الكتاب: الاتباع المؤلف: صدر الدين محمد بن علاء الدين عليّ بن محمد ابن أبي العز الحنفي، الأذرعي الصالحي الدمشقي (المتوفى: 792هـ) المحقق: محمد عطا الله حنيف - عاصم بن عبد الله القريوتي الناشر: عالم الكتب - لبنان الطبعة: الثانية، 1405هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الاتباع لابن أبي العز ابن أبي العز الكتاب: الاتباع المؤلف: صدر الدين محمد بن علاء الدين عليّ بن محمد ابن أبي العز الحنفي، الأذرعي الصالحي الدمشقي (المتوفى: 792هـ) المحقق: محمد عطا الله حنيف - عاصم بن عبد الله القريوتي الناشر: عالم الكتب - لبنان الطبعة: الثانية، 1405هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَهُوَ حسبي وَعَلِيهِ أتوكل قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم القَاضِي صدر الدّين عَليّ بن الْعِزّ الْحَنَفِيّ رَحمَه الله أما بعد فَإِنِّي وقفت على رِسَالَة لبَعض الْحَنَفِيَّة رجح فِيهَا تَقْلِيد مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله وحض على ذَلِك وَوجدت فِيهَا مَوَاضِع مشكلة فَأَحْبَبْت أَن أنبه عَلَيْهَا خوفًا من التَّفَرُّق الْمنْهِي عَنهُ وَاتِّبَاع الْهوى المردي امتثالا لقَوْله تَعَالَى {واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا} آل عمرَان 103 وَقَوله تَعَالَى {إِن الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا لست مِنْهُم فِي شَيْء} الْأَنْعَام 159 وَقَوله تَعَالَى {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى أَن أقِيمُوا الدّين وَلَا تتفرقوا فِيهِ} الشورى 13 وَقَوله تَعَالَى {وَإِن هَذِه أمتكُم أمة وَاحِدَة وَأَنا ربكُم فاتقون فتقطعوا أَمرهم بَينهم زبرا كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ} الْمُؤْمِنُونَ 53 زبرا أَي كتبا وَقَوله تَعَالَى {وَمَا تفَرقُوا إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم} الشورى 14 وَقَوله تَعَالَى {وَلَا تتبع الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الْآيَة (ص 26) وَلقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث الْعِرْبَاض بن سَارِيَة رَضِي الله عَنهُ (فَإِنَّهُ من يَعش بعدِي فسيرى اخْتِلَافا كثيرا فَعَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ وَإِيَّاكُم ومحدثات الْأُمُور فَإِن كل محدثة بِدعَة وكل بِدعَة ضَلَالَة) رَوَاهُ ابو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدِيث حسن صَحِيح وأمثال ذَلِك فِي الْكتاب وَالسّنة كَثِيرَة فِي النَّهْي عَن التَّفَرُّق وَاتِّبَاع الْهوى أَقُول هَذَا وأعتقد أَن أَبَا حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى إِمَام جليل من كبار أَئِمَّة الْمُسلمين رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ مِنْهَا قَوْله فِي أول الْخطْبَة م: الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا إِلَى اتِّبَاع الْملَّة الحنيفية وأرشدنا إِلَى سلوك طَريقَة الْعلمَاء الْحَنَفِيَّة ش: فَإِنَّهُ إِن كَانَ يُرِيد بطريقة الْعلمَاء الْحَنَفِيَّة اتِّبَاع الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس الصَّحِيح فَلَيْسَ ذَلِك مُخْتَصًّا بالعلماء الْحَنَفِيَّة بل سَائِر عُلَمَاء الْمُسلمين على هَذِه الطَّرِيقَة وَإِنَّمَا خَالف فِي اعْتِبَار الْقيَاس أهل الظَّاهِر وَإِن كَانَ يُرِيد بذلك تقليدهم للْإِمَام أبي حنيفَة فَفِيهِ تَفْصِيل فَإِن من قلد إِمَامًا معينا فِيمَا وَقع لَهُ وَلم يتَبَيَّن لَهُ فِيهِ الدَّلِيل فَذَلِك سَائِغ بل وَاجِب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 عَلَيْهِ عِنْد الضَّرُورَة إِذا وَقعت لَهُ كائنة لَا يعلم حكم الله فِيهَا وبلغه قَوْله فِيهَا وَلم يعلم لَهُ فِيهَا مُخَالفا وَإِن قَلّدهُ فِيمَا تبين لَهُ فِيهِ الدَّلِيل مُوَافق لَهُ فَلَيْسَ ذَلِك بتقليد لَهُ بل يكون فِي ذَلِك مُتبعا للدليل إِلَّا أَن يَنْوِي تَقْلِيد الإِمَام دون مُتَابعَة الدَّلِيل إِذْ الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِن قَلّدهُ فِيمَا تبين لَهُ فِيهِ أَن الدَّلِيل مُخَالف لَهُ أَو قدر على النّظر فِي الدَّلِيل وفهمه وَلم يفعل فَهَذَا هُوَ التَّقْلِيد المذموم فَإِن صَاحبه دَاخل فِي زمرة الَّذين قَالُوا {إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مقتدون} الزخرف 23 وَالَّذين قَالَ الله عَنْهُم {وَإِذا قيل لَهُم اتبعُوا مَا أنزل الله قَالُوا بل نتبع مَا ألفينا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} الْبَقَرَة 177 وَسَيَأْتِي لهَذَا الْمَعْنى زِيَادَة بَيَان إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَمِنْهَا قَوْله م: وَجَعَلَنِي مِمَّن عرف مَرَاتِب أَدِلَّة الشَّرْع وَكَيْفِيَّة دلالتها ش : فَإِن هَذَا يُنَاقض مَقْصُوده بِهَذِهِ الرسَالَة فَإِن من عرف مَرَاتِب أَدِلَّة الشَّرْع وَكَيْفِيَّة دلالتها يكون من أهل الإجتهاد فَلَا يسوغ لَهُ تَقْلِيد إِمَام معِين وَلَا الْأَمر بذلك إِلَّا أَن يُرِيد أَنه عرف صناعَة الإستدلال بالأدلة الشَّرْعِيَّة أصُول الْفِقْه وَلم يعرف الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة نَفسهَا الَّتِي هِيَ الْكتاب وَالسّنة وَمَا أَظُنهُ يرضى لنَفسِهِ بِهَذِهِ الْمنزلَة بل الظَّاهِر أَن مُرَاده أَنه يعرف الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة ومراتبها وَكَيْفِيَّة دلالتها وَحِينَئِذٍ فَلَا يسوغ لَهُ التَّقْلِيد لإِمَام معِين وَلَا غير معِين إِلَّا فِيمَا خفى عَنهُ وَلَا الْأَمر بتقليد إِمَام معِين من الْأَئِمَّة وَهُوَ فِي هَذِه الرسَالَة يَدْعُو إِلَى تَقْلِيد الإِمَام أبي حنيفَة رَحمَه الله دون غبره وَيُقِيم الدَّلِيل على ذَلِك وَهَذَا تنَاقض بَين وَلَيْسَ هَذَا من طَريقَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الْعلمَاء الْحَنَفِيَّة بل ابو يُوسُف وَمُحَمّد وَغَيرهمَا من أَصْحَاب أبي حنيفَة خالفوا ابا حنيفَة فِيمَا ظهر لَهُم فِيهِ الدَّلِيل على خلاف قَوْله وَلم يخرجُوا بذلك عَن كَونهم من أَصْحَابه بل الَّذِي ذكره غير وَاحِد من أهل الْعلم إِذا كَانَ لَهُ نوع تميز يتبع أَي الْقَوْلَيْنِ أرجح عِنْده وأقربه إِلَى الدَّلِيل بِحَسب تميزه فَإِنَّهُ خير لَهُ من الْخَيْر الْمُطلق فَكيف من يعرف أَدِلَّة الشَّرْع وَكَيْفِيَّة دلالتها وَلم يقل أحد من الْعلمَاء أَنه يجب أَو يشرع الْتِزَام قَول شخص معِين فِي كل مَا يُوجِبهُ ويحرمه ويبيحه عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل قد قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله أجمع الْمُسلمُونَ على أَن من استبانت لَهُ سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يحل لَهُ أَن يَدعهَا لقَوْل أحد وَمِنْهَا قَوْله م: وجبلني على التعصب لمجتهد كَانَ من قورن شهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بخيرها وعدالتها ش: فَإِن فِي هَذَا الْكَلَام نظرا من وَجْهَيْن أَحدهمَا دَعْوَاهُ أَنه جبل على الْوَصْف الَّذِي ذكره وَهَذَا الْوَصْف وَهُوَ التعصب لمجتهد معِين مكتسب وَلَيْسَ فِي الطَّبْع السَّلِيم مَا يَقْتَضِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 التعصب لهَذَا الْعَالم دون هَذَا الْعَالم وَإِنَّمَا يَأْتِي ذَلِك غَالِبا من هوى النَّفس فَيكون حِينَئِذٍ قد جبل على خلق ذميم وَلَو ادّعى أَنه جبل على اتِّبَاع الْحق وَقَول هَذَا الإِمَام الْمعِين هُوَ الْحق لكَانَتْ الْمُقدمَة الأولى مسلمة وَالثَّانيَِة مَحل النزاع فَإِن كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة قَالَ الله تَعَالَى {فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا} الْآيَة الرّوم 30 فَفِي الْفطر مركوز معرفَة حسن اتِّبَاع الْحق لَا أَن اتِّبَاع هَذَا الْعَالم مُتَعَيّن دون هَذَا الْعَالم إِلَّا أَن يَدعِي أَن هَذَا الْعَالم مَعْصُوم عَن الْخَطَأ فِي اجْتِهَاده دون غَيره وَلَا يَدعِي هَذَا عَاقل فَإِنَّهُ يكون قد أنزلهُ منزلَة الرَّسُول صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه فَإِن الْغَضَب والتعصب لوَاحِد معِين من الْأَئِمَّة وصف مَذْمُوم من جنس فعل الرافضة وَهُوَ من أَفعَال الْجَاهِلِيَّة كَمَا فِي صَحِيح مُسلم وَسنَن النَّسَائِيّ عَن جُنْدُب بن عبد الله البَجلِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من قتل تَحت راية عمية يَدْعُو عصبية وينصر عصبية فَقتلته جَاهِلِيَّة) وروى أَبُو دَاوُد عَن جُبَير بن مطعم رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (لَيْسَ منا من دَعَا إِلَى عصبية وَلَيْسَ منا من قَالَ بعصبية وَلَيْسَ منا من مَاتَ على عصبية) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ حِين قَالَ الْأَنْصَار يَا للْأَنْصَار وَقَالَ بالمهاجرون فَخرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ مَا بَال دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة وَفِي رِوَايَة مُنْتِنَة الحَدِيث وَعَن أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سمعتموه يدعوا بدعوة الْجَاهِلِيَّة فاعضوه بِهن أَبِيه وَلَا تكنوا) وَفِي لفظ من سمعتموه يتعزى بعزاء الْجَاهِلِيَّة فأعضوه بِهن أَبِيه وَلَا تكنوا فَسمع أبي رجلا يَقُول يَا لفُلَان فَقَالَ أعضض أير أَبِيك فَقَالُوا يَا ابا الْمُنْذر مَا كنت فحاشا فَقَالَ بِهَذَا أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَوَاهُ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (عَلَيْكُم بِالْجَمَاعَة فَإِن يَد الله على الْجَمَاعَة) الثَّانِي: إستدلاله على تَقْدِيمه لَهُ على غَيره بِكَوْنِهِ من خير الْقُرُون فَإِن هَذَا لَا يلْزم تَقْدِيم هَذَا الإِمَام وَحده على غَيره مِمَّن كَانَ فِي زَمَانه وَقَبله بل وَلَا على من بعده فَإِن تَفْضِيل الْجُمْلَة على الْجُمْلَة لَا يَقْتَضِي تَفْضِيل كل فَرد على كل فَرد بل قد يتنازع الْعلمَاء هَل فِي غير الصَّحَابَة من هُوَ خير من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 بَعضهم على قَوْلَيْنِ ذكرهمَا القَاضِي عِيَاض وَغَيره وَالْأَكْثَر على تَفْضِيل كل فَرد وَلَكِن من بعد الصَّحَابَة لَيْسَ مثلهم فقد كَانَ فيهم مثل الْحجَّاج بن يُوسُف وَفضل الْأَفْرَاد إِنَّمَا هُوَ بالتقوى كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم} الحجرات 13 وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا فضل لعربي على عجمي وَلَا لعجمي على عَرَبِيّ وَلَا لأسود على أَبيض وَلَا لأبيض على أسود إِلَّا بالتقوى) (النَّاس كلهم بَنو آدم وآدَم من تُرَاب) وَلَو قابله مالكي الْمَذْهَب بِمثل مثل قَوْله وَادّعى أَن الإِمَام مَالك بن أنس أولى بالاتباع من أبي حنيفَة رحمهمَا الله تَعَالَى فَإِن مذْهبه مَذْهَب أهل الْمَدِينَة الشَّرِيفَة أصح مَذَاهِب أهل الْمَدَائِن فَإِنَّهُم كَانُوا يتأسون بآثار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر من سَائِر الْأَمْصَار وَكَانَ غَيرهم من أهل الْأَمْصَار دونهم فِي الْعلم بِالسنةِ النَّبَوِيَّة واتباعها حَتَّى أَنهم يفتقرون إِلَى نوع من سياسة الْمُلُوك وآراء الْعلمَاء ومقاصد الْعباد أَكثر من افتقار أهل الْمَدِينَة وَلِهَذَا لم يذهب أحد من عُلَمَاء الْمُسلمين إِلَى أَن إِجْمَاع أهل مَدِينَة من الْمَدَائِن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 حجَّة يجب اتباعها لَا فِي تِلْكَ الْأَعْصَار وَلَا بعْدهَا غير الْمَدِينَة الشَّرِيفَة فَإِنَّهُ قد اخْتلفت فِي إِجْمَاع أَهلهَا إِلَّا استدلاله بذلك على تَقْدِيم مَذْهَب مَالك نَظِير اسْتِدْلَال على تَقْدِيم مَذْهَب أبي حنيفَة وَمن مثل هَذَا الإستدلال نَشأ الإفتراق فِي هَذِه الْأمة فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون وَمِنْهَا قَوْله م: والصلوة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد النَّبِي الْأُمِّي الْمَبْعُوث إِلَى النَّاس كَافَّة بشيرا وَنَذِيرا وداعيا إِلَى الله باذنه وسراجا منيرا وعَلى آله وَأَصْحَابه وعترته الَّذين أذهب الله عَنْهُم الرجس وطهرهم تَطْهِيرا أما بعد فَإِن الزَّمَان لما انْتهى إِلَى وَقت تضعضع فِيهِ أَرْكَان رباع الْعُلُوم وتقعقع فِيهِ بُنيان بقاع الْمَعْلُوم وخلت غاياتها عَن أُسَامَة أبي الشبلين حَتَّى ضج فِيهَا ثعالبة أَبُو الْحصين وشاع الحَدِيث والطعن على مَذْهَب الأقدمين وذاع ادِّعَاء أَن ابا حنيفَة الَّذِي هُوَ أقدم الْمُجْتَهدين لم يعلم أَحَادِيث البُخَارِيّ وَخَالف سيد الْمُرْسلين وَكَانَ ذَلِك موهما لوهن مذْهبه عِنْد ضعفاء الْيَقِين أَشَارَ إِلَيّ بعض الإخوان الَّذين هم بِمَنْزِلَة الْإِنْسَان للعين وَالْعين للْإنْسَان أَن اكْتُبْ رِسَالَة تقَوِّي اعْتِقَاد ضعفة الْحَنَفِيَّة فِي مَذْهَب إمَامهمْ وتعرف مَا للنَّاس عَلَيْهِ فِي غَالب الْبلدَانِ من الِاحْتِيَاج إِلَى مذْهبه من خَلفهم وإمامهم فكتبتها مُشْتَمِلَة على مُقَدّمَة ومقصد وخاتمة الْمُقدمَة فِي بَيَان سَبَب تَرْجِيح تَقْلِيده على غَيره ش: وفيهَا مبَاحث فَقَوله ذاع ادِّعَاء فَإِن فِي هَذَا الْكَلَام مُقَابلَة الْفَاسِد بالفاسد وَالْوَاجِب رد الْبَاطِل بِحَق وَلَا يجوز رد الْبَاطِل بِالْبَاطِلِ فَإِن الْبَاطِل لَا يرد الْبَاطِل وَإِنَّمَا يردهُ الْحق قَالَ الله تَعَالَى {بل نقذف بِالْحَقِّ على الْبَاطِل فيدمغه فَإِذا هُوَ زاهق} الْأَنْبِيَاء 21 وَالْوَاجِب أَن يُقَال لمن قَالَ إِن ابا حنيفَة خَالف سيد الْمُرْسلين هَذَا القَوْل كذب وبهتان وَسَب لهَذَا الإِمَام الْجَلِيل يسْتَحق قَائِله الردع والزجر عَن هَذِه الْمقَالة الْبَاطِلَة إِن أَرَادَ بِهِ أَنه خَالفه عَن قَصده وَإِن أَرَادَ بِهِ أَنه خَالفه عَن تَأْوِيل أَو ذمّ القَوْل وَلم يذكر قَائِله فَهُوَ هَين كَمَا يُوجد فِي كَلَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الْمُخْتَلِفين فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد من كَلَام البُخَارِيّ رَحمَه الله وَقَالَ بعض النَّاس كَذَا وَقَالَ فِي بعض الْمَوَاضِع فَخَالف الرَّسُول وَلم يسم الْمُخَالف من هُوَ وَذكر فِي الشَّرْط أَن مُحَمَّد بن الْحسن استبعد قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله فِي عدم لُزُوم الْوَقْف وَسَماهُ تحكما من غير حجَّة وَالْمُصَنّف فِي هَذِه الرسَالَة فِي الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشر قد نسب إِلَى الشَّافِعِي مُخَالفَة قَول الله {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} الْبَقَرَة 228 لَا تنه عَن خلق وَتَأْتِي مثله وَالْقَوْل قد يكون مُخَالفا للنَّص وقائله مَعْذُور فَإِن الْمُخَالفَة بِتَأْوِيل لم يسلم مِنْهَا أحد من أهل الْعلم وَذَلِكَ التَّأْوِيل وَإِن كَانَ فَاسِدا فصاحبه مغْفُور لَهُ لحصوله عَن اجْتِهَاده فَإِن الْمُجْتَهد إِذا اجْتهد وَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ أجر على اجْتِهَاده وَأجر على إِصَابَته الْحق وَإِذا اجْتهد وَأَخْطَأ فَلهُ أجر على اجْتِهَاده وَخَطأَهُ مغْفُور لَهُ فمخالفة النَّص إِذا كَانَت عَن قصد فَهِيَ كفر وَإِن كَانَت عَن إجتهاد فَهِيَ من الْخَطَأ المغفور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 فَلَا يجوز أَن يُقَال عَن أبي حنيفَة وَلَا عَمَّن دونه من أهل الْعلم فِيمَا يُوجد من أَقْوَاله مُخَالفا للنَّص أَنه خَالف الرَّسُول قصدا بل إِمَّا أَن يُقَال إِن النَّص لم يبلغهُ أَو لم يظْهر لَهُ دَلِيل على ذَلِك الحكم أَو عَارضه عِنْده دَلِيل آخر أَو غير ذَلِك من الْأَعْذَار رَحِمهم الله وَرَضي عَنْهُم أَجْمَعِينَ وَقد انحرف فِي شَأْن أبي حنيفَة رَحمَه الله طَائِفَتَانِ فطائفة قد غلبت فِي تَقْلِيده فَلم تتْرك لَهُ قولا وأنزلوه منزلَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن أورد عَلَيْهِم نَص مُخَالف قَوْله تأولوه على غير تَأْوِيله ليدفعوه عَنْهُم وَلم يكن أَصْحَابه مَعَه كَذَلِك بل رجعُوا عَن كثير مِمَّا كَانُوا قلدوه فِيهِ لما ظهر لَهُم فِيهِ الدَّلِيل على خلاف قَوْله وَطَائِفَة تنقصته وَادعت أَنه أَخذ بِالرَّأْيِ وَترك النَّص هُوَ وَأَصْحَابه وسموهم أَصْحَاب الرَّأْي وهم مَا بَين مُسْتَقل فِي ذَلِك من الطَّرفَيْنِ ومستكثر فتراهم مَا بَين قَادِح تَارَة بِحَق وَتارَة بباطل وَالله يغْفر لنا وَلَهُم وَأما الْمَعْنى الْفَاسِد الَّذِي قوبل بِهِ هَذَا القَوْل الْبَاطِل فَهُوَ دَعْوَى أَن أَبَا حنيفَة أقدم الْمُجْتَهدين فَإِنَّهُ إِن أَرَادَ أقدم الْمُجْتَهدين من هَذِه الْأمة فَهَذَا بَاطِل قطعا فكم قبله من مجتهدي الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَإِن أَرَادَ أقدم الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة الْمَشْهُورين وَهَذَا هُوَ مُرَاده فالإمام مَالك كَانَ معاصرا لَهُ فَإِن مولد أبي حنيفَة رَحمَه الله سنة ثَمَانِينَ من الْهِجْرَة ووفاته سنة خمسين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وَمِائَة ومولد مَالك رَحمَه الله سنة ثَلَاث وَتِسْعين ووفاته سنة تسع وَسبعين وَمِائَة فتعاصرا سبعا وَخمسين سنة وَلم يثبت أَن أَحدهمَا تأهل للِاجْتِهَاد قبل صَاحبه وعَلى تَقْدِير ثُبُوته لَا يلْزم مِنْهُ جَوَاز التَّقْلِيد لوَاحِد مِنْهُمَا دون الآخر فضلا عَن الْوُجُوب بل الْوَاجِب فِي مسَائِل النزاع الرَّد إِلَى الله وَالرَّسُول قَالَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} النِّسَاء 59 وَالرَّدّ إِلَى الله إِلَى كِتَابه وَالرَّدّ إِلَى الرَّسُول الرَّد إِلَيْهِ فِي حَيَاته وَإِلَى سنته بعد وَفَاته وَأهل التَّقْلِيد لَا يَفْعَلُونَ ذَلِك بل يَأْخُذ أحدهم بِمَا يجد فِي كتب أَصْحَاب ذَلِك الإِمَام الَّذِي قَلّدهُ وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول من خَالفه كَائِنا من كَانَ وَنَصّ ذَلِك الإِمَام والكتب عِنْده بِمَنْزِلَة نَص الشَّارِع وَكَثِيرًا مَا يكون ذَلِك النَّص من كَلَام بعض الْأَصْحَاب فِي الْفَتَاوَى وَلم يكن لذَلِك الإِمَام فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة قَول مَنْقُول وَيلْزم الْقَائِل بترجيح الْمُجْتَهد الأقدم أَن يرجح قَول زيد (رض) وَعمر (رض) وَغَيرهمَا من الصَّحَابَة أَو قَول سعيد بن الْمسيب وَالقَاسِم بن مُحَمَّد أَو غَيرهمَا من التَّابِعين على قَول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 إِمَامه وَهَذَا لَا يَفْعَله كثير من المقلدين وَلَا شكّ أَن هَذَا تَرْجِيح لم ينشأ عَن دَلِيل بل هُوَ فَاسد فكم من تلميذ أعلم من شَيْخه وَأفضل مِنْهُ فَهَذَا أَبُو حنيفَة رَحمَه الله شَيْخه حَمَّاد وَلَا يذكر حَمَّاد عِنْد مقلدي أبي حنيفَة رَحمَه الله وَأَيْضًا فقد يُعَارضهُ من يُقَلّد الإِمَام الْمُتَأَخر بِأَن يَقُول الإِمَام الْمُتَأَخر اطلع على أَقْوَال الْأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين وَنظر فِي أدلتهم وَاخْتَارَ الصَّحِيح وَالأَصَح فَيكون تَقْلِيده أولى لجمعه مَا كَانَ مُتَفَرقًا عِنْد الْأَئِمَّة الَّذين كَانُوا قبله وإطلاعه على مَا يطلع عَلَيْهِ كل فَرد مِنْهُم فَظهر سُقُوط الِاسْتِدْلَال بفدم الْمُجْتَهد وَمِنْهَا قَوْله م: المبحث الأول فِي بَيَان فَضله نقلا وعقلا اما النَّقْل فَهُوَ مَا اشْتهر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ خير الْقُرُون الَّذين أَنا فيهم ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ يفشو الْكَذِب فَإِن فِيهِ دلَالَة على خيرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 التَّابِعين وَلم يكن ذَلِك إِلَّا لعلمهم بأحوال الدّين وَأَتْبَاع مَا ورثوا من سيد الْمُرْسلين من علم الْكتاب وَالسّنة وآثار الصَّحَابَة الطاهرين وجدهم فِي الشّعْر شكّ عَمَّا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْقيَاس لحفظهم عَمَّا يُوجب الْجرْح والالتباس وفرط تحرزهم عَن تَغْيِير مَا وجدوه من الْحق وَعَن إِلْحَاق غير الْحق بِالْحَقِّ وَكَانَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله إِمَامًا صَادِقا وفقيها فائقا عَالما بِالْكتاب وَالسّنة سالكا محجة أهل السّنة مُتبعا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا أَمر وَسنة ذَا أَصْحَاب عُلَمَاء أنقياء لَا من أهل الْبدع وَلَا من أهل الْأَهْوَاء مجتهدين بذلوا وسعهم فِي تَحْقِيق الْحق فِيمَا عزلهم من المسالك جلّ أَو دق وَمن شهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بخيره أولى بالتقليد من مُجْتَهد غَيره انْتهى ش: فَإِن هَذَا الإستدلال غير صَحِيح لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين الْقُرُون فِي الْجُمْلَة وَقد يكون فِي التَّفْضِيل من غَيره أفضل مِنْهُ كالحجاج فَلَا يَصح الِاسْتِدْلَال على تَفْضِيل فَرد مِنْهُم على من بعده بِكَوْنِهِ مِنْهُم وَإِنَّمَا يرجح بِالسَّبقِ إِلَى الْإِصَابَة مَعَ التَّسَاوِي فِي الزَّمَان كَمَا يرجح أول من أسلم على من تَأَخّر إِسْلَامه لَا بِالسَّبقِ فِي الْوُجُود قَالَ الله تَعَالَى {إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم} الحجرات 13 وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مثل أمتِي كَمثل الْمَطَر لَا يدْرِي آخِره خير أم أَوله) أخرجه التِّرْمِذِيّ وَلما كَانَ هَذَا الِاسْتِدْلَال صَحِيحا فَهُوَ مُشْتَرك بَين الْحَنَفِيَّة والمالكية فقد تقدم أَن مَالِكًا عاصر أَبَا حنيفَة رَحمَه الله سبعا وَخمسين سنة وَلم يثبت أَن أَحدهمَا تأهل للِاجْتِهَاد قبل صَاحبه وكل مِنْهُمَا من الْقُرُون المفضلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ورسخوا ذَلِك بِأَن قَالُوا مَذْهَب مَالك مَذْهَب أهل الْمَدِينَة الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة دَار الْهِجْرَة وَدَار النُّصْرَة الَّتِي من الله فِيهَا لرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الاسلام وشرائعه وإليها هَاجر الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الله وَرَسُوله وَبهَا كَانَ للْأَنْصَار وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم أصح الْمذَاهب أهل الْمَدَائِن الاسلامية وَلَا شكّ أَن مَالِكًا رَحمَه الله كَانَ من تَابِعِيّ التَّابِعين من الْقُرُون المفضلة وفلي هَذِه الْقُرُون الَّتِي أثنى عَلَيْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمذهب أهل الْمَدِينَة أصح مَذَاهِب أهل الْمَدَائِن إِذْ آثَار النُّبُوَّة فِيهَا بَاقِيَة لم تَتَغَيَّر كَمَا تقدم التَّنْبِيه على بعض ذَلِك من قَوْلهم وَهُوَ فِي الْقُوَّة كَمَا ترى يحكون عَن الشَّافِعِي رَحمَه الله أَنه قَالَ لَهُ مُحَمَّد بن الْحسن أَيهمَا أعلم صَاحبكُم أَو صاحبنا يَعْنِي أَبَا حنيفَة ومالكا رحمهمَا الله قلت على الْإِنْصَاف قَالَ نعم قلت فأنشدك الله من أعلم بِالْقُرْآنِ صاحبنا أَو صَاحبكُم قَالَ اللَّهُمَّ صَاحبكُم قلت أنْشدك الله من أعلم بِالسنةِ صاحبنا أَو صَاحبكُم قَالَ اللَّهُمَّ صَاحبكُم قلت فأنشدك الله من أعلم بأقاويل أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صاحبنا أَو صَاحبكُم قَالَ اللَّهُمَّ صَاحبكُم قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله فَلم يبْق إِلَّا الْقيَاس وَالْقِيَاس لَا يكون إِلَّا على هَذِه الْأَشْيَاء فعلى أَي شَيْء تقيس ويستدلون أَيْضا من الْمَنْقُول بِمَا هُوَ أخص من هَذَا الحَدِيث وَهُوَ الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (يُوشك أَن يضْرب النَّاس أكباد الْإِبِل فِي طلب الْعلم فَلَا يَجدونَ عَالما أعلم من عَالم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الْمَدِينَة) وَقد روى عَن غير وَاحِد كَابْن جريج وَابْن عُيَيْنَة وَغَيرهم أَنهم قَالُوا هُوَ مَالك وَالَّذين نازعوا فِي ذَلِك لَهُم مأخذان أَحدهمَا الطعْن فِي الحَدِيث فَزعم بَعضهم أَن فِيهِ انْقِطَاعًا وَالثَّانِي أَنه أَرَادَ غير مَالك كالعمري الزَّاهِد وَقد أجابوا عَن ذَلِك بِأَنَّهُ لم يكن فِي عصر مَالك أحد ضرب النَّاس أكباد الْإِبِل إِلَيْهِ أَكثر من مَالك فِي ذَلِك الْعَصْر فَإِنَّهُ رَحمَه الله تَأَخّر مَوته عَنْهُم وَلَا رَحل إِلَى أحد من عُلَمَاء الْمَدِينَة مَا رَحل إِلَى مَالك رَحمَه الله لَا قبله وَلَا بعده وَمَعَ هَذَا فقد عرض عَلَيْهِ الرشيد وَغَيره أَن يحمل النَّاس على موطأه فَامْتنعَ من ذَلِك وَقَالَ إِن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تفَرقُوا فِي الْأَمْصَار وَإِنَّمَا جمعت علم أهل بلدي أَو كَمَا قَالَ رَحمَه الله وَمِنْهَا قَوْله م: وَأما الْعقل فلتقدمه واختصاصه بتدوين علم الْفِقْه وإشخاصه فَإِنَّهُ صور الْمسَائِل وَأجَاب عَنْهَا وأوضح الْأَسْبَاب والعلل وَبنى عَلَيْهَا وَقد حكى أَن بعض الشَّافِعِيَّة فِي زمن الْمُزنِيّ كَانَ يغض من أبي حنيفَة رَحمَه الله فَبلغ ذَلِك الْمُزنِيّ فَقَالَ لَهُ مَالك وامرءا سلم لَهُ الْعلمَاء ثَلَاثَة أَربَاع الْعلم وَهُوَ لَا يسلم لَهُم ربعه فَقَالَ الرجل كَيفَ ذَلِك يَا إِمَام فَقَالَ الْعلم نصفه سُؤال وَنصفه جَوَاب فَأَما النّصْف الأول فقد اخْتصَّ بِهِ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله لم يُشَارِكهُ فِيهِ أحد وَأما النّصْف الآخر فَهُوَ يَقُول كُله لَهُ لِأَنَّهُ أصَاب فِي اجْتِهَاده وَغَيره يَقُول الْمُجْتَهد يخطىء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ويصيب أصَاب فِي بعض وَأَخْطَأ فِي بعض فقد سلمُوا لَهُ ثَلَاثَة أَربَاع الْعلم كَمَا ترى وَهُوَ لَا يسلم لَهُم ربعه فَتَابَ الرجل عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَلَعَلَّ هَذَا معنى قَول الإِمَام الشَّافِعِي رَحمَه الله النَّاس عِيَال على أبي حنيفَة رَحمَه الله فِي الْفِقْه وتقليد الأقدم فِي الاستنباط أولى لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَخذ مَا أَخذ من المآخذ وعض عَلَيْهَا بالنواجذ والأضراس وَغَيره الْتقط مَا من أقلامه سقط وَحَازَ مَا افرط مِنْهُ أَن أفرط وَهَذَا أَمر يعرفهُ ذَوُو التَّحْصِيل فَلَا يحْتَاج إِلَى دَلِيل وَلَا تَعْلِيل وَكفى استياسا وتنبيها بِمَا أنْشدهُ الحريري فِي مقاماته الَّذِي حَاز قصبات السَّبق فِي مقالاته (فَلَو قبل مبكاها بَكَيْت صبَابَة ... للسعدى شفيت النَّفس قبل المتندم) (وَلَكِن بَكت قبلي فهيج لي الْبكاء ... بكاءها فَقلت الْفضل للمتقدم) انْتهى ش: فَأَما استدلاله بالتقدم فقد تقدم التَّنْبِيه على بعض مَا فِيهِ وَأما استدلاله باختصاصه بتدوين علم الْفِقْه فَمَمْنُوع لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنه لم يدون بِنَفسِهِ فِي الْفِقْه مصنفا ينْسب إِلَيْهِ وَإِنَّمَا صنف أَصْحَابه بعده على مذْهبه مَا صنفوه وَالثَّانِي أَنه غير مُخْتَصّ بتصوير الْمسَائِل وَالْجَوَاب عَنْهَا إِن كَانَ هَذَا هُوَ مُرَاده بتدوين علم الْفِقْه فقد فعل هَذَا غَيره من عُلَمَاء الْمُسلمين وعابه بَعضهم وَقَالَ إِن الْوَاجِب ضبط أصُول ذَلِك من الْكتاب وَالسّنة حَتَّى إِذا وَقعت حَادِثَة طلب معرفَة الحكم فِيهَا من مظانه وَالْعُلَمَاء مُخْتَلفُونَ فِي بيع الْكتب الَّتِي فِيهَا الْعلم بِالرَّأْيِ هَل يجوز أم لَا على قَوْلَيْنِ وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ إِذا أرسل إِلَيْهِ بعض نوابه يسْأَله عَن قَضِيَّة من قضايا الْجد مَعَ الاخوة يَأْمر فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ وَيَقُول قطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الْكتب كَأَنَّهُ رَضِي الله عَنهُ رأى إِنَّه إِنَّمَا يتَكَلَّم فِيهَا بِالِاجْتِهَادِ للضَّرُورَة فالضرورة تبيحه كالميتة وَكره أَن يُقَلّد غَيره من غير اجْتِهَاده فَأمر بتقطيع الْكتاب لذَلِك بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ مَعَه نَص فَإِنَّهُ يبلغهُ وَيَأْمُر بتبليغه وَلَا يَأْمر بِقطع كِتَابه وَأما قَوْله إِن تَقْدِيم الأقدم فِي الإستنباط أولى فَإِن ذَلِك غير مُسلم بل قد يكون التلميذ أفضل من شَيْخه كَمَا تقدم فَيُقَال لَهُ إِن كنت قلدته لكَونه أقدم فِي الإستنباط فقلد شَيْخه لإنه أقدم مِنْهُ وَكَذَلِكَ من هُوَ أقدم حَتَّى يَنْتَهِي الْأَمر إِلَى أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن أَبى قيل لَهُ كَيفَ يجوز تَقْلِيد من هُوَ أَصْغَر وَأَقل علما وَلَا يجوز تَقْلِيد من هُوَ أكبر وَأكْثر علما وَهَذَا تنَاقض بَين وَإِن قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله جمع علم من قبله إِلَى علمه قيل لَهُ فَمن جَاءَ بعد أبي حنيفَة رَحمَه الله قد جمع علمه إِلَى علمه فيلزمك تَقْلِيده فَإِن قَالَ نعم فقد جعل صغَار الْعلمَاء أولى بالتقليد من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورضى عَنْهُم وَإِلَّا تنَاقض وَأما قَوْله فِي الْحِكَايَة الَّتِي تنْسب إِلَى الْمُزنِيّ أَنه قَالَ إِن أَبَا حنيفَة رَحمَه الله سلم لَهُ النَّاس إِلَى فِيهِ أحد فَإِن هَذِه الْحِكَايَة لَا أَظن انها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 تصح عَن الْمُزنِيّ لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن قَوْله أَن ابا حنيفَة اخْتصَّ بِالنِّصْفِ الأول الَّذِي هُوَ السُّؤَال لَا يُشَارِكهُ فِيهِ أحد لَا يَصح لِأَن الْحَوَادِث لَا زَالَت تتجدد وَيسْأل عَنْهَا وتصور أسئلة وَيُجَاب عَنْهَا قبل أبي حنيفَة رَحمَه الله وَمَعَهُ وَبعده وَلَا يَدعِي الإختصاص وَعدم الْمُشَاركَة فِي ذَلِك إِلَّا متعصب جَاهِل وَالثَّانِي إِن السُّؤَال لَا يَصح أَن يكون نصف الْعلم وَلَا شَيْئا مِنْهُ وَإِنَّمَا الْعلم الشَّرْعِيّ وَمَعْرِفَة الْأَحْكَام فِي الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة بأدلتها وَلَا يدْخل السُّؤَال بِوَجْه والتشقيق فِي الأسئلة وتوليدها يُدْرِكهُ عوام النَّاس وَإِنَّمَا يخْتَص الْعلمَاء بِمَعْرِِفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة بأدلتها وإستنباطها وَمِنْهَا قَوْله م: المبحث الثَّانِي فِي فضل اجْتِهَاده اعْلَم أَن الْأمة إِذا اخْتلفُوا فِي مَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ وَاسْتقر خلافهم على ذَلِك لَا يجوز لأحد بعد ذَلِك أَن يحدث قولا ثَالِثا عِنْد عَامَّة الْعلمَاء وَأما قبل الِاسْتِقْرَار فَهُوَ جَائِز بِلَا خلاف وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله اجْتهد قبل اسْتِقْرَار الْمذَاهب وصادف اجْتِهَاده مَحَله فَكَانَ جَائِزا بِلَا خلاف ثمَّ من اجْتهد بعد ذَلِك فَإِنَّمَا اجْتهد بعد اسْتِقْرَار الْمذَاهب وَذَلِكَ لَا يجوز عِنْد أَكثر الْعلمَاء كَمَا مر وَمَا كَانَ جَائِزا بِلَا خلاف فَهُوَ أفضل مِمَّا كَانَ مُخْتَلفا فِيهِ والمنازع مكابر وَقد صرح أَبُو بكر الرَّازِيّ فِي شرح آثَار الطَّحَاوِيّ بِأَن اجْتِهَاد من بعد أبي حنيفَة رَحمَه الله غير مُعْتَد بِهِ وتقليد الْأَفْضَل أفضل وَإِن لم يكن وَاجِبا فان بعض الْعلمَاء ذهب إِلَى أَن تَقْلِيد الْأَفْضَل أفضل انْتهى ش: فَإِن الَّذِي ذكره أهل الْأُصُول فِي هَذَا الأَصْل أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم إِذا اخْتلفُوا فِي مسئلة على قَوْلَيْنِ فَلَيْسَ لمن بعدهمْ أَن يَقُول قولا ثَالِثا إِن كَانَ ذَلِك بعد اسْتِقْرَار مذاهبهم فِيمَا قَالُوا وَكَذَلِكَ اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي كل عصر على أَقْوَال رد القَوْل الْحَادِث بعد اسْتِقْرَار الْخلاف على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 مَا فِي هَذَا الأَصْل من الْخلاف وعَلى تَقْدِير صِحَّته لَا يلْزم مِنْهُ رد قَول مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وأمثال هَؤُلَاءِ المعاصرين لأبي حنيفَة إِذا خالفوه فِي مَسْأَلَة فَإِن الْمَذْهَب لم يسْتَقرّ بِزَعْمِهِ وَإِنَّمَا يلْزم مِنْهُ أَن الصَّحَابَة إِذا اتَّفقُوا فِي مَسْأَلَة على حكم أَو اخْتلفُوا فِيهَا على قَوْلَيْنِ أَو أَكثر أَنه لَيْسَ لمن بعدهمْ أَن يحدث فِيهَا قولا آخر وَهَذَا الأَصْل مُشكل على الْمُقَلّد فِي مسَائِل مِنْهَا مَسْأَلَة الحكم بالنظير فِي قتل الصَّيْد حَالَة الْإِحْرَام فَإِنَّهُ حكم اتّفقت الصَّحَابَة عَلَيْهِ وَالْقَوْل بِالْقيمَةِ حَادث وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف خلافًا لمُحَمد وَمِنْهَا مَسْأَلَة اللوطي فَإِن أَبَا حنيفَة يرى تعزيزه دون حَده وَلم يقل أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم بالاكتفاء بتعزيزه وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي كَيْفيَّة قَتله فَمُقْتَضى هَذَا الأَصْل أَنه لَا يجوز الإكتفاء بتعزيزه لِأَنَّهُ قَول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 حَادث بعد إستقرار الْخلاف بَين الصَّحَابَة على أَقْوَال لَيْسَ هُوَ مِنْهَا ونظائر هَاتين الْمَسْأَلَتَيْنِ كَثِيرَة فَظهر أَن هَذَا الأَصْل الَّذِي ذكره حجَّة عَلَيْهِ فِي تَقْلِيده لَا لَهُ وَكم قد خَالف أَبَا حنيفَة أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَزفر وَغَيرهم من أَصْحَابه فِي مسَائِل لَا تكَاد تحصى وَكم قد رجعُوا عَن مَسْأَلَة لما ظهر لَهُم فِيهَا الدَّلِيل على خلاف مَا كَانُوا وافقو فِيهِ وَقد قَالَ ابو يُوسُف لما رَجَعَ عَن قَوْله فِي مِقْدَار الصَّاع وَعَن صَدَقَة الخضروات وَغَيرهَا لَو رأى صَاحِبي مَا رايت لرجع كَمَا رجعت وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ يعلم من أبي حنيفَة رَحمَه الله أَنه إِذا ظهر لَهُ الدَّلِيل رَجَعَ إِلَيْهِ وَمن ظن أَن أَبَا حنيفَة أَو غَيره من أَئِمَّة الْمُسلمين يتَعَمَّد مُخَالفَة الحَدِيث الصَّحِيح أَو غَيره أَو أَنه إِذا قَالَ بِالْقِيَاسِ ثمَّ ظهر لَهُ النَّص لَا يرجع إِلَيْهِ فقد أَخطَأ عَلَيْهِم بل لَو تبين لَهُ خطأ ذَلِك الْقيَاس لرجع عَنهُ إِلَى مَا هُوَ أصح مِنْهُ وَإِن لم يكن ثمَّ نَص فَكيف إِذا ظهر لَهُ النَّص فاذا سَاغَ هَذَا لأَصْحَاب أبي حنيفَة رَحمَه الله كَيفَ لَا يسوغ لغَيرهم وَالرُّجُوع إِلَى الْحق خير من التَّمَادِي فِي الْبَاطِل فَقَوله وَأَبُو حنيفَة اجْتهد قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 اسْتِقْرَار الْمذَاهب وصادف اجْتِهَاده مَحَله إِلَى آخِره لَا يلْزم مِنْهُ تَقْلِيد أبي حنيفَة وَحده وَلَا يلْزم مِنْهُ أَنه لَا يجوز الإجتهاد فِي مَسْأَلَة لَا يعرف عَن السّلف فِيهَا قَول وَلَا أَن أحدا إِذا ظهر لَهُ رُجْحَان قَول أحد أَنه لَا يَأْخُذ بِهِ إِلَّا مَا وَافق قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله والمنازع فِي هَذَا هُوَ المكابر وَمَا نسبه إِلَى أبي بكر الرَّازِيّ من أَن اجْتِهَاد من بعد أبي حنيفَة رَحمَه الله غير مُعْتَد بِهِ قَول سَاقِط لِأَنَّهُ مُجَرّد دَعْوَى قد ادّعى نظيرها غَيره من المتعصبين وَاخْتلفُوا مَتى انسد بَاب الِاجْتِهَاد على أَقْوَال مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان فَمنهمْ من قَالَ بعد الْمِائَتَيْنِ من الْهِجْرَة وَمِنْهُم من قَالَ بعد الشَّافِعِي رَحمَه الله وَمِنْهُم من قَالَ بعد الْأَوْزَاعِيّ وسُفْيَان وَعند هَؤُلَاءِ أَن الأَرْض قد خلت من قَائِم لله بِحجَّة وَلم يبْق فِيهَا من يتَكَلَّم بِعلم أَو ينظر فِي كتاب الله أَو سنة رَسُوله لأخذ الْأَحْكَام مِنْهُمَا وَلَا يحكم وَلَا يُفْتِي بِمَا فيهمَا حَتَّى يعرضه على قَول مقلده ومتبوعه فَإِن وَافقه حكم بِهِ وَأفْتى بِهِ وَإِلَّا رده وَلم يقبله وَهَذِه أَقْوَال كَمَا ترى فِي غَايَة الْفساد وَالْقَوْل على الله بِغَيْر علم وَأَيْضًا فَإِن الْحَوَادِث متعاقبة الْوُقُوع فَإِذا وَقعت حَادِثَة غير منصوصة فَلَا بُد فِيهَا من الإجتهاد أَو حَادِثَة فِي الحكم فِيهَا خلاف بَين السّلف فَلَا بُد فِيهَا من الِاجْتِهَاد ليظْهر أَي الْأَقْوَال فِيهَا أقرب إِلَى مُوَافقَة الدَّلِيل من الْكتاب وَالسّنة وَإِن كَانَت تِلْكَ الْمَسْأَلَة إجماعية فَلَا يسوغ فِيهَا الإجتهاد سَوَاء ذَلِك كُله زمَان أبي حنيفَة وَبعده وَمَا يَقُول غير هَذَا إِلَّا صَاحب هوى وعصبية نسْأَل الله السَّلامَة والعافية وَقَوله م: وتقليد الْأَفْضَل أفضل إِلَى آخِره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ش: على تَقْدِير صِحَّته يلْزم مِنْهُ أَن لَا يُقَلّد أَبَا حنيفَة فِيمَا خَالفه فِيهِ شُرَيْح وَسَعِيد بن الْمسيب وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وخارجة ابْن زيد فضلا عَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم والمقلد لَو تعَارض عِنْده قَول أبي حنيفَة وَقَول أحد من هَؤُلَاءِ بل لَو عَارض قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله حَدِيث صَحِيح لما أَخذ إِلَّا بقول أبي حنيفَة وَقَالَ أَبُو حنيفَة أخبر بِهَذَا وَلَوْلَا أَن هَذَا الحَدِيث مَنْسُوخ لما خَالفه أَبُو حنيفَة رَحمَه الله وَإِن كَانَ عِنْده معرفَة بِوُجُوه التَّأْوِيل أَخذ يؤول ذَلِك الحَدِيث ويحرفه مَا اسْتَطَاعَ وَإِن كَانَ الحَدِيث مُوَافقا لما قَالَه أَبُو حنيفَة قَالَ هَذَا لنا وَيكون أَخذه لذَلِك الحَدِيث على وَجه الاعتضاد بِهِ لَا على وَجه الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون مَعَ أَن الْأَفْضَل من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة لَا يُعلمهُ إِلَّا الله تَعَالَى هُوَ أعلم بِمن اتَّقى وَالْعلم برجحان قَول على قَول أيسر من الْعلم بِفضل أحد الْإِمَامَيْنِ على الآخر فَإِن الْأَحْكَام عَلَيْهَا أَدِلَّة من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع والإستنباط وَقد تكلم فِيهَا الصَّحَابَة والتابعون وتابعوهم وَالْأَئِمَّة وَالْفُقَهَاء إِلَى الْيَوْم وَأما تَفْضِيل شخص على شخص من الْعلمَاء فَلَيْسَ مَنْصُوصا عَلَيْهِ وَلَا مجمعا عَلَيْهِ وغالب الخائضين فِيهِ إِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ بهوى وتعصب وَهل قلد أحد من المقلدين إِمَامًا من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة لما بدا لَهُ انه أفضل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 البَاقِينَ وَلَا أَظُنهُ ذَلِك بل لِأَن وَالِده أَو وليه أَو صديقه شغله فِي كتاب من ذَلِك الْمَذْهَب أَو أَشَارَ عَلَيْهِ أَن يشْتَغل فِيهِ فقلده فِي ذَلِك وَقد يحملهُ على ذَلِك إِرَادَة ولَايَة أَو وَظِيفَة أَو نَحْو ذَلِك ثمَّ بعد ذَلِك يحملهُ الْهوى على التعصب لذَلِك الْمَذْهَب وَحده وَالْأَخْذ بِجَمِيعِ أَقْوَال ذَلِك الإِمَام وَإِن ظهر لَهُ الدَّلِيل فِي خِلَافه فِي بعض الْمسَائِل مَعَ علمه أَن الْمُجْتَهد يخطىء ويصيب وَقد قَالَ الله تَعَالَى {يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ وَلَا تتبع الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله} ص 26 وَلَا نقُول إِن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة وأمثالهم لَا يجوز تقليدهم لآحاد الْعَوام وَأَنه يجب على آحَاد الْعَوام أَن يكون مُجْتَهدا فِي كل مَسْأَلَة تنزل بِهِ فان هَذَا قَول ضَعِيف قَالَه بعض أهل الْكَلَام وَجُمْهُور الْأَئِمَّة وَالْأمة على خِلَافه وَهُوَ خطأ لِأَن أَكثر الْعَوام عاجزون عَن معرفَة الإستدلال على كل مَسْأَلَة وَهَؤُلَاء الْأَئِمَّة المشهورون كَانَ لَهُم من الِاجْتِهَاد فِي معرفَة الْأَحْكَام وَإِظْهَار الدّين للأنام مَا فَضلهمْ الله بِهِ على غَيرهم وَمن ظن أَنه يعرف الْأَحْكَام من الْكتاب وَالسّنة بِدُونِ معرفَة مَا قَالَه هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة وأمثالهم فَهُوَ غالط مخطىء وَلَكِن لَيْسَ الْحق وَقفا على وَاحِد مِنْهُم وَالْخَطَأ وَقفا بَين البَاقِينَ حَتَّى يتَعَيَّن اتِّبَاعه دون غَيره كَمَا هُوَ ظَاهر مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّيْخ فِي هَذِه الرسَالَة وَمِنْهَا قَوْله م: المبحث الثَّالِث فِي قُوَّة اجْتِهَاده لم يسْتَدلّ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله على حكم مَسْأَلَة بِغَيْر الْكتاب مَا دَامَ الِاسْتِدْلَال بِالْكتاب مُمكنا وَلَا يخفى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 التَّنَاقُض وَالِاخْتِلَاف قَالَ الله تَعَالَى {أَفلا يتدبرون الْقُرْآن وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} النِّسَاء 82 انْتهى ش: أنظر إِلَى ركاكة هَذِه الْعبارَة وخلطها وفسادها وَمرَاده أَنه يسْتَدلّ بِالْكتاب ثمَّ بِالسنةِ ثمَّ بِالْإِجْمَاع ثمَّ بِالْقِيَاسِ وَهَذَا الْوَصْف الَّذِي قَالَه فِي الإِمَام أبي حنيفَة صَحِيح لَا ريب فِيهِ عِنْد الْمنصف وَلَكِن لَا يلْزم مِنْهُ أَن غَيره من الْأَئِمَّة لَيْسَ مَوْصُوفا بِهَذَا الْوَصْف وَلم يصر أحد مِنْهُم إِمَامًا من أَئِمَّة الْمُسلمين لَهُ لِسَان صدق فِي الْأمة إِلَّا لاتصافه بِهَذَا الْوَصْف وَلَكِن مَا من وَاحِد مِنْهُم إِلَّا وَقد فَاتَهُ معرفَة بعض النُّصُوص أَو خَفِي عَنهُ وَجه الصَّوَاب فِي الاستنباط مِنْهَا أَو لم يحضرهُ النَّص حِين أفتى بِخِلَافِهِ إِذْ كل مِنْهُم بشر ينسى كَمَا ينسى الْبشر وَمن هَذَا يحصل الْخَطَأ فِي الإجتهاد وَيَقَع الْخلاف من الْعلمَاء رَضِي الله عَنْهُم من هَذَا أَن يُؤْخَذ بقَوْلهمْ فِيمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ وَمَا اخْتلفُوا فِيهِ ينظر فِيهِ فَمَا كَانَ أقرب إِلَى مُوَافقَة الدَّلِيل فَهُوَ الَّذِي يتَعَيَّن الْأَخْذ بِهِ وَمن لم يكن أَهلا للنَّظَر فِي دَلِيل الْقَوْلَيْنِ فليسكت وليكف النَّاس شَره وَإِن نظر فِي الْقَوْلَيْنِ وَلم يظْهر لَهُ رُجْحَان أَحدهمَا فَحِينَئِذٍ يجوز لَهُ الْأَخْذ بالقولين وَلَيْسَ قَول فلَان وَالْحَالة هَذِه بِأولى من قَول فلَان وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم قَوْله م: وَلم يسْتَدلّ بِالْحَدِيثِ إِلَّا مَا ثَبت عِنْده صِحَّته بمتنه وَمَعْنَاهُ وَكَانَ إِمَامًا حاويا بِمَا يتَعَلَّق بالأركان فِي الحَدِيث انْتهى ش: وَإِن كَانَ فِي لَفظه قُصُور فَفِي مَعْنَاهُ نظر فَإِنَّهُ لَا يلْزم ثُبُوت صِحَة الحَدِيث لصِحَّة الِاسْتِدْلَال بِهِ بل يَصح الِاسْتِدْلَال بِمَا يحْتَمل الصِّحَّة عِنْد عدم الْمعَارض فَكيف بِمَا ترجح صِحَّته وَإِن لم يثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 قَوْله وَقد روى عَن يحيى بن نصر رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ سَمِعت أَبَا حنيفَة رَحمَه الله قَالَ عِنْدِي صناديق من الحَدِيث مَا أخرجت إِلَّا الْيَسِير مِنْهَا أَرَادَ مَا سلم عَن النّسخ والمعارضة فروى عَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ احفظ عشْرين ألف حَدِيث مَنْسُوخ وَلَا بُد لَهَا من نَاسخ فَأَيْنَ انصاف من يتفقه أَن أَبَا حنيفَة وَأَصْحَابه لم يصلهم مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه هَل ذَلِك إِلَّا زيغ وتعصب بَاطِل نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك انْتهى ش: فَإِنَّهُ لَا يَصح نِسْبَة هَذَا الْكَلَام إِلَى الْإِمَامَيْنِ أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف رحمهمَا الله وَإِن مَا حَكَاهُ عَن أبي حنيفَة قد ذكره البُخَارِيّ فِي مُسْند أبي حنيفَة بِمَعْنَاهُ لَكِن رُوَاته ضِعَاف وَيحيى بن نصر صَاحب هَذَا ضَعِيف قَالَ أَبُو زرْعَة لَيْسَ بِشَيْء وَأَيْضًا فَإِن الْأَحَادِيث كلهَا ناسخها ومنسوخها لم تجمع فِي زمن أبي حنيفَة رَحمَه الله وَلَقَد رَحل أهل الحَدِيث فِي جمعهَا فِي زمن أبي حنيفَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وَبعده حَتَّى جمعوها ودونت وَهَذَا مُسْند الإِمَام أبي حنيفَة الَّذِي خرجه البُخَارِيّ مَوْجُود روينَاهُ مَعَ جملَة تيَسّر رِوَايَته من كتب الحَدِيث ومسند الإِمَام أَحْمد أكبر مِنْهُ بِلَا ريب بأضعاف كَثِيرَة وَكَذَلِكَ موطأ مَالك أكبر مِنْهُ ومسند الشَّافِعِي أَيْضا وَقد ألف غَيرهم من أهل الحَدِيث من السّنَن وَالْمَسَانِيد مؤلفات عديدة وَلم يلْتَزم أحد مِنْهُم رَحِمهم الله جمع الصَّحِيح بمفرده كَمَا الْتَزمهُ الشَّيْخَانِ البُخَارِيّ وَمُسلم رحمهمَا الله وَإِن كَانَ غَيرهمَا قد جمع الصَّحِيح وَلَكِن الصحيحان اللَّذَان جَمعهمَا البُخَارِيّ وَمُسلم أصح الْكتب المصنفة هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّة الْإِسْلَام وَلَفظ بَعضهم وَلَيْسَ بعد الْقُرْآن كتاب أصح من كتاب مُسلم وَالْبُخَارِيّ وجمهورهم على أَن البُخَارِيّ أصح من مُسلم وَاتَّفَقُوا على أَن البُخَارِيّ أجل من مُسلم وَأعلم بصناعة الحَدِيث مِنْهُ رجح مِنْهُ وَمن رجح مُسلما فَإِنَّمَا رَجحه بجمعه لألفاظ الحَدِيث فِي مَكَان وَاحِد فان ذَلِك أيسر على من يُرِيد جمع أَلْفَاظ الحَدِيث قَالُوا وَلم يَقع للْبُخَارِيّ غلط إِلَّا وَقد بَين فِيهِ الصَّوَاب فان من عَادَته انه إِذا وَقع من الروَاة غلط فِي لفظ ذكر أَلْفَاظ سَائِر الروَاة الَّتِي يعلم فِيهَا الصَّوَاب كَمَا وَقع لَهُ حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 يزَال يلقى فِي النَّار وَهِي تَقول هَل من مزِيد حَتَّى يضع رب الْعِزَّة فِيهَا قدمه فَتَقول قطّ قطّ وينزوي بَعْضهَا إِلَى بعض وَأما الْجنَّة فَيبقى فِيهَا فضل فينشيء الله لَهَا خلقا فيسكنهم فضول الْجنَّة هَكَذَا هُوَ فِي أَكثر الرِّوَايَات وَوَقع فِي بعض طرقه غلط قَالَ فِيهِ وَأما النَّار فَيبقى فِيهَا فضل فَالْبُخَارِي رَوَاهُ فِي سَائِر الْمَوَاضِع على الصَّوَاب ليبين غلط هَذَا الرَّاوِي بِخِلَاف مُسلم فَإِنَّهُ وَقع لَهُ فِي عدَّة أَحَادِيث غلط أنكرها عَلَيْهِ الْحفاظ وَالَّذِي أنكر على الشَّيْخَيْنِ أَحَادِيث قَليلَة جدا وَأَحَادِيث البُخَارِيّ وَمُسلم لم يقل أهل الحَدِيث أَنَّهَا صَحِيحَة بِمُجَرَّد رِوَايَة البُخَارِيّ وَمُسلم لَهَا بل لِأَنَّهُ قد رَوَاهَا غَيرهمَا من الْعلمَاء والمحدثين من لَا يُحْصى عَددهمْ إألا الله تَعَالَى وَلم ينْفَرد وَاحِد مِنْهُم بِحَدِيث بل مَا من حَدِيث رَوَاهُ إِلَّا وَقد رَوَاهُ قبل زَمَانه وَمن زَمَانه وَبعد طوائف وَلَو لم يخلق البُخَارِيّ وَمُسلم لم ينقص من الدّين شَيْء وَكَانَت تِلْكَ الْأَحَادِيث مَوْجُودَة بأسانيد يحصل بهَا الْمَقْصُود وَفَوق الْمَقْصُود وَإِنَّمَا قَوْلنَا رَوَاهُ البُخَارِيّ ة وَمُسلم كَقَوْلِنَا رَوَاهُ الْقُرَّاء السَّبْعَة وَالْقُرْآن مَنْقُول بالتواتر لم يخْتَص هَؤُلَاءِ السَّبْعَة بِنَقْل الشَّيْء مِنْهُ وَكَذَلِكَ التَّصْحِيح لم يُقَلّد أهل الحَدِيث فِيهِ البُخَارِيّ وَمُسلمًا بل جُمْهُور مَا صَحَّحَاهُ وَمَا كَانَ قبلهمَا عِنْد أَئِمَّة الحَدِيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 صَحِيحا متلقى بِالْقبُولِ وَكَذَلِكَ فِي عصرهما وَبعده وَقد نظر أَئِمَّة هَذَا الْفَنّ فِي كِتَابَيْهِمَا ووافقوهما على تَصْحِيح مَا صَحَّحَاهُ إِلَّا مَوَاضِع يسيرَة نَحْو عشْرين حَدِيثا غالبها فِي مُسلم إنتقدها عَلَيْهِمَا طَائِفَة من الْحفاظ وَقد انتصر طَائِفَة لَهما وَطَائِفَة قررت قَول المنتقد وَالصَّحِيح التَّفْصِيل فَإِن فِيهَا مَوَاضِع منتقدة بِلَا ريب فِي مُسلم مثل حَدِيث أم حَبِيبَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وَحَدِيث خلق التربة يَوْم السبت وَحَدِيث صَلَاة الْكُسُوف بِثَلَاث رَكْعَات وَأكْثر وفيهَا مَوَاضِع لَا انتقاد فِيهَا وَأكْثر مَا لَا انتقاد فِيهِ البُخَارِيّ فَإِنَّهُ أبعد الْكِتَابَيْنِ عَن الإنتقاد وَلَا يكَاد يروي لفظا فِيهِ انتقاد إِلَّا ويروي اللَّفْظ الآخر الَّذِي يبين أَنه منتقد وَفِي الْجُمْلَة من نقد سَبْعَة آلَاف دِرْهَم فَلم يبهرج عَلَيْهِ فِيهَا إِلَّا دَرَاهِم يسيرَة وَمَعَ هَذَا فَهِيَ مُعْتَبرَة لَيست بمغشوشة مَحْضَة فَهَذَا إِمَام فِي صَنعته وَفِي كِتَابه سَبْعَة آلَاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 حَدِيث وَكسر وَهَذَا الَّذِي قَالَه أهل الْعلم من أَنه لَيْسَ بعد الْقُرْآن كتاب أصح من كتابي البُخَارِيّ وَمُسلم إِنَّمَا كَانَ لِأَن هذَيْن الْكِتَابَيْنِ جرد فيهمَا الحَدِيث الصَّحِيح الْمسند وَلم يكن الْقَصْد بتصنيفهما ذكر آثَار الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَلَا تَمْيِيز الْحسن والمرسل وَشبه ذَلِك وَمَا جرد فِيهِ الصَّحِيح الْمسند عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ أصح الْكتب المصنفة لِأَنَّهُ أصح مَنْقُول عَن الْمَعْصُوم فَأَما المسانيد وَالسّنَن فَإِنَّهَا لم يلْتَزم فِيهَا تَمْيِيز الصَّحِيح من غَيره وَمن الْتزم تَجْرِيد الصَّحِيح غَيرهمَا حصل عِنْده تساهل وتسامح لم يسلم لأحد كِتَابه من الانتقاد وَأَيْنَ صناديق حَدِيث مَنْسُوخ أَو عشرُون ألف حَدِيث مَنْسُوخ وَقد جمع ابْن الْجَوْزِيّ الْمَنْسُوخ من الْأَحَادِيث فِي وَرَقَات وَقَالَ إِنَّه أفرد فِيهَا قد ر مَا صَحَّ نسخه أَو احْتمل وَأعْرض عَمَّا لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وَجه لنسخه وَلَا احْتِمَال وَقَالَ فَمن سمع بِخَبَر يدعى عَلَيْهِ النّسخ وَلَيْسَ فِيهَا فَيعلم وهاء تِلْكَ الدَّعْوَى ثمَّ قَالَ وَقد تدبرته فاذا هُوَ أحد وَعِشْرُونَ حَدِيثا وَذكرهَا وَالَّذِي صَحَّ نسخه مِنْهَا أقل من عشرَة أَحَادِيث وَهَذَا هُوَ الَّذِي يشْهد الْعقل لصدقة إِذا سلم من الْهوى وَقد ادّعى كثير من الْفُقَهَاء فِي كثير من السّنة أَنَّهَا مَنْسُوخَة وَذَلِكَ إِمَّا لعَجزه عَن الْجمع بَينهمَا وَبَين مَا يظنّ أَنه يعارضها وَإِمَّا لعدم علمه بِبُطْلَان ذَلِك الْمعَارض وَأما لتصحيح مذْهبه وَدفع مَا يرد عَلَيْهِ من جِهَة مُخَالفَة وَلَكِن يجد غَيره قد بَين الصَّوَاب فِي ذَلِك لِأَن هَذَا الدّين مَحْفُوظ وَلَا تَجْتَمِع هَذِه الْأمة على الضَّلَالَة وَكَيف ينْسب مثل هَذَا إِلَى الإِمَام أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف رحمهمَا الله وَهُوَ يُؤَدِّي إِلَى الطعْن فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي دينه لِأَن لَازمه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَأْمر بأَشْيَاء متعارضة ويشرع كل وَقت شَيْئا ثمَّ ينسخه حَتَّى بلغ ذَلِك مَا يحتوي عَلَيْهِ صناديق وَهل هَذَا إِلَّا قَول مجازف صَاحب هوى نسْأَل الله الْعَافِيَة وَلَو قَالَ إِن تِلْكَ الْأَحَادِيث الْكَثِيرَة لم يُخرجهَا لاحْتِمَال كَونهَا ضَعِيفَة أَو مَوْضُوعَة لَكَانَ أقرب إِلَى الصدْق من قَوْله إِنَّهَا مَنْسُوخَة أَو متعارضة فَإِن نقاد الحَدِيث إِنَّمَا امتازوا بتمييزهم الصَّحِيح من غَيره أما معرفَة النَّاسِخ والمنسوخ مهما أيسر وأصل اخْتِلَاط الصَّحِيح بِغَيْرِهِ من ظُهُور الْكَذَّابين والمتعصبين وَأَكْثَرهم من الرافضة بالعراق وهم أكذب الطوائف حَتَّى تعدى شرهم إِلَى أَهلهَا وَلِهَذَا كَانَ أهل الْمَدِينَة يتوقفون فِي أَحَادِيثهم وَكَانَ مَالك يَقُول أنزلوا أَحَادِيثهم منزلَة أَحَادِيث أهل الْكتاب لَا تكذبوهم وتصدقوهم وَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي يَا ابا عبد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 سمعنَا فِي بلدكم أَربع مائَة حَدِيث فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَنحن فِي يَوْم وَاحِد نسْمع هَذَا كُله فَقَالَ يَا عبد الرَّحْمَن وَمن أنزلنَا دَار الضَّرْب يضْربُونَ بِاللَّيْلِ وينفقون بِالنَّهَارِ هَذَا مَعَ أَنه كَانَ بِالْكُوفَةِ وَغَيرهَا من الثِّقَات الأكابر كثير وَلَكِن لِكَثْرَة الْكَذِب الَّذِي كَانَ أَكْثَره من الشِّيعَة صَار الْأَمر يشْتَبه على من لَا يُمَيّز بَين هَذَا وَهَذَا بِمَنْزِلَة الْغَرِيب إِذا دخل إِلَى بلد يصف أَهله كذابون خوانون فَإِنَّهُ يحترس مِنْهُم حَتَّى يعرف الصدوق الثِّقَة وبمنزلة الدَّرَاهِم الَّتِي كثر فِيهَا الْغِشّ فانه يحترس عَن الْمُعَامَلَة بهَا من لَا يكون نقادا وَمِنْهَا قَوْله م: وَالَّذِي يقْضِي مِنْهُ الْعجب حَال هَؤُلَاءِ فِي قلَّة أَنْصَافهمْ وفرط جَوْرهمْ واعتسافهم أَن البُخَارِيّ نَشأ ببخارى وَحصل مَا حصل من الحَدِيث بهَا وَأَهْلهَا حنفيون كلهم ثمَّ إِنَّهُم ينفون الحَدِيث عَنْهُم وَذَلِكَ دَلِيل وَاضح على أَن الْأَحَادِيث الَّتِي جمعهَا البُخَارِيّ كَانَت عِنْد الْحَنَفِيَّة مَوْجُودَة إِلَّا أَنهم كَانُوا عُلَمَاء راسخين يسمون البُخَارِيّ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْقصاص ذكره صَاحب الْمُحِيط علمُوا النَّاسِخ والمنسوخ فَلم يعملوا بِمَا ثَبت عِنْدهم نسخه وَكَانَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله رجلا كثير الاعتناء بِالْأَخْذِ بِالْحَدِيثِ حَتَّى جوز نسخ الْكتاب بِالْحَدِيثِ لقُوَّة منزلَة الحَدِيث وَعمل بالمراسيل وقدمها على الرَّأْي وَقدم رِوَايَة الْمَجْهُول على الْقيَاس وَقدم قَول الصَّحَابِيّ على الْقيَاس قَالَ نصر بن مُحَمَّد مَا رَأَيْت رجلا أَكثر أخذا للآثار من أبي حنيفَة وَأما الْإِجْمَاع فان أَبَا حنيفَة كَانَ أشده رِعَايَة لَهُ لم يَجْعَل الِاخْتِلَاف السَّابِق مَانِعا عَن الْإِجْمَاع اللَّاحِق وَاعْتبر الاجماع السكوتي أما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الْقيَاس فقد سلم لَهُ الْعلمَاء كلهم حَتَّى سموا اصحابه أَصْحَاب الرَّأْي قَالَ مَالك رَحمَه الله حِين سُئِلَ عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله رَأَيْته رجلا لَو ادّعى أَن هَذِه السارية صَارَت ذَهَبا لأقام بِحجَّة وَقد هدى إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم انْتهى ش: فَقَوله يسمون البُخَارِيّ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْقصاص ذكره صَاحب الْمُحِيط فَإِن هَذَا كَلَام من لم يبلغهُ سيرة البُخَارِيّ وَإِنَّمَا يبلغهُ قَول مبغضه عَنهُ وَلم يكن عِنْده مَا يسْتَدلّ بِهِ على صدق القَوْل من كذبه وَإِلَّا فَالْبُخَارِي رَحمَه الله رَحل إِلَى الْبِلَاد فِي طلب الحَدِيث وَالْعلم إِلَى جَمِيع محدثي الْأَمْصَار وَهَذِه أسانيده تشهد لَهُ بذلك حَتَّى جمع من السّنة مَا فاق بِهِ على نظرائه وَلما قدم بَغْدَاد فَسمع بِهِ أَصْحَاب الحَدِيث اجْتَمعُوا وعمدوا إِلَى مائَة حَدِيث فقلبوا متونها وأسانيدها وَجعلُوا متن هَذَا الْإِسْنَاد لإسناد آخر وَإسْنَاد هَذَا لمتن آخر ودفعوها إِلَى عشرَة أنفس لكل رجل عشرَة أَحَادِيث وَأمرُوهُمْ إِذا حَضَرُوا الْمجْلس أَن يلقوها على البُخَارِيّ فَحَضَرَ الْمجْلس جمَاعَة من أَصْحَاب الحَدِيث فَلَمَّا اطْمَأَن الْمجْلس بأَهْله انتدب إِلَيْهِ رجل من الْعشْرَة فَسَأَلَهُ عَن حَدِيث من تِلْكَ الْأَحَادِيث فَقَالَ لَا اعرفه حَتَّى فرغ من الْعشْرَة وَالْبُخَارِيّ يَقُول لَا أعرفهُ فَأَما الْعلمَاء فعرفوا بإنكاره أَنه عَارِف وَأما غَيرهم فَلم يدركوا ذَلِك مِنْهُ ثمَّ انتدب رجل آخر من الْعشْرَة فَكَانَ حَاله مَعَه كَذَلِك ثمَّ انتدب آخر إِلَى اتمام الْعشْرَة وَالْبُخَارِيّ لَا يزيدهم على قَوْله لَا أعرفهُ فَلَمَّا فرغوا الْتفت إِلَى الأول مِنْهُم فَقَالَ أما حَدِيثك الأول فَهُوَ كَذَا وَكَذَا وَالثَّانِي كَذَا على النسق إِلَى آخر الْعشْرَة فَرد كل متن إِلَى إِسْنَاده وكل إِسْنَاد إِلَى مَتنه ثمَّ فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 بالباقين مثل ذَلِك فَأقر لَهُ النَّاس بِالْحِفْظِ واذعنوا لَهُ بِالْفَضْلِ وَمن نظر فِي تبويب صَحِيحه ظهر لَهُ فَضله وَقدرته على استنباط الاحكام وَإِن كَانَ فِي بعض تبويبه نظر وَلَو لم يكن قد أحَاط من السّنة بِأَكْثَرَ مِمَّا أحَاط بِهِ نظراؤه مِنْهَا لما قدر على جمع هَذَا الْمِقْدَار الَّذِي فِي جَامعه من الصَّحِيح وَهل سمع فِي أهل بُخَارى بنظيره من الْحَنَفِيَّة أَو غَيرهم حَتَّى يُقَال إِن الَّذِي حصله من الحَدِيث مِنْهُم وَلَو سمع أَسمَاء مشايخه الَّذين روى عَنْهُم لم يقل هَذِه الْمقَالة وكونهم يسمونه مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْقصاص لَا يضرّهُ فَمَا هُوَ بِأول من تنقصه حساده (كضرائر الْحَسْنَاء قُلْنَ لوجهها ... حسدا وبغيا إِنَّه لذميم) وَإِذا سمعنَا من ذمّ الإِمَام أَبَا حنيفَة نردع من يذمه ونزجره ومدح البُخَارِيّ لَا نقابله بذم أبي حنيفَة بل نرد ذمّ الإِمَام أبي حنيفَة رَحمَه الله ونقر مدح البُخَارِيّ رَحمَه الله {رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلا للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رؤوف رَحِيم} الْحَشْر 10 وَمِنْهَا قَوْله م: وَأما الْمَقْصد فَفِي ذكر مسَائِل توجب تَقْلِيده الْمَسْأَلَة الأولى فِي الْإِيمَان ذهب أَبُو حنيفَة رَحمَه الله إِلَى أَن الْإِيمَان التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ فَمن صدق مُحَمَّدًا بِقَلْبِه فِيمَا جَاءَ بِهِ من عِنْد ربه وَأخر بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤمن والأعمال أَي الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالزَّكَاة وَالْحج غير دَاخل فِيهِ وَذهب الشَّافِعِي رَحمَه الله إِلَى أَنَّهَا دَاخِلَة فِيهِ وَيلْزم من ذَلِك أَن من ترك الصَّلَاة وَالصَّوْم أَو منع الزَّكَاة أَو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ترك الْحَج لَا يكون مُؤمنا لِأَن الْكل يَنْتَفِي بِانْتِفَاء جزئه بالِاتِّفَاقِ فَيكون فِي النَّار خَالِدا مخلدا وَلَا يخفى ضَرَره وبطلانه بالأحاديث الدَّالَّة على أَن من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله دخل الْجنَّة فلولا مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله لَكَانَ كل من ترك فعلا من الْأَعْمَال الْمَذْكُورَة آنِفا كَافِرًا تطلق امْرَأَته وبوطئها يكون زَانيا وَيبْطل حجه وجهاده انْتهى ش: فَإِن أَكثر الْأَئِمَّة على أَن الْإِيمَان قَول وَعمل مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَغَيرهم رَحِمهم الله تَعَالَى فَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة وَلَيْسَ للشَّافِعِيّ بهَا اخْتِصَاص وَالْمُصَنّف لم يذكر فِي مسَائِله السِّتَّة عشرَة الْمَذْكُورَة كلهَا إِلَّا الشَّافِعِي رَحمَه الله وَكَأن الَّذِي صنف لأَجله هَذِه الرسَالَة شَافِعِيّ الْمَذْهَب فَلذَلِك يخص الشَّافِعِي بِالذكر وَالله أعلم وَالَّذِي قَصده المُصَنّف هُنَا أَن النَّاس محتاجون إِلَى تَقْلِيد أبي حنيفَة رَحمَه الله فِي القَوْل بِأَن الْأَعْمَال غير دَاخِلَة فِي مُسَمّى الْإِيمَان وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِأَنَّهُ يلْزم من القَوْل بِدُخُول الْأَعْمَال فِي مُسَمّى الْإِيمَان أَنه يَنْتَفِي بِانْتِفَاء بعض الْأَعْمَال وَهنا تَفْصِيل لَا بُد من التَّنْبِيه عَلَيْهِ وَهُوَ أَنه ان ترك الصَّلَاة أَو الصَّوْم أَو الزَّكَاة أَو الْحَج إِلَّا أَن يكون قريب عهد بِالْإِسْلَامِ يجوز أَن يخفى عَلَيْهِ وُجُوبه جاحدا لَهُ فَهُوَ كَافِر بِالْإِجْمَاع إِن جحد ذَلِك وَإِن تَركه عمدا غير جَاحد فقد قيل إِنَّه يكفر وَقيل يكفر بِتِلْكَ الصَّلَاة دون غَيرهَا من أَرْكَان الدّين وَقيل إِنَّمَا يكفر إِذا تكَرر التّرْك مِنْهُ فيكفر بترك صَلَاتَيْنِ أَو ثَلَاث لَا بترك صَلَاة وَاحِدَة وَقيل يقتل بترك الصَّلَاة حدا لَا لكفره كل هَذِه أَقْوَال مَعْرُوفَة فِي مَذْهَب أَحْمد رَحمَه الله وَبَعضهَا فِي مَذْهَب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الشَّافِعِي وَمَالك وَغَيرهم رَضِي الله عَنْهُم وَلَا يَصح التَّرْجِيح لقَوْل أبي حنيفَة رَحمَه الله بِأَن النَّاس محتاجون إِلَى تَقْلِيده فِي القَوْل بِأَن الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالزَّكَاة وَالْحج غير دَاخل فِي الْإِيمَان إِلَّا أَن يُقَال إِن من ترك شَيْئا من ذَلِك عَامِدًا فَهُوَ كَافِر فَإِن هَذَا تَرْجِيح فَاسد فَلَا يكون التَّرْجِيح بِالدَّلِيلِ الصَّحِيح وَلَو قيل إِنَّه يلْزم من قَوْلكُم أَن يتْرك النَّاس الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالزَّكَاة وَالْحج وَيَقُولُونَ نَحن مُؤمنُونَ لَا يضر إيمَاننَا ترك هَذِه الْعِبَادَات لَكَانَ هَذَا أبلغ فِي التشنيع وَلَكِن مثل هَذَا لَا يرتضيه فَقِيه وللقائل بِأَن الْأَعْمَال دَاخِلَة فِي مُسَمّى الْإِيمَان أَن يَقُول لَا نسلم أَن الْإِيمَان يَزُول بِزَوَال عمل من الْأَعْمَال وَإِن كَانَت دَاخِلَة فِي مُسَمّى الْإِيمَان فَإِن الْإِيمَان أصل لَهُ شعب كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْإِيمَان بضع وَسِتُّونَ شُعْبَة أَعْلَاهَا شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَدْنَاهَا إمَاطَة الْأَذَى عَن الطَّرِيق) مُتَّفق عَلَيْهِ وَهَذِه الشّعب مِنْهَا مَا يَزُول الْإِيمَان بزواله كَشَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَمِنْهَا مَا لَا يَزُول الْإِيمَان بزواله كإماطة الْأَذَى عَن الطَّرِيق والشعب الَّتِي ينشأ بَينهمَا مِنْهَا مَا يقرب من شَهَادَة الوحدانية وَمِنْهَا مَا يقرب من إمَاطَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الْأَذَى وَالْقَوْل بِأَن الْكل يَنْتَفِي جزئه مغلطة فَإِن أَرَادَ بِهِ قَائِله بِانْتِفَاء الْمَجْمُوع فَهَذَا غلط فَإِن من قطعت يَده مثلا لم يخرج عَن كَونه إنْسَانا وَلَا انْتَفَى وجوده وَإِن كَانَت يَده جُزْء مِنْهُ وَإِن أَرَادَ بِهِ انْتِفَاء الْهَيْئَة الاجتماعية فَمُسلم وَهَذَا هُوَ الَّذِي يعنونه بقَوْلهمْ انْتَفَت صفة الْكَمَال وَيشْهد لهَذَا قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم} الْأَنْفَال 2 وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا إِيمَان لمن لَا أَمَانَة لَهُ) وأمثال ذَلِك فِي الْكتاب وَالسّنة كَثِيرَة والمنفي فِي مثل هَذَا صفة الْكَمَال فينفي صِحَة الْإِيمَان الْمُطلق لَا مُطلق الْإِيمَان وَإِن أَرَادَ بِهِ انْتِفَاء الِاسْم كَمَا يَنْتَفِي الْعشْرَة بِانْتِفَاء جزئها وَإِن كَانَ الْمَجْمُوع لم ينتف فَهُوَ غلط أَيْضا فَإِن الْإِيمَان من أَسمَاء الْأَجْنَاس وَاسم الْجِنْس لم ينتف بِانْتِفَاء بعض الْمُسَمّى بِخِلَاف الْعشْرَة فانها اسْم لعدد خَاص وَإِنَّمَا نظيرها انْتِفَاء الْإِيمَان بجحود بعض مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول فَإِن الْإِيمَان اسْم خَاص لَهُ فَظهر بِهَذَا أَن قَوْله وَالْكل يَنْتَفِي بِانْتِفَاء جزئه بالِاتِّفَاقِ غلط وَقَوله وَلَا يخفى ضَرَره وبطلانه بالأحاديث الدَّالَّة على أَن من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله دخل الْجنَّة ش: لَا حجَّة لَهُ فِي الْأَحَادِيث الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ لَا يلْزم من دُخُول الْجنَّة أَن لَا يدْخل النَّار وَلَا دُخُوله النَّار أَن يكون فِيهَا خَالِدا مخلدا وَحَدِيث الشَّفَاعَة الْمُتَّفق على صِحَّته يدل على ذَلِك وَيدل على زِيَادَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الْإِيمَان ونقصانه فان فِيهِ انه يخرج من النَّار من فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة من بر أَو شعير من إِيمَان تمّ من فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل من إِيمَان ثمَّ من فِي قلبه أدنى من مِثْقَال حَبَّة من إِيمَان وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن وهب بن مُنَبّه أَنه قيل لَهُ أَلَيْسَ لَا إِلَه إِلَّا الله مِفْتَاح الْجنَّة قَالَ بلَى وَلَكِن لَيْسَ مِفْتَاح إِلَّا لَهُ أَسْنَان فَإِن جِئْت بمفتاح لَهُ أَسْنَان فتح لَك وَإِلَّا لم يفتح لَك وَلَا يلْزم من نقص الْإِيمَان بِانْتِفَاء بعض الْأَعْمَال أَو بضعفه فِي نَفسه زَوَاله كَمَا تقدم وَلِهَذَا وَالله أعلم قَالَ الطَّحَاوِيّ وَأَهله فِي أَصله سَوَاء وَيكون نَظِيره الْعقل وَالْبَصَر وَنَحْوهمَا فَإِن كلا مِنْهُمَا أَهله فِي أَصله سَوَاء وَإِن كَانَ الْعُقَلَاء والبصراء متفاوتين وَمن لم يرجح الحكم بِالدَّلِيلِ لَا يَنْبَغِي لَهُ الِانْتِصَار لتاركي الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالْحج ويرجح مَذْهَب من قَالَ بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُم بِمُجَرَّد التشنيع والتهويل فَإِن ذَلِك يَنْتَهِي إِلَى قَول المرجئة الَّذين قَالُوا لَا يضر مَعَ الْإِيمَان مَعْصِيّة وَمِنْهَا قَوْله م: لَوْلَا مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله لَكَانَ كل من ترك فعلا من الْأَعْمَال الْمَذْكُورَة آنِفا كَافِرًا إِلَى آخِره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ش: وَقد تكَرر مِنْهُ نَظِير ذَلِك لَوْلَا مَذْهَب أبي حنيفَة لَكَانَ كَذَا وَلَوْلَا مذْهبه لَكَانَ كَذَا وَهُوَ كَلَام سَاقِط لِأَن اعْتِقَاد المعتقد كفر مُسلم أَو بطلَان حق أَو تَحْرِيم حَلَال أَو عكس ذَلِك لَا يُغير الشَّيْء عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ أَلا ترى أَن الْكفَّار لما اعتقدوا فِي الْمَلَائِكَة أَنهم إناث لم يُغير ذَلِك الْمَلَائِكَة عَمَّا هم عَلَيْهِ وَلم يصيروا إِنَاثًا لاعتقاد الْكفَّار الْبَاطِل فيهم وَلَا يُقَال لَوْلَا الْمُسلمُونَ لكَانَتْ الْمَلَائِكَة إِنَاثًا وَلَو لم يخلق أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ لما ضرّ دين الْإِسْلَام وَلَيْسَ إِلَى الْعلمَاء من أَمر الدّين إِلَّا التَّبْلِيغ وإيضاح الْمُشكل وَأما أَمر التَّكْفِير والتفسيق والتحليل وَالتَّحْرِيم فَإلَى الله وَرَسُوله وَمِنْهَا قَوْله م: الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي الطهارات قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله وَيجوز الِاغْتِسَال وَالْوُضُوء بِمَاء سخن بالروث والأخثاء وَنَحْوهمَا وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يجوز فلولا مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله لم يطهر أحد مِمَّن دخل فَمَا مَاتَ هَذِه الْبِلَاد أبدا وَإِذا لم يتَطَهَّر لم تصح صلَاته فَلَا يجوز لَهُ مس الْمُصحف بِيَدِهِ وَلَا يجوز لَهُ دُخُول الْمَسْجِد وَلَا يجوز لَهُ قِرَاءَة الْقُرْآن وَإِذا زَالَ صلَاته زَالَ إيمَانه وَلَزِمَه مَا ذكرنَا فِي الْمَسْأَلَة الأولى انْتهى ش: فان مَا نَقله عَن الشَّافِعِي رَحمَه الله غير مُحَرر بل هُوَ غلط لِأَن المَاء المسخن بِالنَّجَاسَةِ إِذا كَانَ بَين المَاء وَبَين دُخان النَّجَاسَة حَائِل حُصَيْن لَا يَتَنَجَّس بالإتفاق وَلَكِن يكره اسْتِعْمَاله فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد وَكَذَلِكَ إِن كَانَ الْحَائِل غير حُصَيْن وَلم بتحقق وُصُول شَيْء إِلَى المَاء وَهَذَا مَبْنِيّ على أَن دُخان النَّجَاسَة نجس عِنْده وَهُوَ أحد الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَب مَالك وَهُوَ الْمَشْهُور عِنْد أَصْحَاب أَحْمد رَحمَه الله وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى أَنه طَاهِر كَمَا هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَمَالك فِي إِحْدَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ مَذْهَب أهل الظَّاهِر وَغَيرهم وَهُوَ وَجه فِي مَذْهَب الشَّافِعِي أَيْضا فَلَيْسَتْ هِيَ من مُفْرَدَات أبي حنيفَة كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَام المُصَنّف مَعَ عدم تحريره للنَّقْل فِي الْمَسْأَلَة فَلَو عكس التشنيع بِمَا فِي مَذْهَب أبي حنيفَة من التَّشْدِيد فِي المَاء الدَّائِم وَالْقَوْل بِنَجَاسَتِهِ بِالِاسْتِعْمَالِ وبقليل النَّجَاسَة وَإِن لم ير لَهَا فِيهِ أثر مَا لم يكن عشرَة أَذْرع بذلك بِغَيْر نقل شَرْعِي وَلَا هُوَ قَول أبي حنيفَة أَيْضا إِنَّمَا هُوَ اخْتِيَار أَصْحَابه وَفِي هَذَا من الْحَرج مَا لَا يخفى خُصُوصا بالبلاد الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا المُصَنّف وأمثالها لَكَانَ أظهر لَكِن لَا يستحسن مثل هَذَا وَلَو كَانَت من مُفْرَدَات أبي حنيفَة ودليلها قوي وَالنَّاس محتاجون إِلَيْهَا فَمَا من إِمَام إِلَّا وَله مُفْرَدَات مِنْهَا مَا دَلِيله قوي وَالنَّاس محتاجون إِلَيْهِ وَمِنْهَا مَا هُوَ بِخِلَاف ذَلِك وَكَذَلِكَ لما استحكم الِافْتِرَاق فِي هَذِه الْأمة نصبوا من كل طَائِفَة قَاضِيا لِئَلَّا يضيع كثير من حُقُوق النَّاس ومصالحهم باقامة عَالم زاهد مقَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهجر أَقْوَال غَيره من الْعلمَاء وازداد بذلك استحكام التَّفَرُّق وَكَانَ الْوَاجِب النَّهْي عَن التَّفَرُّق لَا تقرره فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون وَقَوله إِذا زَالَ صلَاته زَالَ إيمَانه وَلُزُوم مَا ذَكرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَة الأولى مَمْنُوع لما تقدم إِن الزائل صفة الْكَمَال وَإِن القَوْل بِأَن الْكل يَنْتَفِي بِانْتِفَاء جزئه غلط وتشنيع غير صَحِيح وَمِنْهَا قَوْله م: الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة فِي الصَّلَاة قَالَ ابو حنيفَة رَحمَه الله من نوى بِقَلْبِه صَلَاة يُصليهَا جَازَت إِن لم يذكرهَا بِاللِّسَانِ وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله لَا يجوز مَا لم يكن الذّكر اللساني مُقَارنًا للقلبي وَأكْثر النَّاس عاجزون عَن ذَلِك باعترافهم وَالَّذِي يدعى الْمُقَارنَة يَدعِي مَا يردهُ صَرِيح الْعقل وَذَلِكَ أَن اللِّسَان ترجمان مَا يحضر بِالْقَلْبِ والمترجم عَنهُ سَابق قطعا على أَن الْحُرُوف الملفوظ بهَا فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 النِّيَّة منطبقة إِلَى آخر الزَّمَان وَهِي منقضية منصرمة لَا تتَصَوَّر الْمُقَارنَة بَين أَنْفسهَا فَكيف تتَصَوَّر مقارنتها لما يكون قبلهَا وَإِذا لم تجزىء الصَّلَاة انْتَفَى جُزْء الايمان وَالْكل ينتفى بِانْتِفَاء الْجُزْء كَمَا مر انْتهى ش: فانه لم يقل أحد من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة لَا الشَّافِعِي وَلَا غَيره بِاشْتِرَاط التَّلَفُّظ بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا النِّيَّة محلهَا الْقلب باتفاقهم إِلَّا أَن بعض الْمُتَأَخر ين أوجب التَّلَفُّظ بهَا وَخرج وَجها فِي مَذْهَب الشَّافِعِي قَالَ النَّوَوِيّ رَحمَه الله وَهُوَ غلط انْتهى وَهُوَ مَسْبُوق بِالْإِجْمَاع قبله وَلَكِن تنَازع الْعلمَاء هَل يسْتَحبّ التَّلَفُّظ بهَا أَو يُبَاح أَو يكره وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي مُقَارنَة النِّيَّة التَّكْبِير فللعلماء فِيهِ قَولَانِ مشهوران أَحدهمَا لَا يجب وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَأحمد وَغَيرهمَا وَالثَّانِي يجب وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَغَيره والمقارنة الْمَشْرُوطَة قد تفسر بِوُقُوع التَّكْبِير عقيب النِّيَّة وَهَذَا مُمكن لَا صعوبة فِيهِ بل عَامَّة النَّاس إِنَّمَا يصلونَ هَكَذَا بل هَذَا أَمر ضَرُورِيّ لَو كلفوا تَركه لعجزوا عَنهُ وتفسر بانبساط أَجزَاء النِّيَّة على أَجزَاء التَّكْبِير بِحَيْثُ يكون أَولهَا مَعَ أَوله وَآخِرهَا مَعَ آخِره وَهَذَا لَا يَصح لِأَنَّهُ يَقْتَضِي خلو أول الصَّلَاة عَن النِّيَّة وَقد تفسر بِحُضُور جَمِيع النِّيَّة مَعَ جَمِيع أَجزَاء التَّكْبِير وَقد تنوزع فِي إِمْكَانه فضلا عَن وُجُوبه وَلَو قيل بإمكانه أَن المكبر يَنْبَغِي أَن يتدبر التَّكْبِير ويتصوره فَيكون قلبه مَشْغُولًا بِمَعْنى التَّكْبِير لَا بِمَا يشْغلهُ عَن ذَلِك من استحضار الْمَنوِي وَلِأَن النِّيَّة من الشُّرُوط يتَقَدَّم الْعِبَادَة وَيسْتَمر حكمهَا إِلَى آخرهَا فَهَذَا الَّذِي يَنْبَغِي أَن يحمل عَلَيْهِ كَلَام الامام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ من اشْتِرَاط الْمُقَارنَة وَهُوَ أَن لَا يكون بَينهَا وَبَين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 التَّكْبِير فصل لَا انها تنبسط مَعَ التَّكْبِير مَا شنع بِهِ على الشَّافِعِي رَحمَه الله وانتفى مَا نسبه إِلَيْهِ من الْحَرج قَوْله وَالْكل يَنْتَفِي بانتفائه جزئه كَمَا مر وَقد تقدم التَّنْبِيه على أَنه غلط وَمِنْهَا قَوْله م: الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة فِي الصَّلَوَات أَيْضا قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله قِرَاءَة الْفَاتِحَة ركن وَكَذَلِكَ كل شدَّة من الشدات الْأَرْبَعَة عشر فَإِن ترك وَاحِدَة مِنْهَا بطلت الصَّلَاة خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله فلولا مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله كَانَت أَكثر صَلَاة الْعَالمين بَاطِلَة وَإِذا بطلت الصَّلَاة على الدَّوَام إنتفى جُزْء الْإِيمَان وَالْكل يَنْتَفِي بِانْتِفَاء جزءه كَمَا تقدم انْتهى ش: فَإِن الشَّافِعِي رَحمَه الله لم يقل بِبُطْلَان صَلَاة من أخل بتشديده من الْفَاتِحَة مُطلقًا بل يشْتَرط صِحَة لِسَانه وَهَذَا لَا حرج فِيهِ وَلَا تكون صَلَاة أَكثر الْعَالمين بَاطِلَة عِنْده وَأَيْضًا فَإِن الدَّلِيل مَعَ من شَرط الْفَاتِحَة وَهُوَ مَذْهَب أَكثر أهل الْعلم وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة غَيرهم وَلَيْسَ للشَّافِعِيّ رَحمَه الله بهَا اخْتِصَاص إِنَّمَا شَرط الاتيان بالشدات لتكميل الْفَاتِحَة وَالْقَائِل بالاكتفاء بِآيَة يَقُول لَا بُد أَن يَأْتِي بهَا كلهَا كَمَا نزلت وَلَا يَقُول إِنَّه يَكْتَفِي بِآيَة وَلَو كَانَت قَصِيرَة مَعَ تَخْفيف مَا فِيهَا من التشديدات وَهُوَ يقدر على الْإِتْيَان بِهِ فَلَو قَرَأَ الْمُصَلِّي آيَة قَصِيرَة وَترك بعض حروفها من غير ضَرُورَة لم يجز صلَاته عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله وَتَخْفِيف المشدد يلْزم مِنْهُ إِسْقَاط حرف أَو أَكثر واختلال الْمَعْنى فَمن قَرَأَ إهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم من غير تَشْدِيد فقد أخل بِثَلَاثَة أحرف الْألف الْأَخِيرَة من إهدنا وَالْألف وَلَام التَّعْرِيف وَمثله وَلَا الضَّالّين فَتَأَمّله وَقد بنى المُصَنّف كَلَامه فِي هَذِه الْمسَائِل الثَّلَاث الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة وَالرَّابِعَة على نقل غير مُحَرر وألزم الشَّافِعِي رَحمَه الله مَا لَا يلْزمه وَقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 تكَرر مِنْهُ القَوْل بِأَن الْكل يَنْتَفِي بِانْتِفَاء جزئه وَهُوَ غلط كَمَا مر وَمِنْهَا قَوْله م: الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة فِي الصَّوْم قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله إِذا كَانَت نِيَّة الصَّوْم مُقَارنَة لأكْثر النَّهَار جَازَ وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله لَا يجوز مَا لم تكن النِّيَّة من اللَّيْل والحرج فِيهِ مَكْشُوف لَا يقنع فان من أَقَامَ من سَفَره بعد الصُّبْح أَو أَفَاق من الْإِغْمَاء وَنوى الصَّوْم لَا يجوز وَفِي يَوْم الشَّك الْحَرج أَعم وألزم لِأَن النِّيَّة من اللَّيْل عَن الْفَرْض حرَام وَنِيَّة النَّفْل عِنْده لَغْو يعم الْحَرج بِالنِّسْبَةِ إِلَى كل النَّاس وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من} الْحَج 78 انْتهى ش: فانه لَا يَصح الِاسْتِدْلَال بِكَوْنِهِ أيسر على وجوب تَقْلِيد قَائِله فِيهِ بل الْعبْرَة للدليل وَهَذَا لَا يشك فِيهِ فَقِيه وَلَو عكس عَلَيْهِ هَذَا التشنيع بِأَن من علم أَن غَدا من رَمَضَان فَلم ينْو الصَّوْم حَتَّى ارْتَفع النَّهَار أَو نوى صَوْم تطوع أَو صوما آخر فَإِنَّهُ يكون تَارِكًا لما وَجب عَلَيْهِ من أَن يقْصد امْتِثَال الْأَمر أَو الصَّوْم الْمَفْرُوض أَو نَحْو ذَلِك وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ) الحَدِيث فَالْقَوْل بِأَن هَذَا مؤد للْفَرض يُؤجر على صَوْمه هَذَا أجر الْمُؤَدِّي للْفَرض مَعَ كَونه عَاصِيا غير ممتثل لِلْأَمْرِ فِيهِ إِشْكَال بل قَالَ بعض الْأَصْحَاب إِنَّه يخْشَى عَلَيْهِ الْكفْر إِذْ نوى صَوْم غير الْفَرْض فِي غير الْيَوْم الأول من رَمَضَان فان قيل إِن هَذَا يسْقط الْفَرْض من ذمَّته وَيَأْثَم بِتَرْكِهِ نِيَّة الْفَرْض كالمرائي بصومه وَالْجَوَاب إِن الْمرَائِي بصومه إِن أَرَادَ إِسْقَاط الْفَرْض من ذمَّته والرياء فَعَلَيهِ إِثْم الرِّيَاء وَسقط الْفَرْض من ذمَّته لنيته حَتَّى لَو لم يرد إمتثال أَمر ربه بصومه أصلا فالفرض بَاقٍ فِي ذمَّته فَكَانَ هَذَا لَكَانَ أبلغ فِي التشنيع وَلَكِن لَيست هَذِه طَريقَة أهل الْعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وَفِي نِيَّة الصَّوْم يَوْم الشَّك يَنْبَغِي أَن لَا يفرق بَين اقترانها بِأَكْثَرَ النَّهَار أَو بأقله لِأَن الشَّهْر قد لَا يثبت إِلَّا بعد نصف النَّهَار فَإِذا نوى الصَّوْم حِينَئِذٍ فقد أَتَى بِمَا وَسعه وَفِي عدم إِجْزَاء النِّيَّة بِالنَّهَارِ وَالْحَالة هَذِه حرج لَا مُطلقًا وَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة ترجح الإكتفاء بِالنِّيَّةِ من النَّهَار لَا مُطلقًا وَبِذَلِك تتفق الْأَدِلَّة وَالله أعلم وَمِنْهَا قَوْله م: الْمَسْأَلَة السَّادِسَة فِي الزَّكَاة قَالَ ابو حنيفَة رَحمَه الله إِذا دفع الزَّكَاة إِلَى وَاحِد من الْأَصْنَاف الْمَذْكُورَة فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين والعاملين عَلَيْهَا والمؤلفة قُلُوبهم وَفِي الرّقاب والغارمين وَفِي سَبِيل الله وَابْن السَّبِيل} التَّوْبَة 60 جَازَ وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله لَا يجوز إِلَّا إِذا دفع إِلَى ثَلَاثَة أنفس من كل وَاحِد من الْأَصْنَاف الْمَذْكُورَة وَقد لَا يُوجد ذَلِك فِي بلد الْمُزَكي فيدركه الْمَوْت والذمة مَشْغُولَة بِالْوَاجِبِ وَقد لَا يوفق للْأَدَاء بعده فَيَنْتَفِي جُزْء الْإِيمَان وَالْكل يَنْتَفِي بِانْتِفَاء جزئه فَإِن نوزع فِي ذَلِك لم يُنَازع فِي لُزُوم الْحَرج الْبَين الْمَدْفُوع بِالنَّصِّ كَمَا تقدم وَالله أعلم وَقَوله الْمَسْأَلَة السَّابِعَة فِي الْحَج قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله الطَّهَارَة شَرط لصِحَّة الطّواف وَمَسّ الْمَرْأَة ينقضها خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله فيهمَا وَعُمُوم الْبلوى فِي الطّواف بِمَسّ النِّسَاء ظَاهِرَة يشكوه كل من حج قَالَ شَيْخي الْعَلامَة شمس الدّين الْأَصْفَهَانِي رَحمَه الله تَوَضَّأت فِي الطّواف زهاء عشر مَرَّات لأَطُوف على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 مَذْهَب الشَّافِعِي رَحمَه الله سَبْعَة أَشْوَاط فَلم أقدر على ذَلِك فقلدت أَبَا حنيفَة رَحمَه الله فلولا مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله لَكَانَ كل من حضر من الشرق والغرب والجنوب وَالشمَال بِلَا حج وَفِي ذَلِك من الْحَرج فِي هَذِه الْملَّة الحنيفية السهلة السمحة الْبَيْضَاء لَا يجوزه أحد أصلا وَإِذا انْتَفَى الْحَج انْتَفَى جُزْء الْإِيمَان وَالْكل يَنْتَفِي بِانْتِفَاء جزئه انْتهى ش: فَإِن قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله فِي جَوَاز دفع الزَّكَاة إِلَى وَاحِد وَعدم انْتِقَاض الطَّهَارَة بلمس النِّسَاء أقوى دَلِيلا وَلَو رجح بِقُوَّة الدَّلِيل لَكَانَ أولى وَقَوله فِي الْمَسْأَلَة السَّادِسَة وَقد لَا يُوجد ذَلِك فِي الْبَلَد يَعْنِي ثَلَاثَة نفر من كل صنف فيدركه الْمَوْت والذمة مَشْغُولَة فَالْجَوَاب إِن الْإِلْزَام سَاقِط فان الشَّافِعِي رَحمَه الله لم يقل بِوُجُوب الصّرْف إِلَى ثَلَاثَة نفر من كل صنف مُطلقًا بل إِلَى من يُوجد مِنْهُم فَانْتفى التشنيع وَلَو اسْتدلَّ على قُوَّة قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيّ لَكَانَ أولى من الِاسْتِدْلَال بِأَنَّهُ أيسر على النَّاس بل هُوَ الْوَاجِب فَإِن التَّرْجِيح بِكَوْنِهِ أيسر لَا يرتضى وَلَكِن الِاسْتِدْلَال بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيّ لَا يُنَاسب غَرَضه بِهَذِهِ الرسَالَة وَكَذَلِكَ رجح فِي الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة والتاسعة فِي الْمَأْكُول والملبوس وَهُوَ تَرْجِيح ضَعِيف بل سَاقِط وَمِنْهَا قَوْله م: الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة فِي الْمَأْكُول قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله يجوز أكل خبز فِي فرن أوقد فِيهِ الروث وَنَحْوه وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله لَا يجوز وَلَوْلَا مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله لما حل أكل خبز الديار المصرية إِلَّا فَبِي حَال المخمصة ش: يَعْنِي لكَونه يصل إِلَيْهِ دُخان النَّجَاسَة الَّتِي يُوقد بهَا الْخبز فانه قد تقدم أَن القَوْل بِأَن كَون دُخان النَّجَاسَة طَاهِرا غير مُخْتَصّ بِمذهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 أبي حنيفَة رَحمَه الله بل هُوَ أحد قولي مَالك وَأحمد وَهُوَ قَول أهل الظَّاهِر وَغَيرهم وَهُوَ وَجه فِي مَذْهَب الشَّافِعِي رَحمَه الله فَانْتفى قَوْله وَلَوْلَا مَذْهَب ابي حنيفَة رَحمَه الله لما حل أكل خبز الديار المصرية إِلَّا فِي حَالَة المخمصة على مَا فِي كَلَامه من سوء التَّعْبِير وَأَيْضًا فَإِن الدُّخان لَا يصل إِلَى الْخبز وَإِنَّمَا يحمى التَّنور ثمَّ يوضع فِيهِ الْخبز بعد بطلَان الدُّخان ودخان الفرن يصعد من جِهَة غير جِهَة الْخبز هَذَا الَّذِي جرت بِهِ الْعَادة فوصول الدُّخان إِلَى الْخبز نَادِر وَلَو وصل إِلَيْهِ لتغير طعمه أَو لَونه أَو رِيحه فَانْتفى التشنيع وَمِنْهَا قَوْله م: الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة فِي الملبوس قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله يجوز لبس سَائِر الْجُلُود سوى الْخِنْزِير كالسمور والفنك والسنجاب وَنَحْوهَا وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله لَا يجوز فعلى هَذَا الِاخْتِلَاف لَا تجوز الصَّلَاة فِيهَا وَإِذ لم تجز الصَّلَاة فِيهَا انْتَفَى جُزْء من الْإِيمَان وَالْكل يَنْتَفِي بِانْتِفَاء جزئه كَمَا مر غير مرّة انْتهى ش: فَإِن مَا نَقله عَن الشَّافِعِي رَحمَه الله غير مُحَرر فَإِن جُلُود الميتات كلهَا تطهر بالدباغ على القَوْل بِنَجَاسَتِهِ بعد الْمَوْت فَالصَّحِيح من مذْهبه أَنه لَا ينجس بِالْمَوْتِ وَإِنَّمَا خَالف فِي طَهَارَة جلد الْميتَة بالدباغ أَحْمد من الْمَشْهُور عَنهُ وَهُوَ رِوَايَة عَن مَالك أَيْضا وَلَكِن مَذْهَب الشَّافِعِي رَحمَه الله أَن صوف الْميتَة ووبرها وشعرها نجس فَعدم لبس السنجاب وَنَحْوه عِنْده النَّجَاسَة صوفه ووبره وشعره لَا لنجاسة جلده فجلد المدبوغ طَاهِر عِنْد الشَّافِعِي رَحمَه الله دون صوفه وَنَحْوه وَأحمد عكس ذَلِك فِي الْمَشْهُور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 فاستثنى صوف مَا لَا يُؤْكَل لَحْمه وشعره وَنَحْوه وَكَذَلِكَ مَالك ايضا وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله بِطَهَارَة ذَلِك كُله سوى الْخِنْزِير والآدمي على خلاف فِيهِ وَكَانَ يَنْبَغِي تَرْجِيح مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بِالدَّلِيلِ فَإِنَّهُ رَاجِح لَا بِكَوْنِهِ أيسر وَلَا بالتشنيع على مُخَالفَة بِمَا لَا يَصح وَمِنْهَا قَوْله م: فِي الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة أَيْضا وَكَذَلِكَ الرّكُوب على سرج مَذْهَب أَو مفضض وَالْجُلُوس على مقْعد حَرِير وَهُوَ منَاف لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام (أتيتكم بالحنفية السهلة السمحة الْبَيْضَاء) انْتهى ش: فَإِن الدَّلِيل مَعَ من منع من ذَلِك إِلَّا باليسير من الْفضة فِي غير مَوضِع الرّكُوب من السرج وَقد ورد النَّهْي عَن الْجُلُوس على الْحَرِير نصا فِي صَحِيح البُخَارِيّ رَحمَه الله عَن حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ نَهَانَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نشرب فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة وان نَأْكُل فِيهَا وَعَن لبس الْحَرِير والديباج وَأَن نجلس عَلَيْهِ وَفِي صَحِيح مُسلم عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ نهاني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْجُلُوس على المياثر والمياثر شَيْء كَانَت تَصنعهُ النِّسَاء لبعولتهم على الرحل كالقطائف من الأرجوان وَلَا يَصح مُعَارضَة دَلِيل التَّحْرِيم بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذكره وَلَا ينفى الْحَرج وَإِنَّمَا يَصح الِاسْتِدْلَال بذلك فِيمَا يعم بِهِ الْبلوى وَالرُّكُوب على السرج الْمَذْهَب والمفضض وَالْجُلُوس على المقعد الْحَرِير لَيْسَ كَذَلِك بل أَهله فِي النَّاس قَلِيلُونَ وَلَيْسَ لَهُم إِلَيْهِ ضَرُورَة فَإِنَّمَا يَفْعَلُونَهُ للتكبر وَالْفَخْر والرفاهية وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة استمالة وُجُوه أهل الدولة إِلَى التعصب مَعَه لنصرة الْمَذْهَب لِأَنَّهُ لم يسْتَدلّ فِي هَذِه الْمسَائِل السِّتَّة عشرَة من السّنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 بِغَيْر هَذَا الحَدِيث وَالْكَلَام فِي ثُبُوته فان مَعْنَاهُ صَحِيح وَلَكِن هَل ورد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ هَذَا اللَّفْظ أم ذكره لم أره مَعَ أَنِّي تتبعته من مظانه فَلم أَقف عَلَيْهِ وَإِنَّمَا ظَفرت بِمَا ذكره الْخَطِيب عَن سَالم ابْن عُيَيْنَة عَن أبي الزبير عَن جَابر مَرْفُوعا قَالَ (بعثت بالحنفية السمحة أَو السهلة وَمن خَالف سنتي فَلَيْسَ مني) وَمِنْهَا قَوْله م فِي الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله من حمل سِلَاحا غلافه بلغاري أَو علق فِي خياصته كيسا بلغاريا جَازَت صلَاته وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله لَا يجوز وَإِذا لم يجز انْتَفَى جُزْء الْإِيمَان على مَا تقدم انْتهى ش: فَإِن هَذَا النَّقْل الَّذِي نَقله عَن الشَّافِعِي غلط غالط فَإِنَّهُ ظن أَن الشَّافِعِي رَحمَه الله يَقُول إِن جلد الْميتَة لَا يطهر بالدباغ وَلَيْسَ كَذَلِك بل لم يسْتَثْن من جُلُود الْميتَة إِلَّا جلد الْخِنْزِير وَالْكَلب كَمَا تقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 النَّقْل عَنهُ وَلَيْسَ من البلغار من جُلُود الْكلاب وَلَا الْخَنَازِير فَهُوَ ظَاهر عِنْده وَإِنَّمَا يُخَالف فِي ذَلِك مَالك وَأحمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن كل مِنْهُمَا وَقَوله وَإِذا لم يجز انْتَفَى جُزْء الْإِيمَان على مَا تقدم كم قد كرر هَذَا التشنيع وَهُوَ سَاقِط كَمَا تقدم وَمِنْهَا قَوْله م: الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة عشر فِي النِّكَاح قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله ينْعَقد نِكَاح الْمُسلمين بِحُضُور شَاهِدين فاسقين وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله لَا ينْعَقد إِلَّا بِحُضُور شَاهِدين عَدْلَيْنِ أَو مستورين فِي رِوَايَة فلولا مَذْهَب أبي حنيفَة لم ينْعَقد نِكَاح الْمُسلمين بالشهود الجالسين فِي الدكاكين لأَنهم يشركُونَ شركَة الصَّنَائِع ويتناولون الْأُجْرَة بهَا وَذَلِكَ الْإِصْرَار على أكل الْحَرَام كَبِيرَة وتعاطي الْكَبِيرَة فسق ظَاهرا أَو بَاطِنا وحالهم فِي ذَلِك وَاضح لَا يحْتَاج إِلَى بَيِّنَة فضلا عَن الدَّلِيل لما مر من انْتِفَاء اقتران الذّكر اللساني بالقلبي وَذَلِكَ مفض إِلَى انْتِفَاء الصَّلَاة الَّتِي هِيَ جُزْء الْإِيمَان على مَا تقدم انْتهى ش: فانه إِن كَانَ مُرَاده أَن مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله ايسر من مَذْهَب الشَّافِعِي رَحمَه الله فَيكون تَقْلِيده وَاجِبا كَمَا قَالَ أَولا فمذهب مَالك رَحمَه الله أيسر من مَذْهَب أبي حنيفَة فلي هَذَا فَإِنَّهُ شَرط الإعلان لَا الْإِشْهَاد وَكَأَنَّهُ لم يبن الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة على الْيُسْر وَحده وَإِنَّمَا بناه على أَن الْعَدَالَة لَا تُوجد الْيَوْم مُطلقًا على مَذْهَب الشَّافِعِي رَحمَه الله لِأَنَّهُ يشْتَرط اقتران الذّكر اللساني بالقلبي فِي أول الصَّلَاة يَعْنِي ذكر النِّيَّة بِاللِّسَانِ وَالْقلب كَمَا تقدم من نَقله عَنهُ وَلَا أصل لَهُ وان ذَلِك محَال وانه يلْزم مِنْهُ أَنه لَا يَصح صلَاتهم بِنَفْي إِيمَانهم لانتفى جزئه كَمَا تقدم وكل مُرَتّب على مَا يخيله من مَذْهَب الشَّافِعِي رَحمَه الله وَلَيْسَ بِصَحِيح عَنهُ أَو أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الْعَدَالَة منتفية عَن الشُّهُود الجالسين فِي الدكاكين لما ذكره من شركَة الصَّنَائِع وَهَذَا القادح غير صَحِيح فان شركَة الصَّنَائِع جَائِزَة عِنْد أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد وَغَيرهم خلافًا للشَّافِعِيّ رَحمَه الله فَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يطعن فِي الشُّهُود بِهَذَا المطعن الَّذِي يَقُول هُوَ بِصِحَّتِهِ إِلَّا أَن يُرِيد بذلك الْإِلْزَام للشَّافِعِيّ رَحمَه الله وَلَا يَصح قَوْله على هَذَا التَّقْدِير أَيْضا لِأَن شركَة الصَّنَائِع مُخْتَلف فِي صِحَّتهَا فَلَا يكون مرتكبها فَاسِقًا إتفاقا ثمَّ إِنَّه طعن فيهم طَعنا مُبْهما وَنفى عَنْهُم الْعَدَالَة نفيا عَاما وَهَذَا مَحْذُور فَالْقَوْل بِأَنَّهُم كلهم فسقة قَول بِلَا علم فانه لَا يعرفهُمْ كلهم قطعا وَإِن كَانَ قد اطلع على فسق بَعضهم فَمثل هَذَا لَا يجْرِي فِيهِ الْقيَاس وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من شهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله آمن من النَّاس دينه وَعرضه وَمَاله) وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا قَالَ الرجل هلك النَّاس فَهُوَ أهلكهم) وَإِطْلَاق هَذَا الْكَلَام من التنكير والتنطع وَكِلَاهُمَا مَذْمُوم وَلَو قَالَ انهم يتساهلون فِي الشَّهَادَة أَو نَحْو هَذِه الْعبارَة لَكَانَ أسهل وَلَا شكّ فِي كَثْرَة الدخيل بَينهم وَلِهَذَا كَانَت الْعَادة فِي الشَّام أَن الشُّهُود المرتزقة بِالشَّهَادَةِ لَا يشْهدُونَ فِي اجتهاديات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 يدخلهَا التَّأْوِيل والتهم بالجعل تسهل الشَّهَادَة بِغَيْر تحرز بِخِلَاف الحسيات فان الزِّيَادَة فِيهَا صَرِيح لَا يقدم عَلَيْهِ إِلَّا من يقدم على صَرِيح الزُّور وَهَؤُلَاء أقل من غَيرهم وَقل أَن يسْتَقرّ وَاحِد من هَؤُلَاءِ بل يشْتَهر وَيعرف بَين النَّاس غَالِبا وَقَوله لَا يحْتَاج إِلَى بَيِّنَة فضلا عَن الدَّلِيل يفهم مِنْهُ أَنه يرى أَن الدَّلِيل أقوى من الْبَيِّنَة وَهُوَ غير صَحِيح بل النِّيَّة فَوق الدَّلِيل وَمِنْهَا قَوْله م: الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشر أَيْضا فِي النِّكَاح قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله الْحَامِل لَا تحيض وَأكْثر مُدَّة الْحمل سنتَانِ وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله تحيض وَأكْثر مُدَّة الْحمل أَربع سِنِين وَيلْزم من ذَلِك أَن ذَات الإقراء إِذا طلقت لَا تَنْقَضِي عدتهَا إِلَى أَربع سِنِين لجَوَاز أَن تكون حَامِلا فَلَا يكون الْحيض دَالا على بَرَاءَة الرَّحِم حَتَّى يَنْقَضِي أَربع سِنِين على أَنه مُخَالف لقَوْله تَعَالَى {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} الْبَقَرَة 228 إِلَى غير ذَلِك من الْفساد مَا لَا يخفى انْتهى ش: فان هَذَا غير مُخْتَصّ بالشافعي رَحمَه الله بل هُوَ مَذْهَب مَالك قبله وَرِوَايَة عَن أَحْمد رَحمَه الله وَقَول أبي حنيفَة رَحمَه الله انه دم فَسَاد حكمه حكم الْحَدث الدَّائِم غير مُخْتَصّ بِهِ ايضا بل هُوَ الْمَشْهُور من مَذْهَب أَحْمد رَحمَه الله وَهُوَ قَول الشَّافِعِي رَحمَه الله الْقَدِيم وَإِنَّمَا يلْزم الشَّافِعِي مَا ألزمهُ بِهِ أَن لَو قَالَ إِن الْحَامِل لَا يعلم كَونهَا حَامِلا إِلَّا بِالْوَضْعِ أما إِذا قَالَ إِن الْحَامِل يعلم كَونهَا حَامِلا فِي مُدَّة حملهَا وَإِذا علم أَنَّهَا حَامِل لَا يحْتَسب تِلْكَ الاقراء من الْعدة فَلَا إِشْكَال فقيده أَن مَا ترَاهُ الْحَامِل فِي مُدَّة حملهَا فِي وقته الْمُعْتَبر حيض يسْتَثْنى مِنْهُ شَيْئَانِ أَحدهمَا أَنه لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعدة وَالثَّانِي أَنه لَا يحرم الطَّلَاق فِيهِ فَهُوَ عِنْده حيض إِلَّا فِي هذَيْن الشَّيْئَيْنِ وَالْكَلَام فِي مسَائِل الْعلم يجب أَن يكون بِالتَّأَمُّلِ لَا بالتشنيع وَإِلَّا فالإشكال وَارِد على من قَالَ إِن مَا ترَاهُ الْحَامِل من الدَّم يكون حيضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وعَلى من قَالَ إِنَّه لَا يكون حيضا إِلَّا أَن يُقَال إِن الْعلم يعلم بغالب الظَّن وغالب الظَّن كالمتحقق بل يُسمى علما كَمَا قَالَ الله تَعَالَى (فَإِن علمتموهن مؤمنات) الممتحنة 10 وَالْحَامِل يعلم حَال كَونهَا حَامِلا فِي مُدَّة حملهَا وَكم قد ترَتّب على ذَلِك من حكم وَبَيَان الأشكال فَإِنَّهُ لَو فرض أَن امْرَأَة استمرت ترى الدَّم فِي مُدَّة حملهَا فِي وقته الْمُعْتَبر فَسَوَاء قُلْنَا أَنَّهَا تعلم أَنَّهَا لَو تزوجت بعد ثَلَاثَة قُرُوء من هَذَا الدَّم أَن العقد صَحِيح ثمَّ لَو وضعت لأَقل من سِتَّة أشهر من العقد فَبين أَنَّهَا كَانَت حَامِلا حَالَة العقد مَعَ وجود ذَلِك الدَّم الَّذِي صورته صُورَة الْحيض فَإِن قيل إِن مثل هَذَا لَا يَقع كَانَ هَذَا إنكارا لتصوير الْمَسْأَلَة لَا إنكارا للْحكم فِيهَا وكل من الْفَرِيقَيْنِ قد صورها وَلَكِن حكم أحد الْفَرِيقَيْنِ بِأَن حكم ذَلِك حكم الْحيض وَحكم الْفَرِيق الآخر بِأَن حكمه يكون حكم الإستحاضة فَظهر أَن هَذَا التشنيع إِنَّمَا هُوَ على من يَقُول إِن الْحَامِل لَا تعلم قبل الْوَضع سَوَاء قَالَ إِن ذَلِك الدَّم حيض أَو اسْتِحَاضَة وَأما من قَالَ إِن الْحمل يُمكن الْعلم بِهِ فَلَا إِشْكَال عَلَيْهِ سَوَاء قَالَ إِن مَا ترَاهُ الْحَامِل حيض أَو اسْتِحَاضَة لِأَنَّهُ إِذا علمت الْحَامِل من الْحَائِل بعد جعل الشَّرْع اسْتِبْرَاء الْحَائِل بِحَيْضَة وَلم يَجْعَل اسْتِبْرَاء الْحَامِل بِحَيْضَة بل بِوَضْع الْحمل فَيكون الْحيض دَلِيلا على فرَاغ الرَّحِم ظَاهرا لَا قطعا لِأَنَّهُ لَو كَانَ قَطْعِيا لما تخلف وَالْمَسْأَلَة متجاذبة وَلم يثبت فِي أَكثر مُدَّة الْحمل فِي نَص عَن الشَّارِع وَمَا اسْتندَ إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله فِي تَقْدِيره سنيتين من الْإِبْرَاء الْمَنْسُوب إِلَى عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا لم يثبت وَلِهَذَا لم يقدر أَكثر مُدَّة الْحمل جمَاعَة من السّلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وَمِنْهَا قَوْله م: الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشر فِي الْمُعَامَلَات يثبت الْمُعَامَلَات بِشَهَادَة مَسْتُور الْحَال عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله خلافًا للشَّافِعِيّ فلولا مَذْهَب أبي حنيفَة لضاعت أَمْوَال النَّاس وحقوقهم انْتهى ش: فَإِن هَذَا كَلَام لم يحرر تَصْوِير الْمَسْأَلَة فضلا عَن الحكم فِيهَا فَإِن الْعَدَالَة شَرط فِي أَنْوَاع الشَّهَادَات كلهَا بالإتفاق إِلَّا أَن أَبَا حنيفَة رَحمَه الله يَكْتَفِي بظاهرها فِي الْمُسلم وَيَقُول الأَصْل فِي الْمُسلم الْعَدَالَة وَلَا يسْأَل الْحَاكِم عَنْهَا إِلَّا أَن يطعن الْخصم وَخَالفهُ فِي ذَلِك صَاحِبَاه وَقيل إِن هَذَا اخْتِلَاف عصر وزمان وَالْفَتْوَى على قَوْلهمَا فِي هَذَا الزَّمَان نَص على هَذَا صَاحب الْهِدَايَة وَغَيره وَقَول الصاحبين هُوَ قَول أَكثر الْعلمَاء وَإِذا كَانَ الْعَمَل فِي مَذْهَب أبي حنيفَة على قَول الصاحبين لم تبْق الْمَسْأَلَة من مسَائِل النزاع وَإِن كَانَ مُرَاده أَن الْحَاكِم لَو حكم بِشَهَادَة المستور لنفذ حكمه فَهِيَ الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة عشر وَسَيَأْتِي التَّنْبِيه على مَا فِيهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَإِن كَانَ مُرَاده القَوْل المستور مَقْبُول فِي الْمُعَامَلَات عِنْد عدم الْمعَارض فَهَذَا مِمَّا لَا خلاف فِيهِ وَالله أعلم بل قَول الْفَاسِق مَقْبُول فِي مثل هَذَا بل قَول الْكَافِر وَمِنْهَا قَوْله م: الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة عشرَة فِي البيع قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله وَيجوز بيع المعاطاة وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله لَا يجوز وَعَامة النَّاس فِي عَامَّة الْبلدَانِ يبيعون ويشترون بِلَا إِيجَاب وَقبُول فِي النفيس والخسيس فَلَا يثبت لَهُم الْملك فِي المُشْتَرِي فَلَا يجوز الإنتفاع بِهِ وَالِانْتِفَاع بِهِ مصرا عَلَيْهِ فسق لَا محَالة وَفِيه سعي لإِزَالَة الْعَدَالَة من بَين أظهر الْمُسلمين فِي الْأَغْلَب انْتهى ش: فَإِن مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله فِيهَا فِي غَايَة الْقُوَّة وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَأحمد وَمَال إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّة فَلَيْسَتْ هِيَ من مُفْرَدَات أبي حنيفَة رَحمَه الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وَإِطْلَاق النُّصُوص من الْكتاب وَالسّنة يدل على جَوَاز بيع بالتعاطي فِي النفيس والخسيس وَلَكِن فِي قَول المُصَنّف أَن عَامَّة النَّاس فِي عَامَّة الْبلدَانِ يتباعدان ويشترون معاطاة بِلَا إِيجَاب وَقبُول فِي الخسيس والنفيس نظر فان أَكثر النَّاس يخصون الْأَشْيَاء النفيسة بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُول وَلَكِن النُّصُوص مُطلقَة فَمَتَى وجد الرِّضَا يثبت العقد وَإِن لم يُوجد الْإِيجَاب وَالْقَبُول بِاللَّفْظِ وَلَكِن لَا يَقُول الشَّافِعِي إِن من بَاشر بيع المعاطاة يفسق وَلَا أَن ذَلِك يُنَافِي الْعَدَالَة وَلَا يلْزم القَوْل بذلك كَمَا نسبه إِلَيْهِ المُصَنّف فان هَذَا العقد مُخْتَلف فِي بُطْلَانه بَين الْعلمَاء والقائلون بِصِحَّتِهِ هم الْأَكْثَرُونَ فَلَا يكون مرتكبه فَاسِقًا وَلَا يقْدَح ذَلِك عَدَالَته وَقَوله فالإنتفاع بِهِ مصرا عَلَيْهِ عبارَة فَاسِدَة فَإِن صَاحب الْحَال الَّتِي هِيَ قَوْله مصرا عَلَيْهِ غير مَذْكُور وَحذف صَاحب الْحَال لَا يجوز وَمِنْهَا قَوْله م: الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة عشر فِي الْقَضَاء قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله إِذا حكم الْحَاكِم بِالشَّاهِدِ المستور نفذ وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله لَا ينفذ فلولا مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله بطلت المحاكمات فِي عصرنا انْتهى ش: فَإِن الْمُفْتِي بِهِ الْيَوْم عِنْد الْحَنَفِيَّة هُوَ قَول الصاحبين وَهُوَ أَنه لَا يجوز للْقَاضِي أَن يَكْتَفِي بِمُجَرَّد إِسْلَام الشَّاهِد بل لَا بُد من ثُبُوت عَدَالَته عِنْده للنصوص الْوَارِدَة من الْكتاب وَالسّنة من إشتراط صفة الْعَدَالَة فِي الشَّاهِد إِذْ لَيْسَ كل مُسلم عدلا فَلَو قضى القَاضِي بِشَهَادَة من لم يعرف عَدَالَته يكون آثِما لعدم اسْتِيفَائه الشَّرَائِط خُصُوصا إِذا طعن الْخصم فِي عَدَالَة الشُّهُود وَلَا يُمكن الْوُقُوف على حَقِيقَة الْعَدَالَة لِأَن ذَلِك لَا يُعلمهُ إِلَّا الله تَعَالَى بل يَكْتَفِي بِغَلَبَة الظَّن وَذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ كَمَا فِي معرفَة إِسْلَامه وَالظَّن الْغَالِب يُسمى علما قَالَ الله تَعَالَى {فَإِن علمتموهن} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 مؤمنات) الممتحنة 10 وَكَونه لَو حكم بِشَهَادَة المستور ينفذ حكمه وَإِن كَانَ لَا يجوز لَهُ الْإِقْدَام على الحكم بهَا فمذهب أبي حنيفَة رَحمَه الله أبلغ من ذَلِك وَهُوَ أَنه لَو حكم بِشَهَادَة الْفَاسِق لنفذ حكمه وَيكون آثِما وَلَا يَنْبَغِي نصر الْمَذْهَب بِمثل هَذِه الْمَسْأَلَة والتشنيع على الْمُخَالف فِيهَا لِئَلَّا يعكس التشنيع وَمِنْهَا قَوْله م: الْمَسْأَلَة السَّادِسَة عشر فِي الْإِمَامَة قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله إِذا وَقع من السطان كَبِيرَة أَو أصر على صَغِيرَة لم يَنْعَزِل وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله يَنْعَزِل وَفَسَاد ذَلِك لَا يخفى والتنبيه عَلَيْهِ يُورث تُهْمَة الْإِسْلَام وأمثال ذَلِك من الْمسَائِل كَثِيره يطول ذكرهَا فلنقصر على هَذَا فَمن لَا يستضيء بمصباح لم يستضىء بالصباح فَانْظُر أَيهَا الرفيق الشفيق هَل كَانَ حَال هَذَا الإِمَام مصداقا لقَوْل الشَّافِعِي رَحمَه الله النَّاس عِيَال أبي حنيفَة فِي الْفِقْه اولا لَا أخالك إِلَّا أَن تصدق إِن لم تكن مِمَّن قيل فِيهِ (إِذا لم يكن للمرء عين صَحِيحَة ... فَلَا غرو أَن يرتاب وَالصُّبْح مُسْفِر) وَلَعَلَّ الَّذين يَغُضُّونَ من أبي حنيفَة رَحمَه الله ويغضون من مِقْدَاره ويريدون أَن يخفضوا مَا رفع الله من مناره منابذة للحق الأبلج وزيغ عَن سَوَاء الْمنْهَج لَا يتعدون عَن جَزَاء سنمار حِين بنى الخوانق للنعمان حَيْثُ وضع الصُّور والمباني وأوضح طرق الْأَسْبَاب والمعاني فَأخذُوا بمذهبه فِي الْإِيمَان والطاعات والأركان من الْعِبَادَات وَفِي الْمَأْكُول والملبوس والمعاملات وَفِي الْأَنْكِحَة وَالْقَضَاء والخلافة والشهادات فَلم يَنْتَقِلُوا عَن مذْهبه فِي ذَلِك اينما وجهوا وَلم يفارقوا اقواله حَيْثُمَا سِيرُوا ثمَّ إِنَّهُم بعد ذَلِك يجحدون فَضله ويدفعون خصله ويذهبون عَن توقيره وإكرامه ويتركون مَا يجب من تَعْظِيمه واحترامه فَهُوَ مَعَهم فِي ذَلِك عَن الْمثل السائر الشّعير يُؤْكَل ويذم ولعمري إِن ذَلِك سَبَب للثَّواب بعد مماته مُضَافا إِلَى مَا لَهُ مِنْهُ من حَال حَيَاته ادخله الله فِي رضوانه وَأَسْكَنَهُ بحبوحة جنانه إِنَّه أغْنى مأمول وَأكْرم مسؤول إنتهى كَلَام المُصَنّف ش: فَقَوله يُورث تُهْمَة الْإِسْلَام فان الْغَزالِيّ رَحمَه الله ذكر فِي الْبَسِيط أَن الْفسق لَا يَنْعَزِل بِهِ الإِمَام الْأَعْظَم إِذْ فِيهِ خطر عَظِيم وَصَرفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 يجر فَسَادًا وَفِي الْحَاوِي لَا يَنْعَزِل الإِمَام بِالْفِسْقِ لخوف الْفِتَن فيبدل حَيْثُ لَا فتْنَة إنتهى وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله وَالله أعلم فانه إِنَّمَا قَالَ لَا يَنْعَزِل لِأَن لَا يَقع الْفِتْنَة وَالْقَائِل من أهل السّنة بِأَنَّهُ يَنْعَزِل بارتكاب الْكَبِيرَة مُرَاده عِنْد أَمن الْفِتْنَة أما عِنْد خوف الْفِتْنَة فَلَا فَإِنَّمَا قَالَ يجوز الْخُرُوج على الْأَئِمَّة إِذْ فسقوا الْخَوَارِج والمعتزلة والرافضة وَأما أهل السّنة فمتفقون على أَنه لَا يجوز الْخُرُوج على الْأَئِمَّة بِسَبَب ارْتِكَاب الْكَبِيرَة إِذا كَانَ الْفساد الْمُرَتّب على الْخُرُوج عَلَيْهِم أعظم من الْفساد الْمُرَتّب على إرتكابهم الْكَبِيرَة فَبَطل تشنيعه على الشَّافِعِي رَحمَه الله وَالله أعلم وَمِنْهَا قَوْله م: وَأما الخاتمة فَفِي التَّعْرِيض بالغرض فِي هَذِه الرسَالَة أَيهَا الْملك أيدك الله وخلد ملكك وأيد دولتك وَنصر أنصارك وخذل أعداءك وَنور بصيرتك أَن تنظر بفكرك الصائب وذهنك الثاقب وخاطرك الْيَقظَان وانتباهك عَجِيب الشَّأْن إِن مثل هَذَا الْمَذْهَب الَّذِي هُوَ المفند فِي أصُول الشَّرَائِع وفروعها على مَا مر تقريرها فِي الْمسَائِل الْمَذْكُورَة وَعَلِيهِ عَامَّة عُلَمَاء الْعَالم وسلاطينه بِالْهِنْدِ والسند وخراسان وتركستان وَالْعراق ودست قبحاق وبلاد يونان وأذ ربيجان وأمرائهم وغالب أُمَرَاء الديار المصرية فِي الْحَال والماضي مُدَّة دولة التَّرِكَة الَّذين هم بَين أُمَرَاء الْعَالم فِي المواكب كَالْقَمَرِ وَالشَّمْس بَين الْكَوَاكِب هَل يجب تَقْلِيده أَو لَا فان لم تَرَ ذَلِك وَاجِبا لم أتخيل من الْعقل الرجيح والفكر الصَّحِيح أَن لَا تعتقد أَنه أفضل من غَيره وَالله الْمُوفق والمعين والإعتصام بحبله المتين وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 قَالَ فِي الْأُم وَكتب فِي آخِره أَلفه الْفَقِير إِلَى الله الْخَفي مُحَمَّد بن مَحْمُود بن أَحْمد الْحَنَفِيّ غفر الله لَهُم وعاملهم بِلُطْفِهِ الْخَفي سنة سِتّ وَسبعين وَسبع وَمِائَة حامدا ومصليا على نَبينَا مُحَمَّد وَآله وَسلم انْتهى ش: فَإِن هَذَا الْغَرَض الَّذِي عرض بِذكرِهِ بل صرح بِهِ من غَرَض أهل الْأَهْوَاء وَمن فعل أهل الْجَاهِلِيَّة فانه قد غضب لعصبية ودعا إِلَيْهَا وَهَذَا من أَسبَاب التَّفَرُّق الْمنْهِي عَنهُ فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون وَقد تقدم ذكر قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَيْسَ منا من دَعَا إِلَى عصبية وَلَيْسَ منا من قَالَ بعصبية وَلَيْسَ منا من مَاتَ على عصبية) وَفِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى يكون هَوَاهُ تبعا لما جِئْت بِهِ) رَوَاهُ أَبُو حَاتِم فِي صَحِيحه وَذكره النَّوَوِيّ فِي أَرْبَعِينَ حَدِيثا وَقَالَ روينَاهُ فِي كتاب الْحجَّة بِإِسْنَاد صَحِيح وَقَالَ ابو يُوسُف وَالْحسن بن زِيَاد كِلَاهُمَا عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ علمنَا هَذَا رَأْي وَهُوَ أحسن مَا قَدرنَا عَلَيْهِ وَمن جَاءَنَا بِأَحْسَن مِنْهُ قبلناه مِنْهُ وَقَالَ الطَّحَاوِيّ رَحمَه الله حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم حَدثنَا أَشهب بن عبد الْعَزِيز قَالَ كنت عِنْد مَالك فَسئلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 عَن الْبَتَّةَ فَأخذت الواحي لأكتب مَا قَالَ فَقَالَ لي مَالك لَا تفعل فَعَسَى فِي الْعشي أَقُول أَنَّهَا وَاحِدَة وَقَالَ معز بن عِيسَى الْقَزاز سَمِعت مَالِكًا يَقُول إِنَّمَا أَنا بشر أخطىء وَأُصِيب فانظروا فِي قولي فَكل مَا وَافق الْكتاب وَالسّنة فَخُذُوا بِهِ وَمَا لم يُوَافق الْكتاب وَالسّنة فاتركوه وَقَالَ بشر بن الْوَلِيد قَالَ أَبُو يُوسُف لَا يحل لأحد أَن يَقُول مقالتنا حَتَّى يعلم من أَيْن قُلْنَا وَصَحَّ عَن الشَّافِعِي رَحمَه الله أَنه قَالَ إِذا صَحَّ الحَدِيث فَهُوَ مذهبي وَعنهُ فاضربوا بِقَوْلِي الْحَائِط وَتقدم عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ إِذا أرسل إِلَيْهِ بعض نوابه يسْأَله عَن قَضِيَّة من قضايا الْجد مَعَ الْأُخوة يَأْمر فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ وَيَقُول قطع الْكتاب لِئَلَّا يقلده غَيره بعده من غير اجْتِهَاد ونظائره من كَلَام الْأَئِمَّة كَثِيرَة وَهَذِه كَانَت طَريقَة السّلف رَحِمهم الله وَأما المتعصبون فعكسوا الْقَضِيَّة والتعصب على نَوْعَيْنِ فَمن تعصب لوَاحِد معِين غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كمالك وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَرَأى أَن قَول هَذَا هُوَ الصَّوَاب الَّذِي يَنْبَغِي اتِّبَاعه دون قَول الْأَئِمَّة البَاقِينَ فَهُوَ جَاهِل ضال وَإِن اعْتقد أَنه يجب على النَّاس اتِّبَاعه دون غَيره من هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة فانه يخْشَى عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 فَإِن الْأمة قد اجْتمعت على أَنه لَا يجب طَاعَة أحد فِي كل شَيْء إِلَّا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل غَايَة مَا يُقَال إِنَّه يسوغ أَو يَنْبَغِي أَو يجب على الْعَاميّ أَن يُقَلّد وَاحِدًا من الْأَئِمَّة من غير تعْيين زيد أَو عَمْرو وَأما أَن يَقُول قَائِل إِنَّه يجب على الْأمة تَقْلِيد فلَان دون غَيره فَهَذَا هُوَ الْمَحْذُور فَمن تعصب لوَاحِد من الْأَئِمَّة دون البَاقِينَ فَهُوَ بِمَنْزِلَة من تعصب لوَاحِد من الصَّحَابَة دون البَاقِينَ كالرافضي الَّذِي تعصب لعَلي رَضِي الله عَنهُ دون الْخُلَفَاء الثَّلَاثَة فَهَذِهِ طرق أهل الْهوى نسْأَل الله السَّلامَة والعافية وَهَذَا رفض وتشنيع لكنه تشنيع فِي بعض الطوائف وَالْعُلَمَاء لَا فِي تَفْضِيل بعض الصَّحَابَة وَالْوَاجِب على كل مُسلم يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله أَن يكون أصل قَصده تَوْحِيد الله بِعِبَادَتِهِ وَطَاعَة رَسُوله وَيعلم أَن أفضل النَّاس بعد الرَّسُول هم الصَّحَابَة فَلَا ينتصر لشخص إنتصارا عَاما مُطلقًا إِلَّا لرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا لطائفة انتصارا عَاما مُطلقًا إِلَّا للصحابة فَإِن الْهدى يَدُور مَعَ الرَّسُول وَمَعَ أَصْحَابه دون أَصْحَاب غَيره فَإِذا اجْمَعُوا لم يجمعوا على خطأ فان الدّين الَّذِي بعث الله بِهِ رَسُوله لَيْسَ مُسلما إِلَى عَالم وَاحِد وَأَصْحَابه وَلَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ ذَلِك الشَّخْص نظيرا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ شَبيه بقول الرافضة وأئمة الاسلام أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَغَيرهم رَضِي الله عَنْهُم كل مِنْهُم ذهب إِلَى مَا ذهب إِلَيْهِ عَن اجْتِهَاد وَإِمَّا أَن يُقَال الْمُجْتَهد تَارَة يخطىء وَتارَة يُصِيب وَهَذَا هُوَ الْحق فَمَا اخْتلفُوا فِيهِ على قَوْلَيْنِ أَو أَكثر فأحدهم مُصِيب وَهُوَ صَاحب الأجرين وَمن خَالفه مخطىء وَله أجر على اجْتِهَاده وَخَطأَهُ مغْفُور وَهَذَا فِي كل مَسْأَلَة حصل فِيهَا اخْتِلَاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وَلَيْسَ الصَّوَاب وَقفا على أحدهم بِعَيْنِه وَالْخَطَأ وَقفا على البَاقِينَ وَمن اعْتقد هَذَا فَليُرَاجع عقله فان هَذِه غَفلَة عَظِيمَة وَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَمَا من إِمَام إِلَّا وَقد فَاتَهُ الصَّوَاب وَلَو فِي مَسْأَلَة لِأَنَّهُ غير مَعْصُوم وَمَا يُؤمن من قَلّدهُ فِي مَسْأَلَة قد خَالفه فِيهَا غَيره فَحكم بهَا وَأفْتى أَن تكون تِلْكَ الْمَسْأَلَة هِيَ الَّتِي أَخطَأ فِيهَا إِمَامه فَعَلَيهِ أَن يعرضهَا على الدَّلِيل وَلَا يقْتَصر على مَا قَالَه أَصْحَابه فِي الْكَلَام عَلَيْهَا لاحْتِمَال أَن يكون عِنْد من خَالفه من الدَّلِيل مَا لَيْسَ عِنْدهم لأَنا قد أمرنَا أَن نرد مَا تنازعنا فِيهِ إِلَى الله وَالرَّسُول والإخلال بِهَذَا الْوَاجِب هُوَ الَّذِي أوجب الِافْتِرَاق المذموم وَهَذِه كَانَت طَريقَة الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم أهل الْقُرُون الثَّلَاثَة المفضلة أَعنِي رد الْمُتَنَازع فِيهِ إِلَى الله وَالرَّسُول وَلم يكن فيهم من يَأْخُذ يَقُول وَاحِد معِين مِنْهُم دون غَيره غير ر سَوَّلَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي طَريقَة التَّابِعين لَهُم بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الدّين قَالَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْقُرْآن {أم حسبتم أَن تتركوا وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم وَلم يتخذوا من دون الله وَلَا رَسُوله وَلَا الْمُؤمنِينَ وليجة} التَّوْبَة 16 وَلَا وليجة أعظم مِمَّن جعل رجلا بِعَيْنِه مُخْتَارًا على كَلَام الله وَكَلَام رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَلَام سَائِر الْأمة يقدمهُ على ذَلِك كُله ويعرض كتاب الله وَسنة رَسُوله وَإِجْمَاع الْأمة على قَوْله فَمَا وَافقه مِنْهَا قبله لموافقته لقَوْله وَمَا خَالفه مِنْهَا تلطف فِي رده وتطلب لَهُ وُجُوه الْحِيَل وَقد ذمّ الله تَعَالَى أهل الْكتاب على هَذَا الْوَصْف فَقَالَ {اتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله والمسيح ابْن مَرْيَم} التَّوْبَة 31 روى عَن حُذَيْفَة رَحمَه الله وَغَيره أَنه قَالَ لم يعبدوهم من دون الله وَلَكنهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 أحلُّوا لَهُم وحرموا عَلَيْهِم فاتبعوهم وَهَذَا الْمَعْنى قَالَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعدي بن حَاتِم وَحَدِيثه فِي الْمسند وَالتِّرْمِذِيّ مطولا وهم قصدُوا تَعْظِيم الْمَسِيح وَأَحْبَارهمْ وَرُهْبَانهمْ بِجَهْل فأشركوا بهم وأعرضوا عَن اتباعهم فِيمَا أمروهم بِهِ وَنَهَوْهُمْ عَنهُ وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا وَكَذَلِكَ الغلاة فِي بعض الصَّحَابَة أَو الْأَئِمَّة أَو الْمَشَايِخ يقصدون تعظيمهم لَكِن بِجَهْل فانهم ينزلونهم منزلَة الرَّسُول وَإِن لم يسموهم رسلًا وَلَكنهُمْ يعاملونهم مُعَاملَة الرَّسُول بل قد يُفْضِي بهم إِلَى إنزالهم منزلَة الربوبية وهم لَا يَشْعُرُونَ لجلهلم والمحبة مَعَ التَّعْظِيم هِيَ الْعباد ة قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (تعس عبد الدِّينَار تعس عبد الدِّرْهَم) الحَدِيث وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر رَحمَه الله يُقَال لمن قَالَ بالتقليد لم قلت بِهِ وخالفت السّلف فِي ذَلِك فَإِنَّهُم لم يقلدوا فَإِن قَالَ قلدت لِأَن كتاب الله لَا علم لي بتأويله وَسنة رَسُول الله لم أحصها وَالَّذِي قلدته قد علم ذَلِك فقلدت من هُوَ أعلم مني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 قيل لَهُ أما الْعلمَاء إِذا أَجمعُوا على شَيْء من تَأْوِيل الْكتاب أَو حِكَايَة سنة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو اجْتمع رَأْيهمْ على شَيْء فَهُوَ الْحق لَا شكّ فِيهِ وَلَكِن قد اخْتلفُوا فِيمَا قلدت فِيهِ بَعضهم دون بعض فَمَا حجتك فِيمَا قلدت فِيهِ بَعضهم دون بعض وَكلهمْ عَالم وَلَعَلَّ الَّذِي رغبت عَن قَوْله أعلم من الَّذِي ذهبت إِلَى مذْهبه فَإِن قَالَ قلدته لأبي أعلم أَنه صَوَاب قيل لَهُ علمت ذَلِك بِدَلِيل من كتاب الله أَو سنة رَسُوله أَو اجماع فَإِن قَالَ نعم أبطل التَّقْلِيد وطولب بِمَا ادَّعَاهُ من الدَّلِيل وَإِن قَالَ قلدته لِأَنَّهُ أعلم مني قيل لَهُ فقلد كل من هُوَ أعلم مِنْك فَإنَّك تَجِد من ذَلِك خلقا كثيرا وَلَا تخص من قلدته إِذْ علتك فِيهِ أنأنه أَنه أعلم مِنْك فَإِن قَالَ قلدته لِأَنَّهُ أعلم النَّاس قيل لَهُ فَهُوَ إِذا أعلم من الصَّحَابَة وَكفى بقول مثل هَذَا قبحا فَإِن قَالَ أَنا أقلد بعض الصَّحَابَة قيل لَهُ فَمَا حجتك فِي ترك من لم تقلده مِنْهُم وَلَعَلَّ من تركت قَوْله مِنْهُم أفضل مِمَّن أخذت بقوله على أَن القَوْل لَا يَصح لفضل قَائِله وَإِنَّمَا يَصح بِدلَالَة الدَّلِيل عَلَيْهِ وَقد ذكر ابْن مزين عَن عِيسَى بن دِينَار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك قَالَ لَيْسَ كلما قَالَ رجل قولا وَإِن كَانَ لَهُ فضل يتبع عَلَيْهِ فَإِن قَالَ وَقلة علمي يحملني على التَّقْلِيد قيل لَهُ أما من قلد فِيمَا ينزل بِهِ من أَحْكَام شَرِيعَته عَالما رُبمَا يتَّفق لَهُ على علمه فيصدر فِي ذَلِك عَمَّا يُخبرهُ فمعذور لِأَنَّهُ قد أَتَى بِمَا عَلَيْهِ وَأدّى مَا لزمَه فِيمَا نزل بِهِ لجهله وَلَا بُد لَهُ من تَقْلِيد عَالم فِيمَا جَهله لإِجْمَاع الْمُسلمين أَن المكفوف يُقَلّد من يَثِق بِخَبَرِهِ فِي الْقبْلَة لِأَنَّهُ لَا يقدر على أَكثر من ذَلِك وَلَكِن من كَانَت هَذِه حَاله هَل يجوز لَهُ الْفَتْوَى فِي شرائع دين الله فَيحمل غَيره على إِبَاحَة الْفروج وإراقة الدِّمَاء واسترقاق الرّقاب وَإِزَالَة الْأَمْلَاك وتصييرها إِلَى غير من كَانَت فِي يَده بقول لَا يعرف صِحَّته وَلَا قَامَ لَهُ الدَّلِيل عَلَيْهِ وَهُوَ مقرّ أَن قَائِله يخطىء ويصيب وَأَن مخالفه فِي ذَلِك رُبمَا كَانَ الْمُصِيب فِيمَا يُخَالِفهُ فِيهِ فَإِن أجَاز الْفَتْوَى لمن جهل الأَصْل وَالْمعْنَى بِحِفْظ الْفُرُوع لزمَه أَن يُجِيزهُ للعامة وَكفى بِهَذَا جهلا وردا لِلْقُرْآنِ قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} الاسراء 36 وَقَالَ {أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ} الْأَعْرَاف 28 وَقد أجمع الْعلمَاء على أَن مَا لم يتَبَيَّن وَلم يتَيَقَّن فَلَيْسَ بِعلم وَإِنَّمَا هُوَ ظن وَالظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا انْتهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وَقَالَ أَبُو عمر أَيْضا وَغَيره قَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ لكميل بن زِيَاد النَّخعِيّ وَهُوَ حَدِيث مَشْهُور يَا كميل احفظ مَا أَقُول لَك الْقُلُوب أوعية فَخَيرهَا أوعاها النَّاس ثَلَاثَة عَالم رباني ومتعلم على سَبِيل نجاة وهمج رعاع أَتبَاع كل ناعق يميلون مَعَ كل ريح لم يستضيئوا بِنور الْعلم وَلم يلجؤوا إِلَى ركن وثيق يَا كميل الْعلم خير من المَال الْعلم يحرصك وَأَنت تحرص المَال الْعلم يزكو على الْعَمَل وَالْمَال تنقصه النَّفَقَة الْعلم حَاكم وَالْمَال مَحْكُوم عَلَيْهِ مَاتَ خزان المَال وهم أَحيَاء وَالْعُلَمَاء باقون مَا بَقِي الدَّهْر أعيانهم مفقودة وأمثالهم فِي الْقُلُوب مَوْجُودَة آه آه إِن هَا هُنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدره علما لَو اصبت لَهُ حَملَة ثمَّ قَالَ بلَى اصبته لقنا غير مَأْمُون عَلَيْهِ يسْتَعْمل آلَة الدّين للدنيا ويستظهر بنعم الله على عباده وبحججه على كِتَابه أَو منقادا لأهل الْحق لَا بَصِيرَة لَهُ فِي أحنائه ينقدح الشَّك فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 قلبه بِأول غارض أَلا لَا ذَا وَلَا زَالَ أَو منهوما باللذات سَلس القياد للشهوات أَو مغرما جمع الْأَمْوَال والادخار أقرب شَيْء شبها بهما الْأَنْعَام السَّائِمَة كَذَلِك يَمُوت الْعلم بِمَوْت حامليه اللَّهُمَّ بلَى لن تخلوا الأَرْض من قَائِم لله بِحجَّة لكيلا تبطل حجج الله وبيناته أُولَئِكَ هم الأقلون عددا الأعظمون عِنْد الله قدرا هجم بهم الْعلم على حَقِيقَة الْأَمر فاستلانوا مَا استوعره المترفون وأنسوا بِمَا استوحش مِنْهُ الجاهلون صحبوا الدُّنْيَا بأبدان أرواحها معلقَة بِالْمحل الْأَعْلَى آه آه شوقا إِلَى رُؤْيَتهمْ فَفِي هَذَا الحَدِيث إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنهُ قسم حَملَة الْعلم المذمومين ثَلَاثَة اصناف المبتدع الْفَاجِر الَّذِي لَيْسَ عِنْده أَمَانَة وَلَا إِيمَان يبطر الْحق الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكتاب ويغمط الْخلق يُجَادِل فِي آيَات الله بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُ إِن فِي صدوره إِلَّا كبر مَا هُوَ ببالغه وَالثَّانِي الْمُقَلّد المنقاد بِلَا بَصِيرَة ويقين وَالثَّالِث مُتبع الشَّهَوَات الْبَدَنِيَّة والمالية ثمَّ ذكر خلفاء الرُّسُل القائمين بحجج الله وبيناته وهم المتبعون للدليل حَيْثُ كَانَ الْعَامِلُونَ بِهِ فَذكر أَنهم قَلِيلُونَ فِي الْوُجُود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بَدَأَ الْإِسْلَام غَرِيبا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ فطوبى للغرباء) أخرجه مُسلم من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ وَزَاد فِيهِ الَّذين يصلحون مَا أفسد النَّاس بعدِي من سنتي فنسأل الله الْعَظِيم أَن يجعلنا مِنْهُم إِنَّه على كل شَيْء قدير وَلَا يَصح الِاسْتِدْلَال على تَقْلِيد أحد بِكَثْرَة من اتبعهُ خُصُوصا على قَاعِدَة أبي حنيفَة رَحمَه الله فَإِن من أَصله لَا تَرْجِيح بِكَثْرَة الشُّهُود فَلَو تنَازع اثْنَان عينا وَأقَام أَحدهمَا شَاهِدين وَأقَام الآخر عشرَة شُهُود قضى بهَا بَينهمَا عِنْده وَلَا يرجح صَاحب الشُّهُود الْكَثِيرَة مَعَ أَن كَثْرَة الِاتِّبَاع المقلدين دون الشُّهُود بدرجات فَإِن المقلدين الْمَحْض إِن يتبعُون إِ لَا الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس {وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى} النَّجْم 23 وَكَيف يُقَال عَن رجل من الْأمة كَائِنا من كَانَ إِنَّه يجب الْأَخْذ بقوله كُله دون سَائِر الْأَئِمَّة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم ويعرض على قَوْله نُصُوص الْكتاب وَالسّنة فَإِن وافقته عضد بهَا وَلم تكن هِيَ الْعُمْدَة وَإِن خالفته تحيل بأنواع الْحِيَل فِي ردهَا إِلَى قَوْله والإعراض عَن تدبرها وَقيل هَذِه من الْمُتَشَابه الَّذِي لَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله وَهَذِه بِدعَة من الْبدع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من أحدث فِي أمرنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد) وَفِي رِوَايَة من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ اقضوا كَمَا كُنْتُم تقضون فَأَنِّي أكره الْخلاف حَتَّى يكون النَّاس جمَاعَة وأرجوا أَن أَمُوت كَمَا مَاتَ أَصْحَابِي أخرجه البُخَارِيّ بِمَعْنَاهُ وَقَالَ الزُّهْرِيّ وَدخلت على أنس رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ يبكي فَقلت مَا يبكيك قَالَ لَا أعرف شَيْئا مِمَّا أدْركْت إِلَّا هَذِه الصَّلَاة وَهَذِه الصَّلَاة قد ضيعت أخرجه البُخَارِيّ وَإِذا كَانَ هَذَا من ذَلِك الزَّمَان فالتغيير أَكثر أَكثر وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم فَالْوَاجِب على من طلب الْعلم النافع أَن يحفظ كتاب الله ويتدبره وَكَذَلِكَ من السّنة مَا تيَسّر لَهُ ويطلع مِنْهَا ويتروى وَيَأْخُذ مَعَه من اللُّغَة والنحو مَا يصلح بِهِ كَلَامه ويستعين بِهِ على فهم الْكتاب وَالسّنة وَكَلَام السّلف الصَّالح فِي مَعَانِيهَا ثمَّ ينظر فِي كَلَام عَامَّة الْعلمَاء الصَّحَابَة ثمَّ من بعدهمْ مَا تيَسّر لَهُ من ذَلِك من غير تَخْصِيص فَمَا اجْتَمعُوا عَلَيْهِ لَا يتعداه وَمَا اخْتلفُوا فِيهِ نظر فِي أدلتهم بِغَيْر هوى وَلَا عصبية ثمَّ بعد ذَلِك {من يهد الله فَهُوَ المهتد وَمن يضلل فَلَنْ تَجِد لَهُ وليا مرشدا} الْكَهْف 17 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وَفِي أَيَّام الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف جرى بَين أهل الْمذَاهب مَا أوجب أَن كتاب القَاضِي الْفَاضِل عَن السُّلْطَان الْمَذْكُور إِلَى أَخِيه الْملك الْعَادِل وَهُوَ بِمصْر انْتهى إِلَيْنَا أَن بالديار المصرية وبالحضرة الْعلية جمَاعَة من الْفُقَهَاء قد اعتضدوا بِجَمَاعَة من أَرْبَاب السيوف وبسطوا ألسنتهم بالمنكر من القَوْل غير الْمَعْرُوف وأشاروا من العصبية مَا أطاعوا فِيهِ القوى الغضبية وأحيوا بهَا مَا أَمَاتَهُ الله من الحمية الْجَاهِلِيَّة وَالله سُبْحَانَهُ يَقُول وَكفى بقوله حجَّة على من كَانَ سميعا مُطيعًا {واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا} آل عمرَان 103 وَلَا يزَال التعصب للمذاهب يمْلَأ الْقُلُوب بالشحناء يشحنها وَقد نهى الله عَن المجادلة لأهل الْخلاف فَكيف بِأَهْل الْوِفَاق إِلَّا أَن يُقَال أحْسنهَا وَمَا علمنَا أَن فِي ذَلِك نِيَّة تتَّخذ وَلَا مصلحَة تُوجد وَلَا هِدَايَة تعتقد بدراسة تفقد بل نَار عَدَاوَة توقد وقلما اثمرت المشاجرة إِلَّا خلافًا فليوغر الْمجْلس بكف الْأَلْسِنَة الخائضة وعقل الأعنة الراكضة فَإِن اقنع تلطفه المرضي وَإِلَّا كَانَت همنه الرائضة وَمن عَاد بعد الزّجر أبعد عَن مستقره وازعج وليسع الْخلف مَا وَسعه السّلف من الْأَدَب وليعلم العَبْد أَنه يكْتب كتابا إِلَى الله فليكف فِيمَا كتب وَإِلَى من كتب انْتهى وَقد قيل إِن سَبَب استحكام هَذَا الِافْتِرَاق شُرُوط الواقفين فِي الْمدَارِس فَإِنَّهُم لما شرطُوا أَن تكون هَذِه الْمدرسَة على الطَّائِفَة الْفُلَانِيَّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وَهَذِه الْمدرسَة على الطَّائِفَة الْفُلَانِيَّة تمسكت كل طَائِفَة بِمَا ذهبت إِلَيْهِ واعرضت عَن غَيره لِئَلَّا يحرم ذَلِك الْوَقْف وانضم إِلَى ذَلِك شُبْهَة صِحَة هَذِه الشُّرُوط وأمثالها وَالْقَوْل بِأَن شَرط الْوَاقِف كنص الشَّارِع فَلَمَّا انضمت الشُّبْهَة إِلَى الشَّهْوَة استحكم الدَّاء وغالب الواقفين جهال إِنَّمَا يحملهم على تعْيين تِلْكَ الطَّائِفَة الَّتِي عينهَا كل مِنْهُم مُجَرّد العصبية لتِلْك الطَّائِفَة وإمامها وأصل مقصودهم صَحِيح وَهُوَ إحْيَاء علم الشَّرِيعَة فَيُصْبِح تخصيصهم الْعلمَاء بذلك الْوَقْف وَيبْطل تخصيصهم الطَّائِفَة الْفُلَانِيَّة مِنْهُم لِأَن الْوَاجِب عرض شُرُوط الواقفين على الشَّرِيعَة فَمَا وافقها قبل وَإِلَّا رد كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا بَال أَقوام يشترطون شُرُوطًا لَيست فِي كتاب الله وكل شَرط لَيْسَ فِي كتاب الله فَهُوَ بَاطِل وَلَو كَانَ مائَة شَرط) الحَدِيث مُتَّفق عَلَيْهِ وَإِن كَانَ سَبَب الحَدِيث اشْتِرَاط الْوَلَاء لغير من اعْتِقْ فَالْعِبْرَة لعُمُوم اللَّفْظ لَا لخُصُوص السَّبَب فَإِن قيل هَذَا الشَّرْط غير مُخَالف لكتاب الله قيل إِن لم تفهم مُخَالفَته لكتاب الله مِمَّا تقدم فَلَا يُفِيد الْبَحْث وَلَو جِئْنَا بِكُل آيَة مَعَ أَن من عرف مَذْهَب الإِمَام فقد وفى بِمَا شَرطه الْوَاقِف وَإِن لم يقلده فِي بعض أَقْوَاله لما ظهر لَهُ من الدَّلِيل فَإِن الانتساب الْكَامِل إِلَى الإِمَام لمن عرف مذْهبه بدليله لَا لمن عرفه نقلا بِغَيْر دَلِيل وَلَا لمن قَلّدهُ بِغَيْر معرفَة إِذْ لَيْسَ مُرَاد الواقفين من قلد الإِمَام مَعَ جَهله بِالدَّلِيلِ وَمن عرف الدَّلِيل لَا بُد أَن يظْهر لَهُ ضعفه فِي بعض الْمسَائِل ولبسط هَذَا الْمَعْنى مَوضِع يَلِيق بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 ثمَّ بعد ذَلِك زَاد تمكن الِافْتِرَاق بتولية قَاض من كل طَائِفَة مُعينَة وضاعت حُقُوق كَثِيرَة بِسَبَب ذَلِك وَلِهَذَا أخرج الله الحكم الْعَام عَن أَيْديهم وَدخل فِيهِ من أَمر الامارة والسياسة مَا يحفظه بِهِ الْحق تَارَة ويضيع أُخْرَى وَيحصل بِهِ الْعدوان تَارَة وَالْعدْل أُخْرَى وَلَا تقوم مصَالح النَّاس بِالْعَمَلِ بقول إِمَام معِين لَا يعدل عَن قَوْله إِلَى قَول غَيره أبدا وَكَانَ النَّهْي عَن الِافْتِرَاق حِين رَأَوْهُمْ افْتَرَقُوا أولى من تقديرهم على الإفتراق وَفعل مَا هُوَ باعث لَهُم على الْإِصْرَار على الإفتراق وَلم يكن هَذَا فِي صدر الْإِسْلَام وَإِنَّمَا حدث هَذَا أَعنِي تَوْلِيَة قَاض من كل طَائِفَة بِسنة أَربع وَسِتِّينَ وست مائَة فِي أَيَّام الْملك الظَّاهِر بيبرس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وَزَاد تمكن الإفتراق أَيْضا بتولية إِمَام راتب من كل مَذْهَب عِنْد الْبَيْت الْحَرَام وبالجامع الْأمَوِي ولازم كل إِمَام الصَّلَاة على صفة لَا يتعداها وَإِنَّمَا شرعت صَلَاة الْخَوْف مَعَ الْفِعْل الْمنَافِي للصَّلَاة لتَكون الْجَمَاعَة وَكفى بمشروعية صَلَاة الْخَوْف دَلِيلا على إبِْطَال تَرْتِيب أَكثر من إِمَام وَاحِد فِي كل مَسْجِد وَالْمَسْجِد الْحَرَام وَغَيره وَهَذَا زمَان الغربة الَّتِي أخبر عَنْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلا للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رءوف رَحِيم) الْحَشْر 10 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على سيد الْخلق وَنَبِي الْحق نَبينَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه أَجْمَعِينَ قَالَ نَاسخ الرسَالَة فِي آخِره تمت النُّسْخَة بعون الله وَحسن توفيقه وَقت الْعشَاء لَيْلَة الْجُمُعَة فِي التَّارِيخ التَّاسِع عشر مضى من شهر شَوَّال سنة ألف وَمِائَتَيْنِ وَخمْس وَخمسين من هِجْرَة النَّبِي الْعَرَبِيّ عَلَيْهِ وعَلى آله أفضل التَّحِيَّات بيد العَبْد المذنب الخاطىء الضَّعِيف عبد الرَّحْمَن ولد عبد اللَّطِيف غفر الله لَهما ولوالديهما وَلِجَمِيعِ الْمُسلمين آمين ثمَّ آمين وَقَالَ فِي أَولهَا قد شرعت بِكِتَابَة نُسْخَة الِاتِّبَاع وَقت الظّهْر فِي تَارِيخ الثَّالِث عشر مضى من شهر شَوَّال سنة ألف وَمِائَتَيْنِ وَخمْس وَخمسين من هِجْرَة النَّبِي الْعَرَبِيّ الْمَكِّيّ الْقرشِي عَلَيْهِ وعَلى آله من الصَّلَوَات أفضلهَا وَمن التَّحِيَّات أكملها تمّ الْكتاب وَالْحَمْد لله الَّذِي بنعمته تتمّ الصَّالِحَات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93