الكتاب: أسنى المتاجر وبيان أحكام من غلب على وطنه النصاري ولم يهاجر وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر المؤلف: أحمد بن يحيى بن محمد الونشريسي التلمساني، أبو العباس المالكي (المتوفى: 914هـ) المحقق: د. حسين مؤنس الناشر: مكتبة الثقافة الدينية - مصر الطبعة: الأولى، 1406هـ، / 1986م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- أسنى المتاجر وبيان أحكام من غلب على وطنه النصاري ولم يهاجر وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر الوَنْشَرِيسي الكتاب: أسنى المتاجر وبيان أحكام من غلب على وطنه النصاري ولم يهاجر وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر المؤلف: أحمد بن يحيى بن محمد الونشريسي التلمساني، أبو العباس المالكي (المتوفى: 914هـ) المحقق: د. حسين مؤنس الناشر: مكتبة الثقافة الدينية - مصر الطبعة: الأولى، 1406هـ، / 1986م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم صلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَسلم تَسْلِيمًا كتب إِلَى الشَّيْخ الْفَقِيه الْمُعظم الْخَطِيب الْفَاضِل الْقدْوَة الصَّالح الْبَقِيَّة وَالْجُمْلَة الفاضلة النقية الْعدْل الأرضي أَبُو عبد الله بن قطيه أدام الله سموهُ ورقيه بِمَا نَصه 1 - الْمَسْأَلَة هَل تجوز إِقَامَة الْمُسلم فِي بلد غلب عَلَيْهِ النَّصَارَى الْحَمد لله وَحده جوابكم يَا سَيِّدي رَضِي الله عَنْكُم ومتع الْمُسلمين بحياتكم فِي نازلة وَهِي أَن قوما من هَؤُلَاءِ الأندلسيين الَّذين هَاجرُوا من الأندلس وَتركُوا هُنَاكَ الدّور وَالْأَرضين والجنات والكرمات وَغير ذَلِك من أَنْوَاع الْأُصُول وبذلوا زِيَادَة على ذَلِك كثيرا من ناض المَال وَخَرجُوا من تَحت حكم الْمسلمَة الْكَافِرَة وَزَعَمُوا أَنهم فروا إِلَى الله سُبْحَانَهُ بايدينهم وأنفسهم وأهليهم وذرياتهم وَمَا بقى بِأَيْدِيهِم أَو أَيدي بَعضهم من الْأَمْوَال واستقروا بِحَمْد الله سُبْحَانَهُ بدار الْإِسْلَام تَحت طَاعَة الله وَرَسُوله وَحكم الذِّمَّة الْمسلمَة الحديث: 1 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ندموا على الْهِجْرَة بعد حصولهم بدار الاسلام تسخطوا وَزَعَمُوا أَنهم وجدوا الْحَال عَلَيْهِم ضيقَة وَأَنَّهُمْ لم يَجدوا بدار الاسلام الَّتِي هِيَ دَار الْمغرب هَذِه صانها الله وحرس أوطانها وَنصر سُلْطَانه بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّسَبُّب فِي طلب انواع المعاش على الْجُمْلَة رفقا وَلَا يسرا وَلَا مرتفقا وَلَا إِلَى التَّصَرُّف فِي الأقطار أمنا لايقا وصرحوا فِي هَذَا الْمَعْنى بأنواع من قَبِيح الْكَلَام الدَّال على ضعف دينهم وَعدم صِحَة يقينهم فِي معتقدهم وان هجرتهم لم تكن لله وَرَسُوله كَمَا زَعَمُوا وَإِنَّمَا كَانَت لدينا يصيبونها عَاجلا عِنْد وصولهم جَارِيَة على وفْق أهوائهم فَلَمَّا لم يجدوها وفْق أغراضهم صَرَّحُوا بذم دَار الْإِسْلَام وشأنه وَشتم الذى كَانَ السَّبَب لَهُم فِي هَذِه الْهِجْرَة وسبه وبمدح دَار الْكفْر وَأَهله (83 ب) والندم على مُفَارقَته وَرُبمَا حفظ عَن بَعضهم أَنه قَالَ على جِهَة الْإِنْكَار لِلْهِجْرَةِ إِلَى دَار الْإِسْلَام الَّتِي هِيَ هَذَا الوطن صانه الله إِلَى هَا هُنَا يُهَاجر من هنايك بل من هَا هُنَا تجب الْهِجْرَة إِلَى هُنَاكَ وَعَن آخر مِنْهُم أَيْضا أَنه قَالَ إِن جَازَ صَاحب قشتالة إِلَى هَذِه النواحى نسير إِلَيْهِ فنطلب مِنْهُ أَن يردنا إِلَى هُنَاكَ يعْنى إِلَى دَار الْكفْر ومعاودة الدُّخُول تَحت الذِّمَّة الْكَافِرَة كَيفَ أمكنهم فَمَا الَّذِي يلحقهم فِي ذَلِك من الْإِثْم وَنقص رُتْبَة الدّين والجرحة وَهل هم بِهِ مرتكبون الْمعْصِيَة الَّتِي كَانُوا فروا مِنْهَا إِن تَمَادَوْا على ذَلِك وَلم يتوبوا وَلم يرجِعوا إِلَى الله سُبْحَانَهُ مِنْهُ وَكَيف بِمن رَجَعَ مِنْهُم بعد الْحُصُول فِي دَار الْإِسْلَام إِلَى دَار الْكفْر وَالْعِيَاذ الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وَهل يجب على من قَامَت عَلَيْهِ مِنْهُم بالتصريح بذلك أَو بِمَعْنَاهُ شَهَادَة أدب أَو لَا حَتَّى يتَقَدَّم إِلَيْهِم فِيهِ بالوعظ والإنذار فَمن تَابَ إِلَى الله سُبْحَانَهُ نزك ورجى لَهُ قبُول التَّوْبَة وَمن تَمَادى عَلَيْهِ ادب أَو يعرض عَنْهُم وَيتْرك كل وَاحِد مِنْهُم وَمَا اخْتَارَهُ فَمن ثبته الله فِي دَار الاسلام رَاضِيا فَلهُ نِيَّته وأجره على الله سُبْحَانَهُ وَمن اخْتَار الرُّجُوع إِلَى دَار الْكفْر ومعاودة الذِّمَّة الْكَافِرَة ترك يذهب إِلَى سخط الله وَمن ذمّ دَار الاسلام مِنْهُم تَصْرِيحًا اَوْ معنى ترك وَمَا عول عَلَيْهِ بينوا لنا حكم الله تَعَالَى فِي ذَلِك كُله وَهل من شَرط الْهِجْرَة أَلا يُهَاجر أحد إِلَّا إِلَى دنيا مَضْمُونَة يُصِيبهَا عَاجلا عِنْد وُصُوله جَارِيَة على وفْق غَرَضه حَيْثُ حل أبدا من نواحى الْإِسْلَام أَو لَيْسَ ذَلِك بِشَرْط بل تجب عَلَيْهِم الْهِجْرَة من دَار الْكفْر إِلَى دَار الْإِسْلَام إِلَى حُلْو أَو مر أَو وسع أَو ضيق أَو عسر أَو يسر بِالنِّسْبَةِ (84 أ) إِلَى احوال الدُّنْيَا وَإِنَّمَا الْقَصْد بهَا سَلامَة الدّين والأهل وَالْولد مثلا وَالْخُرُوج من حكم الْملَّة الْكَافِرَة إِلَى حكم الْملَّة الْمسلمَة إِلَى مَا شَاءَ الله من حُلْو أَو مر اَوْ ضيق عَيْش اَوْ سعته وَنَحْو ذَلِك من الْأَحْوَال الدنياوية بَيَانا شافيا مجودا مشروحا كَافِيا يَأْجُركُمْ الله سُبْحَانَهُ وَالسَّلَام الْكَرِيم يعْتَمر مقامكم الْعلي وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته فأجبته بِمَا هَذَا نَصه الْحَمد لله تَعَالَى وَحده وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد بعده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 2 - الْجَواب الْهِجْرَة إِلَى أَرض الْإِسْلَام فَرِيضَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة الْجَواب عَمَّا سَأَلْتُم عَنهُ وَالله سُبْحَانَهُ ولي التَّوْفِيق بفضله إِن الْهِجْرَة من أَرض الْكفْر إِلَى أَرض الْإِسْلَام فَرِيضَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَكَذَلِكَ الْهِجْرَة من أَرض الْحَرَام وَالْبَاطِل بظُلْم أَو فتْنَة قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يُوشك أَن يكون خير مَال الْمُسلم غنم يتبع بهَا شعب الْجبَال ومواقع الْقطر يفر بِدِينِهِ من الْفِتَن) أخرجه البُخَارِيّ والموطأ وَأَبُو دَاوُود وَالنَّسَائِيّ وَقد روى أَشهب عَن مَالك (لَا يُقيم أحد فِي مَوضِع يعْمل فِيهِ بِغَيْر الْحق) قَالَ فِي (الْعَارِضَة) فَإِن قيل فَإِذا لم يُوجد بلد إِلَّا كَذَلِك قلت يخْتَار الْمَرْء أقلهَا إِثْمًا مثل أَن يكون الْبَلَد فِيهِ كفر فبلد فِيهِ جور خير مِنْهُ أَو بلد فِيهِ عدل وَحرَام فبلد فِيهِ جور وحلال خير مِنْهُ للمقام أَو بلد فِيهِ معاص فِي حُقُوق الله فَهُوَ أولى من بلد فِيهِ معاص فِي مظالم الْعباد وَهَذَا الأنموذج دَلِيل على مَا رَوَاهُ وَقد قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ فلَان بِالْمَدِينَةِ وَفُلَان بِمَكَّة وَفُلَان بِالْيمن وَفُلَان بالعراق وَفُلَان بِالشَّام امْتَلَأت الأَرْض وَالله جورا وظلما انْتهى الحديث: 2 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 3 - لَا تجوز الْإِقَامَة إِلَّا فِي حَالَة الْعَجز عَن الْهِجْرَة بِكُل وَجه الْأَدِلَّة من الْقُرْآن الْكَرِيم وَلَا يسْقط هَذِه الْهِجْرَة الْوَاجِبَة على هَؤُلَاءِ الَّذين استولى الطاغية لعنة الله تَعَالَى على معاقلهم وبلادهم إِلَّا تصور الْعَجز عَنْهَا بِكُل وَجه وَحَال لَا الوطن وَالْمَال فَإِن ذَلِك كُله ملغى فِي نظر الشَّرْع (84 ب) قَالَ الله تَعَالَى {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ من الرِّجَال وَالنِّسَاء والولدان لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا فَأُولَئِك عَسى الله أَن يعْفُو عَنْهُم وَكَانَ الله عفوا غَفُورًا} فَهَذَا الإستضعاف المعفو عَمَّن اتّصف بِهِ غير الاستضعاف المعتذر بِهِ فِي أول الْآيَة وصدرها وَهُوَ قَول الظالمي أنفسهم {كُنَّا مستضعفين فِي الأَرْض} فَإِن الله تَعَالَى لم يقبل قَوْلهم فِي الِاعْتِذَار بِهِ فَدلَّ على أَنهم كَانُوا قَادِرين على الْهِجْرَة من وَجه مَا وَعَفا عَن الاستضعاف الَّذِي لَا يُسْتَطَاع مَعَه حِيلَة وَلَا يهتدى بِهِ سَبِيل بقوله {فَأُولَئِك عَسى الله أَن يعْفُو عَنْهُم} عَسى من الله واجبه فالمستضعف المعاقب فِي صدر الْآيَة هُوَ الْقَادِر من وَجه والمستضعف المعفو عَنهُ فِي عجزها هُوَ الْعَاجِز من كل وَجه فَإِذا عجز الْمُبْتَلى بِهَذِهِ الْإِقَامَة عَن الْفِرَار بِدِينِهِ وَلم يسْتَطع سَبِيلا إِلَيْهِ وَلَا ظَهرت لَهُ حِيلَة الحديث: 3 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وَلَا قدرَة عَلَيْهِ بِوَجْه وَلَا حَال وَكَانَ بِمَثَابَة المقعد أَو المأسور أَو كَانَ مَرِيضا جدا أَو ضَعِيفا جدا فَحِينَئِذٍ يُرْجَى لَهُ الْعَفو وَيصير بِمَثَابَة الْمُكْره على التَّلَفُّظ بالْكفْر وَمَعَ هَذَا لَا بُد أَن تكون لَهُ نِيَّة قَائِمَة أَنه لَو قدر وَتمكن لهاجر وعزم صَادِق مستصحب أَنه إِن ظفر بمكنة وقتا مَا فيهاجر وَأما المستطيع بِأَيّ وَجه كَانَ وَبِأَيِّ حِيلَة تمكنت فَهُوَ غير مَعْذُور وظالم لنَفسِهِ إِن أَقَامَ حَسْبَمَا تضمنته الْآيَات وَالْأَحَادِيث الواردات قَالَ الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة وَقد كفرُوا بِمَا جَاءَكُم من الْحق} إِلَى قَوْله {وَمن يَفْعَله مِنْكُم فقد ضل سَوَاء السَّبِيل} وَقَالَ الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا بطانة من دونكم لَا يألونكم خبالا ودوا مَا عنتم قد بَدَت الْبغضَاء من أَفْوَاههم وَمَا تخفي صُدُورهمْ أكبر قد بَينا لكم الْآيَات إِن كُنْتُم تعقلون} وَقَالَ الله تَعَالَى {لَا يتَّخذ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ وَمن يفعل ذَلِك فَلَيْسَ من الله فِي شَيْء إِلَّا أَن تتقوا مِنْهُم تقاة ويحذركم الله نَفسه وَإِلَى الله الْمصير} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 (85 أ) وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تركنوا إِلَى الَّذين ظلمُوا فتمسكم النَّار وَمَا لكم من دون الله من أَوْلِيَاء ثمَّ لَا تنْصرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {بشر الْمُنَافِقين بِأَن لَهُم عذَابا أَلِيمًا الَّذين يتخذون الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ أيبتغون عِنْدهم الْعِزَّة فَإِن الْعِزَّة لله جَمِيعًا} إِلَى قَوْله {وَلنْ يَجْعَل الله للْكَافِرِينَ على الْمُؤمنِينَ سَبِيلا} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ أتريدون أَن تجْعَلُوا لله عَلَيْكُم سُلْطَانا مُبينًا} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا} الَّذين اتَّخذُوا دينكُمْ هزوا وَلَعِبًا من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَالْكفَّار أَوْلِيَاء وَاتَّقوا الله إِن كُنْتُم مُؤمنين وَإِذا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاة اتَّخَذُوهَا هزوا وَلَعِبًا ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعْقلُونَ) وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم رَاكِعُونَ وَمن يتول الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا فَإِن حزب الله هم الغالبون} وَقَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين تَوَفَّاهُم الْمَلَائِكَة ظالمي أنفسهم قَالُوا فيمَ كُنْتُم قَالُوا كُنَّا مستضعفين فِي الأَرْض قَالُوا ألم تكن أَرض الله وَاسِعَة فتهاجروا فِيهَا فَأُولَئِك مأواهم جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ من الرِّجَال وَالنِّسَاء والولدان لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا فَأُولَئِك عَسى الله أَن يعْفُو عَنْهُم وَكَانَ الله عفوا غَفُورًا} وَقَالَ تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 {ترى كثيرا مِنْهُم يتولون الَّذين كفرُوا لبئس مَا قدمت لَهُم أنفسهم أَن سخط الله عَلَيْهِم وَفِي الْعَذَاب هم خَالدُونَ وَلَو كَانُوا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالنَّبِيّ وَمَا أنزل إِلَيْهِ مَا اتخذوهم أَوْلِيَاء وَلَكِن كثيرا مِنْهُم فَاسِقُونَ} والظالمون أنفسهم فِي هَذِه الْآيَة السَّابِقَة إِنَّمَا هم التاركون لِلْهِجْرَةِ مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهَا حَسْبَمَا تضمنه قَوْله تَعَالَى {ألم تكن أَرض الله وَاسِعَة فتهاجروا فِيهَا} فظلمهم أنفسهم إِنَّمَا كَانَ بِتَرْكِهَا وَهِي الْإِقَامَة مَعَ الْكفَّار وتكثير سوادهم وَقَوله {تَوَفَّاهُم الْمَلَائِكَة} فِيهِ تَنْبِيه على أَن الموبخ على ذَلِك والمعاقب عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ من مَاتَ مصرا على هَذِه الْإِقَامَة (85 ب) وَأما من تَابَ عَن ذَلِك وَهَاجَر وأدركه الْمَوْت وَلَو بِالطَّرِيقِ فتوفاه الْملك خَارِجا عَنْهُم فيرجى قبُول تَوْبَته أَلا يَمُوت ظَالِما لنَفسِهِ وَيدل ذَلِك ايضا على قَول الله تَعَالَى {وَمن يخرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله وَرَسُوله} إِلَى قَوْله {وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} فَهَذِهِ الْآي القرآنية كلهَا أَو أَكْثَرهَا مَا سوى قَوْله {ترى كثيرا مِنْهُم} إِلَى آخرهَا نُصُوص فِي تَحْرِيم الْمُوَالَاة الكفرانية وَأما قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} فَمَا أبقت مُتَعَلقا إِلَى التطرق لهَذَا التَّحْرِيم وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذين اتَّخذُوا دينكُمْ هزوا وَلَعِبًا من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَالْكفَّار أَوْلِيَاء وَاتَّقوا الله إِن كُنْتُم مُؤمنين} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 4 - من أجَاز هَذِه الْإِقَامَة مارق من الدّين ومفارق لجَماعَة الْمُسلمين وتكرار الْآيَات فِي هَذَا الْمَعْنى وجريها على نسق ووتيرة وَاحِدَة مُؤَكد للتَّحْرِيم وَرَافِع للاحتمال المتطرق إِلَيْهِ فَإِن الْمَعْنى إِذا نَص عَلَيْهِ وأكد بالتكرار فقد ارْتَفع الِاحْتِمَال لَا شكّ فتتعاضد هَذِه النُّصُوص القرآنية وَالْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة والاجماعات القطعية على هَذَا النَّهْي فَلَا تَجِد فِي تَحْرِيم هَذِه الْإِقَامَة وَهَذِه الْمُوَالَاة الكفرانية مُخَالفا من أهل الْقبْلَة المتمسكين بِالْكتاب الْعَزِيز الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد فَهُوَ تَحْرِيم مَقْطُوع بِهِ من الدّين كتحريم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَقتل النَّفس بِغَيْر حق وأخواته من الكليات الْخمس الَّتِي أطبق أَرْبَاب الْملَل والأديان على تَحْرِيمهَا وَمن خَالف الْآن فِي ذَلِك أَو رام الْخلاف من المقيمين مَعَهم والراكنين إِلَيْهِم فجوز هَذِه الْإِقَامَة واستخف أمرهَا واستسهل حكمهَا فَهُوَ مارق من الدّين ومفارق لجَماعَة الْمُسلمين ومحجوج بِمَا لَا مدفع فِيهِ لمُسلم ومسبوق بالاجماع الَّذِي لَا سَبِيل إِلَى مُخَالفَته وخرق سَبيله 5 - رَأْي أبي الْوَلِيد بن رشد الْجد تَحْرِيم الْإِقَامَة قَالَ زعيم الْفُقَهَاء القَاضِي أَبُو الْوَلِيد بن رشد رَحمَه الله فِي أول (كتاب التِّجَارَة) (86 أ) إِلَى أَرض الْحَرْب من مقدماته فرض الْهِجْرَة غير سَاقِط بل الْهِجْرَة بَاقِيَة لَازِمَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَاجِب بِإِجْمَاع الْمُسلمين على من أسلم بدار الْحَرْب أَن لَا يُقيم بهَا حَيْثُ تجرى عَلَيْهِ أَحْكَام الْمُشْركين وَأَن يهجرها وَيلْحق بدار الْمُسلمين حَيْثُ تجرى عَلَيْهِ أحكامهم قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَنا برىء من كل مُسلم مُقيم مَعَ الْمُشْركين) إِلَّا أَن الْهِجْرَة لَا الحديث: 4 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 يحرم على المُهَاجر بهَا الرُّجُوع إِلَى وَطنه إِن عَاد دَار إِيمَان وَإِسْلَام كَمَا حرم على الْمُهَاجِرين من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الرُّجُوع) إِلَى مَكَّة للَّذي ادخره الله لَهُم من الْفضل فِي ذَلِك قَالَ فَإِذا وَجب بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة على من أسلم الْحَرْب أَن يهجره وَيلْحق بدار الْمُسلمين وَلَا يثوى بَين الْمُشْركين وَيُقِيم بَين أظهرهم لِئَلَّا تجرى عَلَيْهِم أحكامهم فَكيف يُبَاح لأحد الدُّخُول إِلَى بِلَادهمْ حَيْثُ تجرى عَلَيْهِ أحكامهم فِي تِجَارَة أَو غَيرهَا وَقد كره مَالك رَحمَه الله أَن يسكن أحد بِبَلَد يسب فِيهِ السّلف فَكيف بِبَلَد يكفر فِيهِ بالرحمن وَتعبد فِيهِ من دونه الْأَوْثَان لَا تَسْتَقِر نفس أحد على هَذَا إِلَّا مُسلم مَرِيض الايمان انْتهى 6 - مناقشة فقهية حول رأى ابْن رشد فَإِن قلت الْمُسْتَفَاد من كَلَام صَاحب الْمُقدمَات وَغَيره من الْفُقَهَاء الْمُتَقَدِّمين صُورَة طروء الاسلام على الاقامة بَين أظهر الْمُشْركين وَالصُّورَة الْمَسْئُول عَنْهَا هِيَ صُورَة طروء الاقامة على أَصَالَة الاسلام وَبَين الصُّورَتَيْنِ بون بعيد فَلَا يحسن الِاسْتِدْلَال بِهِ على الصُّورَة الْمَسْئُول الْآن عَن حكمهَا الحديث: 6 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 قلت تفقه الْمُتَقَدِّمين إِنَّمَا كَانَ فِي تَارِك الْهِجْرَة مُطلقًا ومثلوا ذَلِك بِصُورَة من صوره وَهُوَ من أسلم فِي دَار الْحَرْب وَأقَام وَهَذِه الْمَسْئُول عَنْهَا أَيْضا صُورَة ثَانِيَة من صوره لَا تخَالف الأولى المتمثل بهَا إِلَّا فِي طروء الْإِقَامَة خَاصَّة فالصورة الأولى المتمثل بهَا بهَا عِنْدهم طَرَأَ الاسلام فِيهَا على الاقامة وَالصُّورَة الثَّانِيَة الملحقة بهَا الْمَسْئُول عَنْهَا طرأت الأقامة فِيهَا على الاسلام وَاخْتِلَاف الطروء فرق صورى وَهُوَ غير مُعْتَبر فِي استدعاء (86 ب) نَص قصر الحكم عَلَيْهِ وانتهائه إِلَيْهِ وَإِنَّمَا خص من تقدم من أَئِمَّة الْهدى المقتدى بهم الْكَلَام بِصُورَة من أسلم وَلم يُهَاجر لِأَن هَذِه الْمُوَالَاة الشركية كَانَت مفقودة فِي صدر الاسلام وعزته وَلم تحدث على مَا قيل إِلَّا بعد مُضِيّ مئين من السنين وَبعد انْقِرَاض أَئِمَّة الْأَمْصَار الْمُجْتَهدين فَلذَلِك لَا شكّ لم يتَعَرَّض لأحكامها الْفِقْهِيَّة أحد مِنْهُم ثمَّ لما نبغت هَذِه الْمُوَالَاة النَّصْرَانِيَّة فِي الْمِائَة الْخَامِسَة وَمَا بعْدهَا من تَارِيخ الْهِجْرَة وَقت اسْتِيلَاء ملاعين النَّصَارَى دمرهم الله على جَزِيرَة صقلية وَبَعض كور الأندلس سُئِلَ عَنْهَا بعض الْفُقَهَاء واستفهموا عَن الْأَحْكَام الْفِقْهِيَّة الْمُتَعَلّقَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 بمرتكبها فَأجَاب بِأَن أحكامهم جَارِيَة مَعَ أَحْكَام من أسلم وَلم يُهَاجر والحقوا هَؤُلَاءِ الْمَسْئُول عَنْهُم والمسكوت عَن حكمهم بهم وسووا بَين الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْأَحْكَام الْفِقْهِيَّة والمتعلقة بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادهمْ وَلم يرَوا فِيهَا فرقا بَين الْفَرِيقَيْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا فِي مُوالَاة الْأَعْدَاء ومساكنتهم ومداخلتهم وملابستهم وَعدم مباينتهم وَترك الْهِجْرَة الْوَاجِبَة عَلَيْهِم والفرار مِنْهُم وَسَائِر الْأَسْبَاب الْمُوجبَة لهَذِهِ الْأَحْكَام الْمَسْكُوت عَنْهَا فِي الصُّورَة الْمَسْئُول عَن فَرضهَا بِمَثَابَة وَاحِدَة فألحقوا رضى الله عَنْهُم الْأَحْكَام الْمَسْكُوت عَنْهَا فِي هَؤُلَاءِ الْمَسْكُوت عَنْهُم بِالْأَحْكَامِ المتفقه فِيهَا فِي أُولَئِكَ فَصَارَ اجْتِهَاد الْمُتَأَخِّرين فِي هَذَا مُجَرّد إِلْحَاق لمسكوت عَنهُ بمنطوق بِهِ مسَاوٍ لَهُ فِي الْمَعْنى من كل وَجه وَهُوَ مِنْهُم رَضِي الله عَنْهُم عدل من النّظر واحتياط فِي الِاجْتِهَاد وركون إِلَى الْوُقُوف مَعَ من تقدم من أَئِمَّة الْهدى المقتدى بهم فَكَانَ غَايَة فِي الْحسن والزين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 7 - الْأَدِلَّة من الحَدِيث الشريف وَأما الِاحْتِجَاج على تَحْرِيم هَذِه الْإِقَامَة من السّنة فبمَا خرجه التِّرْمِذِيّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث سَرِيَّة إِلَى خثعم فاعتصم نَاس بِالسُّجُود فأسرع فيهم الْقَتْل وَبلغ ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (87 أ) فَأمر لَهُم بِنصْف الْعقل وَقَالَ (انا برىء من كل مُسلم يُقيم بَين أظهر الْمُشْركين) قَالُوا يَا رَسُول الله وَلم قَالَ (لَا تتراءى ناراهما) وَفِي الْبَاب أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تساكنوا الْمُشْركين وَلَا تجامعوهم فَمن ساكنهم أَو جامعهم فهم مِنْهُم والتنصيص فِي هذَيْن الْحَدِيثين على الْمَقْصُود بِحَيْثُ لَا يخفى على أحد مِمَّن لَهُ نظر سليم وترجيح مُسْتَقِيم وَقد ثبتا فِي الحسان من المصنفات السِّتَّة الَّتِي تَدور عَلَيْهَا رحى الاسلام قَالُوا وَلَا معَارض لَهما وَلَا نَاسخ وَلَا مُخَصص وَلَا غَيرهمَا ومقتضاهما لَا مُخَالف لَهما من الْمُسلمين وَذَلِكَ كَاف فِي الِاحْتِجَاج بهما هَذَا مَعَ اعتضاضهما بنصوص الْكتاب وقواعد الشَّرْع وشهادتهما لَهما الحديث: 7 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وَفِي سنَن أبي دَاوُود من التَّوْبَة حَدِيث مُعَاوِيَة قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَا تَنْقَطِع الْهِجْرَة حَتَّى تَنْقَطِع التَّوْبَة وَلَا تَنْقَطِع النّوبَة حَتَّى تطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا وَفِيه من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم فتح مَكَّة (لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح وَلَكِن جِهَاد وَنِيَّة وَإِن استنفرتم فانفروا) 8 - رأى أبي سُلَيْمَان الْخطابِيّ الْأَمر فِي الْهِجْرَة إِلَى النّدب والاستحباب قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ كَانَت الْهِجْرَة فِي أول الاسلام مَنْدُوبًا إِلَيْهَا غير مَفْرُوضَة وَذَلِكَ قَوْله سُبْحَانَهُ {وَمن يُهَاجر فِي سَبِيل الله يجد فِي الأَرْض مراغما كثيرا وسعة} نزل حِين اشْتَدَّ أَذَى الْمُشْركين على الْمُسلمين بِمَكَّة ثمَّ وَجَبت الْهِجْرَة على الْمُسلمين عِنْد خُرُوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمَدِينَة وَأمرُوا بالإنتقال إِلَى حَضرته ليك ونوا مَعَه فيتعاونوا ويتظاهر إِن حزبهم أَمر وليتعلموا أَمر دينهم وليتفقهوا فِيهِ وَكَانَ عظم الْخَوْف فِي ذَلِك الزَّمَان من قُرَيْش وهم اهل مَكَّة فَلَمَّا فتحت مَكَّة وبخعت بِالطَّاعَةِ زَالَ ذَلِك الْمَعْنى وارتفع وجوب الْهِجْرَة وَعَاد الْأَمر فِيهَا إِلَى النّدب والاستحباب فهما هجرتان فالمنطعة مِنْهُمَا هِيَ الْفَرْض والباقية هِيَ النّدب فَهَذَا وَجه (87 ب) الْجمع بَين الْحَدِيثين على أَن بَين الاسنادين مَا بَينهمَا اسناد حَدِيث ابْن عَبَّاس مُتَّصِل صَحِيح وأسناد (حَدِيث) مُعَاوِيَة فِيهِ مقَال انْتهى الحديث: 8 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 9 - نقض رَأْي أبي سُلَيْمَان الْخطابِيّ قلت هَاتَانِ الهجرتان اللَّتَان تضمنهما حَدِيث مُعَاوِيَة وَحَدِيث ابْن عَبَّاس هما الهجرتان اللَّتَان انْقَطع فرضهما بِفَتْح مَكَّة فالهجرة الأولى الْهِجْرَة من الْخَوْف على الدّين وَالنَّفس كهجرة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه المكيين فَإِنَّهَا كَانَت عَلَيْهِم فَرِيضَة لَا يجزى إِيمَان دونهَا وَالثَّانيَِة هِيَ الْهِجْرَة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي دَاره الَّتِي اسْتَقر فِيهَا فقد بَايع من قَصده على الْهِجْرَة وَبَايع آخَرين على الْإِسْلَام 10 - رَأْي أبي بكر بن الْعَرَبِيّ من بقى عصى وَيخْتَلف فِي حَاله وَأما الْهِجْرَة من أَرض الْكفْر فَهِيَ فَرِيضَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي الْأَحْكَام الذّهاب فِي الأَرْض يَنْقَسِم إِلَى سِتَّة اقسام الأول الْهِجْرَة وَهِي الْخُرُوج من دَار الْحَرْب إِلَى دَار الْإِسْلَام وَكَانَت فرضا فِي أَيَّام النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَهَذِه الْهِجْرَة بَاقِيَة مَفْرُوضَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَالَّتِي انْقَطَعت بِالْفَتْح هِيَ الْقَصْد إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ كَانَ فَإِن بَقِي فِي دَار الْحَرْب عصى وَيخْتَلف فِي حَاله وَانْظُر بَقِيَّة اقسام الْهِجْرَة فِيهَا وَقَالَ فِي الْعَارِضَة إِن الله حرم أَولا على الْمُسلمين أَن يقيموا بَين أظهر الْمُشْركين بِمَكَّة وافترض عَلَيْهِم أَن يلْحقُوا بِالنَّبِيِّ بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا فتح الله مَكَّة سَقَطت الْهِجْرَة وَبَقِي تَحْرِيم الْمقَام بَين أظهر الْمُشْركين وَهَؤُلَاء الَّذين اعتصموا بِالسُّجُود وَلم يَكُونُوا اسلموا واقاموا مَعَ الْمُشْركين إِنَّمَا كَانَ اعتصامهم فِي الْحَال نعم إِنَّه لَا يحل قتل من بَادر إِلَى الاسلام إِذا رأى السَّيْف على رَأسه الحديث: 9 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 باجماع من الْأَئِمَّة وَلَكِن قتلوا لأحد مَعْنيين إِمَّا لِأَن السُّجُود لَا يعْصم وَإِنَّمَا يعْصم الْإِيمَان بِالشَّهَادَتَيْنِ لفظا وَإِمَّا لِأَن الَّذين قتلوهم لم يَكُونُوا يعلمُونَ أَن ذَلِك يعصمهم وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فَإِن بني جذيمة لما اسرع خَالِد فيهم الْقَتْل قَالُوا صبأنا صبانا وَلم يحسنوا أَن يَقُولُوا اسلمنا فَقَتلهُمْ فوداهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بخطأ خَالِد وَخطأ الامام وعامله (88 أ) فِي بَيت المَال 11 - مسالة فرعية النُّطْق بِالشَّهَادَتَيْنِ شَرط الْإِسْلَام قَالَ وَهَذَا يدل على أَنه لَيْسَ بِشَرْط الاسلام قَول لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله على التَّعْيِين وَإِنَّمَا وداهم نصف الْعقل على معنى الصُّلْح والمصلحة كَمَا ودى أهل جذيمة بمثلي ذَلِك على مَا اقتضته حَال كل وَاحِد فِي قَوْله 12 - حكم دم الْمُقِيم بدار الْحَرْب وَمَاله هَل العاصم الْإِسْلَام أم الدَّار راي مَالك بن أنس وَقد اخْتلف النَّاس فِيمَن اسْلَمْ وَبَقِي بدار الْحَرْب فَقتل أَو أسر أَو سبى أَهله وَمَاله فَقَالَ مَالك حقن دَمه وَمَاله لمن أَخذه حَتَّى يحوزه بدار الْإِسْلَام وَقيل عَنهُ إِنَّه يجوز مَاله وَأَهله وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَالْمَسْأَلَة مُحَققَة فِي مسَائِل الْخلاف مَبْنِيَّة على أَن الْحَرْبِيّ هَل يملك ملكا صَحِيحا أم لَا وَأَن العاصم هَل هُوَ الاسلام أَو الدَّار فَمن ذهب إِلَى أَنه يملك ملكا صَحِيحا تمسك بقوله عَلَيْهِ السَّلَام هَل ترك لنا عقيل من دَار وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ الحديث: 11 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وَسلم أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله فَإِذا قالوها عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا فسوى بَين الدِّمَاء وَالْأَمْوَال وأضافها إِلَيْهِم والاضافة تقتضى التَّمْلِيك ثمَّ أخبر عَمَّن أسلم مِنْهُم أَنه مَعْصُوم وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَلا يكون لأحد عَلَيْهِ سَبِيل وَتمسك أَيْضا من أتبعه مَاله بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أسلم على شَيْء فَهُوَ لَهُ وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يحل مَال إمرىء مُسلم إِلَّا عَن طيب نفس مِنْهُ وَأما مَالك وَأَبُو حنيفَة وَمن قَالَ بقولهمَا فعندهم أَن العاصم إِنَّمَا هُوَ الدَّار فَمَا لم يحز الْمُسلم مَاله وَولده بدار الاسلام وَإِلَّا فَمَا أُصِيب من ذَلِك بدار الْكفْر فَهُوَ فَيْء للْمُسلمين وَكَانَ الْكفَّار عِنْدهم لايملكون بل أَمْوَالهم وَأَوْلَادهمْ حَلَال لمن يقدر عَلَيْهَا من الْمُسلمين كدمائهم فَمن أسلم مِنْهُم وَلم يحز مَالا وَلَا ولدا بدار الاسلام فَكَأَنَّهُ لَا مَال لَهُ وَلَا ولد وَكَأن الْيَد للْكفَّار كَمَا أَن الدَّار لَهُم وَلَيْسَت يَد صَاحبه الإسلامي يدا إِذْ كَانَ بَين أظهرهم 13 - رَأْي أبي بكر بن الْعَرَبِيّ العاصم للدم الاسلام وللمال الدَّار وَرَأى الشَّافِعِي العاصم لَهما جَمِيعًا الْإِسْلَام وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ أَيْضا العاصم لدم الْمُسلم الْإِسْلَام (88 ب) ولماله الدَّار وَقَالَ الشَّافِعِي العاصم لَهما جَمِيعًا هُوَ الْإِسْلَام وَقَالَ أَبُو حنيفَة العاصم الْمُقَوّم لَهما هُوَ الدَّار والمؤثم هُوَ الْإِسْلَام وَتَفْسِير ذَلِك أَن من أسلم وَلم يُهَاجر حَتَّى قتل فَإِنَّهُ تجب فِيهِ الْكَفَّارَة عِنْده دون الدِّيَة والقود وَلَو هَاجر لَوَجَبَتْ الْكَفَّارَة وَالدية على عَاقِلَته قيل فعلى هَذَا دَمه محقون عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ وَقَتله خطأ لَا دِيَة فِيهِ عِنْد أبي حنيفَة وَإِنَّمَا فِيهِ الْكَفَّارَة خَاصَّة وَهُوَ الظَّاهِر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 قَول الْمُفَسّرين وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى {وَالَّذين آمنُوا وَلم يهاجروا مَا لكم من ولايتهم من شَيْء حَتَّى يهاجروا} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِن كَانَ من قوم عَدو لكم وَهُوَ مُؤمن فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} وَلم يذكر دِيَة قَالُوا وَالْمرَاد بِهَذَا الْمُؤمن إِنَّمَا هُوَ الْمُسلم الَّذِي لم يُهَاجر لِأَنَّهُ مُؤمن فِي قوم أَعدَاء فَهُوَ مِنْهُم لقَوْله تَعَالَى {وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم} فَهُوَ مُؤمن من قوم عَدو فَلَمَّا ذكر الدِّيَة فِي أول الْآيَة فِي الْمُؤمن الْمُطلق وَفِي آخرهَا فِي الْمُؤمن الَّذِي قومه تَحت عهدنا وميثاقنا وهم الذميون وَسكت عَنْهَا فِي هَذَا الْمُؤمن الَّذِي بَين الْأَعْدَاء دلّ على سُقُوطهَا وَأَنه إِنَّمَا أوجب فِيهِ الْكَفَّارَة خَاصَّة هَذَا حكم دَمه قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ وَهَذِه الْمَسْأَلَة خراسانية عظما لم تبلغها الْمَالِكِيَّة وَلَا عرفتها الْأَئِمَّة العراقية فَكيف بالمقلدة المغربية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 14 - رَأْي أَصْحَاب أبي حنيفَة الدَّار لَا تعصم الونشريشي ينْقض هَذَا الرَّأْي احْتج أَصْحَاب أَبى حنيفَة على أَن العاصم الدَّار بِأَن التَّحَرُّز والاعتصام والامتناع إِنَّمَا يكون بالحصون والقلاع وَأَن الْكَافِر إِذا صَار فِي دَارنَا عصم دَمه وَمَاله فَصَارَ كَالْمَالِ إِذا كَانَ مطروحا على الطَّرِيق لم يلْزم فِيهِ قطع وَإِذا حوز بحوزة كَانَ مَضْمُونا بِالْقطعِ وَاحْتج الشَّافِعِي بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرت أَن أقَاتل النَّاس الحَدِيث فنص على أَن الْعِصْمَة للنَّفس وَالْمَال إِنَّمَا تكون بِكَلِمَة الْإِسْلَام وَلَو أَن مُسلما دخل إِلَى دَار الْحَرْب (89 أ) فَإِنَّهُ مَعْصُوم الدَّم وَالْمَال وَالدَّار مَعْدُومَة وَأما قَول أَصْحَابنَا إِن الاسلام عَاصِم للنَّفس دون الْوَلَد وَالْمَال وَقَول أَصْحَاب أبي حنيفَة إِن التَّحَرُّز والتعصم يكون بالقلاع فَكَلَام فأسد لِأَنَّهُ تعلق بالعصمة الحسية الَّتِي يكتسبها الْكَافِر والمحارب وَلَا يَعْتَبِرهَا الشَّرْع وَإِنَّمَا الْكَلَام على مَا يعتبره الشَّرْع أَلا ترى أَن الْمُحَارب من الْمُسلمين وَالْكَافِر يتحصنان بالقلاع ودمهما وأموالهما مباحان أَحدهمَا على الاطلاق وَالثَّانِي يشْتَرط أَن يسْتَمر وَلَا يقْلع ويتمادى ويتمنع وَلَكِن المَال إِنَّمَا يمنعهُ إِحْرَاز صَاحبه لَهُ بِكَوْنِهِ مَعَه فِي حرز الحديث: 14 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 قلت بقول الشَّافِعِي قَالَ أَشهب وَسَحْنُون وَهُوَ اخْتِيَار القَاضِي أبي بكر بن الْعَرَبِيّ حَسْبَمَا تضمنه كَلَامه الْآن وَبقول مَالك قَالَ أَبُو حنيفَة وَأصبغ بن الْفرج وَاخْتَارَهُ ابْن رشد وَهُوَ الْمَشْهُور عَن مَالك رَحمَه الله ومنشأ الْخلاف مَا مر تَقْرِيره 15 - رَأْي ابْن الْحَاج لَيْسَ لأحد على مَال الْمُسلم الْمُقِيم بدار الْحَرْب أَو دَمه سَبِيل وأجرى الْفَقِيه القَاضِي الشهير أَبُو عبد الله بن الْحَاج وَغَيره من الْمُتَأَخِّرين مَال هَذَا الْمُسلم الْمَسْئُول عَنهُ الْمُقِيم بدار الْحَرْب وَلم يبرح عَنْهَا بعد اسْتِيلَاء الطاغية عَلَيْهَا على هَذَا الْخلاف الْمُتَقَدّم بَين عُلَمَاء الْأَمْصَار فِي مَال من أسلم وَأقَام بدار الْحَرْب ثمَّ فرق ابْن الْحَاج بعد الْإِلْحَاق والتسوية فِي هَذِه الْأَحْكَام الملحقة بِأَن مَال من أسلم كَانَ مُبَاحا قبل إِسْلَامه بِخِلَاف مَال الْمُسلم لِأَن يَده لم تزل وَلَا تقدم لَهُ فِي وَقت مَا كفر مُبِيح مَاله وَولده يَوْمًا للْمُسلمين فَلَيْسَ لأحد عَلَيْهِمَا من سَبِيل وَهُوَ رَاجِح من القَوْل وواضح من الِاسْتِدْلَال وَالنَّظَر وَظَاهر عِنْد التَّأَمُّل لمنشأ الْخلاف الَّذِي تقدم بَيَانه على مَا لَا يخفى ويعتضد هَذَا الْفرق بِنَصّ آخر مسئلة من سَماع يحيي من كتاب الْجِهَاد وَلَفظه الحديث: 15 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 16 - رَأْي ابْن الْحَاج فِي الْمُسلمين المتخلفين فِي برشلونه الَّذين يشتركون مَعَ النَّصَارَى فِي الإغارة على الْمُسلمين وَسَأَلته عَمَّن تخلف من أهل برشلونه من الْمُسلمين عَن الارتحال عَنْهَا بعد السّنة الَّتِي أجلت لَهُم يَوْم فتحت فِي ارتحالهم فَأَغَارَ (89 ب) على الْمُسلمين تعوذا مِمَّا يخَاف من الْقَتْل إِن ظفر بِهِ فَقَالَ مَا أرَاهُ إِلَّا بِمَنْزِلَة الْمُحَارب الحديث: 16 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الَّذِي يتلصص بدار الْإِسْلَام من الْمُسلمين وَذَلِكَ أَنه مُقيم على دين الْإِسْلَام فَإِن أُصِيب فَأمره إِلَى الامام يحكم فِيهِ بِمثل مَا يحكم فِي أهل الْفساد والحرابه وَأما فِي مَاله فَلَا أرَاهُ يحل لأحد اصابه انْتهى مَحل الْحَاجة مِنْهُ ابْن رشد قَوْله إِنَّهُم فِي غارتهم على الْمُسلمين بِمَنْزِلَة الْمُحَاربين صَحِيح لَا اخْتِلَاف فِيهِ لِأَن الْمُسلم إِذا حَارب فَسَوَاء أَكَانَت حرابته فِي بلد الْإِسْلَام أَو فِي بلد الْكفْر الحكم فِيهِ سَوَاء وَأما قَوْله فِي مَاله أَنه لَا يحل لأحد أَصَابَهُ فَهُوَ خلاف ظَاهر قَول مَالك فِي الْمُدَوَّنَة فِي الَّذِي يسلم فِي دَار الْحَرْب ثمَّ يَغْزُو الْمُسلمُونَ تِلْكَ الدَّار فيصيبون أَهله وَمَاله وَولده أَن ذَلِك كُله فَيْء إِذْ لم يفرق فِيهَا بَين أَن يكون الْجَيْش غنم مَاله وودله قبل خُرُوجه أَو بعد خُرُوجه انْتهى قلت فَظَاهر كَلَام ابْن رشد هَذَا يُؤذن بترجيح خلاف مَا رَجحه معاصره وبلديه القَاضِي أَبُو عبد الله بن الْحَاج فِي مَال هَؤُلَاءِ الْمَسْئُول عَنْهُم وَأَوْلَادهمْ فَتَأَمّله 17 - رَأْي شُيُوخ آخَرين لَا سَبِيل على دِمَاء الْمُسلمين المقيمين مَعَ النَّصَارَى إِلَّا إِذا اشْتَركُوا فِي محاربة الْمُسلمين وَلَا سَبِيل على أَمْوَالهم إِلَّا إِذا أَعَانُوهُم بهَا وَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين من الشُّيُوخ يظْهر أَن الْأَحْكَام الملحقة بهم فِي الْأَنْفس وَالْأَوْلَاد وَالْأَمْوَال جَارِيَة على المقيمين مَعَ النَّصَارَى الْحَرْبِيين على حسب مَا تقرر من الْخلاف وتمهد من التَّرْجِيح ثمَّ إِن حاربونا مَعَ أَوْلِيَائِهِمْ ترجحت حِينَئِذٍ اسْتِبَاحَة دِمَائِهِمْ وَإِن أَعَانُوهُم بِالْمَالِ على قتالنا ترجحت اسْتِبَاحَة أَمْوَالهم وَقد ترجح سبى ذَرَارِيهمْ للاستخلاص من أَيْديهم وإنشائهم بَين أظهر الْمُسلمين آمِنين من الْفِتْنَة فِي الدّين معصومين من مَعْصِيّة ترك الْهِجْرَة الحديث: 17 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 18 - شكوى الْمُهَاجِرين إِلَى أَرض الْإِسْلَام من ضيق المعاش زعم فَاسد وتوهم كاسد لَا رخصَة لأحد فِي الرُّجُوع إِلَى بِلَاد النَّصَارَى بِحَال وَمَا ذكر فِي السُّؤَال من حُصُول النَّدَم والتسخط لبَعض الْمُهَاجِرين من دَار الْحَرْبِيين إِلَى دَار الْمُسلمين لما زعموه من ضيق المعاش وَعدم الانتعاش زعم فَاسد وتوهم كاسد فِي نظر الشَّرِيعَة الغراء فَلَا يتَوَهَّم هَذَا الْمَعْنى ويعتبره ويجعله نصب عَيْنَيْهِ إِلَّا ضَعِيف الْيَقِين بل عديم الْعقل وَالدّين وَكَيف يتخيل هَذَا الْمَعْنى يدلى بِهِ حجَّة فِي إِسْقَاط الْهِجْرَة من دَار الْحَرْب وَفِي بِلَاد الْإِسْلَام (90 أ) أَعلَى الله كَلمته مجَال رحب للقوى والضعيف والثقيل والخفيف وَقد وسع الله الْبِلَاد فيستجير بهَا من أَصَابَته هَذِه الصدمة الكفرانية والصاعقة النَّصْرَانِيَّة فِي الدّين والأهل وَالْأَوْلَاد فقد هَاجر من عَلَيْهِ الصَّحَابَة وأكابرهم رضوَان الله عَلَيْهِم إِلَى أَرض الْحَبَشَة فِرَارًا بدينهم من أَذَى الْمُشْركين من أهل مَكَّة جمَاعَة عَظِيمَة ورفقة كَرِيمَة مِنْهُم جَعْفَر بن أبي طَالب وَأَبُو سَلمَة بن عبد الْأسد وَعُثْمَان بن عَفَّان وَأَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح وَحَال أَرض الْحَبَشَة مَا قد علم وَهَاجَر آخَرُونَ إِلَى غَيرهَا وهجروا أوطانهم وَأَمْوَالهمْ وَأَوْلَادهمْ وآباءهم ونبذوهم وقاتلوهم وحاربوهم تمسكا مِنْهُم بدينهم ورفضا لدنياهم فَكيف بِعرْض من اعراضها لَا يخل تَركه بالتكسب بَين أظهر الْمُسلمين وَلَا يُؤثر رفضه فِي متسع المسترزقين وَلَا سِيمَا بِهَذَا الْقطر الديني المغربي صانه الله وزاده عزا وشرفا ووقاه من الأغيار والأكدار وسطا وطرفا فَإِنَّهُ من أخصب أَرض الله الحديث: 18 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 أَرضًا وأشبعها بلادا طولا وعرضا وخصوصا حَاضِرَة فاس وانظارها ونواحيها من كل الْجِهَات وأقطارها وَلَئِن سلم هَذَا الْوَهم وَعدم صَاحبه وَالْعِيَاذ بِاللَّه الْعقل الرَّاجِح والرأي الناجح والفهم فقد أَقَامَ علما وبرهانا على نَفسه الخسيسة الرذلة بترجيح عرض دنياوي حطامى محتقر على عمل ديني أخروى مدخر وبئست هَذِه المفاضلة والأرجيحة وخاب وخسر من آثرها وَوَقع فِيهَا أما علم المغبون فِي صفقته النادم على هجرته من دَار يدعى فِيهَا التَّثْلِيث وتضرب فِيهَا النواقيس ويعبد فِيهَا الشَّيْطَان وَيكفر بالرحمن أَن لَيْسَ للانسان إِلَّا دينه إِذْ بِهِ نجاته الأبدية وسعادته الأخروية وَعَلِيهِ يبْذل نَفسه النفيسة فضلا عَن جملَة مَاله قَالَ الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تلهكم أَمْوَالكُم وَلَا أَوْلَادكُم عَن ذكر الله وَمن يفعل ذَلِك فَأُولَئِك هم الخاسرون} وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ فتْنَة وَالله عِنْده أجر عَظِيم} وَأعظم فَوَائِد المَال وأجلها عِنْد الْعُقَلَاء إِنْفَاقه فِي سَبِيل الله وابتغاء مرضاته وَكَيف يتقحم بالتشبث (90 ب) ويترامى ويتطارح أَو يتسارع من أَجله إِلَى مُوالَاة العداة وَقد قَالَ تَعَالَى {فترى الَّذين فِي قُلُوبهم مرض يُسَارِعُونَ فيهم يَقُولُونَ نخشى أَن تصيبنا دَائِرَة} والدائرة فِي هَذِه النَّازِلَة فَوَات التَّمَسُّك بعقار المَال فوصف بمرمض الْقلب وَضعف الْيَقِين وَلَو كَانَ قوي الدّين صَحِيح الْيَقِين واثقا بِاللَّه تَعَالَى مُعْتَمدًا عَلَيْهِ وَمُسْندًا ظَهره إِلَيْهِ لما أهمل قَاعِدَة التَّوَكُّل على علو رتبها ونمو ثَمَرَتهَا وشهادتها بِصِحَّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الْإِيمَان ورسوخ الْيَقِين وَإِذا تقرر هَذَا فَلَا رخصَة لأحد مِمَّن ذكرت فِي الرُّجُوع وَلَا فِي عدم الْهِجْرَة بِوَجْه وَلَا حَال فَإِنَّهُ لَا يعْذر مهما توصل إِلَى ذَلِك بِمَشَقَّة فادحة أَو حِيلَة دقيقة بل مهما وجد سَبِيلا إِلَى التَّخَلُّص من ربقة الْكفْر وَحَيْثُ لَا يجد عشيرة تذب عَنهُ وحماة يحْمُونَ عَلَيْهِ ورضى بالْمقَام بمَكَان فِيهِ الضيم على الدّين وَالْمَنْع من إِظْهَار شَعَائِر الْمُسلمين فَهُوَ مارق من الدّين منخرط فِي سلك الْمُلْحِدِينَ وَالْوَاجِب الْفِرَار من دَار غلب عَلَيْهَا أهل الشّرك والخسران إِلَى دَار الْأَمْن وَالْإِيمَان وَلذَلِك قوبلوا فِي الْجَواب عِنْد الِاعْتِذَار بقوله (ألم تكن أَرض الله وَاسِعَة) أَي حَيْثُ مَا توجه المُهَاجر وَإِن كَانَ ضَعِيفا فَإِنَّهُ يجد الأَرْض وَاسِعَة ومتصلة فَلَا عذر بِوَجْه لمستطيع وَإِن كَانَ بِمَشَقَّة فِي الْعَمَل أَو فِي الْحِيلَة أَو فِي اكْتِسَاب الرزق أَو ضيق فِي الْمَعيشَة إِلَّا المستضعف الْعَاجِز رَأْسا الَّذِي لَا يَسْتَطِيع حِيلَة وَلَا يهتدى سَبِيلا وَمن بَادر إِلَى الْفِرَار وسارع فِي الِانْتِقَال من دَار الْبَوَار إِلَى دَار الْأَبْرَار فَذَلِك إِمَارَة ظَاهِرَة فِي الْحَال العاجلة لما يصير إِلَيْهِ حَاله فِي الآجلة لِأَن من يسر لَهُ الْعَمَل الصَّالح كَانَ مأمولا لَهُ الظفر والفوز وَمن تيَسّر لَهُ الْعَمَل الْخَبيث كَانَ مخوفا عَلَيْهِ الْهَلَاك والخسران جعلنَا الله وَإِيَّاكُم مِمَّن يسر لليسرى وانتفع بالذكرى 19 - لابد من إرهاقهم بالعقوبة الشَّدِيدَة والتنكيل المبرح ضربا وسجنا وَمَا ذكرت عَن هَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرين من قَبِيح الْكَلَام وَسَب دَار الْإِسْلَام وَتمنى الرُّجُوع إِلَى دَار الشّرك والأصنام وَغير ذَلِك من الْفَوَاحِش الْمُنكرَة الَّتِي الحديث: 19 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 (91 أ) لَا تصدر إِلَّا من اللئام يُوجب لَهُم خزي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وينزلهم أَسْوَأ الْمنَازل وَالْوَاجِب على من مكنه الله فِي الأَرْض ويسره لليسرى أَن يقبض على هَؤُلَاءِ وَأَن يرهقهم الْعقُوبَة الشَّدِيدَة والتنكيل المبرح ضربا وسجنا حَتَّى لَا يتعدوا حُدُود الله لِأَن فتْنَة هَؤُلَاءِ أَشد ضَرَرا من فتْنَة الْجُوع وَالْخَوْف وَنهب الْأَنْفس وَالْأَمْوَال وَذَلِكَ أَن من هلك هُنَاكَ فَإلَى رَحْمَة الله تَعَالَى وكريم عَفوه وَمن هلك دينه فَإلَى لعنة الله وعظيم سخطه فَإِن محبَّة الْمُوَالَاة الشركية والمساكنة النَّصْرَانِيَّة والعزم على رفض الْهِجْرَة والركون إِلَى الْكفَّار والرضى بِدفع الْجِزْيَة غليهم ونبذ الْعِزَّة الاسلامية وَالطَّاعَة الامامية والبيعة السُّلْطَانِيَّة وَظُهُور السُّلْطَان النَّصْرَانِي عَلَيْهَا وإذلاله إِيَّاهَا فواحش عَظِيمَة مهلكة قاصمة للظهور يكَاد أَن تكون كفرا وَالْعِيَاذ بِاللَّه 20 - الْمُقِيم والراجع بعد الْهِجْرَة والمتمنى الرُّجُوع لَا يحِق لَهُم تولى الْقَضَاء أَو الْإِمَامَة وَلَا تقبل شَهَادَتهم وَأما جرحة الْمُقِيم والراجع بعد الْهِجْرَة والمتمنى للرُّجُوع وتأخيره عَن الْمَرَاتِب الكمالية الدِّينِيَّة من قَضَاء وَشَهَادَة وإمامة فَمَا لَا خَفَاء فِيهِ وَلَا امتراء مِمَّن لَهُ أدنى مسكة من الْفُرُوع الاجتهادية والمسائل الْفِقْهِيَّة وكما لَا تقبل شَهَادَتهم كَذَلِك لَا يقبل خطاب حكامهم قَالَ ابْن عَرَفَة رَحمَه الله وَشرط قبُول خطاب القَاضِي صِحَة ولَايَته لمن تصح تَوليته بِوَجْه احْتِرَازًا من مُخَاطبَة قُضَاة الحديث: 20 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 أهل الدجن كقضاة مسلمى بلنسية وطرطوشة وقوصرة عندنَا وَنَحْو ذَلِك انْتهى 21 - هَل هِيَ تقبل خطابات قُضَاة أهل الدجن وَهل يجوز الرَّد عَلَيْهَا وَسُئِلَ الامام أَبُو عبد الله المازرى رَحمَه الله فِي زَمَانه عَن أَحْكَام تأتى من صقلية من عِنْد قاضيها أَو شُهُود عدُول هَل يقبل ذَلِك مِنْهُم أم لَا مَعَ أَنَّهَا ضَرُورَة وَلَا تدرى إقامتهم هُنَاكَ تَحت أهل الْكفْر هَل هِيَ اضطرار أَو اخْتِيَار 22 - رَأْي المازرى تَحْسِين الظَّن بِالْمُسْلِمين إِذا كَانَ قَاضِي أهل الدجن مُضْطَرّا للاقامة فإقامته لَا تقدح فِي ولَايَته فَأجَاب القادح فِي هَذَا وَجْهَان الأول يشْتَمل على القَاضِي الحديث: 21 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وبيناته من نَاحيَة الْعَدَالَة فَلَا يُبَاح الْمقَام فِي دَار الْحَرْب فِي قياد أهل الْكفْر وَالثَّانِي من نَاحيَة الْولَايَة إِذْ القَاضِي مولى من قبل أهل الْكفْر وَالْأول لَهُ قَاعِدَة (91 ب) يعْتَمد عَلَيْهَا فِي هَذِه المسئلة وَشبههَا وَهِي تَحْسِين الظَّن بِالْمُسْلِمين ومباعدة الْمعاصِي عَنْهُم فَلَا يعدل عَنْهَا لظنون كَاذِبَة وتوهمات واهية كتجويز من ظَاهره الْعَدَالَة وَقد يجوز فِي الخفاء وَفِي نفس الْأَمر أَن يكون ارْتكب كَبِيرَة إِلَّا من قَامَ الدَّلِيل على عصمته وَهَذَا التجويز مطرح وَالْحكم للظَّاهِر إِذْ هُوَ الرَّاجِح إِلَّا ان يظْهر من المخايل مَا يُوجب الْخُرُوج عَن الْعَدَالَة فَيجب التَّوَقُّف حِينَئِذٍ حَتَّى يظْهر مَا يُوجب زَوَال مُوجب راجحية الْعَدَالَة وَيبقى الحكم الظَّاهِر لغَلَبَة الظَّن بعد ذَلِك وَالْحكم هُوَ مُسْتَفَاد من قَرَائِن محصورة فَيعْمل عَلَيْهَا وقرائن الْعَدَالَة مَأْخُوذَة من أَمر مُطلق سلفى متلقى وَقد أمليت فِي هَذَا طرفا فِي شرح الْبُرْهَان وَذكرت طَريقَة أبي الْمَعَالِي وطريقتي لما تكلمنا فِيمَا جرى بَين الصَّحَابَة من الوقايع والفتن رضى الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وَهَذَا الْمُقِيم بِبَلَد الْحَرْب إِن كَانَ اضطرارا فَلَا شكّ أَنه لَا يقْدَح فِي عَدَالَته وَكَذَا إِن كَانَ (متأولا و) تَأْوِيله صَحِيحا مثل إِقَامَته بِبَلَد أهل الْحَرْب لرجاء هِدَايَة أهل الْحَرْب أَو نقلهم عَن ضَلَالَة مَا وَأَشَارَ إِلَيْهِ الباقلاني وكما اشار أَصْحَاب مَالك فِي جَوَاز الدُّخُول لفكاك الْأَسير وَأما لَو أَقَامَ بِحكم الْجَاهِلِيَّة والاعراض عَن التَّأْوِيل اخْتِيَارا فَهَذَا يقْدَح فِي عَدَالَته وَاخْتلف الْمَذْهَب فِي رد شَهَادَة الدَّاخِل اخْتِيَارا لتِجَارَة اخْتلف فِي تَأْوِيل الْمُدَوَّنَة فِيهَا أَشد اخْتِلَاف فَمن ظَهرت عَدَالَته مِنْهُم وَشك فِي إِقَامَته على أَي وَجه فَالْأَصْل عذره لِأَن جلّ الِاحْتِمَالَات السَّابِقَة تشهد لعذره فَلَا ترد لاحْتِمَال وَاحِد إِلَّا أَن تكون قراين تشهد أَن إِقَامَته كَانَت اخْتِيَارا لَا لوجه 23 - تَوْلِيَة الْكَافِر للقضاة والامناء وَاجِب عقلا وَلَا يقْدَح فِي احكامهم وَأما الْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ تَوْلِيَة الْكَافِر للقضاة والامناء وَغَيرهم لحجز النَّاس بَعضهم عَن بعض فَوَاجِب حَتَّى ادّعى بعض أهل الْمَذْهَب أَنه وَاجِب الحديث: 23 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 عقلا وَإِن كَانَ بَاطِلا تَوْلِيَة الْكَافِر لهَذَا القَاضِي إِمَّا بِطَلَب الرّعية لَهُ وإقامته إِيَّاه لَهُم للضَّرُورَة لذَلِك فَلَا يقْدَح فِي حكمه وتنفيذ احكامه كَمَا لَو كَانَ ولاه سُلْطَان مُسلم وَفِي كتاب (92 أ) الْإِيمَان فِي مسالة الْحَالِف ليقضينك حَقك إِلَى أجل اقام شُيُوخ الْمَكَان مقَام السُّلْطَان عِنْد فَقده لما يخَاف من فَوَات الْقَضِيَّة 24 - هَل يجوز للْخَارِج على الإِمَام تَوْلِيَة الْقُضَاة مطرف وَابْن الْمَاجشون يريان أَن ذَلِك يجوز وَعَن مطرف وَابْن الْمَاجشون فِيمَن خرج على الإِمَام وَغلب على بلد فولى قَاضِيا عدلا فأحكامه نَافِذَة انْتهى 25 - رَأْي شُيُوخ الأندلس لَا يجوز قلت وَأفْتى شُيُوخ الأندلس فِيمَن كَانَ فِي ولَايَة الثائر المارق عمر بن حفصون أَنه لَا تجوز شَهَادَتهم وَلَا قبُول خطاب قضاتهم 26 - هَل تقبل ولَايَة الْقَضَاء من الْأَمِير غير الْعدْل رَأْي مَالك لَا تقبل وَاخْتلف فِي قبُول ولَايَة الْقَضَاء من الْأَمِير غير الْعدْل فَفِي رياض النُّفُوس فِي طَبَقَات عُلَمَاء إفريقية لأبي مُحَمَّد عبد الله الْمَالِكِي قَالَ سَحْنُون الحديث: 24 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 اخْتلف أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن فروخ وَابْن غَانِم قَاضِي إفريقية وهما من رُوَاة مَالك رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ ابْن فروخ لَا يَنْبَغِي لقاض إِذا ولاه أَمِير غير عدل أَن يَلِي الْقَضَاء وَقَالَ ابْن غَانِم يجوز أَن يَلِي وَإِن كَانَ الْأَمِير غير عدل فَكتب بهَا إِلَى مَالك فَقَالَ مَالك اصاب الْفَارِسِي يَعْنِي ابْن فروخ وَأَخْطَأ الَّذِي يزْعم أَنه عَرَبِيّ يَعْنِي ابْن غَانِم انْتهى 27 - رَأْي ابْن عرفه يجوز وَقَالَ ابْن عَرَفَة لم يجْعَلُوا قبُوله الْولَايَة للمتغلب الْمُخَالف للامام جرحة لخوف تَعْطِيل الْأَحْكَام انْتهى 28 - الْمُقِيم بِأَرْض النَّصَارَى مرتكب لمعصية كَبِيرَة وَهُوَ معاقب بِالْعَذَابِ الشَّديد إِلَّا أَنه غير مخلد فِي النَّار هَذَا مَا يتَعَلَّق بهم من الْأَحْكَام الدنياوية وَأما الأخراوية الْمُتَعَلّقَة بِمن قطع عمره وأفنى شَيْبه وشبابه فِي مساكنتهم وتوليهم وَلم يُهَاجر أَو هَاجر ثمَّ ر اجع وَطن الْكفْر وأصر على ارْتِكَاب هَذِه الْمعْصِيَة الْكَبِيرَة إِلَى حِين وَفَاته وَالْعِيَاذ بِاللَّه فَالَّذِي عَلَيْهِ أهل السّنة وَجُمْهُور الْأَئِمَّة أَنهم معاقبون بِالْعَذَابِ الشَّديد إِلَّا أَنهم غير مخلدين فِي الْعَذَاب بِنَاء على مَذْهَبهم الْحق فِي انْقِطَاع عَذَاب أهل الْكتاب وتخليصهم بشفاعة سيدنَا وَنَبِينَا ومولانا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُصْطَفى الْمُخْتَار وحسبما وَردت بِهِ صِحَاح الْأَخْبَار وَالدَّلِيل على ذَلِك قَوْله عز وَجل {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} الحديث: 27 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وَقَوله {قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا إِنَّه هُوَ الغفور الرَّحِيم} وَقَوله {وَإِن رَبك لذُو مغْفرَة للنَّاس على ظلمهم} إِلَّا أَن قَوْله تَعَالَى {وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم} وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام أَنا بَرِيء من كل مُسلم يُقيم بَين أظهر الْمُشْركين وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام فَمن ساكنهم أَو جامعهم فَهُوَ مِنْهُم شَدِيد جدا عَلَيْهِم 29 - حكم الْمُسلم الَّذِي يزدري دَار الْإِسْلَام ويفضل عَلَيْهَا بِلَاد النَّصْرَانِيَّة الخزي فِي العاجلة والآجلة إِلَّا أَن ذَنبه أقل من ذَنْب التارك لِلْهِجْرَةِ وَمَا ذكرْتُمْ عَن سخيف الْعقل وَالدّين من قَوْله (إِلَى هَا هُنَا يُهَاجر) فِي قالب الازدراء والتهكم وَقَول السَّفِيه الآخر (إِن جَازَ صَاحب قشتالة) إِلَى هَذِه النواحي نسير إِلَيْهِ إِلَى آخر كَلَامه البشيع وَلَفظه الشنيع لَا يخفى على سيادتكم مَا فِي كَلَام وَاحِد مِنْهُمَا من السماحة فِي التَّعْبِير كَمَا لَا يخفى مَا على كل مِنْهُمَا فِي ذَلِك من الهجنة وَسُوء النكير إِذْ لَا يتفوه بذلك وَلَا يستبيحه إِلَّا من سفه نَفسه وفقد وَالْعِيَاذ بِاللَّه حسه ورام رفع مَا صَحَّ نَقله وَمَعْنَاهُ وَلم يُخَالف فِي تَحْرِيمه أحد فِي جَمِيع معمور الأَرْض الاسلامية من مطلع الشَّمْس إِلَى مغْرِبهَا لأغراض فَاسِدَة فِي نظر الشَّرْع لَا رَأس لَهَا وَلَا ذَنْب فَلَا تصدر هَذِه الْأَعْرَاض الهوسية إِلَّا من قلب استحوذ عَلَيْهِ الشَّيْطَان فأنساه الحديث: 29 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 حلاوة الْإِيمَان ومكانه من الارطاب وَمن ارْتكب فِي هَذَا وتورط فِيهِ فقد استعجل لنَفسِهِ الخبيثة الخزي الْمَضْمُون فِي العاجل والآجل إِلَّا أَنه لَا يساوى فِي الْعِصْيَان وَالْإِثْم والعدوان والمقت والسماحة والابعاد والاستنقاص وَاسْتِحْقَاق اللائمة والمذمة الْكُبْرَى التارك لِلْهِجْرَةِ بِالْكُلِّيَّةِ بموالاة الْأَعْدَاء وَالسُّكْنَى بَين أظهر الْبعدَاء لِأَن غَايَة مَا صدر من هذَيْن الخبيثين عزم وَهُوَ التصميم وتوطين النَّفس على الْفِعْل وهما لم يفعلا 30 - هَل يُؤَاخذ على الْعَزْم على الْمعْصِيَة دون اتيانها رَأْي المازرى لَا يُؤَاخذ راي الباقلاني يُؤَاخذ وَقد اخْتلف أَئِمَّتنَا الأشاعرة فِي الْمُؤَاخَذَة بِهِ فَنقل الامام أَبُو عبد الله المازرى رَحمَه الله عَن كثير أَنه غير مؤاخذ بِهِ رَأْسا لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام إِن الله تجَاوز لأمتي مَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا (93 أ) وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني إِنَّه مؤاخذ بِهِ وَاحْتج لَهُ بِحَدِيث إِذا اصطف المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول فِي النَّار قيل يَا رَسُول الله هَذَا الْقَاتِل فَمَا بَال الْمَقْتُول قَالَ إِنَّه كَانَ حَرِيصًا على قتل صَاحبه فإثمه بالحرص وَأجِيب بِأَن اللِّقَاء وإشهار السِّلَاح فعل وَهُوَ المُرَاد بالحرص 31 - رَأْي عِيَاض يُؤَاخذ بِعَمَل الْقلب آراء أُخْرَى وَقَالَ فِي الاكمال يَقُول القَاضِي عِيَاض قَالَ بذلك أَئِمَّة السّلف الحديث: 30 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 من الْفُقَهَاء والمتكلمين والمحدثين لِكَثْرَة الْأَحَادِيث الدَّالَّة على الْمُؤَاخَذَة بِعَمَل الْقلب وحملوا أَحَادِيث عدم الْمُؤَاخَذَة على الْهم قيل للثورى ايؤاخذ بالهمة قَالَ إِذا كَانَت عزما لكِنهمْ قَالُوا إِنَّمَا يُؤَاخذ بسيئة الْعَزْم لِأَنَّهَا مَعْصِيّة لَا بسيئة المعزوم عَلَيْهِ لِأَنَّهَا لم تفعل فَإِن فعلت كتبت سَيِّئَة ثَانِيَة وَإِن كف عَنْهَا كتبت حَسَنَة لحَدِيث إِنَّمَا تَركهَا من جراي وَقَالَ محيي الدّين النَّوَوِيّ تظاهرت النُّصُوص بالمؤاخذة بالعزم كَقَوْلِه تَعَالَى {إِن الَّذين يحبونَ أَن تشيع الْفَاحِشَة فِي الَّذين آمنُوا} وَقَالَ تَعَالَى {اجتنبوا كثيرا من الظَّن إِن بعض الظَّن إِثْم} وَقد أَجمعت الْأَئِمَّة على حُرْمَة الْحَسَد واحتقار النَّاس وَإِرَادَة الْمَكْرُوه بهم انْتهى وَاعْترض هَذَا الِاحْتِجَاج بِأَن هَذَا الْعَزْم الْمُخْتَلف فِيهِ مَا لَهُ صُورَة فِي الْخَارِج كَالزِّنَا وَشرب الْخمر وَأما مَا لَا صُورَة لَهُ فِي الْخَارِج كالاعتقادات وخبائث النَّفس من الْحَسَد وَنَحْوه فَلَيْسَ من صور مَحل الْخلاف لِأَن النَّهْي عَنهُ فِي نَفسه بِهِ وَقع التَّكْلِيف فَلَا يحْتَج بالاجماع الَّذِي فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 32 - خَاتِمَة وَليكن هَذَا آخر مَا ظهر كتبه من الْجَواب على السُّؤَال الْمُقَيد الموجه من قبل الْفَقِيه الْمُعظم الْخَطِيب الْفَاضِل الْقدْوَة الصَّالح الْبَقِيَّة وَالْجُمْلَة الفاضلة النقية السَّيِّد أبي عبد الله بن قطيه أدام الله سموهُ ورقيه وَيَنْبَغِي أَن يترجم هَذَا الْجَواب وَيُسمى بأسنى المتاجر فِي بَيَان أَحْكَام من غلب على وَطنه النَّصَارَى وَلم يُهَاجر وَمَا يَتَرَتَّب (93 ب) عَلَيْهِ من الْعُقُوبَات والزواجر وَالله أسأَل أَن ينفع بِهِ ويضاعف الْأجر بِسَبَبِهِ قَالَه وخطه العَبْد المستغفر الْفَقِير الْمُسلم عبيد الله أَحْمد بن يحيي بن مُحَمَّد بن على الونشريشي وَفقه الله وَكَانَ الْفَرَاغ من كتبه يَوْم الْأَحَد التَّاسِع عشر لذِي قعدة الْحَرَام من عَام سِتَّة وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة عرفنَا الله خَيره الحديث: 32 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ضميمة فَتْوَى أُخْرَى للونشريشي فِي شَأْن رجل أَرَادَ الْمقَام فِي الأندلس ليخدم إخوانه الْمُسلمين وَيتَكَلَّم باسمهم ويخاصم عَنْهُم (106) وَكتب إِلَى الْفَقِيه أَبُو عبد الله الْمَذْكُور أَيْضا بِمَا نَصه الْحَمد لله وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على رَسُول الله جوابكم يَا سَيِّدي رَضِي الله عَنْكُم ومتع الْمُسلمين بحياتكم فِي نازلة وَهِي 33 - سُؤال هَذِه الْفَتْوَى هَل يجوز لرجل مُسلم أَن يتَخَلَّف عَن الْهِجْرَة من بلد النَّصَارَى للْقِيَام بشئون إخوانه من أهل الدجن رجل من أهل مربله مَعْرُوف بِالْفَضْلِ وَالدّين تخلف عَن الْهِجْرَة مَعَ أهل بَلَده ليبحث عَن أَخ لَهُ فقد قبل فِي قتال الْعَدو بِأَرْض الْحَرْب فبحث عَن خَبره إِلَى الْآن فَلم يجده وأيس مِنْهُ فَأَرَادَ أَن يُهَاجر فَعرض لَهُ سَبَب آخر وَهُوَ أَنه لِسَان وَعون للْمُسلمين الْمَسَاكِين الذميين حَيْثُ سكناهُ وَلمن جاورهم أَيْضا من أمثالهم بغربية الأندلس يتَكَلَّم عَنْهُم مَعَ حكام النَّصَارَى فِيمَا يعرض لَهُم مَعَهم من نَوَائِب الدَّهْر ويخاصم عَنْهُم ويخلص كثيرا مِنْهُم من ورطات الحديث: 33 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 عَظِيمَة بِحَيْثُ أَنه يعجز عَن تعَاطِي ذَلِك عَنْهُم أَكْثَرهم بل مَا يَجدونَ مثله فِي ذَلِك الْفَنّ إِن هَاجر وبحيث أَنه يلحقهم فِي فَقده ضَرَر كَبِير إِن فقدوه فَهَل يرخص لَهُ فِي الْإِقَامَة مَعَهم تَحت حكم الْملَّة الْكَافِرَة لما فِي إِقَامَته هُنَاكَ من الْمصلحَة لأولئك الْمَسَاكِين الذميين مَعَ أَنه قَادر على الْهِجْرَة مَتى شَاءَ أَو لَا يرخص لَهُ أَو لَا رخصَة لَهُم أَيْضا فِي إقامتهم هُنَاكَ تجرى عَلَيْهِم أَحْكَام الْكفْر لَا سِيمَا وَقد سمح لَهُم فِي الْهِجْرَة مَعَ أَن أَكْثَرهم قادرون عَلَيْهَا مَتى أحبو وعَلى تَقْدِير أَن لَو رخص لَهُ فِي ذَلِك فَهَل يرخص لَهُ أَيْضا فِي الصَّلَاة بثيابه حسب استطاعته إِذْ لَا تَخْلُو فِي الْغَالِب عَن نَجَاسَة لِكَثْرَة مخالطته (107) لِلنَّصَارَى وتصرفه بَينهم ورقاده وقيامه فِي دِيَارهمْ فِي خدمَة الْمُسلمين الذميين حَسْبَمَا ذكرت بينوا لنا حكم الله فِي ذَلِك مَأْجُورِينَ مشكورين إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالسَّلَام الْكثير يعْتَمد مقامكم الْعلي وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته فأجبته بِمَا نَصه 34 - رَأْي الونشريشي لَا يجوز لِأَن ذَلِك يتنافى مَعَ عزة الاسلام أهل الدجن عصاة الْحَمد لله تَعَالَى وَهَذَا الْجَواب وَالله تَعَالَى ولي التَّوْفِيق بفضله إِن إلهنا الْوَاحِد القهار قد جعل الخزية وَالصغَار فِي أَعْنَاق ملاعين الْكفَّار سلاسل وأغلالا يطوفون بهَا فِي الأقطار وَفِي أُمَّهَات المداين والأمصار إِظْهَارًا لعزة الْإِسْلَام وَشرف نبيه الْمُخْتَار فَمن حاول من الْمُسلمين عصمهم الله ووقرهم انقلاب تِلْكَ السلَاسِل والأغلال فِي عُنُقه فقد حاد الله وَرَسُوله الحديث: 34 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وَعرض بِنَفسِهِ إِلَى سخط الْعَزِيز الْجَبَّار وحقيق أَن يكبكبه الله مَعَهم فِي النَّار قَالَ الله تَعَالَى {كتب الله لأغلبن أَنا ورسلي إِن الله قوي عَزِيز} فَالْوَاجِب على كل مُؤمن يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر السَّعْي فِي حفظ رَأس الْإِيمَان بالبعد والفرار عَن مساكنة أَعدَاء حبيب الرَّحْمَن والاعتلال بِإِقَامَة الْفَاضِل الْمَذْكُور بِمَا عرض من غَرَض التَّرْجَمَة بَين الطاغية وَأهل ذمَّته من الدجن العصاه لَا يخلص من وَاجِب الْهِجْرَة وَلَا يتَوَهَّم مُعَارضَة مَا سطر فِي السُّؤَال من الْأَوْصَاف الطردية لحكمها الْوَاجِب إِلَّا متجاهل أَو جَاهِل معكوس الْفطْرَة لَيْسَ مَعَه من مدارك الشَّرْع خَبره لِأَن مساكنة الْكفَّار من غير أهل الذِّمَّة وَالصغَار لَا تجوز وَلَا تُبَاح سَاعَة من نَهَار لما تنتجه من الأدناس والأوضار والمفاسد الدِّينِيَّة والدنيوية طول الْأَعْمَار مِنْهَا أَن غَرَض الشَّرْع ان تكون كلمة الْإِسْلَام وَشَهَادَة الْحق قَائِمَة على ظُهُورهَا عالية على غَيرهَا منزهة عَن الازدراء بهَا وَمن ظُهُور شَعَائِر الْكفْر عَلَيْهَا ومساكنتهم تَحت الذل وَالصغَار تَقْتَضِي وَلَا بُد أَن تكون هَذِه الْكَلِمَة الشَّرِيفَة الْعَالِيَة المنيفة سافلة لَا عالية ومزدرى بهَا لَا منزهة وحسبك بِهَذِهِ الْمُخَالفَة للقواعد الشَّرْعِيَّة وَالْأُصُول وبمن يتحملها ويصبر عَلَيْهَا مُدَّة عمره من غير ضَرُورَة وَلَا إِكْرَاه 35 - الْإِقَامَة فِي حكم النَّصَارَى تحول دون كَمَال الصَّلَاة وَمِنْهَا أَن كَمَال الصَّلَاة الَّتِي تتلو الشَّهَادَتَيْنِ فِي الْفضل والتعظيم الإعلان والظهور لَا يكون وَلَا يتَصَوَّر إِلَّا بِكَمَال الظُّهُور والعلو والنزاهة من الازدراء والاحتقار فِي مساكنة الْكفَّار وملابسة الْفجار تعريضها للاضاعة والازدراء الحديث: 35 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 والهزء واللعب قَالَ الله تَعَالَى {وَإِذا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاة اتَّخَذُوهَا هزوا وَلَعِبًا ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعْقلُونَ} وحسبك بِهَذِهِ الْمُخَالفَة أَيْضا 36 - وتعطل الزَّكَاة وَمِنْهَا إيتَاء الزَّكَاة وَلَا يخفى على ذِي بَصِيرَة وسريرة مستنيرة أَن إِخْرَاج الزَّكَاة (108) للْإِمَام من أَرْكَان الْإِسْلَام وشعائر الْأَنَام وَحَيْثُ لَا إِمَام فَلَا إِخْرَاج لعدم شَرطهَا فَلَا زَكَاة لفقد مستحقها فَهَذَا ركن من أَرْكَان الْإِسْلَام منهد بِهَذِهِ الْمُوَالَاة الكفرية وَأما إخْرَاجهَا لمن يَسْتَعِين بهَا على الْمُسلمين فَلَا يخفى أَيْضا مَا فِيهِ من المناقضة للمتعبدات الشَّرْعِيَّة كلهَا 37 - وتعطل الصّيام وَمِنْهَا صِيَام رَمَضَان وَلَا يخفى أَنه فرض على الْأَعْيَان وَزَكَاة الْأَبدَان وَهُوَ مَشْرُوط بِرُؤْيَة الْهلَال ابْتِدَاء وانقضاء وَفِي أَكثر الْأَحْوَال إِنَّمَا تثبت الرُّؤْيَة بِالشَّهَادَةِ وَالشَّهَادَة لَا تُؤَدّى إِلَّا عِنْد الْأَئِمَّة وخلفايهم وَحَيْثُ لَا إِمَام وَلَا خَليفَة وَلَا شَهَادَة الشَّهْر إِذْ ذَاك مَشْكُوك الأول وَالْآخر فِي الْعَمَل الشَّرْعِيّ 38 - وتحول دون الْحَج وَمِنْهَا حج الْبَيْت وَالْحج وَإِن كَانَ سَاقِطا عَنْهُم لعدم الِاسْتِطَاعَة لِأَنَّهَا موكولة إِلَيْهِم الحديث: 36 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 39 - وتمنع من الْجِهَاد (وَمِنْهَا الْجِهَاد) فالجهاد لإعلاء كلمة الْحق ومحو الْكفْر من قَوَاعِد الْأَعْمَال الإسلامية وَهُوَ فرض على الْكِفَايَة وَعند مَسِيس الْحَاجة وَلَا سِيمَا بمواضع هَذِه الْإِقَامَة الْمَسْئُول عَنْهَا وَمَا يجاورها ثمَّ هم إِمَّا تاركوه من غير ضَرُورَة مَانِعَة مِنْهُ على الْإِطْلَاق فهم كالعازم على تَركه من غير ضَرُورَة والعازم على التّرْك من غير ضَرُورَة كالتارك قصدا مُخْتَارًا وَإِمَّا مقتحمون نقيضه بمعونة أَوْلِيَائِهِمْ على الْمُسلمين إِمَّا بالنفوس وَإِمَّا بالأموال فيصيرون حربيين مَعَ الْمُشْركين وحسبك بِهَذِهِ مناقضة وضلالة 40 - هَذِه الْإِقَامَة تضع من أَمر الْإِسْلَام وَتعرض للاستغراق فِي مُشَاهدَة الْمُنْكَرَات وَقد اتَّضَح بِهَذَا التَّقْرِير نقص صلَاتهم وصيامهم وزكاتهم وجهادهم وإخلالهم بإعلاء كلمة الله وَشَهَادَة الْحق وإهمالهم لاجلالها وتعظيمها وتنزيهها عَن إزدراء الْكفَّار وتلاعب الْفجار فَكيف يتَوَقَّف متشرع أَو يشك متورع فِي تَحْرِيم هَذِه الْإِقَامَة مَعَ استصحابها لمُخَالفَة جَمِيع هَذِه الْقَوَاعِد الإسلامية الشَّرِيفَة الجليلة مَعَ مَا يَنْضَم إِلَيْهَا ويقترن بِهَذِهِ المساكنة المقهورة مِمَّا لَا يَنْفَكّ عَنْهَا غَالِبا من التنقيص الدنياوي وَتحمل المذلة والمهانة وَهُوَ مَعَ ذَلِك مُخَالف لمعهود الحديث: 39 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 عزة الْمُسلمين ورفعة أقدارهم وداع إِلَى احتقار الدّين واهتضامه وَهُوَ أَي مَا يَنْضَم إِلَى مَا تقدم أُمُور أَيْضا تصطك مِنْهَا المسامع مِنْهَا الإذلال والاحتقار والإهانة وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (لَا يَنْبَغِي لمُسلم أَن يذل نَفسه) وَقَالَ (الْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلى) وَمِنْهَا الازدراء والاستهزاء وَلَا يتحملها ذُو مُرُوءَة فاضلة من غير ضَرُورَة وَمِنْهَا السب والأذية فِي الْعرض وَرُبمَا كَانَت فِي الْبدن وَالْمَال وَلَا يخفى (مَا) فِيهِ من جِهَة السّنة والمروءة وَمِنْهَا الِاسْتِغْرَاق فِي مُشَاهدَة الْمُنْكَرَات والتعرض لملابسة النَّجَاسَات وَأكل الْمُحرمَات والمتشابهات 41 - الْخَوْف من نقض النَّصَارَى لعهودهم وَمِنْهَا (109) مَا يتَوَقَّع مخوفا فِي هَذِه الْإِقَامَة وَهُوَ أُمُور أَيْضا مِنْهَا نقض الْعَهْد من الْملك والتسلط على النَّفس والأهل وَالْولد وَالْمَال وَقد رُوِيَ أَن عمر بن عبد الْعَزِيز نهى عَن الْإِقَامَة بِجَزِيرَة الأندلس مَعَ أَنَّهَا كَانَت فِي ذَلِك الْوَقْت رِبَاطًا لَا يجهل فَضله وَمَعَ مَا كَانَ الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ من الْعِزَّة والظهور ووفور الْعدَد وَالْعدَد لَكِن مَعَ ذَلِك نهى عَنهُ خَليفَة الْوَقْت الْمُتَّفق على فَضله وَدينه وصلاحه ونصيحته لرعيته خوف التَّعْزِير فَكيف بِمن ألْقى الحديث: 41 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 نَفسه وَأَهله وَأَوْلَاده بِأَيْدِيهِم عِنْد قوتهم وظهورهم وَكَثْرَة عَددهمْ ووفور عَددهمْ اعْتِمَادًا على وفائهم بعهدهم فِي شريعتهم وَنحن لَا نقبل شَهَادَتهم بِالْإِضَافَة إِلَيْهِم فضلا عَن قبُولهَا بِالْإِضَافَة إِلَيْنَا وَكَيف نعتمد على زعمهم بِالْوَفَاءِ مَعَ مَا وَقع من هَذَا التوقع وَمَعَ مَا يشْهد لَهُ من الوقائع عِنْد من بحث واستقرأ الْأَخْبَار فِي معمور الأقطار 42 - الْخَوْف على النَّفس والأهل وَالْولد وَالْمَال من شرارهم وَمِنْهَا الْخَوْف على النَّفس والأهل وَالْولد وَالْمَال ايضا من شرارهم وسفهائهم ومغتاليهم هَذَا على فرض وَفَاء دهاقينهم وملكهم وَهَذَا ايضا تشهد لَهُ الْعَادة ويقر بهَا الْوُقُوع 43 - الْخَوْف من الْفِتْنَة فِي الدّين وَمِنْهَا الْخَوْف من الْفِتْنَة فِي الدّين وهب أَن الْكِبَار الْعُقَلَاء قد يأمنونها فَمن يُؤمن الصغار والسفهاء وضعفة النِّسَاء إِذا انتدب إِلَيْهِم دهاقين الْأَعْدَاء وشياطينهم 44 - الْخَوْف على الأبضاع والفروج إِشَارَة إِلَى حَادث كنة الْمُعْتَمد ابْن عباد وَمِنْهَا الْخَوْف من الْفِتْنَة على الأبضاع والفروج وَمَتى يَأْمَن ذُو روجة أَو ابْنة أَو قريبَة وضيئة أَن يعثر عَلَيْهَا وضيء من كلاب الْأَعْدَاء وَخَنَازِير الْبعدَاء فيغرها فِي نَفسهَا ويغرها فِي دينهَا ويستولي عَلَيْهَا وتطاوعه ويحال بَينهَا وَبَين وَليهَا بالارتداد والفتنة فِي الدّين كَمَا عرض لكنة الْمُعْتَمد بن عباد وَمن لَهَا من الْأَوْلَاد أعاذنا الله من الْبلَاء وشماتة الْأَعْدَاء الحديث: 42 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 45 - الْخَوْف من غَلَبَة عاداتهم ولغتهم ولباسهم على المقيمين بَينهم حَالَة أهل ابله وَمِنْهَا الْخَوْف من سريان سيرهم ولسانهم ولباسهم وعوائدهم المذمومة إِلَى المقيمين مَعَهم بطول السنين كَمَا عرض لأهل (أبله) وَغَيرهم وَفقدُوا اللِّسَان الْعَرَبِيّ جملَة وَإِذا فقد اللِّسَان الْعَرَبِيّ جملَة فقدت متعبداته وناهيك من فَوَات المتعبدات اللفظية مَعَ كثرتها وَكَثْرَة فَضلهَا 46 - الْخَوْف من التسلط على المَال بإحداث الْوَظَائِف الثَّقِيلَة والمغارم المجحفة وَمِنْهَا الْخَوْف من التسلط على المَال بأحداث الْوَظَائِف الثَّقِيلَة والمغارم الحديث: 45 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 المجحفة المؤدية إِلَى إستغراق المَال وإحاطة الضرائب الكفرية بِهِ فِي دفْعَة وَاحِدَة فِي صُورَة ضَرُورَة وقتية أَو فِي دفع وَإِمَّا استنادا إِلَى تلفيق من الْعذر والتأويل لَا تستطاع مراجعتهم فِيهِ وَلَا مناظرتهم عَلَيْهِ وَإِن كَانَ فِي غَايَة من الضعْف (110) ووضوح الوهن وَالْفساد فَلَا يقدم على ذَلِك خوفًا من ان يكون سَببا لتحريك دواعي الحقد وداعية لنقض الْعَهْد والتسلط على النَّفس والأهل وَالْولد وَهَذَا يشْهد لَهُ الْوُقُوع عِنْد من بحث بل رُبمَا وَقع فِي مَوضِع النَّازِلَة الْمَسْئُول عَنْهَا وَفِي غَيره غير مرّة 47 - الْخُلَاصَة تَحْرِيم هَذِه الْإِقَامَة فقد ثَبت بِهَذِهِ الْمَفَاسِد الْوَاقِعَة والمتوقعة تَحْرِيم هَذِه الْإِقَامَة وحظر هَذِه المساكنة المنحرفة عَن الاسْتقَامَة من جِهَات مُخْتَلفَة متعاضدة مؤدية إِلَى معنى وَاحِد بل نقل الْأَئِمَّة حكم هَذَا الأَصْل إِلَى غَيره لقُوته وظهوره فِي التَّحْرِيم فَقَالَ إِمَام دَار الْهِجْرَة أَبُو عبد الله مَالك بن أنس رَضِي الله عَنهُ (إِن آيَة الْهِجْرَة تُعْطى أَن كل مُسلم يَنْبَغِي أَن يخرج من الْبِلَاد الَّتِي تغير فِيهَا السّنَن وَيعْمل فِيهَا بِغَيْر الْحق) فضلا عَن الْخُرُوج والفرار من بِلَاد الْكَفَرَة وبقاع الفجرة ومعاذ الله أَن تركن لهل التَّثْلِيث أمة فاضلة توحده وترضى بالْمقَام بَين أظهر الأنجاس الأرجاس وَهِي تعظمه فَلَا فسحة للفاضل الْمَذْكُور فِي إِقَامَته بالموضع الْمَذْكُور للغرض الْمَذْكُور وَلَا رخصَة لَهُ وَلَا لأَصْحَابه فِيمَا يُصِيب ثِيَابهمْ وأبدانهم من النَّجَاسَات والأخباث إِذا الْعَفو عَنْهَا مَشْرُوط بعسر التوقي والتحرز وَلَا عسر مَعَ اختيارهم للإقامة وَالْعَمَل على غير استقامة وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم وَبِه التَّوْفِيق وَكتب مُسلما على من يقف عَلَيْهِ من أهل لَا إِلَه إِلَّا الله العَبْد المستغفر الْفَقِير الحقير الرَّاغِب فِي بركَة من يقف عَلَيْهِ وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ عبيد الله أَحْمد بن يحيي بن مُحَمَّد بن عَليّ الونشريشي وَفقه الله الحديث: 47 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65