحد النصين مدفوعا بِالْآخرِ لَا محَالة فَهُوَ التَّعَارُض حَقِيقَة وَإِن أمكن إِثْبَات حكم بِكُل وَاحِد من النصين سوى الحكم الآخر لَا تتَحَقَّق المدافعة فَيَنْتَفِي التَّعَارُض وَبَيَان ذَلِك فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} مَعَ قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ} فَبين النصين تعَارض من حَيْثُ الظَّاهِر فِي يَمِين الْغمُوس فَإِنَّهَا من كسب الْقُلُوب وَلكنهَا غير معقودة لِأَنَّهَا لم تصادف مَحل عقد الْيَمين وَهُوَ الْخَبَر الَّذِي فِيهِ رَجَاء الصدْق وَلَكِن انْتَفَى هَذَا التَّعَارُض بِاعْتِبَار الحكم فَإِن الْمُؤَاخَذَة الْمَذْكُورَة فِي قَوْله تَعَالَى {بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} هِيَ الْمُؤَاخَذَة بِالْكَفَّارَةِ فِي الدُّنْيَا وَفِي قَوْله تَعَالَى {بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ} الْمُؤَاخَذَة بالعقوبة فِي الْآخِرَة لِأَنَّهُ أطلق الْمُؤَاخَذَة فِيهَا والمؤاخذة الْمُطلقَة تكون فِي دَار الْجَزَاء فَإِن الْجَزَاء بوفاق الْعَمَل فَأَما فِي الدُّنْيَا فقد يبتلى الْمُطِيع ليَكُون تمحيصا لذنوبه وينعم على العَاصِي استدراجا فَبِهَذَا الطَّرِيق تبين أَن الحكم الثَّابِت فِي أحد النصين غير الحكم الثَّابِت فِي الآخر وَإِذا انْتَفَت المدافعة بَين الْحكمَيْنِ ظهر المخلص عَن التَّعَارُض فَأَما المخلص بطرِيق الْحَال فبيانه فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} بِالتَّخْفِيفِ فِي إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْن وبالتشديد فِي الْأُخْرَى فبينهما تعَارض فِي الظَّاهِر لِأَن حَتَّى للغاية وَبَين امتداد الشَّيْء إِلَى غَايَة وَبَين قصوره دونهَا مُنَافَاة والإطهار هُوَ الِاغْتِسَال وَالطُّهْر يكون بِانْقِطَاع الدَّم فَبين امتداد حُرْمَة القربان إِلَى الِاغْتِسَال وَبَين ثُبُوت حل القربان عِنْد انْقِطَاع الدَّم مُنَافَاة وَلَكِن بِاعْتِبَار الْحَال يَنْتَفِي هَذَا التَّعَارُض وَهُوَ أَن بِالتَّخْفِيفِ على حَال مَا إِذا كَانَ أَيَّامهَا عشرَة لِأَن الطُّهْر بالانقطاع إِنَّمَا يتَيَقَّن بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالة فَإِن الْحيض لَا يكون أَكثر من عشرَة أَيَّام فَأَما فِيمَا دون الْعشْرَة لَا يثبت الطُّهْر بالانقطاع بِيَقِين لتوهم أَن يعاودها الدَّم وَيكون ذَلِك حيضا فتمتد حُرْمَة القربان إِلَى الإطهار بالاغتسال وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فالتعارض يَقع فِي الظَّاهِر تحمل الْقِرَاءَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 بِالتَّشْدِيدِ على حَال مَا إِذا كَانَ أَيَّامهَا دون الْعشْرَة وَالْقِرَاءَة بَين الْقِرَاءَة بِالنّصب الَّذِي يَجْعَل الرجل عطفا على المغسول وَالْقِرَاءَة بالخفض الَّذِي يَجْعَل الرجل عطفا على الْمَمْسُوح (ثمَّ) تَنْتفِي هَذِه الْمُعَارضَة بِأَن تحمل الْقِرَاءَة بالخفض على حَال مَا إِذا كَانَ لابسا للخف بطرِيق أَن الْجلد الَّذِي استتر بِهِ الرجل يَجْعَل قَائِما مقَام بشرة الرجل فَإِنَّمَا ذكر الرجل عبارَة عَنهُ بِهَذَا الطَّرِيق وَالْقِرَاءَة بِالنّصب على حَال ظُهُور الْقدَم فَإِن الْفَرْض فِي هَذِه الْحَالة غسل الرجلَيْن عينا فَأَما طلب المخلص من حَيْثُ التَّارِيخ فَهُوَ أَن يعلم بِالدَّلِيلِ التَّارِيخ فِيمَا بَين النصين فَيكون الْمُتَأَخر مِنْهُمَا نَاسِخا للمتقدم وَبَيَان هَذَا فِيمَا قَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فِي عدَّة الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا إِذا كَانَت حَامِلا محتجا بِهِ على من يَقُول إِنَّهَا تَعْتَد بأبعد الْأَجَليْنِ فَإِنَّهُ قَالَ من شَاءَ باهلته أَن سُورَة النِّسَاء الْقصرى {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ} نزلت بعد سُورَة النِّسَاء الطُّولى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} فَجعل التَّأَخُّر دَلِيل النّسخ فَعرفنَا أَنه كَانَ مَعْرُوفا فِيمَا بَينهم أَن الْمُتَأَخر من النصين نَاسخ للمتقدم فَأَما طلب المخلص بِدلَالَة التَّارِيخ وَهُوَ أَن يكون أحد النصين مُوجبا للحظر وَالْآخر مُوجبا للْإِبَاحَة نَحْو مَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام نهى عَن أكل الضَّب وَرُوِيَ أَنه رخص فِيهِ وَمَا رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهى عَن أكل الضبع وَرُوِيَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام رخص فِيهِ فَإِن التَّعَارُض بَين النصين ثَابت من حَيْثُ الظَّاهِر ثمَّ يَنْتَفِي ذَلِك بالمصير إِلَى دلَالَة التَّارِيخ وَهُوَ أَن النَّص الْمُوجب للحظر يكون مُتَأَخِّرًا عَن الْمُوجب للْإِبَاحَة فَكَانَ الْأَخْذ بِهِ أولى وَبَيَان ذَلِك وَهُوَ أَن الْمُوجب للْإِبَاحَة يبْقى مَا كَانَ على مَا كَانَ على طَريقَة بعض مَشَايِخنَا لكَون الْإِبَاحَة أصلا فِي الْأَشْيَاء كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ مُحَمَّد فِي كتاب الْإِكْرَاه وعَلى أقوى الطَّرِيقَيْنِ بِاعْتِبَار أَن قبل مبعث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت الْإِبَاحَة ظَاهِرَة فِي هَذِه الْأَشْيَاء فَإِن النَّاس لم يتْركُوا سدى فِي شَيْء من الْأَوْقَات وَلَكِن فِي زمَان الفترة الْإِبَاحَة كَانَت ظَاهِرَة فِي النَّاس وَذَلِكَ بَاقٍ إِلَى أَن ثَبت الدَّلِيل الْمُوجب للْحُرْمَة فِي شريعتنا فَبِهَذَا الْوَجْه يتَبَيَّن أَن الْمُوجب للحظر مُتَأَخّر وَهَذَا لأَنا لَو جعلنَا الْمُوجب للْإِبَاحَة مُتَأَخِّرًا احتجنا إِلَى إِثْبَات نسخين نسخ الْإِبَاحَة الثَّابِتَة فِي الِابْتِدَاء بِالنَّصِّ الْمُوجب للحظر ثمَّ نسخ الْحَظْر بِالنَّصِّ الْمُوجب للْإِبَاحَة وَإِذا جعلنَا نَص الْحَظْر مُتَأَخِّرًا احتجنا إِلَى إِثْبَات النّسخ فِي أَحدهمَا خَاصَّة فَكَانَ هَذَا الْجَانِب أولى وَلِأَنَّهُ قد ثَبت بالِاتِّفَاقِ نسخ حكم الْإِبَاحَة بالحظر وَأما نسخ حكم الْحَظْر بِالْإِبَاحَةِ فمحتمل فبالاحتمال لَا يثبت النّسخ وَلِأَن النَّص الْمُوجب للحظر فِيهِ زِيَادَة حكم وَهُوَ نيل الثَّوَاب بالانتهاء عَنهُ وَاسْتِحْقَاق الْعقَاب بالإقدام عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَنْعَدِم فِي النَّص الْمُوجب للْإِبَاحَة فَكَانَ تَمام الِاحْتِيَاط فِي إِثْبَات التَّارِيخ بَينهمَا على أَن يكون الْمُوجب للحظر مُتَأَخِّرًا وَالْأَخْذ بِالِاحْتِيَاطِ أصل فِي الشَّرْع وَاخْتلف مَشَايِخنَا فِيمَا إِذا كَانَ أحد النصين مُوجبا للنَّفْي وَالْآخر مُوجبا للإثبات فَكَانَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي رَحمَه الله يَقُول الْمُثبت أولى من النَّافِي لِأَن الْمُثبت أقرب إِلَى الصدْق من النَّافِي وَلِهَذَا قبلت الشَّهَادَة على الْإِثْبَات دون النَّفْي وَكَانَ عِيسَى بن أبان رَحمَه الله يَقُول تتَحَقَّق الْمُعَارضَة بَينهمَا لِأَن الْخَبَر الْمُوجب للنَّفْي مَعْمُول بِهِ كالموجب للإثبات وَمَا يسْتَدلّ بِهِ على صدق الرَّاوِي فِي الْخَبَر الْمُوجب للإثبات فَإِنَّهُ يسْتَدلّ بِعَيْنِه على صدق الرَّاوِي فِي الْخَبَر الْمُوجب للنَّفْي وَاخْتلف عمل الْمُتَقَدِّمين من مَشَايِخنَا فِي مثل هذَيْن النصين فَإِنَّهُ رُوِيَ أَن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام تزوج مَيْمُونَة رَضِي الله عَنْهَا وَهُوَ محرم وَرُوِيَ أَنه تزَوجهَا وَهُوَ حَلَال ثمَّ أَخذنَا بِرِوَايَة من روى أَنه تزَوجهَا وَهُوَ محرم وَالْإِثْبَات فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى لأَنهم اتَّفقُوا أَن العقد كَانَ بعد إِحْرَامه فَمن روى أَنه تزَوجهَا وَهُوَ حَلَال فَهُوَ الْمُثبت للتحلل من الْإِحْرَام قبل العقد ثمَّ لم يرجح الْمُثبت على النَّافِي هُنَا وَرُوِيَ أَن بَرِيرَة أعتقت وَزوجهَا كَانَ حرا فَخَيرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرُوِيَ أَنَّهَا أعتقت وَزوجهَا عبد وَلَا خلاف أَن زَوجهَا كَانَ عبدا فِي الأَصْل فَكَانَ الْإِثْبَات فِي رِوَايَة من روى أَن زَوجهَا كَانَ حرا حِين أعتقت فأخذنا بذلك فَهَذَا يدل على أَن التَّرْجِيح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 يحصل بالإثبات وَرُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام رد ابْنَته زَيْنَب على أبي الْعَاصِ رَضِي الله عَنْهُمَا بِنِكَاح جَدِيد وَرُوِيَ أَنه ردهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الأول وَالْإِثْبَات فِي رِوَايَة من روى أَنه ردهَا عَلَيْهِ بِعقد جَدِيد وَبِذَلِك أَخذنَا فَهُوَ دَلِيل على أَن التَّرْجِيح يحصل بالإثبات وَذكر فِي كتاب الِاسْتِحْسَان إِذا أخبر عدل بِطَهَارَة المَاء وَعدل آخر بِنَجَاسَتِهِ فَإِنَّهُ يتعارض الخبران وَالْإِثْبَات فِي خبر من أخبر بِنَجَاسَتِهِ ثمَّ لم يرجح الْخَبَر بِهِ وَقَالَ فِي التَّزْكِيَة الشَّاهِد إِذا عدله وَاحِد وجرحه آخر فَإِن الْجرْح يكون أولى لِأَن فِي خَبره إِثْبَاتًا فَإِذا تبين من أصُول عُلَمَائِنَا هَذَا كُله فَلَا بُد من طلب وَجه يحصل بِهِ التَّوْفِيق بَين هَذِه الْفُصُول وَيسْتَمر الْمَذْهَب عَلَيْهِ مُسْتَقِيمًا وَذَلِكَ الْوَجْه أَن خبر النَّفْي إِمَّا أَن يكون لدَلِيل يُوجب الْعلم بِهِ أَو لعدم الدَّلِيل الْمُثبت أَو يكون مشتبها فَإِن كَانَ لدَلِيل يُوجب الْعلم بِهِ فَهُوَ مسَاوٍ للمثبت وتتحقق الْمُعَارضَة بَينهمَا وعَلى هَذَا قَالَ فِي السّير الْكَبِير إِذا قَالَت الْمَرْأَة سَمِعت زَوجي يَقُول الْمَسِيح ابْن الله فبنت مِنْهُ وَقَالَ الزَّوْج إِنَّمَا قلت الْمَسِيح ابْن الله قَول النَّصَارَى أَو وَقَالَت النَّصَارَى الْمَسِيح ابْن الله فَالْقَوْل قَوْله فَإِن شهد للْمَرْأَة شَاهِدَانِ وَقَالا لم نسْمع من الزَّوْج هَذِه الزِّيَادَة فَالْقَوْل قَوْله أَيْضا وَإِن قَالَا لم يقل هَذِه الزِّيَادَة قبلت الشَّهَادَة وَفرق بَينهمَا وَكَذَا لَو ادّعى الِاسْتِثْنَاء فِي الطَّلَاق وَشهد الشُّهُود أَنه لم يسْتَثْن قبلت الشَّهَادَة وَهَذِه شَهَادَة على النَّفْي وَلكنهَا عَن دَلِيل مُوجب للْعلم بِهِ وَهُوَ أَن مَا يكون من بَاب الْكَلَام فَهُوَ مسموع من الْمُتَكَلّم لمن كَانَ بِالْقربِ مِنْهُ وَمَا لم يسمع مِنْهُ يكون دندنة لَا كلَاما فَإِذا قبلت الشَّهَادَة على النَّفْي إِذا كَانَ عَن دَلِيل كَمَا تقبل على الْإِثْبَات قُلْنَا فِي الْخَبَر أَيْضا يَقع التَّعَارُض بَين النَّفْي وَالْإِثْبَات فَأَما إِذا كَانَ خبر النَّفْي لعدم الْعلم بالإثبات فَإِنَّهُ لَا يكون مُعَارضا للمثبت لِأَنَّهُ خبر لَا عَن دَلِيل مُوجب بل عَن اسْتِصْحَاب حَال وَخبر الْمُثبت عَن دَلِيل مُوجب لَهُ وَلِأَن السَّامع والمخبر فِي هَذَا النَّوْع سَوَاء فَإِن السَّامع غير عَالم بِالدَّلِيلِ الْمُثبت كالمخبر بِالنَّفْيِ فَلَو جَازَ أَن يكون هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 الْخَبَر مُعَارضا لخَبر الْمُثبت لجَاز أَن يكون علم السَّامع مُعَارضا لخَبر الْمُثبت وَإِن كَانَ الْحَال مشتبها فَإِنَّهُ يجب الرُّجُوع إِلَى الْخَبَر بِالنَّفْيِ واستفساره عَمَّا يخبر بِهِ ثمَّ التَّأَمُّل فِي كَلَامه فَإِن ظهر أَنه اعْتمد فِي خَبره دَلِيلا مُوجبا الْعلم بِهِ فَهُوَ نَظِير الْقسم الأول وَإِلَّا فَهُوَ نَظِير الْقسم الثَّانِي فَفِي مَسْأَلَة التَّزْكِيَة من يُزكي الشَّاهِد فقد عرفنَا أَنه إِنَّمَا يُزَكِّيه لعدم الْعلم بِسَبَب الْجرْح مِنْهُ إِذْ لَا طَرِيق لأحد إِلَى الْوُقُوف على جَمِيع أَحْوَال غَيره حَتَّى يكون إخْبَاره عَن تزكيته عَن دَلِيل مُوجب الْعلم بِهِ وَالَّذِي جرحه فخبره مُثبت الْجرْح الْعَارِض لوقوفه على دَلِيل مُوجب لَهُ فَلهَذَا جعل خَبره أولى وَفِي طَهَارَة المَاء ونجاسته الْمخبر بِالطَّهَارَةِ يعْتَمد دَلِيلا لِأَنَّهُ توقف على طَهَارَة المَاء حَقِيقَة فَإِن المَاء الَّذِي نزل من السَّمَاء إِذا أَخذه الْإِنْسَان فِي إِنَاء طَاهِر وَكَانَ بمرأى الْعين مِنْهُ إِلَى وَقت الِاسْتِعْمَال فَإِنَّهُ يعلم طَهَارَته بِدَلِيل مُوجب لَهُ كَمَا أَن الْمخبر بِنَجَاسَتِهِ يعْتَمد الدَّلِيل فتتحقق الْمُعَارضَة بَين الْخَبَرَيْنِ وعَلى هَذَا أثبتنا الْمُعَارضَة فِي حَدِيث نِكَاح مَيْمُونَة لِأَن الْمخبر بِأَنَّهُ كَانَ محرما اعْتمد دَلِيلا والمخبر بِأَنَّهُ كَانَ حَلَالا اعْتمد أَيْضا فِي خَبره الدَّلِيل الْمُوجب لَهُ فَإِن هَيْئَة الْمحرم ظَاهرا يُخَالف هَيْئَة الْحَلَال فتتحقق الْمُعَارضَة من هَذَا الْوَجْه وَيجب الْمصير إِلَى طلب التَّرْجِيح من جِهَة إتقان الرَّاوِي لما تعذر التَّرْجِيح من نفس الْحجَّة فأخذنا بِرِوَايَة ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا لِأَنَّهُ روى الْقِصَّة على وَجههَا وَذَلِكَ دَلِيل إتقانه وَلِأَن يزِيد بن الْأَصَم لَا يعادله فِي الضَّبْط والاتقان وَحَدِيث رد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْنَب على أبي الْعَاصِ رجحنا فِيهِ الْمُثبت للنِّكَاح الْجَدِيد لِأَن من نفى ذَلِك فَهُوَ لم يعْتَمد فِي نَفْيه دَلِيلا مُوجبا الْعلم بِهِ بل عدم الدَّلِيل للإثبات وَهُوَ مُشَاهدَة النِّكَاح الْجَدِيد فتبنى رِوَايَته على اسْتِصْحَاب الْحَال وَهُوَ أَنه عرف النِّكَاح بَينهمَا فِيمَا مضى وَشَاهد ردهَا عَلَيْهِ فروى أَنه ردهَا بِالنِّكَاحِ الأول وَفِي حَدِيث بَرِيرَة رجحنا الْخَبَر الْمُثبت لحرية الزَّوْج عِنْد عتقهَا لِأَن من يروي أَنه كَانَ عبدا فَهُوَ لم يعْتَمد فِي خَبره دَلِيلا مُوجبا لنفي الْحُرِّيَّة وَلَكِن بنى خَبره على اسْتِصْحَاب الْحَال لعدم علمه بِدَلِيل الْمُثبت للحرية فَلهَذَا رجحنا الْمُثبت وَمن هَذَا النَّوْع رِوَايَة أنس رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ قَارنا فِي حجَّة الْوَدَاع وَرِوَايَة جَابر رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ مُفردا بِالْحَجِّ فَإنَّا رجحنا خبر الْمُثبت للقران لِأَن من روى الْإِفْرَاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 فَهُوَ مَا اعْتمد دَلِيلا مُوجبا نفى الْقرَان وَلكنه عدم الدَّلِيل الْمُوجب للْعلم بِهِ وَهُوَ أَنه لم يسمع تلبيته بِالْعُمْرَةِ وَسمع التَّلْبِيَة بِالْحَجِّ وَرُوِيَ أَنه كَانَ مُفردا وَمن ذَلِك حَدِيث بِلَال رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لم يصل فِي الْكَعْبَة مَعَ حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه صلى فِيهَا عَام الْفَتْح فَإِنَّهُم اتَّفقُوا أَنه مَا دَخلهَا يَوْمئِذٍ إِلَّا مرّة وَمن أخبر أَنه لم يصل فِيهَا (فَإِنَّهُ) لم يعْتَمد دَلِيلا مُوجبا للْعلم بِهِ وَلكنه لم يعاين صلَاته فِيهَا وَالْآخر عاين ذَلِك فَكَانَ الْمُثبت أولى من النَّافِي وَمن أهل النّظر من يَقُول يتَخَلَّص عَن التَّعَارُض بِكَثْرَة عدد الروَاة حَتَّى إِذا كَانَ أحد الْخَبَرَيْنِ يرويهِ وَاحِد وَالْآخر يرويهِ اثْنَان فَالَّذِي يرويهِ اثْنَان أولى بِالْعَمَلِ بِهِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَسْأَلَة كتاب الِاسْتِحْسَان فِي الْخَبَر بِطَهَارَة المَاء ونجاسته وَحل الطَّعَام وحرمته أَنه إِذا كَانَ الْمخبر بِأحد الْأَمريْنِ اثْنَيْنِ وبالآخر وَاحِدًا فَإِنَّهُ يُؤْخَذ بِخَبَر الِاثْنَيْنِ وَهَذَا لِأَن خبر الْمثنى حجَّة تَامَّة فِي الشَّهَادَات بِخِلَاف خبر الْوَاحِد فطمأنينة الْقلب إِلَى خبر الْمثنى أَكثر وَقد اشْتهر عَن الصَّحَابَة الِاعْتِمَاد على خبر الْمثنى دون الْوَاحِد على مَا سبق بَيَانه وَكَذَلِكَ يتَخَلَّص عَن التَّعَارُض أَيْضا بحريّة الرَّاوِي اسْتِدْلَالا بِمَا ذكر فِي الِاسْتِحْسَان أَنه مَتى كَانَ الْمخبر بِأحد الْأَمريْنِ حُرَّيْنِ وبالآخر عَبْدَيْنِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذ بِخَبَر الحرين قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالَّذِي يَصح عِنْدِي أَن هَذَا النَّوْع من التَّرْجِيح قَول مُحَمَّد رَحمَه الله خَاصَّة فقد ذكر نَظِيره فِي السّير الْكَبِير قَالَ أهل الْعلم بالسير ثَلَاث فرق أهل الشَّام وَأهل الْحجاز وَأهل الْعرَاق فَكل مَا اتّفق فِيهِ الْفَرِيقَانِ (مِنْهُم) على قَول أخذت بذلك وَتركت مَا انْفَرد بِهِ فريق وَاحِد وَهَذَا تَرْجِيح بِكَثْرَة الْقَائِلين صَار إِلَيْهِ مُحَمَّد وأبى ذَلِك أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَالصَّحِيح مَا قَالَا فَإِن كَثْرَة الْعدَد لَا يكون دَلِيل قُوَّة الْحجَّة قَالَ تَعَالَى {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَكثر النَّاس وَلَو حرصت بمؤمنين} وَقَالَ تَعَالَى {مَا يعلمهُمْ إِلَّا قَلِيل} وَقَالَ تَعَالَى {وَقَلِيل مَا هم} ثمَّ السّلف من الصَّحَابَة وَغَيرهم لم يرجحوا بِكَثْرَة الْعدَد فِي بَاب الْعَمَل بأخبار الْآحَاد فَالْقَوْل بِهِ يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 قولا بِخِلَاف إِجْمَاعهم وَلما اتفقنا أَن خبر الْوَاحِد مُوجب للْعَمَل كَخَبَر الْمثنى فَيتَحَقَّق التَّعَارُض بَين الْخَبَرَيْنِ بِنَاء على هَذَا الْإِجْمَاع أَرَأَيْت لَو وصل إِلَى السَّامع أحد الْخَبَرَيْنِ بطرق وَالْآخر بطرِيق وَاحِد أَكَانَ يرجح مَا وصل إِلَيْهِ بطرق إِذا كَانَ رَاوِي الأَصْل وَاحِدًا فَهَذَا لَا يَقُول بِهِ أحد وَلَا يُؤْخَذ حكم رِوَايَة الْأَخْبَار من حكم الشَّهَادَات أَلا ترى أَن فِي رِوَايَة الْأَخْبَار يَقع التَّعَارُض بَين خبر الْمَرْأَة وَخبر الرجل وَبَين خبر الْمَحْدُود فِي الْقَذْف بعد التَّوْبَة وَخبر غير الْمَحْدُود وَبَين خبر الْمثنى وَخبر الْأَرْبَعَة وَإِن كَانَ يظْهر التَّفَاوُت بَينهمَا فِي الشَّهَادَات حَتَّى يثبت بِشَهَادَة الْأَرْبَعَة مَا لَا يثبت بِشَهَادَة الِاثْنَيْنِ وَهُوَ الزِّنَا وَكَذَلِكَ طمأنينة الْقلب إِلَى قَول الْأَرْبَعَة أَكثر وَمَعَ ذَلِك تتَحَقَّق الْمُعَارضَة بَين شَهَادَة الِاثْنَيْنِ وَشَهَادَة الْأَرْبَعَة فِي الْأَمْوَال ليعلم أَنه لَا يُؤْخَذ حكم الْحَادِثَة من حَادِثَة أُخْرَى مَا لم تعلم الْمُسَاوَاة بَينهمَا من كل وَجه وَإِنَّمَا رجح خبر الْمثنى على خبر الْوَاحِد وَخبر الحرين على خبر الْعَبْدَيْنِ فِي مَسْأَلَة الِاسْتِحْسَان لظُهُور التَّرْجِيح فِي الْعَمَل بِهِ فِيمَا يرجع إِلَى حُقُوق الْعباد فَأَما فِي أَحْكَام الشَّرْع فخبر الْوَاحِد وَخبر الْمثنى فِي وجوب الْعَمَل بِهِ سَوَاء وَمن هَذِه الْجُمْلَة إِذا كَانَ فِي أحد الْخَبَرَيْنِ زِيَادَة لم تذكر تِلْكَ الزِّيَادَة فِي الْخَبَر الثَّانِي فمذهبنا فِيهِ أَنه إِذا كَانَ الرَّاوِي وَاحِدًا يُؤْخَذ بالمثبت للزِّيَادَة وَيجْعَل حذف تِلْكَ الزِّيَادَة فِي بعض الطّرق محالا على قلَّة ضبط الرَّاوِي وغفلته عَن السماع وَذَلِكَ مثل مَا يرويهِ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ والسلعة قَائِمَة بِعَينهَا تحَالفا وترادا وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لم تذكر هَذِه الزِّيَادَة فأخذنا بِمَا فِيهِ إِثْبَات هَذِه الزِّيَادَة وَقُلْنَا لَا يجْرِي التَّحَالُف إِلَّا عِنْد قيام السّلْعَة وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ يَقُولَانِ نعمل بِالْحَدِيثين لِأَن الْعَمَل بهما مُمكن فَلَا نشتغل بترجيح أَحدهمَا فِي الْعَمَل بِهِ وَالصَّحِيح مَا قُلْنَا لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن أصل الْخَبَر وَاحِد وَذَلِكَ مُتَيَقن بِهِ وكونهما خبرين مُحْتَمل وبالاحتمال لَا يثبت الْخَبَر وَإِذا كَانَ الْخَبَر وَاحِدًا فَحذف الزِّيَادَة من بعض الروَاة لَيْسَ لَهُ طَرِيق سوى مَا قُلْنَا وَالثَّانِي أَنا لَو جعلناهما خبرين لم يكن للزِّيَادَة الْمَذْكُورَة فِي أَحدهمَا فَائِدَة فِيمَا يرجع إِلَى بَيَان الحكم لِأَن الحكم وَاحِد فِي الْخَبَرَيْنِ وَلَا يجوز حمل كَلَام رَسُول الله على مَا فِيهِ إخلاؤه عَن الْفَائِدَة فَأَما إِذا اخْتلف الرَّاوِي فقد علم أَنَّهُمَا خبران وَأَن النَّبِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا قَالَ كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي وَقت آخر فَيجب الْعَمَل بهما عِنْد الْإِمْكَان كَمَا هُوَ مَذْهَبنَا فِي أَن الْمُطلق لَا يحمل على الْمُقَيد فِي حكمين وَبَيَان هَذَا فِيمَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام نهى عَن بيع الطَّعَام قبل الْقَبْض وَقَالَ لعتاب بن أسيد رَضِي الله عَنهُ انههم عَن أَرْبَعَة عَن بيع مَا لم يقبضوا فَإنَّا نعمل بِالْحَدِيثين وَلَا نجْعَل الْمُطلق مِنْهُمَا مَحْمُولا على الْمُقَيد بِالطَّعَامِ حَتَّى لَا يجوز بيع سَائِر الْعرُوض قبل الْقَبْض كَمَا لَا يجوز بيع الطَّعَام وَأهل الحَدِيث يجْعَلُونَ الروَاة فِي هَذَا طَبَقَات فَيَقُولُونَ إِذا كَانَت الزِّيَادَة يَرْوِيهَا من هُوَ فِي الطَّبَقَة الْعليا يجب الْأَخْذ بذلك وَإِن كَانَت الزِّيَادَة إِنَّمَا يَرْوِيهَا من لَيْسَ فِي الطَّبَقَة الْعليا ويروي الْخَبَر بِدُونِ الزِّيَادَة من هُوَ فِي الطَّبَقَة الْعليا فَإِنَّهُ يثبت التَّعَارُض بَينهمَا وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي خبر يرْوى مَوْقُوفا على بعض الصَّحَابَة بطرِيق وَمَرْفُوعًا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بطرِيق فَإِن كَانَ يرويهِ عَن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام من هُوَ فِي الطَّبَقَة الْعليا فَإِنَّهُ يثبت مَرْفُوعا وَإِن كَانَ إِنَّمَا يرويهِ عَن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام من لَيْسَ فِي الطَّبَقَة الْعليا وَيَرْوِيه مَوْقُوفا من هُوَ فِي الطَّبَقَة الْعليا فَإِنَّهُ يثبت مَوْقُوفا وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْمسند والمرسل وَلَكِن الْفُقَهَاء لم يَأْخُذُوا بِهَذَا القَوْل لِأَن التَّرْجِيح عِنْد أهل الْفِقْه يكون بِالْحجَّةِ لَا بأعيان الرِّجَال وَالله أعلم بَاب الْبَيَان قَالَ رَضِي الله عَنهُ اخْتلفت عبارَة أَصْحَابنَا فِي معنى الْبَيَان قَالَ أَكْثَرهم هُوَ إِظْهَار الْمَعْنى وإيضاحه للمخاطب مُنْفَصِلا عَمَّا تستر بِهِ وَقَالَ بَعضهم هُوَ ظُهُور المُرَاد للمخاطب وَالْعلم بِالْأَمر الَّذِي حصل لَهُ عِنْد الْخطاب وَهُوَ اخْتِيَار أَصْحَاب الشَّافِعِي لِأَن الرجل يَقُول بَان لي هَذَا الْمَعْنى بَيَانا أَي ظهر وَبَانَتْ الْمَرْأَة من زَوجهَا بينونة أَي حرمت وَبَان الحبيب بَينا أَي بعد وكل ذَلِك عبارَة عَن الِانْفِصَال والظهور وَلكنهَا بمعان مُخْتَلفَة فاختلفت المصادر بحسبها وَالأَصَح هُوَ الأول أَن المُرَاد هُوَ الْإِظْهَار فَإِن أحدا من الْعَرَب لَا يفهم من إِطْلَاق لفظ الْبَيَان الْعلم الْوَاقِع للمبين لَهُ وَلَكِن إِذا قَالَ الرجل بَين فلَان كَذَا بَيَانا وَاضحا فَإِنَّمَا يفهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 مِنْهُ أَنه أظهره إِظْهَارًا لَا يبْقى مَعَه شكّ وَإِذا قيل فلَان ذُو بَيَان فَإِنَّمَا يُرَاد بِهِ الْإِظْهَار أَيْضا وَقَول رَسُول الله إِن من الْبَيَان لسحرا يشْهد لما قُلْنَا إِنَّه عبارَة عَن الْإِظْهَار وَقَالَ تَعَالَى {هَذَا بَيَان للنَّاس} وَقَالَ تَعَالَى {علمه الْبَيَان} وَالْمرَاد الْإِظْهَار وَقد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَأْمُورا بِالْبَيَانِ للنَّاس قَالَ تَعَالَى {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} وَقد علمنَا أَنه بَين للْكُلّ وَمن وَقع لَهُ الْعلم ببيانه أقرّ وَمن لم يَقع لَهُ الْعلم أصر وَلَو كَانَ الْبَيَان عبارَة عَن الْعلم الْوَاقِع للمبين لما كَانَ هُوَ متمما للْبَيَان فِي حق النَّاس كلهم وَقَول من يَقُول من أَصْحَابنَا حد الْبَيَان هُوَ الْإِخْرَاج عَن حد الْإِشْكَال إِلَى التجلي لَيْسَ بِقَوي فَإِن هَذَا الْحَد أشكل من الْبَيَان وَالْمَقْصُود بِذكر الْحَد زِيَادَة كشف الشَّيْء لَا زِيَادَة الْإِشْكَال فِيهِ ثمَّ هَذَا الْحَد لبَيَان الْمُجْمل خَاصَّة وَالْبَيَان يكون فِيهِ وَفِي غَيره ثمَّ الْمَذْهَب عِنْد الْفُقَهَاء وَأكْثر الْمُتَكَلِّمين أَن الْبَيَان يحصل بِالْفِعْلِ من رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا يحصل بالْقَوْل وَقَالَ بعض الْمُتَكَلِّمين لَا يكون الْبَيَان إِلَّا بالْقَوْل بِنَاء على أصلهم أَن بَيَان الْمُجْمل لَا يكون إِلَّا مُتَّصِلا بِهِ وَالْفِعْل لَا يكون مُتَّصِلا بالْقَوْل فَأَما عندنَا بَيَان الْمُجْمل قد يكون مُتَّصِلا بِهِ وَقد يكون مُنْفَصِلا عَنهُ على مَا نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ الدَّلِيل على أَن الْبَيَان قد يحصل بِالْفِعْلِ أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بَين مَوَاقِيت الصَّلَاة للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بِالْفِعْلِ حَيْثُ أمه فِي الْبَيْت فِي الْيَوْمَيْنِ وَلما سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن مَوَاقِيت الصَّلَاة قَالَ للسَّائِل صل مَعنا ثمَّ صلى فِي الْيَوْمَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ فَبين لَهُ الْمَوَاقِيت بِالْفِعْلِ وَقَالَ لأَصْحَابه خُذُوا عني مَنَاسِككُم وَقَالَ صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَفِي هَذَا تنصيص على أَن فعله مُبين لَهُم وَلِأَن الْبَيَان عبارَة عَن إِظْهَار المُرَاد فَرُبمَا يكون ذَلِك بِالْفِعْلِ أبلغ مِنْهُ بالْقَوْل أَلا ترى أَنه أَمر أَصْحَابه بِالْحلقِ عَام الْحُدَيْبِيَة فَلم يَفْعَلُوا ثمَّ لما رَأَوْهُ حلق بِنَفسِهِ حَلقُوا فِي الْحَال فَعرفنَا أَن إِظْهَار المُرَاد يحصل بِالْفِعْلِ كَمَا يحصل بالْقَوْل ثمَّ الْبَيَان على خَمْسَة أوجه بَيَان تَقْرِير وَبَيَان تَفْسِير وَبَيَان تَغْيِير وَبَيَان تَبْدِيل وَبَيَان ضَرُورَة للخصوص فَيكون الْبَيَان قَاطعا للاحتمال مقررا للْحكم على مَا اقْتَضَاهُ الظَّاهِر وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ} فصيغة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 فَأَما بَيَان التَّقْرِير فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة الَّذِي يحْتَمل الْمجَاز وَالْعَام الْمُحْتَمل الْجمع تعم الْمَلَائِكَة على احْتِمَال أَن يكون المُرَاد بَعضهم وَقَوله تَعَالَى {كلهم أَجْمَعُونَ} بَيَان قَاطع لهَذَا الِاحْتِمَال فَهُوَ بَيَان التَّقْرِير وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا طَائِر يطير بجناحيه} يحْتَمل الْمجَاز لِأَن الْبَرِيد يُسمى طائرا فَإِذا قَالَ يطير بجناحيه بَين أَنه أَرَادَ الْحَقِيقَة وَهَذَا الْبَيَان صَحِيح مَوْصُولا كَانَ أَو مَفْصُولًا لِأَنَّهُ مُقَرر للْحكم الثَّابِت بِالظَّاهِرِ وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق ثمَّ قَالَ نَوَيْت بِهِ الطَّلَاق عَن النِّكَاح أَو قَالَ لعَبْدِهِ أَنْت حر ثمَّ قَالَ نَوَيْت بِهِ الْحُرِّيَّة عَن الرّقّ وَالْملك فَإِنَّهُ يكون ذَلِك بَيَانا صَحِيحا لِأَنَّهُ تَقْرِير للْحكم الثَّابِت بِظَاهِر الْكَلَام لَا تَغْيِير لَهُ وَأما بَيَان التَّفْسِير فَهُوَ بَيَان الْمُجْمل والمشترك فَإِن الْعَمَل بِظَاهِرِهِ غير مُمكن وَإِنَّمَا يُوقف على المُرَاد للْعَمَل بِهِ بِالْبَيَانِ فَيكون الْبَيَان تَفْسِيرا لَهُ وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} وَقَوله تَعَالَى {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} وَنَظِيره من مسَائِل الْفِقْه إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت بَائِن أَو أَنْت عَليّ حرَام فَإِن الْبَيْنُونَة وَالْحُرْمَة مُشْتَركَة فَإِذا قَالَ عنيت بِهِ الطَّلَاق كَانَ هَذَا بَيَان تَفْسِير ثمَّ بعد التَّفْسِير الْعَمَل بِأَصْل الْكَلَام وَلِهَذَا أثبتنا بِهِ الْبَيْنُونَة وَالْحُرْمَة وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم وَفِي الْبَلَد نقود مُخْتَلفَة ثمَّ قَالَ عنيت بِهِ نقد كَذَا فَإِنَّهُ يكون ذَلِك بَيَان تَفْسِير وَسَائِر الْكِنَايَات فِي الطَّلَاق وَالْعتاق على هَذَا أَيْضا ثمَّ هَذَا النَّوْع يَصح عِنْد الْفُقَهَاء مَوْصُولا ومفصولا وَتَأْخِير الْبَيَان عَن أصل الْكَلَام لَا يُخرجهُ من أَن يكون بَيَانا وعَلى قَول بعض الْمُتَكَلِّمين لَا يجوز تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل والمشترك عَن أصل الْكَلَام لِأَن بِدُونِ الْبَيَان لَا يُمكن الْعَمَل بِهِ وَالْمَقْصُود بِالْخِطَابِ فهمه وَالْعَمَل بِهِ فَإِذا كَانَ ذَلِك لَا يحصل بِدُونِ الْبَيَان فَلَو جَوَّزنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 تَأْخِير الْبَيَان أدّى إِلَى تَكْلِيف مَا لَيْسَ فِي الوسع يُوضحهُ أَنه لَا يحسن خطاب الْعَرَبِيّ بلغَة التركية وَلَا خطاب التركي بلغَة الْعَرَب إِذا علم أَنه لَا يفهم ذَلِك إِلَّا أَن يكون هُنَاكَ ترجمان يبين لَهُ وَإِنَّمَا لَا يحسن ذَلِك لِأَن الْمَقْصُود بِالْخِطَابِ إفهام السَّامع وَهُوَ لَا يفهم فَكَذَلِك الْخطاب بِلَفْظ مُجمل بِدُونِ بَيَان يقْتَرن بِهِ لَا يكون حسنا شرعا لِأَن الْمُخَاطب لَا يفهم المُرَاد بِهِ وَإِنَّمَا يَصح مَعَ الْبَيَان لِأَن الْمُخَاطب يفهم المُرَاد بِهِ وَلَكنَّا نقُول الْخطاب بالمجمل قبل الْبَيَان مُفِيد وَهُوَ الِابْتِلَاء باعتقاد الحقية فِيمَا هُوَ المُرَاد بِهِ مَعَ انْتِظَار الْبَيَان للْعَمَل بِهِ وَإِنَّمَا يكون هَذَا تَكْلِيف مَا لَيْسَ فِي الوسع أَن لَو أَوجَبْنَا الْعَمَل بِهِ قبل الْبَيَان وَلَا نوجب ذَلِك وَلَكِن الِابْتِلَاء باعتقاد الحقية فِيهِ أهم من الِابْتِلَاء بِالْعَمَلِ بِهِ فَكَانَ حسنا صَحِيحا من هَذَا الْوَجْه أَلا ترى أَن الِابْتِلَاء بالمتشابه كَانَ باعتقاد الحقية فِيمَا هُوَ المُرَاد بِهِ من غير انْتِظَار الْبَيَان فَلِأَن يكون الِابْتِلَاء باعتقاد الحقية فِي الْمُجْمل مَعَ انْتِظَار الْبَيَان صَحِيحا كَانَ أولى ومخاطبة الْعَرَبِيّ بلغ التركية تَخْلُو عَن هَذِه الْفَائِدَة وَإِلَيْهِ أَشَارَ الله فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه ليبين لَهُم} وَبَيَان مَا قُلْنَا فِي قصَّة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ معلمه فَإِنَّهُ كَانَ مبتلى باعتقاد الحقية فِيمَا فعله معلمه مَعَ انْتِظَار الْبَيَان وَمَا كَانَ سُؤَاله فِي كل مرّة إِلَّا استعجالا مِنْهُ للْبَيَان الَّذِي كَانَ منتظرا لَهُ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَمَا بَينه لَهُ مَا أخبر الله عَن معلمه {ذَلِك تَأْوِيل مَا لم تسطع عَلَيْهِ صبرا} ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز تَأْخِير دَلِيل الْخُصُوص فِي الْعُمُوم فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله دَلِيل الْخُصُوص إِذا اقْترن بِالْعُمُومِ يكون بَيَانا وَإِذا تَأَخّر لم يكن بَيَانا بل يكون نسخا وَقَالَ الشَّافِعِي يكون بَيَانا سَوَاء كَانَ مُتَّصِلا بِالْعُمُومِ أَو مُنْفَصِلا عَنهُ وَإِنَّمَا يبتنى هَذَا الْخلاف على الأَصْل الَّذِي قُلْنَا إِن مُطلق الْعَام عندنَا يُوجب الحكم فِيمَا يتَنَاوَلهُ قطعا كالخاص وَعند الشَّافِعِي يُوجب الحكم على احْتِمَال الْخُصُوص بِمَنْزِلَة الْعَام الَّذِي ثَبت خصوصه بِالدَّلِيلِ فَيكون دَلِيل الْخُصُوص على مذْهبه فيهمَا بَيَان التَّفْسِير لَا بَيَان التَّغْيِير فَيصح مَوْصُولا ومفصولا وَعِنْدنَا لما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 كَانَ الْعَام الْمُطلق مُوجبا للْحكم قطعا فدليل الْخُصُوص فِيهِ يكون مغيرا لهَذَا الحكم فَإِن الْعَام الَّذِي دخله خُصُوص لَا يكون حكمه عندنَا مثل حكم الْعَام الَّذِي لم يدْخلهُ خُصُوص وَبَيَان التَّغْيِير إِنَّمَا يكون مَوْصُولا لَا مَفْصُولًا على مَا يَأْتِيك بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وعَلى هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا إِذا أوصى لرجل بِخَاتم وَلآخر بفصه فَإِن كَانَ فِي كَلَام مَوْصُول فَهُوَ بَيَان وَتَكون الْحلقَة لأَحَدهمَا والفص للْآخر وَإِن كَانَ فِي كَلَام مفصول فَإِنَّهُ لَا يكون بَيَانا وَلَكِن يكون إِيجَاب الفص للْآخر ابْتِدَاء حَتَّى يَقع التَّعَارُض بَينهمَا فِي الفص فَتكون الْحلقَة للْمُوصى لَهُ بالخاتم والفص بَينهمَا نِصْفَانِ وَأما بَيَان الْمُجْمل فَلَيْسَ بِهَذِهِ الصّفة بل هُوَ بَيَان مَحْض لوُجُود شَرطه وَهُوَ كَون اللَّفْظ مُحْتملا غير مُوجب للْعَمَل بِهِ بِنَفسِهِ وَاحْتِمَال كَون الْبَيَان الملحق بِهِ تَفْسِيرا وإعلاما لما هُوَ المُرَاد بِهِ فَيكون بَيَانا من كل وَجه وَلَا يكون مُعَارضا فَيصح مَوْصُولا ومفصولا وَدَلِيل الْخُصُوص فِي الْعَام لَيْسَ بِبَيَان من كل وَجه بل هُوَ بَيَان من حَيْثُ احْتِمَال صِيغَة الْعُمُوم للخصوص وَهُوَ ابْتِدَاء دَلِيل معَارض من حَيْثُ كَون الْعَام مُوجبا الْعَمَل بِنَفسِهِ فِيمَا تنَاوله فَيكون بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء وَالشّرط فَيصح مَوْصُولا على أَنه بَيَان وَيكون مُعَارضا نَاسِخا للْحكم الأول إِذا كَانَ مَفْصُولًا وَقد بَينا أَدِلَّة هَذَا الأَصْل الَّذِي نَشأ مِنْهُ الْخلاف وَإِنَّمَا أعدناه هُنَا للْحَاجة إِلَى الْجَواب عَن نُصُوص وَشبه يحْتَج بهَا الْخصم فَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَإِذا قرأناه فَاتبع قرآنه ثمَّ إِن علينا بَيَانه} وَثمّ للتعقيب مَعَ التَّرَاخِي فقد ضمن الْبَيَان بعد إِلْزَام الِاتِّبَاع وإلزام الِاتِّبَاع إِنَّمَا يكون بِالْعَام دون الْمُجْمل إِذْ المُرَاد بالاتباع الْعَمَل بِهِ فَعرفنَا أَن الْبَيَان الَّذِي هُوَ خُصُوص قد يتَأَخَّر عَن الْعُمُوم وَقَالَ تَعَالَى فِي قصَّة نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأهْلك} وَعُمُوم اسْم الْأَهْل يتَنَاوَل ابْنه ولأجله كَانَ سُؤال نوح بقوله {إِن ابْني من أَهلِي} ثمَّ بَين الله تَعَالَى لَهُ بقوله تَعَالَى {إِنَّه لَيْسَ من أهلك} وَقَالَ تَعَالَى فِي قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مَعَ ضَيفه الْمُكرمين {إِنَّا مهلكو أهل هَذِه الْقرْيَة} وَعُمُوم هَذَا اللَّفْظ يتَنَاوَل لوطا وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِن فِيهَا لوطا ثمَّ بينوا لَهُ فَقَالُوا {لننجينه وَأَهله} فَدلَّ أَن دَلِيل الْخُصُوص يجوز أَن ينْفَصل عَن الْعُمُوم وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 ثمَّ لما عَارضه ابْن الزبعري بِعِيسَى وَالْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام نزل دَلِيل الْخُصُوص {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون} وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قصَّة بني إِسْرَائِيل فَإِنَّهُم أمروا بِذبح بقرة كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة} ثمَّ لما استوصفوها بَين لَهُم صفتهَا وَكَانَ ذَلِك دَلِيل الْخُصُوص على وَجه الْبَيَان مُنْفَصِلا عَن أصل الْخطاب وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن آيَة الْمَوَارِيث عَامَّة فِي إِيجَاب الْمِيرَاث للأقارب كفَّارًا كَانُوا أَو مُسلمين ثمَّ بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْإِرْث يكون عِنْد الْمُوَافقَة فِي الدّين لَا عِنْد الْمُخَالفَة فَيكون هَذَا تَخْصِيصًا مُنْفَصِلا عَن دَلِيل الْعُمُوم وَقَوله تَعَالَى {من بعد وَصِيَّة يُوصي بهَا أَو دين} عَام فِي تَأْخِير الْمِيرَاث عَن الْوَصِيَّة فِي جَمِيع المَال ثمَّ بَيَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْوَصِيَّة تخْتَص بِالثُّلثِ تَخْصِيص مُنْفَصِل عَن دَلِيل الْعُمُوم فَدلَّ على أَن ذَلِك جَائِز وَلَا يخرج بِهِ من أَن يكون بَيَانا وَاسْتَدَلُّوا بقوله تَعَالَى {وَلِذِي الْقُرْبَى} فَإِنَّهُ عَام تَأَخّر بَيَان خصوصه إِلَى أَن كلم عُثْمَان وَجبير بن مطعم رَضِي الله عَنْهُمَا رَسُول الله فِي ذَلِك فَقَالَ إِنَّمَا بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب كشيء وَاحِد وَقَالَ إِنَّهُم لم يُفَارِقُونِي فِي الْجَاهِلِيَّة وَلَا فِي الْإِسْلَام ثمَّ قَالُوا تَأْخِير الْبَيَان فِي الْأَعْيَان مُعْتَبر بِتَأْخِير الْبَيَان فِي الْأَزْمَان وبالاتفاق يجوز أَن يرد لفظ مطلقه يَقْتَضِي عُمُوم الْأَزْمَان ثمَّ يتَأَخَّر عَنهُ بَيَان أَن المُرَاد بعض الْأَزْمَان دون الْبَعْض بالنسخ فَكَذَلِك يجوز أَن يرد لفظ ظَاهره يَقْتَضِي عُمُوم الْأَعْيَان ثمَّ يتَأَخَّر عَنهُ دَلِيل الْخُصُوص الَّذِي يتَبَيَّن بِهِ أَن المُرَاد بعض الْأَعْيَان دون الْبَعْض وَحجَّتنَا فِيهِ أَن الْخصم يوافقنا بالْقَوْل فِي الْعُمُوم وَبطلَان مَذْهَب من يَقُول بِالْوَقْفِ فِي الْعُمُوم وَقد أوضحنا ذَلِك بِالدَّلِيلِ ثمَّ من ضَرُورَة القَوْل بِالْعُمُومِ لُزُوم اعْتِقَاد الْعُمُوم فِيهِ وَالْقَوْل بِجَوَاز تَأْخِير دَلِيل الْخُصُوص يُؤَدِّي إِلَى أَن يُقَال يلْزمنَا اعْتِقَاد الشَّيْء على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ وَهَذَا فِي غَايَة الْفساد وكما يجب اعْتِقَاد الْعُمُوم عِنْد وجود صِيغَة الْعُمُوم يجوز الْإِخْبَار بِهِ أَيْضا فَيُقَال إِنَّه عَام وَفِي جَوَاز تَأْخِير الْبَيَان بِدَلِيل الْخُصُوص يُؤَدِّي إِلَى القَوْل بِجَوَاز الْكَذِب فِي الْحجَج الشَّرْعِيَّة وَذَلِكَ بَاطِل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 وَهَذَا بِخِلَاف النّسخ فَإِن الْوَاجِب اعْتِقَاد الحقية فِي الحكم النَّازِل فَأَما فِي حَيَاة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام فَمَا كَانَ يجب اعْتِقَاد التَّأْبِيد فِي ذَلِك الحكم وَلَا إِطْلَاق القَوْل بِأَنَّهُ مؤبد لِأَن الْوَحْي كَانَ ينزل سَاعَة فساعة ويتبدل الحكم كَالصَّلَاةِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَتَحْرِيم شرب الْخمر وَمَا أشبه ذَلِك وَإِنَّمَا اعْتِقَاد التَّأْبِيد فِيهِ وَإِطْلَاق القَوْل بِهِ بعد رَسُول الله لقِيَام الدَّلِيل على أَن شَرِيعَته لَا تنسخ بعده بشريعة أُخْرَى فَأَما قَوْله تَعَالَى {ثمَّ إِن علينا بَيَانه} فَنَقُول بالِاتِّفَاقِ لَيْسَ المُرَاد جَمِيع مَا فِي الْقُرْآن فَإِن الْبَيَان من الْقُرْآن أَيْضا فَيُؤَدِّي هَذَا القَوْل بِأَن لذَلِك الْبَيَان بَيَانا إِلَى مَا لَا يتناهى وَإِنَّمَا المُرَاد بعض مَا فِي الْقُرْآن وَهُوَ الْمُجْمل الَّذِي يكون بَيَانه تَفْسِيرا لَهُ وَنحن نجوز تَأْخِير الْبَيَان فِي مثله فَأَما فِيمَا يكون مغيرا أَو مبدلا للْحكم إِذا اتَّصل بِهِ فَإِذا تَأَخّر عَنهُ يكون نسخا وَلَا يكون بَيَانا مَحْضا وَدَلِيل الْخُصُوص فِي الْعَام بِهَذِهِ الصّفة وَنَظِيره المحكمات الَّتِي هن أم الْكتاب فَإِن فِيهَا مَا لَا يحْتَمل النّسخ وَيحْتَمل بَيَان التَّقْرِير كصفات الله جلّ جَلَاله فَكَذَلِك مَا ورد من الْعَام مُطلقًا قُلْنَا إِنَّه يحْتَمل الْبَيَان الَّذِي هُوَ نسخ وَلكنه لَا يحْتَمل الْبَيَان الْمَحْض وَهُوَ مَا يكون تَفْسِيرا لَهُ إِذا كَانَ مُنْفَصِلا عَنهُ فَأَما قَوْله تَعَالَى {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأهْلك} قُلْنَا الْبَيَان هُنَا مَوْصُول فَإِنَّهُ قَالَ {إِلَّا من سبق عَلَيْهِ القَوْل} وَالْمرَاد مَا سبق من وعد إهلاك الْكفَّار بقوله تَعَالَى {إِنَّهُم مغرقون} فَإِن قيل فَفِي ذَلِك الْوَعْد نهي لنوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَن الْكَلَام فيهم كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَا تخاطبني فِي الَّذين ظلمُوا} فَلَو كَانَ قَوْله {إِلَّا من سبق عَلَيْهِ القَوْل} منصرفا إِلَى ذَلِك لما استجاز نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام سُؤال ابْنه بقوله {إِن ابْني من أَهلِي} قُلْنَا إِنَّمَا سَأَلَ لِأَنَّهُ كَانَ دَعَاهُ إِلَى الْإِيمَان وَكَانَ يظنّ فِيهِ أَنه يُؤمن حِين تنزل الْآيَة الْكُبْرَى وامتد رجاؤه لذَلِك إِلَى أَن آيسه الله تَعَالَى من ذَلِك بقوله تَعَالَى {إِنَّه عمل غير صَالح} فَأَعْرض عَنهُ عِنْد ذَلِك وَقَالَ {رب إِنِّي أعوذ بك أَن أَسأَلك مَا لَيْسَ لي بِهِ علم} وَنَظِيره اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَبِيهِ (بِنَاء على رَجَاء أَن يُؤمن كَمَا وعد وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ إِلَّا عَن موعدة وعدها إِيَّاه فَلَمَّا تبين لَهُ أَنه عَدو لله تَبرأ مِنْهُ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 ثمَّ قَوْله تَعَالَى {وَأهْلك} مَا تنَاول ابْنه الْكَافِر لِأَن أهل الْمُرْسلين من يتابعهم على دينهم وعَلى هَذَا لفظ الْأَهْل كَانَ مُشْتَركا فِيهِ لاحْتِمَال أَن يكون المُرَاد الْأَهْل من حَيْثُ النّسَب وَاحْتِمَال أَن يكون المُرَاد الْأَهْل من حَيْثُ الْمُتَابَعَة فِي الدّين فَلهَذَا سَأَلَ الله فَبين الله لَهُ أَن المُرَاد أَهله من حَيْثُ الْمُتَابَعَة فِي الدّين وَأَن ابْنه الْكَافِر لَيْسَ من أَهله وَتَأْخِير الْبَيَان فِي الْمُشْتَرك صَحِيح عندنَا فَأَما قَوْله تَعَالَى {إِنَّا مهلكو أهل هَذِه الْقرْيَة} فالبيان هُنَا مَوْصُول فِي هَذِه الْآيَة بقوله {إِن أَهلهَا كَانُوا ظالمين} وَفِي مَوضِع آخر بقوله {إِلَّا آل لوط} فَإِن قيل فَمَا معنى سُؤال إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الرُّسُل بقوله {إِن فِيهَا لوطا} قُلْنَا فِيهِ مَعْنيانِ أَحدهمَا أَن الْعَذَاب النَّازِل قد يخص الظَّالِمين كَمَا فِي قصَّة أَصْحَاب السبت وَقد يُصِيب الْكل فَيكون عذَابا فِي حق الظَّالِمين ابتلاء فِي حق المطيعين كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَاتَّقوا فتْنَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة} فَأَرَادَ الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَن يبين لَهُ أَن عَذَاب أهل تِلْكَ الْقرْيَة من أَي الطَّرِيقَيْنِ وَأَن يعلم أَن لوطا عَلَيْهِ السَّلَام هَل ينجو من ذَلِك أم يبتلى بِهِ وَالثَّانِي أَنه علم يَقِينا أَن لوطا لَيْسَ من المهلكين مَعَهم وَلكنه خصّه فِي سُؤَاله لِيَزْدَادَ طمأنينة وليكون فِيهِ زِيَادَة تَخْصِيص للوط وَهُوَ نَظِير قَوْله تَعَالَى {رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى} وَقد كَانَ عَالما متيقنا بإحياء الْمَوْتَى وَلَكِن سَأَلَهُ لينضم العيان إِلَى مَا كَانَ لَهُ من علم الْيَقِين فَيَزْدَاد بِهِ طمأنينة قلبه فَأَما قَوْله تَعَالَى {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم} فقد قيل إِن هَذَا الْخطاب كَانَ لأهل مَكَّة وهم كَانُوا عَبدة الْأَوْثَان وَمَا كَانَ فيهم من يعبد عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْمَلَائِكَة فَلم يكن أصل الْكَلَام متناولا لَهُم وَالْأَوْجه أَن يَقُول إِن فِي صِيغَة الْكَلَام مَا هُوَ دَلِيل ظَاهر على أَنه غير متناول لَهُم فَإِن كلمة مَا يعبر بهَا عَن ذَات مَا لَا يعقل وَإِنَّمَا يعبر عَن ذَات من يعقل بِكَلِمَة من إِلَّا أَن الْقَوْم كَانُوا متعنتين يجادلون بِالْبَاطِلِ بعد مَا تبين لَهُم فحين عارضوا بِعِيسَى وَالْمَلَائِكَة عَلَيْهِ السَّلَام على رَسُول لمن عارضوا بِهِ وَقد كَانُوا أهل اللِّسَان فَأَعْرض عَن جوابهم امتثالا بقوله تَعَالَى {وَإِذا سمعُوا اللَّغْو أَعرضُوا عَنهُ} ثمَّ بَين الله تَعَالَى تعنتهم الله عَلَيْهِ السَّلَام تعنتهم فِي ذَلِك وَأَنَّهُمْ يعلمُونَ أَن الْكَلَام غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 متناول فِيمَا عارضوا بِهِ بقوله {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون} وَمثل هَذَا الْكَلَام يكون ابْتِدَاء كَلَام هُوَ حسن وَإِن لم يكن مُحْتَاجا إِلَيْهِ فِي حق من لَا يتعنت وَإِنَّمَا كلامنا فِيمَا يكون مُحْتَاجا إِلَيْهِ من الْبَيَان ليوقف بِهِ على مَا هُوَ المُرَاد وَالَّذِي يُوضح تعنت الْقَوْم أَنهم كَانُوا يسمونه مرّة ساحرا وَمرَّة مَجْنُونا وَبَين الوصفين تنَاقض بَين فالساحر من يكون حاذقا فِي عمله حَتَّى يلبس على الْعُقَلَاء وَالْمَجْنُون من لَا يكون مهتديا إِلَى الْأَعْمَال والأقوال على مَا عَلَيْهِ أصل الْوَضع وَلَكنهُمْ لشدَّة الْحَسَد كَانُوا يتعنتون وينسبونه إِلَى مَا يَدْعُو إِلَى تنفير النَّاس عَنهُ من غير تَأمل فِي التَّحَرُّز عَن التَّنَاقُض واللغو فَأَما قصَّة بقرة بني إِسْرَائِيل فَنَقُول كَانَ ذَلِك بَيَانا بِالزِّيَادَةِ على النَّص وَهُوَ يعدل النّسخ عندنَا والنسخ إِنَّمَا يكون مُتَأَخِّرًا عَن أصل الْخطاب وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ لَو أَنهم عَمدُوا إِلَى أَي بقرة كَانَت فذبحوها لأجزأت عَنْهُم وَلَكنهُمْ شَدَّدُوا فَشدد الله عَلَيْهِم فَدلَّ أَن الْأَمر الأول قد كَانَ فِيهِ تَخْفيف وَأَنه قد انتسخ ذَلِك بِأَمْر فِيهِ تَشْدِيد عَلَيْهِم فَأَما قَوْله {وَلِذِي الْقُرْبَى} فقد قيل إِنَّه مُشْتَرك يحْتَمل أَن يكون المُرَاد قربى النُّصْرَة وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد قربى الْقَرَابَة فَلهَذَا سَأَلَ عُثْمَان وَجبير بن مطعم رَضِي الله عَنْهُمَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك وَبَين لَهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن المُرَاد قربى النُّصْرَة أَو نقُول قد علمنَا أَنه لَيْسَ المُرَاد من يُنَاسِبه إِلَى أقْصَى أَب فَإِن ذَلِك يُوجب دُخُول جَمِيع بني آدم فِيهِ وَلَكِن فِيهِ إِشْكَال أَن المُرَاد من يُنَاسِبه بِأَبِيهِ خَاصَّة أَو بجده أَو أَعلَى من ذَلِك فَبين رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام أَن المُرَاد من يُنَاسِبه إِلَى هَاشم ثمَّ ألحق بهم بني الْمطلب لانضمامهم إِلَى بني هَاشم فِي الْقيام بنصرته فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام فَلم يكن هَذَا الْبَيَان من تَخْصِيص الْعَام فِي شَيْء بل هَذَا بَيَان المُرَاد فِي الْعَام الَّذِي يتَعَذَّر فِيهِ القَوْل بِالْعُمُومِ وَقد بَينا أَن مثل هَذَا الْعَام فِي حكم الْعَمَل بِهِ كالمجمل كَمَا فِي قَوْله {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير} فَيكون الْبَيَان تَفْسِيرا لَهُ فَلهَذَا صَحَّ مُتَأَخِّرًا فَأَما تَقْيِيد حكم الْمِيرَاث بالموافقة فِي الدّين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 فَهُوَ زِيَادَة على النَّص وَهُوَ يعدل النّسخ عندنَا فَلَا يكون بَيَانا مَحْضا فَأَما قصر حكم تَنْفِيذ الْوَصِيَّة على الثُّلُث وجوبا قبل الْمِيرَاث فَيحْتَمل أَن السّنة المبينة لَهُ كَانَت قبل نزُول آيَة الْمِيرَاث فَيكون ذَلِك بَيَانا مُقَارنًا لما نزل فِي حَقنا بِاعْتِبَار الْمَعْنى فَإِنَّهُ لما سبق علمنَا بِمَا نزل كَانَ من ضَرُورَته أَن يكون مُقَارنًا لَهُ فَأَما الْبَيَان الْمُتَأَخر فِي الْأَزْمَان فَهُوَ نسخ وَنحن لَا ندعي إِلَّا هَذَا فَإنَّا نقُول إِنَّمَا يكون دَلِيل الْخُصُوص بَيَانا مَحْضا إِذا كَانَ مُتَّصِلا بِالْعَام فَأَما إِذا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنهُ يكون نسخا فَتبين أَن مَا اسْتدلَّ بِهِ من الْحجَّة هُوَ لنا عَلَيْهِ وسنقرره فِي بَاب النّسخ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فصل فِي بَيَان التَّغْيِير والتبديل أما بَيَان التَّغْيِير هُوَ الِاسْتِثْنَاء كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} فَإِن الْألف اسْم مَوْضُوع لعدد مَعْلُوم فَمَا يكون دون ذَلِك الْعدَد يكون غَيره لَا محَالة فلولا الِاسْتِثْنَاء لَكَانَ الْعلم يَقع لنا بِأَنَّهُ لبث فيهم ألف سنة وَمَعَ الِاسْتِثْنَاء إِنَّمَا يَقع الْعلم لنا بِأَنَّهُ لبث فيهم تِسْعمائَة وَخمسين عَاما فَيكون هَذَا تغييرا لما كَانَ مُقْتَضى مُطلق تَسْمِيَة الْألف وَبَيَان التبديل هُوَ التَّعْلِيق بِالشّرطِ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {فَإِن أرضعن لكم فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ} فَإِنَّهُ يتَبَيَّن بِهِ أَنه لَا يجب إيتَاء الْأجر بعد العقد إِذا لم يُوجد الْإِرْضَاع وَإِنَّمَا يجب ابْتِدَاء عِنْد وجود الْإِرْضَاع فَيكون تبديلا لحكم وجوب أَدَاء الْبَدَل بِنَفس العقد وَإِنَّمَا سمينا كل وَاحِد مِنْهُمَا بِهَذَا الِاسْم لما ظهر من أثر كل وَاحِد مِنْهُمَا فَإِن حد الْبَيَان غير حد النّسخ لِأَن الْبَيَان إِظْهَار حكم الْحَادِثَة عِنْد وجوده ابْتِدَاء والنسخ رفع للْحكم بعد الثُّبُوت وَعند وجود الشَّرْط يثبت الحكم ابْتِدَاء وَلَكِن بِكَلَام كَانَ سَابِقًا على وجود الشَّرْط تكلما بِهِ إِلَّا أَنه لم يكن مُوجبا حكمه إِلَّا عِنْد وجود الشَّرْط فَكَانَ بَيَانا من حَيْثُ إِن الحكم ثَبت عِنْد وجوده ابْتِدَاء وَلم يكن نسخا صُورَة من حَيْثُ إِن النّسخ هُوَ رفع الحكم بعد ثُبُوته فِي مَحَله فَكَانَ تبديلا من حَيْثُ إِن مُقْتَضى قَوْله لعَبْدِهِ أَنْت حر نزُول الْعتْق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 فِي الْمحل واستقراره فِيهِ وَأَن يكون عِلّة للْحكم بِنَفسِهِ وبذكر الشَّرْط يتبدل ذَلِك كُله لِأَنَّهُ يتَبَيَّن بِهِ أَنه لَيْسَ بعلة تَامَّة للْحكم قبل الشَّرْط وَأَنه لَيْسَ بِإِيجَاب لِلْعِتْقِ بل هُوَ يَمِين وَأَن مَحَله الذِّمَّة حَتَّى لَا يصل إِلَى العَبْد إِلَّا بعد خُرُوجه من أَن يكون يَمِينا بِوُجُود الشَّرْط فَعرفنَا أَنه تَبْدِيل وَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاء فَإِن قَوْله لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم مُقْتَضَاهُ وجوب الْعدَد الْمُسَمّى فِي ذمَّته ويتغير ذَلِك بقوله إِلَّا مائَة لَا على طَرِيق أَنه يرْتَفع بعض مَا كَانَ وَاجِبا ليَكُون نسخا فَإِن هَذَا فِي الْإِخْبَار غير مُحْتَمل وَلَكِن على طَرِيق أَنه يصير عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى فَيكون إِخْبَارًا عَن وجوب تِسْعمائَة فَقَط فَعرفنَا أَنه تَغْيِير لمقْتَضى صِيغَة الْكَلَام الأول وَلَيْسَ بتبديل إِنَّمَا التبديل أَن يخرج كَلَامه من أَن يكون إِخْبَارًا بِالْوَاجِبِ أصلا فَلهَذَا سميناه بَيَان التَّغْيِير ثمَّ لَا خلاف بَين الْعلمَاء فِي هذَيْن النَّوْعَيْنِ من الْبَيَان أَنه يَصح مَوْصُولا بالْكلَام وَلَا يَصح مَفْصُولًا مِمَّن لَا يملك النّسخ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي كَيْفيَّة إِعْمَال الِاسْتِثْنَاء وَالشّرط فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا مُوجب الِاسْتِثْنَاء أَن الْكَلَام بِهِ يصير عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَأَنه يَنْعَدِم ثُبُوت الحكم فِي الْمُسْتَثْنى لِانْعِدَامِ الدَّلِيل الْمُوجب لَهُ مَعَ صُورَة التَّكَلُّم بِهِ بِمَنْزِلَة الْغَايَة فِيمَا يقبل التَّوْقِيت فَإِنَّهُ يَنْعَدِم الحكم فِيمَا وَرَاء الْغَايَة لِانْعِدَامِ الدَّلِيل الْمُوجب لَهُ لَا لِأَن الْغَايَة توجب نفي الحكم فِيمَا وَرَاءه وعَلى قَول الشَّافِعِي الحكم لَا يثبت فِي الْمُسْتَثْنى لوُجُود الْمعَارض كَمَا أَن دَلِيل الْخُصُوص يمْنَع ثُبُوت حكم الْعَام فِيمَا يتَنَاوَلهُ دَلِيل الْخُصُوص لوُجُود الْمعَارض وَكَذَلِكَ الشَّرْط عندنَا فَإِنَّهُ يمْنَع ثُبُوت الحكم فِي الْمحل لِانْعِدَامِ الْعلَّة الْمُوجبَة لَهُ حكما مَعَ صُورَة التَّكَلُّم بِهِ لَا لِأَن الشَّرْط مَانع من وجود الْعلَّة وعَلى قَوْله الشَّرْط مَانع للْحكم مَعَ وجود علته وَالْكَلَام فِي فصل الشَّرْط قد تقدم بَيَانه إِنَّمَا الْكَلَام هُنَا فِي الِاسْتِثْنَاء فَإِنَّهُم احْتَجُّوا بِاتِّفَاق أهل اللِّسَان أَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَمن الْإِثْبَات نفي فَهَذَا تنصيص على أَن الِاسْتِثْنَاء مُوجب مَا هُوَ ضد مُوجب أصل الْكَلَام على وَجه الْمُعَارضَة لَهُ فِي الْمُسْتَثْنى وَعَلِيهِ دلّ قَوْله تَعَالَى {قَالُوا إِنَّا أرسلنَا إِلَى قوم مجرمين إِلَّا آل لوط إِنَّا لمنجوهم أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَته} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 فالاستثناء الأول كَانَ من المهلكين ثمَّ فهم مِنْهُ الإنجاء وَالِاسْتِثْنَاء الثَّانِي من المنجين فَإِنَّمَا فهم مِنْهُ أَنهم من المهلكين وعَلى هَذَا قَالُوا إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ عشرَة دَرَاهِم إِلَّا ثَلَاثَة إِلَّا دِرْهَمَيْنِ يلْزمه تِسْعَة لِأَن الِاسْتِثْنَاء الأول من الْإِثْبَات فَكَانَ نفيا وَالِاسْتِثْنَاء الثَّانِي من النَّفْي فَكَانَ إِثْبَاتًا وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم} أَي إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم لم يشْربُوا فقد نَص على هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا إِبْلِيس لم يكن من الساجدين} وَإِذا ثَبت أَن المُرَاد بالْكلَام هَذَا كَانَ فِي مُوجبه كالمنصوص عَلَيْهِ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ كلمة الشَّهَادَة فَإِنَّهَا كلمة التَّوْحِيد لاشتمالها على النَّفْي وَالْإِثْبَات وَإِنَّمَا يتَحَقَّق ذَلِك إِذا جعل كَأَنَّهُ قَالَ إِلَّا الله فَإِنَّهُ هُوَ الْإِلَه وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن صِيغَة الْإِيجَاب إِذا صَحَّ من الْمُتَكَلّم فَهُوَ مُفِيد حكمه إِلَّا أَن يمْنَع مِنْهُ مَانع وبالاستثناء لَا يَنْتَفِي التَّكَلُّم بِكَلَام صَحِيح فِي جَمِيع مَا تنَاوله أصل الْكَلَام وَلَو لم يكن الِاسْتِثْنَاء مُوجبا هُوَ معَارض مَانع لما امْتنع ثُبُوت الحكم فِيهِ لِأَن بِالِاسْتِثْنَاءِ لَا يخرج من أَن يكون متكلما بِهِ فِيهِ لِاسْتِحَالَة أَن يكون متكلما بِهِ غير مُتَكَلم فِي كَلَام وَاحِد وَلَكِن يجوز أَن يكون متكلما بِهِ وَيمْتَنع ثُبُوت الحكم فِيهِ لمَانع منع مِنْهُ كَمَا فِي البيع بِشَرْط الْخِيَار فَعرفنَا أَن الطَّرِيق الصَّحِيح فِي الِاسْتِثْنَاء هَذَا وَعَلِيهِ خرج مذْهبه فَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا الَّذين تَابُوا} فِي آيَة الْقَذْف إِن المُرَاد إِلَّا الَّذين تَابُوا فَأُولَئِك هم الصالحون وَتقبل شَهَادَتهم إِلَّا أَنه لَا يتَنَاوَل هَذَا الِاسْتِثْنَاء الْجلد على وَجه الْمُعَارضَة لِأَنَّهُ اسْتثِْنَاء لبَعض الْأَحْوَال بِإِيجَاب حكم فِيهِ سوى الحكم الأول وَهُوَ حَال مَا بعد التَّوْبَة فَيخْتَص بِمَا يحْتَمل التَّوْقِيت دون مَا لَا يحْتَمل التَّوْقِيت وَإِقَامَة الْجلد لَا يحْتَمل ذَلِك فَأَما رد الشَّهَادَة والتفسيق يحْتَمل ذَلِك وَقَالَ فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء إِن المُرَاد لَكِن إِن جعلتموه سَوَاء بِسَوَاء فبيعوا أَحدهمَا بِالْآخرِ حَتَّى أثبت بِالْحَدِيثِ حكمين حكم الْحُرْمَة لمُطلق الطَّعَام (بِالطَّعَامِ) فأثبته فِي الْقَلِيل وَالْكثير وَحكم الْحل بِوُجُود الْمُسَاوَاة كَمَا هُوَ مُوجب الِاسْتِثْنَاء فَيخْتَص بالكثير الَّذِي يقبل الْمُسَاوَاة وَهُوَ نَظِير قَوْله تَعَالَى {فَنصف مَا فرضتم إِلَّا أَن يعفون} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 فِي أَن الثَّابِت بِهِ حكمان حكم بِنصْف الْمَفْرُوض بِالطَّلَاق فَيكون عَاما فِيمَن يَصح مِنْهُ الْعَفو وَمن لَا يَصح الْعَفو مِنْهُ نَحْو الصَّغِيرَة والمجنونة وَحكم سُقُوط الْكل بِالْعَفو كَمَا هُوَ مُوجب الِاسْتِثْنَاء فَيخْتَص بالكبيرة الْعَاقِلَة الَّتِي يَصح مِنْهَا الْعَفو وعَلى هَذَا إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا ثوبا فَإِنَّهُ يلْزمه الْألف إِلَّا قدر قيمَة الثَّوْب لِأَن مُوجب الِاسْتِثْنَاء نفي الحكم فِي الْمُسْتَثْنى بِدَلِيل الْمعَارض وَالدَّلِيل الْمعَارض يجب الْعَمَل بِهِ بِحَسب الْإِمْكَان والإمكان هُنَا أَن يَجْعَل مُوجبه نفي مِقْدَار قيمَة ثوب لَا نفي عين الثَّوْب وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف فِيمَا إِذا قَالَ لَهُ عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا كرّ حِنْطَة إِنَّه ينقص من الْألف قدر قيمَة كرّ حِنْطَة وَإِن الِاسْتِثْنَاء يصحح بِحَسب الْإِمْكَان على الْوَجْه الَّذِي قُلْنَا بِخِلَاف مَا يَقُوله مُحَمَّد رَحمَه الله إِنَّه لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء قَالَ وَلَو كَانَ الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى من الْوَجْه الَّذِي قُلْتُمْ لَكَانَ يلْزمه الْألف هُنَا كَامِلا لِأَن مَعَ وجوب الْألف عَلَيْهِ نَحن نعلم أَنه لَا كرّ عَلَيْهِ فَكيف يَجْعَل هَذَا عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَالْكَلَام لم يتَنَاوَل الْمُسْتَثْنى أصلا فَظهر أَن الطَّرِيق فِيهِ مَا قُلْنَا وَحجَّتنَا فِي إبِْطَال طَريقَة الْخصم الِاسْتِثْنَاء الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن فِيمَا هُوَ خبر نَحْو قَوْله تَعَالَى {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم} {فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} فَإِن دَلِيل الْمُعَارضَة فِي الحكم إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الْإِيجَاب دون الْخَبَر لِأَن ذَلِك يُوهم الْكَذِب بِاعْتِبَار صدر الْكَلَام وَمَعَ بَقَاء أصل الْكَلَام للْحكم لَا يتَصَوَّر امْتنَاع الحكم فِيهِ بمانع فَلَو كَانَ الطَّرِيق مَا قَالَه الْخصم لاختص الِاسْتِثْنَاء بِالْإِيجَابِ كدليل الْخُصُوص وَدَلِيل الْخُصُوص يخْتَص بِالْإِيجَابِ وَالثَّانِي أَن الِاسْتِثْنَاء إِنَّمَا يَصح إِذا كَانَ المستنثى بعض مَا تنَاوله الْكَلَام وَلَا يَصح إِذا كَانَ جَمِيع مَا تنَاوله الْكَلَام وَدَلِيل الْخُصُوص الَّذِي هُوَ رفع للْحكم كالنسخ كَمَا يعْمل فِي الْبَعْض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 يعْمل فِي الْكل فَعرفنَا أَنه لَيْسَ الطَّرِيق فِي الِاسْتِثْنَاء مَا ذهب إِلَيْهِ وَلَكِن الطَّرِيق فِيهِ أَنه عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى حَتَّى إِذا كَانَ يتَوَهَّم بعد الِاسْتِثْنَاء بَقَاء شَيْء دون الْخَبَر يَجْعَل الْكَلَام عبارَة عَنهُ صَحَّ وَإِن لم يبْق من الحكم شَيْء وَبَيَان هَذَا أَنه لَو قَالَ عَبِيدِي أَحْرَار إِلَّا عَبِيدِي لم يَصح الِاسْتِثْنَاء وَلَو قَالَ إِلَّا هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ لَهُ سواهُم صَحَّ الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ يتَوَهَّم بَقَاء شَيْء وَرَاء الْمُسْتَثْنى يَجْعَل الْكَلَام عبارَة عَنهُ هُنَا وَلَا توهم لمثله فِي الأول وَكَذَلِكَ الطَّلَاق على هَذَا وَلَا يجوز أَن يُقَال إِن اسْتثِْنَاء الْكل إِنَّمَا لَا يَصح لِأَنَّهُ رُجُوع فَإِن فِيمَا يَصح الرُّجُوع عَنهُ لَا يَصح اسْتثِْنَاء الْكل أَيْضا حَتَّى إِذا قَالَ أوصيت لفُلَان بِثلث مَالِي إِلَّا ثلث مَالِي كَانَ الِاسْتِثْنَاء بَاطِلا وَالرُّجُوع عَن الْوَصِيَّة يَصح وَإِنَّمَا بَطل الِاسْتِثْنَاء هُنَا لِأَنَّهُ لَا يتَوَهَّم وَرَاء الْمُسْتَثْنى شَيْء يكون الْكَلَام عبارَة عَنهُ فَعرفنَا أَنه تصرف فِي الْكَلَام لَا فِي الحكم وَأَنه عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى بأطول الطَّرِيقَيْنِ تَارَة وأقصرهما تَارَة وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الدَّلِيل الْمعَارض يسْتَقلّ بِنَفسِهِ وَالِاسْتِثْنَاء لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فَإِنَّهُ مَا لم يسْبق صدر الْكَلَام لَا يتَحَقَّق الِاسْتِثْنَاء مُفِيدا شَيْئا بِمَنْزِلَة الْغَايَة الَّتِي لَا تستقل بِنَفسِهَا فَأَما دَلِيل الْخُصُوص يصير مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ وَإِن لم يسْبقهُ الْكَلَام وَيكون مُفِيدا لحكمه ثمَّ الدَّلِيل على صِحَة مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا أَن الِاسْتِثْنَاء يبين أَن صدر الْكَلَام لم يتَنَاوَل الْمُسْتَثْنى أصلا فَإِنَّهُ تصرف فِي الْكَلَام كَمَا أَن دَلِيل الْخُصُوص تصرف فِي حكم الْكَلَام ثمَّ يتَبَيَّن بِدَلِيل الْخُصُوص أَن الْعَام لم يكن مُوجبا الحكم فِي مَوضِع الْخُصُوص فَكَذَلِك بِالِاسْتِثْنَاءِ يتَبَيَّن أَن أصل الْكَلَام لم يكن متناولا للمستثنى وَالدَّلِيل على تَصْحِيح هَذِه الْقَاعِدَة قَوْله تَعَالَى {فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} فَإِن مَعْنَاهُ لبث فيهم تِسْعمائَة وَخمسين عَاما لِأَن الْألف اسْم لعدد مَعْلُوم لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال مَا دونه بِوَجْه فَلَو لم يَجْعَل أصل الْكَلَام هَكَذَا لم يُمكن تَصْحِيح ذكر الْألف بِوَجْه لِأَن اسْم الْألف لَا ينْطَلق على تِسْعمائَة وَخمسين أصلا وَإِذا قَالَ الرجل لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا مائَة فَإِنَّهُ يَجْعَل كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ عَليّ تِسْعمائَة فَإِن مَعَ بَقَاء صدر الْكَلَام على حَاله وَهُوَ الْألف لَا يُمكن إِيجَاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 تِسْعمائَة عَلَيْهِ ابْتِدَاء لِأَن الْقدر الَّذِي يجب حكم صدر الْكَلَام وَإِذا لم يكن فِي صدر الْكَلَام احْتِمَال هَذَا الْمِقْدَار لَا يُمكن إِيجَابه حَقِيقَة فَعرفنَا بِهِ أَنه يصير صدر الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَهُوَ تِسْعمائَة وَكَانَ لهَذَا الْعدَد عبارتان الأقصر وَهُوَ تِسْعمائَة والأطول هُوَ الْألف إِلَّا مائَة وَهَذَا معنى قَول أهل اللُّغَة إِن الِاسْتِثْنَاء اسْتِخْرَاج يَعْنِي اسْتِخْرَاج بعض الْكَلَام على أَن يَجْعَل الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى أَلا ترى أَن بعد دَلِيل الْخُصُوص الحكم الثَّابِت بِالْعَام مَا يتَنَاوَلهُ لفظ الْعُمُوم حَقِيقَة حَتَّى إِذا كَانَ الْعَام بِعِبَارَة الْفَرد يجوز فِيهِ الْخُصُوص إِلَى أَن لَا يبْقى مِنْهُ إِلَّا وَاحِد وَإِذا كَانَ بِلَفْظ الْجمع يجوز فِيهِ الْخُصُوص إِلَى أَن لَا يبْقى مِنْهُ إِلَّا ثَلَاثَة فَإِن أدنى مَا تنَاوله اسْم الْجمع ثَلَاثَة وَإِذا كَانَ الْبَاقِي دون ذَلِك كَانَ رفعا للْحكم بطرِيق النّسخ ثمَّ كَمَا يجوز أَن يكون الْكَلَام مُعْتَبرا فِي الحكم وَيمْتَنع ثُبُوت الحكم بِهِ لمَانع فَكَذَلِك يجوز أَن تبقى صُورَة الْكَلَام وَلَا يكون مُعْتَبرا فِي حق الحكم أصلا كَطَلَاق الصَّبِي وَالْمَجْنُون فَإِذا جعلنَا طَرِيق الِاسْتِثْنَاء مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ بَقِي صُورَة التَّكَلُّم فِي الْمُسْتَثْنى غير مُوجب بِحكمِهِ وَذَلِكَ جَائِز وَإِذا جعلنَا الطَّرِيق مَا قَالَه الْخصم احتجنا إِلَى أَن نثبت بالْكلَام مَا لَيْسَ من محتملاته وَذَلِكَ لَا يجوز فَعرفنَا أَن انعدام وجوب الْمِائَة عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ الْعلَّة الْمُوجبَة لَا لمعارض يمْنَع الْوُجُوب بعد وجود الْعلَّة الْمُوجبَة وَكَذَلِكَ فِي التَّعْلِيق بِالشّرطِ فَإِن امْتنَاع ثُبُوت الحكم فِي الْمحل لِانْعِدَامِ علته بطرِيق أَن التَّعْلِيق بِالشّرطِ لما منع الْوُصُول إِلَى الْمحل وَصُورَة التَّكَلُّم بِدُونِ الْمحل لَا يكون عِلّة للْإِيجَاب فانعدام الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة فِي الْفَصْلَيْنِ لَا لمَانع كَمَا توهمه الْخصم إِلَّا أَن الْوُصُول إِلَى الْمحل فِي التَّعْلِيق متوهم لوُجُود الشَّرْط فَلم يبطل الْكَلَام فِي حق الحكم أصلا وَلَكِن نجعله تَصرفا آخر وَهُوَ الْيَمين على أَنه مَتى وصل إِلَى الْمحل وَلم يبْق يَمِينا كَانَ إِيجَابا فسميناه بَيَان التبديل لهَذَا وَانْتِفَاء الْمُسْتَثْنى من أصل الْكَلَام لَيْسَ فِيهِ توهم الِارْتفَاع حَتَّى تكون صُورَة الْكَلَام عَاملا فِيهِ فجعلناه بَيَان التَّغْيِير بطرِيق أَنه عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى لِأَنَّهُ لم يصر تَصرفا آخر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 بِالِاسْتِثْنَاءِ وَهَذَا لِأَن الْكَلِمَة كَمَا لَا تكون مفهمة قبل انضمام بعض حروفها إِلَى الْبَعْض لَا تكون مفهمة قبل انضمام بعض الْكَلِمَات إِلَى الْبَعْض حَتَّى تكون دَالَّة على المُرَاد فتوقف أول الْكَلَام على آخِره فِي الْفَصْلَيْنِ وَيكون الْكل فِي حكم كَلَام وَاحِد فَإِن ظهر بِاعْتِبَار آخِره لصدر الْكَلَام مَحل آخر وَهُوَ الذِّمَّة كَمَا فِي الشَّرْط جعل بَيَانا فِيهِ تَبْدِيل وَإِن لم يظْهر لصدر الْكَلَام مَحل آخر بِآخِرهِ جعل آخِره مغيرا لصدره بطرِيق الْبَيَان وَذَلِكَ بِالِاسْتِثْنَاءِ على أَن يَجْعَل عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَيجْعَل بِمَنْزِلَة الْغَايَة على معنى أَنه يَنْتَهِي بِهِ صدر الْكَلَام ولولاه لَكَانَ مجاوزا إِلَيْهِ كَمَا أَن بالغاية يَنْتَهِي أصل الْكَلَام على معنى أَنه لَوْلَا الْغَايَة لَكَانَ الْكَلَام متناولا لَهُ ثمَّ انعدام الحكم بعد الْغَايَة لعدم الدَّلِيل الْمُثبت لَا لمَانع بعد وجود الْمُثبت فَكَذَلِك انعدام الحكم فِي الْمُسْتَثْنى لعدم دَلِيل الْمُوجب لَا لمعارض مَانع فَأَما قَول أهل اللُّغَة الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَمن الْإِثْبَات نفي فإطلاق ذَلِك بِاعْتِبَار نوع من الْمجَاز فَإِنَّهُم كَمَا قَالُوا هَذَا فقد قَالُوا إِنَّه اسْتِخْرَاج وَإنَّهُ عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَلَا بُد من الْجمع بَين الْكَلِمَتَيْنِ وَلَا طَرِيق للْجمع سوى مَا بَينا وَهُوَ أَنه بِاعْتِبَار حَقِيقَته فِي أصل الْوَضع عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَهُوَ نفي من الْإِثْبَات وَإِثْبَات من النَّفْي بِاعْتِبَار إِشَارَته على معنى أَن حكم الْإِثْبَات يتوقت بِهِ كَمَا يتوقت بالغاية فَإِذا لم يبْق بعده ظهر النَّفْي لِانْعِدَامِ عِلّة الْإِثْبَات فَسُمي نفيا مجَازًا فَإِن قيل هَذَا فَاسد فَإِن قَول الْقَائِل لَا عَالم إِلَّا زيد يفهم مِنْهُ الْإِخْبَار بِأَن زيدا عَالم وَكَذَلِكَ كلمة الشَّهَادَة تكون إِقْرَارا بِالتَّوْحِيدِ حَقِيقَة كَيفَ يَسْتَقِيم حمل ذَلِك على نوع من الْمجَاز قُلْنَا قَول الْقَائِل لَا عَالم نفي لوصف الْعلم وَقَوله إِلَّا زيد تَوْقِيت للوصف بِهِ وَمُقْتَضى التَّوْقِيت انعدام ذَلِك الْوَصْف بعد الْوَقْت فَمُقْتَضى كَلَامه هُنَا نفي صفة الْعلم لغير زيد ثمَّ ثَبت بِهِ الْعلم لزيد بِإِشَارَة كَلَامه لَا بِنَصّ كَلَامه كَمَا أَن نفي النَّهَار يتوقت إِلَى طُلُوع الْفجْر فبوجوده يثبت مَا هُوَ ضِدّه وَهُوَ صفة النَّهَار وَنفي السّكُون يتوقت بالحركة فَبعد انعدام الْحَرَكَة يثبت السّكُون يقرره أَن الْآدَمِيّ لَا يَخْلُو عَن أحد الوصفين إِمَّا الْعلم وَإِمَّا نفي الْعلم عَنهُ فَلَمَّا توقت النَّفْي فِي صفة كَلَامه بزيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 ثَبت صفة الْعلم فِيهِ لِانْعِدَامِ ضِدّه وَفِي كلمة الشَّهَادَة كَذَلِك نقُول فَإِن كَلَامه نفي الألوهية عَن غير الله تَعَالَى وَنفي الشّركَة فِي صفة الألوهية لغير الله مَعَه ثمَّ يثبت التَّوْحِيد بطرِيق الْإِشَارَة إِلَيْهِ وَكَانَ الْمَقْصُود بِهَذِهِ الْعبارَة إِظْهَار التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ فَإِنَّهُ هُوَ الأَصْل وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ يبتنى عَلَيْهِ وَمعنى التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ بِهَذَا الطَّرِيق يكون أظهر وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله إِذا قَالَ إِن خرجت من هَذِه الدَّار إِلَّا أَن يَأْذَن لي فلَان فَمَاتَ فلَان قبل أَن يَأْذَن لَهُ بطلت الْيَمين كَمَا لَو قَالَ إِن خرجت من هَذِه الدَّار حَتَّى يَأْذَن لي فلَان لِأَن فِي الْمَوْضِعَيْنِ يثبت بِالْيَمِينِ حظر الْخُرُوج موقتا بِإِذن فلَان وَلَا تصور لذَلِك إِلَّا فِي حَال حَيَاة فلَان فَأَما بعد مَوته وَانْقِطَاع إِذْنه لَو بقيت الْيَمين كَانَ مُوجبهَا حظرا مُطلقًا والموقت غير الْمُطلق فَإِن قيل أَلَيْسَ أَنه لَو قَالَ لامْرَأَته إِن خرجت إِلَّا بإذني فَإِنَّهُ يحْتَاج إِلَى تَجْدِيد الْإِذْن فِي كل مرّة وَلَو كَانَ الِاسْتِثْنَاء بِمَنْزِلَة الْغَايَة لكَانَتْ الْيَمين ترْتَفع بِالْإِذْنِ مرّة كَمَا لَو قَالَ إِن خرجت من هَذِه الدَّار حَتَّى آذن لَك قُلْنَا إِنَّمَا اخْتلفَا فِي هَذَا الْوَجْه لِأَن كل وَاحِد من الْكَلَامَيْنِ يتَنَاوَل محلا آخر فَإِن قَوْله حَتَّى آذن مَحَله الْحَظْر الثَّابِت بِالْيَمِينِ فَإِنَّهُ تَوْقِيت لَهُ وَقَوله إِلَّا بإذني مَحَله الْخُرُوج الَّذِي هُوَ مصدر كَلَامه وَمَعْنَاهُ إِلَّا خُرُوجًا بإذني وَالْخُرُوج غير الْحَظْر الثَّابِت بِالْيَمِينِ فَعرفنَا أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا دخل فِي مَحل آخر هُنَا فَلهَذَا كَانَ حكم الِاسْتِثْنَاء مُخَالفا لحكم التَّصْرِيح بالغاية وبالاستثناء يظْهر معنى التَّوْقِيت فِي كل خُرُوج يكون بِصفة الْإِذْن وكل خُرُوج لَا يكون بِتِلْكَ الصّفة فَهُوَ مُوجب للحنث قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الِاسْتِثْنَاء نَوْعَانِ حَقِيقَة ومجاز فَمَعْنَى الِاسْتِثْنَاء حَقِيقَة مَا بَينا وَمَا هُوَ مجَاز مِنْهُ فَهُوَ الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع وَهِي بِمَعْنى لَكِن أَو بِمَعْنى الْعَطف وَبَيَانه فِي قَوْله تَعَالَى {لَا يعلمُونَ الْكتاب إِلَّا أماني} أَي لَكِن أباطيل قَالَ تَعَالَى {فَإِنَّهُم عَدو لي إِلَّا رب الْعَالمين} أَي لَكِن رب الْعَالمين الَّذِي خلقني وَقَالَ {لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا إِلَّا سَلاما} أَي لَكِن سَلاما وَقيل فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم} إِنَّه بِمَعْنى الْعَطف وَلَا الَّذين ظلمُوا وَقيل لَكِن أَي لَكِن الَّذين ظلمُوا مِنْهُم فَلَا تخشوهم واخشوني وَقيل فِي قَوْله {إِلَّا خطأ} إِنَّه بِمَعْنى لَكِن أَي لَكِن إِن قَتله خطأ وَزعم بعض مَشَايِخنَا أَنه بِمَعْنى وَلَا قَالَ رَضِي عَنهُ وَهَذَا غلط عِنْدِي لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون عطفا على النَّهْي فَيكون نهيا وَالْخَطَأ لَا يكون مَنْهِيّا عَنهُ وَلَا مَأْمُورا بِهِ بل هُوَ مَوْضُوع قَالَ تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم بِهِ وَلَكِن مَا تَعَمّدت قُلُوبكُمْ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 ثمَّ الْكَلَام لحقيقته لَا يحمل على الْمجَاز إِلَّا إِذا تعذر حمله على الْحَقِيقَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا أَن يعفون} فَإِنَّهُ يتَعَذَّر حمله على حَقِيقَة الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ إِذا حمل عَلَيْهِ كَانَ فِي معنى التَّوْقِيت فيتقرر بِهِ حكم التنصيف الثَّابِت بصدر الْكَلَام فَعرفنَا أَنه بِمَعْنى لَكِن وَأَنه ابْتِدَاء حكم أَي لَكِن إِن عَفا الزَّوْج بإيفاء الْكل أَو الْمَرْأَة بالإسقاط فَهُوَ أقرب للتقوى وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِلَّا الَّذين تَابُوا} فِي آيَة الْقَذْف فَإِنَّهُ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع أَي لَكِن إِن تَابُوا من قبل أَن التائبين هم القاذفون فَتعذر حمل اللَّفْظ على حَقِيقَة الِاسْتِثْنَاء فَإِن الثَّابِت لَا يخرج من أَن يكون قَاذِفا وَإِن كَانَ مَحْمُولا على حَقِيقَة الِاسْتِثْنَاء هُوَ اسْتثِْنَاء بعض الْأَحْوَال أَي وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ فِي جَمِيع الْأَحْوَال إِلَّا أَن يتوبوا فَيكون هَذَا الِاسْتِثْنَاء توقيتا بِحَال مَا قبل التَّوْبَة فَلَا تبقى صفة الْفسق بعد التَّوْبَة لِانْعِدَامِ الدَّلِيل الْمُوجب لَا لمعارض مَانع كَمَا توهمه الْخصم وَقَوله لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء اسْتثِْنَاء لبَعض الْأَحْوَال أَيْضا أَي لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا حَالَة التَّسَاوِي فِي الْكَيْل فَيكون توقيتا للنَّهْي بِمَنْزِلَة الْغَايَة وَيثبت بِهَذَا النَّص أَن حكم الرِّبَا الْحُرْمَة الموقتة فِي الْمحل دون الْمُطلقَة وَإِنَّمَا تتَحَقَّق الْحُرْمَة الموقتة فِي الْمحل الَّذِي يقبل الْمُسَاوَاة فِي الْكَيْل فَأَما فِي الْمحل الَّذِي لَا يقبل الْمُسَاوَاة لَو ثَبت إِنَّمَا يثبت حُرْمَة مُطلقَة وَذَلِكَ لَيْسَ من حكم هَذَا النَّص فَلهَذَا لَا يثبت حكم الرِّبَا فِي الْقَلِيل وَفِي المطعوم الَّذِي لَا يكون مَكِيلًا أصلا وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا ثوبا فَإِنَّهُ تلْزمهُ الْألف لِأَن هَذَا لَيْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 باستثناء حَقِيقَة إِذْ حَقِيقَة الِاسْتِثْنَاء فِي أصل الْوَضع أَن يكون الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى والمستثنى هُنَا لم يتَنَاوَلهُ صدر الْكَلَام صُورَة وَمعنى حَتَّى يَجْعَل الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاءه فَيكون اسْتثِْنَاء مُنْقَطِعًا وَمَعْنَاهُ لَكِن لَا ثوب لَهُ عَليّ وَالتَّصْرِيح بِهَذَا الْكَلَام لَا يسْقط عَنهُ شَيْئا من الْألف وَلَا يمْنَع إِعْمَال أصل الْكَلَام فِي إِيجَاب جَمِيع الْألف عَلَيْهِ فَكَذَلِك اللَّفْظ الَّذِي يدل عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّد فِي قَوْله إِلَّا كرّ حِنْطَة إِنَّه تلْزمهُ الْألف كَامِلَة فَأَما أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رَضِي الله عَنْهُمَا استحسنا هُنَا فَقَالَا كَلَامه اسْتثِْنَاء حَقِيقَة بِاعْتِبَار الْمَعْنى لِأَن صُورَة صدر الْكَلَام الْإِخْبَار بِوُجُوب الْمُسَمّى عَلَيْهِ وَمَعْنَاهُ إِظْهَار مَا هُوَ لَازم فِي ذمَّته والمكيل وَالْمَوْزُون كشيء وَاحِد فِي حكم الثُّبُوت فِي الذِّمَّة على معنى أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يثبت فِي الذِّمَّة ثبوتا صَحِيحا بِمَنْزِلَة الْأَثْمَان فَهَذَا الِاسْتِثْنَاء بِاعْتِبَار صُورَة صدر الْكَلَام لَا يكون استخراجا وَبِاعْتِبَار مَعْنَاهُ يكون استخراجا على أَنه استخرج هَذَا الْقدر مِمَّا هُوَ وَاجِب فِي ذمَّته وَالْمعْنَى يتَرَجَّح على الصُّورَة لِأَنَّهُ هُوَ الْمَطْلُوب فَلهَذَا جعلنَا استثناءه استخراجا على أَن يكون كَلَامه عبارَة عَمَّا وَرَاء مَالِيَّة كرّ حِنْطَة من الْألف فَأَما الثَّوْب لَا يكون مثل الْمكيل وَالْمَوْزُون فِي الصُّورَة وَلَا فِي الْمَعْنى وَهُوَ الثُّبُوت فِي الذِّمَّة فَإِنَّهُ لَا يثبت فِي الذِّمَّة إِلَّا مَبِيعًا وَالْألف تثبت فِي الذِّمَّة ثمنا فَلَا يُمكن جعل كَلَامه استخراجا بِاعْتِبَار الصُّورَة وَلَا بِاعْتِبَار الْمَعْنى فَلهَذَا جَعَلْنَاهُ اسْتثِْنَاء مُنْقَطِعًا ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي بِنَاء على أَصله الِاسْتِثْنَاء مَتى تعقب كَلِمَات معطوفة بَعْضهَا على بعض ينْصَرف إِلَى جَمِيع مَا تقدم ذكره لِأَنَّهُ معَارض مَانع للْحكم بِمَنْزِلَة الشَّرْط ثمَّ الشَّرْط ينْصَرف إِلَى جَمِيع مَا سبق حَتَّى يتَعَلَّق الْكل بِهِ فَكَذَلِك الِاسْتِثْنَاء وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى فِي آيَة قطاع الطَّرِيق {إِلَّا الَّذين تَابُوا من قبل أَن تقدروا عَلَيْهِم} فَإِنَّهُ ينْصَرف إِلَى جَمِيع مَا تقدم ذكره وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا الِاسْتِثْنَاء تَغْيِير وَتصرف فِي الْكَلَام فَيقْتَصر على مَا يَلِيهِ خَاصَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن إِعْمَال الِاسْتِثْنَاء بِاعْتِبَار أَن الْكل فِي حكم كَلَام وَاحِد وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق فِي الْكَلِمَات المعطوفة بَعْضهَا على بعض وَالثَّانِي أَن أصل الْكَلَام عَامل بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَإِنَّمَا انْعَدم هَذَا الْوَصْف مِنْهُ بطرِيق الضَّرُورَة فَيقْتَصر على مَا تحقق فِيهِ الضَّرُورَة وَهَذِه الضَّرُورَة ترْتَفع بصرفه إِلَى مَا يَلِيهِ بِخِلَاف الشَّرْط فَإِنَّهُ تَبْدِيل وَلَا يخرج بِهِ أصل الْكَلَام من أَن يكون عَاملا إِنَّمَا يتبدل بِهِ الحكم كَمَا بَينا وَمُطلق الْعَطف يَقْتَضِي الِاشْتِرَاك فَلهَذَا أثبتنا حكم التبديل بِالتَّعْلِيقِ بِالشّرطِ فِي جَمِيع مَا سبق ذكره مَعَ أَن فِيهِ كلَاما فِي الْفرق بَين مَا إِذا عطفت جملَة تَامَّة على جملَة تَامَّة وَبَين مَا إِذا عطفت جملَة نَاقِصَة على جملَة تَامَّة ثمَّ تعقبها شَرط وَلَكِن لَيْسَ هَذَا مَوضِع بَيَان ذَلِك فَأَما قَوْله تَعَالَى {إِلَّا الَّذين تَابُوا} فلأجل دَلِيل فِي نَص الْكَلَام صرفناه إِلَى جَمِيع مَا تقدم وَذَلِكَ التَّقْيِيد بقوله تَعَالَى {من قبل أَن تقدروا عَلَيْهِم} فَإِن التَّوْبَة فِي محو الْإِثْم ورجاء الْمَغْفِرَة وَالرَّحْمَة بِهِ فِي الْآخِرَة لَا تخْتَلف بوجودها بعد قدرَة الإِمَام على التائب أَو قبل ذَلِك وَإِنَّمَا تخْتَلف فِي حكم إِقَامَة الْحَد الَّذِي يكون مفوضا إِلَى الإِمَام فَعرفنَا بِهَذَا التَّقْيِيد أَن المُرَاد مَا سبق من الْحَد وَقد يتَغَيَّر حكم مُقْتَضى الْكَلَام لدَلِيل فِيهِ أَلا ترى أَن مُقْتَضى مُطلق الْكَلَام التَّرْتِيب على أَن يَجْعَل الْمُتَقَدّم فِي الذّكر مُتَقَدما فِي الحكم ثمَّ يتَغَيَّر ذَلِك بِدَلِيل مغير كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {الْحَمد لله الَّذِي أنزل على عَبده الْكتاب وَلم يَجْعَل لَهُ عوجا قيمًا} فَإِن المُرَاد أنزلهُ قيمًا وَلم يَجْعَل لَهُ عوجا وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك لَكَانَ لزاما وَأجل مُسَمّى} فَإِن مَعْنَاهُ وَلَوْلَا سبقت من رَبك كلمة وَأجل مُسَمّى لَكَانَ لزاما وضمة اللَّام دلنا على ذَلِك فَهَذَا نَظِيره وَإِذا تقرر هَذَا الأَصْل قُلْنَا الْبَيَان المغير والمبدل يَصح مَوْصُولا وَلَا يَصح مَفْصُولًا لِأَنَّهُ مَتى كَانَ بَيَانا كَانَ مقررا للْحكم الثَّابِت بصدر الْكَلَام كبيان التَّقْرِير وَبَيَان التَّفْسِير وَإِنَّمَا يتَحَقَّق ذَلِك إِذا كَانَ مَوْصُولا فَأَما إِذا كَانَ مَفْصُولًا فَإِنَّهُ يكون رفعا للْحكم الثَّابِت بِمُطلق الْكَلَام أما فِي الِاسْتِثْنَاء فَإِن الْكَلَام يتم مُوجبا لحكمه بِآخِرهِ وَذَلِكَ بِالسُّكُوتِ عَنهُ أَو الِانْتِقَال إِلَى كَلَام آخر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 وَالِاسْتِثْنَاء الْمَوْصُول لَيْسَ بِكَلَام آخر فَإِنَّهُ غير مُسْتَقل بِنَفسِهِ فَأَما إِذا سكت فقد تمّ الْكَلَام مُوجبا لحكمه ثمَّ الِاسْتِثْنَاء بعد ذَلِك يكون نسخا بطرِيق رفع الحكم الثَّابِت فَلَا يكون بَيَانا مغيرا وَأما الشَّرْط فَهُوَ مبدل بِاعْتِبَار أَنه يمْتَنع الْوُصُول إِلَى الْمحل وَهُوَ العَبْد فِي كلمة الْإِعْتَاق وَيجْعَل مَحَله الذِّمَّة وَإِنَّمَا يتَحَقَّق هَذَا إِذا كَانَ مَوْصُولا فَأَما المفصول يكون رفعا عَن الْمحل يعْتَبر هَذَا فِي المحسوسات فَإِن تَعْلِيق الْقنْدِيل بالحبل فِي الِابْتِدَاء يكون مَانِعا من الْوُصُول إِلَى مقره من الأَرْض مُبينًا أَن إِزَالَة الْيَد عَنهُ لم يكن كسرا فَأَما بعد مَا وصل إِلَى مقره من الأَرْض تَعْلِيقه بالقنديل يكون رفعا عَن مَحَله فَتبين بِهَذَا أَن الشَّرْط إِذا كَانَ مَفْصُولًا فَإِنَّهُ يكون رفعا للْحكم عَن مَحَله بِمَنْزِلَة النّسخ وَهُوَ لَا يملك رفع الطَّلَاق وَالْعتاق عَن الْمحل بَعْدَمَا اسْتَقر فِيهِ فَلهَذَا لَا يعْمل الِاسْتِثْنَاء وَالشّرط مَفْصُولًا وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم وَدِيعَة فَإِنَّهُ يصدق مَوْصُولا وَلَا يصدق إِذا قَالَه مَفْصُولًا لِأَن قَوْله وَدِيعَة بَيَان فِيهِ تَغْيِير أَو تَبْدِيل فَإِن مُقْتَضى قَوْله عَليّ ألف دِرْهَم الْإِخْبَار بِوُجُوب الْألف فِي ذمَّته وَقَوله وَدِيعَة فِيهِ بَيَان أَن الْوَاجِب فِي ذمَّته حفظهَا وإمساكها إِلَى أَن يُؤَدِّيهَا إِلَى صَاحبهَا لَا أصل المَال فإمَّا أَن يكون تبديلا للمحل الَّذِي أخبر بصدر الْكَلَام أَنه الْتَزمهُ لصَاحبه أَو تغييرا لما اقْتَضَاهُ أول الْكَلَام لِأَنَّهُ لَازم عَلَيْهِ للْمقر لَهُ من أصل المَال إِلَى الْحِفْظ فَإِذا كَانَ مَوْصُولا كَانَ بَيَانا صَحِيحا وَإِذا كَانَ مَفْصُولًا كَانَ نسخا فَيكون بِمَنْزِلَة الرُّجُوع عَمَّا أقرّ بِهِ وعَلى هَذَا لَو قَالَ لغيره أقرضتني عشرَة دَرَاهِم أَو اسلفتني أَو أسلمت إِلَيّ أَو أَعْطَيْتنِي إِلَّا أَنِّي لم أَقبض فَإِن قَالَ ذَلِك مَفْصُولًا لم يصدق وَإِن قَالَ مَوْصُولا صدق اسْتِحْسَانًا لِأَن هَذَا بَيَان تَغْيِير فَإِن حَقِيقَة هَذِه الْأَلْفَاظ تَقْتَضِي تَسْلِيم المَال إِلَيْهِ وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا بِقَبْضِهِ إِلَّا أَنه يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ العقد مجَازًا فقد تسْتَعْمل هَذِه الْأَلْفَاظ للْعقد فَكَانَ قَوْله لم أَقبض تغييرا للْكَلَام عَن الْحَقِيقَة إِلَى الْمجَاز فَيصح مَوْصُولا وَلَا يَصح مَفْصُولًا وَإِذا قَالَ دفعت إِلَيّ ألف دِرْهَم أَو نقدتني إِلَّا أَنِّي لم أَقبض فَكَذَلِك الْجَواب عِنْد مُحَمَّد لِأَن الدّفع والنقد والإعطاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 فِي الْمَعْنى سَوَاء فتجعل هَاتَانِ الكلمتان كَقَوْلِه أَعْطَيْتنِي وَيصدق فيهمَا إِذا كَانَ مَوْصُولا لَا إِذا كَانَ مَفْصُولًا بطرِيق أَنه بَيَان تَغْيِير وَأَبُو يُوسُف قَالَ فيهمَا لَا يصدق مَوْصُولا وَلَا مَفْصُولًا لِأَن الدّفع والنقد اسْم للْفِعْل لَا يتَنَاوَل العقد مجَازًا وَلَا حَقِيقَة فَكَانَ قَوْله إِلَّا أَنِّي لم أَقبض رُجُوعا وَالرُّجُوع لَا يعْمل مَوْصُولا وَلَا مَفْصُولًا فَأَما الْإِعْطَاء قد سمي بِهِ العقد مجَازًا يُقَال عقد الْهِبَة وَعقد الْعَطِيَّة وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا أَنَّهَا زيوف لم يصدق مَوْصُولا وَلَا مَفْصُولًا وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد يصدق مَوْصُولا لِأَن قَوْله إِلَّا أَنَّهَا زيوف بَيَان تَغْيِير فَإِن مُطلق تَسْمِيَة الْألف فِي البيع ينْصَرف إِلَى الْجِيَاد لِأَنَّهُ هُوَ النَّقْد الْغَالِب وَبِه الْمُعَامَلَة بَين النَّاس وَفِيه احْتِمَال الزُّيُوف بِدُونِ هَذِه الْعَادة فَكَانَ كَلَامه بَيَان تَغْيِير فَيصح مَوْصُولا لَا مَفْصُولًا كَمَا فِي قَوْله إِلَّا أَنَّهَا وزن خَمْسَة وكما فِي الْفُصُول الْمُتَقَدّمَة بل أولى فَإِن ذَلِك نوع من الْمجَاز وَهَذَا حَقِيقَة لِأَن إسم الدَّرَاهِم للزيوف حَقِيقَة كَمَا أَنَّهَا للجياد حَقِيقَة وَأَبُو حنيفَة يَقُول مُقْتَضى عقد الْمُعَاوضَة وجوب المَال بِصفة السَّلامَة والزيافة فِي الدَّرَاهِم عيب لِأَن الزيافة إِنَّمَا تكون بغش فِي الدَّرَاهِم والغش عيب فَكَانَ هَذَا رُجُوعا عَن مُقْتَضى أول كَلَامه وَالرُّجُوع لَا يعْمل مَوْصُولا وَلَا مَفْصُولًا وَصَارَ دَعْوَى الْعَيْب فِي الثّمن كدعوى الْعَيْب فِي البيع بِأَن قَالَ بِعْتُك هَذِه الْجَارِيَة معيبا بِعَيْب كَذَا وَقَالَ المُشْتَرِي بل اشْتَرَيْتهَا سليمَة فَإِن البَائِع لَا يصدق سَوَاء قَالَه مَوْصُولا أَو مَفْصُولًا بِخِلَاف قَوْله إِلَّا أَنَّهَا وزن خَمْسَة فَإِن ذَلِك اسْتثِْنَاء لبَعض الْمِقْدَار بِمَنْزِلَة قَوْله إِلَّا مِائَتَيْنِ وَبِخِلَاف قَوْله لفُلَان عَليّ كرّ حِنْطَة من ثمن بيع إِلَّا أَنَّهَا ردية لِأَن الرداءة لَيست بِعَيْب فِي الْحِنْطَة فالعيب مَا يَخْلُو عَنهُ أصل الْفطْرَة والرداءة فِي الْحِنْطَة تكون بِأَصْل الْخلقَة فَكَانَ هَذَا بَيَان النَّوْع لَا بَيَان الْعَيْب فَيصح مَوْصُولا كَانَ أَو مَفْصُولًا وعَلى هَذَا لَو قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم من ثمن خمر فَإِن عِنْد أبي يُوسُف وَمُحَمّد هَذَا بَيَان تَغْيِير من حَقِيقَة وجوب المَال إِلَى (بَيَان) مُبَاشرَة سَبَب الِالْتِزَام صُورَة وَهُوَ شِرَاء الْخمر فَيصح مَوْصُولا لَا مَفْصُولًا وَأَبُو حنيفَة يَقُول هَذَا رُجُوع لِأَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 أول كَلَامه تنصيص على وجوب المَال فِي ذمَّته وَثمن الْخمر لَا يكون وَاجِبا فِي ذمَّة الْمُسلم بِالشِّرَاءِ فَيكون رُجُوعا وعَلى هَذَا لَو قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم من ثمن جَارِيَة باعنيها إِلَّا أَنِّي لم أقبضها فَإِن على قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد يصدق إِذا كَانَ مَوْصُولا وَإِذا كَانَ مَفْصُولًا يسْأَل الْمقر لَهُ عَن الْجِهَة فَإِن قَالَ الْألف لي عَلَيْهِ بِجِهَة أُخْرَى سوى البيع فَالْقَوْل قَوْله وَالْمَال لَازم على الْمقر وَإِن قَالَ بِجِهَة البيع وَلكنه قبضهَا فَالْقَوْل حِينَئِذٍ قَول الْمقر أَنه لم يقبضهَا لِأَن هَذَا بَيَان تَغْيِير فَإِنَّهُ يتَأَخَّر بِهِ حق الْمقر لَهُ فِي الْمُطَالبَة بِالْألف إِلَى أَن يحضر الْجَارِيَة ليسلمها بِمَنْزِلَة شَرط الْخِيَار أَو الْأَجَل فِي العقد يكون مغير لمقْتَضى مُطلق العقد وَلَا يكون نَاسِخا لأصله فَيصح هَذَا الْبَيَان مِنْهُ مَوْصُولا وَإِذا كَانَ مَفْصُولًا فَإِن صدقه فِي الْجِهَة فقد ثبتَتْ الْجِهَة بتصادقهما عَلَيْهِ ثمَّ لَيْسَ فِي إِقْرَاره بِالشِّرَاءِ وَوُجُوب المَال عَلَيْهِ بِالْعقدِ إِقْرَار بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْمقر لَهُ مُدعيًا عَلَيْهِ ابْتِدَاء تَسْلِيم الْمَبِيع وَهُوَ مُنكر لَيْسَ براجع عَمَّا أقرّ بِهِ فَجعلنَا القَوْل قَول الْمُنكر وَإِذا كذبه فِي الْجِهَة لم تثبت الْجِهَة الَّتِي ادَّعَاهَا وَقد صَحَّ تَصْدِيقه لَهُ فِي وجوب المَال عَلَيْهِ وَبَيَانه الَّذِي قَالَ إِنَّه من ثمن جَارِيَة لم يقبضهَا بَيَان تَغْيِير فَلَا يَصح مَفْصُولًا وَأَبُو حنيفَة يَقُول هَذَا رُجُوع عَمَّا أقرّ بِهِ لِأَنَّهُ أقرّ بِأول كَلَامه أَن المَال وَاجِب لَهُ دينا فِي ذمَّته وَثمن جَارِيَة لَا يُوقف على أَثَرهَا لَا تكون وَاجِبَة عَلَيْهِ إِلَّا بعد الْقَبْض فَإِن الْمَبِيعَة قبل التَّسْلِيم إِذا صَارَت بِحَيْثُ لَا يُوقف على عينهَا بِحَال بَطل العقد وَلَا يكون ثمنهَا وَاجِبا وَقَوله من ثمن جَارِيَة باعنيها وَلَكِنِّي لم أقبضها إِشَارَة إِلَى هَذَا فَإِن الْجَارِيَة الَّتِي هِيَ غير مُعينَة لَا يُوقف على أَثَرهَا وَمَا من جَارِيَة يحضرها البَائِع إِلَّا وَللْمُشْتَرِي أَن يَقُول الْمَبِيعَة غَيرهَا فَعرفنَا أَن آخر كَلَامه رُجُوع عَمَّا أقرّ بِهِ من وجوب المَال دينا فِي ذمَّته وَالرُّجُوع لَا يَصح مَوْصُولا وَلَا مَفْصُولًا وعَلى هَذَا قَالَ أَصْحَابنَا فِي كتاب الشّركَة إِذا قَالَ لغيره بِعْت مِنْك هَذَا العَبْد بِأَلف دِرْهَم إِلَّا نصفه فَإِنَّهُ يَجْعَل هَذَا بيعا لنصف العَبْد بِجَمِيعِ الْألف وَلَو قَالَ عَليّ أَن لي نصفه يكون بَائِعا نصف العَبْد بِخَمْسِمِائَة لِأَنَّهُ إِذا قيد كَلَامه بِالِاسْتِثْنَاءِ يصير عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَإِنَّمَا أدخلهُ على الْمَبِيع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 دون الثّمن وَمَا وَرَاء الْمُسْتَثْنى من الْمَبِيع نصف العَبْد فَيصير بَائِعا لذَلِك بِجَمِيعِ الْألف فَأَما قَوْله على أَن لي نصفه فَهُوَ معَارض بِحكمِهِ لصدر الْكَلَام وَيصير بَائِعا جَمِيع العَبْد من نَفسه وَمن المُشْتَرِي بِالْألف وَبيعه من نَفسه مُعْتَبر إِذا كَانَ مُفِيدا أَلا ترى أَن الْمضَارب يَبِيع مَال الْمُضَاربَة من رب المَال فَيجوز لكَونه مُفِيدا وَإِذا كَانَ كل وَاحِد من الْبَدَلَيْنِ مَمْلُوكا لَهُ فَهُنَا أَيْضا إِيجَابه لنَفسِهِ مُفِيد فِي حق تَقْسِيم الثّمن فَيعْتَبر ويتبين بِهِ أَنه صَار بَائِعا نصفه من المُشْتَرِي بِنصْف الْألف كَمَا لَو بَاعَ مِنْهُ عَبْدَيْنِ بِأَلف دِرْهَم وَأَحَدهمَا مَمْلُوك لَهُ يصير بَائِعا عبد نَفسه مِنْهُ بِحِصَّتِهِ من الثّمن إِذا قسم على قِيمَته وَقِيمَة العَبْد الَّذِي هُوَ ملك المُشْتَرِي وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ أَبُو يُوسُف فِيمَن أودع صَبيا مَحْجُورا عَلَيْهِ مَالا فاستهلكه إِنَّه يكون ضَامِنا لِأَن تسليطه إِيَّاه على المَال بِإِثْبَات يَده عَلَيْهِ يتنوع نَوْعَيْنِ استحفاظ وَغير استحفاظ فَيكون قَوْله أحفظه بَيَانا مِنْهُ لنَوْع مَا كَانَ من جِهَته وَهُوَ التَّمْكِين وَبَيَانه تصرف مِنْهُ فِي حق نَفسه مَقْصُورا عَلَيْهِ غير متناول لحق الْغَيْر فينعدم مَا سوى الاستحفاظ لِانْعِدَامِ علته وينعدم نُفُوذ الاستحفاظ لِانْعِدَامِ ولَايَته على الْمحل وَكَون الصَّبِي مِمَّن لَا يحفظ وَبعد انعدام النَّوْعَيْنِ يصير كَأَنَّهُ لم يُوجد تَمْكِينه من المَال أصلا فَإِذا اسْتَهْلكهُ كَانَ ضَامِنا كَمَا لَو كَانَ المَال فِي يَد صَاحبه على حَاله فجَاء الصَّبِي واستهلكه وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَا التسليط فعل مُطلق وَلَيْسَ بعام حَتَّى يُصَار فِيهِ إِلَى التنويع وَقَوله احفظ كَلَام لَيْسَ من جنس الْفِعْل ليشتغل بِتَصْحِيحِهِ بطرِيق الِاسْتِثْنَاء وَلكنه معَارض لِأَن الدّفع إِلَيْهِ تسليط مُطلقًا وَقَوله احفظ معَارض بِمَنْزِلَة دَلِيل الْخُصُوص أَو بِمَنْزِلَة مَا قَالَه الْخصم فِي الِاسْتِثْنَاء وَإِنَّمَا يكون مُعَارضا إِذا صَحَّ مِنْهُ هَذَا القَوْل شرعا كدليل الْخُصُوص إِنَّمَا يكون مُعَارضا إِذا صَحَّ شرعا وَلَا خلاف أَن قَوْله احفظ غير صَحِيح فِي حكم الاستحفاظ شرعا فَيبقى التسليط مُطلقًا فالاستهلاك بعد تسليط من لَهُ الْحق مُطلقًا لَا يكون مُوجبا للضَّمَان على الصَّبِي وَلَا على الْبَالِغ وَمَا يخرج من الْمسَائِل على هَذَا الأَصْل يكثر تعدادها فَمن فهم مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ فَهُوَ يهديه إِلَى مَا سواهَا وَالله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 فصل وَأما بَيَان الضَّرُورَة فَهُوَ نوع من الْبَيَان يحصل بِغَيْر مَا وضع لَهُ فِي الأَصْل وَهُوَ على أَرْبَعَة أوجه مِنْهُ مَا ينزل منزلَة الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْبَيَان وَمِنْه مَا يكون بَيَانا بِدلَالَة حَال الْمُتَكَلّم وَمِنْه مَا يكون بَيَانا بضرورة دفع الْغرُور وَمِنْه مَا يكون بَيَانا بِدلَالَة الْكَلَام فَأَما الأول فنحو قَوْله {وَورثه أَبَوَاهُ فلأمه الثُّلُث} فَإِنَّهُ لما أضَاف الْمِيرَاث إِلَيْهِمَا فِي صدر الْكَلَام ثمَّ بَين نصيب الْأُم كَانَ ذَلِك بَيَانا أَن للْأَب مَا بَقِي فَلَا يحصل هَذَا الْبَيَان بترك التَّنْصِيص على نصيب الْأَب بل بِدلَالَة صدر الْكَلَام يصير نصيب الْأَب كالمنصوص عَلَيْهِ وعَلى هَذَا قَالَ أَصْحَابنَا فِي الْمُضَاربَة إِذا بَين رب المَال حِصَّة الْمضَارب من الرِّبْح وَلم يبين حِصَّة نَفسه جَازَ العقد قِيَاسا واستحسانا لِأَن الْمضَارب هُوَ الَّذِي يسْتَحق بِالشّرطِ وَإِنَّمَا الْحَاجة إِلَى بَيَان نصِيبه خَاصَّة وَقد وجد وَلَو بَين نصيب نَفسه من الرِّبْح وَلم يبين نصيب الْمضَارب جَازَ العقد اسْتِحْسَانًا لِأَن مُقْتَضى الْمُضَاربَة الشّركَة بَينهمَا فِي الرِّبْح فببيان نصيب أَحدهمَا يصير نصيب الآخر مَعْلُوما وَيجْعَل ذَلِك كالمنطوق بِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَلَك مَا بَقِي وَكَذَلِكَ فِي الْمُزَارعَة إِذا بَين نصيب من الْبذر من قبله وَلم يبين نصيب الآخر جَازَ العقد اسْتِحْسَانًا لهَذَا الْمَعْنى وَكَذَلِكَ لَو قَالَ فِي وَصيته أوصيت لفُلَان وَفُلَان بِأَلف دِرْهَم لفُلَان مِنْهَا أَرْبَعمِائَة فَإِن ذَلِك بَيَان أَن للْآخر سِتّمائَة بِمَنْزِلَة مَا لَو نَص عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ لَو قَالَ أوصيت بِثلث مَالِي لزيد وَعَمْرو لزيد من ذَلِك ألف دِرْهَم فَإِنَّهُ يَجْعَل هَذَا بَيَانا مِنْهُ أَن مَا يبْقى من الثُّلُث لعَمْرو كَمَا لَو نَص عَلَيْهِ وَأما النَّوْع الثَّانِي فنحو سكُوت صَاحب الشَّرْع عَن مُعَاينَة شَيْء عَن تَغْيِيره يكون بَيَانا مِنْهُ لحقيته بِاعْتِبَار حَاله فَإِن الْبَيَان وَاجِب عِنْد الْحَاجة إِلَى الْبَيَان فَلَو كَانَ الحكم بِخِلَافِهِ لبين ذَلِك لَا محَالة وَلَو بَينه لظهر وَكَذَلِكَ سكُوت الصَّحَابَة عَن بَيَان قيمَة الْخدمَة للْمُسْتَحقّ على الْمَغْرُور يكون دَلِيلا على نَفْيه بِدلَالَة حَالهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 لِأَن الْمُسْتَحق جَاءَ يطْلب حكم الْحَادِثَة وَهُوَ جَاهِل بِمَا هُوَ وَاجِب لَهُ وَكَانَت هَذِه أول حَادِثَة وَقعت بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا لم يسمعوا فِيهِ نصا عَنهُ فَكَانَ يجب عَلَيْهِم الْبَيَان بِصفة الْكَمَال وَالسُّكُوت بعد وجوب الْبَيَان دَلِيل النَّفْي وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا ولدت أمة الرجل ثَلَاثَة أَوْلَاد فِي بطُون مُخْتَلفَة فَقَالَ الْأَكْبَر ابْني فَإِنَّهُ يكون ذَلِك بَيَانا مِنْهُ أَن الآخرين ليسَا بولدين لَهُ لِأَن نفي نسب ولد لَيْسَ مِنْهُ وَاجِب وَدَعوى نسب ولد هُوَ مِنْهُ ليتأكد بِهِ على وَجه لَا يَنْتَفِي وَاجِب أَيْضا فالسكوت عَن الْبَيَان بعد تحقق الْوُجُوب دَلِيل النَّفْي فَيجْعَل ذَلِك كالتصريح بِالنَّفْيِ وعَلى هَذَا قُلْنَا الْبكر إِذا بلغَهَا نِكَاح الْوَلِيّ فَسَكَتَتْ يَجْعَل ذَلِك إجَازَة مِنْهَا بِاعْتِبَار حَالهَا فَإِنَّهَا تَسْتَحي فَيجْعَل سكُوتهَا دَلِيلا على جَوَاب يحول الْحيَاء بَينهَا وَبَين التَّكَلُّم بِهِ وَهُوَ الْإِجَازَة الَّتِي يكون فِيهَا إِظْهَار الرَّغْبَة فِي الرِّجَال فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَسْتَحي من ذَلِك وَأما النَّوْع الثَّالِث فنحو سكُوت الْمولى عَن النَّهْي عِنْد رُؤْيَة العَبْد يَبِيع وَيَشْتَرِي فَإِنَّهُ يَجْعَل إِذْنا لَهُ فِي التِّجَارَة لضَرُورَة دفع الْغرُور عَمَّن يُعَامل العَبْد فَإِن فِي هَذَا الْغرُور إِضْرَارًا بهم وَالضَّرَر مَدْفُوع وَلِهَذَا لم يَصح الْحجر الْخَاص بعد الْإِذْن الْعَام الْمُنْتَشِر وَالنَّاس لَا يتمكنون من استطلاع رَأْي الْمولى فِي كل مُعَاملَة يعاملونه مَعَ العَبْد وَإِنَّمَا يتمكنون من التَّصَرُّف بمرأى الْعين مِنْهُ ويستدلون بسكوته على رِضَاهُ فَجعلنَا سُكُوته كالتصريح بِالْإِذْنِ لضَرُورَة دفع الْغرُور وَكَذَلِكَ سكُوت الشَّفِيع عَن طلب الشُّفْعَة بعد الْعلم بِالْبيعِ يَجْعَل بِمَنْزِلَة إِسْقَاط الشُّفْعَة لضَرُورَة دفع الْغرُور عَن المُشْتَرِي فَإِنَّهُ يحْتَاج إِلَى التَّصَرُّف فِي المُشْتَرِي فَإِذا لم يَجْعَل سكُوت الشَّفِيع عَن طلب الشُّفْعَة إِسْقَاطًا للشفعة فإمَّا أَن يمْتَنع المُشْتَرِي من التَّصَرُّف أَو ينْقض الشَّفِيع عَلَيْهِ تصرفه فلدفع الضَّرَر والغرور جعلنَا ذَلِك كالتنصيص مِنْهُ على إِسْقَاط الشُّفْعَة وَإِن كَانَ السُّكُوت فِي أَصله غير مَوْضُوع للْبَيَان بل هُوَ ضِدّه وَكَذَلِكَ نُكُول الْمُدعى عَلَيْهِ عَن الْيَمين يَجْعَل بِمَنْزِلَة الْإِقْرَار مِنْهُ إِمَّا لدفع الضَّرَر عَن الْمُدَّعِي فَيكون من النَّوْع الثَّالِث أَو لحَال الناكل وَهُوَ امْتِنَاعه من الْيَمين الْمُسْتَحقَّة عَلَيْهِ بعد تمكنه من إيفائه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 وَأما النَّوْع الرَّابِع فبيانه فِيمَا إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ مائَة وَدِرْهَم أَو مائَة ودينار فَإِن ذَلِك بَيَان للمائة أَنَّهَا من جنس الْمَعْطُوف عندنَا وَعند الشَّافِعِي يلْزمه الْمَعْطُوف وَالْقَوْل فِي بَيَان جنس الْمِائَة قَوْله وَكَذَلِكَ لَو قَالَ مائَة وقفيز حِنْطَة أَو ذكر مَكِيلًا أَو مَوْزُونا آخر وَاحْتج فَقَالَ إِنَّه أقرّ بِمِائَة مُجملا ثمَّ عطف مَا هُوَ مُفَسّر فَيلْزمهُ الْمُفَسّر وَيرجع إِلَيْهِ فِي بَيَان الْمُجْمل كَمَا لَو قَالَ مائَة وثوب أَو مائَة وشَاة أَو مائَة وَعبد وَهَذَا لِأَن الْمَعْطُوف غير الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فَلَا يكون الْعَطف تَفْسِيرا للمعطوف عَلَيْهِ بِعَيْنِه وَكَيف يكون تَفْسِيرا وَهُوَ فِي نَفسه مقرّ بِهِ لَازم إِيَّاه وَلَو كَانَ تَفْسِيرا لَهُ لم يجب بِهِ شَيْء لِأَن الْوُجُوب بالْكلَام الْمُفَسّر لَا بالتفسير وَلَكنَّا نقُول قَوْله وَدِرْهَم بَيَان للمائة عَادَة وَدلَالَة أما من حَيْثُ الْعَادة فَلِأَن النَّاس اعتادوا حذف مَا هُوَ تَفْسِير عَن الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فِي الْعدَد إِذا كَانَ الْمَعْطُوف مُفَسرًا بِنَفسِهِ كَمَا اعتادوا حذف التَّفْسِير عَن الْمَعْطُوف عَلَيْهِ والاكتفاء بِذكر التَّفْسِير للمعطوف فَإِنَّهُم يَقُولُونَ مائَة وَعشرَة دَرَاهِم على أَن يكون الْكل من الدَّرَاهِم وَإِنَّمَا اعتادوا ذَلِك لضَرُورَة طول الْكَلَام وَكَثْرَة الْعدَد والإيجاز عِنْد ذَلِك طَرِيق مَعْلُوم عَادَة وَإِنَّمَا اعتادوا هَذَا فِيمَا يثبت فِي الذِّمَّة فِي عَامَّة الْمُعَامَلَات كالمكيل وَالْمَوْزُون دون مَا لَا يثبت فِي الذِّمَّة إِلَّا فِي مُعَاملَة خَاصَّة كالثياب فَإِنَّهَا لَا تثبت فِي الذِّمَّة قرضا وَلَا بيعا مُطلقًا وَإِنَّمَا يثبت فِي السّلم أَو فِيمَا هُوَ فِي معنى السّلم كَالْبيع بالثياب الموصوفة مُؤَجّلا وَأما من حَيْثُ الدّلَالَة فَلِأَن الْمَعْطُوف مَعَ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ كشيء وَاحِد من حَيْثُ الحكم وَالْإِعْرَاب بِمَنْزِلَة الْمُضَاف مَعَ الْمُضَاف إِلَيْهِ ثمَّ الْإِضَافَة للتعريف حَتَّى يصير الْمُضَاف مُعَرفا بالمضاف إِلَيْهِ فَكَذَلِك الْعَطف مَتى كَانَ صَالحا للتعريف يصير الْمَعْطُوف عَلَيْهِ مُعَرفا بالمعطوف بِاعْتِبَار أَنَّهُمَا كشيء وَاحِد وَلَكِن هَذَا فِيمَا يجوز أَن يثبت فِي الذِّمَّة عِنْد مُبَاشرَة السَّبَب بِذكر الْمَعْطُوف بالمعطوف عَلَيْهِ كالمكيل وَالْمَوْزُون فَأَما مَا لَيْسَ بمقدر لَا يثبت دينا فِي الذِّمَّة بِذكر الْمَعْطُوف (والمعطوف) عَلَيْهِ مَعَ إِلْحَاق التَّفْسِير بالمعطوف عَلَيْهِ وَلَكِن يحْتَاج إِلَى ذكر شَرَائِط أخر فَلهَذَا لم نجْعَل الْمَعْطُوف عَلَيْهِ مُفَسرًا بالمعطوف هُنَاكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 وَاتَّفَقُوا أَنه لَو قَالَ لفُلَان عَليّ مائَة وَثَلَاثَة دَرَاهِم أَنه تلْزمهُ الْكل من الدَّرَاهِم وَكَذَلِكَ لَو قَالَ مائَة وَثَلَاثَة أَثوَاب أَو ثَلَاثَة أَفْرَاس أَو ثَلَاثَة أعبد لِأَنَّهُ عطف إِحْدَى الجملتين على الْأُخْرَى ثمَّ عقبهما بتفسير والعطف للاشتراك بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فالتفسير الْمَذْكُور يكون تَفْسِيرا لَهما وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لَهُ عَليّ أحد وَعِشْرُونَ درهما فَالْكل دَرَاهِم لِأَنَّهُ عطف الْعدَد الْمُبْهم على مَا هُوَ وَاحِد مَذْكُور على وَجه الْإِبْهَام وَقَوله درهما مَذْكُور على وَجه التَّفْسِير فَيكون تَفْسِيرا لَهما وَالِاخْتِلَاف فِي قَوْله لَهُ مائَة ودرهمان كالاختلاف فِي قَوْله وَدِرْهَم وَقد رُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه إِذا قَالَ لَهُ عَليّ مائَة وثوب أَو مائَة وشَاة فالمعطوف يكون تَفْسِيرا للمعطوف عَلَيْهِ بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ مائَة وَعبد لِأَن فِي قَوْله مائَة وَدِرْهَم إِنَّمَا جَعَلْنَاهُ تَفْسِيرا بِاعْتِبَار أَن الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ كشيء وَاحِد وَهَذَا يتَحَقَّق فِي كل مَا يحْتَمل الْقِسْمَة فَإِن معنى الِاتِّحَاد بالْعَطْف فِي مثله يتَحَقَّق فَأَما مَا لَا يحْتَمل الْقِسْمَة مُطلقًا كَالْعَبْدِ لَا يتَحَقَّق فِيهِ معنى الِاتِّحَاد بِسَبَب الْعَطف فَلَا يصير الْمُجْمل بالمعطوف فِيهِ مُفَسرًا وَالله أعلم بَاب النّسخ جَوَازًا وتفسيرا قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن النَّاس تكلمُوا فِي معنى النّسخ لُغَة فَقَالَ بَعضهم هُوَ عبارَة عَن النَّقْل من قَول الْقَائِل نسخت الْكتاب إِذا نَقله من مَوضِع إِلَى مَوضِع وَقَالَ بَعضهم هُوَ عبارَة عَن الْإِبْطَال من قَوْلهم نسخت الشَّمْس الظل أَي أبطلته وَقَالَ بَعضهم هُوَ عبارَة عَن الْإِزَالَة من قَوْلهم نسخت الرِّيَاح الْآثَار أَي أزالتها وكل ذَلِك مجَاز لَا حَقِيقَة فَإِن حَقِيقَة النَّقْل أَن تحول عين الشَّيْء من مَوضِع إِلَى مَوضِع آخر وَنسخ الْكتاب لَا يكون بِهَذِهِ الصّفة إِذْ لَا يتَصَوَّر نقل عين الْمَكْتُوب من مَوضِع إِلَى مَوضِع آخر وَإِنَّمَا يتَصَوَّر إِثْبَات مثله فِي الْمحل الآخر وَكَذَلِكَ فِي الْأَحْكَام فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر نقل الحكم الَّذِي هُوَ مَنْسُوخ إِلَى ناسخه وَإِنَّمَا المُرَاد إِثْبَات مثله مَشْرُوعا فِي الْمُسْتَقْبل أَو نقل المتعبد من الحكم الأول إِلَى الحكم الثَّانِي وَكَذَلِكَ معنى الْإِزَالَة فَإِن إِزَالَة الْحجر عَن مَكَانَهُ لَا يعْدم عينه وَلَكِن عينه بَاقٍ فِي الْمَكَان الثَّانِي وَبعد النّسخ لَا يبْقى الحكم الأول وَلَو كَانَ حَقِيقَة النّسخ الْإِزَالَة لَكَانَ يُطلق هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 الِاسْم على كل مَا تُوجد فِيهِ الْإِزَالَة وَأحد لَا يَقُول بذلك وَكَذَلِكَ لفظ الْإِبْطَال فَإِن بِالنَّصِّ لَا تبطل الْآيَة وَكَيف تكون حَقِيقَة النّسخ الْإِبْطَال وَقد أطلق الله تَعَالَى ذَلِك فِي الْإِثْبَات بقوله تَعَالَى {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} فَعرفنَا أَن الِاسْم شَرْعِي عَرفْنَاهُ بقوله تَعَالَى {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} وأوجه مَا قيل فِيهِ إِنَّه عبارَة عَن التبديل من قَول الْقَائِل نسخت الرسوم أَي بدلت برسوم أخر وَقد استبعد هَذَا الْمَعْنى بعض من صنف فِي هَذَا الْبَاب من مَشَايِخنَا وَقَالَ فِي إِطْلَاق لفظ التبديل إِشَارَة إِلَى أَنه رفع الحكم الْمَنْسُوخ وَإِقَامَة النَّاسِخ مقَامه وَفِي ذَلِك إِيهَام البداء وَالله تَعَالَى يتعالى عَن ذَلِك قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَعِنْدِي أَن هَذَا سَهْو مِنْهُ وَعبارَة التبديل مَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْقُرْآن قَالَ تَعَالَى {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة} وَإِذا كَانَ اسْم النّسخ شَرْعِيًّا مَعْلُوما بِالنَّصِّ فَجعله عبارَة عَمَّا يكون مَعْلُوما بِالنَّصِّ أَيْضا يكون أولى الْوُجُوه ثمَّ هُوَ فِي حق الشَّارِع بَيَان مَحْض فَإِن الله تَعَالَى عَالم بحقائق الْأُمُور لَا يعزب عَنهُ مِثْقَال ذرة ثمَّ إِطْلَاق الْأَمر بِشَيْء يوهمنا بَقَاء ذَلِك على التَّأْبِيد من غير أَن نقطع القَوْل بِهِ فِي زمن من ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي فَكَانَ النّسخ بَيَانا لمُدَّة الحكم الْمَنْسُوخ فِي حق الشَّارِع وتبديلا لذَلِك الحكم بِحكم آخر فِي حَقنا على مَا كَانَ مَعْلُوما عندنَا لَو لم ينزل النَّاسِخ بِمَنْزِلَة الْقَتْل فَإِنَّهُ انْتِهَاء الْأَجَل فِي حق من هُوَ عَالم بعواقب الْأُمُور لِأَن الْمَقْتُول ميت بأجله بِلَا شُبْهَة وَلَكِن فِي حق الْقَاتِل جعل فعله جِنَايَة على معنى أَنه يعْتَبر فِي حَقه حَتَّى يسْتَوْجب بِهِ الْقصاص وَإِن كَانَ ذَلِك موتا بالأجل الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} وَمن فهم معنى التبديل بِهَذِهِ الصّفة عرف أَنه لَيْسَ فِيهِ من إِيهَام البداء شَيْء ثمَّ الْمَذْهَب عِنْد الْمُسلمين أَن النّسخ جَائِز فِي الْأَمر وَالنَّهْي الَّذِي يجوز أَن يكون ثَابتا وَيجوز أَن لَا يكون على مَا نبينه فِي فصل مَحل النّسخ وعَلى قَول الْيَهُود النّسخ لَا يجوز أصلا وهم فِي ذَلِك فريقان فريق مِنْهُم يَأْبَى النّسخ عقلا وفريق يَأْبَى جَوَازه سمعا وتوقيفا وَقد قَالَ بعض من لَا يعْتد بقوله من الْمُسلمين إِنَّه لَا يجوز النّسخ أَيْضا وَرُبمَا قَالُوا لم يرد النّسخ فِي شَيْء أصلا وَلَا وَجه لِلْقَوْلِ الأول إِذا كَانَ الْقَائِل مِمَّن يعْتَقد الْإِسْلَام فَإِن شَرِيعَة هَذَا القَوْل مِنْهُ مَعَ اعْتِقَاده لهَذِهِ الشَّرِيعَة وَالثَّانِي بَاطِل نصا فَإِن قَوْله تَعَالَى {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ناسخة لما قبلهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 من الشَّرَائِع فَكيف يتَحَقَّق {بِخَير مِنْهَا} وَقَوله {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة} نَص قَاطع على جَوَاز النّسخ وانتساخ التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس بفرضية التَّوَجُّه إِلَى الْكَعْبَة أَمر ظَاهر لَا يُنكره عَاقل فَقَوْل من يَقُول لم يُوجد بَاطِل من هَذَا الْوَجْه فَأَما من قَالَ من الْيَهُود إِنَّه لَا يجوز بطرِيق التَّوْقِيف اسْتدلَّ بِمَا يرْوى عَن مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ تمسكوا بالسبت مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَزَعَمُوا أَن هَذَا مَكْتُوب فِي التَّوْرَاة عِنْدهم وَقَالُوا قد ثَبت عندنَا بِالطَّرِيقِ الْمُوجب للْعلم وَهُوَ خبر التَّوَاتُر عَن مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن شريعتي لَا تنسخ كَمَا تَزْعُمُونَ أَنْتُم أَن ذَلِك ثَبت عنْدكُمْ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر عَمَّن تَزْعُمُونَ أَنه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِهَذَا الطَّرِيق طعنوا فِي رِسَالَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالُوا من أجل الْعَمَل فِي السبت لَا يجوز تَصْدِيقه وَلَا يجوز أَن يَأْتِي بمعجزة تدل على صدقه وَمن أنكر مِنْهُم ذَلِك عقلا قَالَ الْأَمر بالشَّيْء دَلِيل على حسن الْمَأْمُور بِهِ وَالنَّهْي عَن الشَّيْء دَلِيل على قبح الْمنْهِي عَنهُ وَالشَّيْء الْوَاحِد لَا يجوز أَن يكون حسنا وقبيحا فَالْقَوْل بِجَوَاز النّسخ قَول بِجَوَاز البداء وَذَلِكَ إِنَّمَا يتَصَوَّر مِمَّن يجهل عواقب الْأُمُور وَالله تَعَالَى يتعالى عَن ذَلِك يُوضحهُ أَن مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي التَّأْبِيد فِي الحكم وَكَذَلِكَ مُطلق النَّهْي وَلِهَذَا حسن منا اعْتِقَاد التَّأْبِيد فِيهِ فَيكون ذَلِك بِمَنْزِلَة التَّصْرِيح بالتأبيد وَلَو ورد نَص بِأَن الْعَمَل فِي السبت حرَام عَلَيْكُم أبدا لم يجز نسخه بعد ذَلِك بِحَال فَكَذَلِك إِذا ثَبت التَّأْبِيد بِمُقْتَضى مُطلق الْأَمر إِذْ لَو كَانَ ذَلِك موقتا كَمَا قُلْتُمْ لَكَانَ تَمام الْبَيَان فِيهِ بالتنصيص على التَّوْقِيت فَمَا كَانَ يحسن إِطْلَاقه عَن ذكر التَّوْقِيت وَفِي ذَلِك إِيهَام الْخلَل فِيمَا بَينه الله تَعَالَى فَلَا يجوز القَوْل بِهِ أصلا وَحجَّتنَا فِيهِ من طَرِيق التَّوْقِيف اتِّفَاق الْكل على أَن جَوَاز النِّكَاح بَين الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات قد كَانَ فِي شَرِيعَة آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَبِه حصل الْمَرْء قد كَانَ فِي شَرِيعَته فَإِن حَوَّاء رَضِي الله عَنْهَا خلقت مِنْهُ وَكَانَ يسْتَمْتع بهَا ثمَّ انتسخ ذَلِك الحكم حَتَّى لَا يجوز لأحد أَن يسْتَمْتع بِمن هُوَ بعض مِنْهُ بِالنِّكَاحِ نَحْو ابْنَته وَلِأَن الْيَهُود مقرون بِأَن يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام حرم شَيْئا من المطعومات على نَفسه وَأَن ذَلِك صَار حَرَامًا عَلَيْهِم كَمَا أخبرنَا الله تَعَالَى بِهِ فِي قَوْله {كل الطَّعَام كَانَ حلا لبني إِسْرَائِيل إِلَّا} مَا التناسل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 وَقد انتسخ ذَلِك بعده وَكَذَلِكَ جَوَاز الِاسْتِمْتَاع بِمن هُوَ بعض من {حرم إِسْرَائِيل على نَفسه} الْآيَة والنسخ لَيْسَ إِلَّا تَحْرِيم الْمُبَاح أَو إِبَاحَة الْحَرَام وَكَذَلِكَ الْعَمَل فِي السبت كَانَ مُبَاحا قبل زمن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُم يوافقوننا على أَن حُرْمَة الْعَمَل فِي السبت من شَرِيعَة مُوسَى وَإِنَّمَا يكون من شَرِيعَته إِذا كَانَ ثُبُوته بنزول الْوَحْي عَلَيْهِ فَأَما إِذا كَانَ ذَلِك قبل شَرِيعَته على هَذَا الْوَجْه أَيْضا فَلَا فَائِدَة فِي تَخْصِيصه أَنه شَرِيعَته فَإِذا جَازَ ثُبُوت الْحُرْمَة فِي شَرِيعَته بعد مَا كَانَ مُبَاحا جَازَ ثُبُوت الْحل فِي شَرِيعَة نَبِي آخر قَامَت الدّلَالَة على صِحَة نبوته وَمن حَيْثُ الْمَعْقُول الْكَلَام من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن النّسخ فِي المشروعات الَّتِي يجوز أَن تكون مَشْرُوعا وَيجوز أَن لَا تكون وَمَعْلُوم أَن هَذِه المشروعات شرعها الله تَعَالَى على سَبِيل الِابْتِلَاء لِعِبَادِهِ حَتَّى يُمَيّز الْمُطِيع من العَاصِي وَمعنى الِابْتِلَاء يخْتَلف باخْتلَاف أَحْوَال النَّاس وباختلاف الْأَوْقَات فَإِن فِي هَذَا الِابْتِلَاء حِكْمَة بَالِغَة وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا مَنْفَعَة للعباد فِي ذَلِك عَاجلا أَو آجلا لِأَن الله تَعَالَى يتعالى عَن أَن يلْحقهُ المضار وَالْمَنَافِع وَمَا لَا مَنْفَعَة فِيهِ أصلا يكون عَبَثا ضدا للحكمة ثمَّ قد تكون الْمَنْفَعَة فِي إِثْبَات شَيْء فِي وَقت وَفِي نَفْيه فِي وَقت آخر كإيجاب الصَّوْم فِي النَّهَار إِلَى غرُوب الشَّمْس أَو طُلُوع النُّجُوم كَمَا هُوَ مَذْهَبهم وَنفي الصَّوْم بعد ذَلِك وَيخْتَلف ذَلِك باخْتلَاف أَحْوَال النَّاس كوجوب اعتزال الْمَرْأَة فِي حَالَة الْحيض وَانْتِفَاء ذَلِك بَعْدَمَا طهرت أَلا ترى أَنه لَو نَص على ذكر الْوَقْت فِيهِ بِأَن قَالَ حرمت عَلَيْكُم الْعَمَل فِي السبت ألف سنة ثمَّ هُوَ مُبَاح بعد ذَلِك كَانَ مُسْتَقِيمًا وَكَانَ معنى الِابْتِلَاء فِيهِ متحققا وَلم يكن فِيهِ من معنى البداء شَيْء فَكَذَلِك عِنْد إِطْلَاق اللَّفْظ فِي التَّحْرِيم حِين شَرعه لَا يكون فِيهِ من معنى البداء شَيْء بل يكون امتحانا للمخاطبين فِي الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ بِمَنْزِلَة تَبْدِيل الصِّحَّة بِالْمرضِ وَالْمَرَض بِالصِّحَّةِ وتبديل الْغنى بالفقر والفقر بالغنى فَإِن ذَلِك ابتلاء بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا إِلَيْهِ أَشَارَ الله تَعَالَى فِيمَا أنزلهُ على نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ {إِنَّا خلقنَا الْإِنْسَان من نُطْفَة أمشاج نبتليه} وَالثَّانِي أَن ثمَّ النّسخ بعد ذَلِك إِذا انْتَهَت مُدَّة التَّحْرِيم الَّذِي كَانَ مَعْلُوما عِنْد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 الشَّارِع النّسخ بَيَان مُدَّة بَقَاء الحكم وَذَلِكَ غيب عَنَّا لَو بَينه لنا فِي وَقت الْأَمر كَانَ حسنا لَا يشوبه من معنى الْقبْح شَيْء فَكَذَلِك إِذا بَينه بعد ذَلِك بالنسخ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن النّسخ إِنَّمَا يكون فِيمَا يجوز أَن يكون مَشْرُوعا وَيجوز أَن لَا يكون مَشْرُوعا وَمَعَ الشَّرْع مُطلقًا يحْتَمل أَن يكون موقتا وَيحْتَمل أَن يكون مُؤَبَّدًا احْتِمَالا على السوَاء لِأَن الْأَمر يَقْتَضِي كَونه مَشْرُوعا من غير أَن يكون مُوجبا بَقَاءَهُ مَشْرُوعا وَإِنَّمَا الْبَقَاء بعد الثُّبُوت بِدَلِيل آخر سبق أَو بِعَدَمِ الدَّلِيل المزيل فَأَما أَن يكون ذَلِك وَاجِبا بِالْأَمر فَلَا لِأَن إحْيَاء الشَّرِيعَة بِالْأَمر بِهِ كإحياء الشَّخْص وَذَلِكَ لَا يُوجب بَقَاءَهُ وَإِنَّمَا يُوجب وجوده ثمَّ الْبَقَاء بعد ذَلِك بإبقاء الله تَعَالَى إِيَّاه أَو بانعدام سَبَب الفناء فَكَمَا أَن الإماتة بعد الْإِحْيَاء لَا يكون فِيهِ شَيْء من معنى الْقبْح وَلَا يكون دَلِيل البداء وَالْجهل بعواقب الْأُمُور بل يكون ذَلِك بَيَانا لمُدَّة بَقَاء الْحَيَاة الَّذِي كَانَ مَعْلُوما عِنْد الْخَالِق حِين خلقه وَإِن كَانَ ذَلِك غيبا عَنَّا فَكَذَلِك النّسخ فِي حكم الشَّرْع فَإِن قيل فعلى هَذَا بَقَاء الحكم قبل أَن يظْهر ناسخه لَا يكون مَقْطُوعًا بِهِ لِأَنَّهُ مَا لم يكن هُنَاكَ دَلِيل مُوجب لَهُ لَا يكون مَقْطُوعًا بِهِ وَلَا دَلِيل سوى الْأَمر بِهِ قُلْنَا أما فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَذَلِك نقُول بَقَاءَهُ بعد الْأَمر إِنَّمَا يكون باستصحاب الْحَال لجَوَاز نزُول الْوَحْي بِمَا ينسخه وَيبين بِهِ مُدَّة بَقَائِهِ إِلَّا أَن الْوَاجِب علينا التَّمَسُّك بِمَا ظهر عندنَا لَا بِمَا هُوَ غيب عَنَّا فَمَا لم تظهر لنا مُدَّة الْبَقَاء بنزول النَّاسِخ يلْزمنَا الْعَمَل بِهِ وَكَذَلِكَ بعد نزُول النَّاسِخ قبل أَن يعلم الْمُخَاطب بِهِ وَهُوَ نَظِير حَيَاة الْمَفْقُود بَعْدَمَا غَابَ عَنَّا فَإِنَّهُ يكون ثَابتا باستصحاب الْحَال لَا بِدَلِيل مُوجب لبَقَائه حَيا وَلَكنَّا نجعله فِي حكم الْأَحْيَاء بِنَاء على مَا ظهر لنا حَتَّى يتَبَيَّن انْتِهَاء مُدَّة حَيَاته بِظُهُور مَوته فَأَما بعد وَفَاة الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 فَلم يبْق احْتِمَال النّسخ وَصَارَ الْبَقَاء ثَابتا بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ وَهُوَ أَن النّسخ لَا يكون إِلَّا على لِسَان من ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي وَلَا توهم لذَلِك بَعْدَمَا قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن قيل فعلى هَذَا لَا يكون النّسخ فِي أصل الْأَمر لِأَن الحكم الثَّابِت بِالْأَمر غير الْأَمر فببيان مدَّته لَا يثبت تَبْدِيل الْأَمر بِالنَّهْي قُلْنَا وَهَكَذَا نقُول فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي النّسخ تعرض لِلْأَمْرِ بِوَجْه من الْوُجُوه بل للْحكم الثَّابِت بِهِ ظَاهرا بِنَاء على مَا هُوَ مَعْلُوم لنا فَإِنَّهُ كَانَ يجوز الْبَقَاء بعد هَذِه الْمدَّة بِاعْتِبَار الْإِطْلَاق الَّذِي كَانَ عندنَا فَأَما فِي حق الشَّارِع فَهُوَ بَيَان مُدَّة الحكم كَمَا كَانَ مَعْلُوما لَهُ حَقِيقَة وَلَا يتَحَقَّق مِنْهُ توهم التَّعَرُّض لِلْأَمْرِ وَلَا لحكمه كالإماتة بعد الْإِحْيَاء فَإِنَّهُ بَيَان الْمدَّة من غير أَن يكون فِيهِ تعرض لأصل الْإِحْيَاء وَلَا لما يبتنى عَلَيْهِ من مُدَّة الْبَقَاء فاعتبار مَا هُوَ ظَاهر لنا يكون فِيهِ تَبْدِيل صفة الْحَيَاة بِصفة الْوَفَاة وَإِنَّمَا تتَحَقَّق الْمُنَافَاة بَين الْقبْح وَالْحسن فِي مَحل وَاحِد فِي وَقت وَاحِد فَأَما فِي وَقْتَيْنِ ومحلين فَلَا يتَحَقَّق ذَلِك أَلا ترى أَنه لَا يتَوَجَّه الْخطاب على من لَا يعقل من صبي أَو مَجْنُون ثمَّ يتَوَجَّه عَلَيْهِ الْخطاب بَعْدَمَا عقل وَيكون كل وَاحِد مِنْهُمَا حسنا لاخْتِلَاف الْوَقْت أَو لاخْتِلَاف الْمحل وَهَذَا لِأَن أحوالنا تتبدل فَيكون النّسخ تبديلا بِنَاء على مَا يتبدل من أحوالنا من الْعلم مُدَّة الْبَقَاء وَالْجهل بِهِ لَا يكون مُؤديا إِلَى الْجمع بَين صفة الْقبْح وَالْحسن وَالله يتعالى عَن ذَلِك فَكَانَ فِي حَقه بَيَانا مَحْضا لمُدَّة بَقَاء الْمَشْرُوع بِمَنْزِلَة الْمَنْصُوص عَلَيْهِ حِين شَرعه وَمَا استدلوا بِهِ من السّمع لَا يكَاد يَصح عندنَا بَعْدَمَا ثَبت رِسَالَة رسل بعد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام بِالْآيَاتِ المعجزة والدلائل القاطعة ودعواهم أَن ذَلِك فِي التَّوْرَاة غير مسموعة مِنْهُم لِأَنَّهُ ثَبت عندنَا على لِسَان من ثبتَتْ رسَالَته أَنهم حرفوا التَّوْرَاة وَزَادُوا فِيهَا ونقصوا وَلِأَن كَلَام الله تَعَالَى لَا يثبت إِلَّا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر وَذَلِكَ لَا يُوجد فِي التَّوْرَاة بَعْدَمَا فعل بخْتنصر ببني إِسْرَائِيل مَا فعل من الْقَتْل الذريع وإحراق أسفار التَّوْرَاة وَفِي الْمَسْأَلَة كَلَام كثير بَين أهل الْأُصُول وَلَكنَّا اقتصرنا هُنَا على قدر مَا يتَّصل بأصول الْفِقْه وَالْمَقْصُود من بَيَان هَذِه الْمَسْأَلَة هُنَا مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا من أصُول الْفِقْه وَالله الْمُوفق للإتمام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 فصل فِي بَيَان مَحل النّسخ قد بَينا أَن جَوَاز النّسخ مُخْتَصّ بِمَا يجوز أَن يكون مَشْرُوعا وَيجوز أَن لَا يكون مَشْرُوعا وَهُوَ مِمَّا يحْتَمل التَّوْقِيت نصا مَعَ كَونه مَشْرُوعا لِأَنَّهُ بَيَان مُدَّة بَقَاء الحكم وَبعد انْتِهَاء الْمدَّة لَا يبْقى مَشْرُوعا فَلَا بُد من أَن يكون فِيهِ احْتِمَال الوصفين وَبِهَذَا الْبَيَان يظْهر أَنه إِذا كَانَ موقتا فَلَا بُد من أَن يكون مُحْتملا للتوقيت نصا وَفِي هَذَا بَيَان أَنه لَيْسَ فِي أصل التَّوْحِيد احْتِمَال النّسخ بِوَجْه من الْوُجُوه لِأَن الله تَعَالَى بأسمائه وَصِفَاته لم يزل كَانَ وَلَا يزَال يكون وَمن صِفَاته أَنه صَادِق حَكِيم عَالم بحقائق الْأُمُور فَلَا احْتِمَال للنسخ فِي هَذَا بِوَجْه من الْوُجُوه أَلا ترى أَن الْأَمر بِالْإِيمَان بِاللَّه وَكتبه وَرُسُله لَا يحْتَمل التَّوْقِيت بِالنَّصِّ وَأَنه لَا يجوز أَن يكون غير مَشْرُوع بِحَال من الْأَحْوَال وعَلى هَذَا قَالَ جُمْهُور الْعلمَاء لَا نسخ فِي الْأَخْبَار أَيْضا يعنون فِي مَعَاني الْأَخْبَار واعتقاد كَون الْمخبر بِهِ على مَا أخبر بِهِ الصَّادِق الْحَكِيم بِخِلَاف مَا يَقُوله بعض أهل الزيغ من احْتِمَال النّسخ فِي الْأَخْبَار الَّتِي تكون فِي الْمُسْتَقْبل لظَاهِر قَوْله تَعَالَى {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت} وَلَكنَّا نقُول الْأَخْبَار ثَلَاثَة خبر عَن وجود مَا هُوَ مَاض وَذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال التَّوْقِيت وَلَا احْتِمَال أَن لَا يكون مَوْجُودا وَخبر عَمَّا هُوَ مَوْجُود فِي الْحَال وَلَيْسَ فِيهِ هَذَا الِاحْتِمَال أَيْضا وَخبر عَمَّا هُوَ كَائِن فِي الْمُسْتَقْبل نَحْو الْإِخْبَار بِقِيَام السَّاعَة وَلَيْسَ فِيهِ احْتِمَال مَا بَينا من التَّرَدُّد فتجويز النّسخ فِي شَيْء من ذَلِك يكون قولا بتجويز الْكَذِب والغلط على الْمخبر بِهِ أَلا ترى أَنه لَا يَسْتَقِيم أَن يُقَال اعتقدوا الصدْق فِي هَذَا الْخَبَر إِلَى وَقت كَذَا ثمَّ اعتقدوا فِيهِ الْكَذِب بعد ذَلِك وَالْقَوْل بِجَوَاز النّسخ فِي مَعَاني الْأَخْبَار يُؤَدِّي إِلَى هَذَا لَا محَالة وَهُوَ البداء وَالْجهل الَّذِي تدعيه الْيَهُود فِي أصل النّسخ فَأَما قَوْله تَعَالَى {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت} فقد فسره الْحسن رَضِي الله عَنهُ بِالْإِحْيَاءِ والإماتة وَفَسرهُ زيد بن أسلم رَضِي الله عَنهُ قَالَ {يمحو الله مَا يَشَاء} مِمَّا أنزلهُ من الْوَحْي {وَيثبت} بإنزال الْوَحْي فِيهِ فعلى هَذَا يتَبَيَّن أَن المُرَاد مَا يجوز أَن يكون مؤقتا أَو أَن المُرَاد التِّلَاوَة وَنحن نجوز ذَلِك فِي الْأَخْبَار أَيْضا بِأَن تتْرك التِّلَاوَة فِيهِ حَتَّى يندرس وينعدم حفظه من قُلُوب الْعباد كَمَا فِي الْكتب الْمُتَقَدّمَة وَإِنَّمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 لَا يجوز ذَلِك فِي مَعَاني الْأَخْبَار على مَا قَررنَا وَإِنَّمَا مَحل النّسخ الْأَحْكَام الْمَشْرُوعَة بِالْأَمر وَالنَّهْي مِمَّا يجوز أَن لَا يكون مَشْرُوعا وَيجوز أَن يكون مَشْرُوعا موقتا وَذَلِكَ يَنْقَسِم أَرْبَعَة أَقسَام قسم مِنْهُ مَا هُوَ مؤبد بِالنَّصِّ وَقسم مِنْهُ مَا يثبت التَّأْبِيد فِيهِ بِدلَالَة النَّص وَقسم مِنْهُ مَا هُوَ موقت بِالنَّصِّ فَهَذِهِ الْأَقْسَام الثَّلَاثَة لَيْسَ فِيهَا احْتِمَال النّسخ أَيْضا وَإِنَّمَا احْتِمَال النّسخ فِي الْقسم الرَّابِع وَهُوَ الْمُطلق الَّذِي يحْتَمل أَن يكون موقتا وَيحْتَمل أَن يكون مُؤَبَّدًا احْتِمَالا على السوَاء فَأَما بَيَان الْقسم الأول فِي قَوْله تَعَالَى {وجاعل الَّذين اتبعوك فَوق الَّذين كفرُوا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة} فَفِيهِ تنصيص على التَّأْبِيد وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {خَالِدين فِيهَا أبدا} لِأَن بعد التَّنْصِيص على التَّأْبِيد بَيَان التَّوْقِيت فِيهِ بالنسخ لَا يكون إِلَّا على وَجه البداء وَظُهُور الْغَلَط وَالله تَعَالَى يتعالى عَن ذَلِك وَمَا ثَبت التَّأْبِيد فِيهِ بِدلَالَة النَّص فبيانه فِي الشَّرَائِع بَعْدَمَا قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُسْتَقرًّا عَلَيْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا احْتِمَال النّسخ لِأَن النّسخ لَا يكون إِلَّا على لِسَان من ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي وَقد ثَبت بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ أَن رَسُول الله خَاتم النَّبِيين وَأَنه لَا نسخ لشريعته فَلَا يبْقى احْتِمَال النّسخ بعد هَذِه الدّلَالَة فِيمَا كَانَ شَرِيعَة لَهُ حِين قبض وَنَظِيره من الْمَخْلُوقَات الدَّار الْآخِرَة فقد ثَبت بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ أَنه لَا فنَاء لَهَا وَأما الْقسم الثَّالِث فبيانه فِي قَول الْقَائِل أَذِنت لَك فِي أَن تفعل كَذَا إِلَى مائَة سنة فَإِن النَّهْي قبل مُضِيّ تِلْكَ الْمدَّة يكون من بَاب البداء ويتبين بِهِ أَن الْإِذْن الأول كَانَ غَلطا مِنْهُ لجهله بعاقبة الْأَمر والنسخ الَّذِي يكون مُؤديا إِلَى هَذَا لَا يجوز القَوْل بِهِ فِي أَحْكَام الشَّرْع وَلم يرد شرع بِهَذِهِ الصّفة فَأَما الْقسم الرَّابِع فبيانه فِي الْعِبَادَات الْمَفْرُوضَة شرعا عِنْد أَسبَاب جعلهَا الشَّرْع سَببا لذَلِك فَإِنَّهَا تحْتَمل التَّوْقِيت نصا يَعْنِي فِي الْأَدَاء اللَّازِم بِاعْتِبَار الْأَمر وَفِي الْأَسْبَاب الَّتِي جعلهَا الله تَعَالَى سَببا لذَلِك فَإِنَّهُ لَو قَالَ جعلت زَوَال الشَّمْس سَببا لوُجُوب صَلَاة الظّهْر عَلَيْكُم إِلَى وَقت كَذَا كَانَ مُسْتَقِيمًا وَلَو قَالَ جعلت شُهُود الشَّهْر سَببا لوُجُوب الصَّوْم عَلَيْكُم إِلَى وَقت كَذَا كَانَ مُسْتَقِيمًا وَهَذَا كُله فِي الأَصْل مِمَّا يجوز أَن يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 مَشْرُوعا وَيجوز أَن لَا يكون فَكَانَ النّسخ فِيهِ بَيَانا لمُدَّة بَقَاء الحكم وَذَلِكَ جَائِز بِاعْتِبَار مَا بَينا من الْمَعْنيين أَحدهمَا أَن معنى الِابْتِلَاء وَالْمَنْفَعَة للعباد فِي شَيْء يخْتَلف باخْتلَاف الْأَوْقَات وَاخْتِلَاف النَّاس فِي أَحْوَالهم وَالثَّانِي أَن دَلِيل الْإِيجَاب غير مُوجب للبقاء بِمَنْزِلَة البيع يُوجب الْملك فِي الْمَبِيع للْمُشْتَرِي وَلَا يُوجب بَقَاء الْملك بل بَقَاؤُهُ بِدَلِيل آخر مبق أَو بِعَدَمِ دَلِيل المزيل وَهُوَ مُوجب الثّمن فِي ذمَّة المُشْتَرِي وَلَا يُوجب بَقَاء الثّمن فِي ذمَّته لَا محَالة وَلَا يكون فِي النّسخ تعرضا لِلْأَمْرِ وَلَا للْحكم الَّذِي هُوَ مُوجبه وَامْتِنَاع جَوَاز النّسخ فِيمَا تقدم من الْأَقْسَام كَانَ لِاجْتِمَاع معنى الْقبْح وَالْحسن وَإِنَّمَا يتَحَقَّق ذَلِك فِي وَقت وَاحِد لَا فِي وَقْتَيْنِ حَتَّى إِن مَا يكون حسنا لعَينه لَا يجوز أَن يكون قبيحا لعَينه بِوَجْه من الْوُجُوه فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن الْخَلِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِذبح وَلَده وَكَانَ الْأَمر دَلِيلا على حسن ذبحه ثمَّ انتسخ ذَلِك فَكَانَ مَنْهِيّا عَن ذبحه مَعَ قيام الْأَمر حَتَّى وَجب ذبح الشَّاة فدَاء عَنهُ وَلَا شكّ أَن النَّهْي عَن ذبح الْوَلَد الَّذِي بِهِ يثبت الانتساخ كَانَ دَلِيلا على قبحه وَقد قُلْتُمْ باجتماعهما فِي وَقت وَاحِد قُلْنَا لَا كَذَلِك فَإنَّا لَا نقُول بِأَنَّهُ انتسخ الحكم الَّذِي كَانَ ثَابتا بِالْأَمر وَكَيف يُقَال بِهِ وَقد سَمَّاهُ الله محققا رُؤْيَاهُ بقوله تَعَالَى {وناديناه أَن يَا إِبْرَاهِيم قد صدقت الرُّؤْيَا} أَي حققت مَا أمرت بِهِ وَبعد النّسخ لَا يكون هُوَ محققا مَا أَمر بِهِ وَلَكنَّا نقُول الشَّاة كَانَت فدَاء كَمَا نَص الله عَلَيْهِ فِي قَوْله {وفديناه بِذبح عَظِيم} على معنى أَنه يقدم على الْوَلَد فِي قبُول حكم الْوُجُوب بعد أَن كَانَ الْإِيجَاب بِالْأَمر مُضَافا إِلَى الْوَلَد حَقِيقَة كمن يَرْمِي سَهْما إِلَى غَيره فيفديه آخر بِنَفسِهِ بِأَن يتَقَدَّم عَلَيْهِ حَتَّى ينفذ فِيهِ بعد أَن يكون خُرُوج السهْم من الرَّامِي إِلَى الْمحل الَّذِي قَصده وَإِذا كَانَ فدَاء من هَذَا الْوَجْه كَانَ هُوَ ممتثلا للْحكم الثَّابِت بِالْأَمر فَلَا يَسْتَقِيم القَوْل بالنسخ فِيهِ لِأَن ذَلِك يبتنى على النَّهْي الَّذِي هُوَ ضد الْأَمر فَلَا يتَصَوَّر اجْتِمَاعهمَا فِي وَقت وَاحِد فَإِن قيل فإيش الْحِكْمَة فِي إِضَافَة الْإِيجَاب إِلَى الْوَلَد إِذا لم يجب بِهِ ذبح الْوَلَد قُلْنَا فِيهِ تَحْقِيق معنى الِابْتِلَاء فِي حق الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى يظْهر مِنْهُ الانقياد والاستسلام وَالصَّبْر على مَا بِهِ من حرقة الْقلب على وَلَده وَفِي حق الْوَلَد بِالصبرِ والمجاهدة على معرة الذّبْح إِلَى حَال المكاشفة لرب الْعَالمين وللولد بِأَن يكون قربانا لله وَإِلَيْهِ أَشَارَ الله تَعَالَى فِي قَوْله {فَلَمَّا أسلما} ثمَّ اسْتَقر حكم الْوُجُوب فِي الشَّاة بطرِيق الْفِدَاء وَفِيه إِظْهَار معنى الْكَرَامَة والفضيلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 للخليل عَلَيْهِ السَّلَام بِالْإِسْلَامِ للْوَلَد كَمَا قَالَ {وفديناه بِذبح عَظِيم} وَالْفِدَاء اسْم لما يكون وَاجِبا بِالسَّبَبِ الْمُوجب للْأَصْل فبه يتَبَيَّن انعدام النّسخ هُنَا لِانْعِدَامِ رُكْنه فَإِنَّهُ بَيَان مُدَّة بَقَاء الْوَاجِب وَحين وَجَبت الشَّاة فدَاء كَانَ الْوَاجِب قَائِما وَالْولد حرَام الذّبْح فَعرفنَا أَنه لَا وَجه لِلْقَوْلِ بِأَنَّهُ كَانَ نسخا ثمَّ على مَذْهَب عُلَمَائِنَا يجوز نسخ الأخف بالأثقل كَمَا يجوز نسخ الأثقل بالأخف وَذكر الشَّافِعِي فِي كتاب الرسَالَة أَن الله تَعَالَى فرض فَرَائض أثبتها وَأُخْرَى نسخهَا رَحْمَة وتخفيفا لِعِبَادِهِ فَزعم بعض أَصْحَابه أَنه أَشَارَ بِهَذَا إِلَى وَجه الْحِكْمَة فِي النّسخ وَقَالَ بَعضهم بل أَرَادَ بِهِ أَن النَّاسِخ أخف من الْمَنْسُوخ وَكَانَ لَا يجوز نسخ الأخف بالأثقل وَاسْتَدَلُّوا فِيهِ بقوله تَعَالَى {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا} وبالاتفاق لَيْسَ المُرَاد أَن النَّاسِخ أفضل من الْمَنْسُوخ فَعرفنَا أَن المُرَاد أَنه خير من حَيْثُ إِنَّه أخف وَعَلِيهِ نَص فِي مَوضِع آخر فَقَالَ {الْآن خفف الله عَنْكُم} الْآيَة وَلَكنَّا نستدل بقوله {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت} فالتقييد بِكَوْن النَّاسِخ أخف من الْمَنْسُوخ يكون زِيَادَة على هَذَا النَّص من غير دَلِيل ثمَّ الْمَعْنى الَّذِي دلّ على جَوَاز النّسخ وَهُوَ مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ من الِابْتِلَاء وَالنَّقْل إِلَى مَا فِيهِ مَنْفَعَة لنا عَاجلا أَو آجلا لَا يفصل بَينهمَا فقد يكون الْمَنْفَعَة تَارَة فِي النَّقْل إِلَى مَا هُوَ أخف على الْبدن وَتارَة فِي النَّقْل إِلَى مَا هُوَ أشق على الْبدن أَلا ترى أَن الطَّبِيب ينْقل الْمَرِيض من الْغذَاء إِلَى الدَّوَاء تَارَة وَمن الدَّوَاء إِلَى الْغذَاء تَارَة بِحَسب مَا يعلم من منفعَته فِيهِ ثمَّ هُوَ بَيَان مُدَّة بَقَاء الحكم على وَجه لَو كَانَ مَقْرُونا بِالْأَمر لَكَانَ صَحِيحا مُسْتَقِيمًا وَفِي هَذَا لَا فرق بَين الأثقل والأخف وَلَا حجَّة لَهُم فِي قَوْله {الْآن خفف الله عَنْكُم} فَإِن النّسخ فِي ذَلِك الحكم بِعَيْنِه كَانَ نقلا من الأثقل إِلَى الأخف وَهَذَا يدل على أَن كل نسخ يكون بِهَذِهِ الصّفة أَلا ترى أَن حد الزِّنَا كَانَ فِي الِابْتِدَاء هُوَ الْحَبْس والأذى بِاللِّسَانِ ثمَّ انتسخ ذَلِك بِالْجلدِ وَالرَّجم وَلَا شكّ أَن النَّاسِخ أثقل على الْبدن وَجَاء عَن معَاذ وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَن تَصُومُوا خير لكم} أَن حكمه كَانَ هُوَ التَّخْيِير للصحيح بَين الصَّوْم والفدية ثمَّ انتسخ ذَلِك بفرضية الصَّوْم عزما بقوله تَعَالَى {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} ثمَّ لَا شكّ أَنه قد افْترض على الْعباد بعض مَا كَانَ مَشْرُوعا لَا بِصفة الْفَرْضِيَّة وإلزام مَا كَانَ مُبَاحا يكون أشق لَا محَالة وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَنه لَيْسَ المُرَاد من قَوْله {نأت بِخَير مِنْهَا} الأخف على وانتسخ حكم إِبَاحَة الْخمر بِالتَّحْرِيمِ وَهُوَ أشق على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 الْبدن الْبدن فَإِن الْحَج مَا كَانَ لَازِما قبل نزُول قَوْله تَعَالَى {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} وَكَانَ كل مُسلم مَنْدُوبًا إِلَى أَدَائِهِ ثمَّ صَار الْأَدَاء لَازِما بِهَذِهِ الْآيَة وَهَذَا أشق على الْبدن يُوضحهُ أَن ترك الْخُرُوج لِلْحَجِّ يكون أخف على الْبدن من الْخُرُوج وَلَا إِشْكَال أَن الْخُرُوج إِلَى أَدَاء الْحَج بعد التَّمَكُّن خير من التّرْك فَبِهَذَا يتَبَيَّن ضعف استدلالهم فصل فِي بَيَان شَرط النّسخ قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن شَرط جَوَاز النّسخ عندنَا هُوَ التَّمَكُّن من عقد الْقلب فَأَما الْفِعْل أَو التَّمَكُّن من الْفِعْل فَلَيْسَ بِشَرْط وعَلى قَول الْمُعْتَزلَة التَّمَكُّن من الْفِعْل شَرط وَحَاصِل الْمَسْأَلَة أَن النّسخ بَيَان لمُدَّة عقد الْقلب وَالْعَمَل بِالْبدنِ تَارَة ولأحدهما وَهُوَ عقد الْقلب على الحكم تَارَة فَكَانَ عقد الْقلب هُوَ الحكم الْأَصْلِيّ فِيهِ وَالْعَمَل بِالْبدنِ زِيَادَة يجوز أَن يكون النّسخ بَيَانا للمدة فِيهِ وَيجوز أَن لَا يكون عندنَا وعَلى قَوْلهم النّسخ يكون بَيَانا لمُدَّة الحكم فِي حق الْعَمَل بِهِ وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق إِلَّا بعد الْفِعْل أَو التَّمَكُّن مِنْهُ حكما لِأَن التّرْك بعد التَّمَكُّن فِيهِ تَفْرِيط من العَبْد فَلَا يَنْعَدِم بِهِ معنى بَيَان مُدَّة الْعَمَل بالنسخ قَالُوا لِأَن الْعَمَل هُوَ الْمَقْصُود بِالْأَمر وَالنَّهْي أَلا ترى أَن ورودهما بِذكر الْفِعْل معنى قَول الْقَائِل افعلوا كَذَا وَلَا تَفعلُوا كَذَا وَتَحْقِيق معنى الِابْتِلَاء فِي الْفِعْل أَيْضا فَعرفنَا أَنه هُوَ الْمَقْصُود والنسخ قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل لَا يكون إِلَّا بطرِيق البداء أَلا ترى أَن الْإِنْسَان يَقُول قد أمرت عَبدِي أَن يفعل غَدا كَذَا ثمَّ بدا لي فنهيته عَنهُ وَهَذَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَنْتَهِي عَمَّا أَمر بِفِعْلِهِ قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل بِأَن يظْهر لَهُ من حَال الْمَأْمُور بِهِ مَا لم يكن مَعْلُوما حِين يَأْمُرهُ بِهِ لعلمنا أَنه بِالْأَمر إِنَّمَا طلب من الْمَأْمُور إِيجَاد الْفِعْل بعد التَّمَكُّن مِنْهُ لَا قبله إِذْ التَّكْلِيف لَا يكون إِلَّا بِحَسب الوسع والبداء على الله تَعَالَى لَا يجوز يقرره أَن القَوْل بِجَوَاز النّسخ قبل التَّمَكُّن يُؤَدِّي إِلَى أَن يكون الشَّيْء الْوَاحِد حسنا وقبيحا فِي وَقت وَاحِد لِأَن الْأَمر دَلِيل على حسن فعل الْمَأْمُور بِهِ عِنْد الْإِمْكَان وَالنَّهْي قبل التَّمَكُّن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 دَلِيل على قبح فعله فِي ذَلِك الْوَقْت بِعَيْنِه يُوضحهُ أَن النّسخ بَيَان مُدَّة بَقَاء الحكم على وَجه يجوز أَن يكون مَقْرُونا بِالْأَمر وَلِهَذَا جَازَ النّسخ فِي الْأَمر وَالنَّهْي دون الْخَبَر والنسخ قبل التَّمَكُّن لَا يَصح مَقْرُونا بِالْأَمر فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيم أَن يَقُول افْعَل كَذَا إِلَى أَن لَا يكون مُتَمَكنًا مِنْهُ ثمَّ لَا يَفْعَله بعد ذَلِك فَعرفنَا أَن النّسخ قبل التَّمَكُّن لَا يجوز وَحجَّتنَا فِي ذَلِك الحَدِيث الْمَشْهُور إِن الله تَعَالَى فرض على عباده خمسين صَلَاة فِي لَيْلَة الْمِعْرَاج ثمَّ انتسخ مَا زَاد على الْخمس لسؤال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَ ذَلِك نسخا قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل إِلَّا أَنه كَانَ بعد عقد الْقلب عَلَيْهِ فَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الأَصْل لهَذِهِ الْأمة وَلَا شكّ أَنه عقد قلبه على ذَلِك وَلَا معنى لقَولهم إِن الله تَعَالَى مَا فرض ذَلِك عزما وَإِنَّمَا جعل ذَلِك إِلَى رَأْي رَسُوله ومشيئته لِأَن فِي الحَدِيث أَن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام سَأَلَ التَّخْفِيف عَن أمته غير مرّة وَمَا زَالَ يسْأَل ذَلِك ويجيبه ربه إِلَيْهِ حَتَّى انْتهى إِلَى الْخمس فَقيل لَهُ لَو سَأَلت التَّخْفِيف أَيْضا فَقَالَ أَنا أستحي من رَبِّي وَفِي هَذَا بَيَان أَنه لم يكن ذَلِك مفوضا إِلَى اخْتِيَاره بل كَانَ نسخا على وَجه التَّخْفِيف بسؤاله بعد الْفَرْضِيَّة وَمِنْهُم من اسْتدلَّ بقوله {فقدموا بَين يَدي نَجوَاكُمْ صَدَقَة} إِلَى قَوْله {فَإذْ لم تَفعلُوا وَتَابَ الله عَلَيْكُم} فَإِن هَذَا نسخ الْأَمر قبل الْفِعْل وَلَكنهُمْ يَقُولُونَ كَانَ هَذَا النّسخ بعد التَّمَكُّن من الْفِعْل وَإِن كَانَ قبل مُبَاشرَة الْفِعْل وَلَا خلاف فِي جَوَاز ذَلِك وَالأَصَح هُوَ الأول وَلِأَن النّسخ جَائِز بعد وجود جُزْء مِمَّا تنَاوله الْأَمر بِالْفِعْلِ فَإِن قَول الْقَائِل افعلوا كَذَا فِي مُسْتَقْبل أعماركم يجوز نسخه بِالنَّهْي عَنهُ بعد مُضِيّ جُزْء من الْعُمر وَلَوْلَا النّسخ لَكَانَ أصل الْكَلَام متناولا لجَمِيع الْعُمر فبالنسخ يتَبَيَّن أَنه كَانَ المُرَاد الِابْتِلَاء بِالْعَمَلِ فِي ذَلِك الْجُزْء خَاصَّة وَلَا يتَوَهَّم فِيهِ معنى البداء أَو الْجَهْل بعاقبة الْأَمر فَكَذَلِك النّسخ بعد عقد الْقلب على الحكم واعتقاد الحقية فِيهِ قبل التَّمَكُّن من الْعَمَل يكون بَيَانا أَن المُرَاد كَانَ عقد الْقلب عَلَيْهِ إِلَى هَذَا الْوَقْت واعتقاده الْفَرْضِيَّة فِيهِ دون مُبَاشرَة الْعَمَل وَإِنَّمَا يكون مُبَاشرَة الْعَمَل مَقْصُودا لمن ينْتَفع بِهِ وَالله يتعالى عَن ذَلِك وَإِنَّمَا الْمَقْصُود فِيمَا يَأْمر الله بِهِ عباده الِابْتِلَاء والابتلاء بعزيمة الْقلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 واعتقاد الحقية لَا يكون دون الِابْتِلَاء بِالْعَمَلِ وَرُبمَا يكون ذَلِك أهم أَلا ترى أَن فِي الْمُتَشَابه مَا كَانَ الِابْتِلَاء إِلَّا بِعقد الْقلب عَلَيْهِ واعتقاد الحقية فِيهِ وَكَذَلِكَ فِي الْمُجْمل الَّذِي لَا يُمكن الْعَمَل بِهِ إِلَّا بعد الْبَيَان يكون الِابْتِلَاء قبل الْبَيَان بِعقد الْقلب عَلَيْهِ واعتقاد الحقية فِيهِ وَيكون ذَلِك حسنا لَا يشوبه من معنى الْقبْح شَيْء فَكَذَلِك الْأَمر الَّذِي يرد النّسخ عَقِيبه قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل وَيعْتَبر هَذَا بإحياء الشَّخْص فقد تبين انْتِهَاء مُدَّة حَيَاته بِالْمَوْتِ قبل أَن يصير مُنْتَفعا بحياته إِمَّا فِي بطن أمه بِأَن ينْفَصل مَيتا أَو بعد الِانْفِصَال قبل أَن ينْتَفع بحياته وَأحد لَا يَقُول إِنَّه يتَمَكَّن فِيهِ معنى البداء أَو إِنَّه يجْتَمع فِيهِ معنى الْحسن والقبح يُوضحهُ أَن الْوَاحِد منا قد يَأْمر عَبده ومقصوده من ذَلِك أَن يظْهر عِنْد النَّاس حسن طَاعَته وانقياده لَهُ ثمَّ ينهاه عَن ذَلِك بعد حُصُول هَذَا الْمَقْصُود قبل أَن يتَمَكَّن من مُبَاشرَة الْفِعْل وَلَا يَجْعَل ذَلِك دَلِيل البداء مِنْهُ وَإِن كَانَ مِمَّن يجوز عَلَيْهِ البداء فَلِأَن لَا يَجْعَل النّسخ قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل بعد عزم الْقلب واعتقاد الحقية موهما للبداء فِي حق من لَا يجوز عَلَيْهِ البداء أولى وَإِنَّمَا يجْتَمع الْحسن والقبح فِي شَيْء وَاحِد إِذا كَانَ مَأْمُورا بِهِ ومنهيا عَنهُ فِي وَقت وَاحِد وَذَلِكَ لَا يكون مَعَ أَن الْحسن مُطلقًا مَا حسنه الشَّرْع والقبيح مَا قبحه الشَّرْع يقرره أَن تَمام الْحسن على مَا يَزْعمُونَ إِنَّمَا يظْهر عِنْد مُبَاشرَة الْعَمَل وَالْإِطْلَاق يَقْتَضِي صفة الْكَمَال ثمَّ بالِاتِّفَاقِ يجوز النّسخ بعد التَّمَكُّن من الْفِعْل قبل حَقِيقَة الْفِعْل لِأَن معنى الْحسن فِيهِ كَامِل من حَيْثُ عقد الْقلب واعتقاد الحقية فِيهِ فَكَذَلِك قبل التَّمَكُّن وَلَا نقُول بِأَن مثل هَذَا الْبَيَان لَا يجوز مَقْرُونا بِالْأَمر فَإِنَّهُ لَو قَالَ افْعَل كَذَا فِي وَقت كَذَا (إِن لم أنسخه عَنْك كَانَ ذَلِك أمرا مُسْتَقِيمًا بِمَنْزِلَة قَوْله افْعَل كَذَا فِي وَقت كَذَا) إِن تمكنت مِنْهُ وَتَكون الْفَائِدَة فِي الْحَال هُوَ الْقبُول بِالْقَلْبِ واعتقاد الحقية فِيهِ فَكَذَلِك يجوز مثله بعد الْأَمر بطرِيق النّسخ وَالله الْمُوفق فصل فِي بَيَان النَّاسِخ قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْحجَج أَرْبَعَة الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 وَالْقِيَاس وَلَا خلاف بَين جُمْهُور الْعلمَاء فِي أَنه لَا يجوز نسخ الْكتاب وَالسّنة بِالْقِيَاسِ وَكَانَ ابْن سُرَيج من أَصْحَاب الشَّافِعِي يجوز ذَلِك والأنماطي من أَصْحَابه كَانَ يَقُول لَا يجوز ذَلِك بِقِيَاس الشّبَه وَيجوز بِقِيَاس مستخرج من الْأُصُول وكل قِيَاس هُوَ مستخرج من الْقُرْآن يجوز نسخ الْكتاب بِهِ وكل قِيَاس هُوَ مستخرج من السّنة يجوز نسخ السّنة بِهِ لِأَن هَذَا فِي الْحَقِيقَة نسخ الْكتاب بِالْكتاب وَنسخ السّنة بِالسنةِ فثبوت الحكم بِمثل هَذَا الْقيَاس فِي الْحَقِيقَة يكون محالا بِهِ على الْكتاب وَالسّنة وَهَذَا قَول بَاطِل بِاتِّفَاق الصَّحَابَة فقد كَانُوا مُجْمِعِينَ على ترك الرَّأْي بِالْكتاب وَالسّنة حَتَّى قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فِي حَدِيث الْجَنِين كدنا أَن نقضي فِيهِ برأينا وَفِيه سنة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ لَو كَانَ الدّين بِالرَّأْيِ لَكَانَ بَاطِن الْخُف أولى بِالْمَسْحِ من ظَاهره وَلَكِنِّي رَأَيْت رَسُول الله يمسح على ظَاهر الْخُف دون بَاطِنه وَلِأَن الْقيَاس كَيْفَمَا كَانَ لَا يُوجب الْعلم فَكيف ينْسَخ بِهِ مَا هُوَ مُوجب للْعلم قطعا وَقد بَينا أَن النّسخ بَيَان مُدَّة بَقَاء الحكم وَكَونه حسنا إِلَى ذَلِك الْوَقْت وَلَا مجَال للرأي فِي معرفَة انْتِهَاء وَقت الْحسن وَمَا ادَّعَاهُ من أَن هَذَا الحكم يكون ثَابتا بِالْكتاب فَكَلَام ضَعِيف فَإِن الْوَصْف الَّذِي بِهِ يرد الْفَرْع إِلَى الأَصْل الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْكتاب وَالسّنة غير مَقْطُوع بِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْنى فِي الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ وَأحد من القائسين لَا يَقُول بِأَن حكم الرِّبَا فِيمَا عدا الْأَشْيَاء السِّتَّة يكون ثَابتا بِالنَّصِّ الَّذِي فِيهِ ذكر الْأَشْيَاء السِّتَّة وَأما النّسخ بِالْإِجْمَاع فقد جوزه بعض مَشَايِخنَا بطرِيق أَن الْإِجْمَاع مُوجب علم الْيَقِين كالنص فَيجوز أَن يثبت النّسخ بِهِ وَالْإِجْمَاع فِي كَونه حجَّة أقوى من الْخَبَر الْمَشْهُور وَإِذا كَانَ يجوز النّسخ بالْخبر الْمَشْهُور كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ فِي الزِّيَادَة على النَّص فجوازه بِالْإِجْمَاع أولى وَأَكْثَرهم على أَنه لَا يجوز ذَلِك لِأَن الْإِجْمَاع عبارَة عَن اجْتِمَاع الآراء على شَيْء وَقد بَينا أَنه لَا مجَال للرأي فِي معرفَة نِهَايَة وَقت الْحسن والقبح فِي الشَّيْء عِنْد الله تَعَالَى ثمَّ أَوَان النّسخ حَال حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاتفاقنا على أَنه لَا نسخ بعده وَفِي حَال حَيَاته مَا كَانَ ينْعَقد الْإِجْمَاع بِدُونِ رَأْيه وَكَانَ الرُّجُوع إِلَيْهِ فرضا وَإِذا وجد الْبَيَان مِنْهُ فالموجب للْعلم قطعا هُوَ الْبَيَان المسموع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 مِنْهُ وَإِنَّمَا يكون الْإِجْمَاع مُوجبا للْعلم بعده وَلَا نسخ بعده فَعرفنَا أَن النّسخ بِدَلِيل الْإِجْمَاع لَا يجوز ثمَّ الْأَقْسَام بعد هَذَا أَرْبَعَة نسخ الْكتاب بِالْكتاب وَنسخ السّنة بِالسنةِ وَنسخ الْكتاب بِالسنةِ وَنسخ السّنة بِالْكتاب وَلَا خلاف بَين الْعلمَاء فِي جَوَاز الْقسمَيْنِ الْأَوَّلين ويختلفون فِي الْقسمَيْنِ الآخرين فعندنا يجوز نسخ الْكتاب بِالسنةِ المتواترة أَو الْمَشْهُورَة على مَا ذكره الْكَرْخِي عَن أبي يُوسُف أَنه يجوز نسخ الْكتاب بِمثل خبر الْمسْح على الْخُفَّيْنِ وَهُوَ مَشْهُور وَكَذَلِكَ يجوز نسخ السّنة بِالْكتاب وعَلى قَول الشَّافِعِي لَا يجوز نسخ الْكتاب بِالسنةِ وَلَا نسخ السّنة بِالْكتاب فَإِنَّهُ قَالَ فِي كتاب الرسَالَة وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا ينسخها إِلَّا سنة كَمَا لَا ينْسَخ الْكتاب إِلَّا الْكتاب فَمن أَصْحَابه من يَقُول مُرَاده نفي الْجَوَاز وَمِنْهُم من يَقُول مُرَاده نفي الْوُجُود أَي لم يُوجد فِي الشَّرِيعَة نسخ الْكتاب بِالسنةِ وَلَا نسخ السّنة بِالْكتاب فَيحْتَاج إِلَى إِثْبَات الْفَصْلَيْنِ بِالْحجَّةِ فَأَما هُوَ احْتج بقوله تَعَالَى {قل مَا يكون لي أَن أبدله من تِلْقَاء نَفسِي إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ} وَفِي هَذَا تنصيص على أَنه كَانَ مُتبعا لكل مَا يُوحى إِلَيْهِ وَلم يكن مبدلا لشَيْء مِنْهُ والنسخ تَبْدِيل قَالَ تَعَالَى {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم ولعلهم يتفكرون} فَأخْبر أَنه مُبين لما هُوَ الْمنزل حَتَّى يعْمل النَّاس بالمنزل بَعْدَمَا تبين لَهُم ببيانه وَفِي تَجْوِيز نسخ الْكتاب بِالسنةِ رفع هَذَا الحكم لِأَن الْعَمَل بالناسخ يكون فَإِذا كَانَ النَّاسِخ من السّنة لَا يكون الْعَمَل بِهِ عملا بالمنزل وَقَوله تَعَالَى {ولعلهم يتفكرون} أَي يتفكرون فِي الْمنزل ليعملوا بِهِ بعد بَيَانه وَفِي النَّاسِخ فِي الْمَنْسُوخ التفكر فِي التَّارِيخ بَينهمَا ليجعل الْمُتَقَدّم مَنْسُوخا بالمتأخر لَا فِي الْمنزل ليعْمَل بِهِ وَقَالَ تَعَالَى {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} وَلَا شكّ أَن السّنة لَا تكون مثلا لِلْقُرْآنِ وَلَا خيرا مِنْهُ وَالْقُرْآن كَلَام الله غير مُحدث وَلَا مَخْلُوق وَهُوَ معجز وَالسّنة كَلَام مَخْلُوق وَهُوَ غير معجز فَعرفنَا أَن نسخ الْكتاب لَا يجوز بِالسنةِ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِذا رُوِيَ لكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 عني حَدِيث فاعرضوه على كتاب الله فَمَا وَافق كتاب الله فاقبلوه وَمَا خَالف كتاب الله فَردُّوهُ وَمَعَ هَذَا الْبَيَان من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَيفَ يجوز نسخ الْكتاب بِالسنةِ وَلِأَن مَا قلته أقرب إِلَى صِيَانة رَسُول الله عَن طعن الطاعنين فِيهِ وبالاتفاق يجب الْمصير فِي بَاب بَيَان أَحْكَام الشَّرْع إِلَى طَرِيق يكون أبعد عَن الطعْن فِيهِ وَبَيَان ذَلِك أَنه إِذا جَازَ مِنْهُ أَن يَقُول مَا هُوَ مُخَالف للمنزل فِي الظَّاهِر على وَجه النّسخ لَهُ فالطاعن يَقُول هُوَ أول قَائِل وَأول عَامل بِخِلَاف مَا يزْعم أَنه أنزل إِلَيْهِ فَكيف يعْتَمد قَوْله فِيهِ وَإِذا ظهر مِنْهُ قَول ثمَّ قَرَأَ مَا هُوَ مُخَالف لما ظهر مِنْهُ من القَوْل فالطاعن يَقُول قد كذبه ربه فِيمَا قَالَ فَكيف نصدقه وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الله تَعَالَى فِي قَوْله {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة وَالله أعلم بِمَا ينزل قَالُوا إِنَّمَا أَنْت مفتر} ثمَّ نفى عَنهُ هَذَا الطعْن بقوله {قل نزله روح الْقُدس من رَبك بِالْحَقِّ} فَفِي هَذَا بَيَان أَنه لَيْسَ فِي نسخ الْكتاب بِالْكتاب تعريضه لِلطَّعْنِ وَفِي نسخ الْكتاب بِالسنةِ تعريضه لِلطَّعْنِ من الْوَجْه الَّذِي قَالَه الطاعنون فَيجب سد هَذَا الْبَاب لعلمنا أَنه مصون عَمَّا يُوهم الطعْن فِيهِ وَاسْتدلَّ على نفي جَوَاز نسخ (السّنة) بِالْكتاب بقوله {ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبيانا لكل شَيْء} وَالسّنة شَيْء فَيكون الْكتاب تبيانا لحكمه لَا رَافعا لَهُ وَذَلِكَ فِي أَن يكون مؤيدا إِن كَانَ مُوَافقا ومبينا للغلط فِيهَا إِن كَانَ مُخَالفا وَلِهَذَا لَا يجوز إِلَّا عِنْد وُرُوده ليَكُون بَيَانا مَحْضا فَإِن رَسُول الله كَانَ لَا يقر على الْخَطَأ وَالْبَيَان الْمَحْض مَا يكون مُقَارنًا وَلِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِذا أَمر بِشَيْء وتقرر ذَلِك فقد توجه علينا الْأَمر من الله تَعَالَى بتصديقه فِي ذَلِك واتباعه فَلَا يجوز القَوْل بِأَن ينزل فِي الْقُرْآن بعد ذَلِك مَا يكون مُخَالفا لَهُ حَقِيقَة أَو ظَاهرا فَإِن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى القَوْل بِأَنَّهُ لَا يفترض تَصْدِيقه فِيمَا يخبر بِهِ لجَوَاز أَن ينزل الْقُرْآن بِخِلَافِهِ وَذَلِكَ خلاف النَّص وَخلاف قَول الْمُسلمين أجمع يقرره أَن السّنة نوع حجَّة لإِثْبَات حكم الشَّرْع وَالْكتاب كَذَلِك وحجج الشَّرْع لَا تتناقض وَإِنَّمَا يتأيد وَمَا يسْتَدلّ بِهِ على أَنه من عِنْد غير الله قَالَ تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد} نوع مِنْهَا بِنَوْع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 آخر لِأَن فِي التَّنَاقُض مَا يُؤَدِّي إِلَى تنفير النَّاس عَن قبُوله {غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن أحد النَّوْعَيْنِ يتأيد بِالْآخرِ وَلَا يتَمَكَّن فِيمَا بَين النَّوْعَيْنِ تنَاقض وَالْقَوْل بِجَوَاز نسخ السّنة بِالْكتاب وَالْكتاب بِالسنةِ يُؤَدِّي إِلَى هَذَا وَحجَّتنَا فِي ذَلِك من أَصْحَابنَا من اسْتدلَّ بقوله تَعَالَى {كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت إِن ترك خيرا الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين} فَفِي هَذَا تنصيص على أَن الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين فرض ثمَّ انتسخ ذَلِك بقوله عَلَيْهِ السَّلَام لَا وَصِيَّة لوَارث وَهَذِه سنة مَشْهُورَة وَلَا يجوز أَن يُقَال إِنَّمَا انتسخ ذَلِك بِآيَة الْمَوَارِيث لِأَن فِيهَا إِيجَاب حق آخر لَهُم بطرِيق الْإِرْث وَإِيجَاب حق بطرِيق الْإِرْث لَا يُنَافِي حَقًا آخر ثَابتا بطرِيق آخر وَبِدُون الْمُنَافَاة لَا يثبت النّسخ وَلَا يجوز أَن يُقَال لَعَلَّ ناسخه مِمَّا أنزل فِي الْقُرْآن وَلَكِن لم يبلغنَا لانتساخ تِلَاوَته مَعَ بَقَاء حكمه لِأَن فتح هَذَا الْبَاب يُؤَدِّي إِلَى القَوْل بِالْوَقْفِ فِي جَمِيع أَحْكَام الشَّرْع فَإِنَّهُ يُقَال مَا من حكم إِلَّا ويتوهم فِيهِ أَن يكون ناسخه قد نزل ثمَّ لم يبلغنَا لانتساخ تِلَاوَته وَمَعَ ذَلِك يُؤَدِّي هَذَا إِلَى مَذْهَب الروافض فَإِنَّهُم يَقُولُونَ قد نزلت آيَات كَثِيرَة فِيهَا تنصيص على إِمَامَة عَليّ وَلم يبلغنَا ذَلِك وَيَقُولُونَ إِن لظَاهِر مَا نزل من الْقُرْآن بَاطِنا لَا نعقله وَقد كَانَ يعقله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأهل بَيته فيزعمون أَن كثيرا من الْأَحْكَام قد خَفِي علينا وَيجب الرُّجُوع فِيهَا إِلَى أهل الْبَيْت للوقوف على ذَلِك وَقد أجمع الْمُسلمُونَ على بطلَان القَوْل بِهَذَا فَكل سُؤال يُؤَدِّي إِلَى القَوْل بذلك فَهُوَ سَاقِط وَلَكِن هَذَا الِاسْتِدْلَال مَعَ هَذَا لَيْسَ بِقَوي من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن فِي آيَة الْمَوَارِيث تنصيصا على تَرْتِيب الْإِرْث على وَصِيَّة مُنكرَة فَإِنَّهُ قَالَ {من بعد وَصِيَّة يُوصي بهَا أَو دين} وَالَّتِي كَانَت مَفْرُوضَة من الْوَصِيَّة هِيَ الْوَصِيَّة الْمَعْهُودَة الْمعرفَة بِالْألف وَاللَّام فَإِنَّهُ قَالَ {الْوَصِيَّة للْوَالِدين} فَلَو كَانَت تِلْكَ الْوَصِيَّة بَاقِيَة عِنْد نزُول آيَة الْمَوَارِيث لَكَانَ فِيهَا تَرْتِيب الْمِيرَاث على الْوَصِيَّة الْمَعْهُودَة وَفِي التَّنْصِيص على تَرْتِيب الْإِرْث على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 وَصِيَّة مُطلقَة دَلِيل نسخ الْوَصِيَّة الْمَعْهُودَة لِأَن الْإِطْلَاق بعد التَّقْيِيد نسخ كَمَا أَن التَّقْيِيد بعد الْإِطْلَاق نسخ وَالثَّانِي أَن النّسخ فِي الشَّرْع نَوْعَانِ أَحدهمَا إِثْبَات الحكم مُبْتَدأ على وَجه يكون دَلِيلا على انْتِهَاء الْوَقْت فِي حكم كَانَ قبله وَالثَّانِي نسخ بطرِيق التَّحْوِيل للْحكم من شَيْء إِلَى شَيْء بِمَنْزِلَة تَحْويل فرض التَّوَجُّه عِنْد أَدَاء الصَّلَاة من بَيت الْمُقَدّس إِلَى الْكَعْبَة وانتساخ الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين بِآيَة الْمِيرَاث من النَّوْع الثَّانِي فَإِن الله تَعَالَى فوض بَيَان نصيب كل فريق إِلَى من حَضَره الْمَوْت على أَن يُرَاعى الْحُدُود فِي ذَلِك وَيبين حِصَّة كل وَاحِد مِنْهُم بِحَسب قرَابَته ثمَّ تولى بَيَان ذَلِك بِنَفسِهِ فِي آيَة الْمَوَارِيث وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْله تَعَالَى {يُوصِيكُم الله} وَإِنَّمَا تولى بَيَانه بِنَفسِهِ لِأَن الْمُوصي رُبمَا كَانَ يقْصد إِلَى المضارة فِي ذَلِك وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ فِي قَوْله تَعَالَى {غير مضار وَصِيَّة من الله} وَرُبمَا كَانَ لَا يحسن التَّدْبِير فِي مِقْدَار مَا يوصى لكل وَاحِد مِنْهُم بجهله فَبين الله تَعَالَى نصيب كل وَاحِد مِنْهُم على وَجه يتَيَقَّن بِأَنَّهُ هُوَ الصَّوَاب وَأَن فِيهِ الْحِكْمَة الْبَالِغَة وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ فِي قَوْله تَعَالَى {لَا تَدْرُونَ أَيهمْ أقرب لكم نفعا} وَمَا هَذَا إِلَّا نَظِير من أَمر غَيره بِإِعْتَاق عَبده ثمَّ يعتقهُ بِنَفسِهِ فينتهي بِهِ حكم الْوكَالَة لما بَاشرهُ الْمُوكل بِنَفسِهِ فَهُنَا حِين بَين الله تَعَالَى نصيب كل قريب لم يبْق حكم الْوَصِيَّة إِلَى الْوَالِدين والأقربين لحُصُول الْمَقْصُود بأقوى الطّرق وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بقوله إِن الله تَعَالَى أعْطى كل ذِي حق حَقه أَلا لَا وَصِيَّة لوَارث وَكَانَ النّسخ بِهَذَا الطَّرِيق بِمَنْزِلَة الْحِوَالَة فَإِن الدّين إِذا تحول من ذمَّة إِلَى ذمَّة حَتَّى اشتغلت الذِّمَّة الثَّانِيَة بِهِ فرغ مِنْهُ الذِّمَّة الأولى وَإِن لم يكن بَين وجوب الدّين فِي الذمتين معنى الْمُنَافَاة كَمَا يكون بطرِيق الْكفَالَة وَلَكنَّا نقُول بِهَذَا الطَّرِيق يجوز أَن يثبت انْتِهَاء حكم وجوب الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين فَأَما انْتِهَاء حكم جَوَاز الْوَصِيَّة لَهُم لَا يثبت بِهَذَا الطَّرِيق أَلا ترى أَن بالحوالة وَإِن لم يبْق الدّين وَاجِبا فِي الذِّمَّة الأولى فقد بقيت الذِّمَّة محلا صَالحا لوُجُوب الدّين فِيهَا وَلَيْسَ من ضَرُورَة انْتِفَاء وجوب الْوَصِيَّة لَهُم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 انْتِفَاء الْجَوَاز كَالْوَصِيَّةِ للأجانب فَعرفنَا أَنه إِنَّمَا انتسخ انْتِفَاء وجوب الْوَصِيَّة لَهُم لضَرُورَة نفي أصل الْوَصِيَّة لَهُم وَذَلِكَ ثَابت بِالسنةِ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا وَصِيَّة لوَارث فَمن هَذَا الْوَجْه يَتَقَرَّر الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْآيَة وَمِنْهُم من اسْتدلَّ بِحكم الْحَبْس فِي الْبيُوت والأذى بِاللِّسَانِ فِي حق الزَّانِي فَإِنَّهُ كَانَ بِالْكتاب ثمَّ انتسخ بِالسنةِ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْبكر بالبكر جلد مائَة وتغريب عَام وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ جلد مائَة ورجم بِالْحِجَارَةِ وَهَذَا لَيْسَ بِقَوي أَيْضا فقد ثَبت بِرِوَايَة عمر رَضِي الله عَنهُ أَن الرَّجْم مِمَّا كَانَ يُتْلَى فِي الْقُرْآن على مَا قَالَ لَوْلَا أَن النَّاس يَقُولُونَ إِن عمر زَاد فِي كتاب الله لكتبت على حَاشِيَة الْمُصحف الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ الحَدِيث فَإِنَّمَا كَانَ هَذَا نسخ الْكتاب بِالْكتاب ثمَّ الْآيَة الَّتِي فِيهَا بَيَان حكم الْحَبْس والأذى بِاللِّسَانِ فِيهَا بَيَان تَوْقِيت ذَلِك الحكم بِمَا هُوَ مُجمل وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا} فَإِنَّمَا بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك الْمُجْمل وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام خُذُوا عني قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا وَلَا خلاف أَن بَيَان الْمُجْمل فِي كتاب الله تَعَالَى بِالسنةِ يجوز وَمِنْهُم من اسْتدلَّ بقوله تَعَالَى {فآتوا الَّذين ذهبت أَزوَاجهم مثل مَا أَنْفقُوا} فَإِن هَذَا حكم مَنْصُوص فِي الْقُرْآن فقد انتسخ وناسخه لَا يُتْلَى فِي الْقُرْآن فَعرفنَا أَنه ثَابت بِالسنةِ وَهَذَا ضَعِيف أَيْضا وَبَين أهل التَّفْسِير كَلَام فِيمَا هُوَ المُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة وَأثبت مَا قيل فِيهِ أَن من ارْتَدَّت زَوجته وهربت إِلَى دَار الْحَرْب فقد كَانَ على الْمُسلمين أَن يعينوه من الْغَنِيمَة بِمَا ينْدَفع بِهِ الخسران عَنهُ وَذَلِكَ بِأَن يعطوه مثل مَا سَاق إِلَيْهَا من الصَدَاق وَإِلَى ذَلِك وَقعت الْإِشَارَة فِي قَوْله تَعَالَى {فعاقبتم} أَي عَاقَبْتُمْ الْمُشْركين بِالسَّبْيِ والاسترقاق واغتنام أَمْوَالهم وَكَانَ ذَلِك بطرِيق النّدب على سَبِيل الْمُسَاوَاة وَلم ينتسخ هَذَا الحكم فَبِهَذَا تبين أَنه لَا يُؤْخَذ نسخ حكم ثَابت بِالْكتاب بِحكم هُوَ ثَابت بِالسنةِ ابْتِدَاء وَإِنَّمَا يُؤْخَذ من ذَلِك الزِّيَادَة بِالسنةِ على الحكم الثَّابِت بِالْكتاب نَحْو مَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي فِي ضم التَّغْرِيب إِلَى الْجلد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 فِي حد الْبكر فَإِنَّهُ أثْبته بقوله (الْبكر بالبكر جلد مائَة وتغريب عَام) وَمثل هَذِه الزِّيَادَة عندنَا نسخ وَعِنْده بَيَان بطرِيق التَّخْصِيص وَلَا يكون نسخا فعلى هَذَا الْكَلَام يبتنى على ذَلِك الأَصْل وسنقرر هَذَا بعد هَذَا ثمَّ الْحجَّة لإِثْبَات جَوَاز نسخ الْكتاب بِالسنةِ قَوْله تَعَالَى {وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} فَإِن المُرَاد بَيَان حكم غير متلو فِي الْكتاب مَكَان حكم آخر وَهُوَ متلو على وَجه يتَبَيَّن بِهِ مُدَّة بَقَاء الحكم الأول وَثُبُوت حكم الثَّانِي والنسخ لَيْسَ إِلَّا هَذَا وَالدَّلِيل على أَن المُرَاد هَذَا لَا مَا توهمه الْخصم فِي بَيَان الحكم الْمنزل فِي الْكتاب أَنه قَالَ تَعَالَى {مَا نزل إِلَيْهِم} وَلَو كَانَ المُرَاد الْكتاب لقَالَ مَا نزل إِلَيْك كَمَا قَالَ تَعَالَى {بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} والمنزل إِلَى النَّاس الحكم الَّذِي أمروا باعتقاده وَالْعَمَل بِهِ وَذَلِكَ يكون تَارَة بِوَحْي متلو وَتارَة بِوَحْي غير متلو وَهُوَ مَا يكون مسموعا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا يُقَال إِنَّه سنته فقد ثَبت بِالنَّصِّ أَنه كَانَ لَا يَقُول ذَلِك إِلَّا بِالْوَحْي قَالَ تَعَالَى {وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} وَمعنى قَوْله {لَعَلَّهُم يتفكرون} أَي يتفكرون فِي حجج الشَّرْع ليقفوا بتفكرهم على الْحِكْمَة الْبَالِغَة فِي كل حجَّة أَو ليعرفوا النَّاسِخ من الْمَنْسُوخ وَوجه الْحِكْمَة فِي تَبْدِيل الْمَنْسُوخ بالناسخ مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الْمَنَافِع للمخاطبين فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة أَو يتَبَيَّن لَهُم إِرَادَة الْيُسْر والتوسعة لِلْأَمْرِ عَلَيْهِم أَو مَا يكون لَهُم فِيهِ من عَظِيم الثَّوَاب وَفِي هَذَا كُله لَا فرق بَين مَا يكون ثُبُوته بِوَحْي متلو وَبَين مَا يكون ثُبُوته بِوَحْي غير متلو وَفِيمَا تَلا من الْآيَة إِشَارَة إِلَى مَا قُلْنَا فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى {قل مَا يكون لي أَن أبدله من تِلْقَاء نَفسِي إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ} فَعرفنَا أَن المُرَاد بَيَان أَنه لَا يُبدل شَيْئا من تِلْقَاء نَفسه بِنَاء على مُتَابعَة الْهوى وَإِنَّمَا يُوحى إِلَيْهِ فَيتبع مَا يُوحى إِلَيْهِ ويبينه للنَّاس فِيمَا لَيْسَ بمنزل فِي الْقُرْآن وَلَكِن الْعبارَة فِيهِ مفوض إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيبينه بعبارته وَهُوَ حكم ثَابت من الله تَعَالَى بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ بِمَنْزِلَة الحكم المتلو فِي الْقُرْآن وَدَلِيل كَونه مَقْطُوعًا بِهِ مَا قَالَ إِن تصديقنا إِيَّاه فرض علينا من الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ أَتْبَاعه لَازم بقوله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 وَقَالَ تَعَالَى {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله} فَبِهَذَا التَّقْرِير يتَبَيَّن أَن بِالْوَحْي الَّذِي هُوَ غير متلو (يجوز أَن يتَبَيَّن مُدَّة بَقَاء الحكم المتلو كَمَا يجوز أَن يتَبَيَّن ذَلِك بِالْوَحْي الَّذِي هُوَ متلو) والنسخ لَيْسَ إِلَّا هَذَا أَلا ترى أَنا لَو سمعنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لحكم هُوَ ثَابت بِوَحْي متلو قد كَانَ هَذَا الحكم ثَابتا إِلَى الْآن وَقد انْتهى وقته فَلَا تعملوا بِهِ بعده يلْزمنَا تَصْدِيقه فِي ذَلِك والكف عَن الْعَمَل بِهِ وتكفير من يكذبهُ فِي ذَلِك فَكَذَلِك إِذا ثَبت ذَلِك عندنَا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر عَنهُ فَإِن قيل مَعَ هَذَا فِي الْآيَة إِشَارَة إِلَى (أَن رَسُول الله مُبين للْحكم وَفِي النّسخ بَيَان حكم وَرفع حكم مَشْرُوع وَلَيْسَ فِي الْآيَة إِشَارَة إِلَى) أَنه رَافع لحكم ثَابت بِوَحْي متلو قُلْنَا نَحن نقُول هُوَ مُبين وَلَكِن فِي حق الحكم الأول مُبين تَأْوِيلا وتبليغا وَفِي حق الحكم الثَّانِي تبليغا وتأويلا وَبَيَان هَذَا أَنا قد ذكرنَا أَن الدَّلِيل الْمُوجب لثُبُوت الحكم وَهُوَ الْوَحْي المتلو لَا يكون مُوجبا بَقَاء الحكم وبالنسخ إِنَّمَا يرْتَفع بَقَاء الحكم الأول وَلم يكن ذَلِك ثَابتا بِوَحْي متلو حَتَّى يكون فِي بَيَانه رفع الحكم المتلو مَعَ أَنه لَيْسَ فِي النّسخ رفع الحكم وَلكنه بَيَان مُدَّة بَقَاء الحكم ثمَّ الْوَقْت لَا يبْقى بعد مُضِيّ وقته كَمَا لَو كَانَ التَّوْقِيت فِيهِ مَذْكُورا فِي النَّص الْمُثبت فعلى هَذَا التَّقْرِير يكون هُوَ مُبينًا للْوَقْت فِيمَا هُوَ منزل فَإِن قيل فعلى هَذَا اخْتِلَاط الْبَيَان بالنسخ وبالاتفاق بَين الْبَيَان والنسخ فرق قُلْنَا لَا كَذَلِك فَإِن كلا وَاحِد مِنْهُمَا فِي الْحَقِيقَة بَيَان إِلَّا أَن الْبَيَان الْمَحْض يجوز أَن يكون مقترنا بِأَصْل الْكَلَام كدليل الْخُصُوص فِي الْعُمُوم فَإِنَّهُ لَا يكون إِلَّا مُقَارنًا وَبَيَان الْمُجْمل فَإِنَّهُ يجوز أَن يكون مُقَارنًا فَأَما النّسخ (بَيَان) لَا يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 إِلَّا مُتَأَخِّرًا وبهذه الْعَلامَة يظْهر الْفرق بَينهمَا فَأَما أَن يكون النّسخ غير الْبَيَان فَلَا فَإِن قيل الحكم الثَّابِت بِالسنةِ يُضَاف إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيُقَال إِنَّه سنته وَمَا يكون طَرِيقه الْوَحْي فَهُوَ مُضَاف إِلَى الله تَعَالَى كَالثَّابِتِ بِالْوَحْي المتلو فَفِي إِضَافَته إِلَى رَسُول الله دَلِيل على أَنه لَيْسَ بِبَيَان لما هُوَ الْمنزل بطرِيق الْوَحْي وَإِذا تقرر هَذَا فَنَقُول فِي النّسخ بَيَان انْتِهَاء مُدَّة كَون الحكم حسنا عِنْد الله تَعَالَى وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُمكن مَعْرفَته إِلَّا بِوَحْي من الله فَكيف يجوز إِثْبَات نسخ الْكتاب بِالسنةِ قُلْنَا قد بَينا أَن مَا بَينه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّمَا يُبينهُ عَن وَحي وَالْإِضَافَة إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الْعبارَة فِي ذَلِك لَهُ فَمن هَذَا الْوَجْه يُقَال إِنَّه سنته فَأَما حَقِيقَة الحكم من الله تَعَالَى وقف عَلَيْهِ رَسُول الله بطرِيق الْوَحْي ثمَّ بَينه للنَّاس وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَنه مَا عرف انْتِهَاء مُدَّة الْحسن فِي ذَلِك الحكم إِلَّا بِوَحْي من الله تَعَالَى وَمَا هُوَ إِلَّا نَظِير بَيَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُدَّة الْحَيَاة لحي قد أَحْيَاهُ الله تَعَالَى فَإِن أحدا لَا يظنّ أَنه بَين ذَلِك من غير طَرِيق الْوَحْي وَمَا كَانَت الْإِضَافَة إِلَيْهِ إِلَّا نَظِير قَوْله تَعَالَى {أَفَرَأَيْتُم مَا تمنون أأنتم تخلقونه أم نَحن الْخَالِقُونَ} فَإِن إِضَافَة الإمناء إِلَى الْعباد لَا يمْنَع القَوْل بِأَن الشَّخْص مَخْلُوق خلقه الله تَعَالَى فَكَذَلِك إِضَافَة السّنة إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بطرِيق أَنه ظهر لنا بعبارته لَا يكون دَلِيلا على أَن الحكم غير ثَابت بطرِيق الْوَحْي من الله تَعَالَى وكما أَن الْكتاب وَالسّنة كل وَاحِد مِنْهُمَا حجَّة مُوجبَة للْعلم فآيات الْكتاب كلهَا حجَّة مُوجبَة للْعلم ثمَّ القَوْل بِجَوَاز نسخ الْكتاب بِالْكتاب لَا يُؤَدِّي إِلَى القَوْل بالتناقض فِي الْحجَّة فَكَذَلِك فِي السّنَن فَإِن جَوَاز نسخ السّنة بِالسنةِ لَا يُؤَدِّي إِلَى التَّنَاقُض وتطرق الطاعنين إِلَى الطعْن فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَذَلِك جَوَاز نسخ الْكتاب بِالسنةِ لَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِك بل يُؤَدِّي ذَلِك إِلَى تَعْظِيم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِلَى قرب مَنْزِلَته من حَيْثُ إِن الله تَعَالَى فوض بَيَان الحكم الَّذِي هُوَ وَحي فِي الأَصْل إِلَيْهِ ليبينه بعبارته وَجعل لعبارته من الدرجَة مَا يثبت بِهِ مُدَّة الحكم الَّذِي هُوَ ثَابت بِوَحْي متلو حَتَّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 يتَبَيَّن بِهِ انتساخه وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه لَا خلاف بَيْننَا وَبَين الْخصم على جَوَاز نسخ التِّلَاوَة دون الحكم وَنسخ تِلَاوَة الْكتاب إِنَّمَا يكون بِغَيْر الْكتاب إِمَّا بِأَن يرفع حفظه من الْقُلُوب أَو لَا يبْقى أحد مِمَّن كَانَ يحفظه نَحْو صحف إِبْرَاهِيم وَمن تقدمه من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَهَذَا نسخ الْكتاب بِغَيْر الْكتاب وَقد جَاءَ فِي الحَدِيث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ فِي صلَاته سُورَة الْمُؤمنِينَ فأسقط مِنْهَا آيَة ثمَّ قَالَ بعد الْفَرَاغ ألم يكن فِيكُم أبي فَقَالَ نعم يَا رَسُول الله فَقَالَ هلا ذكرتنيها فَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا نسخت فَقَالَ لَو نسخت لأنبأتكم بهَا فقد اعْتقد نسخ الْكتاب بِغَيْر الْكتاب وَلم يُنكر ذَلِك عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا ثَبت جَوَاز نسخ التِّلَاوَة بِغَيْر الْكتاب فَكَذَلِك جَوَاز نسخ الحكم لِأَن وجوب التِّلَاوَة وَالْعَمَل بِحكمِهِ كل وَاحِد مِنْهُمَا حكم ثَابت بِالْكتاب وَالدَّلِيل على جَوَاز نسخ الحكم الثَّابِت بِالْكتاب بِغَيْرِهِ أَن قَوْله تَعَالَى {لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد} قد انتسخ بِاتِّفَاق الصَّحَابَة على مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا مَا خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الدُّنْيَا حَتَّى أُبِيح لَهُ النِّسَاء وناسخ هَذَا لَا يُتْلَى فِي الْكتاب فَعرفنَا أَنهم اعتقدوا جَوَاز نسخ الْكتاب بِغَيْر الْكتاب فَأَما قَوْله تَعَالَى {نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} فَهُوَ يخرج على مَا ذكرنَا من التَّقْرِير فَإِن كل وَاحِد من الْحكمَيْنِ ثَابت بطرِيق الْوَحْي وشارعه علام الغيوب وَإِن كَانَت الْعبارَة فِي أَحدهمَا من حَيْثُ الظَّاهِر لرَسُول الله فيستقيم إِطْلَاق القَوْل بِأَن الحكم الثَّانِي مثل الأول أَو خير مِنْهُ على معنى زِيَادَة الثَّوَاب والدرجة فِيهِ أَو كَونه أيسر على الْعباد أَو أجمع لمصالحهم عَاجلا وآجلا إِلَّا أَن الْوَحْي المتلو نظمه معجز وَالَّذِي هُوَ غير متلو نظمه لَيْسَ بمعجز لِأَنَّهُ عبارَة مَخْلُوق وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام وَإِن كَانَ أفْصح الْعَرَب فَكَلَامه لَيْسَ بمعجز أَلا ترى أَنه مَا تحدى النَّاس إِلَى الْإِتْيَان بِمثل كَلَامه كَمَا تحداهم إِلَى الأتيان بِمثل سُورَة من الْقُرْآن وَلَكِن حكم النّسخ لَا يخْتَص بالمعجز أَلا ترى أَن النّسخ يثبت بِمَا دون الْآيَة وبآية وَاحِدَة واتفاق الْعلمَاء على صفة الإعجاز فِي سُورَة وَإِن تكلمُوا فِيمَا دون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 السُّورَة فَعرفنَا أَن حكم النّسخ لَا يخْتَص بالمعجز وَمَا رُوِيَ من قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فاعرضوه على كتاب الله تَعَالَى فقد قيل هَذَا الحَدِيث لَا يكَاد يَصح لِأَن هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه مُخَالف لكتاب الله تَعَالَى فَإِن فِي الْكتاب فَرضِيَّة اتِّبَاعه مُطلقًا وَفِي هَذَا الحَدِيث فَرضِيَّة اتِّبَاعه مُقَيّدا بِأَن لَا يكون مُخَالفا لما يُتْلَى فِي الْكتاب ظَاهرا ثمَّ وَلَئِن ثَبت فَالْمُرَاد أَخْبَار الْآحَاد لَا المسموع مِنْهُ بِعَيْنِه أَو الثَّابِت عَنهُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر وَفِي اللَّفْظ مَا دلّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام إِذا رُوِيَ لكم عني حَدِيث وَلم يقل إِذا سَمِعْتُمْ مني وَبِه نقُول إِن بِخَبَر الْوَاحِد لَا يثبت نسخ الْكتاب لِأَنَّهُ لَا يثبت كَونه مسموعا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قطعا وَلِهَذَا لَا يثبت بِهِ علم الْيَقِين على أَن المُرَاد بقوله وَمَا خَالف فَردُّوهُ عِنْد التَّعَارُض إِذا جعل التَّارِيخ بَينهمَا حَتَّى لَا يُوقف على النَّاسِخ والمنسوخ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ يعْمل بِمَا فِي كتاب الله تَعَالَى وَلَا يجوز ترك مَا هُوَ ثَابت فِي كتاب الله نصا عِنْد التَّعَارُض وَنحن هَكَذَا نقُول وَإِنَّمَا الْكَلَام فِيمَا إِذا عرف التَّارِيخ بَينهمَا وَالدَّلِيل على جَوَاز نسخ السّنة بِالْكتاب قَوْله تَعَالَى {ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبيانا لكل شَيْء} فَإِن السّنة شَيْء ومطلقها يحْتَمل التَّوْقِيت والتأبيد فناسخها يكون مُبينًا معنى التَّوْقِيت فِيهَا وَالله تَعَالَى بَين أَن الْقُرْآن تبيان لكل شَيْء فبه يظْهر جَوَاز نسخ السّنة بِالْكتاب وَالدَّلِيل عَلَيْهِ جَوَاز نسخ السّنة بِالسنةِ فَإِن كل وَاحِد مِنْهُمَا ثَابت بِوَحْي غير متلو فَإِذا جَازَ نسخ السّنة بِوَحْي غير متلو فَلِأَن يجوز نسخهَا بِوَحْي متلو كَانَ أولى وَالدَّلِيل على وجود ذَلِك أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بَعْدَمَا قدم المدنية كَانَ يُصَلِّي إِلَى بَيت الْمُقَدّس سِتَّة عشر شهرا وَهَذَا الحكم لَيْسَ يُتْلَى فِي الْقُرْآن وَإِنَّمَا يثبت بِالسنةِ ثمَّ انتسخ بقوله تَعَالَى {فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام} فَإِن قيل لَا كَذَلِك بل ثُبُوت هَذَا الحكم بِالْكتاب فَإِنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَة من قبلنَا وَعِنْدِي شَرِيعَة من قبلنَا تلزمنا حَتَّى يقوم الدَّلِيل على انتساخه وَهَذَا حكم ثَابت بِالْكتاب وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده} قُلْنَا عنْدك شَرِيعَة من قبلنَا تلزمنا بطرِيق أَنه تصير شَرِيعَة لنا بِسنة رَسُول الله قولا أَو عملا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 فَلَا يخرج بِهَذَا من أَن يكون نسخ السّنة بِالْكتاب مَعَ أَن النَّاسِخ مَا كَانَ فِي شَرِيعَة من قبلنَا قد ثَبت بِفعل رَسُول الله حِين كَانَ بِمَكَّة فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَة ثمَّ بَعْدَمَا قدم الْمَدِينَة لما صلى إِلَى بَيت الْمُقَدّس انتسخت السّنة بِالسنةِ ثمَّ لما نزلت فَرضِيَّة التَّوَجُّه إِلَى الْكَعْبَة انتسخت السّنة بِالْكتاب وَلَا خلاف أَن مَا كَانَ فِي شَرِيعَة من قبلنَا ثَبت انتساخه فِي حَقنا بقول أَو فعل من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخِلَافِهِ وَهَذَا نسخ الْكتاب بِالسنةِ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام صَالح قُريْشًا عَام الْحُدَيْبِيَة على أَن يرد عَلَيْهِم من جَاءَهُ مِنْهُم مُسلما ثمَّ انتسخ بقوله {فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار} الْآيَة وَهَذَا نسخ السّنة بِالْكتاب وَكَذَلِكَ حكم إِبَاحَة الْخمر فِي الِابْتِدَاء فَإِن كَانَ ثَابتا بِالسنةِ ثمَّ انتسخ بِالْكتاب وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنبُوهُ} وَحكم حُرْمَة الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع بعد النّوم فِي زمَان الصَّوْم كَانَ ثَابتا بِالسنةِ ثمَّ انتسخ بقوله تَعَالَى {فَالْآن باشروهن} الْآيَة وَلِهَذَا أَمْثِلَة كَثِيرَة وَأما نسخ الْكتاب بِالْكتاب فنحو وجوب الصفح والإعراض عَن الْمُشْركين فَإِنَّهُ كَانَ ثَابتا بِالْكتاب وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فاصفح الصفح الْجَمِيل} ثمَّ انتسخ ذَلِك بِالْكتاب بقوله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} وَحُرْمَة فرار الْوَاحِد مِمَّا دون الْعشْرَة من الْمُشْركين حكما ثَابتا بِالْكتاب وَهُوَ قَوْله {وَإِن يكن مِنْكُم مائَة يغلبوا ألفا} ثمَّ انتسخ بِالْكتاب وَهُوَ قَوْله {الْآن خفف الله عَنْكُم} وَأما نسخ السّنة بِالسنةِ فبيانه فِيمَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور أَلا فزوروها فقد أذن لمُحَمد فِي زِيَارَة قبر أمه وَكنت نَهَيْتُكُمْ عَن لُحُوم الْأَضَاحِي أَن تمسكوها فَوق ثَلَاثَة أَيَّام فأمسكوا وَادخرُوا مَا بدا لكم وَكنت نَهَيْتُكُمْ عَن الشّرْب فِي الدُّبَّاء والحنتم والمزفت فَاشْرَبُوا فِي الظروف فَإِن الظروف لَا تحل شَيْئا وَلَا تحرمه وَلَا تشْربُوا مُسكرا ثمَّ إِنَّمَا يجوز نسخ الْكتاب بِالسنةِ المتواترة أَو الْمَشْهُورَة على وَجه لَو جهل التَّارِيخ بَينهمَا يثبت حكم التَّعَارُض فَأَما بِخَبَر الْوَاحِد لَا يجوز النّسخ بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن التَّعَارُض بِهِ لَا يثبت بَينه وَبَين الْكتاب فَإِنَّهُ لَا يعلم بِأَنَّهُ كَلَام رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام لتمكن الشُّبْهَة فِي طَرِيق النَّقْل وَلِهَذَا لَا يُوجب الْعلم فَلَا يتَبَيَّن بِهِ أَيْضا مُدَّة بَقَاء الحكم الثَّابِت بِمَا يُوجب علم الْيَقِين فَأَما فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 فقد كَانَ يجوز أَن يثبت نسخ الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد أَلا ترى أَن أهل قبَاء تحولوا فِي خلال الصَّلَاة من جِهَة بَيت الْمُقَدّس إِلَى جِهَة الْكَعْبَة بِخَبَر الْوَاحِد وَلم يُنكر عَلَيْهِم ذَلِك رَسُول الله وَهَذَا لِأَن فِي حَيَاته كَانَ احْتِمَال النّسخ والتوقيت قَائِما فِي كل حكم لِأَن الْوَحْي كَانَ ينزل حَالا فحالا فَأَما بعده فَلَا احْتِمَال للنسخ ابْتِدَاء وَلَا بُد من أَن يكون مَا يثبت بِهِ النّسخ مُسْتَندا إِلَى حَال حَيَاته بطرِيق لَا شُبْهَة فِيهِ وَهُوَ النَّقْل الْمُتَوَاتر أَو مَا يكون فِي حيّز التَّوَاتُر على الْوَجْه الَّذِي قَررنَا فِيمَا سبق وَالله أعلم فصل فِي بَيَان وُجُوه النّسخ وَهَذِه وُجُوه أَرْبَعَة نسخ التِّلَاوَة وَالْحكم جَمِيعًا وَنسخ الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة وَنسخ رسم التِّلَاوَة مَعَ بَقَاء الحكم والنسخ بطرِيق الزِّيَادَة على النَّص فَأَما الْوَجْه الأول فنحو صحف إِبْرَاهِيم وَمن تقدمه من الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام فقد علمنَا بِمَا يُوجب الْعلم حَقِيقَة أَنَّهَا قد كَانَت نازلة تقْرَأ وَيعْمل بهَا قَالَ تَعَالَى {إِن هَذَا لفي الصُّحُف الأولى صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى} وَقَالَ تَعَالَى {وَإنَّهُ لفي زبر الْأَوَّلين} ثمَّ لم يبْق شَيْء من ذَلِك فِي أَيْدِينَا تِلَاوَة وَلَا عملا بِهِ فَلَا طَرِيق لذَلِك سوى القَوْل بانتساخ التِّلَاوَة وَالْحكم فِيمَا يحْتَمل ذَلِك وَله طَرِيقَانِ إِمَّا صرف الله تَعَالَى عَنْهَا الْقُلُوب وَإِمَّا موت من يحفظها من الْعلمَاء لَا إِلَى خلف ثمَّ هَذَا النَّوْع من النّسخ فِي الْقُرْآن كَانَ جَائِزا فِي حَيَاة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام بقوله تَعَالَى {سنقرئك فَلَا تنسى إِلَّا مَا شَاءَ الله} فالاستثناء دَلِيل على جَوَاز ذَلِك وَقَالَ تَعَالَى {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها} وَقَالَ {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك} فَأَما بعد وَفَاة الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا يجوز هَذَا النَّوْع من النّسخ فِي الْقُرْآن عِنْد الْمُسلمين وَقَالَ بعض الْمُلْحِدِينَ مِمَّن يتستر بِإِظْهَار الْإِسْلَام وَهُوَ قَاصد إِلَى إفساده هَذَا جَائِز بعد وَفَاته أَيْضا وَاسْتدلَّ فِي ذَلِك بِمَا رُوِيَ أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ كَانَ يقْرَأ لَا ترغبوا عَن آبائكم فَإِنَّهُ كفر بكم وَأنس رَضِي الله عَنهُ كَانَ يَقُول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 قَرَأنَا فِي الْقُرْآن بلغُوا عَنَّا قَومنَا أَنا لَقينَا رَبنَا فَرضِي عَنَّا وأرضانا وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ قَرَأنَا آيَة الرَّجْم فِي كتاب الله ووعيناها وَقَالَ أبي بن كَعْب إِن سُورَة الْأَحْزَاب كَانَت مثل سُورَة الْبَقَرَة أَو أطول مِنْهَا وَالشَّافِعِيّ لَا يظنّ بِهِ مُوَافقَة هَؤُلَاءِ فِي هَذَا القَوْل وَلكنه اسْتدلَّ بِمَا هُوَ قريب من هَذَا فِي عدد الرضعات فَإِنَّهُ صحّح مَا يرْوى عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَإِن مِمَّا أنزل فِي الْقُرْآن عشر رَضعَات مَعْلُومَات يحرمن فنسخن بِخمْس رَضعَات مَعْلُومَات وَكَانَ ذَلِك مِمَّا يُتْلَى فِي الْقُرْآن بعد وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحَدِيث وَالدَّلِيل على بطلَان هَذَا القَوْل قَوْله تَعَالَى {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} وَمَعْلُوم أَنه لَيْسَ المُرَاد الْحِفْظ لَدَيْهِ فَإِن الله تَعَالَى يتعالى من أَن يُوصف بِالنِّسْيَانِ والغفلة فَعرفنَا أَن المُرَاد الْحِفْظ لدينا فالغفلة وَالنِّسْيَان متوهم منا وَبِه يَنْعَدِم الْحِفْظ إِلَّا أَن يحفظه الله عز وَجل وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو شَيْء من أَوْقَات بَقَاء الْخلق فِي الدُّنْيَا عَن أَن يكون فِيمَا بَينهم مَا هُوَ ثَابت بطرِيق الْوَحْي فِيمَا ابتلوا بِهِ من أَدَاء الْأَمَانَة الَّتِي حملوها إِذْ الْعقل لَا يُوجب ذَلِك وَلَيْسَ بِهِ كِفَايَة بِوَجْه من الْوُجُوه وَقد ثَبت أَنه لَا نَاسخ لهَذِهِ الشَّرِيعَة بِوَحْي ينزل بعد وَفَاة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَلَو جَوَّزنَا هَذَا فِي بعض مَا أُوحِي إِلَيْهِ لوَجَبَ القَوْل بتجويز ذَلِك فِي جَمِيعه فَيُؤَدِّي إِلَى القَوْل بِأَن لَا يبْقى شَيْء مِمَّا ثَبت بِالْوَحْي بَين النَّاس فِي (حَال) بَقَاء التَّكْلِيف وَأي قَول أقبح من هَذَا وَمن فتح هَذَا الْبَاب لم يَأْمَن أَن يكون بعض مَا فِي أَيْدِينَا الْيَوْم أَو كُله مُخَالف لشريعة رَسُول الله بِأَن نسخ الله ذَلِك بعده وَألف بَين قُلُوب النَّاس على أَن ألهمهم مَا هُوَ خلاف شَرِيعَته فلصيانة الدّين إِلَى آخر الدَّهْر أخبر الله تَعَالَى أَنه هُوَ الْحَافِظ لما أنزلهُ على رَسُوله وَبِه يتَبَيَّن أَنه لَا يجوز نسخ شَيْء مِنْهُ بعد وَفَاته بطرِيق الاندراس وَذَهَاب حفظه من قُلُوب الْعباد وَمَا ينْقل من أَخْبَار الْآحَاد شَاذ لَا يكَاد يَصح شَيْء مِنْهَا وَيحمل قَول من قَالَ فِي آيَة الرَّجْم إِنَّه فِي كتاب الله أَي فِي حكم الله تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى {كتاب الله عَلَيْكُم} أَي حكم الله عَلَيْكُم وَحَدِيث عَائِشَة لَا يكَاد يَصح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 لِأَنَّهُ قَالَ فِي ذَلِك الحَدِيث وَكَانَت الصَّحِيفَة تَحت السرير فاشتغلنا بدفن رَسُول الله فَدخل دَاجِن الْبَيْت فَأَكله وَمَعْلُوم أَن بِهَذَا لَا يَنْعَدِم حفظه من الْقُلُوب وَلَا يتَعَذَّر عَلَيْهِم إثْبَاته فِي صحيفَة أُخْرَى فَعرفنَا أَنه لَا أصل هَذَا الحَدِيث فَأَما الْوَجْهَانِ الْآخرَانِ فهما جائزان فِي قَول الْجُمْهُور من الْعلمَاء وَمن النَّاس من يَأْبَى ذَلِك قَالُوا لِأَن الْمَقْصُود بَيَان الحكم وإنزال المتلو كَانَ لأَجله فَلَا يجوز رفع الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة لخلوه عَمَّا هُوَ الْمَقْصُود وَلَا يجوز نسخ التِّلَاوَة مَعَ بَقَاء الحكم لِأَن الحكم لَا يثبت بِدُونِ السَّبَب وَلَا يبْقى بِدُونِ بَقَاء السَّبَب أَيْضا وَمِنْهُم من يَقُول يجوز نسخ الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة وَلَا يجوز نسخ التِّلَاوَة مَعَ بَقَاء الحكم فَإِنَّهُ لَا شكّ فِي وجوب الِاعْتِقَاد فِي المتلو أَنه قُرْآن وَأَنه كَلَام الله تَعَالَى كَيفَ يَصح أَن يعْتَقد فِيهِ خلاف هَذَا فِي شَيْء من الْأَوْقَات وَالْقَوْل بنسخ التِّلَاوَة يُؤَدِّي إِلَى هَذَا فَكَانَ هَذَا نوعا من الْأَخْبَار الَّتِي لَا يجوز فِيهَا النّسخ فَأَما دليلنا على وجود نسخ الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة قَوْله تَعَالَى {فأمسكوهن فِي الْبيُوت} فَإِن الْحَبْس فِي الْبيُوت والأذى بِاللِّسَانِ كَانَ حد الزِّنَا وَقد انتسخ هَذَا الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {مَتَاعا إِلَى الْحول غير إِخْرَاج} فَإِن تَقْدِير عدَّة الْوَفَاة بحول كَانَ منزلا وانتسخ هَذَا الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة وَقَوله تَعَالَى {فقدموا بَين يَدي نَجوَاكُمْ صَدَقَة} فَإِن حكم هَذَا قد انتسخ بقوله {فَإذْ لم تَفعلُوا وَتَابَ الله عَلَيْكُم} وَبقيت التِّلَاوَة وَحكم التَّخْيِير بَين الصَّوْم والفدية قد انتسخ بقوله {فليصمه} وَبقيت التِّلَاوَة وَهُوَ قَوْله {وَأَن تَصُومُوا خير لكم} وَالدَّلِيل على جَوَاز ذَلِك أَنه يتَعَلَّق بِصِيغَة التِّلَاوَة حكمان مقصودان أَحدهمَا جَوَاز الصَّلَاة وَالثَّانِي النّظم المعجز وَبعد انتساخ الحكم الَّذِي هُوَ الْعَمَل بِهِ يبْقى هَذَانِ الحكمان وهما مقصودان أَلا ترى أَن بالمتشابه فِي الْقُرْآن إِنَّمَا يثبت هَذَانِ الحكمان فَقَط وَإِذا حسن ابْتِدَاء رسم التِّلَاوَة لهذين الْحكمَيْنِ فالبقاء أولى وَقد بَينا أَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 الدَّلِيل الْمُوجب لثُبُوت الحكم لَا يكون مُوجبا للبقاء وبالانتساخ إِنَّمَا يَنْعَدِم بَقَاء الحكم وَذَلِكَ مَا كَانَ مُضَافا إِلَى مَا كَانَ مُوجبا ثُبُوت الحكم فانتهاء الحكم لَا يمْنَع بَقَاء التِّلَاوَة من هَذَا الْوَجْه وَأما نسخ التِّلَاوَة مَعَ بَقَاء الحكم فبيانه فِيمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا إِن صَوْم كَفَّارَة الْيَمين ثَلَاثَة أَيَّام متتابعة بِقِرَاءَة ابْن مَسْعُود فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات وَقد كَانَت هَذِه قِرَاءَة مَشْهُورَة إِلَى زمن أبي حنيفَة وَلَكِن لم يُوجد فِيهِ النَّقْل الْمُتَوَاتر الَّذِي يثبت بِمثلِهِ الْقُرْآن وَابْن مَسْعُود لَا يشك فِي عَدَالَته وإتقانه فَلَا وَجه لذَلِك إِلَّا أَن نقُول كَانَ ذَلِك مِمَّا يُتْلَى فِي الْقُرْآن كَمَا حفظه ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ ثمَّ انتسخت تِلَاوَته فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَرْف الله الْقُلُوب عَن حفظهَا إِلَّا قلب ابْن مَسْعُود ليَكُون الحكم بَاقِيا بنقله فَإِن خبر الْوَاحِد مُوجب للْعَمَل بِهِ وقراءته لَا تكون دون رِوَايَته فَكَانَ بَقَاء هَذَا الحكم بعد نسخ التِّلَاوَة بِهَذَا الطَّرِيق وَالدَّلِيل على جَوَازه مَا بَينا أَن بَقَاء الحكم لَا يكون بِبَقَاء السَّبَب الْمُوجب لَهُ فانتساخ التِّلَاوَة لَا يمْنَع بَقَاء الحكم أَلا ترى أَن البيع مُوجب للْملك ثمَّ لَو قطع المُشْتَرِي ملكه بِالْبيعِ من غَيره أَو أزاله بِالْإِعْتَاقِ لم يَنْعَدِم ذَلِك البيع لِأَن الْبَقَاء لم يكن مُضَافا إِلَيْهِ ثمَّ قد بَينا أَن حكم تعلق جَوَاز الصَّلَاة بتلاوته وَحُرْمَة قِرَاءَته على الْجنب وَالْحَائِض مَقْصُود وَهُوَ مِمَّا يجوز أَن يكون موقتا يَنْتَهِي بِمُضِيِّ مدَّته فَيكون نسخ التِّلَاوَة بَيَان مُدَّة ذَلِك الحكم كَمَا أَن نسخ الحكم بَيَان الْمدَّة فِيهِ وَمَا توهمه بَعضهم فَهُوَ غلط بَين فَإِن بَعْدَمَا اعتقدنا فِي المتلو أَنه قُرْآن وَأَنه كَلَام الله تَعَالَى لَا نعتقد فِيهِ أَنه لَيْسَ بقرآن وَأَنه لَيْسَ بِكَلَام الله تَعَالَى بِحَال من الْأَحْوَال وَلَكِن بانتساخ التِّلَاوَة يَنْتَهِي حكم تعلق جَوَاز الصَّلَاة بِهِ وَحُرْمَة قرآءته على الْجنب وَالْحَائِض لضَرُورَة أَن الله تَعَالَى رفع عَنَّا تِلَاوَته وَحفظه وَهُوَ نَظِير مَا يَقُول فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد مَا قبض نعتقد فِيهِ أَنه رَسُول الله وَأَنه خَاتم الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام على مَا كَانَ فِي حَال حَيَاته وَإِن أخرجه الله من بَيْننَا بانتهاء مُدَّة حَيَاته فِي الدُّنْيَا وأيد جَمِيع مَا ذكرنَا قَوْله تَعَالَى {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك} ثمَّ قد بَينا أَنه يجوز إِثْبَات الحكم ابْتِدَاء بِوَحْي غير متلو فَلِأَن يجوز بَقَاء الحكم بَعْدَمَا انتسخ حكم التِّلَاوَة من الْوَحْي المتلو كَانَ أولى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 وَأما الْوَجْه الرَّابِع وَهُوَ الزِّيَادَة على النَّص فَإِنَّهُ بَيَان صُورَة وَنسخ معنى عندنَا سَوَاء كَانَت الزِّيَادَة فِي السَّبَب أَو الحكم وعَلى قَول الشَّافِعِي هُوَ بِمَنْزِلَة تَخْصِيص الْعَام وَلَا يكون فِيهِ معنى النّسخ حَتَّى جوز ذَلِك بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس وَبَيَان هَذَا فِي النَّفْي مَعَ الْجلد وَقيد صفة الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الظِّهَار وَالْيَمِين وَجه قَوْله إِن الرَّقَبَة اسْم عَام يتَنَاوَل المؤمنة والكافرة فإخراج الْكَافِرَة مِنْهَا يكون تَخْصِيصًا لَا نسخا بِمَنْزِلَة إِخْرَاج بعض الْأَعْيَان من الِاسْم الْعَام أَلا ترى أَن بني إِسْرَائِيل استوصفوا الْبَقَرَة وَكَانَ ذَلِك مِنْهُم طلب الْبَيَان الْمَحْض دون النّسخ وَبَعْدَمَا بَينهَا الله لَهُم امتثلوا الْأَمر الْمَذْكُور فِي قَوْله {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة} وَهَذَا لِأَن النّسخ يكون بِرَفْع الحكم الْمَشْرُوع وَفِي الزِّيَادَة تَقْرِير الحكم الْمَشْرُوع وإلحاق شَيْء آخر بِهِ بطرِيق المحاورة فَإِن إِلْحَاق النَّفْي بِالْجلدِ لَا يخرج الْجلد من أَن يكون مَشْرُوعا وإلحاق صفة الْإِيمَان بِالرَّقَبَةِ لَا يخرج الرَّقَبَة من أَن تكون مُسْتَحقَّة الْإِعْتَاق فِي الْكَفَّارَة وَهَذَا نَظِير حُقُوق الْعباد فَإِن من ادّعى على غَيره ألفا وخمسائة وَشهد لَهُ شَاهِدَانِ بِأَلف وآخران بِأَلف وخمسائة حَتَّى قضى لَهُ بِالْمَالِ كُله كَانَ مِقْدَار الْألف مقضيا بِهِ بِشَهَادَتِهِم جَمِيعًا وإلحاق الزِّيَادَة بِالْألف فِي شَهَادَة الآخر يُوجب تَقْرِير الأَصْل فِي كَونه مشهودا بِهِ لَا رَفعه فَتبين بِهَذَا أَن الزِّيَادَة لَا تتعرض لأصل الحكم الْمَشْرُوع فَلَا يكون فِيهَا معنى النّسخ بِوَجْه من الْوُجُوه ثمَّ قد يكون بطرِيق التَّخْصِيص وَقد لَا يكون وَلِهَذَا لَا يشْتَرط فِيهَا أَن تكون مقرونة بِالْأَصْلِ كَمَا يشْتَرط ذَلِك فِي دَلِيل الْخُصُوص وحاجتنا إِلَى إِثْبَات أَن ذَلِك لَيْسَ بنسخ وَقد أَثْبَتْنَاهُ بِمَا قَررنَا وَحجَّتنَا فِي ذَلِك أَن أَكثر مَا ذكره الْخصم دَلِيل على أَن الزِّيَادَة بَيَان صُورَة وَنحن نسلم ذَلِك وَلَكنَّا ندعي أَنه نسخ معنى وَالدَّلِيل على إِثْبَات ذَلِك أَن مَا يجب حَقًا لله تَعَالَى من عبَادَة أَو عُقُوبَة أَو كَفَّارَة لَا يحْتَمل الْوَصْف بالتجزي وَلَيْسَ للْبَعْض مِنْهُ حكم الْجُمْلَة بِوَجْه فَإِن الرَّكْعَة من صَلَاة الْفجْر لَا تكون فجرا والركعتين من صَلَاة الظّهْر فِي حق الْمُقِيم لَا تكون ظهرا وَكَذَلِكَ الْمظَاهر إِذا صَامَ شهرا ثمَّ عجز فأطعم ثَلَاثِينَ مِسْكينا لَا يكون مكفرا بِهِ بِالْإِطْعَامِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 وَلَا بِالصَّوْمِ وَلِهَذَا قُلْنَا الْقَاذِف إِذا جلد تِسْعَة وَسبعين سَوْطًا لَا تسْقط شَهَادَته لِأَن الْحَد ثَمَانُون سَوْطًا فبعضه لَا يكون حدا إِذا تقرر هَذَا فَنَقُول الثَّابِت بِآيَة الزِّنَا جلد وَهُوَ حد فَإِذا الْتحق النَّفْي بِهِ يخرج الْجلد من أَن يكون حدا لِأَنَّهُ يكون بعض الْحَد حِينَئِذٍ وَبَعض الْحَد لَيْسَ بِحَدّ بِمَنْزِلَة بعض الْعلَّة فَإِنَّهُ لَا يُوجب شَيْئا من الحكم الثَّابِت بِالْعِلَّةِ فَكَانَ نسخا من هَذَا الْوَجْه وَكَذَلِكَ فِي الرَّقَبَة فَإِن مَعَ الْإِطْلَاق التَّكْفِير بتحرير رَقَبَة وَبعد الْقَيْد تَحْرِير رَقَبَة بعض مَا يتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَة فَعرفنَا أَنه نسخ وَبِه فَارق حُقُوق الْعباد فَإِنَّهُ مِمَّا يحْتَمل الْوَصْف بالتجزي فَيمكن أَن يَجْعَل إِلْحَاق الزِّيَادَة بِهِ تقريرا للمزيد عَلَيْهِ حَتَّى إِن فِيمَا لَا يحْتَمل التجزي من حُقُوق الْعباد الحكم كَذَلِك أَيْضا فَإِن البيع لما كَانَ عبارَة عَن الْإِيجَاب وَالْقَبُول لم يكن الْإِيجَاب الْمَحْض بيعا وَنِكَاح أَربع نسْوَة لما كَانَ مُوجبا حُرْمَة النِّكَاح عَلَيْهِ لَا يثبت شَيْء من ذَلِك بِنِكَاح امْرَأَة أَو امْرَأتَيْنِ لِأَن لَيْسَ بِنِكَاح أَربع نسْوَة وَقد بَينا فِي قصَّة بني إِسْرَائِيل أَن ذَلِك كَانَ بَيَانا صُورَة وَكَانَ نسخا معنى كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا بقوله شَدَّدُوا فَشدد الله عَلَيْهِم يدل عَلَيْهِ أَن النّسخ لبَيَان مُدَّة بَقَاء الحكم وَإِثْبَات حكم آخر ثمَّ الْإِطْلَاق ضد التَّقْيِيد فَكَانَ من ضَرُورَة ثُبُوت التَّقْيِيد انعدام صفة الْإِطْلَاق وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بعد انْتِهَاء مُدَّة حكم الْإِطْلَاق وَإِثْبَات حكم هُوَ ضِدّه وَهُوَ التَّقْيِيد وَإِذا كَانَ إِثْبَات حكم غير الأول على وَجه يعلم أَنه لم يبْق مَعَه الأول نسخا فإثبات حكم هُوَ ضد الأول أولى أَن يكون نسخا بطرِيق الْمَعْنى وَبِه فَارق التَّخْصِيص فَإِن التَّخْصِيص لَا يُوجب حكما فِيمَا تنَاوله الْعَام غير الحكم الأول وَلَكِن يبين أَن الْعَام لم يكن متناولا لما صَار مَخْصُوصًا مِنْهُ وَلِهَذَا لَا يكون التَّخْصِيص إِلَّا مُقَارنًا يقرره أَن التَّخْصِيص للإخراج وَالتَّقْيِيد للإثبات وَأي مشابهة تكون بَين الْإِخْرَاج من الحكم وَبَين إِثْبَات الحكم وَهَذَا لِأَن الْإِطْلَاق يعْدم صفة التَّقْيِيد وَالتَّقْيِيد إِيجَاد لذَلِك الْوَصْف فَبعد مَا ثَبت التَّقْيِيد لَا يتَصَوَّر بَقَاء صفة الْإِطْلَاق وَلَا يكون الحكم ثَابتا لما تنَاوله صِيغَة الْإِطْلَاق وَإِنَّمَا يكون ثَابتا بالمقيد من اللَّفْظ فَأَما الْعَام إِذا خص مِنْهُ شَيْء يبْقى الحكم ثَابتا فِيمَا وَرَاءه بِمُقْتَضى لفظ الْعُمُوم فَقَط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 وَإِذا كَانَ بَقَاء الحكم بِمَا كَانَ النَّص الْعَام متناولا لَهُ عرفنَا أَن التَّخْصِيص لَا يكون تعرضا لما وَرَاء الْمَخْصُوص بِشَيْء وَبَيَان هَذَا أَن قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} وَإِن خص مِنْهُ أهل الذِّمَّة وَغَيرهم فَمن لَا أَمَان لَهُ يجب قَتله لِأَنَّهُ مُشْرك وَفِي قَوْله {فَتَحْرِير رَقَبَة} إِذا قيدنَا بِصفة الْإِيمَان لَا تتأدى الْكَفَّارَة بِمَا يتَنَاوَلهُ اسْم الرَّقَبَة بل بِمَا يتَنَاوَلهُ اسْم الرَّقَبَة المؤمنة فَعرفنَا أَنه فِي معنى النّسخ وَلَيْسَ بتخصيص وَلِأَن التَّخْصِيص يصرف فِيمَا كَانَ اللَّفْظ متناولا لَهُ بِاعْتِبَار دَلِيل الظَّاهِر لَوْلَا دَلِيل الْخُصُوص وَالتَّقْيِيد تصرف فِيمَا لم يكن اللَّفْظ متناولا لَهُ أصلا لَوْلَا التَّقْيِيد فَإِن اسْم الرَّقَبَة لَا يتَنَاوَل صفتهَا من حَيْثُ الْإِيمَان وَالْكفْر فَعرفنَا أَنه نسخ والنسخ فِي الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ لَا يكون بِخَبَر الْوَاحِد وَلَا بِالْقِيَاسِ وعَلى هَذَا قُلْنَا لَا تتَعَيَّن الْفَاتِحَة للْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة ركنا لِأَنَّهُ زِيَادَة على مَا ثَبت بِالنَّصِّ وَلَا تثبت الطَّهَارَة عَن الْحَدث شرطا فِي ركن الطّواف لِأَنَّهُ زِيَادَة على النَّص وَلَا يثبت النَّفْي حدا مَعَ الْجلد فِي زنا الْبكر لِأَنَّهُ زِيَادَة وَلَا يثبت اشْتِرَاط صفة الْإِيمَان فِي كَفَّارَة الْيَمين وَالظِّهَار لِأَنَّهُ زِيَادَة وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رحمهمَا الله شرب الْقَلِيل من الطلاء المثلث لَا يكون حَرَامًا لِأَن الْمحرم السكر بِالنَّصِّ وَشرب الْقَلِيل بعض الْعلَّة فِيمَا يحصل بِهِ السكر فَلَا يكون مُسكرا وعَلى هَذَا قَالَ أَصْحَابنَا إِذا وجد الْمُحدث من المَاء مَا لَا يَكْفِيهِ لوضوئه أَو الْجنب مَا لَا يَكْفِيهِ لاغتساله فَإِنَّهُ يتَيَمَّم وَلَا يسْتَعْمل ذَلِك المَاء لِأَن الْوَاجِب اسْتِعْمَال المَاء الَّذِي هُوَ طهُور وَهَذَا بِمَنْزِلَة بعض الْعلَّة فِي حكم الطَّهَارَة فَلَا يكون طهُورا فوجوده لَا يمْنَع التَّيَمُّم وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا شهد أحد الشَّاهِدين بِالْبيعِ بِأَلف وَالْآخر بِالْبيعِ بِأَلف وَخَمْسمِائة لَا تقبل الشَّهَادَة فِي إِثْبَات العقد بِأَلف وَإِن اتّفق عَلَيْهِ الشَّاهِدَانِ ظَاهرا لِأَن الَّذِي شهد بِأَلف وَخَمْسمِائة قد جعل الْألف بعض الثّمن وانعقاد البيع بِجَمِيعِ الثّمن الْمُسَمّى لَا بِبَعْضِه فَمن هَذَا الْوَجْه كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي الْمَعْنى شَاهد لعقد آخر وَالْألف الْمَذْكُور فِي شَهَادَة الثَّانِي كَانَ بِحَيْثُ يثبت بِهِ العقد لَوْلَا وصل شَيْء آخر بِهِ بِمَنْزِلَة التَّخْيِير فِي الطَّلَاق وَالْعتاق يصير شَيْئا آخر إِذا اتَّصل بِهِ التَّعْلِيق بِالشّرطِ فَحكم الزِّيَادَة يكون بِهَذِهِ الصّفة أَيْضا وَالَّذِي يُقرر جَمِيع مَا ذكرنَا أَن النّسخ إِنَّمَا يثبت بِمَا لَو جهل التَّارِيخ فِيهِ كَانَ مُعَارضا وَهَذَا يتَحَقَّق فِي الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد فَإِنَّهُ لَو جهل التَّارِيخ بَين النَّص الْمُطلق والمقيد يثبت التَّعَارُض بَينهمَا فَعرفنَا أَنه عِنْد معرفَة وَيجوز أَن يرد النّسخ على مَا هُوَ نَاسخ كَمَا يجوز أَن يرد النّسخ على مَا كَانَ مَشْرُوعا ابْتِدَاء إِذْ الْمَعْنى لَا يُوجب الْفرق بَينهمَا وَبَيَان هَذَا فِيمَا نقل عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن حُرْمَة مفاداة الْأَسير الثَّابِت بقوله تَعَالَى {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى} قد انتسخ التَّارِيخ بَينهمَا يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 التَّقْيِيد فِي النَّص الْمُطلق نسخا من حَيْثُ الْمَعْنى بقوله تَعَالَى {فإمَّا منا بعد وَإِمَّا فدَاء} ثمَّ قَالَ السّديّ هَذَا قد انتسخ بقوله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} لِأَن سُورَة بَرَاءَة من آخر مَا نزل فَكَانَ نَاسِخا للْحكم الَّذِي كَانَ قبله وَكَذَلِكَ حكم الْحَبْس فِي الْبيُوت والأذى بِاللِّسَانِ فِي كَونه حدا قد انتسخ بقوله عَلَيْهِ السَّلَام (خُذُوا عني) الحَدِيث ثمَّ هَذَا الحكم انتسخ بنزول قَوْله تَعَالَى {فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} وبرجم النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام مَاعِز بن مَالك رَضِي الله عَنهُ وَاسْتقر الحكم على أَن الْحَد الْكَامِل فِي حق غير الْمُحصن مائَة جلدَة وَفِي حق الْمُحصن الرَّجْم وَمِمَّا اخْتلفُوا فِي أَنه نسخ أم لَا حكم الْمِيرَاث فقد كَانَ التوريث بِالْحلف وَالْهجْرَة ثَابتا فِي الِابْتِدَاء قَالَ تَعَالَى {وَالَّذين عقدت أَيْمَانكُم فآتوهم نصِيبهم} وَقَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا} إِلَى قَوْله {أُولَئِكَ بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَالَّذين آمنُوا وَلم يهاجروا} الْآيَة ثمَّ انتسخ هَذَا عِنْد بعض الْعلمَاء بنزول قَوْله تَعَالَى {وأولو الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله من الْمُؤمنِينَ والمهاجرين} الْآيَة وَمِنْهُم من قَالَ هَذَا لَيْسَ بنسخ وَلَكِن هَذَا تَقْدِيم وَارِث على وَارِث فَلَا يكون نسخا كتقديم الابْن على الْأَخ فِي الْمِيرَاث لَا يكون نسخ التوريث بالأخوة وَتَقْدِيم الشَّرِيك على الْجَار فِي اسْتِحْقَاق الشُّفْعَة لَا يكون نسخ حكم الشُّفْعَة بالجوار وَالأَصَح أَن نقُول هَذَا نسخ بعض الْأَحْوَال دون الْبَعْض فَإِن قَوْله تَعَالَى {فآتوهم نصِيبهم} تنصيص على أَن بِالْحلف يسْتَحق النَّصِيب من الْمِيرَاث مَعَ وجود الْقَرِيب ثمَّ انتسخ هَذَا الحكم بقوله تَعَالَى {وأولو الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله} حَتَّى لَا يسْتَحق بِالْحلف شَيْئا مَعَ وجود الْقَرِيب أصلا فَعرفنَا أَن هَذَا الحكم قد انْتهى فِي هَذِه الْحَالة فَكَانَ نسخا وَإِن كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 الْإِرْث بِهَذَا السَّبَب بَاقِيا فِي غير هَذِه الْحَالة وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله يَا معشر هَمدَان إِنَّه لَيْسَ حَيّ من أَحيَاء الْعَرَب أَحْرَى أَن يَمُوت الرجل فيهم وَلَا يعرف لَهُ نسب مِنْكُم فَإِذا كَانَ ذَلِك فليضع مَاله حَيْثُ أحب وَالله أعلم بَاب الْكَلَام فِي أَفعَال النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام اعْلَم بِأَن أَفعاله الَّتِي تكون عَن قصد تَنْقَسِم أَرْبَعَة أَقسَام مُبَاح ومستحب وواجب وَفرض وَهنا نوع خَامِس وَهُوَ الزلة وَلكنه غير دَاخل فِي هَذَا الْبَاب لِأَنَّهُ لَا يصلح للاقتداء بِهِ فِي ذَلِك وَعقد الْبَاب لبَيَان حكم الِاقْتِدَاء بِهِ فِي أَفعاله وَلِهَذَا لم يذكر فِي الْجُمْلَة مَا يحصل فِي حَالَة النّوم وَالْإِغْمَاء لِأَن الْقَصْد لَا يتَحَقَّق فِيهِ فَلَا يكون دَاخِلا فِيمَا هُوَ حد الْخطاب وَأما الزلة فَإِنَّهُ لَا يُوجد فِيهَا الْقَصْد إِلَى عينهَا أَيْضا وَلَكِن يُوجد الْقَصْد إِلَى أصل الْفِعْل وَبَيَان هَذَا أَن الزلة أخذت من قَول الْقَائِل زل الرجل فِي الطين إِذا لم يُوجد الْقَصْد إِلَى الْوُقُوع وَلَا إِلَى الثَّبَات بعد الْوُقُوع وَلَكِن وجد الْقَصْد إِلَى الْمَشْي فِي الطَّرِيق فَعرفنَا بِهَذَا أَن الزلة مَا تتصل بالفاعل عِنْد فعله مَا لم يكن قَصده بِعَيْنِه وَلكنه زل فاشتغل بِهِ عَمَّا قصد بِعَيْنِه وَالْمَعْصِيَة عِنْد الْإِطْلَاق إِنَّمَا يتَنَاوَل مَا يَقْصِدهُ الْمُبَاشر بِعَيْنِه وَإِن كَانَ قد أطلق الشَّرْع ذَلِك على الزلة مجَازًا ثمَّ لَا بُد أَن يقْتَرن بالزلة بَيَان من جِهَة الْفَاعِل أَو من الله تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى مخبرا عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عِنْد قتل القبطي {هَذَا من عمل الشَّيْطَان} الْآيَة وكما قَالَ تَعَالَى {وَعصى آدم ربه فغوى} الْآيَة وَإِذا كَانَ الْبَيَان يقْتَرن بِهِ لَا محَالة علم أَنه غير صَالح للاقتداء بِهِ ثمَّ اخْتلف النَّاس فِي أَفعاله الَّتِي لَا تكون عَن سَهْو وَلَا من نتيجة الطَّبْع على مَا جبل عَلَيْهِ الْإِنْسَان مَا هُوَ مُوجب ذَلِك فِي حق أمته فَقَالَ بَعضهم الْوَاجِب هُوَ الْوَقْف فِي ذَلِك حَتَّى يقوم الدَّلِيل وَقَالَ بَعضهم بل يجب اتِّبَاعه والاقتداء بِهِ فِي جَمِيع ذَلِك إِلَّا مَا يقوم عَلَيْهِ دَلِيل وَكَانَ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 رَحمَه الله يَقُول إِن علم صفة فعله أَنه فعله وَاجِبا أَو ندبا أَو مُبَاحا فَإِنَّهُ يتبع فِيهِ بِتِلْكَ الصّفة وَإِن لم يعلم فَإِنَّهُ يثبت فِيهِ صفة الْإِبَاحَة ثمَّ لَا يكون الِاتِّبَاع فِيهِ ثَابتا إِلَّا بِقِيَام الدَّلِيل وَكَانَ الْجَصَّاص رَحمَه الله يَقُول بقول الْكَرْخِي رَحمَه الله إِلَّا أَنه يَقُول إِذا لم يعلم فالاتباع لَهُ فِي ذَلِك ثَابت حَتَّى يقوم الدَّلِيل على كَونه مَخْصُوصًا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فَأَما الواقفون احْتَجُّوا فَقَالُوا لما أشكل صفة فعله فقد تعذر اتِّبَاعه فِي ذَلِك على وَجه الْمُوَافقَة لِأَن ذَلِك لَا يكون بالموافقة فِي أصل الْفِعْل دون الصّفة فَإِنَّهُ إِذا كَانَ هُوَ فعل فعلا نفلا وَنحن نفعله فرضا يكون ذَلِك مُنَازعَة لَا مُوَافقَة وَاعْتبر هَذَا بِفعل السَّحَرَة مَعَ مَا رَأَوْهُ من الكليم ظَاهرا فَإِنَّهُ كَانَ مُنَازعَة مِنْهُم فِي الِابْتِدَاء لِأَن فعلهم لم يكن بِصفة فعله فَعرفنَا أَن الْوَصْف إِذا كَانَ مُشكلا لَا تتَحَقَّق الْمُوَافقَة فِي الْفِعْل لَا محَالة وَلَا وَجه للمخالفة فَيجب الْوَقْف فِيهِ حَتَّى يقوم الدَّلِيل وَهَذَا الْكَلَام عِنْد التَّأَمُّل بَاطِل فَإِن هَذَا الْقَائِل إِن كَانَ يمْنَع الْأمة من أَن يَفْعَلُوا مثل فعله بِهَذَا الطَّرِيق ويلومهم على ذَلِك فقد أثبت صفة الْحَظْر فِي الِاتِّبَاع وَإِن كَانَ لَا يمنعهُم من ذَلِك وَلَا يلومهم عَلَيْهِ فقد أثبت صفة الْإِبَاحَة فَعرفنَا أَن القَوْل بِالْوَقْفِ لَا يتَحَقَّق فِي هَذَا الْفَصْل وَأما الْفَرِيق الثَّانِي فقد استدلوا بالنصوص الْمُوجبَة للاقتداء برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَقْوَاله وأفعاله نَحْو قَوْله تَعَالَى {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} وَقَوله تَعَالَى {وَأَطيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول} وَقَوله تَعَالَى {فَاتبعُوني يحببكم الله} وَقَوله تَعَالَى {الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي} إِلَى قَوْله {واتبعوه لَعَلَّكُمْ تهتدون} وَقَوله تَعَالَى {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} أَي عَن سمته وطريقته وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَمر فِرْعَوْن برشيد} فَفِي هَذِه النُّصُوص دَلِيل على وجوب الِاتِّبَاع علينا إِلَى أَن يقوم الدَّلِيل يمْنَع من ذَلِك فَأَما الدَّلِيل لنا فِي هَذَا الْفَصْل أَن نقُول صَحَّ فِي الحَدِيث أَن النَّبِي عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 السَّلَام خلع نَعْلَيْه فِي الصَّلَاة فَخلع النَّاس نعَالهمْ فَلَمَّا فرغ قَالَ مَا لكم خلعتم نعالكم الحَدِيث فَلَو كَانَ مُطلق فعله مُوجبا للمتابعة لم يكن لقَوْله مَا لكم خلعتم نعالكم معنى وَخرج للتراويح لَيْلَة أَو لَيْلَتَيْنِ فَلَمَّا قيل لَهُ فِي ذَلِك قَالَ خشيت أَن تكْتب عَلَيْكُم وَلَو كتبت عَلَيْكُم مَا قُمْتُم بهَا فو كَانَ مُطلق فعله يلْزمنَا الِاتِّبَاع لَهُ فِي ذَلِك لم يكن لقَوْله خشيت أَن تكْتب عَلَيْكُم معنى ثمَّ قد بَينا أَن الْمُوَافقَة حَقِيقَتهَا فِي أصل الْفِعْل وَصفته فَعِنْدَ الْإِطْلَاق إِنَّمَا يثبت الْقدر الْمُتَيَقن بِهِ وَهُوَ صفة الْإِبَاحَة فَإِنَّهُ يَتَرَتَّب عَلَيْهِ التَّمَكُّن من إِيجَاد الْفِعْل شرعا فَيثبت الْقدر الْمُتَيَقن بِهِ (وَهُوَ صفة الْإِبَاحَة) من الْوَصْف ويتوقف مَا وَرَاء ذَلِك على قيام الدَّلِيل بِمَنْزِلَة رجل يَقُول لغيره وَكلتك بِمَالي فَإِنَّهُ يملك الْحِفْظ لِأَنَّهُ مُتَيَقن لكَونه مُرَاد الْمُوكل وَلَا يثبت مَا سوى ذَلِك من التَّصَرُّفَات حَتَّى يقوم الدَّلِيل يُقرر مَا ذكرنَا أَن الْفِعْل قِسْمَانِ أَخذ وَترك ثمَّ أحد قسمي أَفعاله وَهُوَ التّرْك لَا يُوجب الِاتِّبَاع علينا إِلَّا بِدَلِيل فَكَذَلِك الْقسم الآخر وَبَيَان هَذَا أَنه حِين كَانَ الْخمر مُبَاحا قد ترك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شربهَا أصلا ثمَّ ذَلِك لَا يُوجب علينا ترك الشّرْب فِيمَا هُوَ مُبَاح يُوضحهُ أَن مُطلق فعله لَو كَانَ مُوجبا لِلِاتِّبَاعِ لَكَانَ ذَلِك عَاما فِي جَمِيع أَفعاله وَلَا وَجه لِلْقَوْلِ بذلك لِأَن ذَلِك يُوجب على كل أحد أَن لَا يُفَارِقهُ آنَاء اللَّيْل وَالنَّهَار ليقف على جَمِيع أَفعاله فيقتدي بِهِ لِأَنَّهُ لَا يخرج عَن الْوَاجِب إِلَّا بذلك وَمَعْلُوم أَن هَذَا مِمَّا لَا يتَحَقَّق وَلَا يَقُول بِهِ أحد فَعرفنَا أَن مُطلق الْفِعْل لَا يلْزمنَا اتِّبَاعه فِي ذَلِك فَأَما الْآيَات فَفِي قَوْله {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} دَلِيل على أَن التأسي بِهِ فِي أَفعاله لَيْسَ بِوَاجِب لِأَنَّهُ لَو كَانَ وَاجِبا لَكَانَ من حق الْكَلَام أَن يَقُول عَلَيْكُم فَفِي قَوْله {لكم} دَلِيل على أَن ذَلِك مُبَاح لنا لَا أَن يكون لَازِما علينا وَالْمرَاد بِالْأَمر بالاتباع التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار بِمَا جَاءَ بِهِ فَإِن الْخطاب بذلك لأهل الْكتاب وَذَلِكَ بَين فِي سِيَاق الْآيَة وَالْمرَاد بِالْأَمر مَا يفهم من مُطلق لفظ الْأَمر عِنْد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 الْإِطْلَاق وَقد تقدم بَيَان هَذَا فِي أول الْكتاب ثمَّ قَالَ الْكَرْخِي قد ظهر خُصُوصِيَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأَشْيَاء لاختصاصه بِمَا لَا شركَة لأحد من أمته مَعَه فِي ذَلِك فَكل فعل يكون مِنْهُ فَهُوَ مُحْتَمل للوصف لجَوَاز أَن يكون هَذَا مِمَّا اخْتصَّ هُوَ بِهِ وَيجوز أَن يكون مِمَّا هُوَ غير مَخْصُوص بِهِ وَعند احْتِمَال الْجَانِبَيْنِ على السوَاء يجب الْوَقْف حَتَّى يقوم الدَّلِيل لتحَقّق الْمُعَارضَة وَلَكِن الصَّحِيح مَا ذهب إِلَيْهِ الْجَصَّاص لِأَن فِي قَوْله تَعَالَى {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} تنصيص على جَوَاز التأسي بِهِ فِي أَفعاله فَيكون هَذَا النَّص مَعْمُولا بِهِ حَتَّى يقوم الدَّلِيل الْمَانِع وَهُوَ مَا يُوجب تَخْصِيصه بذلك وَقد دلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا زَوَّجْنَاكهَا لكَي لَا يكون على الْمُؤمنِينَ حرج فِي أَزوَاج أدعيائهم} وَفِي هَذَا بَيَان أَن ثُبُوت الْحل فِي حَقه مُطلقًا دَلِيل ثُبُوته فِي حق الْأمة أَلا ترى أَنه نَص على تَخْصِيصه فِيمَا كَانَ هُوَ مَخْصُوصًا بِهِ بقوله تَعَالَى {خَالِصَة لَك من دون الْمُؤمنِينَ} وَهُوَ النِّكَاح بِغَيْر مهر فَلَو لم يكن مُطلق فعله دَلِيلا للْأمة فِي الْإِقْدَام على مثله لم يكن لقَوْله {خَالِصَة لَك} فَائِدَة فَإِن الخصوصية تكون ثَابِتَة بِدُونِ هَذِه الْكَلِمَة وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لما قَالَ لعبد الله بن رَوَاحَة حِين صلى على الأَرْض فِي يَوْم قد مُطِرُوا فِي السّفر ألم يكن لَك فِي أُسْوَة فَقَالَ أَنْت تسْعَى فِي رَقَبَة قد فكت وَأَنا أسعى فِي رَقَبَة لم يعرف فكاكها فَقَالَ إِنِّي مَعَ هَذَا أَرْجُو أَن أكون أخشاكم لله وَلما سَأَلت امْرَأَة أم سَلمَة عَن الْقبْلَة للصَّائِم فَقَالَت إِن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام يقبل وَهُوَ صَائِم فَقَالَت لسنا كرسول الله قد غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر ثمَّ سَأَلت أم سَلمَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن سؤالها فَقَالَ هلا أخْبرتهَا أَنِّي أقبل وَأَنا صَائِم فَقَالَت قد أخْبرتهَا بذلك فَقَالَت كَذَا فَقَالَ إِنِّي أَرْجُو أَن أكون أَتْقَاكُم لله وَأعْلمكُمْ بِحُدُودِهِ فَفِي هَذَا بَيَان أَن اتِّبَاعه فِيمَا يثبت من أَفعاله أصل حَتَّى يقوم الدَّلِيل على كَونه مَخْصُوصًا بِفِعْلِهِ وَهَذَا لِأَن الرُّسُل أَئِمَّة يقْتَدى بهم كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنِّي جاعلك للنَّاس إِمَامًا} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 فَالْأَصْل فِي كل فعل يكون مِنْهُم جَوَاز الِاقْتِدَاء بهم إِلَّا مَا يثبت فِيهِ دَلِيل الخصوصية بِاعْتِبَار أَحْوَالهم وعلو مَنَازِلهمْ وَإِذا كَانَ الأَصْل هَذَا فَفِي كل فعل يكون مُبْهَم بِصفة الْخُصُوص يجب بَيَان الخصوصية مُقَارنًا بِهِ إِذْ الْحَاجة إِلَى ذَلِك ماسة عِنْد كل فعل يكون (مِنْهُم) حكمه بِخِلَاف هَذَا الأَصْل وَالسُّكُوت عَن الْبَيَان بعد تحقق الْحَاجة دَلِيل النَّفْي فَترك بَيَان الخصوصية يكون دَلِيلا على أَنه من جملَة الْأَفْعَال الَّتِي هُوَ فِيهَا قدوة أمته فصل فِي بَيَان طَريقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي إِظْهَار أَحْكَام الشَّرْع قد بَينا أَنه كَانَ يعْتَمد الْوَحْي فِيمَا بَينه من أَحْكَام الشَّرْع وَالْوَحي نَوْعَانِ ظَاهر وباطن فَالظَّاهِر مِنْهُ قِسْمَانِ (أَحدهمَا) مَا يكون على لِسَان الْملك بِمَا يَقع فِي سَمعه بعد علمه بالمبلغ بِأَنَّهُ قَاطِعَة وَهُوَ المُرَاد بقوله تَعَالَى {قل نزله روح الْقُدس من رَبك بِالْحَقِّ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم} الْآيَة وَالْآخر مَا يَتَّضِح لَهُ بِإِشَارَة الْملك من غير بَيَان بِكَلَام وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله إِن روح الْقُدس نفث فِي روعي أَن نفسا لن تَمُوت حَتَّى تستوفي رزقها فَاتَّقُوا الله وأجملوا فِي الطّلب وَالْوَحي الْبَاطِن هُوَ تأييد الْقلب على وَجه لَا يبْقى فِيهِ شُبْهَة وَلَا معَارض وَلَا مُزَاحم وَذَلِكَ بِأَن يظْهر لَهُ الْحق بِنور فِي قلبه من ربه يَتَّضِح لَهُ حكم الْحَادِثَة بِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الله تَعَالَى بقوله {لتَحكم بَين النَّاس بِمَا أَرَاك الله} وَهَذَا كُله مَقْرُونا بالابتلاء وَمعنى الِابْتِلَاء هُوَ التَّأَمُّل بِقَلْبِه فِي حَقِيقَته حَتَّى يظْهر لَهُ مَا هُوَ الْمَقْصُود وكل ذَلِك خَاص لرَسُول الله تثبت بِهِ الْحجَّة القاطعة وَلَا شركَة للْأمة فِي ذَلِك إِلَّا أَن يكرم الله بِهِ من شَاءَ من أمته لحقه وَذَلِكَ الْكَرَامَة للأولياء وَأما مَا يشبه الْوَحْي فِي حق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ استنباط الْأَحْكَام من النُّصُوص بِالرَّأْيِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 وَالِاجْتِهَاد فَإِنَّمَا يكون من رَسُول الله بِهَذَا الطَّرِيق فَهُوَ بِمَنْزِلَة الثَّابِت بِالْوَحْي لقِيَام الدَّلِيل على أَنه يكون ثَوابًا لَا محَالة فَإِنَّهُ كَانَ لَا يقر على الْخَطَأ فَكَانَ ذَلِك مِنْهُ حجَّة قَاطِعَة وَمثل هَذَا من الْأمة لَا يَجْعَل بِمَنْزِلَة الْوَحْي لِأَن الْمُجْتَهد يخطىء ويصيب فقد علم أَنه كَانَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من صفة الْكَمَال مَا لَا يُحِيط بِهِ إِلَّا الله فَلَا شكّ أَن غَيره لَا يُسَاوِيه فِي إِعْمَال الرَّأْي وَالِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام وَهَذَا يبتنى على اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي أَنه عَلَيْهِ السَّلَام هَل كَانَ يجْتَهد فِي الْأَحْكَام وَيعْمل بِالرَّأْيِ فِيمَا لَا نَص فِيهِ فَأبى ذَلِك بعض الْعلمَاء وَقَالَ هَذَا الطَّرِيق حَظّ الْأمة فَأَما حَظّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الْعَمَل بِالْوَحْي من الْوُجُوه الَّتِي ذكرنَا وَقَالَ بَعضهم قد كَانَ يعْمل بطرِيق الْوَحْي تَارَة وبالرأي تَارَة وَبِكُل وَاحِد من الطَّرِيقَيْنِ كَانَ يبين الْأَحْكَام وَأَصَح الْأَقَاوِيل عندنَا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا كَانَ يبتلى بِهِ من الْحَوَادِث الَّتِي لَيْسَ فِيهَا وَحي منزل كَانَ ينْتَظر الْوَحْي إِلَى أَن تمْضِي مُدَّة الِانْتِظَار ثمَّ كَانَ يعْمل بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَاد وَيبين الحكم بِهِ فَإِذا أقرّ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِك حجَّة قَاطِعَة للْحكم فَأَما الْفَرِيق الأول فاحتجوا بقوله تَعَالَى {وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} وَقَالَ تَعَالَى {قل مَا يكون لي أَن أبدله من تِلْقَاء نَفسِي إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ} وَلِأَنَّهُ لَا خلاف أَنه كَانَ لَا يجوز لأحد مُخَالفَة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا بَينه من أَحْكَام الشَّرْع والرأي قد يَقع فِيهِ الْغَلَط فِي حَقه وَفِي حق غَيره فَلَو كَانَ يبين الحكم بِالرَّأْيِ لَكَانَ يجوز مُخَالفَته فِي ذَلِك كَمَا فِي أَمر الْحَرْب فقد ظهر أَنهم خالفوه فِي ذَلِك غير مرّة واستصوبهم فِي ذَلِك أَلا ترى أَنه لما أَرَادَ النُّزُول يَوْم بدر دون المَاء قَالَ لَهُ الْخَبَّاب بن الْمُنْذر رَضِي الله عَنهُ إِن كَانَ عَن وَحي فسمعا وَطَاعَة وَإِن كَانَ عَن رَأْي فَإِنِّي أرى الصَّوَاب أَن ننزل على المَاء ونتخذ الْحِيَاض فَأخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرَأْيهِ وَنزل على المَاء وَلما أَرَادَ يَوْم الْأَحْزَاب أَن يُعْطي الْمُشْركين شطر ثمار الْمَدِينَة لينصرفوا قَامَ سعد بن معَاذ وَسعد بن عبَادَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَقَالا إِن كَانَ هَذَا عَن وَحي فسمعا وَطَاعَة وَإِن كَانَ عَن رَأْي فَلَا نعطيهم إِلَّا السَّيْف قد كُنَّا نَحن وهم فِي الْجَاهِلِيَّة لم يكن لنا وَلَا لَهُم دين فَكَانُوا لَا يطمعون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 فِي ثمار الْمَدِينَة إِلَّا بشري أَو بقري فَإِذا أعزنا الله تَعَالَى بِالدّينِ نعطيهم الدنية لَا نعطيم إِلَّا السَّيْف وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي رَأَيْت الْعَرَب قد رمتكم عَن قَوس وَاحِدَة فَأَرَدْت أَن أصرفهم عَنْكُم فَإِذا أَبَيْتُم أَنْتُم وَذَاكَ ثمَّ قَالَ للَّذين جَاءُوا للصلح اذْهَبُوا فَلَا نعطيكم إِلَّا السَّيْف وَلما قدم الْمَدِينَة استقبح مَا كَانُوا يصنعونه من تلقيح النخيل فنهاهم عَن ذَلِك فأحشفت وَقَالَ عهدي بثماركم بِخِلَاف هَذَا فَقَالُوا نَهَيْتنَا عَن التلقيح وَإِنَّمَا كَانَت جودة الثَّمر من ذَلِك قَالَ أَنْتُم أعلم بِأَمْر دنياكم وَأَنا أعلم بِأَمْر دينكُمْ فَتبين أَن الرَّأْي مِنْهُ كالرأي من غَيره فِي احْتِمَال الْغَلَط وبالاتفاق لَا تجوز مُخَالفَته فِيمَا ينص عَلَيْهِ من أَحْكَام الشَّرْع فَعرفنَا أَن طَرِيق وُقُوفه على ذَلِك مَا لَيْسَ فِيهِ توهم الْغَلَط أصلا وَذَلِكَ الْوَحْي ثمَّ الرَّأْي الَّذِي فِيهِ توهم الْغَلَط إِنَّمَا يجوز الْمصير إِلَيْهِ عِنْد الضَّرُورَة وَهَذِه الضَّرُورَة تثبت فِي حق الْأمة لَا فِي حَقه فقد كَانَ الْوَحْي يَأْتِيهِ فِي كل وَقت وَمَا هَذَا إِلَّا نَظِير التَّحَرِّي فِي أَمر الْقبْلَة فَإِنَّهُ لَا يجوز الْمصير إِلَيْهِ لمن كَانَ بِمَكَّة معاينا للكعبة وَيجوز الْمصير إِلَيْهِ لمن كَانَ نَائِيا عَن الْكَعْبَة لِأَن من كَانَ معاينا فالضرورة المحوجة إِلَى التَّحَرِّي لَا تتَحَقَّق فِي حَقه لوُجُود الطَّرِيق الَّذِي لَا يتَمَكَّن فِيهِ تُهْمَة الْغَلَط وَهُوَ المعاينة وَكَذَلِكَ حَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْعَمَل بِالرَّأْيِ فِي الْأَحْكَام وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ ينصب أَحْكَام الشَّرْع ابْتِدَاء والرأي لَا يصلح لنصب الحكم بِهِ ابْتِدَاء وَإِنَّمَا هُوَ لتعدية حكم النَّص إِلَى نَظِيره مِمَّا لَا نَص فِيهِ كَمَا فِي حق الْأمة لِأَنَّهُ لَا يجوز لأحد اسْتِعْمَال الرَّأْي فِي نصب حكم ابْتِدَاء فَعرفنَا أَنه إِنَّمَا كَانَ ينصب الحكم ابْتِدَاء بطرِيق الْوَحْي دون الرَّأْي وَهَذَا لِأَن الْحق فِي أَحْكَام الشَّرْع لله تَعَالَى فَإِنَّمَا يثبت حق الله تَعَالَى بِمَا يكون مُوجبا للْعلم قطعا والرأي لَا يُوجب ذَلِك وَبِه فَارق أَمر الْحَرْب والشورى فِي الْمُعَامَلَات لِأَن ذَلِك من حُقُوق الْعباد فالمطلوب بِهِ الدّفع عَنْهُم أَو الْجَرّ إِلَيْهِم فِيمَا تقوم بِهِ مصالحهم وَاسْتِعْمَال الرَّأْي جَائِز فِي مثله لحَاجَة الْعباد إِلَى ذَلِك فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي وسعهم فَوق ذَلِك وَالله تَعَالَى يتعالى عَمَّا يُوصف بِهِ الْعباد من الْعَجز أَو الْحَاجة فَمَا هُوَ حق الله تَعَالَى لَا يثبت ابْتِدَاء إِلَّا بِمَا يكون مُوجبا علم الْيَقِين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 وَالْحجّة لِلْقَوْلِ الثَّانِي قَوْله تَعَالَى {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولي النَّاس بِهَذَا الْوَصْف الَّذِي ذكره عِنْد الْأَمر بِالِاعْتِبَارِ فَعرفنَا أَنه دَاخل فِي هَذَا الْخطاب قَالَ تَعَالَى {وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم} وَقد دخل فِي جملَة المستنبطين من تقدم ذكره فَعرفنَا أَن الرَّسُول من جملَة الَّذين أخبر الله أَنهم يعلمُونَ بالاستنباط وَقَالَ تَعَالَى {ففهمناها سُلَيْمَان} وَالْمرَاد أَنه وقف على الحكم بطرِيق الرَّأْي لَا بطرِيق الْوَحْي لِأَن مَا كَانَ بطرِيق الْوَحْي فداود وَسليمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام فِيهِ سَوَاء وَحَيْثُ خص سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام بالفهم عرفنَا أَن المُرَاد بِهِ بطرِيق الرَّأْي وَقد حكم دَاوُد بَين الْخَصْمَيْنِ حِين تسوروا الْمِحْرَاب بِالرَّأْيِ فَإِنَّهُ قَالَ {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إِلَى نعاجه} وَهَذَا بَيَان بِالْقِيَاسِ الظَّاهِر وَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام للخثعمية أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين فَقضيت أَكَانَ يقبل مِنْك وَهَذَا بَيَان بطرِيق الْقيَاس وَقَالَ لعمر رَضِي الله عَنهُ حِين سَأَلَهُ عَن الْقبْلَة للصَّائِم أَرَأَيْت لَو تمضمضت بِمَاء ثمَّ مججته أَكَانَ يَضرك وَقَالَ فِي حُرْمَة الصَّدَقَة على بني هَاشم أَرَأَيْت لَو تمضمضت بِالْمَاءِ أَكنت شَاربه وَهَذَا بَيَان بطرِيق الْقيَاس فِي حُرْمَة الأوساخ وَاسْتِعْمَال الْمُسْتَعْمل وَقَالَ إِن الرجل ليؤجر فِي كل شَيْء حَتَّى فِي مباضعة أَهله فَقيل لَهُ يقْضِي أَحَدنَا شَهْوَته ثمَّ يُؤجر على ذَلِك قَالَ أَرَأَيْتُم لَو وضع ذَلِك فِيمَا لَا يحل هَل كَانَ يَأْثَم بِهِ قَالُوا نعم قَالَ فَكَذَلِك يُؤجر إِذا وَضعه فِيمَا يحل وَهَذَا بَيَان بطرِيق الرَّأْي وَالِاجْتِهَاد وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه كَانَ مَأْمُورا بالمشاورة مَعَ أَصْحَابه قَالَ تَعَالَى {وشاورهم فِي الْأَمر} وَقد صَحَّ أَنه كَانَ يشاورهم فِي أَمر الْحَرْب وَغير ذَلِك حَتَّى رُوِيَ أَنه شاور أَبَا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي مفاداة الْأُسَارَى يَوْم بدر فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بكر بِأَن يفادي بهم وَمَال رَأْيه إِلَى ذَلِك حَتَّى نزل قَوْله تَعَالَى {لَوْلَا كتاب من الله سبق لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم} ومفاداة الْأَسير بِالْمَالِ جَوَازه وفساده من أَحْكَام الشَّرْع وَمِمَّا هُوَ حق الله تَعَالَى وَقد شاور فِيهِ أَصْحَابه وَعمل فِيهِ بِالرَّأْيِ إِلَى أَن نزل الْوَحْي بِخِلَاف مَا رَآهُ فَعرفنَا أَنه كَانَ يشاورهم فِي الْأَحْكَام كَمَا فِي الحروب وَقد شاورهم فِيمَا يكون جَامعا لَهُم فِي أَوْقَات الصَّلَاة ليؤدوها بِالْجَمَاعَة ثمَّ لما جَاءَ عبد الله بن زيد رَضِي الله عَنهُ وَذكر مَا رأى فِي الْمَنَام من أَمر الْأَذَان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 فَأخذ بِهِ وَقَالَ (ألقها على بِلَال) وَمَعْلُوم أَنه أَخذ بذلك بطرِيق الرَّأْي دون طَرِيق الْوَحْي أَلا ترى أَنه لما أَتَى عمر وَأخْبرهُ أَنه رأى مثل ذَلِك قَالَ الله أكبر هَذَا أثبت وَلَو كَانَ قد نزل عَلَيْهِ الْوَحْي بِهِ لم يكن لهَذَا الْكَلَام معنى وَلَا شكّ أَن حكم الْأَذَان مِمَّا هُوَ (من) حق الله ثمَّ قد جوز الْعَمَل فِيهِ بِالرَّأْيِ فَعرفنَا أَن ذَلِك جَائِز وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول إِنَّه إِنَّمَا كَانَ يستشيرهم فِي الْأَحْكَام لتطييب نُفُوسهم وَهَذَا لِأَن فِيمَا كَانَ الْوَحْي فِيهِ ظَاهرا مَعْلُوما مَا كَانَ يستشيرهم وَفِيمَا كَانَ يستشيرهم الْحَال لَا يَخْلُو إِمَّا أَن كَانَ يعْمل برأيهم أَو لَا يعْمل فَإِن كَانَ لَا يعْمل برأيهم وَكَانَ ذَلِك مَعْلُوما لَهُم فَلَيْسَ فِي هَذِه الاستشارة تطييب النَّفس وَلكنهَا من نوع الاستهز وَظن ذَلِك برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محَال وَإِن كَانَ يستشيرهم ليعْمَل برأيهم فَلَا شكّ أَن رَأْيه يكون أقوى من رَأْيهمْ وَإِذا جَازَ لَهُ الْعَمَل برأيهم فِيمَا لَا نَص فِيهِ فجواز ذَلِك بِرَأْيهِ أولى ويتبين بِهَذَا أَنه إِنَّمَا كَانَ يستشيرهم لتقريب الْوُجُوه وتحميس الرَّأْي على مَا كَانَ يَقُول المشورة تلقيح الْعُقُول وَقَالَ من الحزم أَن تستشير ذَا رَأْي ثمَّ تُطِيعهُ ثمَّ الاستنباط بِالرَّأْيِ إِنَّمَا يبتنى على الْعلم بمعاني النُّصُوص وَلَا شكّ أَن دَرَجَته فِي ذَلِك أَعلَى من دَرَجَة غَيره وَقد كَانَ يعلم بالمتشابه الَّذِي لَا يقف أحد من الْأمة بعده على مَعْنَاهُ فَعرفنَا بِهَذَا أَن لَهُ من هَذِه الدرجَة أَعلَى النِّهَايَة وَبعد الْعلم بِالطَّرِيقِ الَّذِي يُوقف بِهِ على الحكم الْمَنْع من اسْتِعْمَال ذَلِك نوع من الْحجر وتجويز اسْتِعْمَال ذَلِك نوع إِطْلَاق وَإِنَّمَا يَلِيق بعلو دَرَجَته الْإِطْلَاق دون الْحجر وَكَذَلِكَ مَا يعلم بطرِيق الْوَحْي فَهُوَ مَحْصُور متناه وَمَا يعلم بالاستنباط من مَعَاني الْوَحْي غير متناه وَقيل أفضل دَرَجَات الْعلم للعباد طَرِيق الاستنباط أَلا ترى أَن من يكون مستنبطا من الْأمة فَهُوَ على دَرَجَة مِمَّن يكون حَافِظًا غير مستنبط فَالْقَوْل بِمَا يُوجب سد بَاب مَا هُوَ أَعلَى الدَّرَجَات فِي الْعلم عَلَيْهِ شبه الْمحَال وَلَوْلَا طعن المتعنتين لَكَانَ الأولى بِنَا الْكَفّ عَن الِاشْتِغَال بِإِظْهَار هَذَا بِالْحجَّةِ فقد كَانَ دَرَجَته فِي الْعلم مَا لَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 يُحِيط بِهِ إِلَّا الله وَتَمام معنى التَّعْظِيم فِي حق من هُوَ دونه أَن لَا يشْتَغل بِمثل هَذَا التَّقْسِيم فِي حَقه وَإِنَّمَا ذكرنَا ذَلِك لدفع طعن المتعنتين ثمَّ مَا بَينه بِالرَّأْيِ إِذا أقرّ عَلَيْهِ كَانَ صَوَابا لَا محَالة فَيثبت بِهِ علم الْيَقِين بِخِلَاف مَا يكون من غَيره من الْبَيَان بِالرَّأْيِ وَهُوَ نَظِير الإلهام على مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ فِي بَيَان الْوَحْي الْبَاطِن وَأَنه حجَّة قَاطِعَة فِي حَقه وَإِن كَانَ الإلهام فِي حق غَيره لَا يكون بِهَذِهِ الصّفة على مَا نبينه فِي بَابه وَالدَّلِيل على هَذِه الْقَاعِدَة مَا رُوِيَ أَن خَوْلَة رَضِي الله عَنْهَا لما جَاءَت إِلَيْهِ تسأله عَن ظِهَار زَوجهَا مِنْهَا قَالَ مَا أَرَاك إِلَّا قد حرمت عَلَيْهِ فَقَالَت إِنِّي أشتكي إِلَى الله فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله {قد سمع الله قَول الَّتِي تُجَادِلك} الْآيَة فَعرفنَا أَنه كَانَ يُفْتِي بِالرَّأْيِ فِي أَحْكَام الشَّرْع وَكَانَ لَا يقر على الْخَطَأ وَهَذَا لأَنا أمرنَا باتباعه قَالَ تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} وَحين بَين بِالرَّأْيِ وَأقر على ذَلِك كَانَ اتِّبَاع ذَلِك فرضا علينا لَا محَالة فَعرفنَا أَن ذَلِك هُوَ الْحق الْمُتَيَقن بِهِ وَمثل ذَلِك لَا يُوجد فِي حق الْأمة فالمجتهد قد يخطىء ويقر على ذَلِك فَلهَذَا لم يكن الرَّأْي فِي حق غَيره مُوجبا علم الْيَقِين وَلَا صَالحا لنصب الحكم بِهِ ابْتِدَاء بل لتعدية حكم النَّص إِلَى غير الْمَنْصُوص عَلَيْهِ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه قد ثَبت بِالنَّصِّ عمله بِالرَّأْيِ فِيمَا لم يقر عَلَيْهِ وَرُبمَا عوتب على ذَلِك وَرُبمَا لم يُعَاتب فمما عوتب عَلَيْهِ مَا وَقعت الْإِشَارَة إِلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {عَفا الله عَنْك لم أَذِنت لَهُم} وَفِي قَوْله تَعَالَى {عبس وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى} وَمِمَّا لم يُعَاتب عَلَيْهِ مَا يرْوى أَنه لما دخل بَيته وَوضع السِّلَاح حِين فرغ من حَرْب الْأَحْزَاب أَتَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ وضعت السِّلَاح وَلم تضعه الْمَلَائِكَة وَأمره بِأَن يذهب إِلَى بني قُرَيْظَة وَمن ذَلِك أَنه أَمر أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ بتبليغ سُورَة بَرَاءَة إِلَى الْمُشْركين فِي الْعَام الَّذِي أمره فِيهِ أَن يحجّ بِالنَّاسِ فَأَتَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ لَا يبلغهَا إِلَيْهِم إِلَّا رجل مِنْك فَبعث عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فِي أَثَره ليَكُون هُوَ الْمبلغ للسورة إِلَيْهِم والقصة فِي ذَلِك مَعْرُوفَة فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَنه كَانَ يعْمل بِرَأْيهِ وَكَانَ لَا يقر إِلَّا على مَا هُوَ الصَّوَاب وَلِهَذَا كَانَ لَا تجوز مُخَالفَته فِي ذَلِك لِأَنَّهُ حِين أقرّ عَلَيْهِ فقد حصل التيقن بِكَوْن الصَّوَاب فِيهِ فَلَا يسع لأحد أَن يُخَالِفهُ فِي ذَلِك فَأَما قَوْله {وَمَا ينْطق عَن الْهوى} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 فقد قيل هَذَا فِيمَا يَتْلُو عَلَيْهِ من الْقُرْآن بِدَلِيل أول السُّورَة قَوْله تَعَالَى {والنجم إِذا هوى} أَي وَالْقُرْآن إِذا أنزل وَقيل المُرَاد بالهوى هوى النَّفس الأمارة بالسوء وَأحد لَا يجوز على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتِّبَاع هوى النَّفس أَو القَوْل بِهِ وَلَكِن طَرِيق الاستنباط والرأي غير هوى النَّفس وَهَذَا أَيْضا تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى {قل مَا يكون لي أَن أبدله من تِلْقَاء نَفسِي} ثمَّ فِي قَوْله {إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ} مَا يُوضح جَمِيع مَا قُلْنَا لِأَن اتِّبَاع الْوَحْي إِنَّمَا يتم فِي الْعَمَل بِمَا فِيهِ الْوَحْي بِعَيْنِه واستنباط الْمَعْنى فِيهِ لإِثْبَات الحكم فِي نَظِيره وَذَلِكَ بِالرَّأْيِ يكون ثمَّ قد بَينا أَنه مَا كَانَ يقر إِلَّا على الصَّوَاب فَإِذا أقرّ على ذَلِك كَانَ ذَلِك وَحيا فِي الْمَعْنى وَهُوَ يشبه الْوَحْي فِي الِابْتِدَاء على مَا بَينا إِلَّا أَنا شرطنا فِي ذَلِك أَن يَنْقَطِع طمعه عَن الْوَحْي وَهُوَ نَظِير مَا يشْتَرط فِي حق الْأمة للْعَمَل بِالرَّأْيِ الْعرض على الْكتاب وَالسّنة فَإِذا لم يُوجد فِي ذَلِك فَحِينَئِذٍ يُصَار إِلَى اجْتِهَاد الرَّأْي وَنَظِيره من الْأَحْكَام من كَانَ فِي السّفر وَلَا مَاء مَعَه وَهُوَ يَرْجُو وجود المَاء فَعَلَيهِ أَن يطْلب المَاء وَلَا يعجل بِالتَّيَمُّمِ وَإِن كَانَ لَا يَرْجُو وجود المَاء فَحِينَئِذٍ يتَيَمَّم وَلَا يشْتَغل بِالطَّلَبِ فحال غير رَسُول الله مِمَّن يبتلى بحادثة كَحال من لَا يَرْجُو وجود المَاء لِأَنَّهُ لَا طمع لَهُ فِي الْوَحْي فَلَا يُؤَخر الْعَمَل بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَاد وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَأْتِيهِ الْوَحْي فِي كل سَاعَة عَادَة فَكَانَ حَاله فِيمَا يبتلى بِهِ من الْحَوَادِث كَحال من يَرْجُو وجود المَاء فَلهَذَا كَانَ ينْتَظر وَلَا يعجل بِالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ وَكَانَ هَذَا الِانْتِظَار فِي حَقه بِمَنْزِلَة التَّأَمُّل فِي النَّص المؤول أَو الْخَفي فِي حق غَيره وَمُدَّة الِانْتِظَار فِي ذَلِك أَن يَنْقَطِع طمعه عَن نزُول الْوَحْي فِيهِ بِأَن كَانَ يخَاف الْفَوْت فَحِينَئِذٍ يعْمل فِيهِ بِالرَّأْيِ ويبينه للنَّاس فَإِذا أقرّ على ذَلِك كَانَت حجَّة قَاطِعَة بِمَنْزِلَة الثَّابِت بِالْوَحْي وافقا لما هُوَ فِي الْقُرْآن يَجْعَل صادرا عَن الْقُرْآن وبيانا لما فِيهِ وَأَصْحَاب الشَّافِعِي يَقُولُونَ يَجْعَل ذَلِك بَيَان حكم مُبْتَدأ حَتَّى يقوم الدَّلِيل على خِلَافه وعَلى هَذَا قُلْنَا بَيَان النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام للتيمم فِي حق الْجنب صادر عَمَّا فِي الْقُرْآن وَبِه يتَبَيَّن أَن المُرَاد من قَوْله تَعَالَى {أَو لامستم النِّسَاء} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 فصل قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله فعل النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَقَوله مَتى ورده الْجِمَاع دون الْمس بِالْيَدِ وهم يجْعَلُونَ ذَلِك بَيَان حكم مُبْتَدأ ويحملون قَوْله {أَو لامستم النِّسَاء} على الْمس بِالْيَدِ قَالُوا لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون ذَلِك صادرا عَمَّا فِي الْقُرْآن وَيحْتَمل أَن يكون شرع الحكم ابْتِدَاء وَهُوَ فِي الظَّاهِر غير مُتَّصِل بِالْآيَةِ فَيحمل على أَنه بَيَان حكم مُبْتَدأ بِاعْتِبَار الظَّاهِر وَلِأَن فِي حمله على هَذَا زِيَادَة فَائِدَة وَفِي حمله على مَا قُلْتُمْ تَأْكِيد مَا صَار مَعْلُوما بِالْآيَةِ ببيانه فَحَمله على مَا يُفِيد فَائِدَة جَدِيدَة كَانَ أولى وَحجَّتنَا فِيهِ قَوْله تَعَالَى {إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} فَفِي هَذَا تنصيص على أَن قَوْله وَفعله فِي حكم الشَّرْع يكون عَن وَحي فَإِذا كَانَ ذَلِك ظَاهرا مَعْلُوما فِي الْوَحْي المتلو عرفنَا أَنه صادر عَن ذَلِك إِذْ لَو لم نجعله صادرا عَن ذَلِك احتجنا إِلَى إِثْبَات وَحي غير متلو فِيهِ وَإِثْبَات الْوَحْي من غير الْحَاجة وَمَعَ الشَّك لَا يجوز وَقَالَ تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} أَي ردُّوهُ إِلَى كتاب الله وَقَالَ تَعَالَى {وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله} فَإِذا ظهر مِنْهُ حكم فِي حَادِثَة وَذَلِكَ الحكم مَوْجُود فِيمَا أنزل الله عرفنَا أَنه حكم فِيهِ بِمَا أنزل الله لِأَنَّهُ مَا كَانَ يُخَالف مَا أَمر بِهِ وَلِأَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَهموا ذَلِك من أَفعاله فَإِنَّهُم حملُوا قطعه يَد السَّارِق على الْوُجُوب وأداءه الصَّلَاة فِي مواقيتها على الْوُجُوب وَقد بَينا أَن مُطلق فعله لَا يدل على ذَلِك فلولا أَنهم علمُوا أَن فعله ذَلِك صادر عَن الْآيَات الدَّالَّة على الْوُجُوب نَحْو قَوْله تَعَالَى {حَافظُوا على الصَّلَوَات} وَقَوله تَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} لاستفسروه وطلبوا مِنْهُ بَيَان صفة فعله وَحَيْثُ لم يشتغلوا بذلك عرفنَا أَنهم علمُوا أَن فعله ذَلِك مِنْهُ صادر عَن الْآيَة فَأَما مَأْمُور بِاتِّبَاع مَا فِي الْقُرْآن كَغَيْرِهِ وَقَالَ تَعَالَى {وَاتبعُوا النُّور الَّذِي أنزل مَعَه أُولَئِكَ هم المفلحون} فَسقط دَعوَاهُم الِاحْتِمَال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 سَاقِط فَإِن الظَّاهِر أَن ذَلِك مِنْهُ صادر عَن الْقُرْآن لِأَنَّهُ اعْتِبَار الِاحْتِمَال مَعَ هَذَا الظَّاهِر وَقَوْلهمْ فِيهِ زِيَادَة فَائِدَة سَاقِط فَإِن إِثْبَات هَذِه الزِّيَادَة لَا يُمكن إِلَّا بعد إِثْبَات وَحي بِالشَّكِّ وَمن غير حَاجَة إِلَيْهِ وَقد بَينا أَن ذَلِك لَا يجوز فصل قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله فعل النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام مَتى كَانَ على وَجه الْبَيَان لما فِي الْقُرْآن وَحصل ذَلِك مِنْهُ فِي مَكَان أَو زمَان فالبيان يكون وَاقعا بِفِعْلِهِ وَبِمَا هُوَ من صِفَاته عِنْد الْفِعْل فَأَما الْمَكَان وَالزَّمَان لَا يكون شرطا فِيهِ وَأَصْحَاب الشَّافِعِي يَقُولُونَ الْبَيَان مِنْهُ بالمداومة على فعل مَنْدُوب إِلَيْهِ فِي مَكَان أَو على فعل وَاجِب فِي مَكَان أَو زمَان يدل على أَن ذَلِك الْمَكَان وَالزَّمَان شَرط فِيهِ وعَلى هَذَا قُلْنَا إِحْرَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْحَجِّ فِي أشهر الْحَج لَا يكون بَيَانا فِي أَن الْإِحْرَام تخْتَص صِحَّته بالوجود فِي أشهر الْحَج حَتَّى يجوز الْإِحْرَام بِالْحَجِّ قبل أشهر الْحَج وَكَذَلِكَ فعله رَكْعَتي الطّواف فِي مقَام إِبْرَاهِيم لَا يكون بَيَانا أَن رَكْعَتي الطّواف تخْتَص بِالْأَدَاءِ فِي ذَلِك الْمَكَان وعَلى قَول الشَّافِعِي رَحمَه الله ينْتَصب الزَّمَان شرطا ببيانه وَالْمَكَان فِي أحد الْوَجْهَيْنِ أَيْضا قَالَ لِأَن مداومته على ذَلِك فِي مَكَان بِعَيْنِه أَو زمَان بِعَيْنِه لَو لم يحمل على وَجه الْبَيَان لم يبْق لَهُ فَائِدَة أُخْرَى وَقد علمنَا أَنه مَا داوم على ذَلِك إِلَّا لفائدة ثمَّ قَاس هَذَا بمداومته على فعل الصَّلَوَات الْمَفْرُوضَة فِي الْأَوْقَات الْمَخْصُوصَة والأمكنة الطاهرة فَإِن ذَلِك بَيَان مِنْهُ لوُجُوب مُرَاعَاة ذَلِك الزَّمَان وَالْمَكَان فِي أَدَاء الْفَرَائِض فَكَذَلِك فِي سَائِر أَفعاله وَلَكنَّا نقُول الْبَيَان إِنَّمَا يحصل بِفِعْلِهِ وَالْمَكَان وَالزَّمَان لَيْسَ من فعله فِي شَيْء فَمَا كَانَ الْمَكَان وَالزَّمَان إِلَّا بِمَنْزِلَة فعل غَيره وَغَيره وَإِن ساعده الْمَكَان الَّذِي يُوجد فِيهِ الْفِعْل أَو الزَّمَان الَّذِي يُوجد فِيهِ الْفِعْل لَا يكون لَهُ حَظّ فِي حُصُول الْبَيَان بِهِ بل بِجعْل الْبَيَان حَاصِلا بِفِعْلِهِ فَقَط إِلَّا أَن يكون هُنَاكَ أَمر مُجمل فِي حق الزَّمَان مُحْتَاجا إِلَى الْبَيَان أَو فِي حق الْمَكَان كَمَا فِي بَاب الصَّلَاة فَإنَّا نعلم فرضيتها فِي بعض الْأَوْقَات (الْمَخْصُوصَة) واختصاص جَوَاز أَدَائِهَا بِبَعْض الْأَمْكِنَة بِالنَّصِّ فَيكون فعله فِي الْأَوْقَات الْمَخْصُوصَة والأمكنة الطاهرة بَيَانا للمجمل فِي ذَلِك كُله فَأَما فعله فِي بَاب الْحَج بَيَان لقَوْله تَعَالَى {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} وَذَلِكَ حَاصِل على ذَلِك الْفِعْل فَإِن الْبَيَان يكون حَاصِلا بِفِعْلِهِ لَا بِفعل غَيره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 فَكَذَلِك بِالْفِعْلِ لَا بِالْوَقْتِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَمر مُجمل لاخْتِصَاص عقد الْإِحْرَام بِالْحَجِّ بِبَعْض الْأَوْقَات دون الْبَعْض وَمَا كَانَ ذَلِك إِلَّا نَظِير مُبَاشرَة الطَّهَارَة بِالْمَاءِ فِي الْوَقْت فَإِن ذَلِك كَانَ بَيَانا مِنْهُ لأصل الطَّهَارَة الْمَأْمُور بهَا فِي الْكتاب وَلم يكن بَيَانا فِي التَّخْصِيص فِي الْوَقْت حَتَّى تجوز الطَّهَارَة بِالْمَاءِ قبل دُخُول الْوَقْت بِلَا خلاف فصل فِي بَيَان شرائع من قبلنَا اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا الْفَصْل على أقاويل فَمنهمْ من قَالَ مَا كَانَ شَرِيعَة لنَبِيّ فَهُوَ بَاقٍ أبدا حَتَّى يقوم دَلِيل النّسخ فِيهِ وكل من يَأْتِي فَعَلَيهِ أَن يعْمل بِهِ على أَنه شَرِيعَة ذَلِك النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام مَا لم يظْهر ناسخه وَقَالَ بَعضهم شَرِيعَة كل نَبِي تَنْتَهِي ببعث نَبِي آخر بعده حَتَّى لَا يعْمل بِهِ إِلَّا أَن يقوم الدَّلِيل على بَقَائِهِ وَذَلِكَ بِبَيَان من النَّبِي الْمَبْعُوث بعده وَقَالَ بَعضهم شرائع من قبلنَا يلْزمنَا الْعَمَل بِهِ على أَن ذَلِك شَرِيعَة لنبينا عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا لم يظْهر دَلِيل النّسخ فِيهِ وَلَا يفصلون بَين مَا يصير مَعْلُوما من شرائع من قبلنَا بِنَقْل أهل الْكتاب أَو بِرِوَايَة الْمُسلمين عَمَّا فِي أَيْديهم من الْكتاب وَبَين مَا ثَبت من ذَلِك بِبَيَان فِي الْقُرْآن أَو السّنة وَأَصَح الْأَقَاوِيل عندنَا أَن مَا ثَبت بِكِتَاب الله أَنه كَانَ شَرِيعَة من قبلنَا أَو بِبَيَان من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن علينا الْعَمَل بِهِ على أَنه شَرِيعَة لنبينا عَلَيْهِ السَّلَام مَا لم يظْهر ناسخه فَأَما مَا علم بِنَقْل دَلِيل مُوجب للْعلم على أَنهم حرفوا الْكتب فَلَا يعْتَبر نقلهم فِي ذَلِك لتوهم أَن الْمَنْقُول من جملَة مَا حرفوا وَلَا يعْتَبر فهم الْمُسلمين ذَلِك مِمَّا فِي أَيْديهم من الْكتب لجَوَاز أَن يكون ذَلِك من جملَة مَا غيروا وبدلوا وَالدَّلِيل على أَن الْمَذْهَب هَذَا أَن مُحَمَّدًا قد اسْتدلَّ فِي كتاب الشّرْب على جَوَاز الْقِسْمَة بطرِيق الْمُهَايَأَة فِي الشّرْب بقوله تَعَالَى {ونبئهم أَن المَاء} أهل الْكتاب أَو بفهم الْمُسلمين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 من كتبهمْ فَإِنَّهُ لَا يجب اتِّبَاعه لقِيَام {قسْمَة بَينهم} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {هَذِه نَاقَة لَهَا شرب وَلكم شرب يَوْم مَعْلُوم} وَإِنَّمَا أخبر الله تَعَالَى ذَلِك عَن صَالح عَلَيْهِ السَّلَام وَمَعْلُوم أَنه مَا اسْتدلَّ بِهِ إِلَّا بعد اعْتِقَاده بَقَاء ذَلِك الحكم شَرِيعَة لنبينا عَلَيْهِ السَّلَام وَاسْتدلَّ أَبُو يُوسُف على جَرَيَان الْقصاص بَين الذّكر وَالْأُنْثَى بقوله تَعَالَى {وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا أَن النَّفس بِالنَّفسِ} وَبِه كَانَ يسْتَدلّ الْكَرْخِي على جَرَيَان الْقصاص بَين الْحر وَالْعَبْد وَالْمُسلم وَالذِّمِّيّ وَالشَّافِعِيّ فِي هَذَا لَا يخالفنا وَقد اسْتدلَّ برجم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْيَهُودِيين بِحكم التَّوْرَاة كَمَا نَص عَلَيْهِ بقوله أَنا أَحَق من أَحْيَا سنة أماتوها على وجوب الرَّجْم على أهل الْكتاب وعَلى أَن ذَلِك صَار شَرِيعَة لنبينا وَنحن لَا ننكر ذَلِك أَيْضا وَلَكنَّا ندعي انتساخ ذَلِك بطرِيق زِيَادَة شَرط الْإِحْصَان لإِيجَاب الرَّجْم فِي شريعتنا ولمثل هَذِه الزِّيَادَة حكم النّسخ عندنَا وَبَين الْمُتَكَلِّمين اخْتِلَاف فِي أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قبل نزُول الْوَحْي (عَلَيْهِ) هَل كَانَ متعبدا بشريعة من قبله فَمنهمْ من أَبى ذَلِك وَمِنْهُم من توقف فِيهِ وَمِنْهُم من قَالَ كَانَ متعبدا بذلك وَلَكِن مَوضِع بَيَان هَذَا الْفَصْل أصُول التَّوْحِيد فَإنَّا نذْكر هَهُنَا مَا يتَّصل بأصول الْفِقْه فَأَما الْفَرِيق الأول قَالُوا صفة الْإِطْلَاق فِي الشَّيْء يَقْتَضِي التَّأْبِيد فِيهِ إِذا كَانَ مُحْتملا للتأبيد فالتوقيت يكون زِيَادَة فِيهِ لَا يجوز إثْبَاته إِلَّا بِالدَّلِيلِ ثمَّ الرَّسُول الَّذِي كَانَ الحكم شَرِيعَة لَهُ لم يخرج من أَن يكون رَسُولا برَسُول آخر بعث بعده فَكَذَلِك شَرِيعَته لَا تخرج من أَن تكون مَعْمُولا بهَا وَإِن بعث بعده رَسُول آخر مَا لم يقم دَلِيل النّسخ فِيهِ أَلا ترى أَن علينا الْإِقْرَار بالرسل كلهم وَإِلَى ذَلِك وَقعت الْإِشَارَة فِي قَوْله تَعَالَى {والمؤمنون كل آمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله لَا نفرق بَين أحد من رسله} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 فَكَذَلِك مَا ثَبت شَرِيعَة لرَسُول فَمَا لم يظْهر ناسخه فَهُوَ بِمَنْزِلَة مَا لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال النّسخ فِي كَونه بَاقِيا مَعْمُولا بِهِ يُوضحهُ أَن مَا ثَبت شَرِيعَة لرَسُول فقد ثبتَتْ الحقية فِيهِ وَكَونه مرضيا عِنْد الله وَبعث الرُّسُل لبَيَان مَا هُوَ مرضِي عِنْد الله فَمَا علم كَونه مرضيا قبل بعث رَسُول آخر لَا يخرج من أَن يكون مرضيا ببعث رَسُول آخر وَإِذا بَقِي مرضيا كَانَ مَعْمُولا بِهِ كَمَا كَانَ قبل بعث الرَّسُول الثَّانِي وَبِهَذَا تبين الْفرق أَن الأَصْل هُوَ الْمُوَافقَة فِي شرائع الرُّسُل إِلَّا أذا تبين تَغْيِير حكم بِدَلِيل النّسخ فَأَما الْفَرِيق الثَّانِي فقد استدلوا بقوله تَعَالَى {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا} وَبِقَوْلِهِ {وجعلناه هدى لبني إِسْرَائِيل} فتخصيص بني إِسْرَائِيل يكون التَّوْرَاة هدى لَهُم يكون دَلِيلا على أَنه لَا يلْزمنَا الْعَمَل بِمَا فِيهِ إِلَّا أَن يقوم دَلِيل يُوجب الْعَمَل بِهِ فِي شريعتنا وَلِأَن بعث الرُّسُل لبَيَان مَا بِالنَّاسِ حَاجَة إِلَى بَيَانه وَإِذا لم تجْعَل شَرِيعَة رَسُول منتهية ببعث رَسُول آخر لم يكن بِالنَّاسِ حَاجَة إِلَى الْبَيَان عِنْد بعث الثَّانِي لِأَن ذَلِك مُبين عِنْدهم بِالطَّرِيقِ الْمُوجب للْعلم فَمن هَذَا الْوَجْه يتَبَيَّن أَن بعث رَسُول آخر دَلِيل النّسخ لشريعة كَانَت قبله وَلِهَذَا جعلنَا هَذَا كالنسخ فِيمَا يحْتَمل النّسخ دون مَا لَا يحْتَمل النّسخ أصلا كالتوحيد وأصل الدّين أَلا ترى أَن الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام مَا اخْتلفُوا فِي شَيْء من ذَلِك أصلا وَلَا وَصفا وَلَا يجوز أَن يكون بَينهم فِيهِ خلاف وَلِهَذَا انْقَطع القَوْل بِبَقَاء شَرِيعَة نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قيام السَّاعَة لعلمنا بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ أَنه لَا نَبِي بعده حَتَّى يكون نَاسِخا لشريعته يُوضحهُ أَن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام قبل نَبينَا أَكْثَرهم إِنَّمَا بعثوا إِلَى قوم مخصوصين ورسولنا هُوَ الْمَبْعُوث إِلَى النَّاس كَافَّة على مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أَعْطَيْت خمْسا لم يُعْطهنَّ أحد قبلي بعثت إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود وَقد كَانَ النَّبِي قبلي يبْعَث إِلَى قومه الحَدِيث فَإِذا ثَبت أَنه قد كَانَ فِي الْمُرْسلين من يكون وجوب الْعَمَل بِشَرِيعَتِهِ على أهل مَكَان دون أهل مَكَان آخر وَإِن كَانَ ذَلِك مرضيا عِنْد الله تَعَالَى علمنَا أَنه يجوز أَن يكون وجوب الْعَمَل بِهِ على أهل زمَان دون أهل نبيين فِي ذَلِك الْوَقْت فِي مكانين على أَن يَدْعُو كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى شَرِيعَته فَعرفنَا أَنه يجوز مثل ذَلِك فِي زمانين وَأَن الْمَبْعُوث آخرا يَدْعُو إِلَى الْعَمَل بِشَرِيعَتِهِ وَيَأْمُر النَّاس باتباعه وَلَا يَدْعُو إِلَى الْعَمَل بشريعة من قبله فَتعين الْكَلَام فِي نَبينَا فَإِنَّهُ كَانَ يَدْعُو النَّاس إِلَى اتِّبَاعه كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَاتبعُوني يحببكم الله} وَإِنَّمَا يَأْمر بِالْعَمَلِ بِشَرِيعَتِهِ فَلَو بقيت زمَان آخر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 وَإِن كَانَ (ذَلِك) منتهيا ببعث نَبِي آخر وَقد كَانَ يجوز اجْتِمَاع شرائع من قبلنَا مَعْمُولا بهَا بعد مبعثه لدعا النَّاس إِلَى الْعَمَل بذلك ولكان يجب عَلَيْهِ أَن يعلم ذَلِك أَصْحَابه ليتمكنوا من الْعَمَل بِهِ وَلَو فعل ذَلِك لنقل إِلَيْنَا نقلا مستفيضا وَالْمَنْقُول إِلَيْنَا مَنعه إيَّاهُم عَن ذَلِك فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنه (عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام (لما رأى صحيفَة فِي يَد عمر سَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ هِيَ التَّوْرَاة فَغَضب حَتَّى احْمَرَّتْ وجنتاه وَقَالَ أمتهوكون كَمَا تهوكت الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالله لَو كَانَ مُوسَى حَيا مَا وَسعه إِلَّا اتباعي وَبِهَذَا اللَّفْظ يتَبَيَّن أَن الرَّسُول الْمُتَقَدّم ببعث رَسُول آخر يكون كالواحد من أمته فِي لُزُوم اتِّبَاع شَرِيعَته لَو كَانَ حَيا وَعَلِيهِ دلّ كتاب الله كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق النَّبِيين لما آتيتكم من كتاب وَحِكْمَة ثمَّ جَاءَكُم رَسُول مُصدق لما مَعكُمْ لتؤمنن بِهِ} فَأخذ الْمِيثَاق عَلَيْهِم بذلك من أبين الدَّلَائِل على أَنهم بِمَنْزِلَة أمة من بعث آخرا فِي وجوب اتِّبَاعه وَبِهَذَا ظهر شرف نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُ لَا نَبِي بعده فَكَانَ الْكل مِمَّن تقدم وَمِمَّنْ تَأَخّر فِي حكم المتبع لَهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَة الْقلب يطيعه الرَّأْس ويتبعه الرجل والفريق الثَّالِث استدلوا بِهَذَا الْكَلَام أَيْضا وَلَكِن بطرِيق أَن مَا كَانَ شَرِيعَة لمن قبلنَا يصير شَرِيعَة لنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن تقدم فِي الْعَمَل بِهِ يكون مُتبعا لَهُ وَفِي حكم الْعَامِل بِشَرِيعَتِهِ من هَذَا الْوَجْه فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {مِلَّة أبيكم إِبْرَاهِيم} وَقَالَ تَعَالَى {قل صدق الله فاتبعوا مِلَّة إِبْرَاهِيم} وَقَالَ تَعَالَى {وَهُوَ محسن وَاتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا} وَمَا يكون منتهيا مَنْسُوخا لَا يكون مُتبعا فبهذه النُّصُوص يتَبَيَّن أَنه مُتبع عَلَيْهِ السَّلَام وَيجب على النَّاس الْعَمَل بِهِ بطرِيق أَنه شَرِيعَة لَهُ حَتَّى يقوم دَلِيل نسخه فِي شَرِيعَته أَلا ترى أَنه قد اجْتمع نبيان فِي وَقت وَاحِد وَفِي مَكَان وَاحِد فِيمَن قبلنَا على أَن كَانَ أَحدهمَا تبعا للْآخر نَحْو هَارُون مَعَ مُوسَى وَلُوط مَعَ إِبْرَاهِيم كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَآمن لَهُ لوط} فَكَانَت الشَّرِيعَة وَأَنه مِلَّة إِبْرَاهِيم فَلم يبْق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 طَرِيق سوى أَن نقُول قد صَار ذَلِك شَرِيعَة لنبينا لأَحَدهمَا وَالْآخر نَبِي مُرْسل وَهُوَ مَأْمُور باتباعه وَالْعَمَل بِشَرِيعَتِهِ وَلَا يجوز القَوْل باجتماع نبيين فِي وَقت وَاحِد وَمَكَان وَاحِد على أَن يكون لكل وَاحِد مِنْهُمَا شَرِيعَة تخَالف شَرِيعَة الآخر فِي وَقت من الْأَوْقَات وَاسْتَدَلُّوا على ذَلِك بقوله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده} وَمَعْلُوم أَن الْهدى فِي أصل الدّين وَأَحْكَام الشَّرْع جَمِيعًا فَإِن قيل المُرَاد بِهِ الْأَمر بالاقتداء بهم فِي أصل الدّين فَإِنَّهُ مَبْنِيّ على مَا تقدم من قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا جن عَلَيْهِ اللَّيْل} إِلَى قَوْله {وَتلك حجتنا آتيناها إِبْرَاهِيم} إِلَى قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله} وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه قد كَانَ فِي الْمَذْكُورين من لم يكن نَبيا فَإِنَّهُ قَالَ {وَمن آبَائِهِم وذرياتهم وإخوانهم} وَمَعْلُوم أَن الْأَمر بالاقتداء فِي أَحْكَام الشَّرْع لَا يكون فِي غير الْأَنْبِيَاء وَإِنَّمَا يكون ذَلِك فِي أصل الدّين وَلِأَنَّهُ قد كَانَ فِي شرائعهم النَّاسِخ والمنسوخ فَالْأَمْر باللاقتداء بهم فِي الْأَحْكَام على الْإِطْلَاق يكون آمرا بِالْعَمَلِ بشيئين مُخْتَلفين متضادين وَذَلِكَ غير جَائِز قُلْنَا فِي الْآيَة تنصيص على الِاقْتِدَاء بهداهم وَذَلِكَ يعم أصل الدّين وَأَحْكَام الشَّرْع أَلا ترى إِلَى قَوْله تَعَالَى {الم ذَلِك الْكتاب لَا ريب فِيهِ هدى لِلْمُتقين} أَنه يدلنا على أَن الْهدى كل مَا يجب الاتقاء فِيهِ وَمَا يكون الْمُهْتَدي فِيهِ متقيا وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى وَنور يحكم بهَا النَّبِيُّونَ} وَالْحكم إِنَّمَا يكون بالشرائع وَلما سُئِلَ مُجَاهِد عَن سَجْدَة ص قَالَ سجدها دَاوُد وَهُوَ مِمَّن أَمر نَبِيكُم بِأَن يَقْتَدِي بِهِ وتلا قَوْله تَعَالَى {فبهداهم اقتده} فَبِهَذَا تبين أَن هَذَا أَمر مُبْتَدأ غير مَبْنِيّ على مَا سبق فعمومه يتَنَاوَل أصل الدّين والشرائع جَمِيعًا وَقَوله فِيهَا نَاسخ ومنسوخ قُلْنَا وَفِي شريعتنا أَيْضا نَاسخ ومنسوخ ثمَّ لم يمْنَع ذَلِك إِطْلَاق القَوْل بِوُجُوب الِاقْتِدَاء علينا برَسُول الله صلى الله وَقَوله قد كَانَ فيهم من لَيْسَ بِنَبِي لَا كَذَلِك فقد ألحق بِهِ من الْبَيَان مَا يعلم بِهِ أَن المُرَاد الْأَنْبِيَاء وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {واجتبيناهم وهديناهم} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 عَلَيْهِ وَسلم فِي شَرِيعَته {إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} {أُولَئِكَ الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب} مَعَ أَن الْأَمر بالاقتداء يعلم أَنه لَا يتَنَاوَل إِلَّا من يعلم أَنه مرضِي الطَّرِيقَة مقتدي بِهِ من نَبِي أَو ولي والأولياء على طَريقَة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي الْعَمَل بشرائعهم فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن المُرَاد هُوَ الْأَمر بالاقتداء بالأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام وَمَعْلُوم أَنه مَا أَمر بالاقتداء بهم فِي دُعَاء النَّاس إِلَى شريعتهم وَإِنَّمَا أَمر بذلك على أَن يَدْعُو النَّاس إِلَى شَرِيعَته فَعرفنَا بِهَذَا أَن ذَلِك كُله صَار شَرِيعَة لَهُ بِمَنْزِلَة الْملك ينْتَقل من الْمُورث إِلَى الْوَارِث فَيكون ذَلِك الْملك بِعَيْنِه مُضَافا إِلَى الْوَارِث بَعْدَمَا كَانَ مُضَافا إِلَى الْمُورث فِي حَيَاته وَإِلَى ذَلِك وَقعت الْإِشَارَة فِي قَوْله تَعَالَى {ثمَّ أَوْرَثنَا الْكتاب الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا} فَأَما قَوْله {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا} قد عرفنَا يَقِينا أَنه لَيْسَ المُرَاد بِهِ الْمُخَالفَة فِي الْمِنْهَاج فِي الْكل بل ذَلِك مُرَاد فِي الْبَعْض وَهُوَ مَا قَامَ الدَّلِيل فِيهِ على انتساخه وَقَوله {هدى لبني إِسْرَائِيل} لَا يدل على أَنه لَيْسَ بهدى لغَيرهم كَقَوْلِه تَعَالَى {هدى لِلْمُتقين} وَالْقُرْآن هدى للنَّاس أجمع وأيد هَذَا دُعَاء رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِالتَّوْرَاةِ وَطلب حكم الرَّجْم مِنْهُ للْعَمَل بِهِ وَقَوله أَنا أَحَق من أَحْيَا سنة أماتوها فَإِن إحْيَاء سنة أميتت إِنَّمَا يكون بِالْعَمَلِ بهَا فَعرفنَا أَن التَّوْرَاة هدى لبني إِسْرَائِيل ولغيرهم وأيد جَمِيع مَا ذكرنَا قَوْله تَعَالَى {مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ من الْكتاب ومهيمنا عَلَيْهِ} وَلَا معنى لذَلِك سوى أَن مَا فِيهِ يصير شَرِيعَة لنبينا بِمَا أنزل عَلَيْهِ من الْكتاب إِلَّا مَا ثَبت نسخه وَهَذَا هُوَ القَوْل الصَّحِيح عندنَا إِلَّا أَنه قد ظهر من أهل الْكتاب الْحَسَد وَإِظْهَار الْعَدَاوَة مَعَ الْمُسلمين فَلَا يعْتَمد قَوْلهم فِيمَا يَزْعمُونَ أَنه من شريعتهم وَأَن ذَلِك قد انْتقل إِلَيْهِم بالتواتر وَلَا تقبل شَهَادَتهم فِي ذَلِك لثُبُوت كفرهم وضلالهم فَلم يبْق لثُبُوت ذَلِك طَرِيق سوى نزُول الْقُرْآن بِهِ أَو بَيَان الرَّسُول لَهُ فَمَا وجد فِيهِ هَذَا الطَّرِيق فعلينا تَعَالَى {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} فِيهِ الِاتِّبَاع وَالْعَمَل بِهِ حَتَّى يقوم دَلِيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 النّسخ وأيد مَا ذكرنَا قَوْله {فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} وَمَعْلُوم أَنهم مَا كَانُوا يمتنعون من الْعَمَل بِأَحْكَام التَّوْرَاة وَإِنَّمَا كَانُوا يمتنعون من الْعَمَل بِهِ على طَرِيق أَنه شَرِيعَة رَسُولنَا فَإِنَّهُم كَانُوا لَا يقرونَ برسالته وَقد سماهم الله كَافِرين ظالمين ممتنعين من الحكم بِمَا أنزل الله وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى {وليحكم أهل الْإِنْجِيل بِمَا أنزل الله فِيهِ وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ} وَإِنَّمَا سماهم فاسقين لتركهم الْعَمَل بِمَا فِي الْإِنْجِيل على أَنه شَرِيعَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن ذَلِك كُله قد صَار شَرِيعَة لنبينا عَلَيْهِ السَّلَام وَأَنه يجب اتِّبَاعه وَالْعَمَل بِهِ على أَنه شَرِيعَة نَبينَا وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَكَيف يحكمونك وَعِنْدهم التَّوْرَاة فِيهَا حكم الله} تنصيص على أَنه مَعْمُول بِهِ وَقَالَ تَعَالَى {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا} إِلَى قَوْله {أَن أقِيمُوا الدّين} وَالدّين اسْم لكل مَا يدان الله بِهِ فَتدخل الْأَحْكَام فِي ذَلِك وَيظْهر أَن ذَلِك كُله قد صَار شَرِيعَة لنبينا فَيجب اتِّبَاعه وَالْعَمَل بِهِ إِلَّا مَا قَامَ دَلِيل النّسخ فِيهِ فصل فِي تَقْلِيد الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ قولا وَلَا يعرف لَهُ مُخَالف حكى أَبُو عَمْرو بن دانيكا الطَّبَرِيّ عَن أبي سعيد البردعي رَحمَه الله أَنه كَانَ يَقُول قَول الْوَاحِد من الصَّحَابَة مقدم على الْقيَاس يتْرك الْقيَاس بقوله وعَلى هَذَا أدركنا مَشَايِخنَا وَذكر أَبُو بكر الرَّازِيّ عَن أبي الْحسن الْكَرْخِي رَحمَه الله أَنه كَانَ يَقُول أرى أَبَا يُوسُف يَقُول فِي بعض مسَائِله الْقيَاس كَذَا إِلَّا أَنِّي تركته للأثر وَذَلِكَ الْأَثر قَول وَاحِد من الصَّحَابَة فَهَذِهِ دلَالَة بَيِّنَة من مذْهبه على تَقْدِيم قَول الصَّحَابِيّ على الْقيَاس قَالَ وَأما أَنا فَلَا يُعجبنِي هَذَا الْمَذْهَب وَهَذَا الَّذِي ذكره الْكَرْخِي عَن أبي يُوسُف مَوْجُود فِي كثير من الْمسَائِل عَن أَصْحَابنَا فقد قَالُوا فِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق إنَّهُمَا سنتَانِ فِي الْقيَاس فِي الْجَنَابَة وَالْوُضُوء جَمِيعًا تركنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 الْقيَاس لقَوْل ابْن عَبَّاس وَقَالُوا فِي الدَّم إِذا ظهر على رَأس الْجرْح وَلم يسل فَهُوَ نَاقض للطَّهَارَة فِي الْقيَاس تَرَكْنَاهُ لقَوْل ابْن عَبَّاس وَقَالُوا فِي الْإِغْمَاء إِذا كَانَ يَوْمًا وَلَيْلَة أَو أقل فَإِنَّهُ يمْنَع قَضَاء الصَّلَوَات فِي الْقيَاس تَرَكْنَاهُ لفعل عمار بن يَاسر رَضِي الله عَنْهُمَا وَقَالُوا فِي إِقْرَار الْمَرِيض لوَارِثه إِنَّه جَائِز فِي الْقيَاس تَرَكْنَاهُ لقَوْل ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رحمهمَا الله فِيمَن اشْترى شَيْئا على أَنه (إِن) لم ينْقد الثّمن إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام فَلَا بيع بَينهمَا فَالْعقد فَاسد فِي الْقيَاس تَرَكْنَاهُ لأثر يرْوى عَن ابْن عمر وَقَالَ أَبُو حنيفَة إِعْلَام قدر رَأس المَال فِيمَا يتَعَلَّق العقد على قدره شَرط لجَوَاز السّلم بلغنَا نَحْو ذَلِك عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَخَالفهُ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد بِالرَّأْيِ وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد إِذا ضَاعَ الْعين فِي يَد الْأَجِير الْمُشْتَرك بِمَا يُمكن التَّحَرُّز عَنهُ فَهُوَ ضَامِن لأثر رُوِيَ فِيهِ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ أَبُو حنيفَة لَا ضَمَان عَلَيْهِ فَأخذ بِالرَّأْيِ مَعَ الرِّوَايَة بِخِلَافِهِ عَن عَليّ وَقَالَ مُحَمَّد لَا تطلق الْحَامِل أَكثر من وَاحِدَة للسّنة بلغنَا ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود وَجَابِر رَضِي الله عَنْهُمَا وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف بِالرَّأْيِ إِنَّهَا تطلق ثَلَاثًا للسّنة فَعرفنَا أَن عمل عُلَمَائِنَا بِهَذَا فِي مسائلهم مُخْتَلف ول لشافعي فِي الْمَسْأَلَة قَولَانِ كَانَ يَقُول فِي الْقَدِيم يقدم قَول الصَّحَابِيّ على الْقيَاس وَهُوَ قَول مَالك وَفِي الْجَدِيد كَانَ يَقُول يقدم الْقيَاس فِي الْعَمَل بِهِ على قَول الْوَاحِد والاثنين من الصَّحَابَة كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْكَرْخِي وَبَعض أهل الحَدِيث يخصون بترك الْقيَاس فِي مُقَابلَة قَوْلهم الْخُلَفَاء الرَّاشِدين ويستدلون بقوله عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدِي وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام اقتدوا بالذين من بعدِي أبي بكر وَعمر فَظَاهر الْحَدِيثين يَقْتَضِي وجوب اتباعهما وَإِن خالفهما غَيرهمَا من الصَّحَابَة وَلَكِن يتْرك هَذَا الظَّاهِر عِنْد ظُهُور الْخلاف بِقِيَام الدَّلِيل فَبَقيَ حَال ظُهُور قَوْلهمَا من غير مُخَالف لَهَا على مَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِر وَأما الْكَرْخِي فقد احْتج بقوله تَعَالَى {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} وَالِاعْتِبَار هُوَ الْعَمَل بِالْقِيَاسِ والرأي فِيمَا لَا نَص فِيهِ وَقَالَ تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} يَعْنِي إِلَى الْكتاب وَالسّنة وَقد دلّ عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 حَدِيث معَاذ حِين قَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَ تقضي قَالَ بِكِتَاب الله قَالَ فَإِن لم تَجِد فِي كتاب الله قَالَ بِسنة رَسُول الله قَالَ فَإِن لم تَجِد فِي سنة رَسُول الله قَالَ اجْتهد رَأْيِي فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي وفْق رَسُول رَسُوله لما يرضى بِهِ رَسُوله فَهَذَا دَلِيل على أَنه لَيْسَ بعد الْكتاب وَالسّنة شَيْء يعْمل بِهِ سوى الرَّأْي قَالَ وَلَا حجَّة لكم فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ لِأَن المُرَاد الِاقْتِدَاء بهم فِي الجري على طريقهم فِي طلب الصَّوَاب فِي الْأَحْكَام لَا فِي تقليدهم وَقد كَانَت طريقتهم الْعَمَل بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَاد أَلا ترى أَنه شبههم بالنجوم وَإِنَّمَا يَهْتَدِي بِالنَّجْمِ من حَيْثُ الِاسْتِدْلَال بِهِ على الطَّرِيق بِمَا يدل عَلَيْهِ لَا أَن نفس النَّجْم يُوجب ذَلِك وَهُوَ تَأْوِيل قَوْله اقتدوا بالذين من بعدِي وَعَلَيْكُم بِسنة الْخُلَفَاء من بعدِي فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي سلوك طريقهم فِي اعْتِبَار الرَّأْي وَالِاجْتِهَاد فِيمَا لَا نَص فِيهِ وَهَذَا هُوَ الْمَعْنى فقد ظهر من الصَّحَابَة الْفَتْوَى بِالرَّأْيِ ظهورا لَا يُمكن إِنْكَاره والرأي قد يخطىء فَكَانَ فَتْوَى الْوَاحِد مِنْهُم مُحْتملا مترددا بَين الصَّوَاب وَالْخَطَأ وَلَا يجوز ترك الرَّأْي بِمثلِهِ كَمَا لَا يتْرك بقول التَّابِعِيّ وكما لَا يتْرك أحد الْمُجْتَهدين فِي عصر رَأْيه بقول مُجْتَهد آخر وَالدَّلِيل على أَن الْخَطَأ مُحْتَمل فِي فتواهم مَا رُوِيَ أَن عمر سُئِلَ عَن مَسْأَلَة فَأجَاب فَقَالَ رجل هَذَا هُوَ الصَّوَاب فَقَالَ وَالله مَا يدْرِي عمر أَن هَذَا هُوَ الصَّوَاب أَو الْخَطَأ وَلَكِنِّي لم آل عَن الْحق وَقَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فِيمَا أجَاب بِهِ فِي المفوضة وَإِن كَانَ خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان فَعرفنَا أَنه قد كَانَ جِهَة الْخَطَأ مُحْتملا فِي فتواهم وَلَا يُقَال هَذَا فِي إِجْمَاعهم مَوْجُود إِذا صدر عَن رَأْي ثمَّ كَانَ حجَّة لِأَن الرَّأْي إِذا تأيد بِالْإِجْمَاع تتَعَيَّن جِهَة الصَّوَاب فِيهِ بِالنَّصِّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن الله لَا يجمع أمتِي على الضَّلَالَة أَلا ترى أَن إِجْمَاع أهل كل عصر يَجْعَل حجَّة بِهَذَا الطَّرِيق وَإِن لم يكن قَول الْوَاحِد مِنْهُم مقدما على الرَّأْي فِي الْعَمَل بِهِ وَلِأَنَّهُ لم يظْهر مِنْهُم دُعَاء النَّاس إِلَى أقاويلهم وَلَو كَانَ قَول الْوَاحِد مِنْهُم مقدما على الرَّأْي لدعا النَّاس إِلَى قَوْله كَمَا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْعُو النَّاس إِلَى الْعَمَل بقوله وكما كَانَت الصَّحَابَة تَدْعُو النَّاس إِلَى الْعَمَل بِالْكتاب وَالسّنة وَإِلَى الْعَمَل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 بإجماعهم فِيمَا أَجمعُوا عَلَيْهِ إِذْ الدُّعَاء إِلَى الْحجَّة وَاجِب وَلِأَن قَول الْوَاحِد مِنْهُم لَو كَانَ حجَّة لم يجز لغيره مُخَالفَته بِالرَّأْيِ كالكتاب وَالسّنة وَقد رَأينَا أَن بَعضهم يُخَالف بَعْضًا بِرَأْيهِ فَكَانَ ذَلِك شبه الِاتِّفَاق مِنْهُم على أَن قَول الْوَاحِد مِنْهُم لَا يكون مقدما على الرَّأْي وَلَا يدْخل على هَذَا إِجْمَاعهم فَإِن مَعَ بَقَاء الْوَاحِد مِنْهُم مُخَالفا لَا ينْعَقد الْإِجْمَاع وَبعد مَا ثَبت الْإِجْمَاع باتفاقهم لَو بدا لأَحَدهم فَخَالف لم يعْتد بِخِلَافِهِ أَيْضا على مَا بَينا أَن انْقِرَاض الْعَصْر لَيْسَ بِشَرْط لثُبُوت حكم الْإِجْمَاع وَأَن مُخَالفَة الْإِجْمَاع بعد انْعِقَاده كمخالفة النَّص وَجه مَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو سعيد البردعي وَهُوَ الْأَصَح أَن فَتْوَى الصَّحَابِيّ فِيهِ احْتِمَال الرِّوَايَة عَمَّن ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي فقد ظهر من عَادَتهم أَن من كَانَ عِنْده نَص فَرُبمَا روى وَرُبمَا أفتى على مُوَافقَة النَّص مُطلقًا من غير الرِّوَايَة وَلَا شكّ أَن مَا فِيهِ احْتِمَال السماع من صَاحب الْوَحْي فَهُوَ مقدم على مَحْض الرَّأْي فَمن هَذَا الْوَجْه تَقْدِيم قَول الصَّحَابِيّ على الرَّأْي بِمَنْزِلَة تَقْدِيم خبر الْوَاحِد على الْقيَاس وَلَئِن كَانَ قَوْله صادرا عَن الرَّأْي فرأيهم أقوى من رَأْي غَيرهم لأَنهم شاهدوا طَرِيق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيَان أَحْكَام الْحَوَادِث وشاهدوا الْأَحْوَال الَّتِي نزلت فِيهَا النُّصُوص والمحال الَّتِي تَتَغَيَّر باعتبارها الْأَحْكَام فبهذه الْمعَانِي يتَرَجَّح رَأْيهمْ على رَأْي من لم يُشَاهد شَيْئا من ذَلِك وَعند تعَارض الرأيين إِذا ظهر لأَحَدهمَا نوع تَرْجِيح وَجب الْأَخْذ بذلك فَكَذَلِك إِذا وَقع التَّعَارُض بَين رَأْي الْوَاحِد منا ورأي الْوَاحِد مِنْهُم يجب تَقْدِيم رَأْيه على رَأينَا لزِيَادَة قُوَّة فِي رَأْيه وَهَكَذَا نقُول فِي الْمُجْتَهدين فِي زَمَاننَا فَإِن على أصل أبي حنيفَة إِذا كَانَ عِنْد مُجْتَهد أَن من يُخَالِفهُ فِي الرَّأْي أعلم بطرِيق الِاجْتِهَاد وَأَنه مقدم عَلَيْهِ فِي الْعلم فَإِنَّهُ يدع رَأْيه لرأي من عرف زِيَادَة قُوَّة فِي اجْتِهَاده كَمَا أَن الْعَاميّ يدع رَأْيه لرأي الْمُفْتِي الْمُجْتَهد لعلمه بِأَنَّهُ مُتَقَدم عَلَيْهِ فِيمَا يفصل بِهِ بَين النَّاسِخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه وعَلى قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد لَا يدع الْمُجْتَهد فِي زَمَاننَا رَأْيه لرأي من هُوَ مقدم عَلَيْهِ فِي الِاجْتِهَاد من أهل عصره لوُجُود الْمُسَاوَاة بَينهمَا فِي الْحَال وَفِي معرفَة طَرِيق الِاجْتِهَاد وَلَكِن هَذَا لَا يُوجد فِيمَا بَين الْمُجْتَهد منا والمجتهد من الصَّحَابَة فالتفاوت بَينهمَا فِي الْحَال لَا يخفى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 وَفِي طَرِيق الْعلم كَذَلِك فهم قد شاهدوا أَحْوَال من ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي وسمعوا مِنْهُ وَإِنَّمَا انْتقل إِلَيْنَا ذَلِك بخبرهم وَلَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن تَأْوِيل الصَّحَابِيّ للنَّص لَا يكون مقدما على تَأْوِيل غَيره وَلم يعْتَبر فِيهِ هَذِه الْأَحْوَال فَكَذَلِك فِي الْفَتْوَى بِالرَّأْيِ قُلْنَا لِأَن التَّأْوِيل يكون بِالتَّأَمُّلِ فِي وُجُوه اللُّغَة ومعاني الْكَلَام وَلَا مزية لَهُم فِي ذَلِك الْبَاب على غَيرهم مِمَّن يعرف من مَعَاني اللِّسَان مثل ذَلِك فَأَما الِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام إِنَّمَا يكون بِالتَّأَمُّلِ فِي النُّصُوص الَّتِي هِيَ أصل فِي أَحْكَام الشَّرْع وَذَلِكَ يخْتَلف باخْتلَاف الْأَحْوَال ولأجله تظهر لَهُم المزية بمشاهدة أَحْوَال الْخطاب على غَيرهم مِمَّن لم يُشَاهد وَلَا يُقَال هَذِه أُمُور باطنة وَإِنَّمَا أمرنَا بِبِنَاء الحكم على مَا هُوَ الظَّاهِر لِأَن بِنَاء الحكم على الظَّاهِر مُسْتَقِيم عندنَا وَلَكِن فِي مَوضِع يتَعَذَّر اعتبارهما جَمِيعًا فَأَما عِنْد الْمُقَابلَة لَا إِشْكَال أَن اعْتِبَار الظَّاهِر وَالْبَاطِن جَمِيعًا يتَقَدَّم على مُجَرّد اعْتِبَار الظَّاهِر (وَفِي الْأَخْذ بقول الصَّحَابِيّ اعتبارهما وَفِي الْعَمَل بِالرَّأْيِ اعْتِبَار الظَّاهِر) فَقَط هَذَا مَعَ مَا لَهُم من الْفَضِيلَة بِصُحْبَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والتفقه فِي الدّين سَمَاعا مِنْهُ وَشَهَادَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُم بالخيرية بعده وتقديمهم فِي ذَلِك على من بعدهمْ بقوله خير النَّاس قَرْني الحَدِيث وَقَالَ لَو أنْفق أحدكُم مثل أحد ذَهَبا مَا أدْرك مد أحدهم وَلَا نصيفه فَعرفنَا أَنهم يوفقون لإصابة الرَّأْي مَا لَا يوفق غَيرهم لمثله فَيكون رَأْيهمْ أبعد عَن احْتِمَال الْخَطَأ من رَأْي من بعدهمْ وَلَا حجَّة فِي قَوْله تَعَالَى {فاعتبروا} لِأَن تَقْدِيم قَوْلهم بِهَذَا الطَّرِيق نوع من الِاعْتِبَار فالاعتبار يكون بترجيح أحد الدَّلِيلَيْنِ بِزِيَادَة قُوَّة فِيهِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} لِأَن فِي تَقْدِيم فَتْوَى الصَّحَابِيّ رد الحكم إِلَى أَمر الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام لِأَن الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام قد دَعَا النَّاس إِلَى الِاقْتِدَاء بِأَصْحَابِهِ بقوله بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ وَإِنَّمَا كَانَ لَا يَدْعُو الْوَاحِد مِنْهُم غَيره إِلَى قَوْله لِأَن ذَلِك الْغَيْر إِن أظهر قولا بِخِلَاف قَوْله فَعِنْدَ تعَارض الْقَوْلَيْنِ مِنْهُمَا تتَحَقَّق الْمُسَاوَاة بَينهمَا وَلَيْسَ أَحدهمَا بِأَن يَدْعُو صَاحبه إِلَى قَوْله بِأولى من الآخر وَإِن لم يظْهر مِنْهُ قَول بِخِلَاف ذَلِك فَهُوَ لَا يدْرِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 لَعَلَّه إِذا دَعَاهُ إِلَى قَوْله أظهر خِلَافه فَلَا يكون قَوْله حجَّة عَلَيْهِ فَأَما بَعْدَمَا ظهر القَوْل عَن وَاحِد مِنْهُم وانقرض عصرهم قبل أَن يظْهر قَول بِخِلَافِهِ من غَيره فقد انْقَطع احْتِمَال مَا ثَبت بِهِ الْمُسَاوَاة من الْوَجْه الَّذِي قَررنَا فَيكون قَوْله حجَّة وَإِنَّمَا سَاغَ لبَعْضهِم مُخَالفَة الْبَعْض لوُجُود الْمُسَاوَاة بَينهم فِيمَا يتقوى بِهِ الرَّأْي وَهُوَ مُشَاهدَة أَحْوَال التَّنْزِيل وَمَعْرِفَة أَسبَابه وَلَا خلاف بَين أَصْحَابنَا الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين أَن قَول الْوَاحِد من الصَّحَابَة حجَّة فِيمَا لَا مدْخل للْقِيَاس فِي معرفَة الحكم فِيهِ وَذَلِكَ نَحْو الْمَقَادِير الَّتِي لَا تعرف بِالرَّأْيِ فَإنَّا أَخذنَا بقول عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي تَقْدِير الْمهْر بِعشْرَة دَرَاهِم وأخذنا بقول أنس فِي تَقْدِير أقل الْحيض بِثَلَاثَة أَيَّام وَأَكْثَره بِعشْرَة أَيَّام وَبقول عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ فِي تَقْدِير أَكثر النّفاس بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا وَبقول عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي أَن الْوَلَد لَا يبْقى فِي الْبَطن أَكثر من سنتَيْن وَهَذَا لِأَن أحدا لَا يظنّ بهم المجازفة فِي القَوْل وَلَا يجوز أَن يحمل قَوْلهم فِي حكم الشَّرْع على الْكَذِب فَإِن طَرِيق الدّين من النُّصُوص إِنَّمَا انْتقل إِلَيْنَا بروايتهم وَفِي حمل قَوْلهم على الْكَذِب وَالْبَاطِل قَول بفسقهم وَذَلِكَ يبطل روايتهم فَلم يبْق إِلَّا الرَّأْي أَو السماع مِمَّن ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي وَلَا مدْخل للرأي فِي هَذَا الْبَاب فَتعين السماع وَصَارَ فتواه مُطلقًا كروايته عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا شكّ أَنه لَو ذكر سَمَاعه من رَسُول الله لَكَانَ ذَلِك حجَّة لإِثْبَات الحكم بِهِ فَكَذَلِك إِذا أفتى بِهِ وَلَا طَرِيق لفتواه إِلَّا السماع وَلِهَذَا قُلْنَا إِن قَول الْوَاحِد مِنْهُم فِيمَا لَا يُوَافقهُ الْقيَاس يكون حجَّة فِي الْعَمَل بِهِ كالنص يتْرك الْقيَاس بِهِ حَتَّى إِن فِي شِرَاء مَا بَاعَ بِأَقَلّ مِمَّا بَاعَ قبل نقد الثّمن أَخذنَا بقول عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي قصَّة زيد بن أَرقم رَضِي الله عَنهُ وَتَركنَا الْقيَاس لِأَن الْقيَاس لما كَانَ مُخَالفا لقولها تعين جِهَة السماع فِي فتواها وَكَذَلِكَ أَخذنَا بقول ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي النّذر بِذبح الْوَلَد إِنَّه يُوجب ذبح شَاة لِأَنَّهُ قَول يُخَالف الْقيَاس فتتعين فِيهِ جِهَة السماع وأخذنا بقول ابْن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فِي تَقْدِير الْجعل لراد الْآبِق من مسيرَة سفر بِأَرْبَعِينَ درهما لِأَنَّهُ قَول بِخِلَاف الْقيَاس وَهُوَ إِطْلَاق الْفَتْوَى مِنْهُ فِيمَا لَا يعرف بِالْقِيَاسِ فتتعين جِهَة السماع فَإِن قيل هَذَا الْمَعْنى يُوجد فِي قَول التَّابِعِيّ فَإِنَّهُ لَا يظنّ المجازفة فِي القَوْل بالمجتهد فِي كل عصر وَلَا يجوز حمل كَلَامه على الْكَذِب قصدا وَمَعَ ذَلِك لَا تتَعَيَّن جِهَة السماع لفتواه عِنْد الْإِطْلَاق حَتَّى لَا يكون حجَّة فِيمَا لَا يسْتَدرك بِالْقِيَاسِ كَمَا لَا يكون حجَّة فِيمَا يعرف بِالْقِيَاسِ قُلْنَا قد بَينا أَن قَول الصَّحَابِيّ يكون أبعد عَن احْتِمَال الْغَلَط وَقلة التَّأَمُّل فِيهِ من قَول غَيره ثمَّ احْتِمَال اتِّصَال قَوْلهم بِالسَّمَاعِ يكون بِغَيْر وَاسِطَة فقد صحبوا من كَانَ ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي وسمعوا مِنْهُ وَاحْتِمَال اتِّصَال قَول من بعدهمْ بِالسَّمَاعِ يكون بِوَاسِطَة النَّقْل وَتلك الْوَاسِطَة لَا يُمكن إِثْبَاتهَا بِغَيْر دَلِيل وبدونها لَا يثبت اتِّصَال قَوْله بِالسَّمَاعِ بِوَجْه من الْوُجُوه فَمن هَذَا الْوَجْه يَقع الْفرق بَين قَول الصَّحَابِيّ وَبَين قَول من هُوَ دونه فِيمَا لَا مدْخل للْقِيَاس فِيهِ فَإِن قيل قد قُلْتُمْ فِي الْمَقَادِير بِالرَّأْيِ من غير أثر فِيهِ فَإِن أَبَا حنيفَة قدر مُدَّة الْبلُوغ بِالسِّنِّ بثماني عشرَة سنة أَو سبع عشرَة سنة بِالرَّأْيِ وَقدر مُدَّة وجوب دفع المَال إِلَى السَّفِيه الَّذِي لم يؤنس مِنْهُ الرشد بِخمْس وَعشْرين سنة بِالرَّأْيِ وَقدر أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد مُدَّة تمكن الرجل من نفي الْوَلَد بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا بِالرَّأْيِ وَقدر أَصْحَابنَا جَمِيعًا مَا يطهر بِهِ الْبِئْر من النزح عِنْد وُقُوع الْفَأْرَة فِيهِ بِعشْرين دلوا فَهَذَا يتَبَيَّن فَسَاد قَول من يَقُول إِنَّه لَا مدْخل للرأي فِي معرفَة الْمَقَادِير وَأَنه تتَعَيَّن جِهَة السماع فِي ذَلِك إِذا قَالَه صَحَابِيّ قُلْنَا إِنَّمَا أردنَا بِمَا قُلْنَا الْمَقَادِير الَّتِي تثبت لحق الله ابْتِدَاء دون مِقْدَار يكون فِيمَا يتَرَدَّد بَين الْقَلِيل وَالْكثير وَالصَّغِير وَالْكَبِير فَإِن الْمَقَادِير فِي الْحُدُود والعبادات نَحْو أعداد الرَّكْعَات فِي الصَّلَوَات مِمَّا لَا يشكل على أحد أَنه لَا مدْخل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 للرأي فِي معرفَة ذَلِك فَكَذَلِك مَا يكون بِتِلْكَ الصّفة مِمَّا أَشَرنَا إِلَيْهِ فَأَما مَا استدللتم بِهِ فَهُوَ من بَاب الْفرق بَين الْقَلِيل وَالْكثير فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِ فَإنَّا نعلم أَن ابْن عشر سِنِين لَا يكون بَالغا وَأَن ابْن عشْرين سنة يكون بَالغا ثمَّ التَّرَدُّد فِيمَا بَين ذَلِك فَيكون هَذَا اسْتِعْمَال الرَّأْي فِي إِزَالَة التَّرَدُّد وَهُوَ نَظِير معرفَة الْقيمَة فِي الْمَغْصُوب والمستهلك وَمَعْرِفَة مهر الْمثل وَالتَّقْدِير فِي النَّفَقَة فَإِن للرأي مدخلًا فِي معرفَة ذَلِك من الْوَجْه الَّذِي قُلْنَا وَكَذَلِكَ حكم دفع المَال إِلَى السَّفِيه فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {فَإِن آنستم مِنْهُم رشدا فادفعوا إِلَيْهِم أَمْوَالهم} وَقَالَ {وَلَا تَأْكُلُوهَا إسرافا وبدارا أَن يكبروا} فَوَقَعت الْحَاجة إِلَى معرفَة الْكَبِير على وَجه يتَيَقَّن مَعَه بِنَوْع من الرشد وَذَلِكَ مِمَّا يعرف بِالرَّأْيِ فَقدر أَبُو حنيفَة ذَلِك بِخمْس وَعشْرين سنة لِأَنَّهُ يتَوَهَّم أَن يصير جدا فِي هَذِه الْمدَّة وَمن صَار فَرعه أصلا فقد تناهى فِي الْأَصْلِيَّة فيتيقن لَهُ بِصفة الْكبر وَيعلم إيناس الرشد مِنْهُ بِاعْتِبَار أَنه بلغ أشده فَإِنَّهُ قيل فِي تَفْسِير الأشد الْمَذْكُور فِي سُورَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّه هَذِه الْمدَّة وَكَذَلِكَ مَا قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد فَإِنَّهُ يتَمَكَّن من النَّفْي بعد الْولادَة بساعة أَو ساعتين لَا محَالة وَلَا يتَمَكَّن من النَّفْي بعد سنة أَو أَكثر فَإِنَّمَا وَقع التَّرَدُّد فِيمَا بَين الْقَلِيل وَالْكثير من الْمدَّة فَاعْتبر الرَّأْي فِيهِ بِالْبِنَاءِ على أَكثر مُدَّة النّفاس فَأَما حكم طَهَارَة الْبِئْر بالنزح فَإِنَّمَا عَرفْنَاهُ بآثار الصَّحَابَة فَإِن فَتْوَى عَليّ وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنْهُمَا فِي ذَلِك مَعْرُوفَة مَعَ أَن ذَلِك من بَاب الْفرق بَين الْقَلِيل من النزح وَالْكثير وَقد بَينا أَن للرأي مدخلًا فِي معرفَة هَذَا كُله فِي قَول ظهر عَن صَحَابِيّ وَلم يشْتَهر ذَلِك فِي أقرانه فَإِنَّهُ بَعْدَمَا اشْتهر إِذا لم يظْهر النكير عَن أحد مِنْهُم كَانَ ذَلِك بِمَنْزِلَة الْإِجْمَاع وَقد بَينا الْكَلَام فِيهِ وَمَا اخْتلف فِيهِ الصَّحَابَة فقد بَينا أَن الْحق لَا يعدو أقاويلهم حَتَّى لَا يتَمَكَّن أحد من أَن يَقُول بِالرَّأْيِ قولا خَارِجا عَن أقاويلهم وَكَذَلِكَ لَا يشْتَغل بِطَلَب التَّارِيخ بَين أقاويلهم ليجعل الْمُتَأَخر نَاسِخا للمتقدم كَمَا يفعل فِي الْآيَتَيْنِ والخبرين لِأَنَّهُ لما ظهر الْخلاف بَينهم وَلم نجز المحاجة بِسَمَاع من صَاحب الْوَحْي فقد انْقَطع احْتِمَال التَّوْقِيف فِيهِ وَبَقِي مُجَرّد القَوْل بِالرَّأْيِ والرأي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 لَا يكون نَاسِخا للرأي وَلِهَذَا لم يجز نسخ أحد القياسين بِالْآخرِ وَلَكِن طَرِيق الْعَمَل طلب التَّرْجِيح بِزِيَادَة قُوَّة لأحد الْأَقَاوِيل فَإِن ظهر ذَلِك وَجب الْعَمَل بالراجح وَإِن لم يظْهر يتَخَيَّر المبتلي بالحادثة فِي الْأَخْذ بقول أَيهمَا شَاءَ بعد أَن يَقع فِي أَكثر رَأْيه أَنه هُوَ الصَّوَاب وَبعد مَا عمل بِأحد الْقَوْلَيْنِ لَا يكون لَهُ أَن يعْمل بالْقَوْل الآخر إِلَّا بِدَلِيل وَقد بَينا (لَك) هَذَا فِي بَاب الْمُعَارضَة هَذَا الَّذِي بَينا هُوَ النِّهَايَة فِي الْأَخْذ بِالسنةِ حَقِيقَتهَا وشبهتها ثمَّ الْعَمَل بِالرَّأْيِ بعده وَبِذَلِك يتم الْفِقْه على مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مُحَمَّد بن الْحسن فِي أدب القَاضِي فَقَالَ لَا يَسْتَقِيم الْعَمَل بِالْحَدِيثِ إِلَّا بِالرَّأْيِ وَلَا يَسْتَقِيم الْعَمَل بِالرَّأْيِ إِلَّا بِالْحَدِيثِ وأصحابنا هم المتمسكون بِالسنةِ والرأي فِي الْحَقِيقَة فقد ظهر مِنْهُم من تَعْظِيم السّنة مَا لم يظْهر من غَيرهم مِمَّن يَدعِي أَنه صَاحب الحَدِيث لأَنهم جوزوا نسخ الْكتاب بِالسنةِ لقُوَّة درجتها وجوزوا الْعَمَل بالمراسيل وَقدمُوا خبر الْمَجْهُول على الْقيَاس وَقدمُوا قَول الصَّحَابِيّ على الْقيَاس لِأَن فِيهِ شُبْهَة السماع من الْوَجْه الَّذِي قَررنَا ثمَّ بعد ذَلِك كُله عمِلُوا بِالْقِيَاسِ الصَّحِيح وَهُوَ الْمَعْنى الَّذِي ظهر أَثَره بقوته فَأَما الشَّافِعِي رَحمَه الله حِين لم يجوز الْعَمَل بالمراسيل فقد ترك كثيرا من السّنَن وَحين لم يقبل رِوَايَة الْمَجْهُول فقد عطل بعض السّنة أَيْضا وَحين لم ير تَقْلِيد الْوَاحِد من الصَّحَابَة فقد جوز الْإِعْرَاض عَمَّا فِيهِ شُبْهَة السماع ثمَّ جوز الْعَمَل بِقِيَاس الشّبَه وَهُوَ مِمَّا لَا يجوز أَن يُضَاف إِلَيْهِ الْوُجُوب بِحَال فَمَا حَاله إِلَّا كَحال من لم يجوز الْعَمَل بِالْقِيَاسِ أصلا ثمَّ يعْمل باستصحاب الْحَال فَحَمله مَا صَار إِلَيْهِ من الِاحْتِيَاط على الْعَمَل بِلَا دَلِيل وَترك الْعَمَل بِالدَّلِيلِ وَتبين أَن أَصْحَابنَا هم الْقدْوَة فِي أَحْكَام الشَّرْع أُصُولهَا وفروعها وَأَن بفتواهم اتَّضَح الطَّرِيق للنَّاس إِلَّا أَنه بَحر عميق لَا يسلكه كل سابح وَلَا يستجمع شَرَائِطه كل طَالب وَالله الْمُوفق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 فصل فِي خلاف التَّابِعِيّ هَل يعْتد بِهِ مَعَ إِجْمَاع الصَّحَابَة لَا خلاف أَن قَول التَّابِعِيّ لَا يكون حجَّة على وَجه يتْرك الْقيَاس بقوله فقد روينَا عَن أبي حنيفَة أَنه كَانَ يَقُول مَا جَاءَنَا عَن التَّابِعين زاحمناهم وَلَا خلاف أَن من لم يدْرك عصر الصَّحَابَة من التَّابِعين أَنه لَا يعْتد بِخِلَافِهِ فِي إِجْمَاعهم فَأَما من أدْرك عصر الصَّحَابَة من التَّابِعين كالحسن وَسَعِيد بن الْمسيب وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ رَضِي الله عَنْهُم فَإِنَّهُ يعْتد بقوله فِي إِجْمَاعهم عندنَا حَتَّى لَا يتم إِجْمَاعهم مَعَ خِلَافه وعَلى قَول الشَّافِعِي لَا يعْتد بقوله مَعَ إِجْمَاعهم وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة لَا يثبت إِجْمَاع الصَّحَابَة فِي الْإِشْعَار لِأَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ كَانَ يكرههُ وَهُوَ مِمَّن أدْرك عصر الصَّحَابَة فَلَا يثبت إِجْمَاعهم دون قَوْله وَجه قَول الشَّافِعِي أَن إِجْمَاع الصَّحَابَة حجَّة بطرِيق الْكَرَامَة لَهُم وَلَا مُشَاركَة للتابعي مَعَهم فِي السَّبَب الَّذِي استحقوا بِهِ زِيَادَة الْكَرَامَة وَذَلِكَ صُحْبَة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام ومشاهدة أَحْوَال الْوَحْي وَلِهَذَا لم نجْعَل التَّابِعِيّ الَّذِي أدْرك عصرهم بمنزلتهم فِي الِاحْتِجَاج بقوله فَكَذَلِك لَا يقْدَح قَوْله فِي إِجْمَاعهم كَمَا لَا يقْدَح قَول من لم يدْرك عصر الصَّحَابَة فِي إِجْمَاعهم وَلِأَن صَاحب الشَّرْع أمرنَا بالاقتداء بهم وَندب إِلَى ذَلِك بقوله عَلَيْهِ السَّلَام بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ وَهَذَا لَا يُوجد فِي حق التَّابِعِيّ وَإِن أدْرك عصرهم فَلَا يكون مزاحما لَهُم وَإِنَّمَا يَنْعَدِم انْعِقَاد الْإِجْمَاع بالمزاحم وَحجَّتنَا فِي ذَلِك أَنه لما أدْرك عصرهم وسوغوا لَهُ اجْتِهَاد الرَّأْي والمزاحمة مَعَهم فِي الْفَتْوَى وَالْحكم بِخِلَاف رَأْيهمْ قد صَار هُوَ كواحد مِنْهُم فِيمَا يبتني على اجْتِهَاد الرَّأْي ثمَّ الْإِجْمَاع لَا ينْعَقد مَعَ خلاف وَاحِد مِنْهُم فَكَذَلِك لَا ينْعَقد مَعَ خلاف التَّابِعِيّ الَّذِي أدْرك عصرهم لِأَنَّهُ من عُلَمَاء ذَلِك الْعَصْر فَشرط انْعِقَاد الْإِجْمَاع أَن لَا يكون أحد من أهل الْعَصْر مُخَالفا لَهُم وَبَيَان هَذَا أَن عمر وعليا رَضِي الله عَنْهُمَا قلدا شريحا الْقَضَاء بَعْدَمَا ظهر مِنْهُ مخالفتهما فِي الرَّأْي وَإِنَّمَا قلداه الْقَضَاء ليحكم بِرَأْيهِ فَإِن قيل لَا كَذَلِك بل قلداه الْقَضَاء ليحكم بقولهمَا أَو بقول بعض الصَّحَابَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 سواهُمَا قُلْنَا قد رُوِيَ أَن عمر كتب إِلَى شُرَيْح اقْضِ بِمَا فِي كتاب الله فَإِن لم تَجِد فبسنة رَسُول الله فَإِن لم تَجِد فاجتهد بِرَأْيِك فَإِن قيل معنى قَوْله (فاجتهد بِرَأْيِك) فِي آرائنا وأقاويلنا قُلْنَا هَذِه زِيَادَة على النَّص وَهِي تنزل منزلَة النّسخ فَلَا يكون تَأْوِيلا وَقد صَحَّ أَن عليا رَضِي الله عَنهُ تحاكم إِلَى شُرَيْح وَقضى عَلَيْهِ بِخِلَاف رَأْيه فِي شَهَادَة الْوَلَد لوالده ثمَّ قَلّدهُ الْقَضَاء فِي خِلَافَته وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا رَجَعَ إِلَى قَول مَسْرُوق فِي النّذر بِذبح الْوَلَد فَأوجب عَلَيْهِ شَاة بَعْدَمَا كَانَ يُوجب عَلَيْهِ مائَة من الْإِبِل وَعمر رَضِي الله عَنهُ أَمر كَعْب بن سور أَن يحكم بِرَأْيهِ بَين الزَّوْجَيْنِ فَجعل لَهَا لَيْلَة من أَربع لَيَال وَكَانَ ذَلِك خلاف رَأْي عمر قَالَ أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن تَذَاكرنَا مَعَ ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة عدَّة مَرَّات عدَّة الْحَامِل الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا فَقَالَ ابْن عَبَّاس تَعْتَد بأبعد الْأَجَليْنِ وَقلت تَعْتَد بِوَضْع الْحمل فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة أَنا مَعَ ابْن أخي وَعَن مَسْرُوق أَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا صنع طَعَاما لأَصْحَاب عبد الله بن مَسْعُود فجرت الْمسَائِل وَكَانَ ابْن عَبَّاس يخطىء فِي بعض فَتَاوِيهِ فَمَا مَنعهم من أَن يردوا عَلَيْهِ إِلَّا كَونهم على طَعَامه وَسُئِلَ ابْن عمر عَن مَسْأَلَة فَقَالَ سلوا عَنْهَا سعيد بن جُبَير فَهُوَ أعلم بهَا مني وَكَانَ أنس بن مَالك إِذا سُئِلَ عَن مَسْأَلَة فَقَالَ سلوا عَنْهَا مَوْلَانَا الْحسن فَظهر أَنهم سوغوا اجْتِهَاد الرَّأْي لمن أدْرك عصرهم وَلَا مُعْتَبر بالصحبة فِي هَذَا الْبَاب أَلا ترى أَن إِجْمَاع أهل كل عصر حجَّة وَإِن انعدمت الصُّحْبَة لَهُم وَأَنه قد كَانَ فِي الصَّحَابَة الْأَعْرَاب الَّذين لم يَكُونُوا من أهل الِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام فَكَانَ لَا يعْتَبر قَوْلهم فِي الْإِجْمَاع مَعَ وجود الصُّحْبَة فَعرفنَا أَن هَذَا الحكم إِنَّمَا يبتنى على كَونه من عُلَمَاء الْعَصْر وَمِمَّنْ يجْتَهد فِي الْأَحْكَام ويعتد بقوله ثمَّ الصَّحَابَة فِيمَا بَينهم كَانُوا متفاضلين فِي الدرجَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 فَإِن دَرَجَة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين فَوق دَرَجَة غَيرهم فِي الْفَضِيلَة وَلم يدل ذَلِك على أَن الْإِجْمَاع الَّذِي هُوَ حجَّة يثبت بِدُونِ قَوْلهم وكما أَمر رَسُول الله بالاقتداء بالصحابة فقد أَمر بالاقتداء بالخلفاء الرَّاشِدين لسَائِر الصَّحَابَة بقوله عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء من بعدِي وَأمر بالاقتداء بِأبي بكر وَعمر بقوله عَلَيْهِ السَّلَام اقتدوا باللذين من بعدِي أبي بكر وَعمر ثمَّ هَذَا لَا يدل على أَن إِجْمَاعهم يكون حجَّة قَاطِعَة مَعَ خلاف سَائِر الصَّحَابَة فصل فِي حُدُوث الْخلاف بعد الْإِجْمَاع بِاعْتِبَار معنى حَادث فمذهب عُلَمَائِنَا أَن الِاتِّفَاق مَتى حصل فِي شَيْء على حكم ثمَّ حدث فِيهِ معنى اخْتلفُوا لأَجله فِي حكمه فالإجماع الْمُتَقَدّم لَا يكون حجَّة فِيهِ وَقَالَ بعض الْعلمَاء ذَلِك الْإِجْمَاع حجَّة فِيهِ يجب التَّمَسُّك بِهِ حَتَّى يُوجد إِجْمَاع آخر بِخِلَافِهِ وَبَيَان هَذَا فِي المَاء الَّذِي وَقع فِيهِ نَجَاسَة وَلم يتَغَيَّر أحد أَوْصَافه فَإِن الْإِجْمَاع الَّذِي كَانَ على طَهَارَته قبل وُقُوع النَّجَاسَة فِيهِ لَا يكون حجَّة لإِثْبَات صفة الطَّهَارَة فِيهِ بعد وُقُوع النَّجَاسَة فِيهِ لَا يكون حجَّة لإِثْبَات صفة الطَّهَارَة فِيهِ بعد وُقُوع النَّجَاسَة فِيهِ وَعند بَعضهم يكون حجَّة وَكَذَلِكَ الْمُتَيَمم إِذا أبْصر المَاء فِي خلال الصَّلَاة فالإجماع المنعقد على صِحَة شُرُوعه فِي الصَّلَاة قبل أَن يبصر المَاء لَا يكون حجَّة لبَقَاء صلَاته بَعْدَمَا أبْصر المَاء وَعند بَعضهم يكون حجَّة وَكَذَلِكَ بيع أم الْوَلَد فالإجماع المنعقد على جَوَاز بيعهَا قبل الِاسْتِيلَاد لَا يكون حجَّة لجَوَاز بيعهَا بعد الِاسْتِيلَاد عندنَا وَعند بَعضهم يكون حجَّة وَيَقُولُونَ قد انْعَقَد الْإِجْمَاع على حكم فِي هَذَا الْعين فَنحْن على مَا كُنَّا عَلَيْهِ من الْإِجْمَاع حَتَّى ينْعَقد إِجْمَاع آخر لَهُ لِأَن الشَّيْء لَا يرفعهُ مَا هُوَ دونه وَلَا شكّ أَن الْخلاف دون الْإِجْمَاع يُوضحهُ أَن التَّمَسُّك بِالْيَقِينِ وَترك الْمَشْكُوك فِيهِ أصل فِي الشَّرْع فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَمر الشاك فِي الْحَدث بِأَن لَا ينْصَرف من صلَاته حَتَّى يستيقن بِالْحَدَثِ لِأَنَّهُ على يَقِين من الطَّهَارَة وَهُوَ فِي شكّ من الْحَدث وَكَذَلِكَ أَمر الشاك فِي الصَّلَاة بِأَن يَأْخُذ بِالْأَقَلِّ لكَونه متيقنا بِهِ وَكَذَلِكَ فِي الْأَحْكَام نقُول الْيَقِين لَا يزَال بِالشَّكِّ حَتَّى إِذا شكّ فِي طَلَاق امْرَأَته لم يَقع الطَّلَاق عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ الْإِقْرَار بِالْمَالِ لَا يثبت مَعَ الشَّك لِأَن بَرَاءَة الذِّمَّة يَقِين بِاعْتِبَار الأَصْل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 فَلَا يَزُول الْمُتَيَقن بِالشَّكِّ وَهَذَا لِأَن الْيَقِين كَانَ مَعْلُوما فِي نَفسه وَمَعَ الشَّك لَا يثبت للْعلم فَلَا يجوز ترك الْعَمَل بِالْعلمِ لأجل مَا لَيْسَ بِعلم وأصحابنا قَالُوا هَذَا مَذْهَب بَاطِل فَإِن الْإِجْمَاع كَانَ ثَابتا فِي عين على حكم لَا لِأَنَّهُ عين وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك لِمَعْنى وَقد حدث معنى آخر خلاف ذَلِك وَمَعَ هَذَا الْمَعْنى الْحَادِث لم يكن الْإِجْمَاع قطّ فَكيف يَسْتَقِيم استصحابه وَبِه نبطل نَحن على مَا كُنَّا عَلَيْهِ فَإنَّا لم نَكُنْ على الْإِجْمَاع مَعَ هَذَا الْمَعْنى قطّ ثمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن تكون الْحجَّة نفس الْإِجْمَاع أَو الدَّلِيل الَّذِي نَشأ مِنْهُ الْإِجْمَاع قبل حُدُوث هَذَا الْمَعْنى فِيهِ فَإِن كَانَ نفس الْإِجْمَاع فَبعد الْخلاف الْإِجْمَاع وَفِي الْموضع الَّذِي لَا إِجْمَاع لَا يتَحَقَّق الِاحْتِجَاج بِنَفس الْإِجْمَاع وَإِن كَانَ الدَّلِيل الَّذِي نَشأ مِنْهُ الْإِجْمَاع فَمَا لم يثبت بَقَاء ذَلِك الدَّلِيل بعد اعْتِرَاض الْمَعْنى الْحَادِث لَا يتَحَقَّق الِاسْتِدْلَال بِالْإِجْمَاع ثمَّ يحْتَج عَلَيْهِم بِعَين مَا احْتَجُّوا بِهِ فَنَقُول قد تَيَقنا بِالْحَدَثِ الْمَانِع من جَوَاز أَدَاء الصَّلَاة فِي أَعْضَاء الْمُحدث قبل اسْتِعْمَال هَذَا المَاء الَّذِي وَقعت فِيهِ النَّجَاسَة فَنحْن على مَا كُنَّا عَلَيْهِ من الْيَقِين وَالْإِجْمَاع لَا يتْرك بِالْخِلَافِ عِنْد اسْتِعْمَال هَذَا المَاء واتفقنا على أَن أَدَاء الصَّلَاة وَاجِب على من أدْرك الْوَقْت فَنحْن على ذَلِك الِاتِّفَاق لَا نتركه بأَدَاء يكون مِنْهُ بِالتَّيَمُّمِ بَعْدَمَا أبْصر المَاء لِأَن سُقُوط الْفَرْض بِهَذَا الْأَدَاء مَشْكُوك فِيهِ واتفقنا على أَن الْأمة بعد مَا حبلت من مَوْلَاهَا قد امْتنع بيعهَا فَنحْن على ذَلِك الِاتِّفَاق لَا نتركه بِالْخِلَافِ فِي جَوَاز بيعهَا بَعْدَمَا انْفَصل الْوَلَد عَنْهَا وكل كَلَام يُمكن أَن يحْتَج بِهِ على الْخصم بِعَيْنِه فِي إِثْبَات مَا رام إِبْطَاله بِهِ فَهُوَ بَاطِل فِي نَفسه وَهُوَ نَظِير احتجاجنا على من يَقُول لَا دَلِيل على النَّافِي فِي أَحْكَام الشَّرْع وَإِنَّمَا الدَّلِيل على الْمُثبت كَمَا فِي الدَّعَاوَى فَإِن الْبَيِّنَة تكون على الْمُثبت دون النَّافِي فَنَقُول من قَالَ لَا حكم فَهُوَ يثبت صِحَة اعْتِقَاد نفي الحكم وَهَذَا مِنْهُ إِثْبَات حكم شَرْعِي وخصمه يَنْفِي صِحَة هَذَا الِاعْتِقَاد فَيَنْبَغِي أَن تكون الْحجَّة عَلَيْهِ للإثبات لَا على خَصمه فَإِنَّهُ يَنْفِي وسنقرر هَذَا الْكَلَام فِي مَوْضِعه ثمَّ نستدل بقوله تَعَالَى {فَإِن علمتموهن مؤمنات فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار} وَفِي هَذَا تنصيص على ترك الْعَمَل بِمَا كَانَ متيقنا بِهِ عِنْد حُدُوث معنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 آخر وَإِن لم يكن ذَلِك الْمَعْنى متيقنا بِهِ فَإِن كفرها قبل الْهِجْرَة كَانَ متيقنا بِهِ وَزَوَال ذَلِك بعد الْهِجْرَة إِنَّمَا نعرفه بغالب الرَّأْي لَا بِالْيَقِينِ وَلَيْسَ هَذَا نَظِير مَا اسْتشْهدُوا بِهِ لِأَن هُنَاكَ عِنْد الشَّك فِي الطَّلَاق لَا نجد دَلِيلا نعتمده فِي حكم الطَّلَاق سوى مَا تقدم وَكَذَلِكَ عِنْد الشَّك فِي وجوب المَال لَا نجد دَلِيلا نعتمده سوى مَا تقدم وَكَذَلِكَ عِنْد الشَّك فِي الْحَدث وَعند الشَّك فِي أَدَاء بعض الصَّلَاة حَتَّى إِذا وجدنَا فِيهِ دَلِيلا وَهُوَ التَّحَرِّي نقُول بِأَنَّهُ يجب الْعَمَل بذلك الدَّلِيل وَهنا قد وجدنَا دَلِيلا نستدل بِهِ على الحكم بعد حُدُوث الْمَعْنى الْحَادِث فِي الْعين فَيجب الْعَمَل بذلك الدَّلِيل وَلَا يجوز الْمصير إِلَى اسْتِصْحَاب مَا كَانَ قبل حُدُوث هَذَا الْمَعْنى فاليقين إِنَّمَا كَانَ قبل وجود الدَّلِيل المغير وَمثله لَا يكون يَقِينا بعد وجود الدَّلِيل المغير وعَلى هَذَا الأَصْل اسْتِصْحَاب الْعُمُوم بعد حُدُوث الدَّلِيل المغير للْحكم فَإِنَّهُ لَا يجوز لأحد أَن يسْتَدلّ على إِبَاحَة قتل الْمُسْتَأْمن بقوله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} لِأَن حكم هَذَا الْعَام كَانَ ثَابتا قبل وجود الدَّلِيل المغير فَلَا يجوز الِاسْتِدْلَال بِهِ بعد ذَلِك فِي مَوضِع فِيهِ خلاف وَهُوَ أَن الْمُسْتَأْمن إِذا جعل نَفسه طَلِيعَة للْمُشْرِكين يُخْبِرهُمْ بعورات الْمُسلمين فَإِنَّهُ لَا يُبَاح قَتله اسْتِدْلَالا بقوله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} عندنَا وَعند بَعضهم يجوز قَتله بِاعْتِبَار هَذِه الْحجَّة وَالْكَلَام فِي هَذَا مثل الْكَلَام فِي الْفَصْل الأول وَالله أعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الْقيَاس - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ رَضِي الله عَنهُ مَذْهَب الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ من التَّابِعين وَالصَّالِحِينَ والماضين من أَئِمَّة الدّين رضوَان الله عَلَيْهِم جَوَاز الْقيَاس بِالرَّأْيِ على الْأُصُول الَّتِي تثبت أَحْكَامهَا بِالنَّصِّ لتعدية حكم النَّص إِلَى الْفُرُوع جَائِز مُسْتَقِيم يدان الله بِهِ وَهُوَ مدرك من مدارك أَحْكَام الشَّرْع وَلكنه غير صَالح لإِثْبَات الحكم بِهِ ابْتِدَاء وعَلى قَول أَصْحَاب الظَّوَاهِر هُوَ غير صَالح لتعدية حكم النَّص بِهِ إِلَى مَا لَا نَص فِيهِ وَالْعَمَل بَاطِل أصلا فِي أَحْكَام الشَّرْع وَأول من أحدث هَذَا القَوْل إِبْرَاهِيم النظام وَطعن فِي السّلف لاحتجاجهم بِالْقِيَاسِ ونسبهم بتهوره إِلَى خلاف مَا وَصفهم الله بِهِ فَخلع بِهِ ربقة الْإِسْلَام من عُنُقه وَكَانَ ذَلِك مِنْهُ إِمَّا للقصد إِلَى إِفْسَاد طَرِيق الْمُسلمين عَلَيْهِم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 أَو للْجَهْل مِنْهُ بِفقه الشَّرِيعَة ثمَّ تبعه على هَذَا القَوْل بعض الْمُتَكَلِّمين بِبَغْدَاد وَلكنه تحرز عَن الطعْن فِي السّلف فِرَارًا من الشنعة الَّتِي لحقت النظام فَذكر طَرِيقا آخر لاحتجاج الصَّحَابَة بِالْقِيَاسِ هُوَ دَلِيل على جَهله وَهُوَ أَنه قَالَ مَا جرى بَين الصَّحَابَة لم يكن على وَجه الِاحْتِجَاج بِالْقِيَاسِ وَإِنَّمَا كَانَ على وَجه الصُّلْح والتوسط بَين الْخُصُوم وَذكر الْمسَائِل لتقريب مَا قصدوه من الصُّلْح إِلَى الأفهام وَهَذَا مِمَّا لَا يخفى فَسَاده على من تَأمل أدنى تَأمل فِيمَا نقل عَن الصَّحَابَة فِي هَذَا الْبَاب ثمَّ نَشأ بعده رجل متجاهل يُقَال لَهُ دَاوُد الْأَصْبَهَانِيّ فَأبْطل الْعَمَل بِالْقِيَاسِ من غير أَن وقف على مَا هُوَ مُرَاد كل فريق مِمَّن كَانَ قبله وَلكنه أَخذ طرفا من كل كَلَام وَلم يشْتَغل بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ ليتبين لَهُ وَجه فَسَاده قَالَ الْقيَاس لَا يكون حجَّة وَلَا يجوز الْعَمَل بِهِ فِي أَحْكَام الشَّرْع وَتَابعه على ذَلِك أَصْحَاب الظَّوَاهِر الَّذين كَانُوا مثله فِي ترك التَّأَمُّل وروى بَعضهم هَذَا الْمَذْهَب عَن قَتَادَة ومسروق وَابْن سِيرِين وَهُوَ افتراء عَلَيْهِم فقد كَانُوا أجل من أَن ينْسب إِلَيْهِم الْقَصْد إِلَى مُخَالفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه فِيمَا هُوَ طَرِيق أَحْكَام الشَّرْع بعد مَا ثَبت نَقله عَنْهُم ثمَّ قَالَ بعض نفاة الْقيَاس دَلَائِل الْعقل لَا تصلح لمعْرِفَة شَيْء من أُمُور الدّين بهَا وَالْقِيَاس يشبه ذَلِك وَقَالَ بَعضهم لَا يعْمل بالدلائل الْعَقْلِيَّة فِي أَحْكَام الشَّرْع أصلا وَإِن كَانَ يعْمل بهَا فِي العقليات وَقَالَ بَعضهم لَا يعْمل بهَا إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة وَلَا ضَرُورَة فِي أَحْكَام الشَّرْع لِإِمْكَان الْعَمَل بِالْأَصْلِ الَّذِي هُوَ اسْتِصْحَاب الْحَال وَهَذَا أقرب أقاويلهم إِلَى الْقَصْد فَيحْتَاج فِي تبين وَجه الْفساد فِيهِ إِلَى إِثْبَات أَن الْقيَاس حجَّة أَصْلِيَّة فِي تَعديَة الْأَحْكَام لَا حجَّة ضَرُورِيَّة وَإِلَى أَنه مقدم فِي الِاحْتِجَاج بِهِ على اسْتِصْحَاب الْحَال وَلَكِن نبدأ بِبَيَان شبهتهم فَإِنَّهُم استدلوا بِظَاهِر آيَات من الْكتاب مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {أَو لم يَكفهمْ أَنا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب يُتْلَى عَلَيْهِم} وَفِي الْمصير إِلَى الرَّأْي لإِثْبَات حكم فِي مَحل قَول بِأَن الْكتاب غير كَاف وَقَالَ تَعَالَى {ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبيانا لكل شَيْء} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 وَقَالَ تَعَالَى {مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا رطب وَلَا يَابِس إِلَّا فِي كتاب مُبين} فَفِيهَا بَيَان أَن الْأَشْيَاء كلهَا فِي الْكتاب إِمَّا فِي إِشَارَته أَو دلَالَته أَو فِي اقتضائه أَو فِي نَصه فَإِن لم يُوجد فِي شَيْء من ذَلِك فبالإبقاء على الأَصْل الَّذِي علم ثُبُوته بِالْكتاب وَهُوَ دَلِيل مُسْتَقِيم قَالَ تَعَالَى {قل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ محرما على طاعم يطعمهُ} الْآيَة فقد أمره بالاحتجاج بِأَصْل الْإِبَاحَة فِيمَا لَا يجد فِيهِ دَلِيل الْحُرْمَة فِي الْكتاب وَهَذَا مُسْتَمر على أصل من يَقُول الْإِبَاحَة فِي الْأَشْيَاء أصل وعَلى أصلنَا الَّذِي نقُول إِنَّمَا نَعْرِف كل شَيْء بِالْكتاب وَهَذَا مَعْلُوم بقوله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا} فَإِن الْإِضَافَة بلام التَّمْلِيك تكون أدل على إِثْبَات صفة الْحل من التَّنْصِيص على الْإِبَاحَة فَلم يبْق الرَّأْي بعد هَذَا إِلَّا لتعرف الْحِكْمَة وَالْوُقُوف على الْمصلحَة فِيهِ عَاقِبَة وَذَلِكَ مِمَّا لَا مجَال للرأي فِي مَعْرفَته فَإِن الْمصلحَة فِي الْعَاقِبَة عبارَة عَن الْفَوْز والنجاة وَمَا بِهِ الْفَوْز والنجاة فِي الْآخِرَة لَا يُمكن الْوُقُوف عَلَيْهِ بِالرَّأْيِ وَإِنَّمَا الرَّأْي لمعْرِفَة الْمصَالح العاجلة الَّتِي يعلم جِنْسهَا بالحواس ثمَّ نستدرك نظائرها بِالرَّأْيِ وَهَذَا مثل مَا قُلْتُمْ إِن تَعْلِيل النُّصُوص بعلة لَا يتَعَدَّى إِلَى الْفُرُوع بَاطِل لِأَنَّهَا خَالِيَة عَن إِثْبَات الحكم بهَا فَالْحكم فِي الْمَنْصُوص ثَابت بِالنَّصِّ فَلَا يكون فِي هَذَا التَّعْلِيل إِلَّا تعرف وَجه الْحِكْمَة وَالْوُقُوف على الْمصلحَة فِي الْعَاقِبَة والرأي لَا يَهْتَدِي إِلَى ذَلِك وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله} وَقَالَ تَعَالَى {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} {الظَّالِمُونَ} {الْفَاسِقُونَ} وَالْعَمَل بِالرَّأْيِ فِيهِ تقدم بَين يَدي الله وَرَسُوله وَهُوَ حكم بِغَيْر مَا أنزل الله فَإِن طَريقَة الاستنباط بآرائنا وَمَا يَبْدُو لنا من آرائنا لَا يكون مِمَّا أنزل الله فِي شَيْء إِنَّمَا الْمنزل كتاب الله وَسنة رَسُوله فقد ثَبت أَنه مَا كَانَ ينْطق إِلَّا عَن وَحي كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} وَقَالَ تَعَالَى {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} وَإِنَّمَا الحكم بِالرَّأْيِ من جملَة مَا قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تَقولُوا لما تصف أَلْسِنَتكُم الْكَذِب هَذَا حَلَال وَهَذَا حرَام} الْآيَة وَاسْتَدَلُّوا بآثار فَمن ذَلِك حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله قَالَ لم يزل بَنو إِسْرَائِيل على طَريقَة مُسْتَقِيمَة حَتَّى كثر فيهم أَوْلَاد السبايا فقاسوا مَا لم يكن بِمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 قد كَانَ فضلوا وأضلوا وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تعْمل هَذِه الْأمة بُرْهَة بِالْكتاب ثمَّ بُرْهَة بِالسنةِ ثمَّ بُرْهَة بِالرَّأْيِ فَإِذا فعلوا ذَلِك ضلوا وَقَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ إيَّاكُمْ وَأَصْحَاب الرَّأْي فَإِنَّهُم أَعدَاء الدّين أعيتهم السّنة أَن يحفظوها فَقَالُوا برأيهم فضلوا وأضلوا وَقَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ إيَّاكُمْ وأرأيت وأرأيت فَإِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ فِي أَرَأَيْت وأرأيت وَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام من فسر الْقُرْآن بِرَأْيهِ فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إِعْمَال الرَّأْي للْعَمَل بِهِ فِي الْأَحْكَام فَإِن إِعْمَال الرَّأْي للوقوف على معنى النَّص من حَيْثُ اللِّسَان فقه مُسْتَقِيم وَيكون الْعَمَل بِهِ عملا بِالنَّصِّ لَا بِالرَّأْيِ وَبَيَان هَذَا فِيمَا اخْتلف فِيهِ ابْن عَبَّاس وَزيد رَضِي الله عَنْهُم فِي زوج وأبوين فَقَالَ ابْن عَبَّاس للْأُم ثلث جَمِيع المَال فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {فلأمه الثُّلُث} وَالْمَفْهُوم من إِطْلَاق هَذِه الْعبارَة ثلث جَمِيع المَال وَقَالَ زيد للْأُم ثلث مَا بَقِي لِأَن فِي الْآيَة بَيَان أَن للْأُم ثلث مَا وَرثهُ الأبوان فَإِنَّهُ قَالَ {وَورثه أَبَوَاهُ فلأمه الثُّلُث} وميراث الْأَبَوَيْنِ هُوَ الْبَاقِي بعد نصيب الزَّوْج فللأم ثلث ذَلِك هَذَا وَنَحْوه عمل بِالْكتاب لَا بِالرَّأْيِ فَيكون مُسْتَقِيمًا وَمن حَيْثُ الْمَعْقُول يستدلون بأنواع من الْكَلَام أَحدهَا من حَيْثُ الدَّلِيل وَهُوَ أَن فِي الْقيَاس شُبْهَة فِي أَصله لِأَن الْوَصْف الَّذِي تعدى بِهِ الحكم غير مَنْصُوص عَلَيْهِ وَلَا هُوَ ثَابت بِإِشَارَة النَّص وَلَا بدلالته وَلَا بِمُقْتَضَاهُ فتعيينه من بَين سَائِر الْأَوْصَاف بِالرَّأْيِ لَا يَنْفَكّ عَن شُبْهَة وَالْحكم الثَّابِت بِهِ من إِيجَاب أَو إِسْقَاط أَو تَحْلِيل أَو تَحْرِيم مَحْض حق الله تَعَالَى وَلَا وَجه لإِثْبَات مَا هُوَ حق الله بطرِيق فِيهِ شُبْهَة لِأَن من لَهُ الْحق مَوْصُوف بِكَمَال الْقُدْرَة يتعالى عَن أَن ينتسب إِلَيْهِ الْعَجز أَو الْحَاجة إِلَى إِثْبَات حَقه بِمَا فِيهِ شُبْهَة وَلَا وَجه لإنكار هَذِه الشُّبْهَة فِيهِ فَإِن الْقيَاس لَا يُوجب الْعلم قطعا بالِاتِّفَاقِ وَكَانَ ذَلِك بِاعْتِبَار أَصله وعَلى هَذَا التَّقْرِير يكون هَذَا اسْتِدْلَالا بقوله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَقولُوا على الله إِلَّا الْحق} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 وَلَا يدْخل على هَذَا أَخْبَار الْآحَاد فَإِن أَصله قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ مُوجب للْعلم قطعا وَإِنَّمَا تتمكن الشُّبْهَة فِي طَرِيق الِانْتِقَال إِلَيْنَا وَقد كَانَ قَول رَسُول الله حجَّة قبل الِانْتِقَال إِلَيْنَا بِهَذَا الطَّرِيق فلشبهة تتمكن فِي الطَّرِيق لَا يخرج الحَدِيث من أَن يكون حجَّة مُوجبَة للْعلم وَهُوَ كالنص المؤول فَإِن الشُّبْهَة تتمكن فِي تأويلنا فَلَا يخرج النَّص من أَن يكون حجَّة مُوجبَة للْعلم وَمِنْهُم من قرر هَذَا الْكَلَام من وَجه آخر وَقَالَ تعْيين وصف فِي الْمَنْصُوص بِالرَّأْيِ لإضافة الحكم إِلَيْهِ يشبه قِيَاس إِبْلِيس لَعنه الله على مَا أخبر الله تَعَالَى عَنهُ {أأسجد لمن خلقت طينا} وَكَذَلِكَ التَّمْيِيز بَين هَذَا الْوَصْف وَسَائِر الْأَوْصَاف فِي إِثْبَات حكم الشَّرْع أَو التَّرْجِيح بِالرَّأْيِ يشبه مَا فعله إِبْلِيس كَمَا أخبر الله تَعَالَى عَنهُ {خلقتني من نَار وخلقته من طين} فَلَا يشك أحد فِي أَن ذَلِك كَانَ بَاطِلا وَلم يكن حجَّة فَالْعَمَل بِالرَّأْيِ فِي أَحْكَام الشَّرْع لَا يكون عملا بِالْحجَّةِ أَيْضا وَنَوع آخر من حَيْثُ الْمَدْلُول فَإِنَّهُ طَاعَة لله تَعَالَى وَلَا مدْخل للرأي فِي معرفَة مَا هُوَ طَاعَة لله وَلِهَذَا لَا يجوز إِثْبَات أصل الْعِبَادَة بِالرَّأْيِ وَهَذَا لِأَن الطَّاعَة فِي إِظْهَار الْعُبُودِيَّة والانقياد وَمَا كَانَ التَّعَبُّد مَبْنِيا على قَضِيَّة الرَّأْي بل طَرِيقه طَرِيق الِابْتِلَاء أَلا ترى أَن من المشروعات مَا لَا يسْتَدرك بِالرَّأْيِ (أصلا) كالمقادير فِي الْعُقُوبَات والعبادات وَمِنْه مَا هُوَ خلاف مَا يَقْتَضِيهِ الرَّأْي وَمَا هَذِه صفته فَإِنَّهُ لَا يُمكن مَعْرفَته بِالرَّأْيِ فَيكون الْعَمَل بِالرَّأْيِ فِيهِ عملا بالجهالة لَا بِالْعلمِ وَكَيف يُمكن إِعْمَال الرَّأْي فِيهِ والمشروعات متباينة فِي أَنْفسهَا يظْهر ذَلِك عِنْد التَّأَمُّل فِي جَمِيعهَا وَالْقِيَاس عبارَة عَن رد الشَّيْء إِلَى نَظِيره يُقَال قس النَّعْل بالنعل أَي احذه بِهِ فَكيف يَتَأَتَّى هَذَا مَعَ التباين يُوضحهُ أَن الْعِلَل الَّتِي تعدى الحكم بهَا من الْمَنْصُوص عَلَيْهِ إِلَى غَيره مُتعَدِّدَة مُخْتَلفَة ولأجلها اخْتلف الْعلمَاء فِي طَرِيق التَّعْدِيَة وَمَا يكون بِهَذِهِ الصّفة فَإِنَّهُ يتَعَذَّر تعْيين وَاحِد مِنْهَا للْعَمَل إِلَّا بِمَا يُوجب الْعلم قطعا وَهُوَ النَّص وَلِهَذَا جَوَّزنَا الْعَمَل بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوص عَلَيْهَا كَمَا فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْهِرَّة لَيست بنجسة إِنَّمَا هِيَ من الطوافين عَلَيْكُم والطوافات فأثبتنا هَذَا الحكم فِي غَيرهَا من حشرات هُوَ الْعلَّة عينا فَيكون الْعَمَل بِهِ بَاطِلا وَلَا يدْخل عَلَيْهِ الْأَخْبَار فَإِنَّهُ لَا اخْتِلَاف فِيهَا فِي الأَصْل لِأَنَّهُ كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد بَينا أَنه قَالَ ذَلِك عَن وَحي وَقد علمنَا بِالنَّصِّ أَنه لَا اخْتِلَاف فِيمَا هُوَ من عِنْد الله قَالَ تَعَالَى {وَلَو} الْبَيْت لِأَن الْعلَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 مَنْصُوص عَلَيْهَا فَأَما بِالرَّأْيِ فَلَا يُمكن الْوُقُوف على مَا {كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} وَإِنَّمَا الِاخْتِلَاف فِي الْأَخْبَار من جِهَة الروَاة وَالْحجّة هُوَ الْخَبَر لَا الرَّاوِي وَمَا كَانَ الِاخْتِلَاف فِيمَا بَين الروَاة إِلَّا نَظِير اشْتِبَاه النَّاسِخ من الْمَنْسُوخ فِي كتاب الله فَإِن ذَلِك مَتى ارْتَفع بِمَا هُوَ الطَّرِيق فِي مَعْرفَته يكون الْعَمَل بالناسخ وَاجِبا وَيكون ذَلِك عملا بِالنَّصِّ لَا بالتاريخ فَكَذَلِك فِي الْأَخْبَار وَتَحْت مَا قَررنَا فَائِدَتَانِ بهما قوام الدّين وَنَجَاة الْمُؤمنِينَ إِحْدَاهمَا الْمُحَافظَة على نُصُوص الشَّرِيعَة فَإِنَّهَا قوالب الْأَحْكَام وَالثَّانِي التبحر فِي مَعَاني اللِّسَان فَإِن مَعَانِيه جمة غائرة لَا يفضل عمر الْمَرْء عَن التَّأَمُّل فِيهَا إِذا أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهَا وَلَا يتفرغ للْعَمَل بالهوى الَّذِي ينشأ مِنْهُ الزيغ عَن الْحق والوقوع فِي الْبِدْعَة وَمَا يحصل بِهِ التَّحَرُّز عَن الْبدع وَاجِبا أَحْكَام الشَّرْع فَلَا شكّ أَن قوام الدّين وَنَجَاة الْمُؤمنِينَ يكون فِيهِ وَلَا يدْخل على شَيْء مِمَّا ذكرنَا إِعْمَال الرَّأْي فِي أَمر الْحَرْب وقيم الْمُتْلفَات وَمهر النِّسَاء وَالْوُقُوف على جِهَة الْكَعْبَة أما على الْوَجْه الأول فَلِأَن هَذَا كُله من حُقُوق الْعباد ويليق بحالهم الْعَجز والاشتباه فِيمَا يعود إِلَى مصالحهم العاجلة فَيعْتَبر فِيهِ الوسع ليتيسر عَلَيْهِم الْوُصُول إِلَى مقاصدهم وَهَذَا فِي غير أَمر الْقبْلَة ظَاهر وَكَذَلِكَ فِي أَمر الْقبْلَة فَإِن الأَصْل فِيهِ معرفَة جِهَات أقاليم الأَرْض وَذَلِكَ من حُقُوق الْعباد وعَلى الثَّانِي فَلِأَن الأَصْل فِيمَا هُوَ من حُقُوق الْعباد مَا يكون مستدركا بالحواس وَبِه يثبت علم الْيَقِين كَمَا ثَبت بِالْكتاب وَالسّنة أَلا ترى أَن الْكَعْبَة جِهَتهَا تكون محسوسة فِي حق من عاينها وَبعد الْبعد مِنْهَا بإعمال الرَّأْي يُمكن تصييرها كالمحسوسة وَكَذَلِكَ أَمر الْحَرْب فالمقصود صِيَانة النَّفس عَمَّا يتلفها أَو قهر الْخصم وأصل ذَلِك محسوس وَمَا هُوَ إِلَّا نَظِير التوقي عَن تنَاول سم الزعاف لعلمه أَنه متْلف والتوقي عَن الْوُقُوع على السَّيْف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 والسكين لعلمه أَنه نَاقض للبنية فَعرفنَا أَن أصل ذَلِك محسوس فإعمال الرَّأْي فِيهِ للْعَمَل يكون فِي معنى الْعَمَل بِمَا لَا شُبْهَة فِي أَصله ثمَّ فِي هَذِه الْمَوَاضِع الضَّرُورَة تتَحَقَّق إِلَى إِعْمَال الرَّأْي فَإِنَّهُ عِنْد الْإِعْرَاض عَنهُ لَا نجد طَرِيقا آخر وَهُوَ دَلِيل الْعَمَل بِهِ فلأجل الضَّرُورَة جَوَّزنَا بِهِ الْعَمَل بِالرَّأْيِ فِيهِ وَهنا الضَّرُورَة لَا تَدْعُو إِلَى ذَلِك لوُجُود دَلِيل فِي أَحْكَام الشَّرْع للْعَمَل بِهِ على وَجه يُغْنِيه عَن إِعْمَال الرَّأْي فِيهِ وَهُوَ اعْتِبَار الأَصْل الَّذِي قَررنَا وَلَا يدْخل على شَيْء مِمَّا ذكرنَا إِعْمَال الرَّأْي والتفكر فِي أَحْوَال الْقُرُون الْمَاضِيَة وَمَا لحقهم من المثلات والكرامات لِأَن ذَلِك من حُقُوق الْعباد فالمقصود أَن يمتنعوا مِمَّا كَانَ مهْلكا لمن قبلهم حَتَّى لَا يهْلكُوا أَو أَن يباشروا مَا كَانَ سَببا لاسْتِحْقَاق الْكَرَامَة لمن قبلهم حَتَّى ينالوا مثل ذَلِك وَهُوَ فِي الأَصْل من حُقُوق الْعباد بِمَنْزِلَة الْأكل الَّذِي يكْتَسب بِهِ الْمَرْء سَبَب إبْقَاء نَفسه وإتيان الْإِنَاث فِي مَحل الْحَرْث بطريقه ليكتسب بِهِ سَبَب إبْقَاء النَّسْل ثمَّ طَرِيق ذَلِك الِاعْتِبَار بِالتَّأَمُّلِ فِي مَعَاني اللِّسَان فَإِن أَصله الْخَبَر وَذَلِكَ مِمَّا يعلم بحاسة السّمع ثمَّ بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ يدْرك الْمَقْصُود وَلَيْسَ ذَلِك من حكم الشَّرِيعَة فِي شَيْء فقد كَانَ الْوُقُوف على مَعَاني اللُّغَة فِي الْجَاهِلِيَّة وَهُوَ بَاقٍ الْيَوْم بَين الْكَفَرَة الَّذين لَا يعلمُونَ حكم الشَّرِيعَة وعَلى هَذَا يخرج أَيْضا مَا أَمر بِهِ رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام من المشورة مَعَ أَصْحَابه فَإِن المُرَاد أَمر الْحَرْب وَمَا هُوَ من حُقُوق الْعباد أَلا ترى أَن الْمَرْوِيّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه شاورهم فِي ذَلِك وَلم ينْقل أَنه شاورهم قطّ فِي حَقِيقَة مَا هم عَلَيْهِ وَلَا فِيمَا أَمرهم بِهِ من أَحْكَام الشَّرْع وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى أَشَارَ بقوله عَلَيْهِ السَّلَام إِذا أتيتكم بِشَيْء من أَمر دينكُمْ فاعملوا بِهِ وَإِذا أتيتكم بِشَيْء من أَمر دنياكم فَأنْتم أعلم بِأَمْر دنياكم أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ وَهَذَا بَيَان شبه الْخُصُوم فِي الْمَسْأَلَة وَالْحجّة لجمهور الْعلمَاء دَلَائِل الْكتاب وَالسّنة والمعقول وَهِي كَثِيرَة جدا قد أورد أَكْثَرهَا المتقدمون من مَشَايِخنَا وَلَكنَّا نذْكر من كل نوع طرفا مِمَّا هُوَ أقوى فِي الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 فَمن دَلَائِل الْكتاب قَوْله تَعَالَى {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} حُكيَ عَن ثَعْلَب قَالَ الِاعْتِبَار فِي اللُّغَة هُوَ رد حكم الشَّيْء إِلَى نَظِيره وَمِنْه يُسمى الأَصْل الَّذِي يرد إِلَيْهِ النَّظَائِر عِبْرَة وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {إِن فِي ذَلِك لعبرة لأولي الْأَبْصَار} وَالرجل يَقُول اعْتبرت هَذَا الثَّوْب بِهَذَا الثَّوْب أَي سويته بِهِ فِي التَّقْدِير وَهَذَا هُوَ حد الْقيَاس فَظهر أَنه مَأْمُور بِهِ بِهَذَا النَّص وَقيل الِاعْتِبَار التَّبْيِين وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {إِن كُنْتُم للرؤيا تعبرون} أَي تبينون والتبيين الَّذِي يكون مُضَافا إِلَيْنَا هُوَ إِعْمَال الرَّأْي فِي معنى الْمَنْصُوص ليتبين بِهِ الحكم فِي نَظِيره فَإِن قيل الِاعْتِبَار هُوَ التَّأَمُّل والتفكر فِيمَا أخبر الله تَعَالَى مِمَّا صنعه بالقرون الْمَاضِيَة قُلْنَا هَذَا مثله وَلكنه غير مَأْمُور بِهِ لعَينه بل ليعتبر حَاله بحالهم فيزجروا عَمَّا استوجبوا بِهِ مَا استوجبوا من الْعقَاب إِذْ الْمَقْصُود من الِاعْتِبَار هُوَ أَن يتعظ بالعبرة وَمِنْه يُقَال السعيد من وعظ بِغَيْرِهِ وَبَيَان مَا قُلْنَا فِي الْقصاص فَإِن الله تَعَالَى يَقُول {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة} وَهُوَ فِي العيان ضد الْحَيَاة وَلَكِن فِيهِ حَيَاة بطرِيق الِاعْتِبَار فِي شَرعه واستبقائه أما الْحَيَاة فِي شَرعه وَهُوَ أَن من قصد قتل غَيره فَإِذا تفكر فِي نَفسه أَنه مَتى قَتله قتل بِهِ انزجر عَن قَتله فَتكون حَيَاة لَهما والحياة فِي استبقائه أَن الْقَاتِل عمدا يصير حَربًا لأولياء الْقَتِيل لخوفه على نَفسه مِنْهُم فَالظَّاهِر أَنه يقْصد قَتلهمْ ويستعين على ذَلِك بأمثاله من السُّفَهَاء ليزيل الْخَوْف عَن نَفسه فَإِذا استوفى الْوَلِيّ الْقصاص مِنْهُ انْدفع شَره عَنهُ وَعَن عشيرته فَيكون حَيَاة لَهُم من هَذَا الْوَجْه لِأَن إحْيَاء الْحَيّ فِي دفع سَبَب الْهَلَاك عَنهُ قَالَ تَعَالَى {وَمن أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا} وَإِذا تبين هَذَا الْمَعْنى فَنَقُول لَا فرق بَين حكم هُوَ هَلَاك فِي مَحل بِاعْتِبَار معنى هُوَ كفر وَبَين حكم هُوَ تَحْرِيم أَو تَحْلِيل فِي مَحل بِاعْتِبَار معنى هُوَ قدر وجنس فالتنصيص على الْأَمر بِالِاعْتِبَارِ فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ يكون تنصيصا على الْأَمر بِهِ فِي الْموضع الآخر فَإِن قيل الْكفْر فِي كَونه عِلّة لما استوجبوه مَنْصُوص عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْقَتْل فِي كَونه عِلّة للْقصَاص وَنحن لَا ننكر هَذَا الِاعْتِبَار فِي الْعلَّة الَّتِي هِيَ منصوصة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 فَذَلِك نَحْو مَا رُوِيَ أَن ماعزا رَضِي الله عَنهُ زنا وَهُوَ مُحصن فرجم فَإنَّا نثبت هَذَا الحكم بِالزِّنَا بعد الْإِحْصَان فِي حق غير مَاعِز وَإِنَّمَا ننكر هَذَا فِي عِلّة مستنبطة بِالرَّأْيِ نَحْو الْكَيْل وَالْجِنْس فَإِنَّكُم تجعلونه عِلّة الرِّبَا فِي الْحِنْطَة بِالرَّأْيِ إِذْ لَيْسَ فِي نَص الرِّبَا مَا يُوجب تعْيين هَذَا الْوَصْف من بَين سَائِر أَوْصَاف الْمحل دلَالَة وَلَا إِشَارَة قُلْنَا نَحن لَا نثبت حكم الرِّبَا فِي الْفُرُوع بعلة الْقدر وَالْجِنْس إِلَّا من الْوَجْه الَّذِي ثَبت حكم الرَّجْم فِي حق غير مَاعِز بعلة الزِّنَا بعد الْإِحْصَان فَإِن ماعزا إحْصَانه كَانَ مَوْجُودا قبل الزِّنَا ثمَّ لما ظهر مِنْهُ الزِّنَا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن إحْصَانه فَلَمَّا ظهر إحْصَانه عِنْده أَمر برجمه فَعرفنَا يَقِينا أَن عِلّة مَا أَمر بِهِ هُوَ مَا ظهر عِنْده وَالزِّنَا يصلح أَن يكون عِلّة لذَلِك لِأَن الْمَأْمُور بِهِ عُقُوبَة وَالزِّنَا جريمة يسْتَوْجب بهَا الْعقُوبَة والإحصان لَا يصلح أَن يكون عِلّة لِأَنَّهَا خِصَال حميدة وَبهَا يَسْتَفِيد الْمَرْء كَمَال الْحَال وتتم عَلَيْهِ النِّعْمَة فَلَا يصلح عِلّة للعقوبة وَلَكِن تتغلظ الْجِنَايَة بِالزِّنَا بعد وجودهَا لِأَن بِحَسب زِيَادَة النِّعْمَة يزْدَاد غلظ الجريمة أَلا ترى أَن الله تَعَالَى هدد نسَاء رَسُوله بِضعْف مَا هدد بِهِ سَائِر النِّسَاء فَقَالَ تَعَالَى {من يَأْتِ مِنْكُن بِفَاحِشَة} الْآيَة وَكَانَ ذَلِك لزِيَادَة النِّعْمَة عَلَيْهِنَّ وبتغلظ الجريمة تتغلظ الْعقُوبَة فَيصير رجما بعد أَن كَانَ جلدا فِي حق غير الْمُحصن فَعرفنَا أَن الْإِحْصَان حَال فِي الزَّانِي يصير الزِّنَا بِاعْتِبَارِهِ مُوجبا للرجم فَكَانَ شرطا وبمثل هَذَا الطَّرِيق تثبت عِلّة الرِّبَا فِي مَوضِع النَّص ثمَّ تعدى الحكم بِهِ إِلَى الْفُرُوع فَإِن النَّص قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ أَي بيعهَا وَقَوله مثل بِمثل تَفْسِير على معنى أَنه إِنَّمَا يكون بيعا فِي حَال مَا يكون مثلا بِمثل (وَالْفضل رَبًّا) أَي حَرَامًا بِسَبَب الرِّبَا فَيثبت بِالنَّصِّ أَن الْفضل محرم وَقد علمنَا أَنه لَيْسَ المُرَاد كل فصل فَالْبيع مَا شرع إِلَّا للاستفضال والاسترباح وَإِنَّمَا المُرَاد الْفضل الْخَالِي عَن الْعِوَض لِأَن البيع الْمَشْرُوع الْمُعَاوضَة فَلَا يجوز أَن يسْتَحق بِهِ فضلا خَالِيا عَن الْعِوَض ثمَّ خلو الْفضل عَن الْعِوَض لَا يظْهر يَقِينا بِعَدَد الحبات والحفنات وَلَا يظْهر إِلَّا بعد ثُبُوت الْمُسَاوَاة قطعا فِي الْوَصْف الَّذِي صَار بِهِ محلا للْبيع وَهُوَ الْمَالِيَّة وَهَذِه الْمُسَاوَاة إِنَّمَا يتَوَصَّل إِلَى مَعْرفَتهَا شرعا وَعرفا وَالشَّرْع إِنَّمَا أثبت هَذِه الْمُسَاوَاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 بِالْكَيْلِ لَا بالحبات والحفنات فَإِنَّهُ قَالَ (كَيْلا بكيل) وَكَذَلِكَ فِي عرف التُّجَّار إِنَّمَا يطْلب الْمُسَاوَاة بَين الْحِنْطَة وَالْحِنْطَة بِالْكَيْلِ وَعند الْإِتْلَاف يجب ضَمَان الْمثل بِالنَّصِّ وَيعْتَبر ذَلِك بِالْكَيْلِ فَثَبت بِهَذَا الطَّرِيق أَن الْعلَّة الْمُوجبَة للْحُرْمَة مَا يكون مؤثرا فِي الْمُسَاوَاة حَتَّى يظْهر بعده الْفضل الْخَالِي عَن الْمُقَابلَة فَيكون حَرَامًا بِمَنْزِلَة سَائِر الْأَشْيَاء الَّتِي لَهَا طول وَعرض إِذا قوبل وَاحِد بآخر وَبَقِي فضل فِي أحد الْجَانِبَيْنِ يكون خَالِيا عَن الْمُقَابلَة ثمَّ الْمُسَاوَاة من حَيْثُ الذَّات لَا تعرف إِلَّا بِالْجِنْسِ وَمن حَيْثُ الْقدر على الْوَجْه الَّذِي هُوَ مُعْتَبر شرعا وَعرفا لَا يعرف إِلَّا بِالْكَيْلِ وَهَذِه الْمُسَاوَاة لَا يتَيَقَّن إِلَّا بعد سُقُوط قيمَة الْجَوْدَة فأسقطنا قيمَة الْجَوْدَة مِنْهَا عِنْد الْمُقَابلَة بجنسها بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام (جيدها ورديئها سَوَاء) وبدليل شَرْعِي وَهُوَ حُرْمَة الِاعْتِيَاض عَنْهَا بِالنَّصِّ فَإِنَّهُ لَو بَاعَ قفيز حِنْطَة جَيِّدَة بقفيز حِنْطَة رَدِيئَة وَدِرْهَم على أَن يكون الدِّرْهَم بِمُقَابلَة الْجَوْدَة لَا يجوز وَمَا يكون مَالا مُتَقَوّما يجوز الِاعْتِيَاض عَنهُ شرعا إِلَّا أَن إِسْقَاط قيمَة الْجَوْدَة يكون شرطا لَا عِلّة لِأَنَّهُ لَا تَأْثِير لَهَا فِي إِحْدَاث الْمُسَاوَاة فِي الْمحل وَالْحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ وجوب الْمُسَاوَاة فَكَانَ بِمَنْزِلَة الْإِحْصَان لإِيجَاب الرَّجْم والمساواة الَّتِي هِيَ الحكم لما كَانَ يثبت بِالْقدرِ وَالْجِنْس عرفنَا أَن هذَيْن الوصفين هما الْعلَّة وَقد وجد التَّنْصِيص عَلَيْهَا فِي حَدِيث الرِّبَا بِمَنْزِلَة الزِّنَا فَإِنَّهُ مَنْصُوص عَلَيْهِ فِي حَدِيث مَاعِز وَهُوَ مُؤثر فِي إِيجَاب الحكم فَعرفنَا أَنه عِلّة فِيهِ ثمَّ بعد مَا ثَبت الْمُسَاوَاة قطعا فِي صفة الْمَالِيَّة بِاعْتِبَار الْقدر إِذا كَانَ فِي أحد الْجَانِبَيْنِ فضل فَهُوَ خَال عَن الْعِوَض فَيكون رَبًّا حَرَامًا لَا يجوز أَن يكون مُسْتَحقّا بِالْبيعِ وَإِذا جعل مَشْرُوطًا فِي البيع يفْسد بِهِ البيع وَهَذَا فضل ظهر شرعا وَلَو ظهر شرطا بِأَن بَاعَ من آخر عبدا بِعَبْد على أَن يسلم إِلَيْهِ مَعَ ذَلِك ثوبا قد عينه من غير أَن يكون بِمُقَابلَة الثَّوْب عوض فَإِنَّهُ لَا يجوز ذَلِك البيع فَكَذَلِك إِذا ثَبت شرعا أَلا ترى أَنه لما ثَبت شرعا اسْتِحْقَاق صفة السَّلامَة عَن الْعَيْب بِمُطلق البيع فَإِذا فَاتَ ذَلِك يثبت حق الرَّد بِمَنْزِلَة مَا هُوَ ثَابت شرطا بِأَن يَشْتَرِي عبدا على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 أَنه كَاتب فيجده غير كَاتب وَبِهَذَا تبين أَن مَا صرنا إِلَيْهِ هُوَ الِاعْتِبَار الْمَأْمُور بِهِ فَإِنَّهُ تَأمل فِي معنى النُّصُوص لإضافة الحكم إِلَى الْوَصْف الَّذِي هُوَ مُؤثر فِيهِ بِمَنْزِلَة إِضَافَة الْهَلَاك إِلَى الْكفْر الَّذِي هُوَ مُؤثر فِيهِ وَالرَّجم إِلَى الزِّنَا الَّذِي هُوَ مُؤثر فِيهِ وكل عَاقل يعرف أَن قوام أُمُوره بِمثل هَذَا الرَّأْي فالآدمي مَا سخر غَيره مِمَّن فِي الأَرْض إِلَّا بِهَذَا الرَّأْي وَمَا ظهر التَّفَاوُت بَينهم فِي الْأُمُور العاجلة إِلَّا بالتفاوت فِي هَذَا الرَّأْي فالمنكر لَهُ يكون مُتَعَنتًا وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم} والاستنباط لَيْسَ إِلَّا اسْتِخْرَاج الْمَعْنى من الْمَنْصُوص بِالرَّأْيِ وَقيل المُرَاد بأولي الْأَمر أُمَرَاء السَّرَايَا وَقيل المُرَاد الْعلمَاء وَهُوَ الْأَظْهر فَإِن أُمَرَاء السَّرَايَا إِنَّمَا يستنبطون بِالرَّأْيِ إِذا كَانُوا عُلَمَاء واستنباط الْمَعْنى من الْمَنْصُوص بِالرَّأْيِ إِمَّا أَن يكون مَطْلُوبا لتعدية حكمه إِلَى نَظَائِره وَهُوَ عين الْقيَاس أَو ليحصل بِهِ طمأنينة الْقلب وطمأنينة الْقلب إِنَّمَا تحصل بِالْوُقُوفِ على الْمَعْنى الَّذِي لأَجله ثَبت الحكم فِي الْمَنْصُوص وَهَذَا لِأَن الله تَعَالَى جعل هَذِه الشَّرِيعَة نورا وشرحا للصدور فَقَالَ {أَفَمَن شرح الله صَدره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه} وَالْقلب يرى الْغَائِب بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ كَمَا أَن الْعين ترى الْحَاضِر بِالنّظرِ إِلَيْهِ أَلا ترى أَن الله تَعَالَى قَالَ فِي بَيَان حَال من ترك التَّأَمُّل {فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور} ثمَّ فِي رُؤْيَة الْعين لَا إِشْكَال أَنه يحصل بِهِ من الطُّمَأْنِينَة فَوق مَا يحصل بالْخبر وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله لَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة وَنحن نعلم أَن الضال عَن الطَّرِيق (الْعَادِل) يكون ضيق الصَّدْر فَإِذا أخبرهُ مخبر بِالطَّرِيقِ واعتقد الصدْق فِي خَبره يتَبَيَّن فِي صَدره بعض الانشراح وَإِنَّمَا يتم انْشِرَاح صَدره إِذا عاين أَعْلَام الطَّرِيق الْعَادِل فَكَذَلِك فِي رُؤْيَة الْقلب فَإِنَّهُ إِذا تَأمل فِي الْمَعْنى الْمَنْصُوص حَتَّى وقف عَلَيْهِ يتم بِهِ انْشِرَاح صَدره وتتحقق طمأنينة قلبه وَذَلِكَ بِالنورِ الَّذِي جعله الله فِي قلب كل مُسلم فالمنع من هَذَا التَّأَمُّل وَالْأَمر بِالْوُقُوفِ على مَوَاضِع النَّص من غير طلب الْمَعْنى فِيهِ يكون بقوله تَعَالَى {لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم} نوع حجر ورفعا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 لتحقيق معنى انْشِرَاح الصَّدْر وطمأنينة الْقلب الثَّابِت فَإِن قيل كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا وعندكم الْقيَاس لَا يُوجب الْعلم والمجتهد قد يخطىء وَقد يُصِيب قُلْنَا نعم وَلَكِن يحصل لَهُ بِالِاجْتِهَادِ الْعلم من طَرِيق الظَّاهِر على وَجه يطمئن قلبه وَإِن كَانَ لَا يدْرك مَا هُوَ الْحق بِاجْتِهَادِهِ لَا محَالة فَهُوَ نَظِير قَوْله تَعَالَى {فَإِن علمتموهن مؤمنات} فَإِن المُرَاد بِهِ الْعلم من حَيْثُ الظَّاهِر فَإِن قيل كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا وَأكْثر المشروعات بِخِلَاف الْمَعْهُود الْمُعْتَاد بَين النَّاس قُلْنَا نعم هُوَ بِخِلَاف الْمَعْهُود الْمُعْتَاد عِنْد اتِّبَاع هوى النَّفس وإشارتها وَأما إِذا ترك ذَلِك وَرجع إِلَى مَا يَنْبَغِي للعاقل أَن يرجع إِلَيْهِ فَإِن يكون ذَلِك مُوَافقا لما هُوَ الْمَعْهُود الْمُعْتَاد عِنْد الْعُقَلَاء فباعتبار هَذَا التَّأَمُّل يحصل الْبَيَان على وَجه يطمئن الْقلب إِلَيْهِ فِي الِانْتِهَاء واعتقاد الحقية فِي النُّصُوص فرض حق وَطلب طمأنينة الْقلب فِيهِ حسن كَمَا أخبر الله تَعَالَى عَن الْخَلِيل صلوَات الله عَلَيْهِ {قَالَ بلَى وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي} وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} فقد بَينا أَن المُرَاد بِهِ الْقيَاس الصَّحِيح وَالرُّجُوع إِلَيْهِ عِنْد الْمُنَازعَة وَفِيه بَيَان أَن الرُّجُوع إِلَيْهِ يكون بِأَمْر الله وَأمر الرَّسُول وَلَا يجوز أَن يُقَال المُرَاد هُوَ الرُّجُوع إِلَى الْكتاب وَالسّنة لِأَنَّهُ علق ذَلِك بالمنازعة وَالْأَمر بِالْعَمَلِ بِالْكتاب وَالسّنة غير مُتَعَلق بِشَرْط الْمُنَازعَة وَلِأَن الْمُنَازعَة بَين الْمُؤمنِينَ فِي أَحْكَام الشَّرْع قَلما تقع فِيمَا فِيهِ نَص من كتاب أَو سنة فَعرفنَا أَن المُرَاد بِهِ الْمُنَازعَة فِيمَا لَيْسَ فِي عينه نَص وَأَن المُرَاد هُوَ الْأَمر بِالرَّدِّ إِلَى الْكتاب وَالسّنة بطرِيق التَّأَمُّل فِيمَا هُوَ مثل ذَلِك الشَّيْء من الْمَنْصُوص وَإِنَّمَا تعرف هَذِه الْمُمَاثلَة بإعمال الرَّأْي وَطلب الْمَعْنى فِيهِ ثمَّ الْأَخْبَار عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن الصَّحَابَة فِي هَذَا الْبَاب أَكثر من أَن تحصى وَأشهر من أَن تخفى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 فَوجه من ذَلِك مَا علمنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من طَرِيق المقايسة على مَا رُوِيَ أَنه قَالَ لعمر حِين سَأَلَهُ عَن الْقبْلَة فِي حَالَة الصَّوْم أَرَأَيْت لَو تمضمضت بِمَاء ثمَّ مججته أَكَانَ يَضرك وَهَذَا تَعْلِيم المقايسة فَإِن بالقبلة يفْتَتح طَرِيق اقْتِضَاء الشَّهْوَة وَلَا يحصل بِعَيْنِه اقْتِضَاء الشَّهْوَة كَمَا أَن بِإِدْخَال المَاء فِي الْفَم يفْتَتح طَرِيق الشّرْب وَلَا يحصل بِهِ الشّرْب وَقَالَ للخثعمية أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين أَكنت تقضينه فَقَالَت نعم قَالَ فدين الله أَحَق وَهَذَا تَعْلِيم المقايسة وَبَيَان بطرِيق إِعْمَال الرَّأْي وَقَالَ للَّذي سَأَلَهُ عَن قَضَاء رَمَضَان مُتَفَرقًا أَرَأَيْت لَو كَانَ عَلَيْك دين فَقضيت الدِّرْهَم وَالدِّرْهَمَيْنِ أَكَانَ يقبل مِنْك قَالَ نعم فَقَالَ الله أَحَق بالتجاوز وَقَالَ للمستحاضة إِنَّه دم عرق انفجر فتوضئي لكل صَلَاة فَهَذَا تَعْلِيم للمقايسة بطرِيق أَن النَّجس لما سَالَ حَتَّى صَار ظَاهرا وَوَجَب غسل ذَلِك الْموضع للتطهير وَجب تَطْهِير أَعْضَاء الْوضُوء بِهِ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام الْهِرَّة لَيست بنجسة لِأَنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم والطوافات وَهَذَا تَعْلِيم للمقايسة بِاعْتِبَار الْوَصْف الَّذِي هُوَ مُؤثر فِي الحكم فَإِن الطوف مُؤثر فِي معنى التَّخْفِيف وَدفع صفة النَّجَاسَة لأجل عُمُوم الْبلوى والضرورة فَظهر أَنه علمنَا الْقيَاس وَالْعَمَل بِالرَّأْيِ كَمَا علمنَا أَحْكَام الشَّرْع وَمَعْلُوم أَنه مَا علمنَا ذَلِك لنعمل بِهِ فِي مُعَارضَة النُّصُوص فَعرفنَا أَنه علمنَا ذَلِك لنعمل بِهِ فِيمَا لَا نَص فِيهِ وَوجه آخر أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَمر أَصْحَابه بذلك فَإِنَّهُ قَالَ لِمعَاذ رَضِي الله عَنهُ حِين وَجهه إِلَى الْيمن بِمَ تقضي قَالَ بِكِتَاب الله قَالَ فَإِن لم تَجِد فِي كتاب الله قَالَ بِسنة رَسُول الله قَالَ فَإِن لم تَجِد فِي سنة رَسُول الله قَالَ اجْتهد رَأْيِي قَالَ الْحَمد لله الَّذِي وفْق رَسُول رَسُوله لما يرضى بِهِ رَسُوله وَقَالَ لأبي مُوسَى رَضِي الله عَنهُ حِين وَجهه إِلَى الْيَمين اقْضِ بِكِتَاب الله فَإِن لم تَجِد فبسنة رَسُول الله فَإِن لم تَجِد فاجتهد رَأْيك وَقَالَ لعَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ اقْضِ بَين هذَيْن قَالَ على مَاذَا أَقْْضِي فَقَالَ على أَنَّك إِن اجتهدت فَأَصَبْت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 فلك عشر حَسَنَات وَإِن أَخْطَأت فلك حَسَنَة وَاحِدَة فَلَو لم يكن اجْتِهَاد الرَّأْي فِيمَا لَا نَص فِيهِ مدْركا من مدارك أَحْكَام الشَّرْع لما أَمر بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحَضْرَتِهِ وَوجه آخر أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يشاور أَصْحَابه فِي أُمُور الْحَرْب تَارَة وَفِي أَحْكَام الشَّرْع تَارَة أَلا ترى أَنه شاورهم فِي أَمر الْأَذَان والقصة فِيهِ مَعْرُوفَة وشاورهم فِي مفاداة الْأُسَارَى يَوْم بدر حَتَّى أَشَارَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ عَلَيْهِ بِالْفِدَاءِ وَأَشَارَ عمر رَضِي الله عَنهُ بِالْقَتْلِ فَاسْتحْسن مَا أَشَارَ بِهِ كل وَاحِد مِنْهُمَا بِرَأْيهِ حَتَّى شبه أَبَا بكر فِي ذَلِك بإبراهيم من الْأَنْبِيَاء حَيْثُ قَالَ {وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور رَحِيم} وبميكائيل من الْمَلَائِكَة فَإِنَّهُ ينزل بِالرَّحْمَةِ وَشبه عمر بِنوح من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام حَيْثُ قَالَ {لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا} وبجبريل من الْمَلَائِكَة فَإِنَّهُ ينزل بِالْعَذَابِ ثمَّ مَال إِلَى رَأْي أبي بكر فَإِن قيل فَفِي ذَلِك نزل قَوْله {لَوْلَا كتاب من الله سبق لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم} الْآيَة وَلَو كَانَ مستحسنا لما عوتبوا عَلَيْهِ قُلْنَا العتاب مَا كَانَ فِي المشورة بل فِيمَا نَص الله عَلَيْهِ بقوله {لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم} ثمَّ هَذَا إِنَّمَا يلْزم من يَقُول إِن كل مُجْتَهد مُصِيب وَنحن لَا نقُول بِهَذَا وَلَكِن نقُول إِعْمَال الرَّأْي والمشورة مستحسن ثمَّ الْمُجْتَهد قد يخطىء وَقد يُصِيب كَمَا فِي هَذِه الْحَادِثَة فقد شاورهما رَسُول الله واجتهد كل وَاحِد مِنْهُم رَأْيه ثمَّ أصَاب أَحدهمَا دون الآخر وَبِهَذَا تبين أَن قَوْله {وشاورهم فِي الْأَمر} لَيْسَ فِي الْحَرْب خَاصَّة وَلَكِن يتَنَاوَل كل مَا يَتَأَتَّى فِيهِ إِعْمَال الرَّأْي وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا يَوْمًا وَقد شاورهما فِي شَيْء قولا فَإِنِّي فِيمَا لم يُوح إِلَيّ مثلكما وَقد تَركهم رَسُول الله على الْمُشَاورَة بعده فِي أَمر الْخلَافَة حِين لم ينص على أحد بِعَيْنِه مَعَ علمه أَنه لَا بُد لَهُم من ذَلِك وَلما شاوروا فِيهِ تكلم كل وَاحِد بِرَأْيهِ إِلَى أَن اسْتَقر الْأَمر على مَا قَالَه عمر بطرِيق المقايسة والرأي فَإِنَّهُ قَالَ أَلا ترْضونَ لأمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 دنياكم بِمن رَضِي بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأمر دينكُمْ يَعْنِي الْإِمَامَة للصَّلَاة وَاتَّفَقُوا على رَأْيه وَأمر الْخلَافَة من أهم مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ أَحْكَام الشَّرْع وَقد اتَّفقُوا على جَوَاز الْعَمَل فِيهِ بطرِيق الْقيَاس وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول إِن كَانَ هَذَا قِيَاسا فَهُوَ منتقض فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد اسْتخْلف عبد الرَّحْمَن بن عَوْف ليُصَلِّي بِالنَّاسِ وَلم يكن ذَلِك دَلِيل كَونه خَليفَة بعده وَذَلِكَ لِأَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَشَارَ إِلَى الِاسْتِدْلَال على وَجه لَا يرد هَذَا النَّقْض وَهُوَ أَنه فِي حَال توفر الصَّحَابَة وَحُضُور جَمَاعَتهمْ وَوُقُوع الْحَاجة إِلَى الِاسْتِخْلَاف خص أَبَا بكر بِأَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ بَعْدَمَا راجعوه فِي ذَلِك وَسموا لَهُ غَيره كل هَذَا قد صَار مَعْلُوما بِإِشَارَة كَلَامه وَإِن لم ينص عَلَيْهِ وَلم يُوجد ذَلِك فِي حق عبد الرَّحْمَن وَلَا فِي حق غَيره ثمَّ عمر جعل الْأَمر شُورَى بعده بَين سِتَّة نفر فاتفقوا بِالرَّأْيِ على أَن يجْعَلُوا الْأَمر فِي التَّعْيِين إِلَى عبد الرَّحْمَن بَعْدَمَا أخرج نَفسه مِنْهَا فَعرض على عَليّ أَن يعْمل بِرَأْي أَبى بكر وَعمر فَقَالَ أعمل بِكِتَاب الله وبسنة رَسُول الله ثمَّ أجتهد رَأْيِي وَعرض على عُثْمَان هَذَا الشَّرْط أَيْضا فَرضِي بِهِ فقلده وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك مِنْهُ عملا بِالرَّأْيِ لِأَنَّهُ علم أَن النَّاس قد استحسنوا سيرة العمرين فَتبين بِهَذَا أَن الْعَمَل بِالرَّأْيِ كَانَ مَشْهُورا مُتَّفقا عَلَيْهِ بَين الصَّحَابَة ثمَّ محاجتهم بِالرَّأْيِ فِي الْمسَائِل لَا تخفى على أحد فَإِنَّهُم تكلمُوا فِي مَسْأَلَة الْجد مَعَ الْإِخْوَة وَشبهه بَعضهم بواد يتشعب مِنْهُ نهر وَبَعْضهمْ بشجرة تنْبت غصنا وَقد بَينا ذَلِك فِي فروع الْفِقْه وَكَذَلِكَ اخْتلفُوا فِي الْعَوْل وَفِي التَّشْرِيك فَقَالَ كل وَاحِد مِنْهُم فِيهِ بِالرَّأْيِ وبالرأي اعْترضُوا على قَول عمر رَضِي الله عَنهُ فِي عدم التَّشْرِيك حِين قَالُوا هَب أَن أَبَانَا كَانَ حمارا حَتَّى رَجَعَ عمر إِلَى التَّشْرِيك فَعرفنَا أَنهم كَانُوا مُجْمِعِينَ على جَوَاز الْعَمَل بِالرَّأْيِ فِيمَا لَا نَص فِيهِ وَكفى بإجماعهم حجَّة فَإِن قيل كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا وَقد قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ أَي سَمَاء تُظِلنِي وَأي أَرض تُقِلني إِذا قلت فِي كتاب الله تَعَالَى برأيي وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ إيَّاكُمْ وَأَصْحَاب الرَّأْي وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ لَو كَانَ الدّين بِالرَّأْيِ لَكَانَ بَاطِن الْخُف أولى بِالْمَسْحِ من ظَاهره وَقَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ إيَّاكُمْ وأرأيت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 وأرأيت قُلْنَا أما القَوْل بِالرَّأْيِ عَن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَهُوَ أشهر من أَن يُمكن إِنْكَاره لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْكَلَالَة أَقُول قولا برأيي فَإِن يَك صَوَابا فَمن الله وَإِن يَك خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان وَمَا رووا عَنهُ قد اخْتلفت فِيهِ الرِّوَايَة فَقَالَ فِي بَعْضهَا إِذا قلت فِي كتاب الله تَعَالَى بِخِلَاف مَا أَرَادَ الله وَلَئِن ثَبت مَا رووا فَإِنَّمَا استبعد قَوْله بِالرَّأْيِ فِيمَا فِيهِ نَص بِخِلَاف النَّص وَهَذَا لَا يجوز مِنْهُ وَلَا من غَيره وَلَا يظنّ بِهِ وَأما عمر رَضِي الله عَنهُ فَالْقَوْل عَنهُ بِالرَّأْيِ أشهر من الشَّمْس وَبِه يتَبَيَّن أَن مُرَاده بذم الرَّأْي عِنْد مُخَالفَة النَّص أَو الْإِعْرَاض عَن النَّص فِيمَا فِيهِ نَص والاشتغال بِالرَّأْيِ الَّذِي فِيهِ مُوَافقَة هوى النَّفس وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ فِي قَوْله أعيتهم السّنة أَن يحفظوها وَالْقَوْل بِالرَّأْيِ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَشْهُور فَإِنَّهُ قَالَ اجْتمع رَأْيِي ورأي عمر على حُرْمَة بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد ثمَّ رَأَيْت أَن أرقهن وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن مُرَاده بقوله لَو كَانَ الدّين بِالرَّأْيِ أصل مَوْضُوع الشَّرْع وَبِه نقُول فَإِن أصل أَحْكَام الشَّرْع غير مَبْنِيّ على الرَّأْي وَلِهَذَا لَا يجوز إِثْبَات الحكم بِهِ ابْتِدَاء وَقد اشْتهر القَوْل بِالرَّأْيِ عَن ابْن مَسْعُود حَيْثُ قَالَ فِي المفوضة أجتهد رَأْيِي فَعرفنَا أَن مُرَاده ذمّ السُّؤَال على وَجه التعنت بَعْدَمَا يتَبَيَّن الْحق أَو التَّكَلُّف فِيمَا لَا يحْتَاج الْمَرْء إِلَيْهِ وَهُوَ نَظِير قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام ذروني مَا تركتكم فَإِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ بِكَثْرَة سُؤَالهمْ وَاخْتِلَافهمْ على أَنْبِيَائهمْ والْآثَار الَّتِي ذكرهَا مُحَمَّد فِي أول أدب القَاضِي كلهَا دَلِيل على أَنهم (كَانُوا) مُجْمِعِينَ على الْعَمَل بِالرَّأْيِ فَإِنَّهُ بَدَأَ بِحَدِيث عمر حِين كتب إِلَى أبي مُوسَى اعرف الْأَمْثَال والأشباه وَقس الْأُمُور عِنْد ذَلِك وَذكر عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ لقد أَتَى علينا زمَان لسنا نسْأَل ولسنا هُنَالك الحَدِيث فاتضح بِمَا ذكرنَا اتِّفَاقهم على الْعَمَل بِالرَّأْيِ فِي أَحْكَام الشَّرْع فَأَما من طعن فِي السّلف من نفاة الْقيَاس لاحتجاجهم بِالرَّأْيِ فِي الْأَحْكَام فَكَلَامه كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {كَبرت كلمة تخرج من أَفْوَاههم إِن يَقُولُونَ إِلَّا كذبا} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 لِأَن الله تَعَالَى أثنى عَلَيْهِم فِي غير مَوضِع من كِتَابه كَمَا قَالَ تَعَالَى {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه} الْآيَة وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصفهم بِأَنَّهُم خير النَّاس فَقَالَ خير النَّاس قَرْني الَّذين أَنا فيهم والشريعة إِنَّمَا بلغتنا بنقلهم فَمن طعن فيهم فَهُوَ ملحد منابذ لِلْإِسْلَامِ دواؤه السَّيْف إِن لم يتب وَمن قَالَ مِنْهُم إِن القَوْل بِالرَّأْيِ كَانَ من الصَّحَابَة على طَرِيق التَّوَسُّط وَالصُّلْح دون إِلْزَام الحكم فَهُوَ مكابر جَاحد لما هُوَ مَعْلُوم ضَرُورَة لِأَن الَّذين نقلوا إِلَيْنَا مَا احْتَجُّوا بِهِ من الرَّأْي فِي الْأَحْكَام قوم عالمون عارفون بِالْفرقِ بَين الْقَضَاء وَالصُّلْح فَلَا يظنّ بهم أَنهم أطْلقُوا لفظ الْقَضَاء فِيمَا كَانَ طَرِيقه طَرِيق الصُّلْح بِأَن لم يعرفوا الْفرق بَينهمَا أَو قصدُوا التلبيس وَلَا يُنكر أَنه كَانَ فِي ذَلِك مَا هُوَ بطرِيق الصُّلْح كَمَا قَالَ ابْن مَسْعُود حِين تحاكم إِلَيْهِ الْأَعرَابِي مَعَ عُثْمَان أرى أَن يَأْتِي هَذَا واديه فيعطي بِهِ ثمَّ إبِلا مثل إبِله وفصلانا مثل فصلانه فَرضِي بذلك عُثْمَان وَفِي قَوْله فَرضِي بِهِ بَيَان أَن هَذَا كَانَ بطرِيق الصُّلْح فَعرفنَا أَن فِيمَا لم يذكر مثل هَذَا اللَّفْظ أَو ذكر لفظ الْقَضَاء وَالْحكم فَالْمُرَاد بِهِ الْإِلْزَام وَقد كَانَ بعض ذَلِك على سَبِيل الْفَتْوَى والمفتي فِي زَمَاننَا يبين الحكم للمستفتي وَلَا يَدعُوهُ إِلَى الصُّلْح إِلَّا نَادرا فَكَذَلِك فِي ذَلِك الْوَقْت وَقد كَانَ بعض ذَلِك بَيَانا فِيمَا لم يكن فِيهِ خُصُومَة أَولا تجْرِي فِيهِ الْخُصُومَة كالعبادات وَالطَّلَاق وَالْعتاق نَحْو اخْتلَافهمْ فِي أَلْفَاظ الْكِنَايَات وَاعْتِبَار عدد الطَّلَاق بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَمَا أشبه ذَلِك فَعرفنَا أَن قَول من قَالَ لم يكن ذَلِك مِنْهُم إِلَّا بطرِيق الصُّلْح والتوسط مُنكر من القَوْل وزور وَمِنْهُم من قَالَ كَانُوا مخصوصين بِجَوَاز الْعَمَل وَالْفَتْوَى بِالرَّأْيِ كَرَامَة لَهُم كَمَا كَانَ رَسُول الله مَخْصُوصًا بِأَن قَوْله مُوجب للْعلم قطعا أَلا ترى أَنه قد ظهر مِنْهُم الْعَمَل فِيمَا فِيهِ نَص بِخِلَاف النَّص بِالرَّأْيِ وبالاتفاق ذَلِك غير جَائِز لأحد بعدهمْ فَعرفنَا أَنهم كَانُوا مخصوصين بذلك وَبَيَان هَذَا فِيمَا رُوِيَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج لصلح بَين الْأَنْصَار فَأذن بِلَال وَأقَام فَتقدم أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ للصَّلَاة فجَاء رَسُول الله وَهُوَ فِي الصَّلَاة الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 فَأَشَارَ على أبي بكر أَن أثبت فِي مَكَانك وَرفع أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ يَدَيْهِ وَحمد الله ثمَّ اسْتَأْخَرَ وَتقدم رَسُول الله وَكَانَت سنة الْإِمَامَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعْلُوما بِالنَّصِّ ثمَّ تقدم أَبُو بكر بِالرَّأْيِ وَقد أمره أَن يثبت فِي مَكَانَهُ نصا ثمَّ اسْتَأْخَرَ بِالرَّأْيِ وَلما أَرَادَ رَسُول الله أَن يتَقَدَّم للصَّلَاة على ابْن أبي الْمُنَافِق جذب عمر رَضِي الله عَنهُ رِدَاءَهُ وَفِي رِوَايَة استقبله وَجعل يمنعهُ من الصَّلَاة عَلَيْهِ وَالِاسْتِغْفَار لَهُ وَكَانَ ذَلِك مِنْهُ بِالرَّأْيِ ثمَّ نزل الْقُرْآن على مُوَافقَة رَأْيه يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا} وَلما أَرَادَ عَليّ أَن يكْتب كتاب الصُّلْح عَام الْحُدَيْبِيَة كتب هَذَا مَا صَالح مُحَمَّد رَسُول الله وَسُهيْل بن عَمْرو على أهل مَكَّة قَالَ سُهَيْل لَو عرفناك رَسُولا مَا حاربناك اكْتُبْ مُحَمَّد بن عبد الله فَأمر رَسُول الله عليا أَن يمحو رَسُول الله فَأبى عَليّ رَضِي الله عَنهُ ذَلِك حَتَّى أمره أَن يرِيه مَوْضِعه فمحاه رَسُول الله بِيَدِهِ وَكَانَ هَذَا الإباء من عَليّ بِالرَّأْيِ فِي مُقَابلَة النَّص وَقد كَانَ الحكم للمسبوق أَن يبْدَأ بِقَضَاء مَا سبق بِهِ ثمَّ يُتَابع الإِمَام حَتَّى جَاءَ معَاذ يَوْمًا وَقد سبقه رَسُول الله بِبَعْض الصَّلَاة فتابعه فِيمَا بَقِي ثمَّ قضى مَا فَاتَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُول الله مَا حملك على مَا صنعت قَالَ وَجَدْتُك على شَيْء فَكرِهت أَن أخالفك عَلَيْهِ فَقَالَ سنّ لكم معَاذ سنة حَسَنَة فاستنوا بهَا وَكَانَ هَذَا مِنْهُ عملا بِالرَّأْيِ فِي مَوضِع النَّص ثمَّ استصوبه رَسُول الله فِي ذَلِك وَأَبُو ذَر حِين بَعثه رَسُول الله مَعَ إبل الصَّدَقَة إِلَى الْبَادِيَة أَصَابَته جَنَابَة فصلى صلوَات بِغَيْر طَهَارَة إِلَى أَن جَاءَ إِلَى رَسُول الله الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ لَهُ التُّرَاب كافيك وَلَو إِلَى عشر حجج مَا لم تَجِد المَاء وَكَانَ ذَلِك مِنْهُ عملا بِالرَّأْيِ فِي مَوضِع النَّص وَكَذَلِكَ عَمْرو بن الْعَاصِ أَصَابَته جَنَابَة فِي لَيْلَة بَارِدَة فَتَيَمم وَأم أَصْحَابه مَعَ وجود المَاء وَكَانَ ذَلِك مِنْهُ عملا بِالرَّأْيِ فِي مَوضِع النَّص ثمَّ لم يُنكر عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك فَعرفنَا أَنهم كَانُوا مخصوصين بذلك وَكَذَلِكَ ظهر مِنْهُم الْفَتْوَى بِالرَّأْيِ فِيمَا لَا يعرف بِالرَّأْيِ من الْمَقَادِير نَحْو حد الشّرْب كَمَا قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ ثَبت بآرائنا وَلَا وَجه لذَلِك إِلَى الْحمل على معنى الخصوصية لَا بَيَان الْكَرَامَة لَهُم لِأَن كرامتهم إِنَّمَا تكون بِطَاعَة الله وَطَاعَة رَسُوله فالسعي لإِظْهَار مُخَالفَة مِنْهُم فِي أَمر الله وَأمر الرَّسُول يكون طَعنا فيهم وَمَعْلُوم أَن رَسُول الله مَا وَصفهم بِأَنَّهُم خير النَّاس إِلَّا بعد علمه بِأَنَّهُم أطوع النَّاس لَهُ وَأظْهر النَّاس انقيادا لأَمره وتعظيما لأحكام الشَّرْع وَلَو جَازَ إِثْبَات مُخَالفَة الْأَمر بِالرَّأْيِ لَهُم بطرِيق الْكَرَامَة والاختصاص بِنَاء على الْخَيْرِيَّة الَّتِي وَصفهم بهَا رَسُول الله لجَاز مثل ذَلِك لمن بعدهمْ بِنَاء على مَا وَصفهم الله بِهِ بقوله تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 وَالْجَوَاب أَن نقُول هَذَا الْكَلَام عِنْد التَّأَمُّل فِيهِ من جنس الطعْن عَلَيْهِم الْآيَة وَلَو جَازَ ذَلِك فِي فتاويهم لجَاز فِيمَا نقلوا إِلَيْنَا من أَحْكَام الشَّرْع فَتبين أَن هَذَا من جنس الطعْن وَأَنه لَا بُد من طلب التَّأْوِيل فِيمَا كَانَ مِنْهُم فِي صُورَة الْخلاف ظَاهرا بِمَا هُوَ تَعْظِيم وموافقة فِي الْحَقِيقَة وَوجه ذَلِك بطرِيق الْفِقْه أَن نقُول قد كَانَ من الْأُمُور مَا فِيهِ احْتِمَال معنى الرُّخْصَة وَالْإِكْرَام أَو معنى الْعَزِيمَة والإلزام ففهموا أَن مَا اقْترن بِهِ من دلَالَة الْحَال أَو غَيره مِمَّا يتَبَيَّن بِهِ أحد المحتملين ثمَّ رَأَوْا التَّمَسُّك بِمَا هُوَ الْعَزِيمَة أولى لَهُم من التَّرَخُّص بِالرُّخْصَةِ وَهَذَا أصل فِي أَحْكَام الشَّرْع وَبَيَان هَذَا فِي حَدِيث الصّديق فَإِن إِشَارَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ بِأَن يثبت فِي مَكَانَهُ كَانَ مُحْتملا معنى الْإِكْرَام لَهُ وَمعنى الْإِلْزَام وَعلم بِدلَالَة الْحَال أَنه على سَبِيل التَّرَخُّص وَالْإِكْرَام لَهُ فَحَمدَ الله تَعَالَى على ذَلِك ثمَّ تَأَخّر تمسكا بالعزيمة الثَّابِتَة بقوله تَعَالَى {لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله} وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله مَا كَانَ لِابْنِ أبي قُحَافَة أَن يتَقَدَّم بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَذَلِكَ كَانَ تقدمه للْإِمَامَة قبل أَن يحضر رَسُول الله فَإِن التَّأْخِير إِلَى أَن يحضر كَانَ رخصَة ومراعاة حق الله فِي أَدَاء الصَّلَاة فِي الْوَقْت الْمَعْهُود كَانَ عَزِيمَة فَإِنَّمَا قصد التَّمَسُّك بِمَا هُوَ الْعَزِيمَة لعلمه أَن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يستحسن ذَلِك مِنْهُ فَعرفنَا أَنه مَا قصد إِلَّا تَعْظِيم أَمر الله وتعظيم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا بَاشرهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 بِالرَّأْيِ وَكَذَلِكَ فعل عمر رَضِي الله عَنهُ بالامتناع من الصَّلَاة على من شهد الله بِكُفْرِهِ وَهُوَ الْعَزِيمَة لِأَن الصَّلَاة على الْمَيِّت الْمُسلم يكون إِكْرَاما لَهُ وَذَلِكَ لَا يشك فِيهِ إِذا كَانَ الْمُصَلِّي عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا أَن التَّقَدُّم للصَّلَاة عَلَيْهِ كَانَ بطرِيق حسن الْعشْرَة ومراعاة قُلُوب الْمُؤمنِينَ من قراباته فجذب عمر رِدَاءَهُ تمسكا بِمَا هُوَ الْعَزِيمَة وتعظيما لرَسُول الله لَا قصدا مِنْهُ إِلَى مُخَالفَته وَكَذَلِكَ حَدِيث عَليّ فَإِنَّهُ أَبى أَن يمحو ذَلِك تَعْظِيمًا لرَسُول الله وَهُوَ الْعَزِيمَة وَقد علم أَن رَسُول الله مَا قصد بِمَا أَمر بِهِ إِلَّا تتميم الصُّلْح لما رأى فِيهِ من الْحَظ للْمُسلمين بفراغ قُلُوبهم وَلَو علم عَليّ أَن ذَلِك كَانَ أمرا بطرِيق الْإِلْزَام لمحاه من سَاعَته أَلا ترى أَنه قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّك ستبعثني فِي أَمر أفأكون فِيهِ كالسكة المحماة أم الشَّاهِد يرى مَا لَا يرى الْغَائِب فَقَالَ بل الشَّاهِد يرى مَا لَا يرى الْغَائِب فَبِهَذَا تبين أَنه عرف بِأَن ذَلِك الْأَمر مِنْهُ لم يكن إلزاما وَرَأى إِظْهَار الصلابة فِي الدّين بِمحضر من الْمُشْركين عَزِيمَة فتمسك بِهِ ثمَّ الرَّغْبَة فِي الصُّلْح مَنْدُوب إِلَيْهِ الإِمَام بِشَرْط أَن يكون فِيهِ مَنْفَعَة للْمُسلمين وَتَمام هَذِه الْمَنْفَعَة فِي أَن يظْهر الإِمَام الْمُسَامحَة والمساهلة مَعَهم فِيمَا يطْلبُونَ وَيظْهر الْمُسلمُونَ الْقُوَّة والشدة فِي ذَلِك ليعلم الْعَدو أَنهم لَا يرغبون فِي الصُّلْح لضعفهم فلأجل هَذَا فعل عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَا فعله وَكَأَنَّهُ تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى {وَلَا تهنوا وَلَا تحزنوا} وَكَذَلِكَ حَدِيث معَاذ رَضِي الله عَنهُ فَإِن السّنة الَّتِي كَانَت فِي حق الْمَسْبُوق من الْبِدَايَة بِمَا فَاتَهُ فِيهَا احْتِمَال معنى الرُّخْصَة ليَكُون الْأَدَاء عَلَيْهِ أيسر فَوقف معَاذ على ذَلِك وَعرف أَن الْعَزِيمَة مُتَابعَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واعتقاد الْغَنِيمَة فِيمَا أدْركهُ مَعَه فاشتغل بإحراز ذَلِك أَولا تمسكا بالعزيمة لَا مُخَالفَة للنَّص وَكَذَلِكَ حَدِيث أبي ذَر إِن صَحَّ أَنه أدّى صلَاته فِي تِلْكَ الْحَالة بِغَيْر طَهَارَة فَإِن فِي حكم التَّيَمُّم للْجنب بعض الِاشْتِبَاه فِي النَّص بِاعْتِبَار الْقِرَاءَتَيْن {أَو لامستم} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 {أَو لامستم النِّسَاء} فَلَعَلَّهُ كَانَ عِنْده أَن المُرَاد الْمس بالي وَأَنه لَا يجوز التَّيَمُّم للْجنب كَمَا هُوَ مَذْهَب عمر وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا ثمَّ رأى أَن بِسَبَب الْعَجز يسْقط عَنهُ فرض الطَّهَارَة فِي الْوَقْت وَأَن أَدَاء الصَّلَاة فِي الْوَقْت عَزِيمَة فاشتغل بِالْأَدَاءِ تَعْظِيمًا لأمر الله وتمسكا بالعزيمة وَكَذَلِكَ حَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ فَإِنَّهُ رأى أَن فرض الِاغْتِسَال سَاقِط عَنهُ لما يلْحقهُ من الْحَرج بِسَبَب الْبرد أَو لخوفه الْهَلَاك على نَفسه وَقد ثَبت بِالنَّصِّ أَن التَّيَمُّم مَشْرُوع لدفع الْحَرج فَعرفنَا أَنه لَيْسَ فِي شَيْء من هَذِه الْآثَار معنى يُوهم مُخَالفَة النَّص من أحد مِنْهُم وَأَنَّهُمْ فِي تَعْظِيم رَسُول الله كَمَا وَصفهم الله بِهِ وَأما حد الشّرْب فَإِنَّمَا أثبتوه اسْتِدْلَالا بِحَدّ الْقَذْف على مَا رُوِيَ أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف قَالَ لعمر يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِذا شرب هذي وَإِذا هذي افترى وحد المفترين فِي كتاب الله ثَمَانُون جلدَة ثمَّ الحكم الثَّابِت بِالْإِجْمَاع لَا يكون محالا بِهِ على الرَّأْي وَقد بَينا أَن الْإِجْمَاع يُوجب علم الْيَقِين والرأي لَا يُوجب ذَلِك ثمَّ هَذَا دَعْوَى الخصوصية من غير دَلِيل وَمن لَا يرى إِثْبَات شَيْء بِالْقِيَاسِ فَكيف يرى إِثْبَات مُجَرّد الدَّعْوَى من غير دَلِيل وَالْكتاب يشْهد بِخِلَاف ذَلِك فَالنَّاس فِي تَكْلِيف الِاعْتِبَار الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} سَوَاء وهم كَانُوا أَحَق بِهَذَا الْوَصْف وَهَذَا أقوى مَا نعتمده من الدَّلِيل الْمَعْقُول فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فَإِنَّهُ لَا فرق بَين التَّأَمُّل فِي إشارات النّصْف فِيمَا أخبر الله بِهِ عَن الَّذين لحقهم المثلات بِسَبَب كفرهم كَمَا قَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أخرج الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب} الْآيَة لنعتبر بذلك وننزجر عَن مثل ذَلِك السَّبَب وَبَين التَّأَمُّل فِي إشارات النَّص فِي حَدِيث الرِّبَا ليعرف بِهِ أَن الْمحرم هُوَ الْفضل الْخَالِي عَن الْعِوَض فَثَبت ذَلِك الحكم بِعَيْنِه فِي كل مَحل يتَحَقَّق فِيهِ الْفضل الْخَالِي عَن الْعِوَض مَشْرُوطًا فِي البيع كالأرز والسمسم والجص وَمَا أشبه ذَلِك وَقد قَررنَا هَذَا يُوضحهُ أَن التَّأَمُّل فِي معنى النَّص الثَّابِت بِإِشَارَة ثمَّ التَّأَمُّل فِي ذَلِك للوقوف على طَرِيق الِاسْتِعَارَة حَتَّى يَجْعَل ذَلِك اللَّفْظ مستعارا فِي مَحل آخر بطريقه جَائِز مُسْتَقِيم من عمل الراسخين فِي الْعلم فَكَذَلِك التَّأَمُّل فِي مَعَاني النَّص لإِثْبَات حكم النَّص فِي كل مَوضِع علم أَنه مثل الْمَنْصُوص عَلَيْهِ وَهَذَا لنوعين من الْكَلَام أَحدهمَا أَن الله تَعَالَى نَص على أَن الْقُرْآن تبيان لكل شَيْء بقوله تَعَالَى {ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبيانا} صَاحب الشَّرْع بِمَنْزِلَة التَّأَمُّل فِي معنى اللِّسَان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 الثَّابِت بِوَضْع وَاضع اللُّغَة {لكل شَيْء} وَلَا يتَمَكَّن أحد من أَن يَقُول كل شَيْء فِي الْقُرْآن باسمه الْمَوْضُوع لَهُ فِي اللُّغَة فَعرفنَا أَنه تبيان لكل شَيْء بِمَعْنَاهُ الَّذِي يسْتَدرك بِهِ حكمه وَمَا ثَبت بِالنَّصِّ فإمَّا أَن يُقَال هُوَ ثَابت بِصُورَة النَّص لَا غير أَو بِالْمَعْنَى الَّذِي صَار مَعْلُوما بِإِشَارَة النَّص وَالْأول بَاطِل فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} ثمَّ أحد لَا يَقُول إِن هَذَا نهي عَن صُورَة التأفيف دون الشتم وَالضَّرْب وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا يظْلمُونَ نقيرا} وَقَوله تَعَالَى {من إِن تأمنه بقنطار يؤده إِلَيْك وَمِنْهُم من إِن تأمنه بِدِينَار} فَعرفنَا أَن ثُبُوت الحكم بِاعْتِبَار الْمَعْنى الَّذِي وَقعت الْإِشَارَة إِلَيْهِ فِي النَّص ثمَّ ذَلِك الْمَعْنى نَوْعَانِ جلي وخفي وَيُوقف على الْجَلِيّ بِاعْتِبَار الظَّاهِر وَلَا يُوقف على الْخَفي إِلَّا بِزِيَادَة التَّأَمُّل وَهُوَ المُرَاد بقوله {فاعتبروا} وَبَعْدَمَا ثَبت لُزُوم اعْتِبَار ذَلِك الْمَعْنى بِالنَّصِّ وَإِثْبَات الحكم فِي كل مَحل قد وجد فِيهِ ذَلِك الْمَعْنى يكون إِثْبَاتًا بِالنَّصِّ لَا بِالرَّأْيِ وَإِن لم يكن صِيغَة النَّص متناولا إِلَّا ترى أَن الحكم بِالرَّجمِ على مَاعِز لم يكن حكما على غَيره بِاعْتِبَار صورته وَلَكِن بِاعْتِبَار الْمَعْنى الَّذِي لأَجله توجه الحكم عَلَيْهِ بِالرَّجمِ كَانَ ذَلِك بَيَانا فِي حق سَائِر الْأَشْخَاص بِالنَّصِّ وَالثَّانِي أَنه مَا من حَادِثَة إِلَّا وفيهَا حكم لله تَعَالَى من تَحْلِيل أَو تَحْرِيم أَو إِيجَاب أَو إِسْقَاط وَمَعْلُوم أَن كل حَادِثَة لَا يُوجد فِيهَا نَص فالنصوص مَعْدُودَة متناهية وَلَا نِهَايَة لما يَقع من الْحَوَادِث إِلَى قيام السَّاعَة وَفِي تَسْمِيَته حَادِثَة إِشَارَة إِلَى أَنه لَا نَص فِيهَا فَإِن مَا فِيهِ النَّص يكون أصلا معهودا وَكَذَلِكَ الصَّحَابَة مَا اشتغلوا باعتماد نَص فِي كل حَادِثَة (طلبا أَو رِوَايَة فَعرفنَا أَنه لَا يُوجد نَص فِي كل حَادِثَة) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 وَقد لزمنا معرفَة حكم الْحَادِثَة بِالْحجَّةِ بِحَسب الوسع فإمَّا أَن يكون الْحجَّة استنباط الْمَعْنى من النُّصُوص أَو اسْتِصْحَاب الْحَال كَمَا قَالُوا وَمَعْلُوم أَنه لَيْسَ فِي اسْتِصْحَاب الْحَال إِلَّا عمل بِلَا دَلِيل وَلَا دَلِيل جهل وَالْجهل لَا يصلح أَن يكون حجَّة بِاعْتِبَار الأَصْل وَهُوَ أَيْضا مِمَّا لَا يُوقف عَلَيْهِ فَمن الْمُحْتَمل أَن لَا يكون عِنْد بعض النَّاس فِيهِ دَلِيل وَيكون عِنْد بَعضهم وَالْقِيَاس من الْوَجْه الَّذِي قَررنَا حجَّة وَإِن كَانَ لَا يُوجب علم الْيَقِين أَلا ترى أَن الشَّرْع جوز لنا الْإِقْدَام على الْمُبَاحَات لقصد تَحْصِيل الْمَنْفَعَة يَعْنِي المسافرة للتِّجَارَة والمحاربة لِلْعَدو وَالْغَلَبَة على الْأَعْدَاء بغالب الرَّأْي وَالِاجْتِهَاد فِي أَمر الْقبْلَة والاشتغال بالمعالجة لتَحْصِيل صفة الْبُرْء وكل ذَلِك إقدام من غير بِنَاء على مَا يُوجب علم الْيَقِين ثمَّ هُوَ حسن فِي بعض الْمَوَاضِع وَاجِب فِي بعض الْمَوَاضِع وَكَذَلِكَ تَقْوِيم الْمُتْلفَات واعتقاد الْمَعْرُوف فِي النَّفَقَات والمتعة فَإِن ذَلِك مَنْصُوص عَلَيْهِ ثمَّ الْإِقْدَام عَلَيْهِ بِالرَّأْيِ جَائِز فَكَانَ ذَلِك عملا بِالْحجَّةِ فَتبين أَن الْقيَاس من نوع الْعَمَل بِمَا هُوَ حجَّة فِي الأَصْل وَلكنه دون الثَّابِت من الحكم بِالنَّصِّ فَلَا يُصَار إِلَيْهِ إِلَّا فِي وضع لَا يُوجد فِيهِ نظر فَأَما اسْتِصْحَاب الْحَال فَهُوَ عمل بِالْجَهْلِ فَلَا يجوز الْمصير إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة الْمَحْضَة بِمَنْزِلَة تنَاول الْميتَة وسنقرر هَذَا فِي بَابه إِن شَاءَ الله تَعَالَى فبهم التَّقْرِير يتَبَيَّن أَن نفاة الْقيَاس يتمسكون بِالْجَهْلِ وَأَن فُقَهَاء الْأَمْصَار يعلمُونَ بِمَا هُوَ الْحق وماذا بعد الْحق إِلَّا الضلال وَأما استدلالهم بقوله تَعَالَى {أَو لم يَكفهمْ} قُلْنَا نَحن نقُول بِأَن مَا أنزل من الْكتاب كَذَلِك وَلَكِن الِاحْتِجَاج بِالْقِيَاسِ مِمَّا أنزل فِي الْكتاب إِشَارَة وَإِن كَانَ لَا يُوجد فِيهِ نصا فَإِنَّهُ الِاعْتِبَار الْمَأْمُور بِهِ من قَوْله تَعَالَى {فاعتبروا} وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن الحكم بِهِ حكم بِمَا أنزل الله فيضعف بِهِ استدلالهم بقوله تَعَالَى {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله} وَبِه يتَبَيَّن أَنه من جملَة مَا تنَاوله قَوْله تَعَالَى {تبيانا لكل شَيْء} وَقَوله تَعَالَى {وَلَا رطب وَلَا يَابِس إِلَّا فِي كتاب مُبين} وَقد قيل المُرَاد بِالْكتاب هُنَا اللَّوْح الْمَحْفُوظ وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن الْعَمَل بِالْقِيَاسِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 لَا يكون تقدما بَين يَدي الله وَرَسُوله بل هُوَ ائتمار بِأَمْر الله وَأمر رَسُوله وسلوك طَرِيق قد علم رَسُول الله أمته بِالْوُقُوفِ بِهِ على أَحْكَام الشَّرْع وَهَذَا لأَنا إِنَّمَا نثبت الحكم فِي الْفُرُوع بِالْعِلَّةِ المؤثرة وَالْعلَّة مَا صَارَت مُؤثرَة بآرائنا بل بِجعْل الله إِيَّاهَا مُؤثرَة وَإِنَّمَا إِعْمَال الرَّأْي فِي تَمْيِيز الْوَصْف الْمُؤثر من سَائِر أَوْصَاف الأَصْل وَإِظْهَار التَّأْثِير فِيهِ فَلَا يكون الْعَمَل فِيهِ عملا بِالرَّأْيِ إِنَّمَا التَّقَدُّم بَين يَدي الله وَرَسُوله فِيمَا ذهب إِلَيْهِ الْخصم من القَوْل بِأَن الْعَمَل بِالْقِيَاسِ بَاطِل لِأَنَّهُ لَا يجد ذَلِك فِي كتاب الله نصا وَهُوَ لَا يجوز الاستنباط ليقف بِهِ على إِشَارَة النَّص فَيكون ذَلِك قولا بِغَيْر حجَّة ثمَّ يكون عَاملا فِي الْأَحْكَام بِلَا دَلِيل وَقد بَينا أَن هَذَا لَا يصلح أَن يكون حجَّة أَصْلِيَّة وَأما قَوْله {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} فالمذكور هُوَ علم مُنكر فِي مَوضِع النَّفْي والنكرة فِي مَوضِع النَّفْي تعم فاستعمال الرَّأْي يثبت نوع علم من طَرِيق الظَّاهِر وَإِن كَانَ لَا يثبت علم الْيَقِين وبالاتفاق علم الْيَقِين لَيْسَ بِشَرْط لوُجُوب الْعَمَل وَلَا لجوازه فَإِن الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد وَاجِب وَلَا يثبت بِهِ علم الْيَقِين وَالْعَمَل بِالرَّأْيِ فِي الْحَرْب جَائِز وَفِي بَاب الْقبْلَة عِنْد الِاشْتِبَاه وَاجِب وَفِي المعالجة بالأدوية جَائِز وَإِن كَانَ شَيْء من ذَلِك لَا يُوجب علم الْيَقِين وَهَذَا لِأَن التَّكْلِيف بِحَسب الوسع وَلَيْسَ فِي وسعنا تَحْصِيل علم الْيَقِين فِي حكم كل حَادِثَة والحرج مَدْفُوع فَفِي إِثْبَات الْحجر عَن إِعْمَال الرَّأْي فِي الْحَوَادِث الَّتِي لَا نَص فِيهَا من الْحَرج مَا لَا يخفى ثمَّ لَا إِشْكَال أَن مَا يثبت من الْعلم بطرِيق الْقيَاس فَوق مَا يثبت باستصحاب الْحَال لِأَن اسْتِصْحَاب الْحَال إِنَّمَا يكون دَلِيلا عِنْدهم لعدم الدَّلِيل المغير وَذَلِكَ مِمَّا لَا يعلم يَقِينا قد يجوز أَن يكون الدَّلِيل المغير ثَابتا وَإِن لم يبلغ الْمُبْتَلى بِهِ وَلِهَذَا لَا تقبل الْبَيِّنَة على النَّفْي فِي بَاب الْخُصُومَات وَتقبل على الْإِثْبَات بِاعْتِبَار طَرِيق لَا يُوجب علم الْيَقِين فَإِن الشَّهَادَة بِالْملكِ لظَاهِر الْيَد أَو الْيَد مَعَ التَّصَرُّف تكون مَقْبُولَة وَإِن كَانَت لَا توجب علم الْيَقِين فَأَما قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقولُوا على الله إِلَّا الْحق} قُلْنَا مَا يظْهر عِنْد اسْتِعْمَال الرَّأْي بِالْوَصْفِ الْمُؤثر حق فِي حَقنا وَإِن كُنَّا لَا نعلم أَنه هُوَ الْحق عِنْد الله تَعَالَى أَلا ترى أَن المتحري فِي بَاب الْقبْلَة يلْزمه التَّوَجُّه إِلَى الْجِهَة الَّتِي يسْتَقرّ عَلَيْهَا الرَّأْي وَمَعْلُوم أَنه لَا يلْزمه مُبَاشرَة مَا لَيْسَ بِحَق أصلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 فَعرفنَا أَنه حق عندنَا وَإِن كُنَّا لَا نقطع القَوْل بِأَنَّهُ الْحق عِنْد الله تَعَالَى فقد يُصِيب الْمُجْتَهد ذَلِك بِاجْتِهَادِهِ وَقد يخطىء ثمَّ التَّكْلِيف بِحَسب الوسع وَلَيْسَ فِي وَضعنَا الْوُقُوف على مَا هُوَ حق عِنْد الله لَا محَالة وَإِنَّمَا الَّذِي فِي وسعنا طلبه بطرِيق الِاعْتِبَار الَّذِي أمرنَا بِهِ وَبعد إِصَابَة ذَلِك الطَّرِيق يلْزمنَا الْعَمَل بِهِ فَكَذَلِك فِي الْأَحْكَام وَمَا أشاروا إِلَيْهِ من الْفرق بَين مَا هُوَ مَحْض حق الله تَعَالَى وَبَين مَا فِيهِ حق الْعباد لَيْسَ بِقَوي لِأَن الْمَطْلُوب هُنَا جِهَة الْقبْلَة لأَدَاء مَا هُوَ مَحْض حق الله تَعَالَى وَالله تَعَالَى مَوْصُوف بِكَمَال الْقُدْرَة وَمَعَ ذَلِك أطلق لنا الْعَمَل بِالرَّأْيِ فِيهِ إِمَّا لتحقيق معنى الِابْتِلَاء أَو لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وسعنا مَا هُوَ أقوى من ذَلِك بعد انْقِطَاع الْأَدِلَّة الظَّاهِرَة وَهَذَا الْمَعْنى بِعَيْنِه مَوْجُود فِي الْأَحْكَام ثمَّ الِاحْتِمَال الَّذِي يبْقى بعد اسْتِعْمَال الرَّأْي بِمَنْزِلَة الِاحْتِمَال فِي خبر الْوَاحِد فَإِن قَول صَاحب الشَّرْع مُوجب علم الْيَقِين وَإِنَّمَا يثبت فِي حَقنا الْعلم وَالْعَمَل بِهِ إِذا بلغنَا ذَلِك وَفِي الْبلُوغ والاتصال برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتِمَال فَكَذَلِك الحكم فِي الْمَنْصُوص ثَابت بِالنَّصِّ على وَجه يُوجب علم الْيَقِين وَفِيه معنى هُوَ مُؤثر فِي الحكم شرعا وَلَكِن فِي بُلُوغ الآراء وَإِدْرَاك ذَلِك الْمَعْنى نوع احْتِمَال فَلَا يمْنَع ذَلِك وجوب الْعَمَل بِهِ عِنْد انعدام دَلِيل هُوَ أقوى مِنْهُ وَلِهَذَا شرطنا للْعَمَل بِالرَّأْيِ أَن تكون الْحَادِثَة لَا نَص فِيهَا من كتاب وَلَا سنة فَتبين أَن فِيمَا قُلْنَا مُبَالغَة فِي الْمُحَافظَة على النُّصُوص بظواهرها ومعانيها فَإِنَّهُ مَا لم يقف على النُّصُوص لَا يعرف أَن الْحَادِثَة لَا نَص فِيهَا وَمَا لم يقف على مَعَاني النُّصُوص لَا يُمكنهُ أَن يرد الْحَادِثَة إِلَى مَا يكون مثلهَا من النُّصُوص ثمَّ مَعَ ذَلِك فِيهِ تَعْمِيم الْمَعْنى فِي الْفُرُوع وتعظيم مَا هُوَ حق الله تَعَالَى فَإِن اعْتِقَاد الحقية فِي الحكم الْمَنْصُوص ثَابت بِالنَّصِّ وَمعنى شرح الصَّدْر وطمأنينة الْقلب ثَابت بِالْوُقُوفِ على الْمَعْنى وَلَا معنى لاستدلالهم باخْتلَاف أَحْكَام النُّصُوص لأَنا إِنَّمَا نجوز اسْتِعْمَال الرَّأْي عِنْد معرفَة مَعَاني النُّصُوص وَإِنَّمَا يكون هَذَا فِيمَا يكون مَعْقُول الْمَعْنى فَأَما فِيمَا لَا يعقل الْمَعْنى فِيهِ فَنحْن لَا نجوز إِعْمَال الرَّأْي لتعدية الحكم إِلَى مَا لَا نَص فِيهِ وسيأتيك بَيَان هَذَا فِي شَرط الْقيَاس ويتبين بِهَذَا أَن مُرَاد رَسُول الله صلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 الله عَلَيْهِ وَسلم بذم الرَّأْي فِيمَا رووا من الْآثَار الرَّأْي الَّذِي ينشأ عَن مُتَابعَة هوى النَّفس أَو الرَّأْي الَّذِي يكون الْمَقْصُود مِنْهُ رد الْمَنْصُوص نَحْو مَا فعله إِبْلِيس فَأَما الرَّأْي الَّذِي يكون الْمَقْصُود بِهِ إِظْهَار الْحق من الْوَجْه الَّذِي قُلْنَا لَا يكون مذموما أَلا ترى أَن الله تَعَالَى أَمر بِهِ فِي إِظْهَار قيمَة الصَّيْد بقوله {يحكم بِهِ ذَوا عدل مِنْكُم} فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد علم ذَلِك أَصْحَابه وَالصَّحَابَة عَن آخِرهم أَجمعُوا على اسْتِعْمَاله من غير نَكِير من أحد مِنْهُم على من اسْتَعْملهُ فَكيف يظنّ بهم الِاتِّفَاق على مَا ذمه رَسُول الله أَو جعله مدرجة الضلال هَذَا شَيْء لَا يَظُنّهُ إِلَّا ضال وَالله أعلم فصل فِي بَيَان مَا لَا بُد للْقِيَاس من مَعْرفَته قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَذَلِكَ معنى الْقيَاس لُغَة فالصورة بِلَا معنى يكون فَاسِدا من الدَّعْوَى ثمَّ شَرطه فَإِن وجود الشَّيْء على وَجه يكون مُعْتَبرا شرعا لَا يكون إِلَّا بِوُجُود شَرطه ثمَّ رُكْنه فقوام الشَّيْء يكون بركنه ثمَّ حكمه فَإِن الشَّيْء إِنَّمَا يخرج من حد الْعَبَث والسفه إِلَى حد الْحِكْمَة بِكَوْنِهِ مُفِيدا وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون بِحكمِهِ ثمَّ بِالدفع بعد ذَلِك فَإِن تَمام الْإِلْزَام إِنَّمَا يتَبَيَّن بِالْعَجزِ عَن الدّفع فَأَما الأول فَهُوَ معرفَة الْقيَاس لُغَة فَنَقُول للْقِيَاس تَفْسِير هُوَ المُرَاد بصيغته وَمعنى هُوَ المُرَاد بدلالته بمنزله فعل الضَّرْب فَإِن لَهُ تَفْسِيرا هُوَ الْمَعْلُوم بصورته وَهُوَ إِيقَاع الْخَشَبَة على جسم وَمعنى هُوَ المُرَاد بدلالته وَهُوَ الإيلام فَأَما تَفْسِير صِيغَة الْقيَاس فَهُوَ التَّقْدِير يُقَال قس النَّعْل بالنعل أَي قدره بِهِ وقاس الطَّبِيب الْجرْح إِذا سبره بالمسبار ليعرف مِقْدَار غوره وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن مَعْنَاهُ لُغَة فِي الْأَحْكَام رد الشَّيْء إِلَى نَظِيره ليَكُون مثلا لَهُ فِي الحكم الَّذِي وَقعت الْحَاجة إِلَى إثْبَاته وَلِهَذَا يُسمى مَا يجْرِي بَين المناظرين مقايسة لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يسْعَى ليجعل جَوَابه فِي الْحَادِثَة مثلا لما اتفقَا على كَونه أصلا بَينهمَا يُقَال قايسته مقايسة وَقِيَاسًا وَيُسمى ذَلِك نظرا أَيْضا إِذْ لَا يصاب إِلَّا بِالنّظرِ عَن إنصاف وَيُسمى ذَلِك اجْتِهَادًا مجَازًا أَيْضا لِأَن ببذل المجهود يحصل هَذَا الْمَقْصُود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 وَأما الْمَعْنى الَّذِي هُوَ المُرَاد بدلالته وَهُوَ أَنه مدرك من مدارك أَحْكَام الشَّرْع ومفصل من مفاصله وَإِنَّمَا يتَبَيَّن هُنَا ببسط الْكَلَام فَنَقُول إِن الله تَعَالَى ابتلانا بِاسْتِعْمَال الرَّأْي وَالِاعْتِبَار وَجعل ذَلِك مَوْضُوعا على مِثَال مَا يكون بَين الْعباد مِمَّا شَرعه من الدَّعْوَى والبينات فالنصوص شُهُود على حُقُوق الله تَعَالَى وَأَحْكَامه بِمَنْزِلَة الشُّهُود فِي الدَّعَاوَى وَمعنى النُّصُوص (شَهَادَته بِمَنْزِلَة) شَهَادَة الشَّاهِد ثمَّ لَا بُد من صَلَاحِية الشَّاهِد بِكَوْنِهِ حرا عَاقِلا بَالغا فَكَذَلِك لَا بُد من صَلَاحِية النَّص لكَونه شَاهدا بِكَوْنِهِ مَعْقُول الْمَعْنى وَلَا بُد من صَلَاحِية الشَّهَادَة بِوُجُود لَفظهَا فَكَذَلِك لَا بُد من صَلَاحِية الْوَصْف الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَة الشَّهَادَة وَذَلِكَ بِأَن يكون ملائما للْحكم أَو مؤثرا فِيهِ على مَا نبين الِاخْتِلَاف فِيهِ وَلَا بُد مِمَّا هُوَ قَائِم مقَام الطَّالِب فِيهِ وَهُوَ القائس وَلَا بُد من مَطْلُوب وَهُوَ الحكم الشَّرْعِيّ فالمقصود تَعديَة الحكم إِلَى الْفُرُوع وَلَا بُد من مقضي عَلَيْهِ وَهُوَ عقد الْقلب ليترتب عَلَيْهِ الْعَمَل بِالْبدنِ إِن كَانَ يحاج نَفسه وَإِن كَانَ يحاج غَيره فَلَا بُد من خصم هُوَ كالمقضي عَلَيْهِ من حَيْثُ إِنَّه يلْزمه الانقياد لَهُ وَلَا بُد من قَاض فِيهِ وَهُوَ الْقلب بِمَنْزِلَة القَاضِي فِي الْخُصُومَات ثمَّ بعد اجْتِمَاع هَذِه الْمعَانِي يتَمَكَّن الْمَشْهُود عَلَيْهِ من الدّفع كَمَا فِي الدَّعْوَى الْمَشْهُود عَلَيْهِ يتَمَكَّن من الدّفع بعد ظُهُور الْحجَّة فَإِن تَمام الْإِلْزَام إِنَّمَا يتَبَيَّن بِالْعَجزِ عَن الدّفع وَرُبمَا يخالفنا فِي بعض هَذَا الشَّافِعِي وَغَيره من الْعلمَاء أَيْضا فصل فِي تَعْلِيل الْأُصُول قَالَ فريق من الْعلمَاء الْأُصُول غير معلولة فِي الأَصْل مَا لم يقم الدَّلِيل على كَونه معلولا فِي كل أصل وَقَالَ فريق آخر هِيَ معلولة إِلَّا بِدَلِيل مَانع وَالْأَشْبَه بِمذهب الشَّافِعِي رَحمَه الله أَنَّهَا معلولة فِي الأَصْل إِلَّا أَنه لَا بُد لجَوَاز التَّعْلِيل فِي كل أصل من دَلِيل مُمَيّز وَالْمذهب عِنْد عُلَمَائِنَا أَنه لَا بُد مَعَ هَذَا من قيام دَلِيل يدل على كَونه معلولا فِي الْحَال وَإِنَّمَا يتَبَيَّن هَذَا فِي مَسْأَلَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 الذَّهَب وَالْفِضَّة فَإِن اسْتِدْلَال من يسْتَدلّ من أَصْحَابنَا على كَون الحكم الثَّابِت فيهمَا معلولا بِأَن الْأُصُول فِي الأَصْل معلولة لَا يكون صَحِيحا حَتَّى يثبت بِالدَّلِيلِ أَن النَّص الَّذِي فيهمَا مَعْلُول فِي الْحَال وَحجَّة الْفَرِيق الأول أَن الحكم فِي الْمَنْصُوص قبل التَّعْلِيل ثَابت بِصِيغَة النَّص وَفِي التَّعْلِيل تَغْيِير لذَلِك الحكم حَتَّى يكون ثَابتا بِالْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الْمَعْنى فِي الْمَنْصُوص فَيكون ذَلِك بِمَنْزِلَة الْمجَاز من الْحَقِيقَة وَلَا يجوز الْعُدُول عَن الْحَقِيقَة إِلَى الْمجَاز إِلَّا بِدَلِيل بل أولى فالمجاز أحد نَوْعي اللِّسَان وَالْمعْنَى الَّذِي يستنبط من الْمَنْصُوص لَيْسَ من نوع اللِّسَان فِي شَيْء يُوضحهُ أَن الْمعَانِي تتعارض فِي الْمَنْصُوص وَبِاعْتِبَار الْمُعَارضَة لَا يتَعَيَّن وصف مِنْهَا بل كل وصف يحْتَمل أَن يكون هُوَ الْمَعْنى الْمُوجب للْحكم فِيهِ والمحتمل لَا يكون حجَّة وَلَا بُد من تَرْجِيح بعض الْأَوْصَاف عِنْد الِاشْتِغَال بِالتَّعْلِيلِ وَالتَّرْجِيح بعد الْمُعَارضَة لَا يكون إِلَّا بِالدَّلِيلِ على أَنا نفهم من خطاب الشَّرْع مَا نفهم من مخاطباتنا وَمن يَقُول لغيره أعتق عَبدِي هَذَا لم يكن لَهُ أَن يصير إِلَى التَّعْلِيل فِي هَذَا الْأَمر فَكَذَلِك فِي مخاطبات الشَّرْع لَا يجوز الْمصير إِلَى التَّعْلِيل حَتَّى يقوم الدَّلِيل وَحجَّة الْفَرِيق الثَّانِي أَن الدَّلِيل الَّذِي دلّ على صِحَة الْقيَاس وَجَوَاز الْعَمَل بِهِ يكون دَلِيلا على جَوَاز التَّعْلِيل فِي كل أصل فَإِن مَا هُوَ طَرِيق التَّعْلِيل وَهُوَ الْوُقُوف على معنى النَّص وَالْوَصْف الَّذِي هُوَ صَالح لِأَن يكون عِلّة للْحكم مَوْجُود فِي كل نَص فَيكون جَوَاز التَّعْلِيل أصلا فِي كل نَص وَتَكون صفة الصلاحية أصلا فِي كل وصف فَيكون التَّعْلِيل بِهِ أصلا مَا لم يظْهر الْمَانِع بِمَنْزِلَة الْعَمَل بالأخبار فَإِن وجوب الْعَمَل بِكُل خبر ثَبت عَن صَاحب الشَّرْع هُوَ الأَصْل حَتَّى يمْنَع مِنْهُ مَانع وَلَا تتَحَقَّق الْمُعَارضَة الْمُوجبَة للتوقف بِمُجَرَّد اخْتِلَاف الْآثَار عِنْد إِمْكَان الْعَمَل بِالْكُلِّ فَكَذَلِك لَا تثبت الْمُعَارضَة الْمُوجبَة للتوقف عِنْد كَثْرَة أَوْصَاف الأَصْل مَعَ إِمْكَان الْعَمَل بِالْكُلِّ إِلَّا أَن يمْنَع من ذَلِك مَانع وَلَيْسَ هَذَا نَظِير خطاب الْعباد فِي معاملاتهم فَإِن ذَلِك مِمَّا لَا نشتغل فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 بِطَلَب الْمَعْنى لجَوَاز أَن يكون خَالِيا عَن معنى مُؤثر وَعَن حِكْمَة حميدة بِخِلَاف خطاب الشَّرْع أَلا ترى أَن هُنَاكَ وَإِن كَانَ التَّعْلِيل فِيهِ مَنْصُوصا لَا يُصَار إِلَى التَّعْدِيَة فَإِنَّهُ لَو قَالَ أعتق عَبدِي هَذَا فَإِنَّهُ أسود لم يكن لَهُ أَن يعدي الحكم بِهَذَا التَّعْلِيل إِلَى غَيره وَفِي خطاب الشَّرْع فِيمَا يكون التَّعْلِيل مَنْصُوصا يثبت حكم التَّعْدِيَة بالِاتِّفَاقِ كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام الْهِرَّة لَيست بنجسة لِأَنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم والطوافات ودعواهم أَن فِي التَّعْلِيل تَغْيِير الحكم كَلَام بَاطِل فَإِن الحكم فِي الْمَنْصُوص بعد التَّعْلِيل ثَابت بِالنَّصِّ كَمَا كَانَ قبل التَّعْلِيل وَإِنَّمَا التَّعْلِيل لتعدية الحكم إِلَى مَحل آخر لَا نَص فِيهِ على مَا نبينه فِي فصل الشَّرْط فَعرفنَا أَن أثر التَّعْلِيل فِي الْمَنْصُوص من حَيْثُ شرح الصَّدْر وطمأنينة الْقلب وَذَلِكَ تَقْرِير للْحكم لَا تَغْيِير كالوقوف على معنى اللِّسَان وَقَوْلهمْ إِن فِي كل وصف احْتِمَالا قُلْنَا لَا كَذَلِك بل الأَصْل فِي النُّصُوص وجوب التَّعْلِيل لتعميم الحكم على مَا قَررنَا فَبعد هَذَا فِي كل وصف احْتِمَال أَنه لَيْسَ بِمُرَاد بعد قيام الدَّلِيل على كَونه حجَّة (وَمَا ثَبت حجَّة بِالدَّلِيلِ فَإِنَّهُ لَا يخرج بِالِاحْتِمَالِ من أَن يكون حجَّة) وَإِنَّمَا يثبت ذَلِك بِالدَّلِيلِ الْمَانِع وَأما الشَّافِعِي فَإِنَّهُ يَقُول قد علمنَا بِالدَّلِيلِ أَن عِلّة النَّص أحد أَوْصَافه لَا كل وصف مِنْهُ فَإِن الصَّحَابَة اخْتلفُوا فِي الْفُرُوع باختلافهم فِي الْوَصْف الَّذِي هُوَ عِلّة فِي النَّص فَكل وَاحِد مِنْهُم ادّعى أَن الْعلَّة مَا قَالَه وَذَلِكَ اتِّفَاق مِنْهُم أَن أحد الْأَوْصَاف هُوَ الْعلَّة ثمَّ ذَلِك الْوَصْف مَجْهُول والمجهول لَا يصلح اسْتِعْمَاله مَعَ الْجَهَالَة لتعدية الحكم فَلَا بُد من دَلِيل التَّمْيِيز بَينه وَبَين سَائِر الْأَوْصَاف حَتَّى يجوز التَّعْلِيل بِهِ فَإِنَّهُ لَا يجوز التَّعْلِيل بِسَائِر الْأَوْصَاف لِاتِّفَاق الصَّحَابَة على ذَلِك وَعلمنَا بِبُطْلَان التَّعْلِيل فِي مُخَالفَة الْإِجْمَاع ثمَّ على أَصله التَّعْلِيل تَارَة يكون للْمَنْع من التَّعْدِيَة وَتارَة يكون لإِثْبَات التَّعْدِيَة وَلَا شكّ أَن الْوَصْف الَّذِي بِهِ يثبت الْحجر عَن التَّعْدِيَة غير الْوَصْف الَّذِي يثبت بِهِ حكم التَّعْدِيَة فَمَا لم يتَمَيَّز أحد الوصفين من الآخر بِالدَّلِيلِ لَا يجوز تَعْلِيل النَّص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 وَأما عُلَمَاؤُنَا فقد شرطُوا الدَّلِيل الْمُمَيز وَلَكِن بطرِيق آخر سوى مَا ذكره الشَّافِعِي على مَا نذكرهُ فِي بَابه (إِن شَاءَ الله) وشرطوا قبل ذَلِك أَن يقوم الدَّلِيل فِي الأَصْل على كَونه معلولا فِي الْحَال لِأَن النُّصُوص نَوْعَانِ مَعْلُول وَغير مَعْلُول والمصير إِلَى التَّعْلِيل فِي كل نَص بعد زَوَال هَذَا الِاحْتِمَال وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بِدَلِيل يقوم فِي النَّص على كَونه معلولا فِي الْحَال وَإِنَّمَا نَظِيره مَجْهُول الْحَال إِذا شهد فَإِنَّهُ مَا لم نثبت حُرِّيَّته بِقِيَام الدَّلِيل عَلَيْهِ لَا تكون شَهَادَته حجَّة فِي الْإِلْزَام وَقبل ثُبُوت ذَلِك بِالدَّلِيلِ الْحُرِّيَّة ثَابِتَة بطرِيق الظَّاهِر وَلَكِن هَذَا يصلح للدَّفْع لَا للإلزام فَكَذَلِك الدَّلِيل الَّذِي دلّ فِي كل نَص على أَنه مَعْلُول ثَابت من طَرِيق الظَّاهِر وَفِيه احْتِمَال فَمَا لم يثبت بِالدَّلِيلِ الْمُوجب لكَون هَذَا النَّص معلولا لَا يجوز الْمصير إِلَى تَعْلِيله لتعدية الحكم إِلَى الْفُرُوع فَفِيهِ معنى الْإِلْزَام وَهُوَ نَظِير اسْتِصْحَاب الْحَال فَإِنَّهُ يصلح حجَّة للدَّفْع لَا للإلزام لبَقَاء الِاحْتِمَال فِيهِ فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن الِاقْتِدَاء برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَفعاله جَائِز مَا لم يقم الدَّلِيل الْمَانِع وَقد ظَهرت خصوصيته فِي بعض الْأَفْعَال ثمَّ لم يُوجب ذَلِك الِاحْتِمَال فِي كل فعل حَتَّى يُقَال لَا يجوز الِاقْتِدَاء بِهِ إِلَّا بعد قيام الدَّلِيل قُلْنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِمَام مقتدى بِهِ مَا بعث إِلَّا ليَأْخُذ النَّاس بهديه وهداه فَيكون الِاقْتِدَاء بِهِ هُوَ الأَصْل وَإِن كَانَ قد يجوز أَن يكون هُوَ مَخْصُوصًا بِبَعْض الْأَشْيَاء وَلَكِن الخصوصية فِي حَقه بِمَنْزِلَة دَلِيل التَّخْصِيص فِي الْعُمُوم وَالْعَمَل بِالْعَام مُسْتَقِيم حَتَّى يقوم دَلِيل التَّخْصِيص فَكَذَلِك الِاقْتِدَاء بِهِ فِي أَفعاله فَأَما هُنَا فاحتمال كَون النَّص غير مَعْلُول ثَابت فِي كل أصل مثل احْتِمَال كَونه معلولا فَيكون هَذَا بِمَنْزِلَة الْمُجْمل فِيمَا يرجع إِلَى الِاحْتِمَال وَالْعَمَل بالمجمل لَا يكون إِلَّا بعد قيام دَلِيل هُوَ بَيَان فَكَذَلِك تَعْلِيل الْأُصُول يُوضحهُ أَن هُنَاكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 قد قَامَ الدَّلِيل الْمُوجب لعلم الْيَقِين على جَوَاز الِاقْتِدَاء بِهِ مُطلقًا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} وَهَهُنَا الدَّلِيل هُوَ صَلَاحِية الْوَصْف الْمَوْجُود فِي النَّص وَذَلِكَ إِنَّمَا يعلم بِالرَّأْيِ فَلَا يَنْعَدِم بِهِ احْتِمَال كَون النَّص غير مَعْلُول لأَنا قد بَينا أَن فِي تَعْلِيل النَّص معنى الِابْتِلَاء والابتلاء بِمَا يكون غير مَعْلُول من النُّصُوص أظهر وَبَعْدَمَا تحققت الْمُسَاوَاة فِي معنى الِابْتِلَاء لَا بُد من قيام الدَّلِيل فِي الْمَنْصُوص على أَنه مَعْلُول للْحَال وَبَيَان هَذَا فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة فَإِن حكم الرِّبَا ثَابت فيهمَا بِالنَّصِّ وَهُوَ مَعْلُول عندنَا بعلة الْوَزْن وَأنكر الشَّافِعِي هَذَا فَيحْتَاج إِلَى أَن يثبت بِالدَّلِيلِ أَنه مَعْلُول وَفِيه نَوْعَانِ من الدَّلِيل أَحدهَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام يَد بيد فَفِيهِ إِيجَاب التَّعْيِين وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى الْفُرُوع لِأَنَّهُ لَا بُد من تعْيين أحد الْبَدَلَيْنِ فِي كل عقد فَإِن الدّين بِالدّينِ حرَام بِالنَّصِّ وَذَلِكَ رَبًّا كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة ثمَّ وجوب التَّعْيِين فِي الْبَدَل الآخر هُنَا لاشْتِرَاط الْمُسَاوَاة فالمساواة فِي الْبَدَلَيْنِ عِنْد اتِّفَاق الْجِنْس شَرط بقوله عَلَيْهِ السَّلَام مثل بِمثل وَعند اخْتِلَاف الْجِنْس الْمُسَاوَاة فِي العينية شَرط بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَإِذا اخْتلف النوعان فبيعوا كَيفَ شِئْتُم بعد أَن يكون يدا بيد وَهَذَا حكم مُتَعَدٍّ إِلَى الْفُرُوع فَإِن الشَّافِعِي يشْتَرط التقايض فِي بيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ مَعَ اخْتِلَاف الْجِنْس بِهَذَا النَّص وَنحن لَا نجوز بيع قفيز من حِنْطَة بِعَينهَا بقفيز من شعير بِغَيْر عينه غير مَقْبُوض فِي الْمجْلس وَإِن كَانَ مَوْصُوفا وَحل التَّفَاضُل بَينهمَا لِأَن بترك التَّعْيِين فِي الْمجْلس يَنْعَدِم الْمُسَاوَاة فِي الْيَد بِالْيَدِ وشرطنا الْقَبْض فِي رَأس مَال السّلم فِي الْمجْلس لتحقيق معنى التَّعْيِين فَعرفنَا أَنه مَعْلُول وَالتَّعْلِيل بالثمنية يمْنَع التَّعْدِيَة فباعتبار كَونه معلولا يكون مُتَعَدِّيا إِلَى الْفُرُوع فالوصف الَّذِي يمْنَع التَّعْدِيَة لَا يقْدَح فِيهِ وَلَا يُخرجهُ من أَن يكون شَاهدا بِمَنْزِلَة صفة الْجَهْل فِي الشَّاهِد فَإِنَّهُ لَا يكون طَعنا فِي شَهَادَته لِأَنَّهُ لَا يخرج بِهِ من أَن يكون أَهلا للولاية وَالشَّهَادَة تبتنى على ذَلِك بِخِلَاف صفة الرّقّ فَإِن الطعْن بِهِ يمْنَع الْعَمَل بِشَهَادَتِهِ حَتَّى تثبت حُرِّيَّته بِالْحجَّةِ لِأَنَّهُ يخرج بِهِ من أَن يكون أهل الْولَايَة والصلاحية للشَّهَادَة تبتنى على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 ذَلِك وَمِثَال هَذَا أَيْضا مَا قَالَه الشَّافِعِي فِي تَحْرِيم الْخمر إِنَّه مَعْلُول من غير قيام الدَّلِيل فِيهِ على كَونه معلولا بل الدَّلِيل من النَّص دَال على أَنه غير مَعْلُول وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام حرمت الْخمر لعينها وَالسكر من كل شراب وَإِثْبَات الْحُرْمَة وَصفَة النَّجَاسَة فِي بعض الْأَشْرِبَة المسكرة لَا يكون تَعديَة للْحكم الثَّابِت فِي الْخمر أَلا ترى أَنه لَا يثبت على ذَلِك الْوَجْه حَتَّى لَا يكفر مستحله وَلَا يكون التَّقْدِير فِي النَّجَاسَة فِيهِ كالتقدير فِي الْخمر وَإِنَّمَا تِلْكَ حُرْمَة ثَابِتَة بِاعْتِبَار نوع من الِاحْتِيَاط فَلَا يتَبَيَّن بِهِ كَون النَّص معلولا ثمَّ تَعْلِيل النَّص قد يكون تَارَة بِالنَّصِّ نَحْو قَوْله تَعَالَى {لَا يكون دولة بَين الْأَغْنِيَاء مِنْكُم} وَقَول النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لبريرة ملكت بضعك فاختاري وَقد يكون بفحوى النَّص كَقَوْل النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِي السّمن الَّذِي وَقعت فِيهِ فَأْرَة إِن كَانَ جَامِدا فألقوها وَمَا حولهَا وكلوا مَا بَقِي وَإِن مَائِعا فأريقوه فَإِن فِي هَذَا إِشَارَة إِلَى أَنه مَعْلُول بعلة مجاورة النَّجَاسَة إِيَّاه وَكَذَلِكَ خبر الرِّبَا من هَذَا النَّوْع كَمَا بَينا وَقد يكون بالاستدلال بِحكم النَّص كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام فِي دم الِاسْتِحَاضَة إِنَّه دم عرق انفجر فتوضئي لكل صَلَاة وَقد يكون على اتِّفَاق الْقَائِلين بِالْقِيَاسِ على كَونه معلولا فَعِنْدَ وجود شَيْء من هَذِه الْأَدِلَّة فِي النَّص سقط اعْتِبَار احْتِمَال كَونه غير مَعْلُول فصل فِي ذكر شَرط الْقيَاس وَإِنَّمَا قدمنَا الشَّرْط لِأَن الشرعيات لَا تصير مَوْجُودَة بركنها قبل وجود الشَّرْط أَلا ترى أَن من أَرَادَ النِّكَاح فَلَا بُد لَهُ من أَن يبْدَأ بإحضار الشُّهُود وَمن أَرَادَ الصَّلَاة لم يجد بدا من الْبِدَايَة بِالطَّهَارَةِ وَستر الْعَوْرَة وَهَذِه الشُّرُوط خَمْسَة أَحدهَا أَن لَا يكون حكم الأَصْل مَخْصُوصًا بِهِ بِنَصّ آخر وَالثَّانِي أَن لَا يكون معدولا بِهِ عَن الْقيَاس وَالثَّالِث أَن لَا يكون التَّعْلِيل للْحكم الشَّرْعِيّ الثَّابِت بِالنَّصِّ بِعَيْنِه حَتَّى يتَعَدَّى بِهِ إِلَى فرع هُوَ نَظِيره وَلَا نَص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 فِيهِ وَالرَّابِع أَن يبْقى الحكم فِي الْمَنْصُوص بعد التَّعْلِيل على مَا كَانَ قبله وَالْخَامِس أَن لَا يكون التَّعْلِيل متضمنا إبِْطَال شَيْء من أَلْفَاظ الْمَنْصُوص أما الأول فَلِأَن التَّعْلِيل لتعدية الحكم وَذَلِكَ يبطل التَّخْصِيص الثَّابِت بِالنَّصِّ فَكَانَ هَذَا تعليلا فِي مُعَارضَة النَّص لدفع حكمه وَالْقِيَاس فِي مُعَارضَة النَّص بَاطِل وَأما الثَّانِي فَلِأَن التَّعْلِيل يكون مقايسة وَالْحكم المعدول بِهِ عَن الْقيَاس الثَّابِت بِالنَّصِّ لَا مدْخل للْقِيَاس فِيهِ على مُوَافقَة النَّص وَلَا مُعْتَبر بِالْقِيَاسِ فِيهِ على مُخَالفَة النَّص لِأَن الْمَقْصُود بِالتَّعْلِيلِ إِثْبَات الحكم بِهِ فِي الْفَرْع وَالْقِيَاس يَنْفِي هَذَا الحكم وَلَا يتَحَقَّق الْإِثْبَات بِحجَّة النَّفْي كَمَا لَا يتَحَقَّق التَّحْلِيل بِمَا هُوَ حجَّة التَّحْرِيم وَأما الثَّالِث فَلِأَن المقايسة إِنَّمَا تكون بَين شَيْئَيْنِ ليعلم بِهِ أَنَّهُمَا مثلان فَلَا تصور لَهُ فِي شَيْء وَاحِد وَلَا فِي شَيْئَيْنِ مُخْتَلفين لَا تتَحَقَّق الْمُمَاثلَة بَينهمَا فَإِذا لم يَتَعَدَّ الحكم بِالتَّعْلِيلِ عَن الْمَنْصُوص عَلَيْهِ يكون شَيْئا وَاحِدًا لَا تتَحَقَّق فِيهِ المقايسة وَإِذا كَانَا مُخْتَلفين لَا يصيران بِالتَّعْلِيلِ مثلين وَمحل الانفعال شَرط كل فعل وَقَول كمحل هُوَ حَيّ فَإِنَّهُ شَرط ليَكُون صدمه ضربا وقطعه قتلا وَاشْتِرَاط كَونه حكما شَرْعِيًّا لِأَن الْكَلَام فِي الْقيَاس على الْأُصُول الثَّابِتَة شرعا وبمثل هَذَا الْقيَاس لَا يعرف إِلَّا حكم الشَّرْع فَإِن الطِّبّ واللغة لَا يعرف بِمثل هَذَا الْقيَاس وَأما الرَّابِع فَلِأَن الْعَمَل بِالْقِيَاسِ يكون بعد النَّص وَفِي الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ لَا مدْخل للْقِيَاس فِي التَّغْيِير كَمَا لَا مدْخل لَهُ فِي الْإِبْطَال فَإِذا لم يبْق حكم النَّص بعد التَّعْلِيل فِي الْمَنْصُوص على مَا كَانَ قبله كَانَ هَذَا بَيَانا مغيرا لحكم النَّص أَو مُبْطلًا لَهُ وَلَا مُعْتَبر بِالْقِيَاسِ فِي مُعَارضَة النَّص وَأما الْخَامِس فَلِأَن النَّص مقدم على الْقيَاس بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ فَكَمَا لَا يعْتَبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 الْقيَاس فِي مُعَارضَة النَّص بِإِبْطَال حكمه لَا يعْتَبر فِي ممارسته بِإِبْطَال لَفظه وَفِي بعض هَذِه الْفُصُول يخالفنا الشَّافِعِي رَحمَه الله على مَا نبينه فَأَما الْمِثَال الأول وَهُوَ أَن الْعدَد مُعْتَبر فِي الشَّهَادَات الْمُطلقَة بِالنَّصِّ وَقد فسر الله تَعَالَى الشَّاهِدين برجلَيْن أَو رجل وَامْرَأَتَيْنِ وَذَلِكَ تنصيص على أدنى مَا يكون من الْحجَّة لإِثْبَات الْحق ثمَّ خص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خُزَيْمَة رَضِي الله عَنهُ بِقبُول شَهَادَته وَحده فَكَانَ ذَلِك حكما ثَبت بِالنَّصِّ اخْتِصَاصه بِهِ كَرَامَة لَهُ فَلم يجز تَعْلِيله أصلا حَتَّى لَا يثبت ذَلِك الحكم فِي شَهَادَة غير خُزَيْمَة مِمَّن هُوَ مثله أَو دونه أَو فَوْقه فِي الْفَضِيلَة لِأَن التَّعْلِيل يبطل خصوصيته وَكَذَلِكَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَخْصُوصًا بِأَن حل لَهُ تسع نسْوَة فقد ثَبت بِالنَّصِّ أَن الْحل بِالنِّكَاحِ يقْتَصر على الْأَرْبَعَة ثمَّ ظَهرت خُصُوصِيَّة رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِالزِّيَادَةِ بِنَصّ آخر فَلم يكن ذَلِك قَابلا للتَّعْلِيل وَكَذَلِكَ ظَهرت خصوصيته بِالنِّكَاحِ (بِغَيْر مهر بِالنَّصِّ فَلم يكن ذَلِك قَابلا للتَّعْلِيل وَقَالَ الشَّافِعِي قد ظَهرت خصوصيته بِالنِّكَاحِ) بِلَفْظ الْهِبَة بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {خَالِصَة لَك من دون الْمُؤمنِينَ} فَلم يجز التَّعْلِيل فِيهِ لتعدية الحكم إِلَى نِكَاح غَيره وَلَكنَّا نقُول المُرَاد بِالنَّصِّ الْمُوجب للتخصيص ملك الْبضْع نِكَاحا بِغَيْر مهر فَإِنَّهُ ذكر فعل الْهِبَة وَذَلِكَ يَقْتَضِي مصدرا ثمَّ قَوْله تَعَالَى {خَالِصَة لَك} نعت ذَلِك الْمصدر أَي إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي هبة خَالِصَة بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى {قد علمنَا مَا فَرضنَا عَلَيْهِم فِي أَزوَاجهم} أَي من الابتغاء بِالْمَالِ الْمُقدر فالفرض عبارَة عَن التَّقْدِير وَذَلِكَ فِي المَال يكون لَا فِي لفظ النِّكَاح وَالتَّزْوِيج أَو المُرَاد اخْتِصَاصه بِالْمَرْأَةِ حَتَّى لَا تحل لأحد بعده فيتأدى هُوَ بِكَوْن الْغَيْر شَرِيكا لَهُ فِي فراشها من حَيْثُ الزَّمَان وَعَلِيهِ دلّ قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ لكم أَن تُؤْذُوا رَسُول الله وَلَا أَن تنْكِحُوا أَزوَاجه من بعده أبدا} أَلا ترى أَن معنى الْكَرَامَة بالاختصاص إِنَّمَا تظهر فِيمَا يتَوَهَّم فِيهِ الْحَرج بإلزامه إِيَّاه وَذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 لَا يتَحَقَّق فِي اللَّفْظ فقد كَانَ أفْصح الْعَرَب لَا يلْحقهُ الْحَرج فِي لفظ النِّكَاح وَالتَّزْوِيج وَمن هَذِه الْجُمْلَة اشْتِرَاط الْأَجَل فِي السّلم فَإِنَّهُ حكم ثَابت بِالنَّصِّ فِي هَذَا العقد خَاصّا وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من أسلم فليسلم فِي كيل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم فَلَا يجوز الْمصير فِيهِ إِلَى التَّعْلِيل حَتَّى يجوز السّلم حَالا بِالْقِيَاسِ على البيع بعلة أَنه نوع بيع لِأَن الأَصْل فِي جَوَاز البيع اشْتِرَاط قيام الْمَعْقُود عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْعَاقِد وَالْقُدْرَة على التَّسْلِيم حَتَّى لَو بَاعَ مَا لَا يملكهُ ثمَّ اشْتَرَاهُ فسلمه لَا يجوز ثمَّ ترك هَذَا الأَصْل فِي السّلم رخصَة بِالنَّصِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع مَا لَيْسَ عِنْد الْإِنْسَان وَرخّص فِي السّلم وَهَذَا لِأَن الْمُسلم فِيهِ غير مَقْدُور التَّسْلِيم للعاقد عِنْد العقد وَلَا يصير مَقْدُور التَّسْلِيم لَهُ بِنَفس العقد لِأَن العقد سَبَب للْوُجُوب عَلَيْهِ وَقدرته على التَّسْلِيم يكون بِمَا لَهُ لَا بِمَا عَلَيْهِ وَلكنه مُحْتَاج إِلَى مُبَاشرَة هَذَا العقد لتَحْصِيل الْبَدَل مَعَ عَجزه عَن تَسْلِيم الْمَعْقُود عَلَيْهِ فِي الْحَال وَقدرته على ذَلِك بعد مُضِيّ مُدَّة مَعْلُومَة بطرِيق الْعَادة إِمَّا بِأَن يكْتَسب أَو يدْرك غلاته بمجيء أَوَانه فجوز الشَّرْع هَذَا العقد مَعَ عدم الْمَعْقُود عَلَيْهِ فِي ملكه رخصَة لِحَاجَتِهِ وَلَكِن بطرِيق يقدر على التَّسْلِيم عِنْد وجوب التَّسْلِيم عَادَة وَذَلِكَ بِأَن يكون مُؤَجّلا فَلم يجز التَّعْلِيل فِيهِ لكَونه حكما خَاصّا ثَبت الخصوصية فِيهِ بِالنَّصِّ كَمَا بَينا وَكَذَلِكَ قُلْنَا الْمَنَافِع لَا تضمن بِالْإِتْلَافِ وَالْغَصْب لِأَن وجوب الضَّمَان يَسْتَدْعِي الْمَالِيَّة والتقوم فِي الْمُتْلف وَذَلِكَ لَا يسْبق الْإِحْرَاز وَلَا تصور للإحراز فِي الْمَنَافِع ثمَّ ثُبُوت الْمَالِيَّة والتقوم فِيهَا بِالْعقدِ حكم خَاص ثَبت بِالنَّصِّ فَلم يكن قَابلا للتَّعْلِيل وَكَذَلِكَ إِثْبَات المعادلة بَينهمَا وَبَين الْأَعْيَان فِي مُوجب العقد الْفَاسِد وَالصَّحِيح حكم خَاص فِيهَا لِأَنَّهُ لَا مماثلة بَين الْمَنَافِع وَبَين الْأَعْيَان بِاعْتِبَار الأَصْل فالعين جَوْهَر يقوم بِهِ الْعرض وَالْمَنْفَعَة عرض يقوم بالجوهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 وَالْمَنَافِع لَا تبقى وَقْتَيْنِ وَالْعين تبقى وَبَين مَا يبْقى وَبَين مَا لَا يبْقى تفَاوت فَعرفنَا أَن ثُبُوت الْمُسَاوَاة بَينهمَا فِي مُقْتَضى العقد حكم خَاص ثَابت بِالنَّصِّ فَلَا يقبل التَّعْلِيل وَكَذَلِكَ إِلْزَام العقد على الْمَنَافِع قبل وجودهَا حكم خَاص ثَبت للْحَاجة أَو للضَّرُورَة من حَيْثُ إِنَّه لَا يتَصَوَّر العقد عَلَيْهَا بعد الْوُجُود لِأَن الْمَوْجُود لَا يبْقى إِلَى وَقت التَّسْلِيم وَمَا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ التَّسْلِيم بِحكم العقد لَا يكون محلا للْعقد فَلَا يجوز تَعديَة هَذَا الحكم بِالتَّعْلِيلِ إِلَى الْمحل الَّذِي يتَصَوَّر العقد عَلَيْهِ بعد الْوُجُود وَهُوَ نَظِير حل الْميتَة عِنْد المخمصة فَإِن ثُبُوته لما كَانَ بطرِيق الضَّرُورَة لم يجز تَعْلِيله لتعدية ذَلِك الحكم إِلَى مَحل آخر وَمِثَال الْفَصْل الثَّانِي مَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله فِي جَوَاز التوضي بنبيذ التَّمْر فَإِنَّهُ حكم معدول بِهِ عَن الْقيَاس بِالنَّصِّ فَلم يكن قَابلا للتَّعْلِيل حَتَّى لَا يتَعَدَّى ذَلِك الحكم (إِلَى سَائِر الأنبذة وَوُجُوب الطَّهَارَة بالقهقهة فِي الصَّلَاة حكم معدول بِهِ عَن الْقيَاس بِالنَّصِّ فَلم يكن قَابلا للتَّعْلِيل حَتَّى لَا يتَعَدَّى الحكم) إِلَى صَلَاة الْجِنَازَة وَسجْدَة التِّلَاوَة لِأَن النَّص ورد فِي صَلَاة مُطلقَة وَهِي مَا تشْتَمل على جَمِيع أَرْكَان الصَّلَاة وَكَذَلِكَ بَقَاء الصَّوْم مَعَ الْأكل وَالشرب نَاسِيا فَإِنَّهُ معدول بِهِ عَن الْقيَاس بِالنَّصِّ لِأَن ركن الصَّوْم يَنْعَدِم بِالْأَكْلِ مَعَ النسْيَان والركن هُوَ الْكَفّ عَن اقْتِضَاء الشَّهَوَات وَأَدَاء الْعِبَادَة بعد فَوَات ركنها لَا يتَحَقَّق فَعرفنَا أَنه عَن معدول بِهِ عَن الْقيَاس فَلم يجز تَعديَة الحكم فِيهِ إِلَى المخطىء وَالْمكْره والنائم يصب فِي حلقه بطرِيق التَّعْلِيل فَإِن قيل قد عديتم حكم النَّص إِلَى الْجِمَاع وَقد ورد فِي الْأكل وَالشرب وَكَانَ ذَلِك بطرِيق التَّعْلِيل قُلْنَا لَا كَذَلِك بل قد ثَبت بِالنَّصِّ الْمُسَاوَاة بَين الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع فِي حكم الصَّوْم وَإِن ركن الصَّوْم هُوَ الْكَفّ عَن اقْتِضَاء الشهوتين جَمِيعًا فَيكون الحكم الثَّابِت (بِالنَّصِّ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 فِي أَحدهمَا ثَابتا فِي الآخر بِالنَّصِّ أَيْضا لَا بالمقايس لِأَنَّهُ لَيْسَ بَينهمَا فرق فِي حكم الصَّوْم الشَّرْعِيّ سوى اخْتِلَاف الِاسْم فَإِن الْإِقْدَام على كل وَاحِد مِنْهُمَا فِيهِ تَفْوِيت ركن الصَّوْم لِأَنَّهُ جِنَايَة على مَحل الْفِعْل من بضع أَو طَعَام وَهُوَ نَظِير جُزْء الرَّقَبَة مَعَ شقّ الْبَطن فَإِنَّهُمَا فعلان مُخْتَلِفَانِ فِي الِاسْم وكل وَاحِد مِنْهُمَا قتل مُوجب للقود بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ وَكَذَلِكَ من بِهِ سَلس الْبَوْل يتَوَضَّأ لوقت كل صَلَاة كالمستحاضة وَكَانَ الحكم فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا ثَابتا بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ لِأَن النَّص ورد عِنْد اسْتِدَامَة الْعذر وعَلى هَذَا قُلْنَا من سبقه الْحَدث فِي خلال الصَّلَاة بِأَيّ وَجه سبقه فَإِنَّهُ يتَوَضَّأ وَيَبْنِي على صلَاته بِالنَّصِّ وَذَلِكَ حكم معدول بِهِ عَن الْقيَاس وَإِنَّمَا ورد النَّص فِي الْقَيْء والرعاف ثمَّ جعل ذَلِك ورودا فِي سَائِر الْأَحْدَاث الْمُوجبَة للْوُضُوء وَلم يَجْعَل ورودا فِي الْحَدث الْمُوجب للاغتسال لتحَقّق الْمُغَايرَة فِيمَا بَينهمَا فَإِن قيل فَكَذَلِك نقُول فِي الْمُكْره والخاطىء فالمساواة بَينهمَا وَبَين النَّاسِي ثَابت من حَيْثُ إِن كل وَاحِد مِنْهُمَا غير قَاصد إِلَى الْجِنَايَة على الصَّوْم قُلْنَا نعم وَلَكِن هَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيم إِذا ثَبت أَن الْقَصْد مُعْتَبر فِي تَفْوِيت ركن الصَّوْم وَإِذا كَانَ الْقَصْد لَا يعْتَبر فِي تحقق ركن الصَّوْم حَتَّى إِن من كَانَ مغمى عَلَيْهِ فِي جَمِيع النَّهَار يتَأَدَّى ركن الصَّوْم مِنْهُ فَكَذَلِك ترك الْقَصْد لَا يمْنَع تحقق فَوَات ركن الصَّوْم وَكَذَلِكَ مَعَ عدم الْقَصْد قد يتَحَقَّق فَوَات ركن الصَّوْم وانعدام الْأَدَاء بِهِ فَإِن من أغمى قبل غرُوب الشَّمْس وَبَقِي كَذَلِك إِلَى آخر الْغَد فَإِنَّهُ لَا يكون صَائِما وَإِن انْعَدم مِنْهُ الْقَصْد إِلَى ترك الصَّوْم ثمَّ لَا مُسَاوَاة أَيْضا بَين الخاطىء وَالْمكْره وَبَين النَّاسِي فِيمَا يرجع إِلَى عدم الْقَصْد فَإِن الخاطىء إِنَّمَا انعدام الْقَصْد مِنْهُ بِاعْتِبَار قَصده إِلَى الْمَضْمَضَة وَإِنَّمَا ابْتُلِيَ بالشرب خطأ بطرِيق يُمكن التَّحَرُّز عَنهُ وَأما النَّاسِي فانعدم الْقَصْد مِنْهُ لعدم علمه بِالصَّوْمِ أصلا وَذَلِكَ بنسيان لَا صنع لَهُ فِيهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي قَوْله إِن الله أطعمك وسقاك وَلما كَانَ سَبَب الْعذر مِمَّن لَهُ الْحق على وَجه لَا صنع للعباد فِيهِ استقام أَن يَجْعَل الرُّكْن بِاعْتِبَارِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 قَائِما حكما فَأَما فِي الْمُكْره والنائم سَبَب الْعذر جَاءَ من جِهَة الْعباد وَالْحق فِي أَدَاء الصَّوْم لله فَلم يكن هَذَا فِي (معنى) سَبَب كَانَ مِمَّن لَهُ الْحق أَلا ترى أَن الْمَرِيض يُصَلِّي قَاعِدا ثمَّ لَا تلْزمهُ الْإِعَادَة إِذا برأَ والمقيد يُصَلِّي قَاعِدا ثمَّ تلْزمهُ الْإِعَادَة إِذا رفع الْقَيْد عَنهُ وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله الَّذِي شج فِي صلَاته لَا يَبْنِي بعد الْوضُوء وَالَّذِي ابْتُلِيَ بقيء أَو رُعَاف يَبْنِي على صلَاته بعد الْوضُوء لما أَن ذَلِك حكم معدول بِهِ عَن الْقيَاس بِالنَّصِّ فَلم يجز التَّعْلِيل فِيهِ وَمَا يبتنى على صنع الْعباد لَيْسَ نَظِير مَا لَا صنع للعباد من كل وَجه وَمن هَذِه الْجُمْلَة قُلْنَا حل الذَّبِيحَة مَعَ ترك التَّسْمِيَة نَاسِيا حكم معدول بِهِ عَن الْقيَاس بِالنَّصِّ فَلم يجز تَعْلِيله لتعدية الحكم إِلَى الْعَامِد وَلَا مُسَاوَاة بَينهمَا فالناسي مَعْذُور غير معرض عَن ذكر اسْم الله تَعَالَى والعامد جَان معرض عَن ذكر اسْم الله تَعَالَى على الذَّبِيحَة وَمن أَصْحَابنَا من ظن أَن المستحسنات كلهَا بِهَذِهِ الصّفة وَلَيْسَ كَمَا ظن فالمستحسن قد يكون معدولا بِهِ عَن الْقيَاس وَقد يكون ثَابتا بِنَوْع من الْقيَاس إِلَّا أَنه قِيَاس خَفِي على مَا نبينه فِي بَابه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَمن أَصْحَابنَا من ظن أَن فِي الحكم الَّذِي يكون ثَابتا بِالنَّصِّ فِيهِ معنى مَعْقُول إِلَّا أَنه يُعَارض ذَلِك الْمَعْنى معَان أخر تخَالفه فَالْجَوَاب فِيهِ كَذَلِك إِلَّا أَنه لَا يجوز التَّعْلِيل فِيهِ وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن الأَصْل بِمَنْزِلَة الرَّاوِي وَالْوَصْف الَّذِي بِهِ تعلل بِمَنْزِلَة الحَدِيث وَفِي رِوَايَة الْأَخْبَار قد يَقع التَّرْجِيح بِاعْتِبَار كَثْرَة الروَاة على مَا بَينا وَلَكِن بِهِ لَا يخرج من أَن تكون رِوَايَة الْوَاحِد مُعْتَبرا فَعرفنَا أَنه مَتى كَانَ النَّص مَعْقُول الْمَعْنى فَإِنَّهُ يجوز تَعْلِيله بذلك الْمَعْنى ليتعدى الحكم بِهِ إِلَى فرع وَإِن عَارض ذَلِك الْمَعْنى معَان أخر فِي الأَصْل فَإِنَّهُ لَيْسَ من شَرط التَّعْلِيل للتعدية اعْتِبَار جَمِيع مَعَاني الأَصْل وَأما الْفَصْل الثَّالِث فَهُوَ أعظم هَذِه الْوُجُوه فقها وأعمها نفعا وَهُوَ شَرط وَاحِد اسْما وَلَكِن يدْخل تَحْتَهُ أصُول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 فَمِنْهَا أَن الْكَلَام مَتى كَانَ من معنى اللُّغَة فَإِنَّهُ لَا يجوز الْمصير فِيهِ إِلَى الْإِثْبَات بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيّ وَبَيَان هَذَا فِي الْيَمين الْغمُوس فَإِن علماءنا قَالُوا إِنَّهَا لَا تَنْعَقِد مُوجبَة لِلْكَفَّارَةِ لِأَنَّهَا لَيست بِيَمِين معقودة وَوُجُوب الْكَفَّارَة بِالنَّصِّ فِي الْيَمين المعقودة وَكَانَ الِاشْتِغَال فِي الحكم بِالتَّعْلِيلِ بقوله يَمِين بِاللَّه مَقْصُودَة بَاطِلا من الْكَلَام لِأَن الْكَلَام فِي إِثْبَات الِاسْم حَقِيقَة فعندنا هَذِه لَيست بِيَمِين حَقِيقَة وَإِنَّمَا سميت يَمِينا مجَازًا لِأَن ارْتِكَاب هَذِه الْكَبِيرَة كَانَ بِاسْتِعْمَال صُورَة الْيَمين كَبيع الْحر يُسمى بيعا مجَازًا وَإِن لم يكن بيعا على الْحَقِيقَة وَإِذا كَانَ الْكَلَام فِي إِثْبَات اسْم الْيَمين حَقِيقَة وَذَلِكَ لَا يُمكن مَعْرفَته بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيّ كَانَ الِاشْتِغَال بِهِ فضلا من الْكَلَام وَلَكِن طَرِيق مَعْرفَته التَّأَمُّل فِي أصُول أهل اللُّغَة وهم إِنَّمَا وضعُوا الْيَمين لتحقيق معنى الصدْق من الْخَبَر فَعرفنَا أَن مَا لَيْسَ فِيهِ توهم الصدْق بِوَجْه لَا يكون محلا للْيَمِين لخلوه عَن فَائِدَة وَبِدُون الْمحل لَا يتَصَوَّر انْعِقَاد الْيَمين وَلذَلِك قَالَ أَبُو حنيفَة فِي اللواطة إِنَّهَا لَا توجب الْحَد لِأَنَّهَا لَيست بزنا واشتغال الْخُصُوم بتعليل نَص الزِّنَا لتعدية الحكم أَو إِثْبَات الْمُسَاوَاة بَينه وَبَين اللواطة يكون فَاسِدا لِأَن طَرِيق معرفَة الِاسْم النّظر فِي مَوْضُوعَات أهل اللُّغَة لَا الأقيسة الشَّرْعِيَّة وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَشْرِبَة سوى الْخمر لَا يجب الْحَد بِشرب الْقَلِيل مَا لم يسكر واشتغال الْخصم بتعليل نَص الْخمر لتعدية الحكم أَو لإِثْبَات الْمُسَاوَاة فَاسد لِأَن الْكَلَام فِي إِثْبَات هَذَا الِاسْم كَسَائِر الْأَشْرِبَة فَإِن قيل اعْتِبَار الْمَعْنى لإِثْبَات الْمُسَاوَاة فِي الِاسْم لُغَة لَا شرعا فالزنا عِنْد أهل اللُّغَة اسْم لفعل فِيهِ اقْتِضَاء الشَّهْوَة على قصد سفح المَاء دون النَّسْل وَلِهَذَا سموهُ سِفَاحًا وَسموا النِّكَاح إحصانا واللواطة مثل الزِّنَا فِي هَذَا الْمَعْنى من كل وَجه وَكَذَلِكَ الْخمر اسْم لعين تحصل مخامرة الْعقل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 بشربه وَلِهَذَا لَا يُسمى الْعصير بِهِ قبل التخمر وَلَا بعد التخلل وَهَذِه الْأَشْرِبَة مُسَاوِيَة للخمر فِي هَذَا الْمَعْنى قُلْنَا هَذَا فَاسد لِأَن الْأَسْمَاء الْمَوْضُوعَة للأعيان أَو للأشخاص عِنْد أهل اللُّغَة الْمَقْصُود بهَا تَعْرِيف الْمُسَمّى وإحضاره بذلك الِاسْم لَا تحقق ذَلِك الْوَصْف فِي الْمُسَمّى بِمَنْزِلَة الْأَسْمَاء الْمَوْضُوعَة للرِّجَال وَالنِّسَاء كزيد وَعمر وَبكر وَمَا أشبهه فَكَذَلِك أَسمَاء الْأَفْعَال كَالزِّنَا واللواطة وَأَسْمَاء الْأَعْيَان كَالْخمرِ وَمَا هَذِه الدَّعْوَى إِلَّا نَظِير مَا يحْكى عَن بعض الموسوسين أَنه كَانَ يَقُول أَنا أبين الْمَعْنى فِي كل اسْم لُغَة أَنه لماذا وضع ذَلِك الِاسْم لُغَة لما يُسمى بِهِ فَقيل لَهُ لماذا يُسمى الجرجير جرجيرا فَقَالَ لِأَنَّهُ يتجرجر إِذا ظهر على وَجه الأَرْض أَي يَتَحَرَّك فَقيل لَهُ فلحيتك تتحرك أَيْضا وَلَا تسمى جرجيرا فَقيل لَهُ لماذا سميت القارورة قَارُورَة قَالَ لِأَنَّهُ يسْتَقرّ فِيهَا الْمَائِع فَقيل لَهُ فجوفك أَيْضا يسْتَقرّ فِيهِ الْمَائِع وَلَا يُسمى قَارُورَة وَلَا شكّ أَن الِاشْتِغَال بِمثل هَذَا فِي الْأَسْمَاء الْمَوْضُوعَة يكون من نوع الْجُنُون فَإِن قيل الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إِنَّمَا تبتنى على الْأَسَامِي الثَّابِتَة شرعا وَذَلِكَ نوع من الْأَسَامِي لَا يعرفهُ أهل اللُّغَة كاسم الصَّلَاة للأركان الْمَعْلُومَة وَاسم الْمُنَافِق لبَعض الْأَشْخَاص وَمَا أشبه ذَلِك قُلْنَا الْأَسْمَاء الثَّابِتَة شرعا تكون ثَابِتَة بطرِيق مَعْلُوم شرعا كالأسماء الْمَوْضُوعَة لُغَة تكون ثَابِتَة بطرِيق يعرفهُ أهل اللُّغَة ثمَّ ذَلِك الِاسْم لَا يخْتَص بِعِلْمِهِ وَاحِد من أهل اللُّغَة بل يشْتَرك فِيهِ جَمِيع أهل اللُّغَة لاشتراكهم فِي طَرِيق مَعْرفَته فَكَذَلِك هَذَا الِاسْم يشْتَرك فِي مَعْرفَته جَمِيع من يعرف أَحْكَام الشَّرْع وَمَا يكون بطرِيق الاستنباط والرأي فَإِنَّمَا يعرفهُ القايس فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَنه لَا يجوز إِثْبَات الِاسْم بِالْقِيَاسِ على أَي وَجه كَانَ وعَلى هَذَا لَا يجوز اسْتِعْمَال الْقيَاس فِي إِلْحَاق النباش بالسارق فِي حكم الْقطع لِأَن الْقطع بِالنَّصِّ وَاجِب على السَّارِق فَالْكَلَام فِي إِثْبَات اسْم السّرقَة حَقِيقَة وَقد قدمنَا الْبَيَان فِي نفي التَّسْوِيَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 بَين النباش وَالسَّارِق فِي فعل السّرقَة وَهَذَا لِأَن الْأَسْمَاء نَوْعَانِ حَقِيقَة ومجاز فطريق معرفَة الْحَقِيقَة هُوَ السماع من أهل اللُّغَة وَطَرِيق معرفَة الْمجَاز مِنْهُ الْوُقُوف على اسْتِعَارَة أهل اللُّغَة وَنحن نعلم أَن طَرِيق الِاسْتِعَارَة فِيمَا بَين أهل اللُّغَة غير طَرِيق التَّعْدِيَة فِي أَحْكَام الشَّرْع فَلَا يُمكن معرفَة هَذَا النَّوْع بِالتَّعْلِيلِ الَّذِي هُوَ لتعدية حكم الشَّرْع وعَلى هَذَا قُلْنَا الِاشْتِغَال بِالْقِيَاسِ لتصحيح اسْتِعَارَة أَلْفَاظ الطَّلَاق لِلْعِتْقِ يكون بَاطِلا وَإِنَّمَا نشتغل فِيهِ بِالتَّأَمُّلِ فِيمَا هُوَ طَرِيق الِاسْتِعَارَة عِنْد أهل اللُّغَة وَكَذَلِكَ الِاشْتِغَال بِالْقِيَاسِ لإِثْبَات الِاسْتِعَارَة فِي أَلْفَاظ التَّمْلِيك للنِّكَاح يكون اشتغالا بِمَا لَا معنى لَهُ وَكَذَلِكَ فِي إِثْبَات اسْتِعَارَة لفظ النّسَب لِلْعِتْقِ وَكَذَلِكَ الِاشْتِغَال بِالْقِيَاسِ فِي تَصْحِيح إِرَادَة الْعدَد من لفظ الطَّلَاق والاشتغال بِالْقِيَاسِ لإِثْبَات الْمُوَافقَة بَين الشَّاهِدين إِذا شهد أَحدهمَا بِمِائَة وَالْآخر بمائتين أَو شهد أَحدهمَا بتطليقة وَالْآخر بِنصْف تَطْلِيقَة فَإِنَّمَا يكون من نوع هَذَا (فالحاجة فِيهِ إِلَى إِثْبَات الِاسْم وَطَرِيق الْوُقُوف عَلَيْهِ التَّأَمُّل فِي طَرِيقه عِنْد أهل اللُّغَة) فَكَانَ الِاشْتِغَال بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيّ فِيهِ اشتغالا بِمَا لَا يُفِيد وَكَذَلِكَ الْإِطْعَام فِي الْكَفَّارَات فَإِن اشْتِرَاط التَّمْلِيك فِيهِ بِالْقِيَاسِ على الْكسْوَة بَاطِل لِأَن الْكَلَام فِي معنى الْإِطْعَام الْمَنْصُوص عَلَيْهِ وَلَا مدْخل للْقِيَاس الشَّرْعِيّ فِي معرفَة معنى الِاسْم لُغَة وَإِنَّمَا الطَّرِيق فِيهِ التَّأَمُّل فِي معنى اللَّفْظ لُغَة وَهُوَ فعل مُتَعَدٍّ فلازمه طعم وَحَقِيقَته فِيمَا يصير الْمِسْكِين بِهِ طاعما وَذَلِكَ بالتمكين من الْإِطْعَام بِمَنْزِلَة الإيكال ثمَّ يجوز التَّمْلِيك فِيهِ بِدلَالَة النَّص فَأَما الْكسْوَة فَهُوَ عبارَة عَن الملبوس دون فعل اللّبْس وَدون مَنْفَعَة الثَّوْب وَعين الملبوس لَا يصير كَفَّارَة إِلَّا بالتمليك من الْمِسْكِين فَأَما الإلباس فَهُوَ تَمْكِين من الِانْتِفَاع بالملبوس وَمن هَذِه الْجُمْلَة الِاخْتِلَاف فِي شَرط التَّعْدِيَة وَالْمذهب عندنَا أَن تَعْلِيل النَّص بِمَا لَا يتَعَدَّى لَا يجوز أصلا وَعند الشَّافِعِي هَذَا التَّعْلِيل جَائِز وَلكنه لَا يكون مقايسة وعَلى هَذَا جوز هُوَ تَعْلِيل نَص الرِّبَا فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 بالثمينة وَإِن كَانَت لَا تتعدى فَنحْن لَا نجوز ذَلِك وَالْمذهب عندنَا أَن حكم التَّعْلِيل هُوَ تَعديَة حكم الأَصْل إِلَى الْفُرُوع وكل تَعْلِيل لَا يُفِيد ذَلِك فَهُوَ خَال عَن حكمه وعَلى قَوْله حكم التَّعْلِيل ثُبُوت الحكم فِي الْمَنْصُوص بِالْعِلَّةِ ثمَّ تتعدى تِلْكَ الْعلَّة إِلَى الْفُرُوع تَارَة فَيثبت بهَا الحكم فِي الْفُرُوع كَمَا فِي الأَصْل وَتارَة لَا تتعدى فَيبقى الحكم فِي الأَصْل ثَابتا وَبِه يكون ذَلِك تعليلا مُسْتَقِيمًا بِمَنْزِلَة النَّص الَّذِي هُوَ عَام مَعَ النَّص الَّذِي هُوَ خَاص احْتج وَقَالَ لِأَن التَّعْلِيل بِالرَّأْيِ حجَّة لإِثْبَات حكم الشَّرْع فَيكون بِمَنْزِلَة سَائِر أَنْوَاع الْحجَج وَسَائِر الْحجَج من الْكتاب وَالسّنة أَيْنَمَا وجدت يثبت الحكم بهَا فَكَذَلِك التَّعْلِيل بِالرَّأْيِ إِلَّا أَن سَائِر الْحجَج تكون ثَابت بِغَيْر صنع منا وَالتَّعْلِيل بِالرَّأْيِ إِنَّمَا يحصل بصنعنا وَمَتى وجد ذَلِك كَانَ ثُبُوت الحكم مُضَافا إِلَيْهِ سَوَاء تعدى إِلَى الْفُرُوع أَو لم يَتَعَدَّ وَهَذَا لِأَن الشَّرْط فِي الْوَصْف الَّذِي يتعلل الأَصْل بِهِ قيام دلَالَة التَّمْيِيز بَينه وَبَين سَائِر الْأَوْصَاف وَهَذَا الْمَعْنى يتَحَقَّق فِي الْوَصْف الَّذِي يقْتَصر على مَوضِع النَّص وَفِي الْوَصْف الَّذِي يتَعَدَّى إِلَى مَحل آخر وَبعد مَا وجد فِيهِ شَرط صِحَة التَّعْلِيل بِهِ لَا يثبت الْحجر عَن التَّعْلِيل بِهِ إِلَّا بمانع فكونه غير مُتَعَدٍّ لَا يصلح أَن يكون مَانِعا إِنَّمَا الْمَانِع مَا يُخرجهُ من أَن يكون حجَّة وانعدام وصف التَّعَدِّي فِيهِ لَا يُخرجهُ من أَن يكون حجَّة كالنص وَالْجَوَاب عَن هَذَا الْكَلَام بِمَا هُوَ الْحجَّة لنا وَهُوَ أَن الْحجَج الشَّرْعِيَّة لَا بُد أَن تكون مُوجبَة علما أَو عملا وَالتَّعْلِيل بِالرَّأْيِ لَا يُوجب الْعلم بالِاتِّفَاقِ فَعرفنَا أَنه مُوجب للْعَمَل وَأَنه بِاعْتِبَارِهِ يصير حجَّة والموجب للْعَمَل مَا يكون مُتَعَدِّيا إِلَى الْفُرُوع لِأَن وجوب الْعَمَل بِالْعِلَّةِ إِنَّمَا يظْهر فِي الْفَرْع فَأَما الأَصْل فقد كَانَ مُوجبا للْعَمَل فِي الْمحل الَّذِي تنَاوله قبل التَّعْلِيل فَإِذا خلا عَن التَّعْلِيل لم يكن مُوجبا شَيْئا فَلَا يكون حجَّة شرعا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 فَإِن قيل وجوب الْعَمَل فِي الأَصْل بعد أَن التَّعْلِيل يصير مُضَافا إِلَى الْعلَّة كَمَا أَن فِي الْفَرْع بعد التَّعْدِيَة يصير وجوب الْعَمَل مُضَافا إِلَى الْعلَّة قُلْنَا هَذَا فَاسد لِأَن قبل التَّعْلِيل كَانَ وجوب الْعَمَل بِالنَّصِّ وَالتَّعْلِيل لَا يجوز على وَجه يكون مغيرا حكم الأَصْل فَكيف يجوز على وَجه يكون مُبْطلًا حكم الأَصْل وَهُوَ إِضَافَة وجوب الْعَمَل إِلَيْهِ أَلا ترى أَن وجوب الْعَمَل بِهِ لما كَانَ مُضَافا إِلَى النَّص قبل التَّعْلِيل بَقِي مُضَافا إِلَيْهِ بعد التَّعْلِيل وَبِه يتَبَيَّن أَن النَّص أقوى والضعيف لَا يظْهر فِي مُقَابلَة الْقوي فَيكون الحكم وَهُوَ وجوب الْعَمَل فِي الأَصْل مُضَافا إِلَى أقوى الحجتين وَهُوَ النَّص بعد التَّعْلِيل كَمَا كَانَ قبله واعتباره الأَصْل بالفرع فِي أَن الحكم فِيهِ يكون مُضَافا إِلَى الْعلَّة فِي نِهَايَة الْفساد لِأَن الْفَرْع يعْتَبر الأَصْل فَأَما الأَصْل لَا يعْتَبر بالفرع فِي معرفَة حكمه بِحَال فَإِن قيل مَعَ هَذَا التَّعْلِيل صَحِيح ليثبت بِهِ تَخْصِيص الأَصْل بذلك الحكم قُلْنَا وَهَذَا ثَابت قبل التَّعْلِيل بِالنَّصِّ ثمَّ تَعْلِيل الأَصْل بِوَصْف لَا يتَعَدَّى لَا يمْنَع تَعْلِيله بِوَصْف آخر يتَعَدَّى إِذا وجد فِيهِ مَا هُوَ شَرط الْعلَّة لِأَنَّهُ كَمَا يجوز أَن يجْتَمع فِي الأَصْل وصفان كل وَاحِد مِنْهُمَا يتَعَدَّى إِلَى فروع وَأَحَدهمَا أَكثر تَعديَة من الآخر يجوز أَن يجْتَمع وصفان يتَعَدَّى أَحدهمَا وَلَا يتَعَدَّى الآخر فَبِهَذَا تبين أَن هَذَا التَّعْلِيل لَا يُوجب تَخْصِيص الأَصْل أَيْضا وَكَيف يُقَال هَذَا وبالإجماع بَيْننَا وَبَينه انعدام الْعلَّة لَا يُوجب انعدام الحكم على مَا نبينه فِي بَابه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَإِنَّمَا يكون التَّعْلِيل بِمَا لَا يتَعَدَّى مُوجبا تَخْصِيص الأَصْل إِذا كَانَ الحكم يَنْعَدِم بانعدام الْعلَّة كَمَا يُوجد بوجودها وَمن هَذِه الْجُمْلَة تَعْلِيل الأَصْل لتعدية الحكم إِلَى مَوضِع مَنْصُوص فَإِن ذَلِك لَا يجوز عندنَا نَص عَلَيْهِ مُحَمَّد السّير الْكَبِير وَقَالَ النَّص الْوَارِد فِي هدي الْمُتْعَة لَا يجوز تَعْلِيله لتعدية حكم الصَّوْم فِيهِ إِلَى هدي الْإِحْصَار لِأَن ذَلِك مَنْصُوص عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يُقَاس بِالرَّأْيِ على الْمَنْصُوص وَلَا يُقَاس الْمَنْصُوص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 على الْمَنْصُوص وَالشَّافِعِيّ يجوز هَذَا التَّعْلِيل لإِثْبَات زِيَادَة فِي حكم النَّص الآخر بِالتَّعْلِيلِ وَلِهَذَا قَالَ يجوز تَعْلِيله على وَجه يُوجب زِيَادَة فِي حكم النَّص الآخر لَا على وَجه يُوجب مَا هُوَ خلاف حكم النَّص الآخر لِأَن وجوب الزِّيَادَة بِهِ إِذا كَانَ النَّص الآخر ساكتا عَنهُ يكون بَيَانا وَالْكَلَام وَإِن كَانَ ظَاهرا فَهُوَ يحْتَمل زِيَادَة الْبَيَان وَلكنه لَا يحْتَمل من الحكم مَا هُوَ خلاف مُوجبه وَالتَّعْلِيل ليحصل بِهِ زِيَادَة الْبَيَان فَلهَذَا جَوَّزنَا تَعْلِيل النَّص بِوَصْف يتَعَدَّى إِلَى مَا فِيهِ نَص آخر لإِثْبَات الزِّيَادَة فِيهِ وَلَكنَّا نقُول الحكم الثَّابِت بِالتَّعْلِيلِ فِي الْمحل الَّذِي فِيهِ نَص إِمَّا أَن يكون مُوَافقا للْحكم الثَّابِت فِيهِ بذلك النَّص أَو مُخَالفا لَهُ وَعند الْمُوَافقَة لَا يُفِيد هَذَا التَّعْلِيل شَيْئا لِأَن الحكم فِي ذَلِك الْموضع مُضَاف إِلَى النَّص الْوَارِد فِيهِ فَلَا يصير بتعليل نَص آخر مُضَافا إِلَى الْعلَّة كَمَا لَا يصير الحكم فِي النَّص الْمَعْلُول مُضَافا إِلَى الْعلَّة بعد التَّعْلِيل كَمَا قَررنَا وَإِن كَانَ مُخَالفا لَهُ فَهُوَ بَاطِل لِأَن التَّعْلِيل فِي مُعَارضَة النَّص أَو فِيمَا يبطل حكم النَّص بَاطِل بالِاتِّفَاقِ وَإِن كَانَ زَائِدا فِيهِ فَهُوَ مغير أَيْضا بِحكم ذَلِك النَّص لِأَن جَمِيع الحكم قبل التَّعْلِيل فِي ذَلِك الْموضع مَا أوجبه النَّص الْوَارِد فِيهِ وَبعد التَّعْلِيل يصير بعضه وَالْبَعْض غير الْكل فَعرفنَا أَنه لَا يَخْلُو هَذَا التَّعْلِيل من أَن يكون مغيرا حكم النَّص وَتبين بِهَذَا أَن الْكَلَام فِي هَذَا الْفَصْل بِنَاء على مَا قدمنَا أَن الزِّيَادَة على النَّص عندنَا بِمَنْزِلَة النّسخ فَكَمَا لَا يجوز إِثْبَات نسخ الْمَنْصُوص بِالتَّعْلِيلِ بِالرَّأْيِ فَكَذَلِك لَا يجوز إِثْبَات الزِّيَادَة فِيهِ ثمَّ بَيَان قَوْلنَا إِن شَرط التَّعْلِيل تَعديَة حكم النَّص بِعَيْنِه فِي مواضيع مِنْهَا أَنا لَا نجوز تَعْلِيل نَص الرِّبَا فِي الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة بالطعم لِأَن الحكم فِي النُّصُوص كلهَا إِثْبَات حُرْمَة متناهية بالتساوي وَصفَة الطّعْم توجب تَعديَة الحكم إِلَى محَال تكون الْحُرْمَة فِيهَا مُطلقَة غير متناهية وَهِي المطعومات الَّتِي لَا تدخل تَحت المعيار فَعرفنَا أَن هَذَا الْوَصْف لَا يُوجب تَعديَة حكم النَّص بِعَيْنِه إِذْ الْحُرْمَة المتناهية غير الْحُرْمَة المؤبدة أَلا ترى أَن الْحُرْمَة الثَّابِتَة بِالرّضَاعِ والمصاهرة غير الْحُرْمَة الثَّابِتَة بالتطليقات الثَّلَاث وَلِهَذَا قُلْنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 إِن النُّقُود لَا تتَعَيَّن فِي الْعُقُود بِالتَّعْيِينِ بِخِلَاف مَا يَقُوله الشَّافِعِي إِنَّهَا متعينة فِي الْملك وتعيينها فِي العقد مُفِيد فتتعين بِالتَّعْيِينِ كالسلع وَهَذَا لِأَن هَذَا التَّعْلِيل لَا يُوجب تَعديَة حكم الأَصْل بِعَيْنِه فَحكم البيع فِي السّلع وجوب الْملك بِهِ فِيهَا لَا وجودهَا فِي نَفسهَا وَلِهَذَا لَا بُد من قِيَامهَا فِي ملك البَائِع عِنْد العقد ليَصِح العقد وَحكم العقد فِي الثّمن وُجُوبهَا ووجودها بِالْعقدِ وَلِهَذَا لَا يشْتَرط قيام الثّمن فِي ملك المُشْتَرِي عِنْد العقد لصِحَّة العقد وَيجوز العقد بِدُونِ تَعْيِينه لَا على اعْتِبَار أَنه بِمَنْزِلَة السّلع وَلَكِن يسْقط اعْتِبَار وجوده بطرِيق الرُّخْصَة فَإِن هَذَا الحكم فِيمَا وَرَاء مَوضِع الرُّخْصَة ثَابت حَتَّى يجوز الِاسْتِبْدَال بِهِ قبل الْقَبْض وَلَا يجب جبر النَّقْص المتمكن فِيهِ عِنْد عدم التَّعْيِين بِذكر الْأَجَل وَلَا بِقَبض مَا يُقَابله فِي الْمجْلس بِخِلَاف السّلم فَعرفنَا أَن الحكم الْأَصْلِيّ فِي الثّمن مَا بَينا وَفِي التَّعْيِين تَغْيِير لذَلِك الحكم وَجعل مَا هُوَ الرُّكْن شرطا وَأي التَّغْيِير أبلغ من هَذَا فَتبين بِهَذَا أَنه لَيْسَ فِي هَذَا التَّعْلِيل تَعديَة حكم النَّص بِعَيْنِه بل إِثْبَات حكم آخر فِي الْفَرْع وَلِهَذَا قُلْنَا إِن إِظْهَار الذِّمِّيّ بَاطِل لِأَن حكم الظِّهَار فِي حق الْمُسلم أَنه يثبت بِهِ حُرْمَة متناهية بِالْكَفَّارَةِ فتعليل هَذَا الأَصْل بِمَا يُوجب تَعديَة الحكم إِلَى الذِّمِّيّ يكون بَاطِلا لِأَنَّهُ لَا يثبت بِهِ حكم الأَصْل بِعَيْنِه وَهُوَ الْحُرْمَة المتناهية فَإِن الذِّمِّيّ لَيْسَ من أهل الْكَفَّارَة مُطلقًا وَبَيَان قَوْلنَا إِلَى فرع هُوَ نَظِيره فِي فُصُول مِنْهَا مَا بَينا أَنه لَا يجوز تَعْلِيل النَّص الْوَارِد فِي النَّاسِي بالعذر ليتعدى الحكم بِهِ إِلَى الخاطىء وَالْمكْره لِأَن الْفَرْع لَيْسَ بنظير للْأَصْل فعذرهما دون عذر النَّاسِي فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود بالحكم لِأَن عذر الخاطىء لَا يَنْفَكّ عَن تَقْصِير من جِهَته بترك الْمُبَالغَة فِي التَّحَرُّز وَعذر الْمُكْره بِاعْتِبَار صنع هُوَ مُضَاف إِلَى الْعباد فَلَا تجوز تَعديَة الحكم للتَّعْلِيل إِلَى مَا لَيْسَ بنظير بِهِ وَكَذَلِكَ قُلْنَا شَرط النِّيَّة فِي التَّيَمُّم لَا يجوز تَعْلِيله بِأَنَّهُ طَهَارَة حكمِيَّة ليتعدى الحكم بِهِ إِلَى الْوضُوء فَإِن الْفَرْع لَيْسَ بنظير الأَصْل فِي كَونه طَهَارَة لِأَن التَّيَمُّم بِاعْتِبَار الأَصْل تلويث وَهُوَ لَا يكون رَافعا للْحَدَث بِيَقِين بِخِلَاف الطَّهَارَة بِالْمَاءِ وَلِهَذَا أَمْثِلَة كَثِيرَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 فَإِن قيل فقد أوجبتم الْكَفَّارَة بِالْأَكْلِ وَالشرب فِي رَمَضَان على طَرِيق تَعديَة حكم النَّص الْوَارِد فِي الْجِمَاع إِلَيْهِ مَعَ أَن الْأكل وَالشرب لَيْسَ بنظير للجماع لما فِي الْجِمَاع من الْجِنَايَة على مَحل الْفِعْل وَلِهَذَا يتَعَلَّق بِهِ الْحَد رجما فِي غير الْملك وَذَلِكَ لَا يُوجد فِي الْأكل وَالشرب وأثبتم حُرْمَة الْمُصَاهَرَة بِالزِّنَا بطرِيق تَعديَة الحكم من الْوَطْء الْحَلَال إِلَيْهِ وَهُوَ لَيْسَ بنظير لَهُ فَلِأَن الأَصْل حَلَال يثبت بِهِ النّسَب وَالزِّنَا حرَام لَا يثبت بِهِ النّسَب وَكَذَلِكَ أثبتم الْملك الَّذِي هُوَ حكم البيع بِالْغَصْبِ وَهُوَ لَيْسَ بنظير لَهُ فَالْبيع مَشْرُوع وَالْغَصْب عدوان مَحْض وَهُوَ ضد الْمَشْرُوع قُلْنَا أما فِي مَسْأَلَة الْكَفَّارَة فَنحْن مَا أَوجَبْنَا الْكَفَّارَة بطرِيق التَّعْلِيل بِالرَّأْيِ فَكيف يُقَال هَذَا وَمن أصلنَا أَن إِثْبَات الْكَفَّارَات بِالْقِيَاسِ لَا يجوز خُصُوصا فِي كَفَّارَة الْفطر فَإِنَّهَا تنْزع إِلَى الْعُقُوبَات كالحد وَلَكِن إِنَّمَا أَوجَبْنَا الْكَفَّارَة بِالنَّصِّ الْوَارِد بِلَفْظ الْفطر وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من أفطر فِي رَمَضَان فَعَلَيهِ مَا على الْمظَاهر ثمَّ قد بَينا أَنَّهُمَا نظيران فِي حكم الصَّوْم فَإِن ركن الصَّوْم هُوَ الْكَفّ عَن اقْتِضَاء الشهوتين وَوُجُوب الْكَفَّارَة بِاعْتِبَار الْجِنَايَة على الصَّوْم بتفويت رُكْنه على أبلغ الْوُجُوه لَا بِاعْتِبَار الْجِنَايَة على الْمحل وَفِي الْجِنَايَة على الصَّوْم هما سَوَاء وَوُجُوب الْكَفَّارَة بِاعْتِبَار الْفطر (المفوت) لركن الصَّوْم صُورَة وَمعنى وَالْجِمَاع آلَة لذَلِك كَالْأَكْلِ وَالشرب وَمَا هَذَا إِلَّا نَظِير إِيجَاب الْقصاص فِي الْقَتْل بِالسَّهْمِ وَالسيف فَإِن الْقصاص يجب بِالْقَتْلِ الْعمد وَالسيف آلَة لذَلِك الْفِعْل كالسهم فَلَا يكون ذَلِك بطرِيق تَعديَة الحكم من مَحل إِلَى مَحل إِنَّمَا التَّعْدِيَة فِيمَا قَالَه الْخصم إِن الْكَفَّارَة تجب بجماع الْميتَة والبهيمة وَعِنْدنَا هَذَا التَّعْلِيل بَاطِل لِأَن جماع الْميتَة والبهيمة لَيْسَ نَظِير جماع الْأَهْل فِي تَفْوِيت ركن الصَّوْم فَإِن فَوَات الرُّكْن معنى بِمَا تميل إِلَيْهِ الطباع السليمة لقصد قَضَاء الشَّهْوَة وَذَلِكَ يخْتَص بِمحل مشتهى وَفرج الْميتَة والبهيمة لَيْسَ بِهَذِهِ الصّفة فَكَانَ هَذَا تعليلا لتعدية الحكم إِلَى مَا لَيْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 بنظير للْأَصْل فَكَانَ بَاطِلا فَأَما مَسْأَلَة الزِّنَا فَالْأَصْل فِي ثُبُوت الْحُرْمَة لَيْسَ هُوَ الْوَطْء بِالْوَلَدِ الَّذِي يتخلق من الماءين إِذا اجْتمعَا فِي الرَّحِم لِأَنَّهُ من جملَة الْبشر لَهُ من الحرمات مَا لغيره من بني آدم ثمَّ تتعدى تِلْكَ الْحُرْمَة إِلَى الزَّوْجَيْنِ بِاعْتِبَار أَن انخلاق الْوَلَد كَانَ من مائهما فَيثبت معنى الِاتِّحَاد بَينهمَا بِوَاسِطَة الْوَلَد فَيصير أمهاتها وبناتها فِي الْحُرْمَة عَلَيْهِ كأمهاته وَبنَاته وَيصير آباؤه وأبناؤه فِي كَونهَا مُحرمَة عَلَيْهِم كآبائها وأبنائها ثمَّ يُقَام مَا هُوَ السَّبَب لِاجْتِمَاع الماءين فِي الرَّحِم وَهُوَ الْوَطْء مقَام حَقِيقَة الِاجْتِمَاع لإِثْبَات هَذِه الْحُرْمَة وَذَلِكَ بِوَطْء يخْتَص بِمحل الْحَرْث وَلَا مُعْتَبر بِصفة الْحل فِي هَذَا الْمَعْنى وَلَا أثر لحُرْمَة الْوَطْء فِي منع هَذَا الْمَعْنى الَّذِي لأَجله أقيم هَذَا السَّبَب مقَام مَا هُوَ الأَصْل فِي إِثْبَات الْحُرْمَة إِلَّا أَن إِقَامَة السَّبَب مقَام مَا هُوَ الأَصْل فِيمَا يكون مَبْنِيا على الِاحْتِيَاط وَهُوَ الْحُرْمَة وَالنّسب لَيْسَ بنظيره فِي معنى الِاحْتِيَاط فَلهَذَا لَا يُقَام الْوَطْء مُطلقًا مقَام مَا هُوَ الأَصْل حَقِيقَة فِي إِثْبَات النّسَب وَلَا يدْخل على هَذَا أَن هَذِه الْحُرْمَة لَا تتعدى إِلَى الْأَخَوَات والعمات على أَن يَجْعَل أخواتها كأخواته فِي حَقه لِأَن أصل الْحُرْمَة لَا يُمكن إثْبَاته بِالتَّعْلِيلِ بِالرَّأْيِ وَإِنَّمَا يثبت بِالنَّصِّ وَالنَّص مَا ورد بامتداد هَذِه الْحُرْمَة إِلَى الْأَخَوَات والعمات فتعدية الْحُرْمَة إِلَيْهِمَا تكون تغييرا لحكم النَّص وَقد بَينا أَن ذَلِك لَا يجوز بِالتَّعْلِيلِ وعَلى هَذَا فصل الْغَصْب فَإنَّا لَا نوجب الْملك بِهِ حكما للغصب كَمَا نوجبه بِالْبيعِ وَإِنَّمَا نثبت الْملك بِهِ شرطا للضَّمَان الَّذِي هُوَ حكم الْغَصْب وَذَلِكَ الضَّمَان حكم مَشْرُوع كَالْبيع وَكَون الأَصْل مَشْرُوعا يَقْتَضِي أَن يكون شَرطه مَشْرُوعا وَبَيَان قَوْلنَا وَلَا نَص فِيهِ فِي فُصُول مِنْهَا أَنا لَا نجوز القَوْل بِوُجُوب الْكَفَّارَة فِي الْقَتْل الْعمد بِالْقِيَاسِ على الْقَتْل الْخَطَأ لِأَنَّهُ تَعْلِيل الأَصْل لتعدية الحكم إِلَى فرع فِيهِ نَص على حِدة وَلَا نجوز القَوْل بِوُجُوب الدِّيَة فِي الْعمد الْمَحْض بِالْقِيَاسِ على الْخَطَأ لهَذَا الْمَعْنى وَلَا نوجب الْكَفَّارَة فِي الْيَمين الْغمُوس بِالْقِيَاسِ على الْيَمين المعقودة على أَمر فِي الْمُسْتَقْبل لهَذَا الْمَعْنى أَيْضا وَلَا نشترط صفة الْإِيمَان فِيمَن تصرف إِلَيْهِ الصَّدقَات سوى الزَّكَاة بِالْقِيَاسِ على الزَّكَاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 لما فِيهِ من تَعْلِيل الأَصْل لتعدية الحكم إِلَى مَا فِيهِ نَص آخر وَلَا نشترط الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الظِّهَار وَالْيَمِين بِالْقِيَاسِ على كَفَّارَة الْقَتْل لِأَن فِيهِ تَعْلِيل الأَصْل لتعدية الحكم بِهِ إِلَى مَحل فِيهِ نَص آخر وَفِيه تعرض لحكم النَّص الآخر بالتغيير فَإِن الْإِطْلَاق غير التَّقْيِيد وَبعد مَا ثبتَتْ الرَّقَبَة مُطلقًا فِي كَفَّارَة الْيَمين وَالظِّهَار فإثبات التَّقْيِيد فِيهِ بِالْإِيمَان يكون تغييرا كَمَا أَن إِثْبَات صفة الْإِطْلَاق فِي الْمُقَيد يكون تغييرا فَإِن الْحُرْمَة فِي الربائب لما تقيدت بِالدُّخُولِ كَانَ تَعْلِيل أُمَّهَات النِّسَاء لإِثْبَات صفة الْإِطْلَاق فِي حُرْمَة الربائب يكون تغييرا لَا يجوز الْمصير إِلَيْهِ بِالرَّأْيِ فَكَذَلِك إِثْبَات التَّقْيِيد فِيمَا كَانَ مُطلقًا بِالنَّصِّ وَبَيَان الْفَصْل الرَّابِع وَهُوَ مَا قُلْنَا إِن الشَّرْط أَن يبْقى حكم النَّص بعد التَّعْلِيل فِي الأَصْل على مَا كَانَ قبله فَلِأَنَّهُ لما ثَبت أَن التَّعْلِيل لَا يجوز أَن يكون مغيرا حكم النَّص فِي الْفُرُوع ثَبت بِالطَّرِيقِ الأولى أَنه لَا يجوز أَن يكون مغيرا حكم الأَصْل فِي نَفسه فَفِي كل مَوضِع لَا يبْقى الحكم فِي الْمَنْصُوص بعد التَّعْلِيل على مَا كَانَ قبله فَذَلِك التَّعْلِيل يكون بَاطِلا لكَونه مغيرا لحكم الأَصْل وَلِهَذَا لم نجوز التَّعْلِيل فِي قبُول شَهَادَة الْمَحْدُود فِي الْقَذْف بعد التَّوْبَة بِالْقِيَاسِ على الْمَحْدُود فِي سَائِر الجرائم بعلة أَنه مَحْدُود فِي كَبِيرَة لِأَن بعد هَذَا التَّعْلِيل لَا يبْقى حكم النَّص الْوَارِد فِيهِ على مَا كَانَ قبله فَإِن قيل هَذَا التَّعْلِيل يكون هُوَ سَاقِط الشَّهَادَة بِالنَّصِّ أبدا وَيكون ذَلِك متمما لحده وَبعد التَّعْلِيل يتَغَيَّر هَذَا الحكم فَإِن الْجلد قبل هَذَا التَّعْلِيل يكون بعض الْحَد فِي حَقه وَبعده يكون تَمام الْحَد فَيكون تغييرا على نَحْو مَا قُلْنَا فِي التَّغْرِيب إِن الْجلد إِذا لم يضم إِلَيْهِ التَّغْرِيب فِي زنا الْبكر يكون حدا كَامِلا وَإِذا ضم إِلَيْهِ التَّغْرِيب يكون بعض الْحَد وَكَذَلِكَ تَعْلِيل الشَّافِعِي فِي إبِْطَال شَهَادَته بِنَفس الْقَذْف بِالْقِيَاسِ على سَائِر الجرائم بَاطِل لِأَنَّهُ تَغْيِير للْحكم بِالنَّصِّ فَإِن مُدَّة الْعَجز عَن إِقَامَة أَرْبَعَة من الشُّهَدَاء بعد الْقَذْف ثَابت بِالنَّصِّ لإِقَامَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 الْجلد وَإِسْقَاط الشَّهَادَة فَكَانَ إثْبَاته بِنَفس الْقَذْف بِدُونِ اعْتِبَار تِلْكَ الْمدَّة بطرِيق التَّعْلِيل بَاطِلا لِأَن حكم النَّص لَا يبْقى بعد التَّعْلِيل على مَا كَانَ قبله وَكَذَلِكَ القَوْل بِسُقُوط شَهَادَة الْفَاسِق أصلا بِالْقِيَاسِ على الْمَحْدُود فِي الْقَذْف أَو على العَبْد وَالصَّبِيّ بَاطِل لِأَن الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ فِي حق الْفَاسِق التَّوَقُّف فِي شَهَادَته وَبعد تعْيين جِهَة الْبطلَان فِيهِ لَا يبْقى التَّوَقُّف فَحكم النَّص بعد هَذَا التَّعْلِيل لَا يبْقى على مَا كَانَ قبله وَكَذَلِكَ قُلْنَا الْفرْقَة بَين الزَّوْجَيْنِ لَا تقع بِلعان الزَّوْج لِأَن الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ اللّعان من الْجَانِبَيْنِ وَهِي شَهَادَات مُؤَكدَة بالأيمان وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُوجب الْفرْقَة بَينهمَا وَقد ثَبت بِالنَّصِّ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا وَذَلِكَ أَيْضا لَا يَقْتَضِي زَوَال الْملك بِهِ كَمَا بعد إِسْلَام الْمَرْأَة قبل إِسْلَام الزَّوْج فإثبات حكم الْفرْقَة بِقَذْف الزَّوْج عِنْد لِعَانه لَا يجوز بطرِيق التَّعْلِيل لِأَنَّهُ لَا يبْقى حكم النَّص بعد هَذَا التَّعْلِيل على مَا كَانَ قبله فَقبله الْمَذْكُور جَمِيع الحكم وَبعده يكون بعض الحكم إِلَّا أَن بعد مَا فرغا من اللّعان يتَحَقَّق فَوَات الْإِمْسَاك بِالْمَعْرُوفِ مَا داما مصرين على ذَلِك وَاسْتِحْقَاق الْفرْقَة عِنْد فَوَات الْإِمْسَاك بِالْمَعْرُوفِ يثبت مَوْقُوفا على قَضَاء القَاضِي بِهِ كَمَا بعد إِسْلَام أحد الزَّوْجَيْنِ إِذا أَبى الآخر الْإِسْلَام وَكَذَلِكَ قُلْنَا إِذا كذب الْملَاعن نَفسه وَضرب الْحَد جَازَ لَهُ أَن يَتَزَوَّجهَا لِأَن الثَّابِت بِالنَّصِّ أَن المتلاعنين لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا وَبعد الإكذاب لَا يكون متلاعنا بِدَلِيل أَنه يُقَام عَلَيْهِ حد الْقَذْف فَلَا يجْتَمع اللّعان وَالْحَد بِقَذْف وَاحِد فَمن ضَرُورَة القَوْل بِإِقَامَة الْحَد عَلَيْهِ أَن لَا يبْقى ملاعنا وَلِهَذَا لَو أكذب نَفسه قبل اللّعان فَإِنَّهُ يُقَام الْحَد عَلَيْهِ وَلَا يلاعنها فَإِذا خرج من أَن يكون ملاعنا بإكذابه نَفسه قُلْنَا إِن كَانَ قبل قَضَاء قَاضِي بالفرقة لم يفرق بَينهمَا وَإِن كَانَ بعد الْقَضَاء جَازَ لَهُ أَن يَتَزَوَّجهَا لأَنا لَو بَقينَا الْحُرْمَة بِالْقِيَاسِ على الْحُرْمَة الثَّابِتَة بِالرّضَاعِ والمصاهرة لم يبْق حكم النَّص بعد التَّعْلِيل على مَا كَانَ قبله فَإِن قبل التَّعْلِيل كَانَ الثَّابِت بِالنَّصِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 حُرْمَة الِاجْتِمَاع بَين المتلاعنين وَبعد التَّعْلِيل تكون حُرْمَة الِاجْتِمَاع بَين غير المتلاعنين فَإِن قيل فقد فَعلْتُمْ مَا أنكرتموه فِي فُصُول مِنْهَا أَن حكم نَص الرِّبَا الْمُسَاوَاة بَين الْقَلِيل وَالْكثير قبل التَّعْلِيل ثمَّ بعد التَّعْلِيل خصصتم الْقَلِيل من الْحِنْطَة فَلم يبْق حكم النَّص بعد التَّعْلِيل بِالْكَيْلِ فِي الْمَنْصُوص على مَا كَانَ قبله وَكَذَلِكَ الشَّاة بصورتها وَمَعْنَاهَا صَار مُسْتَحقّا للْفَقِير بِالنَّصِّ ثمَّ بِالتَّعْلِيلِ بالمالية أبطلتم حَقه عَن الصُّورَة فَلم يبْق حكم النَّص بعد التَّعْلِيل فِي الْمَنْصُوص على مَا كَانَ قبله وجوزتم هَذَا التَّعْلِيل لإبطال حق الْمُسْتَحق مَعَ أَنه لَا يجوز اسْتِعْمَال الْقيَاس فِي إبِْطَال حق الْمُسْتَحق عَن الصُّورَة أَو الْمَعْنى كَمَا فِي سَائِر حُقُوق الْعباد وَقد ثَبت بِالنَّصِّ حق الْأَصْنَاف فِي الصَّدقَات لوُجُود الْإِضَافَة إِلَيْهِم بلام التَّمْلِيك ثمَّ بِالتَّعْلِيلِ بِالْحَاجةِ غيرتم هَذَا الحكم فِي الْمَنْصُوص وجوزتم الصّرْف إِلَى صنف وَاحِد وَثَبت بِالنَّصِّ وجوب التَّكْفِير بإطعام عشرَة مَسَاكِين ثمَّ بِالتَّعْلِيلِ غيرتم هَذَا الحكم فِي الْمَنْصُوص فجوزتم الصّرْف إِلَى مِسْكين وَاحِد فِي عشرَة أَيَّام وبالنص ثَبت لُزُوم التَّكْبِير عِنْد الشُّرُوع فِي الصَّلَاة ثمَّ بِالتَّعْلِيلِ بالثناء وَذكر الله على سَبِيل التَّعْظِيم غيرتم هَذَا الحكم فِي الْمَنْصُوص حَتَّى جوزتم افْتِتَاح الصَّلَاة بِغَيْر لفظ التَّكْبِير وبالنص ثَبت وجوب اسْتِعْمَال المَاء لتطهير الثَّوْب عَن النَّجَاسَة ثمَّ غيرتم بِالتَّعْلِيلِ بِكَوْنِهِ مزيلا للعين والأثر هَذَا الحكم فِي الْمَنْصُوص حَتَّى جوزتم تَطْهِير الثَّوْب النَّجس بِاسْتِعْمَال سَائِر الْمَائِعَات سوى المَاء قُلْنَا أما الأول فَهُوَ دَعْوَى من غير تَأمل وَإِنَّا مَا خصصنا الْقَلِيل من الْبر إِلَّا بِالنَّصِّ فَإِن النَّص قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تَبِيعُوا الْبر بِالْبرِّ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء وَالْأَصْل فِي الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي أَن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ فِي معنى المستثني وعَلى هَذَا بنى عُلَمَاؤُنَا مسَائِل فِي الْجَامِع إِذا قَالَ إِن كَانَ فِي هَذِه الدَّار إِلَّا رجل فعبده حر فَإِذا فِي الدَّار سوى الرجل دَابَّة أَو ثوب لم يَحْنَث وَإِن كَانَ فِيهَا سوى الرجل امْرَأَة أَو صبي حنث وَلَو كَانَ قَالَ إِلَّا حمارا فَإِذا فِيهَا حَيَوَان آخر سوى الْحمار يَحْنَث وَإِن كَانَ فِيهَا ثوب سوى الْحمار لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 يَحْنَث وَإِن كَانَ قَالَ إِلَّا ثوب فَأَي شَيْء يكون فِي الدَّار سوى الثَّوْب مِمَّا هُوَ مَقْصُود بالإمساك فِي الدّور يَحْنَث فَعرفنَا أَن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ فِي معنى الْمُسْتَثْنى والمستثنى هُنَا حَال التَّسَاوِي فِي الْكَيْل واستثناء الْحَال من الْعين لَا يكون فَعرفنَا بِدلَالَة النَّص أَن الْمُسْتَثْنى من عُمُوم الْأَحْوَال حَال التَّسَاوِي وَحَال المجازفة وَحَالَة التَّفَاضُل وَهَذَا لَا يتَحَقَّق إِلَّا فِي الْكثير وَإِلَّا فِيمَا يكون مُقَدرا شرعا فَعرفنَا أَن اخْتِصَاص الْقَلِيل كَانَ بِدلَالَة النَّص وَأَنه كَانَ مصاحبا للتَّعْلِيل لَا أَن يكون ثَابتا بِالتَّعْلِيلِ وَأما الزَّكَاة فَنحْن لَا نبطل بِالتَّعْلِيلِ شَيْئا من الْحق الْمُسْتَحق لِأَنَّهُ تبين خطأ من يَقُول بِأَن الزَّكَاة حق الْفُقَرَاء مُسْتَحقَّة لَهُم شرعا بل الزَّكَاة مَحْض حق الله تَعَالَى فَإِنَّهَا عبَادَة مَحْضَة وَهِي من أَرْكَان الدّين وَهَذَا الْوَصْف لَا يَلِيق بِمَا هُوَ حق العَبْد وَمعنى الْعِبَادَة فِيهَا أَن الْمُؤَدِّي يَجْعَل ذَلِك الْقدر من مَاله خَالِصا لله تَعَالَى حَتَّى يكون مطهرا لنَفسِهِ وَمَاله ثمَّ يصرفهُ إِلَى الْفَقِير ليَكُون كِفَايَة لَهُ من الله تَعَالَى فَإِنَّهُ وعد الرزق لِعِبَادِهِ وَهُوَ لَا يخلف الميعاد وَمَعْلُوم أَن حاجات الْعباد تخْتَلف فَالْأَمْر بإنجاز المواعيد لَهُم من مَال مُسَمّى يتَضَمَّن الْإِذْن فِي الِاسْتِبْدَال ضَرُورَة ليَكُون المصروف إِلَى كل وَاحِد مِنْهُم عين الْمَوْعُود لَهُ بِمَنْزِلَة السُّلْطَان يُجِيز أولياءه بجوائز مُخْتَلفَة يَكْتُبهَا لَهُم ثمَّ يَأْمر وَاحِدًا بإيفاء ذَلِك كُله من مَال يُسَمِّيه بِعَيْنِه فَإِنَّهُ يكون ذَلِك إِذْنا لَهُ فِي الِاسْتِبْدَال ضَرُورَة وَالثَّابِت بضرورة النَّص كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ فَعرفنَا أَن ذَلِك كَانَ ثَابتا بِالنَّصِّ وَلكنه كَانَ مجامعا للتَّعْلِيل ثمَّ التَّعْلِيل بِحكم شَرْعِي لَا بِحَق مُسْتَحقّ لأحد فَإِن الْمُؤَدى بعد مَا صَار لله تَعَالَى بابتداء يَد الْفَقِير يكون كِفَايَة لَهُ من الله باستدامة الْيَد فِيهِ وَثَبت بِهَذَا النَّص كَونه محلا صَالحا لكفاية الْفَقِير وصلاحية الْمحل وَعدم صلاحيته حكم شَرْعِي كَالْخمرِ لَا يكون محلا صَالحا للْبيع والخل يكون محلا صَالحا لَهُ وَهَذِه الصلاحية تثبت بِالْأَمر بِالصرْفِ إِلَى الْفَقِير لِأَن بِاعْتِبَار كَونه مطهرا يصير من جملَة الأوساخ وَإِلَيْهِ أَشَارَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي قَوْله يَا معشر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 بني هَاشم إِن الله كره لكم غسالة أَيدي النَّاس وعوضكم مِنْهَا خمس الْخمس فَتبين أَنه بِمَنْزِلَة المَاء الْمُسْتَعْمل وَلِهَذَا كَانَ الحكم فِي شَرِيعَة من قبلنَا أَن الصَّدقَات المقبولة والقرابين كَانَت تأكلها النَّار وَلَا يجوز الِانْتِفَاع بهَا وَفِي شريعتنا لَا يحل شَيْء مِنْهَا للغني وَيحل للْفَقِير لِحَاجَتِهِ بِمَنْزِلَة حل الْميتَة عِنْد الضَّرُورَة فَعرفنَا أَن حكم النَّص صَلَاحِية الْمحل للصرف إِلَى كِفَايَة الْفَقِير وَبعد التَّعْلِيل تبقى هَذِه الصلاحية كَمَا كَانَت قبلهَا وَيَتَعَدَّى حكم الصلاحية إِلَى سَائِر الْمحَال كَمَا هُوَ حكم التَّعْلِيل فِي الْقيَاس الشَّرْعِيّ وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن اللَّام فِي قَوْله للْفُقَرَاء لَام الْعَاقِبَة أَي تصير لَهُم بِاعْتِبَار الْعَاقِبَة وَلَكِن بعد تَمام أَدَاء الصَّدقَات يَجْعَل المَال لله بابتداء التَّسْلِيم إِلَى الْفُقَرَاء أَو يكون المُرَاد بَيَان الْمصرف الَّذِي يكون المَال بقبضهم لله تَعَالَى خَالِصا هُوَ لَا بِمَنْزِلَة الْكَعْبَة فَإِن الْأَركان بِاعْتِبَار التَّوَجُّه إِلَيْهَا تصير صَلَاة لَا أَن تكون الصَّلَاة حَقًا للكعبة ثمَّ كل صنف من هَذِه الْأَصْنَاف جُزْء من المصارف بِمَنْزِلَة جُزْء من الْكَعْبَة واستقبال جُزْء مِنْهَا كاستقبال جَمِيعهَا فِي حكم الصَّلَاة وَهُوَ ثَابت بِالنَّصِّ لَا بِالتَّعْلِيلِ فَكَذَلِك الصّرْف إِلَى صنف لما فِيهِ من سد خلة الْمُحْتَاج بِمَنْزِلَة الصّرْف إِلَى الْأَصْنَاف لَا بطرِيق التَّعْلِيل وَحكم الْإِطْعَام كَذَلِك فَإِن حكم النَّص أَن الْمَسَاكِين الْعشْرَة مَحل لصرف طَعَام الْكَفَّارَة إِلَيْهِم وَهَذَا الحكم بَاقٍ فِي الْمَنْصُوص بعد التَّعْلِيل كَمَا قبله وَلَكِن ثَبت بِدلَالَة النَّص للتنصيص على صفة المسكنة فِي المصروف إِلَيْهِ أَن الْمَطْلُوب سد الْخلَّة وَعلم يَقِينا تجدّد الْحَاجة للمسكين بتجدد الْأَيَّام فَصَارَ بِدلَالَة النَّص مَا يَقع بِهِ التَّكْفِير سد عشر خلات وَهُوَ ثَابت بِالصرْفِ إِلَى مِسْكين وَاحِد فِي عشرَة أَيَّام كَمَا يثبت بِالصرْفِ إِلَى عشرَة مَسَاكِين وَأما التَّكْبِير فَلَا نقُول حكم النَّص وجوب التَّكْبِير بِعَيْنِه عِنْد الشُّرُوع فِي الصَّلَاة وَلَكِن الْوَاجِب التَّعْظِيم بِاللِّسَانِ لِأَن اللِّسَان من الْأَعْضَاء الظَّاهِرَة من وَجه وَالصَّلَاة تَعْظِيم الله تَعَالَى بِجَمِيعِ الْأَعْضَاء فَتعلق بِكُل عُضْو مَا يَلِيق بِهِ من التَّعْظِيم ثمَّ التَّعْظِيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 بِاللِّسَانِ يكون بالثناء وَالذكر فَكَانَ ذكر الله على سَبِيل التَّعْظِيم لتحقيق أَدَاء الْفِعْل الْمُتَعَلّق بِاللِّسَانِ وَلَا عمل لذَلِك الْفِعْل فِي تعْيين التَّكْبِير بل التَّكْبِير آلَة صَالِحَة لذَلِك وَقد بقيت بعد هَذَا التَّعْلِيل آلَة صَالِحَة لإِقَامَة هَذَا الْفِعْل بهَا كَمَا قبل التَّعْلِيل وَكَذَلِكَ غسل النَّجَاسَة بالمائعات فالمستحق لَيْسَ هُوَ الْغسْل بِعَيْنِه بل إِزَالَة النَّجَاسَة عَن الثَّوْب حَتَّى لَا يكون مُسْتَعْملا لَهَا عِنْد لبسه أَلا ترى أَنه لَو قطع مَوضِع النَّجَاسَة بالمقراض أَو ألْقى ذَلِك الثَّوْب أصلا لم يلْزمه الْغسْل ثمَّ المَاء آلَة صَالِحَة لإِزَالَة النَّجَاسَة بِاسْتِعْمَالِهِ وَبعد التَّعْلِيل يبْقى كَذَلِك آلَة صَالِحَة لإِزَالَة النَّجَاسَة لاستعماله وَحكم الْغسْل طَهَارَة الْمحل بِاعْتِبَار أَنه لم يبْق فِيهِ عين النَّجَاسَة وَلَا أَثَرهَا فَكل مَائِع ينعصر بالعصر فَهُوَ يعْمل عمل المَاء فِي الْمحل ثمَّ طَهَارَة الْمحل فِي الأَصْل وانعدام ثُبُوت صفة النَّجَاسَة فِي المزيل بابتداء ملاقاة النَّجَاسَة إِلَى أَن يزايل الثَّوْب بالعصر حكم شَرْعِي ثَبت بِالنَّصِّ وبالتعليل تعدى هَذَا الحكم إِلَى الْفُرُوع وَبَقِي فِي الأَصْل على مَا كَانَ قبل التَّعْلِيل وَلَا يدْخل على هَذَا التَّطْهِير من الْحَدث بِسَائِر الْمَائِعَات سوى المَاء لِأَن عمل المَاء فِي إِزَالَة عين عَن الْمحل الَّذِي يلاقيه أَو فِي إِثْبَات صفة الطَّهَارَة للمحل بِوَاسِطَة الْإِزَالَة وَلَيْسَ فِي أَعْضَاء الْمُحدث عين تَزُول بِاسْتِعْمَال المَاء فَإِن أعضاءه طَاهِرَة وَإِنَّمَا فِيهَا مَانع حكمي من أَدَاء الصَّلَاة غير مَعْقُول الْمَعْنى وَقد ثَبت بِالنَّصِّ رفع ذَلِك الْمَانِع بِالْمَاءِ وَهُوَ غير مَعْقُول الْمَعْنى وَقد بَينا أَن مثل هَذَا الحكم لَا يُمكن تَعْلِيله للتعدية إِلَى مَحل آخر وَلَا يدْخل على هَذَا الْجَواب تَصْحِيح الْوضُوء بِغَيْر النِّيَّة كَغسْل النَّجَاسَة لِأَن الَّذِي لَا يعقل الْمَعْنى فِيهِ مَا هُوَ مزال عَن الْمحل عِنْد اسْتِعْمَال المَاء فَأَما المَاء فِي كَونه مزيلا إِذا اسْتعْمل فِي الْمحل مَعْقُول الْمَعْنى فَلَا حَاجَة إِلَى اشْتِرَاط النِّيَّة لحُصُول الْإِزَالَة بِهِ كَمَا فِي غسل النَّجَاسَات فَعلم أَن هَذِه الْحُدُود إِنَّمَا يقف الْمَرْء عَلَيْهَا عِنْد التَّأَمُّل عَن إنصاف وَأما بَيَان الْقسم الْخَامِس فَفِيمَا قَالَه عُلَمَاؤُنَا إِنَّه لَا يجوز قِيَاس السبَاع سوى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 الْخمس المؤذيات على الْخمس بطرِيق التَّعْلِيل فِي إِبَاحَة قَتلهَا للْمحرمِ وَفِي الْحرم لِأَن فِي النَّص قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام خمس يقتلن فِي الْحل وَالْحرم وَإِذا تعدى الحكم إِلَى مَحل آخر يكون أَكثر من خمس فَكَانَ فِي هَذَا التَّعْلِيل إبِْطَال لفظ من أَلْفَاظ النَّص بِخِلَاف حكم الرِّبَا فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لم يقل الرِّبَا فِي سِتَّة أَشْيَاء وَلَكِن ذكر حكم الرِّبَا فِي أَشْيَاء فَلَا يكون فِي تَعْلِيل ذَلِك النَّص إبِْطَال شَيْء من أَلْفَاظ النَّص وَمن هَذَا النَّوْع تَعْلِيل الشَّافِعِي حكم الرِّبَا فِي الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة بالطعم فَإِن فِي النَّص قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْفضل رَبًّا أَي الْفضل حرَام يفْسد بِهِ العقد لِأَنَّهُ رَبًّا وَالتَّعْلِيل بالطعم يبطل كَون الْفضل رَبًّا لِأَنَّهُ يَقُول بعلة الطّعْم فَسَاد البيع فِي هَذِه الْأَمْوَال أصل إِلَى أَن يُوجد المخلص وَهُوَ الْمُسَاوَاة فِي المعيار الشَّرْعِيّ فَيكون هَذَا إبطالا لبَعض أَلْفَاظ النَّص وَمن ذَلِك تَعْلِيله لرد شَهَادَة الْقَاذِف للفسق الثَّابِت بِالْقَذْفِ فَإِنَّهُ إبِْطَال لبَعض أَلْفَاظ النَّص وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أبدا} فَإِن رد الشَّهَادَة بِاعْتِبَار الْفسق لَا يتأبد فَكيف يتأبد وَسَببه وَهُوَ الْفسق بِعرْض أَن يَنْعَدِم بِالتَّوْبَةِ فَكَانَ هَذَا تعليلا بَاطِلا لتَضَمّنه إبِْطَال لفظ من أَلْفَاظ النَّص وَمن جملَة مَا لَا يكون اسْتِعْمَال الْقيَاس فِيهِ طَرِيقا لمعْرِفَة الحكم النّذر بِصَوْم يَوْم النَّحْر وَأَدَاء الظّهْر يَوْم الْجُمُعَة فِي الْمصر بِغَيْر عذر قبل أَدَاء النَّاس الْجُمُعَة وَفَسَاد العقد لسَبَب الرِّبَا فَإِن الْكَلَام فِي هَذِه الْفُصُول فِي مُوجب النَّهْي وَأَن عمله بِأَيّ قدر يكون وَالنَّهْي أحد أَقسَام الْكَلَام كالأمر فَيكون طَرِيق مَعْرفَته مُوجبَة عِنْد الْإِطْلَاق التَّأَمُّل فِي مَعَاني كَلَام أهل اللِّسَان دون الْقيَاس الشَّرْعِيّ وَمن ذَلِك الْكَلَام فِي الْملك الثَّابِت للزَّوْج على الْمَرْأَة بِالنِّكَاحِ أَنه فِي حكم ملك الْعين أَو فِي حكم ملك الْمَنْفَعَة فَإِنَّهُ لَا مدْخل للْقِيَاس الشَّرْعِيّ فِيهِ لِأَن بعد النِّكَاح نَفسهَا وأعضاؤها ومنافعها مَمْلُوكَة لَهَا فِيمَا سوى الْمُسْتَوْفى مِنْهَا بِالْوَطْءِ على مَا كَانَ قبل النِّكَاح فإثبات ملك عَلَيْهَا بِدُونِ تمكن الْإِشَارَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 إِلَى شَيْء من عينهَا أَنه مَمْلُوك عَلَيْهَا يكون حكما ثَابتا بِخِلَاف الْقيَاس وَقد بَينا أَن مثل هَذَا لَا يقبل التَّعْلِيل وَأَنه ملك ضَرُورِيّ ظهر شرعا لتحَقّق الْحَاجة إِلَى تَحْصِيل السكن والنسل بِمَنْزِلَة حل الْميتَة عِنْد الضَّرُورَة فَلَا يقبل التَّعْلِيل وَلِأَن التَّعْلِيل إِنَّمَا يجوز بِشَرْط أَن يكون الْفَرْع نَظِير الأَصْل فِي الحكم الَّذِي يَقع التَّعْلِيل لَهُ وَلَا نَظِير لملك النِّكَاح من سَائِر أَنْوَاع الْملك لِأَن سَائِر أَنْوَاع الْملك يثبت فِي مَحل مَخْلُوق ليَكُون مَمْلُوكا للآدمي وَهَذَا الْملك فِي الأَصْل يثبت على حرَّة هِيَ مخلوقة لتَكون مالكة وَأي مباينة فَوق الْمَالِكِيَّة والمملوكية فَإِذا ثَبت أَنه لَا نَظِير لهَذَا الْملك من سَائِر الْأَمْلَاك ثَبت أَنه لَا يُمكن الْمصير إِلَى التَّعْلِيل فِيهِ لمعْرِفَة صفته وَمن ذَلِك الْكَلَام فِي مُوجب الْأَلْفَاظ حَتَّى يصير فِي الرَّهْن أَنه يَد الِاسْتِيفَاء حَقًا للْمُرْتَهن بِمَنْزِلَة الْيَد الَّتِي تثبت فِي الْمحل بِحَقِيقَة الِاسْتِيفَاء أم حق البيع فِي الدّين ثمَّ الْيَد شَرط لتتميم السَّبَب كَمَا فِي الْهِبَة الْيَد شَرط لتتميم السَّبَب وَالْحكم ثُبُوت الْملك فِي الْمحل بطرِيق الْعلَّة فَهَذَا مِمَّا لَا يُمكن إثْبَاته (فِي الْقيَاس) بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيّ لِأَن أَحْكَام الْعُقُود مُخْتَلفَة شرعا ووضعا وَبِاعْتِبَار الِاخْتِلَاف يعلم أَنه لَيْسَ بَعْضهَا نظيرا للْبَعْض وَمن شَرط صِحَة التَّعْلِيل أَن يكون الْفَرْع نظيرا للْأَصْل بل طَرِيق معرفَة حكم الرَّهْن التَّأَمُّل فِيمَا لأَجله وضع هَذَا العقد وَشرع فَنَقُول إِنَّه مَشْرُوع ليَكُون وَثِيقَة لجَانب الِاسْتِيفَاء لَا مؤكدا للْوُجُوب أَلا ترى أَنه يخْتَص بِالْمَالِ الَّذِي هُوَ مَحل للاستيفاء فَأَما مَحل الْوُجُوب فالذمة وَإِذا كَانَ وَثِيقَة لجَانب الِاسْتِيفَاء علم أَن مُوجبه من جنس مَا يثبت بِحَقِيقَة الِاسْتِيفَاء وَالثَّابِت بِحَقِيقَة الِاسْتِيفَاء ملك الْعين وَملك الْيَد ثمَّ بِالرَّهْنِ لَا يثبت ملك الْعين فَعرفنَا أَن مُوجبه ملك يَد الِاسْتِيفَاء بِمَنْزِلَة الْكفَالَة فَإِنَّهَا وَثِيقَة لجَانب الْوُجُوب وَلِهَذَا اخْتصّت بِالذِّمةِ ثمَّ كَانَ مُوجبهَا من جنس مَا يثبت بِحَقِيقَة الْوُجُوب وَهُوَ ملك الْمُطَالبَة لِأَن الثَّابِت بِالْحَقِيقَةِ ملك أصل الدّين فِي ذمَّة من يجب عَلَيْهِ وَثُبُوت حق الْمُطَالبَة بِالْأَدَاءِ فالثابت بالوثيقة الَّتِي هِيَ لجَانب الْوُجُوب من جنسه وَهُوَ حق الْمُطَالبَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 حَتَّى يملك مُطَالبَة الْكَفِيل بِالدّينِ مَعَ بَقَاء أَصله فِي ذمَّة الْمَدْيُون وَمن ذَلِك الْكَلَام فِي الْمُعْتَدَّة بعد الْبَيْنُونَة أَنه هَل يَقع عَلَيْهَا الطَّلَاق فَإِن تَعْلِيل الْخصم بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا ملك مُتْعَة وَلَا رَجْعَة لَا يلْحقهَا طَلَاقه كمنقضية الْعدة تَعْلِيل بَاطِل لِأَن الْخلاف فِي أَن الْعدة الَّتِي هِيَ حق من حُقُوق النِّكَاح هَل تكون بِمَنْزِلَة أصل النِّكَاح فِي بَقَائِهَا محلا لوُقُوع الطَّلَاق عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِهِ أم لَا وَفِي منقضية (الْعدة) لَا عدَّة فَفِي أَي وَجه يَسْتَقِيم هَذَا التَّعْلِيل ليثبت بِهِ هَذَا الحكم للخصم وَكَذَلِكَ هَذَا التَّعْلِيل فِي نِكَاح الْأُخْت فِي عدَّة الْأُخْت بعد الْبَيْنُونَة من الْخصم بَاطِل لِأَن الْكَلَام فِي أَن الْعدة الَّتِي هِيَ حق النِّكَاح هَل تقوم مقَام النِّكَاح فِي بَقَاء الْمَنْع الثَّابِت بِسَبَب النِّكَاح أم لَا وَفِي منقضية الْعدة لَا عدَّة وَهَذَا لِأَن النَّافِي يُنكر أَن يكون الحكم مَشْرُوعا وَمَا لَيْسَ بمشروع كَيفَ يُمكن إثْبَاته بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيّ وَمن هَذَا النَّوْع تَعْلِيله فِي إِسْلَام الْمَرْوِيّ فِي الْمَرْوِيّ لِأَن العقد جمع بدلين لَا يجْرِي فيهمَا رَبًّا الْفضل فَكَانَ بِمَنْزِلَة الْهَرَوِيّ مَعَ الْمَرْوِيّ لِأَن الْكَلَام فِي أَن الْجِنْس هَل هُوَ عِلّة لتَحْرِيم النِّسَاء وَفِي الْهَرَوِيّ مَعَ الْمَرْوِيّ لَا جنس وَبِهَذَا تبين أَن حجَّة الْمُدَّعِي الْمُثبت غير حجَّة الْمُنكر النَّافِي وَمن هَذَا النَّوْع الْكَلَام فِيمَا إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق تَطْلِيقَة بَائِنَة أَن الرّجْعَة تَنْقَطِع بِهَذَا اللَّفْظ أم لَا فَإِن تَعْلِيل الْخصم بِأَنَّهُ مَا اعتاض عَن طَلاقهَا يكون تعليلا بَاطِلا لِأَن الْكَلَام فِي أَن صفة الْبَيْنُونَة هَل هِيَ مَمْلُوكَة للزَّوْج بِالنِّكَاحِ كأصل الطَّلَاق أم لَا فالخصم يُنكر كَون ذَلِك مَمْلُوكا لَهُ وَنحن نقُول إِن ذَلِك مَمْلُوك لَهُ وَإِنَّمَا لم يثبت بِصَرِيح لفظ الطَّلَاق لَا لِأَنَّهُ غير مَمْلُوك لَهُ بل لِأَنَّهُ سَاكِت عَن هَذِه الصّفة فَإِن وصفهَا بِالطَّلَاق يُجَامع النِّكَاح ابْتِدَاء وَبَقَاء فَإِنَّمَا طَرِيق معرفَة هَذَا الحكم التَّأَمُّل فِي مَوْضُوع هَذَا الْملك وَفِيمَا صَار لَهُ أصل الطَّلَاق مَمْلُوكا لَهُ فَإِذا ثَبت بِاعْتِبَارِهِ أَن الْوَصْف مَمْلُوك لَهُ كَانَ التَّصْرِيح بِهِ بذلك الْوَصْف عملا وَعند عدم التَّصْرِيح بِهِ لَا يثبت لِأَن سَببه لم يُوجد كَمَا لَا يثبت أصل الطَّلَاق إِذا لم يُوجد مِنْهُ التَّكَلُّم بِلَفْظ الطَّلَاق أَو بِلَفْظ آخر قَائِما مقَامه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 وَمن هَذَا النَّوْع تَعْلِيل الْخصم فِي عقد الْإِجَارَة أَنَّهَا توجب ملك الْبَدَل فِي الْحَال بِالْقِيَاسِ على عقد البيع فَإِن شَرط صِحَة الْقيَاس أَن يكون الأَصْل وَالْفرع نظيرين وَفِي بَاب البيع مَا هُوَ الْمَعْقُود عَلَيْهِ قَائِم مَمْلُوك فِي الْحَال وَفِي الْإِجَارَة مَا هُوَ الْمَعْقُود عَلَيْهِ مَعْدُوم غير مَمْلُوك عِنْد العقد فَعلم أَنَّهُمَا متغايران وَإِذا لم يكن أَحدهمَا نظيرا للْآخر فِي الحكم الَّذِي وَقع التَّعْلِيل لأَجله لَا يَسْتَقِيم تَعديَة الحكم من أَحدهمَا إِلَى الآخر بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيّ وَمن نوع مَا بدأنا بِهِ هَذَا الْفَصْل قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للأعرابي فِي حَدِيث كَفَّارَة الْفطر كلهَا أَنْت وَعِيَالك فَإِن من النَّاس من اشْتغل بتعليل ذَلِك لتعدية الحكم إِلَى غير الْأَعرَابِي فيتطرق بِهِ (إِلَى) القَوْل بانتساخ حكم الْكَفَّارَة وَذَلِكَ لَا يجوز عندنَا لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام خص الْأَعرَابِي بِصِحَّة التَّكْفِير مِنْهُ بِالصرْفِ إِلَى نَفسه وَعِيَاله وَكَانَ ذَلِك بطرِيق الْإِكْرَام لَهُ وَقد بَينا أَن مثل هَذَا لَا يقبل التَّعْلِيل وَالله تعال أعلم فصل فِي الرُّكْن ركن الْقيَاس هُوَ الْوَصْف الَّذِي جعل علما على حكم الْعين مَعَ النَّص من بَين الْأَوْصَاف الَّتِي يشْتَمل عَلَيْهَا اسْم النَّص وَيكون الْفَرْع بِهِ نظيرا للْأَصْل فِي الحكم الثَّابِت بِاعْتِبَارِهِ فِي الْفَرْع لِأَن ركن الشَّيْء مَا يقوم بِهِ ذَلِك الشَّيْء وَإِنَّمَا يقوم الْقيَاس بِهَذَا الْوَصْف ثمَّ هَذَا الْوَصْف قد يكون لَازِما للْأَصْل وَذَلِكَ نَحْو إِيجَاب الزَّكَاة عندنَا فِي الْحلِيّ بِاعْتِبَار صفة الثمنية فِي الأَصْل وَعند الْخصم إِثْبَات حكم الرِّبَا فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة بعلة الثمنية والثمنية صفة لَازِمَة لهذين الجوهرين فَإِنَّهُمَا خلقا جوهري الْأَثْمَان لَا يفارقهما هَذَا الْوَصْف بِحَال وَقد يكون عارضا أَو اسْما نَحْو قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام للمستحاضة فِي بَيَان عِلّة نقض الطَّهَارَة إِنَّه دم عرق انفجر وَالدَّم اسْم علم والانفجار صفة عارضة مِثَاله تَعْلِيل عُلَمَائِنَا نَص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 الرِّبَا بِالْكَيْلِ وَالْوَزْن فَإِن ذَلِك وصف عَارض يخْتَلف باخْتلَاف عادات النَّاس فِي الْأَمَاكِن والأوقات وَقد يكون حكما نَحْو قَول رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام للخثعمية أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين فقضيته الحَدِيث فَإِن الدّين عبارَة عَن الْوُجُوب فِي الذِّمَّة وَذَلِكَ حكم قد بَين لَهَا حكما بالاستدلال بِحكم آخر وَذَلِكَ دَلِيل جَوَاز التَّعْلِيل بالحكم وَقد يكون هَذَا الْوَصْف فَردا وَقد يكون مثنى وَقد يكون عددا فالفرد نَحْو تَعْلِيل رَبًّا النِّسَاء بِوَصْف وَاحِد وَهُوَ الْجِنْس أَو الْكَيْل أَو الْوَزْن عِنْد اتِّحَاد الْمَعْنى والمثنى نَحْو عِلّة (حُرْمَة) التَّفَاضُل فَإِنَّهُ الْقدر مَعَ الْجِنْس وَالْعدَد نَحْو تعليلنا فِي نَجَاسَة سُؤْر السبَاع بِأَنَّهُ حَيَوَان محرم الْأكل لَا للكرامة وَلَا بلوى فِي سؤره وَإِنَّمَا يكون الْعدَد من الْأَوْصَاف عِلّة إِذا كَانَت لَا تعْمل حَتَّى يَنْضَم بَعْضهَا إِلَى بعض فَإِن كل وصف يعْمل فِي الحكم بِانْفِرَادِهِ فَإِنَّهُ لَا يكون التَّعْلِيل بالأوصاف كلهَا وَقد يكون ذَلِك الْوَصْف فِي النَّص وَقد يكون فِي غَيره أما مَا يكون فِي النَّص فَغير مُشكل فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُعلل النَّص وَالتَّعْلِيل بِوَصْف فِيهِ يكون صَحِيحا لَا محَالة وَأما مَا يكون فِي غَيره فنحو مَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام نهى عَن بيع مَا لَيْسَ عِنْد الْإِنْسَان وَرخّص فِي السّلم فَإِن هَذِه الرُّخْصَة معلولة بإعدام الْعَاقِد وَذَلِكَ لَيْسَ فِي النَّص وَنهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الْآبِق وَعَن بيع الْغرَر وَهُوَ مَعْلُول يعجز البَائِع عَن تَسْلِيم الْمَبِيع أَو جَهَالَة فِي الْمَبِيع فِي نَفسه على وَجه يُفْضِي إِلَى الْمُنَازعَة وَهَذَا لَيْسَ فِي النَّص قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا تنْكح الْأمة على الْحرَّة ثمَّ علل الشَّافِعِي هَذِه الْحُرْمَة بإرقاق الْحر جُزْءا مِنْهُ وَهُوَ الْوَلَد مَعَ غنيته عَنهُ وَهَذَا لَيْسَ فِي النَّص وَلَكِن ذكر البيع يَقْتَضِي بَائِعا وَذكر السّلم يَقْتَضِي عاقدا وَذكر النِّكَاح يَقْتَضِي ناكحا وَمَا يثبت بِمُقْتَضى النَّص فَهُوَ كالمنصوص وَكَذَلِكَ عللنا نَحن نهي رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام عَن صَوْم يَوْم النَّحْر بعلة رد الضِّيَافَة الَّتِي للنَّاس فِي هَذَا الْيَوْم من الله تَعَالَى بالقرابين وَذَلِكَ لَيْسَ فِي النَّص وكل نهي جَاءَ لَا لِمَعْنى فِي عين الْمنْهِي عَنهُ فَهُوَ من هَذَا النَّوْع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 وَمن التَّعْلِيل بالحكم مَا يَقُوله عُلَمَاؤُنَا فِي بيع الْمُدبر (إِنَّه تعلق عتقه بِمُطلق الْمَوْت فَإِن التَّعَلُّق حكم ثَابت بِالتَّعْلِيقِ فَيكون ذَلِك اسْتِدْلَالا) بِحكم على حكم وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا كُله لِأَن الدَّلِيل الَّذِي يثبت بِهِ كَون الْوَصْف حجَّة فِي الحكم قد ثَبت بِالدَّلِيلِ أَنه عِلّة الحكم شرعا ثمَّ لَا خلاف أَن جَمِيع الْأَوْصَاف الَّتِي يشْتَمل عَلَيْهَا اسْم النَّص لَا تكون عِلّة لِأَن جَمِيع الْأَوْصَاف لَا تُوجد إِلَّا فِي الْمَنْصُوص وَالْحكم فِي الْمَنْصُوص ثَابت بِالنَّصِّ لَا بِالْعِلَّةِ وَلَا خلاف أَن كل وصف من أَوْصَاف الْمَنْصُوص لَا يكون عِلّة للْحكم بل الْعلَّة للْحكم بَعْضهَا فَإِن الْحِنْطَة تشْتَمل على أَوْصَاف فَإِنَّهَا مكيلة موزونة مطعومة مقتات مدخر حب شَيْء جسم وَلَا يَقُول أحد إِن كل وصف من هَذِه الْأَوْصَاف عِلّة لحكم الرِّبَا فِيهَا بل الْعلَّة أحد هَذِه الْأَوْصَاف وَاتَّفَقُوا أَنه لَا يتَخَيَّر الْمُعَلل حَتَّى يَجْعَل أَي هَذِه الْأَوْصَاف شاغلة من غير دَلِيل لِأَن دَعْوَاهُ لوصف من بَين الْأَوْصَاف أَنه عِلّة بِمَنْزِلَة دَعْوَاهُ الحكم أَنه كَذَا فَكَمَا لَا يسمع مِنْهُ دَعْوَى الحكم إِلَّا بِدَلِيل فَكَذَلِك لَا تسمع مِنْهُ الدَّعْوَى فِي وصف أَنه هُوَ الْعلَّة إِلَّا بِدَلِيل ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي الدَّلِيل الَّذِي بِهِ يكون الْوَصْف عِلّة للْحكم قَالَ أهل الطَّرْد هُوَ الاطراد فَقَط من غير أَن يعْتَبر فِيهِ معنى مَعْقُول وَتَفْسِير الاطراد عِنْد بَعضهم وجود الحكم عِنْد وجود ذَلِك الْوَصْف وَعند بَعضهم يشْتَرط أَن يُوجد الحكم عِنْد وجوده وينعدم عِنْد عَدمه وَأَن يكون الْمَنْصُوص عَلَيْهِ قَائِما فِي الْحَالين وَلَا حكم لَهُ وَعند بَعضهم يعْتَبر الدوران وجودا وعدما فَأَما قيام الحكم فِي الْمَنْصُوص (عَلَيْهِ فِي الْحَالين) وَلَا حكم لَهُ فَهُوَ مُفسد للْقِيَاس لَا أَن يكون مصححا لَهُ وَقَالَ جُمْهُور الْفُقَهَاء انعدام الحكم عِنْد عدم الْعلَّة لَا يكون دَلِيل صِحَة الْعلَّة وَوُجُود الحكم عِنْد عدم الْعلَّة لَا يكون دَلِيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 فَسَاد الْعلَّة وَلَكِن دَلِيل صِحَة الْعلَّة أَن يكون الْوَصْف صَالحا للْحكم ثمَّ يكون معدلا بِمَنْزِلَة الشَّاهِد فَإِنَّهُ لَا بُد من أَن يكون صَالحا للشَّهَادَة لوُجُود مَا بِهِ يعْتَبر أَهلا للشَّهَادَة فِيهِ ثمَّ يكون معدلا بِظُهُور عَدَالَته عِنْد التَّعْدِيل ثمَّ يَأْتِي بِلَفْظ الشَّهَادَة من بَين سَائِر الْأَلْفَاظ حَتَّى تصير شَهَادَته مُوجبَة الْعَمَل بهَا ثمَّ لَا خلاف بَيْننَا وَبَين الشَّافِعِي رَحمَه الله أَن صفة الصلاحية لِلْعِلَّةِ بالملاءمة وَمَعْنَاهَا أَن تكون مُوَافقَة الْعِلَل المنقولة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن الصَّحَابَة غير نائية عَن طريقهم فِي التَّعْلِيل لِأَن الْكَلَام فِي الْعلَّة الشَّرْعِيَّة وَالْمَقْصُود إِثْبَات حكم الشَّرْع بهَا فَلَا تكون صَالِحَة إِلَّا أَن تكون مُوَافقَة لما نقل عَن الَّذين بنيانهم عرف أَحْكَام الشَّرْع ثمَّ الْخلاف وَرَاء ذَلِك فِي الْعَدَالَة فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا عَدَالَة الْعلَّة تعرف بأثرها وَمَتى كَانَت مُؤثرَة فِي الحكم الْمُعَلل فَهِيَ عِلّة عادلة وَإِن كَانَ يجوز الْعَمَل بهَا قبل ظُهُور التَّأْثِير وَلَكِن إِنَّمَا يجب الْعَمَل بهَا إِذا علم تأثيرها وَلَا يجوز الْعَمَل بهَا عِنْد عدم الصلاحية بالملاءمة بِمَنْزِلَة الشَّهَادَة فَإِن الشَّاهِد قبل أَن تثبت الصلاحية للشَّهَادَة فِيهِ لَا يجوز الْعَمَل بِشَهَادَتِهِ وَبعد ظُهُور الصلاحية قبل الْعلم بِالْعَدَالَةِ كالمستور لَا يجب الْعَمَل بِشَهَادَتِهِ وَلَكِن يجوز الْعَمَل حَتَّى إِن قضى القَاضِي بِشَهَادَة المستور قبل أَن تظهر عَدَالَته يكون نَافِذا وَقَالَ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي عَدَالَة الْوَصْف بِكَوْنِهِ مخيلا أَي موقعا فِي الْقلب خيال الصِّحَّة لِلْعِلَّةِ ثمَّ الْعرض على الْأُصُول بعد ذَلِك احْتِيَاط وَقَالَ بَعضهم بل الْعَدَالَة بِالْعرضِ على الْأُصُول فَإِذا لم يُعَارضهُ أصل من الْأُصُول لَا ناقضا وَلَا مُعَارضا فَحِينَئِذٍ يصير معدلا وَأدنى مَا يَكْفِي لذَلِك أصلان بِمَنْزِلَة عَدَالَة الشَّاهِد فَإِن معرفَة ذَلِك بِعرْض حَالهم على المزكين وَأدنى مَا يَكْفِي لذَلِك عِنْده اثْنَان فعلى قَول هَذَا الْفَرِيق من أَصْحَابه لَا يجوز الْعَمَل بِهِ وَإِن كَانَ مخيلا قبل الْعرض على الْأُصُول وعَلى قَول الْفَرِيق الأول يجوز الْعَمَل بِهِ لِأَنَّهُ صَار معدلا بِكَوْنِهِ مخيلا ثمَّ الْعرض على الْأُصُول احْتِيَاط والنقض جرح والمعارضة دفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 أما أهل الطَّرْد احْتَجُّوا بالظواهر الْمُوجبَة للْعَمَل بِالْقِيَاسِ فَإِنَّهَا لَا تخص عِلّة دون عِلّة فَيَقْتَضِي الظَّاهِر جَوَاز الْعَمَل بِكُل وصف وَالتَّعْلِيل بِهِ إِلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيل وَأَن كل وصف يُوجد الحكم عِنْد وجوده فَإِنَّهُ وصف صَالح لِأَن يكون عِلّة وَهَذَا لِأَن علل الشَّرْع أَمَارَات للْأَحْكَام وَلَيْسَت على نهج الْعِلَل الْعَقْلِيَّة وأمارة الشَّيْء مَا يكون مَوْجُودا عِنْد وجوده وكما يجوز إِثْبَات أَحْكَام الشَّرْع بِعَين النَّص من غير أَن يعقل فِيهِ الْمَعْنى على أَن يَجْعَل اسْم النَّص أَمارَة ذَلِك الحكم يجوز إِثْبَات الحكم بِوَصْف ثَابت باسم النَّص من غير أَن يعقل فِيهِ الْمَعْنى على أَن يكون ذَلِك الْوَصْف عِلّة للْحكم فَإِن للشَّرْع ولَايَة شرع الْأَحْكَام كَيفَ يَشَاء فَفِي اشْتِرَاط كَون الْمَعْنى معقولا فِيمَا هُوَ أَمارَة حكم الشَّرْع إِثْبَات نوع حجر لَا يجوز القَوْل بِهِ أصلا والفريق الثَّانِي مِنْهُم استدلوا بِمثل هَذَا الْكَلَام وَلَكنهُمْ قَالُوا الْعلَّة مَا يتَغَيَّر بِهِ حكم الْحَال على مَا نبينه فِي مَوْضِعه وَوُجُود الحكم مَعَ وجود الْوَصْف قد يكون اتِّفَاقًا وَقد يكون لكَونه عِلّة لَا تتَعَيَّن جِهَة كَونه مغيرا إِلَّا بانعدام الحكم عِنْد عَدمه فبه يتَبَيَّن أَنه لم يكن اتِّفَاقًا ثمَّ الحكم الثَّابِت بِالْعِلَّةِ إِذا كَانَ بِحَيْثُ يحْتَمل الرّفْع لَا يبْقى بعد انعدام الْعلَّة كَالْحكمِ الثَّابِت بِالْبيعِ وَهُوَ الْملك لَا يبْقى بعد فسخ البيع وَرَفعه وَاشْتِرَاط قيام الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْحَالين وَلَا حكم لَهُ ليعلم بِهِ أَن ثُبُوت الحكم بِوُجُود علته لَا بِصُورَة النَّص وَذَلِكَ نَحْو آيَة الْوضُوء فَفِي النَّص ذكر الْقيام إِلَى الصَّلَاة وَالْعلَّة الْمُوجبَة للطَّهَارَة الْحَدث فَإِن الحكم يَدُور مَعَ الْحَدث وجودا وعدما وَالْمَنْصُوص عَلَيْهِ وَهُوَ الْقيام إِلَى الصَّلَاة قَائِم فِي الْحَالين وَلَا حكم لَهُ وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام لَا يقْضِي القَاضِي حِين يقْضِي وَهُوَ غَضْبَان فِيهِ تنصيص على الْغَضَب وَالْعلَّة فِيهِ شغل الْقلب حَتَّى دَار الحكم مَعَه وجودا وعدما وَالْمَنْصُوص عَلَيْهِ قَائِم فِي الْحَالين وَلَا حكم لَهُ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام الْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ مثلا بِمثل ثمَّ الْعلَّة الْمُوجبَة للْحُرْمَة وَالْفساد الْفضل على الْكَيْل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 لِأَن الحكم يَدُور مَعَه وجودا وعدما وَالْمَنْصُوص عَلَيْهِ وَهُوَ (الْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ) قَائِم فِي الْحَالين وَلَا حكم لَهُ وَجَوَاب أهل الْفِقْه عَن هَذِه الْكَلِمَات ظَاهر فَإِن الظَّوَاهِر الدَّالَّة على جَوَاز الْعَمَل بِالْقِيَاسِ بالِاتِّفَاقِ لَا تدل على أَن كل وصف من أَوْصَاف الأَصْل صَالح لِأَن يكون عِلّة فَإِنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لتحير الْمُعَلل وارتفع معنى الِابْتِلَاء بِطَلَب الحكم فِي الْحَوَادِث أصلا وَإِذا اتفقنا على أَن دلَالَة هَذِه النُّصُوص لوصف من بَين أَوْصَاف الأَصْل قد ابتلينا بِطَلَبِهِ حِين أمرنَا بِالِاعْتِبَارِ فَلَا بُد من أَن يكون فِي ذَلِك الْوَصْف معنى مَعْقُول يُمكن التَّمْيِيز بِهِ بَينه وَبَين سَائِر الْأَوْصَاف ليوقف عَلَيْهِ وَمَا هَذَا إِلَّا نَظِير النُّصُوص المثبتة لصفة الشَّهَادَة لهَذِهِ الْأمة فَإِن ذَلِك لَا يمْنَع القَوْل باختصاص الصلاحية بِبَعْض الْأَوْصَاف واختصاص الْأَدَاء بِلَفْظ الشَّهَادَة من بَين سَائِر الْأَلْفَاظ وَهَذَا لِأَن أَوْصَاف النَّص تعلم بالحس أَو السماع وَذَلِكَ يشْتَرك فِيهِ أهل اللُّغَة وَغَيرهم مِمَّن لَهُ حاسة صَحِيحَة مَعَ الْفُقَهَاء ثمَّ التَّعْلِيل بِالْقِيَاسِ لإِثْبَات الحكم قد اخْتصَّ بِهِ الْفُقَهَاء فَعرفنَا أَن اختصاصهم بذلك لم يكن إِلَّا لِمَعْنى مَعْقُول فِي الْوَصْف الَّذِي هُوَ عِلّة لَا يُمكن الْوُقُوف عَلَيْهِ إِلَّا بِالتَّأَمُّلِ من طَرِيق الْفِقْه وَقَوله علل الشَّرْع أَمَارَات قُلْنَا هِيَ أَمَارَات من حَيْثُ إِنَّهَا غير مُوجبَة بذواتها وَلكنهَا مُوجبَة للْحكم بِجعْل الشَّرْع إِيَّاهَا مُوجبَة الْعَمَل بهَا وَمَعْلُوم أَنه لَا يُمكن الْعَمَل بهَا إِلَّا بعد معرفَة عينهَا وَطَرِيق ذَلِك التَّعْيِين بِالنَّصِّ أَو الاستنباط بِالرَّأْيِ وَقد انْعَدم التَّعْيِين بِالنَّصِّ وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ الاستنباط بِالرَّأْيِ إِذا لم يكن الحكم مَعْقُول الْمَعْنى لِأَن الْعقل طَرِيق يدْرك بِهِ مَا يعقل كَمَا أَن الْحس طَرِيق يدْرك بِهِ مَا يحس دون مَا لَا يحس وَلَيْسَ هَذَا نَظِير الْأَحْكَام الثَّابِتَة بِالنَّصِّ غير مَعْقُول الْمَعْنى لِأَن النَّص مُوجب بِنَفسِهِ فَإِنَّهُ كَلَام من يثبت علم الْيَقِين بقوله وَقد حصل التَّعْيِين بِالنَّصِّ هُنَاكَ فكونه غير مَعْقُول الْمَعْنى لَا يعجزنا عَن الْعَمَل بِهِ فَأَما التَّعْلِيل بِبَعْض الْأَوْصَاف فَهُوَ غير مُوجب بِنَفسِهِ وَإِنَّمَا يجب الْعَمَل بِهِ بطرِيق أَنه إِعْمَال الرَّأْي ليتوصل بِهِ إِلَى الْحجَّة فِي حكم شَرْعِي وَمَا لم يكن مَعْقُول الْمَعْنى لَا يَتَأَتَّى إِعْمَال الرَّأْي فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 ثمَّ الدَّلِيل على أَن الدوران لَا يصلح أَن يكون عِلّة أَن الحكم كَمَا يَدُور مَعَ الْعلَّة وجودا وعدما يَدُور مَعَ الشَّرْط وجودا وعدما فَإِن من قَالَ لعَبْدِهِ إِن دخلت الدَّار فَأَنت حر فالعتق بِهَذَا الْكَلَام يَدُور مَعَ الدُّخُول وجودا وعدما وَأحد لَا يَقُول دُخُول الدَّار عِلّة الْعتْق بل هُوَ شَرط الْعتْق فَإِن قيل الأَصْل دوران الحكم مَعَ الْعلَّة وجودا وعدما فَأَما الشَّرْط عَارض لَا يكون إِلَّا بعد تَعْلِيق الحكم بِهِ نصا قُلْنَا فَأَيْنَ ذهب قَوْلك إِن علل الشَّرْع أَمَارَات فَإِنَّهُ لَا يفهم من ذَلِك اللَّفْظ إِلَّا أَن الشَّرْع جعلهَا أَمارَة للْحكم بِأَن علق الحكم بهَا وَأي فرق بَين تَعْلِيق حكم الْعتْق من الْمولى بِدُخُول الدَّار شرطا وَبَين التَّعْلِيق الثَّابِت شرعا ثمَّ هُنَاكَ دوران الحكم بِمُجَرَّدِهِ لَا يدل على كَونه عِلّة فَهُنَا كَذَلِك ثمَّ هَب كَانَ الأَصْل هُوَ دوران الحكم مَعَ الْعلَّة وَلَكِن مَعَ هَذَا احْتِمَال الدوران مَعَ الشَّرْط قَائِم وبالاحتمال لَا تثبت الْعلَّة فَأَما اشْتِرَاط قيام الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْحَالين وَلَا حكم لَهُ فقد جعل ذَلِك بَعضهم مُفْسِدا للْقِيَاس بِاعْتِبَار مَا ذكرنَا أَن شَرط صِحَة التَّعْلِيل هُوَ أَن يبْقى الحكم فِي الْمَنْصُوص عَلَيْهِ بعد التَّعْلِيل على مَا كَانَ قبله فَإِذا جعل التَّعْلِيل على وَجه لَا يبْقى للنَّص حكم بعده يكون ذَلِك آيَة فَسَاد الْقيَاس لَا دَلِيل صِحَّته فَأَما من شَرط ذَلِك مستدلا بِمَا ذكرنَا فَالْجَوَاب عَن كَلَامه أَن هَذَا وهم ابْتُلِيَ بِهِ لقلَّة تَأمله لِأَن الْمَقْصُود بِالتَّعْلِيلِ تَعديَة حكم النَّص إِلَى مَحل لَا نَص فِيهِ فَكيف يجوز أَن لَا يبْقى للنَّص حكم بعد التَّعْلِيل وَإِذا لم يبْق لَهُ حكم فالتعدية بعد التَّعْلِيل فِي أَي شَيْء يكون فَأَما آيَة الْوضُوء فَنحْن لَا نقُول إِن الْحَدث عِلّة لوُجُوب الْوضُوء وَلَكِن من شَرط الْقيام لأَدَاء الصَّلَاة الطَّهَارَة عَن الْحَدث فَكَانَ تَقْدِير الْآيَة إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة وَأَنْتُم محدثون وَلَكِن سقط ذكر الْحَدث للإيجاز والاختصار على مَا هُوَ عَادَة أهل اللِّسَان فِي إِسْقَاط بعض الْأَلْفَاظ إيجازا إِذا كَانَ فِي الْبَاقِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 دَلِيل عَلَيْهِ فَفِي الْمَذْكُور هُنَا دَلِيل على الْمَحْذُوف وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن يُرِيد ليطهركم} {وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} وَقَوله تَعَالَى عِنْد ذكر الْبَدَل {أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط} وَقد علم أَن الْبَدَل إِنَّمَا يجب عِنْد عدم الأَصْل بِمَا يجب بِهِ الأَصْل فَظهر أَنا إِنَّمَا جعلنَا الْحَدث شرطا لوُجُوب الْوضُوء عِنْد الْقيام إِلَى الصَّلَاة بِدلَالَة النَّص لَا بطرِيق التَّعْلِيل والاستنباط بِالرَّأْيِ وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا يقْضِي القَاضِي حِين يقْضِي وَهُوَ غَضْبَان إِنَّمَا عرفنَا أَن المُرَاد النَّهْي عَن الْقَضَاء عِنْد شغل الْقلب لمخافة الْغَلَط بِدَلِيل الْإِجْمَاع لَا بطرِيق الاستنباط بِالرَّأْيِ وَالْإِجْمَاع حجَّة سوى الرَّأْي فَإِن التَّعْلِيل بِالرَّأْيِ يكون بعد الْإِجْمَاع بالِاتِّفَاقِ وَكَيف يَسْتَقِيم أَن لَا يكون للنَّص حكم بعد التَّعْلِيل وَالشَّرْع مَا جعل التَّعْلِيل بِالرَّأْيِ إِلَّا بعد النَّص وَإِلَّا لإِثْبَات الحكم فِيمَا لَا نَص فِيهِ وَبَيَان هَذَا فِي حَدِيث معَاذ حِين قَالَ لَهُ (كَيفَ تقضي) وَحَدِيث نَص الرِّبَا هَكَذَا فَإِن الْمُسَاوَاة فِي الْكَيْل إِنَّمَا عَرفْنَاهُ بِالنَّصِّ لَا بِالرَّأْيِ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي بعض الرِّوَايَات مَكَان قَوْله (مثل بِمثل) (كيل بكيل) أَو بِالْإِجْمَاع فقد اتَّفقُوا أَنه لَيْسَ المُرَاد من قَوْله (مثل بِمثل) إِلَّا الْمُمَاثلَة فِي الْكَيْل وَكَذَلِكَ (فِي) قَوْله (إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء) اتِّفَاق أَن المُرَاد الْمُسَاوَاة فِي الْكَيْل فَعرفنَا أَن من قَالَ فِي هَذِه الْمَوَاضِع بِأَن الحكم دَار مَعَ الْعلَّة وجودا وعدما وَالْمَنْصُوص عَلَيْهِ قَائِم فِي الْحَالين وَلَا حكم لَهُ فَهُوَ مخطىء غير متأمل فِي مورد النَّص وَلَا فِيمَا هُوَ طَرِيق التَّعْلِيل فِي الْفِقْه ثمَّ الدَّلِيل على أَن انعدام الحكم عِنْد عدم الْوَصْف لَا يكون دَلِيل صِحَة الْعلَّة مَا ذكرنَا من الشَّرْط وَلِأَن ثُبُوت الحكم لما كَانَ بورود الشَّرْع بِهِ فانعدام الحكم عِنْد انعدام الْعلَّة الْمُوجبَة شرعا يكون بِالْعدمِ الَّذِي هُوَ أصل فِيهِ لَا أَن يكون مُضَافا إِلَى الْعلَّة حَتَّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 يكون دَلِيل صِحَة الْعلَّة وَالدَّلِيل على أَن وجود الحكم عِنْد عدم الْعلَّة لَا يكون دَلِيل فَسَاد الْعلَّة اتِّفَاق الْكل على أَن الحكم يجوز أَن يكون ثَابتا فِي مَحل بعلل ثمَّ بانعدام بَعْضهَا لَا يمْتَنع بَقَاء الحكم بِالْبَعْضِ الَّذِي هُوَ بَاقٍ كَمَا لَا يمْتَنع ثُبُوت الحكم ابتدا بِتِلْكَ الْعلَّة وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَنه لَا بُد من القَوْل بِأَنَّهُ لَا يَنْعَدِم الحكم إِلَّا بانعدام جَمِيع الْعِلَل الَّتِي كَانَ الحكم ثَابتا بِكُل وَاحِد مِنْهَا فَعرفنَا أَن وجود الحكم عِنْد عدم الْعلَّة لَا يكون دَلِيل فَسَادهَا وَفَسَاد القَوْل بِأَن دَلِيل صِحَة الْعلَّة دوران الحكم مَعَه وجودا وعدما كالمتفق عَلَيْهِ فَإِن القائسين اتَّفقُوا أَن عِلّة الرِّبَا أحد أَوْصَاف الأَصْل وَادّعى كل وَاحِد مِنْهُم أَن الصَّحِيح مَا ذهب إِلَيْهِ وَمَعْلُوم أَن كل قَائِل يُمكنهُ أَن يسْتَدلّ على صِحَة علته بدوران الحكم مَعَه وجودا وعدما وَكَذَلِكَ لَو قَالَ إِن الْعلَّة فِي تَكْفِير المستحل للخمر معنى الشدَّة والمرارة كَانَ ذَلِك فَاسِدا بالِاتِّفَاقِ فَإِن أحدا لَا يَقُول بتكفير مستحل سَائِر الْأَشْرِبَة مَعَ وجود الشدَّة والمرارة ثمَّ هَذَا الْقَائِل يتَمَكَّن من تَصْحِيح قَوْله بدوران الحكم مَعَه وجودا وعدما فَإِن الْعصير قبل أَن يتخمر لَا يكفر مستحله وَبعد التخمر يكفر مستحله لوُجُود الشدَّة والمرارة ثمَّ بعد التَّحَلُّل لَا يكفر مستحله لِانْعِدَامِ الشدَّة والمرارة إِلَّا أَن يَقُول بتخصيصه وَقد قَامَت الدّلَالَة على فَسَاد القَوْل بتخصيص الْعِلَل الشَّرْعِيَّة على مَا نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَيفْسد بِهِ أَيْضا القَوْل بتخصيص مَا هُوَ دَلِيل صِحَة الْعلَّة لِأَن ذَلِك حجَّة شَرْعِيَّة ثَابِتَة بطرِيق الرَّأْي فَإِن قيل مثل هَذَا يلْزم الْقَائِلين بِأَن دَلِيل صِحَة الْعلَّة الْأَثر فَإِن الحكم يَدُور مَعَ الْعلَّة المأثورة وجودا وعدما عِنْد من لَا يجوز تَخْصِيص الْعلَّة وَهُوَ الصَّحِيح قُلْنَا نعم وَلَكِن لَا نجْعَل الدوران دَلِيل صِحَة الْعلَّة وَإِنَّمَا نجْعَل كَونه مؤثرا فِي الْأُصُول دَلِيل صِحَة الْعلَّة وَلَا يتَحَقَّق معنى دوران الحكم مَعَ هَذَا الْأَثر فِي جَمِيع الْأُصُول فَأَما دوران الحكم مَعَ الْعلَّة وجودا وعدما يكون اتِّفَاقًا فَأَما الَّذين قَالُوا من أَصْحَاب الشَّافِعِي بِأَن الْأَثر الَّذِي هُوَ دَلِيل صِحَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 الْعلَّة أَن يكون مخيلا حجتهم أَن هَذَا الْأَثر مِمَّا لَا يحس بطرِيق الْحس وَلكنه يعقل فَيكون طَرِيق الْوُقُوف عَلَيْهِ تحكيم الْقلب حَتَّى إِذا تخايل فِي الْقلب بِهِ أثر الْقبُول وَالصِّحَّة كَانَ ذَلِك حجَّة للْعَمَل بِهِ بِمَنْزِلَة التَّحَرِّي فِي بَاب الْقبْلَة عِنْد انْقِطَاع سَائِر الْأَدِلَّة فَإِن تحكيم الْقلب فِيهِ جَائِز وَيجب الْعَمَل بِمَا يَقع فِي قلب من ابْتُلِيَ بِهِ من أَنه جِهَة الْكَعْبَة وَعَلِيهِ دلّ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لوابصة بن معبد رَضِي الله عَنهُ ضع يدك على صدرك واستفت قَلْبك فَمَا حك فِي صدرك فَدَعْهُ وَإِن أَفْتَاك النَّاس بِهِ فَعرفنَا أَن الْعَدَالَة تحصل بِصفة الإخالة ثمَّ الْعرض على الْأُصُول بعد ذَلِك احْتِيَاط وَالْعَمَل بِهِ قبله جَائِز بِمَنْزِلَة مَا لَو كَانَ الشَّاهِد مَعْلُوم الْعَدَالَة عِنْد القَاضِي فَإِن الْعَمَل بِشَهَادَتِهِ جَائِز لَهُ وَالْعرض على المزكين بعد ذَلِك نوع احْتِيَاط فَإِن لم يعجل وَرجع إِلَى المزكين فَهُوَ احْتِيَاط أَخذ بِهِ لجَوَاز أَن يظْهر لَهُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِم مَا لم يكن مَعْلُوما لَهُ قَالَ وَهَذَا بِخِلَاف شَهَادَة الشَّاهِد فَإِن بِصفة الصلاحية هُنَاكَ لَا تثبت الْعَدَالَة لِأَن الشَّاهِد مبتلى بِالْأَمر وَالنَّهْي وَهُوَ أَمِين فِيمَا اؤتمن من حُقُوق الشَّرْع ويتوهم مِنْهُ أَدَاء الْأَمَانَة فَيكون عدلا بِهِ والخيانة فَلَا يكون عدلا مَعَه وَإِذا لم يكن أَدَاء الْأَمَانَة مِنْهُ مَعْلُوم القَاضِي لَا يصير عدلا عِنْده مَا لم يعرض حَاله على المزكين فَأَما الْوَصْف الَّذِي هُوَ عِلّة بَعْدَمَا علم صفة الصلاحية فِيهِ تصير عَدَالَته مَعْلُومَة إِذْ لَيْسَ فِيهِ توهم الْخِيَانَة فَلهَذَا كَانَ الْعرض على الْأُصُول هُنَا احْتِيَاطًا فَإِن سلم عَمَّا يناقضه ويعارضه بِكَوْنِهِ مطردا فِي الْأُصُول فَحكم وجوب الْعَمَل بِهِ يزْدَاد وكادة وَإِن ورد عَلَيْهِ نقض فَذَلِك النَّقْض جرح بِمَنْزِلَة الشَّاهِد الَّذِي هُوَ مَعْلُوم الْعَدَالَة إِذا ظهر فِيهِ طعن من بعض المزكين فَإِن ذَلِك يكون جرحا فِي عَدَالَته إِلَّا أَن يتَبَيَّن لَهُ أَنه لم يكن عدلا والمعارضة دفع بِمَنْزِلَة شَاهد آخر يشْهد بِخِلَاف مَا شهد بِهِ الْعدْل وَأما الْفَرِيق الثَّانِي فَإِنَّهُم قَالُوا كَونه مخيلا أَمر بَاطِن لَا يُمكن إثْبَاته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 على الْخصم وَمَا لم تثبت صفة الْعَدَالَة بِمَا يكون حجَّة على الْخصم لَا يُمكن إِلْزَام الْخصم بِهِ وأثبتنا صفة الْعَدَالَة فِيهِ بِمَا أثبتنا صفة الصلاحية وَهُوَ الملاءمة فَإِن ذَلِك يكون بِالْعرضِ على الْعِلَل المنقولة عَن السّلف حَتَّى إِذا علم الْمُوَافقَة كَانَ صَالحا وَبعد صفة الصلاحية يحْتَمل أَن لَا يكون حجَّة لِأَن الْعِلَل الشَّرْعِيَّة لَا توجب الحكم بذواتها فَلَا بُد من إِثْبَات صفة الْعَدَالَة فِيهِ بِالْعرضِ على الْأُصُول حَتَّى إِذا كَانَ مطردا سالما عَن النقوض والمعارضات فَحِينَئِذٍ تثبت عَدَالَته من قبل أَن الْأُصُول شَهَادَة لله على أَحْكَامه كَمَا كَانَ الرَّسُول فِي حَال حَيَاته فَيكون الْعرض على الْأُصُول وَامْتِنَاع الْأُصُول من رده بِمَنْزِلَة الْعرض على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَيَاته وسكوته عَن الرَّد وَذَلِكَ دَلِيل عَدَالَته بِاعْتِبَار أَن السُّكُوت بعد تحقق الْحَاجة إِلَى الْبَيَان لَا يحل فَعرفنَا أَن بِالْعرضِ على الْأُصُول تثبت الْعَدَالَة كَمَا أَن عَدَالَة الشَّاهِد تثبت بِعرْض حَاله على المزكين وَالْفرق الثَّانِي الَّذِي قَالُوا لَيْسَ بِقَوي فَإِن بعد ثُبُوت صفة الصلاحية للشَّاهِد إِنَّمَا بَقِي احْتِمَال الْكَذِب فِي أَدَائِهِ وَهنا بعد ثُبُوت صفة الصلاحية بَقِي الِاحْتِمَال فِي أَصله أَن الشَّرْع جعله عِلّة للْحكم أم لَا فَإِنَّهُ إِن ورد عَلَيْهِ نقض أَو مُعَارضَة يتَبَيَّن بِهِ أَن الشَّرْع مَا جعله عِلّة للْحكم لِأَن المناقضة اللَّازِمَة لَا تكون فِي الْحجَج الشَّرْعِيَّة قَالَ الله تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} وَكَذَلِكَ الْمُعَارضَة اللَّازِمَة لَا تكون فِي الْحجَج الشَّرْعِيَّة فَإِذا كَانَ هُنَاكَ مَعَ بَقَاء الِاحْتِمَال فِي الْوَصْف لَا يكون حجَّة للْعَمَل بِهِ فَهُنَا مَعَ بَقَاء الِاحْتِمَال فِي الأَصْل لِأَن لَا يكون حجَّة كَانَ أولى وكما أَن طَرِيق رفع ذَلِك الِاحْتِمَال هُنَاكَ الْعرض على المزكين والأدنى فِيهِ اثْنَان فالطريق هُنَا الْعرض على الْأُصُول وَأدنى ذَلِك أصلان إِذْ لَا نِهَايَة للأعلى وَفِي الْوُقُوف على ذَلِك حرج بَين وَبِهَذَا التَّقْرِير يتَبَيَّن أَن الْعرض على جَمِيع الْأُصُول لَيْسَ بِشَرْط عِنْده كَمَا ذهب إِلَيْهِ بعض شُيُوخنَا استقصى فِي الْعرض فالخصم يَقُول وَرَاء هَذَا أصل آخر (هُوَ) معَارض أَو نَاقض لما يَدعِيهِ فَلَا يجد بدا من أَن يَقُول لم يقم عِنْدِي دَلِيل النَّقْض والمعارضة وَمثل هَذَا لَا يصلح حجَّة لإلزام الْخصم على مَا نبينه فِي بَابه قَالُوا وَالَّذِي يُحَقّق مَا ذكرنَا أَن المعجزة الَّتِي أوجبت علم الْيَقِين كَانَ طَرِيق ثُبُوتهَا السَّلامَة عَن النقوض والمعارضات كَمَا قَالَ تَعَالَى {قل لَئِن اجْتمعت} وشيوخه فَإِن من شَرط ذَلِك لم يجد بدا من الْعَمَل بِلَا دَلِيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 لِأَنَّهُ وَإِن {الْإِنْس وَالْجِنّ على أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن لَا يأْتونَ بِمثلِهِ} قَالَ تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن طَرِيق إِثْبَات الْحجَّة لما لَا نحس هَذَا وَأما عُلَمَاؤُنَا إِنَّهُم يَقُولُونَ حاجتنا إِلَى إِثْبَات دَلِيل الْحجَّة فِيمَا لَا يحس وَلَا يعاين وَطَرِيق ذَلِك أَثَره الَّذِي ظهر فِي مَوضِع من الْمَوَاضِع أَلا ترى أَن الطَّرِيق فِي معرفَة عَدَالَة الشَّاهِد هَذَا وَهُوَ أَن ينظر إِلَى أثر دينه فِي مَنعه عَن ارْتِكَاب مَا يعْتَقد فِيهِ الْحُرْمَة فَإِذا ظهر أثر ذَلِك فِي سَائِر الْمَوَاضِع يتَرَجَّح جَانب الصدْق فِي شَهَادَته بطرِيق الِاسْتِدْلَال بالأثر وَهُوَ أَن الظَّاهِر أَنه ينزجر عَن شَهَادَة الزُّور لاعْتِقَاده الْحُرْمَة فِيهِ وَكَذَلِكَ الدّلَالَة على إِثْبَات الصَّانِع تكون بآثار صَنعته بطرِيق الْوَصْف وَالْبَيَان على وَجه مجمع عَلَيْهِ كَمَا نبينه فِي مَوْضِعه وَكَذَلِكَ فِي المحسوسات كالجرح وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّهُ يسْتَدلّ عَلَيْهِ بأثره حسا وَالِاسْتِدْلَال بالمحسوس لغير المحسوس يكون بالأثر أَيْضا فَتبين أَن مَا بِهِ يصير الْوَصْف حجَّة بعد الصلاحية بالملاءمة على مَا قَرَّرَهُ الْخصم وَهُوَ ظُهُور أَثَره فِي الْأُصُول فَأَما الإخالة فَهُوَ عبارَة عَن مُجَرّد الظَّن إِذْ الخيال وَالظَّن وَاحِد وَالظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا وَأحسن الْعبارَات فِيهِ أَن يَجْعَل بِمَنْزِلَة الإلهام وَهُوَ لَا يصلح للإلزام على الْغَيْر على مَا نبينه ثمَّ هَذَا شَيْء فِي الْبَاطِن لَا يطلع عَلَيْهِ غير صَاحبه وَمثله لَا يكون حجَّة على الْغَيْر كالتحري الَّذِي اسْتشْهد بِهِ فَإِن مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ تحري الْوَاحِد لَا يكون حجَّة على أَصْحَابه حَتَّى لَا يلْزمهُم اتِّبَاعه فِي تِلْكَ الْجِهَة وكلامنا فِيمَا يكون حجَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 لإلزام الْغَيْر الْعَمَل بِهِ ثمَّ كل خصم يتَمَكَّن من أَن يَقُول يخايل فِي قلبِي أثر الْقبُول وَالصِّحَّة للوصف الَّذِي دَعَاهُ بل للْحكم الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود وَصفَة التَّعَارُض لَا يجوز أَن يكون لَازِما فِي الْحجَج الشَّرْعِيَّة كصفة المناقضة وَكَذَلِكَ الاطراد لَا يَسْتَقِيم أَن يَجْعَل دَلِيل كَونه حجَّة لِأَنَّهُ عبارَة عَن عُمُوم شَهَادَة هَذَا الْوَصْف فِي الْأُصُول فَيكون نَظِير كَثْرَة أَدَاء الشَّهَادَة من الشَّاهِدين فِي الْحَوَادِث عِنْد القَاضِي أَو تكْرَار الْأَدَاء مِنْهُ فِي حَادِثَة وَاحِدَة وَذَلِكَ لَا يكون مُوجبا عَدَالَته قَوْله بِأَن الْأُصُول مزكون كالرسول قُلْنَا لَا كَذَلِك بل كل أصل شَاهد فالأصول كجماعة الشُّهُود أَو عدد الروَاة للْخَبَر وَدَلِيل صِحَة الْخَبَر وَكَونه حجَّة إِنَّمَا يطْلب من متن الحَدِيث فالأثر للوصف بِمَنْزِلَة دَلِيل الصِّحَّة من متن الْخَبَر والاطراد فِي الْأُصُول بِمَنْزِلَة كَثْرَة الروَاة فَكيف يَسْتَقِيم أَن يَجْعَل الْأُصُول مزكين وَلَا معرفَة لَهُم بِهَذَا الْوَصْف وحاله وأنى تكون التَّزْكِيَة مِمَّن لَا خبْرَة لَهُ وَلَا معرفَة بِحَال الشَّاهِد وَمَا قَالُوا إِن المعجزة بِمثل هَذَا صَارَت حجَّة فَهُوَ غلط وَإِنَّمَا صَارَت حجَّة بِكَوْنِهَا خَارِجَة عَن حد مَقْدُور الْبشر فَإِن الْقُرْآن بِهَذِهِ الصّفة وَلَكِن الْكفَّار كَانُوا يتعنتون فَيَقُولُونَ إِنَّه من جنس كَلَام الْبشر كَمَا أخبر الله تَعَالَى عَنْهُم {قَالُوا قد سمعنَا لَو نشَاء لقلنا مثل هَذَا} فطولبوا بالإتيان بِمثلِهِ ليظْهر بِهِ تعنتهم فَإِنَّهُم لَو قدرُوا على ذَلِك مَا صَبَرُوا على الِامْتِنَاع عَنهُ إِلَى الْقِتَال وَفِيه ذهَاب نُفُوسهم وَأَمْوَالهمْ فَإِن قيل فِي اعْتِبَار الْأَثر اعْتِبَار مَا لَا يُمكن الْوُقُوف فِيهِ على حد مَعْلُوم يعقل أَو يظْهر للخصوم قُلْنَا لَا كَذَلِك فَإِن الْأَثر فِيمَا يحس مَعْلُوم حسا كأثر الْمَشْي على الأَرْض وَأثر الْجراحَة على الْبدن وَأثر الإسهال فِي الدَّوَاء المسهل وَفِيمَا يعقل مَعْلُوم بطرِيق اللُّغَة نَحْو عَدَالَة الشَّاهِد فَإِنَّهُ يعلم بأثر دينه فِي الْمَنْع كَمَا بَينا وَهَذَا الْأَثر الَّذِي ادعيناه يظْهر للخصم بِالتَّأَمُّلِ فَإِنَّهُ عبارَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن الصَّحَابَة وَالسَّلَف من الْفُقَهَاء رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ فَمن ذَلِك قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْهِرَّة إِنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم والطوافات لِأَنَّهَا عِلّة مُؤثرَة فِيمَا يرجع إِلَى التَّخْفِيف لِأَنَّهُ عبارَة عَن عُمُوم الْبلوى والضرورة فِي سؤره وَقد ظهر تَأْثِير الضَّرُورَة فِي إِسْقَاط حكم الْحُرْمَة أصلا بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَمن اضْطر غير بَاغ وَلَا عَاد} عَن أثر ظَاهر فِي بعض الْمَوَاضِع سوى الْمُتَنَازع فِيهِ وَهُوَ مُوَافق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 للعلل المنقولة {فَلَا إِثْم عَلَيْهِ} وَالْإِشَارَة إِلَيْهِ لدفع نَجَاسَة سؤره أَو لإِثْبَات حكم التَّخْفِيف فِي سؤره يكون اسْتِدْلَالا لَهُ بعلة مُؤثرَة وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّهَا دم عرق انفجر فَإِنَّهُ اسْتِدْلَال بعلة مُؤثرَة فِي نقض الطَّهَارَة وَهُوَ أَن الدَّم فِي نَفسه نجس وبالانفجار يصل إِلَى مَوضِع يجب تَطْهِير ذَلِك الْموضع مِنْهُ وَوُجُوب التَّطْهِير لَا يكون إِلَّا بعد وجود مَا يعْدم الطَّهَارَة فَإِن قيل هَذَا لَيْسَ بتعليل مِنْهُ لانتقاض الطَّهَارَة بِدَم الِاسْتِحَاضَة بل لبَيَان أَنه لَيْسَ بِدَم الْحيض قُلْنَا قد قَالَ أَولا لَيست بالحيضة وَهَذَا اللَّفْظ كَاف لهَذَا الْمَقْصُود فَلَا بُد من أَن يحمل قَوْله (وَلكنهَا دم عرق انفجر) على فَائِدَة جَدِيدَة وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا بَيَان عِلّة للْحَدَث الْمُوجب للطَّهَارَة وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لعمر رَضِي الله عَنهُ فِي الْقبْلَة أَرَأَيْت لَو تمضمضت بِمَاء ثمَّ مججته أَكَانَ يَضرك فَهَذَا إِشَارَة إِلَى عِلّة مُؤثرَة أَي الْفطر ضد الصَّوْم وَإِنَّمَا يتَأَدَّى الصَّوْم بالكف عَن اقْتِضَاء الشهوتين فَكَمَا أَن اقْتِضَاء شَهْوَة الْبَطن بِمَا يصل إِلَى الْحلق لَا بِمَا يصل إِلَى الْفَم حَتَّى لَا تكون الْمَضْمَضَة مُوجبَة للفطر فَكَذَلِك اقْتِضَاء شَهْوَة الْفرج يكون بالإيلاج أَو الْإِنْزَال لَا بِمُجَرَّد الْقبْلَة الَّتِي هِيَ الْمُقدمَة وَكَذَلِكَ قَوْله للخثعمية أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين الحَدِيث هُوَ إِشَارَة إِلَى الْعلَّة المؤثرة وَهُوَ أَن صَاحب الْحق يقبل من غير من عَلَيْهِ الْحق إِذا جَاءَ بِحقِّهِ فأداه على سَبِيل الْإِحْسَان والمساهلة مَعَ من عَلَيْهِ الْحق وَالله هُوَ المحسن المتفضل على عباده فَهُوَ أَحَق من أَن يقبل مِنْك وَقَالَ فِي حُرْمَة الصَّدَقَة على بني هَاشم أَرَأَيْت لَو تضمضت بِمَاء أَكنت شَاربه فَفِيهِ إِشَارَة إِلَى عِلّة مُؤثرَة وَهُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 أَن الصَّدَقَة من أوساخ النَّاس لكَونهَا مطهرة من الذُّنُوب فَهِيَ كالغسالة المستعملة والامتناع من شرب ذَلِك يكون بطرِيق الْأَخْذ بمعالي الْأُمُور فَكَذَلِك حُرْمَة الصَّدَقَة على بني هَاشم يكون على وَجه التَّعْظِيم وَالْإِكْرَام لَهُم ليَكُون لَهُم خُصُوصِيَّة بِمَا هُوَ من معالي الْأُمُور وَكَذَلِكَ الصَّحَابَة حِين اخْتلفُوا فِي الْجد مَعَ الْإِخْوَة اشتغلوا بِالتَّعْلِيلِ لإِظْهَار صفة الْقرب بالوادي الَّذِي تتشعب مِنْهُ الْأَنْهَار والشجرة الَّتِي ينْبت مِنْهَا الأغصان وَمَا ذَلِك إِلَّا بِاعْتِبَار الْمُؤثر فِي الْعلم بتفاوت الْقرب بطرِيق محسوس وَابْن عَبَّاس علل فِي ذَلِك بقوله أَلا يَتَّقِي الله زيد بن ثَابت يَجْعَل ابْن الابْن ابْنا وَلَا يَجْعَل أَب الْأَب أَبَا فَهُوَ اسْتِدْلَال الْمُؤثر من حَيْثُ اعْتِبَار أحد الطَّرفَيْنِ بالطرف الآخر فِي الْقرب وَقَالَ عمر لعبادة بن الصَّامِت حِين قَالَ مَا أرى النَّار تحل شَيْئا فِي الطلاء أَلَيْسَ يكون خمرًا ثمَّ يكون خلا فتشربه فَهَذَا اسْتِدْلَال بمؤثر وَهُوَ التَّغْيِير بالطباع وَعلل مُحَمَّد فِي كتاب الطَّلَاق فِيمَن قَالَ لامْرَأَته إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق ثَلَاثًا ثمَّ طَلقهَا ثَلَاثًا أَن الْيَمين لَا يبْقى لِأَنَّهُ ذهب تَطْلِيقَات ذَلِك الْملك كُله وَهَذَا تَعْلِيل بِوَصْف مُؤثر فَإِن الْيَمين لَا تَنْعَقِد إِلَّا فِي الْملك بِاعْتِبَار تَطْلِيقَات مَمْلُوكَة أَو مُضَافَة إِلَى الْملك وَالْإِضَافَة إِلَى الْملك لم تُوجد هُنَا فَعرفنَا أَنَّهَا انْعَقَدت على التطليقات الْمَمْلُوكَة وَقد أوقع كلهَا وَالْكل من كل شَيْء لَا يتَصَوَّر فِيهِ تعدد فَعرفنَا أَنه لم يبْق شَيْء من الْجَزَاء وَالْيَمِين شَرط وَجَزَاء فَكَمَا لَا يتَصَوَّر انْعِقَادهَا بِدُونِ الْجَزَاء لَا يتَصَوَّر بَقَاؤُهَا إِذا لم يبْق شَيْء من الْجَزَاء وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله فِيمَن اشْترى قَرِيبه مَعَ غَيره حَتَّى عتق نصِيبه مِنْهُ لَا يضمن لشَرِيكه شَيْئا لِأَن شَرِيكه رَضِي بِالَّذِي وَقع بِهِ الْعتْق بِعَيْنِه يَعْنِي ملك الْقَرِيب الَّذِي هُوَ متمم لعِلَّة الْعتْق وَهَذَا تَعْلِيل بِوَصْف مُؤثر فَإِن ضَمَان الْعتْق إِنَّمَا يجب بالإفساد أَو الْإِتْلَاف لملك الشَّرِيك فَيكون وَاجِبا بطرِيق الْجبرَان لَهُ وَرضَاهُ بِالسَّبَبِ يُغني عَن الْحَاجة إِلَى الْجبرَان لِأَن الْحَاجة إِلَى ذَلِك لدفع الضَّرَر عَنهُ وَقد انْدفع ذَلِك حكما حِين رَضِي بِهِ كَمَا لَو أذن لَهُ نصا أَن يعتقهُ وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله فِيمَن أودع صَبيا مَالا فاستهلكه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 لَا ضَمَان عَلَيْهِ لِأَنَّهُ سلطه على مَا فعل أَي حِين مكنه من المَال فقد سلطه على إِتْلَافه حسا والتسليط يخرج فعل الْمُسَلط من أَن يكون جِنَايَة فِي حق الْمُسَلط ثمَّ بقوله احفظ جعل التسليط مَقْصُورا على الْحِفْظ بطرِيق العقد وَهَذَا فِي حق الْبَالِغ صَحِيح وَفِي حق الصَّبِي لَا يَصح أصلا وَفِي حق العَبْد الْمَحْجُور لَا يَصح فِي حَالَة الرّقّ وَعلل الشَّافِعِي فِي الزِّنَا أَنه لَا يُوجب حُرْمَة الْمُصَاهَرَة وَقَالَ الزِّنَا فعل رجمت عَلَيْهِ وَالنِّكَاح أَمر حمدت عَلَيْهِ فَهَذَا اسْتِدْلَال فِي الْفرق بِوَصْف مُؤثر أَي ثُبُوت حُرْمَة الْمُصَاهَرَة بطرِيق النِّعْمَة والكرامة فَيجوز أَن يكون سَبَب الْكَرَامَة مَا يحمد الْمَرْء عَلَيْهِ وَلَا يجوز أَن يكون سَببه مَا يُعَاقب الْمَرْء عَلَيْهِ وَهُوَ الزِّنَا الْمُوجب للرجم وَقَالَ النِّكَاح لَا يثبت بِشَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال لِأَن النِّكَاح لَيْسَ بِمَال وَهَذَا تَعْلِيل بِوَصْف مُؤثر يَعْنِي أَن المَال مبتذل وَملك النِّكَاح مصون عَن الابتذال وَفِي شَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال ضرب شُبْهَة أَو هِيَ حجَّة ضَرُورَة فَمَا يكون مبتذلا تجْرِي المساهلة فِيهِ وتكثر الْبلوى وَالْحَاجة إِلَيْهِ فَيمكن إثْبَاته بِحجَّة فِيهَا شُبْهَة أَو بِمَا هُوَ حجَّة ضَرُورَة فَأَما مَا يكون مصونا عَن الابتذال فَإِن الْبلوى لَا تكْثر فِيهِ وَهُوَ عَظِيم الْخطر أَيْضا فَلَا يثبت إِلَّا بِحجَّة أَصْلِيَّة خَالِيَة عَن الشُّبْهَة فَعرفنَا أَن طَرِيق تَعْلِيل السّلف هُوَ الْإِشَارَة إِلَى الْوَصْف الْمُؤثر فعلى هَذَا النمط يكون أَكثر مَا عللنا بِهِ فِي الخلافيات مِنْهَا أَن علماءنا قَالُوا فِي أَنه لَا يشْتَرط التّكْرَار فِي الْمسْح بِالرَّأْسِ لإكمال السّنة إِنَّه مسح فَلَا يسن تكراره (كالمسح بالخف وَالتَّيَمُّم وَقَالَ الشَّافِعِي هُوَ ركن أُصَلِّي فِي الطَّهَارَة فَيسنّ فِيهِ التّكْرَار) كالغسل فِي المغسولات فَكَانَ الْمُؤثر مَا قُلْنَا لِأَن فِي لفظ الْمسْح مَا يدل على التَّخْفِيف فَإِن الْمسْح يكون أيسر من الْغسْل لَا محَالة وتأدى الْفَرْض فِي هَذَا الْمحل بِفعل الْمسْح دَلِيل التَّخْفِيف أَيْضا وَكَون الِاسْتِيعَاب فِيهِ لَيْسَ بِشَرْط بِخِلَاف المغسولات تَخْفيف آخر والاكتفاء بالمرة الْوَاحِدَة لإِقَامَة الْفَرْض وَالسّنة من بَاب التَّخْفِيف فَفِي قَوْلنَا مسح إِشَارَة إِلَى مَا هُوَ مُؤثر فِيهِ وَلَيْسَ فِي قَوْله ركن إِشَارَة إِلَى مَا يَنْفِيه ثمَّ الْمَقْصُود بِالسنةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 الْإِكْمَال وَفِي الْمَمْسُوح لما لم يكن الِاسْتِيعَاب شرطا فبالمرة الْوَاحِدَة مَعَ الِاسْتِيعَاب يحصل الْإِكْمَال فَعرفنَا أَنه يصير بِهِ مُؤديا الْفَرِيضَة وَالسّنة وَفِي المغسولات لما كَانَ الِاسْتِيعَاب شرطا لَا يحصل بالمرة إِلَّا إِقَامَة الْفَرْض فَلَا بُد من التّكْرَار لإِقَامَة السّنة وَلَيْسَ فِي قَوْله ركن إِشَارَة إِلَى هَذَا الْفرق وَفِي قَوْلنَا مسح إِشَارَة إِلَيْهِ فَكَانَ الْمُؤثر مَا قُلْنَا وَقُلْنَا فِي صَوْم الشَّهْر بِمُطلق النِّيَّة إِنَّه يتَأَدَّى لِأَنَّهُ صَوْم عين وَهُوَ يَقُول لَا بُد من نِيَّة الْفَرْض لِأَنَّهُ صَوْم فرض فَكَانَ الْمُؤثر مَا قُلْنَا لِأَن الْمَقْصُود بِالنِّيَّةِ فِي الأَصْل التَّمْيِيز وَلَا يُرَاد بنية الْجِهَة إِلَّا التَّمْيِيز بَين تِلْكَ الْجِهَة وَغَيرهَا وَإِذا كَانَ الْمَشْرُوع فِي هَذَا الزَّمَان عينا لَيْسَ مَعَه غَيره يصاب بِمُطلق الِاسْم فارتفعت الْحَاجة إِلَى الْجِهَة للتمييز وَلَيْسَ فِي صفة الْفَرْضِيَّة مَا يَنْفِي هَذَا التَّعْيِين حَتَّى يثبت بِهِ مساس الْحَاجة إِلَى نِيَّة الْجِهَة للتمييز وَقُلْنَا فِي الضَّرُورَة إِذا حج بنية النَّفْل لَا يَقع حجَّة عَن الْفَرْض لِأَنَّهَا عبَادَة تتأدى بأركان مَعْلُومَة بأسبابها كَالصَّلَاةِ وَهَذَا إِشَارَة إِلَى وصف مُؤثر وَهُوَ أَن تتأدى هَذِه الْعِبَادَة بِمُبَاشَرَة أَرْكَانهَا لَا بوقتها فصحة أَدَاء هَذِه الْأَركان فِي الْوَقْت فرضا لَا يَنْفِي صِحَة أَدَائِهَا نفلا وَإِذا بَقِي الْأَدَاء بِصفة النفلية مَشْرُوعا من هَذَا الْوَجْه فتعيينه جِهَة النَّفْل بِالنِّيَّةِ صَادِق مَحَله فَيجب اعْتِبَاره لَا محَالة بِخِلَاف الصَّوْم فِي الشَّهْر وعللنا فِي الثّيّب الصَّغِيرَة أَن الْأَب يُزَوّجهَا لِأَنَّهَا صَغِيرَة وَلَا يُزَوّج الْبكر الْبَالِغَة إِلَّا بِرِضَاهَا لِأَنَّهَا بَالِغَة والخصم قَالَ فِي الثّيّب الصَّغِيرَة لَا يُزَوّجهَا أَبوهَا من غير رِضَاهَا لِأَنَّهَا ثيب وَفِي الْبكر الْبَالِغَة يُزَوّجهَا من غير رِضَاهَا لِأَنَّهَا بكر فَكَانَ الْمُؤثر مَا قُلْنَا لِأَن ثُبُوت ولَايَة الاستبداد بِالْعقدِ يكون على وَجه النّظر للْمولى عَلَيْهِ بِاعْتِبَار عَجزه عَن مُبَاشرَة ذَلِك بِنَفسِهِ مَعَ حَاجته إِلَى مَقْصُوده كَالنَّفَقَةِ والمؤثر فِي ذَلِك الصغر وَالْبُلُوغ دون الثيابة والبكارة وَكَذَلِكَ فِي سَائِر الْمَوَاضِع إِنَّمَا ظهر الْأَثر للصغر وَالْبُلُوغ فِي الْولَايَة لَا للثيابة والبكارة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 يَعْنِي الْولَايَة فِي المَال وَالْولَايَة على الذّكر فَعرفنَا أَنا سلكنا طَرِيق السّلف فِي الِاسْتِدْلَال بِالْوَصْفِ (الْمُؤثر) فَإِن قيل كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا وَالْقِيَاس لَا يكون إِلَّا بفرع وأصل فَإِن المقايسة تَقْدِير الشَّيْء بالشَّيْء وبمجرد ذكر الْوَصْف بِدُونِ الرَّد إِلَى الأَصْل لَا يكون قِيَاسا قُلْنَا قد قَالَ بعض مَشَايِخنَا هَذَا النَّوْع من التَّعْلِيل عِنْد ذكر الأَصْل يكون مقايسة وَبِدُون ذكر الأَصْل يكون اسْتِدْلَالا بعلة مستنبطة بِالرَّأْيِ بِمَنْزِلَة مَا قَالَه الْخصم إِن تَعْلِيل النَّص بعلة تتعدى إِلَى الْفَرْع يكون مقايسة وبعلة لَا تتعدى لَا يكون مقايسة لَكِن يكون بَيَان عِلّة شَرْعِيَّة للْحكم قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَن نقُول هُوَ قِيَاس على كل حَال فَإِن مثل هَذَا الْوَصْف يكون لَهُ أصل فِي الشَّرْع لَا محَالة وَلَكِن يسْتَغْنى عَن ذكره لوضوحه وَرُبمَا لَا يَقع الِاسْتِغْنَاء عَنهُ فنذكره فمما يَقع الِاسْتِغْنَاء عَن ذكره مَا قُلْنَا فِي إِيدَاع الصَّبِي لِأَنَّهُ سلطه على ذَلِك فَإِنَّهُ بِهَذَا الْوَصْف يكون مقيسا على أصل وَاضح وَهُوَ أَن من أَبَاحَ لصبي طَعَاما فتناوله لم يضمن لِأَنَّهُ بِالْإِبَاحَةِ سلطه على تنَاوله وَتَركنَا ذكر هَذَا الأَصْل لوضوحه وَمِمَّا يذكر فِيهِ الأَصْل مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي طول الْحرَّة إِنَّه لَا يمْنَع نِكَاح الْأمة لِأَن كل نِكَاح يَصح من العَبْد بِإِذن الْمولى فَهُوَ صَحِيح من الْحر كَنِكَاح حرَّة وَهَذَا إِشَارَة إِلَى معنى مُؤثر وَهُوَ أَن الرّقّ ينصف الْحل الَّذِي يبتنى عَلَيْهِ عقد النِّكَاح شرعا وَلَا يُبدلهُ بِحل آخر فَيكون الرَّقِيق فِي النّصْف الْبَاقِي بِمَنْزِلَة الْحر فِي الْكل لِأَنَّهُ ذَلِك الْحل بِعَيْنِه وَلَكِن فِي هَذَا الْمَعْنى بعض الغموض فَتَقَع الْحَاجة إِلَى ذكر الأَصْل وَكَذَلِكَ عللنا فِي جَوَاز نِكَاح الْأمة الْكِتَابِيَّة للْمُسلمِ قُلْنَا كل امْرَأَة يجوز لمُسلم نِكَاحهَا إِذا كَانَت مسلمة يجوز لَهُ نِكَاحهَا إِذا كَانَت كِتَابِيَّة كَالْحرَّةِ وَهَذَا إِشَارَة إِلَى معنى مُؤثر وَهُوَ أَن تَأْثِير الرّقّ فِي تنصيف الْحل وَمَا يبتنى على الْحل الَّذِي فِي جَانب الْمَرْأَة غير مُتَعَدد ليتَحَقَّق معنى التنصيف فِي عدد فَإِن الْمَرْأَة لَا تحل إِلَّا لرجل وَاحِد فَيظْهر حكم التنصيف فِي الْأَحْوَال وَهُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 أَن الْأمة من المحللات مُنْفَرِدَة عَن الْحرَّة وَمن الْمُحرمَات مَضْمُومَة إِلَى الْحرَّة فَلَا يَتَزَوَّجهَا على حرَّة ويتزوجها إِذا لم يكن تَحْتَهُ حرَّة ثمَّ النّصْف الْبَاقِي فِي جَانب الْأمة هُوَ الثَّابِت فِي حق الْحرَّة فَإِذا كَانَ بِهَذَا الْحل يتَزَوَّج الْحرَّة مسلمة كَانَت أَو كِتَابِيَّة عرفنَا أَنه يتَزَوَّج الْأمة مسلمة كَانَت أَو كِتَابِيَّة وَلَكِن فِي هَذَا الْكَلَام بعض الغموض فيذكر الأَصْل عِنْد التَّعْلِيل فَعرفنَا أَن جَمِيع مَا ذكرنَا اسْتِدْلَال بِالْقِيَاسِ فِي الْحَقِيقَة وَأَنه مُوَافق لطريق السّلف فِي تَعْلِيل الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فصل الحكم حكم الْعلَّة الَّتِي نسميها قِيَاسا أَو عِلّة ثَابِتَة بِالرَّأْيِ تَعديَة حكم النَّص بهَا إِلَى فرع لَا نَص فِيهِ عندنَا وعَلى قَول الشَّافِعِي حكمهَا تعلق الحكم فِي الْمَنْصُوص بهَا فَأَما التَّعْدِيَة بهَا جَائِز وَلَيْسَ بِوَاجِب حَتَّى يكون التَّعْلِيل بِدُونِهَا صَحِيحا وَإِنَّمَا يتَبَيَّن هَذَا بفصلين سبق بيانهما أَحدهمَا تَعْلِيل الأَصْل بِمَا لَا يتَعَدَّى لمنع قِيَاس غَيره عَلَيْهِ عندنَا لَا يكون صَحِيحا وَعِنْده يَصح وَالثَّانِي التَّعْدِيَة بِالتَّعْلِيلِ إِلَى مَحل مَنْصُوص عَلَيْهِ لَا يَصح عندنَا خلافًا لَهُ ثمَّ حجَّته فِي هَذِه الْمَسْأَلَة اعْتِبَار الْعِلَل الشَّرْعِيَّة بالعلل الْعَقْلِيَّة كَمَا أَن الْوُجُود هُنَاكَ يتَعَلَّق بِمَا هُوَ عِلّة لَهُ فالوجوب فِي الْعِلَل الشَّرْعِيَّة يتَعَلَّق بِالْعِلَّةِ وَيكون هُوَ الحكم الْمَطْلُوب بهَا دون التَّعْدِيَة وَإِنَّمَا نعني بِالْوُجُوب وجوب الْعَمَل على وَجه يبْقى فِيهِ احْتِمَال الْخَطَأ وَاعْتبر الْعلَّة المستنبطة من النَّص بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوص عَلَيْهَا فِي الشَّرْع فَكَمَا أَن الحكم هُنَاكَ يتَعَلَّق بِالْعِلَّةِ وَتَكون عِلّة صَحِيحَة بِدُونِ التَّعْدِيَة فَكَذَلِك هُنَا أَلا ترى أَن الْأَسْبَاب الْمُوجبَة للحدود وَالْكَفَّارَات جعلت سَببا شرعا ليتعلق الحكم بهَا بِالنَّصِّ من غير تَعديَة إِلَى مَحل آخر فَكَذَلِك الْعِلَل الشَّرْعِيَّة يتَعَلَّق الحكم بهَا فِي الْمَنْصُوص تعدى بهَا إِلَى مَحل آخر أَو لم يَتَعَدَّ وَالْجَوَاب مَا هُوَ حجتنا أَن نقُول مَا ينازعنا فِيهِ من الْعلَّة لَا يكون حجَّة للْحكم إِلَّا بعد النَّص كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي حَدِيث معَاذ فَإِن لم تَجدهُ فِي الْكتاب وَالسّنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 قَالَ اجْتهد رَأْيِي وَمَا يكون عَاملا بعد النَّص كَانَ شَرط عمله انعدام النَّص فِي الْمحل الَّذِي يعْمل فِيهِ فَعرفنَا أَنه لَا عمل لَهُ فِي مَحل مَنْصُوص وَإِذا لم يجز أَن يكون عَاملا على وَجه الْمُعَارضَة بِحكم النَّص بِخِلَافِهِ عرفنَا أَنه لَا عمل لَهُ فِي مَوضِع النَّص فَلَا يُمكن أَن يَجْعَل حكمه تعلق حكم الشَّرْع بِهِ فِي الْمَنْصُوص يُوضحهُ أَن بِالْإِجْمَاع هَذِه الْعلَّة لَا يجوز أَن يتَغَيَّر بهَا حكم النَّص وَمَعْلُوم أَن التَّغْيِير دون الْإِبْطَال فَإِذا كَانَ الحكم فِي الْمَنْصُوص مُضَافا إِلَى النَّص قبل التَّعْلِيل فَلَو قُلْنَا بِالتَّعْلِيلِ يصير مُضَافا إِلَى الْعلَّة كَانَ إبطالا وَلَا شكّ أَنه يكون تغييرا على معنى أَن فِيهِ إِخْرَاج سَائِر أَوْصَاف النَّص من أَن يكون الحكم مُضَافا إِلَيْهَا وكما لَا يجوز إِخْرَاج بعض الْمحَال الَّذِي تنَاوله النَّص من حكم النَّص بِالتَّعْلِيلِ لَا يجوز إِخْرَاج بعض الْأَوْصَاف عَن ذَلِك بِالتَّعْلِيلِ يُوضحهُ أَن الْعلَّة مَا يتَغَيَّر بهَا حكم الْحَال وَمَعْلُوم أَن حكم النَّص لَا يتَغَيَّر بِالْعِلَّةِ فِي نَفسه فَعرفنَا أَنه يتَغَيَّر بهَا الْحَال فِي مَحل آخر وَهُوَ الْمحل الَّذِي تعدى إِلَيْهِ الحكم فَيثبت فِيهِ بهَا بعد أَن لم يكن ثَابتا وَهَذَا لَا يتَحَقَّق فِي عِلّة لَا توجب تَعديَة الحكم فَهَذَا تبين أَن حكم الْعلَّة على الْخُصُوص تَعديَة الحكم لَا إِيجَاب الحكم بهَا ابْتِدَاء بِمَنْزِلَة الْحِوَالَة فَإِنَّهَا لما كَانَت مُشْتَقَّة من التَّحْوِيل كَانَ حكمهَا الْخَاص تحول الدّين الْوَاجِب بهَا من ذمَّة إِلَى ذمَّة من غير أَن تكون مُؤثرَة فِي إِيجَاب الدّين بهَا ابْتِدَاء وَمن فهم هَذَا سقط عَنهُ مُؤنَة الْحِفْظ فِي ثَلَاثَة أَربَاع مَا يسْتَعْمل النَّاس الْقيَاس فِيهِ لِأَن جَمِيع مَا يتَكَلَّم النَّاس فِيهِ على سَبِيل المقايسة أَرْبَعَة أَقسَام الْمُوجب للْحكم وَصفته وَمَا هُوَ شَرط فِي الْعلَّة وَصفته وَالْحكم الثَّابِت فِي الشَّرْع وَصفته وَالْحكم الْمُتَّفق على كَونه مَشْرُوعا مَعْلُوما بِصفتِهِ أهوَ مَقْصُور على الْمحل الَّذِي ورد فِيهِ النَّص أم تعدى إِلَى غَيره من الْمحَال الَّذِي يماثله بِالتَّعْلِيلِ وَإِنَّمَا يجوز اسْتِعْمَال الْقيَاس فِي الْقسم الرَّابِع فَأَما الْأَقْسَام الثَّلَاثَة فَلَا مدْخل للْقِيَاس فِيهَا فِي الْإِثْبَات وَلَا فِي النَّفْي لِأَن الْمُوجب مَا جعله الشَّرْع مُوجبا على مَا بَينا أَن الْعِلَل الشَّرْعِيَّة لَا تكون مُوجبَة بذواتها بل بِجعْل الشَّرْع إِيَّاهَا مُوجبَة فَلَا مجَال للرأي فِي معرفَة ذَلِك وَإِنَّمَا طَرِيق مَعْرفَته السماع مِمَّن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي وَصفَة الشَّيْء مُعْتَبر بِأَصْلِهِ وكما لَا يكون مُوجبا بِدُونِ رُكْنه لَا يكون مُوجبا بِدُونِ شَرطه وَلَا مدْخل للرأي فِي معرفَة شَرطه وَلَا صفة شَرطه كَمَا لَا مدْخل للرأي فِي أَصله وَكَذَلِكَ نصب الحكم ابْتِدَاء إِلَى الشَّرْع وكما لَيْسَ إِلَى الْعباد ولَايَة نصب الْأَسْبَاب فَلَيْسَ إِلَيْهِم ولَايَة نصب الْأَحْكَام لِأَنَّهَا مَشْرُوعَة بطرِيق الِابْتِلَاء فَأنى يهتدى بِالرَّأْيِ إِلَيْهِ كَيفَ يتَحَقَّق معنى الِابْتِلَاء فِيمَا يستنبط بِالرَّأْيِ ابْتِدَاء فَعرفنَا أَن التَّعْلِيل فِي هَذِه الْأَقْسَام لَا يُصَادف محلهَا والأسباب الشَّرْعِيَّة لَا تصح بِدُونِ الْمحل كَالْبيع الْمُضَاف إِلَى الْحر وَالنِّكَاح الْمُضَاف إِلَى مُحرمَة وَلِأَن حكم التَّعْلِيل التَّعْدِيَة فَفِي هَذِه الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة لَا تتَحَقَّق التَّعْدِيَة فَكَانَ اسْتِعْمَال الْقيَاس فِي هَذِه الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة بِمَنْزِلَة الْحِوَالَة قبل وجوب الدّين وَذَلِكَ بَاطِل لخلوه عَن حكمه وَهُوَ التَّحْوِيل وكما لَا يجوز اسْتِعْمَال الْقيَاس لإِثْبَات الحكم فِي هَذِه الْمَوَاضِع لَا يجوز للنَّفْي لِأَن الْمُنكر لذَلِك يَدعِي أَنه غير مَشْرُوع وَمَا لَيْسَ بمشروع كَيفَ يُمكن إثْبَاته بِدَلِيل شَرْعِي وَإِن كَانَ يَدعِي رَفعه بعد الثُّبُوت وَهُوَ نسخ وَإِثْبَات النّسخ بِالتَّعْلِيلِ بِالرَّأْيِ لَا يجوز فَعرفنَا أَن مَا يصنعه بعض النَّاس من اسْتِعْمَال الْقيَاس فِي مثل هَذِه الْمَوَاضِع لَيْسَ بِفقه وَأَنه يكون من قلَّة التَّأَمُّل يتَبَيَّن ذَلِك عِنْد النّظر وَأما بَيَان الْمُوجب فِي مسَائِل مِنْهَا (أَن) الْجِنْس بِانْفِرَادِهِ هَل يحرم النسأ فَإِن الْكَلَام فِيهِ بطرِيق الْقيَاس للإثبات أَو للنَّفْي بَاطِل وَإِنَّمَا طَرِيق إثْبَاته الرُّجُوع إِلَى النَّص أَو دلَالَته أَو إِشَارَته أَو مُقْتَضَاهُ لِأَن الثَّابِت بِهَذِهِ الْوُجُوه كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ والموجب للْحكم لَا يعرف إِلَّا بِالنَّصِّ كَالْحكمِ الْوَاجِب فَإِنَّهُ إِذا وَقع الِاخْتِلَاف فِي الْوتر هَل هِيَ بِمَنْزِلَة الْفَرِيضَة زِيَادَة على الْخمس كَانَ الِاشْتِغَال بإثباته بطرِيق الْقيَاس خطأ وَإِنَّمَا أثبت ذَلِك أَبُو حنيفَة رَحمَه الله بِالنَّصِّ الْمَرْوِيّ فِيهِ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام إِن الله تَعَالَى زادكم صَلَاة أَلا وَهِي الْوتر فصلوها مَا بَين الْعشَاء إِلَى طُلُوع الْفجْر فَكَذَلِك طَرِيق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 إِثْبَات كَون الْجِنْس عِلّة الرُّجُوع إِلَى النَّص ودلالته وَهُوَ أَنه قد ثَبت بِالنَّصِّ حُرْمَة الْفضل الْخَالِي عَن الْعِوَض إِذا كَانَ مَشْرُوطًا فِي العقد وباشتراط الْأَجَل يتَوَهَّم فضل مَال خَال عَن الْمُقَابلَة بِاعْتِبَار صفة الْحُلُول فِي أحد الْجَانِبَيْنِ وَلم يسْقط اعْتِبَاره بِالنَّصِّ لكَونه حَاصِلا بصنع الْعباد والشبهة تعْمل عمل الْحَقِيقَة فِيمَا بني أمره على الِاحْتِيَاط فَكَمَا أَن حَقِيقَة الْفضل تكون رَبًّا فَكَذَلِك شُبْهَة الْفضل وللجنسية أثر فِي إِظْهَار ذَلِك وكما أَن الْقيَاس لَا يكون طَرِيقا للإثبات هُنَا لَا يكون طَرِيقا للنَّفْي لِأَن من يَنْفِي إِنَّمَا يتَمَسَّك بِالْعدمِ الَّذِي هُوَ أصل فَعَلَيهِ الِاشْتِغَال بإفساد دَلِيل خَصمه لِأَنَّهُ مَتى ثَبت أَن مَا ادَّعَاهُ الْخصم دَلِيل صَحِيح لَا يبْقى لَهُ حق التَّمَسُّك بِعَدَمِ الدَّلِيل فَأَما الِاشْتِغَال بِالْقِيَاسِ ليثبت الْعَدَم بِهِ يكون ظَاهر الْفساد وَنَظِيره الِاخْتِلَاف فِي أَن السّفر هَل يكون مسْقطًا شطر الصَّلَاة فَإِنَّهُ لَا مدْخل للْقِيَاس هُنَا فِي الْإِثْبَات وَلَا فِي النَّفْي وَإِنَّمَا يعرف ذَلِك بِالنَّصِّ ودلالته وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم فاقبلوا صدقته وَلَا معنى للتصدق هُنَا سوى الْإِسْقَاط وَلَا مرد لما أسْقطه الله عَن عباده بِوَجْه وَكَذَلِكَ الْخلاف فِي أَن استتار الْقدَم بالخف هَل يكون مَانِعا من سرَايَة الْحَدث إِلَى الْقدَم لَا مدْخل للْقِيَاس فِيهِ فِي النَّفْي وَلَا فِي الْإِثْبَات وَإِنَّمَا يثبت ذَلِك بِالنَّصِّ ودلالته وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي أدخلتهما وهما طاهرتان فَفِي هَذَا إِشَارَة إِلَى أَن الْحَدث مَا سرى إِلَى الْقَدَمَيْنِ لاستتارهما بالخف وَكَذَلِكَ الْخلاف فِي أَن مُجَرّد الْإِسْلَام بِدُونِ الْإِحْرَاز بِالدَّار هَل يُوجب تقوم النَّفس وَالْمَال أم لَا وَأَن خبر الْوَاحِد هَل يكون مُوجبا للْعلم وَأَن الْقيَاس هَل يكون مُوجبا للْعَمَل بِهِ هَذَا كُله لَا مدْخل للتَّعْلِيل بِالرَّأْيِ فِي إثْبَاته وَلَا فِي نَفْيه وَأما بَيَان صفته فنحو الِاخْتِلَاف الْوَاقِع فِي النّصاب أَنه مُوجب لِلزَّكَاةِ بِصفة النَّمَاء أم بِدُونِ هَذَا الْوَصْف مُوجب وَفِي الْيَمين أَنَّهَا مُوجبَة لِلْكَفَّارَةِ بِصفة أَنَّهَا مَقْصُودَة أم بِصفة أَنَّهَا معقودة وَفِي الْقَتْل بِغَيْر حق أَنه مُوجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 لِلْكَفَّارَةِ بِصفة أَنه حرَام أم اشتماله على الوصفين الْحَظْر وَالْإِبَاحَة من وَجْهَيْن وَكَفَّارَة الْفطر أَنَّهَا وَاجِبَة بِفعل مَوْصُوف بِأَنَّهُ جماع أَو هُوَ فطر بِجِنَايَة متكاملة فَإِن هَذَا كُله مِمَّا لَا مدْخل للرأي فِي إِثْبَات الْوَصْف الْمَطْلُوب بِهِ وَلَا فِي نَفْيه وَبَيَان الشَّرْط فنحو اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي اشْتِرَاط الشُّهُود فِي النِّكَاح للْحلّ وَاخْتِلَافهمْ فِي اشْتِرَاط التَّسْمِيَة فِي الذَّكَاة للْحلّ فَإِنَّهُ لَا مدْخل للرأي فِي معرفَة مَا هُوَ شَرط فِي السَّبَب شرعا لَا فِي الْإِثْبَات وَلَا فِي النَّفْي كَمَا لَا مدْخل لَهُ فِي أصل السَّبَب بِأَن بِالشّرطِ يرْتَفع الحكم قبل وجوده فَإِذا لم يكن للرأي مدْخل فِيمَا يُثبتهُ عرفنَا أَنه لَا مدْخل للرأي فِيمَا يرفعهُ أَو يعدمه وَكَذَلِكَ الْخلاف فِي أَن الْبلُوغ عَن عقل هَل يكون شرطا لوُجُوب حُقُوق الله تَعَالَى الْمَالِيَّة نَحْو الزكوات وَالْكَفَّارَات ولإيجاب مَا هُوَ عُقُوبَة مَالِيَّة نَحْو حرمَان الْمِيرَاث بِالْقَتْلِ أَو دفع الِاخْتِلَاف فِي أَن الْبلُوغ عَن عقل هَل يكون شرطا لصِحَّة الْأَدَاء فِيمَا لَا يحْتَمل النّسخ والتبديل فَإِن هَذَا لَا مدْخل للْقِيَاس فِيهِ فِي الْإِثْبَات وَالنَّفْي وَكَذَلِكَ فِي أَن بُلُوغ الدعْوَة هَل تكون شرطا لإهدار النُّفُوس وَالْأَمْوَال بِسَبَب الْكفْر فَإِن هَذَا مِمَّا لَا يُمكن مَعْرفَته بِالْقِيَاسِ وَالتَّعْلِيل بِالرَّأْيِ فِيهِ للإثبات أَو النَّفْي يكون سَاقِطا وَكَذَلِكَ الِاخْتِلَاف فِي اشْتِرَاط الْوَلِيّ فِي النِّكَاح فَأَما فِي ثُبُوت الْولَايَة للْمَرْأَة على نَفسهَا يجوز اسْتِعْمَال الْقيَاس لِأَن الْمَعْنى الَّذِي بِهِ تثبت الْولَايَة للمرء على نَفسه مَعْقُول وَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ فِي الأَصْل وَهُوَ الرجل فيستقيم تَعديَة الحكم بِهِ إِلَى الْمَرْأَة فَإِن قيل فقد اخْتَلَفْنَا فِي التَّقَابُض فِي الْمجْلس أَنه هَل يشْتَرط فِي بيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ وَقد تكلمتم بِالْقِيَاسِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّد فَقَالَ من قبل أَنه حَاضر لَيْسَ لَهُ أجل قُلْنَا لِأَن هُنَاكَ قد وجد أصل كَانَ هَذَا الحكم وَهُوَ بَقَاء العقد بعد الِافْتِرَاق عَن الْمجْلس من غير قبض فِيهِ ثَابت بالِاتِّفَاقِ وَهُوَ بيع الطَّعَام وَسَائِر الْأَمْتِعَة بِالدَّرَاهِمِ فَأمكن تَعْلِيل ذَلِك الأَصْل لتعدية الحكم بِهِ إِلَى الْفَرْع والخصم وجد أصلا للْحكم الَّذِي ادَّعَاهُ وَهُوَ فَسَاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 العقد بعد الِافْتِرَاق من غير قبض كَمَا فِي الصّرْف استقام تَعْلِيله أَيْضا لتعدية الحكم بِهِ إِلَى الْفَرْع وَمثله لَا يُوجد فِي اشْتِرَاط التَّسْمِيَة فِي الذَّكَاة فَإِن الْخصم لَا يجد فِيهِ أصلا يسْقط فِيهِ اشْتِرَاط التَّسْمِيَة لحل الذَّبِيحَة فَإِن أَصله النَّاسِي وَنحن لَا نقُول هُنَاكَ سقط شَرط التَّسْمِيَة وَلَكِن نجْعَل النَّاسِي كالمسمى حكما بِدلَالَة النَّص كَمَا يَجْعَل النَّاسِي كالمباشر لركن الصَّوْم وَهُوَ الْإِمْسَاك حكما بِالنَّصِّ وَهَذَا مَعْلُول عَن الْقيَاس وتعليل مثله لتعدية الحكم لَا يجوز وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاح فَإِنَّهُ لَا يجد أصلا يكون فِيهِ اتِّفَاق على صِحَة النِّكَاح وَثُبُوت الْحل بِهِ بِغَيْر شُهُود حَتَّى لعلل ذَلِك الأَصْل فيتعدى الحكم فِيهِ إِلَى هَذَا الْفَرْع فَإِن قيل لَا كَذَلِك فَإِن النِّكَاح عقد مُعَاملَة حَتَّى يَصح من الْكَافِر وَالْمُسلم وَقد وجدنَا أصلا فِي عُقُود الْمُعَامَلَات يسْقط اشْتِرَاط الشُّهُود لصِحَّته شرعا وَهُوَ البيع وَإِن كَانَ يَتَرَتَّب عَلَيْهِ حل الِاسْتِمْتَاع فنعلل ذَلِك الأَصْل لتعدية الحكم بِهِ إِلَى الْفَرْع قُلْنَا من حَيْثُ إِن النِّكَاح مُعَاملَة أمد لَا يشْتَرط فِيهِ الشُّهُود فخصم هَذَا الْمُعَلل يَقُول بِمُوجب علته وَإِنَّمَا يَدعِي شَرط الشُّهُود فِيهِ اعْتِبَار أَنه عقد مَشْرُوع للتناسل وَأَنه يرد على مَحل لَهُ خطر وَهُوَ مصون عَن الابتذال فلإظهار خطره يخْتَص شَرط الشُّهُود وَلَا نجد أصلا فِي المشروعات بِهَذِهِ الصّفة لتعليل ذَلِك الأَصْل فيعدى الحكم بِهِ إِلَى الْفَرْع وَأما بَيَان صفته فنحو الِاخْتِلَاف فِي صفة الْعَدَالَة فِي شُهُود النِّكَاح وَفِي صفة الذُّكُورَة وَفِي صفة الْمُوَالَاة وَالتَّرْتِيب وَالنِّيَّة فِي الْوضُوء فَإِن الْوضُوء شَرط الصَّلَاة فَكَمَا لَا مدْخل للرأي فِي إِثْبَات أصل الشَّرْط بِهِ فَكَذَلِك فِي إِثْبَات الصّفة فِيمَا هُوَ شَرط وَأما بَيَان الحكم فنحو الِاخْتِلَاف فِي الرَّكْعَة الْوَاحِدَة أَهِي صَلَاة مَشْرُوعَة أم لَا وَفِي الْقِرَاءَة الْمَشْرُوعَة فِي الْأُخْرَيَيْنِ بالِاتِّفَاقِ أَهِي فَرِيضَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 أم لَا وَفِي الْقِرَاءَة الْمَفْرُوضَة فِي الْأَوليين أتتعين الْفَاتِحَة ركنا أم لَا فَإِنَّهُ لَا مدْخل للرأي فِي إِثْبَات هَذَا الحكم وَفِي الْمسْح بالخف وَالْمسح على الجرموق وعَلى الْعِمَامَة أهوَ جَائِز أم لَا وأمثلة هَذَا فِي الْكتب تكْثر فَإِن كل مَوضِع يكون الْكَلَام فِيهِ فِي الحكم ابْتِدَاء أهوَ ثَابت شرعا أم لَا لَا مدْخل للرأي فِي ذَلِك حَتَّى يشْتَغل فِيهِ بِالتَّعْلِيلِ للإثبات أَو للنَّفْي وَأما بَيَان صفته فنحو الِاخْتِلَاف فِي صفة صَدَقَة الْفطر وَالْأُضْحِيَّة وَالْوتر وَالِاخْتِلَاف فِي صفة الْإِبَانَة بِالطَّلَاق عِنْد الْقَصْد إِلَيْهِ من غير جعل وَفِي صفة الْملك الثَّابِت بِالنِّكَاحِ وَهُوَ الَّذِي يُقَابله الْبَدَل أهوَ مُشْتَرك بَين الزَّوْجَيْنِ أم يخْتَص الرجل بِهِ وَفِي صفة ملك النِّكَاح أَنه فِي حكم ملك الْمَنْفَعَة أَو فِي حكم ملك الْعين وَفِي صفة الطَّلَاق الْمَشْرُوع أَنه مُبَاح بِأَصْل الْوَضع أَو مَكْرُوه وَالْإِبَاحَة صفة عارضة فِيهِ للْحَاجة وَفِي صفة البيع الْمَشْرُوع حَال بَقَاء الْمُتَعَاقدين فِي الْمجْلس (أَنه لَازم بِنَفس العقد أَو متراخ إِلَى قطع الْمجْلس) وَفِي صفة الْملك الثَّابِت بِعقد الرَّهْن أَنه ملك الْيَد من جنس مَا يثبت بِهِ حَقِيقَة الِاسْتِيفَاء أَو ملك الْمُطَالبَة بِالْبيعِ فِي الدّين من جنس مَا يثبت بِالْكَفَالَةِ وأمثلة هَذِه الْفُصُول فِي الْكتب أَكثر من أَن تحصى ذكرنَا من كل قسم طرفا لبَيَان الطَّرِيق للمتأمل فِيهِ وَأما بَيَان الْقسم الرَّابِع فنحو الِاخْتِلَاف فِي الْمسْح بِالرَّأْسِ أَنه هَل يسن تثليثه فَإِنَّهُ يُوجد فِي الطَّهَارَة مَا هُوَ مسح وَلَا يكون التّكْرَار فِيهِ مسنونا فَيمكن تَعْلِيل ذَلِك الْمُتَّفق عَلَيْهِ لتعدية الحكم بِهِ إِلَى الْفَرْع الْمُخْتَلف فِيهِ وَيُوجد فِي أَعْضَاء الطَّهَارَة مَا يكون التّكْرَار فِيهِ مسنونا بالِاتِّفَاقِ فَيمكن تَعْلِيل ذَلِك لتعدية الحكم بِهِ إِلَى الْفَرْع فَيكون الْقيَاس فِي مَوْضِعه من الْجَانِبَيْنِ ثمَّ الْكَلَام بعد ذَلِك يَقع فِي التَّرْجِيح وَكَذَلِكَ إِذا وَقع الِاخْتِلَاف فِي اشْتِرَاط تعْيين النِّيَّة فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 الصَّوْم فَإِن هُنَاكَ أصلا مُتَّفقا عَلَيْهِ يتَأَدَّى فِيهِ الصَّوْم بِمُطلق النِّيَّة وَهُوَ النَّفْل الَّذِي هُوَ عين مَشْرُوعا فِي وقته فَيمكن تَعْلِيل ذَلِك لتعدية الحكم بِهِ إِلَى الْفَرْع وَهُنَاكَ أصل فِي الصَّوْم الَّذِي هُوَ فرض لَا يتَأَدَّى إِلَّا بِتَعْيِين النِّيَّة وَهُوَ صَوْم الْقَضَاء فَيمكن تَعْلِيل ذَلِك لتعدية الحكم بِهِ إِلَى الْفَرْع فَيكون الْقيَاس فِي مَوْضِعه من الْجَانِبَيْنِ ثمَّ الْكَلَام فِي التَّرْجِيح بعد ذَلِك فَإِن قيل فقد تكلمتم بِالْقِيَاسِ فِي الْعذر بِصَوْم يَوْم النَّحْر وَكَون الصَّوْم فِيهِ مَشْرُوعا أم لَا حكم لَا مدْخل للرأي فِيهِ ثمَّ اشتغلتم بالمقايسة فِيهِ قُلْنَا لأَنا وجدنَا أصلا مُتَّفقا عَلَيْهِ فِي كَون الصَّوْم مَشْرُوعا فِيهِ وَهُوَ سَائِر الْأَيَّام فَأمكن تَعديَة الحكم بتعليله إِلَى الْفَرْع ثمَّ يبْقى وَرَاء ذَلِك الْكَلَام فِي أَن النَّهْي الَّذِي جَاءَ لِمَعْنى فِي صفة هَذَا الْيَوْم وَهُوَ أَنه يَوْم عيد عمله يكون فِي إِفْسَاد الْمَشْرُوع مَعَ بَقَائِهِ فِي الأَصْل مَشْرُوعا أَو فِي رفع الْمَشْرُوع وانتساخه وَهَذَا لَا نثبته بِالرَّأْيِ وَإِنَّمَا نثبته بِدَلِيل النَّص وَهُوَ الرُّجُوع إِلَى مُوجب النَّهْي أَنه الِانْتِهَاء على وَجه يبْقى للمنتهي اخْتِيَار فِيهِ كَمَا قَررنَا وَقد تبين بِمَا ذكرنَا أَن الْمُجيب مَتى اشْتغل بِالتَّعْلِيلِ بِالرَّأْيِ فَالَّذِي يحِق على السَّائِل أَن ينظر أَولا أَن الْمُتَنَازع فِيهِ هَل هُوَ مَحل لَهُ وَأَن مَا نذكرهُ من الْعلَّة هَل يتَعَدَّى الحكم بِهِ إِلَى الْفَرْع فَإِن لم يكن بِهَذِهِ الصّفة لَا يشْتَغل بالاعتراض على علته وَلَكِن يتَبَيَّن لَهُ بطرِيق الْفِقْه أَن هَذَا التَّعْلِيل فِي غير مَوْضِعه وَأَنه مِمَّا لَا يصلح أَن يكون حجَّة حَتَّى يتَحَوَّل الْمُجيب إِلَى شَيْء آخر أَو يبين بطرِيق الْفِقْه أَنه تَعْلِيل صَحِيح فِي مَحَله مُوَافق لطريق السّلف فِي تعليلاتهم ليَكُون مَا يجْرِي بعد ذَلِك بَينهمَا على طَرِيق الْفِقْه فصل فِي بَيَان الْقيَاس وَالِاسْتِحْسَان قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْقسم الرَّابِع الَّذِي بَيناهُ فِي الْفَصْل الْمُتَقَدّم يشْتَمل على هذَيْن الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ الْقيَاس وَالِاسْتِحْسَان عندنَا وَقد طعن بعض الْفُقَهَاء فِي تصنيف لَهُ على عبارَة عُلَمَائِنَا فِي الْكتب إِلَّا أَنا تركنَا الْقيَاس واستحسنا وَقَالَ الْقَائِلُونَ بالاستحسان يتركون الْعَمَل بِالْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ حجَّة شَرْعِيَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 ويزعمون أَنهم يستحسنون ذَلِك وَكَيف يستحسن ترك الْحجَّة وَالْعَمَل بِمَا لَيْسَ بِحجَّة لاتباع هوى أَو شَهْوَة نفس فَإِن كَانُوا يُرِيدُونَ ترك الْقيَاس الَّذِي هُوَ حجَّة فالحجة الشَّرْعِيَّة هُوَ حق وماذا بعد الْحق إِلَّا الضلال وَإِن كَانُوا يُرِيدُونَ ترك الْقيَاس الْبَاطِل شرعا فالباطل مِمَّا لَا يشْتَغل بِذكرِهِ وَقد ذكرُوا فِي كتبهمْ فِي بعض الْمَوَاضِع أَنا نَأْخُذ بِالْقِيَاسِ فَإِن كَانَ المُرَاد هَذَا فَكيف يجوزون الْأَخْذ بِالْبَاطِلِ وَذكر من هَذَا الْجِنْس مَا يكون دَلِيل قلَّة الْحيَاء وَقلة الْوَرع وَكَثْرَة التهور لقائله فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الِاسْتِحْسَان لُغَة وجود الشَّيْء حسنا يَقُول الرجل استحسنت كَذَا أَي اعتقدته حسنا على ضد الاستقباح أَو مَعْنَاهُ طلب الْأَحْسَن لِلِاتِّبَاعِ الَّذِي هُوَ مَأْمُور بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {فبشر عباد الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه} وَهُوَ فِي لِسَان الْفُقَهَاء نَوْعَانِ الْعَمَل بِالِاجْتِهَادِ وغالب الرَّأْي فِي تَقْدِير مَا جعله الشَّرْع موكولا إِلَى آرائنا نَحْو الْمُتْعَة الْمَذْكُورَة فِي قَوْله تَعَالَى {مَتَاعا بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُحْسِنِينَ} أوجب ذَلِك بِحَسب الْيَسَار والعسرة وَشرط أَن يكون بِالْمَعْرُوفِ فَعرفنَا أَن المُرَاد مَا يعرف استحسانه بغالب الرَّأْي وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وعَلى الْمَوْلُود لَهُ رزقهن وكسوتهن بِالْمَعْرُوفِ} وَلَا يظنّ بِأحد من الْفُقَهَاء أَنه يُخَالف هَذَا النَّوْع من الِاسْتِحْسَان وَالنَّوْع الآخر هُوَ الدَّلِيل الَّذِي يكون مُعَارضا للْقِيَاس الظَّاهِر الَّذِي تسبق إِلَيْهِ الأوهام قبل إنعام التَّأَمُّل فِيهِ وَبعد إنعام التَّأَمُّل فِي حكم الْحَادِثَة وأشباهها من الْأُصُول يظْهر أَن الدَّلِيل الَّذِي عَارضه فَوْقه فِي الْقُوَّة فَإِن الْعَمَل بِهِ هُوَ الْوَاجِب فسموا ذَلِك اسْتِحْسَانًا للتمييز بَين هَذَا النَّوْع من الدَّلِيل وَبَين الظَّاهِر الَّذِي تسبق إِلَيْهِ الأوهام قبل التَّأَمُّل على معنى أَنه يمال بالحكم عَن ذَلِك الظَّاهِر لكَونه مستحسنا لقُوَّة دَلِيله وَهُوَ نَظِير عِبَارَات أهل الصناعات فِي التَّمْيِيز بَين الطّرق لمعْرِفَة المُرَاد فَإِن أهل النَّحْو يَقُولُونَ هَذَا نصب على التَّفْسِير وَهَذَا نصب على الْمصدر وَهَذَا نصب على الظّرْف وَهَذَا نصب على التَّعَجُّب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 وَمَا وضعُوا هَذِه الْعبارَات إِلَّا للتمييز بَين الأدوات الناصبة وَأهل الْعرُوض يَقُولُونَ هَذَا من الْبَحْر الطَّوِيل وَهَذَا من الْبَحْر المتقارب وَهَذَا من الْبَحْر المديد فَكَذَلِك اسْتِعْمَال عُلَمَائِنَا عبارَة الْقيَاس وَالِاسْتِحْسَان للتمييز بَين الدَّلِيلَيْنِ المتعارضين وَتَخْصِيص أَحدهمَا بالاستحسان لكَون الْعَمَل بِهِ مستحسنا ولكونه مائلا عَن سنَن الْقيَاس الظَّاهِر فَكَانَ هَذَا الِاسْم مستعارا لوُجُود معنى الِاسْم فِيهِ بِمَنْزِلَة الصَّلَاة فَإِنَّهَا اسْم للدُّعَاء ثمَّ أطلقت على الْعِبَادَة الْمُشْتَملَة على الْأَركان من الْأَفْعَال والأقوال لما فِيهَا من الدُّعَاء عَادَة ثمَّ اسْتِحْسَان الْعَمَل بأقوى الدَّلِيلَيْنِ لَا يكون من اتِّبَاع الْهوى وشهوة النَّفس فِي شَيْء وَقد قَالَ الشَّافِعِي فِي نَظَائِر هَذَا أستحب ذَلِك وَأي فرق بَين من يَقُول أستحسن كَذَا وَبَين من يَقُول أستحبه بل الِاسْتِحْسَان أفْصح اللغتين وَأقرب إِلَى مُوَافقَة عبارَة الشَّرْع فِي هَذَا المُرَاد وَظن بعض الْمُتَأَخِّرين من أَصْحَابنَا أَن الْعَمَل بالاستحسان أولى مَعَ جَوَاز الْعَمَل بِالْقِيَاسِ فِي مَوضِع الِاسْتِحْسَان وَشبه ذَلِك بالطرد مَعَ الْمُؤثر فَإِن الْعَمَل بالمؤثر أولى وَإِن كَانَ الْعَمَل بالطرد جَائِزا قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا وهم عِنْدِي فَإِن اللَّفْظ الْمَذْكُور فِي الْكتب فِي أَكثر الْمسَائِل إِلَّا أَنا تركنَا هَذَا الْقيَاس والمتروك لَا يجوز الْعَمَل بِهِ وَتارَة يَقُول إِلَّا أَنِّي أستقبح ذَلِك وَمَا يجوز الْعَمَل بِهِ من الدَّلِيل شرعا فاستقباحه يكون كفرا فَعرفنَا أَن الصَّحِيح ترك الْقيَاس أصلا فِي الْموضع الَّذِي نَأْخُذ بالاستحسان وَبِه يتَبَيَّن أَن الْعَمَل بالاستحسان لَا يكون مَعَ قيام الْمُعَارضَة وَلَكِن بِاعْتِبَار سُقُوط الأضعف بالأقوى أصلا وَقد قَالَ فِي كتاب السّرقَة إِذا دخل جمَاعَة الْبَيْت وجمعوا الْمَتَاع فَحَمَلُوهُ على ظهر أحدهم فَأخْرجهُ وَخَرجُوا مَعَه فِي الْقيَاس الْقطع على الْحمال خَاصَّة وَفِي الِاسْتِحْسَان يقطعون جَمِيعًا وَقَالَ فِي كتاب الْحُدُود إِذا اخْتلف شُهُود الزِّنَا فِي والزاويتين فِي بَيت وَاحِد فِي الْقيَاس لَا يحد الْمَشْهُود عَلَيْهِ وَفِي الِاسْتِحْسَان يُقَام الْحَد وَمَعْلُوم أَن الْحَد يسْقط بِالشُّبْهَةِ وَأدنى دَرَجَات الْمعَارض ايراث الشُّبْهَة فَكيف يستحسن إِقَامَة الْحَد فِي مَوضِع الشُّبْهَة وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 تصحح ردة الصَّبِي اسْتِحْسَانًا وَمَعْلُوم أَن عِنْد قيام دَلِيل الْمُعَارضَة يرجح الْمُوجب لِلْإِسْلَامِ وَإِن كَانَ هُوَ أَضْعَف كالمولود بَين كَافِر ومسلمة وَكَيف يستحسن الحكم بِالرّدَّةِ مَعَ بَقَاء دَلِيل مُوجب الْإِسْلَام فَعرفنَا أَن الْقيَاس مَتْرُوك أصلا فِي الْموضع الَّذِي يعْمل فِيهِ بالاستحسان وَإِنَّمَا سميناهما تعَارض الدَّلِيلَيْنِ بِاعْتِبَار أصل الْوَضع فِي كل وَاحِد من النَّوْعَيْنِ لَا أَن بَينهمَا مُعَارضَة فِي مَوضِع وَاحِد وَالدَّلِيل على أَن المُرَاد هَذَا مَا قَالَ فِي كتاب الطَّلَاق إِذا قَالَ لامْرَأَته إِذا حِضْت فَأَنت طَالِق فَقَالَت قد حِضْت فكذبها الزَّوْج فَإِنَّهَا لَا تصدق فِي الْقيَاس بِاعْتِبَار الظَّاهِر وَهُوَ أَن الْحيض شَرط الطَّلَاق كدخولها الدَّار وكلامها زيدا وَفِي الِاسْتِحْسَان تطلق لِأَن الْحيض شَيْء فِي بَاطِنهَا لَا يقف عَلَيْهِ غَيرهَا فَلَا بُد من قبُول قَوْلهَا فِيهِ بِمَنْزِلَة الْمحبَّة والبغض قَالَ وَقد يدْخل فِي هَذَا الِاسْتِحْسَان بعض الْقيَاس يَعْنِي بِهِ أَن فِي سَائِر الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بِالْحيضِ قبلنَا قَوْلهَا نَحْو حُرْمَة الْوَطْء وانقضاء الْعدة فاعتبار هَذَا الحكم بِسَائِر الْأَحْكَام نوع قِيَاس ثمَّ ترك الْقيَاس الأول أصلا لقُوَّة دَلِيل الِاسْتِحْسَان وَهُوَ أَنَّهَا مأمورة بالإخبار عَمَّا فِي رَحمهَا منهية عَن الكتمان قَالَ تَعَالَى {وَلَا يحل لَهُنَّ أَن يكتمن مَا خلق الله فِي أرحامهن} وَمن ضَرُورَة النَّهْي عَن الكتمان كَونهَا أمينة فِي الْإِظْهَار وَإِلَيْهِ أَشَارَ أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ من الْأَمَانَة أَن تؤتمن الْمَرْأَة على مَا فِي رَحمهَا فَصَارَ ذَلِك الْقيَاس متروكا باعتراض هَذَا الدَّلِيل الْقوي الْمُوجب للْعَمَل بِهِ فَالْحَاصِل أَن ترك الْقيَاس يكون بِالنَّصِّ تَارَة وبالإجماع أُخْرَى وبالضرورة أُخْرَى فَأَما تَركه بِالنَّصِّ فَهُوَ فِيمَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله فِي أكل النَّاسِي للصَّوْم لَوْلَا قَول النَّاس لَقلت يقْضِي يَعْنِي بِهِ رِوَايَة الْأَثر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ نَص يجب الْعَمَل بِهِ بعد ثُبُوته واعتقاد الْبطلَان فِي كل قِيَاس يُخَالِفهُ وَهَذَا اللَّفْظ نَظِير مَا قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فِي قصَّة الْجَنِين لقد كدنا أَن نعمل برأينا فِيمَا فِيهِ أثر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 وَكَذَلِكَ الْقيَاس يَأْبَى جَوَاز السّلم بِاعْتِبَار أَن الْمَعْقُود عَلَيْهِ مَعْدُوم عِنْد العقد تَرَكْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ الرُّخْصَة الثَّابِتَة بقوله عَلَيْهِ السَّلَام (وَرخّص فِي السّلم) وَأما ترك الْقيَاس بِدَلِيل الْإِجْمَاع فنحو الاستصناع فِيمَا فِيهِ للنَّاس تعامل فَإِن الْقيَاس يَأْبَى جَوَازه تركنَا الْقيَاس للْإِجْمَاع على التَّعَامُل بِهِ فِيمَا بَين النَّاس من لدن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى يَوْمنَا هَذَا (وَهَذَا) لِأَن الْقيَاس فِيهِ احْتِمَال الْخَطَأ والغلط فبالنص أَو الْإِجْمَاع يتَعَيَّن فِيهِ جِهَة الْخَطَأ فِيهِ فَيكون وَاجِب التّرْك لَا جَائِز الْعَمَل بِهِ فِي الْموضع الَّذِي تعين جِهَة الْخَطَأ فِيهِ وَأما التّرْك لأجل الضَّرُورَة فنحو الحكم بِطَهَارَة الْآبَار والحياض بَعْدَمَا نجست وَالْحكم بِطَهَارَة الثَّوْب النَّجس إِذا غسل فِي الإجانات فَإِن الْقيَاس يَأْبَى جَوَازه لِأَن مَا يرد عَلَيْهِ النَّجَاسَة يَتَنَجَّس بملاقاته تَرَكْنَاهُ للضَّرُورَة المحوجة إِلَى ذَلِك لعامة النَّاس فَإِن الْحَرج مَدْفُوع بِالنَّصِّ وَفِي مَوضِع الضَّرُورَة يتَحَقَّق معنى الْحَرج لَو أَخذ فِيهِ بِالْقِيَاسِ فَكَانَ متروكا بِالنَّصِّ وَكَذَلِكَ جَوَاز عقد الْإِجَارَة فَإِنَّهُ ثَابت بِخِلَاف الْقيَاس لحَاجَة النَّاس إِلَى ذَلِك فَإِن العقد على الْمَنَافِع بعد وجودهَا لَا يتَحَقَّق لِأَنَّهَا لَا تبقى زمانين فَلَا بُد من إِقَامَة الْعين المنتفع بهَا مقَام الْإِجَارَة فِي حكم جَوَاز العقد لحَاجَة النَّاس إِلَى ذَلِك ثمَّ كل وَاحِد مِنْهُمَا نَوْعَانِ فِي الْحَاصِل فأحد نَوْعي الْقيَاس مَا ضعف أَثَره وَهُوَ ظَاهر جلي وَالنَّوْع الآخر مِنْهُ مَا ظهر فَسَاده واستتر وَجه صِحَّته وأثره وَأحد نَوْعي الِاسْتِحْسَان مَا قوي أَثَره وَإِن كَانَ خفِيا وَالثَّانِي مَا ظهر أَثَره وخفي وَجه الْفساد فِيهِ وَإِنَّمَا يكون التَّرْجِيح بِقُوَّة الْأَثر لَا بالظهور وَلَا بالخفاء لما بَينا أَن الْعلَّة الْمُوجبَة للْعَمَل بهَا شرعا مَا تكون مُؤثرَة وَضَعِيف الْأَثر يكون سَاقِطا فِي مُقَابلَة قوي الْأَثر ظَاهرا كَانَ أَو خفِيا بِمَنْزِلَة الدُّنْيَا مَعَ العقبى فالدنيا ظَاهِرَة والعقبى باطنة ثمَّ ترجح العقبى حَتَّى وَجب الِاشْتِغَال بطلبها والإعراض عَن طلب الدُّنْيَا لقُوَّة الْأَثر من حَيْثُ الْبَقَاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 وَالْخُلُود والصفاء فَكَذَلِك الْقلب مَعَ النَّفس وَالْعقل مَعَ الْبَصَر وَبَيَان مَا يسْقط اعْتِبَاره من الْقيَاس لقُوَّة الْأَثر الِاسْتِحْسَان الَّذِي هُوَ الْقيَاس المستحسن فِي سُؤْر سِبَاع الطير فَالْقِيَاس فِيهِ النَّجَاسَة اعْتِبَارا بسؤر سِبَاع الْوَحْش بعلة حُرْمَة التَّنَاوُل وَفِي الِاسْتِحْسَان لَا يكون نجسا لِأَن السبَاع غير محرم الِانْتِفَاع بهَا فَعرفنَا أَن عينهَا لَيست بنجسة وَإِنَّمَا كَانَت نَجَاسَة سُؤْر سِبَاع الْوَحْش بِاعْتِبَار حُرْمَة الْأكل لِأَنَّهَا تشرب بلسانها وَهُوَ رطب من لُعَابهَا ولعابها يتجلب من لَحمهَا وَهَذَا لَا يُوجد فِي سِبَاع الطير لِأَنَّهَا تَأْخُذ المَاء بمنقارها ثمَّ تبتلعه ومنقارها عظم جَاف والعظم لَا يكون نجسا من الْمَيِّت فَكيف يكون نجسا من الْحَيّ ثمَّ تأيد هَذَا بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوص عَلَيْهَا فِي الْهِرَّة فَإِن معنى الْبلوى يتَحَقَّق فِي سُؤْر سِبَاع الطير لِأَنَّهَا تنقض من الْهَوَاء وَلَا يُمكن صون الْأَوَانِي عَنْهَا خُصُوصا فِي الصحارى وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن من ادّعى أَن القَوْل بالاستحسان قَول بتخصيص الْعلَّة فقد أَخطَأ لِأَن بِمَا ذكرنَا تبين أَن الْمَعْنى الْمُوجب لنجاسة سُؤْر سِبَاع الْوَحْش الرُّطُوبَة النَّجِسَة فِي الْآلَة الَّتِي تشرب بهَا وَقد انْعَدم ذَلِك فِي سِبَاع الطير فانعدم الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة وَذَلِكَ لَا يكون من تَخْصِيص الْعلَّة فِي شَيْء وعَلى اعْتِبَار الصُّورَة يتَرَاءَى ذَلِك وَلَكِن يتَبَيَّن عِنْد التَّأَمُّل انعدام الْعلَّة أَيْضا لِأَن الْعلَّة وجوب التَّحَرُّز عَن الرُّطُوبَة النَّجِسَة الَّتِي يُمكن التَّحَرُّز عَنْهَا من غير حرج وَقد صَار هَذَا مَعْلُوما بالتنصيص على هَذَا التَّعْلِيل فِي الْهِرَّة فَفِي كل مَوضِع يَنْعَدِم بعض أَوْصَاف الْعلَّة كَانَ انعدام الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة فَلَا يكون تَخْصِيصًا وَبَيَان الِاسْتِحْسَان الَّذِي يظْهر أَثَره وَيخْفى فَسَاده مَعَ الْقيَاس الَّذِي يسْتَتر أَثَره وَيكون قَوِيا فِي نَفسه حَتَّى يُؤْخَذ فِيهِ بِالْقِيَاسِ وَيتْرك الِاسْتِحْسَان فِيمَا يَقُول فِي كتاب الصَّلَاة إِذا قَرَأَ الْمُصَلِّي سُورَة فِي آخرهَا سَجْدَة فَرَكَعَ بهَا فِي الْقيَاس تجزيه وَفِي الِاسْتِحْسَان لَا تجزيه عَن السُّجُود وبالقياس نَأْخُذ فَوجه الِاسْتِحْسَان أَن الرُّكُوع غير السُّجُود وضعا أَلا ترى أَن الرُّكُوع فِي الصَّلَاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 لَا يَنُوب عَن سُجُود الصَّلَاة فَلَا يَنُوب عَن سَجْدَة التِّلَاوَة بطرِيق الأولى لِأَن الْقرب بَين رُكُوع الصَّلَاة وسجودها أظهر من حَيْثُ إِن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُوجب التَّحْرِيمَة وَلَو تَلا خَارج الصَّلَاة فَرَكَعَ لَهَا لم يجز عَن السَّجْدَة فَفِي الصَّلَاة أولى لِأَن الرُّكُوع هُنَا مُسْتَحقّ لجِهَة أُخْرَى وَهُنَاكَ لَا وَفِي الْقيَاس قَالَ الرُّكُوع وَالسُّجُود يتشابهان قَالَ تَعَالَى {وخر رَاكِعا} أَي سَاجِدا وَلَكِن هَذَا من حَيْثُ الظَّاهِر مجَاز مَحْض وَوجه الِاسْتِحْسَان من حَيْثُ الظَّاهِر اعْتِبَار شبه صَحِيح وَلَكِن قُوَّة الْأَثر للْقِيَاس مستتر وَوجه الْفساد فِي الِاسْتِحْسَان خَفِي وَبَيَان ذَلِك أَنه لَيْسَ الْمَقْصُود من السَّجْدَة عِنْد التِّلَاوَة عين السَّجْدَة وَلِهَذَا لَا تكون السَّجْدَة الْوَاحِدَة قربَة مَقْصُودَة بِنَفسِهَا حَتَّى لَا تلْزم بِالنذرِ إِنَّمَا الْمَقْصُود إِظْهَار التَّوَاضُع وَإِظْهَار الْمُخَالفَة للَّذين امْتَنعُوا من السُّجُود استكبارا مِنْهُم كَمَا أخبر الله عَنْهُم فِي مَوَاضِع السَّجْدَة قُلْنَا وَمعنى التَّوَاضُع يحصل بِالرُّكُوعِ وَلَكِن شَرطه أَن يكون بطرِيق هُوَ عبَادَة وَهَذَا يُوجد فِي الصَّلَاة لِأَن الرُّكُوع فِيهَا عبَادَة كالسجود وَلَا يُوجد خَارج الصَّلَاة ولقوة الْأَثر من هَذَا الْوَجْه أَخذنَا بِالْقِيَاسِ وَإِن كَانَ مستترا وَسقط اعْتِبَار الْجَانِب الآخر فِي مُقَابلَته وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْبيُوع إِذا وَقع الِاخْتِلَاف بَين الْمُسلم إِلَيْهِ وَرب السّلم فِي ذرعان الْمُسلم فِيهِ فِي الْقيَاس يَتَحَالَفَانِ وبالقياس نَأْخُذ وَفِي الِاسْتِحْسَان القَوْل قَول الْمُسلم إِلَيْهِ وَوجه الِاسْتِحْسَان أَن الْمُسلم فِيهِ مَبِيع فالاختلاف فِي ذرعانه لَا يكون اخْتِلَافا فِي أَصله بل فِي صفته من حَيْثُ الطول وَالسعَة وَذَلِكَ لَا يُوجب التَّحَالُف كالاختلاف فِي ذرعان الثَّوْب الْمَبِيع بِعَيْنِه وَوجه الْقيَاس أَنَّهُمَا اخْتلفَا فِي الْمُسْتَحق بِعقد السّلم وَذَلِكَ يُوجب التَّحَالُف ثمَّ أثر الْقيَاس مستتر وَلكنه قوي من حَيْثُ إِن عِنْد السّلم إِنَّمَا يعْقد بالأوصاف الْمَذْكُورَة لَا بِالْإِشَارَةِ إِلَى الْعين فَكَانَ الْمَوْصُوف بِأَنَّهُ خمس فِي سبع غير الْمَوْصُوف بِأَنَّهُ أَربع فِي سِتَّة فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن الِاخْتِلَاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 هُنَا فِي أصل الْمُسْتَحق بِالْعقدِ فأخذنا بِالْقِيَاسِ لهَذَا وَقَالَ فِي الرَّهْن إِذا ادّعى رجلَانِ كل وَاحِد مِنْهُمَا عينا فِي يَد رجل أَنه مَرْهُون عِنْده بدين لَهُ عَلَيْهِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَة فَفِي الِاسْتِحْسَان يقْضِي بِأَنَّهُ مَرْهُون عِنْدهمَا بِمَنْزِلَة مَا لَو رهن عينا من رجلَيْنِ وَهُوَ قِيَاس البيع فِي ذَلِك وَفِي الْقيَاس تبطل الْبَيِّنَتَانِ لِأَنَّهُ تعذر الْقَضَاء بِالرَّهْنِ لكل وَاحِد مِنْهُمَا فِي جَمِيعه فَإِن الْمحل يضيق عَن ذَلِك وَفِي نصفه لِأَن الشُّيُوع يمْنَع صِحَة الرَّهْن وأخذنا بِالْقِيَاسِ لقُوَّة أَثَره الْمُسْتَتر وَهُوَ أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا هُنَا إِنَّمَا يثبت الْحق لنَفسِهِ بِتَسْمِيَة على حِدة وكل وَاحِد مِنْهُمَا غير رَاض بمزاحمة الآخر مَعَه فِي ملك الْيَد الْمُسْتَفَاد بِعقد الرَّهْن بِخِلَاف الرَّهْن من رجلَيْنِ فهناك العقد وَاحِد فَيمكن إِثْبَات مُوجب العقد بِهِ متحدا فِي الْمحل وَذَلِكَ لَا يُمكن هُنَا وَهَذَا النَّوْع يعز وجوده فِي الْكتب لَا يُوجد إِلَّا قَلِيلا فَأَما النَّوْع الْمُتَقَدّم فَهُوَ فِي الْكتب أَكثر من أَن يُحْصى ثمَّ فرق مَا بَين الِاسْتِحْسَان الَّذِي يكون بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاع وَبَين مَا يكون بِالْقِيَاسِ الْخَفي المستحسن أَن حكم هَذَا النَّوْع يتَعَدَّى وَحكم النَّوْع الآخر لَا يتَعَدَّى لما بَينا أَن حكم الْقيَاس الشَّرْعِيّ التَّعْدِيَة فَهَذَا الْخَفي وَإِن اخْتصَّ باسم الِاسْتِحْسَان لِمَعْنى فَهُوَ لَا يخرج من أَن يكون قِيَاسا شَرْعِيًّا فَيكون حكمه التَّعْدِيَة وَالْأول معدول بِهِ عَن الْقيَاس بِالنَّصِّ وَهُوَ لَا يحْتَمل التَّعْدِيَة كَمَا بَينا وَبَيَانه فِيمَا إِذا اخْتلف البَائِع وَالْمُشْتَرِي فِي مِقْدَار الثّمن وَالْمَبِيع غير مَقْبُوض فِي الْقيَاس القَوْل قَول المُشْتَرِي لِأَن البَائِع يَدعِي عَلَيْهِ زِيَادَة فِي حَقه وَهُوَ الثّمن وَالْمُشْتَرِي مُنكر وَالْيَمِين بِالشَّرْعِ فِي جَانب الْمُنكر وَالْمُشْتَرِي لَا يَدعِي على البَائِع شَيْئا فِي الظَّاهِر إِذْ الْمَبِيع صَار مَمْلُوكا لَهُ بِالْعقدِ وَلَكِن فِي الِاسْتِحْسَان يتخالفان لِأَن المُشْتَرِي يَدعِي على البَائِع وجوب تَسْلِيم الْمَبِيع إِلَيْهِ عِنْد إِحْضَار أقل الثمنين وَالْبَائِع مُنكر لذَلِك وَالْبيع كَمَا يُوجب اسْتِحْقَاق الْملك على البَائِع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 يُوجب اسْتِحْقَاق الْيَد عَلَيْهِ عِنْد وُصُول الثّمن إِلَيْهِ ثمَّ هَذَا الِاسْتِحْسَان لكَونه قِيَاسا خفِيا يتَعَدَّى حكمه إِلَى الْإِجَازَة وَإِلَى النِّكَاح فِي قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله وَإِلَى مَا لَو وَقع الِاخْتِلَاف بَين الْوَرَثَة بعد موت الْمُتَبَايعين وَإِلَى مَا بعد هَلَاك السّلْعَة إِذا أخلف بَدَلا بِأَن قتل العَبْد الْمَبِيع قبل الْقَبْض وَلَو كَانَ الِاخْتِلَاف فِي الثّمن بَينهمَا بعد قبض الْمَبِيع فَإِن حكم التخالف عِنْد قيام السّلْعَة فِيهِ يثبت بِالنَّصِّ بِخِلَاف الْقيَاس فَلَا يحْتَمل التَّعْدِيَة حَتَّى إِذا كَانَ بعد هَلَاك السّلْعَة لَا يجْرِي التخالف سَوَاء أخلف بَدَلا أَو لم يخلف وَفِي الْإِجَازَة بعد اسْتِيفَاء الْمَعْقُود عَلَيْهِ لَا يجْرِي التخالف وَإِن كَانَ الِاخْتِلَاف بَين الْوَرَثَة بعد قبض السّلْعَة لَا يجْرِي التخالف وَقد يكون الْقيَاس الَّذِي فِي مُقَابلَة الِاسْتِحْسَان الَّذِي قُلْنَا أَصله مستحسن ثَابت بالأثر نَحْو مَا قَالَ فِي الصَّلَاة وَإِذا نَام فِي صلَاته فَاحْتَلَمَ فِي الْقيَاس يغْتَسل وَيَبْنِي كَمَا إِذا سبقه الْحَدث وَذَلِكَ مستحسن بالأثر وَفِي الِاسْتِحْسَان لَا يَبْنِي وَفِي هَذَا النَّوْع الْمَأْخُوذ بِهِ هُوَ الِاسْتِحْسَان على كل حَال لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة رُجُوع إِلَى الْقيَاس الْأَصْلِيّ بِبَيَان يظْهر بِهِ أَن هَذَا لَيْسَ فِي معنى المعدول بِهِ من الْقيَاس الْأَصْلِيّ بالأثر من كل وَجه فَلَو ثَبت الحكم فِيهِ كَانَ بطرِيق التَّعْدِيَة والمعدول بِهِ عَن الْقيَاس بالأثر لَا يحْتَمل التَّعْدِيَة وَذَلِكَ الْبَيَان أَن الْحَدث الصُّغْرَى لَا يحوجه إِلَى كشف الْعَوْرَة وَلَا إِلَى عمل كثير وتكثر الْبلوى فِيهِ من الصَّلَاة بِخِلَاف الْحَدث الْكُبْرَى فَإِذا لم يكن فِي مَعْنَاهُ من كل مَا لَهُ كَانَ إِثْبَات الحكم فِيهِ بطرِيق التَّعْدِيَة لَا بِالنَّصِّ بِعَيْنِه وَذَلِكَ لَا وَجه لَهُ فَتبين بِجَمِيعِ مَا ذكرنَا أَن القَوْل بالاستحسان لَا يكون تَخْصِيص الْعلَّة فِي شَيْء وَلَكِن فِي اعْتِبَار حِدة الْعِبَادَة اتِّبَاع الْكتاب وَالسّنة وَالْعُلَمَاء من السّلف وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن وَكَثِيرًا مَا كَانَ يسْتَعْمل ابْن مَسْعُود هَذِه الْعبارَة وَمَالك بن أنس فِي كِتَابه ذكر لفظ الِاسْتِحْسَان فِي مَوَاضِع وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله أستحسن فِي الْمُتْعَة ثَلَاثِينَ درهما فَعرفنَا أَنه لَا طعن فِي هَذِه الْعبارَة وَمن حَيْثُ الْمَعْنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 هُوَ قَول بانعدام الحكم عِنْد انعدام الْعلَّة وَأحد لَا يُخَالف هَذَا فَإنَّا إِذا جَوَّزنَا دُخُول الْحمام بِأَجْر بطرِيق الِاسْتِحْسَان فَإِنَّمَا تركنَا القَوْل بِالْفَسَادِ الَّذِي يُوجِبهُ الْقيَاس لِانْعِدَامِ عِلّة الْفساد وَهُوَ أَن فَسَاد العقد بِسَبَب جَهَالَة الْمَعْقُود عَلَيْهِ لَيْسَ لعين الْجَهَالَة بل لِأَنَّهَا تُفْضِي إِلَى مُنَازعَة مَانِعَة عَن التَّسْلِيم والتسلم وَهَذَا لَا يُوجد هُنَا وَفِي نَظَائِره فَكَانَ انعدام الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة لَا أَن يكون بطرِيق تَخْصِيص الْعلَّة فصل فِي بَيَان فَسَاد القَوْل بِجَوَاز التَّخْصِيص فِي الْعِلَل الشَّرْعِيَّة قَالَ رَضِي الله عَنهُ زعم أهل الطَّرْد أَن الَّذِي يَقُولُونَ بالعلل المؤثرة ويجعلون التَّأْثِير مصححا للعلل الشَّرْعِيَّة لَا يَجدونَ بدا من القَوْل بتخصيص الْعِلَل الشَّرْعِيَّة وَهُوَ غلط عَظِيم كَمَا نبينه وَزعم بعض أَصْحَابنَا أَن التَّخْصِيص فِي الْعِلَل الشَّرْعِيَّة جَائِز وَأَنه غير مُخَالف لطريق السّلف وَلَا لمَذْهَب أهل السّنة وَذَلِكَ خطأ عَظِيم من قَائِله فَإِن مَذْهَب من هُوَ مرضِي من سلفنا أَنه لَا يجوز التَّخْصِيص فِي الْعِلَل الشَّرْعِيَّة وَمن جوز ذَلِك فَهُوَ مُخَالف لأهل السّنة مائل إِلَى أقاويل الْمُعْتَزلَة فِي أصولهم وَصُورَة التَّخْصِيص أَن الْمُعَلل إِذا أورد عَلَيْهِ فصل يكون الْجَواب فِيهِ بِخِلَاف مَا يروم إثْبَاته بعلته يَقُول مُوجب علتي كَذَا إِلَّا أَنه ظهر مَانع فَصَارَ مَخْصُوصًا بِاعْتِبَار ذَلِك الْمَانِع بِمَنْزِلَة الْعَام الَّذِي يخص مِنْهُ بعض مَا يتَنَاوَلهُ بِالدَّلِيلِ الْمُوجب للتخصيص ثمَّ من جوز ذَلِك قَالَ التَّخْصِيص غير المناقضة لُغَة وَشرعا وفقها وإجماعا أما اللُّغَة فَلِأَن النَّقْض إبِْطَال فعل قد سبق بِفعل نشأه كنقض الْبُنيان والتخصيص بَيَان أَن الْمَخْصُوص لم يدْخل فِي الْجُمْلَة فَكيف يكون نقضا أَلا ترى أَن ضد النَّقْض الْبناء والتأليف وضد الْخُصُوص الْعُمُوم وَمن حَيْثُ السّنة التَّخْصِيص جَائِز فِي النُّصُوص الشَّرْعِيَّة من الْكتاب وَالسّنة والتناقض لَا يجوز فيهمَا بِحَال وَمن حَيْثُ الْإِجْمَاع فَالْقِيَاس الشَّرْعِيّ يتْرك الْعَمَل بِهِ فِي بعض الْمَوَاضِع بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاع أَو الضَّرُورَة وَذَلِكَ يكون تَخْصِيصًا لَا مناقضة وَلِهَذَا بَقِي ذَلِك الْقيَاس مُوجبا للْعَمَل فِي غير ذَلِك الْموضع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 وَالْقِيَاس المنتقض فَاسد لَا يجوز الْعَمَل بِهِ فِي مَوضِع وَمن حَيْثُ الْمَعْقُول إِن الْمُعَلل مَتى ذكر وَصفا صَالحا وَادّعى أَن الحكم مُتَعَلق بذلك الْوَصْف فيورد عَلَيْهِ فصل يُوجد فِيهِ ذَلِك الْوَصْف وَيكون الحكم بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يكون ذَلِك لفساد فِي أصل علته وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك لمَانع منع ثُبُوت الحكم أَلا ترى أَن سَبَب وجوب الزَّكَاة ملك النّصاب النامي ثمَّ يمْتَنع وجوب الزَّكَاة بعد وجوده لمَانع وَهُوَ انعدام حُصُول النَّمَاء بِمُضِيِّ الْحول وَلم يكن ذَلِك دَلِيل فَسَاد السَّبَب وَالْبيع بِشَرْط الْخِيَار يمْنَع ثُبُوت الْملك بِهِ لمَانع وَهُوَ الْخِيَار الْمَشْرُوط لَا لفساد أصل السَّبَب وَهُوَ البيع فَأَما إِذا قَالَ هَذَا الْموضع صَار مَخْصُوصًا من علتي لمَانع فقد ادّعى شَيْئا مُحْتملا فَيكون مطالبا بِالْحجَّةِ فَإِن أبرز مَانِعا صَالحا فقد أثبت مَا ادَّعَاهُ بِالْحجَّةِ فَيكون ذَلِك مَقْبُولًا مِنْهُ وَإِلَّا فقد سقط احتجاجه لِأَن الْمُحْتَمل لَا يكون حجَّة وَبِه فَارق الْمُدَّعِي التَّخْصِيص فِي النَّص فَإِنَّهُ لَا يُطَالب بِإِقَامَة الدَّلِيل على مَا يَدعِي أَنه صَار مَخْصُوصًا مِمَّا اسْتدلَّ بِهِ من عُمُوم الْكتاب وَالسّنة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا اسْتدلَّ بِهِ احْتِمَال الْفساد فَكَانَ جِهَة التَّخْصِيص مُتَعَيّنا فِيهِ بِالْإِجْمَاع وَهنا فِي علته احْتِمَال الْفساد فَمَا لم يتَبَيَّن دَلِيل الْخُصُوص فِيمَا ادّعى أَنه مَخْصُوص من عِلّة لَا يَنْتَفِي عَنهُ معنى الْفساد فَلهَذَا لَا يقبل مِنْهُ مَا لم يتَبَيَّن الْمَانِع ثمَّ جعل الْقَائِل الْمَوَانِع خَمْسَة أَقسَام مَا يمْنَع أصل الْعلَّة وَمَا يمْنَع تَمام الْعلَّة وَمَا يمْنَع ابْتِدَاء الحكم وَمَا يمْنَع تَمام الحكم وَمَا يمْنَع لُزُوم الحكم وَذَلِكَ يتَبَيَّن كُله حسا وَحكما فَمن حَيْثُ الْحس يتَبَيَّن هَذَا كُله فِي الرَّمْي فَإِن انْقِطَاع الْوتر أَو انكسار فَوق السهْم يمْنَع أصل الْفِعْل الَّذِي هُوَ رمي بعد تَمام قصد الرَّامِي إِلَى مُبَاشَرَته وإصابة السهْم حَائِطا أَو شَجَرَة ترده عَن سنَنه يمْنَع تَمام الْعلَّة بالوصول إِلَى المرمى وَدفع المرمي إِلَيْهِ عَن نَفسه بترس يَجعله أَمَامه يمْنَع ابْتِدَاء الحكم الَّذِي يكون الرَّمْي لأَجله بعد تَمام الْعلَّة بالوصول إِلَى الْمَقْصد وَذَلِكَ الْجرْح وَالْقَتْل ومداواته الْجراحَة بَعْدَمَا أَصَابَهُ حَتَّى اندمل وبرأ يمْنَع تَمام الحكم وَإِذا صَار بِهِ صَاحب فرَاش ثمَّ تطاول حَتَّى أَمن الْمَوْت مِنْهُ يمْنَع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 لُزُوم الحكم بِمَنْزِلَة صَاحب الفالج إِذا تطاول مَا بِهِ وَأمن الْمَوْت مِنْهُ كل بِمَنْزِلَة الصَّحِيح فِي تَصَرُّفَاته وَفِي الحكميات إِضَافَة البيع إِلَى الْحر يمْنَع انْعِقَاد أصل الْعلَّة وإضافته إِلَى مَال الْغَيْر يمْنَع انْعِقَاد تَمام الْعلَّة فِي حق الْمَالِك حَتَّى تيعين جِهَة الْبطلَان فِيهِ بِمَوْتِهِ وَاشْتِرَاط الْخِيَار من الْمَالِك لنَفسِهِ فِي البيع يمْنَع ابْتِدَاء الحكم وَثُبُوت خِيَار الرُّؤْيَة للْمُشْتَرِي يمْنَع تَمام الحكم حَتَّى لَا تتمّ الصَّفْقَة بِالْقَبْضِ مَعَه وَثُبُوت خِيَار الْعَيْب يمْنَع لُزُوم الحكم حَتَّى يتَمَكَّن من رده بعد تَمام الصَّفْقَة بِالْقَبْضِ وَالْحجّة لعلمائنا فِي إبِْطَال القَوْل بتخصيص الْعلَّة الإستدلال بِالْكتاب والمعقول وَالْبَيَان الَّذِي لَا يُمكن إِنْكَاره أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى {قل آلذكرين حرم أم الْأُنْثَيَيْنِ أما اشْتَمَلت عَلَيْهِ أَرْحَام الْأُنْثَيَيْنِ نبئوني بِعلم إِن كُنْتُم صَادِقين} فَفِيهِ مُطَالبَة الْكفَّار بِبَيَان الْعلَّة فِيمَا ادعوا فِيهِ الْحُرْمَة على وَجه لَا مدفع لَهُم فصاورا محجوجين بِهِ وَذَلِكَ الْوَجْه أَنهم إِذا بينوا أحد هذهه الْمعَانى أَن الْحُرْمَة لأَجله انْتقض عَلَيْهِم بإقرارهم بِالْحلِّ فِي الْموضع الآخر مَعَ وجود ذَلِك الْمَعْنى فِيهِ وَلَو كَانَ التَّخْصِيص فِي علل الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة جَائِزا مَا كَانُوا محجوجين فَإِن أحدا لَا يعجز من أَن يَقُول امْتنع ثُبُوت حكم الْحُرْمَة فِي ذَلِك الْموضع لمَانع وَقد كَانُوا عقلاء يَعْتَقِدُونَ الْحل فِي الْموضع الآخر لشُبْهَة أَو معنى تصور عِنْدهم وَفِي قَوْله تَعَالَى {نبئوني بِعلم} إِشَارَة إِلَى أَن الْمصير إِلَى تَخْصِيص الْعِلَل الشَّرْعِيَّة لَيْسَ من الْعلم فِي شَيْء فَيكون جهلا وَأما الْمَعْقُول فَلِأَن الْعِلَل الشَّرْعِيَّة حكمهَا التَّعْدِيَة كَمَا قَررنَا وَبِدُون التَّعْدِيَة لَا تكون صَحِيحَة أصلا لِأَنَّهَا خَالِيَة عَن مُوجبهَا وَإِذا جَازَ قيام الْمَانِع فِي بعض الْمَوَاضِع الَّذِي يتَعَدَّى الحكم إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْعلَّة جَازَ قِيَامه فِي جَمِيع الْمَوَاضِع فيؤدى إِلَى القَوْل بِأَنَّهَا عِلّة صَحِيحَة من غير أَن يتَعَدَّى الحكم بهَا إِلَى شَيْء من الْفُرُوع وَقد أثبتنا فَسَاد هَذَا القَوْل بِالدَّلِيلِ ثمَّ إِن كَانَ تَعديَة الحكم بهَا إِلَى فرع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 دَلِيل صِحَّتهَا فانعدام الحكم بهَا إِلَى فرع آخر تُوجد فِيهِ تِلْكَ الْعلَّة دَلِيل فَسَادهَا وَمَعَ مُسَاوَاة دَلِيل الصِّحَّة وَالْفساد لَا تثبت الْحجَّة الشَّرْعِيَّة مُوجبَة للْعَمَل يقرره أَن الْمَانِع الذى يدعى فِي الْموضع الْمَخْصُوص لَا بُد أَن يكون ثَابتا بِمثل مَا ثبتَتْ بِهِ الْعلَّة الْمُوجبَة للْحكم لِأَنَّهُ إِذا كَانَ دونه لَا يصلح دافعا لَهُ وَلَا مَانِعا لحكمه وَإِذا كَانَ مثلا لَهُ فَذَلِك الْمَانِع يُمكن تَعْلِيله بعلة توجب تَعديَة حكم النفى إِلَى سَائِر الْفُرُوع مثل الأَصْل الَّذِي علله الْمُعَلل بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ من الْوَصْف لإِثْبَات الحكم فِيهِ فتحقق الْمُعَارضَة بَينهمَا من هَذَا الْوَجْه وأى مناقضة أبين من التَّعَارُض على وَجه المضادة بِصفة التساوى ثمَّ قد بَينا فِيمَا سبق أَن دَلِيل الْخُصُوص يشبه النّسخ بصيغته والإستثناء بِحكمِهِ فَإِنَّهُ مُسْتَقل بِنَفسِهِ كدليل النّسخ وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا مُقَارنًا معنى كالإستثناء وَوَاحِد من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ لَا يتَحَقَّق فِي الْعِلَل فَإِن نسخ الْعلَّة بِالْعِلَّةِ لَا يجوز والخصم يجوز أَن يكون الْمَانِع عِلّة مثل الْعلَّة الَّتِى يدعى تخصيصها وَكَيف يجوز النّسخ وَالْعلَّة فِيمَا احْتِمَال الْفساد لكَونهَا مستنبطة بالرأى فَإِذا ظهر مَا يمْنَع الْعَمَل بهَا أصلا تتَعَيَّن جِهَة الْفساد فِيهَا بِخِلَاف النَّص فَإِنَّهُ لَا يحْتَمل جِهَة الْفساد فالنسخ يكون بَيَانا لمُدَّة الْعَمَل بِهِ وَلِهَذَا نوع بَيَان آخر فَإِن الْخُصُوص يتَبَيَّن أَنه مَعْمُول بِهِ فِي بعض الْمحَال دون الْبَعْض وَذَلِكَ إِنَّمَا يجوز فِيمَا يجوز القَوْل فِيهِ بالنسخ مَعَ صِحَّته حَتَّى يُقَال إِنَّه مَعْمُول بِهِ فِي بعض الْأَوْقَات دون الْبَعْض والإستثناء إِنَّمَا يكون فِي الْعبارَات ليتبين بِهِ أَن الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق فِي الْمعَانى الْخَالِصَة فيتبين بِمَا ذكرنَا أَن القَوْل بالتخصيص مُسْتَقِيم فِي النُّصُوص من حَيْثُ إِن بِدَلِيل الْخُصُوص لَا تتمكن شُبْهَة الْفساد فِي النَّص بِوَجْه بل يتَبَيَّن أَن اسْم النَّص لم يكن متناولا للموضع الْمَخْصُوص مَعَ كَون الْعَام صَحِيحا مُوجبا للْعَمَل قطعا قبل قيام دَلِيل الْخُصُوص فَمن جوز تَخْصِيص الْعلَّة لَا يجد بدا من القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين أجمع وعصمة الإجتهاد عَن احْتِمَال الْخَطَأ وَالْفساد كعصمة النَّص من ذَلِك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 وَهَذَا تَصْرِيح بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب لما هُوَ الْحق حَقِيقَة وَأَن الِاجْتِهَاد يُوجب علم الْيَقِين وَفِيه قَول بِوُجُوب الْأَصْلَح وَفِيه من وَجه آخر قَول بالمنزلة بَين المنزلتين وبالخلود فِي النَّار لأَصْحَاب الْكَبَائِر إِذا مَاتُوا قبل التَّوْبَة فَهَذَا معنى قَوْلنَا إِن فِي القَوْل بِجَوَاز تَخْصِيص الْعلَّة ميلًا إِلَى أصُول الْمُعْتَزلَة من وُجُوه وَلَكنَّا نقُول انعدام الحكم لَا يكون إِلَّا بعد نُقْصَان وصف أَو زِيَادَة وصف وَهُوَ الَّذِي يسمونه مَانِعا مُخَصّصا وبهذه الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان تَتَغَيَّر الْعلَّة لَا محَالة فَيصير مَا هُوَ عِلّة الحكم منعدما حكما وَعدم الحكم عِنْد انعدام الْعلَّة لَا يكون من تَخْصِيص الْعلَّة فِي شَيْء وَبَيَان هَذَا أَن الْمُوجب لِلزَّكَاةِ شرعا هُوَ النّصاب النامي الحولي عرف بقوله عَلَيْهِ السَّلَام (لَا زَكَاة فِي مَال حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول) وَالْمرَاد نفي الْوُجُوب والعلل الشَّرْعِيَّة لَا توجب الحكم بذواتها بل بِجعْل الشَّرْع إِيَّاهَا مُوجبَة على مَا بَينا أَن الْمُوجب هُوَ الله تَعَالَى وَالْإِضَافَة إِلَى الْعلَّة لبَيَان أَن الشَّرْع جعلهَا مُوجبَة تيسيرا علينا فَإِذا كَانَت بِهَذَا الْوَصْف مُوجبَة شرعا عرفنَا أَن عِنْد انعدام هَذَا الْوَصْف يَنْعَدِم الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة الْمُوجبَة وَلَا يلْزمنَا جَوَاز الْأَدَاء لِأَن الْعلَّة الْمُوجبَة غير الْعلَّة المجوزة للْأَدَاء وَقد قَررنَا هَذَا فِيمَا سبق أَن الْجُزْء الأول من الْوَقْت مجوز أَدَاء الصَّلَاة فرضا وَإِن لم يكن مُوجبا للْأَدَاء عينا مَعَ أَن هَذَا الْوَصْف مُؤثر فَإِن النَّمَاء الَّذِي هُوَ مَقْصُود إِنَّمَا يحصل بِمُضِيِّ الْمدَّة أَلا ترى أَن الْوُجُوب يتَكَرَّر بِتَكَرُّر الْحول لتجدد معنى النَّمَاء بِمُضِيِّ كل حول وَكَذَلِكَ البيع بِشَرْط الْخِيَار فَإِن الْمُوجب للْملك شرعا البيع الْمُطلق وَمَعَ شَرط الْخِيَار لَا يكون مُطلقًا بل بِهَذِهِ الزِّيَادَة يصير البيع فِي حق الحكم كالمتعلق بِالشّرطِ وَقد بَينا أَن الْمُتَعَلّق بِالشّرطِ غير الْمُطلق ولصفة الْإِطْلَاق تَأْثِير أَيْضا فَإِن الْمُوجب للْملك بِالنَّصِّ التِّجَارَة عَن ترَاض وَتَمام الرِّضَا يكون عِنْد إِطْلَاق الْإِيجَاب لَا مَعَ شَرط الْخِيَار فَظهر أَن الْعلَّة تنعدم بِزِيَادَة وصف أَو نُقْصَان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 وصف وَهُوَ الْحَاصِل الَّذِي يجب مراعاته فَإِنَّهُم يسمون هَذَا الْمَعْنى المغير مَانِعا مُخَصّصا فَيَقُولُونَ انعدام الحكم مَعَ بَقَاء الْعلَّة بِوُجُود مَانع وَذَلِكَ تَخْصِيص كالنص الْعَام يلْحقهُ خُصُوص فَيبقى نصا فِيمَا وَرَاء مَوضِع الْخُصُوص وَنحن نقُول تنعدم الْعلَّة حِين ثَبت المغير فينعدم الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة وَهَذَا فِي الْعِلَل مُسْتَقِيم بِخِلَاف النُّصُوص فَإِن بِالنَّصِّ الْخَاص لَا يَنْعَدِم النَّص الْعَام وعَلى هَذَا الطَّرِيق مَا استحسنه عُلَمَاؤُنَا من الْقيَاس فِي كتبهمْ فَإِن الِاسْتِحْسَان قد يكون بِالنَّصِّ وبوجود النَّص تنعدم الْعلَّة الثَّابِتَة بِالرَّأْيِ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبر بِالْعِلَّةِ أصلا فِي مَوضِع النَّص وَلَا فِي مُعَارضَة حكم النَّص وَكَذَلِكَ الِاسْتِحْسَان إِذا كَانَ بِسَبَب الْإِجْمَاع لِأَن الْإِجْمَاع كالنص من كتاب أَو سنة فِي كَونه مُوجبا الْعلم وَكَذَلِكَ مَا يكون عَن ضَرُورَة فَإِن مَوضِع الضَّرُورَة مجمع عَلَيْهِ أَو مَنْصُوص عَلَيْهِ وَلَا يعْتَبر بِالْعِلَّةِ فِي مَوضِع النَّص فَكَانَ انعدام الحكم فِي هَذِه الْمَوَاضِع لِانْعِدَامِ الْعلَّة وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ الِاسْتِحْسَان بِقِيَاس مستحسن ظهر قُوَّة أَثَره لما بَينا أَن الضَّعِيف فِي مُعَارضَة الْقوي مَعْدُوم حكما وَبَيَان مَا ذكرنَا فِي أَن النَّائِم إِذا صب فِي حلقه مَاء وَهُوَ صَائِم لم يفْسد صَوْمه على قَول زفر لِأَنَّهُ مَعْذُور كالناسي أَو أبلغ مِنْهُ وَفَسَد صَوْمه عندنَا لفَوَات ركن الصَّوْم وَالْعِبَادَة لَا تتأدى بِدُونِ ركنها فَيلْزم على هَذَا النَّاسِي فَمن يجوز تَخْصِيص الْعلَّة يَقُول انْعَدم الحكم هُنَاكَ لوُجُود مَانع وَهُوَ الْأَثر فَكَانَ مَخْصُوصًا من هَذِه الْعلَّة بِهَذَا الطَّرِيق مَعَ بَقَاء الْعلَّة وَنحن نقُول انْعَدم الحكم فِي النَّاسِي لِانْعِدَامِ الْعلَّة حكما فَإِن النسْيَان لَا صنع فِيهِ لأحد من الْعباد وَقد ثَبت بِالنَّصِّ أَن الله تَعَالَى أطْعمهُ وسقاه وَصَارَ فعله فِي الْأكل سَاقِط الِاعْتِبَار وتفويت الرُّكْن إِنَّمَا يكون بِفعل الْأكل فَإِذا لم يبْق فعله فِي الْأكل شرعا كَانَ ركن الصَّوْم قَائِما حكما وَإِنَّمَا لم يحصل الْفطر هُنَا لِانْعِدَامِ الْعلَّة الْمُوجبَة للفطر ثمَّ النَّائِم لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِأَن الْفِعْل الَّذِي يفوت بِهِ ركن الصَّوْم مُضَاف إِلَى الْعباد هُنَا فَيبقى مُعْتَبرا مفوتا ركن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 الصَّوْم بِخِلَاف إِذا كَانَ مُضَافا إِلَى من لَهُ الْحق وَكَذَلِكَ قُلْنَا إِن الْمَغْصُوب يصير مَمْلُوكا للْغَاصِب عِنْد تقرر الضَّمَان عَلَيْهِ لِأَن بِهَذَا السَّبَب لما تقرر الْملك فِي ضَمَان الْقيمَة وَهُوَ حكم شرعى فيقرر الْملك فِيمَا يُقَابله فَيلْزم على هَذَا فصل الْمُدبر من حَيْثُ إِنَّه يَتَقَرَّر الْملك فِي قِيمَته للْمَغْصُوب مِنْهُ وَلَا يثبت الْملك فِي الْمُدبر للْغَاصِب فَمن يرى تَخْصِيص الْعلَّة يَقُول امْتنع ثُبُوت الحكم فِي الْمُدبر مَعَ وجود الْعلَّة لمَانع وَهُوَ أَنه غير مُحْتَمل للنَّقْل من ملك إِلَى ملك وَنحن نقُول انعدمت الْعلَّة الْمُوجبَة للْملك فِي الْمُدبر فينعدم الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة وَهَذَا لِأَن الْعلَّة تقرر الْملك فِي قيمَة هِيَ بدل عَن الْعين وَقِيمَة الْمُدبر لَيْسَ بِبَدَل عَن عينهَا لِأَن شَرط كَون الْقيمَة بَدَلا عَن الْعين أَن تكون الْعين مُحْتملا للتَّمْلِيك وَذَلِكَ لَا يُوجد فِي الْمُدبر لِأَن الْمُدبر جرى فِيهِ عتق من وَجه وَالْعِتْق فِي الْمحل يمْنَع وجوب قيمَة الْعين بِسَبَب الْغَصْب وَلَكِن الضَّمَان وَاجِب بِاعْتِبَار الْجِنَايَة الَّتِى تمكنت من الْغَاصِب بتفويت يَده لِأَن مَعَ جَرَيَان الْعتْق فِيهِ من وَجه قد بقيت الْيَد والمالية مُسْتَحقَّة للْمَالِك فَإِن انعدام ذَلِك يعْتَمد ثُبُوت الْعتْق فِي الْمحل من كل وَجه فَعرفنَا أَنه إِنَّمَا انْعَدم الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة بِوُجُود مَا يغيرها وَكَذَلِكَ إِذا قُلْنَا فِي الزِّنَا إِنَّه ثبتَتْ بِهِ حُرْمَة الْمُصَاهَرَة لِأَن ثُبُوت الْحُرْمَة فِي الأَصْل بِاعْتِبَار الْوَلَد الَّذِي يتخلق من الماءين فَيصير بِوَاسِطَة الْوَلَد أمهاتها وبناتها فِي حَقه كأمهاته وَبنَاته وأبناؤه وآباؤه فِي حَقّهَا كآبائها وأبنائها ثمَّ الْوَطْء فِي مَحل الْحَرْث سَبَب لحُصُول هَذَا الْوَلَد فيقام مقَامه وَيلْزم على هَذَا أَنه لَا يتَعَدَّى الْحُرْمَة إِلَى الْأَخَوَات والعمات والخالات من الْجَانِبَيْنِ فَمن يَقُول بتخصيص الْعلَّة يَقُول امْتنع ثُبُوت الحكم مَعَ قيام الْعلَّة فِي هَذِه الْمَوَاضِع للنَّص أَو الْإِجْمَاع وَنحن نقُول إِنَّمَا انْعَدم الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة لِأَن فِي النَّص الْمُوجب لحُرْمَة الْمُصَاهَرَة ذكر الْأُمَّهَات وَالْبَنَات والآباء وَالْأَبْنَاء خَاصَّة فامتداد الْحُرْمَة إِلَى الْأَخَوَات والعمات والخالات يكون تغييرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 وإثباتا احرمة أُخْرَى لِأَن الْمَقْصُود غير الممتد وَإِنَّمَا يُعلل الْمَنْصُوص وَلَا يجوز تَبْدِيل الْمَنْصُوص بِالتَّعْلِيلِ فَكَانَ انعدام الحكم فِي هَذِه الْمَوَاضِع لِانْعِدَامِ الْعلَّة لَا لمَانع مَعَ قيام الْعلَّة وَكَذَلِكَ إِن ألزم أَن الْمَوْطُوءَة لَا تحرم على الواطىء بِوَاسِطَة الْوَلَد والقرب بَينهمَا أمس فالتخريج هَكَذَا أَنه إِنَّمَا انْعَدم الحكم هُنَاكَ لِانْعِدَامِ الْعلَّة بِاعْتِبَار مورد النَّص كَمَا قَررنَا وَهَذَا أصل كَبِير وَفقه عَظِيم من ترك التعنت وَتَأمل عَن إنصاف يخرج لَهُ جَمِيع مَا لم يذكر بِمَا هُوَ من نَظَائِر مَا ذكرنَا عَلَيْهِ وعمدة هَذَا الْفِقْه معرفَة الْخُصُوص فَإِن النصين إِذا كَانَ أَحدهمَا عَاما وَالْآخر خَاصّا فالعام لَا يَنْعَدِم بالخاص حَقِيقَة وَلَا حكما وَلَيْسَ فِي وَاحِد من النصين توهم الْفساد فَعرفنَا أَن الْخَاص كَانَ مُخَصّصا للموضع الذى تنَاوله من حكم الْعَام مَعَ بَقَاء الْعَام حجَّة فِيمَا وَرَاء ذَلِك وَإِن تمكن فِيهِ نوع شُبْهَة من حَيْثُ إِنَّه صَار كالمستعار فِيمَا هُوَ حَقِيقَة حكم الْعَام فَأَما الْعلَّة وَإِن كَانَت مُؤثرَة فَفِيهَا احْتِمَال الْفساد وَالْخَطَأ وَهِي تحْتَمل الإعدام حكما فَإِذا جَاءَ مَا يغيرها جعلناها مَعْدُومَة حكما فِي ذَلِك الْموضع ثمَّ انْعَدم الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة وَلَا يكون فِيهَا شَيْء من معنى التَّنَاقُض وَلَا يكون من التَّخْصِيص فِي شَيْء وَالله أعلم بَاب وُجُوه الإحتجاج بِمَا لَيْسَ بِحجَّة مُطلقًا قَالَ رضى الله عَنهُ فَهَذَا الْبَاب يشْتَمل على فُصُول فَالَّذِي نبدأ بِهِ الإحتجاج بِلَا دَلِيل فَإِن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِيهِ على أقاويل قَالَ بَعضهم لَا دَلِيل حجَّة للنافى على خَصمه وَلَا يكون حجَّة للمثبت وَقَالَ بَعضهم هِيَ حجَّة دافعة لَا مُوجبَة وَالَّذِي دلّ عَلَيْهِ مسَائِل الشَّافِعِي رَحمَه الله أَنَّهَا حجَّة دافعة لإبقاء مَا ثَبت بدليله لَا لإِثْبَات مَا لم يعلم ثُبُوته بدليله والذى دلّ عَلَيْهِ مسَائِل أَصْحَابنَا أَن هَذَا فِي حق الله تَعَالَى فَأَما فِي حق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 الْعباد لَا تكون هِيَ حجَّة لأحد الْخَصْمَيْنِ على الآخر فِي الدّفع وَلَا فِي الْإِيجَاب لَا فِي الْإِبْقَاء وَلَا فِي الْإِثْبَات ابْتِدَاء فَأَما الْفَرِيق الأول احْتَجُّوا وَقَالُوا أقوى المناظرة مَا يكون فِي إِثْبَات التَّوْحِيد وَفِي أُمُور النُّبُوَّة فقد علمنَا الله تَعَالَى الِاحْتِجَاج بِلَا دَلِيل على نفي الشّرك بقوله {وَمن يدع مَعَ الله إِلَهًا آخر لَا برهَان لَهُ بِهِ} وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُجَادِل الْمُشْركين فِي إِثْبَات نبوته وَكَانُوا ينفون ذَلِك وَهُوَ يثبت ثمَّ كَانُوا لَا يطالبون على هَذَا النَّفْي بِشَيْء فَوق قَوْلهم لَا دَلِيل على نبوته واشتغل بعد جحودهم بِإِثْبَات نبوته بِالْآيَاتِ المعجزة والبراهين القاطعة فَعرفنَا بِهَذَا أَن لَا دَلِيل حجَّة للنافي على خَصمه إِلَى أَن يثبت الْخصم مَا يَدعِي ثُبُوته بِالدَّلِيلِ وَهَذَا لِأَن النَّافِي إِنَّمَا لَا يُطَالب بِدَلِيل لكَونه متمسكا بِالْأَصْلِ وَهُوَ عدم الدَّلِيل الْمُوجب أَو الْمَانِع وَالْمحرم أَو الْمُبِيح وَوُجُوب التَّمَسُّك بِالْأَصْلِ إِلَى أَن يظْهر الدَّلِيل المغير لَهُ طَرِيق فِي الشَّرْع وَلِهَذَا جعل الشَّرْع الْبَيِّنَة فِي جَانب الْمُدَّعِي لَا فِي جَانب الْمُنكر لِأَنَّهُ متمسك بِالْأَصْلِ وَهُوَ أَنه لَا حق للْغَيْر فِي ذمَّته وَلَا فِي يَده وَذَلِكَ حجَّة لَهُ على خَصمه فِي الْكَفّ عَن التَّعَرُّض لَهُ مَا لم يقم الدَّلِيل وأيد مَا ذكرنَا قَوْله تَعَالَى {قل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ محرما} الْآيَة فقد علم نبيه عَلَيْهِ السَّلَام الِاحْتِجَاج بِعَدَمِ الدَّلِيل الْمُوجب للْحُرْمَة على الَّذين كَانُوا يثبتون الْحُرْمَة فِي أَشْيَاء كالسائبة والوصيلة والحام والبحيرة فَثَبت بِهَذَا أَن لَا دَلِيل حجَّة للنافي على خَصمه وَهَذَا الَّذِي ذَهَبُوا إِلَيْهِ غير مُوَافق لشَيْء من الْعِلَل المنقولة عَن السّلف فِي نفي الحكم وإثباته وَهُوَ يَنْتَهِي إِلَى الْجَهْل أَيْضا فَإنَّا نقُول لهَذَا الْقَائِل لَا دَلِيل على الْإِثْبَات عنْدك أَو عِنْد غَيْرك فَإِن خصمك يَدعِي قيام الدَّلِيل عِنْده وكما أَن دَعْوَاهُ الدَّلِيل عِنْده لَا يكون حجَّة عَلَيْك حَتَّى تبرزه فدعواك عَلَيْهِ أَن لَا دَلِيل عِنْدِي لَا يكون حجَّة عَلَيْهِ وَإِن قلت لَا دَلِيل عِنْدِي فَهَذَا إِقْرَار مِنْك بِالْجَهْلِ وَالتَّقْصِير فِي الطّلب فَكيف يكون حجَّة على غَيْرك وَإِن انْعَدم مِنْك التَّقْصِير فِي الطّلب فَأَنت مَعْذُور إِذا لم تقف على الدَّلِيل وعذرك لَا يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 حجَّة على الْغَيْر أصلا أَلا ترى أَن فِي زمَان النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ النَّاسِخ ينزل فَيبلغ ذَلِك بعض النَّاس دون الْبَعْض وَمن لم يبلغهُ يكون مَعْذُورًا فِي الْعَمَل بالمنسوخ وَلَا يكون ذَلِك حجَّة لَهُ على غَيره فَإِن قيل قَوْلكُم هَذَا غير مُوَافق لتعليل السّلف فَاسد وَقد قَالَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ لَا خمس فِي العنبر لِأَن الْأَثر لم يرد بِهِ وَهَذَا احتجاج بِلَا دَلِيل قُلْنَا هَذَا أَن لَو ذكر هَذَا اللَّفْظ على سَبِيل الِاحْتِجَاج على من يُوجب فِيهِ الْخمس وَلَيْسَ كَذَلِك بل إِنَّمَا ذكره على وَجه بَيَان الْعذر لنَفسِهِ ثمَّ علل فِيهِ بعلة مُؤثرَة فِي مَوضِع الِاحْتِجَاج على الْغَيْر على مَا ذكر مُحَمَّد رَحمَه الله فَإِنَّهُ قَالَ لَا خمس فِي اللُّؤْلُؤ والعنبر قلت لم قَالَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة السّمك قلت وَمَا بَال السّمك لَا يجب فِيهِ الْخمس قَالَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة المَاء وَهُوَ إِشَارَة إِلَى مُؤثر فَإِن الأَصْل فِي الْخمس الْغَنَائِم وَإِنَّمَا يُوجب الْخمس فِيمَا يصاب مِمَّا كَانَ أَصله فِي يَد الْعَدو وَوَقع فِي يَد الْمُسلمين بِإِيجَاف الْخَيل والركاب فَيكون فِي معنى الْغَنِيمَة والمستخرج من الْبحار لم يكن فِي يَد الْعَدو قطّ لِأَن قهر المَاء مَانع قهرا آخر على ذَلِك الْموضع ثمَّ الْقيَاس أَن لَا يجب الْخمس فِي شَيْء وَإِنَّمَا أوجب الْخمس فِي بعض الْأَمْوَال بالأثر فَبين أَن مَا لم يرد فِيهِ الْأَثر يُؤْخَذ فِيهِ بِأَصْل الْقيَاس وَهَذَا لَا يكون احتجاجا بِلَا دَلِيل ثمَّ نقُول لهَذَا الْقَائِل إِنَّك بِهَذِهِ الْمقَالة تثبت شَيْئا لَا محَالة وَهُوَ صِحَة اعتقادك أَن لَا دَلِيل يُوجب إِثْبَات الحكم فِي هَذِه الْحَادِثَة فَعَلَيْك الدَّلِيل لإِثْبَات مَا تَدعِي صِحَّته عنْدك وَلَا دَلِيل على خصمك لِأَنَّهُ يَنْفِي صِحَة اعتقادك هَذَا وَلَا دَلِيل على النَّافِي بزعمك ثمَّ قَوْلك لَا دَلِيل شَيْء تَقوله عَن علم أَو لَا عَن علم فَإِن زعمت أَنَّك تَقوله عَن علم فالعلم الَّذِي يحدث للمرء لَا يكون إِلَّا بِدَلِيل وَإِن زعمت أَنَّك تَقوله لَا عَن علم فقد نهيت عَن ذَلِك قَالَ تَعَالَى {وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {بل كذبُوا بِمَا لم يحيطوا بِعِلْمِهِ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 جَعَلْنَاهُ هَكَذَا لِأَنَّهُ يتَعَذَّر اعْتِبَار معنى التَّخْيِير فِيهِ للنَّفْي فِي أحد الْجَانِبَيْنِ ويتعذر إِثْبَات معنى الْعَطف لعدم المجانسة بَين الْمَذْكُورين فَيجْعَل بِمَعْنى الْغَايَة لِأَن حُرْمَة الدُّخُول الثَّابِت بِالْيَمِينِ يحْتَمل الامتداد فيليق بِهِ ذكر الْغَايَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء أَو يَتُوب عَلَيْهِم} فَإِنَّهُ لَا يُمكن حمل الْكَلِمَة على الْعَطف إِذْ الْفِعْل لَا يعْطف على الِاسْم والمستقبل لَا يعْطف على الْمَاضِي وَنفي الْأَمر يحْتَمل الامتداد فَيجْعَل قَوْله أَو يَتُوب بِمَعْنى الْغَايَة وَلِأَنَّهُ نفى الدُّخُول فِي الدَّار الأولى فَإِذا دخل فِيهَا أَولا يَجْعَل كَأَن الْمَذْكُور آخرا من جنسه نفى فَيحنث بِالدُّخُولِ فِيهَا لهَذَا وَأثبت الدُّخُول فِي الدَّار الثَّانِيَة فَإِذا دَخلهَا أَولا يَجْعَل كَأَن الْأَخير من جنسه إِثْبَات كَمَا فِي قَوْله لأدخلن هَذِه الدَّار أَو لأدخلن هَذِه الدَّار فصل وَأما حَتَّى فَهِيَ للغاية بِاعْتِبَار أصل الْوَضع بِمَنْزِلَة إِلَى هُوَ الْمَعْنى الْخَاص الَّذِي لأَجله وضعت الْكَلِمَة قَالَ تَعَالَى {هِيَ حَتَّى مطلع الْفجْر} وَقَالَ تَعَالَى {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة عَن يَد} وَقَالَ تَعَالَى {حَتَّى يَأْذَن لي أبي} وَقَالَ تَعَالَى {حَتَّى يَأْتِيك الْيَقِين} فَمَتَى كَانَ مَا قبلهَا بِحَيْثُ يحْتَمل الامتداد وَمَا بعْدهَا يصلح للانتهاء بِهِ كَانَت عاملة فِي حَقِيقَة الْغَايَة وَلِهَذَا قُلْنَا إِذا حلف أَن يلازم غَرِيمه حَتَّى يَقْضِيه ثمَّ فَارقه قبل أَن يَقْضِيه دينه حنث لِأَن الْمُلَازمَة تحْتَمل الامتداد وَقَضَاء الدّين يصلح مَنْهِيّا للملازمة وَقَالَ فِي الزِّيَادَات لَو قَالَ عَبده حر إِن لم أضربك حَتَّى تَشْتَكِي يَدي أَو حَتَّى اللَّيْل أَو حَتَّى تصبح أَو حَتَّى يشفع فلَان ثمَّ ترك ضربه قبل هَذِه الْأَشْيَاء حنث لِأَن الضَّرْب بطرِيق التّكْرَار يحْتَمل الامتداد وَالْمَذْكُور بعد الْكَلِمَة صَالح للانتهاء فَيجْعَل غَايَة حَقِيقَة وَإِذا أقلع عَن الضَّرْب قبل الْغَايَة حنث إِلَّا فِي مَوضِع يغلب على الْحَقِيقَة عرف فَيعْتَبر ذَلِك لِأَن الثَّابِت بِالْعرْفِ ظَاهرا بِمَنْزِلَة الْحَقِيقَة حَتَّى لَو قَالَ إِن لم أضربك حَتَّى أَقْتلك أَو حَتَّى تَمُوت فَهَذَا على الضَّرْب الشَّديد بِاعْتِبَار الْعرف فَإِنَّهُ مَتى كَانَ قَصده الْقَتْل لَا يذكر لفظ الضَّرْب وَإِنَّمَا يذكر ذَلِك إِذا لم يكن قَصده الْقَتْل وَجعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 الْقَتْل غَايَة لبَيَان شدَّة الضَّرْب عَادَة وَلَو قَالَ حَتَّى يغشى عَلَيْك أَو حَتَّى تبْكي فَهَذَا على حَقِيقَة الْغَايَة لِأَن الضَّرْب إِلَى هَذِه الْغَايَة مُعْتَاد وَقد تسْتَعْمل الْكَلِمَة للْعَطْف فَإِن بَين الْعَطف والغاية مُنَاسبَة بِمَعْنى التَّعَاقُب وَلَكِن مَعَ وجود معنى الْغَايَة فِيهَا يَقُول الرجل جَاءَنِي الْقَوْم حَتَّى زيد وَرَأَيْت الْقَوْم حَتَّى زيدا فَيكون للْعَطْف مَعَ اعْتِبَار معنى الْغَايَة لِأَنَّهُ يفهم بِهَذَا أَن زيدا أفضل الْقَوْم أَو أرذلهم وَقد يدْخل بِمَعْنى الْعَطف على جملَة فَإِن ذكر لَهُ خَبرا فَهُوَ خَبره وَإِلَّا فخبره من جنس مَا سبق يَقُول الرجل مَرَرْت بالقوم حَتَّى زيد غَضْبَان وَتقول أكلت السَّمَكَة حَتَّى رَأسهَا فَهَذَا مِمَّا لم يذكر خَبره وَهُوَ من جنس مَا سبق على احْتِمَال أَن يكون هُوَ الْأكل أَو غَيره وَلكنه إِخْبَار بِأَن رَأسهَا مَأْكُول أَيْضا وَلَو قَالَ حَتَّى رَأسهَا بِالنّصب كَانَ هَذَا عطفا أَي وأكلت رَأسهَا أَيْضا وَلَكِن بِاعْتِبَار معنى الْغَايَة وَمثل هَذَا فِي الْأَفْعَال تكون للجزاء إِذا كَانَ مَا قبلهَا يصلح سَببا لذَلِك وَمَا بعْدهَا يصلح أَن يكون جَزَاء فَيكون بِمَعْنى لَام كي قَالَ تَعَالَى {وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة} أَي لكيلا تكون فتْنَة وَقَالَ تَعَالَى {وزلزلوا حَتَّى يَقُول الرَّسُول} وَالْقِرَاءَة بِالنّصب تحْتَمل الْغَايَة مَعْنَاهُ إِلَى أَن يَقُول الرَّسُول فَيكون قَول الرَّسُول نِهَايَة من غير أَن يكون بِنَاء على مَا سبق كَمَا هُوَ مُوجب الْغَايَة أَنه لَا أثر لَهُ فِيمَا جعل غَايَة لَهُ وَيحْتَمل لكَي يَقُول الرَّسُول وَالْقِرَاءَة بِالرَّفْع تكون بِمَعْنى الْعَطف أَي وَيَقُول الرَّسُول وعَلى هَذَا قَالَ فِي الزِّيَادَات إِذا قَالَ إِن لم آتِك غَدا حَتَّى تغديني فَعَبْدي حر فَأَتَاهُ فَلم يغده لَا يَحْنَث لِأَن الْإِتْيَان لَيْسَ بمستدام فَلَا يحْتَمل الْكَلِمَة بِمَعْنى حَقِيقَة الْغَايَة وَمَا بعده يصلح جَزَاء فَيكون الْمَعْنى لكَي تغديني فقد جعل شَرط بره الْإِتْيَان على هَذَا الْقَصْد وَقد وجد وَكَذَلِكَ لَو قَالَ إِن لم تأتني حَتَّى أغديك فَأَتَاهُ وَلم يغده لم يَحْنَث وَقد يستعار للْعَطْف الْمَحْض كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ فِي الْقِرَاءَة بِالرَّفْع وَلَكِن هَذَا إِذا كَانَ الْمَذْكُور بعده لَا يصلح للجزاء فَيعْتَبر مُجَرّد الْمُنَاسبَة بَين الْعَطف والغاية فِي الإستعارة وعَلى هَذَا قَالَ فِي الزِّيَادَات إِذا قَالَ إِن لم آتِك حَتَّى أتغدى عنْدك الْيَوْم أَو إِن لم تأتني حَتَّى تتغدى عِنْدِي الْيَوْم فَأَتَاهُ ثمَّ لم يتغد عِنْده فِي ذَلِك الْيَوْم حنث لِأَن الْكَلِمَة بِمَعْنى الْعَطف فَإِن الْفِعْلَيْنِ من وَاحِد فَلَا يصلح الثَّانِي أَن يكون جَزَاء للْأولِ فَحمل على الْعَطف الْمَحْض لتصحيح الْكَلَام وَشرط الْبر وجود الْأَمريْنِ فِي الْيَوْم فَإِذا لم يوجدا حنث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 مَا يُزِيلهُ فَمَا يمْضِي من الْأَزْمِنَة بعد صِحَة الدَّلِيل الْمُثبت للْحكم يكون الحكم فِيهِ بَاقِيا بذلك لدَلِيل على احْتِمَال أَن يطْرَأ مَا يُزِيلهُ وَقبل ظُهُور طريان مَا يُزِيلهُ يكون الحكم ثَابتا بذلك الدَّلِيل بِمَنْزِلَة النَّص الْعَام فَإِنَّهُ مُوجب للْحكم فِي كل مَا يتَنَاوَلهُ على احْتِمَال قيام دَلِيل الْخُصُوص فَمَا لم يقم دَلِيل الْخُصُوص كَانَ الحكم ثَابتا بِالْعَام وَكَانَ الِاحْتِجَاج بِهِ على الْخصم صَحِيحا فَكَذَلِك قَول الْقَائِل فِيمَا هُوَ مُنْتَفٍ لَا دَلِيل على إثْبَاته أَو فِيمَا هُوَ ثَابت بدليله لَا دَلِيل على نَفْيه يكون احتجاجا بذلك الدَّلِيل وَذَلِكَ الدَّلِيل حجَّة على خَصمه فَأَما مَا لَا يسْتَند إِلَى دَلِيل فَلَا يبْقى فِيهِ إِلَّا الِاحْتِجَاج بقوله لَا دَلِيل فَذَلِك يكون حجَّة كَمَا قُلْتُمْ وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ الصُّلْح على الْإِنْكَار بَاطِل لِأَن نفي الْمُنكر دَعْوَى الْمُدَّعِي يسْتَند إِلَى دَلِيل وَهُوَ الْمَعْلُوم من بَرَاءَة ذمَّته فِي الأَصْل أَو الْيَد الَّتِي هِيَ دَلِيل لملك لَهُ فِي عين الْمُدَّعِي فَيكون ذَلِك حجَّة لَهُ على خَصمه فِي إبْقَاء مَا ثَبت عَلَيْهِ وَبعد مَا ظَهرت بَرَاءَة ذمَّته فِي حق الْمُدَّعِي بِهَذَا الدَّلِيل يكون أَخذه المَال رشوة على الْكَفّ عَن الدَّعْوَى وَلَا يكون ذَلِك اعتياضا عَن حَقه فَيكون بَاطِلا بِخِلَاف مَا إِذا شهد بحريّة عبد إِنْسَان ثمَّ اشْتَرَاهُ بعد ذَلِك فَإِن الشِّرَاء يكون صَحِيحا وَيلْزمهُ الثّمن للْبَائِع لِأَن نفي البَائِع حُرِّيَّته ودعواه بَقَاء الْملك لَهُ مُسْتَند إِلَى دَلِيل وَهُوَ الدَّلِيل الْمُثبت للْملك لَهُ فِي العَبْد فَيكون ذَلِك حجَّة لَهُ على خَصمه فِي إبْقَاء ملكه وباعتباره هُوَ إِنَّمَا يَأْخُذ الْعُضْو على ملك لَهُ وباعتباره لَا يثبت الِاتِّفَاق بَينهمَا على فَسَاد ذَلِك السَّبَب فَبِهَذَا تعين فِيهِ وَجه الصِّحَّة وَوَجَب الثّمن على المُشْتَرِي ثمَّ يعْتق عَلَيْهِ بَعْدَمَا دخل فِي ملكه بِاعْتِبَار زَعمه وعلماؤنا رَحِمهم الله قَالُوا الدَّلِيل الْمُثبت للْحكم لَا يكون مُوجبا بَقَاء الحكم بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَكِن بَقَاؤُهُ بعد الْوُجُود لاستغناء الْبَقَاء عَن دَلِيل لَا لوُجُود الدَّلِيل الْمَنْفِيّ فَعرفنَا أَنه لَيْسَ للدليل الَّذِي اسْتندَ إِلَيْهِ الحكم عمل فِي الْبَقَاء أصلا وَأَن دَعْوَى الْبَقَاء فِيمَا عرف ثُبُوته بدليله مُحْتَمل كدعوى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 الْإِثْبَات فِيمَا لَا يعلم ثُبُوته بدليله فَكَمَا أَن هُنَاكَ يَسْتَوِي الْمُثبت والنافي فِي أَن قَول كل وَاحِد مِنْهُمَا لَا يكون حجَّة على خَصمه بِغَيْر دَلِيل فَكَذَلِك هُنَا وَله فَارق الْعَام فَإِنَّهُ مُوجب للْحكم فِي كل مَا تنَاوله قطعا على احْتِمَال قيام دَلِيل الْخُصُوص فَمَا لم يظْهر دَلِيل الْخُصُوص كَانَ الحكم ثَابتا بِنَصّ مُوجب لَهُ وَهنا الدَّلِيل الْمُثبت للْحكم غير متعرض للأزمنة أصلا فَلَا يكون ثُبُوته فِي الْأَزْمِنَة بعد قيام الدَّلِيل بِدَلِيل مُثبت لَهُ وَلِهَذَا لَا يكون قيام دَلِيل النَّفْي من دَلِيل الْخُصُوص فِي شَيْء بل يكون نسخا كَمَا بَيناهُ فِي بَاب النّسخ يُوضحهُ أَنه لما لم يكن ذَلِك الدَّلِيل عَاملا الْآن فِي شَيْء صَار قَول المتمسك بِهِ لَا دَلِيل على ارتفاعه كلَاما مُحْتملا كَمَا أَن قَول خَصمه قَامَ الدَّلِيل على ارتفاعه كَلَام مُحْتَمل فتتحقق الْمُعَارضَة بَينهمَا على وَجه لَا يكون زعم أَحدهمَا حجَّة على الآخر مَا لم يرجح قَوْله بِدَلِيل وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا فِي الصُّلْح على الْإِنْكَار إِنَّه جَائِز لِأَن الدَّلِيل الْمُثبت لبراءة ذمَّة الْمُنكر أَو للْملك لَهُ فِيمَا فِي يَده غير متعرض للبقاء أصلا فَكَانَ دَعْوَى الْمُدَّعِي أَن الْمُدَّعِي حَقي وملكي خَبرا مُحْتملا وإنكار الْمُدعى عَلَيْهِ لذَلِك خبر مُحْتَمل أَيْضا فَكَمَا لَا يكون خبر الْمُدَّعِي حجَّة على الْمُدعى عَلَيْهِ فِي إِلْزَام التَّسْلِيم إِلَيْهِ لكَونه مُحْتملا فَكَذَلِك خبر الْمُدَّعِي عَلَيْهِ لَا يكون حجَّة على الْمُدَّعِي فِي فَسَاد الِاعْتِيَاض عَنهُ بطرِيق الصُّلْح وَلِهَذَا لَو صَالحه أَجْنَبِي على مَال جَازَ بالِاتِّفَاقِ وَلَو ثَبت بَرَاءَة ذمَّته فِي حق الْمُدَّعِي بِدَلِيل كَمَا ذكره الْخصم لم يجز صلحه مَعَ الْأَجْنَبِيّ كَمَا لَو أقرّ أَنه مُبْطل فِي دَعْوَاهُ ثمَّ صَالح مَعَ أَجْنَبِي وَالدَّلِيل عَلَيْهِ فصل الشَّهَادَة بِعِتْق العَبْد على مَوْلَاهُ فَإِن الشَّاهِد إِذا اشْتَرَاهُ صَحَّ الشِّرَاء وَلَزِمَه الثّمن لهَذَا الْمَعْنى وَهُوَ أَن مَا أخبر بِهِ الشَّاهِد لكَونه مُحْتملا لم يصر حجَّة على مولى العَبْد حَتَّى جَازَ لَهُ الِاعْتِيَاض عَنهُ بِالْبيعِ من غَيره فَيجوز لَهُ الِاعْتِيَاض عَنهُ بِالْبيعِ من الشَّاهِد وَإِن كَانَ زَعمه مُعْتَبرا فِي حَقه حَتَّى إِنَّه يعْتق كَمَا اشْتَرَاهُ لَا من جِهَته حَتَّى لَا يكون وَلَاؤُه لَهُ وَمَا كَانَ ذَلِك إِلَّا بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا فَإِن الدَّلِيل الْمُوجب للْملك للْمولى لَا يكون دَلِيل بَقَاء ملكه بل بَقَاء الْملك بعد ثُبُوته لاستغنائه عَن الدَّلِيل الْمَنْفِيّ وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا مَجْهُول الْحَال يكون حرا بِاعْتِبَار الظَّاهِر وَلَكِن لَو جنى عَلَيْهِ جِنَايَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 فَزعم الجانى أَنه رَقِيق لَا يلْزمه أرش الْجِنَايَة على الْأَحْرَار حَتَّى يقوم الْبَيِّنَة على حُرِّيَّته لِأَن ثُبُوت الْحُرِّيَّة للْحَال لَيْسَ بِدَلِيل مُوجب لذَلِك بل بِاعْتِبَار أصل الْحُرِّيَّة لأَوْلَاد آدم وَذَلِكَ لَا يُوجب الْبَقَاء فَكَانَ دَعْوَاهُ الْحُرِّيَّة لنَفسِهِ فِي الْحَال مُحْتملا وَدَعوى الْغَيْر الرّقّ عَلَيْهِ مُحْتَمل فبالمحتمل لَا يثبت الرّقّ فِيهِ لغيره وَيجْعَل القَوْل قَوْله فِي الْحُرِّيَّة وبالمحتمل لَا يثبت دَعْوَى اسْتِحْقَاق أرش الْأَحْرَار بِسَبَب الْجِنَايَة عَلَيْهِ غَيره حَتَّى يُقيم الْبَيِّنَة على حُرِّيَّته لِأَن قبل إِقَامَة الْبَيِّنَة لَيْسَ مَعَه إِلَّا الإحتجاج بِلَا دَلِيل وَذَلِكَ دَافع عَنهُ وَلَا يكون حجَّة لَهُ على غَيره وعَلى هَذَا لَو قذف إنْسَانا ثمَّ زعم أَنه عبد وَقَالَ الْمَقْذُوف بل هُوَ حر فَإِنَّهُ لَا يُقَام حد الْأَحْرَار عَلَيْهِ حَتَّى تقوم الْبَيِّنَة للمقذوف على حُرِّيَّته وَكَذَلِكَ لَو قطع يَد إِنْسَان ثمَّ زعم أَنه عبد وَأَنه لَا قصاص عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ لَو شهد فِي حادثه ثمَّ زعم الْمَشْهُود عَلَيْهِ أَنه عبد فَإِن شَهَادَته لَا تكون حجَّة حَتَّى تقوم الْبَيِّنَة على حُرِّيَّته وَالشَّافِعِيّ رَحمَه الله يخالفنا فِي جَمِيع ذَلِك للْأَصْل الذى وعَلى هَذَا لَو اشْترى شِقْصا من دَار فَطلب الشَّفِيع الشُّفْعَة وَقَالَ الْمُشْتَرى مَا فِي يدك مِمَّا تدعى بِهِ الشُّفْعَة لَيْسَ بِملك لَك بل هِيَ ملكه فَإِنَّهُ يكون القَوْل قَول مدعى الشُّفْعَة فِي دفع دَعْوَى الْمُشْتَرى عَمَّا فِي يَده وَيكون القَوْل قَول الْمُشْتَرى فِي إِنْكَاره حق الشُّفْعَة لَهُ حَتَّى إِن الشَّفِيع مَا لم يقم الْبَيِّنَة على أَن الْعين الذى فِي يَده ملكه لَا يسْتَحق الشُّفْعَة عندنَا لِأَن خبر كل وَاحِد مِنْهُمَا مُحْتَمل فَلَا يكون حجَّة على خَصمه فِي اسْتِحْقَاق مَا فِي يَده وَعند الشَّافِعِي ملك الشَّفِيع فِيمَا فِي يَده ثَابت بِاعْتِبَار أَن قَوْله مُسْتَند إِلَى دَلِيل مُثبت فَيسْتَحق بِهِ الشُّفْعَة وَنَظِير مَا قَالَه عُلَمَاؤُنَا قَول الْمولى لعَبْدِهِ إِن لم أَدخل الْيَوْم الدَّار فَأَنت حر ثمَّ قَالَ الْمولى بعد مضى الْيَوْم قد دخلت وَقَالَ العَبْد لم تدخل فَإِن القَوْل قَول الْمولى حَتَّى لَا يعْتق العَبْد وَمَعْلُوم أَن قَول العَبْد مُسْتَند إِلَى دَلِيل من حَيْثُ الظَّاهِر وَهُوَ أَن الأَصْل عدم الدُّخُول وَلَكِن لما كَانَ قَوْله فِي الْحَال مُحْتملا وَقَول الْمولى كَذَلِك لم يثبت اسْتِحْقَاقه على الْمولى بِمَا هُوَ مُحْتَمل وَكَذَلِكَ الْمَفْقُود فَإِنَّهُ لَا يَرث أحدا من أَقَاربه إِذا مَاتَ قبل أَن يظْهر حَاله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 وَمَعْلُوم أَن بَقَاءَهُ حَيا مُسْتَند إِلَى دَلِيل وَهُوَ مَا علم من حَيَاته وَلَكِن لما لم يكن ذَلِك دَلِيلا للبقاء اعْتبر فِي الْحَال الإحتمال فَقيل لَا يَرِثهُ أحد لإحتمال بَقَائِهِ حَيا وَلَا يَرث أحدا لإحتمال أَنه ميت فَإِن قيل عندى إِذا اسْتندَ قَوْله إِلَى دَلِيل إِنَّمَا يقبل قَوْله على خَصمه فِي إبْقَاء مَا هُوَ مَقْصُود لَهُ ففى مَسْأَلَة الْعتْق لَا مَقْصُود للْعَبد فِي نفى دُخُول الْمولى الدَّار وَإِنَّمَا مَقْصُوده فِي الْعتْق ودعواه الْعتْق لَيْسَ بمستند إِلَى دَلِيل مُثبت لَهُ وَكَذَلِكَ دَعْوَى من يدعى حَيَاة الْمَفْقُود بعد مَا مَاتَ قريب لَهُ لَيْسَ بمقصود للْمُدَّعى حَتَّى يعْتَبر فِيهِ الإستناد إِلَى دَلِيله فَأَما دَعْوَى الْمُنكر بَرَاءَة ذمَّته أَو كَون مَا فِي يَده ملكا لَهُ مَقْصُود لَهُ وَهُوَ يسْتَند إِلَى دَلِيل كَمَا بَينا وَكَذَلِكَ دَعْوَى مَجْهُول الْحَال الْحُرِّيَّة لنَفسِهِ مَقْصُود لَهُ وَدَعوى الشَّفِيع الْملك لنَفسِهِ فِيمَا فِي يَده مَقْصُود لَهُ فَإِذا كَانَ هَذَا مُسْتَندا إِلَى دَلِيله وَهُوَ مَقْصُود لَهُ كَانَ حجَّة لَهُ على خَصمه قُلْنَا لَا فرق فَإِن دَعْوَى الْمُنكر فَسَاد الصُّلْح غير مَقْصُود لَهُ وَلَكِن يَتَرَتَّب عَلَيْهِ مَا هُوَ الْمَقْصُود لَهُ وَهُوَ سُقُوط الْمُطَالبَة عَنهُ بستليم مَا الْتَزمهُ بِالصُّلْحِ كَمَا أَن دَعْوَى العَبْد أَن الْمولى لم يدْخل الدَّار غير مَقْصُود لَهُ وَلَكِن يَتَرَتَّب عَلَيْهِ مَا هُوَ مَقْصُود لَهُ وَهُوَ عتقه بِاعْتِبَار وجود الشَّرْط ثمَّ هُنَاكَ لكَون مَا أخبر بِهِ مُحْتملا لم يَجْعَل حجَّة على خَصمه وَلَا يعْتَبر استناده فصل وَمن الإحتجاج بِلَا دَلِيل الإستدلال باستصحاب الْحَال وَذَلِكَ نَحْو مَا يَقُول بعض أَصْحَابنَا فِي حكم الزَّكَاة فِي مَال الصَّبِي إِن الأَصْل عدم الْوُجُوب فيستصحبه حَتَّى يقوم دَلِيل الْوُجُوب وَفِي الإستئناف أَن وجوب الحقتين فِي مائَة وَعشْرين ثَابت بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع فَيجب استصحابه حَتَّى يقوم الدَّلِيل المغير وَهَذَا النَّوْع من التَّعْلِيل بَاطِل فَإِن ثُبُوت الْعَدَم وَإِن كَانَ بِدَلِيل معدم فَذَلِك لَا يُوجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 بَقَاء الْعَدَم كَمَا أَن الدَّلِيل الموجد للشَّيْء لَا يكون دَلِيل بَقَائِهِ مَوْجُودا فَكَذَلِك الدَّلِيل الْمُثبت للْحكم لَا يكون دَلِيل بَقَائِهِ ثَابتا أَلا ترى أَن عدم الشِّرَاء لَا يمْنَع وجود الشِّرَاء فِي الْمُسْتَقْبل وَالشِّرَاء الْمُوجب للْملك لَا يمْنَع انعدام الْملك بدليله فِي الْمُسْتَقْبل وَلَكِن الْبَقَاء بعد الْوُجُود لاستغنائه عَن الدَّلِيل لَا لِأَن الدَّلِيل الْمُثبت لَهُ مُوجب لبَقَائه كَمَا أَن ثُبُوت الْحَيَاة بِسَبَبِهِ لَا يكون دَلِيل بَقَاء الْحَيَاة يُوضحهُ أَن بعد ثُبُوت حكم هُوَ نفي إيجاده يَسْتَدْعِي دَلِيلا فَمن ادّعى وجوده احْتَاجَ إِلَى إثْبَاته على خَصمه بِدَلِيل وَكَذَلِكَ من ادّعى بَقَاءَهُ منفيا فَهُوَ مُحْتَاج إِلَى إثْبَاته بدليله على الْخصم إِذْ الدَّلِيل الأول غير مُوجب لذَلِك فَلَيْسَ أَحدهمَا بالاحتجاج على صَاحبه لعدم قيام الدَّلِيل بِأولى من الآخر وَمَا كَانَ الْبَقَاء فِيمَا يحْتَمل الْبَقَاء بعد الْوُجُود إِلَّا نَظِير الْوُجُود فِي الْأَعْرَاض الَّتِي لَا تبقى وَقْتَيْنِ فَإِن وجود شَيْء مِنْهُ بِدَلِيل لَا يكون دَلِيل وجود مثله فِي الْوَقْت الثَّانِي وَبَيَان هَذَا فِي الْبَعِير الزَّائِد على الْمِائَة وَالْعِشْرين فَإِن عِنْد الْخصم يَنْتَهِي بِهِ عَفْو الحقتين فَيتم بِهِ نِصَاب ثَلَاث بَنَات لبون وَعِنْدنَا هُوَ ابْتِدَاء الْعَفو لنصاب آخر وَلَيْسَ فِي إِيجَاب الحقتين فِي مائَة وَعشْرين مَا يدل على وَاحِد من الْأَمريْنِ فَكَانَ الِاحْتِجَاج بِهِ لإِيجَاب الحقتين بعد هَذِه الزِّيَادَة عِنْد كَمَال الْحول يكون احتجاجا بِلَا دَلِيل ثمَّ اسْتِصْحَاب الْحَال يَنْقَسِم أَرْبَعَة أَقسَام أَحدهَا اسْتِصْحَاب حكم الْحَال مَعَ الْعلم يَقِينا بانعدام الدَّلِيل المغير وَذَلِكَ بطرِيق الْخَبَر عَمَّن ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي أَو بطرِيق الْحس فِيمَا يعرف بِهِ وَهَذَا صَحِيح قد علمنَا الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {قل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ محرما} الْآيَة وَهَذَا لِأَنَّهُ لما علم يَقِينا بانعدام الدَّلِيل المغير وَقد كَانَ الحكم ثَابتا بدليله وبقاؤه يَسْتَغْنِي عَن الدَّلِيل فقد علم بَقَاؤُهُ ضَرُورَة وَالثَّانِي اسْتِصْحَاب حكم الْحَال بعد دَلِيل مغير ثَابت بطرِيق النّظر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 وَالِاجْتِهَاد بِقدر الوسع وَهَذَا يصلح لإبلاء الْعذر وللدفع وَلَا يصلح للاحتجاج بِهِ على غَيره لِأَن المتأمل وَإِن بَالغ فِي النّظر فالخصم يَقُول قَامَ الدَّلِيل عِنْدِي بِخِلَافِهِ وبالتأمل وَالِاجْتِهَاد لَا يبلغ الْمَرْء دَرَجَة يعلم بهَا يَقِينا أَنه لم يخف عَلَيْهِ شَيْء من الْأَدِلَّة بل يبْقى لَهُ احْتِمَال اشْتِبَاه بعض الْأَدِلَّة عَلَيْهِ وَمَا كَانَ فِي نَفسه مُحْتملا عِنْده لَا يُمكنهُ أَن يحْتَج بِهِ على غَيره وَالثَّالِث اسْتِصْحَاب حكم الْحَال قبل التَّأَمُّل وَالِاجْتِهَاد فِي طلب الدَّلِيل المغير وَهَذَا جهل لِأَن قبل الطّلب لَا يحصل لَهُ شَيْء من الْعلم بِانْتِفَاء الدَّلِيل المغير ظَاهرا وَلَا بَاطِنا وَلكنه يجهل ذَلِك بتقصير مِنْهُ فِي الطّلب وجهله لَا يكون حجَّة على غَيره وَلَا عذرا فِي حَقه أَيْضا إِذا كَانَ مُتَمَكنًا من الطّلب إِلَّا أَن لَا يكون مُتَمَكنًا مِنْهُ وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا أسلم الذِّمِّيّ فِي دَار الْإِسْلَام وَلم يعلم بِوُجُوب الْعِبَادَات عَلَيْهِ حَتَّى مضى عَلَيْهِ زمَان فَعَلَيهِ قَضَاء مَا ترك بِخِلَاف الْحَرْبِيّ إِذا أسلم فِي دَار الْحَرْب وَلم يعلم بِوُجُوب الْعِبَادَات عَلَيْهِ حَتَّى مضى زمَان وعَلى هَذَا قُلْنَا من لم يجْتَهد بعد الِاشْتِبَاه فِي أَمر الْقبْلَة حَتَّى صلى إِلَى جِهَة فَإِنَّهُ لَا تجزيه صلَاته مَا لم يعلم أَنه أصَاب بِخِلَاف مَا إِذا اجْتهد وَصلى إِلَى جِهَة فَإِنَّهُ تجزيه صلَاته وَإِن تبين أَنه أَخطَأ وَالنَّوْع الرَّابِع اسْتِصْحَاب الْحَال (لإِثْبَات الحكم ابْتِدَاء وَهَذَا خطأ مَحْض وَهُوَ ضلال مَحْض مِمَّن يتعمده لِأَن اسْتِصْحَاب الْحَال) كاسمه وَهُوَ التَّمَسُّك بالحكم الَّذِي كَانَ ثَابتا إِلَى أَن يقوم الدَّلِيل المزيل وَفِي إِثْبَات الحكم ابْتِدَاء لَا يُوجد هَذَا الْمَعْنى وَلَا عمل لاستصحاب الْحَال فِيهِ صُورَة وَلَا معنى وَقد بَينا فِي مَسْأَلَة الْمَفْقُود أَن الْحَيَاة الْمَعْلُومَة باستصحاب الْحَال يكون حجَّة فِي إبْقَاء ملكه فِي مَاله على مَا كَانَ وَلَا يكون حجَّة فِي إِثْبَات الْملك لَهُ ابْتِدَاء فِي مَال قَرِيبه إِذا مَاتَ وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي يجعلونه حجَّة فِي ذَلِك لَا بِاعْتِبَار أَنهم يجوزون إِثْبَات الحكم ابْتِدَاء باستصحاب الْحَال بل بِاعْتِبَار أَنه يبْقى للْوَارِث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 الْملك الَّذِي كَانَ للمورث فَإِن الوراثة خلَافَة وَقد بَينا أَن عِنْده اسْتِصْحَاب الْحَال فِيمَا يرجع إِلَى الْإِبْقَاء حجَّة على الْغَيْر وَلَكنَّا نقُول هَذَا الْبَقَاء فِي حق الْمُورث فَأَما فِي حق الْوَارِث فصفة الْمَالِكِيَّة تثبت لَهُ ابْتِدَاء واستصحاب الْحَال لَا يكون حجَّة فِيهِ بِوَجْه وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله إِذا ادّعى عينا فِي يَد إِنْسَان أَنه لَهُ مِيرَاث من أَبِيه وَأقَام الشَّاهِدين فشهدا أَن هَذَا كَانَ لِأَبِيهِ لم تقبل هَذِه الشَّهَادَة وَفِي قَول أبي يُوسُف الآخر تقبل لِأَن الوراثة خلَافَة فَإِنَّمَا يبْقى للْوَارِث الْملك الَّذِي كَانَ للمورث وَلِهَذَا يرد بِالْعَيْبِ وَيصير مغرورا فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُورث وَمَا ثَبت فَهُوَ بَاقٍ لاستغناء الْبَقَاء عَن دَلِيل وهما يَقُولَانِ فِي حق الْوَارِث هَذَا فِي معنى ابْتِدَاء التَّمَلُّك لِأَن صفة الْمَالِكِيَّة تثبت لَهُ فِي هَذَا المَال بعد أَن لم يكن مَالِكًا وَإِنَّمَا يكون الْبَقَاء فِي حق الْمُورث أَن لَو حضر بِنَفسِهِ يَدعِي أَن الْعين ملكه فَلَا جرم إِذا شهد الشَّاهِدَانِ أَنه كَانَ لَهُ كَانَت شَهَادَة مَقْبُولَة كَمَا إِذا شَهدا أَنه لَهُ فَأَما إِذا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْوَارِث وَصفَة الْمَالِكِيَّة للْوَارِث تثبت ابْتِدَاء بعد موت الْمُورث فَهَذِهِ الشَّهَادَة لَا تكون حجَّة للْقَضَاء بِالْملكِ لَهُ لِأَن طَرِيق الْقَضَاء بهَا اسْتِصْحَاب الْحَال وَذَلِكَ غير صَحِيح فصل وَمن هَذِه الْجُمْلَة الِاسْتِدْلَال بتعارض الْأَشْبَاه وَذَلِكَ نَحْو احتجاج زفر رَحمَه الله فِي أَنه لَا يجب غسل الْمرَافِق فِي الْوضُوء لِأَن من الغايات مَا يدْخل وَمِنْهَا مَا لَا يدْخل فَمَعَ الشَّك لَا تثبت فَرضِيَّة الْغسْل فِيمَا هُوَ غَايَة بِالنَّصِّ لِأَن هَذَا فِي الْحَقِيقَة احتجاج بِلَا دَلِيل لإِثْبَات حكم فَإِن الشَّك الَّذِي يَدعِيهِ أَمر حَادث فَلَا يثبت حُدُوثه إِلَّا بِدَلِيل فَإِن قَالَ دَلِيله تعَارض الْأَشْبَاه قُلْنَا وتعارض الْأَشْبَاه أَيْضا حَادث فَلَا يثبت إِلَّا بِالدَّلِيلِ فَإِن قَالَ الدَّلِيل عَلَيْهِ مَا أعده من الغايات مِمَّا يدْخل بِالْإِجْمَاع وَمَا لَا يدْخل بِالْإِجْمَاع قُلْنَا وَهل تعلم أَن هَذَا الْمُتَنَازع فِيهِ من أحد النَّوْعَيْنِ بِدَلِيل فَإِن قَالَ أعلم ذَلِك قُلْنَا فَإِذن عَلَيْك أَن لَا تشك فِيهِ بل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 تلْحقهُ بِمَا هُوَ من نَوعه بدليله وَإِن قَالَ لَا أعلم ذَلِك قُلْنَا قد اعْترفت بِالْجَهْلِ فَإِن كَانَ هَذَا مِمَّا يُمكن الْوُقُوف عَلَيْهِ بِالطَّلَبِ فَإِنَّمَا جهلته عَن تَقْصِير مِنْك فِي طلبه وَذَلِكَ لَا يكون حجَّة أصلا وَإِن كَانَ مِمَّا لَا يُمكن الْوُقُوف عَلَيْهِ بعد الطّلب كنت مَعْذُورًا فِي الْوُقُوف فِيهِ وَلَكِن هَذَا الْعذر لَا يصير حجَّة لَك على غَيْرك مِمَّن يزْعم أَنه قد ظهر عِنْده دَلِيل إِلْحَاقه بِأحد النَّوْعَيْنِ فَعرفنَا أَن حَاصِل كَلَامه احتجاج بِلَا دَلِيل فصل وَمن هَذِه الْجُمْلَة الِاحْتِجَاج بالاطراد على صِحَة الْعلَّة إِمَّا وجودا أَو وجودا وعدما فَإِنَّهُ احتجاج بِلَا دَلِيل فِي الْحَقِيقَة وَمن حَيْثُ الظَّاهِر هُوَ احتجاج بِكَثْرَة أَدَاء الشَّهَادَة وَقد بَينا أَن كَثْرَة أَدَاء الشَّهَادَة وتكرارها من الشَّاهِد لَا يكون دَلِيل صِحَة شَهَادَته ثمَّ الاطراد عبارَة عَن سَلامَة الْوَصْف عَن النقوض والعوارض والناظر وَإِن بَالغ فِي الِاجْتِهَاد بِالْعرضِ على الْأُصُول الْمَعْلُومَة عِنْده فالخصم لَا يعجز من أَن يَقُول عِنْدِي أصل آخر هُوَ مُنَاقض لهَذَا الْوَصْف أَو معَارض فجهلك بِهِ لَا يكون حجَّة لَك عَليّ فَتبين من هَذَا الْوَجْه أَنه احتجاج بِلَا دَلِيل وَلكنه فَوق مَا تقدم فِي الِاحْتِجَاج بِهِ من حَيْثُ الظَّاهِر لِأَن من حَيْثُ الظَّاهِر الْوَصْف صَالح وَيحْتَمل أَن يكون حجَّة للْحكم إِذا ظهر أَثَره عِنْد التَّأَمُّل وَلَكِن لكَونه فِي الْحَقِيقَة اسْتِدْلَالا على صِحَّته بِعَدَمِ النقوض والعوارض لم يصلح أَن يكون حجَّة لإِثْبَات الحكم فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن النُّصُوص بعد ثُبُوتهَا يجب الْعَمَل بهَا وَاحْتِمَال وُرُود النَّاسِخ لَا يُمكن شُبْهَة فِي الِاحْتِجَاج بهَا قبل أَن يظْهر النَّاسِخ فَكَذَلِك مَا تقدم قُلْنَا أما بعد وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا احْتِمَال للنسخ فِي كل نَص كَانَ حكمه ثَابتا عِنْد وَفَاته فَأَما فِي حَال حَيَاته فَهَكَذَا نقُول إِن الِاحْتِجَاج بِهِ لإِثْبَات الحكم ابْتِدَاء صَحِيح فَأَما لإبقاء الحكم أَو لنفي النَّاسِخ لَا يكون صَحِيحا لِأَن احْتِمَال بَقَاء الحكم وَاحْتِمَال قيام دَلِيل النّسخ فِيهِ كَانَ بِصفة وَاحِدَة وَقد قَررنَا هَذَا فِي بَاب النّسخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 ثمَّ الطرديات الْفَاسِدَة أَنْوَاع مِنْهَا مَا لَا يشكل فَسَاده على أحد وَمِنْهَا مَا يكون (بِزِيَادَة وصف فِي الأَصْل بِهِ يَقع الْفرق وَمِنْهَا مَا يكون) بِوَصْف مُخْتَلف فِيهِ اخْتِلَافا ظَاهرا وَمِنْهَا مَا يكون اسْتِدْلَالا بِالنَّفْيِ والعدم وَبَيَان النَّوْع الأول فِيمَا علل بِهِ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي لكَون قِرَاءَة الْفَاتِحَة ركنا فِي الصَّلَاة لِأَنَّهَا عبَادَة ذَات أَرْكَان لَهَا تَحْلِيل وَتَحْرِيم فَكَانَ من أَرْكَان مَا لَهُ عدد السَّبع كَالْحَجِّ فِي حق الطّواف وَرُبمَا يَقُولُونَ الثَّلَاث أحد عددي مُدَّة الْمسْح فَلَا يتَأَدَّى بِهِ فرض الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة كالواحد وَمَا دون الثَّلَاث قَاصِر عَن السَّبع فَلَا يتَأَدَّى بِهِ فرض الْقِرَاءَة كَمَا دون الْآيَة وَنَحْو مَا يحْكى عَن بَعضهم فِي أَن الرّجْعَة لَا تحصل بِالْفِعْلِ لِأَن الْوَطْء فعل ينْطَلق مرّة وَيتَعَلَّق أُخْرَى فَلَا تثبت بِهِ الرّجْعَة كَالْقَتْلِ وَنَحْو مَا يحْكى عَن بعض أَصْحَابنَا فِي الْوضُوء بِغَيْر النِّيَّة أَن هَذَا حكم مُتَعَلق بأعضاء الطَّهَارَة فَلَا تشْتَرط النِّيَّة فِي إِقَامَته كالقطع فِي السّرقَة وَالْقصاص هَذَا النَّوْع مِمَّا لَا يخفى فَسَاده على أحد وَلم ينْقل من هَذَا الْجِنْس شَيْء عَن السّلف إِنَّمَا أحدثه بعض الْجُهَّال مِمَّن كَانَ بَعيدا من طَرِيق الْفُقَهَاء فَأَما علل السّلف مَا كَانَت تَخْلُو عَن الملاءمة أَو التَّأْثِير وَلِهَذَا كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يتَأَمَّل مُدَّة فَلَا يقف فِي حَادِثَة إِلَّا على قِيَاس أَو قياسين وَالْوَاحد من الْمُتَأَخِّرين رُبمَا يتَمَكَّن فِي مجْلِس وَاحِد من أَن يذكر فِي حَادِثَة خمسين عِلّة من هَذَا النَّحْو أَو أَكثر وَلَا مشابهة بَين غسل الْأَعْضَاء فِي الطَّهَارَة وَبَين الْقطع فِي السّرقَة وَلَا بَين مُدَّة الْمسْح وَالْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة وَلَا بَين الطّواف بِالْبَيْتِ وَقِرَاءَة الْفَاتِحَة فَعرفنَا أَن هَذَا النَّوْع مِمَّا لَا يخفى فَسَاده وَأما مَا يكون بِزِيَادَة وصف فنحو تَعْلِيل بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي فِي مس الذّكر إِنَّه حدث لِأَنَّهُ مس الْفرج فينتقض الْوضُوء بِهِ كَمَا لَو مَسّه عِنْد الْبَوْل فَإِن هَذَا الْقيَاس لَا يَسْتَقِيم إِلَّا بِزِيَادَة وصف فِي الأَصْل وَبِذَلِك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 الْوَصْف يثبت الْفرق بَين الْفَرْع وَالْأَصْل وَيثبت الحكم بِهِ فِي الأَصْل وَكَذَلِكَ قَوْلهم فِي إِعْتَاق الْمكَاتب عَن الْكَفَّارَة إِنَّه تَكْفِير بتحرير الْمكَاتب فَلَا يجوز كَمَا لَو أدّى بعض بدل الْكِتَابَة ثمَّ أعْتقهُ لِأَن استقامة هَذَا الْقيَاس بِزِيَادَة وصف فِي الأَصْل بِهِ يَقع الْفرق وَهُوَ أَن الْمُسْتَوْفى من الْبَدَل يكون عوضا والتكفير لَا يجوز بِالْإِعْتَاقِ بعوض وَنَحْو مَا علل بَعضهم فِي شِرَاء الْأَب بنية الْكَفَّارَة إِنَّه تَكْفِير بتحرير أَبِيه فَلَا يجوز كَمَا لَو كَانَ حلف بِعِتْقِهِ إِن ملكه فَإِن استقامة هَذَا التَّعْلِيل بِزِيَادَة وصف بِهِ يَقع الْفرق من حَيْثُ إِن الْمَحْلُوف بِعِتْقِهِ إِذا عتق عِنْد وجود الشَّرْط لَا يصير مكفرا بِهِ وَإِن نَوَاه عِنْد ذَلِك أَبَا كَانَ أَو أَجْنَبِيّا وَالنَّوْع الثَّالِث نَحْو مَا يُعلل بِهِ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي فِي أَن الْأَخ لَا يعْتق على أَخِيه إِذا ملكه قَالَ عتق الْأَخ تتأدى بِهِ الْكَفَّارَة فَلَا يثبت بِمُجَرَّد الْملك كعتق ابْن الْعم وَهَذَا تَعْلِيل بِوَصْف مُخْتَلف فِيهِ اخْتِلَافا ظَاهرا فَإِن عندنَا عتق الْقَرِيب وَإِن كَانَ مُسْتَحقّا عِنْد وجود الْملك تتأدى بِهِ الْكَفَّارَة حَتَّى قُلْنَا إِذا اشْترى أَبَاهُ بنية الْكَفَّارَة يجوز خلافًا للشَّافِعِيّ رَحمَه الله وَنَحْو مَا علل بِهِ بَعضهم فِي الْكتاب الْحَالة أَنَّهَا لَا تمنع جَوَاز التَّكْفِير بتحريره فَتكون فَاسِدَة كالكتابة على الْقيمَة فَإِن هَذَا تَعْلِيل بِوَصْف مُخْتَلف فِيهِ اخْتِلَافا ظَاهرا لِأَن التَّكْفِير بِإِعْتَاق الْمكَاتب كِتَابَة صَحِيحَة جَائِزَة عندنَا وَرُبمَا يكون هَذَا الِاخْتِلَاف فِي الأَصْل نَحْو مَا يُعلل بِهِ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي فِي الْإِفْطَار بِالْأَكْلِ وَالشرب إِنَّه إفطار بالمطعوم فَلَا يُوجب الْكَفَّارَة كَمَا لَو كَانَ فِي يَوْم أبْصر الْهلَال وَحده ورد الإِمَام شَهَادَته وَأما النَّوْع الرَّابِع فنحو تَعْلِيل الشَّافِعِي فِي النِّكَاح إِنَّه لَا يثبت بِشَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَال وَفِي الْأَخ لَا يعْتق على أَخِيه لِأَنَّهُ لَيْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 بَينهمَا بعضية وَفِي المبتوتة إِنَّه لَا يلْحقهَا الطَّلَاق لِأَنَّهُ لَيْسَ بَينهمَا نِكَاح وَفِي إِسْلَام الْمَرْوِيّ بالمروي إِنَّه يجوز لِأَنَّهُ لم يجمع الْبَدَلَيْنِ الطّعْم والثمنية وَهَذَا فَاسد لِأَنَّهُ اسْتِدْلَال بِعَدَمِ وصف والعدم لَا يصلح أَن يكون مُوجبا حكما وَقد بَينا أَن الْعَدَم الثَّابِت بِدَلِيل لَا يكون بَقَاؤُهُ ثَابتا بِدَلِيل فَكيف يسْتَدلّ بِهِ لإِثْبَات حكم آخر فَإِن قيل مثل هَذَا التَّعْلِيل كثير فِي كتبكم قَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله ملك النِّكَاح لَا يضمن بِالْإِتْلَافِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَال والزوائد لَا تضمن بِالْغَصْبِ لِأَنَّهُ لم يغصب الْوَلَد وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله الْعقار لَا يضمن بِالْغَصْبِ لِأَنَّهُ لم يَنْقُلهُ وَلم يحوله وَقَالَ فِيمَا لَا يجب فِيهِ الْخمس لِأَنَّهُ لم يوجف عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ وَقَالَ فِي تنَاول الْحَصَاة لَا تجب الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ لَيْسَ بمطعوم وَقَالَ فِي الْجد لَا يُؤَدِّي صَدَقَة الْفطر عَن النَّافِلَة لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِك فَهَذَا اسْتِدْلَال بِعَدَمِ وصف أَو حكم قُلْنَا أَولا هَذَا عندنَا غير مَذْكُور على وَجه المقايسة بل على وَجه الِاسْتِدْلَال فِيمَا كَانَ سَببه وَاحِدًا معينا بِالْإِجْمَاع نَحْو الْغَصْب فَإِن ضَمَان الْغَصْب سَببه وَاحِد عين وَهُوَ الْغَصْب فالاستدلال بِانْتِفَاء الْغَصْب على انْتِفَاء الضَّمَان يكون اسْتِدْلَالا بِالْإِجْمَاع وَكَذَلِكَ وجوب ضَمَان المَال بِسَبَب يَسْتَدْعِي الْمُمَاثلَة بِالنَّصِّ وَله سَبَب وَاحِد عين وَهُوَ إِتْلَاف المَال فيستقيم الِاسْتِدْلَال بِانْتِفَاء الْمَالِيَّة فِي الْمحل على انْتِفَاء هَذَا النَّوْع من الضَّمَان وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ دَلِيل الحكم مَعْلُوما فِي الشَّرْع بِالْإِجْمَاع نَحْو الْخمس فَإِنَّهُ وَاجِب فِي الْغَنِيمَة لَا غير وَطَرِيق الاغتنام الايجاف عَلَيْهِ بِالْخَيْلِ والركاب فالاستدلال بِهِ لنفي الْخمس يكون اسْتِدْلَالا صَحِيحا وَقد بَينا أَنه إبلاء الْعذر فِي بعض الْمَوَاضِع لَا الِاحْتِجَاج بِهِ على الْخصم فَأَما تَعْلِيل النِّكَاح بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَال فَلَا يثبت بِشَهَادَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 النِّسَاء مَعَ الرِّجَال يكون تعليلا بِعَدَمِ الْوَصْف وَعدم الْوَصْف لَا يعْدم الحكم لجَوَاز أَن يكون الحكم ثَابتا بِاعْتِبَار وصف آخر لِأَنَّهُ وَإِن لم يكن مَالا فَهُوَ من جنس مَا يثبت مَعَ الشُّبُهَات وَالْأَصْل الْمُتَّفق عَلَيْهِ الْحُدُود وَالْقصاص وَبِهَذَا الْوَصْف لَا يصير النِّكَاح بِمَنْزِلَة الْحُدُود وَالْقصاص حَتَّى يثبت مَعَ الشُّبُهَات بِخِلَاف الْحُدُود وَالْقصاص فَعرفنَا أَن بِعَدَمِ هَذَا الْوَصْف لَا يَنْعَدِم وصف آخر يصلح التَّعْلِيل بِهِ لإثباته بِشَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال وَكَذَلِكَ مَا علل بِهِ من أَخَوَات هَذَا الْفَصْل فَهُوَ يخرج على هَذَا الْحَرْف إِذا تَأَمَّلت فصل وَمن هَذَا النَّوْع الِاحْتِجَاج بِأَن الْأَوْصَاف محصورة عِنْد القائسين فَإِذا قَامَت الدّلَالَة على فَسَاد سَائِر الْأَوْصَاف إِلَّا وَصفا وَاحِدًا تثبت بِهِ صِحَة ذَلِك الْوَصْف وَيكون حجَّة هَذَا طَرِيق بعض أَصْحَاب الطَّرْد وَقد جوز الْجَصَّاص رَحمَه الله تَصْحِيح الْوَصْف لِلْعِلَّةِ بِهَذَا الطَّرِيق قَالَ الشَّيْخ رَحمَه الله وَقد كَانَ بعض أصدقائي عَظِيم الْجد فِي تَصْحِيح هَذَا الْكَلَام بعلة أَن الْأَوْصَاف لما كَانَت محصورة وجميعها لَيست بعلة للْحكم بل الْعلَّة وصف مِنْهَا فَإِذا قَامَ الدَّلِيل على فَسَاد سَائِر الْأَوْصَاف سوى وَاحِد مِنْهَا ثَبت صِحَة ذَلِك الْوَصْف بِدَلِيل الْإِجْمَاع كأصل الحكم فَإِن الْعلمَاء إِذا اخْتلفُوا فِي حكم حَادِثَة على أقاويل فَإِذا ثَبت بِالدَّلِيلِ فَسَاد سَائِر الْأَقَاوِيل إِلَّا وَاحِدًا ثَبت صِحَة ذَلِك القَوْل وَذَلِكَ نَحْو اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي جَارِيَة بَين رجلَيْنِ جَاءَت بِولد فادعياه فَإنَّا إِذا أفسدنا قَول من يَقُول بِالرُّجُوعِ إِلَى قَول الْقَائِف وَقَول من يَقُول بِالْقُرْعَةِ وَقَول من يَقُول بالتوقف إِنَّه لَا يثبت النّسَب من وَاحِد مِنْهُمَا يثبت بِهِ صِحَة قَول من يَقُول بِأَنَّهُ يثبت النّسَب مِنْهُمَا جَمِيعًا وَإِذا قَالَ لنسائه الْأَرْبَعَة إحداكن طَالِق ثَلَاثًا ووطىء ثَلَاثًا مِنْهُنَّ حَتَّى يكون ذَلِك دَلِيلا على انْتِفَاء الْمُحرمَة عَنْهُن تعين بهَا الرَّابِعَة مُحرمَة فَكَانَ تقرب هَذَا من الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة قَالَ الشَّيْخ وَعِنْدِي أَن هَذَا غلط لَا نجوز القَوْل بِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِك نوع من الِاحْتِجَاج بِالدَّلِيلِ أما بَيَان الْغَلَط فِيهِ وَهُوَ أَن مَا يَجعله هَذَا الْقَائِل دَلِيل صِحَة علته هُوَ الدَّلِيل على فَسَاده لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ سلوك هَذَا الطَّرِيق إِلَّا بعد قَوْله بالمساواة بَين الْأَوْصَاف فِي أَن كل وصف مِنْهَا صَالح أَن يكون عِلّة للْحكم وَبعد ثُبُوت هَذِه الْمُسَاوَاة فالدليل الَّذِي يدل على فَسَاد بَعْضهَا هُوَ الدَّلِيل على فَسَاد مَا بَقِي مِنْهَا لِأَنَّهُ مَتى علم الْمُسَاوَاة بَين شَيْئَيْنِ فِي الحكم ثمَّ ظهر لأَحَدهمَا حكم بِالدَّلِيلِ فَذَلِك الدَّلِيل يُوجب مثل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 ذَلِك الحكم فِي الآخر كمن يَقُول لغيره اجْعَل زيدا وعمرا فِي الْعَطِيَّة سَوَاء ثمَّ يَقُول أعْط زيدا درهما يكون ذَلِك تنصيصا على أَنه يُعْطي عمرا أَيْضا درهما فَعرفنَا أَنه لَا وَجه للتحرز عَن هَذَا الْفساد إِلَّا بِبَيَان تفَاوت بَين هَذَا الْوَصْف وَبَين سَائِر الْأَوْصَاف فِي كَونه عِلّة للْحكم وَذَلِكَ التَّفَاوُت لَا يتَبَيَّن إِلَّا بِبَيَان التَّأْثِير أَو الملاءمة فيضطر إِلَى بَيَانه شَاءَ أَو أَبى ثمَّ وَإِن قَامَ الدَّلِيل على فَسَاد سَائِر الْأَوْصَاف على وَجه لَا عمل لذَلِك الدَّلِيل فِي إِفْسَاد هَذَا الْوَصْف الْوَاحِد فَنحْن نتيقن أَن ذَلِك الدَّلِيل كَمَا لَا يُوجب فَسَاد هَذَا الْوَصْف لَا يُوجب صِحَّته فَلَا يبْقى على تَصْحِيح هَذَا الْوَصْف دَلِيلا سوى أَنه لم يقم الدَّلِيل على فَسَاده وَلَو جَازَ إِثْبَات الْوَصْف مُوجبا للْحكم بِهَذَا الطَّرِيق لجَاز إِثْبَات الحكم بِدُونِ هَذَا الْوَصْف بِهَذَا الطَّرِيق وَهُوَ أَن يَقُول حكم الْحَادِثَة كَذَا لِأَنَّهُ لم يقم الدَّلِيل على فَسَاد هَذَا الحكم وَمَا قَالَه من الِاسْتِدْلَال بالحكم فَهُوَ وهم لِأَن بإفساد مَذْهَب الْخصم لَا يثبت صِحَة مَذْهَب الْمُدَّعِي للْحكم بِوَجْه من الْوُجُوه وَكَيف يثبت ذَلِك والمبطل دَافع وَالْمُدَّعِي للْحكم مُثبت وَحجَّة الدّفع غير حجَّة الْإِثْبَات ثمَّ الدَّلِيل على أَن بِقِيَام دَلِيل الْفساد فِي سَائِر الْأَوْصَاف لَا تثبت صِحَة الْوَصْف الَّذِي ادَّعَاهُ الْمُعَلل فِي الشرعيات أَن من أَحْكَام الشَّرْع مَا هُوَ غير مَعْلُول أصلا بل الحكم فِيهِ ثَابت بِالنَّصِّ فبقيام الدَّلِيل على فَسَاد سَائِر الْأَوْصَاف لَا يَنْعَدِم احْتِمَال قيام الدَّلِيل على فَسَاد هَذَا الْوَصْف حَقِيقَة وَلَا حكما من هَذَا الْوَجْه لجَوَاز أَن يكون هَذَا النَّص غير مَعْلُول أصلا وَبِه فَارق العقليات ثمَّ احْتِمَال الصِّحَّة وَالْفساد فِي هَذَا الْوَصْف بِالْإِجْمَاع كَانَ مَانِعا من جعله حجَّة لإِثْبَات الحكم قبل قيام الدَّلِيل على فَسَاد سَائِر الْأَوْصَاف فَكَذَلِك بعده لِأَن احْتِمَال تعينه قَائِم بَاب وُجُوه الِاعْتِرَاض على الْعِلَل قَالَ رَضِي الله عَنهُ الْعِلَل نَوْعَانِ طردية ومؤثرة والاعتراض على كل نوع من وَجْهَيْن فَاسد وصحيح فالاعتراضات الْفَاسِدَة على الْعِلَل المؤثرة أَرْبَعَة المناقضة وَفَسَاد الْوَضع وَوُجُود الحكم مَعَ عدم الْعلَّة والمفارقة بَين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 الأَصْل وَالْفرع والصحيحة أَرْبَعَة الممانعة ثمَّ الْقلب الْمُبْطل ثمَّ الْعَكْس الكاسر ثمَّ الْمُعَارضَة بعلة أُخْرَى فَأَما المناقضة فَإِنَّهَا لَا ترد على الْعِلَل المؤثرة لِأَن التَّأْثِير لَا يتَبَيَّن إِلَّا بِدَلِيل الْكتاب أَو السّنة أَو الْإِجْمَاع وَهَذِه الْأَدِلَّة لَا تتناقض فَإِن أَحْكَام الشَّرْع عَلَيْهَا تَدور وَلَا تنَاقض فِي أَحْكَام الشَّرْع وَقد بَينا أَنه لَا تُوجد الْعلَّة بِدُونِ الحكم على الْوَجْه الَّذِي ظهر أَثَرهَا فِي الحكم بل لَا بُد أَن يَنْعَدِم الحكم لتغير وصف بِنُقْصَان أَو زِيَادَة وَبِه تتبدل الْعلَّة فتنعدم الْعلَّة المؤثرة الَّتِي أثبت الْمُعَلل الحكم بهَا وانعدام الحكم عِنْد انعدام الْعلَّة لَا يكون دَلِيل انْتِقَاض الْعلَّة وَهُوَ نَظِير الشَّاهِد فَإِنَّهُ مَعَ استجماع شَرَائِط الْأَدَاء إِذا ترك لَفْظَة الشَّهَادَة أَو زَاد عَلَيْهَا فَقَالَ فِيمَا أعلم فَإِنَّهُ لَا يجوز الْعَمَل بِشَهَادَتِهِ وَكَانَ ذَلِك بِاعْتِبَار انعدام الْعلَّة الْمُوجبَة للْعَمَل بِشَهَادَتِهِ معنى وَبَيَان هَذَا أَنا إِذا عللنا فِي تكْرَار الْمسْح بِالرَّأْسِ أَنه مسح مَشْرُوع فِي الطَّهَارَة فَلَا يستن تثليثه كالمسح بالخف لَا يدْخل الِاسْتِنْجَاء بالأحجار نقضا لِأَن الْمسْح هُنَاكَ غير مَشْرُوع فِي الطَّهَارَة إِنَّمَا الْمَشْرُوع إِزَالَة النَّجَاسَة العينية حَتَّى لَو تصور خُرُوج الْحَدث من غير أَن يَتَنَجَّس شَيْء مِمَّا هُوَ طَاهِر لم يجب الْمسْح أصلا وَإِزَالَة النَّجَاسَة غير الْمسْح وَهُوَ لَا يحصل بالمرة إِلَّا نَادرا فَعرفنَا أَن انعدام الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة وَأما فَسَاد الْوَضع فَهُوَ اعْتِرَاض فَاسد على الْعلَّة المؤثرة لِأَنَّهُ دَعْوَى لَا يُمكن تصحيحها فَإِن تَأْثِير الْعلَّة إِنَّمَا يثبت بِدَلِيل مُوجب للْحكم كَمَا بَينا وَمَعْلُوم أَنه لَا يجوز دَعْوَى فَسَاد الْوَضع فِي الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَأما وجود الحكم مَعَ عدم الْعلَّة فَإِن الحكم يجوز أَن يكون ثَابتا بعلة أُخْرَى لِأَن ثُبُوته بعلة لَا يُنَافِي كَونه ثَابتا بعلة أُخْرَى أَلا ترى أَن الحكم يجوز أَن يثبت بِشَهَادَة الشَّاهِدين وَيجوز أَن يثبت بِشَهَادَة أَرْبَعَة حَتَّى إِذا رَجَعَ اثْنَان قبل الْقَضَاء يبْقى الْقَضَاء وَاجِبا بِشَهَادَة الباقيين وَكَذَلِكَ يجوز أَن يكون الأَصْل معلولا بعلتين يتَعَدَّى الحكم بِإِحْدَاهُمَا إِلَى فروع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 وبالأخرى إِلَى فروع أخر فَلَا يكون انعدام الْعلَّة مَعَ بَقَاء الحكم فِي مَوضِع ثَابتا بِالْعِلَّةِ الْأُخْرَى دَلِيل فَسَاد الْعلَّة فَأَما الْمُفَارقَة فَمن النَّاس من ظن أَنَّهَا مفاقهة ولعمري الْمُفَارقَة مفاقهة وَلَكِن فِي غير هَذَا الْموضع فَأَما على وَجه الِاعْتِرَاض على الْعِلَل المؤثرة تكون مجادلة لَا فَائِدَة فِيهَا فِي مَوضِع النزاع وَبَيَان هَذَا من وُجُوه ثَلَاثَة أَحدهَا أَن شَرط صِحَة الْقيَاس لتعدية الحكم إِلَى الْفُرُوع تَعْلِيل الأَصْل بِبَعْض أَوْصَافه لَا بِجَمِيعِ أَوْصَافه وَقد بَينا أَنه مَتى كَانَ التَّعْلِيل بِجَمِيعِ أَوْصَاف الأَصْل لَا يكون مقايسة فبيان الْمُفَارقَة بَين الأَصْل وَالْفرع بِذكر وصف آخر لَا يُوجد ذَلِك فِي الْفَرْع وَيرجع إِلَى بَيَان صِحَة المقايسة فَأَما أَن يكون ذَلِك اعتراضا على الْعلَّة فَلَا ثمَّ ذكر وصف آخر فِي الأَصْل يكون ابْتِدَاء دَعْوَى والسائل جَاهِل مسترشد فِي موقف الْمُنكر إِلَى أَن تتبين لَهُ الْحجَّة لَا فِي مَوضِع الدَّعْوَى وَإِن اشْتغل بِإِثْبَات دَعْوَاهُ فَذَلِك لَا يكون سعيا فِي إِثْبَات الحكم الْمَقْصُود وَإِنَّمَا يكون سعيا فِي إِثْبَات الحكم فِي الأَصْل وَهُوَ مفروغ عَنهُ وَلَا يتَّصل مَا يُثبتهُ بالفرع إِلَّا من حَيْثُ إِنَّه يَنْعَدِم ذَلِك الْمَعْنى فِي الْفَرْع وبالعدم لَا يثبت الِاتِّصَال وَقد بَينا أَن الْعَدَم لَا يصلح أَن يكون مُوجبا شَيْئا فَكَانَ هَذَا مِنْهُ اشتغالا بِمَا لَا فَائِدَة فِيهِ وَالثَّالِث مَا بَينا أَن الحكم فِي الأَصْل يجوز أَن يكون معلولا بعلتين ثمَّ يتَعَدَّى الحكم إِلَى بعض الْفُرُوع بِإِحْدَى العلتين دون الْأُخْرَى فَبَان انعدام فِي الْفَرْع الْوَصْف الَّذِي يروم بِهِ السَّائِل الْفرق وَإِن سلم لَهُ أَنه عِلّة لإِثْبَات الحكم فِي الأَصْل فَذَلِك لَا يمْنَع الْمُجيب من أَن يعدي حكم الأَصْل إِلَى الْفَرْع بِالْوَصْفِ الَّذِي يَدعِيهِ أَنه عِلّة للْحكم وَمَا لَا يكون قدحا فِي كَلَام الْمُجيب فاشتغال السَّائِل بِهِ يكون اشتغالا بِمَا لَا يُفِيد وَإِنَّمَا المفاقهة فِي الممانعة حَتَّى يبين الْمُجيب تَأْثِير علته فالفقه حِكْمَة باطنة وَمَا يكون مؤثرا فِي إِثْبَات الحكم شرعا فَهُوَ الْحِكْمَة الْبَاطِنَة والمطالبة بِهِ تكون مفاقهة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 فَأَما الْإِعْرَاض عَنهُ والاشتغال بِالْفرقِ يكون قبولا لما فِيهِ احْتِمَال أَن لَا يكون حجَّة لإِثْبَات الحكم واشتغالا بِإِثْبَات الحكم بِمَا لَيْسَ بِحجَّة أصلا فِي مَوضِع النزاع وَهُوَ عدم الْعلَّة فَتبين أَن هَذَا لَيْسَ من المفاقهة فِي شَيْء وَالله أعلم فصل الممانعة قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الممانعة أصل الِاعْتِرَاض على الْعلَّة المؤثرة من حَيْثُ إِن الْخصم الْمُجيب يَدعِي أَن حكم الْحَادِثَة مَا أجَاب بِهِ فَإِذا لم يسلم لَهُ ذَلِك يذكر وَصفا يَدعِي أَنه عِلّة مُوجبَة للْحكم فِي الأَصْل الْمجمع عَلَيْهِ وَأَن هَذَا الْفَرْع نَظِير ذَلِك الأَصْل فيتعدى ذَلِك الحكم بِهَذَا الْوَصْف إِلَى الْفَرْع وَفِي هَذَا الحكم دعويان فَهُوَ أظهر فِي الدَّعْوَى من الأول أَي حكم الْحَادِثَة وَإِن كَانَت المناظرة لَا تتَحَقَّق إِلَّا بِمَنْع دَعْوَى السَّابِق عرفنَا أَنَّهَا لَا تتَحَقَّق إِلَّا بِمَنْع هَذِه الدَّعَاوَى أَيْضا فَيكون هُوَ مُحْتَاجا إِلَى إِثْبَات دعاويه بِالْحجَّةِ والسائل مُنكر فَلَيْسَ عَلَيْهِ سوى الْمُطَالبَة لإِقَامَة الْحجَّة بِمَنْزِلَة الْمُنكر فِي بَاب الدَّعَاوَى والخصومات وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَاحب الشَّرْع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ للْمُدَّعِي (أَلَك بَيِّنَة) وبالممانعة يتَبَيَّن العوار وَيظْهر الْمُدَّعِي من الْمُنكر والملزم من الدَّافِع بَعْدَمَا ثَبت شرعا أَن حجَّة أَحدهمَا غير حجَّة الآخر ثمَّ الممانعة على أَرْبَعَة أوجه ممانعة فِي نفس الْعلَّة وممانعة فِي الْوَصْف الَّذِي يذكر الْمُعَلل أَنه عِلّة وممانعة فِي شَرط صِحَة الْعلَّة أَنه مَوْجُود فِي ذَلِك الْوَصْف وممانعة فِي الْمَعْنى الَّذِي بِهِ صَار ذَلِك الْوَصْف عِلّة للْحكم أما الممانعة فِي نفس الْعلَّة فَكَمَا بَينا أَن كثيرا من الْعِلَل إِذا تَأَمَّلت فِيهَا تكون احتجاجا بِلَا دَلِيل وَذَلِكَ لَا يكون حجَّة على الْخصم لإِثْبَات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 الحكم وَبَيَان هَذَا فِيمَا علل بِهِ الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي النِّكَاح أَنه لَيْسَ بِمَال فَلَا يثبت بِشَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال كالحدود وَالْقصاص وَهَذَا النَّوْع لَا يصلح حجَّة لإِيجَاب الحكم عندنَا على مَا بَينا فَترك الممانعة فِيهِ تكون قبولا من الْخصم مَا لَا يكون حجَّة أصلا وَذَلِكَ دَلِيل الْجَهْل فَكَانَت الممانعة فِي هَذَا الْموضع دَلِيل المفاقهة وَأما ممانعة الْوَصْف الَّذِي هُوَ الْعلَّة فبيانه فِيمَا علل بِهِ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رَضِي الله عَنْهُمَا أَن الْإِيدَاع من الصَّبِي تسليط على الِاسْتِهْلَاك فَإِن مثل هَذَا الْوَصْف لَا بُد أَن يكون مَمْنُوعًا عِنْد الْخصم لِأَن بعد ثُبُوته لَا يبْقى للمنازعة فِي الحكم معنى وَنَحْو مَا علل بِهِ أَبُو حنيفَة فِيمَن اشْترى قَرِيبه مَعَ غَيره أَن الْأَجْنَبِيّ رَضِي بِالَّذِي وَقع الْعتْق بِهِ بِعَيْنِه وَنَحْو مَا علل بِهِ عُلَمَاؤُنَا فِي صَوْم يَوْم النَّحْر أَنه مَشْرُوع لِأَنَّهُ مَنْهِيّ عَنهُ وَالنَّهْي يدل على تحقق الْمَشْرُوع ليتَحَقَّق الِانْتِهَاء عَنهُ كَمَا هُوَ مُوجب النَّهْي فَإِن عِنْد الْخصم مُطلق النَّهْي بِمَنْزِلَة النّسخ حَتَّى يَنْعَدِم بِهِ الْمَشْرُوع أصلا فَلَا بُد من هَذِه الممانعة لمن يُرِيد الْكَلَام فِي الْمَسْأَلَة على سَبِيل المفاقهة وَأما الممانعة فِي الشَّرْط الَّذِي لَا بُد مِنْهُ ليصير الْوَصْف عِلّة بَيَانه فِيمَا ذكرنَا أَن من الْأَوْصَاف مَا يكون مغيرا حكم الأَصْل وَمن شَرط صِحَة الْعلَّة أَن لَا يكون مغيرا حكم النَّص وَذَلِكَ نَحْو تَعْلِيل الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة بالطعم فَإِنَّهُ يُغير حكم النَّص لِأَن الحكم فِي نُصُوص الرِّبَا حُرْمَة الْفضل على الْقدر وَثُبُوت الْحُرْمَة إِلَى غَايَة وَهُوَ الْمُسَاوَاة وَالتَّعْلِيل بالطعم يثبت فِي الْمَنْصُوص حُرْمَة فضل لَا على الْقدر وَحُرْمَة مُطلقَة لَا إِلَى غَايَة الْمُسَاوَاة يَعْنِي فِي الحفنة من الْحِنْطَة وَفِيمَا لَا يدْخل تَحت الْقدر من المطعومات الَّتِي هِيَ فرع فِي هَذَا الحكم فَلَا بُد من هَذِه الممانعة لِأَن الحكم لَا يثبت بِوُجُود ركن الشَّيْء مَعَ انعدام شَرطه وَأما الممانعة فِي الْمَعْنى الَّذِي يكون بِهِ الْوَصْف عِلّة مُوجبَة للْحكم شرعا فَهُوَ الْمُطَالبَة بِبَيَان التَّأْثِير لما بَينا أَن الْعلَّة بِهِ تصير مُوجبَة للْحكم شرعا وَهِي الْحِكْمَة الْبَاطِنَة الَّتِي يعبر عَنْهَا بالفقه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 وَالْحَاصِل أَن فِي الدَّعْوَى وَالْإِنْكَار يعْتَبر الْمَعْنى دون الصُّورَة فقد يكون الْمَرْء مُدعيًا صُورَة وَهُوَ مُنكر معنى أَلا ترى أَن الْمُودع إِذا ادّعى رد الْوَدِيعَة يكون مُنْكرا للضَّمَان معنى وَلِهَذَا كَانَ القَوْل قَوْله مَعَ الْيَمين وَإِنَّمَا جعل الشَّرْع الْيَمين فِي جَانب الْمُنكر وَالْبكْر إِذا قَالَت بَلغنِي النِّكَاح فَرددت وَقَالَ الزَّوْج بل سكتت فَالْقَوْل قَوْلهَا عندنَا وَهِي فِي الصُّورَة تَدعِي الرَّد وَلكنهَا تنكر ثُبُوت ملك النِّكَاح عَلَيْهَا فِي الْمَعْنى فَكَانَت مُنكرَة لَا مدعية وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رَضِي الله عَنْهُمَا إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ فِي الثّمن بعد هَلَاك السّلْعَة فَالْقَوْل قَول المُشْتَرِي مَعَ يَمِينه وَهُوَ فِي الصُّورَة يَدعِي بيعا بِأَقَلّ الثمنين وَلكنه فِي الْمَعْنى مُنكر للزِّيَادَة الَّتِي يدعيها البَائِع فَعرفنَا أَنه إِنَّمَا يعْتَبر الْمَعْنى فِي الدَّعْوَى وَالْإِنْكَار دون الصُّورَة إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول هَذِه الْوُجُوه من الممانعة تكون إنكارا من السَّائِل فَلَا حَاجَة بِهِ إِلَى إِثْبَات إِنْكَاره بِالْحجَّةِ واشتغاله بذلك يكون اشتغالا بِمَا لَا يُفِيد وَقَوله إِن الحكم فِي الأَصْل مَا تعلق بِهَذَا الْوَصْف فَقَط بل بِهِ وبقرينة أُخْرَى يكون إنكارا صَحِيحا من حَيْثُ الْمَعْنى وَإِن كَانَ دَعْوَى من حَيْثُ الصُّورَة لِأَن الحكم الْمُتَعَلّق بعلة ذَات وصفين لَا يثبت بِوُجُود أحد الوصفين وَذَلِكَ نَحْو مَا يُعلل بِهِ الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي الْيَمين المعقودة على أَمر فِي الْمُسْتَقْبل لِأَنَّهَا يَمِين بِاللَّه مَقْصُودَة فيتعدى الحكم بِهَذَا الْوَصْف إِلَى الْغمُوس فَإنَّا نقُول الحكم فِي الأَصْل ثَبت بِهَذَا الْوَصْف مَعَ قرينَة وَهُوَ توهم الْبر فِيهَا فَيكون هَذَا منعا لما ادَّعَاهُ الْخصم والخصم هُوَ الْمُحْتَاج إِلَى إِثْبَات دَعْوَاهُ بِالْحجَّةِ فَأَما قَول السَّائِل لَيْسَ الْمَعْنى فِي الأَصْل مَا قلت وَإِنَّمَا الْمَعْنى فِيهِ كَذَا هُوَ إِنْكَار صُورَة وَلكنه من حَيْثُ الْمَعْنى دَعْوَى وَهُوَ دَعْوَى غير مُفِيد فِي مَوضِع النزاع لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ أَن يَقُول فِي مَوضِع النزاع لتقرير ذَلِك الْمَعْنى سوى أَن هَذَا الْمَعْنى مَعْدُوم فِي مَوضِع النزاع وَعدم الْعلَّة لَا يُوجب عدم الحكم وَإِن كَانَ هَذَا يصلح للترجيح بِهِ من وَجه على مَا نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 فصل الْقلب وَالْعَكْس قَالَ رَضِي الله عَنهُ تَفْسِير الْقلب لُغَة جعل أَعلَى الشَّيْء أَسْفَله وأسفله أَعْلَاهُ من قَول الْقَائِل قلبت الْإِنَاء إِذا نكسه أَو هُوَ جعل بطن الشَّيْء ظهرا وَالظّهْر بَطنا من قَول الْقَائِل قلبت الجراب إِذا جعل بَاطِنه ظَاهرا وَظَاهره بَاطِنا وقلبت الْأَمر إِذا جعله ظهرا لبطن وقلب الْعلَّة على هذَيْن الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ نَوْعَانِ أَحدهمَا جعل الْمَعْلُول عِلّة وَالْعلَّة معلولا وَهَذَا مُبْطل لِلْعِلَّةِ لِأَن الْعلَّة هِيَ الْمُوجبَة شرعا والمعلول هُوَ الحكم الْوَاجِب بِهِ فَيكون فرعا وتبعا لِلْعِلَّةِ وَإِذا جعل التبع أصلا وَالْأَصْل تبعا كَانَ ذَلِك دَلِيل بطلَان الْعلَّة وَبَيَانه فِيمَا قَالَ الشَّافِعِي فِي الذِّمِّيّ إِنَّه يجب عَلَيْهِ الرَّجْم لِأَنَّهُ من جنس من يجلد بكره مائَة فيرجم ثيبه كَالْمُسلمِ فيقلب عَلَيْهِ فَنَقُول فِي الأَصْل إِنَّمَا يجلد بكره لِأَنَّهُ يرْجم ثيبه فَيكون ذَلِك قلبا مُبْطلًا لعلته بِاعْتِبَار أَن مَا جعل فرعا صَار أصلا وَمَا جعله أصلا صَار تبعا وَكَذَلِكَ قَوْله الْقِرَاءَة ركن يتَكَرَّر فرضا فِي الْأَوليين فيتكرر أَيْضا فرضا فِي الْأُخْرَيَيْنِ كالركوع وَهَذَا النَّوْع من الْقلب إِنَّمَا يَتَأَتَّى عِنْد التَّعْلِيل بِحكم لحكم فَأَما إِذا كَانَ التَّعْلِيل بِوَصْف لَا يرد عَلَيْهِ هَذَا الْقلب إِذْ الْوَصْف لَا يكون حكما شَرْعِيًّا يثبت بِحكم آخر وَطَرِيق المخلص عَن هَذَا الْقلب أَن لَا يذكر هَذَا على سَبِيل التَّعْلِيل بل على سَبِيل الِاسْتِدْلَال بِأحد الْحكمَيْنِ على الآخر فَإِن الِاسْتِدْلَال بِحكم على حكم طَرِيق السّلف فِي الْحَوَادِث روينَا ذَلِك عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَعَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَلَكِن شَرط هَذَا الِاسْتِدْلَال أَن يثبت أَنَّهُمَا نظيران متساويان فَيدل كل وَاحِد مِنْهُمَا على صَاحبه هَذَا على ذَاك فِي حَال وَذَاكَ على هَذَا فِي حَال بِمَنْزِلَة التوأم فَإِنَّهُ يثبت حريَّة الأَصْل لأَحَدهمَا أَيهمَا كَانَ بِثُبُوتِهِ للْآخر وَيثبت الرّقّ فِي أَيهمَا كَانَ بِثُبُوتِهِ للْآخر وَذَلِكَ نَحْو مَا يَقُوله عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله وَبَيَانه فِيمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا إِن الصَّوْم عبَادَة تلْزم بِالنذرِ فتلزم بِالشُّرُوعِ كَالْحَجِّ فَلَا يَسْتَقِيم قلبهم علينا لِأَن الْحَج إِنَّمَا يلْزم بِالنذرِ لِأَنَّهُ يلْزم بِالشُّرُوعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 لأَنا نستدل بِأحد الْحكمَيْنِ على الآخر بعد ثُبُوت الْمُسَاوَاة بَينهمَا من حَيْثُ إِن الْمَقْصُود بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا تَحْصِيل عبَادَة زَائِدَة هِيَ مَحْض حق الله تَعَالَى على وَجه يكون الْمَعْنى فِيهَا لَازِما وَالرُّجُوع عَنْهَا بعد الْأَدَاء حرَام وإبطالها بعد الصِّحَّة جِنَايَة فَبعد ثُبُوت الْمُسَاوَاة بَينهمَا يَجْعَل هَذَا دَلِيلا على ذَاك تَارَة وَذَاكَ على هَذَا تَارَة وَكَذَلِكَ قَوْلنَا فِي الثّيّب الصَّغِيرَة من يكون موليا عَلَيْهِ فِي مَاله تَصرفا يكون موليا عَلَيْهِ فِي نَفسه تَصرفا كالبكر وَفِي الْبكر الْبَالِغَة من لَا يكون موليا عَلَيْهِ فِي مَاله تَصرفا لَا يكون موليا عَلَيْهِ فِي نَفسه تَصرفا كَالرّجلِ يكون اسْتِدْلَالا صَحِيحا بِأحد الْحكمَيْنِ على الآخر إِذْ الْمُسَاوَاة قد تثبت بَين التصرفين من حَيْثُ إِن ثُبُوت الْولَايَة فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا بِاعْتِبَار حَاجَة الْمولى عَلَيْهِ وعجزه عَن التَّصَرُّف بِنَفسِهِ فَلَا يَسْتَقِيم قلبهم إِذا ذكرنَا هَذَا على وَجه الِاسْتِدْلَال لِأَن جَوَاز الِاسْتِدْلَال بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا على الآخر يدل على قُوَّة المشابهة والمساواة وَهُوَ الْمَقْصُود بالاستدلال بِخِلَاف مَا علل بِهِ الشَّافِعِي فَإِنَّهُ لَا مُسَاوَاة بَين الْجلد وَالرَّجم أما من حَيْثُ الذَّات فَالرَّجْم عُقُوبَة غَلِيظَة تَأتي على النَّفس وَالْجَلد لَا وَمن حَيْثُ الشَّرْط الرَّجْم يَسْتَدْعِي من الشَّرَائِط مَا لَا يَسْتَدْعِي عَلَيْهِ الْجلد كالثيوبة وَكَذَلِكَ لَا مُسَاوَاة بَين ركن الْقِرَاءَة وَبَين الرُّكُوع فَإِن الرُّكُوع فعل هُوَ أصل فِي الرَّكْعَة وَالْقِرَاءَة ذكر هُوَ زَائِد حَتَّى إِن الْعَاجِز عَن الْأَذْكَار الْقَادِر على الْأَفْعَال يُؤَدِّي الصَّلَاة وَالْعَاجِز عَن الْأَفْعَال الْقَادِر على الْأَذْكَار لَا يُؤَدِّيهَا وَيسْقط ركن الْقِرَاءَة بالاقتداء عندنَا وَعند خوف فَوت الرَّكْعَة بالِاتِّفَاقِ وَلَا يسْقط ركن الرُّكُوع وَكَذَلِكَ لَا مُسَاوَاة بَين الشفع الثَّانِي وَالشَّفْع الأول فِي الْقِرَاءَة فَإِنَّهُ يسْقط فِي الشفع الثَّانِي شطر مَا كَانَ مَشْرُوعا فِي الشفع الأول وَهُوَ قِرَاءَة السُّورَة وَالْوَصْف الْمَشْرُوع فِيهِ فِي الشفع الأول وَهُوَ الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ وَمَعَ انعدام الْمُسَاوَاة لَا يُمكن الِاسْتِدْلَال بِأَحَدِهِمَا على الآخر وَالْقلب يبطل التَّعْلِيل على وَجه المقايسة وَالنَّوْع الثَّانِي من الْقلب هُوَ جعل الظَّاهِر بَاطِنا بِأَن يَجْعَل الْوَصْف الَّذِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 علل بِهِ الْخصم شَاهدا عَلَيْهِ لصَاحبه فِي إِثْبَات ذَلِك الحكم بعد أَن كَانَ شَاهدا لَهُ وَهَذِه مُعَارضَة فِيهَا مناقضة لِأَن الْمَطْلُوب هُوَ الحكم فالوصف الَّذِي يشْهد بإثباته من وَجه وينفيه من وَجه آخر يكون متناقضا فِي نَفسه بِمَنْزِلَة الشَّاهِد الَّذِي يشْهد لأحد الْخَصْمَيْنِ على الآخر فِي حَادِثَة ثمَّ للخصم الآخر عَلَيْهِ فِي عين تِلْكَ الْحَادِثَة فَإِنَّهُ يتناقض كَلَامه بِخِلَاف الْمُعَارضَة بعلة أُخْرَى فَإِنَّهُ لَا يكون فِيهَا معنى التَّنَاقُض بل للاشتباه يتَعَذَّر الْعَمَل إِلَى أَن يتَبَيَّن الرجحان لأَحَدهمَا على الآخر فَأَما مَا يشْهد لَك على خصمك وبخصمك عَلَيْك فِي حَادِثَة وَاحِدَة فِي وَقت وَاحِد بِأَنَّهُ يتَحَقَّق فِيهِ التَّعَارُض مَعَ التَّنَاقُض وَبَيَان ذَلِك فِيمَا علل بِهِ الشَّافِعِي فِي صَوْم رَمَضَان بِمُطلق النِّيَّة إِنَّه صَوْم فرض فَلَا يتَأَدَّى إِلَّا بِتَعْيِين النِّيَّة كَصَوْم الْقَضَاء فَإِنَّمَا نقلب عَلَيْهِ فَنَقُول إِنَّه صَوْم فرض فَبعد مَا تعين مرّة لَا يشْتَرط لأدائه تعْيين بنية أُخْرَى كَصَوْم الْقَضَاء وَعلل فِي سنة التّكْرَار فِي الْمسْح بِالرَّأْسِ فَإِنَّهُ ركن فِي الْوضُوء فَيسنّ تثليثه كَغسْل الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ فَإنَّا نقلب عَلَيْهِ فَنَقُول ركن فِي الْوضُوء فَبعد إكماله بِالزِّيَادَةِ على الْمَفْرُوض فِي مَحل الْفَرِيضَة لَا يسن تثليثه كالمغسولات وَإِقَامَة الْفَرْض هُنَا يحصل بمسح الرّبع وبالاستيعاب يحصل الْإِكْمَال بِالزِّيَادَةِ على الْفَرِيضَة فِي مَحل الْفَرِيضَة كَمَا فِي المغسولات بِالْغسْلِ ثَلَاثًا يحصل الْإِكْمَال بِالزِّيَادَةِ على الْقدر الْمَفْرُوض وَهُوَ الِاسْتِيعَاب فِي مَحل الْمَفْرُوض فَإِن قيل هَذَا الْقلب إِنَّمَا يتَأَدَّى بِزِيَادَة وصف وبهذه الزِّيَادَة يتبدل الْوَصْف وَيصير شَيْئا آخر فَيكون هَذَا مُعَارضَة لَا قلبا قُلْنَا نعم فِي هَذَا زِيَادَة وصف وَلكنهَا تَفْسِير للْحكم على وَجه التَّقْرِير لَهُ لَا على وَجه التَّغْيِير فَإنَّا نبين بِهَذِهِ الزِّيَادَة أَن صَوْم رَمَضَان لما تعين مَشْرُوعا فِي الزَّمَان وَغَيره لَيْسَ بمشروع كَانَ قِيَاسه من الْقَضَاء مَا بعد التَّعْيِين بِالشُّرُوعِ فِيهِ والاستيعاب فِي الْمسْح بِالرَّأْسِ لما لم يكن ركنا كَانَ قِيَاسه من المغسولات بعد حُصُول الِاسْتِيعَاب مَا إِذا حصل الْإِكْمَال فِي المغسولات بِالزِّيَادَةِ بعد الِاسْتِيعَاب فَيكون تقريرا لذَلِك الْوَصْف بِهَذَا التَّفْسِير لَا تغييرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 وَتَفْسِير الْعَكْس لُغَة وَهُوَ رد الشَّيْء على سنَنه وَرَاءه مأخود من عكس الْمرْآة فَإِن نورها يرد نور بصر النَّاظر فِيمَا وَرَاءه على سنَنه حَتَّى يرى وَجهه كَأَن لَهُ فِي الْمرْآة وَجها وعينا يبصر بِهِ وَكَذَلِكَ عكس المَاء نور الشَّمْس فَإِنَّهُ يرد نورها حَتَّى يَقع على جِدَار بِمُقَابلَة المَاء كَأَن فِي المَاء شمسا ثمَّ الْعَكْس فِي الْعلَّة على وَجْهَيْن أَحدهمَا رد الحكم على سنَنه بِمَا يكون قلبا لعلته حَتَّى يثبت بِهِ ضد مَا كَانَ ثَابتا بِأَصْلِهِ نَحْو قَوْلنَا فِي الشُّرُوع فِي صَوْم النَّفْل إِن مَا يلْتَزم بِالنذرِ يلْتَزم بِالشُّرُوعِ كَالْحَجِّ وَعَكسه إِن مَا لَا يلْتَزم بِالنذرِ لَا يلْتَزم بِالشُّرُوعِ كَالْوضُوءِ فَيكون الْعَكْس على هَذَا الْمَعْنى ضد الطَّرْد وَهَذَا لَا يكون قادحا فِي الْعلَّة أصلا بل يصلح مرجحا لهَذَا النَّوْع من الْعلَّة على الْعلَّة الَّتِي تطرد وَلَا تنعكس على مَا نبينه فِي بَابه وَالنَّوْع الآخر مَا يكون عكسا يُوجب الحكم لَا على سنَن حكم الأَصْل بل على مُخَالفَة حكم الأَصْل وَذَلِكَ نَحْو مَا يُعلل بِهِ الشَّافِعِي فِي أَن الصَّوْم عبَادَة لَا يمْضِي فِي فاسدها فَلَا تصير لَازِمَة بِالشُّرُوعِ فِيهَا كَالْوضُوءِ وَعَكسه الْحَج فَهَذَا التَّعْلِيل لَهُ نَظِير التَّعْلِيل الأول لنا وَنحن إِذا قُلْنَا بِأَن مَا يلْتَزم بِالنذرِ من الْعَادة يلْتَزم بِالشُّرُوعِ كَالْحَجِّ فَهُوَ يَقُول يَنْبَغِي أَن يَسْتَوِي حكم الشُّرُوع فِيهِ بنية النَّفْل وَحكم الشُّرُوع فِيهِ على ظن أَنه عَلَيْهِ كَالْحَجِّ فَيكون فِي هَذَا الْعَكْس نوع كسر لِلْعِلَّةِ حَيْثُ تمكن الْخصم بِهِ من إِثْبَات حكم هُوَ مُخَالف للْحكم الأول وَلكنه لَيْسَ بِقَوي فَإِن الحكم الَّذِي تعلقه مُجمل غير مُفَسّر وَمَا علقنا بِهِ من الحكم مُفَسّر فالمفسر أولى من الْمُجْمل ثمَّ هُوَ تعلق بِهِ حكم التَّسْوِيَة وَالْحكم الْمَقْصُود شَيْء آخر يخْتَلف فِيهِ الْفَرْع وَالْأَصْل على سَبِيل التضاد فَإِن فِي الأَصْل يستويان حَتَّى يجب الْقَضَاء فيهمَا وَفِي الْفَرْع عِنْده يستويان حَتَّى يسْقط الْقَضَاء فيهمَا وَإِنَّمَا يَسْتَقِيم هَذَا التَّعْلِيل إِذا كَانَ الْمَقْصُود عين التَّسْوِيَة وَلِأَنَّهُ فِي هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 الْعَكْس ينص على حكم آخر سوى مَا ذَكرْنَاهُ فِي التَّعْلِيل فَلَا يكون إبطالا بطرِيق النّظر وَإِنَّمَا يكون الْعَكْس دفعا لما فِيهِ من الْإِبْطَال والمناقضة فَإِذا عرى عَن ذَلِك لم يكن دفعا وَلِأَنَّهُ علل بِحكم مُجمل لَا يتَّصل بالمتنازع فِيهِ إِلَّا بِكَلَام هُوَ ابْتِدَاء وَلَيْسَ للسَّائِل دلك فَظهر أَن الْعَكْس سُؤال ضَعِيف فصل فِي الْمُعَارضَة وَقد بَينا تَفْسِير الْمُعَارضَة فِيمَا مضى وَهَذَا الْفَصْل لبَيَان أقسامها وتمييز الْفَاسِد من الصَّحِيح مِنْهَا فَيَقُول الْمُعَارضَة نَوْعَانِ نوع فِي عِلّة الأَصْل وَنَوع فِي حكم الْفَرْع فالذى فِي حكم الْفَرْع على خَمْسَة أوجه مُعَارضَة بالتنصيص على خلاف حكم الْعلَّة فِي ذَلِك الْمحل بِعَيْنِه ومعارضة بتغيير هُوَ تَفْسِير لذَلِك الحكم على وَجه التَّقْرِير لَهُ ومعارضة بتغيير فِيهِ إجلال بِموضع الْخلاف ومعارضة فِيهَا نفى مَا لم يُثبتهُ الْمُعَلل أَو إِثْبَات مَا لم ينفه الْمُعَلل وَلكنه يتَّصل بِموضع التَّعْلِيل ومعارضة بِإِثْبَات حكم فِي غير الْمحل الذى أثبت الْمُعَلل الحكم فِيهِ بعلته والذى فِي عِلّة الأَصْل أَنْوَاع ثَلَاثَة مُعَارضَة بِذكر عِلّة فِي الأَصْل لَا تتعدى إِلَى فرع ومعارضة بِذكر عِلّة تتعدى إِلَى فرع الحكم فِيهِ مُتَّفق عَلَيْهِ ومعارضة بعلة تتعدى إِلَى فرع الحكم فِيهِ مُخْتَلف فِيهِ وَبَيَان الْوَجْه الأول من الْأَوْجه الْخَمْسَة فِي تكْرَار الْمسْح بِالرَّأْسِ فَإِن الْخصم يَقُول ركن فِي الْوضُوء فَيسنّ تثليثه كالمغسول وَنحن نعارضه بقولنَا مسح فِي الطَّهَارَة فَلَا يسن تثليثه كالمسح بالخف فَهَذِهِ مُعَارضَة صَحِيحه لما فِيهَا من التَّنْصِيص على خلاف حكم علته فِي ذَلِك الْمحل بِعَيْنِه وَبَيَان الْوَجْه الثَّانِي فِي هَذَا الْموضع أَيْضا فَإنَّا نقُول ركن فِي الْوضُوء فَبعد الْإِكْمَال بِالزِّيَادَةِ على الْقدر الْمَفْرُوض فِي مَحل الْفَرِيضَة لَا يسن تثليثه كَمَا فِي المغسولات فَهَذِهِ مُعَارضَة بتغيير هُوَ تَفْسِير للْحكم فِي تَقْرِيره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 وَهَذَانِ وَجْهَان صَحِيحَانِ فِي الْمُعَارضَة المحوجة إِلَى التَّرْجِيح لِأَن عِنْد صِحَة الْمُعَارضَة يُصَار إِلَى التَّرْجِيح وَبَيَان الْوَجْه الثَّالِث فِيمَا يُعلل بِهِ فِي غير الْأَب وَالْجد هَل تثبت لَهُم ولَايَة التَّزْوِيج على الصَّغِيرَة فَنَقُول إِنَّهَا صَغِيرَة فَتثبت عَلَيْهَا ولَايَة التَّزْوِيج كالتى لَهَا أَب وهم يعارضون وَيَقُولُونَ هَذِه صَغِيرَة فَلَا تثبت عَلَيْهَا ولَايَة التَّزْوِيج للْأَخ كالتى لَهَا أَب فَتكون هَذِه مُعَارضَة بتغيير فِيهِ إخلال بِموضع النزاع لِأَن مَوضِع النزاع ثُبُوت ولَايَة التَّزْوِيج على الْيَتِيمَة لَا تعْيين الولى المزوج لَهَا وَهُوَ فِي معارضته علل لنفى الْولَايَة بشخص بِعَيْنِه وَلكنه يَقُول إِن مَوضِع النزاع إِثْبَات الْولَايَة للأقارب سوى الْأَب وَالْجد على الصَّغِيرَة وأقربهم الْأَخ فَنحْن بِهَذِهِ الْمُعَارضَة ننفى ولَايَة الْأَخ عَنْهَا ثمَّ ولَايَة من وَرَاء الْأَخ منتفية عَنْهَا بالأخ فَمن هَذَا الْوَجْه يظْهر معنى الصِّحَّة فِي هَذِه الْمُعَارضَة وَإِن لم يكن قَوِيا وَبَيَان الْوَجْه الرَّابِع فِيمَا ذكرنَا فِي النَّوْع الثَّانِي من الْعَكْس وَذَلِكَ فِيمَا يُعلل بِهِ فِي مَسْأَلَة الْكَافِر يشترى عبدا مُسلما إِنَّه مَال يملك الْكَافِر بَيْعه فَيملك شِرَاءَهُ كَالْعَبْدِ الْكَافِر فَيَقُولُونَ وَجب أَن يستوى حكم شِرَائِهِ ابْتِدَاء وَحكم استدامه الْملك فِيهِ كَالْعَبْدِ الْكَافِر فَنَقُول فِي هَذِه الْمُعَارضَة إِثْبَات مَا لم يَنْفَعهُ بِالتَّعْلِيلِ وَهُوَ التَّسْوِيَة بَين أصل الشِّرَاء وَبَين اسْتِدَامَة الْملك فَلَا تكون مُتَّصِلَة بِموضع النزاع إِلَّا بعد الْبناء بِإِثْبَات التَّسْوِيَة بَين الإستدامة وَابْتِدَاء الشِّرَاء وَلَيْسَ للسَّائِل هَذَا الْبناء فَلم تكن هَذِه الْمُعَارضَة صَحِيحه بطرِيق النّظر وَإِن كَانَ يظْهر فِيهَا معنى الصِّحَّة عِنْد إِثْبَات التَّسْوِيَة بَينهمَا وَبَيَان الْوَجْه الْخَامِس فِيمَا يَقُوله أَبُو حنيفَة رضى الله عَنهُ فِي الْمَرْأَة إِذا نعى إِلَيْهَا زَوجهَا فاعتدت وَتَزَوَّجت بِزَوْج آخر وَولدت مِنْهُ أَوْلَادًا ثمَّ جَاءَ الزَّوْج الأول حَيا فَإِن نسب الْأَوْلَاد يثبت من الأول لِأَنَّهُ صَاحب فرَاش صَحِيح عَلَيْهَا وَثُبُوت النّسَب بِاعْتِبَار الْفراش وهما يعارضان بِأَن الثَّانِي صَاحب فرَاش حَاضر وَمَعَ صفة الْفساد يثبت النّسَب من صَاحب الْفراش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 الْحَاضِر كَمَا لَو تزوج امْرَأَة بِغَيْر شُهُود وَدخل بهَا فَهَذِهِ مُعَارضَة بِإِثْبَات حكم فِي غير الْمحل الَّذِي وَقع التَّعْلِيل إِذْ الْفَاسِد غير الصَّحِيح وَالْكَلَام فِي أَن النّسَب بَعْدَمَا صَار مُسْتَحقّا بِثُبُوتِهِ لشخص هَل هُوَ يجوز أَن يثبت لغيره بِاعْتِبَار فرَاشه فَإِن الأول بفراشه السَّابِق يصير مُسْتَحقّا نسب أَوْلَادهَا مَا بَقِي فراشها فَيَقَع الْكَلَام بعد هَذَا فِي التَّرْجِيح أَن أصل الْفراش للثَّانِي بِاعْتِبَار كَونه حَاضرا وَكَونه صَاحب المَاء هَل يتَرَجَّح على الْفراش الصَّحِيح الَّذِي للْغَائِب حَتَّى ينتسخ بِهِ حكم الِاسْتِحْقَاق الثَّابِت بفراشه أم لَا وَأَبُو حنيفَة يَقُول هَذَا لَا يكون صَالحا للترجيح لِأَن الشَّيْء لَا ينسخه إِلَّا مَا هُوَ مثله أَو فَوْقه وَالْفَاسِد من الْفراش مَعَ هَذِه الْقَرَائِن لَا يكون مثلا للصحيح فَلَا ينْسَخ بِهِ حكم الِاسْتِحْقَاق الثَّابِت بِالصَّحِيحِ وَبَعْدَمَا صَار النّسَب مُسْتَحقّا لزيد لَا يُمكن إثْبَاته لعَمْرو بِوَجْه مَا وَالنِّكَاح بِغَيْر شُهُود لَيْسَ من هَذَا الْمحل فِي شَيْء فَعرفنَا أَنه مُعَارضَة فِي غير مَحل الحكم فَأَما وُجُوه الْمُعَارضَة فِي عِلّة الأَصْل فَهِيَ فَاسِدَة كلهَا لما بَينا أَن ذكر عِلّة أُخْرَى فِي الأَصْل لَا يبْقى تَعْلِيله بِمَا ذكره الْمُعَلل لجَوَاز أَن يكون فِي الأَصْل وصفان فيتعدى الحكم بِأحد الوصفين إِلَى الْفُرُوع دون الآخر ثمَّ إِن كَانَ الْوَصْف الَّذِي يذكرهُ الْمعَارض لَا يتَعَدَّى إِلَى فرع فَهُوَ فَاسد لما بَينا أَن حكم التَّعْلِيل التَّعْدِيَة فَمَا لَا يُفِيد حكمه أصلا يكون فَاسِدا من التَّعْلِيل فَإِن كَانَ يتَعَدَّى إِلَى فرع فَلَا اتِّصَال لَهُ بِموضع النزاع إِلَّا من حَيْثُ إِنَّه تنعدم تِلْكَ الْعلَّة فِي هَذَا الْموضع وَقد بَينا أَن عدم الْعلَّة لَا يُوجب عدم الحكم فَعرفنَا أَنه لَا اتِّصَال لتِلْك الْعلَّة بِموضع النزاع فِي النَّفْي وَلَا فِي الْإِثْبَات وَكَذَلِكَ إِن كَانَت تتعدى إِلَى فرع مُخْتَلف فِيهِ فالمتعدية إِلَى فرع مجمع عَلَيْهِ تكون أقوى من المتعدية إِلَى فرع مُخْتَلف فِيهِ وَلما تبين فَسَاد تِلْكَ تبين فَسَاد هَذَا بطرِيق الأولى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 وَمن النَّاس من يزْعم أَن هَذِه مُعَارضَة حَسَنَة فِيهَا معنى الممانعة لِأَن بِالْإِجْمَاع عِلّة الحكم أحد الوصفين لَا كِلَاهُمَا فَإِذا ظَهرت صِحَة عِلّة السَّائِل بِظُهُور حكمهَا وَهُوَ التَّعْدِيَة يتَبَيَّن فَسَاد الْعلَّة الْأُخْرَى بَيَانه أَنا نقُول فِي تَعْلِيل الْحِنْطَة إِنَّه بَاعَ مَكِيلًا بمكيل من جنسه مُتَفَاضلا ثمَّ تعدى الحكم بهَا إِلَى الحص وَغَيره والخصم يُعَارض فَيَقُول بَاعَ مطعوما بمطعوم من جنسه مُتَفَاضلا لتعدي الحكم بِهِ إِلَى المطعومات الَّتِي هِيَ غير مقدرَة كالتفاح وَنَحْوهَا وَقد ثَبت بِاتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ أَن عِلّة الحكم أَحدهمَا فَإِذا ثَبت صِحَة مَا ادَّعَاهُ أَحدهمَا عِلّة انْتَفَى الآخر بِالْإِجْمَاع فَكَانَت فِي هَذِه الْمُعَارضَة ممانعة من هَذَا الْوَجْه وَلَكنَّا نقُول لَا تنَافِي بَين العلتين ذاتا لجَوَاز أَن يعلق الحكم بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا فَمن أنكر صِحَة مَا ادَّعَاهُ خَصمه من الْعلَّة لَا يفْسد ذَلِك بِمُجَرَّد تَصْحِيح علته بل بِذكر معنى مُفسد فِي عِلّة خَصمه كَمَا أَنه لَا يثبت وَجه صِحَة علته بإفساد عِلّة خَصمه بل بِمَعْنى هُوَ دَلِيل الصِّحَّة فِي علته فَعرفنَا أَن هَذِه الْمُعَارضَة فَاسِدَة أَيْضا ثمَّ السَّبِيل فِي كل كَلَام يذكرهُ أهل الطَّرْد على سَبِيل الْمُفَارقَة إِذا كَانَ فَقِيها أَن يذكرهُ على وَجه الممانعة فَيكون ذَلِك فقها صَحِيحا من السَّائِل على حد الْإِنْكَار لَا بُد من قبُوله مِنْهُ وَبَيَان ذَلِك أَن الْخصم يَقُول فِي عتق الرَّهْن إِن هَذَا تصرف من الرَّاهِن مُبْطل لحق الْمُرْتَهن عَن الْمَرْهُون فَلَا ينفذ بِغَيْر رِضَاهُ كَالْبيع وَالْفرق لنا بَين هَذَا وَبَين البيع أَن ذَاك يحْتَمل الْفَسْخ بعد وُقُوعه فَيمكن القَوْل بانعقاده على وَجه يتَمَكَّن الْمُرْتَهن من فَسخه وَالْعِتْق لَا يحْتَمل الْفَسْخ بعد وُقُوعه وَهُوَ بِهَذَا التَّعْلِيل يلغي أصل الْعتْق وَلَا نسلم لَهُ هَذَا الحكم فِي الأَصْل ثمَّ من شَرط صِحَة الْعلَّة أَن لَا يكون مغيرا حكم الأَصْل فَإِن كَانَ هُوَ بِالتَّعْلِيلِ يُغير حكم الأَصْل فَيجْعَل الحكم فِيهِ الإلغاء دون الِانْعِقَاد على وَجه التَّوَقُّف منعناه من التَّعْلِيل لِأَنَّهُ يَنْعَدِم بِهِ شَرط صِحَة التَّعْلِيل وَإِن أثبت بِهِ حكم الأَصْل وَهُوَ امْتنَاع اللُّزُوم بعد الِانْعِقَاد فِي مَحَله لمراعاة حق الْمُرْتَهن فَهَذَا لَا تصور لَهُ فِيمَا لَا يحْتَمل الْفَسْخ بعد وُقُوعه وَكَذَلِكَ إِن رده على إِعْتَاق الْمَرِيض فَإِن ذَلِك عندنَا لَيْسَ يَلْغُو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 فَإِن كَانَ يُعلل لإلغاء الْعتْق من الرَّاهِن فَهَذَا تَعْلِيل يتَغَيَّر بِهِ حكم الأَصْل وَذَلِكَ غير صَحِيح عندنَا فنمنعه بِهَذَا الطَّرِيق وعَلى الْوَجْه الذى هُوَ حكم الأَصْل وَهُوَ تَأْخِير تَنْفِيذ الْوَصِيَّة عَن قَضَاء الدّين لَا يُمكنهُ إثْبَاته بِهَذَا التَّعْلِيل فِي الْفَرْع فَكَانَت الممانعة صَحِيحَة بِهَذَا الطَّرِيق وَكَذَلِكَ تَعْلِيل الْخصم فِي قتل الْعمد بِأَنَّهُ قتل آدمى مَضْمُون فَيكون مُوجبا لِلْمَالِ كالخطأ فَإِن الْفرق بَين الْفَرْع وَالْأَصْل لأهل الطَّرْد أَن فِي الْخَطَأ لَا يُمكن إِيجَاب مثل الْمُتْلف من جنسه وَهنا الْمثل من جنسه وَاجِب وَالْأولَى أَن يَقُول فِي الأَصْل المَال إِنَّمَا يجب حلفا عَمَّا هُوَ الأَصْل لفَوَات الأَصْل وَهُوَ بِهَذَا التَّعْلِيل يُوجب المَال فِي الْفَرْع أصلا فَيكون فِي هَذَا التَّعْلِيل يعرض بِحكم الأَصْل بالتغيير وَشرط صِحَة التَّعْلِيل أَن لَا يكون متعرضا لحكم الأَصْل فنمنعه من التَّعْلِيل بِهَذَا الطَّرِيق حَتَّى يكون كلَاما من السَّائِل على حد الْإِنْكَار صَحِيحا فصل فِي وُجُوه دفع المناقضة قد ذكرنَا أَن المناقضة لَا ترد على الْعِلَل المؤثرة لِأَن دَلِيل الصِّحَّة فِيهَا بالتأثير الثَّابِت بِالْإِجْمَاع وَإِنَّمَا يرد النَّقْض على الْعِلَل الطردية لِأَن دَلِيل صِحَّتهَا الإطراد وبالمناقضة يَنْعَدِم الإطراد ثمَّ تقع الْحَاجة إِلَى معرفَة وَجه دفع النَّقْض صُورَة أَو سؤالا مُعْتَبرا عَن الْعِلَل وَالْحَاصِل فِيهِ أَن الْمُجيب مَتى وفْق بَين مَا ذكر من الْعلَّة وَبَين مَا يُورد نقضا عَلَيْهَا بِتَوْفِيق بَين فَإِنَّهُ ينْدَفع النَّقْض عَنهُ وَإِذا لم يُمكنهُ التَّوْفِيق بَينهمَا يلْزمه سُؤال النَّقْض بِمَنْزِلَة التَّنَاقُض الَّذِي يَقع فِي مجْلِس القَاضِي من الدَّعْوَى وَالشَّهَادَة وَبَين شَهَادَة الشُّهُود فَإِن ذَلِك ينتفى بِتَوْفِيق صَحِيح بَين ثمَّ وُجُوه الدّفع أَرْبَعَة دفع بِمَعْنى الْوَصْف الذى جعله عِلّة بِمَا هُوَ ثَابت بصيغته ظَاهرا وَدفع بِمَعْنى الْوَصْف الذى هُوَ ثَابت بدلالته وهى الَّتِى صَارَت بهَا حجَّة وَهُوَ التَّأْثِير الذى قُلْنَا وَدفع بالحكم الذى هُوَ الْمَقْصُود وَدفع بالغرض الْمَطْلُوب بِالتَّعْلِيلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 فبيان الْوَجْه الأول فِي تكْرَار الْمسْح بِالرَّأْسِ فَإنَّا يَقُول مسح فَلَا يسن تثليثه كالمسح بالخف فيورد عَلَيْهِ الإستنجاء بالأحجار نقضا فندفعه بِمَعْنى الْوَصْف الثَّابِت بصيغته ظَاهرا وَهُوَ قَوْلنَا مسح فَإِن فِي الإستنحاء بالأحجار لَا مُعْتَبر بِالْمَسْحِ بل الْمُعْتَبر إِزَالَة النَّجَاسَة حَتَّى لَو تصور خُرُوج الْحَدث من غير أَن يتلوث شَيْء مِنْهُ من ظَاهر الْبدن لَا يجب الْمسْح وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الإستطابة بِالْمَاءِ بعد إِزَالَة عين النَّجَاسَة بِالْحجرِ فِيهِ أفضل وَمَعْلُوم أَن فِي الْعُضْو الْمَمْسُوح لَا يكون الْغسْل بعد الْمسْح أفضل وَكَذَلِكَ إِذا قُلْنَا فِي الْخَارِج من غير السَّبِيلَيْنِ إِنَّه حدث لِأَنَّهُ خَارج نجس يُورد عَلَيْهِ مَا إِذا لم يسل عَن رَأس الْجرْح وَدفع هَذَا النَّقْض بِمَعْنى الْوَصْف ظَاهرا وَهُوَ قَوْلنَا خَارج فَمَا لم يسل فَهُوَ طَاهِر لتقشير الْجلد عَنهُ وَلَيْسَ بِخَارِج إِنَّمَا الْخَارِج مَا يُفَارق مَكَانَهُ وَتَحْت كل مَوضِع من الْجلد كمن يكون فِي الْبَيْت إِذا رفع الْبُنيان الَّذِي كَانَ هُوَ مستترا بِهِ يكون ظَاهرا وَلَا يكون خَارِجا وَإِنَّمَا يُسمى خَارِجا من الْبَيْت إِذا فَارق مَكَانَهُ وَلِهَذَا لَا يجب تَطْهِير ذَلِك الْموضع لِأَنَّهُ مَا لم يصر خَارِجا من مَكَانَهُ لَا يعْطى لَهُ حكم النَّجَاسَة وَبَيَان الْوَجْه الثَّانِي فِي هذَيْن الْفَصْلَيْنِ أَيْضا فَإِن تَأْثِير قَوْلنَا مسح أَنه طَهَارَة حكمِيَّة غير معقولة الْمَعْنى وهى مَبْنِيَّة على التَّخْفِيف أَلا ترى أَنه لَا تَأْثِير للمسح فِي إِثْبَات صفة الطَّهَارَة بعد تنجس الْمحل حَقِيقَة وَأَنه يتَأَدَّى بِبَعْض الْمحل للتَّخْفِيف فَلَا يرد عَلَيْهِ الإستنجاء لِأَن الْمَطْلُوب هُنَاكَ إِزَالَة عين النَّجَاسَة وَلِهَذَا لَا يتم بِاسْتِعْمَال الْحجر فِي بعض الْمحل دون الْبَعْض فباعتبار الإستيعاب فِيهِ وَالْقَصْد إِلَى تَطْهِير الْمحل بِإِزَالَة حَقِيقَة النَّجَاسَة عَنهُ يشبه الإستنجاء الْغسْل فِي الْأَعْضَاء المغسولة دون الْمسْح لهت وَكَذَلِكَ قَوْلنَا الْخَارِج النَّجس كَانَ حجَّة التَّأْثِير لَهَا هُوَ وجوب التَّطْهِير فِي ذَلِك الْموضع فَإِن بِالْإِجْمَاع غسل ذَلِك الْموضع للتطهير وَاجِب وَوُجُوب التَّطْهِير فِي الْبدن بِاعْتِبَار مَا يكون مِنْهُ لَا يحْتَمل التجزى فيندفع مَا إِذا لم تسل النَّجَاسَة لِأَنَّهُ لم يجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 هُنَاكَ تَطْهِير ذَلِك الْموضع بِالْغسْلِ فَعرفنَا أَنه انْعَدم الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة وَهَذَا يكون مرجحا لِلْعِلَّةِ فَكيف يكون نقضا وسنقرر هَذَا فِي بَيَان تَرْجِيح الْعلَّة الَّتِي تنعكس على الْعلَّة الَّتِي لَا تنعكس وَبَيَان الْوَجْه الثَّالِث فِيمَا يُعلل بِهِ فِي النّذر بِصَوْم يَوْم النَّحْر أَنه يَوْم فَيصح إِضَافَة النّذر إِلَيْهِ كَسَائِر الْأَيَّام فيورد عَلَيْهِ يَوْم الْحيض نقضا وَوجه الدّفع بالحكم الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود بِالتَّعْلِيلِ وَهُوَ صِحَة إِضَافَة النّذر بِالصَّوْمِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ الْيَوْم يَصح إِضَافَة النّذر بِالصَّوْمِ إِلَيْهِ فَإِنَّهَا لَو قَالَت لله عَليّ أَن أَصوم غَدا يَصح نذرها وَإِن حَاضَت من الْغَد وَإِنَّمَا فسد نذرها بِالْإِضَافَة إِلَى الْحيض لَا إِلَى الْيَوْم وَكَذَلِكَ يُعلل فِي التَّكْفِير بالمكاتب فَنَقُول عقد الْكِتَابَة يحْتَمل الْفَسْخ فَلَا تخرج الرَّقَبَة من جَوَاز التَّكْفِير بِعتْقِهَا كَالْبيع وَالْإِجَارَة فيورد عَلَيْهِ نقضا مَا إِذا أدّى بعض بدل الْكِتَابَة وَطَرِيق الدّفع بالحكم وَهُوَ أَن هَذَا العقد لَا يخرج الرَّقَبَة من أَن تكون محلا للتكفير بهَا وَهنا العقد لَا يخرج الرَّقَبَة من ذَلِك وَلَكِن معنى الْمُعَاوضَة هُوَ الَّذِي يمْنَع صِحَة التَّكْفِير بذلك التَّحْرِير وَبَعض أهل النّظر يعبرون عَن هَذَا النَّوْع من الدّفع بِأَن التَّعْلِيل للجملة فَلَا يرد عَلَيْهِ الْإِفْرَاد نقضا وفقهه مَا ذكرنَا وَبَيَان الْوَجْه الرَّابِع من الدّفع فِيمَا عللنا بِهِ الْخَارِج من غير السَّبِيلَيْنِ فَإِنَّهُ خَارج نجس فَيكون حَدثا كالخارج من السَّبِيلَيْنِ فيورد عَلَيْهِ دم الِاسْتِحَاضَة مَعَ بَقَاء الْوَقْت نقضا وللدفع فِيهِ وَجْهَان أَحدهمَا أَن ذَلِك حدث عندنَا وَلَكِن يتَأَخَّر حكمه إِلَى مَا بعد خُرُوج الْوَقْت وَلِهَذَا تلزمها الطَّهَارَة بعد خُرُوج الْوَقْت وَإِن لم يكن خُرُوج الْوَقْت حَدثا وَالْحكم تَارَة يتَّصل بِالسَّبَبِ وَتارَة يتَأَخَّر عَنهُ فَهَذَا الدّفع من جملَة الْوَجْه الثَّالِث بِبَيَان أَنه حدث بِالْجُمْلَةِ وَالثَّانِي أَن الْمَقْصُود بِهَذَا التَّعْلِيل التَّسْوِيَة بَين الْفَرْع وَالْأَصْل وَقد سوينا فَإِن الْخَارِج الْمُعْتَاد من السَّبِيل إِذا كَانَ دَائِما يكون حَدثا مُوجبا للطَّهَارَة بعد خُرُوج الْوَقْت لَا فِي الْوَقْت فَكَذَلِك الَّذِي هُوَ غير الْمُعْتَاد وَالَّذِي هُوَ خَارج من غير سَبِيل وَكَذَا إِذا عللنا فِي أَن السّنة فِي التَّأْمِين الْإخْفَاء بقولنَا إِنَّه ذكر لَا يدْخل عَلَيْهِ الْأَذَان وَلَا التَّكْبِيرَات الَّتِي يجْهر بهَا الإِمَام لِأَن الْغَرَض التَّسْوِيَة بَين التَّأْمِين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 وَبَين سَائِر الْأَذْكَار فِي أَن الأَصْل هُوَ الْإخْفَاء وَذَلِكَ ثَابت إِلَّا إِن جهر الإِمَام بالتكبيرات لَا لِأَنَّهَا ذكر بل لإعلام من خَلفه بالانتقال من ركن إِلَى ركن والجهر بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَة كَذَلِك أَيْضا وَلِهَذَا لَا يجْهر الْمُقْتَدِي بالتكبيرات وَلَا يجْهر الْمُنْفَرد بالتكبيرات وَلَا بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَة فَيدْفَع النَّقْض بِبَيَان الْغَرَض الْمَطْلُوب بِالتَّعْلِيلِ وَهُوَ التَّسْوِيَة بَين هَذَا الذّكر وَبَين سَائِر أذكار الصَّلَاة وَبَعض أهل النّظر يعبرون عَن هَذَا فَيَقُولُونَ مقصودنا بِهَذَا التَّعْلِيل التَّسْوِيَة بَين الْفَرْع وَالْأَصْل وَقد سوينا بَينهمَا فِي مَوضِع النَّقْض كَمَا سوينا فِي مَوضِع التَّعْلِيل فيتبين بِهِ وَجه التَّوْفِيق بطرِيق ينْدَفع بِهِ التَّنَاقُض وَالله أعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب التَّرْجِيح - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ رَضِي الله عَنهُ الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب فِي فُصُول أَحدهَا فِي معنى التَّرْجِيح لُغَة وَشَرِيعَة وَالثَّانِي فِي بَيَان مَا يَقع بِهِ التَّرْجِيح وَالثَّالِث فِي بَيَان المخلص من تعَارض يَقع فِي التَّرْجِيح وَالرَّابِع فِي بَيَان مَا هُوَ فَاسد من وُجُوه التَّرْجِيح فَأَما الأول فَنَقُول تَفْسِير التَّرْجِيح لُغَة إِظْهَار فضل فِي أحد جَانِبي المعادلة وَصفا لَا أصلا فَيكون عبارَة عَن مماثلة يتَحَقَّق بهَا التَّعَارُض ثمَّ يظْهر فِي أحد الْجَانِبَيْنِ زِيَادَة على وَجه لَا تقوم تِلْكَ الزِّيَادَة بِنَفسِهَا فِيمَا تحصل بِهِ الْمُعَارضَة أَو تثبت بِهِ الْمُمَاثلَة بَين الشَّيْئَيْنِ وَمِنْه الرجحان فِي الْوَزْن فَإِنَّهُ عبارَة عَن زِيَادَة بعد ثُبُوت المعادلة بَين كفتي الْمِيزَان وَتلك الزِّيَادَة على وَجه لَا تقوم مِنْهَا الْمُمَاثلَة ابْتِدَاء وَلَا يدْخل تَحت الْوَزْن مُنْفَردا عَن الْمَزِيد عَلَيْهِ مَقْصُودا بِنَفسِهِ فِي الْعَادة نَحْو الْحبَّة فِي الْعشْرَة وَهَذَا لِأَن ضد التَّرْجِيح التطفيف وَإِنَّمَا يكون التطفيف بِنُقْصَان يظْهر فِي الْوَزْن أَو الْكَيْل بعد وجود الْمُعَارضَة بِالطَّرِيقِ الَّذِي تثبت بِهِ الْمُمَاثلَة على وَجه لَا تنعدم بِهِ الْمُعَارضَة فَكَذَلِك الرجحان يكون بِزِيَادَة وصف على وَجه لَا تقوم بِهِ الْمُمَاثلَة وَلَا يَنْعَدِم بظهوره أصل الْمُعَارضَة وَلِهَذَا لَا تسمى زِيَادَة دِرْهَم على الْعشْرَة فِي أحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 الْجَانِبَيْنِ رجحانا لِأَن الْمُمَاثلَة تقوم بِهِ أصلا وَتسَمى زِيَادَة الْحبَّة وَنَحْوهَا رجحانا لِأَن الْمُمَاثلَة لَا تقوم بهَا عَادَة وَكَذَلِكَ فِي الشَّرِيعَة هُوَ عبارَة عَن زِيَادَة تكون وَصفا لَا أصلا فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ للوازن زن وأرجح فَإنَّا معشر الْأَنْبِيَاء هَكَذَا نزن وَلِهَذَا لَا بثبت حكم الْهِبَة فِي مِقْدَار الرجحان لِأَنَّهُ زِيَادَة تقوم وَصفا لَا مَقْصُودا بِسَبَبِهِ بِخِلَاف زِيَادَة الدِّرْهَم على الْعشْرَة فَإِنَّهُ يثبت فِيهِ الحكم الْهِبَة حَتَّى لَو لم يكن متميزا كَانَ الحكم فِيهِ كَالْحكمِ فِي هبة الْمشَاع لِأَنَّهُ مِمَّا تقوم بِهِ الْمُمَاثلَة فَإِنَّهُ يكون مَقْصُودا بِالْوَزْنِ فَلَا بُد من أَن يَجْعَل مَقْصُودا فِي التَّمْلِيك بِسَبَبِهِ وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا الْهِبَة فَإِن قَضَاء الْعشْرَة يكون بِمِثْلِهَا عشرَة فيتبين أَن بالرجحان لَا يَنْعَدِم أصل الْمُمَاثلَة لِأَنَّهُ زِيَادَة وصف بِمَنْزِلَة زِيَادَة وصف الْجَوْدَة وَمَا يكون مَقْصُودا بِالْوَزْنِ تنعدم بِهِ الْمُمَاثلَة وَلَا يكون ذَلِك من الرجحان فِي شَيْء وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي الْعِلَل فِي الْأَحْكَام إِن مَا يصلح عِلّة للْحكم ابْتِدَاء لَا يصلح للترجيح بِهِ وَإِنَّمَا يكون التَّرْجِيح بِمَا لَا يصلح عِلّة مُوجبَة للْحكم وَبَيَان ذَلِك فِي الشَّهَادَات فَإِن أحد المدعيين لَو أَقَامَ شَاهِدين وَأقَام الآخر أَرْبَعَة من الشُّهُود لم يتَرَجَّح الَّذِي شهد لَهُ أَرْبَعَة لِأَن زِيَادَة الشَّاهِدين فِي حَقه عِلّة تَامَّة للْحكم فَلَا يصلح مرجحا للحجة فِي جَانِبه وَكَذَلِكَ زِيَادَة شَاهد وَاحِد لأحد المدعيين لِأَنَّهُ من جنس مَا تقوم بِهِ الْحجَّة أصلا فَلَا يَقع التَّرْجِيح بِهِ أصلا وَإِنَّمَا يَقع التَّرْجِيح بِمَا يقوى ركن الْحجَّة أَو يقوى معنى الصدْق فِي الشَّهَادَة وَذَلِكَ فِي أَن تتعارض شَهَادَة المستور مَعَ شَهَادَة الْعدْل بِأَن أَقَامَ أحد المدعيين مستورين وَالْآخر عَدْلَيْنِ فَإِنَّهُ يتَرَجَّح الَّذِي شهد بِهِ العدلان بِظُهُور مَا يُؤَكد معنى الصدْق فِي شَهَادَة شُهُوده وَكَذَلِكَ فِي النّسَب أَو النِّكَاح لَو ترجح حجَّة أحد الْخَصْمَيْنِ باتصال الْقَضَاء بهَا لِأَن ذَلِك مِمَّا يُؤَكد ركن الْحجَّة فَإِن بِقَضَاء القاضى يتم معنى الْحجَّة فِي الشَّهَادَة وَيتَعَيَّن جَانب الصدْق وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي العلتين إِذا تَعَارَضَتَا لَا تترجح إِحْدَاهمَا بانضمام عِلّة أُخْرَى إِلَيْهَا وَإِنَّمَا هَذَا تترجح بِقُوَّة الْأَثر فِيهَا فبه يتَأَكَّد مَا هُوَ الرُّكْن فِي صِحَة الْعلَّة وَكَذَلِكَ الخبران إِذا تَعَارضا لَا يتَرَجَّح أَحدهمَا على الآخر بِخَبَر آخر بل بِمَا بِهِ يتَأَكَّد معنى الْحجَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 فِيهِ وَهُوَ الإتصال برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى يرجح الْمَشْهُور بِكَثْرَة رُوَاته على الشاذ لظُهُور زِيَادَة الْقُوَّة فِيهِ من حَيْثُ الإتصال برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويترجح بِفقه الرواى وَحسن ضَبطه وإتقانه لِأَنَّهُ يتقوى بِهِ معنى الإتصال برَسُول الله على الْوَجْه الذى وصل إِلَيْنَا بِالنَّقْلِ وَكَذَلِكَ الْآيَتَانِ إِذا وَقعت الْمُعَارضَة بَينهمَا لَا تترجح إِحْدَاهمَا بِآيَة أُخْرَى بل تترجح بِقُوَّة فِي معنى الْحجَّة وَهُوَ أَنه نَص مُفَسّر وَالْآخر مؤول وَكَذَلِكَ لَا يتَرَجَّح أحد الْخَبَرَيْنِ بِالْقِيَاسِ فَعرفنَا أَن مَا يَقع بِهِ التَّرْجِيح هُوَ مَا لَا يصلح عِلّة للْحكم ابْتِدَاء بل مَا يكون مقويا لما بِهِ صَارَت الْعلَّة مُوجبَة للْحكم وعَلى هَذَا قُلْنَا لَو أَن رجلا جرح رجلا جِرَاحَة وجرحه آخر عشر جراحات فَمَاتَ من ذَلِك فَإِن الدِّيَة عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ لِأَن كل جِرَاحَة عِلّة تَامَّة وَلَا يتَرَجَّح أَحدهمَا بِزِيَادَة عدد فِي الْعلَّة فِي جَانِبه حَتَّى يصير الْقَتْل مُضَافا إِلَيْهِ دون صَاحبه بل يصير مُضَافا إِلَى فعلهمَا على وَجه التساوى وَلَو قطع أَحدهمَا يَده ثمَّ جز الآخر رقبته فالقاتل هُوَ الذى جز رقبته دون الآخر لزِيَادَة قُوَّة فِيمَا هُوَ عِلّة الْقَتْل من فعله وَهُوَ أَنه لَا يتَوَهَّم بَقَاؤُهُ حَيا بعد فعله بِخِلَاف فعل الآخر وعَلى هَذَا الأَصْل رجحنا سَبَب اسْتِحْقَاق الشُّفْعَة للشَّرِيك فِي نفس الْمَبِيع على السَّبَب فِي حق الشَّرِيك فِي حُقُوق الْمَبِيع ثمَّ رجحنا الشَّرِيك فِي نفس الْمَبِيع على الْجَار لزِيَادَة وكادة فِي الإتصال الذى ثَبت بالجوار فَإِن اتِّصَال الْملكَيْنِ فِي حق الشَّرِيك فِي نفس الْمَبِيع فِي كل جُزْء فِي حق الشَّرِيك فِي حُقُوق الْمَبِيع الإتصال فِيمَا هُوَ بيع من الْمَبِيع وَفِي حق الْجَار لَا اتِّصَال من حَيْثُ الإختلاط فِيمَا هُوَ مَقْصُود وَلَا فِيمَا هُوَ تبع وَإِنَّمَا الإتصال من حَيْثُ الْمُجَاورَة بَين الْملكَيْنِ مَعَ تميز أَحدهمَا من الآخر ثمَّ من كَانَ جواره من ثَلَاث جَوَانِب لَا يتَرَجَّح على من كَانَ جواره من جَانب وَاحِد لِأَن الْمَوْجُود فِي جَانِبه زِيَادَة الْعلَّة من حَيْثُ الْعدَد فَلَا يثبت بِهِ التَّرْجِيح وعَلى هَذَا قُلْنَا صَاحب الْقَلِيل يساوى صَاحب الْكثير فِي اسْتِحْقَاق الشّقص الْمَبِيع بِالشُّفْعَة لِأَن الشّركَة بِكُل جُزْء عِلّة تَامَّة لإستحقاق جَمِيع الشّقص الْمَبِيع بِالشُّفْعَة فَإِنَّمَا وجد فِي جَانب صَاحب الْكثير كَثْرَة الْعلَّة وَبِه لَا يَقع التَّرْجِيح وَهَكَذَا يَقُول الشَّافِعِي فِي اعْتِبَار أصل التَّرْجِيح فَإِنَّهُ لَا يرجح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 صابح الْكثير هُنَا حَتَّى يكون لصَاحب الْقَلِيل حق الْمُزَاحمَة مَعَه مَعَ الْأَخْذ بِالشُّفْعَة إِلَّا أَنه يَجْعَل الشُّفْعَة من جملَة مُوَافق الْملك فَتكون مقسومة بَين الشفعاء على قدر الْملك كَالْوَلَدِ وَالرِّبْح وَالثِّمَار من الْأَشْجَار الْمُشْتَركَة أَو يَجْعَل هَذَا بِمَنْزِلَة ملك الْمَبِيع فَيَجْعَلهُ مقسوما على مِقْدَار مَا يلْتَزم كل وَاحِد من المشترين من بدله وَهُوَ الثّمن حَتَّى إِذا بَاعَ عبدا بِثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم من رجلَيْنِ على أَن يكون على أَحدهمَا ألف دِرْهَم على الآخر بِعَيْنِه ألفا دِرْهَم فَإِن الْملك بَينهمَا فِي الْمَبِيع يكون أَثلَاثًا على قدر الْملك وَهَذَا غلط مِنْهُ لِأَنَّهُ جعل الحكم مقسوما على قدر الْعلَّة أَو بنى الْعلَّة على الحكم وَذَلِكَ غير مُسْتَقِيم وعَلى هَذَا اتّفقت الصَّحَابَة فِي امْرَأَة مَاتَت عَن ابنى عَم أَحدهمَا زَوجهَا فَإِن للزَّوْج النّصْف والباقى بَينهمَا بالعصوبة وَلَا يتَرَجَّح الزَّوْج بِسَبَب الزَّوْجِيَّة لِأَن ذَلِك عِلّة أُخْرَى لإستحقاق الْمِيرَاث سوى مَا يسْتَحق بِهِ الْعُصُوبَة فَلَا يتَرَجَّح علته بعلة أُخْرَى وَلَكِن يعْتَبر كل وَاحِد من السببين فِي حق من اجْتمع فِي حَقه السببان بِمَنْزِلَة مَا لَو وجد كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي شخص آخر وَكَذَلِكَ قَالَ أَكثر الصَّحَابَة فِي انبى عَم أَحدهمَا أَخ لأم إِنَّه لَا يتَرَجَّح بالأخوة لأم على الآخر وَلَكِن لَهُ السُّدس بالفرضية والباقى بَينهمَا نِصْفَانِ بالعصوبة وَقَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ يتَرَجَّح ابْن الْعم الذى هُوَ أَخ لأم لِأَن الْكل قرَابَة فتقوى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ بالجهة الْأُخْرَى بِمَنْزِلَة أَخَوَيْنِ أَحدهمَا لأَب وَأم وَالْآخر لأَب وأخذنا بقول أَكثر الصَّحَابَة لِأَن الْعُصُوبَة الْمُسْتَحقَّة بِكَوْنِهِ ابْن عَم مُخَالف للْمُسْتَحقّ بالأخوة وَلِهَذَا يكون اسْتِحْقَاق ابْن الْعم الْعُصُوبَة بعد اسْتِحْقَاق الْأَخ بدرجات وَالتَّرْجِيح بِقرَابَة الْأُم فِي اسْتِحْقَاق الْعُصُوبَة إِنَّمَا يكون عِنْد اتِّحَاد جِهَة الْعُصُوبَة والإستواء فِي الْمنزلَة كَمَا فِي حق الْأَخَوَيْنِ فَحِينَئِذٍ يَقع التَّرْجِيح بِقرَابَة الْأُم لِأَنَّهُ لَا يسْتَحق بهَا الْعُصُوبَة ابْتِدَاء فَيجوز أَن تتقوى بهَا عِلّة الْعُصُوبَة فِي جَانب الْأَخ لأَب وَأم إِذْ التَّرْجِيح يكون بعد الْمُعَارضَة والمساواة فَأَما قرَابَة الْأُخوة فهى لَيست من جنس قرَابَة ابْن الْعم حَتَّى تتقوى بهَا الْعُصُوبَة الثَّابِتَة لِابْنِ الْعم الذى هُوَ أَخ لأم بل يكون هَذَا السَّبَب بِمَنْزِلَة الزَّوْجِيَّة فَتعْتَبر حَال اجتماعها فِي شخص وَاحِد بِحَال انْفِرَاد كل وَاحِد من السببين فِي شخص آخر وَكثير من الْمسَائِل تخرج على مَا ذكرنَا من الأَصْل فِي هَذَا الْفَصْل إِذا تَأَمَّلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 فصل وَمَا ينتهى إِلَيْهِ مَا يَقع بِهِ التَّرْجِيح فِي الْحَاصِل أَرْبَعَة أَحدهَا قُوَّة الْأَثر وَالثَّانِي قُوَّة الثَّبَات على الحكم الْمَشْهُود بِهِ وَالثَّالِث كَثْرَة الْأُصُول وَالرَّابِع عدم الحكم عِنْد عدم الْعلَّة أما الْوَجْه الأول فَلِأَن الْمَعْنى الَّذِي بِهِ صَار الْوَصْف حجَّة الْأَثر فمهما كَانَ الْأَثر أقوى كَانَ الِاحْتِجَاج بِهِ أولى لصفة الوكادة فِيمَا بِهِ صَار حجَّة فَذَلِك نَحْو دَلِيل الِاسْتِحْسَان مَعَ الْقيَاس وَنَحْو الْأَخْبَار إِذا تَعَارَضَت فَإِن الْخَبَر لما كَانَ حجَّة لِمَعْنى الِاتِّصَال برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا يزِيد معنى الِاتِّصَال وكادة من الاشتهار وَفقه الرَّاوِي وَحسن ضَبطه واتقانه كَانَ الِاحْتِجَاج بِهِ أولى فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن الشَّهَادَات مَتى تَعَارَضَت لم يتَرَجَّح بَعْضهَا بِقُوَّة عَدَالَة بعض الشَّاهِد وَهِي إِنَّمَا صَارَت حجَّة بِاعْتِبَار الْعَدَالَة ثمَّ بعد ظُهُور عادلة الْفَرِيقَيْنِ لَا يَقع التَّرْجِيح بِزِيَادَة معنى الْعَدَالَة قُلْنَا الْعَدَالَة لَيست بِذِي أَنْوَاع مُتَفَاوِتَة حَتَّى يظْهر لبعضها قُوَّة عِنْد الْمُقَابلَة بِالْبَعْضِ وَهِي عبارَة عَن التَّقْوَى والانزجار عَن ارْتِكَاب مَا يعْتَقد الْحُرْمَة فِيهِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُمكن الْوُقُوف فِيهِ على حد أَن يرجح الْبَعْض بِزِيَادَة قُوَّة عِنْد الرُّجُوع إِلَى حَده بِخِلَاف تَأْثِير الْعلَّة فَإِن قُوَّة الْأَثر عِنْد الْمُقَابلَة تظهر على وَجه لَا يُمكن إِنْكَاره وَبَيَان هَذَا فِي مسَائِل مِنْهَا أَن الشَّافِعِي علل فِي طول الْحرَّة أَنه يمْنَع نِكَاح الْأمة لِأَن فِي هَذَا العقد إرقاق جُزْء مِنْهُ مَعَ استغنائه عَنهُ فَلَا يجوز كَمَا لَو كَانَ تَحْتَهُ حرَّة وَهَذَا الْوَصْف بَين الْأَثر فَإِن الإرقاق نَظِير الْقَتْل من وَجه أَلا نرى أَن الإِمَام فِي الْأُسَارَى يتَخَيَّر بَين الْقَتْل والاسترقاق فَكَمَا يحرم عَلَيْهِ قتل وَلَده شرعا يحرم عَلَيْهِ إرقاقه مَعَ استغنائه عَنهُ وَقُلْنَا هَذَا النِّكَاح يجوز لعبد الْمُسلم فَإِن الْمولى إِذا دفع إِلَيْهِ مَالا وَأذن لَهُ فِي أَن ينْكح بِهِ مَا شَاءَ من حرَّة أَو أمة جَازَ لَهُ أَن ينْكح الْأمة فَلَمَّا كَانَ طول الْحرَّة لَا يمْنَع نِكَاح الْأمة للْعَبد الْمُسلم لَا يمْنَع للْحرّ لوُجُود الْحرَّة فِي الدُّنْيَا وتأثير مَا قُلْنَا أَن تَأْثِير الرّقّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 فِي تنصيف الْحل الذى يَتَرَتَّب عَلَيْهِ عقد النِّكَاح وَحَقِيقَة التنصيف فِي أَن يكون حكم العَبْد فِي النّصْف الباقى لَهُ وَحكم الْحر فِي جَمِيع ذَلِك سَوَاء فَمَا يكون شرطا فِي حق الْحر يكون شرطا فِي حق العَبْد كالمشهود وخلو الْمَرْأَة عَن الْعدة وَمَال لَا يكون شرطا فِي حق العَبْد لَا يكون شرطا فِي حق الْحر كالخطبة وَتَسْمِيَة الْمهْر لَا يكون فِي حق العَبْد ثمَّ تظهر قُوَّة التَّأْثِير لما قُلْنَا فِي الرُّجُوع إِلَى الْأُصُول فَإِن الرّقّ من أَوْصَاف النُّقْصَان وَالْحريَّة من أَوْصَاف الْكَمَال وَهَذَا الْحل كَرَامَة يخْتَص بِهِ الْبشر فَكيف يجوز القَوْل بِأَنَّهُ يَتَّسِع الْحل بِسَبَب الرّقّ حَتَّى يحل للْعَبد مَا لَا يحل للْحرّ وبزداد قُوَّة بِالنّظرِ فِي أَحْوَال الْبشر فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فضل أمته بِزِيَادَة اتساع فِي حلّه حَتَّى جَازَ لَهُ نِكَاح تسع نسْوَة أَو إِلَى مَا لَا يتناهى على حسب مَا اخْتلفُوا فِيهِ فَتبين بِهَذَا تَحْقِيق معنى الْكَرَامَة فِي زِيَادَة الْحل وَظهر أَنه لَا يجوز القَوْل بِزِيَادَة حل العَبْد على حل الْحر وَيظْهر ضعف أثر علته فِي الرُّجُوع إِلَى الْأُصُول فَإِن إرقاق المَاء دون التضييع لَا محَالة وَيحل لَهُ أَن يضيع مَاءَهُ بِالْعَزْلِ عَن الْحرَّة بِإِذْنِهَا فَلِأَن يجوز تَعْرِيض مَا بِهِ الرّقّ بِنِكَاح الْأمة كَانَ أولى ويزداد ضعفا بِالرُّجُوعِ إِلَى أَحْوَال الْبشر فَإِنَّهُ من ملك نَفسه على وَجه يَأْمَن أَن يَقع فِي الْحَرَام يجوز لَهُ نِكَاح الْأمة وَلَا يحل لَهُ قتل وَلَده إِذا أَمن جَانِبه بِحَال من الْأَحْوَال وعَلى هَذَا قُلْنَا للْحرّ أَن يتَزَوَّج أمة على أمة لِأَن ذَلِك جَائِز للْعَبد فَيجوز للْحرّ من الْوَجْه الذى قَررنَا وَلَا يجوز للْعَبد أَن ينْكح أمة على حرَّة كَمَا لَا يجوز ذَلِك للْحرّ لِأَن العَبْد فِي النّصْف الباقى لَهُ مثل الْحر فِي الحكم وَعلل فِي حُرْمَة نِكَاح الْأمة الْكِتَابِيَّة على الْمُسلم بِأَنَّهَا أمة كَافِرَة فَلَا يجوز نِكَاحهَا للْمُسلمِ كالمجوسية وَهَذَا بَين الْأَثر من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن الرّقّ مُؤثر فِي حُرْمَة النِّكَاح حَتَّى لَا يجوز نِكَاح الْأمة على الْحرَّة وَالْكفْر كَذَلِك فَإِذا اجْتمع الوصفان فِي شخص تغلظ معنى الْحُرْمَة فِيهَا فيلتحق بالْكفْر المتغلظ بِعَدَمِ الْكتاب فِي الْمَنْع من النِّكَاح وَالثَّانِي أَن جَوَاز نِكَاح الْأمة بطرِيق الضَّرُورَة عِنْد خشيَة الْعَنَت وَهَذِه الضَّرُورَة ترْتَفع بِحل الْأمة الْمسلمَة فَلَا حَاجَة إِلَى حل الْأمة الْكِتَابِيَّة للْمُسلمِ بِالنِّكَاحِ وَقُلْنَا نَحن الْيَهُودِيَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 والنصرانية دين يجوز للْمُسلمِ نِكَاح الْحرَّة من أَهلهَا فَيجوز نِكَاح الْأمة كَدين الْإِسْلَام وتأثيره فِيمَا بَينا أَن الرّقّ يُؤثر فِي التنصيف من الْجَانِبَيْنِ فِيمَا يبتنى على الْحل إِلَّا أَن مَا يكون مُتَعَددًا فالتنصيف يظْهر فِي الْعدَد كَالطَّلَاقِ وَالْعدة وَالْقسم وَالنِّكَاح الذى يبتنى على الْحل فِي جَانب الرجل مُتَعَدد فالتنصيف يظْهر فِي الْعدَد وَفِي جَانب الْمَرْأَة غير مُتَعَدد فَإِنَّهَا لَا تحل لِرجلَيْنِ بِحَال وَلَكِن من حَيْثُ الْأَحْوَال مُتَعَدد حَال تقدم نِكَاحهَا على نِكَاح الْحرَّة وَحَال التَّأَخُّر وَحَال الْمُقَارنَة فَيظْهر التنصيف بِاعْتِبَار الْأَحْوَال وَفِي الْحَال الْوَاحِد يجْتَمع معنى الْحل وَمعنى الْحُرْمَة فيترجح معنى الْحُرْمَة بِمَنْزِلَة الطَّلَاق وَالْعدة فَإِن طَلَاق الْأمة تَطْلِيقَتَانِ وعدتها حيضتان وَفِي الْحَقِيقَة هما حالتان حَالَة الإنفراد عَن الْحرَّة بِالسَّبقِ وَحَالَة الإنضمام إِلَى الْحرَّة بالمقارنة أَو التَّأَخُّر فَتكون محللة فِي إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ دون الْأُخْرَى ثمَّ تظهر قُوَّة هَذَا الْأَثر بِالتَّأَمُّلِ فِي الْأُصُول فَإِن الْحل تَارَة يثبت بِالنِّكَاحِ وَتارَة بِملك الْيَمين وَوجدنَا أَن الْأمة الْكِتَابِيَّة كالأمة الْمسلمَة فِي الْحل بِملك الْيَمين فَكَذَلِك فِي الْحل بِالنِّكَاحِ ولسنا نسلم أَنه يتغلظ كفر الْكِتَابِيَّة برقها فِي حكم النِّكَاح فَإِنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لم يحل بِملك الْيَمين كالمجوسية ثمَّ النُّقْصَان أَو الْخبث الثَّابِت بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا من وَجه سوى الْوَجْه الآخر وَإِنَّمَا يظْهر التَّغْلِيظ عِنْد إِمْكَان إِثْبَات الِاتِّحَاد بَينهمَا وَمَعَ اخْتِلَاف الْجِهَة لَا يَتَأَتَّى ذَلِك وَقد بَينا أَن انضمام عِلّة إِلَى عِلّة لَا يُوجب قُوَّة فِي الحكم وَلَا نسلم أَن إِبَاحَة نِكَاح الْأمة بطرِيق الضَّرُورَة لما بَينا أَن الرَّقِيق فِي النّصْف الباقى مسَاوٍ للْحرّ فَكَمَا أَن نِكَاح الْحرَّة يكون أصلا مَشْرُوعا لَا بطرِيق الضَّرُورَة فَكَذَلِك نِكَاح الْأمة فِي النّصْف الباقى لَهَا ونعتبرها بِالْعَبدِ بل أولى لِأَن معنى عدم الضَّرُورَة فِي حق الْأمة أظهر مِنْهُ فِي حق العَبْد فَإِنَّهَا تستمتع بمولاها بِملك الْيَمين وَالْعَبْد لَا طَرِيق لَهُ سوى النِّكَاح ثمَّ لم نجْعَل بَقَاء مَا بقى فِي حق العَبْد بعد التنصيف بِالرّقِّ ثَابتا بطرِيق الضَّرُورَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 فَفِي حق الْأمة أولى وَعلل الشَّافِعِي رَحمَه الله فِيمَا إِذا أسلم أحد الزَّوْجَيْنِ فِي دَار الْإِسْلَام أَو فِي دَار الْحَرْب فَإِن كَانَ قبل الدُّخُول يتعجل الْفرْقَة وَإِن كَانَ بعد الدُّخُول يتَوَقَّف على انْقِضَاء الْعدة فَإِن الْحَادِث اخْتِلَاف الدّين بَين الزَّوْجَيْنِ فَيُوجب الْفرْقَة عِنْد عدم الْعدة كالردة وَسوى بَينهمَا فِي الْجَواب فَقَالَ إِذا ارْتَدَّ أَحدهمَا قبل الدُّخُول تتعجل الْفرْقَة فِي الْحَال وَبعد الدُّخُول يتَوَقَّف على انْقِضَاء ثَلَاث حيض وَبَيَان أثر هَذَا الْوَصْف فِي ابْتِدَاء النِّكَاح فَإِن مَعَ اخْتِلَاف الدّين عِنْد إِسْلَام الْمَرْأَة وَكفر الزَّوْج لَا ينْعَقد النِّكَاح ابْتِدَاء كَمَا أَن عِنْد ردة أَحدهمَا لَا ينْعَقد النِّكَاح ابْتِدَاء فَكَذَلِك فِي حَالَة الْبَقَاء تستوي ردة أَحدهمَا وَإِسْلَام أَحدهمَا إِذا كَانَ على وَجه يمْنَع ابْتِدَاء النِّكَاح وَفِي الرِّدَّة إِنَّمَا يثبت هَذَا الحكم للِاخْتِلَاف فِي الدّين لَا لمنافاة الرِّدَّة النِّكَاح فَإِنَّهُمَا لَو ارتدا مَعًا نَعُوذ بِاللَّه لَا تقع الْفرْقَة بَينهمَا وَإِنَّمَا انْعَدم الِاخْتِلَاف فِي الدّين هُنَا فَأَما الرِّدَّة فمتحققة وَمَعَ تحقق الْمنَافِي لَا يتَصَوَّر بَقَاء النِّكَاح كالمحرمية بِالرّضَاعِ والمصاهرة وَقُلْنَا نَحن الْإِسْلَام سَبَب لعصمة الْملك فَلَا يجوز أَن يسْتَحق بِهِ زَوَال الْملك بِحَال وَكفر الَّذِي أصر مِنْهُمَا على الْكفْر كَانَ مَوْجُودا وَصَحَّ مَعَه النِّكَاح ابْتِدَاء وَبَقَاء فَلَا يجوز أَن يكون سَببا للفرقة أَيْضا وَلَا يُقَال هَذَا الْكفْر إِنَّمَا لم يكن سَببا للفرقة فِي حَال كفر الآخر لَا بعد إِسْلَامه كَمَا لَا يكون سَببا للْمَنْع من ابْتِدَاء النِّكَاح فِي حَال كفر الآخر لَا بعد إِسْلَامه لِأَن اعْتِبَار الْبَقَاء بِالِابْتِدَاءِ فِي أصُول الشَّرْع ضَعِيف جدا فَإِن قيام الْعدة وَعدم الشُّهُود يمْنَع ابْتِدَاء النِّكَاح وَلَا يمْنَع الْبَقَاء والاستغناء عَن نِكَاح الْأمة بِنِكَاح الْحرَّة يمْنَع نِكَاحهَا ابْتِدَاء وَلَا يمْنَع الْبَقَاء إِذا تزوج الْحرَّة بعد الْأمة فَإِن ظهر أَن وَاحِدًا من هذَيْن السببين لَا يصلح سَببا لاسْتِحْقَاق الْفرْقَة وَلَا بُد من دفع ضَرَر الظُّلم الْمُتَعَلّق عَنْهَا لِأَن مَا هُوَ الْمَقْصُود بِالنِّكَاحِ وَهُوَ الِاسْتِمْتَاع فَائت شرعا جعلنَا السَّبَب تَفْرِيق القَاضِي بعد عرض الْإِسْلَام على الَّذِي يَأْبَى مِنْهُمَا وَهُوَ قوي الْأَثر بِالرُّجُوعِ إِلَى الْأُصُول فَإِن التَّفْرِيق بِاللّعانِ وبسبب الْجب والعنة وبسبب الْإِيلَاء يكون ثَابتا بِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى محالا بِهِ على من كَانَ فَوَات الْإِمْسَاك بِالْمَعْرُوفِ من جِهَته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 فَهُنَا أَيْضا يُحَال بِهِ على من كَانَ فَوَات الْإِمْسَاك بِالْمَعْرُوفِ بالإصرار على الْكفْر من جِهَته وَلَا يثبت إِلَّا بِقَضَاء القَاضِي فَأَما الرِّدَّة فَهِيَ غير مَوْضُوعَة للفرقة بِدَلِيل صِحَّتهَا حَيْثُ لَا نِكَاح وَبِه فَارق الطَّلَاق وَإِذا لم يكن مَوْضُوعا للفرقة عرفنَا أَن حُصُول الْفرْقَة بهَا لكَونهَا مُنَافِيَة للنِّكَاح حكما وَذَلِكَ وصف مُؤثر فَإِن النِّكَاح يبتنى على الْحل الَّذِي هُوَ كَرَامَة وَبعد الرِّدَّة لَا يبْقى الْحل لِأَن الرِّدَّة سَبَب لإِسْقَاط مَا هُوَ كَرَامَة ولإزالة الْولَايَة والمالكية الثَّابِتَة بطرِيق الْكَرَامَة فَجَعلهَا مُنَافِيَة للنِّكَاح حكما يكون قوي الْأَثر من هَذَا الْوَجْه وَمَعَ وجود الْمنَافِي لَا يبْقى النِّكَاح سَوَاء دخل بهَا أَو لم يدْخل فَأَما إِذا ارتدا مَعًا فَحكم بَقَاء النِّكَاح بَينهمَا مَعْلُوم بِإِجْمَاع الصَّحَابَة بِخِلَاف الْقيَاس وَقد بَينا أَن المعدول بِهِ عَن الْقيَاس بِالنَّصِّ أَو بِالْإِجْمَاع لَا يشْتَغل فِيهِ بِالتَّعْلِيلِ وَلَا بِإِثْبَات الحكم فِيهِ بعلة وَقد بَينا فَسَاد اعْتِبَار حَالَة الْبَقَاء بِحَالَة الِابْتِدَاء فَلَا يجوز أَن يَجْعَل امْتنَاع صِحَة النِّكَاح بَينهمَا ابْتِدَاء بعد الرِّدَّة عِلّة للْمَنْع من بَقَاء النِّكَاح وَهَذَا لِأَن الْبَقَاء لَا يَسْتَدْعِي دَلِيلا مبقيا وَإِنَّمَا يَسْتَدْعِي الْفَائِدَة فِي الْإِبْقَاء وَبعد ردتهما نَعُوذ بِاللَّه يتَوَهَّم مِنْهُمَا الرُّجُوع إِلَى الْإِسْلَام وَبِه تظهر فَائِدَة الْبَقَاء فَأَما الثُّبُوت ابْتِدَاء يَسْتَدْعِي الْحل فِي الْمحل وَذَلِكَ منعدم بعد الرِّدَّة وَعند ردة أَحدهمَا لَا يظْهر فِي الْإِبْقَاء فَائِدَة مَعَ مَا هما عَلَيْهِ من الِاخْتِلَاف وعَلى هَذَا علل الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي عدد الطَّلَاق فَإِنَّهُ مُعْتَبر بِحَال الزَّوْج لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِك للطَّلَاق وَعدد الْملك مُعْتَبر بِحَال الْمَالِك كعدد النِّكَاح وَهَذَا بَين الْأَثر لِأَن الْمَالِكِيَّة عبارَة عَن الْقُدْرَة والتمكن من التَّصَرُّف فَإِذا كَانَ الزَّوْج هُوَ المتمكن من التَّصَرُّف فِي الطَّلَاق بالإيقاع عرفنَا أَنه هُوَ الْمَالِك لَهُ وَإِنَّمَا يتم الْملك بِاعْتِبَار كَمَال حَال الْمَالِك بِالْحُرِّيَّةِ كَمَا أَن ملك التَّصَرُّف بِالْإِعْتَاقِ وَغَيره إِنَّمَا يتم بِكَمَال حَال الْمَالِك بِالْحُرِّيَّةِ وَقُلْنَا نَحن الطَّلَاق تصرف بِملك بِالنِّكَاحِ فيتقدر بِقدر ملك النِّكَاح وَذَلِكَ يخْتَلف باخْتلَاف حَال الْمَرْأَة فِي الرّقّ وَالْحريَّة لِأَن الْملك إِنَّمَا يثبت فِي الْمحل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 بِاعْتِبَار صفة الْحل والحل الَّذِي يبتنى عَلَيْهِ النِّكَاح فِي حق الْأمة على النّصْف مِنْهُ فِي حق الْحرَّة فبقدر ذَلِك يثبت الْملك ثمَّ بِقدر الْملك يتَمَكَّن الْمَالِك من الْإِبْطَال كَمَا أَن بِقدر ملك الْيَمين يتَمَكَّن من إِبْطَاله بِالْعِتْقِ حَتَّى إِنَّه إِذا كَانَ لَهُ عبد وَاحِد يملك إعتاقا وَاحِدًا فَإِن كَانَ لَهُ عَبْدَانِ يملك عتقين ثمَّ ظهر قُوَّة الْأَثر لما قُلْنَا بِالرُّجُوعِ إِلَى الأَصْل وَهُوَ أَن مَا يبتنى على ملك النِّكَاح وَيخْتَص بِهِ فَإِنَّهُ يخْتَلف باخْتلَاف حَالهَا وَذَلِكَ نَحْو الْقسم فِي حَال قيام النِّكَاح وَالْعدة وَحقّ الْمُرَاجَعَة باعتبارها بعد الطَّلَاق فَعرفنَا أَنه يتَقَدَّر مَا يبتنى على ملك النِّكَاح بِقدر الْملك الثَّابِت بِحَسب مَا يسع الْمحل لَهُ وعَلى هَذَا علل فِي تكْرَار الْمسْح بِأَنَّهُ ركن فِي الْوضُوء فَيسنّ فِيهِ التّكْرَار كالغسل وَقُلْنَا نَحن إِنَّه مسح فَلَا يسن فِيهِ التّكْرَار كالمسح بالخف ثمَّ كَانَ تَأْثِير الْمسْح فِي إِسْقَاط التّكْرَار أقوى من تَأْثِير الركنية فِي سنة التّكْرَار فِيهِ فَإِن التّكْرَار مَشْرُوع فِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق وليسا بِرُكْن وتأثير الْمسْح فِي التَّخْفِيف فَإِن الِاكْتِفَاء بِالْمَسْحِ فِيهِ مَعَ إِمْكَان الْغسْل مَا كَانَ إِلَّا للتَّخْفِيف وَعند الرُّجُوع إِلَى الْأُصُول يظْهر معنى التَّخْفِيف بترك التّكْرَار بعد الْإِكْمَال مَعَ مَا فِيهِ من دفع الضَّرَر الَّذِي يلْحقهُ بإفساد عمَامَته بِكَثْرَة مَا يُصِيب رَأسه من البلة وعَلى هَذَا علل فِي اشْتِرَاط تعْيين النِّيَّة فِي الصَّوْم بِأَنَّهُ صَوْم فرض وَهُوَ بَين الْأَثر فَإِن اشْتِرَاط النِّيَّة لِمَعْنى التَّقَرُّب وَصفَة الْفَرْضِيَّة قربَة كالأصل وَقُلْنَا نَحن صَوْم عين وتأثيره أَن اشْتِرَاط النِّيَّة فِي الْعِبَادَة فِي الأَصْل للتمييز بَين أَنْوَاعهَا بتعين نوع مِنْهَا وَهَذَا مُتَعَيّن شرعا فَلَا معنى لاشْتِرَاط النِّيَّة للتعيين وَمعنى الْقرْبَة يتم بِوُجُود أصل النِّيَّة فباعتبار قُوَّة الْأَثر من هَذَا الْوَجْه يظْهر التَّرْجِيح وَمَا يخرج على هَذَا من الْمسَائِل لَا يُحْصى وَفِيمَا ذكرنَا كِفَايَة لمن يحسن التَّأَمُّل فِي نظائرها وَأما الْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ التَّرْجِيح بِقُوَّة ثبات الحكم الْمَشْهُود بِهِ فَلِأَن أصل ذَلِك إِنَّمَا يكون عَن نَص أَو إِجْمَاع وَمَا يكون ثُبُوته بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاع يكون ثَابتا متأكدا فَمَا يظْهر فِيهِ زِيَادَة الْقُوَّة فِي الثَّبَات عِنْد الْعرض على الْأُصُول يكون راجحا بِاعْتِبَار مَا بِهِ صَار حجَّة وَبَيَان ذَلِك فِي مَسْأَلَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 مسح الرَّأْس أَيْضا فَإِن الْوَصْف الَّذِي عللنا بِهِ لَهُ زِيَادَة قُوَّة الثَّبَات على الحكم الْمَشْهُود بِهِ أَلا ترى أَن سَائِر أَنْوَاع الْمسْح كالتيمم وَالْمسح على الْخُف وَالْمسح على الجورب عِنْد من يُجِيزهُ وَالْمسح على الجبائر يظْهر الخفة فِيهَا بترك اعْتِبَار التّكْرَار وَلَيْسَ للوصف الَّذِي علل بِهِ قُوَّة الثَّبَات بِهَذِهِ الصّفة فَإِن فِي الصَّلَاة أركانا كالقيام وَالْقِرَاءَة وَالرُّكُوع وَالسُّجُود ثمَّ تَمامهَا يكون بالإكمال لَا بالتكرار فَعرفنَا أَن الركنية لَيْسَ بِوَصْف قوي ثَابت فِي إِثْبَات سنة التّكْرَار بِهِ وَكَذَلِكَ فِي الصَّوْم فَإِن صفة العينية قوي ثَابت فِي إِسْقَاط اشْتِرَاط نِيَّة التَّعْيِين فِيهِ حَتَّى يتَعَدَّى إِلَى سَائِر الْعِبَادَات كَالزَّكَاةِ إِذا تصدق بالنصاب على الْفَقِير وَهُوَ لَا يَنْوِي الزَّكَاة وَالْحج إِذا أطلق النِّيَّة وَلم يعين حجَّة الْإِسْلَام وَالْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى وَيَتَعَدَّى إِلَى غير الْعِبَادَات نَحْو رد الودائع والغصوب ورد الْمَبِيع على البَائِع لفساد البيع وَصفَة الْفَرْضِيَّة لَيْسَ بِقَوي ثَابت فِي اشْتِرَاط نِيَّة التَّعْيِين بَعْدَمَا صَار مُتَعَيّنا فِي الصَّوْم لَا فِي غير الصَّوْم وَكَذَلِكَ مَا علل بِهِ عُلَمَاؤُنَا فِي أَن الْمَنَافِع لَا تضمن بِالْإِتْلَافِ لِأَن ضَمَان الْمُتْلفَات مُقَدّر بِالْمثلِ بِالنَّصِّ وَبِاعْتِبَار مَا هُوَ الْمَقْصُود وَهُوَ الْجبرَان وَبَين الْعين وَالْمَنْفَعَة تفَاوت فِي الْمَالِيَّة من الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا فَلَا يجوز أَن يُوجب على الْمُتْلف فَوق مَا أتلف فِي صفة الْمَالِيَّة كَمَا لَا يُوجب الْجيد بِإِتْلَاف الرَّدِيء وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله الْمَنَافِع تضمن بِالْعقدِ الْجَائِز وَالْفَاسِد بِالدَّرَاهِمِ فتضمن بِالْإِتْلَافِ كالأعيان ثمَّ تَأْثِيره تحقق الْحَاجة إِلَى التحرر عَن إهدار حق الْمُتْلف عَلَيْهِ فَإِنَّهُ نَظِير تحقق الْحَاجة إِلَى ملك الْمَنْفَعَة بِالْعِوَضِ بِالْعقدِ ثمَّ هُوَ يزْعم أَن علته أقوى فِي ثبات الحكم الْمَشْهُود بِهِ عَلَيْهِ من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنه إِذا لم يكن بُد من الْإِضْرَار بِأَحَدِهِمَا فمراعاة جَانب الْمَظْلُوم وإلحاق الخسران بالظالم بِإِيجَاب الزِّيَادَة عَلَيْهِ أولى من إهدار حق الْمَظْلُوم وَالثَّانِي أَن فِي إِيجَاب الضَّمَان إهدار حق الظَّالِم فِيمَا هُوَ وصف مَحْض وَهُوَ صفة الْبَقَاء وَفِي الأَصْل هما شَيْئَانِ وَهُوَ كَونهمَا مُنْتَفعا بِهِ غير أَن فِي طرف الظَّالِم فضل صفة وَهُوَ الْبَقَاء فبهدر صِيَانة الأَصْل (هدر) حق الْمَظْلُوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 وَإِذا قُلْنَا لَا يجب الضَّمَان كَانَ فِيهِ إهدار حق الْمُتْلف عَلَيْهِ فِي أصل الْمَالِيَّة وَلَا شكّ أَن الْوَصْف دون الأَصْل وَنحن نقُول قُوَّة ثبات الحكم فِيمَا اعتبرناه لِأَن فِي إِيجَاب الزِّيَادَة معنى الْجور وَلَا يجوز نِسْبَة ذَلِك إِلَى الشَّرْع بِغَيْر وَاسِطَة من الْعباد بِحَال من الْأَحْوَال وَإِذا لم نوجب الضَّمَان فَإِنَّمَا لَا نوجب لعجزنا عَن إِيجَاب الْمثل فِي مَوضِع ثَبت اشْتِرَاط الْمُمَاثلَة فِيهِ بِالنَّصِّ وَبِه فَارق ضَمَان العقد فَإِنَّهُ غير مَبْنِيّ على الْمُمَاثلَة بِأَصْل الْوَضع وَكَيف يكون مَبْنِيا على ذَلِك والمبتغى بِهِ الرِّبْح والامتناع من الْإِقْدَام عِنْد تحقق الْعَجز أصل مَشْرُوع لنا وَالثَّانِي أَن فِي إِيجَاب الزِّيَادَة إهدار حق الْمُتْلف فِي هَذِه الزِّيَادَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَإِذا قُلْنَا لَا يجب الضَّمَان لَا يهدر حق الْمُتْلف عَلَيْهِ أصلا بل يتَأَخَّر إِلَى الْآخِرَة وضرر التَّأْخِير دون ضَرَر الإهدار وَلَا يدْخل على هَذَا إِتْلَاف مَا لَا مثل لَهُ من جنسه لِأَن الْوَاجِب هُوَ مثل الْمُتْلف فِي الْمَالِيَّة شرعا إِلَّا أَنه آل الْأَمر إِلَى الِاسْتِيفَاء وَذَلِكَ يبتنى على الوسع قُلْنَا يتَقَدَّر بِقدر الوسع وَيسْقط اعْتِبَار أدنى تفَاوت فِي الْقيمَة لِأَنَّهُ لَا يُسْتَطَاع التَّحَرُّز عَن ذَلِك وَلَكِن لَا يتَحَقَّق فِي هَذَا معنى نِسْبَة الْجور إِلَى الشَّرْع فَالْوَاجِب شرعا هُوَ الْمثل لَا غير وَمَا اعْتبر من تَرْجِيح جَانب الْمَظْلُوم فَهُوَ ضَعِيف جدا لِأَن الظَّالِم لَا يظلم وَلَكِن ينتصف مِنْهُ مَعَ قيام حَقه فِي ملكه فَلَو لم نوجب الضَّمَان لسقط حق الْمَظْلُوم لَا بِفعل مُضَاف إِلَيْنَا وَهُوَ أَنا نلزمه أَدَاء ذَلِك بطرِيق الحكم بِهِ عَلَيْهِ ومراعاة الْوَصْف فِي الْوُجُوب كمراعاة الأَصْل أَلا ترى أَن فِي الْقصاص الَّذِي يبتنى على الْمُسَاوَاة التَّفَاوُت فِي الْوَصْف كالصحيحة مَعَ الشلاء يمْنَع جَرَيَان الْقصاص وَلَا ينظر إِلَى تَرْجِيح جَانب الْمَظْلُوم وَإِلَى تَرْجِيح جَانب الأَصْل على الْوَصْف فَعرفنَا أَن قُوَّة الثَّبَات فِيمَا قُلْنَا وعَلى هَذَا قُلْنَا إِن ملك النِّكَاح لَا يضمن بِالْإِتْلَافِ فِي الشَّهَادَة على الطَّلَاق قبل الدُّخُول وَملك الْقصاص لَا يضمن بِالْإِتْلَافِ فِي الشَّهَادَة على الْعَفو وَقد بَينا فِيمَا سبق أَن وجوب الدِّيَة عِنْد إِتْلَاف النَّفس أَو الْأَطْرَاف على وَجه لَا يُمكن إِيجَاب الْمثل فِيهِ حكم ثَابت بِالنَّصِّ بِخِلَاف الْقيَاس وَهُوَ لصيانة الْمحل عَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 الإهدار لَا للماثلة على وَجه الخبران لِأَن النُّفُوس بأطرافها مصونة عَن الابتذال وَعَن الإهدار وَأما الْوَجْه الثَّالِث وَهُوَ التَّرْجِيح بِكَثْرَة الْأُصُول فَلِأَن كَثْرَة الْأُصُول فِي الْمَعْنى الَّذِي صَار الْوَصْف بِهِ حجَّة بِمَنْزِلَة الاشتهار فِي الْمَعْنى الَّذِي صَار الْخَبَر بِهِ حجَّة وَهَذَا يظْهر إِذا تَأَمَّلت فِيمَا ذكرنَا من الْمسَائِل وَغَيرهَا وَمَا من نوع من هَذِه الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة إِذا قَرّرته فِي مَسْأَلَة إِلَّا وَتبين بِهِ إِمْكَان تَقْرِير النَّوْعَيْنِ الآخرين فِيهِ أَيْضا وَأما الْوَجْه الرَّابِع وَهُوَ التَّرْجِيح بِعَدَمِ الحكم عِنْد عدم الْعلَّة فَهُوَ أَضْعَف وُجُوه التَّرْجِيح لما بَينا أَن الْعَدَم (لَا يُوجب شَيْئا وَأَن الْعَدَم لَا يكون مُتَعَلقا بعلة وَلَكِن انعدام الحكم عِنْد انعدام الْعلَّة) يصلح أَن يكون دَلِيلا على وكادة اتِّصَال الحكم بِالْعِلَّةِ فَمن هَذَا الْوَجْه يصلح للترجيح وَبَيَانه فِي الْمسْح بِالرَّأْسِ أَيْضا فَإِن التَّعْلِيل بِأَنَّهُ ركن لَا يكون فِي الْقُوَّة كالتعليل بِأَنَّهُ مسح لِأَن حكم ثُبُوت التّكْرَار لَا يَنْعَدِم بانعدام الركنية كَمَا فِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق وَحكم سُقُوط التّكْرَار يَنْعَدِم بانعدام وصف الْمسْح كَمَا فِي اغتسال الْجنب وَالْحَائِض فَإِنَّهُ يسن فِيهِ صفة التّكْرَار لِأَنَّهُ لَيْسَ بمسح وَكَذَلِكَ فِي كل مَا يعقل تَطْهِيرا صفة التّكْرَار فِيهِ يكون مسنونا وَفِيمَا لَا يعقل تَطْهِيرا لَا يسن فِيهِ صفة التّكْرَار وَقَوْلنَا مسح ينبىء عَن ذَلِك وَكَذَلِكَ قُلْنَا فِي الْأَخ إِذا ملك أُخْته إِن بَينهمَا قرَابَة مُحرمَة للنِّكَاح وينعدم حكم الْعتْق بِالْملكِ عِنْد انعدام هَذَا الْمَعْنى كَمَا فِي بني الْأَعْمَام وَهُوَ إِذا قَالَ شخصان يجوز لأَحَدهمَا أَن يضع زَكَاة مَاله فِي صَاحبه فَلَا يعْتق أَحدهمَا على صَاحبه إِذا ملكه لِانْعِدَامِ هَذَا الحكم عِنْد انعدام هَذَا الْمَعْنى فَإِن الْمُسلم لَا يجوز لَهُ أَن يضع زَكَاة مَاله فِي الْكَافِر وَذَلِكَ لَا يدل على أَنه يعْتق أَحدهمَا على صَاحبه إِذا ملكه وَكَذَلِكَ قُلْنَا فِي بيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِنَّه لَا يشْتَرط قَبضه فِي الْمجْلس لِأَنَّهُ عين بِعَين وينعدم هَذَا الحكم عِنْد انعدام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 هَذَا الْوَصْف فَإِنَّهُ فِي بَاب الصّرْف يشْتَرط الْقَبْض من الْجَانِبَيْنِ لِأَن الأَصْل فِيهِ النُّقُود وَهِي لَا تتَعَيَّن فِي الْعُقُود فَكَانَ دينا بدين وَفِي السّلم يشْتَرط الْقَبْض فِي رَأس المَال لِأَن الْمُسلم فِيهِ دين وَرَأس المَال فِي الْغَالِب نقد فَيكون دينا بدين فَعرفنَا أَنه يَنْعَدِم الحكم عِنْد انعدام الْعلَّة وَهُوَ يُعلل فَيَقُول مالان لَو قوبل كل وَاحِد مِنْهُمَا بِجِنْسِهِ يحرم التَّفَاضُل بَينهمَا فَيشْتَرط التَّقَابُض فِي بيع أَحدهمَا بِالْآخرِ كالذهب وَالْفِضَّة ثمَّ الحكم لَا يَنْعَدِم عِنْد انعدام هَذَا الْمَعْنى فِي السّلم فَإِنَّهُ يشْتَرط قبض رَأس المَال فِي الْمجْلس وَإِن جمع العقد هُنَاكَ بدلين لَا يحرم التَّفَاضُل إِذا قوبل كل وَاحِد مِنْهُمَا بِجِنْسِهِ فَهَذَا بَيَان الْفَصْل الرَّابِع فصل وَأما المخلص من التَّعَارُض فِي دَلِيل التَّرْجِيح فطريق بَيَانه أَن نقُول إِن كل مُحدث مَوْجُود بصورته وَمَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ حَقِيقَة لَهُ ثمَّ تقوم بِهِ أَحْوَال تحدث عَلَيْهِ فَإِذا قَامَ دَلِيل التَّرْجِيح لِمَعْنى فِي ذَات أحد المتعارضين وعارضه دَلِيل التَّرْجِيح لِمَعْنى فِي حَال الآخر على مُخَالفَة الأول فَإِنَّهُ يرجح الْمَعْنى الَّذِي هُوَ فِي الذَّات على الْمَعْنى الَّذِي هُوَ فِي الْحَال لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن الذَّات أسبق وجودا من الْحَال فبعدما وَقع التَّرْجِيح لِمَعْنى فِيهِ لَا يتَغَيَّر بِمَا حدث من معنى فِي حَال الآخر بعد ذَلِك بِمَنْزِلَة مَا لَو اتَّصل الحكم بِاجْتِهَاد فتأيد بِهِ ثمَّ لم ينْسَخ بِمَا يحدث من اجْتِهَاد آخر بعد ذَلِك وَإِذا اتَّصل الحكم بِشَهَادَة المستورين بِالنّسَبِ أَو النِّكَاح لرجل لم يتَغَيَّر بعد ذَلِك بِشَهَادَة عَدْلَيْنِ لآخر وَالثَّانِي أَن الْأَحْوَال الَّتِي تحدث على الذَّات تقوم بِهِ فَكَانَ الذَّات بِمَنْزِلَة الأَصْل وَمَا يقوم بِهِ من الْحَال بِمَنْزِلَة التبع وَالْأَصْل لَا يتَغَيَّر بالتبع على أَي وَجه كَانَ وَبَيَان هَذَا فِيمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ أَن ابْن الْأَخ لأَب وَأم يكون مقدما فِي الْعُصُوبَة على الْعم لِأَن الْمُرَجح فِيهِ معنى فِي ذَات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 الْقَرَابَة وَهُوَ الْأُخوة الَّتِي هِيَ مُقَدّمَة على العمومة وَفِي الْعم الْمُرَجح هُوَ زِيَادَة الْقرب بِاعْتِبَار الْحَال وَكَذَلِكَ الْعمة لأم مَعَ الْخَالَة لأَب وَأم إِذا اجتمعتا فللعمة الثُّلُثَانِ بِاعْتِبَار أَن الْمُرَجح فِي حَقّهَا هُوَ معنى فِي ذَات الْقَرَابَة وَهُوَ الإدلاء بِالْأَبِ وَفِي الْأُخْرَى معنى فِي حَالهَا وَهُوَ اتصالها من الْجَانِبَيْنِ بِأم الْمَيِّت وَلَو كَانَا أَخَوَيْنِ أَحدهمَا لأَب وَأم وَالْآخر لأَب فَإِنَّهُ يقدم فِي الْعُصُوبَة الَّذِي لأَب وَأم لِأَنَّهُمَا اسْتَويَا فِي ذَات الْقَرَابَة فيصار إِلَى التَّرْجِيح بِاعْتِبَار الْحَال وَهُوَ زِيَادَة الِاتِّصَال لأَحَدهمَا وَلَو كَانَ ابْن الْأَخ لأَب مَعَه ابْن ابْن أَخ لأَب وَأم فَإِن الْأَخ لأَب يقدم فِي الْعُصُوبَة بِاعْتِبَار الْحَال لما اسْتَويَا فِي ذَات الْقَرَابَة وَهُوَ الْأُخوة وَرُبمَا خَفِي على الشَّافِعِي هَذَا الْحَد فِي بعض الْمسَائِل فَهُوَ مَعْذُور لكَونه خفِيا وَمن أصَاب مَرْكَز الدَّلِيل فَهُوَ مأجور مشكور وَبَيَانه فِي مسَائِل الْغَصْب فَإِن علماءنا أثبتوا التَّرْجِيح بِاعْتِبَار الصِّنَاعَة والخياطة والطبخ والشي وَقَالُوا فِيمَن غصب ساحة وأدخلها فِي بنائِهِ يَنْقَطِع حق الْمَغْصُوب مِنْهُ عَن الساحة لِأَن الصَّنْعَة الَّتِي أحدثها الْغَاصِب فِيهَا قَائِمَة من كل وَجه غير مُضَاف إِلَى صَاحب الْعين وَعين الساحة قَائِم من وَجه مستهلك من وَجه لِأَنَّهُ صَار مُضَافا إِلَى الْحَادِث بِعَمَل الْغَاصِب وَهُوَ الْبناء فرجحنا مَا هُوَ قَائِم من كل وَجه بِاعْتِبَار معنى فِي الذَّات وأسقطنا اعْتِبَار معنى قُوَّة الْحَال فِي الْجَانِب الآخر وَهُوَ أَنه أصل وَفِي الساحة إِذا بنى عَلَيْهَا لما اسْتَويَا فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا قَائِم من كل وَجه فرجحنا بِاعْتِبَار الْحَال حق صَاحب الساحة على حق صَاحب الْبناء (لِأَن قوام الْبناء) للْحَال بالساحة وقوام الساحة لَيْسَ بِالْبِنَاءِ وَكَذَلِكَ الثَّوْب إِذا قطعه وخاطه وَاللَّحم إِذا طبخه أَو شواه لِأَن الْوَصْف الْحَادِث بِعَمَل الْغَاصِب قَائِم من كل وَجه وَمَا هُوَ حق الْمَغْصُوب مِنْهُ قَائِم من وَجه مستهلك من وَجه بِاعْتِبَار الْعَمَل الْمُضَاف إِلَى الْغَاصِب فيترجح مَا هُوَ قَائِم من كل وَجه وَكَذَلِكَ قُلْنَا صَوْم رَمَضَان يتَأَدَّى بِالنِّيَّةِ الْمَوْجُودَة فِي أَكثر النَّهَار لِأَن الْإِمْسَاك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 فِي جَمِيع النَّهَار ركن وَاحِد وَشرط كَونه صوما شَرْعِيًّا النِّيَّة ليحصل بهَا الْإِخْلَاص فَإِذا ترجح جَانب الْوُجُود باقتران النِّيَّة بِأَكْثَرَ هَذَا الرُّكْن قُلْنَا يحصل بِهِ امْتِثَال الْأَمر ف الشَّافِعِي يَقُول يُؤْخَذ فِي الْعِبَادَات بِالِاحْتِيَاطِ فَإِذا انعدمت النِّيَّة فِي جُزْء من هَذَا الرُّكْن يتَرَجَّح جَانب الْعَدَم على جَانب الْوُجُود لأجل الِاحْتِيَاط فِي أَدَاء الْفَرِيضَة فَكَانَ مَا اعْتَبرهُ معنى فِي الْحَال وَهُوَ أَنه فرض يُؤْخَذ فِيهِ بِالِاحْتِيَاطِ وَمَا اعتبرناه معنى فِي الذَّات والمرجح فِي الذَّات أولى بِالِاعْتِبَارِ من الْمُرَجح فِي الْحَال وَقَالَ أَبُو حنيفَة إِذا كَانَ لرجل مِائَتَا دِرْهَم وَخمْس من الْإِبِل السَّائِمَة فَسبق حول السَّائِمَة فَأدى عَنْهَا شَاة ثمَّ بَاعهَا بِمِائَتي دِرْهَم فَإِنَّهُ لَا يضم ثمنهَا إِلَى مَا عِنْده وَلَكِن ينْعَقد على الثّمن حول جَدِيد فَلَو اسْتَفَادَ مِائَتي دِرْهَم بِهِبَة أَو مِيرَاث فَإِنَّهُ يضمها إِلَى أقرب الْمَالَيْنِ فِي الْحول وَإِن كَانَ الْمُسْتَفَاد ربح أحد الْمَالَيْنِ أَو زِيَادَة مُتَوَلّدَة من عين أحد الْمَالَيْنِ يضم ذَلِك إِلَى الأَصْل وَإِن كَانَ أبعد فِي الْحول لِأَن الْمُرَجح هُنَا معنى فِي الذَّات وَهُوَ كَونه نَمَاء أحد الْمَالَيْنِ فَيسْقط بمقابلته اعْتِبَار الْحَال فِي المَال الآخر وَهُوَ الْقرب فِي الْحول وَفِي الأول لما اسْتَوَى الجانبان فِيمَا يرجع إِلَى الذَّات صرنا إِلَى التَّرْجِيح بِاعْتِبَار الْحَال والمسائل على هَذَا الأَصْل يكثر تعدادها وَالله أعلم فصل وَأما الْفَاسِد من التَّرْجِيح فأنواع أَرْبَعَة أَحدهَا مَا بَينا من تَرْجِيح قِيَاس بِقِيَاس آخر لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا عِلّة شَرْعِيَّة لثُبُوت الحكم بهَا فَلَا تكون إِحْدَاهمَا مرجحة لِلْأُخْرَى بِمَنْزِلَة زِيَادَة الْعدَد فِي الشُّهُود وَكَذَلِكَ تَرْجِيح أحد القياسين بالْخبر فَاسد لِأَن الْقيَاس مَتْرُوك بالْخبر فَلَا يكون حجَّة فِي مُقَابلَته والمصير إِلَى التَّرْجِيح بعد وُقُوع التَّعَارُض بِاعْتِبَار الْمُمَاثلَة كَمَا بَينا وَكَذَلِكَ تَرْجِيح أحد الْخَبَرَيْنِ بِنَصّ الْكتاب فَاسد لِأَن الْخَبَر لَا يكون حجَّة فِي مُعَارضَة النَّص وَالنَّوْع الثَّانِي التَّرْجِيح بِكَثْرَة الْأَشْبَاه فَإِنَّهُ فَاسد عندنَا وَبَيَانه فِيمَا يَقُوله الْخصم إِن الْأَخ يشبه الْأَب من وَجه وَهُوَ الْمَحْرَمِيَّة وَيُشبه ابْن الْعم من وُجُوه نَحْو جَرَيَان الْقصاص من الطَّرفَيْنِ وَقبُول شَهَادَة كل وَاحِد مِنْهُمَا لصَاحبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 وَجَوَاز وضع الزَّكَاة لكل وَاحِد مِنْهُمَا فِي صَاحبه وَحل حَلِيلَة كل وَاحِد مِنْهُمَا لصَاحبه وَغير ذَلِك من الْأَحْكَام قَالُوا فيرجح بِاعْتِبَار كَثْرَة الْأَشْبَاه وَهُوَ فَاسد عندنَا لِأَن الْأُصُول شَوَاهِد وَقد بَينا أَن التَّرْجِيح بِزِيَادَة عدد الشُّهُود فِي الْخُصُومَات فَاسد وَفِي الْأَحْكَام التَّرْجِيح بِكَثْرَة الْعِلَل فَاسد فَكَذَلِك التَّرْجِيح بِكَثْرَة الْأَشْبَاه وَالنَّوْع الثَّالِث التَّرْجِيح بِعُمُوم الْعلَّة وَذَلِكَ نَحْو مَا يَقُوله الْخصم إِن تَعْلِيل حكم الرِّبَا فِي الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة بالطعم أولى لِأَنَّهُ يعم الْقَلِيل وَالْكثير وَالتَّعْلِيل بِالْقدرِ يخص الْكثير وَمَا يكون أَعم فَهُوَ أولى وَعِنْدنَا هَذَا فَاسد لِأَن إِثْبَات الحكم بِالْعِلَّةِ فرع لإِثْبَات الحكم بِالنَّصِّ وَعِنْدنَا التَّرْجِيح فِي النُّصُوص لَا يَقع بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوص وَعِنْده الْخَاص يقْضِي على الْعَام كَيفَ يَقُول فِي الْعِلَل إِن مَا يكون أَعم فَهُوَ مُرَجّح على مَا يكون أخص ثمَّ معنى الْعُمُوم وَالْخُصُوص يبتنى على الصِّيغَة وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون فِي النُّصُوص فَأَما الْعِلَل فَالْمُعْتَبر فِيهَا التَّأْثِير أَو الإحالة على حسب مَا اخْتلفَا فِيهِ وَلَا مدْخل للْعُمُوم وَالْخُصُوص فِي ذَلِك وَالنَّوْع الرَّابِع التَّرْجِيح بقلة الْأَوْصَاف وَذَلِكَ نَحْو مَا يَقُوله الْخصم فِي أَن مَا جعلته عِلّة فِي بَاب الرِّبَا وصف وَاحِد وَهُوَ الطّعْم فَأَما الجنسية عِنْدِي شَرط وَأَنْتُم تَجْعَلُونَ عِلّة الرِّبَا ذَات وصفين فتترجح علتي بِاعْتِبَار قلَّة الْأَوْصَاف وَهَذَا فَاسد عندنَا لما بَينا أَن ثُبُوت الحكم بِالْعِلَّةِ فرع لثُبُوته بِالنَّصِّ وَالنَّص الَّذِي فِيهِ بعض الإيجاز والاختصار لَا يتَرَجَّح على مَا فِيهِ بعض الإشباع فِي الْبَيَان فَكَذَلِك الْعلَّة بل أولى لِأَن ثُبُوت الحكم هُنَاكَ بِصِيغَة النَّص الَّذِي يتَحَقَّق فِيهِ الِاخْتِصَار والإشباع وَهنا بِاعْتِبَار الْمَعْنى الْمُؤثر وَلَا يتَحَقَّق فِيهِ الإيجاز والإشباع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب وُجُوه الِاعْتِرَاض على الْعِلَل الطردية الَّتِي يجوز الِاحْتِجَاج بهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَذِه الْوُجُوه أَرْبَعَة القَوْل بِمُوجب الْعلَّة ثمَّ الممانعة ثمَّ بَيَان فَسَاد الْوَضع ثمَّ النَّقْض فنقدم بَيَان القَوْل بِمُوجب الْعلَّة لِأَن الْمصير إِلَى الْمُنَازعَة عِنْد تعذر إِمْكَان الْمُوَافقَة وَأما مَعَ إِمْكَان الْمُوَافقَة وَتَحْصِيل الْمَقْصُود بِهِ فَلَا معنى للمصير إِلَى الْمُنَازعَة ثمَّ تَفْسِير القَوْل بِمُوجب الْعلَّة هُوَ الْتِزَام مَا رام الْمُعَلل الْتِزَامه بتعليله وَبَيَان ذَلِك فِيمَا علل بِهِ الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي تكْرَار الْمسْح بِالرَّأْسِ أَنه ركن فِي الْوضُوء فَيسنّ تثليثه كالغسل فِي المغسول لأَنا نقُول بِمُوجب هَذَا فَنَقُول يسن تثليثه وتربيعه أَيْضا لِأَن الْمَفْرُوض هُوَ الْمسْح بِربع الرَّأْس عندنَا وَعِنْده أدنى مَا يتَنَاوَلهُ الِاسْم ثمَّ اسْتِيعَاب جَمِيع الرَّأْس بِالْمَسْحِ سنة وبالاستيعاب يحصل التَّثْلِيث والتربيع وَلَكِن فِي مَحل غير الْمحل الَّذِي قَامَ فِيهِ الْفَرْض لِأَنَّهُ لَا فرق بَين أَن يكون تثليث الْفِعْل فِي مَحل أَو محَال فَإِن من دخل ثَلَاث أدور يَقُول دخلت ثَلَاث دخلات كَمَا أَن من دخل دَارا وَاحِدَة ثَلَاث مَرَّات يَقُول دخلت ثَلَاث دخلات فَإِن غير الحكم فَقَالَ وَجب أَن يسن تكراره قُلْنَا الْآن هَذَا فِي الأَصْل مَمْنُوع فَإِن الْمسنون فِي الْغسْل لَيْسَ هُوَ التّكْرَار مَقْصُودا عندنَا بل الْإِكْمَال وَذَلِكَ بِالزِّيَادَةِ على الْفَرِيضَة إِلَّا أَن هُنَاكَ الِاسْتِيعَاب فرض فَالزِّيَادَة بعد ذَلِك الْإِكْمَال لَا يكون إِلَّا بالتكرار فَكَانَ وُقُوع التّكْرَار فِيهِ اتِّفَاقًا لَا أَن يكون مَقْصُودا وَهنا الِاسْتِيعَاب لَيْسَ بِفَرْض فَيحصل الْإِكْمَال فِيهِ بالاستيعاب لوُجُود الزِّيَادَة على الْقدر الْمَفْرُوض والإكمال يحصل بِهِ فِي الْأَركان نَحْو الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة فالإكمال يكون فِيهِ بالإطالة لَا بالتكرار وَكَذَلِكَ الْإِكْمَال فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود وَلِأَن الْإِكْمَال فِيمَا يعقل فِيهِ الْمَعْنى وَهُوَ التَّطْهِير بتسييل المَاء على الْعُضْو إِنَّمَا يكون بالتكرار كَمَا فِي غسل النَّجَاسَة العينية عَن الْبدن أَو الثَّوْب يكون الْإِكْمَال فِيهِ بالتكرار إِلَى طمأنينة الْقلب فَأَما فِي الْمسْح الَّذِي لَا يعقل فِيهِ معنى التَّطْهِير لَا يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 للتكرار فِيهِ تَأْثِير فِي الْإِكْمَال بل الْإِكْمَال فِيهِ يكون بالاستيعاب الَّذِي فِيهِ زِيَادَة على الْقدر الْمَفْرُوض وَعند ذَلِك يضْطَر الْمُعَلل إِلَى الرُّجُوع إِلَى طلب التَّأْثِير بِوَصْف الركنية وَوصف الْمسْح الَّذِي تَدور عَلَيْهِ الْمَسْأَلَة ثمَّ يظْهر تَأْثِير الْمسْح فِي التَّخْفِيف وَتَحْقِيق معنى الْإِكْمَال فِيهِ بالاستيعاب كَمَا فِي الْمسْح بالخف ويتبين أَنه لَا أثر للركنية فِي اشْتِرَاط التّكْرَار فَإِن التّكْرَار مسنون فِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق مَعَ انعدام الركنية ويتبين أَن مَا يكون ركنا وَمَا يكون سنة وَمَا يكون أصلا وَمَا يكون رخصَة فِي معنى الْإِكْمَال بِالزِّيَادَةِ على الْقدر الْمَفْرُوض سَوَاء ثمَّ فِي الْمسْح الَّذِي هُوَ رخصَة لما لم يكن الِاسْتِيعَاب ركنا كالمسح بالخف كَانَ الْإِكْمَال فِيهِ بالاستيعاب لَا بالتكرار وَكَذَلِكَ فِي الْمسْح الَّذِي هُوَ أصل وَفِيمَا يكون مسنونا لما كَانَ إِقَامَة أصل السّنة فِيهِ بالاستيعاب كَانَ الْإِكْمَال فِيهِ بالتكرار كالمضمضة وَكَذَلِكَ فِيمَا هُوَ ركن إِذا كَانَ إِقَامَة الْفَرْض لَا تحصل إِلَّا بالاستيعاب كَانَ الْإِكْمَال فِيهِ بالتكرار فَيظْهر فقه الْمَسْأَلَة من هَذَا الْوَجْه وَمن ذَلِك مَا علل بِهِ الشَّافِعِي فِي صَوْم التَّطَوُّع إِنَّه بَاشر فعل قربَة لَا يمْضِي فِي فاسدها فَلَا يلْزمه الْقَضَاء بالإفساد لأَنا نقُول بِمُوجب هَذِه الْعلَّة فَإِن عندنَا الْقَضَاء لَا يجب بالإفساد وَإِنَّمَا يجب بِمَا وَجب بِهِ الْأَدَاء وَهُوَ الشُّرُوع فَإِن غير الْعبارَة وَقَالَ وَجب أَن لَا يلْزم بِالشُّرُوعِ كَالْوضُوءِ قُلْنَا الشُّرُوع فِي الْعِبَادَة بِاعْتِبَار كَونهَا مِمَّا لَا يمْضِي فِي فاسدها لَا يكون ملزما عندنَا بل بِاعْتِبَار كَونهَا مِمَّا تلتزم بِالنذرِ وَعدم اللُّزُوم بِاعْتِبَار الْوَصْف الَّذِي قَالَه لَا يمْنَع اللُّزُوم بِاعْتِبَار الْوَصْف الَّذِي قُلْنَا وَلَا بُد من إِضَافَة الحكم إِلَى الْوَصْف الَّذِي هُوَ ركن تَعْلِيله فَإِن لم يجب بِاعْتِبَار وصف لَا يدل على أَنه لَا يجب بِاعْتِبَار وصف آخر وَعند ذَلِك يضْطَر إِلَى إِقَامَة الدَّلِيل على أَن الشُّرُوع غير مُلْزم وَأَنه لَيْسَ نَظِير النّذر فِي كَونه ملزما فَتبين فقه الْمَسْأَلَة وَمن ذَلِك قَوْلهم إِسْلَام الْمَرْوِيّ فِي الْمَرْوِيّ جَائِز لِأَنَّهُ أسلم مذروعا فِي مذروع فَيجوز كإسلام الْهَرَوِيّ بالمروي لأَنا نقُول بِمُوجبِه فَإِن كَونه مذروعا فِي مذروع لَا يفْسد العقد عندنَا وَلَكِن هَذَا الْوَصْف لَا يمْنَع فَسَاد العقد بِاعْتِبَار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 معنى آخر هُوَ مُفسد أَلا ترى أَنه يفْسد بِذكر شَرط فَاسد فِيهِ وبترك قبض رَأس المَال فِي الْمجْلس مَعَ أَنه أسلم مذروعا فِي مذروع فَإِذا جَازَ أَن يفْسد هَذَا العقد مَعَ وجود هَذَا الْوَصْف بِاعْتِبَار معنى آخر بالِاتِّفَاقِ فلماذا لَا يجوز أَن يفْسد بِاعْتِبَار الجنسية فيضطر عِنْد ذَلِك إِلَى الشُّرُوع فِي فقه الْمَسْأَلَة والاشتغال بِأَن الجنسية لَا تصلح عِلّة لفساد هَذَا العقد بهَا إِن أمكنه ذَلِك وَمن ذَلِك تَعْلِيلهم فِي الطَّلَاق الرَّجْعِيّ إِنَّهَا مُطلقَة فَتكون مُحرمَة الْوَطْء كالمبانة لأَنا نقُول بِمُوجبِه فَإنَّا لَا نَجْعَلهَا محللة الْوَطْء لكَونهَا مُطلقَة بل لكَونهَا مَنْكُوحَة وبالاتفاق مَعَ كَونهَا مُطلقَة إِذا كَانَت مَنْكُوحَة تكون محللة الْوَطْء كَمَا بعد الْمُرَاجَعَة فَإِن الطَّلَاق الْوَاقِع بالرجعة لَا يرْتَفع وَلَا تخرج من أَن تكون مُطلقَة فيضطر حِينَئِذٍ إِلَى الرُّجُوع إِلَى فقه الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن وُقُوع الطَّلَاق هَل يُمكن خللا فِي النِّكَاح أَو هَل يكون محرما للْوَطْء مَعَ قيام ملك النِّكَاح وعَلى هَذَا يَدُور فقه الْمَسْأَلَة وَمن ذَلِك مَا قَالُوا فِي المختلعة لَا يلْحقهَا الطَّلَاق لِأَنَّهَا لَيست بمنكوحة فَإِن عندنَا بِاعْتِبَار هَذَا الْوَصْف لَا يكون محلا لوُقُوع الطَّلَاق عَلَيْهَا عِنْد الْإِيقَاع وَلَكِن هَذَا لَا يبْقى وَصفا آخر فِيهَا يكون بِهِ محلا لوُقُوع الطَّلَاق عَلَيْهَا وَهُوَ ملك الْيَد الْبَاقِي لَهُ عَلَيْهَا بِبَقَاء الْعدة فيضطر بِهَذَا إِلَى الرُّجُوع إِلَى فقه الْمَسْأَلَة وَمن ذَلِك تَعْلِيلهم فِي إِعْتَاق الرَّقَبَة الْكَافِرَة عَن كَفَّارَة الظِّهَار فَإِنَّهُ تَحْرِير فِي تَكْفِير فَلَا يتَأَدَّى بِالرَّقَبَةِ الْكَافِرَة كَمَا فِي كَفَّارَة الْقَتْل لأَنا نقُول بِمُوجب هَذَا فَإِن عندنَا لَا يتَأَدَّى الْوَاجِب من الْكَفَّارَة بِهَذَا الْوَصْف الَّذِي قَالَ بل بِوُجُود الِامْتِثَال مِنْهُ لِلْأَمْرِ كَمَا يتَأَدَّى بِصَوْم شَهْرَيْن مُتَتَابعين وبإطعام سِتِّينَ مِسْكينا عِنْد الْعَجز عَن الصَّوْم فيضطر عِنْد ذَلِك إِلَى الرُّجُوع إِلَى فقه الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن الِامْتِثَال لَا يحصل هُنَا بتحرير الرَّقَبَة الْكَافِرَة كَمَا لَا يحصل فِي كَفَّارَة الْقَتْل لِأَن الْمُطلق مَحْمُول على الْمُقَيد وَمن ذَلِك قَوْلهم فِي الْأَخ إِنَّه لَا يعْتق على أَخِيه إِذا ملكه لِأَنَّهُ لَيْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 بَينهمَا جزئية فَإنَّا نقُول بِمُوجبِه فباعتبار انعدام الْجُزْئِيَّة بَينهمَا لَا يثبت الْعتْق عندنَا وَلَكِن انعدام الْجُزْئِيَّة لَا يَنْفِي وجود وصف آخر بِهِ تتمّ عِلّة الْعتْق وَهُوَ الْقَرَابَة الْمُحرمَة للنِّكَاح فيضطر عِنْد ذَلِك إِلَى الشُّرُوع فِي فقه الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن الْقَرَابَة الْمُحرمَة للنِّكَاح هَل تصلح متممة لعِلَّة الْعتْق مَعَ الْملك بِدُونِ الولاد أم لَا وَأكْثر مَا يذكر من الْعِلَل الطردية يَأْتِي عَلَيْهَا هَذَا النَّوْع من الِاعْتِرَاض وَهُوَ طَرِيق حسن لإلجاء أَصْحَاب الطَّرْد إِلَى الشُّرُوع فِي فقه الْمَسْأَلَة فصل فِي الممانعة قَالَ رَضِي الله عَنهُ الممانعة على هَذَا الطَّرِيق على أَرْبَعَة أوجه إِحْدَاهَا فِي الْوَصْف وَالثَّانيَِة فِي صَلَاحِية الْوَصْف للْحكم وَالثَّالِثَة فِي الحكم وَالرَّابِعَة فِي إِضَافَة الحكم إِلَى الْوَصْف وَهَذَا لِأَن شَرط صِحَة الْعلَّة عِنْد أَصْحَاب الطَّرْد كَون الْوَصْف صَالحا للْحكم ظَاهرا وَتَعْلِيق الحكم بِهِ وجودا وعدما أما بَيَان النَّوْع الأول فِيمَا علل بِهِ الشَّافِعِي فِي الْكَفَّارَة على من أفطر بِالْأَكْلِ وَالشرب قَالَ هَذِه عُقُوبَة تتَعَلَّق بِالْجِمَاعِ فَلَا تتَعَلَّق بِغَيْر الْجِمَاع كالرجم لأَنا لَا نسلم أَن الْكَفَّارَة تتَعَلَّق بِالْجِمَاعِ وَإِنَّمَا تتَعَلَّق بالإفطار على وَجه يكون جِنَايَة متكاملة وَعند هَذَا الْمَنْع يضْطَر إِلَى بَيَان حرف الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن السَّبَب الْمُوجب لِلْكَفَّارَةِ الْفطر على وَجه تتكامل بِهِ الْجِنَايَة أَو الْجِمَاع المعدم للصَّوْم وَإِذا ثَبت أَن السَّبَب هُوَ الْفطر بِهَذِهِ الصّفة ظهر تقرر السَّبَب عِنْد الْأكل وَالشرب وَعند الْجِمَاع بِصفة وَاحِدَة وَبَيَان النَّوْع الثَّانِي فِي تكْرَار الْمسْح بِالرَّأْسِ فَإِن الْخصم إِذا علل فَقَالَ هَذِه طَهَارَة مسح فَيسنّ فِيهَا التَّثْلِيث كالاستنجاء بالأحجار قُلْنَا لَا نسلم هَذَا الْوَصْف فِي الأَصْل فَإِن الِاسْتِنْجَاء إِزَالَة النَّجَاسَة العينية فَأَما أَن يكون طَهَارَة بِالْمَسْحِ فَلَا وَلِهَذَا لَو لم يتلوث شَيْء من ظَاهر بدنه لَا يكون عَلَيْهِ الِاسْتِنْجَاء وَلِهَذَا كَانَ الْغسْل بِالْمَاءِ أفضل ثمَّ الْمسْح الَّذِي يدل على التَّخْفِيف لَا يكون صَالحا لتعليق حكم التَّثْلِيث بِهِ وَبِدُون الصلاحية لَا يصلح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 التَّعْلِيل فيضطر عِنْد هَذَا الْمَنْع إِلَى الرُّجُوع إِلَى حرف الْمَسْأَلَة وَهُوَ إِثْبَات التَّسْوِيَة بَين الْمَمْسُوح والمغسول بِوَصْف صَالح لتَعلق حكم التّكْرَار بِهِ أَو التَّفْرِقَة بَينهمَا بِوَصْف الْمسْح وَالْغسْل فَإِن أَحدهمَا يدل على الِاسْتِيعَاب وَالْآخر يدل على التَّخْفِيف بِعَين الْمسْح وَكَذَلِكَ تَعْلِيلهم فِي بيع تفاحة بتفاحتين إِنَّه بَاعَ مطعوما بمطعوم من جنسه مجازفة فَلَا يجوز كَبيع صبرَة بصبرة من حِنْطَة لأَنا نقُول يَعْنِي بِهَذَا المجازفة ذاتا أم قدرا فَلَا يجد بدا من أَن يَقُول ذاتا فَنَقُول حِينَئِذٍ يَعْنِي المجازفة فِي الذَّات صُورَة أم عيارا فَلَا يجد بدا من أَن يَقُول عيارا لِأَن المجازفة من حَيْثُ الصُّورَة فِي الذَّات لَا تمنع جَوَاز البيع بالِاتِّفَاقِ فَإِن بيع قفيز حِنْطَة بقفيز حِنْطَة جَائِز مَعَ وجود المجازفة فِي الذَّات صُورَة فَرُبمَا يكون أَحدهمَا أَكثر فِي عدد الحبات من الآخر وَإِذا ادّعى المجازفة عيارا قُلْنَا هَذَا الْوَصْف إِنَّمَا يَسْتَقِيم فِيمَا يكون دَاخِلا تَحت المعيار والتفاح وَمَا أشبهه لَا يدْخل تَحت المعيار فَلَا يكون هَذَا الْوَصْف صَالحا لهَذَا الحكم وَلِأَن الْمُسَاوَاة كَيْلا شَرط جَوَاز العقد فِي الْأَمْوَال الربوية بِالْإِجْمَاع وَمن ضَرُورَته أَن يكون ضِدّه وَهُوَ الْفضل فِي المعيار مُفْسِدا للْعقد وَالْفضل فِي المعيار لَا يتَحَقَّق فِيمَا لَا يدْخل تَحت المعيار كَمَا أَن الْمُسَاوَاة فِي المعيار الَّذِي هُوَ شَرط الْجَوَاز عِنْده لَا يتَحَقَّق فِيمَا لَا يدْخل تَحت المعيار فيضطر عِنْد هَذَا إِلَى بَيَان الْحَرْف الَّذِي تَدور عَلَيْهِ الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن حُرْمَة العقد فِي هَذِه الْأَمْوَال عِنْد الْمُقَابلَة بجنسها أصل وَالْجَوَاز يتَعَلَّق بِشَرْطَيْنِ الْمُسَاوَاة فِي المعيار وَالْيَد بِالْيَدِ وَعِنْدنَا جَوَاز العقد فِيهَا أصل كَمَا فِي سَائِر الْأَمْوَال وَالْفساد بِاعْتِبَار فضل هُوَ حرَام وَهُوَ الْفضل فِي المعيار وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق إِلَّا فِيمَا تتَحَقَّق فِيهِ الْمُسَاوَاة فِي المعيار إِذْ الْفضل يكون بعد تِلْكَ الْمُسَاوَاة وَلَا تتَحَقَّق هَذِه الْمُسَاوَاة فِيمَا لَا يدْخل تَحت المعيار أصلا وَمن ذَلِك تَعْلِيلهم فِي الثّيّب الصَّغِيرَة لَا يُزَوّجهَا أَبوهَا لِأَنَّهَا ثيب يُرْجَى مشورتها فَلَا ينفذ العقد عَلَيْهَا بِدُونِ رأيها كالنائمة والمغمى عَلَيْهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 لأَنا نقُول مَا تعنون بقولكم بِدُونِ رأيها رَأْي قَائِم فِي الْحَال أم رَأْي سيحدث أم أَيهمَا كَانَ فَإِن قَالُوا أَيهمَا كَانَ فَهُوَ بَاطِل من الْكَلَام لِأَن الثّيّب الْمَجْنُونَة تزوج فِي الْحَال ورأيها غير مأنوس عَنْهَا لتوهم الْإِفَاقَة فَلَا نجد بدا من أَن نقُول المُرَاد رَأْي قَائِم لَهَا وَهَذَا مَمْنُوع فِي الْفَرْع فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا رَأْي قَائِم فِي الْحَال فِي الْمَنْع وَلَا فِي الْإِطْلَاق فَإِن من لم يجوز تَزْوِيجهَا لم يفصل فِي ذَلِك بَين أَن يكون العقد برأيها (وَبِدُون رأيها) وَمن جوز العقد فَكَذَلِك لم يفصل فَعرفنَا أَنه لَيْسَ لَهَا رَأْي قَائِم وَمَا سيحدث من عِلّة أَو مَانع لَا يجوز أَن يكون مؤثرا فِي الحكم قبل حُدُوثه وَمن جوز حُدُوثه فِي الْمَنْع لَا فِي الْإِثْبَات إِذْ الحكم لَا يسْبق علته فيضطر عِنْد بَيَان الْمَنْع بِهَذِهِ الصّفة إِلَى الرُّجُوع إِلَى حرف الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن رَأْي الْوَلِيّ هَل يقوم مقَام رأيها لِانْعِدَامِ اعْتِبَار رأيها فِي الْحَال شرعا فِيمَا يرجع إِلَى النّظر لَهَا كَمَا فِي المَال وَالْبكْر والغلام أم لَا يقوم رَأْيه مقَام رأيها لما فِي ذَلِك من تَفْوِيت الرَّأْي عَلَيْهَا إِذا صَارَت من أهل الرَّأْي بِالْبُلُوغِ وبمثل هَذَا الْحَد يتَبَيَّن عوار من شرع فِي الْكَلَام بِنَاء على حسن الظَّن قبل أَن يتَمَيَّز لَهُ الصَّوَاب من الْخَطَأ بطرِيق الْفِقْه وَبَيَان الممانعة فِي الحكم كَثِيرَة مِنْهَا تَعْلِيلهم فِي تكْرَار الْمسْح بِأَنَّهُ ركن فِي الْوضُوء فَيسنّ تثليثه كَغسْل الْوَجْه لأَنا لَا نسلم هَذَا الحكم فِي الأَصْل فالمسنون هُنَاكَ عندنَا لَيْسَ التّكْرَار بل الْإِكْمَال بِالزِّيَادَةِ على قدر الْمَفْرُوض فِي مَحَله من جنسه كَمَا فِي أَرْكَان الصَّلَاة فَإِن إِكْمَال ركن الْقِرَاءَة بِالزِّيَادَةِ على الْقدر الْمَفْرُوض فِي مَحَله من جنسه وَهُوَ تِلَاوَة الْقُرْآن وَكَذَلِكَ الرُّكُوع وَالسُّجُود إِلَّا أَن فِي الْغسْل لما كَانَ الِاسْتِيعَاب فرضا لَا يتَحَقَّق فِيهِ الْإِكْمَال بِهَذِهِ الصّفة إِلَّا بالتكرار فَكَانَ التّكْرَار مسنونا لغيره وَهُوَ تَحْصِيل صفة الْإِكْمَال بِهِ لَا لعَينه وَفِي الْمَمْسُوح الِاسْتِيعَاب لَيْسَ بِرُكْن فَيَقَع الِاسْتِغْنَاء عَن التّكْرَار فِي إِقَامَة سنة الْكَمَال بل بِالزِّيَادَةِ على الْقدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 الْمَفْرُوض باستيعاب جَمِيع الرَّأْس بِالْمَسْحِ مرّة وَاحِدَة يحصل الْإِكْمَال وَمَا كَانَ مَشْرُوعا لغيره فَإِنَّمَا يشرع بِاعْتِبَارِهِ فِي مَوضِع تتَحَقَّق الْحَاجة إِلَيْهِ فَأَما إِذا كَانَ مَا شرع لأَجله يحصل بِدُونِهِ لَا يُفِيد اعْتِبَاره أَلا ترى أَنه لَو كرر الْمسْح فِي ربع الرَّأْس أَو أدنى مَا يتَنَاوَلهُ الِاسْم لَا يحصل بِهِ كَمَال السّنة مَا لم يستوعب جَمِيع الرَّأْس بِالْمَسْحِ فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن الْإِكْمَال هُنَا بالاستيعاب وَأَنه هُوَ الأَصْل فَيجب الْمصير إِلَيْهِ إِلَّا فِي مَوضِع يتَحَقَّق الْعَجز عَنهُ بِأَن يكون الِاسْتِيعَاب ركنا كَمَا فِي المغسولات فَحِينَئِذٍ يُصَار إِلَى الْإِكْمَال بالتكرار وَلَا يلْزمنَا الْمسْح بالأذنين فَإِنَّهُ مسنون لإكمال الْمسْح بِالرَّأْسِ وَإِن لم يكن فِي مَحل الْمَفْرُوض حَتَّى لَا يتَأَدَّى مسح الرَّأْس بمسح الْأُذُنَيْنِ بِحَال لِأَن ذَلِك الْمسْح لإكمال السّنة فِي الْمسْح بِالرَّأْسِ وَلِهَذَا لَا يَأْخُذ لأذنيه مَاء جَدِيدا عندنَا وَلَكِن يمسح مقدمهما ومؤخرهما مَعَ الرَّأْس وَالْمسح فيهمَا أفضل من الْغسْل إِلَّا أَن كَون الْأُذُنَيْنِ من الرَّأْس لما كَانَ ثَابتا بِالسنةِ دون نَص الْكتاب يثبت اتِّحَاد الْمحل فِيمَا يرجع إِلَى إِكْمَال السّنة بِهِ وَلَا تثبت الْمَحَلِّيَّة فِيمَا يتَأَدَّى بِهِ الْفَرْض الثَّابِت بِالنَّصِّ فَقُلْنَا لَا يَنُوب مسح الْأُذُنَيْنِ عَن الْمسْح بِالرَّأْسِ لهَذَا وَمن ذَلِك تَعْلِيلهم فِي صَوْم رَمَضَان بِمُطلق النِّيَّة أَنه صَوْم فرض فَلَا يتَأَدَّى بِدُونِ التَّعْيِين بِالنِّيَّةِ كَصَوْم الْقَضَاء فَإنَّا نقُول مَا تعنون لهَذَا الحكم ألتعين بِالنِّيَّةِ بعد التعين أَو قبل التعين أم فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فَلَا يَجدونَ بدا من أَن يَقُولُوا قبل التعين لِأَن بعد التعين التَّعْيِين غير مُعْتَبر وَهُوَ لَيْسَ بِشَرْط فِي تأدي صَوْم الْقَضَاء وَإِذا قَالُوا قبل التعين قُلْنَا هَذَا مَمْنُوع فِي الْفَرْع فَإِن التعين حَاصِل هُنَا بِأَصْل الشَّرْع إِذْ الْمَشْرُوع فِي هَذَا الزَّمَان صَوْم الْفَرْض خَاصَّة فَغَيره لَيْسَ بمشروع فَلَا نجد بدا حِينَئِذٍ من الرُّجُوع إِلَى حرف الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن نِيَّة التَّعْيِين هَل يسْقط اشْتِرَاطه بِكَوْن الْمَشْرُوع مُتَعَيّنا فِي ذَلِك الزَّمَان أم لَا يسْقط اعْتِبَاره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 وَمن ذَلِك تَعْلِيلهم فِي بيع المطعوم الَّذِي لَا يدْخل تَحت المعيار بِجِنْسِهِ أَنه بَاعَ مطعوما بمطعوم من جنسه لَا تعرف الْمُسَاوَاة بَينهمَا فِي المعيار فَيكون حَرَامًا كَبيع صبرَة حِنْطَة بصبرة حِنْطَة فَإنَّا نقُول إيش تعنون بِهَذَا الحكم أهوَ حُرْمَة مُطلقَة أم حُرْمَة إِلَى غَايَة التَّسَاوِي فَإِن قَالُوا بِنَا غنية عَن بَيَان هَذَا قُلْنَا لَا كَذَلِك فالحرمة الثَّابِتَة إِلَى غَايَة غير الْحُرْمَة الْمُطلقَة وَالْحكم الَّذِي يَقع التَّعْلِيل لَهُ لَا بُد أَن يكون مَعْلُوما فَإِن قَالَ أَعنِي الْحُرْمَة الْمُطلقَة منعنَا هَذَا الحكم فِي الأَصْل لِأَن الْحُرْمَة هُنَاكَ ثَابِتَة إِلَى غَايَة وَهِي الْمُسَاوَاة فِي الْقدر وَإِن عَنى الْحُرْمَة إِلَى غَايَة فقد تعذر إِثْبَات هَذِه الْحُرْمَة بِالتَّعْلِيلِ فِي الْفَرْع لِأَن إِثْبَات الْحُرْمَة إِلَى غَايَة إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي مَال تتَصَوَّر فِيهِ تِلْكَ الْغَايَة وَمَا لَا يدْخل تَحت المعيار لَا يتَصَوَّر فِيهِ الْغَايَة وَهِي الْمُسَاوَاة فِي المعيار فَكيف يتَحَقَّق إِثْبَات الْحُرْمَة فِيهِ إِلَى غَايَة وَعند هَذَا الْمَنْع يضْطَر إِلَى الرُّجُوع إِلَى حرف الْمَسْأَلَة كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ وَمن ذَلِك تَعْلِيلهم فِي السّلم فِي الْحَيَوَان أَنه مَال يثبت دينا فِي الذِّمَّة مهْرا فَيثبت دينا فِي الذِّمَّة سلما كالثياب فَإنَّا نقُول مَا معنى قَوْلكُم يثبت دينا فِي الذِّمَّة أتريدون بِهِ مَعْلُوم الْوَصْف أم مَعْلُوم الْمَالِيَّة وَالْقيمَة فَإِن قَالَ أَعنِي مَعْلُوم الْوَصْف منعنَا ذَلِك فِي الأَصْل وَهُوَ الْمهْر فقد قَامَت الدّلَالَة لنا على أَنه لَا يشْتَرط فِيمَا يثبت فِي الذِّمَّة مهْرا أَن يكون مَعْلُوم الْوَصْف فَإِن قَالَ نعني مَعْلُوم الْمَالِيَّة وَالْقيمَة منعنَا ذَلِك فِي الْفَرْع فَإِن الْحَيَوَان بعد ذكر الْأَوْصَاف يتَفَاوَت فِي الْمَالِيَّة تَفَاوتا فَاحِشا وَإِن قَالُوا لَا حَاجَة بِنَا إِلَى هَذَا التَّعْيِين قُلْنَا لَا كَذَلِك فاعتبار أحد الدينَيْنِ بِالْآخرِ لَا يَصح مَا لم يثبت أَنَّهُمَا نظيران وَلَا طَرِيق لثُبُوت ذَلِك إِلَّا الإيجاد فِي الطَّرِيق الَّذِي يثبت بِهِ كل وَاحِد من الدينَيْنِ فِي الذِّمَّة وَعند ذَلِك يضْطَر إِلَى الرُّجُوع إِلَى حرف الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن إِعْلَام الْمُسلم فِيهِ على وَجه لَا يبْقى فِيهِ تفَاوت فَاحش فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود وَهُوَ الْمَالِيَّة على وَجه يلْتَحق بذوات الْأَمْثَال فِي صفة الْمَالِيَّة هَل يكون شرطا لجَوَاز عقد السّلم أم لَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 وَمن ذَلِك تَعْلِيلهم فِي اشْتِرَاط التَّقَابُض فِي الْمجْلس فِي بيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ أَن العقد جمع بدلين يجْرِي فيهمَا رَبًّا الْفضل فَيشْتَرط التَّقَابُض كالأثمان فَإنَّا نقُول إيش المُرَاد بقولكم فَيشْتَرط فيهمَا تقابض أهوَ التَّقَابُض لإِزَالَة صفة الدِّينِيَّة أَو لإِثْبَات زِيَادَة معنى الصيانة وَأَحَدهمَا يُخَالف الآخر فَلَا بُد من بَيَان هَذَا فَإِن قَالُوا لِمَعْنى الصيانة منعنَا هَذَا الحكم فِي الْأَثْمَان فاشتراط التَّقَابُض هُنَاكَ عندنَا لإِزَالَة صفة الدِّينِيَّة فَإِن النُّقُود لَا تتَعَيَّن فِي الْعُقُود مَا لم تقبض وَالدّين بِالدّينِ حرَام شرعا وَإِن قَالُوا لإِزَالَة صفة الدِّينِيَّة لَا يتمكنون من إِثْبَات هَذَا الحكم فِي الْفَرْع فالطعام يتَعَيَّن فِي العقد بِالتَّعْيِينِ من غير قبض فَلَا يَجدونَ بدا من الرُّجُوع إِلَى حرف الْمَسْأَلَة وَهُوَ بَيَان أَن اشْتِرَاط الْقَبْض فِي الصّرْف لَيْسَ لإِزَالَة صفة الدِّينِيَّة بل للصيانة عَن معنى الرِّبَا بِمَنْزِلَة الْمُسَاوَاة فِي الْقدر وَمن ذَلِك قَوْلهم فِي من اشْترى أَبَاهُ نَاوِيا عَن كَفَّارَة يَمِينه إِنَّه عتق الْأَب فَلَا تتأدى بِهِ الْكَفَّارَة كَمَا لَو وَرثهُ لأَنا نقُول إِن عنيتم أَنه لَا تتأدى الْكَفَّارَة بِالْعِتْقِ فَنحْن نقُول فِي الْفَرْع لَا تتأدى الْكَفَّارَة بِالْعِتْقِ بل الْكَفَّارَة تتأدى بِفعل مَنْسُوب إِلَى الْمُكَفّر وَالْعِتْق وصف فِي الْمحل ثَابت شرعا وَإِن عنيتم الْإِعْتَاق فَهَذَا غير مَوْجُود فِي الأَصْل لِأَنَّهُ لَا صنع للْوَارِث فِي الْإِرْث حَتَّى يصير بِهِ معتقا وَعند هَذَا لَا بُد من الرُّجُوع إِلَى حرف الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن شِرَاء الْقَرِيب هَل هُوَ إِعْتَاق بطرِيق أَنه متمم عِلّة الْعتْق أم لَيْسَ بِإِعْتَاق وَإِنَّمَا يحصل الْعتْق بِهِ حكما للْملك وَمن ذَلِك قَوْلهم فِي أَن الْكَفَّارَة لَا تتأدى بِطَعَام الْإِبَاحَة إِنَّه نوع تَكْفِير يتَأَدَّى بالتمليك (فَلَا يتَأَدَّى بِدُونِ التَّمْلِيك) كالكسوة لأَنا نقُول لَا تتأدى بِدُونِ التَّمْلِيك مَعَ امْتِثَال الْأَمر (أم بِدُونِ امْتِثَال الْأَمر فَإِن قَالَ بِي غنية عَن بَيَان هَذَا قُلْنَا لَا كَذَلِك لِأَن التَّكْفِير مَأْمُور بِهِ شرعا فَلَا يتَأَدَّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 الْمَأْمُور بِهِ إِلَّا بِمَا فِيهِ امْتِثَال الْأَمر فَإِن قَالَ مَعَ امْتِثَال الْأَمر منعنَا هَذَا الحكم فِي الأَصْل وَهُوَ إِعَارَة الثَّوْب من الْمِسْكِين وَإِن قَالَ بِدُونِ امْتِثَال الْأَمر) قُلْنَا هَذَا مُسلم وَلَكنَّا نمْنَع انعدام امْتِثَال الْأَمر فِي الْفَرْع والمأمور بِهِ هُوَ الْإِطْعَام وَحَقِيقَته التَّمْكِين من الطَّعَام فيضطر إِلَى الرُّجُوع إِلَى حرف الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن حَقِيقَة معنى الْإِطْعَام أهوَ التَّمْكِين بالتغدية والتعشية أم التَّمْلِيك وَمِنْه قَوْلهم فِي الْقطع وَالضَّمان إنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ لِأَنَّهُ أَخذ مَال الْغَيْر بِغَيْر إِذن مَالِكه فَيكون مُوجبا للضَّمَان كالأخذ غصبا فَإنَّا نقُول مَا معنى هَذَا الحكم أهوَ أَن يكون مُوجبا للضَّمَان مَعَ وجود مَا يُنَافِيهِ أم عِنْد عدم مَا يُنَافِيهِ فَإِن قَالَ مَعَ وجود مَا يُنَافِيهِ منعنَا ذَلِك فِي الأَصْل فَإِن غصب الْبَاغِي مَال الْعَادِل لَا يكون مُوجبا للضَّمَان وَإِن كَانَ آخِذا بِغَيْر حق وَبِغير إِذن الْمَالِك وَإِن قَالَ عِنْد عدم مَا يُنَافِيهِ قُلْنَا بِمُوجبِه وَلَكِن لَا نسلم انعدام مَا يُنَافِي الضَّمَان هُنَا فَإِن قطع الْيَد بِسَبَب السّرقَة منَاف للضَّمَان عندنَا أَو مسْقط لَهُ كالإبراء فَلَا يجد بدا من الرُّجُوع إِلَى حرف الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن اسْتِيفَاء الْقطع هَل يكون منافيا للضَّمَان أم لَا وَأما بَيَان إِضَافَة الحكم إِلَى الْوَصْف فَهُوَ على مَا ذكرنَا فِي القَوْل بِمُوجب الْعلَّة فَإِن إِضَافَة الحكم إِلَى الْعِلَل الطردية لَيْسَ بِدَلِيل مُوجب إِضَافَة الحكم إِلَى ذَلِك الْوَصْف بل لكَونه مَوْجُودا عِنْد وجوده ومعدوما عِنْد عَدمه وَقد بَينا أَن الْعَدَم لَا يصلح لإضافة الحكم إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ كل تَعْلِيل يكون بِنَفْي وصف أَو حكم فَإنَّا نمْنَع صَلَاحِية ذَلِك الْوَصْف لإضافة الحكم إِلَيْهِ نَحْو تَعْلِيلهم فِي الْأَخ أَنه لَا يعْتق على أَخِيه إِذا ملكه لِأَنَّهُ لَيْسَ بَينهمَا بعضية كَابْن الْعم فَإنَّا نمْنَع فِي ابْن الْعم أَن يكون انْتِفَاء الْعتْق عِنْد دُخُوله فِي ملكه لهَذَا الْوَصْف إِذْ الْعَدَم لَا يجوز أَن يكون مُوجبا شَيْئا وَكَذَلِكَ قَوْلهم فِي النِّكَاح إِنَّه لَا يثبت بِشَهَادَة الرِّجَال وَالنِّسَاء لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَال كالحدود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 فَإنَّا نمْنَع إِضَافَة هَذَا الحكم فِي الْحُدُود إِلَى هَذَا الْوَصْف لِأَنَّهُ كَون الْحَد لَيْسَ بِمَال لَا يصلح عِلّة لِامْتِنَاع ثُبُوته بِشَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال وتعليلهم فِي الْإِحْصَار بِالْمرضِ أَنه لَا يُفَارِقهُ مَا حل بِهِ بالإحلال كَالَّذي ضل الطَّرِيق الممانعة فِي الأَصْل على هَذَا الْوَجْه وتعليلهم فِي المبتوتة أَنَّهَا لَا تستوجب النَّفَقَة وَلَا يلْحقهَا الطَّلَاق لِأَنَّهَا لَيست بمنكوحة كالمطلقة قبل الدُّخُول فَإنَّا نمْنَع إِضَافَة هَذَا الحكم فِي الأَصْل إِلَى هَذَا الْوَصْف إِذْ الْعَدَم لَا يصلح أَن يكون مُوجبا شَيْئا وعَلى هَذَا فَخرج مَا شِئْت من الْمسَائِل فصل فِي بَيَان فَسَاد الْوَضع قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن فَسَاد الْوَضع فِي الْعِلَل بِمَنْزِلَة فَسَاد الْأَدَاء فِي الشَّهَادَة وَأَنه مقدم على النَّقْض لِأَن الاطراد إِنَّمَا يطْلب بعد صِحَة الْعلَّة كَمَا أَن الشَّاهِد إِنَّمَا يشْتَغل بتعديله بعد صِحَة أَدَاء الشَّهَادَة مِنْهُ فَأَما مَعَ فَسَاد فِي الْأَدَاء لَا يُصَار إِلَى التَّعْلِيل لكَونه غير مُفِيد ثمَّ تَأْثِير فَسَاد الْوَضع أَكثر من تَأْثِير النَّقْض لِأَن بعد ظُهُور فَسَاد الْوَضع لَا وَجه سوى الِانْتِقَال إِلَى عِلّة أُخْرَى فَأَما النَّقْض فَهُوَ جحد مجْلِس يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ فِي مجْلِس آخر وَبَيَانه فِيمَا قَالَ الشَّافِعِي فِي إِسْلَام أحد الزَّوْجَيْنِ إِن الْحَادِث بَينهمَا اخْتِلَاف الدّين فالفرقة بِهِ لَا تتَوَقَّف على قَضَاء القَاضِي كالفرقة بردة أحد الزَّوْجَيْنِ لأَنا نقُول هَذَا الِاخْتِلَاف إِنَّمَا حصل بِإِسْلَام من أسلم مِنْهُمَا فَأَما بِاعْتِبَار بَقَاء من بَقِي على الْكفْر الْحَال حَال الْمُوَافقَة فقد كَانَ بَينهمَا الْمُوَافقَة وَهَذَا على دينه فَعرفنَا أَن الِاخْتِلَاف الْحَادِث بِإِسْلَام الْمُسلم مِنْهُمَا هُوَ سَبَب لعصمة الْملك وَزِيَادَة معنى الصيانة فِيهِ فالتعليل بِهِ لاسْتِحْقَاق الْفرْقَة يكون فَاسِدا وضعا فِي الْفَرْع وَإِن كَانَ صَحِيحا فِي الأَصْل من حَيْثُ إِن الِاخْتِلَاف هُنَاكَ حَادث بِالرّدَّةِ وَهِي سَبَب لزوَال الْملك والعصمة وَكَذَلِكَ قَوْلهم فِي الْمسْح بِالرَّأْسِ إِنَّه ركن فِي الطَّهَارَة فَيسنّ تثليثه كَغسْل الْوَجْه فَاسد وضعا لِأَنَّهُ يرد الْمسْح الْمَبْنِيّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 على التَّخْفِيف إِلَى الْغسْل الْمَبْنِيّ على الْمُبَالغَة ليثبت فِي الْمسْح زِيَادَة غلظ فَوق مَا فِي الْغسْل فَإِن فِي الْغسْل الْإِكْمَال بالتثليث فِي مَحل الْفَرْض خَاصَّة وَبِهَذَا التَّعْلِيل يَجْعَل التَّثْلِيث فِي الْمَمْسُوح مَشْرُوعا للإكمال فِي مَوضِع الْفَرْض وَغير مَوضِع الْفَرْض فَإِن الْفَرْض يتَأَدَّى بِالربعِ وَهُوَ يَجْعَل التَّثْلِيث مسنونا بالاستيعاب وَمن ذَلِك قَوْلهم فِي الضَّرُورَة إِذا حج بنية النَّفْل يَقع عَن الْفَرْض لِأَن فرض هَذِه الْعِبَادَة يتَأَدَّى بِمُطلق النِّيَّة فيتأدى بنية النَّفْل أَيْضا كَالزَّكَاةِ فَإِن التَّصَدُّق بالنصاب على الْفَقِير بِمُطلق النِّيَّة لما كَانَ يتَأَدَّى بِهِ الزَّكَاة فنية النَّفْل كَانَ كَذَلِك وَلَكنَّا نقُول هَذَا فَاسد وضعا لِأَنَّهُ بِهَذَا الطَّرِيق يرد الْمُفَسّر إِلَى الْمُجْمل وَيحمل الْمُقَيد على الْمُطلق وَإِنَّمَا الْمُجْمل يرد إِلَى الْمُفَسّر ليصير بِهِ مَعْلُوم المُرَاد وَالْمُطلق يحمل على الْمُقَيد عِنْده فِي حادثتين أَو فِي حكمين وَعِنْدنَا فِي حَادِثَة وَاحِدَة فِي حكم وَاحِد حَتَّى رددنا مُطلق الْقِرَاءَة فِي صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْيَمين إِلَى الْمُقَيد بالتتابع فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ وَأحد لَا يَقُول الْمُقَيد يحمل على الْمُطلق وَهُوَ نَظِير مُطلق النَّقْد ينْصَرف إِلَى نقد الْبَلَد الْمَعْرُوف لدلَالَة الْعرف فَأَما الْمُقَيد بِنَقْد آخر فَإِنَّهُ لَا يحمل على الْمُطلق لينصرف إِلَى نقد الْبَلَد وَمن ذَلِك قَوْلهم فِي عِلّة الرِّبَا إِن صفة الطّعْم معنى يتَعَلَّق بِهِ الْبَقَاء يعنون أَن بَقَاء النَّفس يكون بالطعم فَيكون ذَلِك عِلّة مُوجبَة لزِيَادَة شرطين فِي العقد على المطعوم عِنْد مُقَابلَة الجنسية وَنحن نقُول هَذَا فَاسد وضعا لِأَن البيع فِي الأَصْل مَا شرع إِلَّا للْحَاجة وَلِهَذَا اخْتصَّ بِالْمَالِ الَّذِي بذله لحوائج النَّاس وَصفَة الطّعْم تكون عبارَة عَن أعظم أَسبَاب الْحَاجة إِلَى ذَلِك المَال لِأَن مَا يتَعَلَّق بِهِ الْبَقَاء يحْتَاج إِلَيْهِ كل وَاحِد وَذَلِكَ إِنَّمَا يصلح عِلّة لصِحَّة العقد وتوسعة الْأَمر فِيهِ لَا للْحُرْمَة لِأَن تَأْثِير الْحَاجة فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 الْإِبَاحَة بِمَنْزِلَة إِبَاحَة الْميتَة عِنْد الضَّرُورَة وَلِهَذَا حل لكل وَاحِد من الْغَانِمين تنَاول مِقْدَار الْحَاجة من الطَّعَام والعلف الَّذِي يكون فِي الْغَنِيمَة فِي دَار الْحَرْب قبل الْقِسْمَة بِخِلَاف سَائِر الْأَمْوَال فَكَانَت الْعلَّة فَاسِدَة وضعا مَعَ أَنه لَا تَأْثِير لَهَا فِي إِثْبَات الْمُمَاثلَة بَين الْعِوَضَيْنِ الَّذِي هُوَ شَرط جَوَاز العقد بِالنَّصِّ وَمن ذَلِك قَوْلهم فِي طول الْحرَّة إِن الْحر لَا يجوز لَهُ أَن يرق مَاءَهُ مَعَ غنيته عَنهُ كَمَا لَو كَانَ تَحْتَهُ حرَّة فَإِن تَأْثِير الْحُرِّيَّة فِي أصل الشَّرْع فِي اسْتِحْقَاق زِيَادَة النِّعْمَة والكرامة وَفِي إِثْبَات صفة الْكَمَال فِي الْملك وَلِهَذَا حل للْحرّ أَربع نسْوَة بِالنِّكَاحِ وَلم يحل للْعَبد إِلَّا اثْنَتَانِ فالتعليل لإِثْبَات الْحجر عَن العقد بِصفة الْحُرِّيَّة فِيمَا لَا يثبت الْحجر عَنهُ بِسَبَب الرّقّ يكون فَاسِدا فِي الْوَضع مُخَالفا لأصول الشَّرْع وَمن ذَلِك قَوْلهم فِيمَن جن فِي وَقت صَلَاة كَامِل أَو فِي يَوْم وَاحِد فِي الصَّوْم إِنَّه لَا يلْزمه الْقَضَاء لِأَن الْخطاب عَنهُ سَاقِط أصلا وَوُجُوب الْقَضَاء يبتنى على وجوب الْأَدَاء بِمَنْزِلَة مَا لَو جن أَكثر من يَوْم وَلَيْلَة فِي الصَّلَاة أَو استوعب الْجُنُون الشَّهْر كُله فِي الصَّوْم وَنحن نقُول هَذَا فَاسد وضعا لِأَن الْحَادِث بالجنون عجز عَن فهم الْخطاب والائتمار بِالْأَمر وَلَا أثر للجنون فِي إِخْرَاجه من أَن يكون أَهلا لِلْعِبَادَةِ لِأَن ذَلِك يبتنى على كَونه أَهلا لثوابها والأهلية لثواب الْعِبَادَة بِكَوْنِهِ مُؤمنا وَالْجُنُون لَا يبطل إيمَانه وَلِهَذَا يَرث الْمَجْنُون قَرِيبه الْمُسلم وَلَا يفرق بَين الْمَجْنُونَة وَزوجهَا الْمُسلم وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه لَا يبطل إِحْرَامه بِسَبَب الْجُنُون فَدلَّ أَنه لَا يبطل بِهِ إيمَانه فَكَذَلِك لَا يبطل صَوْمه حَتَّى لَو جن بعد الشُّرُوع فِي الصَّوْم بَقِي صَائِما وَلَا وَجه لإنكار هَذَا فَإِن بعد صِحَة الشُّرُوع فِي الصَّوْم لَا يشْتَرط قيام الْأَهْلِيَّة للبقاء فِيهَا سوى الْكَفّ عَن اقْتِضَاء الشَّهَوَات وَالْجُنُون لَا يَنْفِي تحقق هَذَا الْفِعْل وَإِذا بَقِي صَائِما حَتَّى تأدى مِنْهُ عرفنَا أَنه تأدى فرضا كَمَا شرع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 فِيهِ وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك إِلَّا مَعَ تقرر سَبَب الْوُجُوب فِي حَقه وَالدَّلِيل عَلَيْهِ بَقَاء حجَّة الْإِسْلَام فرضا لَهُ بعد الْجُنُون وَبَقَاء مَا أدّى من الصَّلَاة فِي حَالَة الْإِفَاقَة فرضا فِي حَقه فَبِهَذَا التَّحْقِيق يتَبَيَّن أَن سَبَب الْوُجُوب مُتَحَقق مَعَ الْجُنُون وَالْخطاب بِالْأَدَاءِ سَاقِط عَنهُ لعَجزه عَن فهم الْخطاب وَذَلِكَ لَا يَنْفِي صِحَة الْأَدَاء فرضا بِمَنْزِلَة من لم يبلغهُ الْخطاب فَإِنَّهُ تتأدى مِنْهُ الْعِبَادَة بِصفة الْفَرْضِيَّة كمن أسلم فِي دَار الْحَرْب وَلم تبلغه فَرضِيَّة الْخطاب لَا يكون مُخَاطبا بهَا وَمَعَ ذَلِك إِذا أَدَّاهَا كَانَت فرضا لَهُ وَكَذَلِكَ النَّائِم والمغمى عَلَيْهِ فَإِن الْخطاب بِالْأَدَاءِ سَاقِط عَنْهُمَا قبل الانتباه والإفاقة ثمَّ كَانَ السَّبَب متقررا فِي حَقّهمَا فَكَانَ التَّعْلِيل بِسُقُوط فعل الْأَدَاء عَنهُ لعَجزه عَن فهم الْخطاب على نفي سَبَب الْوُجُوب فِي حَقه أصلا فَيكون فَاسِدا وضعا مُخَالفا للنَّص وَالْإِجْمَاع وَلِأَن الْخطاب بِالْأَدَاءِ يشْتَرط لثُبُوت التَّمَكُّن من الائتمار وَذَلِكَ لَا يكون بِدُونِ الْعقل والتمييز فسقوطه لِانْعِدَامِ شَرطه لَا يجوز أَن يكون دَلِيلا على نفي تقرر السَّبَب وَثُبُوت الْوُجُوب الَّذِي هُوَ حكم السَّبَب على وَجه لَا صنع للْعَبد فِيهِ بل هُوَ أَمر شَرْعِي يخْتَص بِمحل صَالح لَهُ وَهُوَ الذِّمَّة فَإِذا ثَبت تقرر السَّبَب ثَبت صِحَة الْأَدَاء وَوُجُوب الْقَضَاء عِنْد عدم الْأَدَاء بِشَرْط أَن لَا يلْحقهُ الْحَرج فِي الْقَضَاء فَإِن الْحَرج عذر مسْقط بِالنَّصِّ قَالَ تَعَالَى {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} وَقَالَ تَعَالَى {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} فَعِنْدَ تطاول الْجُنُون حَقِيقَة أَو حكما بتكرار الْفَوَائِت من الصَّلَوَات وباستيعاب الْجُنُون الشَّهْر كُله أسقطنا الْقَضَاء لدفع الْحَرج وَهُوَ عذر مسْقط وَمعنى الْحَرج فِيهِ أَنه تتضاعف عَلَيْهِ الْعِبَادَة الْمَشْرُوعَة فِي وَقتهَا وَلَا يشْتَبه معنى الْحَرج فِي الْأَدَاء عِنْد تضَاعف الْوَاجِب وَلِهَذَا أسقطنا بِعُذْر الْحيض قَضَاء الصَّلَوَات لِأَنَّهَا تبتلى بِالْحيضِ فِي كل شهر عَادَة وَالصَّلَاة يلْزمهَا فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة خمس مَرَّات فَلَو أَوجَبْنَا الْقَضَاء تضَاعف الْوَاجِب فِي زمَان الطُّهْر وَلَا يسْقط بِالْحيضِ قَضَاء الصَّوْم لِأَن فَرضِيَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 الصَّوْم فِي السّنة فِي شهر وَاحِد وَأكْثر الْحيض فِي ذَلِك الشَّهْر عشرَة فإيجاب قَضَاء عشرَة أَيَّام فِي أحد عشر شهرا لَا يكون فِيهِ كثير حرج وَلَا يُؤَدِّي إِلَى تضَاعف الْوَاجِب فِي وقته وَكَذَلِكَ إِذا لَزِمَهَا صَوْم شَهْرَيْن فِي كَفَّارَة الْقَتْل فأفطرت بِعُذْر الْحيض لم يلْزمهَا الِاسْتِقْبَال بِخِلَاف مَا إِذا لَزِمَهَا صَوْم عشرَة أَيَّام متتابعة بِالنذرِ فأفطرت بِعُذْر الْحيض فِي خلالها يلْزمهَا الِاسْتِقْبَال لِأَنَّهَا قَلما تَجِد شَهْرَيْن خاليين عَن الْحيض عَادَة فَفِي التَّحَرُّز عَن الْفطر بِعُذْر الْحيض فِي شَهْرَيْن معنى الْحَرج وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك فِي عشرَة أَيَّام وَلِهَذَا أسقطنا قَضَاء الْعِبَادَات عَن الصَّبِي بعد الْبلُوغ لِأَن الصَّبِي لَا يكون إِلَّا متطاولا عَادَة فَيتَحَقَّق معنى الْحَرج فِي إِيجَاب الْقَضَاء وَلم يسْقط الْقَضَاء عَن النَّائِم لِأَنَّهُ لَا يكون متطاولا عَادَة فَلَا يلْحقهُ الْحَرج فِي إِيجَاب الْقَضَاء بعد الانتباه وألحقنا الْإِغْمَاء بالجنون فِي حكم الصَّلَاة لِأَن ذَلِك يُوجد عَادَة فِي مِقْدَار مَا يتَكَرَّر بِهِ الْفَائِت من الصَّلَاة وألحقناه بِالنَّوْمِ فِي حكم الصَّوْم لِأَنَّهُ لَا يَتَطَاوَل عَادَة بِقدر مَا يثبت بِهِ حكم تطاول الْجُنُون فِي حكم الصَّوْم وَهُوَ أَن يستوعب الشَّهْر كُله وَمن ذَلِك قَوْلهم فِي النُّقُود إِنَّهَا تتَعَيَّن فِي عُقُود الْمُعَاوَضَات لِأَنَّهَا تتَعَيَّن فِي التَّبَرُّعَات كَالْهِبَةِ وَالصَّدَََقَة فتتعين فِي الْمُعَاوَضَات بِمَنْزِلَة الْحِنْطَة وَسَائِر السّلع لأَنا نقُول هَذَا التَّعْلِيل فَاسد وضعا فَإِن التَّبَرُّعَات مَشْرُوعَة فِي الأَصْل للإيثار بِالْعينِ لَا لإِيجَاب شَيْء مِنْهَا فِي الذِّمَّة والمعاوضات لإِيجَاب الْبَدَل بهَا فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء أَلا ترى أَن البيع فِي الْعرف الظَّاهِر إِنَّمَا يكون بِثمن يجب فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء وَالنِّكَاح يكون بِصَدَاق يجب فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء فَكَانَ اعْتِبَار مَا هُوَ مَشْرُوع للإلزام فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء إِنَّمَا هُوَ مَشْرُوع لنقل الْملك وَالْيَد فِي الْعين من شخص إِلَى شخص فِي حكم التَّعْيِين فَاسِدا وضعا أَلا ترى أَن البيع لما كَانَ لنقل الْملك وَالْيَد فِي عين الْمَعْقُود عَلَيْهِ لم يجز أَن يكون مُوجبا الْمَبِيع فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء لَا رخصَة بِسَبَب الْحَاجة إِلَيْهِ فِي السّلم وَذَلِكَ حكم ثَابت بِخِلَاف الْقيَاس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 فَفِيمَا يكون البيع مُوجبا لَهُ فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء وَهُوَ الثّمن لَا يجوز أَن يَجْعَل مُوجبه نقل الْملك وَالْيَد فِيهِ من شخص إِلَى شخص بِالتَّعْيِينِ وَقد عرفنَا أَنه لَا يسْتَحق النَّقْد بِالْعقدِ الَّذِي هُوَ مُعَاوضَة إِلَّا ثمنا وَمَعَ التَّعْيِين لَا يُمكن إِثْبَات مُوجبه فَظهر أَن هَذَا التَّعْيِين لم يُصَادف مَحَله وَأَنه بِمَنْزِلَة هبة المَال دينا فِي ذمَّته من إِنْسَان فَإِنَّهُ لَا يكون صَحِيحا لِأَن مُوجب الْهِبَة نقل الْملك وَالْيَد فِي الْعين فَلَا يجوز أَن يَجْعَل مُوجبه الْإِيجَاب فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء بِالشَّكِّ وَمَا كَانَ تعْيين النَّقْد فِي عقد الْمُعَاوضَة إِلَّا نَظِير الْإِيجَاب فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء بِعقد الْهِبَة فَكَمَا أَن ذَلِك يُنَافِي صِحَة العقد لِأَن مُوجبه نقل الْملك فِي الْعين وَالْيَد فبدون مُوجبه لَا يكون صَحِيحا فَهُنَا لَو تعين بَطل العقد لِأَنَّهُ يَنْعَدِم مَا هُوَ مُوجب هَذَا العقد فِي الثّمن وَهُوَ الالزام فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء وَفِي الْحِنْطَة كَذَلِك فَإِنَّهُ مَتى كَانَ ثمنا كَانَ وَاجِبا فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء فَأَما بعد التَّعْيِين يصير مَبِيعًا فَيكون مُوجب العقد فِيهِ تَحْويل ملك الْعين وَالْيَد من شخص إِلَى شخص والسلع لَا تكون إِلَّا مبيعة وَلِهَذَا لَا يجوز ترك التَّعْيِين فِيهَا فِي غير مَوضِع الرُّخْصَة وَهُوَ السّلم الَّذِي هُوَ ثَابت بِخِلَاف الْقيَاس لِأَنَّهُ لَو صَحَّ ذَلِك كَانَ ثَابتا بِالْعقدِ فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء وَهُوَ خلاف مُوجب العقد فِيهَا وَمن ذَلِك قَوْلهم فِي المُشْتَرِي إِذا أفلس فِي الثّمن قبل النَّقْد إِنَّه يثبت للْبَائِع حق نقض البيع واسترداد سلْعَته لِأَن الثّمن أحد الْعِوَضَيْنِ فِي البيع فالعجز عَن تَسْلِيمه بِحكم العقد يثبت للمتملك حق فسخ العقد دفعا للضَّرَر عَن نَفسه كالعوض الآخر وَهُوَ الْمَبِيع إِذا كَانَ عينا فعجز البَائِع عَن تَسْلِيمه بالإباق أَو كَانَ دينا كالسلم فعجز البَائِع عَن تَسْلِيمه بانقطاعه عَن أَيدي النَّاس لأَنا نقُول هَذَا التَّعْلِيل فَاسد وضعا فَإِن مُوجب البيع فِي الْمَبِيع اسْتِحْقَاق ملك الْعين وَالْيَد وَلِهَذَا لَا نجوز بيع الْعين قبل وجود الْملك وَالْيَد للْبَائِع فِي الْمَبِيع لِأَنَّهُ لَا يتَحَقَّق مِنْهُ اكْتِسَاب سَبَب اسْتِحْقَاق ذَلِك لغيره إِذا لم يكن مُسْتَحقّا لَهُ وَكَذَلِكَ فِي الْمَبِيع الدّين يشْتَرط قدرته على التَّسْلِيم باكتسابه حكما بِكَوْنِهِ مَوْجُودا فِي الْعَالم وباشتراط الْأَجَل الَّذِي هُوَ مُؤثر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 فِي قدرته على التَّسْلِيم باكتسابه فِي الْمدَّة أَو إِدْرَاك غلاته فَإِنَّهُ مُوجب بِالْعقدِ فِي الثّمن الْتِزَامه فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء وَالشّرط فِيهِ ذمَّة صَالِحَة للالتزام فِيهَا وَلِهَذَا لَا يشْتَرط قيام ملك المُشْتَرِي فِي الثّمن وَقدرته على تَسْلِيمه عِنْد العقد حَقِيقَة وَحكما فَتبين بِهَذَا أَن بِسَبَب الْعَجز عَن تَسْلِيم الْمَعْقُود عَلَيْهِ يتَمَكَّن خلل فِيمَا هُوَ مُوجب العقد فِيهِ (وَهُوَ) مُسْتَحقّ بِهِ وبسبب الْعَجز عَن تَسْلِيم الثّمن لَا يتَمَكَّن الْخلَل فِيمَا هُوَ مُوجب العقد فِيهِ وَهُوَ الْتِزَام (الثّمن) فِي الذِّمَّة وَأي فَسَاد أبين من فَسَاد قَول من يَقُول إِذا ثَبت حق الْفَسْخ عِنْد تمكن الْخلَل فِي مُوجب العقد يَنْبَغِي أَن يثبت حق الْفَسْخ بِدُونِ تمكن الْخلَل فِي مُوجب العقد وَالدَّلِيل على مَا قُلْنَا جَوَاز إِسْقَاط حق قبض الثّمن بِالْإِبْرَاءِ أصلا وَعدم جَوَاز ذَلِك فِي الْمَبِيع الْمعِين قبل الْقَبْض حَتَّى إِنَّه إِذا وهبه من البَائِع وَقَبله كَانَ فسخا للْبيع بَينهمَا وَلَا يدْخل على مَا ذكرنَا الْكِتَابَة فَإِن عجز الْمكَاتب عَن أَدَاء بدل الْكِتَابَة بعد مَحل الْأَجَل تمكن الْمولى من الْفَسْخ وَالْبدل هُنَاكَ مَعْقُود بِهِ يثبت فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء وَلَا يتَمَكَّن الْخلَل فِيمَا هُوَ مُوجب العقد فِيهِ بِسَبَب الْعَجز عَن تَسْلِيمه لِأَن مُوجب العقد لُزُوم بدل الْكِتَابَة على أَن يصير ملكا للْمولى بعد حل الْأَجَل بِالْأَدَاءِ فَإِن الْمولى لَا يسْتَوْجب على عَبده دينا وَلِهَذَا لَا تجب الزَّكَاة فِي بدل الْكِتَابَة وَلَا تصح الْكفَالَة بِهِ فَعرفنَا أَن الْملك هُنَاكَ لَا يسْبق الْأَدَاء فَإِذا عجز عَن الْأَدَاء فقد تمكن الْخلَل فِي الْملك الَّذِي هُوَ مُوجب العقد فِيهِ فَأَما هُنَا مُوجب العقد ملك الثّمن دينا فِي الذِّمَّة ابْتِدَاء وَذَلِكَ قد تمّ بِنَفس العقد وبسبب الإفلاس لَا يتَمَكَّن الْخلَل فِيمَا هُوَ مُوجب العقد وَلِهَذَا لَو مَاتَ مُفلسًا لَا يتَمَكَّن البَائِع من فسخ العقد أَيْضا وَإِن لم تبْق صَلَاحِية الْمحل وَهُوَ الذِّمَّة بعد مَوته مُفلسًا لِأَن بِنَفس العقد قد تمّ مُوجب العقد فِيهِ فَمَا كَانَ فَوَاته بعد ذَلِك إِلَّا بِمَنْزِلَة هَلَاك الْمَبِيع بعد الْقَبْض وَذَلِكَ لَا يُوجب انْفِسَاخ العقد وَلَا يثبت للْمُشْتَرِي بِهِ حق الْفَسْخ فَهَذَا مثله وَهَذِه الْمسَائِل فقههم فِيهَا بطرِيق إِحَالَة الْعلَّة أظهر وأنور للقلوب وَقد بَينا فَسَاد الْوَضع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 فِي عللهم فِيهَا ليتبين لَك أَن أَكثر مَا يعللون بِهِ فِي الْمسَائِل بِهَذَا الطَّرِيق فَاسد إِذا تَأَمَّلت فِيهِ وَأَن أعدل الطّرق فِي تَصْحِيح الْعلَّة مَا كَانَ عَلَيْهِ السّلف من اعْتِبَار التَّأْثِير فصل المناقضة قد بَينا تَفْسِير النَّقْض وَحده فِيمَا مضى وَهَذَا الْفَصْل لبَيَان الدّفع بالمناقضة يلجىء أَصْحَاب الطَّرْد إِلَى الِاحْتِجَاج بالتأثير وَبَيَانه فِيمَا علل بِهِ الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي اشْتِرَاط النِّيَّة فِي الْوضُوء أَن التَّيَمُّم وَالْوُضُوء طهارتان كَيفَ يفترقان لِأَن عِنْد إِطْلَاق إِنْكَار التَّفْرِقَة بَينهمَا ينْتَقض بِكُل وَجه يفترقان فِيهِ من اشْتِرَاط أصل الْفِعْل فِي التَّيَمُّم دون الْوضُوء وَمن اشْتِرَاط الْأَعْضَاء الْأَرْبَعَة فِي الْوضُوء دون التَّيَمُّم وَمن صفة كل وَاحِد مِنْهُمَا وَغير ذَلِك مِمَّا يفترقان فِيهِ فَإِن قَالَ عنيت إِثْبَات التَّسْوِيَة بَينهمَا فِي اشْتِرَاط النِّيَّة خَاصَّة بِهَذَا الْوَصْف قُلْنَا هُوَ بَاطِل بِغسْل النَّجَاسَة عَن الثَّوْب أَو الْبدن فَإِنَّهُ طَهَارَة ثمَّ لَا يشْتَرط فِيهِ النِّيَّة فيضطر عِنْد ذَلِك إِلَى الرُّجُوع إِلَى التَّأْثِير وَهُوَ أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا طَهَارَة حكمِيَّة غير معقولة الْمَعْنى بل ثَابِتَة شرعا بطرِيق التَّعَبُّد إِذْ لَيْسَ على الْأَعْضَاء شَيْء يَزُول بِهَذِهِ الطَّهَارَة وَالْعِبَادَة لَا تتأدى بِدُونِ النِّيَّة بِخِلَاف غسل النَّجَاسَة فَإِنَّهُ مَعْقُول بِمَا فِيهِ من إِزَالَة عين النَّجَاسَة عَن الثَّوْب أَو الْبدن وَنحن نقُول المَاء بطبعه مطهر كَمَا أَنه بطبعه مزيل فَإِنَّهُ خلق لذَلِك قَالَ الله تَعَالَى {وأنزلنا من السَّمَاء مَاء طهُورا} وَالطهُور الطَّاهِر بِنَفسِهِ المطهر لغيره يعْمل فِي التَّطْهِير من غير النِّيَّة كالنار لما كَانَت محرقة بطبعها تعْمل فِي الإحراق بِغَيْر النِّيَّة ثمَّ الْحَدث لَا يخْتَص بالأعضاء بل يثبت حكمه فِي جَمِيع الْبدن كالجنابة وَالْحيض وَالنّفاس لِأَنَّهُ لَو اخْتصَّ بِموضع كَانَ أولى الْمَوَاضِع بِهِ مخرج الْحَدث وَلَا يثبت لُزُوم التَّطْهِير فِي ذَلِك الْموضع فَعرفنَا أَنه ثَابت فِي جَمِيع الْبدن إِلَّا أَن الشَّرْع أَقَامَ غسل الْأَعْضَاء الَّتِي هِيَ ظَاهِرَة وَهِي بِمَنْزِلَة الْأُمَّهَات فِي تطهيرها بِالْمَاءِ مقَام جَمِيع الْبدن تيسيرا على الْعباد لِأَن إِقَامَة الْغسْل فِيهَا تيسير على وَجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 لَا يَتَيَسَّر فِي سَائِر أَجزَاء الْبدن وَسبب الْحَدث تعم بِهِ الْبلوى ويعتاد تكراره فِي كل وَقت وَبَقِي حكم تَطْهِير جَمِيع الْبدن بِالْغسْلِ فِي الْجَنَابَة وَالْحيض وَالنّفاس على أصل الْقيَاس فَظهر أَن مَا لَا يعقل فِيهِ الْمَعْنى بل هُوَ ثَابت شرعا إِقَامَة الْمحَال الْمَخْصُوصَة مقَام جَمِيع الْبدن لَا فعل هُوَ اسْتِعْمَال المَاء فِي حُصُول الطَّهَارَة بِهِ وكلامنا فِي اشْتِرَاط النِّيَّة فِي الْفِعْل الَّذِي يحصل بِهِ الطَّهَارَة دون الْمحل وَفِي هَذِه الطَّهَارَة من الْحَدث والجنابة بِمَنْزِلَة غسل النَّجَاسَة وَكَذَلِكَ الْمسْح بِالرَّأْسِ فَإِنَّهُ قَائِم مقَام فعل الْغسْل الَّذِي هُوَ تَطْهِير فِي ذَلِك الْعُضْو بِمَعْنى التَّيْسِير بِخِلَاف التَّيَمُّم فَإِنَّهُ فِي الأَصْل تلويث وتغبير وَهُوَ ضد التَّطْهِير وَلِهَذَا لَا يرْتَفع بِهِ الْحَدث فَعرفنَا أَنه جعل طَهَارَة لضَرُورَة الْحَاجة إِلَى أَدَاء الصَّلَاة فَإِنَّمَا يكون طَهَارَة بِشَرْط إِرَادَة الصَّلَاة وَهَذَا الشَّرْط لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِالنِّيَّةِ وَمَا يَقُول إِن فِي الْوضُوء والاغتسال معنى الْعِبَادَة فَشرط الْعِبَادَة النِّيَّة فَهُوَ مُسلم عندنَا وَمَتى لم تُوجد النِّيَّة لَا يكون وضوءه عبَادَة وَلَكِن الطَّهَارَة الَّتِي هِيَ شَرط صِحَة أَدَاء الصَّلَاة مَا يكون مزيلا للْحَدَث لَا مَا يكون عبَادَة وَاسْتِعْمَال المَاء فِي مَحل الطَّهَارَة بِدُونِ النِّيَّة مزيل للْحَدَث فَبِهَذَا التَّقْرِير تبين أَن الْوضُوء نَوْعَانِ نوع هُوَ عبَادَة وَهُوَ لَا يحصل بِدُونِ النِّيَّة وَنَوع هُوَ مزيل للْحَدَث وَهُوَ حَاصِل بِغَيْر النِّيَّة بِمَنْزِلَة الْغسْل الَّذِي هُوَ مزيل للنَّجَاسَة وَهُوَ مُثبت شَرط جَوَاز الصَّلَاة وَمن ذَلِك قَوْلهم الطَّلَاق لَيْسَ بِمَال فَلَا يثبت بِشَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال كالحدود فَإِن مُطلق هَذِه الْعبارَة تنْتَقض بالبكارة وَالرّضَاع فَلَا بُد من الرُّجُوع إِلَى التَّأْثِير وَهُوَ أَن شَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال لَيْسَ بِحجَّة أَصْلِيَّة وَلكنهَا حجَّة ضَرُورَة يجوز الْعَمَل بهَا شرعا فِيمَا تكْثر بِهِ الْبلوى والمعاملة فِيهِ بَين النَّاس فِي كل وَقت وَذَلِكَ الْأَمْوَال وَمَا يتبع الْأَمْوَال فَفِيمَا لَا يكثر فِيهِ الْبلوى لَا تجْعَل فِيهِ شَهَادَة النِّسَاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 حجَّة وَالنِّكَاح وَالطَّلَاق وَالْوكَالَة وَمَا أشبه ذَلِك لَا يُوجد فِيهَا من عُمُوم الْبلوى مثل مَا يكون فِي الْأَمْوَال وَنحن نقُول إِنَّهَا حجَّة أَصْلِيَّة بِمَنْزِلَة شَهَادَة الرِّجَال وَلَكِن فِيهَا ضرب شُبْهَة بِاعْتِبَار نُقْصَان عقل النِّسَاء لتوهم الضلال وَالنِّسْيَان لِكَثْرَة غفلتهن وَلِهَذَا ضمت إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى ليكونا كَرجل وَاحِد فِي الشَّهَادَة فَإِنَّمَا لَا يثبت بِهَذِهِ الشَّهَادَة مَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ كالحدود فَأَما النِّكَاح يثبت مَعَ الشُّبُهَات أَلا ترى أَنه أسْرع ثبوتا من المَال حَتَّى يَصح من الهازل وَالْمكْره والمخطىء عندنَا وَكَذَلِكَ الطَّلَاق وَالْوكَالَة فَإِنَّهَا تثبت مَعَ الْجَهَالَة فتحتمل التَّعْلِيق بِالشّرطِ فَكَانَت أقرب إِلَى الثُّبُوت مَعَ الشُّبْهَة من الْأَمْوَال بِخِلَاف الْحُدُود وَمن ذَلِك قَوْلهم الْغَصْب عدوان مَحْض فَلَا يكون سَببا للْملك فِي الْعين كَالْقَتْلِ لِأَن هَذَا ينْتَقض باستيلاد الْأَب جَارِيَة ابْنه واستيلاد أحد الشَّرِيكَيْنِ الْجَارِيَة الْمُشْتَركَة فَإِنَّهُ عدوان من حَيْثُ إِنَّه حرَام ثمَّ كَانَ سَببا للْملك فيضطر الْمُعَلل عِنْد إِيرَاد هَذَا النَّقْض إِلَى الرُّجُوع إِلَى التَّأْثِير وَهُوَ أَن الْفِعْل إِنَّمَا يتمخض عُدْوانًا إِذا خلا عَن نوع شُبْهَة واستيلاد أحد الشَّرِيكَيْنِ لم يخل عَن ذَلِك فَإِنَّهُ بِاعْتِبَار جَانب ملكه يتَمَكَّن شُبْهَة فِي هَذَا الْفِعْل وَكَذَلِكَ مَا للْأَب من الْحق فِي مَال وَلَده يُمكن شُبْهَة فَنَقُول عِنْد ذَلِك الْغَصْب الَّذِي هُوَ عدوان مَحْض لَا يكون سَببا لملك الْعين عندنَا وَلَكِن ثُبُوت الْملك فِي بدل الْعين وَهُوَ حكم مَشْرُوع غير مَوْصُوف بِأَنَّهُ عدوان هُوَ الَّذِي ثَبت بِهِ الْملك فِي الْعين شرطا لَهُ على مَا قَررنَا وَمن ذَلِك قَوْله فِي الْمَنَافِع إِن الْمُتْلف مَال فَيكون مَضْمُونا على الْمُتْلف ضمانا يسْتَوْفى كَالْعَيْنِ لِأَن ظَاهر هَذَا ينْتَقض بِمَا إِذا كَانَ الْمُتْلف مُعسرا لَا يجد شَيْئا فَإِن قَالَ هُنَاكَ الضَّمَان وَاجِب عِنْدِي وَلَكِن يتَأَخَّر الِاسْتِيفَاء لعجز من عَلَيْهِ عَن الْمثل الَّذِي يُؤَدِّي بِهِ الضَّمَان قُلْنَا هَكَذَا نقُول فِي الْفَرْع فَإِن عندنَا يتَأَخَّر اسْتِيفَاء الضَّمَان إِلَى الْآخِرَة للعجز عَن الْمثل الَّذِي يُوفي بِهِ هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 الضَّمَان فَإِن ضَمَان الْعدوان يتَقَدَّر بِالْمثلِ بِالنَّصِّ وَلَيْسَ للمنفعة مثل فِي صفة الْمَالِيَّة يُمكن استيفاؤها فِي الدُّنْيَا وَعند ذَلِك يتَبَيَّن فقه الْمَسْأَلَة أَن الْمَانِع من إِلْزَام الضَّمَان عندنَا انعدام الْمُمَاثلَة لظُهُور التَّفَاوُت بَين الْمَنَافِع والأعيان فِي صفة الْمَالِيَّة وَقد تقدم بَيَان ذَلِك فيقرر بِمَا ذكرنَا أَن الِاعْتِمَاد على الاطراد من غير طلب التَّأْثِير ضَعِيف فِي بَاب الِاحْتِجَاج وَأَنه بِمَنْزِلَة الِاحْتِجَاج بِلَا دَلِيل على مَا أوضحنا فِيهِ السَّبِيل فصل فِي بَيَان الِانْتِقَال قَالَ رَضِي الله عَنهُ الِانْتِقَال على أَرْبَعَة أوجه انْتِقَال من عِلّة إِلَى عِلّة أُخْرَى لإِثْبَات الأولى بهَا وانتقال من حكم إِلَى حكم لإثباته بِالْعِلَّةِ الأولى وانتقال من حكم إِلَى حكم (آخر) لإثباته بعلة أُخْرَى وَهَذِه الْأَوْجه الثَّلَاثَة مُسْتَقِيمَة على طَرِيق النّظر لَا تعد من الِانْقِطَاع أما الأول فَلِأَن الْمُعَلل إِنَّمَا الْتزم إِثْبَات الحكم بِمَا ذكره من الْعلَّة ويمكنه من ذَلِك بِإِثْبَات الْعلَّة فَمَا دَامَ سَعْيه فِيمَا يرجع إِلَى إِثْبَات تِلْكَ الْعلَّة يكون ذَلِك وَفَاء مِنْهُ بِمَا الْتزم لَا أَن يكون إعْرَاضًا عَن ذَلِك واشتغالا بِشَيْء آخر وَبَيَان هَذَا فِيمَا إِذا عللنا فِي نفي الضَّمَان عَن الصَّبِي الْمُسْتَهْلك للوديعة بِأَنَّهُ اسْتِهْلَاك عَن تسليط صَحِيح ثمَّ نشتغل بِإِثْبَات هَذِه الْعلَّة فَإِنَّهُ يكون هَذَا انتقالا من عِلّة إِلَى أُخْرَى لإِثْبَات الْعلَّة الأولى بهَا وَلَا يشك أحد فِي أَن ذَلِك مُسْتَقِيم على طَرِيق النّظر وعَلى هَذَا إِذا اشْتغل بِإِثْبَات الأَصْل الَّذِي يتَفَرَّع مِنْهُ مَوضِع الْخلاف حَتَّى يرْتَفع الْخلاف بِإِثْبَات الأَصْل فَإِن ذَلِك حسن صَحِيح نَحْو مَا إِذا وَقع الِاخْتِلَاف فِي الْجَهْر بِالتَّسْمِيَةِ فَإِذا قَالَ الْمُعَلل هَذَا يبتنى على أصل وَهُوَ أَن التَّسْمِيَة لَيست بِآيَة من الْفَاتِحَة ثمَّ يشْتَغل بِإِثْبَات ذَلِك الأَصْل حَتَّى يثبت الْفَرْع بِثُبُوت الأَصْل يكون مُسْتَقِيمًا وَكَذَلِكَ إِذا علل بِقِيَاس فَقَالَ خَصمه الْقيَاس عِنْدِي لَيْسَ بِحجَّة فاشتغل بِإِثْبَات كَونه حجَّة بقول صَحَابِيّ فَيَقُول خَصمه قَول الْوَاحِد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 من الصَّحَابَة عِنْدِي لَيْسَ بِحجَّة فاشتغل بِإِثْبَات كَونه حجَّة بِخَبَر الْوَاحِد فَيَقُول خَصمه خبر الْوَاحِد عِنْدِي لَيْسَ بِحجَّة فيحتج بِكِتَاب على أَن خبر الْوَاحِد حجَّة فَإِنَّهُ يكون طَرِيقا مُسْتَقِيمًا وَيكون هَذَا كُله سعيا فِي إِثْبَات مَا رام إثْبَاته فِي الِابْتِدَاء وَأما الثَّانِي فَلِأَن الِانْتِقَال من حكم إِلَى حكم إِنَّمَا يكون عِنْد مُوَافقَة الْخصم فِي الحكم الأول وَمَا كَانَ مَقْصُود الْمُعَلل إِلَّا طلب الْمُوَافقَة فِي ذَلِك الحكم فَإِذا وَافقه خَصمه فِيهِ فقد تمّ مَقْصُوده ثمَّ الِانْتِقَال بعده إِلَى حكم آخر ليثبته بِالْعِلَّةِ الأولى يدل على قُوَّة تِلْكَ الْعلَّة فِي إجرائها فِي المعلولات وعَلى حذاقة الْمُعَلل فِي إِثْبَات الحكم بِالْعِلَّةِ وَذَلِكَ نَحْو مَا إِذا عللنا فِي تَحْرِير الْمكَاتب عَن كَفَّارَة الْيَمين لِأَن الْكِتَابَة عقد مُعَاوضَة يحْتَمل الْفَسْخ فَلَا تخرج الرَّقَبَة من أَن تكون محلا للصرف إِلَى الْكَفَّارَة كَالْبيع فَإِذا قَالَ الْخصم عِنْدِي عقد الْكِتَابَة لَا يخرج الرَّقَبَة من الصلاحية لذَلِك وَلَكِن نُقْصَان الرّقّ هُوَ الَّذِي يخرج الرَّقَبَة من ذَلِك فَنَقُول بِهَذِهِ الْعلَّة يجب أَن لَا يتَمَكَّن نُقْصَان فِي الرّقّ لِأَن مَا يُمكن نُقْصَانا فِي الرّقّ لَا يكون فِيهِ احْتِمَال الْفَسْخ فَهَذَا إِثْبَات الحكم الثَّانِي بِالْعِلَّةِ الأولى أَيْضا وَهُوَ نِهَايَة فِي الحذاقة وَكَذَلِكَ إِن تعذر إِثْبَات الحكم الثَّانِي بِالْعِلَّةِ الأولى فَأَرَادَ إثْبَاته بِالْعِلَّةِ بعلة أُخْرَى لِأَنَّهُ مَا ضمن بتعليله إِثْبَات جَمِيع الْأَحْكَام بِالْعِلَّةِ الأولى وَإِنَّمَا ضمن إِثْبَات الحكم الَّذِي زعم أَن خَصمه ينازعه فِيهِ فَإِذا أظهر الْخصم الْمُوَافقَة فِيهِ وَاحْتَاجَ إِلَى إِثْبَات حكم آخر يكون لَهُ أَن يثبت ذَلِك بعلة أُخْرَى وَلَا يكون هَذَا انْقِطَاعًا مِنْهُ فَأَما الْوَجْه الرَّابِع وَهُوَ الِانْتِقَال من عِلّة إِلَى عِلّة أُخْرَى لإِثْبَات الحكم الأول فَمن أهل النّظر من صحّح ذَلِك أَيْضا وَلم يَجعله انْقِطَاعًا اسْتِدْلَالا بِقصَّة الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام حِين حَاج اللعين بقوله تَعَالَى {رَبِّي الَّذِي يحيي وَيُمِيت} فَلَمَّا قَالَ اللعين {أَنا أحيي وأميت} حاجه بقوله تَعَالَى {فَإِن الله يَأْتِي بالشمس من الْمشرق فأت بهَا من الْمغرب} وَكَانَ ذَلِك (مِنْهُ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 انتقالا من حجَّة إِلَى حجَّة لإِثْبَات شَيْء وَاحِد وَقد ذكر الله تَعَالَى ذَلِك عَنهُ على وَجه الْمَدْح لَهُ بِهِ فَعرفنَا أَنه مُسْتَقِيم وَكَذَلِكَ الْمُدَّعِي إِذا أَقَامَ شَاهِدين فعورض بِجرح فيهمَا كَانَ لَهُ أَن يُقيم شَاهِدين آخَرين لإِثْبَات حَقه وَالْمذهب الصَّحِيح عِنْد عَامَّة الْفُقَهَاء أَن هَذَا النَّوْع من الِانْقِطَاع لِأَنَّهُ رام إِثْبَات الحكم بِالْعِلَّةِ الأولى فانتقاله عَنْهَا إِلَى عِلّة أُخْرَى قبل أَن يثبت الحكم بِالْعِلَّةِ الأولى لَا يكون إِلَّا لعجز عَن إثْبَاته بِالْعِلَّةِ الأولى وَهَذَا انْقِطَاع على مَا نبينه فِي فَصله ثمَّ مجَالِس النّظر للإبانة فَلَو جَوَّزنَا الِانْتِقَال فِيهَا من عِلّة إِلَى عِلّة أدّى ذَلِك إِلَى أَن يَتَطَاوَل الْمجْلس وَلَا يحصل مَا هُوَ الْمَقْصُود وَهُوَ الْإِبَانَة وَكَانَ هَذَا نَظِير نقض يتَوَجَّه على الْعلَّة فَإِنَّهُ لَا يشْتَغل بالاحتراز عَنهُ وَلَكِن إِذا تعذر دَفعه بِمَا ذكره الْمُعَلل فِي الِابْتِدَاء يظْهر بِهِ انْقِطَاعه فِي ذَلِك الْمجْلس فَهَذَا مثله فَأَما قصَّة الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَهُوَ مَا انْتقل قبل ظُهُور الْحجَّة الأولى لَهُ وَلَكِن الأولى كَانَت حجَّة ظَاهِرَة لم يطعن خَصمه فِيهَا إِنَّمَا ادّعى دَعْوَى مُبتَدأَة بقوله {أَنا أحيي وأميت} وكل مَا صنعه مَعْلُوم الْفساد عِنْد المتأملين إِلَّا أَنه كَانَ فِي الْقَوْم من يتبع الظَّاهِر وَلَا يتَأَمَّل فِي حَقِيقَة الْمَعْنى فخاف الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الِاشْتِبَاه على أمثالهم فضم إِلَى الْحجَّة الأولى حجَّة ظَاهِرَة لَا يكَاد يَقع فِيهَا الِاشْتِبَاه فبهت الَّذِي كفر وَهَذَا مستحسن فِي طَرِيق النّظر لَا يشك فِيهِ فَإِن الْمُعَلل إِذا أثبت علته يَقُول وَالَّذِي يُوضح مَا ذكرت فَيَأْتِي بِكَلَام آخر هُوَ أوضح من الأول فِي إِثْبَات مَا رام إثْبَاته وَهَذَا لِأَن حجج الشَّرْع أنوار فضم حجَّة إِلَى حجَّة كضم سراج إِلَى سراج وَذَلِكَ لَا يكون دَلِيلا على ضعف أَحدهمَا أَو بطلَان أَثَره فَكَذَلِك ضم حجَّة إِلَى حجَّة وَإِنَّمَا جعلنَا هَذَا انْقِطَاعًا فِي مَوضِع يكون الِانْتِقَال للعجز عَن إِثْبَات الحكم بِالْعِلَّةِ الأولى ثمَّ كل هَذِه التَّصَرُّفَات للمجيب لَا للسَّائِل فَإِن الْمُجيب بَان والسائل هَادِم مَانع وَالْحَاجة إِلَى هَذِه الِانْتِقَالَات للباني الْمُثبت لَا للمانع الدَّافِع على مَا أخبر الله بِهِ عَن اللعين عِنْد إِظْهَار الْخَلِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجَّته بقوله {فبهت الَّذِي كفر} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 فصل بَيَان الِانْقِطَاع ووجوه الِانْقِطَاع أَرْبَعَة أَحدهَا وَهُوَ أظهرها السُّكُوت وَالثَّانِي جحد مَا يعلم ضَرُورَة بطرِيق الْمُشَاهدَة لِأَن سعي الْمُعَلل ليجعل الْغَائِب كالشاهد وَالْعلم بالمشاهدات يثبت ضَرُورَة فَإِذا اشْتغل الْخصم بجحد مثله علم أَنه مَا حمله على ذَلِك إِلَّا عَجزه عَن دفع عِلّة الْمُعَلل فَكَانَ انْقِطَاعًا وَالثَّالِث الْمَنْع بعد التَّسْلِيم فَإِنَّهُ يعلم أَنه لَا شَيْء يحملهُ على الْمَنْع بعد التَّسْلِيم إِلَّا عَجزه عَن الدّفع لما اسْتدلَّ بِهِ خَصمه وَلَا يُقَال يحْتَمل أَن يكون تَسْلِيمه عَن سَهْو أَو غَفلَة لِأَن عِنْد ذَلِك يبين وَجه الدّفع بطرِيق التَّسْلِيم ثمَّ يبْنى عَلَيْهِ اسْتِدْرَاك مَا سَهَا فِيهِ فَأَما أَن يرجع عَن التَّسْلِيم إِلَى الْمَنْع من غير بَيَان الدّفع بطرِيق التَّسْلِيم فَذَلِك لَا يكون إِلَّا للعجز وَالرَّابِع عجز الْمُعَلل عَن تَصْحِيح الْعلَّة الَّتِي قصد إِثْبَات الحكم بهَا حَتَّى انْتقل مِنْهَا إِلَى عِلّة أُخْرَى لإِثْبَات الحكم فَإِن ذَلِك انْقِطَاع لِأَن حكم الِانْقِطَاع مقتضب من لَفظه وَهُوَ قُصُور الْمَرْء عَن بُلُوغ مغزاه وعجزه عَن إِظْهَار مُرَاده ومبتغاه وَهَذَا الْعَجز نَظِير الْعَجز ابْتِدَاء عَن إِقَامَة الْحجَّة على الحكم الَّذِي ادَّعَاهُ وَالله أعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب أَقسَام الْأَحْكَام وأسبابها وعللها وشروطها وعلاماتها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْلَم أَن جملَة مَا ثَبت بالحجج الشَّرْعِيَّة الْمُوجبَة للْعلم بِمَا تقدم ذكرهَا قِسْمَانِ الْأَحْكَام الْمَشْرُوعَة وَمَا يتَعَلَّق بهَا المشروعات فنبدأ بِبَيَان قسم الْأَحْكَام فَنَقُول هَذِه الْأَحْكَام أَرْبَعَة حُقُوق الله خَالِصا وَحُقُوق الْعباد خَالِصا أَيْضا وَمَا يشْتَمل على الْحَقَّيْنِ وَحقّ الله فِيهِ أغلب وَمَا يشْتَمل عَلَيْهِمَا وَحقّ الْعباد فِيهِ أغلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 فَأَما حُقُوق الله خَالِصَة فَهِيَ أَنْوَاع ثَمَانِيَة عبادات مَحْضَة وعقوبات مَحْضَة وعقوبة قَاصِرَة ودائرة بَين الْعِبَادَة والعقوبة وَعبادَة فِيهَا معنى المئونة ومئونة فِيهَا معنى الْعِبَادَة ومئونة فِيهَا معنى الْعقُوبَة وَمَا يكون قَائِما بِنَفسِهِ وَهِي على ثَلَاثَة أوجه مَا يكون مِنْهُ أصلا وَمَا يكون زَائِدا على الأَصْل وَمَا يكون مُلْحقًا بِهِ فَأَما الْعِبَادَات الْمَحْضَة فرأسها الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى وَالْأَصْل فِيهِ التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ فَإِنَّهُ لَا يسْقط بِعُذْر مَا من إِكْرَاه أَو غَيره وتبديله بِغَيْرِهِ يُوجب الْكفْر على كل حَال وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ ركن فِيهِ مَعَ التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ فِي أَحْكَام الدُّنْيَا وَالْآخِرَة جَمِيعًا وَقد يصير الْإِقْرَار أصلا فِي أَحْكَام الدُّنْيَا بِمَنْزِلَة التَّصْدِيق حَتَّى إِذا أكره على الْإِسْلَام فَأسلم بِاللِّسَانِ فَهُوَ مُسلم فِي أَحْكَام الدُّنْيَا لوُجُود ركن الْإِقْرَار وَقيام السَّيْف على رَأسه دَلِيل على أَنه غير مُصدق بِالْقَلْبِ وَلِهَذَا لَا يحكم بِالرّدَّةِ إِذا أكره الْمَرْء عَلَيْهَا لِأَن التَّكَلُّم بِاللِّسَانِ هُنَاكَ دَلِيل مَحْض على مَا فِي الضَّمِير من غير أَن يَجْعَل أصلا بِنَفسِهِ وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ وَإِن كَانَ دَلِيلا على التَّصْدِيق فَعِنْدَ الْإِكْرَاه يَجْعَل أصلا بِنَفسِهِ يثبت بِهِ الْإِيمَان فِي أَحْكَام الدُّنْيَا بِمَنْزِلَة التَّصْدِيق وَيَسْتَوِي إِن أكره الْحَرْبِيّ على ذَلِك أَو الذِّمِّيّ عندنَا لهَذَا الْمَعْنى وَعند الشَّافِعِي مَتى كَانَ الْإِكْرَاه بِحَق بِأَن كَانَ الْمُكْره حَرْبِيّا لَا أَمَان لَهُ كَذَلِك الْجَواب وَمَتى كَانَ بِغَيْر حق بِأَن أكره الذِّمِّيّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يصير مُسلما بِهِ ثمَّ الصَّلَاة بعد الْإِيمَان من أقوى الْأَركان فَإِنَّهَا عماد الدّين مَا خلت عَنْهَا شَرِيعَة الْمُرْسلين وَهِي تَشْمَل الْخدمَة بِظَاهِر الْبدن وباطنه وَلكنهَا صَارَت قربَة بِوَاسِطَة الْبَيْت الَّذِي عظمه الله وأمرنا بتعظيمه لِإِضَافَتِهِ إِلَى نَفسه فَقَالَ {أَن طهرا بَيْتِي للطائفين} الْآيَة حَتَّى لَا تتأدى هَذِه الْقرْبَة إِلَّا باستقبال الْقبْلَة فِي حَالَة الْإِمْكَان وَفِي ذَلِك من معنى التَّعْظِيم مَا أَشَارَ الله تَعَالَى إِلَيْهِ فِي قَوْله {فأينما توَلّوا فثم وَجه الله} ليعلم بِهِ أَن الْمَطْلُوب وَجه الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 وَوجه الله لَا جِهَة لَهُ فَجعل الشَّرْع اسْتِقْبَال جِهَة الْكَعْبَة قَائِما مقَام مَا هُوَ الْمَطْلُوب لأَدَاء هَذِه الْقرْبَة وأصل الْإِيمَان فِيهِ تقرب إِلَى الله تَعَالَى بِلَا وَاسِطَة وَفِي الصَّلَاة تقرب بِوَاسِطَة الْبَيْت فَكَانَت من شرائع الْإِيمَان لَا من نفس الْإِيمَان ثمَّ الزَّكَاة الَّتِي تُؤدِّي بِأحد نَوْعي النِّعْمَة وَهُوَ المَال فالنعم الدُّنْيَوِيَّة نعمتان نعْمَة الْبدن ونعمة المَال والعبادات مَشْرُوعَة لإِظْهَار شكر النِّعْمَة بهَا فِي الدُّنْيَا ونيل الثَّوَاب فِي الْآخِرَة فَكَمَا أَن شكر نعْمَة الْبدن بِعبَادة تُؤدِّي بِجَمِيعِ الْبدن وَهِي الصَّلَاة فَشكر نعْمَة المَال بِعبَادة مُؤَدَّاة بِجِنْس تِلْكَ النِّعْمَة وَإِنَّمَا صَار الْأَدَاء قربَة بِوَاسِطَة المصروف إِلَيْهِ وَهُوَ الْمُحْتَاج على معنى أَن الْمُؤَدِّي يَجْعَل ذَلِك المَال خَالِصا لله تَعَالَى فِي ضمن صرفه إِلَى الْمُحْتَاج ليَكُون كِفَايَة لَهُ من الله تَعَالَى لهَذَا كَانَ دون الصَّلَاة بِدَرَجَة فَإِنَّهَا قربَة بِوَاسِطَة الْبَيْت الَّذِي لَيْسَ من أهل الِاسْتِحْقَاق بِذَاتِهِ وَهَذَا قربَة بِوَاسِطَة الْفَقِير الَّذِي هُوَ من أهل أَن يكون مُسْتَحقّا بِنَفسِهِ لِحَاجَتِهِ ثمَّ الصَّوْم الَّذِي هُوَ من جنس الْمَشْرُوع شكرا لنعمة الْبدن وَلكنه دون الصَّلَاة من حَيْثُ إِنَّه لَا يشْتَمل على أَعمال مُتَفَرِّقَة على أَعْضَاء الْبدن بل يتَأَدَّى بِرُكْن وَاحِد وَهُوَ الْكَفّ عَن اقْتِضَاء الشهوتين شَهْوَة الْبَطن وشهوة الْفرج فَإِنَّمَا صَارَت قربَة بِوَاسِطَة النَّفس المحتاجة إِلَى نيل اللَّذَّات والشهوات فَهِيَ أَمارَة بالسوء كَمَا وصفهَا الله تَعَالَى بِهِ فَفِي قهرها بالكف عَن اقْتِضَاء شهواتها لابتغاء مرضاة الله تَعَالَى معنى الْقرْبَة وبالتأمل فِي هَذِه الْوَسِيلَة يتَبَيَّن أَنه دون مَا سبق ثمَّ الْحَج الَّذِي هُوَ زِيَارَة الْبَيْت الْمُعظم وَعبادَة بطرِيق الْهِجْرَة يشْتَمل على أَرْكَان تخْتَص بأوقات وأمكنة وفيهَا معنى الْقرْبَة بِاعْتِبَار معنى التَّعْظِيم لتِلْك الْأَوْقَات والأمكنة فَأَما الْعمرَة فَإِنَّهَا سنة قَوِيَّة بِاعْتِبَار أَن أَرْكَانهَا من جنس أَرْكَان الْحَج وَمَا بَينا من الْوَسِيلَة لَا يُوجب عددا من الْقرْبَة وَلِهَذَا لَا تَتَكَرَّر فَرضِيَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 الْحَج فِي الْعُمر فَعرفنَا أَن الْعمرَة زِيَارَة وَهِي سنة قَوِيَّة فعلهَا رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَأمر بهَا وَالْجهَاد قربَة بِاعْتِبَار إعلاء كلمة الله وإعزاز الدّين وَلما فِيهِ من توهين الْمُشْركين وَدفع شرهم عَن الْمُسلمين وَلِهَذَا سَمَّاهُ رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام سَنَام الدّين وَكَانَ أَصله فرضا لِأَن إعزاز الدّين فرض وَلكنه فرض كِفَايَة لِأَن الْمَقْصُود وَهُوَ كسر شَوْكَة الْمُشْركين وَدفع شرهم وفتنتهم يحصل بِبَعْض الْمُسلمين فَإِذا قَامَ بِهِ الْبَعْض سقط عَن البَاقِينَ وَالِاعْتِكَاف قربَة زَائِدَة لما فِيهَا من تَعْظِيم الْمَكَان الْمُعظم بالْمقَام فِيهِ وَهُوَ الْمَسْجِد وَلما فِي شَرطهَا من منع النَّفس عَن اقْتِضَاء الشَّهَوَات يَعْنِي الصَّوْم وَالْمَقْصُود بهَا تَكْثِير الصَّلَاة إِمَّا حَقِيقَة أَو حكما بانتظار الصَّلَاة فِي مَكَانهَا على صفة الاستعداد لَهَا بِالطَّهَارَةِ وَأما صَدَقَة الْفطر فَهِيَ عبَادَة فِيهَا معنى المئونة وَلِهَذَا لَا تتأدى بِدُونِ نِيَّة الْعِبَادَة بِحَال وَلَا تجب إِلَّا على الْمَالِك لما يُؤَدِّي بِهِ حَقِيقَة بِمَنْزِلَة الزَّكَاة وَلَكِن لَا يشْتَرط لوُجُوبهَا صفة كَمَال الْملك وَالْولَايَة حَتَّى تجب على الصَّبِي فِي مَاله بِخِلَاف الزَّكَاة وَتجب على الْغَيْر بِسَبَب الْغَيْر فَعرفنَا أَن فِيهَا معنى المئونة كَالنَّفَقَةِ وَأما الْعشْر فَهُوَ مئونة فِيهِ معنى الْعِبَادَة وَالْخَرَاج مئونة فِيهِ معنى الْعقُوبَة من حَيْثُ إِن وجوب كل وَاحِد مِنْهُمَا بِاعْتِبَار حفظ الْأَرَاضِي وإنزالها إِلَّا أَن فِي الْخراج معنى الذل على مَا أَشَارَ إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين رأى آلَة الزِّرَاعَة فِي دَار قوم فَقَالَ مَا دخل هَذَا فِي دَار قوم إِلَّا ذلوا وَكَأن ذَلِك لما فِي الِاشْتِغَال بالزراعة من الْإِعْرَاض عَن الْجِهَاد وَإِنَّمَا يلْتَزم الْخراج من يشْتَغل بِعَمَل الزِّرَاعَة وَلِهَذَا لَا يبتدأ الْمُسلم بالخراج فِي أرضه وَيبقى عَلَيْهِ الْخراج بعد إِسْلَامه لِأَنَّهُ يتَرَدَّد بَين المئونة والعقوبة فَلَا يُمكن إِيجَابه على الْمُسلم ابْتِدَاء لِمَعْنى المئونة لمعارضة معنى الْعقُوبَة إِيَّاه وَلَا يُمكن إِسْقَاطه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 بعد الْوُجُوب إِذا أسلم بِاعْتِبَار معنى الْعقُوبَة لمعارضة معنى المئونة إِيَّاه وَأما الْعشْر فَفِيهِ معنى الْعِبَادَة على معنى أَنه مَصْرُوف إِلَى الْفَقِير كَالزَّكَاةِ وَقد بَينا أَن بِوَاسِطَة هَذَا المصروف يثبت فِيهِ معنى الْقرْبَة وَإِن كَانَ وُجُوبه بِاعْتِبَار مئونة الأَرْض وَلِهَذَا يجب فِي الْأَرَاضِي النامية من غير اشْتِرَاط الْمَالِك لَهَا نَحْو الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَة وَأَرْض الْمكَاتب وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ إِذا تحولت الأَرْض العشرية إِلَى ملك الذِّمِّيّ تصير خَرَاجِيَّة لِأَن فِيهَا معنى الْعِبَادَة وَالْكَافِر لَيْسَ من أهل الْعِبَادَة أصلا وكل وَاحِد مِنْهُمَا وَاجِب بطرِيق المئونة فَعِنْدَ تعذر أَحدهمَا يتَعَيَّن الآخر وَالْخَرَاج يبْقى وَظِيفَة الأَرْض بعد انْتِقَال الْملك فِيهَا إِلَى الْمُسلم لِأَن الْمُسلم من أهل أَن توجب عَلَيْهِ المئونة الَّتِي فِيهَا معنى الْعقُوبَة فَإِنَّهُ بعد الْإِسْلَام أهل لإلزام الْعقُوبَة عِنْد تقرر سَببهَا مِنْهُ وَالْكَافِر لَيْسَ بِأَهْل الْعِبَادَة أصلا فالأهلية لِلْعِبَادَةِ تبتنى على الْأَهْلِيَّة لثوابها وَقَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله يتضاعف الْعشْر على الْكَافِر اعْتِبَارا بالصدقات المضاعفة فِي حق بني تغلب وأبى هَذَا أَبُو حنيفَة رَحمَه الله لِأَن التَّضْعِيف حكم ثَابت بِخِلَاف الْقيَاس بِإِجْمَاع الصَّحَابَة فِي قوم بأعيانهم وَغَيرهم من الْكفَّار لَيْسُوا بمنزلتهم فَأُولَئِك لَا تُؤْخَذ مِنْهُم الْجِزْيَة وَغَيرهم من الْكفَّار تُؤْخَذ مِنْهُم الْجِزْيَة وَمُحَمّد رَحمَه الله يَقُول تبقى عشرِيَّة كَمَا كَانَت لِأَن الْبَقَاء بِاعْتِبَار معنى المئونة كالخراج فِي حق الْمُسلم ثمَّ عَنهُ رِوَايَتَانِ فِي مصرف هَذَا الْعشْر فِي إِحْدَاهمَا يصرف إِلَى الْمُقَاتلَة كالخراج لاعْتِبَار معنى المئونة الْخَالِصَة (وَفِي الْأُخْرَى تكون مصروفة إِلَى الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين لِأَنَّهَا لما بقيت بِاعْتِبَار معنى المئونة تبقى) على مَا كَانَت مصروفة إِلَى من كَانَت مصروفة إِلَيْهِ قبل هَذَا كالخراج فِي حق الْمُسلم وَأما الْحق الْقَائِم بِنَفسِهِ فنحو خمس الْغَنَائِم والمعادن والركاز فَإِنَّهُ لَا يكون وَاجِبا ابْتِدَاء على أحد وَلَكِن بِاعْتِبَار الأَصْل الْغَنِيمَة كلهَا لله تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى {قل الْأَنْفَال لله} وَهَذَا لِأَنَّهَا أُصِيبَت لإعلاء كلمة الله تَعَالَى إِلَّا أَن الله تَعَالَى جعل أَرْبَعَة أخماسها للغانمين على سَبِيل الْمِنَّة عَلَيْهِم فَبَقيَ الْخمس لَهُ كَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 كَانَ فِي الأَصْل مصروفا إِلَى من أَمر بِالصرْفِ إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ خمس الْمَعَادِن فَإِن الْمَوْجُود مَا كَانَ لأحد فِيهِ حق فَجعل الشَّرْع أَرْبَعَة أخماسه للواجد وَبَقِي الْخمس لله مصروفا إِلَى من أَمر بِالصرْفِ إِلَيْهِ وَلِهَذَا جَازَ وضع خمس الْغَنِيمَة فِيمَن هُوَ من جملَة الْغَانِمين عِنْد حَاجتهم وَفِي آبَائِهِم وَأَوْلَادهمْ وَجَاز وضع خمس الْمَعْدن فِي الْوَاجِد عِنْد الْحَاجة فَعرفنَا أَنه لَيْسَ بِوَاجِب عَلَيْهِ بل هُوَ حق الله تَعَالَى قَائِم كَمَا كَانَ وَلِهَذَا جَازَ صرفه إِلَى بني هَاشم لِأَن بِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى لَا يتَمَكَّن فِيهِ معنى الأوساخ بِخِلَاف الصَّدقَات وَأمر الله بِصَرْف الْبَعْض مِنْهُ إِلَى ذَوي الْقُرْبَى وَكَانَ ذَلِك عندنَا بِاعْتِبَار النُّصْرَة الْمَخْصُوصَة الَّتِي تحققت مِنْهُم بالانضمام إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَال مَا هجره النَّاس وَدخُول الشّعب مَعَه لمؤانسته وَالْقِيَام بنصرته فَإِن ذَلِك كَانَ فعلا من جنس الْقرْبَة فَيجوز أَن يتَعَلَّق بِهِ اسْتِحْقَاق مَا هُوَ صلَة ومنة من الله تَعَالَى كاستحقاق أَرْبَعَة الْأَخْمَاس فَأَما الْقَرَابَة خلقَة لَا تسْتَحقّ بذاتها مَال الله تَعَالَى ثمَّ صِيَانة قرَابَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن اسْتِحْقَاق عوض مَالِي بمقابلتها أولى من إِثْبَات الِاسْتِحْقَاق بِسَبَب الْقَرَابَة وَلَا يجوز جعل الْقَرَابَة قرينَة للنصرة أَو النُّصْرَة قرينَة لِلْقَرَابَةِ لما بَينا أَن التَّرْجِيح إِنَّمَا يكون بِمَا لَا يصلح عِلّة بانفرادها للاستحقاق دون مَا يصلح لذَلِك وعَلى هَذَا الأَصْل اسْتِحْقَاق الْمُصَاب من الْغَنِيمَة وَتَمَامه يكون بالإحراز بِالدَّار بعد الْأَخْذ والمسائل على هَذَا الأَصْل يكثر تعدادها إِذا تَأَمَّلت وَذَلِكَ مَعْلُوم فِيمَا أملينا من فروع الْفِقْه فَأَما الْعُقُوبَات الْمَحْضَة فَهِيَ الْحُدُود الَّتِي شرعت زواجر عَن ارْتِكَاب أَسبَابهَا المحصورة حَقًا لله تَعَالَى خَالِصا نَحْو حد الزِّنَا وَالسَّرِقَة وَشرب الْخمر أما الْعقُوبَة القاصرة فنحو حرمَان الْمِيرَاث بِسَبَب مُبَاشرَة الْقَتْل الْمَحْظُور فَإِنَّهَا عُقُوبَة وَلكنهَا قَاصِرَة حَتَّى تثبت فِي حق الخاطىء والنائم إِذا انْقَلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 على مُوَرِثه وَلَا تثبت فِي حق الصَّبِي وَالْمَجْنُون عندنَا أصلا لِأَنَّهَا عُقُوبَة والأهلية للعقوبة لَا تسبق الْخطاب بِخِلَاف الخاطىء إِذا كَانَ بَالغا عَاقِلا فالبالغ الْعَاقِل مُخَاطب وَلكنه بِسَبَب الْخَطَأ يعْذر مَعَ نوع تَقْصِير مِنْهُ فِي التَّحَرُّز وَالصَّبِيّ لَا يُوصف بالتقصير الْكَامِل والناقص فَلَا يثبت فِي حَقه مَا يكون عُقُوبَة قَاصِرَة كَانَت أَو كَامِلَة وَلِهَذَا لَا تثبت فِي حق الْقَائِد والسائق وَالشَّاهِد إِذا رَجَعَ عَن شَهَادَته وحافر الْبِئْر وَوَاضِع الْحجر لِأَنَّهُ جَزَاء على مُبَاشرَة الْقَتْل الْمَحْظُور وَالْمَوْجُود من هَؤُلَاءِ تسبب لَا مُبَاشرَة وَعند الشَّافِعِي هَذَا ضَمَان يتَعَلَّق بِهَذَا الْفِعْل بِمَنْزِلَة الدِّيَة فَيثبت فِي حق الْمُسَبّب والمباشر جَمِيعًا وَفِي حق الصَّبِي والبالغ وَهَذَا غلط بَين لِأَن الضَّمَان مَا يجب جبرانا لحق الْمُتْلف عَلَيْهِ وَيسْقط بِاعْتِبَار رِضَاهُ أَو عَفْو من يقوم مقَامه وحرمان الْمِيرَاث لَيْسَ من ذَلِك فِي شَيْء فَأَما الدائر بَين الْعِبَادَة والعقوبة كالكفارات لِأَنَّهَا مَا وَجَبت إِلَّا جَزَاء على أَسبَاب تُوجد من الْعباد فسميت كَفَّارَة بِاعْتِبَار أَنَّهَا ستارة للذنب فَمن هَذَا الْوَجْه عُقُوبَة فَإِن الْعقُوبَة هِيَ الَّتِي تجب جَزَاء على ارْتِكَاب الْمَحْظُور الَّذِي يسْتَحق المأثم بِهِ وَهِي عبَادَة من حَيْثُ إِنَّهَا تجب بطرِيق الْفَتْوَى وَيُؤمر من عَلَيْهِ بِالْأَدَاءِ بِنَفسِهِ من غير أَن تُقَام عَلَيْهِ كرها وَالشَّرْع مَا فوض إِقَامَة شَيْء من الْعُقُوبَات إِلَى الْمَرْء على نَفسه وتتأدى بِمَا هُوَ مَحْض الْعِبَادَة فَعرفنَا أَنَّهَا دَائِرَة بَين الْعِبَادَة والعقوبة وَأَن سَببهَا دائر بَين الْحَظْر وَالْإِبَاحَة كاليمين المعقودة على أَمر فِي الْمُسْتَقْبل وَالْقَتْل بِصفة الْخَطَأ وَلِهَذَا لم نجْعَل الْغمُوس والعمد الْمَحْض سَببا لوُجُوب الْكَفَّارَة وَعند الشَّافِعِي رَحمَه الله هَذِه الْكَفَّارَات وُجُوبهَا بطرِيق الضَّمَان وَقد بَينا أَن هَذَا غلط وَوُجُوب الضَّمَان فِي الأَصْل بطرِيق الْجبرَان وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق فِيمَا يخلص لله تَعَالَى لِأَن الله تَعَالَى يتعالى عَن أَن يلْحقهُ خسران حَتَّى تتَحَقَّق الْحَاجة إِلَى الْجبرَان وَكَانَ معنى الْعِبَادَة فِي هَذِه الْكَفَّارَات مرجحا على معنى الْعقُوبَة كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ وتكفير الْإِثْم بِهِ بِاعْتِبَار أَنه طَاعَة وَحسن فِي نَفسه قَالَ تَعَالَى {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 وَلِهَذَا أَوجَبْنَا الْكَفَّارَة على المخطىء وَالْمكْره والبار فِي الْيَمين والحنث جَمِيعًا بِأَن حلف لَا يكلم هَذَا الْكَافِر فَيسلم ثمَّ يكلمهُ وَلِهَذَا لم نوجب شَيْئا من هَذِه الْكَفَّارَات على الْكَافِر فَأَما كَفَّارَة الْفطر فِي رَمَضَان فَمَعْنَى الْعقُوبَة فِيهَا مُرَجّح على معنى الْعِبَادَة حَتَّى إِن وُجُوبهَا يَسْتَدْعِي جِنَايَة متكاملة عرفنَا ذَلِك بِخَبَر الْأَعرَابِي حَيْثُ قَالَ هَلَكت وأهلكت وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام من أفطر فِي رَمَضَان مُتَعَمدا فَعَلَيهِ مَا على الْمظَاهر فاتفق الْعلمَاء على أَنه يسْقط بِعُذْر الْخَطَأ والاشتباه فَلَمَّا ظهر رُجْحَان معنى الْعقُوبَة فِيهَا من هَذَا الْوَجْه جعلنَا وُجُوبهَا بطرِيق الْعقُوبَة فَقُلْنَا إِنَّهَا تندرىء بِالشُّبُهَاتِ حَتَّى لَا تجب على من أفطر بعد مَا أبْصر هِلَال رَمَضَان وَحده للشُّبْهَة الثَّابِتَة بِظَاهِر قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام صومكم يَوْم تصومون أَو بِصُورَة قَضَاء القَاضِي يكون (الْيَوْم) من شعْبَان وَلم يُوجب على الْمُفطر فِي يَوْم إِذا اعْترض مرض أَو حيض فِي ذَلِك الْيَوْم لتمكن الشُّبْهَة وَلم يُوجب على من أفطر وَهُوَ مُسَافر وَإِن كَانَ الْأَدَاء مُسْتَحقّا عَلَيْهِ فِي ذَلِك الْوَقْت بِعَيْنِه بِكَوْنِهِ مُقيما فِي أول النَّهَار وَلم يُوجب على من نوى قبل انتصاف النَّهَار ثمَّ أفطر للشُّبْهَة الثَّابِتَة بِظَاهِر قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا صِيَام لمن لم يعزم الصّيام من اللَّيْل وَقُلْنَا بالتداخل فِي الْكَفَّارَات والاكتفاء بكفارة وَاحِدَة إِذا أفطر فِي أَيَّام من رَمَضَان لِأَن التَّدَاخُل من بَاب الْإِسْقَاط بطرِيق الشُّبْهَة وأثبتنا معنى الْعِبَادَة فِي الِاسْتِيفَاء لِأَنَّهَا سميت كَفَّارَة فَإِنَّهُ يجوز أَن يكون الْوُجُوب بطرِيق الْعقُوبَة والاستيفاء بطرِيق الطهرة كالحدود بعد التَّوْبَة وَلَا يجوز أَن يكون الْوُجُوب بطرِيق الْعِبَادَة والاستيفاء بطرِيق الْعقُوبَة بِحَال وَمَا يجْتَمع فِيهِ الحقان وَحقّ الله فِيهِ أغلب فنحو حد الْقَذْف عندنَا فَأَما حد قطاع الطَّرِيق فَهُوَ خَالص لله تَعَالَى بِمَنْزِلَة الْعُقُوبَات الْمَحْضَة وَلِهَذَا لَا نوجب على الْمُسْتَأْمن إِذا ارْتكب سَيِّئَة فِي دَارنَا بِمَنْزِلَة حد الزِّنَا وَالسَّرِقَة بِخِلَاف حد الْقَذْف وَأما مَا يجْتَمع فِيهِ الحقان وَحقّ الْعباد أغلب فنحو الْقصاص فَإِن فِيهَا حق الله تَعَالَى وَلِهَذَا يسْقط بِالشُّبُهَاتِ وَهِي جَزَاء الْفِعْل فِي الأَصْل وأجزية الْأَفْعَال تجب لحق الله تَعَالَى وَلَكِن لما كَانَ وُجُوبهَا بطرِيق الْمُمَاثلَة عرفنَا أَن معنى حق العَبْد رَاجِح فِيهَا وَأَن وُجُوبهَا للجيران بِحَسب الْإِمْكَان كَمَا وَقعت الْإِشَارَة إِلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة} وَلِهَذَا جرى فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 الْإِرْث وَالْعَفو والاعتياض بطرِيق الصُّلْح بِالْمَالِ كَمَا فِي حُقُوق الْعباد وَأما مَا يكون مَحْض حق الْعباد فَهُوَ أَكثر من أَن يُحْصى نَحْو ضَمَان الدِّيَة وَبدل الْمُتْلف وَالْمَغْصُوب وَمَا أشبه ذَلِك وَهَذِه الْحُقُوق كلهَا تشْتَمل على أصل وَخلف فَالْأَصْل فِيمَا ثَبت بِهِ الْإِيمَان التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار ثمَّ قد يكون الْإِقْرَار مُسْتَندا فِي حق الْمُكْره على أَنه قَائِم مقَام التَّصْدِيق ثمَّ التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار من الْأَبَوَيْنِ يثبت الْإِيمَان فِي حق الْوَلَد الصَّغِير على أَنه خلف عَن التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار فِي حَقه ثمَّ تَبَعِيَّة الدَّار فِي حق الَّذِي سبى صَغِيرا وَأخرج إِلَى دَار الْإِسْلَام وَحده حلف عَن تَبَعِيَّة الْأَبَوَيْنِ فِي ثُبُوت حكم الْإِيمَان لَهُ ثمَّ تَبَعِيَّة السابي إِذا قسم أَو بيع من مُسلم فِي دَار الْحَرْب خلف عَن تَبَعِيَّة الدَّار فِي ثُبُوت حكم الْإِيمَان لَهُ حَتَّى إِذا مَاتَ يصلى عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ فِي شَرَائِط الصَّلَاة فَإِن من شرائطها الطَّهَارَة وَالْأَصْل فِيهِ الْوضُوء أَو الِاغْتِسَال ثمَّ التَّيَمُّم يكون خلفا عَن الأَصْل فِي حُصُول الطَّهَارَة الَّتِي هِيَ شَرط الصَّلَاة بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَكِن يُرِيد ليطهركم} وَهُوَ خلف مُطلق فِي قَول عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله وَعند الشَّافِعِي رَحمَه الله هُوَ خلف ضَرُورِيّ وَلِهَذَا لم يعْتَبر التَّيَمُّم قبل دُخُول الْوَقْت فِي حق أَدَاء الْفَرِيضَة وَلم يجوز أَدَاء الفريضتين بِتَيَمُّم وَاحِد لِأَنَّهُ خلف ضَرُورِيّ فَيشْتَرط فِيهِ تحقق الضَّرُورَة بِالْحَاجةِ إِلَى إِسْقَاط الْفَرْض عَن ذمَّته وَبِاعْتِبَار كل فَرِيضَة تتجدد ضَرُورَة أُخْرَى وَلم يجوز التَّيَمُّم للْمَرِيض الَّذِي لَا يخَاف الْهَلَاك على نَفسه لِأَن تحقق الضَّرُورَة عِنْد خوف الْهَلَاك على نَفسه وَجوز التَّحَرِّي فِي إناءين أَحدهمَا طَاهِر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 وَالْآخر نجس لِأَن الضَّرُورَة لَا تتَحَقَّق مَعَ وجود المَاء الطَّاهِر عِنْده وَمَعَ رَجَاء الْوُصُول إِلَيْهِ بِالتَّحَرِّي فَلَا تكون فَرضِيَّة التَّيَمُّم وَشرط طلب المَاء لِأَن الضَّرُورَة قبل الطّلب لَا تتَحَقَّق وَعِنْدنَا هُوَ بدل مُطلق فِي حَال الْعَجز عَن الأَصْل فَثَبت الحكم بِهِ على الْوَجْه الَّذِي يثبت بِالْأَصْلِ مَا بَقِي عَجزه ثمَّ على قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف رَحْمَة الله عَلَيْهِمَا التُّرَاب خلف عَن المَاء وَعند مُحَمَّد رَحمَه الله التَّيَمُّم خلف عَن الْوضُوء وَتظهر الْمَسْأَلَة فِي الْمُتَيَمم عِنْد مُحَمَّد لَا يؤم المتوضئين لِأَن التَّيَمُّم خلف فَكَانَ الْمُتَيَمم صَاحب الْخلف وَلَيْسَ لصَاحب الأَصْل الْقوي أَن يَبْنِي صلَاته على صَلَاة صَاحب الْخلف كَمَا لَا يَبْنِي الْمُصَلِّي بركوع وَسُجُود صلَاته على صَلَاة المومي وَعِنْدَهُمَا التُّرَاب كَانَ خلفا عَن المَاء فِي حُصُول الطَّهَارَة بِهِ ثمَّ بعد حُصُول الطَّهَارَة كَانَ شَرط الصَّلَاة مَوْجُودا فِي حق كل وَاحِد مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ بِمَنْزِلَة الماسح يؤم الغاسلين لهَذَا الْمَعْنى وَقد يكون التَّيَمُّم خلفا ضَرُورَة فِي حَال وجود المَاء وَهُوَ أَن يخَاف فَوَات صَلَاة الْجِنَازَة أَن لَو اشْتغل بِالْوضُوءِ أَو يخَاف فَوَات صَلَاة الْعِيد أَن لَو اشْتغل بِالْوضُوءِ ثمَّ الْخلَافَة هُنَا عِنْد مُحَمَّد بَين التَّيَمُّم وَالْوُضُوء بطرِيق الضَّرُورَة حَتَّى لَو صلى عَلَيْهَا بِالتَّيَمُّمِ ثمَّ جِيءَ بِجنَازَة أُخْرَى يلْزمه تيَمّم آخر وَإِن لم يجد بَين الجنازتين من الْوَقْت مَا يُمكنهُ أَن يتَوَضَّأ فِيهِ وَعند أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف رحمهمَا الله التُّرَاب خلف عَن المَاء فَيجوز لَهُ أَن يُصَلِّي على الْجَنَائِز مَا لم يدْرك من الْوَقْت مِقْدَار مَا يُمكنهُ أَن يتَوَضَّأ فِيهِ على وَجه لَا تفوته الصَّلَاة على جَنَازَة وَهَذَا الَّذِي بَينا يَتَأَتَّى فِي كل حق مِمَّا سبق ذكره إِلَّا أَن بِبَيَان ذَلِك يطول الْكتاب وَالْحَاجة إِلَى معرفَة الأَصْل هُنَا وَهُوَ أَن الْخلف يجب بِمَا بِهِ يجب الأَصْل وَشرط كَونه خلفا أَن ينْعَقد السَّبَب مُوجبا للْأَصْل بمصادفته مَحَله ثمَّ بِالْعَجزِ عَنهُ يتَحَوَّل الحكم إِلَى الْخلف وَإِذا لم ينْعَقد السَّبَب مُوجبا للْأَصْل بِاعْتِبَار أَنه لم يُصَادف مَحَله لَا يكون مُوجبا للخلف حَتَّى إِن الْخَارِج من الْبدن إِذا لم يكن مُوجبا للْوُضُوء كالدمع والبزاق والعرق لَا يكون مُوجبا للتيمم وَالطَّلَاق قبل الدُّخُول لما لم يكن مُوجبا لما هُوَ الأَصْل وَهُوَ الِاعْتِدَاد بِالْأَقْرَاءِ لَا يكون مُوجبا لما هُوَ خلف عَنهُ وَهُوَ الِاعْتِدَاد بِالْأَشْهرِ وَالْيَمِين الصادقة لما لم تكن مُوجبَة للتكفير بِالْمَالِ لَا تكون مُوجبَة لما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 هُوَ خلف عَنهُ وَهُوَ التَّكْفِير بِالصَّوْمِ وَالْيَمِين الْغمُوس عندنَا لما لم تَنْعَقِد مُوجبَة للْأَصْل وَهُوَ الْبر بِاعْتِبَار أَنَّهَا أضيفت إِلَى مَحل لَيْسَ فِيهِ تصور الْبر لَا تَنْعَقِد مُوجبَة لما هُوَ خلف عَنهُ وَهُوَ الْكَفَّارَة وَالْيَمِين على مس السَّمَاء وَنَحْوه لما انْعَقَدت مُوجبَة للبر لمصادفتها محلهَا كَانَت مُوجبَة لما هُوَ خلف عَن الْبر وَهُوَ الْكَفَّارَة وَقد تقدم بَيَان هَذَا فِيمَن أسلم فِي آخر الْوَقْت بَعْدَمَا بَقِي مِنْهُ مِقْدَار مَا لَا يُمكنهُ أَن يُصَلِّي فِيهِ فَإِن الْجُزْء الآخر من الْوَقْت لما صلح أَن يكون مُوجبا لأَدَاء الصَّلَاة صلح مُوجبا لما هُوَ خلف عَنهُ وَهُوَ الْقَضَاء وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله إِذا جَاءَ الْمَشْهُود بقتْله حَيا أَو رَجَعَ الشُّهُود وَالْوَلِيّ جَمِيعًا بعد اسْتِيفَاء الْقصاص فَاخْتَارَ ولي الْقَتِيل تضمين الشُّهُود فَإِنَّهُم يرجعُونَ على الْوَلِيّ بِمَا يضمنُون لِأَن السَّبَب وَهُوَ الضَّمَان الَّذِي لَزِمَهُم بطرِيق الْعدوان مُوجب للْملك فِي الْمَضْمُون والمضمون وَهُوَ الدَّم مِمَّا يحْتَمل أَن يكون مَمْلُوكا فِي الْجُمْلَة أَلا ترى أَن نفس من عَلَيْهِ الْقصاص فِي حكم الْقصاص كالمملوك لمن لَهُ الْقصاص فَإِذا انْعَقَد السَّبَب مُوجبا للْأَصْل لمصادفة مَحَله ينْعَقد مُوجبا للخلف وَهُوَ الدِّيَة عِنْد الْعَجز عَن إِثْبَات مَا هُوَ الأَصْل وَهُوَ الْقصاص بِمَنْزِلَة من غصب مُدبرا فغصبه مِنْهُ آخر وأبق من يَده ثمَّ ضمن الْمولى الْغَاصِب الأول فَإِنَّهُ يرجع على الْغَاصِب الثَّانِي بِالضَّمَانِ وَإِن لم يملك الْمُدبر وَلَكِن لما انْعَقَد السَّبَب مُوجبا للْأَصْل بمصادفته مَحَله يثبت الْخلف قَائِما مقَامه وَكَذَلِكَ شُهُود الْكِتَابَة بِبَدَل مُؤَجل إِذا رجعُوا فضمنهم الْمولى قيمَة الْمكَاتب كَانَ لَهُم أَن يرجِعوا على الْمكَاتب بِبَدَل الْكِتَابَة لِأَن السَّبَب قد تقرر مُوجبا للْأَصْل وَهُوَ الْملك فِي الْمَضْمُون لمصادفته مَحَله فَثَبت (بِهِ الْخلف) وَهُوَ الرُّجُوع بِبَدَل الْكِتَابَة لوُجُود الْعَجز عَمَّا هُوَ الأَصْل وَهُوَ ملك الرَّقَبَة بِاعْتِبَار قيام الْكِتَابَة وَأَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ يَقُول قد وجد من الشُّهُود التَّعَدِّي بِإِتْلَاف النَّفس حكما وَمن الْوَلِيّ التَّعَدِّي بِإِتْلَاف النَّفس حَقِيقَة والمساواة ثَابِتَة بَين الْحكمِي والحقيقي فِي حكم الضَّمَان ثمَّ إِذا اخْتَار تضمين الْمُتْلف حَقِيقَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 وَهُوَ الْوَلِيّ لم يرجع على الشُّهُود بِشَيْء لِأَنَّهُ ضمن بِجِنَايَتِهِ من حَيْثُ الْإِتْلَاف فَكَذَلِك إِذا اخْتَار تضمين الشُّهُود قُلْنَا لَا يرجعُونَ على الْوَلِيّ لأَنهم ضمنُوا بجنايتهم بِخِلَاف مَا إِذا شهدُوا بِالْقَتْلِ الْخَطَأ وَأخذ الْوَلِيّ الدِّيَة لِأَن وجوب الضَّمَان هُنَاكَ بِاعْتِبَار تملك المَال على من ألزمهُ القَاضِي الدِّيَة فَإِذا ضمن الْوَلِيّ كَانَ هُوَ المتملك والمملوك سَالم لَهُ وَإِذا ضمن الشُّهُود كَانُوا هم الَّذين تملكوا والمملوك فِي يَد الْمولى أَو قد صرفه إِلَى حَاجته فيرجعون عَلَيْهِ بِمَا ملكوه لهَذَا الْمَعْنى قَوْلهمَا إِن السَّبَب هُنَا انْعَقَد مُوجبا للْأَصْل مَمْنُوع لِأَن الدَّم لَا يملك بِالضَّمَانِ بِحَال وَفِي الْقصاص الَّذِي قَالَا الْوَلِيّ لَا يملك نفس من عَلَيْهِ الْقصاص وَإِنَّمَا يَسْتَوْفِيه بطرِيق الْإِبَاحَة وَلِهَذَا لم يكن لَهُ حق الِاسْتِيفَاء فِي الْحرم وَلَا يتَحَوَّل حَقه إِلَى الْبَدَل إِذا قتل من عَلَيْهِ الْقصاص ظلما وَإِذا لم يكن محلا للْملك عرفنَا أَن السَّبَب مَا انْعَقَد مُوجبا للْأَصْل وَلَو كَانَ الدَّم بِمحل أَن يملك لم يكن إِيجَاب الضَّمَان للشُّهُود على الْوَلِيّ أَيْضا لِأَنَّهُ صَار متلفا عَلَيْهِم ملك الدَّم وَإِتْلَاف ملك الدَّم لَا يُوجب الضَّمَان سَوَاء أتْلفه حَقِيقَة أَو حكما أَلا ترى أَن من قتل من عَلَيْهِ الْقصاص فَإِنَّهُ لَا يضمن لمن لَهُ الْقصاص شَيْئا وَكَذَلِكَ شُهُود الْعَفو إِذا رجعُوا أَو الْمُكْره على الْعَفو لَا يضمن أحد مِنْهُم شَيْئا وَإِن أتلف ملك الدَّم الثَّابِت لمن لَهُ الْقصاص وَبِه فَارق الْمُدبر وَالْمكَاتب لِأَن هُنَاكَ مَا هُوَ الأَصْل وَهُوَ ملك الرَّقَبَة فِي الْموضع الَّذِي يكون ثَابتا يكون مُوجبا ضَمَان خَلفه عِنْد الْإِتْلَاف فَكَذَلِك إِذا انْعَقَد السَّبَب مُوجبا للْأَصْل ثمَّ لم يعْمل لعَارض وَهُوَ التَّدْبِير وَالْكِتَابَة قُلْنَا يكون مُوجبا لما هُوَ خَلفه وَهُوَ الْقيمَة وَبدل الْكِتَابَة فَيرجع بهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 فصل فِي بَيَان الْكَلَام فِي الْقسم الثَّانِي وَهُوَ السَّبَب أما الْكَلَام فِي الْقسم الثَّانِي فَنَقُول تَفْسِير السَّبَب لُغَة الطَّرِيق إِلَى الشَّيْء قَالَ تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ من كل شَيْء سَببا فأتبع سَببا} أَي طَرِيقا وَقيل هُوَ بِمَعْنى الْبَاب قَالَ تَعَالَى {لعَلي أبلغ الْأَسْبَاب أَسبَاب السَّمَاوَات} أَي أَبْوَابهَا وَمِنْه قَول زُهَيْر وَلَو نَالَ أَسبَاب السَّمَاء بسلم أَي أَبْوَابهَا وَقيل هُوَ بِمَعْنى الْحَبل قَالَ تَعَالَى {فليمدد بِسَبَب إِلَى السَّمَاء} الْآيَة يَعْنِي بِحَبل من سقف الْبَيْت فَالْكل يرجع إِلَى معنى (وَاحِد) وَهُوَ طَرِيق الْوُصُول إِلَى الشَّيْء وَفِي الْأَحْكَام السَّبَب عبارَة عَمَّا يكون طَرِيقا للوصول إِلَى الحكم الْمَطْلُوب من غير أَن يكون الْوُصُول بِهِ وَلكنه طَرِيق الْوُصُول إِلَيْهِ بِمَنْزِلَة طَرِيق الْوُصُول إِلَى مَكَّة فَإِن الْوُصُول إِلَيْهَا يكون بمشي الْمَاشِي وَفِي ذَلِك الطَّرِيق لَا بِالطَّرِيقِ وَلَكِن يتَوَصَّل إِلَيْهَا من ذَلِك الطَّرِيق عِنْد قصد الْوُصُول إِلَيْهَا وَكَذَلِكَ الْحَبل فَإِنَّهُ طَرِيق للوصول إِلَى قَعْر الْبِئْر أَو إِلَى المَاء الَّذِي فِي الْبِئْر وَلَكِن لَا بالحبل بل بنزول النَّازِل أَو استقاء النازح بالحبل وَأما تَفْسِير الْعلَّة فَهِيَ الْمُغيرَة بحلولها حكم الْحَال وَمِنْه سمي الْمَرَض عِلّة لِأَن بحلولها بالشخص يتَغَيَّر حَاله وَمِنْه يُسمى الْجرْح عِلّة لِأَن بحلوله بالمجروح يتَغَيَّر حكم الْحَال وَقيل الْعلَّة حَادث يظْهر أَثَره فِيمَا حل بِهِ لَا عَن اختبار مِنْهُ وَلِهَذَا سمي الْجرْح عِلّة وَلَا يُسمى الْجَارِح عِلّة لِأَنَّهُ يفعل عَن اخْتِيَار وَلِأَنَّهُ غير حَال بالمجروح وَفِي أَحْكَام الشَّرْع الْعلَّة معنى فِي النُّصُوص وَهُوَ تغير حكم الْحَال بحلوله بِالْمحل يُوقف عَلَيْهِ بالاستنباط فَإِن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ مثلا بِمثل غير حَال بِالْحِنْطَةِ وَلَكِن فِي الْحِنْطَة وصف هُوَ حَال بهَا وَهُوَ كَونه مَكِيلًا مؤثرا فِي الْمُمَاثلَة ويتغير حكم الْحَال بحلوله فَيكون عِلّة لحكم الرِّبَا فِيهِ حَتَّى إِنَّه لما لم يحل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 الْقَلِيل الَّذِي لَا يدْخل تَحت الْكَيْل لَا يتَغَيَّر حكم العقد فِيهِ بل يبْقى بعد هَذَا النَّص على مَا كَانَ عَلَيْهِ قبله وَكَذَلِكَ البيع عِلّة للْملك شرعا وَالنِّكَاح عِلّة للْحلّ شرعا وَالْقَتْل الْعمد عِلّة لوُجُوب الْقصاص شرعا بِاعْتِبَار أَن الشَّرْع جعلهَا مُوجبَة لهَذِهِ الْأَحْكَام وَقد بَينا أَن الْعِلَل الشَّرْعِيَّة لَا تكون مُوجبَة بذواتها وَأَنه لَا مُوجب إِلَّا الله إِلَّا أَن ذَلِك الْإِيجَاب غيب فِي حَقنا فَجعل الشَّرْع الْأَسْبَاب الَّتِي يمكننا الْوُقُوف عَلَيْهَا عِلّة لوُجُوب الحكم فِي حَقنا للتيسير علينا فَأَما فِي حق الشَّرْع فَهَذِهِ الْعِلَل لَا تكون مُوجبَة شَيْئا وَهُوَ نَظِير الإماتة فَإِن المميت والمحيي هُوَ الله تَعَالَى حَقِيقَة ثمَّ جعله مُضَافا إِلَى الْقَاتِل بعلة الْقَتْل فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ من الْأَحْكَام وَكَذَلِكَ أجزية الْأَعْمَال فَإِن الْمُعْطِي للجزاء هُوَ الله تَعَالَى بفضله ثمَّ جعل ذَلِك مُضَافا إِلَى عمل الْعَامِل بقوله تَعَالَى {جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} فَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب المرضي التَّوَسُّط بَين الطَّرِيقَيْنِ لَا كَمَا ذهب إِلَيْهِ الجبرية من إِلْغَاء الْعَمَل أصلا وَلَا كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْقَدَرِيَّة من الْإِضَافَة إِلَى الْعَمَل حَقِيقَة وَجعل (الْعَامِل) مستبدا بِعَمَلِهِ ثمَّ هَذِه الْعِلَل الشَّرْعِيَّة تسمى نظرا وَتسَمى قِيَاسا وَتسَمى دَلِيلا أَيْضا على معنى أَنه يُوقف بِهِ على معرفَة الحكم وَالدَّلِيل على الشَّيْء مَا يُوقف بِهِ على مَعْرفَته كالدخان دَلِيل على النَّار وَالْبناء دَلِيل على الْبَانِي وَلَكِن مَا يكون عِلّة يجوز أَن يُسمى دَلِيلا وَمَا يكون دَلِيلا مَحْضا لَا يجوز أَن يُسمى عِلّة أَلا ترى أَن حُدُوث الْأَعْرَاض دَلِيل على حُدُوث الْأَجْسَام وَلَا يجوز أَن يُقَال إِنَّهَا عِلّة لحدوث الْأَجْسَام والمصنوعات دَلِيل على الصَّانِع وَلَا يجوز أَن يُقَال إِنَّهَا عِلّة للصانع تَعَالَى فَعرفنَا أَن الدَّلِيل قطّ لَا يكون عِلّة وَقد تكون الْعلَّة دَلِيلا وَأما الشَّرْط فَمَعْنَاه لُغَة الْعَلامَة اللَّازِمَة وَمِنْه يُقَال أَشْرَاط السَّاعَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 أَي علاماتها اللَّازِمَة لكَون السَّاعَة آتِيَة لَا محَالة وَمِنْه الشرطي لِأَنَّهُ نصب نَفسه على زِيّ وهيئة لَا يُفَارِقهُ ذَلِك فِي أغلب أَحْوَاله فَكَأَنَّهُ لَازم لَهُ وَمِنْه شَرط الْحجام لِأَنَّهُ يحصل بِفِعْلِهِ فِي مَوضِع المحاجم عَلامَة لَازِمَة وَمِنْه الشُّرُوط فِي الوثائق لِأَنَّهَا تكون لَازِمَة فَعرفنَا أَن الشَّرْط فِي اللُّغَة الْعَلامَة اللَّازِمَة وَمِنْه سمى أهل اللُّغَة حرف إِن حرف الشَّرْط من قَول الْقَائِل لغيره إِن أكرمتني أكرمتك فَإِن قَوْله أكرمتك بِصِيغَة الْفِعْل الْمَاضِي وَلَكِن بقوله إِن أكرمتني يصير إكرام الْمُخَاطب عَلامَة لَازِمَة لإكرام الْمُخَاطب إِيَّاه فَكَانَ شرطا من هَذَا الْوَجْه وَفِي أَحْكَام الشَّرْع (الشَّرْط) اسْم لما يُضَاف الحكم إِلَيْهِ وجودا عِنْده لَا وجوبا بِهِ فَإِن قَول الْقَائِل لامْرَأَته إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق يَجْعَل دُخُول الدَّار شرطا حَتَّى لَا يَقع الطَّلَاق بِهَذَا اللَّفْظ إِلَّا عِنْد الدُّخُول وَيصير الطَّلَاق عِنْد وجود الدُّخُول مُضَافا إِلَى الدُّخُول مَوْجُودا عِنْده لَا وَاجِبا بِهِ بل الْوُقُوع بقوله أَنْت طَالِق عِنْد الدُّخُول وَمن حَيْثُ إِنَّه لَا أثر للدخول فِي الطَّلَاق من حَيْثُ الثُّبُوت بِهِ وَلَا من حَيْثُ الْوُصُول إِلَيْهِ لم يكن الدُّخُول سَببا وَلَا عِلّة وَمن حَيْثُ إِنَّه مُضَاف إِلَيْهِ وجودا عِنْده كَانَ الدُّخُول شرطا فِيهِ وَلِهَذَا لَا نوجب الضَّمَان على شُهُود الشَّرْط بِحَال وَإِنَّمَا نوجب الضَّمَان على شُهُود التَّعْلِيق بعد وجود الشَّرْط إِذا رجعُوا وَقد يُقَام الشَّرْط مقَام السَّبَب فِي حكم الضَّمَان عِنْد تعذر إِضَافَة الْإِتْلَاف إِلَى السَّبَب نَحْو حافر الْبِئْر على الطَّرِيق يكون ضَامِنا لما يسْقط فِيهِ وَهُوَ صَاحب الشَّرْط من حَيْثُ إِنَّه أَزَال بِفِعْلِهِ المسكة عَن الأَرْض وَهُوَ مَحل يسْتَقرّ فِيهِ الثقيل والمحال فِي حكم الشُّرُوط وَلَكِن لما تعذر إِضَافَة الْإِتْلَاف إِلَى مَا هُوَ السَّبَب حَقِيقَة وَهُوَ ثقل الْمَاشِي ومشبه جعل مُضَافا إِلَى الشَّرْط فِي حكم الضَّمَان حَتَّى لَو دفع الْوَاقِع فِي الْبِئْر إِنْسَان فَإِن الضَّمَان يكون على الدَّافِع دون الْحَافِر لِأَن السَّبَب هُنَا صَالح لإضافة الْإِتْلَاف إِلَيْهِ وسنقرر هَذَا فِي فصل الشَّرْط إِن شَاءَ الله تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 أما الْعَلامَة لُغَة فَهِيَ الْمُعَرّف بِمَنْزِلَة الْميل والمنارة والميل عَلامَة الطَّرِيق لِأَنَّهُ معرف لَهُ والمنارة عَلامَة الْجَامِع لِأَنَّهَا معرفَة لَهُ وَمِنْه سمي الْمُمَيز بَين الْأَرْضين من المسناة منار الأَرْض قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لعن الله من غير منار الأَرْض أَي الْعَلامَة الَّتِي تعرف بهَا لتمييز بَين الْأَرْضين وَكَذَلِكَ فِي أَحْكَام الشَّرْع الْعَلامَة مَا يكون مُعَرفا للْحكم الثَّابِت بعلته من غير أَن يكون الحكم مُضَافا إِلَى الْعَلامَة وجوبا لَهَا لَا وجودا عِنْدهَا على مَا نبينه فِي فصل على حِدة إِن شَاءَ الله تَعَالَى فصل فِي بَيَان تَقْسِيم السَّبَب قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن أَسبَاب الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة أَنْوَاع أَرْبَعَة سَبَب صُورَة لَا معنى وَهُوَ يُسمى سَببا مجَازًا وَسبب صُورَة وَمعنى وَهُوَ يُسمى سَببا مَحْضا وَسبب فِيهِ شُبْهَة الْعلَّة وَسبب هُوَ بِمَعْنى الْعلَّة وَقد بَينا أَن السَّبَب مَا هُوَ طَرِيق الْوُصُول إِلَى الشَّيْء فَأَما الَّذِي يُسمى السَّبَب مجَازًا فنحو الْيَمين بِاللَّه تَعَالَى يُسمى سَببا لِلْكَفَّارَةِ مجَازًا بِاعْتِبَار الصُّورَة وَهُوَ لَيْسَ بِسَبَب معنى فَإِن أدنى حد السَّبَب أَن يكون طَرِيقا للوصول إِلَى الْمَقْصُود وَالْكَفَّارَة بِالْيَمِينِ إِنَّمَا تجب بعد الْحِنْث وَهِي مَانِعَة من الْحِنْث مُوجبَة لضده وَهُوَ الْبر فَعرفنَا أَنه لَيْسَ بِسَبَب لِلْكَفَّارَةِ معنى قبل الْحِنْث وَلَكِن يُسمى سَببا مجَازًا لِأَنَّهُ طَرِيق الْوُصُول إِلَى وجوب الْكَفَّارَة بعد زَوَال الْمَانِع وَهُوَ الْبر وَكَذَلِكَ النّذر الْمُعَلق بِالشّرطِ الَّذِي لَا يُرِيد كَونه سَبَب لوُجُوب الْمَنْذُور صُورَة لَا معنى لِأَنَّهُ يقْصد بِهِ منع مَا يجب الْمَنْذُور عِنْد وجوده وَهُوَ إِيجَاد الشَّرْط وَإِنَّمَا يكون سَببا بعد زَوَال الْمَانِع حَقِيقَة وَكَذَلِكَ الطَّلَاق وَالْعتاق الْمُعَلق بِالشّرطِ فَإِن التَّعْلِيق سَبَب صُورَة لَا معنى لِأَنَّهُ بِالتَّعْلِيقِ يمْنَع نَفسه مِمَّا يَقع الطَّلَاق وَالْعتاق عِنْد وجوده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 وعَلى هَذَا قُلْنَا التَّعْلِيق بِالْملكِ صَحِيح وَإِن لم يكن الْملك مَوْجُودا فِي الْحَال لِأَن الْمُعَلق لَيْسَ بِطَلَاق وَلَا هُوَ سَبَب الطَّلَاق حَقِيقَة وَلَكِن يصير سَببا عِنْد وجود الشَّرْط وَهَذَا لِأَن الطَّلَاق وَالْعتاق لَا يكون بِدُونِ الْمحل وَالتَّعْلِيق يمْنَع الْوُصُول إِلَى الْمحل وَكَذَلِكَ النّذر فَإِنَّهُ الْتِزَام فِي الذِّمَّة وَالتَّعْلِيق يمْنَع وُصُول الْمَنْذُور إِلَى الذِّمَّة وَالتَّصَرُّف بِدُونِ الْمحل لَا يكون سَببا كَبيع الْحر إِلَّا أَن هُنَاكَ ينْعَقد تصرف آخر وَهُوَ الْيَمين لِأَنَّهُ عقد مَشْرُوع لمقصود وَفِي ذَلِك الْمَقْصُود التَّصَرُّف صَادف مَحَله وَهُوَ ذمَّة الْحَالِف بِخِلَاف بيع الْحر فَإِنَّهُ لَا ينْعَقد أصلا وعَلى هَذَا لَا يجوز التَّكْفِير بعد الْيَمين قبل الْحِنْث بِالْمَالِ وَلَا بِالصَّوْمِ لِأَنَّهَا لَيست بِسَبَب لِلْكَفَّارَةِ معنى وَالْأَدَاء قبل تحقق السَّبَب لَا يجوز بِخِلَاف تَعْجِيل الْكَفَّارَة بعد الْجرْح قبل زهوق الرّوح فِي الْآدَمِيّ وَالصَّيْد لِأَنَّهُ سَبَب مَحْض من حَيْثُ إِنَّه طَرِيق مفض إِلَى الْقَتْل عِنْد زهوق الرّوح بِالسّرَايَةِ يُوضحهُ أَن الْيَمين لَا تبقى بعد الْحِنْث لِأَنَّهَا مَشْرُوعَة لمقصود وَهُوَ الْبر وَذَلِكَ يفوت بِالْحِنْثِ أصلا وَالْعقد لَا يبْقى بعد فَوَات مَقْصُوده وَلما كَانَت الْكَفَّارَة لَا تجب إِلَّا بعد الْحِنْث الَّذِي يرْتَفع بِهِ الْيَمين عرفنَا أَن الْيَمين لَيست بِسَبَب لَهَا معنى إِذْ العقد لَا يكون سَببا للْحكم الَّذِي يثبت (بعد فَسخه وَكَذَلِكَ الْيَمين بِالطَّلَاق فَإِن الطَّلَاق إِنَّمَا يكون وَاقعا بِمَا يبْقى بعد وجود الشَّرْط وَهُوَ قَوْله أَنْت طَالِق وَالنّذر إِنَّمَا يثبت) بِاعْتِبَار مَا يبْقى بعد وجود الشَّرْط وَهُوَ قَوْله على صَوْم أَو صَلَاة فَعرفنَا أَن الْمَوْجُود قبل وجود الشَّرْط لَا يكون سَببا معنى بِخِلَاف كَفَّارَة الْقَتْل فَإِنَّهُ جَزَاء الْفِعْل وَالْفِعْل بِالسّرَايَةِ يَتَقَرَّر وَلَا يرْتَفع فَكَانَ قبل السَّرَايَة سَببا وَملك النّصاب قبل كَمَال الْحول هَكَذَا لِأَنَّهُ يَتَقَرَّر عِنْده مَا لأَجله كَانَ النّصاب سَببا وَهُوَ معنى النمو إِلَّا أَن مَعَ هَذَا التَّعْلِيق بِالشّرطِ لكَونه سَببا مجَازًا أثبتنا فِيهِ معنى السَّبَبِيَّة بِوَجْه بِخِلَاف مَا يَقُوله زفر رَحمَه الله إِنَّه لَا يثبت فِيهِ حكم السَّبَبِيَّة بِوَجْه وَبَيَان هَذَا فِي تَنْجِيز الثَّلَاث بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 صِحَة التَّعْلِيق فَإِنَّهُ مُبْطل للتعليق عندنَا لِأَن التَّعْلِيق يَمِين وموجبه الْبر فَإِذا كَانَ هَذَا السَّبَب مَضْمُونا (بِالْبرِّ) كَانَ لَهُ شُبْهَة السَّبَبِيَّة فِي الحكم الَّذِي يجب بِهِ بعد فَوَات الْبر على وَجه الْخلف عَنهُ كالغصب فَإِنَّهُ مُوجب ضَمَان الرَّد فِي الْعين ثمَّ لَهُ شُبْهَة السَّبَبِيَّة فِي حكم ضَمَان الْقيمَة الَّذِي ثَبت خلفا عَن رد الْعين عِنْد فَوَات الْعين فَكَمَا يشْتَرط قيام الْملك وَصفَة الْحل فِي الْمحل لبَقَاء مَا هُوَ سَبَب للْحكم حَقِيقَة فَكَذَلِك يشْتَرط لبَقَاء مَا فِيهِ شُبْهَة السَّبَبِيَّة للْحكم وتنجيز الثَّلَاث يفوت ذَلِك كُله وَزفر يَقُول لَيْسَ فِي التَّعْلِيق شُبْهَة السَّبَبِيَّة للْحكم وَهُوَ الطَّلَاق وَالْعتاق وَإِنَّمَا هُوَ تصرف آخر وَهُوَ الْيَمين محلهَا الذِّمَّة وَاشْتِرَاط الْملك فِي الْمحل عِنْد انْعِقَاده ليترجح جَانب الْوُجُود على جَانب الْعَدَم حَتَّى يَصح إِيجَاب الْيَمين بِهِ وَهَذَا غير مُعْتَبر فِي حَال الْبَقَاء أَلا ترى أَن بعد التطليقات الثَّلَاث لَو علق الطَّلَاق ابْتِدَاء بِالنِّكَاحِ كَانَ صَحِيحا وَصفَة الْحل الَّذِي بِهِ يصير الْمحل محلا للطَّلَاق مَعْدُوم أصلا وَلَكنَّا نقُول الْملك سَبَب هُوَ فِي معنى الْعلَّة فَإِن النِّكَاح عِلّة لملك الطَّلَاق فالتطليق بِمَنْزِلَة سَبَب هُوَ فِي معنى الْعلَّة على مَا نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَأَما الْإِضَافَة إِلَى وَقت لَا تعدم السَّبَبِيَّة معنى كَمَا يعدمه التَّعْلِيق بِالشّرطِ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَعدَّة من أَيَّام أخر} إِنَّه لَا يخرج شُهُود الشَّهْر من أَن يكون سَببا حَقِيقَة فِي حق جَوَاز الْأَدَاء وَقَوله تَعَالَى {وَسَبْعَة إِذا رجعتم} يخرج الْمُتَمَتّع من أَن يكون سَببا لصوم السَّبْعَة قبل الرُّجُوع من منى حَتَّى لَو أَدَّاهُ لَا يجوز لِأَنَّهُ لما تعلق بِشَرْط الرُّجُوع فَقبل وجود الشَّرْط لَا يتم سَببه معنى وَهُنَاكَ إِضَافَة الصَّوْم إِلَى وَقت فَقبل وجود الْوَقْت يتم السَّبَب فِيهِ معنى حَتَّى يجوز الْأَدَاء وَأما السَّبَب الْمَحْض وَهُوَ مَا يكون طَرِيقا للوصول إِلَى الحكم وَلَكِن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 لَا يُضَاف الحكم إِلَيْهِ وجوبا بِهِ وَلَا وجودا عِنْده بل تتخلل بَين السَّبَب وَالْحكم الْعلَّة الَّتِي يُضَاف الحكم إِلَيْهَا وَتلك الْعلَّة غير مُضَافَة إِلَى السَّبَب وَذَلِكَ نَحْو حل قيد العَبْد فَإِنَّهُ طَرِيق لوصول العَبْد إِلَى الْإِبَاق الَّذِي هُوَ متو مَالِيَّة الْمولى فِيهِ وَلَكِن يَتَخَلَّل بَينه وَبَين الْإِبَاق الَّذِي تتوى بِهِ الْمَالِيَّة قصد وَذَهَاب من العَبْد وَهُوَ غير مُضَاف إِلَى السَّبَب السَّابِق فَيبقى حل الْقَيْد سَببا مَحْضا وعَلى هَذَا قُلْنَا لَو فتح بَاب الاصطبل فندت الدَّابَّة أَو بَاب القفص فطار الطير لم يجب الضَّمَان عَلَيْهِ لِأَن الْعلَّة قُوَّة الدَّابَّة فِي نَفسهَا على الذّهاب وَقُوَّة الطير على الطيران وَهُوَ غير مُضَاف إِلَى السَّبَب الأول وَكَذَلِكَ لَو دلّ إنْسَانا على مَال الْغَيْر فأتلفه أَو على نَفسه فَقتله أَو على قافلة حَتَّى قطع الطَّرِيق عَلَيْهِم لم يكن ضَامِنا شَيْئا لِأَن الدّلَالَة سَبَب مَحْض من حَيْثُ إِنَّه طَرِيق الْوُصُول إِلَى الْمَقْصُود ويتخلل بَينه وَبَين حُصُول الْمَقْصُود مَا هُوَ عِلّة وَهُوَ غير مُضَاف إِلَى السَّبَب الأول وَذَلِكَ الْفِعْل الَّذِي يباشره الْمَدْلُول وعَلى هَذَا قُلْنَا لَو قَالَ لرجل هَذِه الْمَرْأَة حرَّة فَتَزَوجهَا فَذهب وَتَزَوجهَا واستولدها ثمَّ ظهر أَنَّهَا كَانَت أمة فَإِنَّهُ لَا يرجع بِضَمَان قيمَة الْأَوْلَاد على الْمخبر بِخِلَاف مَا إِذا زَوجهَا مِنْهُ على أَنَّهَا حرَّة لِأَن إخْبَاره سَبَب للوصول إِلَى الْمَقْصُود وَلَكِن تخَلّل بَينه وَبَين الْمَقْصُود وَهُوَ الِاسْتِيلَاد مَا هُوَ عِلّة فَهُوَ غير مُضَاف إِلَى السَّبَب الأول وَذَلِكَ عقد النِّكَاح الَّذِي باشرته الْمَرْأَة على نَفسهَا وعَلى هَذَا قُلْنَا الْمَوْهُوب لَهُ الْجَارِيَة إِذا اسْتَوْلدهَا ثمَّ اسْتحقَّت لم يرجع بِقِيمَة الْأَوْلَاد على الْوَاهِب وَالْمُسْتَعِير إِذا أتلف الْعين بِاسْتِعْمَالِهِ ثمَّ ظهر الِاسْتِحْقَاق لم يرجع بِالْقيمَةِ على الْمُعير لِأَن الْهِبَة والإعارة سَبَب وَلَكِن تخَلّل بَينه وَبَين حُصُول الْأَوْلَاد مَا هُوَ عِلّة وَهُوَ الِاسْتِيلَاد والاستعمال المفضي إِلَى التّلف وَذَلِكَ غير مُضَاف إِلَى السَّبَب الأول بِخِلَاف المُشْتَرِي إِذا اسْتَوْلدهَا ثمَّ ظهر الِاسْتِحْقَاق فَإِنَّهُ يرجع بِقِيمَة الْأَوْلَاد لِأَن بِمُبَاشَرَة عقد الضَّمَان قد الْتزم لَهُ صفة السَّلامَة عَن الْعَيْب وَلَا عيب فَوق الِاسْتِحْقَاق وبمباشرة عقد التَّبَرُّع لَا يصير مُلْتَزما سَلامَة الْمَعْقُود عَلَيْهِ عَن الْعَيْب وَلِهَذَا لَا يرجع بِالْعقدِ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ لزمَه بَدَلا عَمَّا اسْتَوْفَاهُ وَلَا رُجُوع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 لَهُ بِسَبَب الْعَيْب فِيمَا اسْتَوْفَاهُ لنَفسِهِ وَإِن كَانَ البَائِع ضمن لَهُ صفة السَّلامَة عَن الْعَيْب وَزعم بعض أَصْحَابنَا أَن رُجُوع الْمَغْرُور بِاعْتِبَار الْكفَالَة وَذَلِكَ بِاشْتِرَاط الْبَدَل فَإِن البَائِع يصير كَأَنَّهُ قَالَ ضمنت لَك سَلامَة الْأَوْلَاد على أَنه إِن لم يسلم لَك فَأَنا ضَامِن لَك مَا يلزمك بِسَبَبِهِ وَهَذَا الضَّمَان لَا يثبت فِي عقد التَّبَرُّع وَإِنَّمَا يثبت فِي حق الضَّمَان بِاشْتِرَاط الْبَدَل إِلَّا أَن الأول أصح وَقد قَالَ فِي كتاب الْعَارِية العَبْد الْمَأْذُون إِذا آجر دَابَّة فَتلفت بِاسْتِعْمَال الْمُسْتَأْجر ثمَّ ظهر الِاسْتِحْقَاق رَجَعَ الْمُسْتَأْجر بِمَا ضمن من قيمتهَا على العَبْد فِي الْحَال وَالْعَبْد لَا يُؤَاخذ بِضَمَان الْكفَالَة مَا لم يعْتق وَهُوَ مؤاخذ بِالضَّمَانِ الَّذِي يكون سَببه الْعَيْب بَعْدَمَا الْتزم صفة السَّلامَة عَن الْعَيْب بِعقد الضَّمَان وَلَا يدْخل على مَا قُلْنَا دلَالَة الْمحرم على قتل الصَّيْد فَإِنَّهَا توجب عَلَيْهِ ضَمَان الْجَزَاء وَهِي سَبَب مَحْض لَا يَتَخَلَّل بَينهَا وَبَين الْمَقْصُود مَا هُوَ الْعلَّة وَهُوَ الْقَتْل من الْمَدْلُول وَهَذَا لِأَن وجوب الضَّمَان عَلَيْهِ بِجِنَايَتِهِ بِإِزَالَة الْأَمْن عَن الصَّيْد فَإِن أَمنه فِي الْبعد عَن أَيدي النَّاس وأعينهم وَقد الْتزم بِعقد الْإِحْرَام الْأَمْن للصَّيْد عَنهُ فَإِذا صَار بِالدّلَالَةِ جانيا من حَيْثُ إِزَالَته الْأَمْن كَانَ ضَامِنا لذَلِك إِلَّا أَن قبل الْقَتْل لَا يجب عَلَيْهِ الضَّمَان لبَقَاء التَّرَدُّد فقد يتَوَارَى الصَّيْد على وَجه لَا يقدر الْمَدْلُول عَلَيْهِ فَيَعُود آمنا كَمَا كَانَ فبالقتل تَسْتَقِر جِنَايَته بِإِزَالَة الْأَمْن فَهُوَ نَظِير الْجراحَة الَّتِي يتَوَهَّم فِيهَا الِانْدِمَال بالبرء على وَجه لَا يبْقى لَهَا أثر فَإِنَّهُ يستأني فِيهَا مَعَ كَون الْجرْح جِنَايَة وَلَكِن لبَقَاء التَّرَدُّد يستأني حَتَّى يَتَقَرَّر حكمهَا فِي حق الضَّمَان بِخِلَاف الدّلَالَة على مَال الْغَيْر فَإِن حفظ الْأَمْوَال بِالْأَيْدِي لَا بالبعد عَن الْأَيْدِي والأعين فالدال لَا يصير جانيا بِإِزَالَة الْحِفْظ بدلالته وَهَذَا بِخِلَاف الْمُودع إِذا دلّ سَارِقا على سَرقَة الْوَدِيعَة فَإِنَّهُ يصير ضَامِنا لِأَنَّهُ جَان بترك مَا الْتَزمهُ من الْحِفْظ بعقده وَهُوَ ترك التضييع وبالدلالة يصير مضيعا فَهُوَ نَظِير الْمحرم يدل على قتل الصَّيْد حَتَّى يصير ضَامِنا لتَركه مَا الْتَزمهُ بِالْعقدِ وَهُوَ أَمن الصَّيْد عَنهُ وعَلى هَذَا قُلْنَا من أخرج ظَبْيَة من الْحرم فَولدت فَهُوَ ضَامِن للْوَلَد لِأَنَّهَا بِالْحرم آمِنَة وَثُبُوت يَده عَلَيْهَا يفوت معنى الصيدية فَيثبت بِهِ معنى إِزَالَة الْأَمْن فِي حق الْوَلَد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 بِخِلَاف الْغَاصِب فَإِنَّهُ لَا يكون ضَامِنا للزوائد لِأَن الْأَمْوَال مَحْفُوظَة بِالْأَيْدِي فَإِنَّمَا يجب الضَّمَان هُنَا بِالْغَصْبِ الَّذِي هُوَ مُوجب قصر يَد الْمَالِك عَن مَاله وَذَلِكَ غير مَوْجُود فِي الزِّيَادَة مُبَاشرَة وَلَا تسبيبا وَلَا يُنكر كَونه مُتَعَدِّيا فِي إمْسَاك الْوَلَد وَلِهَذَا نجعله آثِما ونوجب عَلَيْهِ رده وَلَكنَّا نقُول هُوَ لَيْسَ بغاصب للْوَلَد تسبيبا وَلَا مُبَاشرَة وبتعد آخر سوى الْغَصْب لَا يُوجب ضَمَان الْغَصْب وَالْيَد الثَّابِتَة على الْأُم عِنْد انْفِصَال الْوَلَد عَنْهَا حكم الْغَصْب لَا نفس الْغَصْب فَعرفنَا أَنه لم يثبت الْغَصْب فِي الْوَلَد بطرِيق السَّرَايَة وَلَا قصدا بطرِيق الْمُبَاشرَة وَلَا بطرِيق التَّسَبُّب بِغَصب الْأُم لِأَن قصر يَد الْمَالِك تكون بِإِزَالَة يَده عَمَّا كَانَ فِي يَده أَو بِإِزَالَة تمكنه من أَخذ مَا لم يكن فِي يَده وَذَلِكَ غير مَوْجُود فِي الْوَلَد أصلا قبل أَن يُطَالِبهُ بِالرَّدِّ وَمن السَّبَب الْمَحْض أَن يدْفع سكينا إِلَى صبي فيجأ الصَّبِي بِهِ نَفسه فَإِنَّهُ لَا يجب على الدَّافِع ضَمَان وَإِن كَانَ فعله بعلة طَرِيق الْوُصُول وَلَكِن قد تخَلّل بَينه وَبَين الْمَقْصُود مَا هُوَ عِلّة وَهُوَ غير مُضَاف إِلَى السَّبَب الأول وَذَلِكَ قتل الصَّبِي بِهِ نَفسه بِخِلَاف مَا إِذا سقط من يَده على رجله فعقره لِأَن السُّقُوط من يَده مُضَاف إِلَى السَّبَب الأول وَهُوَ مناولته إِيَّاه فَكَانَ هَذَا سَببا فِي معنى الْعلَّة على مَا نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ لَو أَخذ صَبيا حرا من يَد وليه فَمَاتَ فِي يَده بِمَرَض لم يضمن الْآخِذ شَيْئا بِخِلَاف مَا إِذا قربه إِلَى مسبعَة حَتَّى افترسه سبع فَإِن السَّبَب هُنَا بِمَعْنى الْعلَّة بِاعْتِبَار الْإِضَافَة إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقَال لَوْلَا تقريبه إِيَّاه من هَذِه المسبعة مَا افترسه السَّبع وَلَا يُقَال لَوْلَا أَخذه من يَد وليه لم يمت من مَرضه وَلَو قتل الصَّبِي فِي يَد الْآخِذ رجلا فضمن عَاقِلَته الدِّيَة لم يرجِعوا بِهِ على عَاقِلَة الْآخِذ لِأَنَّهُ تخَلّل بَين السَّبَب وَوُجُوب الضَّمَان عَلَيْهِم مَا هُوَ عِلّة وَهُوَ غير مُضَاف إِلَى ذَلِك التسبيب وعَلى هَذَا لَو قَالَ لصبي ارق هَذِه الشَّجَرَة فانفضها لي فَسقط كَانَ ضَامِنا بِخِلَاف مَا لَو قَالَ كل ثَمَرَتهَا أَو فانفضها لنَفسك لِأَن كَلَامه تسبيب قد تخَلّل بَينه وَبَين السُّقُوط مَا هُوَ عِلّة وَهُوَ صعُود الصَّبِي الشَّجَرَة لمَنْفَعَة نَفسه وَفِي الأول لما كَانَ صُعُوده لمَنْفَعَة الْآمِر صَار بِسَبَبِهِ فِي معنى الْعلَّة بطرِيق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 الْإِضَافَة إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ لَو حمل صَبيا على الدَّابَّة فَسقط مَيتا كَانَ الْحَامِل ضَامِنا لديته وَلَو سَيرهَا الصَّبِي فَسقط مِنْهَا فَمَاتَ لم يضمن الَّذِي حمله عَلَيْهَا شَيْئا ليعلم أَن السَّائِل على هَذَا الأَصْل أَكثر من أَن تحصى وَمِمَّا هُوَ فِي معنى السَّبَب الْمَحْض مَا هُوَ أحد شطري عِلّة الحكم نَحْو إِيجَاب البيع وَأحد وصفي عِلّة الرِّبَا فَإِنَّهُ سَبَب مَحْض على معنى أَنه طَرِيق الْوُصُول إِلَى الْمَقْصُود عِنْد غَيره وَذَلِكَ الْغَيْر لَيْسَ بمضاف إِلَيْهِ فَيكون سَببا مَحْضا فَإِن قيل قد جعلتم حد السَّبَب مَا يَتَخَلَّل بَينه وَبَين الْمَقْصُود مَا هُوَ عِلّة للْحكم وَهنا الَّذِي يَتَخَلَّل هُوَ الْوَصْف الآخر وَهُوَ لَيْسَ بعلة للْحكم بِانْفِرَادِهِ فَكيف يَسْتَقِيم قَوْلكُم إِن أحد الوصفين سَبَب مَحْض قُلْنَا هُوَ مُسْتَقِيم من حَيْثُ إِن الحكم مَتى تعلق بعلة ذَات وصفين فَإِنَّهُ يُضَاف إِلَى آخر الوصفين على معنى أَن تَمام الْعلَّة بِهِ حصل وَلِهَذَا قُلْنَا إِن الْمُوجب لِلْعِتْقِ الْقَرَابَة الْقَرِيبَة مَعَ الْملك ثمَّ يُضَاف الْعتْق إِلَى آخر الوصفين وجودا حَتَّى إِذا كَانَ العَبْد مُشْتَركا بَين اثْنَيْنِ ادّعى أَحدهمَا نسبه كَانَ ضَامِنا لشَرِيكه وَإِذا اشْترى نصف قَرِيبه من أحد الشَّرِيكَيْنِ كَانَ ضَامِنا لشَرِيكه وَكَذَلِكَ النّسَب مَعَ الْمَوْت مُوجب للإرث فيضاف إِلَى آخر الوصفين ثبوتا حَتَّى إِن شُهُود النّسَب بعد الْوَفَاة إِذا رجعُوا ضمنُوا بِخِلَاف شُهُود النّسَب فِي حَالَة الْحَيَاة فَإِذا ثَبت أَن إِضَافَة الحكم إِلَى آخر الوصفين وَهُوَ يَتَخَلَّل بَين الْوَصْف الأول وَبَين الحكم عرفنَا أَن الْوَصْف الأول فِي معنى السَّبَب الْمَحْض وَهَذَا أصل مُسْتَمر فِي الشُّرُوط والعلل جَمِيعًا حَتَّى قُلْنَا إِذا قَالَ لامْرَأَته إِن دخلت هَاتين الدَّاريْنِ فَأَنت طَالِق فَأَبَانَهَا وَدخلت إِحْدَى الدَّاريْنِ فِي غير ملكه ثمَّ تزَوجهَا فَدخلت الْأُخْرَى فِي ملكه تطلق لِأَن الحكم يكون مُضَافا إِلَى تَمام الشَّرْط وجودا عِنْده وَذَلِكَ حصل بِدُخُول الدَّار الْأُخْرَى فَيشْتَرط قيام الْملك عِنْده لَا عِنْد دُخُول الأولى وَمن الْأَسْبَاب السَّفِينَة إِذا كَانَت تحْتَمل مائَة من وَقد جعل فِيهَا ذَلِك الْقدر فَوضع إِنْسَان آخر فِيهَا منا فغرقت كَانَ ضَامِنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 للْجَمِيع لِأَن تَمام عِلّة الْغَرق حصل بِفِعْلِهِ وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رَضِي الله عَنْهُمَا فِي المثلث إِن السكر مِنْهُ حرَام ثمَّ السكر الَّذِي هُوَ حرَام الْقدح الْأَخير لِأَن تَمام عِلّة الْإِسْكَار عِنْدهَا فَيكون مُضَافا إِلَيْهَا خَاصَّة وَمُحَمّد رَحمَه الله ترك هَذَا الأَصْل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة احْتِيَاطًا لإِثْبَات الْحُرْمَة فَإِنَّهَا تثبت بِاعْتِبَار الصُّورَة تَارَة وَبِاعْتِبَار الْمَعْنى أُخْرَى وَأما السَّبَب الَّذِي هُوَ فِي معنى الْعلَّة فنحو قَود الدَّابَّة وسوقها فَإِنَّهُ طَرِيق الْوُصُول إِلَى الْإِتْلَاف غير مَوْضُوع لَهُ ليَكُون عِلّة وَهُوَ فِي معنى الْعلَّة من حَيْثُ إِن الْإِتْلَاف مُضَاف إِلَيْهِ يُقَال أتْلفه بقود الدَّابَّة أَو سوقها وَكَذَلِكَ إِذا أشرع جنَاحا فِي الطَّرِيق أَو وضع حجرا أَو ترك هدم الْحَائِط المائل بعد التَّقَدُّم إِلَيْهِ فِيهِ فَهَذَا كُله سَبَب فِي معنى الْعلَّة وَكَذَلِكَ إِذا أَدخل دَابَّته زرع إِنْسَان حَتَّى أكلت الدَّابَّة الزَّرْع فَهَذَا سَبَب فِي معنى الْعلَّة للإتلاف وَلِهَذَا كَانَ مُوجبا عَلَيْهِ ضَمَان الْمُتْلف وَلَا يكون شَيْء من هَذَا مُوجبا لحرمان الْمِيرَاث وَلَا الْكَفَّارَة فَإِن ذَلِك جَزَاء مُبَاشرَة الْفِعْل وَكَذَلِكَ قطع حَبل الْقنْدِيل الْمُعَلق وشق الزق وَفِيه مَائِع سَبَب هُوَ فِي معنى الْعلَّة وَكَذَلِكَ شَهَادَة الشُّهُود بِالْقصاصِ يكون سَببا للْقَتْل من غير مُبَاشرَة لِأَن قَضَاء القَاضِي بعد الشَّهَادَة يكون عَن اخْتِيَار وَكَذَلِكَ اسْتِيفَاء الْوَلِيّ وَالشَّهَادَة غير مَوْضُوعَة للْقَتْل فِي الأَصْل وَلِهَذَا لَا يُوجب الْكَفَّارَة وَلَا يثبت حرمَان الْمِيرَاث فِي حق الشُّهُود وَلَا يُوجب عَلَيْهِم الْقصاص وَالشَّافِعِيّ رَحمَه الله لَا يُنكر هَذَا وَلَكِن يَقُول هُوَ تسبيب قوي من حَيْثُ إِنَّه قصد بِهِ شخصا بِعَيْنِه فيصلح أَن يكون مُوجبا للقود عَلَيْهِ لِأَن فِيهِ معنى الْعلَّة من حَيْثُ إِن قَضَاء القَاضِي من مُوجبَات الشَّهَادَة وَالْقَتْل مُضَاف إِلَى ذَلِك إِلَّا أَنا نقُول القَاضِي إِنَّمَا يقْضِي عَن اخْتِيَار مِنْهُ وَلَيْسَ فِي وسع الشَّاهِد مَا يظهره القَاضِي بِقَضَائِهِ أَو يُوجِبهُ فَبَقيت شَهَادَة الشُّهُود تسبيبا فِي الْحَقِيقَة وَلَا مماثلة بَين التسبيب والمباشرة وَوُجُوب الْقصاص يعْتَمد الْمُبَاشرَة وعَلى هَذَا قَالَ فِي السّير إِذا قَالَ للغزاة أدلكم على حصن فِي دَار الْحَرْب تَجِدُونَ فِيهِ الْغَنَائِم فَإِن ذهب مَعَهم حَتَّى دلهم عَلَيْهِ كَانَ شريكهم فِي الْمُصَاب لِأَن فعله تسبيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 فِيهِ معنى الْعلَّة وَإِن وصف لَهُم الطَّرِيق حَتَّى وصلوا إِلَيْهِ بوصفه وَلم يذهب مَعَهم لم يكن شريكهم فِي الْمُصَاب لِأَن مَا صنعه تسبيب مَحْض وَلَيْسَ فِيهِ من معنى الْعلَّة شَيْء وَأما السَّبَب الَّذِي لَهُ شُبْهَة الْعلَّة كحفر الْبِئْر فِي الطَّرِيق فَإِنَّهُ سَبَب للْقَتْل من حَيْثُ إِيجَاد شَرط الْوُقُوع وَهُوَ زَوَال المسكة وَلَيْسَ بعلة فِي الْحَقِيقَة فالعلة ثقل الْمَاشِي فِي نَفسه وَالسَّبَب الْمُطلق مَشْيه فِي ذَلِك الْموضع فَأَما الْحفر فَهُوَ إِيجَاد شَرط الْوُقُوع وَلَكِن لَهُ شُبْهَة الْعلَّة من حَيْثُ إِن الحكم يُضَاف إِلَيْهِ وجودا عِنْده لَا ثبوتا بِهِ وَلِهَذَا لم يكن مُوجبا الْكَفَّارَة وَلَا حرمَان الْمِيرَاث فَإِن ذَلِك جَزَاء الْفِعْل وَفعله تمّ من غير اتِّصَال بالمقتول وَإِنَّمَا اتَّصل بالمقتول عِنْد الْوُقُوع بِسَبَب آخر وَهُوَ مَشْيه إِلَّا أَنه يجب ضَمَان الدِّيَة عَلَيْهِ لِأَن ذَلِك بدل الْمُتْلف لَا جَزَاء الْفِعْل وَقد حصل التّلف مُضَافا إِلَى حفره وجودا عِنْده فَإِذا كَانَ ذَلِك تَعَديا مِنْهُ وَجب الضَّمَان عَلَيْهِ بِمُقَابلَة الْمُتْلف حَتَّى لَو اعْترض على فعله مَا يُمكن إِضَافَة الحكم إِلَيْهِ نَحْو دفع دَافع إِيَّاه فِي الْبِئْر فَإِنَّهُ يكون الضَّمَان على الدَّافِع دون الْحَافِر وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا تزوج كَبِيرَة ورضيعة فأرضعت الْكَبِيرَة الرضيعة فَإِن الزَّوْج يغرم نصف صَادِق الصَّغِيرَة ثمَّ يرجع بِهِ على الْكَبِيرَة إِن تَعَمّدت الْفساد وَإِن لم تتعمد ذَلِك لم يرجع عَلَيْهَا بِشَيْء لِأَن ثُبُوت الْحُرْمَة بالإرضاع وَذَلِكَ مَوْجُود من الصبية إِلَّا أَن إلقام الثدي إِيَّاهَا سَبَب من الْكَبِيرَة لَهُ شُبْهَة الْعلَّة من حَيْثُ إِن الحكم يُضَاف إِلَيْهِ وجودا عِنْده وَهَذَا الضَّمَان لَيْسَ بِضَمَان إِتْلَاف ملك النِّكَاح فَإِنَّهُ لَا يضمن بِالْإِتْلَافِ عندنَا وَلَكِن ضَمَان تَقْرِير نصف صدَاق على الزَّوْج فَإِذا صَار ذَلِك مُضَافا إِلَى فعلهَا وجودا عِنْده كَانَ لفعلها شُبْهَة الْعلَّة وَقد كَانَت متعدية فِي ذَلِك حِين تَعَمّدت الْفساد فيلزمها ضَمَان الْعدوان وَالله أعلم فصل فِي تَقْسِيم الْعلَّة قَالَ رَضِي الله عَنهُ أَنْوَاع الْعلَّة سِتَّة عِلّة اسْما وَمعنى وَحكما وَهُوَ حَقِيقَة الْعلَّة وَعلة اسْما لَا معنى وَلَا حكما وَهُوَ يُسمى عِلّة مجَازًا وَعلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 اسْما وَمعنى لَا حكما وَعلة تشبه السَّبَب وَعلة معنى وَحكما لَا اسْما وَعلة اسْما وَحكما لَا معنى فَالْأول نَحْو البيع للْملك وَالنِّكَاح للْحلّ وَالْإِعْتَاق لزوَال الرّقّ وَإِثْبَات الْحُرِّيَّة وإيقاع الطَّلَاق للوقوع فَإِن هَذَا كُله عِلّة اسْما من حَيْثُ إِنَّه مَوْضُوع لهَذَا الْمُوجب فَإِن هَذَا الْمُوجب مُضَاف إِلَيْهِ لَا بِوَاسِطَة وَهُوَ عِلّة معنى من حَيْثُ إِنَّه مَشْرُوع لأجل هَذَا الْمُوجب وَهُوَ عِلّة حكما من حَيْثُ إِن هَذَا الحكم يثبت بِهِ وَلَا يجوز أَن يتراخى عَنهُ وَاخْتلف مَشَايِخنَا فِي أَن مثل هَذِه الْعلَّة الْمُطلقَة هَل يجوز أَن تكون مَوْجُودَة وَالْحكم مُتَأَخّر عَنهُ فَمنهمْ من جوز ذَلِك وَقَالَ الَّذِي لَا يجوز كَون الْعلَّة خَالِيَة عَن الحكم فَأَما يجوز أَن لَا يتَّصل الحكم بهَا وَلَكِن يتَأَخَّر لمَانع وَالأَصَح عندنَا أَنه لَا يجوز تَأَخّر الحكم عَن هَذِه الْعلَّة وَلَكِن الحكم يتَّصل ثُبُوته بِوُجُود هَذِه الْعلَّة بعد صِحَّتهَا لَا محَالة وَهُوَ عندنَا بِمَنْزِلَة الِاسْتِطَاعَة مَعَ الْفِعْل لَا يجوز القَوْل بِأَنَّهَا تسبق الْفِعْل وَأما الْعلَّة اسْما لَا معنى وَلَا حكما فبيانها فِيمَا ذكرنَا من تَعْلِيق الطَّلَاق وَالْعتاق بِالشّرطِ وَالْيَمِين قبل الْحِنْث فَإِنَّهَا عِلّة اسْما لَا معنى وَلَا حكما لِأَن الْعلَّة معنى وَحكما مَا يكون ثُبُوت الحكم عِنْد تقرره لَا عِنْد ارتفاعه وَبعد الْحِنْث لَا تبقى الْيَمين بل ترْتَفع وَكَذَلِكَ بعد وجود الشَّرْط فِي الْيَمين بِالطَّلَاق وَالْعتاق لَا يبْقى الْيَمين وَأما الْعلَّة اسْما وَمعنى لَا حكما فنحو البيع الْمَوْقُوف فَإِنَّهُ عِلّة للْملك اسْما من حَيْثُ إِنَّه بيع حَقِيقَة مَوْضُوع لهَذَا الْمُوجب وَمعنى من حَيْثُ إِنَّه مُنْعَقد شرعا بَين الْمُتَعَاقدين لإِفَادَة هَذَا الحكم فَإِن انْعِقَاده وَتَمَامه معنى بِمَا هُوَ من خَالص حَقّهَا وَلَيْسَ فِيهِ تعدِي الضَّرَر إِلَى الْغَيْر وَهُوَ لَيْسَ بعلة حكما لما فِي ثُبُوت الْملك بِهِ من الْإِضْرَار بالمالك فِي خُرُوج الْعين عَن ملكه من غير رِضَاهُ وَلِهَذَا إِذا وجد الْإِجَازَة مِنْهُ يسْتَند الحكم إِلَى وَقت العقد حَتَّى يملكهُ المُشْتَرِي بزوائده فيتبين بِهِ أَن الْعلَّة مَوْجُودَة اسْما وَمعنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 وَكَذَلِكَ إِذا صرح بِشَرْط الْخِيَار للْبَائِع فَإِنَّهُ عِلّة اسْما وَمعنى لَا حكما لِأَن خِيَار الشَّرْط دَاخل على الحكم لَا على أصل البيع وَكَانَ الْقيَاس أَن لَا يجوز اشْتِرَاط الْخِيَار فِي البيع لِمَعْنى الْغرَر إِلَّا أَنا لَو أدخلنا الشَّرْط على أصل السَّبَب دخل على الحكم ضَرُورَة وَلَو أدخلْنَاهُ على الحكم خَاصَّة لم يكن دَاخِلا على أصل السَّبَب فَكَانَ معنى الْغرَر والجهالة فِي هَذَا أقل وَإِذا ظهر أَن الشَّرْط دخل على الحكم خَاصَّة عرفنَا أَن البيع بِهَذَا الشَّرْط عِلّة اسْما وَمعنى لموجبه لَا حكما وَلِهَذَا لَو سقط الْخِيَار يثبت الْملك للْمُشْتَرِي من وَقت العقد حَتَّى يملك البيع بِالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَة والمنفصلة إِلَّا أَن أصل الْملك لما صَار مُتَعَلقا بِالشّرطِ لم يكن مَوْجُودا قبل الشَّرْط أصلا فالعتق الْمَوْجُود فِي هَذِه الْحَالة من المُشْتَرِي لَا يتَوَقَّف على أَن ينفذ ثُبُوت الْملك لَهُ إِذا سقط الْخِيَار وَفِي الأول إِنَّمَا يثبت فِي الْملك صفة التَّوَقُّف لَا التَّعْلِيق بِالشّرطِ وَتوقف الشَّيْء لَا يعْدم أَصله فَثَبت إِعْتَاقه بِصفة التَّوَقُّف أَيْضا على أَن ينفذ بنفوذ الْملك لَهُ بِالْإِجَارَة وَمن هَذَا النَّوْع الْإِجَارَة فَإِنَّهَا عِلّة للْملك اسْما وَمعنى لَا حكما لِأَنَّهَا تتَنَاوَل الْمَعْدُوم حَقِيقَة والمعدوم لَا يكون محلا للْملك وَلِهَذَا لم يثبت الْملك فِي الْأجر لِانْعِدَامِ الْعلَّة حكما وَيملك بِشَرْط التَّعْجِيل لوُجُود الْعلَّة اسْما وَمعنى إِلَّا أَن هُنَاكَ وجود الْعلَّة اسْما وَمعنى من حَيْثُ إِن المنتفع بِهِ جعل كالمنفعة الَّتِي هِيَ الْمَقْصُودَة بِالْعقدِ فَأَما العقد فِي حق الحكم حَقِيقَة وَهُوَ ملك الْمَنْفَعَة صَار مُضَافا إِلَى حَالَة الْوُجُود فَيَقْتَضِي الْملك فِي الْأجر على حَال اسْتِيفَاء الْمَنْفَعَة لهَذَا وَلَا يثبت مُسْتَندا إِلَى وَقت العقد لِأَن إِقَامَة الْعين مقَام الْمَنْفَعَة فِي حكم صِحَة الْإِيجَاب دون الحكم وعَلى هَذَا الطَّلَاق الرَّجْعِيّ فَإِنَّهُ عِلّة اسْما وَمعنى لَا حكما لِأَن حكم زَوَال الْملك بِهِ مُتَعَلق بِشَرْط انْقِضَاء الْعدة قبل الرّجْعَة وَهُوَ فِي حكم حُرْمَة الْمحل ركن من أَرْكَان الْعلَّة فَعرفنَا أَنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 لَيْسَ بعلة حكما وَلِهَذَا لم يثبت زَوَال ملك الْحل بِهِ وَلَا حُرْمَة الْوَطْء أصلا وَأما الْعلَّة الَّتِي تشبه السَّبَب فصورتها أَن يكون مَا يُضَاف إِلَيْهِ الحكم أَصله مَوْجُودا وَصفته منتظرا مُتَأَخِّرًا فِي وجوده خطر فَمن حَيْثُ وجود الأَصْل كَانَ عِلّة لِأَن الصّفة تَابِعَة للْأَصْل وبانعدام الْوَصْف لَا يَنْعَدِم الأَصْل وَمن حَيْثُ إِن كَونه مُوجبا للْحكم بِاعْتِبَار الصّفة وَهُوَ منتظر مُتَأَخّر فَالْأَصْل قبل وجود الْوَصْف كَانَ طَرِيقا للوصول إِلَيْهِ فَكَانَ سَببا وَبَيَان ذَلِك فِي النّصاب لِلزَّكَاةِ فَإِنَّهُ سَبَب لوُجُوب الزَّكَاة بِصفة النَّمَاء وَحُصُول هَذَا النَّمَاء منتظر لَا يكون إِلَّا بعد مُدَّة قدر الشَّرْع تِلْكَ الْمدَّة بالحول وَبِمَا ذكره لم ينْتَصب الْحول شرطا فَإِنَّهُ قَالَ (لَا زَكَاة فِي مَال حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول) وَحَتَّى كلمة غَايَة لَا كلمة شَرط وبانعدام صفة النَّمَاء للْحَال لَا يَنْعَدِم أصل المَال الَّذِي يُضَاف إِلَيْهِ هَذَا الحكم شرعا فجعلناه عِلّة تشبه السَّبَب حَتَّى يجوز التَّعْجِيل بعد كَمَال النّصاب وَلَا يكون الْمُؤَدى زَكَاة لِلْمَالِ لِانْعِدَامِ صفة الْعلَّة بِخِلَاف الْمُسَافِر إِذا صَامَ فِي شهر رَمَضَان والمقيم إِذا صلى فِي أول الْوَقْت فالمؤدى يكون فرضا لوُجُود الْعلَّة مُطلقَة بصفتها ثمَّ إِذا تمّ الْحول حَتَّى وَجب الزَّكَاة جَازَ الْمُؤَدى عَن الزَّكَاة بِاعْتِبَار أَن الْأَدَاء وجد بعد وجود الْعلَّة وَلَو كَانَ مَحْض سَبَب لم يكن الْمُؤَدى قبل وجود الْعلَّة محسوبا من الزَّكَاة كالمؤدى قبل كَمَال النّصاب فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن حولان الْحول لَيْسَ بتأجيل فِيهِ لِأَن التَّأْجِيل مهلة لمن عَلَيْهِ الْحق بعد كَمَال الْعلَّة فَإِذا أسقط المهلة بالتعجيل كَانَ فِي الْحَال مُؤديا للْوَاجِب وَهنا لَا يكون فِي الْحَال مُؤديا للْوَاجِب وَإِذا تمّ الْحول ونصابه غير كَامِل كَانَ الْمُؤَدى تَطَوّعا فَعرفنَا أَن النّصاب قبل وجود صفة النَّمَاء يمْضِي الْمدَّة يكون عِلّة فِي معنى السَّبَب حَتَّى يثبت حكم الْأَدَاء بِحَسب هَذِه الْعلَّة وَلَا يثبت الْوُجُوب أصلا بل يكون الْمُؤَدى مَوْقُوف الصِّحَّة على أَن يكون عَن الْوَاجِب إِذا تمّ مَا هُوَ صفة الْعلَّة باستناد حكم الْوُجُوب إِلَيْهِ وعَلى أَن يكون تَطَوّعا إِذا لم يتم ذَلِك الْوَصْف وَلَا يدْخل على هَذَا إِذا كَانَت الْإِبِل علوفة فَعجل عَنْهَا الزَّكَاة ثمَّ جعلهَا سَائِمَة لِأَن هُنَاكَ أصل الْعلَّة لم يُوجد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 وَهُوَ المَال النامي فَإِن الْغناء مُطلقًا لَا يحصل شرعا إِلَّا بِالْمَالِ النامي وَبِمَا لَا يحصل الْغناء من المَال لَا تكون الْعلَّة مَوْجُودَة بِمَنْزِلَة مَا دون النّصاب وعَلى هَذَا مرض الْمَوْت فَإِنَّهُ عِلّة للحجر عَن التَّبَرُّعَات فِيمَا هُوَ حق الْوَارِث بعد الْمَوْت بِصفة إِيصَال الْمَوْت بِهِ وَهَذَا منتظر فَكَانَ الْمَوْجُود فِي الْحَال عِلّة تشبه السَّبَب فَإِذا تمّ باتصال الْمَوْت بِهِ اسْتندَ حكمه إِلَى أول الْمَرَض حَتَّى يبطل تبرعه بِمَا زَاد على الثُّلُث وَإِذا برأَ من مَرضه كَانَ تبرعه نَافِذا لِأَن الْعلَّة لم تتمّ بصفتها وَكَذَلِكَ الْجرْح عِلّة لوُجُوب الْكَفَّارَة فِي الصَّيْد والآدمي بِصفة السَّرَايَة وَهِي صفة منتظرة فَكَانَ الْمَوْجُود قبل السَّرَايَة عِلّة تشبه السَّبَب حَتَّى يجوز أَدَاء الْكَفَّارَة بِالْمَالِ وَالصَّوْم جَمِيعًا وَإِذا اتَّصل بِهِ الْمَوْت كَانَ الْمُؤَدى جَائِزا عَن الْوَاجِب وَهَذَا كُله لِأَن الْوَصْف لَا يقوم بِنَفسِهِ وَإِنَّمَا يقوم بالموصوف فَلَا يُمكن جعل الْمَوْصُوف أحد وصفي الْعلَّة ليَكُون سَببا لَا عِلّة كَمَا بَينا فِي فصل السَّبَب وَلَا يُمكن جعل الْوَصْف عِلّة معنى وَحكما بِمَنْزِلَة آخر الوصفين وجودا من عِلّة هِيَ ذَات وصفين فَلهَذَا جعلناها عِلّة تشبه السَّبَب وَمن هَذَا النَّوْع عِلّة الْعلَّة وَذَلِكَ أَن تكون الْعلَّة مُوجبَة للْحكم بِوَاسِطَة تِلْكَ الْعلَّة من مُوجبَات الْعلَّة الأولى فَتكون بِمَنْزِلَة عِلّة توجب الحكم بِوَصْف وَذَلِكَ الْوَصْف قَائِم بِالْعِلَّةِ فَكَمَا أَن الحكم هُنَاكَ يكون مُضَافا إِلَى الْعلَّة دون الصّفة فَهُنَا يكون أَيْضا مُضَافا إِلَى الْعلَّة دون الْوَاسِطَة وَذَلِكَ نَحْو الرَّمْي فَإِنَّهُ يُوجب تحرّك السهْم ومضيه فِي الْهَوَاء ونفوذه فِي الْمَقْصُود حَتَّى يبتنى عَلَيْهِ عِلّة الْقَتْل وَلَكِن هَذِه الواسطات من مُوجبَات الرَّمْي فَكَانَ الرَّمْي عِلّة تَامَّة لمباشرة الْقَتْل حَتَّى يجب الْقصاص على الرَّامِي وَلِهَذَا قُلْنَا فِي شِرَاء الْقَرِيب إِنَّه إِعْتَاق تتأدى بِهِ الْكَفَّارَة إِذا نَوَاه لِأَن الشِّرَاء مُوجب للْملك وَالْملك فِي الْقَرِيب مُوجب لِلْعِتْقِ فَيصير الحكم مُضَافا إِلَى السَّبَب الأول لكَون الْوَاسِطَة من موجباته بِخِلَاف مَا إِذا اشْترى الْمَحْلُوف بِعِتْقِهِ بنية الْكَفَّارَة لِأَن الْوَاسِطَة وَهِي الشَّرْط يُضَاف إِلَيْهِ الْعتْق وجودا عِنْده لَا وجوبا بِهِ وَالْعِتْق عِنْد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 وجوده مُضَاف إِلَى مَا وجد من التَّعْلِيق بِمَا هُوَ بَاقٍ بعد وجود الشَّرْط وَهُوَ قَوْله أَنْت حر وَلم تقترن بِهِ نِيَّة الْكَفَّارَة وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ فِي المزكين لشهود الزِّنَا إِذا رجعُوا ضمنُوا لِأَن التَّزْكِيَة فِي معنى عِلّة الْعلَّة فَإِن الْمُوجب للْحكم بِالرَّجمِ شَهَادَة الشُّهُود وَالشَّهَادَة لَا تكون مُوجبَة بِدُونِ التَّزْكِيَة فَمن هَذَا الْوَجْه يصير الحكم مُضَافا إِلَى التَّزْكِيَة وَمن حَيْثُ إِن التَّزْكِيَة صفة للشَّهَادَة بَقِي الحكم مُضَافا إِلَى الشَّهَادَة أَيْضا فَأَي الْفَرِيقَيْنِ رَجَعَ كَانَ ضَامِنا وَمِمَّا هُوَ نَظِير الْعلَّة الَّتِي تشبه السَّبَب مَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ فِي رجل قَالَ آخر عبد أشتريه فَهُوَ حر فَاشْترى عبدا ثمَّ عبدا ثمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يعْتق الثَّانِي من حِين اشْتَرَاهُ وَكَذَلِكَ لَو قَالَ آخر امْرَأَة أَتَزَوَّجهَا فَهِيَ طَالِق لِأَن الثَّانِي مَوْصُوف بِصفة الآخرية بِاعْتِبَار معنى منتظر وَهُوَ أَن لَا يَشْتَرِي بعده غَيره حَتَّى يَمُوت وَلَا يتَزَوَّج بعْدهَا غَيرهَا فَلم يكن الحكم ثَابتا فِي الْحَال لِمَعْنى الِانْتِظَار فِي هَذَا الْوَصْف فَإِذا زَالَ الِانْتِظَار وتقرر الْوَصْف كَانَ الحكم ثَابتا من حِين وجدت الْعلَّة لَا من حِين زَوَال الِانْتِظَار كَمَا هُوَ حكم الْعلَّة الَّتِي تشبه السَّبَب وَقد جعل بعض مَشَايِخنَا الْإِيجَاب الْمُضَاف إِلَى وَقت من هَذَا الْقسم قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَنه من الْقسم الثَّالِث فَإِنَّهُ عِلّة اسْما وَمعنى لَا حكما وَلِهَذَا لَو نذر أَن يتَصَدَّق بدرهم غَدا فَتصدق بِهِ الْيَوْم جَازَ عَن الْمَنْذُور للْحَال وَلَو كَانَ هَذَا من نَظِير الْقسم الرَّابِع لتأخر حكم جَوَازه عَن الْمَنْذُور إِلَى مَجِيء ذَلِك الْوَقْت كَمَا بَينا فِي تَعْجِيل الزَّكَاة وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله فِي النّذر بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاة إِذا أَضَافَهُ إِلَى وَقت فِي الْمُسْتَقْبل يجوز تَعْجِيله قبل ذَلِك الْوَقْت لوُجُود الْعلَّة اسْما وَمعنى وَإِن تَأَخّر حكم وجوب الْأَدَاء إِلَى مَجِيء ذَلِك الْوَقْت بِمَنْزِلَة الصَّوْم فِي حق الْمُسَافِر وَقَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله لَا يجوز اعْتِبَارا لما يُوجِبهُ على نَفسه فِي وَقت بِعَيْنِه بِمَا أوجب الله عَلَيْهِ فِي وَقت بِعَيْنِه حَتَّى لَا يَنْفَكّ ذَلِك الْوَقْت عَن وجوب الْأَدَاء أَو وجود الْأَدَاء فِيهِ وَإِذا جَازَ التَّعْجِيل خلا الْوَقْت الْمُضَاف عَن ذَلِك أصلا فَأَما الْعلَّة الَّتِي هِيَ معنى حكما لَا اسْما فَهُوَ آخر الوصفين من عِلّة تشْتَمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 على وصفين مؤثرين فِي الْعتْق نَحْو مَا بَينا فِي الْقَرَابَة الْمُحرمَة للنِّكَاح مَعَ الْملك فَإِنَّهُمَا وصفان مؤثران فِي الْعتْق ثمَّ آخرهما وجودا يكون عِلّة معنى وَحكما وَالْمرَاد بِالْمَعْنَى كَونه مؤثرا فِيهِ وبالحكم أَنه يثبت الحكم عِنْده وَهَذَا لِأَن الْوَصْف الثَّانِي مَعَ الأول اسْتَويَا فِي الْوُجُوب بهما وترجح الثَّانِي بالوجود عِنْده فَكَانَ عِلّة معنى وَحكما لَا اسْما فَإِن الحكم مُضَاف إِلَى الوصفين جَمِيعًا فَمن حَيْثُ الِاسْم الْوَصْف الثَّانِي شطر الْعلَّة وعَلى هَذَا قُلْنَا أحد وصفي عِلّة الرِّبَا يحرم النسأ بِانْفِرَادِهِ لِأَن كل وَاحِد من الوصفين عِلّة معنى وَحكما إِذا تَأَخّر وجوده عَن الْوَصْف الآخر وَحُرْمَة النسأ مَبْنِيّ على الِاحْتِيَاط وَهُوَ أسْرع ثبوتا من حُرْمَة الْفضل لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام إِذا اخْتلف النوعان فبيعوا كَيفَ شِئْتُم بعد أَن يكون يدا بيد فَجعل ثَابتا بِوُجُود أحد الوصفين وَلَا يدْخل على هَذَا حكم الشَّهَادَة فَإِن شَهَادَة الشَّاهِد الثَّانِي بعد الأول لَا تجْعَل عِلّة للاستحقاق معنى وَحكما وَإِن كَانَ اسْتِحْقَاق الحكم عِنْده يكون لِأَن هُنَاكَ الِاسْتِحْقَاق لَا يثبت بِالشَّهَادَةِ بل بِقَضَاء القَاضِي وَقَضَاء القَاضِي يكون بِشَهَادَة الشَّاهِدين جَمِيعًا فَلَا يتَصَوَّر فِيهِ كَون أَحدهمَا سَابِقًا وَالْآخر متمما لعِلَّة الِاسْتِحْقَاق فَأَما الْعلَّة اسْما وَحكما لَا معنى فَهُوَ السّفر وَالْمَرَض فِي ثُبُوت الرُّخص بهما فَإِنَّهَا فِي الشَّرِيعَة مُضَافَة إِلَى السّفر وَالْمَرَض فَعرفنَا أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا عِلّة اسْما وَكَذَلِكَ من حَيْثُ الحكم فَحكم جَوَاز التَّرَخُّص بِالْفطرِ وَنَحْوه يثبت عِنْد وجود السّفر وَالْمَرَض فَأَما الْمَعْنى الْمُؤثر فِي هَذِه الرُّخْصَة فَهُوَ الْمَشَقَّة الَّتِي تلْحقهُ بِالصَّوْمِ دون السّفر وَالْمَرَض لما بَينا أَن الْمَعْنى مَا يكون مؤثرا فِي الحكم وَذَلِكَ الْمَشَقَّة وَإِلَيْهِ أَشَارَ الله تَعَالَى فِي قَوْله {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر} إِلَّا أَن الْمَشَقَّة بَاطِن تَتَفَاوَت أَحْوَال النَّاس فِيهِ وَلَا يُمكن الْوُقُوف على حَقِيقَته فَأَقَامَ الشَّرْع السّفر بِصفة مَخْصُوصَة مقَام تِلْكَ الْمَشَقَّة لكَونه دَالا عَلَيْهَا غَالِبا وَكَذَلِكَ أَقَامَ الْمَرَض بِوَصْف مَخْصُوص مقَام تِلْكَ الْمَشَقَّة فَعرفنَا أَنه عِلّة اسْما وَحكما لَا معنى وَلِهَذَا لَو أصبح مُقيما صَائِما ثمَّ سَافر فَأفْطر لم تلْزمهُ الْكَفَّارَة لوُجُود عِلّة الْإِسْقَاط اسْما وَإِن انْعَدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 معنى وَحكما حَتَّى لَا يكون الْفطر مُبَاحا لَهُ فِي هَذَا الْيَوْم أصلا وعَلى هَذَا قُلْنَا النّوم فِي كَونه حَدثا عِلّة اسْما وَحكما لَا معنى إِذْ الْمَعْنى الَّذِي هُوَ مُؤثر فِي الْحَدث خُرُوج نجس من الْبدن أَو من أحد السَّبِيلَيْنِ على حسب مَا اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ وَذَلِكَ غير مَوْجُود فِي النّوم إِلَّا أَن النّوم بِصفة مَخْصُوصَة وَهُوَ أَن يكون مُضْطَجعا أَو مُتكئا لكَونه دَلِيل استرخاء المفاصل يقوم مقَام خُرُوج شَيْء من الْبدن تيسيرا وعَلى هَذَا حكم النّسَب فَإِن ملك النِّكَاح عِلّة لثُبُوت النّسَب اسْما وَحكما لَا معنى لِأَن الْمَعْنى الَّذِي هُوَ مُؤثر فِي النّسَب كَون الْوَلَد مخلوقا من مَائه وَلكنه بَاطِن فَقَامَ النِّكَاح الَّذِي هُوَ ظَاهر مقَامه تيسيرا وَكَذَلِكَ الْمس عَن شَهْوَة وَالنِّكَاح فِي حكم حُرْمَة الْمُصَاهَرَة فَإِنَّهُ يكون اسْما وَحكما لَا معنى وَكَذَلِكَ الِاسْتِبْرَاء فَإِن استحداث ملك الْوَطْء بِملك الْيَمين عِلّة لوُجُوب الِاسْتِبْرَاء اسْما وَحكما لَا معنى لِأَن الْمُؤثر فِي إِيجَاب الِاسْتِبْرَاء اشْتِغَال الرَّحِم بِمَاء الْغَيْر لمقصود صِيَانة مَائه عَن الْخَلْط بِمَاء آخر وَذَلِكَ بَاطِن فَقَامَ السَّبَب الظَّاهِر الدَّال عَلَيْهِ وَهُوَ استحداث ملك الْوَطْء بِملك الْيَمين مقَام ذَلِك الْمَعْنى فِي وجوب الِاسْتِبْرَاء بِهِ وَلم يقم ملك النِّكَاح مقَام ذَلِك الْمَعْنى لِأَن زَوَال ملك النِّكَاح بعد وجود السَّبَب الْمُوجب لشغل الرَّحِم يعقب عدَّة بهَا يحصل الْمَقْصُود وَهُوَ بَرَاءَة الرَّحِم فَلَا حَاجَة إِلَى إِيجَاب الِاسْتِبْرَاء عِنْد حُدُوث ملك وَأما زَوَال ملك الْيَمين بعد الْوَطْء لَا يعقب وجوب مَا هُوَ دَلِيل بَرَاءَة الرَّحِم فَتَقَع الْحَاجة إِلَى إِيجَاب الِاسْتِبْرَاء عِنْد حُدُوث ملك الْحل بِملك الْيَمين لمقصود بَرَاءَة الرَّحِم وأمثلة هَذَا النَّوْع أَكثر من أَن تحصى وَهَذَا فِي الْحَاصِل نَوْعَانِ أَحدهمَا إِقَامَة الدَّاعِي مقَام الْمَدْعُو كالمس وَالنِّكَاح الدَّاعِي (إِلَى) مَا يثبت بِهِ معنى البعضية وَالثَّانِي إِقَامَة الدَّلِيل مقَام الْمَدْلُول كاسترخاء المفاصل بِالنَّوْمِ فَإِنَّهُ دَلِيل خُرُوج شَيْء من الْبدن والتقاء الختانين فِي كَونه مُوجبا للاغتسال لِأَنَّهُ دَلِيل خُرُوج الْمَنِيّ عَن شَهْوَة والمباشرة الْفَاحِشَة فِي كَونه حَدثا عِنْد أبي حنيفَة وأبى يُوسُف رَحْمَة الله عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ دَلِيل خُرُوج شَيْء مِنْهُ حِين انتشرت الْآلَة بِالْمُبَاشرَةِ وعَلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لامْرَأَته إِن كنت تحبيني أَو تبغضيني فَأَنت كَذَا فَإِن إخبارها بِهِ فِي الْمجْلس يكون دَلِيل وجود مَا جعله شرطا فَجعل قَائِما مقَام الْمَدْلُول وَفِيه ثَلَاثَة أوجه من الْفِقْه أَحدهَا الضَّرُورَة وَالْعجز عَن الْوُقُوف على مَا هُوَ الْحَقِيقَة كَمَا فِي الْمحبَّة والبغض وَبِه تعدى الحكم إِلَى قَوْله إِن حِضْت فَأَنت كَذَا فَقَالَت حِضْت فَإِنَّهُ يُقَام خَبَرهَا بِهِ مقَام حَقِيقَة الشَّرْط فِي وُقُوع الطَّلَاق وَالثَّانِي الِاحْتِيَاط فِي بَاب الحرمات والعبادات وَالثَّالِث دفع الْحَرج عَن النَّاس فِيمَا تتَحَقَّق فِيهِ الْحَاجة لَهُم وَلِهَذَا جعل الشَّرْع فِي بَاب الْإِجَارَة ملك الْعين المنتفع بِهِ مقَام ملك الْمَعْقُود عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَة فِي جَوَاز العقد وَأقَام سَبَب وجود الْمَنْفَعَة وَهُوَ كَون الْعين مُنْتَفعا بهَا مقَام حَقِيقَة وجودهَا لِأَنَّهَا بعد الْوُجُود لَا تبقى وَقْتَيْنِ فَلَا يُمكن إبراد العقد عَلَيْهَا وتسليمها فلدفع الْحَرج فِيمَا للنَّاس حَاجَة إِلَيْهِ أَقَامَ الشَّرْع غير الْمَقْصُود بِالْعقدِ مقَام الْمَقْصُود فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عقد الْمُعَاوضَة وَهُوَ وجود الْمَعْقُود عَلَيْهِ وَكَونه مَمْلُوكا للعاقد فَهَذِهِ حُدُود يتم بمعرفتها فقه الرجل وَلَكِن فِي ضبط حُدُودهَا بعض الْحَرج لما فِيهَا من الدقة فَلَا يطْلبهَا فَقِيه بكسل وَلَا يَقِفن عَن طلبَهَا بفشل وَالله الْهَادِي لمن جَاهد فِي سَبيله فصل فِي بَيَان تَقْسِيم الشَّرْط وَهِي سِتَّة أَقسَام شَرط مَحْض وَشرط فِي حكم الْعلَّة وَشرط فِيهِ شُبْهَة الْعلَّة وَشرط فِي معنى السَّبَب وَشرط اسْما لَا حكما وَشرط بِمَعْنى الْعَلامَة الْخَالِصَة فَأَما الشَّرْط الْمَحْض فَهُوَ مَا يتَوَقَّف وجود الْعلَّة على وجوده وَيمْتَنع وجود الْعلَّة حَقِيقَة بعد وجودهَا صُورَة حَتَّى يُوجد ذَلِك الشَّرْط فَتَصِير مَوْجُودَة عِنْدهَا حَقِيقَة على مَا بَينا فِي الْفرق بَين الشَّرْط وَالْعلَّة أَن الحكم مُضَاف إِلَى الشَّرْط وجودا عِنْده لَا وجوبا بِهِ وَذَلِكَ نَحْو كَلِمَات الشَّرْط كلهَا كَقَوْلِه لعَبْدِهِ إِن دخلت الدَّار فَأَنت حر أَو إِذا دخلت أَو مَتى دخلت أَو كلما دخلت فَإِن التَّحْرِير الَّذِي هُوَ عِلّة يتَوَقَّف وجوده على وجود الشَّرْط حَقِيقَة بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 مَا وجد صورته بكلماته من الْمولى وَعند وجود الشَّرْط يُوجد التَّحْرِير حَقِيقَة فَيثبت بِهِ حكم الْعتْق وعَلى هَذَا حكم الْعِبَادَات والمعاملات فَإِنَّهَا تعلّقت بِأَسْبَاب جعلهَا الشَّرْع سَببا للْوُجُوب كَمَا بَينا ثمَّ وجود الْعلَّة حَقِيقَة يتَأَخَّر إِلَى وجود مَا هُوَ شَرط فِيهِ وَهُوَ الْعلم بِهِ أَو مَا يقوم مقَام الْعلم بِهِ حَتَّى إِن النَّص النَّازِل قبل علم الْمُخَاطب بِهِ جعل فِي حَقه كَأَنَّهُ غير نَازل وَلِهَذَا قُلْنَا من أسلم فِي دَار الْحَرْب وَلم يعلم بِوُجُوب الْعِبَادَات عَلَيْهِ حَتَّى مضى زمَان ثمَّ علم بذلك فَإِنَّهُ لَا يلْزمه قَضَاء شَيْء بِاعْتِبَار السَّبَب فِي الْمَاضِي وَإِذا أسلم فِي دَار الْإِسْلَام يلْزمه الْقَضَاء لَا لِأَن الْعلم لَيْسَ بِشَرْط وَلَكِن لِأَن شيوع الْخطاب فِي دَار الْإِسْلَام وتيسير الْوُصُول إِلَيْهِ بِأَدْنَى طلب يقوم مقَام وجود الْعلم بِهِ فَتَصِير الْعلَّة مَوْجُودَة حَقِيقَة بِوُجُود الشَّرْط حكما وعَلى هَذَا تُؤَدّى الْعِبَادَات بأَدَاء أَرْكَانهَا نَحْو الصَّلَاة فَإِن أَرْكَانهَا الْقيام وَالْقِرَاءَة وَالرُّكُوع وَالسُّجُود ثمَّ لَا يُوجد الْأَدَاء بهَا إِلَّا بعد وجود الشَّرْط وَهُوَ النِّيَّة وَالطَّهَارَة وَكَذَلِكَ الْمُعَامَلَات فَإِن ركن النِّكَاح وَهُوَ الْإِيجَاب وَالْقَبُول لَا يُوجد بِهِ انْعِقَاد العقد إِلَّا عِنْد وجود الشَّرْط وَهُوَ الشُّهُود ثمَّ هَذَا النَّوْع من الشَّرْط إِنَّمَا يعرف بصيغته أَو بدلالته فَمَتَى وجد صِيغَة كلمة الشَّرْط لم يَنْفَكّ عَن معنى الشَّرْط وَالَّذِي قَالَه بعض الْمُتَأَخِّرين من مَشَايِخنَا فِي قَوْله تَعَالَى {فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا} إِنَّه مَذْكُور على سَبِيل الْعَادة وَإنَّهُ لَا فَائِدَة فِيهِ سوى أَن الْحَاجة إِلَى الْكِتَابَة أمس فِي هَذِه الْحَالة قَالَ رَضِي الله عَنهُ هَذَا لَيْسَ بِقَوي عِنْدِي لِأَن تَحت هَذَا الْكَلَام أَنه لَيْسَ فِي ذكر هَذَا الشَّرْط فَائِدَة معنى الشَّرْط وَكَلَام الله تَعَالَى منزه عَن هَذَا بل فِيهِ فَائِدَة الشَّرْط وَبَيَانه أَن الْأَمر للْإِيجَاب تَارَة وللندب أُخْرَى وَالْمرَاد النّدب هُنَا بِدَلِيل مَا بعده وَهُوَ قَوْله {وَآتُوهُمْ من مَال الله الَّذِي آتَاكُم} فَإِنَّهُ للنَّدْب دون الْإِيجَاب وَعقد الْكِتَابَة وَإِن كَانَ مُبَاحا قبل أَن يعلم فِيهِ خيرا فَإِنَّمَا يصير مَنْدُوبًا إِلَيْهِ إِذا علم أَن فِيهِ خيرا فَظهر فَائِدَة الشَّرْط من هَذَا الْوَجْه وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمن لم يسْتَطع مِنْكُم طولا} فَإِنَّهُ غير مَذْكُور على وفَاق الْعَادة عندنَا بل لبَيَان النّدب فَإِن نِكَاح الْأمة مَعَ طول الْحرَّة عدم طول الْحرَّة وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ} وَإِن كَانَ مُبَاحا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 لَهُ إِلَّا أَنه غير مَنْدُوب إِلَيْهِ وَإِنَّمَا ينْدب إِلَيْهِ بِشَرْط غير مَذْكُور على وفَاق الْعَادة بل هُوَ بِمَعْنى الشَّرْط حَقِيقَة لِأَن المُرَاد هُوَ الْقصر فِي أَحْوَال الصَّلَاة كالأداء رَاكِبًا بِالْإِيمَاءِ والإيجاز فِي الْقِرَاءَة وَتَخْفِيف الرُّكُوع وَالسُّجُود وَذَلِكَ إِنَّمَا يُوجد عِنْد وجود هَذَا الشَّرْط وَهُوَ الْخَوْف أَلا ترى إِلَى قَوْله تَعَالَى {فَإِن خِفْتُمْ فرجالا أَو ركبانا فَإِذا أمنتم فاذكروا الله كَمَا علمكُم مَا لم تَكُونُوا تعلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {فَإِذا اطمأننتم فأقيموا الصَّلَاة} فَأَما قَوْله تَعَالَى {وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن} فَهُوَ غير مَذْكُور بِصِيغَة الشَّرْط فِيهِ وَقَوله تَعَالَى {فَإِن لم تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهن فَلَا جنَاح عَلَيْكُم} وَحكم الْجَوَاز لَا يثبت إِلَّا عِنْد وجود هَذَا الشَّرْط وَبَيَان دلَالَة الشَّرْط فِيمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا إِذا قَالَ لنسوة الْمَرْأَة الَّتِي أَتَزَوَّجهَا مِنْكُن طَالِق أَو قَالَ لأَرْبَع نسْوَة لَهُ الْمَرْأَة الَّتِي تدخل الدَّار مِنْكُن طَالِق فَإِنَّهُ يتَوَقَّف وجود الْعلَّة حَقِيقَة على وجود التَّزَوُّج وَالدُّخُول لوُجُود دلَالَة الشَّرْط فِيهِ وَهُوَ أَنه مَذْكُور على سَبِيل الْوَصْف للنكرة بِخِلَاف مَا لَو قَالَ هَذِه الْمَرْأَة الَّتِي أَتَزَوَّجهَا أَو هَذِه الْمَرْأَة الَّتِي تدخل الدَّار فَإِنَّهُ مَذْكُور على سَبِيل الْوَصْف للعين فَلَا يكون شرطا وَلَا يتَوَقَّف وجود الْعلَّة على وجوده وَلَو أَتَى بِصِيغَة الشَّرْط فِي الْوَجْهَيْنِ يُوقف وجود الْعلَّة على وجوده بِأَن قَالَ إِن تزوجت امْرَأَة مِنْكُن أَو هَذِه الْمَرْأَة إِن تَزَوَّجتهَا وَأما الشَّرْط الَّذِي هُوَ حكم الْعلَّة فنحو شقّ الزق حَتَّى يسيل مَا فِيهِ من الدّهن وَقطع حَبل الْقنْدِيل حَتَّى يسْقط فينكسر فَإِن الشق فِي الصُّورَة مُبَاشرَة إِتْلَاف جُزْء من الزق وَفِي حق الدّهن هُوَ إِيجَاد شَرط السيلان وَلَكِن جعل هَذَا الشَّرْط فِي حكم الْعلَّة حَتَّى يَجْعَل كَأَنَّهُ بَاشر إِرَاقَة الدّهن لِأَن الْمَائِع لَا يكون مَحْفُوظًا إِلَّا بوعاء فإزالة مَا بِهِ تماسكه يكون مُبَاشرَة تَفْوِيت مَا كَانَ مَحْفُوظًا بِهِ وَكَذَلِكَ الْقنْدِيل على مَا هُوَ مَصْنُوع لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 عَادَة لَا يكون مَحْفُوظًا إِلَّا بِحَبل يعلقه بِهِ فَكَانَ قطع ذَلِك الْحَبل مُبَاشرَة تَفْوِيت مَا كَانَ مَحْفُوظًا بِهِ فَيكون إِلْقَاء وكسرا وعَلى هَذَا جرح الْإِنْسَان إِذا اتَّصل بِهِ السَّرَايَة يكون مُبَاشرَة الْقَتْل حَتَّى يجب الْقصاص بِهِ إِذا كَانَ عمدا لِأَن الْحَيَاة لَا يُمكن إزهاقه حَقِيقَة بِالْأَخْذِ والإخراج وَلكنه مَحْفُوظ فِي الْبدن بسلامة البنية فنقض البنية بِالْجرْحِ وَالْقطع يكون تفويتا لما كَانَ بِهِ مَحْفُوظًا فَيجْعَل ذَلِك مُبَاشرَة عِلّة الْقَتْل حكما بِخِلَاف الطَّلَاق وَالْعتاق فَإِنَّهُ مَحْفُوظ عِنْد الْمَالِك بامتناعه عَن التَّكَلُّم بِكَلِمَة الْإِيقَاع فَبعد مَا تكلم بِكَلِمَة الْإِيقَاع كَانَ التَّعْلِيق بِالشّرطِ للْمَنْع من الْوُقُوع وَمن أَن يكون ذَلِك التَّكَلُّم عِلّة حَقِيقَة وَإِذا صَار عِنْد وجود الشَّرْط عِلّة حَقِيقَة كَانَ الحكم مُضَافا إِلَى الْعلَّة ثبوتا بِهِ وَإِلَى الشَّرْط وجودا عِنْده فَلم يكن الشَّرْط هُنَاكَ فِي حكم الْعلَّة حَتَّى كَانَ وجوب الضَّمَان عِنْد الرُّجُوع على شُهُود التَّعْلِيق دون شُهُود الشَّرْط وَلَا ضَمَان على شُهُود الشَّرْط إِذا رجعُوا دون شُهُود التَّعْلِيق وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة فِيمَن قيد عَبده ثمَّ قَالَ إِن كَانَ فِي قيدك عشرَة أَرْطَال حَدِيد فَأَنت حر وَإِن حل هَذَا الْقَيْد فَأَنت حر فَشهد الشَّاهِدَانِ أَن فِي الْقَيْد عشرَة أَرْطَال حَدِيد فَأعْتقهُ القَاضِي ثمَّ حل الْقَيْد فَإِذا فِيهِ خَمْسَة أَرْطَال فَإِن الشُّهُود يضمنُون قيمَة العَبْد لِأَن قَضَاء القَاضِي عِنْده بِشَهَادَة الزُّور ينفذ ظَاهرا وَبَاطنا فَكَانَ الْعتْق ثَابتا بِقَضَاء القَاضِي بعد شَهَادَتهمَا قبل أَن يحل الْقَيْد وهما فِي الصُّورَة شَاهدا الشَّرْط ولكنهما مثبتان عِلّة الْعتْق بِشَهَادَتِهِمَا لِأَنَّهُمَا شَهدا أَن الْمولى علق عتقه بِشَرْط مَوْجُود وَالتَّعْلِيق بِشَرْط مَوْجُود يكون تنجيزا فكأنهما شَهدا بتنجيز الْعتْق فضمنا لإثباتهما شرطا هُوَ عِلّة فِي الحكم وَأما الشَّرْط الَّذِي يشبه الْعلَّة فَهُوَ أَن يُعَارضهُ مَا لَا يصلح أَن يكون عِلّة للْحكم بِانْفِرَادِهِ وَمَتى عَارضه مَا يصلح عِلّة بِانْفِرَادِهِ فَذَلِك الشَّرْط لَا يشبه الْعلَّة لِمَعْنى وَهُوَ أَن الأَصْل فِي إِضَافَة الحكم إِلَيْهِ (الْعلَّة) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 وَعلل الشَّرْع فِيمَا يرجع إِلَى ثُبُوت الحكم بهَا كَأَنَّهَا شُرُوط على معنى أَنَّهَا أَمَارَات غير مُوجبَة للْحكم بذواتها بل بِجعْل الشَّرْع إِيَّاهَا كَذَلِك وَالشّرط من وَجه يشبهها على معنى أَن الحكم يصير مُضَافا إِلَى الشَّرْط وجودا عِنْده فَأمكن جعله خلفا عَن الْعلَّة فِي الحكم فَقُلْنَا مَتى عَارض الشَّرْط مَا لَا يصلح أَن يكون عِلّة فِي الحكم صَار مَوْجُودا بعد وجود الشَّرْط فَلَا بُد من أَن يَجْعَل الشَّرْط خلفا عَن الْعلَّة فِي إِثْبَات الحكم بِهِ وَمَتى أمكن جعل الْمعَارض عِلّة بِانْفِرَادِهِ فَلَا حَاجَة إِلَى إِثْبَات هَذِه الْخلَافَة فَلم يَجْعَل للشّرط شبه الْعلَّة وَبَيَانه فِيمَا قُلْنَا إِن حفر الْبِئْر فِي الطَّرِيق إِيجَاد شَرط الْوُقُوع بِإِزَالَة المسكة عَن ذَلِك الْموضع إِلَّا أَن مَا عَارضه من الْعلَّة وَهُوَ ثقل الْمَاشِي لَا يصلح بِانْفِرَادِهِ عِلّة الْإِتْلَاف بطرِيق الْعدوان وَمَا هُوَ سَببه وَهُوَ مَشْيه لَا يصلح عِلّة لذَلِك فَإِنَّهُ مُبَاح مُطلقًا فَكَانَ الشَّرْط بِمَنْزِلَة الْعلَّة فِي إِضَافَة الحكم إِلَيْهِ حَتَّى يجب الضَّمَان على الْحَافِر وَلَكِن لَا يصير مباشرا للإتلاف حَتَّى لَا تلْزمهُ الْكَفَّارَة وَلَا يحرم عَن الْمِيرَاث فَكَانَ لهَذَا الشَّرْط شبه الْعلَّة لَا أَن يكون عِلّة حكما وَقُلْنَا فِي شُهُود التَّعْلِيق وشهود الشَّرْط إِذا رجعُوا فَالضَّمَان على شُهُود التَّعْلِيق خَاصَّة لأَنهم نقلوا قَول الْمولى أَنْت حر وَهَذَا بِانْفِرَادِهِ عِلّة تَامَّة لإضافة حكم الْعتْق إِلَيْهِ فَلم يكن للشّرط هُنَاكَ شبه الْعلَّة فَلهَذَا لَا يضمن شُهُود الشَّرْط شَيْئا سَوَاء رَجَعَ الْفَرِيقَانِ أَو رَجَعَ شُهُود الشَّرْط خَاصَّة وَكَذَلِكَ إِذا رَجَعَ شُهُود التَّخْيِير وشهود الِاخْتِيَار فَإِن الضَّمَان على شُهُود الِاخْتِيَار خَاصَّة لِأَن التَّخْيِير سَبَب وَمَا عَارضه وَهُوَ الِاخْتِيَار عِلّة تَامَّة للْحكم فَكَانَ الحكم مُضَافا إِلَيْهِ دون السَّبَب فَلم يضمن شُهُود السَّبَب شَيْئا كَمَا لَا يضمن شُهُود الشَّرْط وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا اخْتلف حافر الْبِئْر مَعَ ولي الْوَاقِع فِيهَا وَقَالَ الْحَافِر أوقع فِيهَا نَفسه وَقَالَ الْوَلِيّ لَا بل وَقع فِيهَا فَالْقَوْل قَول الْحَافِر اسْتِحْسَانًا لِأَن الْحفر شَرط جعل خلفا عَن الْعلَّة لضَرُورَة كَون الْعلَّة غير صَالِحَة فالحافر يتَمَسَّك بِمَا هُوَ الأَصْل وَهُوَ صَلَاحِية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 الْعلَّة للْحكم وينكر سَبَب الْخلَافَة وَذَلِكَ حكم ضَرُورِيّ فَكَانَ القَوْل قَوْله بِخِلَاف الْجَارِح إِذا ادّعى أَن الْمَجْرُوح مَاتَ بِسَبَب آخر وَقَالَ الْوَلِيّ مَاتَ من تِلْكَ الْجَارِحَة فَإِن القَوْل قَول الْوَلِيّ لِأَن الْجَارِح صَاحب عِلّة لَا صَاحب شَرط كَمَا بَينا وَالْأَصْل فِي الْعلَّة الصلاحية للْحكم فَكَانَ الْوَلِيّ هُوَ المتمسك بِالْأَصْلِ هُنَا وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا غصب من آخر حِنْطَة فزرعها فَإِن الزَّرْع يكون مَمْلُوكا للْغَاصِب لِأَن مَا هُوَ الْعلَّة لحُصُول الْخَارِج وَهُوَ قُوَّة الأَرْض والهواء وَالْمَاء مسخر بِتَقْدِير الله تَعَالَى لَا اخْتِيَار لَهُ فَلَا يصلح لإضافة الحكم إِلَيْهِ وَالْإِلْقَاء الَّذِي هُوَ شَرط جَامع بَين هَذِه الْأَشْيَاء يَجْعَل كالعلة خلفا عَنْهَا فِي الحكم فَبِهَذَا الطَّرِيق يصير الزَّرْع كسب الْغَاصِب مُضَافا إِلَى عمله فَيكون مَمْلُوكا لَهُ وَإِذا سقط الْحبّ فِي الأَرْض من غير صنع أحد بِأَن هبت بِهِ الرّيح فقد تعذر جعل هَذَا الشَّرْط خلفا عَن الْعلَّة فَجعل الْمحل الَّذِي هُوَ فِي حكم الشَّرْط كالعلة خلفا حَتَّى يكون الْخَارِج لصَاحب الْحِنْطَة لكَونهَا محلا لما حصل وَهُوَ الْخَارِج وَأما الشَّرْط الَّذِي هُوَ فِي معنى السَّبَب فَهُوَ أَن يعْتَرض عَلَيْهِ فعل من مُخْتَار وَيكون سَابِقًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ نَحْو مَا إِذا حل قيد عبد فأبق لم يضمن عِنْد أَصْحَابنَا جَمِيعًا وَحل الْقَيْد إِزَالَة الْمَانِع للْعَبد من الذّهاب فَكَانَ شرطا فقد اعْترض عَلَيْهِ فعل من مُخْتَار وَهُوَ الذّهاب من العَبْد الَّذِي هُوَ عِلّة تلف الْمَالِيَّة فِيهِ فَمَا هُوَ الشَّرْط كَانَ سَابِقًا عَلَيْهِ وَمَا هُوَ الْعلَّة غير مُضَاف إِلَى السَّابِق من الشَّرْط فَتبين بِهِ أَنه بِمَنْزِلَة السَّبَب الْمَحْض لِأَن سَبَب الشَّيْء يتقدمه وَشَرطه يكون مُتَأَخِّرًا عَن صورته وجودا وَإِذا كَانَ بِمَعْنى السَّبَب كَانَ تلف الْمَالِيَّة مُضَافا إِلَى مَا اعْترض عَلَيْهِ من الْعلَّة دون مَا سبق من السَّبَب وعَلى هَذَا لَو أرسل دَابَّة فِي الطَّرِيق فجالت يمنة أَو يسرة عَن سنَن الطَّرِيق ثمَّ سَارَتْ فأصابت شَيْئا فَلَا ضَمَان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 على الْمُرْسل لِأَن الْإِرْسَال هُنَاكَ سَبَب مَحْض وَقد اعْترض عَلَيْهِ فعل من مُخْتَار وَهُوَ غير مَنْسُوب إِلَى السَّبَب الأول حِين لم تذْهب على سنَن إرْسَاله حَتَّى يكون سَابِقًا بذلك الْإِرْسَال فَكَانَ الأول الْمُتَقَدّم شرطا بِمَعْنى السَّبَب ثمَّ فِي الْوَجْهَيْنِ يُضَاف الْهَلَاك إِلَى مَا اعْترض من الْفِعْل دون مَا سبق وَفعل الدَّابَّة لَا يُوجب الضَّمَان على مَالِكهَا وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي الدَّابَّة المنفلتة إِذا أتلفت زرع إِنْسَان لَيْلًا أَو نَهَارا لم يضمن صَاحبهَا شَيْئا لِأَنَّهُ لم يُوجد مِنْهُ عِلّة وَلَا سَبَب وَلَا شَرط يصير بِهِ الْإِتْلَاف مُضَافا إِلَيْهِ وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رَضِي الله عَنْهُمَا إِذا فتح بَاب القفص فطار الطير أَو فتح بَاب الاسطبل فندت الدَّابَّة فِي فَور ذَلِك فَإِن الفاتح للباب لم يضمن شَيْئا لِأَن فعله شَرط لِأَنَّهُ إِزَالَة الْمَانِع من الانطلاق وَذَلِكَ شَرط الانطلاق ثمَّ اعْترض عَلَيْهِ فعل من مُخْتَار غير مَنْسُوب إِلَيْهِ فَكَانَ الأول شرطا فِي معنى السَّبَب فَلَا يصير الْهَلَاك مُضَافا إِلَيْهِ وَقد اعْترض عَلَيْهِ مَا هُوَ الْعلَّة بِخِلَاف حفر الْبِئْر إِذا وَقع فِيهِ الْمَاشِي فَإِن مَا اعْترض هُنَاكَ من مَشْيه لَا يصلح أَن يكون عِلّة الْإِتْلَاف حِين لم يكن عَالما بعمق ذَلِك الْمَكَان حَتَّى لَو أوقع نَفسه فِي الْبِئْر لم يضمن الْحَافِر شَيْئا لِأَن مَا اعْترض عِلّة صَالِحَة للْحكم وَهُوَ فعل حصل من مُخْتَار على وَجه الْقَصْد إِلَيْهِ وَلِهَذَا لَو مَشى على قنطرة واهية مَوْضُوعَة بِغَيْر حق وَهُوَ عَالم بِهِ فانخسفت بِهِ لم يضمن الْوَاضِع شَيْئا وَكَذَلِكَ إِذا مَشى فِي مَوضِع من الطَّرِيق قد صب فِيهِ المَاء وَهُوَ عَالم بِهِ فزلقت رجله وَلَكِن مُحَمَّدًا رَضِي الله عَنهُ يَقُول فعل الدَّابَّة هدر شرعا وَهُوَ غير صَالح لإضافة الحكم إِلَيْهِ فَيكون مُضَافا إِلَى الشَّرْط السَّابِق الَّذِي هُوَ فِي معنى السَّبَب بِخِلَاف فعل العَبْد من الْإِبَاق فَإِنَّهُ صَالح شرعا لإضافة الحكم إِلَيْهِ وَالْجَوَاب لَهما أَن فعل الدَّابَّة لَا يصلح لإِيجَاب حكم بِهِ وَلَكِن يصلح لقطع الحكم أَلا ترى أَن فِي الدَّابَّة الَّتِي أرسلها صَاحبهَا فِي الطَّرِيق إِذا جالت يمنة أَو يسرة اعْتبر فعلهَا فِي قطع حكم إرْسَال صَاحبهَا وَكَذَلِكَ الصَّيْد إِذا خرج من الْحرم يعْتَبر فعله فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 قطع الحكم وَهُوَ الْحُرْمَة الثَّابِتَة لَهُ بِسَبَب الْحرم وَإِذا صال على إِنْسَان فَكَذَلِك الْجَواب وبظاهر هَذَا الْكَلَام يَقُول الشَّافِعِي فِي الْجمل إِذا صال على إِنْسَان فَقتله إِنَّه لَا يضمن شَيْئا لِأَن فعل الْجمل صَالح لقطع الحكم الثَّابِت بِهِ وَهُوَ الْعِصْمَة والتقوم الثَّابِت فِيهِ لحق الْمَالِك وَلَكنَّا نقُول فعل الدَّابَّة غير صَالح لإِيجَاب الشَّيْء على مَالِكهَا وَفِي إِسْقَاط حَقه فِي تضمين الْمُتْلف إِيجَاب حكم عَلَيْهِ وَهُوَ الْكَفّ عَن الاعتداء على من اعْتدى عَلَيْهِ بِإِتْلَاف مَاله وَمثله لَا يُوجد فِي صيد الْحرم وعَلى هَذَا قُلْنَا لَو أرسل كَلْبا على صيد مَمْلُوك لإِنْسَان فَقتله الْكَلْب أَو أشلاه على بعير إِنْسَان فَقتله أَو على ثوب إِنْسَان فخرقه لم يضمن شَيْئا لِأَن مَا وجد مِنْهُ من الإشلاء سَبَب قد اعْترض عَلَيْهِ فعل من مُخْتَار غير مَنْسُوب إِلَى ذَلِك السَّبَب فَإِن بِمُجَرَّد الإشلاء لَا يكون سَابِقًا لَهُ بِخِلَاف مَا إِذا أرسل كَلْبه الْمعلم على صيد فذبحه فَإِنَّهُ يَجْعَل كَأَنَّهُ ذبحه بِنَفسِهِ فِي حكم الْحل لِأَن الِاصْطِيَاد نوع كسب يَنْفِي عَنهُ معنى الْحَرج وَيَبْنِي الحكم فِيهِ على قدر الْإِمْكَان فَأَما فِي ضَمَان الْعدوان يجب الْأَخْذ بمحض الْقيَاس لِأَن مَعَ الشَّك فِي السَّبَب الْمُوجب للضَّمَان لَا يجب الضَّمَان بِحَال وعَلى هَذَا قُلْنَا لَو أوقد نَارا فِي ملكه فَهبت الرّيح بهَا إِلَى أَرض جَاره حَتَّى أحرقت كدسه لم يضمن وَلَو ألْقى شَيْئا من الْهَوَام على الطَّرِيق فَانْقَلَبت من مَكَان إِلَى مَكَان آخر ثمَّ لدغت إنْسَانا لم يضمن الملقي شَيْئا فَمَا كَانَ من هَذَا الْجِنْس فتخريجه على الأَصْل الَّذِي قُلْنَا وَأما الشَّرْط اسْما لَا حكما وَهُوَ الْمجَاز فِي هَذَا الْبَاب فنحو الشَّرْط السَّابِق وجودا فِيمَا علق بالشرطين نَحْو أَن يَقُول لعَبْدِهِ إِن دخلت هَاتين الدَّاريْنِ فَأَنت حر فَإِن دُخُوله فِي الدَّار الأولى شَرط اسْما لَا حكما لِأَن الحكم غير مُضَاف إِلَيْهِ وجوبا بِهِ وَلَا وجودا عِنْده وَلِهَذَا لم يعْتَبر عُلَمَاؤُنَا قيام الْملك عِنْد وجود الشَّرْط الأول خلافًا لزفَر رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا لِأَن الْملك فِي الْمحل شَرط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 لنزول الْجَزَاء أَو لصِحَّة الْإِيجَاب وَالْحكم غير مُضَاف إِلَى الشَّرْط وجوبا بِهِ فَإِنَّهُ لَا تَأْثِير للشّرط فِي ذَلِك وَلَا وجودا عِنْده فَإِنَّهُ لَا يتْرك الطَّلَاق فِي الْمحل مَا لم يتم الشَّرْط فَلَو اعْتبرنَا الْملك عِنْد وجوده إِنَّمَا يعْتَبر لبَقَاء الْيَمين وَمحل الْيَمين الذِّمَّة فَكَانَت بَاقِيَة بِبَقَاء محلهَا من غير أَن يشْتَرط فِيهِ الْملك فِي الْمحل وَأما الشَّرْط الَّذِي هُوَ عَلامَة فنحو الْإِحْصَان لإِيجَاب الرَّجْم فَإِنَّهُ عَلامَة يعرف بظهوره كَون الزِّنَا مُوجبا للرجم وَهُوَ فِي نَفسه لَيْسَ بعلة وَلَا سَبَب وَلَا شَرط مَحْض فِي إِيجَاب الرَّجْم وحد الشَّرْط مَا يمْتَنع ثُبُوت الْعلَّة حَقِيقَة بعد وجودهَا صُورَة إِلَى وجوده كَمَا فِي تَعْلِيق الطَّلَاق بِدُخُول الدَّار وَالزِّنَا مُوجب للعقوبة بِنَفسِهِ وَلَا يمْتَنع ثُبُوت الحكم بِهِ إِلَى وجود الْإِحْصَان كَيفَ وَلَو وجد الْإِحْصَان بعد الزِّنَا لَا يثبت بِوُجُودِهِ حكم الرَّجْم فَعرفنَا أَنه غير مُضَاف إِلَيْهِ وجوبا بِهِ وَلَا وجودا عِنْد وجوده وَلكنه يعرف بظهوره أَن الزِّنَا حِين وجد كَانَ مُوجبا للرجم فَكَانَ عَلامَة وَلِهَذَا لَا يُوجب الضَّمَان على شُهُود الْإِحْصَان إِذا رجعُوا بِخِلَاف مَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ فِي المزكين لشهود الزِّنَا إِذا رجعُوا بعد الرَّجْم فَإِن التَّزْكِيَة بِمَنْزِلَة عِلّة الْعلَّة (كَمَا بَينا) وَلِهَذَا يثبت الْإِحْصَان بعد الزِّنَا بِشَهَادَة رجل وَامْرَأَتَيْنِ عندنَا خلافًا لزفَر لِأَنَّهُ لما كَانَ مُعَرفا وَلم يكن الرَّجْم مُضَافا إِلَيْهِ وجوبا وَلَا وجودا كَانَت هَذِه الْحَالة كَغَيْرِهَا من الْأَحْوَال فِي حكم الشَّهَادَة فَكَمَا ثَبت النِّكَاح بِشَهَادَة رجل وَامْرَأَتَيْنِ فِي غير هَذِه الْحَالة فَكَذَلِك فِي هَذِه الْحَالة فَإِن قيل أَنا أثبت النِّكَاح بِهَذِهِ الشَّهَادَة وَلَكِن لَا يثبت التَّمَكُّن للْإِمَام من إِقَامَة الرَّجْم لِأَنَّهُ كَمَا لَا مدْخل لشهادة النِّسَاء فِي إِيجَاب الرَّجْم فَلَا مدْخل لشهادتهن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 فِي إِثْبَات التَّمَكُّن من إِقَامَة الرَّجْم بِمَنْزِلَة مَا لَو كَانَ الزَّانِي عبدا مُسلما لنصراني فَشهد عَلَيْهِ نصرانيان أَن مَوْلَاهُ كَانَ أعْتقهُ قبل الزِّنَا فَإِنَّهُ تثبت الْحُرِّيَّة بِهَذِهِ الشَّهَادَة وَلَا يثبت تمكن الإِمَام من إِقَامَة الرَّجْم عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَمَا لَا مدْخل لشهادة الْكفَّار فِي إِيجَاب الرَّجْم على الْمُسلم فَلَا مدْخل لشهادتهم فِي إِثْبَات التَّمَكُّن من إِقَامَة الرَّجْم على الْمُسلم قُلْنَا هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح لِأَن شَهَادَة النِّسَاء دَخلهَا الْخُصُوص فِي الْمَشْهُود بِهِ لَا فِي الْمَشْهُود عَلَيْهِ والمشهود بِهِ لَيْسَ يمس الرَّجْم أصلا وَشَهَادَة الْكفَّار دَخلهَا الْخُصُوص فِي الْمَشْهُود عَلَيْهِ لَا فِي الْمَشْهُود بِهِ فَإِن شَهَادَتهم حجَّة فِي الْحَد على الْكفَّار وَلكنهَا لَيست بِحجَّة على الْمُسلم وَالْإِقَامَة عِنْد الشَّهَادَة تكون على الْمُسلم وَهُوَ حَادث فَلَا تجْعَل شَهَادَتهم فِيهِ حجَّة وَهَذَا لِأَن فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا فِي الشَّهَادَة معنى تَكْثِير مَحل الْجِنَايَة من حَيْثُ الْجِنَايَة على نعْمَة الْحُرِّيَّة فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ وعَلى نعْمَة إِصَابَة الْحَلَال بطريقه فِي الْموضع الآخر وَهُوَ الْإِحْصَان ثمَّ فِي تَكْثِير مَحل الْجِنَايَة يتَضَرَّر الْجَانِي والجاني مُسلم وَشَهَادَة الْكفَّار فِيمَا يتَضَرَّر بِهِ الْمُسلم لَا تكون حجَّة أصلا فَأَما شَهَادَة النِّسَاء فِيمَا يتَضَرَّر بِهِ الرجل تكون حجَّة وَإِنَّمَا لَا تكون حجَّة فِيمَا تُضَاف إِلَيْهِ الْعقُوبَة وجوبا بِهِ أَو جودا عِنْده وَذَلِكَ لَا يُوجد فِي هَذِه الشَّهَادَة أصلا وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله إِذا علق طَلَاقا أَو عتاقا بِوِلَادَة امْرَأَة وَلم يقر بِأَنَّهَا حُبْلَى ثمَّ شهِدت الْقَابِلَة على وِلَادَتهَا يثبت بهَا وُقُوع الطَّلَاق وَالْعتاق لِأَن هَذَا شَرط بِمَنْزِلَة الْعَلامَة من حَيْثُ إِن الطَّلَاق إِنَّمَا يصير مُضَافا إِلَى نفس الْولادَة وجودا عِنْدهَا وَأما ظُهُور الْولادَة فمعرف لَا يُضَاف إِلَيْهِ الطَّلَاق وجوبا بِهِ وَلَا وجودا عِنْده والولادة تظهر بِشَهَادَة النِّسَاء فِي غير هَذِه الْحَالة حَتَّى يثبت النّسَب بِشَهَادَة الْقَابِلَة وَحدهَا فَكَذَلِك فِي هَذِه الْحَالة كَمَا فِي مَسْأَلَة الْإِحْصَان وَلَكِن أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ يَقُول الْولادَة شَرط مَحْض من حَيْثُ إِنَّه يمْنَع ثُبُوت عِلّة الطَّلَاق وَالْعتاق حَقِيقَة إِلَى وجوده ثمَّ لَا يكون الطَّلَاق وَالْعتاق من أَحْكَام الْولادَة وَشَهَادَة الْقَابِلَة حجَّة ضَرُورِيَّة فِي الْولادَة لِأَنَّهُ لَا يطلع عَلَيْهَا الرِّجَال فَإِنَّمَا تكون حجَّة فِيمَا هُوَ من أَحْكَام الْولادَة أَو مِمَّا لَا تنفك الْولادَة عَنهُ خَاصَّة فَأَما فِي الطَّلَاق وَالْعتاق هَذَا الشَّرْط كَغَيْرِهِ من الشَّرَائِط وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد فِي الْمُعْتَدَّة إِذا جَاءَت بِولد فَشَهِدت الْقَابِلَة على الْولادَة يثبت النّسَب بشهادتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 وَإِن لم يكن هُنَاكَ حَبل ظَاهر وَلَا فرَاش قَائِم وَلَا إِقْرَار من الزَّوْج بالحبل لإن الْولادَة لثُبُوت النّسَب شَرط بِمَنْزِلَة الْعَلامَة فَإِن بهَا يظْهر وَيعرف مَا كَانَ مَوْجُودا فِي الرَّحِم قبل الْولادَة وَكَانَ ثَابت النّسَب من حِين وجد فَلم يكن النّسَب مُضَافا إِلَى الْولادَة وجوبا بهَا وَلَا وجودا عِنْدهَا والولادة فِي غير هَذِه الْحَالة تثبت بِشَهَادَة الْقَابِلَة وَحدهَا يَعْنِي إِذا كَانَ هُنَاكَ فرَاش قَائِم أَو حَبل ظَاهر أَو إِقْرَار من الزَّوْج بالحبل فَكَذَلِك فِي هَذِه الْحَالة وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول الْولادَة بِمَنْزِلَة الْمُعَرّف كَمَا قَالَا وَلَكِن فِي حق من يعرف الْبَاطِن فَأَما فِي حَقنا فالنسب مُضَاف إِلَى الْولادَة لأَنا نَبْنِي الحكم على الظَّاهِر وَلَا نَعْرِف الْبَاطِن فَمَا كَانَ بَاطِنا يَجْعَل فِي حَقنا كَالْمَعْدُومِ إِلَى أَن يظْهر بِالْولادَةِ بِمَنْزِلَة الْخطاب النَّازِل فِي حق من لم يعلم بِهِ فَإِنَّهُ يَجْعَل كَالْمَعْدُومِ مَا لم يعلم بِهِ وَإِذا صَار النّسَب مُضَافا إِلَى الْولادَة من هَذَا الْوَجْه لَا تثبت الْولادَة فِي حَقه إِلَّا بِمَا هُوَ حجَّة لإِثْبَات النّسَب بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ الْفراش قَائِما فالفراش الْمَعْلُوم هُنَاكَ مُثبت للنسب قبل الْولادَة فَكَانَت الْولادَة عَلامَة معرفَة وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ الْحَبل ظَاهرا أَو أقرّ الزَّوْج بالحبل فقد كَانَ السَّبَب هُنَاكَ ثَابتا بِظُهُور مَا يُثبتهُ لنا قبل الْولادَة وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ استهلال الْمَوْلُود فِي حكم الْإِرْث لَا يثبت بِشَهَادَة الْقَابِلَة وَحدهَا لِأَن حَيَاة الْوَلَد كَانَ غيبا عَنَّا وَإِنَّمَا يظْهر عِنْد استهلاله فَيصير مُضَافا إِلَيْهِ فِي حَقنا وَالْإِرْث يبتنى عَلَيْهِ فَلَا يثبت بِشَهَادَة الْقَابِلَة كَمَا لَا يثبت حق الرَّد بِالْغَيْبِ بِشَهَادَة النِّسَاء فِي جَارِيَة اشْتَرَاهَا بِشَرْط الْبكارَة إِذا شهِدت أَنَّهَا ثيب قبل الْقَبْض وَلَا بعده وَلَكِن يسْتَحْلف البَائِع فعلى قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله الاستهلال (معرف فَإِن حَيَاة الْوَلَد لَا تكون مُضَافا إِلَيْهِ وجوبا بِهِ وَلَا وجودا عِنْده وَنَفس الاستهلال) فِي غير حَالَة التوريث يثبت بِشَهَادَة الْقَابِلَة حَتَّى يصلى على الْمَوْلُود فَكَذَلِك فِي حَالَة التوريث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 فصل فِي بَيَان تَقْسِيم الْعَلامَة الْعَلامَة أَنْوَاع أَرْبَعَة عَلامَة هِيَ دلَالَة الْوُجُود فِيمَا كَانَ مَوْجُودا قبله وَمِنْه علم الثَّوْب وَمِنْه علم الْعَسْكَر وَهَذَا حد الْعَلامَة الْمَحْضَة وعلامة هِيَ بِمَعْنى الشَّرْط وَذَلِكَ الْإِحْصَان فِي حكم الرَّجْم كَمَا بَينا وعلامة هِيَ عِلّة فقد بَينا أَن الْعِلَل الشَّرْعِيَّة بِمَنْزِلَة العلامات للْأَحْكَام فَإِنَّهَا غير مُوجبَة بذواتها شَيْئا بل بِجعْل الشَّرْع إِيَّاهَا مُوجبَة وعلامة تَسْمِيَة ومجازا وَهِي علل الْحَقَائِق الْمُعْتَبرَة بذواتها على مَا نبينها فِي موضعهَا وَقد جعل الشَّافِعِي عجز الْقَاذِف عَن إِقَامَة أَرْبَعَة من الشُّهَدَاء عَلامَة لبُطْلَان شَهَادَة الْقَاذِف لَا شرطا حَتَّى قَالَ الْقَذْف مُبْطل شَهَادَته قبل ظُهُور عَجزه عَن إِقَامَة الشُّهُود ثمَّ ظُهُور الْعَجز يعرف لنا هَذَا الحكم فَكَانَ عَلامَة بِخِلَاف الْجلد فَإِنَّهُ فعل يُقَام على الْقَاذِف فَكَانَ الْعَجز فِيهِ شرطا لِأَن إِقَامَة الْحَد يصير مُضَافا إِلَيْهِ وجودا عِنْده فَأَما سُقُوط شَهَادَته أَمر حكمي فَيثبت بِنَفس الْقَذْف لِأَنَّهُ كَبِيرَة لما فِيهِ من إِشَاعَة الْفَاحِشَة وهتك ستر الْعِفَّة على الْمُسلم فَالْأَصْل فِي النَّاس هُوَ الْعِفَّة عَن الزِّنَا والتمسك بِالْأَصْلِ وَاجِب حَتَّى يتَبَيَّن خِلَافه وَبِاعْتِبَار هَذَا الأَصْل كَانَ الْقَذْف كَبِيرَة فَيكون بِمَنْزِلَة سَائِر الْكَبَائِر فِي ثُبُوت سمة الْفسق وَسُقُوط الشَّهَادَة بِنَفسِهَا وَلَكنَّا نقُول الْعَجز عَن إِقَامَة أَرْبَعَة من الشُّهَدَاء شَرط لإِقَامَة الْجلد ولإبطال شَهَادَة الْقَاذِف وَالْحكم الْمُعَلق بِالشّرطِ لَا يكون ثَابتا قبل وجود الشَّرْط وَهَذَا لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا فعل خُوطِبَ الإِمَام بإقامته على الْقَاذِف وَأَحَدهمَا مَعْطُوف على الآخر كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا} ثمَّ هَذَا الْعَجز الَّذِي هُوَ شَرط يثبت بِمَا ثَبت بِهِ الْعَجز عَن دفع سَائِر الْحجَج فِي إِلْزَام الحكم بهَا وَذَلِكَ بِأَن يمهله على قدر مَا يرى إِلَى آخر الْمجْلس أَو إِلَى الْمجْلس الثَّانِي وَالَّذِي قَالَ الْقَذْف كَبِيرَة قُلْنَا هَذِه الصّفة للقذف غير ثَابت بِنَفسِهِ مُسْتَحقّا شرعا بِدَلِيل أَنه يتَمَكَّن من إثْبَاته بِالْبَيِّنَةِ وَهُوَ فِي نَفسه خبر متميل بَين الصدْق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 وَالْكذب وَقد يتَعَيَّن فِيهِ معنى الْحِسْبَة إِذا كَانَ الزَّانِي مصرا غير تائب وللقاذف شُهُود يشْهدُونَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا ليقام عَلَيْهِ الْحَد وَكَيف يكون نفس الْقَذْف كَبِيرَة وَقد تتمّ بِهِ الْحجَّة مُوجبا للرجم فَإِن الشُّهُود على الزِّنَا قذفة فِي الْحَقِيقَة ثمَّ كَانَت شَهَادَتهم حجَّة لإِيجَاب الرَّجْم فَعرفنَا أَن مَا ادَّعَاهُ الْخصم من الْمَعْنى الَّذِي يَجْعَل بِهِ نفس الْقَذْف مسْقطًا للشَّهَادَة بحث لَا يُمكن تحقيقة وَبَعْدَمَا ظهر عَجزه عَن إِقَامَة الشُّهُود إِنَّمَا تسْقط شَهَادَته بِسَبَب ظُهُور عَجزه وَهُوَ من حَيْثُ الظَّاهِر حَتَّى إِن بعد إِقَامَة الْحَد عَلَيْهِ وَبطلَان شَهَادَته لَو أَقَامَ أَرْبَعَة من الشُّهَدَاء على زنا الْمَقْذُوف فَإِن الشَّهَادَة تكون مَقْبُولَة حَتَّى يُقَام الْحَد على الْمَشْهُود عَلَيْهِ وَيصير الْقَاذِف مَقْبُول الشَّهَادَة إِن لم يتقادم الْعَهْد وَإِن تقادم الْعَهْد يصير مَقْبُول الشَّهَادَة أَيْضا وَإِن كَانَ لَا يُقَام الْحَد على الْمَشْهُود عَلَيْهِ أورد ذَلِك فِي الْمُنْتَقى رِوَايَة عَن أبي يُوسُف أَو مُحَمَّد هَذَا قَول أَحدهمَا وَفِي قَول الآخر لَا تقبل الشَّهَادَة بعد إِقَامَة الْحَد عَلَيْهِ لِأَن إِقَامَة الْحَد على الْقَاذِف حكم يكذب الشُّهُود فِي شَهَادَتهم على الْمَقْذُوف بِالزِّنَا وكل شَهَادَة جرى الحكم بتعين جِهَة الْكَذِب فِيهَا لَا تكون مَقْبُولَة أصلا كالفاسق إِذا شهد فِي حَادِثَة فَردَّتْ شَهَادَته ثمَّ أَعَادَهَا بعد التَّوْبَة وَالله المجزي لمن اتَّقى وَأحسن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب أَهْلِيَّة الْآدَمِيّ لوُجُوب الْحُقُوق لَهُ وَعَلِيهِ وَفِي الْأَمَانَة الَّتِي حملهَا الْإِنْسَان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ رَضِي الله عَنهُ فَهَذِهِ الْأَهْلِيَّة نَوْعَانِ أَهْلِيَّة الْوُجُوب وأهلية الْأَدَاء فَأَما أَهْلِيَّة الْوُجُوب وَإِن كَانَ يدْخل فِي فروعها تَقْسِيم فأصلها وَاحِد وَهُوَ الصلاحية لحكم الْوُجُوب فَمن كَانَ فِيهِ هَذِه الصلاحية كَانَ أَهلا للْوُجُوب عَلَيْهِ وَمن لَا فَلَا وأهلية الْأَدَاء نَوْعَانِ كَامِل وقاصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 فالكامل مَا يلْحق بِهِ الْعهْدَة والتبعية والقاصر مَا لَا يلْحق بِهِ ذَلِك فنبدأ بِبَيَان أَهْلِيَّة الْوُجُوب فَنَقُول أصل هَذِه الْأَهْلِيَّة لَا يكون إِلَّا بعد ذمَّة صَالِحَة لكَونهَا محلا للْوُجُوب فَإِن الْمحل هُوَ الذِّمَّة وَلِهَذَا يُضَاف إِلَيْهَا وَلَا يُضَاف إِلَى غَيرهَا بِحَال وَلِهَذَا اخْتصَّ بِهِ الْآدَمِيّ دون سَائِر الْحَيَوَانَات الَّتِي لَيست لَهَا ذمَّة صَالِحَة ثمَّ الذِّمَّة فِي اللُّغَة هُوَ الْعَهْد قَالَ تَعَالَى {لَا يرقبون فِي مُؤمن إِلَّا وَلَا ذمَّة} وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام وَإِن أرادوكم أَن تعطوهم ذمَّة الله فَلَا تعطوهم وَمِنْه يُقَال أهل الذِّمَّة للمعاهدين وَالْمرَاد بِهَذَا الْعَهْد مَا أَشَارَ الله تَعَالَى فِي قَوْله {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم} والجنين مَا دَامَ مجننا فِي الْبَطن لَيست لَهُ ذمَّة صَالِحَة لكَونه فِي حكم جُزْء من الْأُم وَلكنه مُنْفَرد بِالْحَيَاةِ معد ليَكُون نفسا لَهُ ذمَّة فباعتبار هَذَا الْوَجْه يكون أَهلا لوُجُوب الْحق لَهُ من عتق أَو إِرْث أَو نسب أَو وَصِيَّة ولاعتبار الْوَجْه الأول لَا يكون أَهلا لوُجُوب الْحق عَلَيْهِ فَأَما بَعْدَمَا يُولد فَلهُ ذمَّة صَالِحَة وَلِهَذَا لَو انْقَلب على مَال إِنْسَان فأتلفه كَانَ ضَامِنا لَهُ وَيلْزمهُ مهر امْرَأَته بِعقد الْوَلِيّ عَلَيْهِ وَهَذِه حُقُوق تثبت شرعا ثمَّ بعد هَذَا زعم بعض مَشَايِخنَا أَن بِاعْتِبَار صَلَاحِية الذِّمَّة يثبت وجوب حُقُوق الله تَعَالَى فِي حَقه من حِين يُولد وَإِنَّمَا يسْقط مَا يسْقط بعد ذَلِك بِعُذْر الضَّمَان لدفع الْحَرج قَالَ لِأَن الْوُجُوب بِأَسْبَاب هِيَ الْوُجُوب شرعا وَقد تقدم بَيَانهَا وَتلك الْأَسْبَاب متقررة فِي حَقه وَالْمحل صَالح للْوُجُوب فِيهِ فَيثبت الْوُجُوب بِاعْتِبَار السَّبَب وَالْمحل وَهَذَا لِأَن الْوُجُوب خبر لَيْسَ للْعَبد فِيهِ اخْتِيَار حَتَّى يعْتَبر فِيهِ عقله وتمييزه بل هُوَ ثَابت عِنْد وجود السَّبَب علينا شرعا شِئْنَا أَو أَبينَا قَالَ تَعَالَى {وكل إِنْسَان ألزمناه طَائِره فِي عُنُقه} وَالْمرَاد بالعنق الذِّمَّة وَإِنَّمَا يعْتَبر تَمْيِيزه أَو تمكنه من الْأَدَاء فِي وجوب الْأَدَاء وَذَلِكَ حكم وَرَاء أصل الْوُجُوب أَلا ترى أَن النَّائِم والمغمى عَلَيْهِ يثبت حكم وجوب الصَّلَاة فِي حَقّهمَا بِوُجُود النّسَب مَعَ عدم التَّمْيِيز والتمكن من الْأَدَاء للْحَال ثمَّ يتَأَخَّر وجوب الْأَدَاء إِلَى الانتباه والإفاقة وَهَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 لِأَن الله تَعَالَى لما خلق الْإِنْسَان لحمل أَمَانَته أكْرمه بِالْعقلِ والذمة ليَكُون بهَا أَهلا لوُجُوب حُقُوق الله تَعَالَى عَلَيْهِ ثمَّ أثبت لَهُ الْعِصْمَة وَالْحريَّة والمالكية ليبقى فيتمكن من أَدَاء مَا حمل من الْأَمَانَة ثمَّ هَذِه الْحُرِّيَّة والعصمة والمالكية ثَابِتَة للمرء من حِين يُولد الْمُمَيز وَغير الْمُمَيز فِيهِ سَوَاء فَكَذَلِك الذِّمَّة الصَّالِحَة لوُجُوب الْحُقُوق فِيهَا ثَابتا لَهُ من حِين يُولد يَسْتَوِي فِيهِ الْمُمَيز وَغير الْمُمَيز ثمَّ كَمَا يثبت الْوُجُوب بِوُجُود السَّبَب شرعا فِي مَحَله تثبت الْحُرْمَة يَعْنِي الْحُرْمَة بِالنّسَبِ وَالرّضَاع والمصاهرة وَتلك الْحُرْمَة تثبت فِي حق الْمُمَيز وَغير الْمُمَيز لوُجُود السَّبَب بعد صَلَاحِية الْمحل وَإِن كَانَ ذَلِك حكما شَرْعِيًّا فَكَذَلِك الْوُجُوب ثمَّ وجوب الْأَدَاء بعد هَذَا يكون بِالْأَمر الثَّابِت بِالْخِطَابِ وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بعد اعْتِدَال الْحَال وَالْعلم بِهِ وَقد بَينا أَن الْمُطَالبَة بأَدَاء الْوَاجِب غير أصل الْوُجُوب وَهُوَ تَأْوِيل الحَدِيث الْمَرْوِيّ (رفع الْقَلَم عَن ثَلَاث) فَالْمُرَاد بالقلم الْحساب وَذَلِكَ يَنْبَنِي على وجوب الْأَدَاء (دون أصل الْوُجُوب كَمَا فِي الدّين الْمُؤَجل إِنَّمَا تكون المحاسبة بعد وجوب الْأَدَاء) بِمُضِيِّ الْأَجَل وأصل الْوُجُوب ثَابت لوُجُود سَببه وَزعم بعض مَشَايِخنَا أَن الْوُجُوب لَا يثبت إِلَّا بعد اعْتِدَال الْحَال بِالْبُلُوغِ عَن عقل لِأَن الْمُوجب هُوَ الله تَعَالَى لما خَاطب بِهِ عباده من الْأَمر وَالنَّهْي وَحكم هَذَا الْخطاب لَا يثبت فِي حق الْمُخَاطب مَا لم يعلم بِهِ علما مُعْتَبرا فِي الْإِلْزَام شرعا وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون بعد اعْتِدَال الْحَال وَمن جعل السَّبَب مُوجبا فقد أخلى صِيغَة الْأَمر عَن حكمه لِأَن حكم الْأَمر الْمُطلق الْوُجُوب واللزوم وَإِذا كَانَ الْوُجُوب ثَابتا بِالسَّبَبِ قبل ثُبُوت الْخطاب فِي حَقه لم يبْق لِلْأَمْرِ حكم فَيُؤَدِّي هَذَا إِلَى القَوْل بِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي أوَامِر الله تَعَالَى ونواهيه وَأي قَول أقبح من هَذَا وَلِأَنَّهُ لَا يفهم من الْوُجُوب شَيْء سوى وجوب الْأَدَاء وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بعد اعْتِدَال الْحَال وَهُوَ حكم الْأَمر بالِاتِّفَاقِ فَعرفنَا أَن الْوُجُوب كَذَلِك فَكَانَت الْأَسْبَاب بِمَنْزِلَة العلامات فِي حَقنا لنعرف بظهورها الْوُجُوب بِحكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 الْأَمر وَقد بَينا أَن الحكم غير مُضَاف إِلَى الْعَلامَة وجوبا وَلَا وجودا وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْوُجُوب لفائدة رَاجِعَة إِلَى الْعباد فَإِن الله يتعالى عَن أَن تلْحقهُ الْمَنَافِع والمضار أَي يُوصف بِالْحَاجةِ إِلَى إِيجَاب حق على عَبده لنَفسِهِ والفائدة للعباد مَا يكون لَهُم بِهِ من الْجَزَاء وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بِالْأَدَاءِ الَّذِي يكون عَن اخْتِيَار من العَبْد فإثبات الْوُجُوب بِدُونِ أَهْلِيَّة وجوب الْأَدَاء وَبِدُون تصور الْأَدَاء يكون إِثْبَات حكم شَرْعِي هُوَ خَال من الْفَائِدَة وَالْقَوْل بِهِ لَا يجوز قَالَ رَضِي الله عَنهُ وكلا الطَّرِيقَيْنِ عِنْدِي غير مرضِي لما فِي الطَّرِيق الأول من مُجَاوزَة الْحَد فِي الغلو وَفِي الطَّرِيق الثَّانِي من مُجَاوزَة الْحَد فِي التَّقْصِير فَإِن القَوْل بِأَنَّهُ لَا عِبْرَة للأسباب الَّتِي جعلهَا الشَّرْع سَببا لوُجُوب حُقُوقه على سَبِيل الِابْتِلَاء للعباد ولتعظيم بعض الْأَوْقَات أَو الْأَمْكِنَة وتفضيلها على بعض نوع تَقْصِير وَالْقَوْل بِأَن الْوُجُوب ثَابت بِنَفس السَّبَب من غير اعْتِبَار مَا هُوَ حكم الْوُجُوب نوع غلو وَلَكِن الطَّرِيق الصَّحِيح أَن يَقُول بِأَن بعد وجوب السَّبَب وَالْمحل لَا يثبت الْوُجُوب إِلَّا بِوُجُود الصلاحية لما هُوَ حكم الْوُجُوب لِأَن الْوُجُوب غير مُرَاد ذمَّة لعَينه بل لحكمه فَكَمَا لَا يثبت الْوُجُوب إِذا وجد السَّبَب بِدُونِ نفس الْمحل فَكَذَلِك لَا يثبت إِذا وجد السَّبَب وَالْمحل بِدُونِ حكم وَهَذَا لِأَن بِدُونِ الحكم لَا يكون مُفِيدا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة فَإِن فَائِدَة الحكم فِي الدُّنْيَا تَحْقِيق معنى الِابْتِلَاء وَفِي الْآخِرَة الْجَزَاء وَذَلِكَ بِاعْتِبَار الحكم ونعني بِهَذَا الحكم وجوب الْأَدَاء وَوُجُود الْأَدَاء عِنْد مُبَاشرَة العَبْد عَن اخْتِيَار حَتَّى يظْهر بِهِ الْمُطِيع من العَاصِي فَيتَحَقَّق الِابْتِلَاء الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى {ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} وَكَذَلِكَ المجازاة فِي الْآخِرَة يَنْبَنِي على هَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} وَهَذَا لِأَن الْوُجُوب خبر لَا اخْتِيَار فِيهِ للْعَبد كَمَا قَالُوا وَإِنَّمَا ينَال العَبْد الْجَزَاء على مَا لَهُ فِيهِ اخْتِيَار فَتبين أَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 الْوُجُوب بِدُونِ حكمه غير مُفِيد فَلَا يجوز القَوْل بِثُبُوتِهِ شرعا وَلِهَذَا قُلْنَا إِن قتل الْأَب ابْنه لَا يكون مُوجبا للْقصَاص وَالسَّبَب هُوَ الْعمد الْمَحْض مَوْجُود وَالْمحل مَوْجُود وَلَكِن لِانْعِدَامِ فَائِدَة الْوُجُوب وَهُوَ التَّمَكُّن من الِاسْتِيفَاء فَإِن الْوَلَد لَا يكون مُتَمَكنًا من أَن يقْصد قتل أَبِيه شرعا بِحَال قُلْنَا لَا يثبت الْوُجُوب أصلا وَهَذَا أعدل الطّرق فَفِيهِ اعْتِبَار السَّبَب فِي ثُبُوت الْوُجُوب بِهِ إِذا كَانَ مُوجبا حكمه وَقد جعله الشَّرْع كَذَلِك وَفِيه اعْتِبَار الْأَمر لإِثْبَات مَا هُوَ حكم الْوُجُوب بِهِ وَهُوَ لُزُوم الْأَدَاء أَو إِسْقَاط الْوَاجِب بِهِ عَن نَفسه وَمن تَأمل صِيغَة الْأَوَامِر ظهر لَهُ أَن مُوجبهَا مَا قُلْنَا فَإِنَّهُ قَالَ {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} وَالْإِقَامَة والإيتاء هُوَ إِسْقَاط الْوَاجِب بِالْأَدَاءِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} وَقَوله تَعَالَى {وَأَتمُّوا الْحَج} فَإِن مُبَاشرَة فعل الصَّوْم وإتمام الْحَج يكون إِسْقَاط الْوَاجِب وَالْأَمر لإلزام ذَلِك ثمَّ على هَذَا الطَّرِيق يتَبَيَّن التَّقْسِيم فِي الْحُقُوق فَنَقُول أما حُقُوق الْعباد فَمَا يكون فِيهِ غرما أَو عوضا كَالثّمنِ فِي البيع فالوجوب ثَابت فِي حق الصَّبِي الَّذِي لَا يعقل لوُجُود سَببه وَثُبُوت حكمه وَهُوَ وجوب الْأَدَاء بوليه الَّذِي هُوَ نَائِب عَنهُ لِأَن الْمَقْصُود المَال هُنَا دون الْفِعْل فَإِن المُرَاد بِهِ رفع الخسران بِمَا يكون جبرانا لَهُ أَو حُصُول الرِّبْح وَذَلِكَ بِالْمَالِ يكون وَأَدَاء وليه كأدائه فِي حُصُول هَذَا الْمَقْصُود بِهِ وَمَا كَانَ مِنْهُ صلَة لَهُ شبه المؤونة كَنَفَقَة الزَّوْجَات والأقارب فوجوبه ثَابت فِي حَقه عِنْد وجود سَببه لِأَن فِي حق نَفَقَة الزَّوْجَات معنى العوضية وَفِي نَفَقَة الْأَقَارِب معنى مؤونة الْيَسَار وَالْمَقْصُود إِزَالَة حَاجَة الْمُنفق عَلَيْهِ بوصول كِفَايَته إِلَيْهِ وَذَلِكَ بِالْمَالِ يكون وَأَدَاء الْوَلِيّ فِيهِ كأدائه فَعرفنَا أَن الْوُجُوب فِيهِ غير خَال عَن الْحِكْمَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 وَمَا يكون صلَة لَهُ شبه الْجَزَاء لَا يثبت وُجُوبه فِي حَقه أصلا وَذَلِكَ كتحمل الْعقل فَإِنَّهُ صلَة وَلكنهَا شبه الْجَزَاء على ترك حفظ السَّفِيه وَالْأَخْذ على يَد الظَّالِم وَلِهَذَا يخْتَص بِرِجَال الْعَشِيرَة الَّذين هم من أهل هَذَا الْحِفْظ دون النِّسَاء فَلَا يثبت ذَلِك فِي حق الصَّبِي أصلا وَكَذَلِكَ مَا يكون جَزَاء بطرِيق الْعقُوبَة كَالْقَتْلِ لأجل الرِّدَّة بطرِيق الغرامة كالعقل لَا يثبت وُجُوبه فِي حَقه أصلا لِانْعِدَامِ مَا هُوَ حكم الْوُجُوب فِي حَقه فَأَما فِي حُقُوق الله تَعَالَى فَنَقُول وجوب الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى فِي حق الصَّبِي الَّذِي لَا يعقل لَا يُمكن القَوْل بِهِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّة لحكم الْوُجُوب وَذَلِكَ الْأَدَاء وجوبا أَو وجودا فِي حَقه فَمَا كَانَ القَوْل بِالْوُجُوب هُنَا إِلَّا نَظِير القَوْل بِالْوُجُوب بِاعْتِبَار السَّبَب بِدُونِ الْمحل كَمَا فِي حق الْبَهَائِم وَذَلِكَ لَا يجوز القَوْل بِهِ وَكَذَلِكَ الْعِبَادَات الْمَحْضَة البدني والمالي فِي ذَلِك سَوَاء لِأَن حكم الْوُجُوب لَا يثبت فِي حَقه بِحَال فَلَا يثبت الْوُجُوب وَبَيَانه أَن الْوُجُوب أَفعَال يتَحَقَّق فِي مباشرتها معنى الِابْتِلَاء وتعظيم حق الله تَعَالَى وَلَا تصور لذَلِك من الصَّبِي الَّذِي لَا يعقل بِنَفسِهِ وَلَا يحصل ذَلِك بأَدَاء وليه لِأَن ثُبُوت الْولَايَة عَلَيْهِ يكون جبرا بِغَيْر اخْتِيَاره وبمثله لَا يصير هُوَ متقربا حَقِيقَة وَلَا حكما فَلَو جعلنَا أَدَاء الْوَالِي كأدائه فِيمَا هُوَ مَالِي كَانَ يتَبَيَّن بِهِ أَن الْمَقْصُود هُوَ المَال لَا الْفِعْل وَذَلِكَ مِمَّا لَا يجوز القَوْل بِهِ فَلهَذَا لَا يثبت فِي حَقه وجوب الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج يقرره أَنه لَو كَانَ الْوُجُوب ثَابتا ثمَّ سُقُوط الحكم لدفع الْحَرج بِعُذْر الصَّبِي لَكَانَ يَنْبَغِي أَن يُقَال إِذا أنْفق الْأَدَاء مِنْهُ كَانَ مُؤديا للْوَاجِب كَصَوْم الشَّهْر فِي حق الْمَرِيض وَالْمُسَافر وَالْجُمُعَة فِي حق الْمُسَافِر إِنَّه إِذا أدّى كَانَ موديا للْوَاجِب وبالاتفاق لَا يكون هُوَ مُؤديا للْوَاجِب وَإِن تصور مِنْهُ مَا هُوَ ركن هَذِه الْعبارَات فَعرفنَا أَن الْوُجُوب غير ثَابت أصلا وَكَذَلِكَ فَإِن مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي صَدَقَة الْفطر لرجحان معنى الْعِبَادَة والقربة فِيهَا وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رَضِي الله عَنْهُمَا فِيهَا معنى المؤونة فَيثبت الْوُجُوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 فِي حَقه بِحكمِهِ وَهُوَ الْأَدَاء من مَاله بِاعْتِبَار الْأَهْلِيَّة الْقَاصِر الذى يكون بِوَاسِطَة الولى مُضَافا إِلَيْهِ وَإِن كَانَت الْولَايَة عَلَيْهِ ثابته لَا بِاخْتِيَارِهِ وَكَذَلِكَ الْعشْر وَالْخَرَاج فَإِن وجوبهما عَلَيْهِ لما هُوَ حكم الْوُجُوب هُوَ الْأَدَاء بالولى الذى هُوَ قَائِم مقَامه فِي أَدَاء المؤونات فَإِن معنى الْقرْبَة فِي ذَلِك غير مَقْصُود وَإِذا خرج معنى الْقرْبَة من أَن يكون مَقْصُودا ظهر أَن المَال هُوَ الْمَقْصُود فِيهِ وَأَدَاء الولى فِي ذَلِك كأدائه وَأما الْعُقُوبَات فَلَا يثبت وُجُوبهَا فِي حَقه أصلا مَا كَانَ لله خَالِصا وَمَا كَانَ مختلطا بِحَق الْعباد على مَا بَينا فِي تَقْسِيم فِيمَا سبق وَلَيْسَ الْوُجُوب نَظِير الْحُرْمَة فِي حَقه إِلَّا بعد أَهْلِيَّته لحكم الْحُرْمَة وَالْوُجُوب ينبغى أَن يكون بمثابته وَهَذَا نَظِير مَا قُلْنَا إِن الْكَافِر لَا يكون أَهلا لوُجُوب حُقُوق الله تَعَالَى الثَّابِتَة بِالْخِطَابِ عَلَيْهِ من الْعِبَادَات لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْل لأَدَاء هَذِه الْوَاجِبَات مَعَ الْإِصْرَار على الْكفْر وَلَا هُوَ أهل لما هُوَ فَائِدَة الْأَدَاء وَهُوَ نيل الثَّوَاب بِهِ فِي الْآخِرَة فَلَا يثبت الْوُجُوب فِي حَقه أصلا بِخِلَاف الحرمات وَوُجُوب الْإِيمَان ثَابت فِي حَقه لوُجُود حكم وَهُوَ وجوب الْأَدَاء وَتحقّق الْأَدَاء مِنْهُ وَلَا يجوز إِثْبَات وجوب الْعِبَادَات فِي حَقه بِشَرْط تَقْدِيم الْإِيمَان على الْأَدَاء الذى هُوَ الحكم لِأَن الْإِيمَان هُوَ الأَصْل فِيمَا ينَال بِهِ الْفَوْز والسعادة الأبدية فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَلَا يجوز أَن يَجْعَل شرطا مقتضيا لغيره وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا بلغ الصبى فِي بعض الشَّهْر لَا يلْزمه قَضَاء مَا مضى لِأَن الْوُجُوب لم يكن ثَابتا فِي حَقه لِانْعِدَامِ حكمه وَهُوَ وجوب الْأَدَاء فِي الْحَال أَو فِي الثَّانِي بِاعْتِبَار مَا يلْحقهُ من الْحَرج فِي ذَلِك فَلم يثبت الْوُجُوب أصلا حَتَّى لَو أدّى فِي الْحَال أَو بعد الْبلُوغ كَانَ متنفلا ابْتِدَاء لَا مُؤديا للْوَاجِب وَكَذَلِكَ الْجُنُون إِذا امْتَدَّ حَتَّى كَانَ مستوعبا للشهر أَو زَائِدا على الْيَوْم وَاللَّيْلَة فِي حكم الصَّلَاة فَإِنَّهُ لَا يلْزمه الْقَضَاء لِأَن الْوُجُوب لم يكن فِي حَقه لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّته لحكم الْوُجُوب بِسَبَب الْحَرج الذى يلْحقهُ فِي ذَلِك وَإِن كَانَ دون ذَلِك كَانَ الْوُجُوب ثَابتا لوُجُود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 حكمه وَهُوَ الْأَدَاء فِي الْحَال إِن تصور أَو فِي الثَّانِي وَهُوَ بعد الْإِفَاقَة حَتَّى إِذا نوى الصَّوْم بِاللَّيْلِ ثمَّ جن وَلم يتَنَاوَل شَيْئا حَتَّى مضى الْيَوْم كَانَ مُؤديا للْفَرض وَيلْزمهُ الْقَضَاء إِذا لم يستوعب الْجُنُون الشَّهْر كُله كَمَا ثَبت الْوُجُوب فِي حَقه بِاعْتِبَار حكمه إِذْ لَيْسَ فِيهِ كَبِير حرج وَكَذَلِكَ الصَّوْم فِي حق الْحَائِض فَإِن الْوُجُوب ثَابت لوُجُود حكمه وَهُوَ الْأَدَاء فِي الثَّانِي من غير حرج وَوُجُوب الصَّلَاة فِي حَقّهَا غير ثَابت لِانْعِدَامِ حكمه وَهُوَ الْأَدَاء فِي الثَّانِي لما يلْحقهَا فِيهِ من الْحَرج وَكَذَلِكَ فِي حق النَّائِم الْوُجُوب الثَّابِت فِي حق الصَّوْم وَالصَّلَاة لوُجُود حكمه وَهُوَ الْقَضَاء بعد الانتباه إِذْ لَيْسَ فِيهِ كَبِير حرج والمغمى عَلَيْهِ فِي حكم الصَّوْم كَذَلِك وَكَذَلِكَ فِي حكم الصَّلَاة إِذا لم يرد على يَوْم وَلَيْلَة فَإِن زَاد على ذَلِك لم يثبت الْوُجُوب فِي حَقه لِانْعِدَامِ حكمه فَعرفت أَنه تخرج الْحُقُوق كلهَا مُسْتَقِيمًا على الطَّرِيق الذى اخترناه بقى الْكَلَام فِي وجوب الْإِيمَان على الصبى الْعَاقِل الذى يَصح مِنْهُ الْأَدَاء قَالَ رضى الله عَنهُ كَانَ شَيخنَا الإِمَام شمي الدّين الحلوانى رَحمَه الله يَقُول بِالْوُجُوب فِي حَقه لوُجُود الصلاحية لحكمه وَهُوَ الْأَدَاء والمؤدى مهه يكون فرضا وَالْأَدَاء الذى هُوَ فرض مَا يكون فِيهِ إِسْقَاط الْوَاجِب أَلا ترى أَنه لَو آمن فِي هَذِه الْحَالة لم يلْزمه تَجْدِيد الْإِقْرَار بعد بُلُوغه فَعرفنَا أَن أَدَاء الْفَرْض قد تحقق مِنْهُ فِي حَالَة الصغر وَهَذَا لِأَن مَا هُوَ حكم الْوُجُوب فِي الْعِبَادَات لَا يثبت فِي حَقه نظرا لَهُ وَهُوَ أَن لَا يبْقى عَلَيْهِ تبعة إِذا امْتنع من الْأَدَاء لما يلْحقهُ فِيهِ من الْمَشَقَّة وَفِي الْإِيمَان بعد مَا صَار بِحَال يَصح مِنْهُ الْأَدَاء لَو أثبتنا الْوُجُوب فِي حَقه انْتفع بِهِ فَإِن الْجَزَاء الذى ينَال بأَدَاء الْوَاجِب ضعف مَا ينَال بأَدَاء مَا لَيْسَ بِوَاجِب فَمن هَذَا الطَّرِيق يثبت حكم الْوُجُوب فِي حَقه وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه لَو أسلمت امْرَأَته وَأبي هُوَ الْإِسْلَام بعد مَا عرض عَلَيْهِ القاضى فَإِنَّهُ يفرق بَينهمَا وَلَو لم يثبت حكم الْوُجُوب فِي حَقه لم يفرق بَينهمَا إِذا امْتنع مِنْهُ قَالَ رضى الله عَنهُ وَالأَصَح عندى أَنه غير ثَابت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 فِي حَقه وَإِن عقل مَا لم يعتدل حَاله بِالْبُلُوغِ فَإِن بِاعْتِبَار عقله يصحح الْأَدَاء مِنْهُ وَصِحَّة الْأَدَاء تستدعي كَون الحكم مَشْرُوعا وَلَا تستدعي كَونه وَاجِب الْأَدَاء فَعرفنَا بِهَذَا أَن حكم الْوُجُوب وَهُوَ وجوب الْأَدَاء مَعْدُوم فِي حَقه (وَقد بَينا أَن الْوُجُوب لَا يثبت بِاعْتِبَار السَّبَب وَالْمحل بِدُونِ حكم الْوُجُوب) إِلَّا أَنه إِذا أدّى يكون الْمُؤَدِّي فرضا لِأَن بِوُجُود الْأَدَاء صَار مَا هُوَ حكم الْوُجُوب مَوْجُودا بِمُقْتَضى الْأَدَاء (وَإِنَّمَا لم يكن الْوُجُوب ثَابتا لِانْعِدَامِ الحكم فَإِذا صَار مَوْجُودا بِمُقْتَضى الْأَدَاء) كَانَ الْمُؤَدى فرضا بِمَنْزِلَة العَبْد فَإِن وجوب الْجُمُعَة فِي حَقه غير ثَابت حَتَّى إِنَّه إِن أذن لَهُ الْمولى أَو حضر الْجَامِع مَعَ الْمولى كَانَ بِهِ أَن لَا يُؤَدِّي وَلَكِن إِذا أدّى كَانَ الْمُؤَدى فرضا لِأَن مَا هُوَ حكم الْوُجُوب صَار مَوْجُودا بِمُقْتَضى الْأَدَاء وَإِنَّمَا لم يكن الْوُجُوب ثَابتا لِانْعِدَامِ حكمه وَكَذَلِكَ الْمُسَافِر إِذا أدّى الْجُمُعَة كَانَ مُؤديا للغرض مَعَ أَن وجوب الْجُمُعَة لم يكن ثَابتا فِي حَقه قبل الْأَدَاء بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذكرنَا وَالله أعلم فصل فِي بَيَان أَهْلِيَّة الْأَدَاء قَالَ رَضِي الله عَنهُ هَذِه الْأَهْلِيَّة نَوْعَانِ قَاصِرَة وكاملة فالقاصرة بِاعْتِبَار قُوَّة الْبدن وَذَلِكَ مَا يكون للصَّبِيّ الْمُمَيز قبل أَن يبلغ أَو الْمَعْتُوه بعد الْبلُوغ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَة الصَّبِي من حَيْثُ إِن لَهُ أصل الْعقل وَقُوَّة الْعَمَل بِالْبدنِ وَلَيْسَ لَهُ صفة الْكَمَال فِي ذَلِك حَقِيقَة وَلَا حكما والكاملة تبتنى على قدرتين قدرَة فهم الْخطاب وَذَلِكَ يكون بِالْعقلِ وقدرة الْعَمَل بِهِ وَذَلِكَ بِالْبدنِ ثمَّ يبتنى على الْأَهْلِيَّة القاصرة صِحَة الْأَدَاء وعَلى الْكَامِلَة وجوب الْأَدَاء وَتوجه الْخطاب بِهِ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} وَقبل التَّمْيِيز والتمكن من الْأَدَاء لَا وَجه لإِثْبَات التَّكْلِيف بِالْأَدَاءِ لِأَنَّهُ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَقد نفى الله تَعَالَى ذَلِك بِهَذِهِ الْآيَة وَلَا تصور تَعَالَى وَبعد وجود أصل الْعقل والتمكن من الْأَدَاء قبل كَمَاله فِي إِلْزَام الْأَدَاء حرج قَالَ الله تَعَالَى {مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج} وَقَالَ للْأَدَاء على الْوَجْه الْمَشْرُوع وَهُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 أَن يكون على قصد التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى {وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم} وَفِي إِلْزَام خطاب الْأَدَاء قبل إِكْمَال الْعقل من معنى الْإِضْرَار والحرج مَا لَا يخفى ثمَّ أصل الْعقل يعرف بالعيان وَذَلِكَ نَحْو أَن يخْتَار الْمَرْء فِي أَمر دُنْيَاهُ وأخراه مَا يكون أَنْفَع لَدَيْهِ وَيعرف بِهِ مستوى عَاقِبَة الْأَمر فِيمَا يَأْتِيهِ ويذره ونقصانه يعرف بالتجربة والامتحان وَبعد الترقي عَن دَرَجَة النُّقْصَان ظَاهرا تَتَفَاوَت أَحْوَال الْبشر فِي صفة الْكَمَال فِيهِ على وَجه يتَعَذَّر الْوُقُوف عَلَيْهِ فَأَقَامَ الشَّرْع اعْتِدَال الْحَال بِالْبُلُوغِ عَن عقل مقَام كَمَال الْعقل حَقِيقَة فِي بِنَاء إِلْزَام الْخطاب عَلَيْهِ تيسيرا عل الْعباد ثمَّ صَار صفة الْكَمَال الَّذِي يتَوَهَّم وجوده قبل هَذَا الْحَد سَاقِط الِاعْتِبَار وَبَقَاء توهم النُّقْصَان بعد هَذَا الْحَد كَذَلِك على مَا بَينا أَن السَّبَب الظَّاهِر مَتى قَامَ مقَام الْمَعْنى الْبَاطِن للتيسير دَار الحكم مَعَه وجودا وعدما وأيد هَذَا كُله قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (رفم الْقَلَم عَن ثَلَاث) وَالْمرَاد بالقلم الْحساب والحساب إِنَّمَا يكون بعد لُزُوم الْأَدَاء فَدلَّ أَن ذَلِك لَا يثبت إِلَّا بالأهلية الْكَامِلَة وَهُوَ اعْتِدَال الْحَال بِالْبُلُوغِ عَن عقل وعَلى هَذَا قُلْنَا مَا يكون من حُقُوق الله تَعَالَى فَهُوَ صَحِيح الْأَدَاء عِنْد وجود الْأَهْلِيَّة القاصرة وَذَلِكَ أَنْوَاع فَمِنْهَا مَا يكون صفة الْحسن مُتَعَيّنا فِيهِ على وَجه لَا يحْتَمل غَيره وَصفَة كَونه مَشْرُوعا مُتَعَيّن فِيهِ على وَجه لَا يحْتَمل أَن لَا يكون مَشْرُوعا بِحَال وَذَلِكَ نَحْو الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ صَحِيح من الصَّبِي الْعَاقِل فِي أَحْكَام الدُّنْيَا وَالْآخِرَة جَمِيعًا لوُجُود حَقِيقَته بعد وجود الْأَهْلِيَّة للْأَدَاء فَإِن حَقِيقَته يكون بالتصديق بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ وَمن رَجَعَ إِلَى نَفسه علم أَنه فِي مثل هَذِه الْحَالة كَانَ يعْتَقد وحدانية الله تَعَالَى بِقَلْبِه وَالْإِقْرَار مِنْهُ مسموع لَا يشك فِيهِ وَلَا فِي كَونه صَادِقا فِيمَا يقر بِهِ وَالْحكم بِوُجُود الشَّيْء يبتنى على وجود حَقِيقَته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 قَالَ فِيمَن وطيء جَارِيَة امْرَأَته فَإِن طاوعته فَهِيَ لَهُ وَعَلِيهِ مثلهَا وَإِن استكرهها فَهِيَ حرَّة وَعَلِيهِ مثلهَا فَإِن الْقيَاس الصَّحِيح يرد هَذَا الحَدِيث ويتبين أَنه كالمخالف للْكتاب وَالسّنة الْمَشْهُورَة وَالْإِجْمَاع ثمَّ هَذَا النَّوْع من الْقُصُور لَا يتَوَهَّم فِي الرَّاوِي إِذا كَانَ فَقِيها لِأَن ذَلِك لَا يخفى عَلَيْهِ لقُوَّة فقهه فَالظَّاهِر أَنه إِنَّمَا روى الحَدِيث بِالْمَعْنَى عَن بَصِيرَة فَإِنَّهُ علم سَمَاعه من رَسُول الله كَذَلِك مُخَالفا للْقِيَاس وَلَا تُهْمَة فِي رِوَايَته فكأنا سمعنَا ذَلِك من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيلزمنا ترك كل قِيَاس بمقابلته وَلِهَذَا قلت رِوَايَة الْكِبَار من فُقَهَاء الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَلا ترى إِلَى مَا روى عَن عَمْرو بن مَيْمُون قَالَ صَحِبت ابْن مَسْعُود سِنِين فَمَا سمعته يروي حَدِيثا إِلَّا مرّة وَاحِدَة فَإِنَّهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ أَخذه البهر وَالْفرق وَجعلت فَرَائِضه ترتعد فَقَالَ نَحْو هَذَا أَو قَرِيبا مِنْهُ أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول كَذَا فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن الْوُقُوف على مَا أَرَادَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مَعَاني كَلَامه كَانَ عَظِيما عِنْدهم فَلهَذَا قلت رِوَايَة الْفُقَهَاء مِنْهُم فَإِذا صحت الرِّوَايَة عَنْهُم فَهُوَ مقدم على الْقيَاس وَمَعَ هَذَا كُله فالكبار من أَصْحَابنَا يعظمون رِوَايَة هَذَا النَّوْع مِنْهُم ويعتمدون قَوْلهم فَإِن مُحَمَّدًا رَحمَه الله ذكر عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله أَنه أَخذ بقول أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ فِي مِقْدَار الْحيض وَغَيره وَكَانَ دَرَجَة أبي هُرَيْرَة فَوق دَرَجَته فَعرفنَا بِهَذَا أَنهم مَا تركُوا الْعَمَل بروايتهم إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة لانسداد بَاب الرَّأْي من الْوَجْه الَّذِي قَررنَا فَأَما الْمَجْهُول فَإِنَّمَا نعني بِهَذَا اللَّفْظ من لم يشْتَهر بطول الصُّحْبَة مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا عرف بِمَا روى من حَدِيث أَو حديثين نَحْو وابصة بن معبد وَسَلَمَة بن المحبق وَمَعْقِل بن سِنَان الْأَشْجَعِيّ رَضِي الله عَنْهُم وَغَيرهم وَرِوَايَة هَذَا النَّوْع على خَمْسَة أوجه أَحدهَا أَن يشْتَهر لقبُول الْفُقَهَاء رِوَايَته وَالرِّوَايَة عَنهُ وَالثَّانِي أَن يسكتوا عَن الطعْن فِيهِ بعد مَا يشْتَهر وَالثَّالِث أَن يَخْتَلِفُوا فِي الطعْن فِي رِوَايَته وَالرَّابِع أَن يطعنوا فِي رِوَايَته من غير خلاف بَينهم فِي ذَلِك وَالْخَامِس أَن لَا تظهر رِوَايَته وَلَا الطعْن فِيهِ فِيمَا بَينهم أما من قبل السّلف مِنْهُ رِوَايَته وجوزوا النَّقْل عَنهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْمَشْهُورين فِي الرِّوَايَة لأَنهم مَا كَانُوا متهمين بالتقصير فِي أَمر الدّين وَمَا كَانُوا يقبلُونَ الحَدِيث حَتَّى يَصح عِنْدهم أَنه يرْوى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فإمَّا أَن يكون قبولهم لعلمهم بعدالته وَحسن ضَبطه أَو لِأَنَّهُ مُوَافق لما عِنْدهم مِمَّا سَمِعُوهُ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من بعض الْمَشْهُورين يرْوى عَنهُ وَكَذَلِكَ إِن سكتوا عَن الرَّد بعد مَا اشْتهر رِوَايَته عِنْدهم لِأَن السُّكُوت بعد تحقق الْحَاجة لَا يحل إِلَّا على وَجه الرِّضَا بالمسموع فَكَانَ سكوتهم عَن الرَّد دَلِيل التَّقْرِير بِمَنْزِلَة مَا لَو قبلوه وردوا عَنهُ وَكَذَلِكَ مَا اخْتلفُوا فِي قبُوله وَرِوَايَته عَنهُ عندنَا لِأَنَّهُ حِين قبله بعض الْفُقَهَاء الْمَشْهُورين مِنْهُم فَكَأَنَّهُ روى ذَلِك بِنَفسِهِ وَبَيَان هَذَا فِي حَدِيث معقل بن سِنَان أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى لبروع بنت واشق الأشجعية بِمهْر مثلهَا حِين مَاتَ عَنْهَا زَوجهَا وَلم يسم لَهَا صَدَاقا فَإِن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قبل رِوَايَته وسر بِهِ لما وَافق قَضَاءَهُ قَضَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعلي رَضِي الله عَنهُ رده فَقَالَ مَاذَا نصْنَع بقول أَعْرَابِي بوال على عقبه حسبها الْمِيرَاث لَا مهر لَهَا فَلَمَّا اخْتلفُوا فِيهِ فِي الصَّدْر الأول أَخذنَا بروايته لِأَن الْفُقَهَاء من الْقرن الثَّانِي كعلقمة ومسروق وَالْحسن وَنَافِع بن جُبَير قبلوا رِوَايَته فَصَارَ معدلا بِقبُول الْفُقَهَاء رِوَايَته وَكَذَلِكَ أَبُو الْجراح صَاحب راية الأشجعيين صدقه فِي هَذِه الرِّوَايَة وَكَأن عليا رَضِي الله عَنهُ إِنَّمَا لم يقبل رِوَايَته لِأَنَّهُ كَانَ مُخَالفا للْقِيَاس عِنْده وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قبل رِوَايَته لِأَنَّهُ كَانَ مُوَافقا للْقِيَاس عِنْده فَتبين بِهَذَا أَن رِوَايَة مثل هَذَا فِيمَا يُوَافق الْقيَاس يكون مَقْبُولًا ثمَّ الْعَمَل يكون بالرواية وَأما إِذا ردوا عَلَيْهِ رِوَايَته وَلم يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يجوز الْعَمَل بروايته لأَنهم كَانُوا لَا يتهمون برد الحَدِيث الثَّابِت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا بترك الْعَمَل بِهِ وترجيح الرَّأْي بِخِلَافِهِ عَلَيْهِ فاتفاقهم على الرَّد دَلِيل على أَنهم كذبوه فِي هَذِه الرِّوَايَة وَعَلمُوا أَن ذَلِك وهم مِنْهُ وَلَو قَالَ الرَّاوِي أوهمت لم يعْمل بروايته فَإِذا ظهر دَلِيل ذَلِك مِمَّن هُوَ فَوْقه أولى وَبَيَان هَذَا فِي حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس فَإِن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ لَا نَدع كتاب رَبنَا وَلَا سنة نَبينَا بقول امْرَأَة لَا نَدْرِي أصدقت أم كذبت قَالَ عِيسَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 يسترق والاسترقاق عُقُوبَة على وَجه الْجَزَاء على الْكفْر فَإِن الْكفَّار حِين أَنْكَرُوا وحدانية الله تَعَالَى جازاهم على ذَلِك فجعلهم عبيد عبيده وَفِي الاسترقاق إِتْلَاف حكمي بطرِيق الْجَزَاء لم يثبت اسْتِحْقَاقه فَكيف لَا يثبت اسْتِحْقَاق الْإِتْلَاف الْحَقِيقِيّ إِذا صحت ردته شرعا قُلْنَا أما الضَّرْب إِذا أَسَاءَ الْأَدَب فَهُوَ تَأْدِيب للرياضة فِي الْمُسْتَقْبل وَلَيْسَ بجزاء على الْفِعْل الْمَاضِي مِنْهُ بطرِيق الْعقُوبَة بِمَنْزِلَة ضرب الدَّوَابّ للتأديب وَقد ورد الشَّرْع بِهِ فَقَالَ (تضرب الدَّابَّة على النفار وَلَا تضرب على العثار) وَأما الاسترقاق فَلَيْسَ بطرِيق الْجَزَاء وَلَكِن مَا كَانَ مُبَاحا غير مَعْصُوم وَهُوَ مَحل التَّمَلُّك كالصيود وذراري أهل الْحَرْب بِهَذِهِ الصّفة فَإِن قيل فقد قُلْتُمْ الْعِصْمَة للآدمي أصل ثمَّ زَوَال هَذِه الْعِصْمَة الثَّابِتَة كَرَامَة تكون بطرِيق الْجَزَاء قُلْنَا لَا كَذَلِك وَلَكِن زَوَال هَذِه الْعِصْمَة كزوال صفة الصِّحَّة الَّتِي هِيَ نعْمَة بِالْمرضِ وَصفَة الْحَيَاة بِالْمَوْتِ وَصفَة الْغنى بِملك المَال بالفقر بِهَلَاك المَال وَأحد لَا يَقُول إِن ذَلِك جَزَاء بطرِيق الْعقُوبَة فَأَما مَا يتَرَدَّد من حُقُوق الله تَعَالَى وَيحْتَمل أَن لَا يكون مَشْرُوعا فِي بعض الْأَوْقَات أَو لَا يكون حسنا فِي بعض الْأَوْقَات فَإِنَّهُ يثبت حكم صِحَة الْأَدَاء فِيهِ قبل الْبلُوغ بِاعْتِبَار الْأَهْلِيَّة القاصرة وَلَا يثبت وجوب الْأَدَاء المالي والبدني فِيهِ سَوَاء كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْم وَالزَّكَاة وَالْحج عندنَا فَإِن فِي وجوب الْأَدَاء قبل اعْتِدَال الْحَال إِلْزَام الْعهْدَة وَفِي صِحَة الْأَدَاء فِيمَا كَانَ مِنْهُ بدنيا مَحْض الْمَنْفَعَة لِأَنَّهُ يعْتَاد أداءها فَلَا يشق ذَلِك عَلَيْهِ بعد الْبلُوغ وَلِهَذَا صَحَّ مِنْهُ التَّنَفُّل بِجِنْس هَذِه الْعِبَادَات بعد أَدَاء مَا هُوَ مَشْرُوع بِصفة الْفَرْضِيَّة فِي حق الْبَالِغين وَمَا كَانَ مِنْهُ ماليا فَفِي صِحَة الْأَدَاء مِنْهُ إِضْرَار بِهِ فِي العاجل بِاعْتِبَار نُقْصَان ملكه فيبتنى ذَلِك على الْأَهْلِيَّة الْكَامِلَة ثمَّ لَيْسَ من ضَرُورَة صِحَة أَدَاء البدني اللُّزُوم فَإِن من شرع فِي صَوْم أَو صَلَاة على ظن أَنَّهَا عَلَيْهِ ثمَّ تبين أَنَّهَا لَيست عَلَيْهِ يَصح مِنْهُ الْإِتْمَام مَعَ انعدام صفة اللُّزُوم حَتَّى إِذا فسد لَا يجب الْقَضَاء وَفِي الْحَج إِذا شرع بِالظَّنِّ ثمَّ تبين أَنه لَيْسَ عَلَيْهِ تنعدم صفة اللُّزُوم حَتَّى إِذا أحْصر فتحلل لم يلْزمه الْقَضَاء وَيصِح الْإِتْمَام مِنْهُ بعد انْتِفَاء صفة اللُّزُوم والخصم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 يفرق بَين المالي والبدني فِي هَذَا النَّوْع بِاعْتِبَار أَن المالي يقبل النِّيَابَة فِي الْأَدَاء فَيتَوَجَّه الْخطاب بِالْأَدَاءِ فِي حَقه على أَن يَنُوب الْوَلِيّ عَنهُ فِي الْأَدَاء والبدني لَا يحْتَمل هَذِه النِّيَابَة فَلَو توجه عَلَيْهِ الْخطاب بِهِ لحقه الْعهْدَة بِسَبَبِهِ فَرُبمَا يعجز عَن الْأَدَاء لصغره ثمَّ يتضاعف عَلَيْهِ وجوب الْأَدَاء بعد الْبلُوغ فيلحقه الْحَرج فلدفع الْحَرج قُلْنَا لَا يثبت فِي حَقه خطاب الْأَدَاء فِيمَا هُوَ بدني وَهَذَا لَا معنى لَهُ لِأَن الْوَاجِب فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْفِعْل فالإقامة والإيتاء كل وَاحِد مِنْهُمَا فعل وَقد بَينا أَن هَذَا الْفِعْل لَازم بطرِيق الْقرْبَة وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق بأَدَاء الْوَلِيّ إِذْ الْولَايَة ثَابِتَة عَلَيْهِ شرعا بِغَيْر اخْتِيَاره وبمثل هَذِه الْولَايَة لَا تتأدى الْعِبَادَة ثمَّ هُوَ لَا يلْزمه الْخطاب بِالْإِيمَان كَمَا هُوَ مَذْهَبنَا وَلَو كَانَ الْمَعْنى فِيهِ الْحَرج الَّذِي يلْحقهُ بتضاعف الْأَدَاء بعد الْبلُوغ لَكَانَ الْخطاب بِالْإِيمَان يثبت فِي حَقه لِأَنَّهُ بدني وَلَا يتضاعف وجوب الْأَدَاء عَلَيْهِ بعد الْبلُوغ لتوجه الْخطاب فِي حَالَة الصغر بل يَنْبَنِي عَلَيْهِ صِحَة الْأَدَاء فرضا على مذْهبه وَقد جوز مثل هَذَا فِي الْعِبَادَات الْبَدَنِيَّة لتوفير الْمَنْفَعَة عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ إِذا صلى فِي أول الْوَقْت ثمَّ بلغ فِي آخِره فَإِن الْمُؤَدى يجوز عَن الْفَرْض لِأَن سُقُوط الْخطاب لِمَعْنى النّظر وَمعنى النّظر هُنَا فِي توجه الْخطاب عَلَيْهِ فِي أول الْوَقْت حَتَّى لَا تلْزمهُ الْإِعَادَة وَكَذَلِكَ قَالَ إِذا أحرم بِالْحَجِّ ثمَّ بلغ قبل الْوُقُوف فَإِن حجه يكون عَن الْفَرْض لِأَن معنى النّظر هُنَا فِي إِلْزَام الْخطاب إِيَّاه سَابِقًا على الْإِحْرَام فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول مثل هَذَا فِي الْإِيمَان وَنحن أثبتنا هَذَا فِي الصَّلَاة وَالْإِحْرَام لِأَن توجه الْخطاب لما كَانَ لَا يثبت إِلَّا بعد الْبلُوغ مَقْصُورا عَلَيْهِ فالمؤدي قبله إِذا كَانَ بِحَيْثُ يتَرَدَّد بَين الْفَرْض وَالنَّفْل لَا يُمكن أَن يَجْعَل فرضا بِحَال أَرَأَيْت لَو صلى رجل بعد زَوَال الشَّمْس أَربع رَكْعَات قبل نزُول فَرضِيَّة الظّهْر ثمَّ نزلت فَرضِيَّة الظّهْر قبل مُضِيّ الْوَقْت أَكَانَ ذَلِك جَائِزا عَن فَرْضه هَذَا شَيْء لَا يَقُول بِهِ أحد وعَلى هَذَا قُلْنَا إِحْرَامه صَحِيح بِاعْتِبَار الْأَهْلِيَّة القاصرة وَلَكِن لَا تلْزمهُ الْكَفَّارَات بارتكاب الْمَحْظُورَات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 لِأَن فِي ذَلِك ضَرَرا فيبتنى على الْأَهْلِيَّة الْكَامِلَة والخصم يَقُول لما صَحَّ إِحْرَامه لزمَه الْجَزَاء بارتكاب الْمَحْظُورَات وَكَذَلِكَ سَائِر الْكَفَّارَات على أَصله إِلَّا كَفَّارَة الْيَمين فَإِنَّهُ لَا تلْزمهُ لِأَن السَّبَب وَهُوَ الْيَمين لَا يتَحَقَّق مِنْهُ شرعا وَأما الْقَتْل بتحقق مِنْهُ وَقد تقدم بَيَان هَذَا النَّوْع فِيمَا يكون حَقًا لله تَعَالَى بطرِيق الْجَزَاء كحرمان الْمِيرَاث وَغَيره ثمَّ على هَذَا الأَصْل تبتنى الْمُعَامَلَات الَّتِى يبتنى عَلَيْهَا حُقُوق الْعباد فَإِنَّهَا تَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام مَا يتمخض مَنْفَعَة وَمَا يتمخض ضَرَرا وَمَا يتَرَدَّد بَين النفعة والمضرة فَأَما مَا يتمحض مَنْفَعَة فنحو الإصطياد والإكتساب والإحتطاب فَإِنَّهُ مَشْرُوع بِاعْتِبَار الْأَهْلِيَّة القاصرة فِي حق الصبى مُفِيد لحكمه وَكَذَلِكَ قبُول الْهِبَة وَالصَّدَََقَة وَالْقَبْض عندنَا فَإِن ذَلِك يتمحض مَنْفَعَة فَيكون ثَابتا فِي حَقه بالأهلية القاصرة وَكَذَلِكَ لَو آجر الصبى نَفسه لعمل فَإِنَّهُ يَصح هَذَا العقد مِنْهُ لاسْتِحْقَاق الْأجر الْمُسَمّى بِقدر مَا يُقيم من الْعَمَل من غير أَن يتَعَلَّق بِشَرْط السَّلامَة من الْعَمَل بِخِلَاف العَبْد الْمَحْجُور إِذا آجر نَفسه فوجوب الْأُجْرَة هُنَاكَ تتَعَلَّق بِشَرْط السَّلامَة من الْعَمَل وَفِي حكم لُزُوم تَسْلِيم النَّفس لَا يَجْعَل مُبَاشرَة العقد من الصبى مُعْتَبرا قبل إِذن الولى لِأَن فِي ذَلِك معنى الضَّرَر وإنمات يبتنى على الْأَهْلِيَّة القاصرة مَا يتمحض مَنْفَعَة لَهُ كَمَا فِي حُقُوق الله تَعَالَى وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا توكل عَن الْغَيْر بِالطَّلَاق وَالْعتاق فَإِنَّهُ يَصح ذَلِك مِنْهُ لِأَنَّهُ يتمحض مَنْفَعَة فِي حَقه لَا يشوبه ضَرَر فَإِن حَظه من ذَلِك صِحَة عِبَارَته شرعا وصلاحيته لبِنَاء الحكم عَلَيْهِ وَهَذَا أعظم وُجُوه الْمَنْفَعَة عِنْد الْعُقَلَاء خص الله تَعَالَى بِهِ بنى آدم وَمن عَلَيْهِم بِهِ فَقَالَ تَعَالَى {خلق الْإِنْسَان علمه الْبَيَان} وَقَالَ عَلَيْهِ السلامت الْمَرْء بأصغريه بِقَلْبِه وَلسَانه وَقَالَ الْقَائِل ... لِسَان الْفَتى نصف وَنصف فُؤَاده ... فَلم يبْق إِلَّا صُورَة اللَّحْم وَالدَّم ... فَعرفنَا أَن معرفَة الْبَيَان وَصِحَّة الْعبارَة من أعظم وُجُوه الإنتفاع بِهِ وَلِهَذَا صححنا مِنْهُ التَّوَكُّل عَن الْغَيْر بِالْبيعِ وَالشِّرَاء لَهُ فَإِن ذَلِك مَحْض مَنْفَعَة فِي حَقه لِأَنَّهُ يصير بِهِ مهتديا إِلَى التَّصَرُّفَات عَارِفًا بمواضع الْغبن والخسران ليتحرز مِنْهُ عِنْد حَاجته إِلَيْهِ وَقد أَشَارَ الله تَعَالَى إِلَى ذَلِك بقوله {وابتلوا الْيَتَامَى} وَلَا تلْزمهُ الْعهْدَة بِهَذَا التَّصَرُّف إِذْ لم يكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 مَأْذُونا لِأَن فِي إِلْزَام الْعهْدَة معنى الضَّرَر وبالأهلية القاصرة إِنَّمَا يثبت فِي حَقه مَا يتمحض مَنْفَعَة فَإِن قيل أَلَيْسَ أَنه لَا يَصح مِنْهُ أَدَاء الشَّهَادَة وَفِي تَصْحِيح عِبَارَته فِي أَدَاء الشَّهَادَة تمحض الْمَنْفَعَة فِي حَقه قُلْنَا صِحَة أَدَاء الشَّهَادَة ينبنى على أَهْلِيَّة الشَّهَادَة وَذَلِكَ ينبنى على الْأَهْلِيَّة الْكَامِلَة لِأَنَّهَا إِثْبَات الْولَايَة على الْغَيْر فِي الْإِلْزَام بِغَيْر رِضَاهُ وَبِدُون الْأَهْلِيَّة الْكَامِلَة لَا يثبت هَذِه الْولَايَة وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ يَصح أَمَان الصبى الْمُمَيز وَإِن لم يكن مَأْذُونا فِي الْقِتَال لِأَنَّهُ ينبنى على الْعبارَة وَفِي تَصْحِيح عِبَارَته شرعا فِي هَذَا الحكم مَحْض الْمَنْفَعَة وَلَيْسَ فِيهِ إِلْزَام الْغَيْر شَيْئا فَإِن النبذ بعد الْأمان صَحِيح والإلزام بِحكم عقد يتَعَلَّق بِهِ اللُّزُوم وَبِهَذَا الطَّرِيق يَصح من الْبَالِغ وَإِن لم يكن لَهُ ولَايَة الْإِلْزَام على الْغَيْر بعقدة وَلَكِن أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رضى الله عَنْهُمَا قَالَا فِي تَصْحِيح الْأمان معنى الضَّرَر من حَيْثُ إِنَّه يلْزمه الْكَفّ عَن الْقِتَال والسبى إِلَى وَقت النبذ والأهلية القاصرة لَا تكفى لذَلِك فَأَما الْبَالِغ فقد وجدت الْأَهْلِيَّة الْكَامِلَة فِي حَقه وَهُوَ يلْزم نَفسه أَولا لِأَنَّهُ من أهل الْقِتَال يملك مُبَاشَرَته بِنَفسِهِ فيلتزم الْكَفّ عَن ذَلِك بالأمان ثمَّ يتَعَدَّى الحكم إِلَى غَيره بِاعْتِبَار أَنه لَا يحْتَمل التحرى وَفِي حق الصبى لَا يُوجد هَذَا فَإِنَّهُ لَا يملك مُبَاشرَة الْقِتَال بِنَفسِهِ فَهُوَ بالأمان يلْزم غَيره الْكَفّ عَن الْقِتَال وَلَا يلْتَزم شَيْئا وعَلى هَذَا قَالَ فِي السّير الْكَبِير لَو قَاتل الصبى الْمَحْجُور أَو العَبْد الْمَحْجُور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 اسْتحق الرضخ لِأَن ذَلِك مَحْض مَنْفَعَة يثبت بالأهلية القاصرة كالاحتطاب والاحتشاش وَيَنْبَغِي أَن يكون هَذَا على أصل الْخصم أَيْضا فَإِنَّهُ يَقُول كل مَنْفَعَة من هَذَا الْجِنْس يصلح لَهُ بوليه فَإِنَّهُ لَا يكون أَهلا لتَحْصِيل ذَلِك لنَفسِهِ بِنَفسِهِ وَمَا لَا يحصل لَهُ بوليه يكون هُوَ أَهلا لتحصيله ذَلِك لنَفسِهِ وَفِي قبُول الْهِبَة وَالصَّدَََقَة لَهُ قَولَانِ فِي أَحدهمَا لَا يَصح ذَلِك مِنْهُ بِنَفسِهِ وَيصِح من الْوَلِيّ ذَلِك فِي حَقه وَفِي القَوْل الآخر على عكس هَذَا ثمَّ اسْتِحْقَاق الرضخ بِسَبَب الْقِتَال مَحْض مَنْفَعَة لَا يُمكن تَحْصِيله لَهُ من قبل الْوَلِيّ بمباشرته سَببه فَيَنْبَغِي أَن يَجْعَل هُوَ أَهلا لتحصيله لنَفسِهِ بمباشرته سَببه فَأَما مَا هُوَ ضَرَر مَحْض فنحو إبِْطَال الْملك فِي الطَّلَاق وَالْعتاق وَنقل الْملك بِالْهبةِ وَالصَّدَََقَة فَإِنَّهُ مَحْض ضَرَر فِي العاجل لَا يشوبه مَنْفَعَة وَلِهَذَا يَنْبَنِي صِحَّته شرعا على الْأَهْلِيَّة الْكَامِلَة فَلَا يثبت بالأهلية القاصرة حَتَّى لَا يملكهُ الصَّبِي بِنَفسِهِ وَلَا بِوَاسِطَة الْوَلِيّ إِذا بَاشر ذَلِك فِي حَقه وَزعم بعض مَشَايِخنَا أَن هَذَا الحكم غير مَشْرُوع فِي حق الصَّبِي أصلا حَتَّى إِن امْرَأَته لَا تكون محلا للطَّلَاق قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا عِنْدِي وهم فَإِن الطَّلَاق يملك بِملك النِّكَاح إِذْ لَا ضَرَر فِي إِثْبَات أصل الْملك وَإِنَّمَا الضَّرَر فِي الْإِيقَاع حَتَّى إِذا تحققت الْحَاجة إِلَى صِحَة إِيقَاع الطَّلَاق من جِهَته لدفع الضَّرَر كَانَ صَحِيحا وَبِهَذَا يتَبَيَّن فَسَاد قَول من يَقُول إِنَّا لَو أثبتنا ملك الطَّلَاق فِي حَقه كَانَ خَالِيا عَن حكمه وَهُوَ ولَايَة الْإِيقَاع وَالسَّبَب الْخَالِي عَن حكمه غير مُعْتَبر شرعا كَبيع الْحر وَطَلَاق الْبَهِيمَة فَإِن الحكم ثَابت فِي حَقه عِنْد الْحَاجة حَتَّى إِذا أسلمت امْرَأَته وَعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام فَأبى فرق بَينهمَا وَكَانَ ذَلِك طَلَاقا فِي قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد رَضِي الله عَنْهُمَا وَإِذا ارْتَدَّ وَقعت الْفرْقَة بَينه وَبَين امْرَأَته وَكَانَ طَلَاقا فِي قَول مُحَمَّد وَإِذا وجدته امْرَأَته مجبوبا فخاصمت فِي ذَلِك فرق بَينهمَا وَلم يبين فِي الْجَامِع أَن هَذِه الْفرْقَة تكون بِطَلَاق أم لَا وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا إِنَّهَا تكون بِطَلَاق اكْتِفَاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 بالأهلية القاصرة عِنْد تحقق الْحَاجة إِلَى دفع الضَّرَر عَنْهَا وَقَالَ بَعضهم هَذِه تكون بِغَيْر طَلَاق لِأَن الصَّبِي الْمُمَيز والرضيع الَّذِي لَا يعقل فِي هَذَا الحكم سَوَاء وينعدم فِي حق الرَّضِيع الْأَهْلِيَّة القاصرة والكاملة جَمِيعًا وَإِذا كَاتب الْأَب أَو الْوَصِيّ نصيب الصَّغِير من عبد مُشْتَرك بَينه وَبَين غَيره وَاسْتوْفى بدل الْكِتَابَة صَار الصَّبِي معتقا بِنَصِيبِهِ حَتَّى يضمن قيمَة نصيب شَرِيكه إِن كَانَ مُوسِرًا وَهَذَا الضَّمَان لَا يجب إِلَّا بِالْإِعْتَاقِ فَيَكْفِي بالأهلية القاصرة فِي جعله معتقا للْحَاجة إِلَى دفع الضَّرَر عَن الشَّرِيك فَعرفنَا أَن الحكم ثَابت فِي حَقه عِنْد الْحَاجة فَأَما بِدُونِ الْحَاجة لَا يَجْعَل ثَابتا لِأَن الِاكْتِفَاء بالأهلية القاصرة لتوفير الْمَنْفَعَة على الصَّبِي وَهَذَا الْمَعْنى لَا يتَحَقَّق فِيمَا هُوَ ضَرَر مَحْض فَأَما مَا يتَرَدَّد بَين الْمَنْفَعَة وَالضَّرَر فنحو الْمُعَاوَضَات كَالْبيع وَالشِّرَاء وَالنِّكَاح وَهَذَا ثَابت فِي حق الصَّبِي عِنْد مُبَاشرَة الْوَلِيّ أَو عِنْد الْمُبَاشرَة بِإِذن الْوَلِيّ لِأَن معنى توفير الْمَنْفَعَة فِيهِ متوهم وَكَذَلِكَ معنى الضَّرَر وَلَا ينْدَفع معنى الضَّرَر إِلَّا بِالرَّأْيِ الْكَامِل وَذَلِكَ يحصل عِنْد مُبَاشرَة الْوَلِيّ أَو عِنْد مُبَاشرَة الصَّبِي بعد استطلاع رَأْي الْوَلِيّ فَإِذا انْدفع توهم الضَّرَر الْتحق بِمَا تتمخض فِيهِ الْمَنْفَعَة فَيكون للصَّبِيّ فِيهِ عبارَة صَحِيحَة بالأهلية القاصرة وَهَذَا لِأَن بِهَذِهِ الْأَهْلِيَّة اعْتبرت عِبَارَته فِي تَصْحِيح التَّصَرُّف شرعا فِي حق الْغَيْر فَلِأَن يعْتَبر فِي حق نَفسه كَانَ أولى وَالْمعْنَى فِيهِ مَا بَينا أَن فِي تَصْحِيح عِبَارَته نوع مَنْفَعَة لَا تحصل لَهُ تِلْكَ الْمَنْفَعَة بِمُبَاشَرَة الْوَلِيّ ثمَّ فِيهِ فتح طَرِيق يحصل الْمَقْصُود عَلَيْهِ من وَجْهَيْن أَحدهمَا بمباشرته بِنَفسِهِ وَالْآخر بِمُبَاشَرَة الْوَلِيّ فَيكون ذَلِك أَنْفَع مِنْهُ إِذا كَانَ الطَّرِيق وَاحِدًا وَقد بَينا أَن بالأهلية القاصرة يثبت مَا فِيهِ توفير الْمَنْفَعَة عَلَيْهِ ثمَّ على أصل أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ لما صَار الرَّأْي الْقَاصِر فِي حَقه مجبورا بانضمام رَأْي الْوَلِيّ إِلَيْهِ التحقق بالبالغ حَتَّى نفذ تصرفه بِالْغبنِ الْفَاحِش مَعَ الْأَجَانِب كَمَا ينفذ من الْبَالِغ وَلما انْدفع معنى توهم الضَّرَر بِرَأْي الْوَلِيّ جعل بِمَنْزِلَة مَا لَو انْدفع ذَلِك بِرَأْيهِ الْكَامِل بعد الْبلُوغ فَينفذ تصرفه بِالْغبنِ الْفَاحِش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 مَعَ الْأَجَانِب وَعِنْدَهُمَا لما كَانَ نُفُوذ هَذَا التَّصَرُّف مِنْهُ بِاعْتِبَار رأى الولى وَجب اعْتِبَار رأية الْعَام برأية الْخَاص وَهُوَ مَا إِذا بَاشر التَّصَرُّف بِنَفسِهِ فكمالا ينفذ التَّصَرُّف بِالْغبنِ الْفَاحِش من الولى بمباشرته فَكَذَلِك لَا ينفذ بِمُبَاشَرَة الصبى بعد إِذن الولى لَهُ وَمَا قَالَه أَبُو حنيفَة رَحمَه الله أوجه فَإِن إِقْرَار الصبى بعد إِذن الولى لَهُ صَحِيح وَإِن كَانَ الولى لَا يملك الْإِقْرَار عَلَيْهِ بِنَفسِهِ وَفِي تصرفه بِالْغبنِ الْفَاحِش مَعَ الْأَقَارِب رِوَايَتَانِ عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله فِي إِحْدَاهمَا يَصح لما قُلْنَا من الْوَجْهَيْنِ وَفِي الثَّانِيَة لَا يَصح لِأَن شُبْهَة النِّيَابَة قَائِمَة فِي تصرفه لبَقَاء ولَايَة الولى فِي الْحجر عَلَيْهِ مَتى شَاءَ وَلِأَنَّهُ وجد أصل الرأى لَهُ بِنَفسِهِ وَلم تُوجد صفة الْكَمَال فَكَانَ هُوَ بِاعْتِبَار الأَصْل متصرفا لنَفسِهِ كَالْبَالِغِ وَبِاعْتِبَار الصّفة هُوَ كَالثَّابِتِ فَقُلْنَا بِأَنَّهُ يملك التَّصَرُّف بِالْغبنِ مَعَ الْأَجَانِب بِاعْتِبَار الأَصْل وَلَا يملك التَّصَرُّف بِالْغبنِ مَعَ الْأَقَارِب بِاعْتِبَار الْوَصْف لِأَن التُّهْمَة تتمكن فِي حق الْأَقَارِب دون الْأَجَانِب وَلِهَذَا قُلْنَا إِن تَدْبيره ووصيته لَا تكون صَحِيحَة لِأَنَّهُ إِزَالَة الْملك مُضَافا إِلَى مَا بعد الْمَوْت فَيعْتَبر بِإِزَالَة الْملك فِي حَالَة الْحَيَاة بطرِيق التَّبَرُّع من حَيْثُ إِنَّه ضَرَر مَحْض وَلَا يُقَال بِأَنَّهُ يَزُول الْملك عَنهُ بِمَوْتِهِ وَإِن لم يوص فِيهِ يَنْعَدِم معنى الضَّرَر فِي وَصيته لِأَن الزَّوَال بِالْمَوْتِ يكون إِلَى الْوَارِث وَكَانَ ذَلِك لتوفير الْمَنْفَعَة على الْمُورث فَإِن نقل ملكه إِلَى أَقَاربه عِنْد استغنائه عَنهُ يكون أولى عِنْده من النَّقْل إِلَى الْأَجَانِب وَهُوَ بالإيصاء يتْرك هَذَا الْأَفْضَل ويبذله لغيره وَهَذَا يكون فِيهِ ضَرَر لَا محَالة وَلَكِن بالأهلية الْكَامِلَة يملك مثل هَذَا التَّصَرُّف كَمَا يملك الطَّلَاق بعد النِّكَاح وبالأهلية القاصرة لَا يملك وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا وَقعت الْفرْقَة بَين الزَّوْجَيْنِ وَبَينهمَا صبى مُمَيّز فَإِنَّهُ لَا يُخَيّر فِيمَا بَين الْأَبَوَيْنِ وَلَا تعْتَبر عِبَارَته فِي هَذَا الإختبار شرعا لِأَنَّهُ يتَرَدَّد بَين الْمَنْفَعَة وَالضَّرَر فَلَا ينتفى معنى الضَّرَر بانضمام رأى الولى إِلَى رَأْيه فِي ذَلِك مَعَ أَنه يتَعَيَّن فِيهِ جَانب الضَّرَر بِاعْتِبَار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 الظَّاهِر لِأَنَّهُ إِنَّمَا يخْتَار من لَا يثقفه وَلَا يؤاخذه بالآداب وَلَكِن يتْركهُ خليع العذار لقلَّة نظرة فِي عواقب الْأُمُور وكما لَا يعْتَبر اخْتِيَاره فِي هَذَا لَا يعْتَبر اخْتِيَار وليه فِي هَذِه الْحَالة أَبوهُ وَأَبوهُ فِي هَذَا الإختيار يعْمل لنَفسِهِ فَلَا يصلح أَن يكون نَاظرا فِيهِ لوَلَده وَقد يجوز أَن لَا يعْتَبر قَوْله فِي ذَلِك وَلَا قَول أَبِيه كَمَا قَالَ فِي السّير الْكَبِير إِذا كَانَ فِي رهن الْمُشْركين عِنْد الْمُسلمين صبيان فأسلموا ثمَّ رَضوا بردهمْ على الْمُشْركين لاسترداد رهن الْمُسلمين مِنْهُم لَا يعْتَبر رضاهم فِي ذَلِك وَلَا رِضَاء آبَائِهِم فَلَا يردون بِخِلَاف رهن الرِّجَال الْبَالِغين فَهَذَا نوع اخْتِيَار مِنْهُ ثمَّ لَا يعْتَبر عِبَارَته فِيهِ وَلَا عبارَة وليه لِأَنَّهُ ينبى على الْأَهْلِيَّة الْكَامِلَة بِمَنْزِلَة التَّصَرُّف الذى يتمحض ضَرَرا فَإِن قيل فقد ذكر فِي الْإِقْرَار وَالسير الْكَبِير أَن الصبى الْعَاقِل إِذا كَانَ مَجْهُول الْحَال فَأقر على نَفسه بِالرّقِّ فَإِنَّهُ يَصح إِقْرَاره وَفِي هَذَا اعْتِبَار عِبَارَته فِيمَا يتمحض ضَرَرا فِي حَقه وَهُوَ إبِْطَال الْحُرِّيَّة وتبدل صفة الْمَالِكِيَّة بالمملوكية قُلْنَا ثُبُوت الرّقّ هُنَا لَيْسَ بعبارته وَلَكِن بِدَعْوَى ذى الْيَد أَنه عبدلى لِأَن عِنْد معارضته إِيَّاه بِدَعْوَى الْحُرِّيَّة لَا تتقرر يَده عَلَيْهِ الصبى الذى لَا يعقل إِذا كَانَ فِي يَده فَقَالَ هُوَ عبدى أَو لِأَن الْحُرِّيَّة إِنَّمَا تثبت لَهُ إِذا ادّعى الْحُرِّيَّة وَلَا يُمكن أَن يَجْعَل بِإِقْرَارِهِ الرّقّ مُدعيًا للحرية بِوَجْه فَكَانَ هَذَا نَظِير مَا قُلْنَا فِي صِحَة ردته نَعُوذ بِاللَّه من حَيْثُ إِنَّه مَعَ جَهله بِاللَّه لَا يُمكن أَن يَجْعَل عَالما بِهِ حَتَّى يكون مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ وَلَا يسْتَقرّ مَذْهَب الشافعى رَحمَه الله فِي هَذِه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 الْفُصُول على شَيْء مَعْلُوم فَإِنَّهُ يعْتَبر عِبَارَته فِي الِاخْتِيَار بَين الْأَبَوَيْنِ لإلزام الحكم بِهِ وَلَا يعْتَبر عِبَارَته فِي الحكم بِإِسْلَامِهِ إِذا سمع مِنْهُ الْإِقْرَار بِهِ وَلَا شكّ أَن الْمَنْفَعَة فِي هَذَا أظهر فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَتعْتَبر عِبَارَته فِي الْوَصِيَّة وَالتَّدْبِير وَلَا تعْتَبر فِي صِحَة البيع وَالشِّرَاء وَمعنى الْمَنْفَعَة فِيهِ أظهر مِنْهُ فِي الْوَصِيَّة وَإِنَّمَا لَهُ حرف وَاحِد يطرده فِي جَمِيع هَذِه الْفُصُول وَهُوَ أَن كل مَنْفَعَة يُمكن تحصليها لَهُ بِمُبَاشَرَة وليه لَا تعْتَبر عِبَارَته فِي ذَلِك وَمَا لَا يُمكن تَحْصِيله بِهِ بِمُبَاشَرَة وليه تعْتَبر عِبَارَته فِيهِ فالمنفعة الْمَقْصُودَة من البيع وَالشِّرَاء يُمكن تَحْصِيلهَا بِهِ بِمُبَاشَرَة الْوَلِيّ وَالْمَنْفَعَة الْمَطْلُوبَة بِالْوَصِيَّةِ لَا يُمكن تَحْصِيلهَا بِهِ بِمُبَاشَرَة الْوَلِيّ وَكَذَلِكَ الْمَنْفَعَة الَّتِي لَهُ بِاخْتِيَار أحد الْأَبَوَيْنِ لَا يُمكن تَحْصِيلهَا لَهُ بِمُبَاشَرَة الْوَلِيّ فَتعْتَبر عِبَارَته فِي ذَلِك وَالْمَنْفَعَة الْمَطْلُوبَة بِالْإِسْلَامِ يُمكن تَحْصِيلهَا بِهِ بِمُبَاشَرَة الْوَلِيّ فَإِنَّهُ يصير مُسلما بِإِسْلَام أحد الْأَبَوَيْنِ تبعا وَإِن كَانَ عَاقِلا فَلَا تعْتَبر عِبَارَته فِي ذَلِك وَقرر الشَّافِعِي رَحمَه الله هَذَا من طَرِيق الْفِقْه فَقَالَ كَونه موليا عَلَيْهِ سمة الْعَجز وَكَونه وليا دَلِيل الْقُدْرَة وَبَينهمَا مُغَايرَة على سَبِيل المضادة فَلَا يجوز اجْتِمَاعهمَا قَالَ الشَّافِعِي وَلِهَذَا لَا أصحح ردته بِنَفسِهِ لِأَن حكم الرِّدَّة فِي حَقه لما كَانَ يثبت بطرِيق التّبعِيَّة لِلْأَبَوَيْنِ يسْقط اعْتِبَار مُبَاشَرَته لذَلِك بِنَفسِهِ ثمَّ قرر الشَّافِعِي رَحمَه الله هَذَا فَقَالَ إِذا أسلم أحد أَبَوَيْهِ يحكم بِإِسْلَامِهِ مَعَ كَونه مُعْتَقدًا للكفر بِنَفسِهِ فَإِذا كَانَ لَا يعْتَبر اعْتِقَاده فِي اسْتِدَامَة مَا كَانَ ثَابتا فِي حَقه فَلِأَن لَا يعْتَبر اعْتِقَاده فِي إِثْبَات مَا لم يكن ثَابتا كَانَ أولى وَلَكنَّا نقُول هَذَا شَيْء نطرده من غير أَن نتبين صِحَّته بِدَلِيل شَرْعِي فَإِنَّهُ لَا مُنَافَاة بَين تَحْصِيل مَنْفَعَة لَهُ بِوَاسِطَة الْوَلِيّ فِي حَالَة وَبَين تَحْصِيل تِلْكَ الْمَنْفَعَة لَهُ بمباشرته بِنَفسِهِ فِي حَالَة أُخْرَى أَلا ترى أَنه يصير مُسلما بِإِسْلَام أَبِيه تَارَة وبإسلام أمه أُخْرَى وَإِنَّمَا تتَحَقَّق هَذِه (الْمُنَافَاة) فِي حَالَة وَاحِدَة وَنحن إِذا جَعَلْنَاهُ مُسلما بِإِسْلَام نَفسه لَا نجعله تبعا فِي تِلْكَ الْحَالة وَفِي الْحَال الَّذِي يكون تبعا لِأَبَوَيْهِ لَا يكون مُسلما بِإِسْلَام نَفسه وَمَا هَذَا إِلَّا نَظِير العَبْد يكون تبعا لمَوْلَاهُ فِي السّفر وَالْإِقَامَة فِي حَالَة وَاحِدَة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 وَيكون أصلا بِنَفسِهِ فِي حَالَة وَهُوَ إِذا خلى الْمولى بَينه وَبَين ذَلِك وَهَذَا لما فِي تَصْحِيح عِبَارَته من تَحْصِيل مَنْفَعَة مَقْصُودَة لَهُ لَا يحصل ذَلِك بِمُبَاشَرَة الْوَلِيّ بِمَا فِي توسيع الطّرق عَلَيْهِ من الْمَنْفَعَة الَّتِي لَا تحصل إِذا كَانَ جِهَة الْإِصَابَة وَاحِدًا عينا وَإِذا أسلم أحد أَبَوَيْهِ فَإِنَّمَا نجعله مُسلما تبعا لِأَنَّهُ فِي نَفسه غير مُعْتَقد شَيْئا وَلَا واصف لشَيْء سوى ذَلِك حَتَّى لَو علم أَنه مُعْتَقد للكفر بِأَن وصف ذَلِك نجعله مُرْتَدا ونجعل حكمه كَحكم من أسلم بِنَفسِهِ ثمَّ ارْتَدَّ (نعود بِاللَّه تَعَالَى) بعد ذَلِك فَهَذَا تَمام الْبَيَان فِيمَا يَنْبَنِي على الْأَهْلِيَّة القاصرة والكاملة وَالله أعلم بِالْحَقِيقَةِ وَالصَّوَاب وَفِي نِهَايَة نُسْخَة المكتبة الأحمدية تمّ الْكتاب ونجز وَهَذَا آخِره وَوَافَقَ الْفَرَاغ من كِتَابَته يَوْم الثُّلَاثَاء الْعشْرين من شهر ربيع الأول سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة على يَد العَبْد الْفَقِير إِلَى ربه الْمُعْتَرف بِذَنبِهِ الراجي عَفْو ربه عمر بن أَحْمد بن مُحَمَّد الجرهمي الْحَنَفِيّ عَفا الله تَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعِينَ تكرما بِالْمَدْرَسَةِ المقدمية الجولينية الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق المحروسة رحم الله واقفها وَنور ضريحه الْحَمد لله رب الْعَالمين وصلواته على خير خلقه مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسَلَامه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353