الكتاب: نتائج الفكر في النَّحو للسُّهَيلي المؤلف: أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي (المتوفى: 581هـ) الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة الأولى: 1412 - 1992 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- نتائج الفكر في النحو السهيلي الكتاب: نتائج الفكر في النَّحو للسُّهَيلي المؤلف: أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي (المتوفى: 581هـ) الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة الأولى: 1412 - 1992 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الكتاب: نتائج الفكر في النَّحو للسُّهَيلي المؤلف الإمام / أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السُّهَيلي (المتوفي 581 هـ) الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة الأولى: 1412 - 1992 م عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] * * * من لطائف هذا الكتاب قال المؤلف - رحمه الله -: مسألة واستشهد أيضا بقوله سبحانه: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) وفي هذه الآية ضروب من الأسئلة، منها أن يقال: ما فائدة البدل في الدعاء، والداعي مخاطب لمن لا يحتاج إلى البيان، والبدل يقصد به بيان الاسم الأول؟ ومنها أن يقال: ما فائدة تعريف الصراط المستقيم بالألف واللام، وهلَّا أخبر بمجرد اللفظ دونهما، كما قال: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) ، وكما قال: (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) . ومنها أن يقال: ما معنى الصراط؟ ومن أي شيء اشتقاقه؟ ولم جاء على وزن فعال؟ ولم ذكر في أكثر المواضع في القرآن بهذا اللفظ. وذكر في سورة الأحقاف بلفظ الطريق، فقال: (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) ؟ ومنها أن يقال: ما الحكمة في إضافته إلى (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بهذا اللفظ، ولم يقل: النبيين ولا الصالحين، وجاء باللفظ مبهماً غير مفسر؟ ومنها أن يقال: لم عبر عنه بلفظ " الذين " موصولة بصلتها، وقد كان أوجز وأخصر أن يقال: المنعم عليهم، إذ الألف واللام في معنى الذي، كما قال: (المغضوب عليهم) ولم يقل: " الذين غضبت عليهم؟ ". ومنها أن يقال: لم وصفهم بـ (غير) ، وقد كان الظاهر أن يقول هاهنا " لا المغضوب عليهم "، كما تقول: " مررت بزيد لا عمرو، وبالعاقل لا الأحمق ". ومنها أن يقال: لم استحق اليهود دون النصارى اسم المغضوب عليهم. والمغضوب عليهم أيضاً النصارى؟ ولم استحق النصارى اسم (الضالين) ، وقد ضلت اليهود؟ ومنها أن يقال: لم قدم (المغضوب عليهم) على (الضالين) في اللفظ؟ ولم جاء لفظ (الضالين) على وزن " الفاعلين "، ولم يجئ على وزن " المفعولين "، كماجاء ما قبله، من قوله تعالى: (المغضوب عليهم) ومن قوله: (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، لأن معناه: المنعم عليهم، بلفظ المفعول؟. ومنها أن يقال: ما فائدة العطف بـ " لا " من قوله: (ولا الضالين) . ولو قال: (الضالين) ، لما اختل الكلام، وكان أوجز؟ ولم عطف بـ " لا "، وهي لا يعطف بها مع " الواو " إلا بعد نفي، ولو كانت وحدها لعطف بها بعد إيجاب، كقولك: مررت بزيد لا عمرو؟. والجواب عن السؤال الأول، وهو: ما فائدة البدل في الدعاء؟ أن الآية وردت في معرض التعليم للعباد الدعاء، وحقُّ الداعي أن يستشعر عند دعائه ما يجب عليه اعتقاده مما لا يتم الإيمان إلا به. إذ " الدعاء مخ العبادة ". والمخ لا يكون إلا في عظم، والعظم لا يكون إلا تحت دم ولحم، فإذا وجب إحضار معتقدات الإيمان عند الدعاء، وجب أن يكون الطلب ممزوجاً بالثناء، فمن ثم جاء لفظ الطلب: للهداية ولفظ الرغبة مشوبا بالخير تصريحاً من الداعي به بمعتقده، وتوسلاً من الداعي بذلك المعتقد إلى ربه، فإذا قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) . والمخالفون للحق يزعمون أنهم على الصراط المستقيم أيضا، والداعي يجب عليه اعتقاد خلافهم وإظهار الحق الذي في نفسه، فلذلك أبدل وبين ليمرن اللسان على ما اعتقده الجنان، فأخبر مع الدعاء أن الصراط المستقيم هو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين. لا من خالفهم من الكافرين. وأما تعريف (الصِّرَاط) بالألف واللام، فإن الألف واللام إذا دخلت على اسم موصوف اقتضت أنه أحق بتلك الصفة من غيره، ألا ترى قولك: جالس فقيها أو عالما، ليس كقولك: جالس الفقيه أو العالم؟ ولا: أكلت طيباً، كقولك: أكلت الطيب؟ ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام: " أنت الحق ووعدك الحق "، ثم قال: " ولقاؤك حق والجنة حق، والنار حق "، فلم يدخل الألف واللام على الأسماء المحدثة، وأدخلها على اسم الباري - سبحانه وتعالى - وما هو صفة له، وهو القول والوعد. فإذا ثبت هذا فلو قال: " صراطاً مستقيماً " لكان الداعي إنما يطلب الهداية على صراط مستقيم على الإطلاق، وقد علم أنه على صراط مستقيم وهو الإسلام، فإنما يطلب ما هو أقوى من طريقته التي هو عليها في علمه، لأن كل فريق من المسلمين مستقصر لنفسه في العمل، وراغب إلى ربه، في التوبة والهداية إلى الأفضل، حتى ينتهي الأمر إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فيقولها أيضاً، لأنها أخوف لربه، وأكثر استقصاراً لعمله، وكان يستغفر ربه - عز وجل - ويتوب إليه في اليوم مائة مرة، وقال في الحديث: " نظرت إلى جبريل كأنه حلس لاط، فعرفت فضل عمله علي ". فإن قيل: فقد قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) وقد كان على الصراط الأقوم، فضلاً عن صراط مستقيم على الإطلاق؟ فالجواب: أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية، وكان المسلمين قد كرهوا ذلك الصلح ورأوا أن الرأي خلافه، وكان الله ورسوله أعلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلم يرد صراطاً مستقيماً في الدين، وإنما أراد صراطاً مستقيماً في الرأي والحرب والمكيدة وقوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) . أي: تهدي من الكفر والضلال إلى صراطٍ مستقيم. ولو قال في هذا الموطن: " الصراط المستقيم "، لجعل للكفر والضلال حظاً من الاستقامة، إذ الألف واللام تنبئ أن ما دخلت عليه من الأسماء الموصوفة أحق بذلك المعنى مما تلاه في الذكر، أو ما قرن به في الوهم، ولا يكون أحق به إلا والآخر فيه طرف منه. وأما اشتقاق الصراط فمن " سرطت الشيء أسرطه "، إذا بلعته بلعاً سهلاً. فالصراط هو الطريق السهل القويم، وجاء على وزن " فعال "، لأنه مشتمل على سالكة اشتمال الحلق على الشيء المسروط، وهذا الوزن كثير في المشتملات على الأشياء كاللحاف والخمار والرداء، وكذلك الشكال والعنان، إلى سائر الباب. وأما ذكره بلفظ (الطريق) في سورة الأحقاف خاصة، فلأنه انتظم بقوله سبحانه: (سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى) . وإنما أراد أنه سبيل مطروق قد مرت عليه الرسل قبله، وأنه ليس ببدع، كما قال في السورة نفسها، فاقتضت البلاغة والإعجاز لفظ " الطريق "، لأنه " فعيل " بمعنى " مفعول ". أي: إنه مطروق مشت عليه الرسل والأنبياء قبل، وليس في المواضع الأُخر ما يقتضي هذا المعنى. فكان لفظ الصراط بها أولى، لأنه أمدح من جهة الاشتقاق والوزن كما تقدم. وأما إضافته إلى اللفظ المجمل، ولم يقل: " صراط النبيين والصالحين ". فلفائدتين: إحداهما: نفي التقليد عن القلب، واستشعار العمل بأن من هدي إلى هذا الصراط فقد أنعم عليه، ولو ذكرهم بأعيانهم لم يكن فيه هذا المعنى. والفائدة الأخرى أن الآية عامة في طبقات المسلمين مسيئهم وصالحهم. والمسيء لا يطلب درجة العالي حتى ينال التي هي أقرب إليه، ولفظ (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) يشمل الجميع، وجميع المأمورين بهذا الدعاء يطلب صراط الذين أنعم الله عليهم، وهم أصناف، كما أن السائلين لدرجاتهم أصناف. وأما قوله تعالى: (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، ولم يقل: " المنعم عليهم "، فلأن ذكر نعمة المنعم والثناء بها عليه وذكر النعم شكر، وإبراز ضمير الفاعل العائد على الله سبحانه من قوله: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ذكر لله تعالى باللسان والقلب، ولو قال: " المنعم عليهم " لخلا هذا اللفظ من هذه الفوائد المقرونة بالدعاء، وهي الشكر والذكر، ألا ترى إلى قول إبراهيم عليه السلام: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) ؟ فأضاف الفعل إلى ربه، ثم قال: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) . ولم يقل: " أمرضني "، كما قال: (يُطْعِمُنِي) ، إذ ليس في قولك " أمرضني " إلا الإخبار المجرد عن الشكر والثناء، وربما اقترن به تسخط وتضجر، فعدل عنه إلى قوله: (مَرِضْتُ) . ولذلك قال سبحانه: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) ولم يقل: " الذين غضبت عليهم "، إذ ليس في الإخبار عنه بالغضب من الشكر والإحسان ما في قوله: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ؟ فكان اللفظ الوجيز أولى. ولفائدة أخرى وهي أن الغضب صفة ينبغي للعبد أن يشترك فيها مع الرب فيغضب لغضب الله تعالى، فاليهود قد غضب عليهم لغضب الله وجميع المؤمنين، فاستشعر الداعي هذا المعنى فلم يقل: " الذين غضبت عليهم ". إذ لو قال ذلك لأخرج نفسه عن أن يغضب لغضب الله، كما أخرج نفسه عن أن ينعم، وأفرد الرب بالإنعام فقال: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) . وفائدة أخرى، وهو أن الألف واللام في (المغضوب) ، وإن كانت بمعنى " الذين " فليست مثلها في التصريح والإشارة إلى تعيين ذات الاسم، فإن قولك: " الذين فعلوا " معناه: القوم الذين فعلوا، وقولك: " الضاربون والمضربون " ليس فيه ما في قولك " الذين ضَرَبوا أو ضُرِبوا "، وإذا صح هذا وتأملته فالذين أنعمت عليهم بلفظ (الذين) إشارة إلى تعرفهم بأعيانهم، وتعرفهم من الدين ولا سيما النبيين. بخلاف من غضب الله عليهم فوجب الإعراض عنهم وترك الالتفات إلى ذاتهم، فاقتصر على الصفة المذمومة دون أن يعينوا بالذين. وأما قوله: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) نعتاً للذين، ولم يقل: " إلا الغضوب عليهم " فلفائدة وهو أن اليهود والنصارى يدعون أن الله - تعالى - أنعم عليهم بالكتابين، وأنهم على الصراط المستقيم، فبين سبحانه أن الذين أنعم عليهم هم غير المغضوب عليهم، وهم اليهود، ولم يقل اليهود، " تجريداً للفظ، ليخرجهم بذكر الغضب عن صفة المنعم عليهم، وكذلك الضالين. وقد تقدم في باب العطف ذكر " لا " في هذا الموضع، وأنها تعطي العطف بعد إيجاب فلو عطف بها هاهنا لم يكن في الكلام أكثر من نفي إضافة الصراط إلى اليهود والنصارى، فلما جاء بغير، وهي اسم ينعت بها، زاد في الكلام فائدة الوصف والثناء للذين أنعم عليهم. وأما استحقاق اليهود لهذا الاسم فلنزول غضب الله بهم في الدنيا، لتسليطه الملوك عليهم وانتزاع الملك منهم، كما قال تعالى: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) . فمن حيث أخبر عنهم أنهم قد باؤوا بغضب سماهم (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) . وأما تقديمهم على (الضالين) فقد تقدم من أصول التقديم في باب العطف ذكر التقديم بالزمان، وذكر التقديم بالرتبة. واليهود متقدمون بالرتبة والمكان، لأنهم كانوا مجاورين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمخاطبين بالآية. وأقرب إليهم (ذكراً) من النصارى. وأما ذكر (الضالين) بلفظ " فاعلين "، ولم يرد بلفظ المفعولين، لئلا يكون كالعذر لهم، وإنما ينبغي أن يخبر عنهم باكتسابهم ضلالهم، لا بإضلال الله - عز وجل - إياهم وأما فائدة العطف بلا مع " الواو " فلتأكيد النفي الذي تضمنه (غير) ، فلولا ما فيها من معنى النفي لما عطف بلا مع " الواو ". وفائدة هذه التوكيد أن لا يتوهم أن " الضالين " داخل في حكم (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) ، أو وصف لهم، ألا ترى أنك إذا قلت: " ما مررت بزيد وعمرو "، توهم أنك إنما تنفي الجميع بينهما خاصة، فإذا قلت: " ما مررت بزيد وعمرو "، علم أنك تنفي الفعل عنهما جميعاً، على كل حال من اجتماع وافتراق؟ * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة المصنف رب يسر يا كريم قال الشيخ الفقيه الأستاذ العلامة، أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن (أحمد بن أبي) الحسن الخثعمي ثم السهيلي - رحمة الله تعالى عليه، آمين -: بحمد الله نفتتح كلامنا، وبنعمته نستديم سلامتنا وإسلامنا، وإليه بتوفيقه نوجه رغبتنا واستسلامنا، ولعله أن يحفظ بمنِّه من فضول البطالة ألسنتنا وأقلامنا، ويغسل من غباوة الجهالة وغبرات الضلالة آراءنا وأحلامنا. ونسأله أن يصلي على محمد نبيه الذي نور بحبه قلوبنا، وشحذ بنوره أفهامنا، كما شرف بدينه عوامنا، وفضل باتباع آئاره أعلامنا. أما بعد، فإني رأيت اقتباس أنوار الحكم أولى ما صرفت إليه حكمات الهمم، وأشرف ما عنيت به الأمم، وأنفس ما ثنيت إليه سوالف الآمال من بعد ومن أمَم، فكن أيها الطالب للأشرف ممن كرع في بحره وغرف، وإلا كنت قمامة لغرف، فقيمة كل امرئ ما يحسنه، وذو العلم رفيع وإن مُني بحاسد يلسنه. فبدار بدار قبل الفوت، فإنما العلم حياة والجهل موت، قال الله سبحانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وتعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) . ثم قال من سدد في المقال: وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... فأجسامهم قبل القبور قبور وإن امراً لم يحيى بالعلم ميت ... فليس له حتى النشور نشور وكل علم - وإن تميز حامله عن البهيمة - فليس العلم الذي يلبس طالبه أكرم شيمة، ويحيى فؤاد صاحبه كما تحيى الديمة الهشيمة - إلا ما أودع الله - عز وجل - كتابه العلي من أنوار المعارف، وتضمنه كلام النبي العربي - - صلى الله عليه وسلم - من الفوائد واللطائف، فذلك العلم الذي ينهض حامله إلى أعلى المراتب، ويأخذ بضبع طالبه حتى يقعده على هام الكواكب، ويكشف عن بصر فؤاد صاحبه فينزهه في رياض البدائع والعجائب. ثم لا يطمع في الاستبصار والاستكثار من فوائده ونضاره. والاستبحار في فنون فوائده ومباحث أغواره إلا بعد معرفة باللسان الذي أنزل به القرآن، ولغة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أحلنا عليه في البيان، فإنه سبحانه وتعالى يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) . وقال سبحانه: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) . فإذا كانت صناعة الإعراب مرقاة إلى علوم الكتاب، لا يتولج فيها إلا من أبوابه ولا يتوصل إلى اقتطاف زهراتها إلا بأسبابه فواجب على الناشئين تحصيل أصولها، وحتم على الشادين البحث عن أسرارها وتعليلها. وقد عزم لي بعد طول مطالبة من الزمان، ومجاذبة لأيدي الحدثان، وأمراض همة لا تغب، وزمانة مرض تنيم الخاطر فلا يهب - على جمع نبذ من نتائج الفكر، اقتنيتها في خلس من الدهر، معظمها من علل النحو اللطيفة، وأسرار هذه اللغة الشريفة. فالآن حين أردت زفافها إلى أسماع الطالبين، فإن لم يكونوا لأبكارها خاطبين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ولا في نفائسها بحكم هذا الزمن النائم أهله راغبين. ومقصدنا أن نرتبها على أبواب كتاب (الجمل) (1) لميل قلوب الناس إليه، وقصرهم الهمم عليه. والله المعين على ما يقرب منه ويزلف لديه، وإياه في كل حال نستخير. وبوجهه من كل ما يسخطه ويباعد منه نستجير، وهوحسبي ونعم الوكيل.   (1) وهو كتاب مشهور قد نال من عناية أهل العلم فتعددت شروحه وهو لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 مسألة في إضافة الاسم إلى الله عزَّ وجلَّ والإضافة ثلاثة أقسام: إضافة ملك كقولك: كلام زيد، وإضافة ملابسة ومصاحبة كقولك: سرج الدابة ونحوه، وإضافة تخصيص وهو أن تخصص الاسم بإضافته إلى وصله أو إلى لقب علم، كقولهم: زيد بطة، وفي الوصف: مسجد الجامع، و (جانب الغربي) . وفي الحقيقة إضافة الشيء إلى نفسه محال، لا بد أن يكون المضاف غير المضاف إليه، ولكن الصفة أفادت معنى ليس في الموصوف، فصرت كأنك تضيف إلى ذلك المعنى، وفي اللقب إنما تضيف المسمى إلى الاسم الثاني، وهو اللقب، فمعنى (زيد بطة) أي: صاحب هذا اللقب. فإن قيل: فهلا جاز ذلك في جميع النعوت حتى يقال: زيد القائم، كما تقول: مسجد الجامع؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 قلنا: إنما فعلت العرب هذا في الوصف المعرفة اللازم للموصوف لزوم اللقب في الأعلام وأما الوصف الذي لا يثبت كالقائم والقاعد ونحوه فلا يضاف الموصوف إليه، لعدم الفائدة التي قدمنا ذكرها في " زيد بطة "، وهي أنك تريد إضافة المسمى بالاسم الأول إلى الاسم الثاني لتعرفه بإضافته إليه، فإن كان غير لازم لم تفد إضافته إليه شيئاً نحو: زيد الضاحك، وكذلك إن كان لازماً ولم يكن معرفة نحو: رجل قرشي. فإن قلت: زيد القرشي، كان مثل (جانب الغربي) ، لأنه لازم معرفة وكذلك: عمرو قفه. * * * فصل [في الإضافة في بسم الله] فإذا ثبت ذلك رجعنا إلى مسألتنا فنقول: إضافة (بسم الله) أهي إضافة ملك، أم إضافة استحقاق، أم إضافة تخصيص؟. فالجواب أن نقول: هذه المسألة تبنى على أصل القوم في الاسم والمسمى. أهو هو أم (هو) غيره؟ وهي مسألة طال فيها التنازع وكثر فيها القول بين الأصوليين والمتفلسفين وشاركهم فيها طائفة من النحويين، حتى ألفوا فيها التواليف، وصنفوا فيها التصانيف، وشنع كل فريق على مخالفة بأنواع من التشنيع والتعنيف، وبدع بعضهم بعضاً أو كاد يكفره. والأمر في ذلك - إن شاء الله تعالى - سهل المسلك. قريب المدرك، لمن شرح الله صدره ونور بصيرته وإن كان " أبو حامد " قد زعم أنها طويلة الذيل، قليلة النيل. وليس الأمر عندي كما ذكر، بل نيلها كثير لمن نظر واستبصر، وذلك أنها مسألة إذا انفتح ما استغلق منها، انفتح بذلك على الناظر كثير من المشكلات في كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الله عز وجل، وفي حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلام العرب الذين بفهم كلامهم نفهم عن الله - عز وجل - وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ونتوصل إلى فهم الكتاب وتأويله. * * * فصل [في الاسم والمسمى] الاسم الذي هو " السين " و " الميم " عبارة عن اللفظ الذي وضع دلالة على المعنى، والمعنى هو الشيء الموجود في العيان - إن كان من المحسوسات - كزيد وعمرو - وفي الأذهان - إن كان مع المعقولات - كالعلم والإرادة. فذلك الموجود الذي في العيان أو الموجود الذي في الأذهان وضعت له عبارة في اللسان. بما يترجم عنه، ويتوصلٍ إلى فهمة والكشف عن حقيقته، ثم ذلك الشيء المعبرعنه - وهو الشخص مثلا - كما استحق بأن يكون له عبارة بين المتخاطبين يترجمون بها عنه. وهي " الزاي " و " الياء " و " الدال " مع قولك " زيد " مثلاً، فكذلك استحق هذا اللفظ المؤلف من هذه الحروف أن يعبر عنه بعبارة أخرى يعبر بها عنه، لأنه شيء موجود في اللسان، مسموع في الأذان. فاللفظ المؤلف من " ألف " الوصل، و " السين " و " الميم " عبارة عن اللفظ المؤلف من " الزاي " و " الياء " و " الدال " مثلاً. واللفظ من " الزاي " و " الياء " و " الدال " مثلاً. عبارة عن الشخص الموجود في العيان والأذهان وهو المسمى، واللفظ الدال عليه الذي هو " الزاي " و " الياء " و" الدال " هو الاسم، وقد صار أيضاً ذلك اللفظ مسمى من حيث كان اللفظ الذي هو " السين " و " الميم " عبارة عنه فقد تبين لك في أصل الوضع أن الاسم ليس هو المسمى، وذلك أنك تقول: سميت هذا الشخص بهذا الاسم، كما تقول: حليته بهذه الحلية، والحلية لا محالة غير المحلى، فكذلك الاسم أيضاً غير المسمى. وقد صرح بذلك سيبويه وقد أخطاً من ادعى غير هذا عليه، ونسب القول باتحاد الاسم والمسمى إليه، وإن كانوا قد احتجوا بقوله؟ " فأما الأفعال فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء ". وقوله ها هنا محتمل، والمحتملات لا تعارض بها النصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وقد نص - رحمه الله - قبل هذا الكلام بسطر واحد على أن الاسم غير المسمى لو تأملوه، ولكنهم تعاموا عنه وأغفلوه، فقال: " الكلام: اسم وفعل وحرف " فقد صرح أن الاسم كلمة، فكيف تكون الكلمة هي المسمى، والمسمى إنما هو شخص، فهذا بيان ونمى، لا سيما مع قوله فيما بعد: " تقول: سميت زيداً بهذا الاسم كما تقول: علمته بهذه العلامة، وكذلك نص في أكثر من ألف موضع في كتابه على أن الاسم هو اللفظ الدال على المسمى؛ لأنه متى ذكر الخفض أو النصب أو التنوين أو الألف واللام، وجميع ما يدخل على الأسماء ويعتريها من الزيادة والحذف، حتى يكون بعضها ثلاثيا، وبعضها رباعيا، وبعضها خماسياً، إلى غير ذلك مما يذكر سيبويه وجميع النحويين أنه يعتري الاسم ويختص به - فلا يتعلق بشيء من ذلك بالمسمى الذي هوالشخص. فسبحان الله كيف لا يستحيي من عرف هذا من مذهب النحويين أجمعين، ومن مذاهب العرب، ثم يخبر عن أحد منهم بأن الاسم هو المسمى! ما أشار إِلى ذلك نحوي قط ولا اعتقده عربي! ألا ترى أنهم يقولون: " أجل مسمى " ولا يقولون: " أجل اسم " ويقولون: " هذا الرجل مسمى يزيد " ولا يقولون: " اسم يزيد ". وتقول: " باسم الله "، ولا تقول: " بمسمى الله ". ولو كان الاسم بمعنى المسمى ما امتنع شيء من هذا، فهذا غاية العجب، ونهاية الكذب على العرب! نعم، وعلى الكتاب الذي نزل بلسانهم "، نعم، وعلى الرسول الذي يقول: " لي خمسة أسماء، و " سموا باسمي ولاتكنوا بكنيتي ". وإذا ثبت حقيقة الاسم والمسمى فلم يبق إلا حقيقة التسمية التي بها مَوَّه كثير من الناس، وبها يقع الغلط والالتباس، فتقول: التسمية عبارة عن فعل المسمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ووضعه الاسم عبارة عن الشيء المسمى (به) ، كما أن التحلية عبارة عن فعل المحلى، وهو وضع الحلي على المحلى به. فهذه ثلاثة ألفاظ: اسم، ومسمى، وتسمية، ولكل لفظ معنى، ولا سبيل إلى جعل لفظين مترادفين على معنى واحد إلا بدليل واضح، ولا دليل هنا، فثبت أن لكل لفظ من هذه الألفاظ معنى غير الذي للآخر، وإذا جعلت الاسم هو المسمى بطل أحد المعاني الثلاثة التي قدمنا بيان وجودها واستحالة بطلانها، وبالله تعالى التوفيق. * * * فصل فإن قيل: فمن أين مثار الغلط في هذه المسألة من العلماء؟ وكيف غاب ما قلتموه عن بعض الجلة القدماء كالباقلاني ومن تبعه من الأشعرية، وهم أرباب التحقيق والمؤيدون بالتسديد والتوفيق؟. والجواب: أن مثارات الغلط في ذلك كثيرة، منها شبهة داخلة في النظر، ومنها ظواهر من القرآن والأثر، وأبيات من كلام العرب خفي المقصد فيها عن كثير من أهل البصر، ولا توفيق إلا بالله. فمن أقوى الشبه الداخلة في النظر إجماع المسلمين واعتقاد كافة الموحدين أن الله - جل ثناؤه وتقدست أسماؤه - لم يزل بجميع صفائه وأسمائه، تعالى أن يكون أسماؤه مخلوقة أو صفاته محدثة. وهذه عقيدة من زلَّت عنها قدمه أريق دمه. والجواب عن هذا السؤال، وحل هذا الإشكال: أن الله - عز وجل - لم يزل بجميع أسمائه وصفاته، ونحو إذا قلنا: " الاسم غير المسمى "، فليس يلزمنا من ذلك حدوث أسمائه تعالى، وإن كان كل غير الله - عز وجل - مخلوقاً ومحدثاً، لأنه - عز وجل - هو المسمى نفسه بكلامه القديم، الذي هو صفة ذاته، لأن القرآن قديم لا محالة، وتعساً لمن يخالف فيه من فرق الضلالة. ثم القرآن متضمن لأسماء الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الحسنى، فثبت أنه لم يزل بجميع أسمائه كما اعتقدناه، وثبت بما قدمناه من البرهان أن الاسم هو اللفظ الدال على المسمى، وإنه غيره، فرجع الحدوث إلى عبارات المخلوقين وألفاظهم، دون كلام رب العالمين، المتقدس عن الحرف والصوت الذي منه ينتظم اللفظ، وأنه مسمى نفسه في الأزل بكلامه الذي لم يزل صفة له، والمنطق عبارة فيما لا يزال بقدرته على التعبير بالعبارة الحادثة عما تضمنه كلامه القديم. فقد حصحص الحق وانحسم الإشكال، وآل المعنى إلى أن أسمه - سبحانه وتعالى - إذا تلقيته من كلامه فلا تقل: هو هو، ولا تقل، هو غيره، لأنه حينئذ من (كلامه القديم، وإذا تلقيته من) كلام غيره فهو لا محالة غير المسمى، إذاً الاسم كلمة، فحكمها حكم الكلام الذي هى منه، والقائل أن الاسم هو المسمى على الإطلاق مخالف لمذاهب أهل السنة، لأن أصلهم في الكلام أن لا يقال: هو هو. وقد قال هذا في الاسم أنه المسمى، المسمى هو المتكلم بالكلام، الذي الاسم كلمة منه، فقد قال ما لا يقوله أحد، لأنه لم يذهب أحد من الناس إلى أن الكلام هو المتكلم، فلا هو مع المعتزلة ولا (هو) مع السنة. وأصلنا المتقدم موافق للغة، موافق لمذهب أهل السنة، مخالف لمذهب المعتزلة، لأنهم يقولون بقدم الكلام، فالاسم على مذهبهم هو المسمى، كان من كلام الخالق أو من كلام المخلوق، وهذا باطل وبدعة، نعوذ بالله منها، فقد حصحص الحق، وتبين القصد، والحمد لله. * * * فصل [في أدلة القائلين بأن الاسم هو المسمي] وأما مثار الغلط من ظواهر القرآن، فأقواها عندهم قوله عز وجل: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) ، (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) ، وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) . ولا يجوز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 التسبيح لغير الله، ولا أمر - صلى الله عليه وسلم - أن يذكر غير الله. وهذه الحجة لمن تأملها عليهم لا لهم، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان من أشد الناس امتثالًا لأوامر ربه، فلو فهم منها الذي قالوه لقال في تسبيحه: (سبحان اسم ربي) ولم يقل ذلك قط، ولا روي عنه، على كثرة تسبيحه لمولاه - صلى الله عليه وسلم -. ومن أقرب ما يعارضون به إجماع الأمة على أن لا يقول أحد: اسم الله أكبر، يريد: الله أكبر، ولا يقول أحد: سجدت لاسم ربي، ولا خفت اسم ربي، ولا: يا اسم الله، ارحمني، فدل ذلك كله على أن الاسترحام والاستعطاف والسجود والخوف لا تعلق له بالاسم الذي هو عبارة عن المسمى - جل جلاله - وأن المسمى هو المقصود بذلك كله، ولو كان الاسم هو المسمى لما امتنع شيء من ذلك. فإن قيل: كيف جاز (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و (اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) والمقصود بالذكر والتسبيح هو الرب تبارك وتعالى، لا اللفظ الدال عليه؟. قلنا: هذا سؤال قد كع عنه أكثر المحصلين، ونكتة عجز عنها أكثر المتأولين، وقد أجاب عنها أبو حامد في كتابه (المقصد الأسنى) بجواب غير شاف ولا كاف، فقال: إنما تعلق التسبيح والذكر بالاسم، وإن كان غير المسمى، لأن التعظيم والتنزيه إذا وجب للمعظم، فقد تعظم ما هو من سببه لأجله، كما يقال: " السلام على حضرة الملك " ونحو هذا من الكلام، وهو - رحمه الله - وإن كان من أهل التحقيق، فقد غابت عنه نكته المسألة وبالله التوفيق وإنما ضعف جوابه - رحمه الله من وجهين: - أحدهما: ما تقدم من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يؤثر عنه، ولا عن أحد من المقتدين به أنه قال في تسبيحه: سبحان اسم ربي، فدل ذلك على أنهم لم يعتقدوا ما قال من أن التسبيح في قوله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) متعلق بالاسم، بل المقصود به المسمى، والاسم مذكور لحكمة أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 والوجه الثاني: أنه يلزمه أن يطلق على الاسم التكبير والتحميد والتنزيه والتقديس، وغير ذلك من المعاني المقصود بها الله عز وجل، فيقول: كبرت اسم ربي، واسم ربي أكبر، وغير ذلك مما أجمع المسلمون على تركه، ولم يؤثر عن أحد من السلف والخلف، رحمة الله عليهم. والقول السديد في ذلك - والله المستعان - أن نقول: الذكر على الحقيقة محله القلب لأنه ضد النسيان، والتسبيح نوع من الذكر، فلو أطلق الذكر والتسبيح لما فهم منه إلا ذلك، دون اللفظ باللسان، والله - عز وجل - إنما تعبدنا بالأمرين جميعاً، ولم يتقبل من الإيمان إلا ما كان قولاً باللسان، واعتقاداً بالجنان، فصار معنى الآيتين في هذا: اذكر ربك أو سبح ربك، بقلبك ولسانك، وكذلك أقحم الاسم تنبيها على هذا المعنى حتى لا يخلوا الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان، لأن الذكر بالقلب متعلقه بالمسمى المدلول عليه بالاسم دون ما سواه، والذكر باللسان متعلقه اللفظ مع ما يدل عليه، لأن اللفظ لا يراد لنفسه. فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو التسبيح دون ما يدل عليه من المعنى، هذا ما لا يذهب إليه خاطر، ولا يتوهمه ضمير فقد وضحت تلك الحكمة التي من أجلها أقحم ذكر الاسم، وأنه به كملت الفائدة وظهر الإعجاز في النظم والبلاغة في الخطاب. وهذه نكتة لمتدبرها خير من الدنيا بحذافيرها، والحمد لله على ما فهم وعلم. ومما غلطوا من أجله قوله عز وجل: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا) . والمعبود هو المسمى. والجواب: أنهم ما عبدوا إلا المسميات، ولكنهم عبدوها من أجل الأسماء المفخمة الهائلة التي اخترعوها لهم، كاللات والعزى، وتلك أسماء كاذبة غير واقعة على حقيقة، فكأنهم لم يعبدوا إلا الأسماء التي اخترعوها. وهذا من المجاز البديع الغريب وكذلك قامت الحجة عليهم، ولو كانت الأسماء ها هنا هي المسميات لقلت فائدة الكلام، ولخلا عن الإعجاز والبلاغة هذا النظام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 إن قيل: ما فائدة دخول الباء في (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) ولم لم يدخل في (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ؟. والجواب: أن التسبيح ينقسم قسمين: أحدهما: أن يراد به التنزيه والذكر دون معنى يقترن به. والثاني: أن يراد به الصلاة، وهي ذكر مع عمل، ومنه سميت سبحة، وهو في القرآن كئير قال الله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) . وأشار (به) إلى الصلوات الخمس، وقيل في قوله تعالى: (فلولا أنه كان من المسبحين) ، أي: المصلين. فإذا ثبت ذلك وأردت التسبيح المجرد فلا معنى للباء، لأنه لا يتعدى بحرف جر، لا تقول: " سبحت بالله ". وإذا أردت التضمين لمعنى الصلاة دخلت " الباء " تنببهاً على ذلك المعنى، فنقول: " سبح باسم ربك ". كما تقول: " صل باسم ربك "، أي: مفتتحاً باسمه. وكذلك أيضاً دخلت اللام في قوله تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) لأنه أراد التسبيح الذي هو السجود والطاعة، كما قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) . فهذا يقوي ما تقدم من أن ذكر الاسم ها هنا تنبيه على الذكر بالقلب واللسان، ألا ترى أن الصلاة لا بد فيها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 اللفظ باسم الله عند التكبير ولذلك لم يقل: " سبح بربك " تنبيهاً على ما تقدم، والله تعالى أعلم. وأما مثار الغلط من جهة أبيات الشعر فقول لبيد: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر وقول ذي الرمة: لا ينعش الطرف إلا ما تخونه ... داع يناديه باسم الماء مبغوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وقول الآخر: تَدَاعَيْنَ باسمِ الشِّيبِ في مُتَثَلِّمٍ ... جَوانِبُه من بَصْرةٍ وسِلامِ يريد صوت (جرع) الماء في الحوض، لأنه يشبه قولك: " شيب. شيب ". والداعي في البيت قبل هذا هي الظبية، وإنما دعت ولدها بهذا الصوت يعني: " ماء. ماء "، لا بلفظ دال عليه، وهذا كله يدل على أن الاسم هو المسمى. وقد أجاب بعض الحذاق عن هذا بجواب لا يقوم على ساق، ولا يكاد يفهم لشدة التكلف فيه والاستغلاق. وكان هذا الرجل قد ألف في الاسم والمسمى كتابا، ذهب فيه إلى أن الاسم غير المسمى كما قدمناه، ولكنه تكلف وتعسف، ومن ألف فقد استهدف. وهذه الأبيات التي احتجوا بها عندي أبين شيء في الرد عليهم، وأدل شيء على أن الاسم غير المسمى، وذلك أنه قال: " باسم الماء " ولم يقل: " باسم ماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ماء ". والماء - بالألف واللام - ليس إلا الماء المشروب، فكيف يريد بها حكاية صوتها؟ ولكن الشاعر ألغز حيث وقع الاشتراك بين لفظ الماء وصوتها، فصار صوتها كأنه هو اللفظ المعبر به عن الماء المشروب، فأي شيء أبين من هذا من أن الاسم غبر المسمى؟. وأما قوله: " تداعين باسم الشيب " فهو كذلك، لأنه لم يقل: " باسم شيب. شيبا. وإنما قال: " الشيب " - بالألف واللام - ولفظ الألف واللام غير موجود في صوت الإبل وإنما أراد: تداعين بصوت يشبه في اللفظ اسم الشيب، أعني: جمع " أشيب "، كما في البيت الأول. وأما قول لبيد: " اسم السلام عليكما " فالسلام اسم من أسماء الله تعالى. والسلام عبارة عن التحية، وهذا الذي أراد، ولكنه شرفه بأن أضافه إلى الله عز وجل، لأنه أبلغ في التحية، كأنه يقول: لو وجدت سلاماً أشرف من هذا لحييتكم به، ولكني لا أجده لأنه اسم السلام، والحمد لله. ووجه آخر، وهو أحسن في المعنى، وذلك أن لبيداً لم يرد إيقاع التسليم عليهم لحينه، وإنما أراده بعد الحول، ولو قال: " ثم السلام عليكما " لكان مسلماً في وقته الذي نطق به في البيت، فلذلك ذكر الاسم الذي هو عبارة عن اللفظ، أي: إنما اللفظ بالتسليم بعد الحول، وذلك أن السلام دعاء، فلا يتقيد بالزمان المستقبل وإنما هو لحينه، ألا ترى أنه لا يقال بعد الجمعة اللهم ارحم زيداً ولا بعد الموت اللهم اغفر لي، إنما تقول: " اللهم اغفر لي بعد الموت "، فيكون " بعد " ظرفا للمغفرة والدعاء واقع لحينه. فإن أردت أن تجعل الوقت ظرفاً للدعاء صرحت بلفظ الفعل فقلت: " بعد الجمعة ادعو بكذا "، أو أسلم، أو ألفظ (بكذا) ، لأن الظروف إنما تقيد بها الأحداث الواقعة فيها خبراً أو أمراً أو نهياً، وأما غيرها من المعاني كالعقود، أعني عقد الطلاق وعقد اليمين، وكالدعاء والتمني والاستفهام وغير ذلك من المعاني فإنما هي واقعة لحين النطق بها، ولذلك يقع الطلاق لمن قال: " بعد يوم الجمعة أنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 طالق يا فلانة، فهو مطلق لحينه، ولا ينفعه ذكر الوقت. وكذلك القسم إذا قال: " بعد الحول والله لأخرجن " فقد انعقد اليمين (عليه) حين نطق به، ولا ينفعه أن يقول: أردت أن لا أوقع اليمين إلا بعد الحول. فإنه لو أراد ذلك فقال: بعد الحول أحلف أو ألفظ باليمين. فأما الأمر والنهي والخبر فإنما تقيدت بالظروف، لأن الظروف في الحقيقة إنما يقع فيها الفعل المأمور به أو المخبر به، دون الأمر والخبر، فإنهما واقعان لحين النطق بهما فإذا قلت: " اضرب زيداً يوم الجمعة "، فالضرب واقع في اليوم وأنت من الآن آمر. وكذلك في الخبر إذا قلت: " سأقوم يوم الجمعة " فالقيام في اليوم وأنت من الآن مخبر. فلا تعلق للظروف إلا بالأحداث، فقد رجع الباب كله باباً واحداً، فلو أن لبيداً قال: " إلى الحول ثم السلام عليكما " لكان مسلماً لحينه ولكنه أراد أن لا يوقع اللفظ بالتسليم والوداع إلا بعد الحول (ولذلك ذكر الاسم الذي هو بمعنى اللفظ، ليكون ما بعد الحول) ظرفاً له، فافهم ذلك، والحمد لله. * * * مسألة وهي القول في الاسم الذي هو عبارة في الله عز وجل وقد تكلم الناس فيه قديماً وحديثاً، تكلموا في " الألف واللام " أهي للتعريف أم للتعظيم أم هي دالة على معنى آخر؟ أم هي (من) نفس الكلمة؟. وتكلموا في اشتقاقه أهو مشتق أم لا؟ وإذا كان مشتقاً فمن أي شيء اشتق؟ وكثر في ذلك نزاعهم وتباينت أقوالهم. والذي نشير إليه من ذلك ونؤثره ما أختاره شيخنا - رضي الله عنه - وهو الإمام أبو بكر محمد بن العربي، قال: الذي اختاره من تلك الأقوال كلها هذا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 أن الاسم غير مشتق من شيء، وأن الألف واللام من نفس الكلمة، إلا أن الهمزة وصلت لكثرة الاستعمال، على أنها (فيه) جاءت مقطوعة من القسم، (حكى سيبويه) : " أفالله لأفعلن "، وفي النداء نحو قولهم: " يا لله ". فهذا يقوي أنها من: نفس الكلمة ويدلك على أنه غير مشتق أنه سبق الأشياء التي زعموا أنه مشتق منها، لا نقول: إن اللفظ قديم، ولكنه متقدم على كل لفظ وعبارة. ويشهد بصحة ذلك قوله عزوجل: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) ؟ فهذا نص في عدم المسمى، وتنبيه على عدم المادة المأخوذ منها الاسم. مع أنا إذا قلنا بالاشتقاق فيه تعارضت علينا الأقوال، فمن قائل يقول: من " إله " إذا عبد، فإله هو المعبود. ومن قائل يقول: من الوله، وهي الحيرة، يريد أن العقول تحار في عظمته، وهمزة إله عند هؤلاء بدل من واو. ومن قائل يقول: إنه من " لاه " إذا علا. وسائر الأقوال قريبة من هذه، فإن لم تكن هي هي في الحقيقة، ولكل قول شاهد يطول ذكره، فإذا تعارضت الأقوال لم يكن بعضها أولى من بعض، فرجعنا الى القول الأول لما عضده من الدليل، والله الموفق إلى خير قيل. * * * مسألة أخرى إعراب (الرَّحْمَنِ) من قوله: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ذهب قوم إلى أنه نعت، وذهب آخرون إلى أنه بدل من الله، واستبعدوا النعت فيه لأنه علم، وإن كان مشتقا من الرحمة، ولكنه ليس بمنزلة الرحيم ولا الراحم، وغير ذلك مما يطرد القياس فيه، ويكثر في النعوت مثله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وأما (الرَّحْمَن) فإنه مختص بالعلمية ومصنوع لها، كما أن " الدبران " وإن كان مشتقاً من " دبرت " ولكنه صيغ للعلمية، فجاء على بناء لا يكون في النعوت. ويدلك على أنه (علم) وروده في القرآن غير تابع لاسم قبله، كما ورد غيره من الأسماء التي لا تجري مجرى الأعلام. فلما ثبت أنه علم امتنع أن يكون نعتاً، لأن العلم ينعت ولا ينعت به، وإذا امتنع أن يكون نعتاً لم يبق إلا أن يكون بدلًا من الله. هذا منتهى قولهم، وإليه ذهب الأعلم. والبدل عندي فيه ممتنع، وكذلك عطف البيان، لأن الاسم الأول لا يفتقر إلى تبيين، لأنه أعرف الأسماء كلها وأبينها، ألا ترى أنهم قالوا: (وما الرحمن) ؟ ولم يقولوا: وما الله؟ ولكنه - وإن كان يجري مجرى الأعلام - فإنه مشتق من الرحمة، فهو وصف يراد به الثناء، وكذلك الرحيم، إلا أن الرحمن من أبنية المبالغة كغضبان ونحوه، وإنما دخله معنى المبالغة من حيث كان في آخره ألف ونون كالتثنية، فإن التثنية في الحقيقة تضعيف، وكذلك في الصفة، فكان " غضبان " و " سكران " حاملاً لضعفين من الغضب والسكر، فكان اللفظ مضارعاً للفظ التثنية، لأن التثنية ضعفان في الحقيقة، ألا ترى أنهم قد شبهوا التثنية بهذا البناء إذا كانت لشيئين متلازمين فقالوا: " الجلمان " و " القلمان "، فأعربوا " النون " كأنه اسم لشيء واحد، فقد اشترك باب " فعلان، وباب التثنية. ومنه قول عائشة رضي الله عنها " إذا حاضت المرأة حرم الجحران " بالرفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وهو قول طائفة من أهل العلم غير " القتبي " ومنه قول فاطمة - رضي الله عنها - في نداء ابنها " يا حسنان، يا حسينان " هكذا روته الرواة برفع " النون ". ولمضارعته التثنية امتنع جمعه، فلا يقال في غضبان: " غضبانين " وامتنع تأنيثه بالهاء، فلا يقال: " غضبانة "، وامتنع تنوينه كما لا ينون " نون الاثنين ". فجرت عليه كثير من أحكام التثنية لمضارعته إياها لفظاً ومعنى. وفائدة الجمع بين الصفتين - أعني (الرحمن الرحيم) - وإن كانتا جميعاً من الرحمة، الإنباء عن رحمة عاجلة، ورحمة آجلة، أو عن رحمة عامة وأخرى خاصة، حاصلتين لقارئ القرآن والله أعلم. * * * مسألة [في متعلق الباء في (بِسْمِ] وأما ما تعلق به الباء من (بِسْمِ) فمحذوف، لا لتخفيف اللفظ كما زعمواً، إذ لو كان كذلك لجاز إظهاره وإضماره، كما يجوز في كل ما يحذف تخفيفاً، ولكن في حذفه فوائد ومعان، منها: أنه موطن ينبغي أن لا يقدم فيه سوى ذكر الله تعالى، فلو ذكر الفعل - لا سيما وهو لا يستغني عن فاعله - كان ذلك مناقضا للمقصود، فكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى، كما تقول في الصلاة: " الله أكبر "، ومعناه: من كل شيء، ولكن لا تقوله ليكون اللفظ في اللسان مطابقاً لمقصود الجنان، وهو أن لا يكون في قلب ذكر إلا لله وحده. وفائدة أخرى في حذف الفعل، وهو أن إضمار الفعل وحذفه أكثر ما يكون في الأمر نحو: " إياك والطريق "، (الطريق) ونحو ذلك. والمتكلم بـ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 هو الله سبحانه، وهو أمر عبادة بالابتداء بها في كل سورة من القرآن. وفائدة ثالثة: وهو أنه إذا حذف الفعل صالح الابتداء في كل عمل أو شغل فليس فعل أولى بها من فعل، فكان الحذف أعم من الذكر وأبلغ، (مع) الاستغناء عنه بالمشاهدة والله - سبحانه - أعلم. * * * مسألة أخرى [في الواو من قولك وصلى الله على سيدنا محمد] الواو من قولك: " وصلى الله على سيدنا محمد " مختلف في إثباتها وطرحها، وحجة من طرحها أن الفعل بعدها دعاء، والدعاء لا يعطف على الخبر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 لو قلت: " مررت بزيد وأكرم الله عمراً "، لكان كلاماً غثاً وقولاً مسترثاً، وقولنا: " بسم الله " في معنى الخبر لأنه متعلق بفعل مضمر تقديره: أبدأُ. وحجة من أثبتها - مع الاقتداء بالسلف - أن هذه الواو لم تعطف دعاء على خبر، ولكنها عطفت كلاماً محكيًّا، والمحكي ينزل منزلة الاسم المفرد، ألا ترى أنك تقول: " بدأت بالحمد لله، وختمت بصلى الله على محمد ". أي: بهذا القول فكذلك تقول: " بدأت باسم الله وصلى الله على محمد، كأنك قلت: بدأت بذكر هذا الاسم وبهذا القول بعده، أعني الدعاء لمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وهذا غير بعيد فيه العطف، والله المستعان. * * * مسألة أخرى في معنى الصلاة على محمد - صلى الله عليه وسلم - قال أهل اللغة: الصلاة تنقسم أقساماً: الصلاة بمعنى الدعاء، والصلاة بمعنى الرحمة والصلاة التي فيها الركوع والسجود. فصل اة الله - تعالى - على أنبيائه - عليهم الصلاة والسلام - رحمة، وصلاتنا نحن عليه دعاء. وقالوا في الصلاة التي فيها (الركوع والسجود: إنها) مشتقة من " الصلاتين " وهما عرقان في كفل الإنسان ينحنيان عند انحنائه، فقيل: أصليت " أي: انحنيت راكعا أو ساجداً. وقيل: " صلى الفرس "، أي: جاء بعد السابق وكان رأسه عند صلاة، ولذلك جاء في الأثر: " سبق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلى أبو بكر " إنما هو من هذا. وقال: كأَنَّ صلاَ جَهِيزةَ حِينَ قامَتْ ... حَبابُ الماءِ يَتَّبِعُ الحَبابا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وتركت الرمح يعمل في صَلاه ... كأن سنانه خرطوم نسر هذا منتهى كلامهم وأقصى مرامهم، لم ينبهوا على هذه الألفاظ أهي ألفاظ اشتراك أم هي مستعارة في بعضها من بعض؟ ولا ذكروا اشتقاقاً للصلاتين اللتين هما الدعاء والرحمة، وتدخل عليهم سؤلات واعتراضات، منها أن يقال: إن كانت الصلاة هي التي بمعنى الرحمة أصلاً في بابها، فمن أي شيء اشتقاقها، وإن كانت مستعارة عن الأخرى ومجازاً لها، فأي نسبة بين الرحمة والدعاء؟ أو بين الرحمة والمعنى الآخر الذي هو الانحناء، حتى ينقل اللفظ منه إليها مجازاً أو اتساعاً؟ ومما يسألون عنه في قولهم: الصلاة هي الدعاء (أن يقال لهم: الدعاء) يكون بالخير والشر، قال الله تعالى: (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ) . ولم يوجد في كلام العرب " صليت "، أي: دعوت بالشر، بل تقول: دعوت على الظالم والعدو ونحوهما، ولا تقول: صليت. ومما يسألون في قولهم: (دعوت) يتعدى باللام إذا كانت في الخير، تقول: دعوت للمريض بالشفاء، ولا تقول: دعوت عليه بالشفاء. وصليت يتعدى بعلى على كل حال، قال الأعشى: عليكِ مثلَ الذي صَلَّيْتِ فاغتَمِضِي نوْماً فإن لِجَنْبِ المرءِِ مُضْطَجَعا وقال آخر: وقابَلَها الريحُ في دَنِّها ... وصَلَّى على دَنِّها وارْتَسَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فكيف يكون معناهما واحداً ومواطنهما مختلفة هذه تستعمل في الخير والشر. وهذه لا تستعمل إلا في الخير، وإحداهما تقتضي مفعولاً وهو المدعو، والثانية لا تقتضي مفعولًا ولا تطلبه وهي (صليت) ، وإحداهما موصولة باللام إذا كانت في الخير وموصولة بعلى إذا كانت في الشر، والأخرى موصولة بعلى ولا تكون إلا في الخير كما تقدم، فأي تباين في المعنى أعظم من هذا لمن أنصف. * * * فصل والجواب عن هذه التساؤلات كلها وبالله التوفيق، وهو المستعان على سلوك سبيل التحقيق، أن نقول: الصلاة كلها - وإن توهم اختلاف معانيها - راجعة في المعنى " والاشتقاق إلى أصل واحد، فلا تظنها لفظة اشتراك ولا استعارة إنما معناها كلها الحنو والعطف، إلا أن الحنو والعطف يكون محسوساً ومعقولاً، فيضاف إلى الله - تعالى - منه ما يليق بجلاله، وينفي عنه ما يتقدس عنه، كما أن العلو " محسوس ومعقول، فالمحسوس منه صلة الأجسام والأجرام، والمعقول منه صفة ذي الجلال والإكرام وهذا المعنى كثير موجود في الصفات وغيرها، ألا ترى أن الكبير يكون صفة للمحسوسات وصفة للمعقولات، وهو من أسماء الله عز وجل، وقد تقدس - سبحانه - عن مضاهاة الأجسام، وتنزه عن إدراك الأوهام ومشابهة الأنام، فجميع ما يضاف إليه من هذه المعاني معقولة محسوسة. وهذا واضح لا خفاء به. وإذا ثبت هذا فالصلاة - كما قلنا - حنو وعطف، من قولك: " صليت " أي: حنيت صلاك وعطفته، فأخلق بأن تكون الرحمة صلاة أيضاً (كما) تسمى عطفاً وحنواً، تقول: " اللهم اعطف علينا "، أي: ارحمنا، قال الشاعر: وما زلت في ليني له وتعطفي ... عليه كما تحنو على الولد الأم أي: ترحمه وتعطف عليه. ورحمة العباد: رقة في القلب إذا وجدها الراحم من نفسه انعطف على المرحوم وانثنى عليه، ورحمة الله للعباد: جود (منه) وفضل، فإذا صلى عليه فقد أفضل عليه وأنعم. وكل هذه الأفعال - كانت من الله عز وجل، أو من العبد - فهي متعدية بعلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ومخصوصة بالخير لا تخرج عنه إلى غيره، فقد رجعت كلها إلى معنى واحد، إلا أنها في معنى الدعاء والرحمة صلاة معقولة، أي: انحناء معقول غير محسوس، ثمرته من العبد الدعاء، لأنه لا يقدر على أكثر منه، وثمرته من الله تعالى الإنعام والإحسان. فلم تختلف الصلاة في معناها، إِنما اختلفت ثمرتها الصادرة عنها. والصلاة التي هي الركوع والسجود انحناء محسوس، فلم يختلف المعنى فيها إلا من جهة المعقول والمحسوس، وليس ذلك باختلاف في الحقيقة، ولذلك تعدت كلها بعلى، واتفقت في اللفظ المشتق من الصلاة، ولم يجز " صليت على العدو " أي: دعوت عليه، فقد صار معنى الصلاة أرق وأبلغ من معنى الرحمة، وإن كان راجعا إليه، إذ ليس كل راحم ينحني على المرحوم ولا ينعطف عليه من شدة الرحمة. فهذا غاية الكشف عن المسألة، فلا يزهدنك فيها طول العبارة، فقد يدرك هذا المعنى بأدنى إشارة، ولكنها لما كانت مسألة لم يوجد لأحد فيها كلام يوصل إلى التحقيق، أطلنا الكلام رغبة في البيان وحرصا على الإفهام، والله ولي التوفيق. وهذه النكتة يجب (من) الاعتناء بها ما لا يجب لغيرها، لكثرة دورها على الألسنة، وأنه لا يتم الإيمان ولا (يكمل) الدين لمن لا يصلي على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا يكون مصلياً عليه في الحقيقة إِلا من فهم الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ باب أقسام الكلام قال فيه أبو القاسم (رحمه الله) : أقسام الكلام (ثلاثة) : اسم وفعل وحرف. وهذه العبارة - على طولها - واهية مردودة، وعبارة سيبويه - على إيجازها - صحيحة مفيدة قال سيبويه: " الكلم: اسم وفعل وحرف ". ووجه الرد على أبي القاسم في عبارته من وجهين: أحدهما: أنه عبر بالكلام عن الكلم الذي هو جمع كلمة، إذ الاسم والفعل والحرف، كل واحد منها كلمة. وجمع الكلمة كلم، كما تقول: لبنة ولبن. وأما الكلام فهو اسم مفرد يعبر به عن المعنى القائم في النفس الذي تدل عليه العبارات، وما يصطلح عليه من الإشارات. ثم قد يسمى اللفظ الدال عليه كلاماً، على مذهب العرب في تسميتهم الشيء باسم الشيء الذي اتصل به أو كان سبباً له. والوجه الثاني أنه قال: " أقسام الكلام ثلاثة "، فنوع الكلام ثلاثة أنواع، وجعل الكلام جنسا جامعاً لها، فخرج من مضمون ذلك أن الاسم على حدته يسمى كلاماً وكذلك الحرف والفعل، كما أنك لو قلت: " الحيوان ينقسم قسمين: إنسانا وبهيمة " لكان كل قسم من الحيوان يسمى حيواناً، وكذلك جميع الأنواع الواقعة تحت الأجناس. وليس كذلك مسألتنا، فإن " زيداً " ليس كلاماً على حدته، ولا " من "، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 و " عن "، ولا " قام "، بل كل واحد منهن كلمة وليست بكلام. قال سيبويه: " وإنما يحكى ما كان كلاماً لا قولاً، وما لم يكن هكذا سقط القول عليه ". وأصح من هذه العبارة عبارة من قال: " الكلام (ما) يتألف من ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف "، إلا أنها (أيضاً) معترضة من وجه واحد، وهو أنه قد يوجد في الكلام ما يتألف من شيئين، نحو: قام زيد، فليس الكلام كله يتألف من هذه الثلاثة، بل أكثره. فإن قيل: فما تصحيح عبارة من قال: الكلام ينقسم ثلاثة أقسام؟ فالجواب أن يقال: صحيحها أن يقال: ثلاثة أقسام: خبر، واستخبار وطلب. فكل واحد من هذه كلام، وليس كذلك الاسم والفعل والحرف. * * * مسألة [في الاسم] قوله: (الاسم ما جاز أن يكون فاعلاً أو مفعولاً) . لا يخلو أن يكون أراد بالاسم المسمى، أو أراد به اللفظ الدال عليه، فإن كان أراد بالاسم المسمى - على مذهب من يقول ذلك - فعبارة صحيحة، إلا قوله: " أو دخل حرف من حروف الخفض ". فإن حرف الخفض لا يدخل على المسمى، وإنما يدخل على اللفظ الدال عليه، وهو الاسم. وإن كان أراد بالاسم اللفظ الدال على المسمى، فظاهر عبارته أيضاً الفساد، لأن الذي يكون فاعلاً أو مفعولاً في الحقيقة إنما هو المسمى دون الاسم. والعذر له - رحمه الله - أنه تسامح، إرادة التقريب، ولم يقصد إحراز ألفاظه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 من اعتراض الطاعن، وتلك عادة في أكثر هذا الكتاب وليس مذهباً له ولا لأحد من النحويين أن يريد بالاسم المسمى، ولكنه أراد به الكلمة الدالة. وقولهم في الكلمة: فاعل أو مفعول، لفظ اصطلحوا عليه، ومعناه ارتفع، لأنه عبارة عن فاعل، وانتصب لأنه عبارة عن مفعول به. وقوله إذاً في الاسم: " ما جاز أن يكون فاعلاً أو مفعولاً "، قول صحيح في صناعة النحو، ولا يلتفت إلى غيرها. فإن قيل: ما بال سيبويه قد حدَّ الفعل والحرف ولم يحدَّ الاسم حين قال: " والاسم زيد وعمرو "؟ فالجواب: أن الاسم وقع في عبارة النحويين على ما هو في كلام العرب، فلم يحتج إلى تبيينه بحد ولا رسم. وأما الفعل والحرف فعبارتان مصطلح عليهما عند النحويين، لأن الفعل عند العرب هو الحدث، وعند النحويين هو: اللفظ الدال على الحدث والزمان. والحرف عند النحويين: ما دل على معنى في غيره. وليس يفهم من العرب من الحروف ذلك المعنى. وجميع ألفاظ النحويين ينقسم إلى قسمين، منها ما تواضعوا واصطلحوا عليه. ولا يعبر العرب به إلا عن معنى آخر، نحو: " الظرف "، و (الحرف) ، فهذا لا بد من تبيينه للمبتدئ بالحد والرسم. ومنها ما هو على أصل موضوعه في كلام العرب نحو: " الاسم " و " الفاعل " و " المفعول بها. فهذا لا إشكال فيه على ناظر في صناعة النحو، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 مسألة " ما جاز أن يكون فاعلاً أو مفعولاً ". قوله: " فاعلاً، هاهنا حال وقع فيها الفعل، والفعل العامل فيه " كان "، لأنها هاهنا تامة تكتفي باسم واحد وليست " كان " الناقصة التي هي عبارة عن الزمان، لأن تلك لا يجوز أن تعمل في الحال، على ما سيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى. * * * مسألة فإن قيل: ولم لا يجوز أن يكون " فاعلاً " هاهنا خبراً ليكون، وتجعلها ناقصة؟ فالجواب أن يقال: يمنع من ذلك أمران: المعنى وسياقة الكلام، فإن الكلام ورد في معرض التبيين لماهية الاسم وحقيقته، فوجب أن يكون تأويله: ما جاز أن يوجد فاعلاً أو مفعولاً، لأن " كان " التي هي عبارة عن الزمان إنما هي داخلة على المبتدأ والخبر، فلا تدخل إلا على ما ثبت معناه وعرف وجوده، والأمر ها هنا بخلاف ذلك. مسألة [في تعريف الفعل] قوله: " والفعل ما دل على حدث وزمان ". دلالة الفعل على الحدث بالتضمين لا بالمطابقة، كنحو دلالة " البيت " على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 " السقف " وأما دلالته على الزمان فقال النحويون: بالبنية. وهو لا يدل على الزمان ألبتَّة، وإنما يدل اختلاف أبنيته على اختلاف أحوال الحدث من المضي والاستقبال والحال. وأما الزمان الذي هو حركة للفاعل، إن كان مقارناً له، لأن حركة فاعل لا تدل على حركة فاعل آخر، وكذلك قال سيبويه في أول الكتاب: " أخذت من لفظ أحداث الأسماء فبنيت لما مضى، ولما يكون ولما يقع، ولما هو كائن لم ينقطع ". يعني لما مضى من الحدث ولما هو كائن منه لأنه لم يتقدم غير ذكر الأحداث. * * * فصل في اشتقاق الفعل من المصدر وفائدة اشتقاق الفعل من المصدر أن المصدر اسم كسائر الأسماء يخبر عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 كما يخبر عن سائر الأسماء، نحو قولك: " أعجبني خروج زيد "، " سرني قدوم بكر ". فإذا ذكر هو وأخبر عنه كان الاسم الذي هو فاعل له مخفوضاً مضافاً إليه، والمضاف إليه تابع للمضاف، ومستحق للخفض لما سنذكره بعد. فإذا أرادوا أن يخبروا عن الاسم الفاعل للحدث، لم يمكن الإخبار عنه وهو مخفوض تابع في اللفظ لغيره، وحق المخبر (عنه) أن يكون مرفوعاً مبتدأ به للحكمة المذكورة في باب المبتدأ، فلم يبق إلا أن يدخلوا عليه حرفاً يدل على أنه مخبر عنه كما تدل الحروف على معان في الأسماء، هذا لو فعلوه لكان الحرف حاجزاً (بينه) وبين الحدث في اللفظ، والحدث - الذي هو حركة الفاعل في المعنى - يستحيل انفصاله عن الفاعل كما يستحيل انفصال الحركة عن محلها، فوجب أن يكون اللفظ غير منفصل، لأنه تابع للمعنى. ولما بطل جعل الاسم مخبراً عنه مع بقاء لفظ الحدث على حاله، وبطل إدخال حرف يدل على كونه مخبراً عنه، لم يبق إلا أن تشتق من لفظ الحدث لفظاً يكون كالحرف في النيابة عنه، دالاً على معنى في غيره، ويكون متصلاً اتصال المضاف بالمضاف إليه، وهو الفعل المشتق من لفظ الحدث، فإنه يدل على الحدث بالتضمين، ويدل على أن الاسم مخبر عنه لا مضاف إليه، (إذ يستحيل إضافة لفظ الفعل إلى الاسم) كما يستحيل إضافة الحرف، لأن المضاف هو الشيء بعينه، والفعل ليس هو الشيء بعينه ولا يدل على معنى في نفسه (وإنما يدل على معنى في الفاعل، وهو كونه مخبراً عنه) فإن قيل: كيف لا يدل على معنى في نفسه وهو يدل على الحدث؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 قلنا: إنما يدل عليه بالتضمين كما سبق، دلالة " الفرس " على " القوائم ". ودلالة السقف على البيت. واللفظ الذي يدل على الحدث بالمطابقة إنما هو الضرب والقتل، وأما " ضرب " و " قتل " فلا، وإذا ثبت أنه لا يدل على معنى في نفسه بالمطابقة، فمن ثَمَّ وجب (أن ألا يضاف ولا أن يعرف بشيء من آلات التعريف، إذ التعريف يتعلق بالشيء بعينه لا بلفظ يدل على معنى في غيره. (ومن ثَمَّ وجب ألا يثنى ولا يجمع، كما لا يثنى الحرف ولا يجمع) . ومن ثَمَّ وجب أن يبنى كما تبنى الحروف لمضارعته لها، من حيث دل على معنى في غيره كالحرف، ومن ثم وجب أن يكون عاملاً في الاسم كما أن الحرف لما دل على معنى في غيره وجب أن يكون له أثر في لفظ ذلك الغير، كما له أثر في معناه. وإنما أعرب المستقبل الذي هو أوله الزوائد لأنه تضمن معنى الاسم، إذ " الهمزة " تدل على المتكلم، و " التاء " على المخاطب، و " الياء " على الغائب، فلما تضمن بلفظ معنى الاسم ضارع الاسم فأعرب، كما أن الاسم إذا تضمن معنى الحرف بني. وأما الماضي وفعل الأمر فإنهما - وإن تضمنا معنى الحدث، وهو اسم - فما شاركا فيه الحرف من الدلالة على معنى في غيره، وهي حقيقة الحرف، أوجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 بناءهما، حتى إذا ضارع الفعل الاسم من وجه آخر غير التضمن للحدث، خرج عن مضارعة الحرف، فكان أقرب شبهاً بالأسماء كما تقدم. ولما قدمناه من دلالة الفعل على معنى في الاسم - وهو كون الاسم مخبراً عنه - وجب أن لا يخلو عن ذلك الاسم مضمراً أو مظهراً، بخلاف الحدث فإنك تذكره ولا تذكر الفاعل مضمراً ولا مظهراً، نحو قوله تعالى: (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) . ونحو قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) ، وغير ذلك. والفعل لا بد من ذكر الفاعل بعده كما لا بد بعد الحرف من ذكر الاسم الذي دخل لمعنى فيه. * * * فصل (في صيغ الفعل) فإن قيل وإذا ثبت المعنى في اشتقاق الفعل من المصدر، وهو كونه دالاً على معنى في الاسم، فلا يحتاج من الأفعال الثلاثة إلا إلى صيغة واحدة، وتلك الصيغة هي لفظ الماضي لأنه أخف وأشبه بلفظ الحدث، إلا أن تقوم الدلالة على اختلاف أحوال الحدث فتختلف حينئذ صيغة الفعل، ألا ترى كيف لم تختلف صيغته بعد " ما " الظرفية من قولهم: " لا " أفعله ما لاح برق، ولا ما طار طائر، لأنهم يريدون الحدث مخبراً (به) على الإطلاق من غير تعرض لزمان ولا من حال من أحوال الحدث. فاقتصروا على صيغة واحدة وهي أخف أبنية الفعل. وكذلك فعلوا بعد التسوية نحو قوله تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) . ونحو قوله تعالى: (أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ) الآية. أراد التسوية بين الدعاء والصمت على الإطلاق من غير تقييد بوقت ولا حال، فذلك لم يحتج إلا (إلى) صيغة واحدة، وهي صيغة الماضي. كما سبق. فالحدث إذاً على ثلاثة أضرب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ضرب يحتاج إلى الإخبار عن فاعله، وإلى اختلاف أحوال الحدث، فيشتق منه الفعل دلالة على كون الفاعل مخبراً عنه، وتختلف أبنيته دلالة على اختلاف أحوال الحدث. وضرب يحتاج (إلى) الإخبار عن فاعله على الإطلاق من غير تقييد بوقت ولا حال. فيشتق منه الفعل، ولا تختلف أبنيته نحو ما ذكرناه من الفعل الواقع بعد التسوية، وبعد " ما " الظرفية. وضرب لا يحتاج إلى الإخبار عن فاعله ولا إلى اختلاف أحوال الحدث. بل يحتاج إلى ذكره خاصة على الإطلاق مضافاً إلى ما بعده، نحو: سبحان الله، فإن سبحان اسم ينبنئ عن العظمة والتنزيه، فوقع القصد إلى ذكره مجرداً من التقييدات بالزمان أو بالأحوال. ولذلك وجب نصبه كما يجب نصب كل مقصود إليه بالذكر. نحو " إياك " ونحو " ويل زيد وويحه "، وهما أيضاً مصدران لم يشتق منهما فعل، حيث لم يحتج إلى الإخبار عن فاعلهما، ولا احتيج إلى تخصيصهما بزمن، فحكمهما حكم سبحان الله ونصبهما كنصبه، لأنه مقصود إليه. ومما انتصب لأنه مقصود إليه بالذكر: " زيداً ضربته " في قول النحويين، وهو مذهب شيخنا " أبي الحسين "، وكذلك " زيداً ضربت "، بلا ضمير، لا يجعله مفعولًا مقدماً لأن المعمول لا يتقدم على عامله، وهو مذهب قوي. ولكن لا يبعد عندي قول النحويين أنه مفعول مقدم، وإن كان المعمول لا يتقدم على العامل. والفعل كالحرف لأنه عامل في الاسم وذلك على معنى فيه، فلا ينبغي للاسم أن يتقدم، كما لا يتقدم على الحرف. ولكن الفعل في قولك: " زيداً ضربت " فد أخذ معموله وهو الفاعل، فمعتمده عليه، ومن أجله صيغ، وأما المفعول فلم يبالوا به، إِذ ليس اعتماد الفعل عليه كاعتماده على الفاعل، ألا ترى أنه يحذف والفاعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 لا يحذف، فليس تقديمه على الفعل العامل فيه بأبعد من حذفه. وأما " زيداً ضربته " فينصب بالقصد إليه، كما قال الشيخ. * * * مسألة (في المصدر) هاهنا سؤال لطيف، وهو أن يقال: المصدر في اصطلاح النحويين أمصدر هو أم اسم غير مصدر؟ ومعنى هذا السؤال أن مصدر مفعل، ومفعل يكون عبارة عن الحدث نحو " ذهبت مذهباً "، ويكون عبارة عن الموضع الذي يكون فيه الفعل، فتسمية النحويين الحدث مصدراً هل هو مفعل الذي يراد به الحدث، أو مفعل الذي يراد به الموضع؟ فإن قلت: هو مفعل الذي يراد به الحدث، خرجت إلى قول الكوفيين في قولهم: إن المصدر صادر عن الفعل (والفعل) أصل له، وذلك أنك إذا جعلته مصدراً صار بمعنى الصدور والصدر، وصار الضرب ونحوه إذا سميته مصدراً كقولك: " رجل صوم وزور وفطر " أي: صائم وزائر ومفطر، فيكون الحدث أيضاً صادراً من حيث جعلت المصدر مفعلًا بمعنى الصدور والصدر. فإن قلت: وكيف أجعله اسما غير مصدر وهو عبارة عن الحدث، والحدث هو المصدر؟ قلنا: تسمية الحدث عندنا مصدراً على جهة الاستعارة، كأنه الموضع الذي صدرت عنه الأفعال، والأصل الذي نشأت عنه، ولا بد من المجاز على القولين جميعاً، لأن الكوفي إذا قال إنه بمعنى " الصدود فلا بد من حذف عنده في تسمية الضرب مصدراً، كما لا بد من حذف في تسمية الرجل صوماً وزوراً، أي: ذو صوم وذو زور. وإذا جعلناه اسماً للحدث على جهة المجاز والنقل من المصدر الذي هو المكان فهو مجاز، وتسميته كتسمية الشجاع أسداً، وكتسمية المجاز مجازاً، فإن أصل موضوع المجاز في المحسوسات للشيء مجاز عليه، ثم نقله أهل الصناعة للمعنى الذي تجوز بسببه في نقل الألفاظ عن أصل موضوعها، وتسمية الشيء باسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 غيره لمعنى جامع بينهما جائز، فذلك الوجه هو المجاز، إذ بسببه انتقل اللفظ عن أصل موضوعه، وجاز أن يسمى به غيره، والله أعلم. * * * مسألة (في الحرف) قوله: " والحرف: ما دل على معنى في غيره ". وذلك الغير إما اسم وإما فعل، وليس للحرف معنى في نفسه، وأما الذي له معنى على الحقيقة هو الاسم، ومن ثم وجب أن لا يكون عاملاً في غيره على الحقيقة، ووجب أن يكون الحرف عاملاً في كل ما دل على معنى فيه، لأن الألفاظ تابعة للمعاني، فكما تشبث الحرف بما دخل عليه معنى، وجب أن يتشبث به لفظاً، وذلك هو العمل. فاصل كل كل حرف أن يكون عاملاً، فإذا وجدت حرفاً غير عامل فسبيلك أن تسأل، وأما الفعل فلا بد أن يكون عاملاً في الاسم لما بين في المسألة قبل هذا. فإن قيل: فما بال حروف كثيرة لا تعمل؟ قلنا: لا نجد حرفاً لا يعمل إلا حرفا دخل على جملة قد عمل بعضها في بعض، وسبق إليها عمل الابتداء أو نحوه، وكان الحرف داخلاً لمعنى في الجملة لا لمعنى في اسم مفرد فاكتفى بالعامل السابق قبل هذا الحرف، وهو الابتداء ونحوه. وذلك نحو: هل زيد قائم؟ ونحو: أعمرو خارج؟ في الاستفهام. فإن الحرف دخل لمعنى في الجملة، ولايمكن الوقوف (عليه) ولا يتوهم انقطاع الجملة عنه، لأنه حرف مفرد لا يوقف عليه، ولو توهم ذلك فيه لعمل في الجملة ليؤكدوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 بظهور أثره فيه تعلقه بها ودخوله عليها، كما فعلوا في " إنَّ " وأخواتها حيث كانت كلمات من ثلاثة أحرف فصاعداً يجوز الوقف على كل واحدة منهن. تقول: إنه، وليته، ولعله، فأعملوها في الجملة إظهاراً لتشبثهن بالحديث الواقع بعدهن. وسيأتي بيان ذلك - إن شاء الله تعالى - بأكثر من هذا. نعم وربما أرادوا توكيد تعلق الحرف بالجملة إذا كان الحرف مؤلفاً من حرفين، نحو " هل "، فربما يوهم الوقف عليه، أو خيف ذهول السامع عنه فادخل في الجملة حرف زائد ينبه السامع عليه، وقام ذلك الحرف مقام العمل، نحو قولك: هل زيد بقائم وما زيد بقائم، فإذا سمع المخاطب " الباء " وهي لا تدخل في الوجوب، تأكد عنده ذكر النفي والاستفهام وأن الجملة غيو منفصلة عنه، ولذلك أعمل أهل الحجاز " ما " النافية تأكيداً لتشبثها بالجملة. ومن العرب من اكتفى في التأكيد بإدخال الباء ورآها نائبة (في الثأثير) عن العمل الذي هو النصب. وإنما اختلفوا في " ما " ولم يختلفوا في " هل "، لمشاركة " ما " لـ ليس في النفي، فحين أرادوا أن يكون لها أثر في الجملة (يؤكد) تشبثها بها جعلوا ذلك الأثر كأثر (ليس) وهو النصب، والعمل في باب " ليس " أقوى، لأنها كلمة كليت و " لعل " و " كان "، والوهم إلى انفصال الجملة عنها أسرع منه إلى توهم انفصال الجملة عن " ما " و " هل " فلم يكن بد من إعمال " ليس "، وإبطال معنى الابتداء السابق. ولذلك إذا قلت: ما زيد إلا قائم، لم يعملها أحد منهم، لأنه لا يتوهم انقطع " زيد " عن " ما " لأن " إلا " لا يكون إيجاباً إلا بعد نفي، فلم يتوهم انفصال الجملة عن " ما "، وكذلك لم يعملوها عند تقدم الخبر نحو: " ما قائم زيد " لأنه ليس من رتبة النكرة أن يكون مبدوءاً بها مخبراً عنها إلا مع الاعتماد على ما قبلها، فلم يتوهم المخاطب انقطاع الجملة عن " ما " قبلها لهذا السبب، فلم يحتج إلى إعمالها وإظهار أثرها، وبقي الحديث كما كان قبل دخولها، مستغنياً عن تأثيرها فيه. وأما حرف " لا " فإنه إن كان عاطفاً فحكمه حكم حروف العطف، وليس من حروف العطف شيء عامل، وإن لم يكن " لا " حرف عطف نحو: " لا زيد قائم ولا عمرو "، فلا حاجة إلى إعمالها في الجملة لأنه " لا " يتوهم انفصال الجملة بقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 " ولا عمرو "، ولأن الواو مع لا الثانية تشعر بالأولى لا محالة، وتربط الكلام فيها، فلم يحتج إلى إعمالها، وبقيت الجملة عاملاً فيها الابتداء كما كانت قبل دخول " لا ". فإن قلت: فإن لم تعطف على الجملة بحرف عطف وقلت: " لا زيد قائم ". فما حكم لا؟ قلت: هذا لا يجوز، لأن " لا " ينفى بها في أكثر الكلام ما قبلها، تقول: هل قام زيد؟ فيقال: لا. وقال سبحانه: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) ، وليست " لا " هاهنا نفياً لما بعدها، كما لو قلت: " ما أقسم "، ألا ترى أن " ما " لا تكون أبداً لا نفياً لما بعدها، فلذلك قالوا: " ما زيد قائم " ولم يخشوا توهم انقطاع الجملة عنها، ولو قالوا: لا زيد قائم لخيف أن يتوهم أن الجملة موجبة وأن " لا " كنحو " ما " هي في " لاأقسم " إلا أن تعطف فتقول: " لا زيد في الدار ولا عمرو "، وكذلك في النكرات نحو: (لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ) إلا أنهم في النكرات قد أدخلوها على المبتدأ والخبر تشبيهاً لها بليس لأن النكرة أبعد في باب الابتداء من المعرفة، والمعرفة أشد استبداداً بأول الكلام. وأما التي للتبرئة فللنحويين فيها اختلاف، أهي عاملة أم لا؟ فإن كانت عاملة فكما أعملوا " أن " حرصاً على إظهار تشبثها بالحديث، وإن كانت غير عاملة - كما ذهب إليه سيبويه، والاسم بعدها مركب معها مبني على الفتح - فليس كلامنا في المبنيات. وأما حروف النداء فعاملة في المنادى عند بعضهم. والذي يظهر لي الآن أن (يا) تصويت بالمنادى، نحو " جوت "، و " ها "، ونحو ذلك، والمنادى منصوب بالقصد إليه وإلى ذكره، كما تقدم من قولنا في كل مقصود إلى ذكره مجرداً عن الإخبار عنه: أنه منصوب. ويدلك على أن حرف النداء ليس بعامل وجود العمل في الاسم دونه نحو: " صاحب زيد أقبل "، و (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) . وإن كان مبنياً عندهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فإنه بناء كالعمل، ألا تراه ينعت على اللفظ كما ينعت المعرب، ولو كان حرف النداء عاملاً لما جاز حذفه وبقاء العمل. * * * فصل (في الحروف الناصبة والجازمة للمضارع) فإن قيل: ما بال الحروف الناصبة للأفعال المضارعة والجازمة لها قد عملت في الأفعال، والفعل مع فاعله جملة قد عمل بعضها في بعض؟ ثم إن الفعل المضارع قبل دخول العامل عليه كان مرفوعاً، ورفعه - لا شك - بعامل، وذلك العامل - في قولهم - هو وقوعه موقع الاسم، فهلا منع هذا العامل هذه الحروف الداخلة من العمل، كما منع العامل - الذي هو الابئداء - الحروف الداخلة على الجملة من العمل، إلا أن يخشى انقطاع الجملة كما خيف في " أن " وأخواتها؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أن العامل في المبتدأ - وإن كان معنوياَ - كما أن الرافع للفعل المضارع معنوي، لكنه أقوى منه، لأن حق كل مخبر عنه أن يكون مرفوعاَ لفظاً وحسًّا كما أنه مرفوع معنى وعقلاً، ولذلك استحق الفاعل الرفع دون المفعول، لأنه المحدث عنه بالفعل، فهو أرفع رتبة من المفعول في المعنى، فوجب أن يكون في اللفظ كذلك، لأن تابع للمعنى. وأما رفع الفعل المضارع فلوقوعه موقع الاسم المخبر به والاسم التابع له فلم يقو قوته في استحقاق الرفع، فلم يمنع شيئاً من الحروف اللفظية عن العمل، إذ اللفظي أقوى من المعنوي، وامتنع ذلك في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 بعض الأسماء المبتدأة لضعف الحروف، وقوة العامل السابق للمبتدأ، كما تقدم بيانه. والجواب الآخر: أن هذه الحروف لم تدخل في معنى الجملة، إنما دخلت لمعنى في الفعل المتضمن للحدث من نفي أو إمكان أو نهي أو جزاء، وذلك كله يتعلق بالفعل خاصة لا بالجملة، فوجب عملها فيه كما وجب عمل حروف الجر في الأسماء من حيث دلت على معنى فيها، ولم تكن داخلة على جملة قد سبق إليها عامل معنوي ولا لفظي، وهذا الجواب أولى أن يتمسك به. * * * مسألة ومما يجب الوقوف عليه هاهنا أيضا أن النواصب والجوازم لا تدخل على الفعل الواقع موقع الاسم لحصوله في موضع الأسماء، فلا سبيل لنواصب الأفعال وجوازمها أن تدخل على الأسماء، ولا على ما هو واقع موقعها، فهي إذا دخلت على الفعل خلصته للاستقبال ونفت عنه معنى الحال، وهذا معنى يختص بالفعل لا بالجملة. * * * فصل وأما " إلا " في الاستثناء فقد زعم بعضهم أنها عاملة. وقد نقض ذلك عليه بما لا قبل له به من قولهم: " ما قام أحد إلا زيد " و" ما جاءني إلا عمرو ". والصحيح أنها موصلة الفعل إلى العمل في الاسم بعدها، كتوصيل واو المفعول معه الفعل إلى العمل فيما بعدها. وليس هذا بكسر الأصل الذي قدمناه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وهو استحقاق جميع الحروف للعمل فيما دخلت عليه عن الأسماء المفردة والأفعال، لأنها إذا كانت موصلة للفعل، والفعل عامل، فكأنها هي العاملة، فأنت إذا قلت: " ما قام إلا زيد " فقد أعملت الفعل على معنى الإيجاب، كما (لو) قلت: " قام زيد لا عمرو،، وقامت " لا " مقام نفي الفعل عن عمرو، فكذلك قامت " إلا " مقام (إيجاب الفعل لزيد إذا قلت: ما جاءني إلا زيد، فكأنها هي العاملة) ، فاستغنوا عن إعمالها عملاً آخر. وكذلك حروف العطف، وإن لم تكن عوامل، فإنما جاءت " الواو " الجامعة منها تجمع بين الاسمين في الإخبار عنهما، فقد أوصلت الفعل إلى العمل في الثاني، وسائر حروف العطف يتقدر بعدها العامل، فنكون في حكم الحروف الداخلة على الجمل، فإذا قلت: " قام بعدها العامل " فتكون في حكم الحروف الداخلة على الجمل، فإذا قلت: " قام زيد وعمرو " فكأنك قلت: " قام زيد وقام عمرو ". وإذا قلت: " زيد وعمرو في الدار "، فكأنك قلت: " زيد في الدار وعمرو فيها أيضاً ". فصارت هذه الحروف كالداخلة على الجمل. وقد تقدم في الحروف الداخلة على الجمل أنها لا تستحق من العمل فيها ما تستحق الحروف الداخلة على الأسماء المفردة والأفعال. ونقيس على ما تقدم لام التوكيد، وتركهم لإعمالها في الجملة، مع أنها لا تدخل لمعنى في الجطه فقط، بل لتربط ما قبلها من القسم بما بعدها. هذا هو الأصل فيها، حتى إنهم ليذكرونها دون القسم فتشعر عند المخطاب باليمين، كما قال الشاعر: إني لأمنحك الصدود وإنني ... قسماً إليك مع الصدود لأميل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 لأنه حين قال: " لأمنحك " علم أنه قد أقسم، فلذلك قال: " قسماً ". وهذا الأصل محيط بجميع أصول أعمال حروف الجر وغيرها من العوامل. وكاشف عن أسرار العمل للأفعال وغيرها من الحروف في الأسماء، ومنبهة على سر امتناع الأسماء من أن تكون عوامل في غيرها، والحمد لله على ما علم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 باب الإعراب مسألة الإعراب الذي هو الرفع والنصب والخفض محله أواخر الكلم، ولبعض النحويين في تعليل ذلك كلام يرغب عنه! والحكمة فيه عندي - والله أعلم - أن الإعراب دليل على المعاني التي تلحق الاسم نحو كونه فاعلًا أو مفعولًا وغير ذلك. وتلك المعاني لا تلحق الاسم إلا بعد حصول العلم بحقيقته ومعناه. فوجب أن لا يتقدم الإعراب الاسم ولا يتوسطه في الوجود، وأن يترتب بعده كما ترتب مدلوله - وهو الوصف - بعد مدلول الاسم، وهو المسمى الموصوف بذلك الوصف، والله أعلم. * * * مسألة في الحركة والحرف الحركة عبارة عن تحريك العضو الذي هو الشفتان عند النطق بالصوت الذي هو الحرف، والحرف عبارة عن جزء من الصوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ومحال أن تقوم الحركة بالحرف حتى يقال: حرف متحرك، حقيقة، لأن الحرف الذي هو جزء من الصوت عرض عند جميع العقلاء إلا النَّظَّام. وقوله لا ينسق مع الصواب في نظام فإذا ثبت أن الصوت عرض والحركة عرض آخر، فقولنا: (حرف) متحرك أو ساكن، مجاز لأن السكون أيضاً ضد الحركة ومحله محلها. وهو العضو، إذ لا تقوم الحركة والسكون إلا بجسم أو جوهر، فإذا ثبت ذلك فالضمة عبارة عن تحريك الشفتين بالضم عند النطق بالحرف، فيحدث عن ذلك صوت خفي مقارن للحرف، وإن امتد كان " واواً " وإن قصر كاناً ضمة ". وصورتها عند حذاق الكتاب صورة " واو " صغيرة لأنها بعض واو. والفتحة عبارة عن فتح الشفتين عند النطق بالحرف وحدوث الصوت الخفي الذي يسمى فتحة أو نصبة، وإن امتدت كانت ألفاً، وإن قصرت فهي بعض ألف. وصورتها كصورة ألف صغيرة. وكذلك القول في الكسرة والياء أن إحداهما بعض الأخرى، وحدوثهما عند تحريك العضو بالكسر مع مقارنة الحرف. والسكون عبارة عن خلو العضو من الحركات عند النطق بالحرف، فلا يحدث بعد الحرف صوت فينجزم عند ذلك، أي: ينقطع، فتسميه جزما، اعتباراً بالصوت وانجزامه، وتسميه سكونا، اعتباراً بالعضو الساكن. فقولنا إذاً: فتح، وضم، وكسر، وسكون، هو من صفة العضو، وإذا سميناها رفعاً ونصباً وخفضاً وجزما، فهي من صفة الصوت، لأنه يرتفع عند ضم الشفتين، وينتصب عند فتحهما، وينخفض عند كسرهما، وينجزم عند سكونهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ولهذه الحكمة عبر أرباب الصنعة بالرفع والنصب والجزم والخفض عن حركات الإعراب، إذ الإعراب لا يكون إلا بعامل وسبب، كما أن هذه الصفات التي تضاف إلى الصوت من رفع ونصب وخفض إنما يكون بسبب وهو تحرك العضو فاقتضت الحكمة اللطيفة والصنعة البديعة أن يعبر بما يكون عن سبب عما يكون لسبب وهو الإعراب، وأن يعبر بالفتح والضم والكسر والسكون عن أحوال البناء، فإن البناء لا يكون بسبب، أعني بالسبب العامل. فاقتضت الحكمة أن يعبر عن تلك الأحوال بما يكون وجوده بغير آلة، إذ الحركات الموجودة في العضو لا تكون بآلة، كما تكون الصفات المضافة إلى الصوت. فمن تأمل هذه الحكمة من أرباب الصناعة، رأى من بعد غورهم، ودقة أذهانهم، ورجاحة أحلامهم، وثقابة أفهامهم، ما يستدل به على أنهم مؤيدون بالحكمة في جميع أغراضهم وكلامهم. ولعلنا أن نعطف عنان الكلام بعد هذا إلى الخفض وتسميتهم إياه جرًّا. والتكلم على صورته في الخط، إلى غير ذلك مما يليق ذكره بذلك المقام، والله المستعان. * * * مسألة (في بعض علامات الأسماء) قوله: " تنفرد الأسماء بالخفض والتنوين ". قال بعضهم في حد التنوين: التنوين نون ساكنة تلحق أواخر الأسماء المتمكنة. وتصحيح هذه العبارة عندي أن يقال: " التنوبن: إلحاق الاسم نوناً ساكنة! ، لأن التنوين مصدر " نونت الحرف "، أي: ألحقته نوناً، كما أن التنعيل مصدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 " نعلت الرجل ": إذا جعلت له نعلاً، وليس التنعيل هو النعل، وكذلك التنوين ليس هو النون بمجردها، وهذا يطرد في الحروف، تقول: " سينت الكلمة "، أي: ألحقت بها سينا، و " كوفتها " أي: ألحقت بها كافا، ومن الزاي: زينتها - في قول بعضهم - والصحيح: " زويتها " حكي عن بعض الأعراب أنه قال: (إنها زاي فزوها،. فإن قيل: ما الحكمة في إلحاق هذه النون الأسماء، وسقوطها في الوقف. وإبدالها ألفاً في حال النصب، وغير ذلك من أحوالها؟ فالجواب: أن أكثر مسائل هذا الباب قد تكلم الناس فيه بحكمة وصواب، إلا أشياء أغفلوها منها مسائل كثيرة من باب ما ينصرف وما لا ينصرف ونُتَفٌ في أبواب أخر، لعلنا - إن شاء الله تعالى - أن نكشف عنها، ويشفى منها، ونقدم لها هاهنا أصلاً فنقول: التنوين فائدته التفرقة بين المنفصل والمتصل، فلا يدخل في الاسم إلا علامة لانفصاله مما بعده، ولذلك يكثر في النكرات لفرط احتياجها إلى التخصيص بالإضافة، فإذا لم تضف احتاجت إلى التنوين تنبيهاً على أنها غير مضافة، ولا تكاد المعارف تحتاج إلى ذلك إلا فيما قل من الكلام، لاستغنائها في أكثره عن زيادة نخصيص، وما لا يتصور فيه الإضافة بحال لا ينون بحال كالمضمر والمبهم، وكذلك ما دخلته الألف واللام لا يحتاج إلى التنوين في شيء من الكلام. وهذه علة عدمه في الوقف، لأن الوقوف عليه لا يكون مضافاً إلى غيره، إذ المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد، ولا يوقف على بعض الاسم دون بعض، وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 فإن قيل: ما الحكمة في اختيار " النون " الساكنة لهذا المعنى دون سائر الحروف؟ فالجواب: أن الأصل في الدلالة على المعاني الطارئة على الأسماء حروف المد واللين، وأبعاضها - وهي الحركات - متى قدر عليها فهي أخف من غيرها، ومتى لم يمكن كان أشبه الحروف بها وأقربها إليها أولى بذلك مما هو أبعد منها. وأواخر الأسماء المعربة قد لحقتها حركات الإعراب فلا يصح أن يلحقها علامة للانفصال إلا غير الحركات وغير حروف المد واللين، لأن حروف المد واللين هي أنفس الحركات، إلا أنها مدت وطول بها الصوت، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. فإذا لم يمكن الحركة، ولا ما هي بعضها من الحروف، فأشبه الحروف بحروف المد واللين " النون " الساكنة لخفائها وسكونها، وأنها من حروف الزيادة، وأنهم قد جعلوها من علامات الإعراب في الأمثلة الخمسة، واختيرت علامة لتمكن الاسم، وتنبيها على انفصاله، ولذلك لا نجد فعلاً منونا أبداً، لاتصاله بفاعله واحتياجه إلى ما بعده. * * * مسألة (في التصغير) قوله: " تنفرد الأسماء بالتصغير ". والتصغير عبارة عن تغيير الاسم ليدل على صغر المسمى وقلة أجزائه، إذ الكبير ما كثرت أجزاؤه، والصغير بعكس ذلك. فإن قيل: وما الحكمة في أن ضم أوله، وفتح ثانيه، وزيدت فيه ياء ثالثة، وقد كان يمكن في لفظ التصغير دروب من التغيير غير هذا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 فالجواب: أن التصغير هو تقليل أجزاء المصغر بخلاف الجمع، فهو مقابل لما جمع على " فعالل " لأنه ضده، وقد زيد في جمع " فعالل " ألف ثالثة، فزيد في التصغير " ياء " ثالثة في أضعاف الكلمة، ولم تكن آخراً مثل علامة التأنيث، لأن الزيادة في اللفظ إنما تكون على حسب الزيادة في المعنى، والصفة التي هي صغر الجسم لا يختص بجزء منه دون جز لخلاف صفة التأنيث فإنها مختصة في جميع الحيوانات بطرف يقع به الفرق بين الأنثى والذكر، فكانت العلامة في اللفظ (المنبئة عن معنى التأنيث طرفاً في اللفظ) . بخلاف " الياء " في التصغير فإنها منبئة عن صفة واقعة على جملة المصغر، وكانت " ياء " ولم تكن ألفاً لأن الألف قد اختصت بجمع التكثير، وكانت به أولى كما كانت الفتحة التي هي أختها بذلك أولى، لأن الفتح ينبئ عن الكثرة ويشار به إلى السعة، ولذلك تجد الأخرس والأعجم بطبعه إذا أخبر عن شيء كثير، فتح شفتيه، وباعد ما بين يديه. وإذا كان الفتح ينبئ عن السعة والكثرة، فالضم الذي هو ضده ينبئ عن القلة والحقارة، ولذلك تجد المقلل للشيء يشير إليه بضم فم أو يد، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ذكر الساعة التي في يوم الجمعة، وأشار بيده يقللها، لأنه ضم بين إبهامه وأصبعه - صلى الله عليه وسلم -. وهذا بين في الحكمة لمن تأمله، ونافع في التعليل لمن حصله. وأما " الواو " فلا معنى لها في التصغير لوجهين: أحدهما: دخولها في درب من الجموع نحو " الفعول "، فلم يكونوا ليجعلوها علامة في التصغير، فيلتبس التقليل بالتكثير. والثاني: أنه لا بد من كسر ما بعد علامة التصغير إذا لم يكن حرف إعراب. كما كسر ما بعد علامة التكثير في نحو " مفاعل "، ليتقابل اللفظان كما تقابل المعنيان. وكثيراً ما تفعل العرب ذلك، توازن ما بين اللفظين، إذا كان معناهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 متضادين، ألا ترى أن " علماً على وزن " جهل ". و" روى " على وزن " عطش "، وشرف فهو شريف، على وزن وضع فهو وضيع؟ وهذا كثير في كلامهم من أن يحصى، فلم يمكن إدخال " الواو " مكان " الياء " لئلا يخرج منها إلى الكسر الذي هو ضدها. فإذا امتنعت الواو - والألف قد اختص بها الجمع - فلم يبق إلا الياء. و (قد) جعلت مفتوحاً ما قبلها من أجل الضمة التي هي في أول الكلمة، لئلا يخرج من ضم إلى كسر، والله أعلم. * * * مسألة (الجزم خاص بالأفعال والخفض بالأسماء) سؤالهم عن امتناع دخول الجزم في الأسماء والخفض في الأفعال، سؤال غير لازم عند شيخنا (أبي الحسين) (رحمه الله تعالى) ، لأن المعاني المدلول عليها في الأسماء ثلاثة أفسام: مخبر عنه، وداخل في حديث غيره، ومضاف إليه - فلا يحتاج إلى إعراب رابع، لأنه لا مدلول له. وكذلك الأفعال، المعاني المدلول عليها ثلاثة أقسام: فعل واقع موفع الاسم فله الرفع، وفعل في تأويل اسم فله النصب، لأن الرفع والنصب من إعراب الأسماء، فاستحقه من الأفعال ما هوفي تأويل الاسم أو واقع موقع اسم، (وفعل لا في تأويل اسم ولا واقع موقع اسم) فله الجزم، لأن الجزم ليس من إعراب الأسماء. وليست هذه عبارة الشيخ (أبي الحسين) في الأفعال، ولكنه قال: " الأفعال واجب وممكن ومنتف، أو في حكم المنتفى، فالرفع للواجب، والنصب للممكن. والجزم الذي هو عدم الحركة وانتفاؤُها للمنفي أو ما هو في حكمه. وكل ما قاله صحيح إلا أن قوله: " لا يحتاج في الأسماء إلى رابع، ولا في الأفعال "، فإن للسائل أن يقول: لم أرد إعرابا رابعا، وإنما أردت أن يكون الجزم بدلاً من الخفض، والخفض بدلاً من الجزم. فيجاب حينئذ بما اعتل به النحويون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 من اختلال الأسماء عند ذهاب الحركة والتنوين، مع أن الأسماء أخف، فكانت أحمل لثقل الحركة، والأفعال بعكس ذلك. * * * مسألة (في الإضافة) قوله: (ولم تخفض الأفعال لأن الخفض لا يكون إلا بالإضافة ". هذا لا يلزم، لأن نصب الأفعال ورفعها لم يكن بعوامل الأسماء، فلزم مثل ذلك في خفضها لو خفضت، ولكن العلة ما قدمناه. وقوله: " ولا معنى للإضافة إلى الأفعال، لأنها لا تملك شيئاً ولا تستحقه ". صحيح من وجه الخبر ساقط من جهة التعليل، لأن عدم الملك والاستحقاق ليس علة في وجوب انتفاء الإضافة، وإنما العلة في ذلك أن الأفعال عبارات عن وقوع أحداث، وإنما الإضافة إلى المعبر عنه لا إلى أنفس العبارات، والإخبار عن المشار إليه لا عن التلويحات والإشارات. فاستحالت إضافة الأسماء إلى الأفعال. فإن قيل: إن ظروف الزمان أسماء وقد أضيفت إلى الأفعال؟ نعم، وأضيفت إليها أسماء أخر كحيث، وريث، وذي من ذي تسلم، وآية من قوله: بآية ما يحبون الطعاما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فالجواب: أنه ما أضيف إلى الأفعال في الحقيقة شيء، وإنما أضيفت هذه وما هو في معناها من الأسماء التي تقدم ذكرها إلى الاسم الذي اشتق منه الفعل، وهو الحدث، وذلك أن ظروف الزمان إنما تذكر من أجل الأحداث الواقعة فيها، فتضاف إليها إذ هي أوقات لها. وربما أضيفت إلى الحدث وليست بوقت له، لاتصالها بوقته، فتضاف إليه لتخصص وتعرف بالإضافة إليه، وإن لم يكن واقعا فيها، نحو قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ) فالليلة من ظروف الزمان، وقد أضيفت إلى الصيام وليس بواقع فيها فلما كان جائزاً في بعض الكلام أن يضاف الظرف إلى الاسم الذي هو الحدث - وإن لم يكن واقعا فيه - أضافوه إلى الفعل لفظاً، وهو مضاف إلى الحدث معنى، وأقحم لفظ الفعل إحرازاً للمعنى، وتحصينا للغرض، ورفعا لشوائب الاحتمال، حتى إذا سمع المخاطب قولك: " يوم قام زيد "، علم أنك تريد: اليوم الدي قام فيه زيد. ولو قلت مكان قولك " ليلة الصيام "؟ ليلة صيام زيد، ما كان له معنى إلا وقوع الصيام في الليل. فهذا الذي حملهم على إقحام لفظ الفعل عند إرادتهم إضافة الظروف إلى الأحداث، وقس على ذلك المبتدأ والخبر. وأما (ريث) فبمنزلة الظرف وقد صارت في معناه. وكذلك (حيث) و (ذي تسلم) لأن المعنى في قول بعضهم: " اذهب لوقت ذي تسلم "، أي: ذي سلامتك. فلما حذفت المنعوت وأقمت النعت مقامه، أضفته إلى ما كنت تضيف إليه المنعوت وهو الوقت هذا أحد قولي السيرافي، وهو عندي على الحكاية، حكوا قول الداعي " تسلم " كلما تقول: " تعيش " و " تبقى "، فقولهم: اذهب بذي تسلم، أي: اذهب بهذا القول مني، ولم يقولوا: اذهب بتسلم، لئلا يكون اقتصاراً على دعوة واحدة، ولكن قالوا: بذي تسلم، أي: بقول يقال فيه: " تسلم "، أو يجمع معانيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 " تسلم "، فوصفوا القول بذي تسلم، يريدون هذا المعنى، وحذفوا القول المنعوت بذي، اكتفاء بدلالة الحال عليه. ونحو من هذا قول كثير: وإن تامريني بالذي فيه أفعل أي: بالأمر أو بالقول الذي فيه هذا الكلام. وأما " آية ما تحبون الطعاما "، فالآية هي العلامة، وهي هاهنا بمعنى الوقت. لأن الوقت علامة للمؤقت، وبالله التوفيق. وليس جميع ظروف الزمان يجوز إضافته إلى الفعل، بل ذلك يختص ببعضها. فما كان منها مفرداً متمكناً جاز إضافته إليها، وما كان مثنى نحو " يومين " و " ساعتين " لم يجز إضافته إلى الفعل، لأن الحدث إنما يقع مضافاً لظرفه الذي هو وقت له، فلا معنى لذكر وقت آخر. ووجه آخر وهو أن الجملة المضاف إليها (هي) نعت للظرف في المعنى. فقولك: " يوم قام زيد "، كقولك: " يوم قام زيد فيه " في المعنى، والفعل لا يدخله التثنية فلا يصح أن يضاف إليه الاثنان، كما لا يصح أن ينعت الاثنان بالواحد. ووجه ثالث، وهو أن قولك: قام زيد يوم قام عمرو لا يصح إلا أن يكون جواباً لمتى، واليومان جواب لكم، وما هو جواب لكم لا يكون جواباً لمتى أصلاً، فإن أضفت اليومين إلى الفعل صرت مناقضا، لجمعك بين الكمية وبين ما لا يكون إلا لمتى. فأما الجمع نحو الأيام فإنما جاز إضافتها إلى الفعل، لأنها قد يراد بها معنى المفرد كالشهر والأسبوع والحول وغير ذلك. وكذلك إن كان غير متمكن كقبل وبعد، فإنك لو أضفتها إلى الفعل لاقتضت إضافتها إليه ما يقتضيه قولك: " يوم قام زيد "، أي: اليوم الذي قام فيه، وذلك محال في " قبل " و " بعد "، لأنه يؤول إلى إبطال معنى القبلية والبعدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وأما سحر - ليوم بعينه - فيمنع من إضافنه إلى الفعل ما فيه من معنى الألف واللام. فقس على هذا الأصل ما يضارعه من الكلام. * * * مسألة (من باب معرفة علامات الإعراب) قوله: " الواو: علامة الرفع في خمسة أسماء معتلة ". اعتلال هذه الأسماء على غير قياس، إذا كان قياس " الواو " إذا تحركت وانفتح - ما قبلها إن انقلبت ألفاً، فيكون الاسم مقصوراً، وهذه الأسماء حذفت أواخرها في حال الإفراد والانفصال عن الإضافة. قال لي بعض أشياخنا في تعليل الحذف: إن التنوين لما أوجب حذف الألف المنقلبة لالتقاء الساكنين، حذفوها رأساً، كما قال الأول: رأي الأمر يفضي إلى آخر ... فصير آخره أولا فإذا أضيفت وزالت علة التنوين، رجعت الحروف المحذوفة، وكان الإعراب فيها مقدراً كما هو مقدر في الأسماء المقصورة. وقد قال بهذا القول طائفة من النحويين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الأمر فيها عندي أنها علامات إعراب، وليست حروف إعراب، والمحذوف منها لا يعود إليها في الإضافة، كما لا يعود المحذوف من " يد " و " دم "، وبرهان ذلك أنك تقول: أخي وأبي إذا أضفت إلى نفسك، كما تقول: يدي ودمي، لأن حركات الإعراب لا تجتمع مع ياء المتكلم، كما لا تجتمع معها واو الجمع، فلو كانت الواو في " أخوك " حرف إعراب لقلت في الإضافة إلى نفسك: هذا أخي، كما تقول: هؤلاء مسلمي، فتدغم الواو في الياء لأنها حرف إعراب عند سيبويه، وهي عند غيره علامات إعراب، فإذا كانت " واو " الجمع ثبتت مع " ياء " المتكلم وهي زائدة علامة إعراب عند بعض النحويين، فكيف يحذف ما هو " لام " الفعل وأحق بالثبات منها؟ فقد وضح لك أنها ليست الحروف المحذوفة الأصلية. فإن قيل: فلم كان إعرابها بالحروف دون الحركات؟ ولم أعلت بالحذف دون القلب خلافاً لنظائرها مما علته كعلتها، وهي الأسماء المقصورة؟ قلنا: في ذلك جواب فلسفي لطيف، وهو أن اللفظ جسد والمعنى روح، فهو تبع له في صحته واعتلاله، والزيادة فيه والنقصان منه، كما أن الجسد مع الروح كذلك، فجميع ما يعتري اللفظ من زيادة فيه أو حذف، فإنما هو بحسب ما يكون في المعنى، اللهم إلا أن يكثر استعمال كلمة فيحذف منها تخفيفا على اللسان لكثرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 دورها فيه، ولعلم المخاطب بمعناها، كقولهم: " أيش؟ "، و " لم أبل ". وهذه الأسماء الخمسة مضافة في المعنى، فإذا قطعت عن الإضافة وأفردت. نقص المعنى فنقص اللفظ تبعاً له، مع أن أواخرها حروف علة، فلا بد من تغييرها إما بقلب وإما بحذف، وكان الحذف فيها أولى لما قدمنا. وكان بنبغي على هذا أن يتم لفظها في حال الإضافة كما تم معناها، إلا أنهم كرهوا أن يخلو " الخاء " من أخ، و " الباء " من أب من الإعراب الحاصل فيها، إذ ليس في الكلام ما يكون حرف إعراب في حال الإفراد ولا يكون حرف إعراب في حال الإضافة، فجمعوا بين الغرضين ولم يبطلوا أحد القياسين، فمكنوا الحركات التي هي علامات الإعراب في حال الإفراد فصارت حروف مد ولين في الإضافة. وقد تقدم أن الحركة بعض الحرف الذي هو حرف المد، فالضمة التي هي علامة الوفع في قولك " أخ "، هي بعينها علامة الوفع في " أخوك "، إلا أن الصوت بها مد، ليتمموا اللفظ كما تمموا المعنى بالإضافة إلى ما بعد الاسم، ولم يحتاجوا مع تطويل حركات الإعراب إلى إعادة ما فد حذف من الكلمة رأسا، كما لا يعاد ما حذف من (يد) و (دم) . وأما التثنية فإنهم صححوا اللفظ فيها بإعادة المحذوف تنبيهاً على الأصل الذي هو الانقلاب إلى الألف، فقالوا: " أخوان " و " أبوان " كما قالوا: " عصوان " و " رجوان " لأن قياسه في الأصل كقياسه، بخلاف " يد " و " دم " فإن الأصل فيهما يدي ودمي فلم يكن بابهما كباب " عصا " و " رجا "، فاستمر الحذف فيهما في التثنية والإفراد فإن قيل: فما بال " ابن " وهو اسم إضافي، ووزنه في الأصل " فعل "، كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 كان (أخ) و (أب) كذلك، ثم لم يعد إليه ما حذف منه في تثنية ولا إضافة؟ قلنا: إنهم قد عوضوا من المحذوف ألف الوصل في ابن واسم، فلم يكونوا ليجمعوا بين العوض والمعوض منه، بخلاف " أخ " و " أب " ومنعهم أن يعوضوا من المحذوف في " أخ " و " أب " الهمزة التي في أولهما، فراراً من اجتماع همزتين. وأما " حم " فقد كان الأصل فيها " حمأ " بالهمزة، فلم يكونوا ليعوضوا من الهمزة همزاً آخر، فجعلوه كأب وأخ. فإن قيل: فما بالهم يقولون في جمع ابن: (بنون) ، وهو جمع على حد التثنية. فلم لم يقولوا: (ابنون) كما قالوا: (ابنان) ؟ ْقلنا: إن الجمع قد يلحقه التغييرات (بالتكسير وغيره) ، بخلاف التثنية فإنها لا يتغير فيها لفظ الواحد بحال، مع أنهم رأوا أن جمع السلامة لا بد فيه من " واو " في الرفع و " ياء " مكسور ما قبلها في النصب والخفض، فأشبهت حاله حال ما لم يحذف منه شيء إذ المحذوف منه " ياء " أو " واو "، ففتحوا أوله كما كانوا يفعلون لو لم يحذف منه شيء وليست هذه العلة في التثنية إذا تأملتها. وأما قولهم في المؤنث " بنات " - بفتح الباء - ولم يقولوا: (ابنات) كما قالوا: (ابنتان) فإنهم حملوا جمع المؤنث على جمع المذكر، لئلا يختلف، والله أعلم. وأما " أخت " و " بنت " فالتاء من " أخت " مبدلة من " الواو " وكما أبدلت منها في " تراث " و " تخمة "، وإنما حملهم على ذلك هاهنا أنهم رأوا المذكر قد حذفت لامه في الإفراد فقالوا: أخ، وكان القياس أن يقولوا في المؤنث: " أخته "، بهاء في الوقف، فلو فعلوا ذلك لكانت تلك التاء حرف إعراب في الإضافة والإفراد، ولم يمكنهم أن يعيدوا المحذوف في الإضافة تتميماً للفظ فيخالف لفظه لفظ المذكر، ولا أمكنهم من تطويل الصوت بالحركات ما أمكنهم في التذكير، لأن ما قبل (تاء) التأنيث ليس بحرف إعراب، ولا أمكنهم نقصان اللفظ في الموطن الذي تم فيه المعنى، فجمعوا بين الأغراض بإبدالها تاء، لتكون في حال الإفراد علماً للتأنيث، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وفي حال الإضافة من تمام الاسم كالحرف الأصلي، إذ هو موطن تتميم كما تقدم، وسكنوا ما قبلها لتكون بمنزلة الحرف الأصلي، وضموا أول الكلمة إشعاراً بالواو، وكسروها في " بيت " إشعاراً بالياء، لأنها من (بنيت) . وقالوا في تأنيث ابن: ابنة وبنت، ولم يقولوا في تأنيث أخ إلا أخت، والعلة في ذلك مستقرأة مما تقدم من الكلام، والله أعلم. وأما قولهم: " فوك " في الرفع، و " فاك " في النصب، و " فيك " في الخفض. فحروف المد فيها حروف إعراب بخلاف ما تقدم في " أخيك "، و " أبيك " و" حميك " والفرق بينهما وبين أخواتها أن " الفاء " لم تكن قط حرف إعراب لانفرادها، فلم يلزم فيها ما لزم في " الخاء " و " الباء " ألا تراهم يقولون: " هذا في ". و" جعلته في " كما يقولون: " هؤلاء مسلمي "، فيثبتونها مع ياء المتكلم. وهذا يدلك على أنها حرف إعراب بخلاف أخواتها، ألا تراهم في حال الإفراد كيف أبدلوا من الواو ميماً ليتعاقب عليها حركات الإعراب ويدخلها التنوين، إذ لو لم يبدلوها ميما لأذهبها التنوين في الإفراد وبقيت الكلمة على حرف واحد، فإذا أضيفت زالت العلة حيث أمنوا التنوين، فلم يحتاجوا إلى قلبها ميماً. فإن قيل: فأين علامات الإعراب في حال الإضافة؟ قلنا: الإعراب مقدر فيها، وإن شئت قلت تغير صيغتها في الأحوال الثلاثة هو الإعراب، والمتغير هو حرف الإعراب. فإن قيل: فلم لم تثبت الألف في حال النصب إذا أضيفت إلى ضمير المتكلم فتقول: " فتحت فاي "، كما تقول: " عصاي "؟ قلنا: الفرق بينهما أن الألف من عصاي ثابتة في جميع أحوال الكلمة، وهذه لا تكون إلا في حال النصب، وقد قلبت تلك " ياء " في لغة طيء فقالوا: عصي وقفي، فهذه أحرى بالقلب وأولى، والله الموفق لما يرضى. وأما " ذو مال " فكان الأظهر فيه أن يكون حرف العلة حرف إعراب، وأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 يكون الاسم على حرفين كما هو في بعض الأسماء المبهمة كذلك، يدلك على (ذلك) قولهم في الجمع: " ذو مال "، و " ذوات مال "، إلا إنه قد جاء في القرآن: (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ) و (ذَوَاتَيْ أُكُلٍ) ، وهذا ينبئ أن الاسم ثلاثي ولاماه ياء، انقلبت ألفاً في تثنية المؤنث خاصة. وقولهم في التثنية: " ذواتي " ليس هو القياس، وإنما القياس " ذاتي " وفي الجمع: " ذويات "، والجمع كان أحق بالرد إلى الأصل من التثنية، لأن التثنية أقرب إلى لفظ الواحد، لأنها أقرب إليه في المعنى، ألا تراهم يقولون: " أخت وأختان "، ويقولون في الجمع: " أخوات " وكذلك: " ابنة وابنتان " ولا يقولون في الجمع: " ابنات "، فكذلك كان القياس حين قالوا: " ذوات "، فلم يردوا لام الكلمة ألا يردوا في التثنية، وإنما يكون منها أبعد، والحمد لله. والعلة في ذلك أن " ذات " وإن كان ألفها منقلبة عن واو، فإن انقلابها ليس بلازم، وإنما هو عارض لدخول التأنيث، ولولا التأنيث لكانت " واواً " في حال الرفع غير منقلبة، و " ياء " في حال الخفض. والتثنية أقرب إلى الواحد لفظاً ومعنى، فلذلك حين ثنوها جعلوها " واواً " كما هي في الواحد إذا كان مرفوعا ومثنى ومجموعاً، فكان حكم " الواو " أغلب عليها من حكم " الياء " و " الألف ". ثم ردوا لام الفعل لأنهم لو لم يردوها لقالوا: " ذوتا مال " في حال الرفع. فيلتبس بالفعل نحو: " رمتا "، و " قضتا "، إذا أخبرت عن امرأتين. وكذلك: " ذوتا " من (الذوي) ، إذا أخبرت عن روضتين أو شجرتين، فكان في رد اللام رفع لهذا اللبس، وفرق بين ما يصح عينه في المذكر نحو " ذات "، و " ذو "، وبين ما لا يصح عينه في مذكر ولا في جمع نحو " شاة "، فإنك تقول في تثنيته: شاتان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 كما كان القياس في " ذات "، وليس في جمع ذات ما يوجب رد لامها كما في تثنيتهما كما تقدم. وأما " سنتان "، و " شفتان، (فليس) يلزم فيهما من الالتباس بالفعل ما لزم في " ذوتا "، لو قيل، لأن " نون " الاثنين لا تحذف منهما حذفا لازماً، لأنهما غير مضافين في أكثر الكلام، بخلاف " ذواتا " فإن " النون " لا توجد فيها ألبتَّة، لأنها لا تنفك عن الإضافة. * * * مسألة (في المثني والجمع السالم) الواو والألف في " يفعلون " و " يفعلان "، أصل للواو والألف في " الزيدون " و" الزيدان " و " المسلمون " و " المسلمان "، وإنما جعلنا ما هو في الأفعال أصلاً لما هو في الأسماء، لأنها إذا كانت في الأفعال كانت اسماً وعلامة جمع، وإذا كانت في الأسماء كانت حرفاً علامة جمع، وما يكون اسماً وعلامة في حال هو الأصل لما يكون حرفاً في موضع آخر، أذا كان اللفظ واحداً، كما تقول في كاف الإضمار وكاف المخاطبة وهذا الأصل أولى بنا من أن نجعل الحرف أصلاً والاسم فزعا له. يدلك على ذلك أنهم لم يجمعوا بالواو والنون من الأسماء إِلا ما كان فيه معنى الفعل، كقولنا: " المسلمون " و " الصالحون "، ولم يقولوا في جمع رجل وكلام: (رجلون) و (غلامون) ، فقد وضح لك أن الفعل في هذه المسألة هو الأصل، وإن لم تقل ذلك دخل عليك ما هو أشنع مما تفرضه، وهو أن تجعل ما هو حرف أصلاً لما هو اسم، فتقول في الواو التي هي حرف وعلامة جمع في " الزيدون ": إنها الأصل، وفي الواو التي في " يفعلون ": إنها الفرع. فإن قيل: فالأسماء الأعلام ليس فيها معنى الفعل، وقد جمعوها كما تجمع المشتقة من الفعل؟ فالجواب: أن الأسماء الأعلام لا تجمع هذا الجمع إلا وفيها الألف واللام. لا يقال: جاءني زيدون، ولا: رأيت زيدين، فدلَّ ذلك أن على أنهم أرادوا معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الفعل، أي: الملقبون بهذا الاسم، والمعروفون بهذه العلامة، فعاد الأمر إلى ما ذكرنا. وأما التثنية فمن حيث قالوا في الفعل: " فعلا " و " صنعا " فيما يعقل وفيما لا يعقل ولما لم يقولوا: " فعلوا " و " صنعوا " إلا فيما يعقل، لم يجعلوا " الواو " علامة للجمع في الأسماء إلا فيما يعقل، إذ كان فيه معنى الفعل، ومن حيث اتفق معنى التثنية ولم يختلف، اتفق لفظها كذلك في جميع أحوالها ولم يختلف، واستوى فيها ما يعقل وما لا يعقل. ومن حيث اختلفت معاني الجموع بالكثرة والقلة اختلفت ألفاظها. ولما كان الإخبار عن جمع ما لا يعقل يجري مجرى الجملة والأمة والثُّلَّة، لا يقصد به في الغالب إلا الأعيان المجتمعة على التخصيص، لا كل واحد منها على التعيين، كان الإخبار عنها بالفعل كالإخبار عن الأسماء المؤنثة، إذ الجملة والأمة وما هو في معنى ذلك أسماء مؤنثة، ولذلك قالوا في جموع ما لا يعقل: " الجمال ذهبت "، و " الثياب بيعت "، و " الدور اشتريت "، وما أشبه ذلك، إذ لا يتعين في قصد الضمير كل واحد منها في غالب الكلام والتفاهم بين الأنام. ولما كان الإخبار عن جمع ما يعقل بخلاف ذلك، وكان كل واحد من الجمع فيه يتعين غالباً في القصد إليه والإشارة، وكان اجتماعهم في الغالب عن ملأ منهم وتدبير وأغراض عقلية، جعلت لهم علامة تختص بهم تنبئ عن الجمع المعنوي كما هي في ذاتها جمع لفظي، وهي " الواو "، لأنها ضامة بين الشفتين أو جامعة لهما، وكل محسوس يعبر به عن معقول فينبغي أن يكون مشاكلاً له، فما خلق الله - تعالى - الأجساد في صفاتها المحسوسة إلا مطابقة للأرواح في صفاتها المعقولة. ولا وضع الألفاظ في لسان آدم - عليه السلام - وذريته إلا موازنة للمعاني التي هي أرواحها، فهذا سر " الواو " في اختصاصها بالجمع لمن يعقل، وعلى نحو ذلك خصت بالعطف لأنه جمع في معناه، وبالقسم لأن واوه في معنى واو العطف، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وأما اختصاص (الألف) بالتثنية، فلقرب التثنية من الواحد في المعنى وجب أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 يقرب لفظها من لفظه، ولذلك لا يتغير بناء الواحد فيها كما يتغير في أكثر الجموع. وفعل الواحد مبني على الفتح فوجما أن يكون فعل الاثنين كذلك، وذلك لا يمكن مع غير " الألف "، فلما ثبتت " الألف " بهذه العلة ضميراً للاثنين كانت علامة للاثنين في الأسماء، كما فعلوا في " الواو " حين كانت ضميراً للجماعة في الفعل جعلت علامة للجمع في الأسماء، والحمد لله. وأما إلحاق " النون " بعد حروف المد في هذه الأفعال الخمسة، فحملت على الأسماء التي في معناها المجموعة جمع السلامة والمثناة، نحو: " مسلمون " و" مسلمان "، وهي في تثنية الأسماء وجمعها عوض من التنوين كما ذكروا، ثم شبهوا بها هذه الأمثلة الخمسة، فألحقوا النون فيها في حال الرفع، لأنها إذا كانت مرفوعة كانت واقعة موقع الاسم، فاجتمع فيها وقوعها موقع الاسم ومضارعتها له في اللفظ، لأن آخرها حرف مد ولين، ومشاركتها له في المعنى، فألحق فيها النون عوضاً من حركة الإعراب حملاً على الأسماء كما حملت الأسماء عليها فجمعت بالواو والياء. وقد ققدم ذكر ذلك. فالنون في تثنية الأسماء وجمعها أصل للنون في تثنية الأفعال وجمعها. وحروف المد في تثنية الأفعال وجمعها - أعني علامة الإضمار - هي أصل لحروف المد في ثثنية الأسماء وجمعها، التي هي علامات إعراب، أو حروف إعراب كما تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 فإن قيل: فلم لم يثبتوا هذه النون في حال النصب والجزم من الأمثلة الخمسة؟ قلنا: لعدم العلة المتقدمة وهي وقوعها موقع الاسم، وأنت إذا أدخلت النواصب والجوازم لم تقع موقع الأسماء، لأن الأسماء لا تكون بعد عوامل الأفعال، فبعدت عن الأسماء، ولم يبق فيها إلا مضارعتها لها في اتصال حروف المد بها، مع الاشتراك في معنى الفعل. فإن قيل: فأين الإعراب فيها في حال النصب والجزم؟ قلنا: مقدر، كما هو في كل اسم وفعل آخره حرف مد ولين، سواء كان حرف المد زائداً أو أصلياً، ضميراً أو غير ضمير، فالأصلي نحو: يرمي والقاضي، ونحو: عصا ورحى، والزائد نحو: سكرى، والضمير نحو: غلامي وصاحبي، إلا أنه مع هذه الياء مقدر قبلها - أعني الإعراب - وهو في (يرمي) و (يخشى) و (سكرى) ونحو ذلك مقدر في نفس الحرف لا قبله، لأنه لا يتقدر إعراب اسم في غيره، وإذا ثبت ذلك فقولك: " لن يفعلوا " و " لن تفعلي " إعرابه مقدر قبل الضمير في لام الفعل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 كما هو كذلك في غلامي، وليس زوال النون وحذفها هو الإعراب، لأنه مستحيل أن يحول بين حرف الإعراب وبين إعرابه اسم فاعل أو غير فاعل، مع أن العدم ليس بشيء فيكون إعراباً وعلامة لشيء في أصل الكلام ومعقوله، والله أعلم. وأما فعل جماعة النساء فكذلك أيضاً إعرابه مقدر قبل علامة الإضمار كما هو مقدر قبل الياء في غلامي. فعلامة الإضمار منعت من ظهوره لاتصالها بالفعل وأنها كبعض حروفه، فلا يمكن تعاقب الحركات على لام الفعل معها، كما لم يمكن ذلك مع ضمائر الفاعلين المذكورين، ولا مع الياء من غلامي، ولا يمكن أيضاً أن يكون الإعراب في نفس النون لأنها ضمير الفاعل، فهي غير الفعل، ولا يكون إعراب شيء في غيره، ولا يمكن أيضاً بعدها، فإنه مستحيل في الحركات وبعيد كل البعد في غير الحركات أن بكون إعراباً وبينه وبين (حرف) الإعراب اسم أو فعل، فثبت أنه مقدر كما هو في جميع الأسماء والأفعال المعربة (التي) لا يقدر على ظهور الإعراب فيها لعلة مانعة على نحوما تقدم. فإن قيل: فقد أثبتم أن فعل جماعة المؤنث معرب، وهذا خلاف لسيبويه ومن وافقه من النحويين، فإنهم زعموا أنه مبني وإن اختلفوا في علة بنائه! . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 قلنا: بل هو وفاق لهم، لأنهم علمونا وأصلوا لنا أصلاً صحيحاً فلا ينبغي لنا أن ننقضه ونكسره عليهم، وهو وجود المضارعة الموجبة للإعراب، وهو موجود في " يفعلن " و " تفعلن "، فمتى وجدت الزوائد الأربع وجدت المضارعة، وإذا وجدت المضارعة وجد الإعراب. فإن قيل: فهلا عوضوا من حركة الإعراب في حال رفعه نونا، كما فعلوا في (يفعلون) لأنه أيضاً واقع موضع الاسم؟ قلنا: تقدم ما في " يفعلون "، و " يفعلان " من وجوه الشبه بينه وبين جمع السلامة في الأسماء، فمنها الوقوع موقع الاسم، ومنها المضارعة في اللفظ من جهة حروف المد واللين. وهذا الشبه معدوم في " يفعلن " من جهة اللفظ، لأنه ليس مثل لفظ " فاعلين " ولا " فاعلات "، وإن كان واقعاً موقعه في حال الرفع، والله المستعان. مسألة (في علامات الإعراب) قوله في هذا الباب: " وجميع ما يعرب به الكلام تسعة أشياء ". وذكر الحروف والحركات والحذف والسكون. وكلها أشياء في الحقيقة إلا الجزم والحذف، فإنهما عبارتان عن معدوم، والمعدوم ليس بشيء، وهو معلوم. وأما الحركات فأعراض، لأنها لحروف المد أبعاض، والحروف أصوات. وهي عند جميع المحققين من المتكلمين أعراض إلا (إبراهيم النَّظَّام) ، وقد تقدم ذكرمذهبه فيما مضى. والعرض شيء لأنه موجود، وكل موجود شيء، وكل شيء موجود، بخلاف المعدوم. ولم نقصد التعقيب على أبي القاسم في عبارته، لأن التسامح من شأنهم في هذه الصناعة والله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 باب الأفعال مسألة (في أمس وغد واليوم) القول في " أمس " و " غد " و " اليوم " أن الأيام لما كانت متماثلة من حيث كان كل واحد منها عبارة عن جملة من حركات الفلك، والحركات متماثلة بأنفسها لا يتميز يوم من يوم بصفة نفسية، إذ المثلان مشتركان في جميع صفات النفس، ولا بصفة معنوية لأن الصفة المعنوية لا تقوم بالحركة ولا بعرض من الأعراض، لأن المعنى لا يقوم بالمعنى، لم يبق إلا تمييزها بالأعداد، ولذلك جعلوا أسماء أيام الأسبوع مأخذوة من العدد، كقولهم: الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، ونحو ذلك، أو بالأحداث الكائنة فيها نحو قولك: " اليوم (الذي خرج فيه زيد) ، فخصصته بما قارنه من الفعل) الذي هو حركة للفاعلين، كما أن الزمان حركة للفلك، وكل واحد منهما حادث يتخصص بمقارنة صاحبه، أيهما كان أعرف عند المخاطب كان وقتاً للآخر مخصصا له، فإذا ثبت ذلك فأقرب الأيام إليك يومك الذي أنت فيه، فيقال: " فعلته في اليوم الذي فرط قبل هذا اليوم الذي نحن فيه ". ويقال في غد نحو ذلك. فاقتضى إيثار الإيجاز والاختصار أن يوضع له اسم، وأن يشتق له من أقرب ساعة منه إلى يومك، ثم ينسحب معناه على اليوم كله، كما يقال في العبد: (رقبة) فينسحب معنى الرقبة على الجملة، وهو في الأصل عبارة عن البعض، ورب شيء هكذا. وكذلك (غد) جعل له اسم يترجم به عن جميعه، وهو مشتق من أقرب ساعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 منه إلى يومك، إلا أن " أمس " مبني و " غد " معرب، فعل بكل واحد منهما ما فعل بالفعل الذي في معناه، ولذلك (جاء) " أمس " بلفظ الأمر حين أرادوا بناءه كما بني الفعل الماضي الذي صيغ من أجله، ولم يجئ بلفظ الفعل لئلا يلتبس بالفعل الماضي، ولعله قد جاء، وليس ببعيد أن يكون قول الراجز: لقد رأيت عجبا مذ أمساً أراد به: أفعل. وهذه العملية التي في " أمس " بمنزلة " أطْرِقَا " اسم علم لمكان بالحجاز جاء بلفظ الأمر يقول الرجل فيه لصاحبه حين استبطن خوفا وتوجس حساً، فلذلك هو الاسم في المكان كهذا في الزمان، لعله سمي لقولهم فيه: " أمس بخير "، و " أمس معنا "، أو نحو هذا، كما سمي ذلك المكان بقولهم فيه: " أطرقا ". والعملية فيه عندي ليست كهي في " زيد " و " عمرو "، ولكنها كهي في " أسامة " و " ثعالة "، اسم علم لا يختص به واحد من الجنس، أي الجنس كان فهو المسمى بذلك الاسم، كما أن " أمس " أي الأيام كان إذا ولي يومك ماضياً فهو (أمس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 فأما حذف لام الفعل من " غد "، فكل ما كان على وزن " فعل " معتل اللام، ثم عبر به عن غير ما وضع له، فإنه وضع عن الحدث، فإذا زحزح عن أصل موضوعه وبقي فيه من المعنى الأول ما يعلم به أنه مشتق منه - فإن حذف لامه مطرد، ليكون النقص في اللفظ موازناً للنقص في المعنى، فلا يستوفي حروف الكلمة بأسرها إلا عند حصول المعنى بأسره. وتأمل ذلك تجده في " غد " و " دم " و " يد " و " سم ". وعلى ذلك كل هذه الأسماء نقص من لفظها بحسب ما نقص من المعنى الذي عبر عنه بجملة حروف الكلمة. فهذا ما في " أمس " و " غد ". فأما اليوم إذا كان ظروفاً فهو كالآن، استغنوا بلزوم الألف واللام له عن أن يصفوه أو يضيفوه أو يسموه باسم علم غير هذا اللفظ، كما فعلوا (ذلك) بالنجم - أعني: الثريا -، وفي المدينة - أعني: مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفىِ غير ذلك مما ألزم الألف واللام عرفا واستحقاقاً، فكذلك اليوم (إذا أردت اليوم) الذي أنت فيه. وكذلك الساعة والليلة، استغنوا بالمشاهدة ولزوم الألف واللام عن إلحاقهما بالأسماء الأعلام. وهذا الصواب لا ما ذهب إليه من علل البناء في " أمس " بتضمن الحرف أو مشابهته الحرف، فإن ذلك ينكسر عليهم في " غد " بما ليس لهم عنه مندوحة ولا صرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 مسألة (في أحرف المضارعة) قال أبو القاسم: " أوكانت في أوله إحدى الزوائد الأربع ". دخول الزوائد على الحروف الأصلية منبئة على معان زائدة على معنى الكلمة التي وضعت الحروف الأصلية عبارة عنه، فإن كان المعنى الزائد آخراً كانت الزيادة آخراً، كنحو " التاء " في " فعلت " لأنها تنبئ عما رتبه بعد الفعل. فإن كان المعنى الزائد أولًا كانت الزيادة المنبئة عنه (أولا) مسبقة على حروف الكلمة كهذه الزوائد الأربع، فإنها تنبئ أن الفعل لم يحصل بعد لفاعله، وأن بينه وبين تحصيله جزءاً من الزمان، فكان الحرف الزائد السابق للفظ الفعل مشيراً في اللسان إلى ذلك الجزء من الزمان، مرتباً في البيان على حسب ترتب المعنى في الجنان. وكذلك حكم جميع ما يرد عليك من كلامهم هذا الأصل آخذ بآفاق الباب، ومشرف بك إن شاء الله تعالى على العسر والكتاب. فإن قيل: فهلا اكتفي بزائدة واحدة من هذه الأربع؟ وإن كان ذلك للفرق بين مخاطب وغائب، فهلا كانت الياء مكان التاء أو الهمزة؟ وما الحكمة في اختصاص كل واحدة منها بما اختصت به؟. فالجواب: أن الأصل في هذه الزوائد الياء، بدليل كونها في الموضع الذي لا يحتاج فيه إلى الفرق بين مذكر ومؤنث، وهو فعل جماعة النساء. دليل آخر، وهو: أن أصل الزيادة لحروف المد واللين، والواو لا تزاد أولاً كيلا تشبه " واو " العطف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ولعلة أخرى تذكر في باب التصريف، والألف لا تزاد أولاً لسكونها، فلم تبق إلا " الياء " فهي أصل هذا الباب. فلما أرادوا الفرق كانت الهمزة بفعل المتكلم أولى، لإشعارها بالضمير المستتر في الفعل، إذ هي أول حروف ذلك الضمير إذا برز فلتكن مشيرة إليه إذا أبرز. وكانت النون بة هل المتكلمين أولى بوجودها في أول لفظ الضمير الكامن في الفعل إذا ظهر فلتكن دالة عليه إذا خفي واستتر. وكانت التاء من " تفعل " للمخاطب لوجودها في ضميره المستتر فيه، وإن لم تكن في أول لفظ الضمير أعني " أنت " ولكنها في آخره، ولم يخصوا بالدلالة عليه ما هو في أول لفظه - أعني الهمزة - لمشاركته للمتكلم فيها وفي النون، فلم يبق من لفظ الضمير إلا التاء، فجعلوها في أول الفعل علماً عليه، وإيماء إليه. فإن قيل: فكان يلزم على هذا أن تكون الزيادة في فعل الغائب هاء، لوجودها في لفظ ضمير الغائب إذا أبرز؟. فالجواب: إنه لا ضمير في فعل الغائب في أصل الكلام وأكثر موضوعه، لأن الاسم الظاهر يغني عنه، ولا يستتر ضمير الغائب حتى يتقدمه مذكور يعود علبه. وليس كذلك فعل المتكلم والمخاطب والمخبرين عن أنفسهم، فإنه لا يخلو أبداً من ضمير ولا يجيء بعده اسم ظاهر يكون فاعلاً به ولا مضمر أيضاً، إلا مضمراً يكون توكيداً للضمير المنطوي عليه الفعل، فتأمل ما ذكرناه، والْمَحْ ما قاله النحويون في تعليل هذه المسألة تجد طبعك يعافه، وسمعك يمجه، وعقلك لا يستسيغه، وتجد هذه الأغراض المذكورة ها هنا يدعوك إلى قبولها الحس، ويشهد بصحتها الحدس، والله المستعان ومن ها هنا ضارعت الأسماء حتى أعربت، وجرت مجرى الأسماء في دخول لام التوكيد عليها وغير ذلك، لأنها تضمنت معنى الأسماء بالحروف التي في أوائلها، فهي من حيث دلت على الحدث والزمان فعل محض، ومن حيث دلت بأوائلها على المتكلم والمخاطب ونحو ذلك متضمنة معنى الاسم، فاستحقت الإعراب الذي هو من خواص الأسماء، كما استحق الاسم المتضمن معنى الحرف البناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 مسألة (في دلالة المضارع على الزمان) فعل الحال لا يكون مستقبلاً وإن حسن فيه " غد "، كما لا يكون الفعل المستقبل حالاً أبداً، ولا الحال ماضياً، هذا هو اختيار شيخنا رحمة الله عليه. فإن قلت: كيف يكون حالاً: " يقوم زيد غداً " وهو واقع في زمان مستقبل؟. قلنا: إنما ذلك على تقدير الحكاية له إذا وقع، والإشارة إلى صورة الفعل إذا جاء وقته، كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا) . والوقوف مستقبل لا محالة، ولكن جاء بلفظ الماضي حكاية لحال يوم الحساب فيه، لا مرتب على وقوف قد ثبت. وكذلك قوله تعالى: قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) ، (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ) . وهذا كثير في القرآن، الوقت مستقبل والفعل بلفظ الماضي. ونحو منه قوله تعالى: (فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ) . وهذا كله حكاية للحال، إذ ليس شيء منه حاضراً فكذلك: " يقوم زيد غداً "، و " يذهب بعد غد "، هو حال على التقدير والتصوير لهيئته إذا وقع. وما أرى هذا الذي ذكره الشيخ إلا صحيحاً، إذ الأصل ألا يحكم للفظين متغايرين بمعنى واحد إلا بدليل، ولا للفظ واحد بمعنيين إلا بدليل، وقف على هذا الأصل تهتد إلى سواء السبيل. * * * مسألة وحروف المضارعة - وإن كانت زوائد - فقد صارت كأنها من أنفس الكلم، وليست كذلك " السين "، و " سوف " وإن كانوا قد شبهوها بحروف المضارعة والحروف الملحقة بالأصول في مسألة (نذكرها) بعد إن شاء الله تعالى، ولذلك تقول: " غداً يقول زيد " و " يوم الجمعة يذهب عمرو "، بتقديم الظرف على الفعل، كما يفعل ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 في الماضي الذي لا زيادة فيه فتقول: " أمس قام زيد "، و " يوم الجمعة ذهب عمرو ". ولا يستقيم هذا في المستقبل من أجل " السين " أو " سوف "، لا تقول: " غداً سيقوم زيد "، لوجوه منها: أن " السين " تنبئ عن معنى الاستئناف والاستقبال للفعل، وإنما يكون مستقبلاً بالإضافة إلى ما قبله، فإن كان قبله ظرف أخرجته " السين " عن الوقوع في الظرف، فبقي الظرف لا عامل فيه، فبطل الكلام. فإذا قلت: " سيقوم زيد غداً "، دلت " السين " على أن الفعل مستقبل بالإضافة إلى ما قبله، وليس قبله إلا حالة المتكلم، ودل لفظ " غداً " على استقبال اليوم فتطابقا، وصار ظرفاً له. ووجه ثان ماء من التقديم في الظرف وغيره، وهو أن " السين " و " سوف " من حروف المعاني الداخلة على الجمل، ومعناها في نفس المتكلم وإليه يسند لا إلى الاسم المخبر عنه، فوجب أن يكون له صدر الكلام كحروف الاستفهام والنفي والتمني وغير ذلك، ولذلك قبح: " زيداً سأضرب ". و" زيد سيقوم " مع أن الخبر عن " زيد " إنما هو بالفعل لا بالمعنى الذي دلت عليه " السين "، فإن ذلك المعنى مسند إلى المتكلم لا إلى " زيد " فلا يجوز أن يخلط بالخبر عن " زيد " فتقول: " زيد سيفعل ". فإن أدخلت " إن " على الاسم المبتدأ جاز دخول " السين " في الخبر، لاعتماد الاسم على " إن "، ومضارعتها للفعل، فصارت في اللفظ مع اسمها كالجملة التامة، فصلح دخول " السين " فيما بعد، فأما مع عدم " أن " فيقبح ذلك. وهذا مذهب الشيخ أبي الحسين - رحمه الله - إلا التعليل فإنه بخلاف تعليله وقد قلت له كالمحتج عليه: أليس قد قال الله - سبحانه وتعالى -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) فجاء بالسين في خبر المبتدأ؟ فقال لي: اقراً ما قبل الآية. فقرأت (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية. . . فضحك وقال قد كنت أفزعتني، أليست هذه " إن " في الجملة المتقدمة، وهذه الأخرى معطوفة بالواو عليها، والواو تنوب مناب تكرار العامل؟ فسلمت له وسكت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ونظير هذه المسألة مسألة " اللام " في " إن "، تقول: " إن زيداً لقائماً، ولا تقول: " إن زيداً لقائم ". والصحيح لتقديم الظرف على الفعل الماضي أن معنى المضي مستفاد من لفظه، لا من حرف زائد على الجملة، منفصل من الفعل كالسين و" قد " إلا فعل الحال فإن زوائده ملحقة بالأصل، فإن أدخلت على الماضي " قد " التي للتوقع كانت بمنزلة " السين " التي للاستئناف، وقبح حينئذ: " أمس قام زيد "، كما قبح: " غد سيقوم عمرو ". والعلة كالعلة، حذوك النعل بالنعل. وأما المسألة الموعود بها في أول الفصل التي شبهت فيها " السين " بالحروف الملحقة بالأصل، فهو أن يقال: لم لم تعمل " السين " و " سوف " في الفعل المستقبل وقد استبدت به دون الاسم، وشأن الحروف المستبدة بالأفعال، أو بالأسماء دون الأفعال، أن تكون عاملة؟. فإن الجواب أنها فاصلة لهذا الفعل عن فعل الحال، كما فصلت الزوائد الأربع فعل الحال عن الماضي فأشبهتها، وإن لم تكن مثلها في اتصالها ولحوقها بالأصل، كما أشبهت حال الألف واللام التي للتعريف حال العلمية لاتصالها اتصالها وتعرف الاسم بها، وإن لم تكن ملحقة بحروف الأصل. فلما لم تعمل تلك الأسماء مع اختصاصها بها، لم تعمل هذه الأفعال مع استبدادها بها، والله أعلم. وقد رأيت هذا التعليل للفارسي في بعض كتبه، ولابن السراج أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وأما " سوف " فحرف، ولكنه على لفظ السوف الذي هو الشم لرائحة ما ليس بحاضر وقد وجدت رائحته، كما أن " سوف " هذه - التي هي حرف - تدل على أن ما بعدها ليس بحاضر وقد علم وقوعه وانتظر أبانه. ولا غرو أن يتقارب معنى الحرف من معنى الاسم المشتق المتمكن في الكلام، فهذه " ثم " حرف عطف، ولفظها كلفظ الثم، والثم هو: رم الشيء بعضه إلى بعض، كما قال: " كنا أهل ثمة ورمة "، ويروي " أهل ثمة ورمة "، وأصله من: ثممت البيت: إذا كانت فيه فرج فسد بالثمام. وقال الشاعر: وأما الرياح فقد غادرت ... رواكد واستمتعت بالثمام والمعنى الذي في " ثم " العاطفة قريب من هذا، لأنه ضم الشيء إلى شيء بينهما مهلة، كما أن ثم البيت: (ضم بين شيئين بينهما فرجة) . ومن تأمل هذا المعنى في الحروف والأسماء المضارعة لها، ألفاه كثيراً، والله - تعالى - المستعان. * * * مسألة (في أن ولن) (قوله) : " فالناصب (أن) و (لن) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 أما " أن " فهو مع الفعل بتأويل المصدر. فإن قيل: فهلا اكتفي بالمصدر واستغني به عن " أن " لأنه أخصر؟. فالجواب: أن في دخول " أن " ثلاث فوائد: إحداها: أن الحدث قد يكون فيما مضى، وفيما هو آت، وليس في صيغة ما يدل على مضي ولا استقبال، فجاؤوا بلفظ الفعل المشتق منه مع " أن " ليجتمع لهم الإخبار عن الحدث مع الدلالة على الزمان. الثانية: أن " أن " تدل على إمكان الفعل دون الوجود والاستحالة. الثالثة: أنها تدل على مجرد معنى الحدث دون احتمال زائد عليه، ففيها تحصين للمعنى من الإشكال، وتخليص من شوائب الاحتمال، وذلك أنك اذا قلت: " كرهت خروجك "، أو: " أعجبني قدومك ". احتمل الكلام معاني منها: أن يكون نفس القدوم هو العجب لك دون صفة من صفاته وهيآته، وإن كان لا يوصف في الحقيقة بصفات ولكنها عبارة عن الكيفيات. واحتمل أيضاً أن تريد أنك أعجبتك سرعته أو بطؤه أو حالة من حالاته، فإذا قلت: " أعجبني أن قدمت "، كانت على الفعل " أن " بمنزلة الطابع والعنوان من عوارض الاحتمالات المتصورة في الأذهان. ولذلك زادوا " أن " بعد " لما " في قولهم: " لما أن جاء زيد أكرمتك " ولم يزيدوها بعد ظرف سوى " لما " وذلك أن " لما " ليست في الحقيقة ظرف زمان، ولكنه حرف يدل على ارتباط الفعل الثاني بالأول وأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 أحدهما كالعلة للآخر، بخلاف الظرف من الزمان إذا قلت: " حين قام زيد قام عمرو " فجعلت أحدهما وقتاً للآخر على اتفاق لا على ارتباط، فلذلك زادوا " أن " بعدها صيانة لهذا المعنى، وتخليصاً له من الاحتمال العارض في الظرف، إذ ليس الظرف من الزمان بحرف فيكون قد جاء لمعنى كما هو في " لما ". وقد زعم الفارسي أنها مركبة من " لم " و " ما " وما أدري ما وجه قوله، وهو عندي من الحروف التي في لفظها شبه من الاشتقاق، وإشارة إلى مادة هي مأخوذة منها نحو ما تقدم في " سوف " و " ثم "، لأنك تقول: " لممت الشيء لمًّا " إذا ضممت بعضه إلى بعض، وهذا نحو من المعنى الذي سبقت إليه " لما "، لأنه ربط فعل بفعل على جهة التسبيب أو التعقيب، فإذا كان التسبيب حسن إدخال أن بعدها زائدة إشعاراً بمعنى المفعول من أجله، وإن لم يكن مفعولاً من أجله، نحو قوله تعالى: (وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا) و (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ) ، ونحوه. وإذا كان التعقيب مجرداً من التسبيب لم يحسن زيادة " أن " بعد " لمَّا " وتأمله في القرآن تعرف الحكمة، إن شاء الله تعالى. وأما " أن " التي للتفسير فليست مع ما بعدها في تأويل المصدر، ولكنها تشارك " أن " التي تقدم ذكرها في بعض معانيها، لأنها تحصين لما بعدها من الاحتمالات، وتفسير لما قبلها من المصادر المجملات، التي في معنى المقالات والإشارات، ولا يكون تفسيراً إلا لفعل في معنى التراجم الخمس الكاشفة عن كلام النفس، لأن الكلام القائم في النفس والغائب عن الحواس في الأفئدة، تكشفه للمخاطبين خمسة أشياء: اللفظ، والخط، والإشارة، والعقد، والنصب، وهي لسان الحال، وهي أصدق من لسان المقال. فلا تكون (أن) المفسرة إلا تفسيراً لما أجمل من هذه الأشياء، كقولك: " كتبت إليه أن أخرج "، و " أشرت إليه أن اذهب ". و (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 و " وأوصيته أن اشكر " و " عقدت في يدي أن قد أخذت خمسين ". و" زويت على حائطي أن لا يدخلوه ". ومنه قوله عز وجل: (وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) . هي ها هنا تفسيراً للنصبة التي هي لسان الحال. والله المسدد للمقال، والموفق لصالح الأعمال. وإذا كان الأمر فيها كذلك فهي بعينها " أن " التي تقدم ذكرها، لأنها إذا كانت تفسيراً فإنما تفسير الكلام، والكلام مصدر، فهي إذاً في تأويل مصدر، إلا أنك أوقعت بعدها الفعلٍ بلفظ الأمر والنهي، وذلك مزيد فائدة، ومزيد الفائدة لا يخرج الفعل عن كونه فعلا، وكذلك لا تخرج " أن " عن كونها مصدرية، كما لم يخرجها عن ذلك صيغة المضي والاستقبال بعدها إذا قلت: " يعجبني أن تقوم " و " أن قمت ". فكأنهم إنما قصدوا إلى ماهية الحدث مخبراً به عن الفاعل لا الحدث مطلقا، ولذلك لا تكون مبتدأ وخبرها ظرف أو مجرور، لأن المجرور لا يتعلق بالمعنى الذي تدل عليه " أن "، ولا الذي من أجله صيغ الفعل واشتق من المصدر، وإنما يتعلق المجرور بالمصدر نفسه مجرداً من هذا المعنى، كما تقدم، فلا يكون خبراً عن " أن " المتقدمة، وإن كانت في تأويل اسم. وكذلك أيضاً لا يخبر عنها بشيء مما هو صفة للمصدر، وكقولك: " قيامك سريع أو بطيء " أو نحو ذلك، لا يكون مثل هذا خبراً عن المصدر. فإن قلت: " حسن أن تقوم " أو: " قبح أن تفعل " جاز ذلك لأنك تريد بها معنى المفعول، كأنك تقول: " استحسن هذا أو استقبحه "، وكذلك إذا قلت: " لأن تقوم خير من أن تقعد " جاز، لأنه ترجيح وتفضيل، فكأنك تأمره بأن يفعل ولست بمخبر عن الحدث، بدليل امتناع ذلك في المضي، فإنك لا تقول فيه: " إن قمت خير من أن قعدت "، ولا: " أن قام زيد أحسن من أن قام عمرو ". وامتناع هذا دليل على ما قدمنا من أن الحدث هو الذي يخبر عنه. وأما " أن " وما بعدها فإنها - وإن كانت في تأويل المصدر - فإن لها معنى زائداً لا يجوز الإخبار عنه، ولكنه يراد ويكره ويؤمر به. فإن وجدتها مبتدأة ولها خبر فليس الكلام على ظاهره، على ما تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وأما " لن " فهي عند الخليل مركبة من " لا " و " أن "، ولا يلزمه ما اعترض عليه سيبويه في تقديم المفعول عليها، لأنه يجوز في المركبات ما لا يجوز في البسائط. فإذا ثبت ذلك فمعناها نفي الإمكان بـ " أن " كما تقدم. فكان ينبغي أن تكون جازمة كلم، لأنها حرف نفي مختص بالأفعال، فوجب أن يكون إعرابه الجزم الذي هو نفي الحركة وانقطاع الصوت، ليتطابق اللفظ والمعنى كما تقدم في باب الإعراب. وقد فعلت ذلك طائفة من العرب، فجزمت بها حين لحظت هذا الأسلوب وأكثرهم ينصب بها مراعاة لأن المركبة فيها مع لا، إذ هي من جهة الفعل وأقرب إلى لفظه، فهي أحق بالمراعاة من معنى النفي، فرب نفي لا يجزم الأفعال، وذلك إذا لم يختص بها دون الأسماء، والنفي في هذا الحرف إنما جاءه من قبل " لا "، و " لا " غير عاملة، لعدم استبدالها بالأفعال دون الأسماء، ولذلك كان النصب بها أولى من الجزم. على أنها قد ضارعت " لم " لتقارب المعنى واللفظ. حتى قدم عليها معمول فعلها. فقالوا: " زيداً لن أضرب "، كما قالوا: " زيداً لم أضرب ". ومن خواصها أنها تخلص الفعل للاستقبال بعد أن كانت صيغته للحال. فأغنت عن " السين " و " سوف ". وكذلك جل هذه النواصب تخلص الفعل للاستقبال. ومن خواصها أنها تنفي ما قرب ولا يمتد معنى النفي فيها كامتداد معنى النفى في حرف " لا " إذا قلت: " لا يقوم زيد أبداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وقد قدمنا أن الألفاظ مشاكلة للمعاني التي هى أرواحها، يتفرس العاقل فيها حقيقة المعنى بطبعه وحسه، كما يتعرف الصادق للفراسة صفات الأرواح في الأجساد بنحيزة نفسه. فحرف " لا ": لام بعدها ألف، يمتد بها الصوت ما لم يقطعه تضييق النفس، فإذاً امتداد لفظها بامتداد معناها، و " لن " بعكس ذلك، فتأمله فإنه معنى لطيف، وغرض شريف، ألا ترى كيف جاء في القرآن البديع نظمه، الفائق على كل العلوم علمه: (وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا) ، بحرف " لا " في الموضع الذي اقترن فيه حرف الشرط بالفعل فصار من صيغ العموم، فانسحب على جميع الأزمنة، وهو قوله - عز وجل -: (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) . كأنه يقول: متى ما زعموا ذلك لوقت من الأوقات أو زمن من الأزمان وقيل لهم: (تَمَنَّوُا الْمَوْتَ) فلا يتمنونه، وحرف الشرط دل على هذا المعنى، وحرف " لا " في الجواب بإزاء صيغة العموم، لاتساع معنى النفي فيها. وقال في سورة البقرة: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) فقصر من سعة النفي وقرب، لأن فوله تعالى في النظم: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) . وليست " إن " ها هنا مع " كان " من صيغ العموم، لأن " كان " ليست بدالة على حدث، وإنما هي داخلة على المبتدأ والخبر عبارة عن مضي في الزمان الذي (كان) فيه ذلك الحدث، فكأنه يقول عز وجل إن كانت (قد) وجبت لكم الدار الآخرة وثبتث (لكم) في علم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 الله - تعالى - فئمنوا الموت الآن، ثم قال في الجواب: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) ، فانتظم معنى الجواب بمعنى الخطاب في الآيتين جميعاً، والله الموفق للصواب. وليس في قوله تعالى (أبداً) ما يناقض ما قلناه، فقد تكون (أبداً) بعد فعل الحال، تقول: " زيد يقوم أبداً "، و " يصلي أبداً "، ونحو ذلك. ومن أجل ما تقدم من قصور معنى النفي في " لن " ودلالتها على القرب في أكثر الكلام، لم يكن للمعتزلة حجة على نفي الرؤية في قوله عز وجل: (لَنْ تَرَانِي) ، ولم يقل: " لا تراني " فلو كان النفي بـ " لا " لكان لهم بعض التعلق، ولم يكن حجة بجواز تخصيص العموم بنص آخر من الكتاب والسنة، والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وأما الإدراك الذي لا يكون بحال فنفاه بـ " لا "، فقال: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) ، فالأبصار إذاً لا تدركه بحال، والرؤية تكون بعد هذه الحال وهو - عندي - أصح من قول من قال: الرؤية والإدراك بمعنى واحد لا فرق بينهما: ألا ترون كيف حسن قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنكم ترون ربكم عيانا يوم القيامة ". ولو قال: (إنكم) تدركون ربكم يوم القيامة، لم يحسن. فالإدراك منفي بـ (لا) نفياً مطلقاً بخلاف الرؤية على أني أقول: إن العرب - مع هذا - إنما تنفي بـ " لن " ما كان ممكناً عند الخطاب مظنونا أن سيكون، فتقول له: " لن يكون ". لما يمكن أن يكون، لأن " لن " فيها معنى " أن " وإذا كان الأمر عندهم على الشك لا على الظن، كأنه يقول: أيكون أم لا يكون؟ (قلت في النفي لا يكون) وهذا كله مقو لتركيبها من " لا " و" أن "، وسأشرح لك وجه اختصاصها في القرآن بالمواضع التي وقعت فيها دون " لا ". * * * مسألة قوله: (وإذن) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 هذا حرف هو عندي " إذا " التي كانت ظرفاً لما يستقبل، وكانت غير منونة من أجل إضافتها إلى ما بعدها، فخلع منها معنى الاسمية كما فعلوا ذلك بإذ وبكاف الخطاب، وبالضمائر المنفصلة في باب الفصل، خلع منها معنى (الاسم وصارت حروفاً لا مواضع) لها من الإعراب. وكذلك فعلوا بإذا، إلا أنهم زادوا فيها التنوين فذهبت الألف، والقياس إذا وقفت عليها أن ترجع الألف لزوال العلة، وإنما نونوها لما فصلوها عن الإضافة إذ التنوين علامة الانفصال، كما فعلوا بإذ حين فصلوها عن الإضافة، إلى الجملة فقالوا: يومئذ فصار التنوين معاقباً للجملة، إلا أن " إذاً في ذلك الموضع لم تخرج عن الاسمية (بدليل إضافة " يوم " و " حين " إليها، وإنما أخرجوها عن الاسمية، في نحو قوله تعالى: (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ) ، جعلها سيبويه ههنا (حرفاً بمنزلة أن) فإن قيل: ليس شيء من هذه الأشياء التي صيرت حروفاً بعد ما كانت أسماء، إلا وقد بقي فيها معنى من معانيها، كما بقي في " كاف " الخطاب معنى الخطاب، وفي " على " معنى الاستعلاء، فماذا بقي في (إذ) و (إذا) من معانيهما في حال الاسمية؟ فالجواب: أنك إذا قلت: " سأفعل كذا إذا خرج زيد أو قدم عمرو "، ففعلك مرتبط بالخروج أو القدوم مشروط به، وكذلك إذا قال لك القائل: " قد أكرمتك " فقلت: " إذن أحسن إليك "، ربطت إحسانك بإكرامه وجعلته جزاء له، فقد بقي فيهاطرف من معنى الجزاء وهي حرف، كما كان فيها معنى الجزاء وهي اسم. وأما " إذ " في قوله تعالى: (إِذْ ظَلَمْتُمْ) ففيها معنى الاقتران بين الفعلين، كما كان فيها ذلك في حال الظرفية، تقول: لأضربن زيداً إذ شتمني " فهي - وإن لم تكن ظرفاً ففيها من المعنى الأول طرف، كأنك تنبهه على أنك تجازيه على ما كان منه إذ شتم، فإن لم يكن الضرب واقعاً في حال الشتم، فله رد عليه وتنيه عليه. فقد لاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 لك قرب ما بينهما وبين " أن " التي للمفعول من أجله، ولذلك شبهها سيبويه بها في سواد كتابه. وعجباً للفارسي حيث غاب ذلك عنه وجعلها ظرفاً، ثم تحيل في إيقاع الفعل الذي هو النفع فيها وسوقه إليها، بما هو مسطور في كتبه، فأغنى ذلك عن ذكره. وأما إذ إذا كانت منونة فإنها لا تكون إلا مضافاً إليها ما قبلها، لتعتمد على الظرف المضاف إليها فلا يزول عنها معنى الظرفية، كما زال عن أختها حين نونوها وفصلوها عن الفعل الذي كانت تضاف إليه. والأصل في هذا أن " إذا و " إذا " في غاية من الإبهام والبعد عن شبه الأسماء، والقرب من الحروف، لعدم الاشتقاق، وقلة حروف اللفظ، وعدم التمكن وغير ذلك، فلولا إضافتها إلى الفعل الذي يبنى للزمان ويفتقر إلى الظروف، لما عرف فيها معنى الاسم أبداً، إذ لا تدل واحدة منهما على معنى في نفسها إنما جاءت لمعنى في غيرها، ف " إذا " قطعت عن ذلك المعنى تمحض معنى الحرف، إلا أن " إذ " لما ذكرناه من إضافة ما قبلها من الظروف إليها لم يفارقها معنى الاسم. وليست الإضافة إليها في الحقيقة، ولكن الجملة التي عاقبها التنوين. وأما " إذن " فلم يكن لها بعد فصلها عن الإضافة ما يعضد معنى الاسمية فيها. فصارت حرفا لقربها من حروف الشرط في المعنى، ولما صارت حرفاً مختصا بالفعل مخلصاً له للاستقبال كسائر النواصب للأفعال. نصبوا الفعل بعده، إذ ليس واقعا موقع الاسم فيستحق الرفع، ولا هو غير واجب فيستحق الجزم، فلم يبق إلا النصب. ولما لم يكن العمل فيها أصلاً لم تقو قوة أخواتها، فأُلغيت تارة وأعملت أخرى، وضعفت عن عوامل الأفعال فإن قيل: فهلا فعلوا بها ما فعلوا بـ " إذاً " حين نونوها، وحذفوا الجملة بعدها فيضيفوا إليها ظروف الزمان كما يضيفونها إلى " إذ " في قولك: " حينئذ " " يومئذ "، إذ الإضافة في المعنى إلى الجملة التي عاقبها التنوين؟. فالجواب: أن " إذ " قد استعملت مضافة إلى الفعل (المستقبل) في المعنى على وجه الحكاية للحال، كما قال تعالى: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ولم يستعملوا " إذا " مضافة إلى الماضي بوجه ولا على حال، فلذلك استغنوا بإضافة الظروف إلى " إذ " وهم يريدون الجملة بعدها عند إضافتها إلى " إذا "، والله أعلم. مع أن " إذا في الأصل حرفان، و " إذا " ثلاثة أحرف، فكان ما هوأقل حروفاً في اللفظ أولى بالزيادة فيه (وإضافة الأوقات إليه زيادة فيه، لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة اسم واحد) . وأقوى من هذا أن " إذن " فيها معنى الجزاء، وليس في " إذ " منه رائحة. فامتنع إضافة ظروف الزمان إلى " إذن "، لأن ذلك يبطل ما فيها من معنى الجزاء، لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد، فلو أضيف " اليوم " و" الحين " إليها لغلب عليها حكمه، لضعفها عن درجة حروف الجزاء، فتأمله. * * * مسألة (في اللامين: لام كي، ولام الجحود) هما حرفا جر، فكلاهما يضب بإضمار " أن "، إلا أن لام كي هي لام العلة فلا يقع قبلها إلا فعل يكون علة لما بعدها، فإن كان ذلك الفعل منفياً لم يخرجها (ذلك) عن أن تكون لام كي كما ذهب إليه الصيمري، لأن معنى العلة فيها باق. وإنما الفرق بين لام الجحود ولام كي من وجوه ستة: أحدها: أن لام الجحود يكون قبلها ما كان أو لم يكن، وتكون كان بلفظ المضي أو في معناه، لا بلفظ الاستقبال. وتكون زمانية ناقصة لا تامة، ولا يقع بعد اسمها ظرف ولا مجرور، لا تقول: " ما كان زيد عندك ليذهب " وإلا ". . . أمس ليخرج ". فهذه أربعة فروق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 والذي يكشف لك قناع المعنى ويهجم بك على الغرض إن كانت الزمانية عبارة عن زمان ماض، فلا تكون علة لحادث، ولا تتعدى إلى المفعول من أجله، ولا إلى الحال وظرف المكان، وفي تعديها إلى ظرف الزمان نظر، فهذا الذي منعها من أن تقع قبل لام العلة، أو يقع بعدها المجرور أو الظرف. وأما الفرق الخامس بين اللامين فهو: أن الفعل بعد " لام " الجحود لا يكون فاعله إلا عائداً على اسم " كان " لأن " اللام " وما بعدها في موضع الخبر عنه، فلا تقول: ما كان زيد ليذهب عمرو، كما تقول: جاء زيد ليذهب عمرو، أو: لتذهب أنت ولكن تقول: ما كان ليذهب وما كنت لأفعل. والفرق السادس: جواز إظهار " أن " بعد " لام " كي، ولا يجوز إظهارها بعد " لام " الجحود، لأنها جرت في كلامهم نفياً للفعل المستقبل بالسين أو سوف، وصارت لام الجحود بإزائها، فلم يظهر بعدها ما لا يكون بعدهما. وفي هذه النكتة مطلع على فوائد من كتاب الله - عز وجل -، ومرقاة إلى تدبره، كقوله نعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) ، فجاء بلام الجحود. حيث كان نفياً لأمر متوقع، وسبب مخوف في المستقبل. ثم قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) . فجاء باسم الفاعل الذي لا يختص بزمان حيث أراد نفي وقوع العذاب بالمستغفرين على العموم في الأحوال، لا يخص مضياً من استقبال. ومثله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى) . ثم قال عز وجل: (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى) ، فالحَظْ هذه الآية من مطلع الأخرى تجدها كذلك في المعنى، والله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وأما (لام العاقبة) ، ويسمونها (أيضاً) : " لام الصيرورة " وهي نحو اللام في قوله تعالى: (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا) ، ونحو قوله: " أعنق ليموت "، فهي في الحقيقة " لام كي "، ولكنها لم تتعلق بقصد المخبر عنه وإرادته، ولكنها تعلقت بإرادة فاعل الفعل على الحقيقة، وهو الله سبحانه وتعالى، أى: فعل الله ذلك ليكون كذا كذا، وقدر أن يعنق الرجل ليموت، فهي متعلقة بالقدر وقضاء الفعل. وكذلك: إ اني لأنسى اشن لاً، ومن رواه: " إني لأنسى " فقد كشف قناع المعنى فلا غبار عليه، والله الموفق لما يؤلف لديه. * * * مسألة (في الأداتين " لم " و " لما ") قوله: إ والجازم لم ولما " " لما " نفي للماضي، كما أن " لن " نفي للمستقبل، وكان الأصل في نفي (الماضي) حرف " لا "، إذ هى أعم بالنفي وبه أولى، وقد استعملوها نافية للماضي في قوله تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) . وفي قول الراجز: وأي عبد لك لا ألما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ولكن عدلوا في أكثر الكلام عنها إلى حرف (لم) ، لوجوه منها: أنهم (قد) خصوا المستقبل بـ (لن) ، فأرادوا أن يخصوا كذلك الماضي في النفي بحرف كما فعلوا بالمستقبل، لأن " لا "، لا تختص ماضياً من مستقبل في النفي، ولا فعلًا دون اسم. ووجه آخر، وهو أن " لا " يتوهم انفصالها مما بعدها، إذ قد تكون نافية لما قبلها ويكون ما بعدها في حكم الوجوب، مثل قوله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) . وحتى لقد قيل في قول عمر - رضي الله عنه -: " لا نقضي ما تجانفنا فيه لإثم ": أن " لاا " ردع لما قبلها، و " نقض " واجب لا نفي. وكذلك قال بعض الناس في قوله - عليه السلام -: " لا تتراءى ناراهما ": أن " لا " ردع، وما بعدها واجب. لعمرى إن في لفظها إشارة لهذا المعنى، حيث كان بعد اللام فيها صوت مديد ينقطع في أقصى الحلق، راجع إلى خلف مخارج الحروف، بخلاف " لم " فإنها مشاركة لـ " لا " في " اللام " المفتوحة كما هي مشاركة لها في النفي. ثم فيها " الميم " وصوتها بين يدي الفم، ليكون هواء الكلمة إلى ما بعدها، ومعناها فيما يتصل بها لا فيما وراءها، كما كان ذلك جائزاً في " لا ". والله أعلم. ويؤيد هذا المعنى ويوضحه قلبهم لفظ الفعل الماضي بعد " لم " إلى لفظ المضارع حرصاً على الاتصال، وصرفاً لوجه الوهم عن ملاحظة الانفصال. فإن قيل: وما في لفظ المضارع مما يؤكد هذا المعنى؟ وليس هو والماضي سواء؟ قلنا: لا سواء لمن استبصر وأمعن في هذا الشأن، ونحر إلى هذه المسألة وكثيراً من المسائل الواردة عليك على أصل التمهر، إلا أن ذلك فليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 يتفوض إن شاء الله تعالى بنا، ولا يدوي لك فرع أختنا (1) . اعلم أن الأفعال مضارعة للحروف، من حيث كانت عوامل في الأسماء مثلها، ومن هنا استحقت البناء، وحق العامل أن لا يكون مهيئاً لدخول عامل آخر عليه، كيلا يفضي الأمر إلى التسلسل المستحيل عقلاً وأصلاً، والفعل الماضي بهذه الصورة وعلى أصله من البناء ومضارعة الحروف العوامل في الأسماء، فليس يذهب الوهم عند النطق، إلا إلى انقطاعه عما قبله إلا بدليل يربطه، وقرينه تضمنه إليه تجمعه. لذلك لا يكون في موضع الحال ألبتة، لا تقول " جاء زيد ضحك "، لتجعل هذا الفعل في موضع الحال من " زيد " إذ لا جامع بينهما. فإن قلت: فقد يكون في موضع الصفة من النكرة، كقولك: " مررت برجل ذهب "؟ قلنا: افتقار النكرة إلى الوصف، وفرط احتياجها إلى التخصيص تكملة لفائدة الخبر هو الربط بين الفعل وبينهما، بخلاف الحال، فإنها تجيء بعد استغناء الكلام وتمامه. وأما كونه خبراً للمبتدأ فلفرط احتياج المبتدأ إلى خبره، جاز ذلك. حتى إنك إذا أدخلت " إن " على المبتدأ بطل أن يكون الماضي في موضع الخبر، إذا كان في خبرها اللام لما في اللام من معنى الابتداء والاستئناف لما بعدها، فاجتمع ذلك مع صيغة المضي وتعاونا على منع الفعل الماضي من أن يكون خبراً لما قبلها، وليس ذلك في المضارع. فهذا أصل يبين لك ما تقدم قبله، ويفيدك أسراراً فيما يرد عليك من هذا الباب بعده. وليس الفعل المضارع كالماضي، لأن مضارعته للاسم هيأته لدخول العوامل عليه، والتصرف بوجوه الإعراب كالاسم، وأخرجته عن شبه العوامل التي لها صدر الكلام، وصيرته كالأسماء المعمول فيها، فوقع موقع الحال والوصف وموقع خبر المبتدأ و (إن) ، ولم يقطعه دخول " اللام " عن أن يكون خبراً في باب (إن) كما فطع الماضي، من حيث كانت صيغة الماضي لها صدر الكلام، كما تقدم.   (1) في هذه الفقرة كلمات غير وأضحة أدى إلى عدم فهم المقصود منها ولعل بها سقطاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 فإن قيل: فما وجه مضارعة الفعل المستقبل والحال؟. قلنا: دخول الزوائد عليه ملحقة بالحروف الأصلية متضمنة لمعاني الأسماء كالمتكلم والمخاطب، فيما تضمن معنى الاسم أعرب، كما بني من الأسماء ما تضمن معنى الحرف. ومع هذا فإن الأصل في دخول حروف الزوائد الأربع، فأشبه الأسماء، وصلح فيه من الوجوه ما لا يصلح في الماضي، وعول في المضارعة على الفصل المتقدم، فهو أظهر وأقطع للبس وأولى بالتحقيق، ودع عنك ما علل به النحويون في مضارعة الفعل للاسم من كلام واهي القواعد عن منهاج التحقيق متباعد، والله الموفق للصواب، والمستعان على سلوك طريق ذوي الألباب. * * * مسألة (في الفعل بعد الجوازم) " لام " الأمر، و " لا " في النهي، وحروف المجازاة: هذه الجوازم كلها داخلة على المستقبل، فحقها أن لا يقع بعدها لفظ الماضي، ثم قد يوجد ذلك لحكمة. أما حرف النهي فلا يكون فيه ذلك كيلا يلتبس بالنفي لعدم الجزم، ولكن إذا كانت " لا " في معنى الدعاء جاز وقوع الفعل بعدها بلفظ الماضي، ثم قد يوجد بعد ذلك لوجوه منها: أنهم أرادوا أن يجمعوا التفاؤل مع الدعاء في لفظ واحد، فجاؤوا بلفظ الفعل الحاصل في معرض الدعاء تفاؤلًا بالإجابة فقالوا: " لا خيبك الله " و " لا رحم الكافر) ، ونحو ذلك. وفائدة أخرى، وهي أن الداعي قد يُضمِّن دعاءه القصد إلى إعلام السامع وإعلام المخاطب بأنه داع، فجاء اللفظ بلفظ الخبر، إشعاراً بما تضمنه من معنى الإخبار، تقول: " أعزك الله وأبقاك " و " أكرم الله زيداً ". و" لا رحم فلاناً "، جمعت بين الدعاء والإخبار بأنك داع. ويوضح ذلك ويبينه أنك لا تقول ذلك في حال مناجاتك مولاك وسؤالك إياه لنفسك أو لغيرك، حيث لا أحد يسمعك أو يراك، لا تقول: (رحمني رب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ولا: " رزقني " كما تقول للمخاطب: " رحمك الله ورزقك،، ونحو ذلك، فقد تبين لك ما تضمنه الدعاء من الخبر في حين الخطاب، ولاح لك خلوه من ذلك المعنى في حال انفرادك برب الأرباب، فقد تدحض اللفظ حين تدحض المعنى، والأمر بمنزلة النهي سواء. فإن قيل: وكيف لم يخافوا اللبس كما خافوه في النهي؟. قلنا: للدعاء هيئة ترفع الالتباس، وذكر الله - تعالى - مع الفعل ليس بمنزلة ذكر الناس، فتأمله فإنه بديع في النظر والقياس، فقد جاءت أشياء بلفظ الخبر وهي في معنى الأمر أو النهي، منها قول عمر - رضي الله عنه -: " جمع رجل عليه ثيابه، صلى رجل في إزار ورداء ". . . الحديث. وقول العرب: " أنجز حر ما وعد " و" حلأت حالئة عن كوعها "، وقول الحارث بن هشام: " اتقى الله امرؤ. . " وهو كثير في الكلام، ولكنه في معناه كله الأمر، ولكنه جاء بلفظ الخبر الحاصل قصداً إِلى معنى ثبوته ووجوبه في الديانة والمروءة، كأنهم يريدون بقولهم: " أنجز حر ما وعد "، أي: ثبت ذلك في المروءة واستقر، وحلأت حالئة، أي: جرى ذلك في العادة واستمر و" جمع رجل عليه ثيابه " حكم فد وجب في الديانة وظهر وما استمر. فالإشارة إلى هذه المعاني صيرنه إلى هذا البناء، وإن كان في معنى الأمر، ألا ترى أنه لا يجيء بعده الاسم إلا نكرة، لعموم هذا الحكم وشيوع النكرة في جنسها على العموم. فلو جعلت مكان النكرة في هذه الأفعال اسماً معرفة تدحض فيها معنى الخبر وزال معنى الأمر فقلت: " اتقي الله زيداً " و" أنجز عمرو ما وعد "، خبراً لا أمراً. ومثله - فيما يزعم بعض (الناس أنه خبر في معنى) الأمر والنهي ما يرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 عليك في القرآن والسنة من نحو قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ) . (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) و" لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " و" لا يكون المؤمن لعاناً " و " لا يجني جان إلا على نفسه " وهو كثير وليس هو في الحقيقة خبراً بمعنى أمر، كما لا يكون أمر بمعنى خبر، ولكنها أخبار عما استقر في الشريعة وثبت في الديانة التي نحن مأمورون بها على الجملة، فمن ههنا صرنا مأمورين بتلك الأفعال، وإن لم تكن على صيغ الأمر والنهي في المقال، والله الموفق للصواب في كل حال. (وأما وقوع الأفعال المستقبلة بلفظ الماضي) بعد حروف المجازاة فلحكمة لطيفة، ليس هي ما ذكروه من أن حروف المجازاة تدل على الاستقبال، واستغنوا عن صيغة المستقبل إيثاراً للخفة، لأن هذه العلة لا تستقل بنفسها، إذ يلزم فيما يختص بالمستقبل ولا يقع بعدها لفظ الماضي نحو: لن، وكي، ولام الأمر. ولكن الحكمة في هذه المسألة أن الفعل بعد حروف المجازاة - وإن كان مستقبلاً - فإنه ماض بالإضافة إلى جوابه، لأن الجواب لا يقع إلا بعده مترتباً عليه، نحو قولك: " إن قام زيد غداً قام عمرو بعده " فصار " قيام زيد غداً " بالإضافة إلى " قيام عمرو " ماضياً. فأتوا بلفظ الماضي تأكيداً للجزاء وتحقيقاً لأن الثانى لا يقع إلا بعد الأول، مع ما أمنوا من اللبس حيث حصنت حروف المجازاة المعنى، وقطعت الإشكال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فإن قيل: هبكم سلم لكم أن الفعل ماض بالإضافة إلى الثاني، فما بال الثاني جاء بلفظ الماضي إذا قلت: " إن قمت قمت معك " و" إن خرج زيد ذهب عمرو؟ ". فالجواب: أنهم قصدوا ازدواج الكلام، وآثروا اعتدال اللفظين حيث كانا معاً كالأخوين ألا تراهم يقولون: " آتيك بالغدايا والعشايا ". وقالوا: حوراء عيناء من العين الحير وقال الله سبحانه: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) . ولولا لفظ الأول ما جاز الثاني في هذا الكلام كله، ألا ترى كيف حسن: " إن تزرني أزرك " وكان قولهم: " إن زرتني أزرك " أحسن من قولهم: " إن تزرني زرتك ". وهو أقبح الوجوه الأربعة، لعدم الازدواج فيه. وقد ذكر " أبو القاسم " قبحه في باب الجزاء، والحمد لله. فإن قيل: إن كان يجوز " إن تزرني أزرك " بلفظ المستقبل في الثاني، فلم (يكن) ينبغي أن يجوز " إن تزرني زرتك " بلفظ الماضي في الثاني والأول مستقبل، إذ لا معنى يصححه، ولا ازدواج يحسنه؟ فالجواب: أنهم أجازوه على قبحه لأن فيه طرفاً من معنى المضي وحصول الفعل، إذا كان واقعا إذ وقع الأول لا محالة وحاصلاً بذلك الشرط، فاستسهلوا أن يجيء بلفظ الفعل الحاصل ولم يمنعوه أصلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 فإن قيل: فإنا نجد حروف المجازاة في كتاب الله العزيز يقع الفعل بعدها تارة بلفظ الماضي، لا يختلف القراء فيه، وتارة بلفظ المستقبل، لا يختلف القراء فيه أيضاً، وكلامه - سبحانه وتعالى - هو الكلام الجزل، وقوله فصل ليس بالهزل، فما الحكمة في اختصاص لفظ الماضي ببعض الآي دون بعض؟. قلنا: كل موضع اعتمد الكلام فيه على الفعل الواقع بعد حروف المجازاة. كان بلفظ المضارع لأن القصد إليه يوجب تأثير العمل فيه وهو الجزم. وإذا كانوا قد قلبوا لفظ الماضي بعد " لم " إلى المضارع ليظهر أثرها وتعرف مزية اختصاصها، فما ظنك به في الموضع الذي لا يقلب فيه عن لفظه، ولا ينقل عن أصله، وذلك نحو قوله عز وجل: (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) وكقوله عز وجل: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) الآية. مع أن الحكمة التي من أجلها غير الفعل إلى الماضي بعد حروف الجزاء معدومة في أكثر هذه المواضع، ألا ترى أن الفعل في قوله: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ) . ليس ماضياً بالإضافة إلى ما بعده، لأن ما بعده واجب في المعنى غير مترتب عليه. وهذا بديع إذا تأملته. وإذا كان الكلام معتمداً على غيره، وكان هو في حكم التبعية له، إذ الشرط تابع للمشروط، كان لفظ الماضي بعد حرف الجزاء أولى به. فمنه قوله عز وجل: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) وقوله تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) ، لأن اللام رابطة لجواب القسم المضمر، فالكلام معتمد على جواب القسم لا على الشرط فحسن الإلغاء، وكان لفظ الماضي أولى به إذ هو مبني لا يظهر فيه الإعراب. وكذلك: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ) و (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ) وهو أصل غير منخرم، وعروة قياس لا تنفصم والحمد لله. ومن أجل ما ذكرناه من وقوع الفعل بعد حرف الجزاء بلفظ الماضي، جاز وقوع " لم " الجازمة بعد " أن " وهما جازمتان، ولا يجتمع جازمان كما لا يجتمع في شيء من الكلام عاملان في معمول واحد من خفض ولا نصب، ولكن لما كان الفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 بعدها ماضياً في المعنى، وكانت متصلة به حتى كان صيغته صيغة الماضي، لقوة الدلالة عليه، بـ " لم " جاز وقوعه بعد " أن " فكان العمل والجزم بحرف " لم " لأنه أقرب إلى الفعل وألصق وكان المعنى في الاستقبال بحرف " أن " لأنها أولى وأسبق. ولم ينكر إلغاء " أن " ههنا إذ ما بعدها في حكم صيغة الماضي، كما لا ينكر إلغاؤها إذا لم يكن بعدها " لم ". وقد أجازوا في " أن " النافية من وقوع المستقبل بعدها بلفظ الماضي ما أجازوه في " أن " التي للشرط، قال الله سبحانه وتعالى: (وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) . ولو جعلت مكان " إن " ههنا غيرها من حروف النفي لم يحسن فيه مثل هذا لأن الشرطية أصل للنافية، كان المجتهد في النفي إذا أراد توكيد الجحد يقول: " إن كان كذا وكذا فعلى كذا أو: فأنا كذا "، وكثر هذا في كلامهم حتى حذف الجواب وفهم المقصد، فدخلت " إن " في باب النفي، والأصل ما قدمناه، والحمد لله. * * * مسألة (في التثنية والجمع الذي على حدِّ التثنية) قد بينا فيما تقدم أن " ألف " التثنية وواو الجمع أصلهما الألف والواو اللتان هما علامتا إضمار، نحو الألف في " فعلا " والواو في " فعلوا ". ولذلك لا تجد " الواو " علامة للرفع في جميع الأسماء إلا في الأسماء المشتقة من الأفعال أو ما هو في حكمها. ولما كانت الألف علامة إضمار في فعل الاثنين ممن يعقل وممن لا يعقل. كانت (علامة) في تثنية الأسماء من العاقلين وغيرهم، وكانت أولى بضمير الاثنين لقرب التثنية من الواحد في " فعلا " فارادوا أن لا يغيروا الفعل عن البناء على الفتح في الاثنين كما كان ذلك في الواحد، لأن " الواو " في الجمع يكون ما قبلها مضموماً فتغير آخر الفعل عما كان عليه. وسر المسألة أنك إذا جمعت وكان القصد إلى تعيين آحاد المجموع، والمخبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 معتمد على كل واحد منهم في الإخبار، سلم لفظ بناء الواحد في الجمع كما سلم معناه في القصد إليه، فقلت: " فعلوا " أو: " هم فاعلون ". وأكثرها يكون هذا فيمن يفعل، لأن (جميع ما لا يعقل من الأجناس يجري مجرى الأسماء المؤنثة المفردة) كالجمة والأمة والثلة، فلذلك تقول في الدراهم والثياب والأحجار ونحوها: جمعت وقبضت ولا تقول: جمعوا ولا قبضوا ولا تقول في الحمير والغنم ونحوهما: ذهبوا. ولا: فعلوا، ولكن: ذهبت وفعلت، لأنك تشير إلى الجملة من غير تعيين لآحادها. هذا هو الغالب فيما لا يعقل (وقد يسلم بناء الواحد فيما لا يعقل) ، كما كان فيمن يعقل، ولذلك جاءت جموع التكسير معتبراً فيها بناء الواحد، وجارية في الإعراب بالحركات مجرى الواحد حيث ضعف اعتمادهم على كل واحد بعينه، وصار الخبر كأنه عن الجنس الكثير الجاري في لفظه مجرى الواحد، ولذلك جمعوا ما قل فيه العدد من المؤنث جمع السلامة، وإن كان مما لا يعقل، كقولهم الثمرات والطلحات، إلا أنهم لم يجمعوا المذكر منه - وإن قل عدده - إلا جمع التكسير. لأنهم في المؤنث لم يزيدوا غير " ألف " فرقا بينه وبين الواحد. وأما " التاء " فقد كانت موجودة في الواحدة أو في وصفها، فإن كثر جمعوه جمع تكسير كالمذكر. وإذا كانوا في الجمع القليل يسلمون لفظ الواحد من أجل إمكان التعيين في آحاده، والاعتماد في إسناد الخبر على أفراده، فما ظنك به في الاثنين إذا ساغ لهم ذلك في الجمع الذي على حدها، لقربه منها. فمن ثم لا تجد التثنية أبداً فيما يعقل وفيما لا يعقل إلا على حد واحد. وكذلك ضمير الاثنين في الفعل المسند إلى العاقلين وغيرهم فإذا ثبت ما قلناه فحق للعلامة في تثنية الأسماء أن تكون على (حدها في) علامة الإضمار، وأن تزاد ألفاً في الرفع والنصب والخفض، لأنها تثنية في جميع أحوالها. وكذلك فعلت طوائف من العرب، وهم: خثعم وطيء وبنو الحارث بن كعب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وأما الأكثر منهم فإنهم كرهوا أن يجعلوه كالاسم المبني أو المقصور من حيث كان الإعراب قد ثبت في الواحد والتثنية طارئة على الإفراد، وكرهوا أيضاً زوال الألف، لاستحقاف التثنية لها فتمسكوا بالأمرين، فجعلوا الياء التي هي من الكسرة علامة الخفض، وأبقوا من الألف بعضها وهي الفتحة، وشركوا النصب مع الخفض للعلل التي ذكرها النحويون، فما أجد الرفع بالألف إذا لا سيما وهي في الأصل علامة إضمار الفاعل، وهي في تثنية الأسماء علامة رفع الفاعل أو ما ضارع الفاعل. فقد لاحت لك الحكمة في اختصاص التثنية بالألف في الإضمار وتثنية الأسماء. وقد تقدم في باب المعرفة وجه الحكمة في اختصاص " الواو " بجمع ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 يعقل علامة وإضماراً، وأشرنا إلى أنها جامعة حساً وعقلًا، حيث كانت هي الضمة في الحقيقة ومخرجها في النطق من الشفتين، واطراد هذا المعنى فيها في جميع أبوابها. ولا معنى للحديث المعاد، إلا أنهم في موضع الخفض والنصب في علامة الجمع حولوها إلى الياء، للعلة التي ذكرناها في التثنية، ومتى انقلبت الواو إلى الياء، والياء إلى الواو فكأنها هي، إذ لم يفارقها المد واللين، وكأنهما صف واحد، والانقلاب فيها تغيير حال لا تبديل بحال. ولذلك تجد النحويين يعبرون عن هذا المعنى بالقلب لا بالإبدال، ويقولون في التاء من تراث وتخمة: بدل من واو، وفي الطاء من مصطفى كذلك. وفي الميم من " فم " وفي الألف المبدلة من التنوين في الوقف، يسمون هذا كله بدلاً ولا يسمونه قلباً، فاصغ لهذا الباب وفرغ له قلباً. فإن قيل لك: إذا كانت طوائف من العرب فد جعك التثنية في جميع أحوالها بالألف للعلة التي ذكرتم، فلم لم يطردوا على الجمع بالواو، فيكون في جميع أحواله على تلك اللغة؟. فالجواب: أن الألف منفردة في الكثير من أحكامها عن الواو والياء. كانفرادها في الردف واختصاصها بالتأسيس وغير ذلك. والياء والواو أختان في باب الإقواء والردف وأشياء كثيرة، فكأنهم إذا قلبوها ياء في النصب لم يبعدوا عن الواو، بخلاف الألف فإنهم إذا قلبوها ياء بعدوا عنها، والله أعلم. فإن قيل: فما بال " سنين " و " مئين " وبابهما جمع على حدة التثنية، وليس من صفات العاقلين ولا أسمائهم الأعلام؟ فالجواب: أن هذا الجمع لا يوجد إلا فيما اكتملت فيه أربعة شروط: أحدها: أن يكون معتل اللام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الثاني: أن لا يكون المحذوف منه غير حرف مد ولين. الثالث: أن يكون مؤنثاً. الرابع أن لا يكون له مذكر. فخرج من هذا الباب: شفةا، وشاة، وعضة، لأن المحذوف منهن هاء وليست حرف مد ولين. وخرج من هذا الباب: أمة لأن لها مذكراً - وإن لم يكن على لفظها - فقالوا في جمعها: إِموان، ولم يجمعوها جمع سنين، كيلا يُظَن أن جمع المذكر إِذ كان له جمع مذكر في معناه. وجمع سائر الباب جمع السلامة من أجل أنه مؤنث. والمؤنث كله يجمع جمع السلامة (وإن لم يكن على هذا اللفظ، فلما حصل فيه جمع السلامة) بالقياس الصحيح - وكانت عادتهم رد اللام المحذوفة من الجموع وكانت اللام المحذوفة واواً أو ياء - أظهر في الجمع السالم ياء أو واواً ولم يكن في الواحد، وساق القياس إليها سوقاً لطيفاً حتى حصلت بعد زوالها، فأشبهت حال هذا الجمع (حال الجمع) المسلم في العاقلين، من حيث كان جمعا، وكان مسلما، وإن لم تكن واو الجمع هي لام الفعل، ولكنها واو لم تكن في الواحد، فلم يبق إلا النون، وقد لا يكون في الجمع نون إذا أضيف فصار كأنه هو، فألحقوه النون إذا لم يضيفوا، وأجروه مجراه في وجوه الإعراب. وأما كسر السين (من سنين) فلئلا يلتبس بما هو على وزن " فعول " في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الواحد نحو " نوور " و " سنون " - الذي يستن - فكان كسر السين تحقيقاً للجمع، إذ ليس في الكلام (اسم) على وزن فعول ولا فعيل. فإن قيل: فما بال الأرضين؟ قلنا - والله المستعان -: ليس " الأرض " في الأصل كالأسماء الأجناس مثل " صخر " و " كلب "، ولكنها لفظة جارية مجرى المصدر، فهي بمنزلة السفل والتحت، وبمنزلة ما هو في مقابلتها كالفوق والعلو، ولكنها وصف بها هذه الأرض المحسوسة. فجرت مجرى قولهم: (امرأة ضيف وزورا، يدلك على ذلك قول الراجز: ولم يقلب أرضها البيطار يعني قوائم الفرس، فأفرد اللفظ - وإن كان يريد ما هو جمع في المعنى، فإذا كانت بهذه المنزلة فلا معنى لجمعها كما لا يجمع الفوق والتحت، والعلو والسفل، فإن قصد المخبر إلى جزء من هذه الأرض الموطوءة وعين قطعة محدودة منها، خرجت عن معنى السفل الذي هو في مقابلة العلو، حيث عَيَّن جزءاً محسوسا منها، فجاز على هذا أن يثنى إذا ضممت إليه جزءاً آخر فتقول: رأيت أرضين، أو: هما أرضان، ولا يقال للواحدة: أرضة، بتاء التأنيث كما تقول في القطعة من الجنس نحو " تمرة "، و " برة " من " تمر " و" بر "، لأن الأرض ليس باسم جنس كما تقدم. ولا يقال أيضا " أرضة " من حيث قلت " ضربة " و " شتمة "، لأنها في الأصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 تجري (مجرى) السفل والتحت، ولا يتصور في العقول أن يقال " تحتة " ولا " سفلة "، كما تصور ذلك في بعض المصادر، لما يأتي بيانه إِن شاء الله تعالى. فلما لم يمكنهم أن يجمعوا أرضاً على أرضات، من حيث رفضوا " أرضة ". ولا أمكنهم أن يقولوا: " آرض " ولا: " آراض "، من حيث لم يكن مثل صخر وكلب، وكانوا قد عينوا جزءاً محدوداً فقالوا فيه: أرض، وفي تثنيته: أرضان، وأرضين - إِذا لم ينكروا إذا أضافوا إلى الجزأين مثل عددهما أو قريباً منه أن يجمعوه على حد التثنية، فقد تقدم السر (في الجمع) الذي على حد التثنية، وأنه مقصود إِلى آحاده، على التعيين كالتثنية، فإن أرادوا الكثرة والجمع الذي لا يتعين آحاده كأسماء الأجناس، لم يحتاجوا إليه ههنا، فإن لفظ " أرض " تأتي على ذلك كله، لأنها كلها بالإضافة إِلى " السماء " تحت وسفل، فعبر عنها بهذا اللفظ الجاري مجرى المصدر لفظاً ومعنى، وكأنه وصف لذاتها لا عبارة عن عينها وحقيقتها، إذ يصلح أن يعبر به عن كل ما له فوق وهو بالإضافة إلى ما يقابله سفل، كما تقدم في قوائم الفرس، فسماء كل شيء أعلاه، وأرضه أسفله، ألا ترى كيف وردت مجموعة في نحو قوله عليه الصلاة والسلام: " طوقه يوم القيامة من سبع أرضين ". لما اعتمد الكلام على ذوات الأرضين وأنفسها على التفصيل والتعيين لآحادها والتعيين لذواتها دون الوصف لها بذم أو سفل في مقابلة علو، فتأمله. فإن قيل: فقد كان ينبغي على هذا أن لا يجمع ما هو في مقابلتها ويجري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 مجرى المصدر الموصوف به، أعني السماء، وقد وردت في كتاب الله مجموعة بخلاف (الأرض) فما الفرق بينهما؟. قلنا: فرقان، فرق من جهة اللفظ وفرق من جهة المعنى، فأما " الأرض " فعلى وزن ألفاظ المصادر الثلاثية الذي وجب لها في الأصل، وهو ما كان على وزن فعل الآن مصدر الثلاثي، وإن اختلفت أبنيته فالواحدة في جميعه " فعلة " قياساً لا ينخرم. فهذا يدلك على أنه الأصل في أبنية المصادر الثلاثية وأما " السماء " وإن كان مثالها في المصادر كالعلاء والجلاء (فهي بأبنية الأسماء أشبه) وإنما الذي يماثل الأرض في معناها ووزنها (التحت، والسفل) وهي لا تثنى ولا تجمع، وفي مقابلتهما الفوق، و " العلو "، وهما كذلك لا يجمعان أبداً، على أنا لا نسلم أن السماوات جمع لسماء وإنما هي جمع لسماوة، وسماوة كل شيء أعلاه، وأما جمع سماء على لفظها فأسمية في التكسير، وسماوات في المسلم. وأما الفرق من جهة المعنى فإن الكلام متى اعتمد به على السماء المحسوسة التي هي السقف، وقصد به إلى ذائها دون معنى الوصف، صح جمعها جمع السلامة، لأن العدد قليل، وجمع السلامة بالقليل أولى، لا تقدم قبلُ من قربه من التثنية، فوجب أن يكون على حدها، فإذا اجتمع الكلام على الوصف استزاد معنى العلا والرفعة، وإن كان الخبر عن السماوات العلى، فجرى اللفظ مجرى المصدر الموصوف به في قولك: " قوم عدل وزور ". وأما الأرض فلم تجئ في القرآن مقصوداً إلى ذاتها، ولا معبراً عنها إلا بما هو بمعنى السفل (والتحت) ، تنبيهاً من الله تعالى على ذمها، وإعراضاً عن ذكرها، وترك الاعتناء بها إذ كانت دار الحياة الدنيا، تصديقاً لما ورد في الأثر من أن الله تعالى لم ينظر إلى الدنيا منذ خلقها، وأنه يقول لها: (اسكتي يا لا شيء) . وشبهها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجيفة، بل قال " إنها أهون على الله من الجيفة ". فلم يكن - جل ثناؤه - ليعتمد ذاتها بالذكر، ولا ليعبر عنها بغير وصف الذم، بخلاف السماء المشوقة الرفيعة المقدسة المطهرة، التي هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 مقر ملائكته، ومحل أنوار (جلاله) وعظمته، فإذا اعتمد ذكر ذاتها مع ما فوفها من جمع، وإذا اعتمد الوصف الشامل لسماواته - وهو معنى العلاء والعلو - أفرد. وذلك في حسب ما يتصل به من كلام، ويقتضيه في بعض الآيات دون بعض إعجاز الانتظام، كقوله سبحانه: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) وكقوله: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) ، (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ) . فإن اعتماد الكلام في هذه الأي يخالف اعتماده ومقصده في نحو قوله سبحانه: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) و (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، (خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) . قصد في هذه إلى تعيين ذواتها وتفصيل آحادها بخلاف ما تقدم. فإن قيل: فلم قال في سورة سبا: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، وفي سورة يونس: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) وهل في النظم المعجز ما يقتضي فرقاً بين الموضعين. قلنا: نعم، قد يرد لفظ السماء عبارة عن كل ما علا من السماوات فما فوقها إلى العرش وغير ذلك من المعاني العلوية المختصة بالربوبية، فيكون اللفظة بصيغة الإفراد كالوصف المعبر به عن الموصوف، كما تقدم في الوصف قبل هذا. وقد يكون السماء عبارة عن السماء الدنيا عرفا، ويكون عبارة عن السحاب الذي ينزل منه الماء، وكان المخاطبون بهذه الآية - أعني التي في يونس - مقرين بنزول الرزق من هذه السماء - أعني الرزق المحسوس كالغيث ونحوه وقد قال في آخر الآية: (فسيقولون الله) فلما انتظم هذا الكلام بما قبله لم يصلح في النظم إلا ذكر السماء مفردة، لأنهم لا يقرون بما ينزل من فوق ذلك من الرزق المعقول والرحمة بالعباد كالوحي الذي به حياة الأرواح والأجساد، بل ينكرون ذلك، فوردت السماء فيها بلفظ الإفراد، بخلاف الآية الأخرى، فإنه لم ينتظم بها ذكر إقرارهم بما ينزل من الرزق، ولكنه قال تعالى: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 فأمر نبيه بهذا القول الذي هو تصديق لنزول الرزق، والخبر هو الحكمة والعلم - وهو أفضل الرزق - من فوق سبع سماوات، وأما الرزق من الأرض فيصلح ذكره في الاثنين جميعاً، إذ لا ينكر رزق الأرض وما ينزل من الغيث من هذه السماء بر ولا فاجر، بل يعترف به المؤمن والكافر. فتأمل ما ذكرته من هذه النكث فإنها أنف لم أزاحم عليها ولا وجدتها لأحد تقدمني إليها، والله الموفق لشكر يقتضي الزيد من فضله، وهو حسبنا ونعم الوكيل. * * * فصل (ما لا يجمع جمع السلامة) ومن الصفات المشتقة من الأفعال ما لا يجمع جمع السلامة في مستعمل الكلام، وهو ما كان على وزن " فعلاً مضاعفاً، نحو: رجل بر، وثط، وفظ، وما أشبهه، كأنهم كرهوا التباسه بفعول فكسروه. وأما ما ليس بمضاعف فقد تقول فيه: " فعلون "، مثل: صعب وصعبين ولم يخافوا في هذا البناء التباساً كما في ما قبله، إذ ليس في الكلام فعلول، ومن ثم قالوا في مؤنثه: صعبات وخولات - بتسكين العين - حملاً على مذكره، ولو كان اسماً غير وصف لفتحوا العين كما فتحوها في جفنات وبابه تأكيدا لمنع الجمع، وكيلا يتوهم - لخفاء الألف - أنك أردت " جفنة "، فقد يوقف على هذه التاء بالهاء، وكانت الفتحة أولى حين أرادوا التحريك لوجودها في المكسر نحو " جفان ". فإن قيل: فما بال " فعيل " إذا كان وصفاً مشتقاً، لا يكاد يوجد مجموعاً جمع السلامة نحو: رحيم وعليم؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 قلنا: جمع السلامة فيه جائز، ولكنه فيه مستثقل لتوالي الكسرات مع الياء إذا قلت: رحيمين، والخروج من الكسر إلى الضم إذا قلت: رحيمون، فعدلوا عنه إلى فعلاء، وأما " شعراء " فليس بجمع " شاعر "، على القياس، ولكنه جمع " فعيل " من شعر يشعر فليس ما هو (في) وزن فاعل جارياً على فعل، ولا يوجد ذلك، ولكنهم لما رفضوا أن يقولوا في اسم الفاعل من شعر: شعير، عدلوا عنه إلى " فاعل "، الذي فيه معنى النسب نحو: رامح، وتامر، ولابن. واستغنوا به، فلما جمعوه ردوه إلى الأصل الذي كان يقتضيه القياس، وكأنهم إنما كرهوا موافقة اللفظ للفظ الشعير، الذي هو أخو الحنطة، فاستغنوا عنه بفاعل الذي معناه ذو الشعر، كما أن رامحاً معناه: ذو رمح، وليس هو من " رمح "، وتامر ولابن كذلك، ولم يحتاجوا في الجمع إلى عدول عن القياس، لعدم الاشتباه والالتباس، فافهم. * * * مسألة (من باب الفاعل والمفعول به) قوله: " لأن الفعل إذا تقدم الأسماء وحد، وإذا تأخر ثني وجمع، للضمير الذي يكون فيه ". ولعلة أصح من هذه، قد تقدمت في صدر هذا الكتاب. فإن كان في الفعل ضميره لحقته في التثنية علامة الإضمار وهي الألف، وفي الجمع " الواو ". والفعل في كل حال مفرد، لأنك لم ترد أن تضم فعلاً إلى فعل، ولا يفعل " إلى " يفعل " آخر. فإن قيل: لم ظهرت علامة الإضمار في التثنية والجمع ولم تظهر في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الواحد؟ قلنا: الفعل يدل على فاعل مطلق، ولا يدل على تثنيته ولا على جمعه. لأن التثنية والجمع معنى يطرأ على الإفراد، والإفراد هو الأصل، ففعل الواحد مستغن عن ظهور علامة الإضمار بعلم السامع أن له فاعلًا، وليس كذلك في الثثنية والجمع، لأن السامع لا يعلم أن الفاعل مثنى ولا مجموع إلا بدليل. فإن قيل: فضمير الفاعل المستتر في الفعل كيف يصح استتاره فيه، والفعل كلمة مؤتلفة من حروف، والحروف أعراض في اللسان أجزاء من الصوت، لا يستتر فيها شيء ولا يظهر إذ ليست بجسم؟. فالجواب: أن أكثر ألفاظ النحويين محمولة على التجاوز والتسامح، لا على الحقيقة، لأن مقصدهم التقريب على المبتدئين والتعليم للناشئين. وتحقيق القول أن الفاعل مضمر في نفس المتكلم، ولفظ الفعل متضمن له دال عليه، واستغني عن إظهاره لتقدم ذكره، وعبرنا عنه بمضمر - ولم نعبر عنه بمحذوف، كما قلنا في المضمر المفعول العائد على الاسم الموصول - لأن المضمر هنا قد لفظ به في النطق، ثم حذف تخفيفاً، نحو قولنا: " الذي رأيته، والذي رأيت ". ويجوز حذفه في التثنية والجمع، فلما كان ملفوظاً به ثم قطع من اللفظ تخفيفاً، عبر عنه بالحذف، وليس كذلك ضمير المرفوع، لأنه لم ينطق به ثم حذف. ولكنه مضمر في النية مخفي في الخلد، والإضمار هو الإخفاء، والحذف هو القطع من الشيء، فهذا فرق ما بينهما، وهو واضح لا خفاء به، ولا غبار عليه. * * * مسألة (من إلحاق علامة التأنيث بالفعل) قد تلحق العلامة الفعل للتثنية والجمع قبل ذكر الفاعلين، فليست حينئذ بضمير، إذ لم يتقدم مذكور يعود، ولكنها حروف لحقت علامة للتثنية والجمع، حرصاً على البيان وتوكيداً للمعنى، إذ كانوا يسمون بالجمع والتثنية نحو: فلسطين، وقنسرين، وكذلك: سلمان، وحمدان، يشبه لفظه لفظ التثنية في الرفع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 فهذا ونحوه مما دعاهم إلى تقديم العلامة في نحو قولهم: " أكلوني البراغيث ". وقد ورد في الصحيح نحو قوله عليه الصلاة والسلام: " يتعاقبون فيكم ملائكة. . . ". وكما أن هذه العلامة ليست للفعل إنما هي للفاعلين، فكذلك التاء في: ظفرت يداك، وقامت هند، ليست للفعل، إذ الفعل عبارة عن الحدث، وهو اسم مذكر لا تلحقه علامة التأنيث إلا في التحديد، نحو: ضربة وقتلة. وقد تقدم أن الفعل لم يشتق من المصدر محدوداً وإنما يدل عليه مطلقاً. فثبت بهذا أن التاء حرف بمنزلة العلامة التي تقدم ذكرها، إلا أنها ألزم للفعل منها، إذ كل العرب تقول: قامت هند، ولا تكاد تقول: قاموا أخوتك، إلا قليل منهم. وقد ذكر النحويون فروقاً في ذلك وعللاً غنينا عن ذكرها، إذ كانت في كتبهم مسطورة. ولكنا نشير إلى فصول أغفلوها من أحكام تاء التأنيث. زعموا أن الاسم المؤنث إذا كان تأنيثه حقيقياً، فلا بد من لحوق " تاء " التأنيث في الفعل، وإن كان تأنيثه مجازياً كنت مخيراً في إثبات الئاء وتركها. وزعموا أن " التاء " في (قَالَتِ الْأَعْرَابُ) لتأنيث الجماعة، وتأنيث الجماعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 غيرحقيقي. وقد كان على هذا لحوق التاء في قوله تعالى: (وَقَالَ نِسْوَةٌ) أولى. إذ كان تأنيث النسوة حقيقة. واتفقوا أن الفعل إِذا تأخر عن فاعله المؤنث، فلا بد من إثبات تاء التأنيث، وإن لم يكن تأنيثه حقيقة، ولم يذكروا فرقا بين تقدم الفعل وتأخره. وفي هذا كله وهن لأصولهم، ودليل على قلة تحصيلهم. ومما يسألون عنه أن يقال: إِذا لحقت " التاء " لتأنيث الجماعة، فلم لا يجوز في الجمع (المسلم) ، فيحسن: " قالت الكافرون " و " قالت الظالمون "، كما حسن: (قالت الأعراب) و " ذهبت الأحقاد "، ونحوه؟. ومما يسألون عنه أن يقال: إذا كان لفظ الجماعة مؤنثاً، فلفظ الجمع مذكر. فلم روعي لفظ التأنيث، ولم يراع لفظ التذكير؟. فإن قالوا: أنت مخير، إن راعيت لفظ الجمع ذكرت، وإن راعيت لفظ الجماعة أنثت. قلنا: هذا باطل، فإن أحداً من العرب لا يقول: الهندات ذهب، ولا: الجمال انطلق، ولا: الأعراب تكلم، مراعاة للفظ الجمع، فدل على أن الأمو بخلاف ما ذكروه، والله أعلم. والأصل في هذا الباب أن الفعل مئى انصل بفاعله، ولم يحجز بينهما حاجز. لحقت التاء علامة للتأنيث، ولا يبالى إذا كان تأنيث الفاعل حقيقة أم مجازاً. تقول: طالت النخلة، كما تقول: جاءت المرأة، اللهم إلا أن يكون الاسم المؤنث في معنى اسم آخر مذكر، كالحوادث والحدثان، والأرض مع المكان، فقد جاء: فإن الحوادث أودى بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ولا أرض أبقل أبقالها حمل الحوادث على الحدثان، وحمل الأرض على الموضع والمكان، مع أنه شعر، والشعر موضع ضرورة. فإذا فصلت الفعل عن فاعله، فكلما بعد عنه قوي حذف العلامة منه، قالوا: حضر القاضي اليوم امرأة. وفي القرآن: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) . هذا مثل هذا في الجواز. كما أنه إذا تأخر الفعل عن الفاعل وجب ثبوت التاء فيهما جميعاً، تقول: المرأة حضرت، كما تقول: الصيحة أخذتهم، والنخلة طالت. وما أشبه ذلك لأن الفعل إذا تأخر كان (فاعله) مضمراً فيه متصلًا به اتصال الجزء بالكل، فلم يكن بد من ثبوت التاء لفرط الاتصال. وإذاً تقدم الفعل متصلاً بفاعله الظاهر، فليس مؤخر الاتصال كهو مع المضمر لأن الفاعل الظاهر كلمة والفعل كلمة أخرى، والفاعل المضمر والفعل كلمة واحدة فكان حذف " التاء " في قامت هند، وطالت النخلة، أقرب إلى الجواز منه في قولك: النخلة طالت. فإن حجز بين الفعل وفاعله حاجز، كان حذف " التاء " حسناً، وكلما كثرت الحواجز كان حذفها أحسن. فإن كان الفاعل جمعاً مكسراً أدخلت التاء لتأنيث الجماعة، وحذفت لتذكير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 اللفظ، لأنه بمنزلة الواحد في أن إعرابه كإعرابه، ومجراه في كثير من الكلام مجرى اسم الجنس. فإن كان الجمع مسلماً فلا بد من التذكير لسلامة لفظ الواحد، فلا تقول: قالت الكافرون، لأن اللفظ بحاله لم يتغير بطروء الجمع عليه. فإن قلت: فلم لا تقول: " الأعراب قال ":، و " الجمال ذهب ". كما يجوز ذلك في حال تقديم الفعل؟. قلنا: ثبوت " التاء " إنما كان مراعاة لمعنى الجماعة، فإن أردت ذلك المعنى أثبت " التاء " وإن تأخر الفعل لم يجز حذفه لاتصال الضمير، وإن (لم) ترد معنى الجماعة حذفت " التاء " إذا تقدم الفعل، ولم يحتج إليها إذا تأخر لأن ضمير الفاعلين جماعة في المعنى وليس بجمع، لأن الجمع مصدر: " جمعت أجمع " فمن قال: إن التذكير في " ذهب الرجال " و " قام الهندات " مراعاة لمعنى الجمع، فقد أخطأ. وأما حذف التاء من (قال نسوة) فلأنه اسم جمع بمنزلة رهط ونفر، ولولا أن فيه هاء التأنيث لقبحت " التاء " في فعله. ولكنه قد بجوز أن يقال: " قالت نسوة " كما تقول: " قال فتية وصبية ". فإن قلت: " النسوة " - بالألف واللام - كان دخول " التاء " في الفعل أحسن من تركها، كما كان ذلك في (قالت الأعراب) ، لأن الألف واللام للعهد، فكان الاسم قد تقدم ذكره، فأشبهت حال الفعل حاله إذا كان فيه ضمير يعود إلى مذكور، من أجل الألف واللام، فإنها ترد على معهود. فإن قيل: فإذا استوى ذكر " التاء " وتركها في الفعل المفعول عن الفاعل المؤنث، فما الحكمة لاختصاصها في الفعل في قصة شعيب، وحذفها في قصة صالح في قوله: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) ؟. فالجواب: أن الصيحة في قصة صالح في معنى العذاب والخزي، إذ كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 منتظمة بقوله سبحانه وتعالى: (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) . فصارت الصيحة عبارة عن ذلك الخزي وعن العذاب المذكور في الآية، فقوي التذكير، بخلاف الآية الأخرى، والله أعلم. فإن قيل: فلم قلتم: إن التاء حرف ولم تجعلوها علامة إضمار إذا تأخرت. وعلامة تأنيث إذا تقدمت؟. قلنا: قول العرب: الهندان قامتا وفعلتا، وبالتاء والضمير معاً، يدل على أن التاء حرف وليست بضمير، إذ لا يكون للفعل ضميران فاعلان، وهذا بين لا خفاء به وبالله التوفيق. فإن قيل: فما الفرق بين قوله عز وحل: (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) . (وبين قوله) : (وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) حتى ثبتت التاء في إحداهما، وحذفت في الأخرى؟. قلنا: لو كان هذا السؤال في غير القرآن ما احتاج إلى جواب، لأن الإثبات والحذف جائزان، فللمتكلم أن يفعل من ذلك ما شاء، ولكن كلام (الحكيم) الخبير ليس كغيره من الكلام، لإعجازه في الأسلوب والانتظام. والفرق بين الموضعين المتقدمين لائح من وجهين: أحدهما لفظي والآخر معنوي. أما اللفظي فهو أن الحروف الحواجز بين الفعل والفاعل في قوله: (حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) أكثر منها في قوله: (حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) . وقد تقدم أن الحواجز بين الفعل والفاعل) كلما كثرت كان حدف " التاء " أحسن - وأما الفرق من جهة المعنى فإن (مَنْ) في سورة النحل واقعة على الأمة، وهي مؤنثة لفظاً، ألا تراه يقول سبحانه: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا) ثم قال تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) . أي: من الأمم أمم ضلت أو حقت عليها الضلالة (ولو قال بدل ذلك: ضلت، لتعينت التاء، ومعنى الكلامين واحد، وإذا كان معنى الكلامين واحداً كان إثبات التاء أحسن من تركها، لأنها ثابتة فيما هو في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 معنى الكلام. وليس كذلك قوله تعالى: (وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) ، لأن معناه: وفريقاً ضلوا، بغير تاء في اللفظ، فليحسن حذفها إذاً فيما هو في معناه، فكثيراً ما تفعل العرب ذلك، تدع حكم اللفظ الواجب له في القياس، إذا كان في معنى الكلمة ما ليس له ذلك الحكم، ألا تراهم يقولون: " هو أحسن الفتيان وأجمله في معنى: هو أحسن فتى وأجمله، ونظائره كثيرة. فإذا حسن الحمل على المعنى فيما كان القياس أن لا يجوز، فما ظنك به حيث يجوزه القياس والاستعمال. وأحسن من هذه العبارة أن تقول: إنهم أرادوا " أحسن شيء وأجمله "، بجعل " شيء " مكان " فتى " في اللفظ، لأن في الصحيح قوله عليه السلام: " خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه (على زوج) في ذات يده ". فلو كان التقدير هناك: " أحسن فتى " حين ذكر الفتيان، لقلنا هنا: " أحناها على ولد " إذا ذكر النسوان. ولكن التقدير كما قدرناه لا كما قدروه، والله المستعان. * * * مسألة (من تقديم الفاعل) قوله: " واعلم أن الوجه تقديم الفاعل ". قسم النحويون هذا الفصل أربعة أقسام: قسم لا يجوز فيه إلا تقديم الفاعل على المفعول، نحو: ضرب موسى عيسى، وضربت حذام قطام، وكل موضع لا يظهر فيه علامة إعراب. وقسم لا يجوز فيه تأخير المفعول، نحو: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ) ، من أجل الضمير الذي لا يجوز تقديمه قبل الذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وقسم يكون فيه تقديم الفاعل أحسن من تأخيره، نحو: ضرب زيد عمراً. وقسم يكون فيه تقديم المفعول أحسن. نحو: أعجب زيداً ما كره عمرو، لأن الفاعل لا يظهر فيه الإعراب، فكان تقديم المفعول الذي يظهر فيه الإعراب أولى. حرصاً على إفهام المخاطب. والذي ذكروه حق، ولكننا ننبه على مسألتين: إحداهما: لا يجوز فيها تأخير الفاعل وهو معرب والمفعول كذلك. ومسألة يقدم فيها الفاعل على المفعول، فإن أخر انعكس المعنى، واختلف المقصد والمغزى. أما المسألة الأولى فقولك: " ضرب القوم بعضهم بعضاً، لا يجوز تأخير الفاعل ههنا من أجل حذف الضمير من المفعول، إذ كان الأصل أن يقال: ضرب بعضهم بعضهم، إذ حق البعض أن يضاف إلى الكل ظاهراً أو مضمراً، فلما حذفوه من المفعول استغناء بذكره في الفاعل، لم يجيزوا تأخير الفاعل فيقولوا: ضرب بعضاً بعضهم، لأن اهتمامهم بالفاعل قد قوي وتضاعف لاتصاله بالضمير الذي لا بد منه، فبعد أن كانت الحاجة إلى الفاعل مرة، صارت الحاجة إليه مرتين. فإن قيل: فما المانع له من إضافة " بعض " إلى الضمير إذا كان مفعولاً دون الفاعل، فتقول: (ضرب بعضهم بعضاً) . قلنا: الأصل أن يذكر الضمير فيهما جميعا، فلما أرادوا حذفه من أحدهما تخفيفاً، كان حذفه مع المفعول - الذي هو كالفضلة في الكلام - أولى من حذفه مع الفاعل الذي لا بد منه ولا غنى عنه، وليتصل بما يعود إليه ويقرب منه. نعم قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 يضاف إليه " بعض " وهو مفعول، إذ كان البعض الآخر مجروراً، كقولك: خلطت القوم بعضهم ببعض، لأن رتبة المفعول ههنا التقديم (على المجرور، كما كانت رتبة الفاعل التقديم) على المفعول، فحق الضمير العائد على الكل أن يتصل بما هو بتقديمه أهم. وأما المسألة الأخرى، التي يختلف فيها المعنى، فمثل أن يكون قبل الفعل " إنما " نقول: إنما يأكل زيد الخبز، فحققت ما يتصل ومحقت ما ينفصل. وهذه عبارة أهل سمرقند في " إنما " يقولون: إنها وضعت لتحقيق (المتصل وتمحيق المنفصل، وتلخيص) هذا الكلام أنها نفي وإثبات، فأثبت لزيد أكل الخبز المتصل به في الذكر، ونفيت ما عداه، فمعناه: ما يأكل زيد إلا الخبز. فإن قدمت المفحول ههنا فقلت: إنما يأكل الخبز زيد، اختلف المعنى. وانعكس مقصد الكلام، فكأنك قلت: ما يأكل الخبز إلا زيد. فهذه المسألة تخالف الأربعة الأقسام التي ذكرها النحويون، لأن المعنى في جميع تلك الأقسام قدمت أو أخرت واحد والمعنى في هذه المسألة مختلف، ألا ترى أن معنى قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) ليس كقولك: إنما يخشى العلماء الله، لأنك إذا أخرت نفيت الخشية من غير العلماء، وإذا قدمت الفاعل نفيت الخشية أن تتعلق بغير الله سبحانه وتعالى. وهذا واضح لا خفاء به عند التأمل. والله الموفق. ومما يوضح لك ما ذكروا من النفي والإثبات في " إنما " قول همام: أدافع عن أعراض قومي وإنما ... يدافع عن أعراضهم أنا أو مثلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 فجعل الضمير المنفصل وهو أنا فاعلاً، وهو متصل في اللفظ بالفعل، وما ذاك إلا أن بينه وبين الفعل حاجزاً في المعنى، وهو " إلا " فكأنه قال: ما يدافع عن أعراضهم إلا أنا أو مثلي. فقد وضح لك النفي والإثبات المذكوران في " إنما ". * * * مسألة (في الأسماء النواقص) اعلم أن العرب لما جعلت الاسم الذي هو الذي ذو وصلة إلى وصف النكرات بالأجناس فقالوا: هذا رجل ذو مال، حيث لم يمكنهم أن يشتقوا من " المال " ونحوه اسماً بكون وصفاً للرجل جارياً عليه، كما أمكنهم ذلك في الفعل، حيث اشتقوا منه أسماء يصفون بها ويضمرون فيها ما يعود على الموصوف. فلما لم يمكنهم ذلك في الاسم الجامد توصلوا إلى الوصف به بكلمة جارية على الاسم الذي قبلها في الإعراب، ليكون جريها عليه في الإعراب رابطاً لها به، وإضافتها إلى الاسم الذي بعدها رابطاً بينها وبينه، حيث لم يكن رابط سوى ما ذكرناه من ضمير ولا غيره. وإذا أرادوا وصف النكرة بجملة، كان الضمير الذي فيها رابطاً لها بالاسم الموصوف بها، كقولك: مررت برجل أبوه قائم، فلم يحتاجوا إلى أكثر من الضمير العائد، فإذاً أرادوا وصف المعرفة بجملة لم يمكنهم من ذلك ما أمكنهم في النكرة لوجهين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 أحدهما: أن النكرة مفتقرة إلى الوصف والتبيين، فعلم أن الجملة بعدها تبيين لها، وتكملة لفائدتها. الوجه الثاني: أن الجملة تتنزل منزلة النكرة لأنها خبر، ولا يخبر المخاطب إلا بما يجهله لا بما يعرفه، فصلح أن يوصف بها النكرة، والمعرفة بخلاف هذا كله. لو قلت: جاءني زيد أبوه قائم، على جهة الوصف، لما ارتبط الكلام بعضه ببعض، لاستقلال كل واحد منهما بنفسه، فجاؤوا بالوصلة التي وصلوا بها إلى وصف النكرة بالأجناس، وهي قولك: ذو، فقالوا: هذا زيد ذو قام أبوه، وذو وجه حسن. هذه لغة طىء، وهي الأصل. قال الشاعر: وبئري ذو حفرت وذو طويت ثم إن العرب لما رأوه اسماً وصف به المعرفة، أرادوا تعريفه ليتفق الوصف والموصوف في التعريف، فأدخلوا الألف واللام عليه. ثم ضعفوا اللام كيلا يذهب لفظها بالإدغام، ويذهب ألف الوصل في الدرج فلا يظهر التعريف فجاء منه هذا اللفظ: الذو. فلما رأوا الاسم قد اتفصل عن الإضافة حيث صار معرفة، فقلبوا " الواو " منه ياء، إذ ليس في كلامهم " واو " متطرفة مضموم ما قبلها إلا وتنقلب " ياء "، كقولهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 دلو وأدل. ولا نطول بتكثير النظائر، لأن الأصل معروف عند الشادين. فلما انقلبت الواو ياء، والضمة كسرة، صار اللفظ " الذي ". وإنما صحت الواو في قولهم " ذو " لأنها كانت في حكم التوسط، إذ المضاف مع المضاف إليه كالاسم الواحد. وفي معنى " ذو " الذي هو مضاف طرف من معنى ذا الذي هو اسم مبهم، ألا تراه يبين باسماء الأجناس كقولك: هذا الغلام، وهذا الرجل، فيتصل بها على جهة البيان، كما يتصل بها " ذو " على جهة الإضافة، ولذلك قالوا في المؤنث من (الذي: التي بالتاء، كما قالوا في المؤنث من) ذا: هاتا، وهاتين. والله أعلم. وأما استحقاقه للبناء - أعني الذي - فلما ذكره النحويون من مضارعة الحرف والإبهام والنقصان في نفسه، حتى كأنه بعض كلمة. وأما إعرابه في حال التثنية فلأن علامة التثنية هي الألف، وهي بعينها علامة الرفع في الأسماء فلم يكونوا ليبنوا وفيه علامة الإعراب، ولم يكونوا ليسقطوها فيبطل معنى الثثنية، فكان ترك مراعاة علة البناء أهون عليهم من إبطال معنى التثنية، ولذلك أعربوا " اثني عشر " و " هذين "، و " يا زيدان ". فإن قيل: فما بالهم بنوا الجمع - أعني الذين - وهو على حد تثنية، وفيه علامة الإعراب؟ قلنا: الجمع يفارق التثنية من وجهين: أحدهما: أن الجمع قد يكون إعرابه كإعراب الواحد بالحركات، نعم، وقد يكون الجمع اسماً واحداً في اللفظ كقولك: قوم ورهط. الثاني أن الجمع في حال نصبه وخفضه يضارع لفظه لفظ الواحد، من حيث كان آخره ياء مكسوراً ما قبلها، فحملوا الرفع الذي هو أقل حالاته على النصب والخفض، وغلبوا عليه البناء، حيث كان لفظه في الإعراب في أغلب أحواله كلفظه في البناء. وليس كذلك التثنية، لأن ياءها مفتوح ما قبلها، فلا يضارع لفظها في شيء من أحوالها لفظ الواحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وأما النون في " الذين " فلا معتبر بها، لأنها ليست في الجمع ركنا من أركان صيغته، لسقوطها في الإضافة وفي ضرورة الشعر، كما قال: وإِنَّ الذي حانَتْ بِفَلْجٍ دِماؤُهُمْ ... هُمُ القَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يا أُمَّ خالِدِ وأما " ما " الموصولة فهي في قول النحويين بمعنى (الذي) ، وليس كذلك، وإن واففت " الذي " في أكثر أحكامها، فإنها مخالفة لها في المعنى وفي بعض الأحكام. أما المعنى فإن " ما " اسم مبهم في غاية الإبهام، حتى إنها تقع على كل شيء. وتقع على ما ليس بشيء، ألا ترى أنك تقول: إن الله عالم بما كان وبما لم يكن. وما لم يكن معدوم، والمعدوم ليس بشيء، فلفرط إبهامها لم يجز الإخبار عنها حتى توصل بما يوضحها، وكل ما وصلت به يجوز أن يكون صلة " الذي "، فهي توافق " الذي " في هذا الحكم، وتخالفه في أنها لا تكون نعتاً لما قبلها ولا منعوتة، لأن صلتها تغنيها عن النعت. وأيضاً فلو نعتت بنعت زائد على الصلة لارتفع إبهامها. وفي ارتفاع الإبهام منها جملة بطلان حقيقتها وإخراجها عن أصل موضوعها. وتفارق " الذي " أيضاً في امتناعها في التثنية والجمع، وذلك أيضاً لفرط إبهامها. فقد وضح لك ما بينها وبين " الذي " من الفرق في المعنى والحكم. فإذا ثبث ما قدمناه فلا يجوز أن توجد إلا موصولة، لأنه لا يعقل معناها إلا بالصلة ولا يجوز أن توجد إلا واقعة على جنس تتنوع منه أنواع، لأنها لا تخلو من الإبهام أبداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ولذلك كان في لفظها ألف آخرة لما في الألف من الحد والاتساع في هواء الفم، مشاكلة لاتساع معناها في الأجناس. فإذا أوقعوها على نوع بعينه، وخصوا ما يعقل وقصروها عليه، أبدلوا الألف نوناً ساكنة، فذهب امتداد الصوت، وصار قصراً للفظ موازناً لقصر المعنى، فقالوا: من عندك. تخصيصاً بما يعقل. وإذا كان أمرها كذلك ووقعت على جنس من الأجناس، وجب أن يكون ضميرها العائد عليها من الصلة الذي لا بد للصلة منه، ولولا هو لم ترتبط بموصول حتى تكون صلة (له) ، فيجب أن يكون ذلك الضمير بمنزلة ما يعود عليه من الإعراب والمعنى. ف إذا وقعت على ما هو فاعل في المعنى، كان ضميرها فاعلاً في المعنى واللفظ، كقولك كرهت ما أصابك. فما مفعولة لكرهت في اللفظ والمعنى. وإذا وقعت على مفعول، كان ضميرها مفعولاً لفظاً ومعنى، كقولك: سرني ما أكلته، وأعجبني ما لبسته. فهي في المعنى مفعولة، لأنها عبارة عن الملبوس والمأكول، فضميرها مفعول في اللفظ والمعنى. وكذلك إذا وقعت على المصدر كان ضميرها مفعولاً مطلقاً لأن المصدر كذلك. وإن وقعت على الظرف كان ضميرها مجروراً بفي، لأن الظرف كذلك هو في المعنى، إلا أنها لا تقع من المصادر إلا على ما تختلف أنواعه للإبهام الذي فيها، وسيأتي شرح ذلك وبيانه آخر الفصل، إن شاء الله تعالى. فإن قيل: أليس قد وقعت على ما يعقل في مواضع من القرآن وكلام العرب، خلافاً لما نص عليه النحويون، كقوله تعالى: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) . وكقوله سبحانه وتعالى: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا) . وكقوله: (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) . قلنا: هي في كل هذا على أصلها من الإبهام والوقوع على الجنس العام، لم يرد بها ما يراد بـ " من " التعيين لما يعقل والاختصاص به دون غيره. ومن فهم جوهر الكلام عرف ما نقوله، واستبان له من الحق سبيله. أما قوله عز وجل: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) ، فهذا كلام ورد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 في معرض التوبيخ والتبكيت للعين على امتناعه من السجود، ولم يستحق هذا التبكيت والتوبيخ من حيث كان السجود لما يعقل، ولكن لعلة أخرى وهي المعصية والتكبر على ما لم يخلقه، إذ لا ينبغي التكبير لمخلوق على مخلوق مثله، وإنما التكبر للخالق وحده، فكأنه يقول له - سبحانه -: لم عصيتني وتكبرت على ما لم تخلقه وخلقته أنا، وشرفته وأمرتك بالسجود له؟ فهذا موضع " ما "، لأن معناها أبلغ ولفظها أعم. وهو في الحجة أوقع، وللعذر والشبهة أقلع، فلو قال: ما منعك أن تسجد لمن خلقت، لكان استفهاماً مجرداً من توبيخ وتبكيت، ولتوهم أنه وجد السجود له من حيث كان يعقل، أو لعلة موجودة في ذاته وعينه. وليس الأمر كذلك، فلا معنى لتعيينه بالذكر، وترك الإبهام في اللفظ. وكذلك قوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا) لأن القسم تعظيم للمقسم به. واستحقاقه للتعظيم من حيث بنى وأظهر هذا الخلق العظيم الذي هو السماء، ومن حيث سواها بقدرته وزينها بحكمته. فاستحق التعظيم وثبتت له القدرة، كائناً ما كان هذا المعظم فلو قال: " من بناها " لم يكن في اللفظ دليل على استحقاقه للقسم به، من حيث اقتدر على بنيانها، ولكان المعنى مقصوراً على ذاته ونفسه دون الإيماء إلى أفعاله الدالة علي عظمته المنبئة عن حكمتها، المفصحة لاستحقاقه التعظيم من خليقته. وكذلك قوله سبحانه: (يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) ، لأن الرعد صوت عظيم (من جرم عظيم) ، فالمسبح به لا محالة أعظم، واستحقاقه للتسبيح من حيث سبحته العظيمات من خلقه، لا من حيث كان يعلم. ولا نقول: " بعقل " في هذا الموضع، تأدبا وتأسياً بالشريعة. فإذا تأملت ما ذكرناه، ونظرث في آخر الفصل ما ندكره من " ما " الواقعة على المصدر، استبانت لك جهالة القائلين من النحويين أن " ما " مع الفعل بتأويل المصدر، وأن المعنى: والسماء وبنيانها، فلا لصناعة النحو وفقوا، ولا لفهم التأويل رزقوا، وأكثروا الحز وأخطأوا المفصل وما طبقوا. وأما قوله عز وجل: (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) ، فما على بابها، لأنها واقعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 على معبوده - عليه الصلاة والسلام - على الإطلاق، لأن امتناعهم عن عبادة الله تعالى ليس لذاته، بل كانوا يظنون أنهم يعبدون الله، ولكنهم كانوا جاهلين به، فقوله: (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) ، أي: أنكم لا تعبدون معبودي، ومعبوده هو كان يعرفه دونهم وهم جاهلون به. ووجه آخر، وهو أنهم كانوا يشتهون مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسداً له، وأنفة من اتباعه، فهم لا يعبدون معبوده لا كراهية لذات المعبود، ولكن كراهية لاتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشهوتهم لمخالفته في العبادة، كائناً ما كان معبوده وإن لم يكن معبوده إلا الحق سبحانه وتعالى. فعلى هذا لا يصح في النظم البديع والمعنى النبيه الرفيع، إلا " ما " لإبهامها ومطابقتها الغرض الذي تضمنته الآية، وبالله التوفيق. ووجه ثالث - وهو: ازدواج الكلام - أصل في البلاغة، وبديع في الفصاحة، مثل قوله عز وجل: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) و (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) . فسمَّى المعاقبة اعتداء لازدواج الكلام وحسن الانتظام. وكذلك قوله عز وجل: (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) ومعبودهم لا يعقل، ثم ازدوج مع هذا الكلام قوله: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) ، فاستوى اللفظان وإن اختلف المعنيان، كما كان ذلك في قوله عز وجل: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) وفي قوله عليه الصلاة والسلام: " إن فلاناً هجاني، فاهجه اللهم ". هذا حسن من جهة اللفظ، والذي قدمناه أقوى في المعنى، وأنفى للشك وأجلى للعمى، والله الموفق لسبيل الهدى، والمشكور على ما هب من نعمى. * * * (زيادة فائدة في الآية) إن قيل: ما الفائدة في تكرير لفظ الفعل على بنية المستقبل حين أخبر عن نفسه، وتكريره بلفظ الماضي حين أخبر عنهم، فقال: (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) ؟. قلنا: في ذلك إشارة وإيماء إلى عصمة الله - عز وجل - له في الزيغ والتبديل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 والانحراف عن عبادة مولاه، وأن معبوده واحد في الحال وفي المآل، وهو له بخلاف الكافرين فإنهم يعبدون أهواءهم، ويتبعون شهواتهم في الدين وأغراضهم، فهم معرضون لأنهم يعبدون اليوم إلهاً، وغداً آخر، فلذلك قال: (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) يعني الآن، (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) أنا الآن أيضاً. ثم قال: (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ) يعني فيما يستقبل. وأدخل فيها معنى الشرط، ولذلك وقع بعدها الفعل بلفظ الماضي، وهو مستقبل في المعنى، كما يكون ذلك بعد حروف الشرط، كأنه يقول: مهما عبدتم شيئاً فلا أعبده ". فإن قيل: وكيف يكون فيها الشرط وقد عمل فيها الفعل، وليس فيها جواب؟. قلنا: لم نقل إنها شرط محض، ولكن فيها طرف من معناه، لوقوعها على غير معين وإبهامها في المعبودات، كما كان ذلك في " قوله عز وجل: (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) . حتى وقع بعدها الفعل بلفظ الماضي، وقد عمل فيها الفعل وليس لها جواب، لقربها من الشرطية في المعنى، لأن معنى الكلام: " من كان في المهد صبياً، فكيف نكلمه؟ " فجاءت " كان، بلفظ الماضي، والمراد بها الاستقبال لما فيها من معنى الشرط. وهذا كله معنى قول: " الزجاج " وغيره. فإذا ثبت هذا فلا تنكرن أن يكون في " ما " من قوله تعالى: (ما عبدتم) معنى الشرط، بل هو فيها أبين، وإذا كان كذلك فقد وضحت الحكمة التي من أجلها جاء الفعل بلفظ الماضي من قوله: (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ) . بخلاف قوله: (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) ، لبعد " ما " فيها عن معنى الشرط، تنبيهاً من الله تعالى على عصمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن اتباع هواه، وتوفيقه إياه إلى أن لا يتخذ رباً سواه، لا إله إلا هو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 فصل (في وقوع " ما " على المصدر) قد قدمنا أن " ما " اسم مبهم يقع على جميع الأجناس، والمصدر جنس من الأجناس، فمعنى وقوعه عليه أن يعني بها مصدراً، ثم تصلها بفعل وفاعل. ثم تعمل ذلك الفعل في ضمير المصدر، وهو العائد على " ما "، فيكون مفعولًا مطلقاً، تقول: أعجبني ما صنعت، أي: أعجبني الفعل الذي صنعته، كما تقول: أعجبني ما لبست أو ما أكلت، فيكون معناه الثوب الذي لبسته، أو الطعام الذي أكلته. فكما وقعت على الثوب والطعام وغير ذلك، فكذلك وقعت على المصدر والظرف وهى في كل هذا بمنزلة " الذي " كما تقدم. وظن بعض النحويين أن التي يعني بها المصدر ليست بما الأولى، وإنما هي بمنزلة " أن " مع الفعل، بتأويل المصدر. وليس كمنا ظنوه، ألا ترى أنك لا تقول: يعجبني ما تجلس كما تقول: يعجبني أن تجلس وأن تخرج وأن تقعد. ولا تقول في هذا كله " ما "؟ والأصل في هذا الفصل أن " ما " لما كانت اسماً مبهماً، لم يصح وقوعها إلا على جنس تختلف أنواعه، فإن كان المصدر مختلف الأنواع جاز أن تقع عليه ويعبر بها عنه، كقولك: يعجبني ما صنعت، وما عملت، وما فعلت. وكذلك تقول: ما حكمت، لأن الحكم مختلف أنواعه، وكذلك الصنع والفعل والعمل. فإن قلت: يعجبني ما جلست، وما انطلق زيد، كان غثا من الكلام، لخروج (ما) عن الإبهام، ووقوعها على ما لا يتنوع من المعاني، لأنه يكون التقدير حينئذ: أعجبني الجلوس الذي جلست، والقعود الذىِ قعدت، فيكون آخر الكلام مفسراً لأوله، رافعاً للإبهام، فلا معنى حينئذ لـ " ما ". فأما قوله تعالى: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا) ، فلأن المعصية تختلف أنواعها. وقوله سبحانه وتعالى: (بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) . فهو كقوله: لأعاقبنك بما ضربت زيداً، وبما شتمت عمراً، أوقعتها على الذنب، والذنب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 مختلف الأنواع، ودل ذكر المعاقبة والمجازاة على ذلك، فكأنك قلت: لأجزينك بالذنب الذي هو ضرب زيد، أو شتم عمرو. فما على بابها غير خارجة عن إِبهامها. وأما قولهم: طالما أقمنا في هذا المكان وطالما قعدنا، فما واقعة على الزمان. والفعل بعدها متعد إلى ضميره، والتقدير: طال زمان أَقمنا فيه وقعدنا فيه، والزمان مبهم وأما قولهم: كلما جاء زيد كلمته، فما التي أضيف إليها (كل) ظرف زمان في المعنى فهما كالتي قبلها. وأما قولهم: اجلس ما جلس زيد، و (صلوا كما رأيتموني أصلي) . فقد ظن أكثر الناس أنها بمعنى المصدر ها هنا. وقد تبين فساد هذا المذهب، لأن الفعل ههنا خاص غير عام، ولكنها كافة للخافض، ومهيئة لكاف التشبيه أن يقع بعدها الفعل، كما كانت كذلك في " رب " من قوله عز وجل: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) . وفي (إنَّ) من قولك: إنما يقوم زيد، كفتها عن العمل، وهيأتها لوقوع الفعل بعدها، وكذلك كفت " رب " و " كاف " التشبيه عن العمل، وهيأتها لوقوع الجمل بعدهما. والشاهد بما قلناه قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر - رضي الله عنه -: (كَمَا أَنْتَ) ، (فأَنْتَ) مبتدأ والخبر محذوف فلا مصدر ههنا، لأنه لا فعل ثم، فكذلك هي مع " الكاف " إذ كان ثم الفعل. فهذا بين لا خفاء به، وكذلك هي مع " بعد " من قولك: " بعدما جلس عمرو ". وليست مصدرية لما تقدم من إبطال ذلك، ولكنها كافة لبعد عن الخفض، مهيئة لوقوع الجمل بعدها، ألا ترى إلى قول الشاعر: أَعَلاقَةً أُمَّ الوُلَيِّدِ بعدما ... أَفْنانُ رأْسِكِ كالثَّغامِ المُخْلِس؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 فليس ها هنا فعل فيكون معها مصدراً، كما لم يكن ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - " كَمَا أَنْتَ ". فإن قيل: فما بالهم لم يفعلوا في " قبل " ما فعلوا في " بعد " فيقولوا: " جئت قبل ما ذهب زيد "، كما قالوا: - بعدما؟. قلنا: في امتناعهم من ذلك في " قبل " شاهد لما قدمناه، من أنها ليست بمصدر، لأنه لا يمتنع: قبل أن يقول زيد، فيكون أن مع الفعل بمعنى المصدر. فإن قيل: فلم لا تكون كافة لقبل، مهيأة لوقوع الجمل بعدها كما كانت كذلك في بعد؟ قلنا: لا يصح أن توجد كافة الأسماء بالإضافة، فإنها تكون كافة الحروف وما ضارعها، و " بعد " أشد مضارعة للحروف من " قبل "، لأن " قبل " كالمصدر في لفظها ومعناها، تقول: " جئت قبل الجمعة ". تريد الوقت الذي تستقبل فيه الجمعة والجمعة بالإضافة إلى ذلك الوقت قابلة، كما قال الشاعر: . . . . نحج معاً قالت أعاما وقابله فإذا كان العام الذي بعد عامك يسمى فابلاً فعامك الذي أنت فيه قبل، ولفظها من لفظ قابل. فقد بأن ذلك من جهة اللفظ والمعنى أن " قبل " مصدر في الأصل والمصدركسائر الأسماء لا يكف به ولا يهيأ لدخول الجمل بعده، وإنما ذلك في بعض الحروف العوامل، لا في شيء من الأسماء. وأما " بعد " فهي أبعد عن شبه المصدر، وإن كانت تقرب من لفظ البعد ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 معناه، فليس قربها (من لفظ) المصدر (كقرب) قبل، ألا ترى أنهم لم يستعملوا من لفظها اسم فاعل، فيقولون في العام الماضي: باعد، كما قالوا في العام المقبل: قابل فقابل اسم فاعل من الفعل الذي قبل مصدر له. فتأمل هذا فإنه مفيد دقيق، وقد جلوته لك في منصة التحقيق. * * * فصل (في ما الموصولة) اعلم أن " ما " إذا كانت موصولة بالفعل الذي لفظه عمل أو صنع أو فعل وذلك الفعل مضاف إلى فاعل غير الباري - سبحانه وتعالى - فلا يصح وقوعها إلا على مصدر، لإجماع العقلاء من الأنام، في الجاهلية والإسلام، على أن أفعال الآدميين لا تتعلق بالجواهر والأجسام، لا تقول: عملت جبلاً، ولا: صنعت جملًا ولا حديداً، ولا حجراً، ولا ترابا ولا شجراً. فإذا ثبت ذلك وقلت: أعجبني ما عملت وما فعلت زيد، فإنما تعني الحدث. فعلى هذا لا يصح في تأويل قوله سبحانه: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) . إلا قول أهل السنة: إن المعنى: والله خلقكم وأعمالكم. ولا يصح قول المعتزلة من جهة المنقول ولا من جهة المعقول، لأنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 زعموا أن " ما " واقعة على الأصنام والحجارة التي كانوا ينحتونها، وقالوا: تقدير الكلام: خلقكم والأصنام التي تعملون، إنكاراً منهم بأن تكون أعمالنا مخلوقة لله سبحانه. واحتجوا بأن نظم الكلام يقتضي ما قالوه، لأنه قد تقدم: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ) ، فما واقعة على الحجارة المنحوتة، ولا يصح غير هذا من جهة النحو ولا من جهة المعنى أما النحو فقد تقدم أن " ما " لا تكون (مع) الفعل الخاص مصدراً. وأما المعنى فإنهم لم يكونوا يعبدون النحت، وإنما كانوا يعبدون المنحوت. فلما ثبت هذا وجب أن تكون الآية التي هي رد عليهم وتقييد لهم كذلك " ما " فيها واقعة على الحجارة المنحوتة والأصنام المعبودة، فيكون التقدير: أتعبدون حجارة تنحتونها، والله خلقكم وتلك الحجارة التي تعملون؟ هذا كله، معنى قول المعتزلة. وشرح ما شبهوا به، والنظم على تأويل أهل الحق أبدع والحجة أقطع والمعنى لا يصح غيره. والذي ذهبوا إليه فاسد لا يصح بحال، لأنهم مجمعون معنا على أن أفعال العباد لا تقع على الجواهر والأجسام. فإن قيل: فقد تقول: عملت الصفحة، وصنعت الجفنة، وكذلك الأصنام معمولة على هذا؟. قلنا: لا يتعلق الفعل فيما ذكرتم إلا بالصورة التي هي التأليف والتركيب. وهي نفس العمل (وأما الجوهر المؤلف المركب فليس بمعمول لنا، فقد رجع العمل) والفعل إلى الأحداث دون الجوهر. وهذا إجماع منا ومنهم، فلا يصح حملهم على غير ذلك وأما ما زعموا من حسن النظم وإعجار الكلام فهو ظاهر. وتأويلنا معدوم في تأويلهم، لأن الآية وردت في بيان استحقاق الخالق للعبادة لانفراده بالخلق، وإقامة الحجة على من يعبد ما لا يخلق شيئاً و (هم يخلقون) فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ) ، أي: ما لا يخلق شيئا وَهُمْ يُخْلَقُونَ. وتدعون عبادة من خلقكم وأعمالكم التي تعملون، ولو لم يضف خلق الأعمال إليه في الآية، وقد نسبها بالمجاز إليهم، لما قامت له حجة (عليهم) من نفس الكلام، لأنه كان يجعلهم خالقين لأعمالهم، وهو خالق لأجناس أخر، فيشركهم معه في الخلق - تعالى الله عن قول الزائغين، ولا ولعاً لعثرات المبطلين - فما أدحض حجتهم وما أوهى قواعد مذهبهم! وما أبين الحق لمن اتبعه. . نسال الله الكريم أن يجعلنا من أتباع الحق وحزبه، وأن يعصمنا من شبه الباطل وريبه. وهذا الذي ذكرناه هو الذي قاله أبو عبيد في قول حذيفة: " إن الله يخلق صانع الخزم وصنعته ". واستشهد بالآية، وخالفه القتبي في (إصلاح الغلط) ، فغلط أشد الغلط، ووافق المعتزلة في تأويلها وإن لم يقل بقيلها. وتلخيص ما تقدم أن " ما " وغيرها من الموصلات إذا عيت بها المصدر، لم يجز أن تكون الصلة فعلاً مشتقاً من ذلك المصدر، لأن الصلة كالصفة توضح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الموصول وتبينه والشيء لا يبين نفسه، إذ لا معنى في الفعل أكثر من الدلالة على المصدر، إلا أن تختلف أنواعه، فتكون الصلة مميزة بين نوع ونوع. * * * مسألة (في ياء المتكلم، والنون) قوله: فإن ظهر اسمك فيه النون والياء، فغيرك فيه مرفوع، لأنها ضمير المفعول به، كقوله: أعجبني وأسخطني وأرضاني وسرني. وإن ظهر اسمك فيه بالتاء فغيرك فيه منصور، لأنها ضمير الفاعل. كقولك: كرهت وأحببت واشتهيت، والضمير عند النحويين هي " الياء " وحدها، و " النون " زائدة، زيدت وقاية لآخر الفعل من كسرة. واستدلوا على ذلك بالقياس على ضمير المخاطب، فإنه " كاف " في حال النصب والخفض. وكذلك ضمير الغائب " هاء " في حال النصب والخفض، و " النون " زائدة. وهذا قياس صحيح. ولكن النص أقطع من القياس، وأرفع للشك والالتباس. والنص في ذلك للعرب: لعلي، وليتي، قال الله سبحانه وتعالى: (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ) . فهذه ياء مفردة في حال النصب. وكذلك قول ورقة بن نوفل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 فيا ليتي إذا ما كان ذاكم ... شهدت وكنت أولهم ولوجا فجعل اسم ليت " ياء " مفردة دون " نون ". ووجه آخر وهو جعلهم " النون " مع " الياء " بعد حروف الخفض، نحو قولهم: مني، وعني، ومن لدني، كيلا يتوهم أن " عن "، و " لدن، و " من " أسماء مضافة إلى الياء، فإذا وجدت النون والياء في موضع الخفض، ووجدت الياء مفردة في موضع النصب، ثم وجدا معاً في موضع نصب، علم قطعاً أن " الياء " هي الضمير دون " النون ". فإن قيل: فما فائدة النون؟ ولم خصت بهذا الموطن دون سائر الحروف؟ فالجواب: أنهم أرادوا فصل الفعل والحروف المضارعة له عن توهم الإضافة إلى " الياء " وكيلا يظن ببعض الكلم أنها أسماء مضافة، والإضافة فيها محال، فألحقوها علامة الانفصال، وعلامة الانفصال في أكثر الكلام هي النون الساكنة، كما تقدم في التنوين فإنها لا توجد في الكلام إلا علامة لانفصال الاسم، حتى أدخلوها في القوافي في الاسم المعرف بالألف واللام، إشعاراً بتمام البيت وانفصاله مما بعده. كقوله: . . . . . . الدموع الذرافن أَقِلِّي اللَّوْمَ عاذِلَ والعِتابَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 في الوصل، فإن وقفوا استغنوا عنها. وقد تقدم من قولنا في " إذن " و " يومئذ " ما يغنى عن إعادته. وكذلك زادوها قبل علامة الإنكار حين أرادوا فصل الاسم من العلامة، كقولهم: أزيد إنيه! وقول الأنصارية - وقد خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنتها لجليبيب -: " أجليبيب إنيه ". ومن العرب من لا يحق هذه النون قبل علامة الإنكار، فيقول في " عمر " مرفوعاً: أعمروه. وفي " زيد " مرفوعاً: أزيدنيه يحرك التنوين بالكسر، فتنقلب العلامة ياء. ومنهم من يزيد فصل الاسم عن العلامة كيلا يتوهم أنها من تمام الاسم أو علامة جمع، فيفصل بين الاسم وبينها بنون زائدة يدخل عليها ألف الوصل لسكونها، ثم يحركها بالكسر لالتقاء الساكنين، كما تقدم. فلما كان من أصلهم تخصيص النون بعلامة الانفصال، وأرادوا فصل الفعل وما ضارعه عن الإضافة إلى الياء، جاءوا بهذه النون الساكنة، ولو سكنوا الياء لكانت ساكنة كالتنوين، ولكنهم كسروها لالتقاء الساكين، كما كسروا التنوين في زيدنيه، وبالله التوفيق. * * * مسألة قوله ما دعاك إلى الخروج؟ والمعنى: أي شيء دعاك إلى الخروج؟ " ما ": إذا كانت استفهاماً لم يكن لها صلة، لأنها تنوب مناب ألف الاستفهام والاسم المستفهم عنه، فلو كان ما بعدها صلة لم يجز أن يعمل فيها، لأن الشيء لا يعمل بعضه في بعض وإذا لم بجز أن يعمل فيها، ولا ثَمَّ عامل غيرها، بطل خلو الاسم من أن يكون معمولًا فيه، إذ حد الاسم: ما جاز أن يكون فاعلاً أو مفعولاً، أو دخل عليه حرف من حروف الخفض. فإن قيل: وما يؤمنكم أن يكون الفعل الواقع بعدها صلة غير عامل فيها، بل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ضمير عائد عليها، ويكون العامل فيها مضمراً تقديره: " اعلمني " أو: " بين لي " ما أكلته أو شربته. قلنا: دخول حرف الجر عليها في قولك: لم جئت؟ و: فيم رغبت؟ - دليل قاطع في أن ما بعدها عامل فيها، وظهور الإعراب في " أي " التي في معناها دليل آخر أيضا. ووقوع الاسم المفرد بعدها دليل آخر ثالث، لأن الاسم المفرد لا يكون صلة إلا على حذف بقبح، وذلك قولك: ما زيد؟ و: ما ذاك؟ ونحوه. وأما إعرابها إِذا كانت استفهاماً، فعلى حسب ما يكون الاسم المستفهم عنه. فإذا قلت: ما العين؟ فهي في موضع الخبر، لأنه المسؤول عنه. وإذا قلت: ما أصابك؟ فهي في موضع المبتدأ، وسائر أحكامها واضح، إلا أن حذف الألف منها في حال الخفض له سر، وهو أنهم أرادوا مشاكلة اللفظ للمعنى، فحذفوا الألف كما أسقطوا الصلة، ولم يحذفوا في حال النصب والرفع، كيلا تبقى الكلمة على حرف واحد. فإذا اتصل بها حرف الجر أو اسم مضاف اعتمدت عليه، لأن الخافض والمخفوض بمنزلة واحدة أو بمنزلة كلمة واحدة. نعم، وربما حذفوا الألف في غير موضع الخفض، ولكن إذا حذفوا الخبر. يقولون: مه يا زيد؟ (أي) : ما الخبر؟ وما الأمر؟ فحين كثر الحذف في المعنى كثر في اللفظ. ولكن لا بد من هاء السكت لنقف عليها. ومنه قولهم: " مهيم "؟ ، كان الأصل: مه يا امرؤ؟ أو: يا مقبل؟ ثم حذفوا إيجازاً وتخفيفا، كما قالوا: إيش؟ يريدون: أي شيء؟ و: م الله. يريدون أيمن الله. ثم صيروا الكلمتين كلمة واحدة، فقالوا: مهيم قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن عوف، حين رأى عليه خلوقاً، فأنكره. * * * (فصل) وأما " أي " فمعرب بخلاف أخواته لتمكنه بالإضافة. وإنما لزمته الإضافة لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وضع لتمييز البعض وتعيينه، فلا بد من إضافته إلى الجملة كما يضاف البعض إلى الكل فإن جعلته موصولاً عمل فيه ما قبله ولم يجز الإلغاء، وإن جعلته استفهماماً عمل فيه ما بعده ولم يجز أن يقع قبله إلا ما يجوز إلغاؤه كأفعال العلم والشك الداخلة على ما حقه الابتداء، فتقول: أيهم أخوك؟ ولا تقول: ضربت أيهم أخوك، لأن " ضربت " لا يلغى، ولا: (أيهم أخوك) بالنصب، لأن الاسم المفرد لا يكون صلة. فإن أضمرت مبتدأ كأنك تقول: (ضربت) أيهم هو أخوك، لتجعلها بمنزلة " الذي " فحذف ذلك المبتدأ قبيح في الكلام، وربما جاز على قبحه. ولذلك اختلفوا في إعراب قوله عز وجل: (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ) : ذهب الخليل إلى أنه محكي، كأنه يذهب إلى أن المعنى: لنقولن: أيهم أشد؟. وذهب سيبويه إلى أنها اسم مبني في موضع المفعول، وبني لمخالفته نظائره، حيث لم يوصل بجملة، والتقدير عنده: أيهم هو أشد. فلو صرحت بـ " هو " لنصبت ثم بـ " ننزعن "، فلما اختزلت بنيت " أي " لمخالفته النظائر، كما تقدم -. وهذا الذي ذكره لو استشهد عليه بشاهد من نظم أو نثر، أو وجدناه بعده في كلام فصيح شاهداً له لم نعدل به قولاً، ولا رأينا لغيره عليه طولًا، ولكنا لم نجد ما بني لمخالفته غيره، لا سيما مثل هذه المخالفة، فإنا لا نسلم أنه حذف من الكلام شيء. وإن قال: إنه حذف ولا بد، والتقدير: أيهم هو أخوك؟. فيقال: فلم لم يبنوا النكرة فيقولون مررت برجلٍ أخوك، أو: رأيت رجلاً أبوك؟. ولم خص " أي " بهذا دون سائر الأسماء أن يحذف من صلته ثم يبني للحذف؟ ومتى وجدنا شيئاً من الجملة يحذف ثم يبنى الموصوف بالجملة من أجل ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 الحذف؟ وذلك الحذف لا يجعله متضمناً لمعنى الحرف ولا مضارعاً له. وهذه علة البناء وقد عدمت في أي! وإنما المختار قول الخليل، لكن يحتاج إلى شرح، وذلك أنه لم يرد بالحكاية ما سبق إلى الوهم من تقدير معنى القول، ولكنه أراد حكاية لفظ الاستفهام الذي هوأصل في " أي "، كما تحكيه بعد العلم إِذا قلت: قد علمت أخوك؟ و: أقام زيد أم قعد؟ فقد تركت الكلام على حاله قبل دخول الفعل، لبقاء معنى الاختصاص والتبيين في " أي " الذي كان موجوداً فيها وهي استفهام، لأن ذلك المعنى هو الذي وضعت له، استفهاماً كانت أو خبراً، كما حكوا لفظ النداء في قولهم: " اللهم، اغفر لي أيها الرجل " و " ارحمنا أيتها العصابة "، حكي لفظ هذا إشعاراً بالتعيين والاختصاص الموجود في حال النداء. وكذلك هذا، حكيت حاله في الاستفهام وإن ذهب الاستفهام، كما حكيت حاله في النداء وإن ذهب النداء، لوجود معنى الاختصاص والتعيين فيه. وقول يونس: " إن الفعل ملغى " حق، وإن لم يكن من أفعال القلب. وعلة إلغائه قد قدمناه من حكاية لفظ الاستفهام للاختصاص. فإذا أتممت الصلة وقلت: ضربت أيهم هو أخوك، زالت مضارعة الاستفهام، وغلب عليه معنى الخبر، لوجود الصلة التامة بعده، وكان إلحاقه بالأسماء الموصولة أولى من تشبيهه بحال الاستفهام. وأما قوله سبحانه وتعالى: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) . وإجماعهم على أنها موصولة بـ " ينقلبون " لا بما قبلها. وقد كان يتصور فيها أن تكون منصوبة بـ " يعلم " لا على جهة الاستفهام، ولكن تكون موصولة، والجملة صلتها، والعائد محذوف. ولكن منع من هذا الوجه أصل قدمناه، ودليل أقمناه على أن الاسم الموصول إِذا عني به المصدر، ووصل بفعل مشتق من ذلك المصدر، لم يجز، لعدم الفائدة المطلوبة من الصلة، وهي إيضاح الموصول وتبيينه، والمصدر لا يوضح بفعله المشتق من لفظه، لأنه كأنه هو لفظاً ومعنى، إلا في المختلف الأنواع كما تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ووجه آخر أقوى من هذا، وهو أن (أي) لا يكون بمعنى (الذي) حتى يضاف إلى معرفة، فتقول: لقيت أيهم في الدار، (إذ) من المحال أن يكون بمعنى الذي هو نكرة، و " الذي " لا ينكر. وهذا أصل يبنى عليه في " أي ". * * * فصل (في تحقيق معنى " أي ") وهو أن لفظ " ألف " و " ياء " مكررة، راجع في جميع الكلام إلى معنى التعيين والتمييز للشيء من غيره، فمنه: أياه الشمس، لضوئها، لأنه ضوء يبينها ويميزها من غيرها. والآية: العلامة على الشيء. و: خرج القوم بآيتهم، أي: بجماعتهم التي تتميز بها ويتميزون بها من الاختلاط بغيرهم. قال الشاعر: خَرَجْنا من القُفَّينِ لا حَيّ مِثْلنا ... بآيتنا نُزْجي اللِّقاح المَطافِلا ومنه: تأييت بالمكان، أي: تلبثت لتتبين شيئاً وتميزه. قال امرؤ القيس بن عابس: قِفْ بالدِّيارِ وُقوفَ حابس ... وتَأَيَّ إنَّك غَيْرُ يائس وقال الكميت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وتَأَيَّ إنَّك غَيْرُ صاغرْ ومنه: تأييت بالمد، أي: تظاهرت حتى عرفت وميزت. ومنه: إياك، وإياي، هما في المضمرات. وقد أشار الخليل إلى أنه اسم ظاهر، فاشتقاقه مما تقدم، لأنه في أكثر الكلام مفعول مقدم، والمفعول إنما يتقدم على فعله قصداً إلى تعيينه، وحرصاً على تبيينه، وصرفا للوهم عن الذهاب إلى غيره ولذلك لم يجز أن يتأخر عن الفعل في قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، إذ الكلام وارد في معرض الإخلاص وتحقيق الوحدانية ونفي عوارض الأوهام عن الخلوص التام، ولهذا اختصت " أي " بنداء ما فيه " الألف واللام "، تمييزاً له وتعييناً، ولذاك صير بعض لفظها حرفا من حروف النداء في قولك: أي زيد، وتفسيراً لقولهم: عندي عهن، أي: صوف. إلى غير ذلك من تصرفات هذا اللفظ. وأما وقوع " أي " نعتاً لما قبلها، كقولك: مررت برجل أي رجل، فإنما تدرجت إلى الصلة من الاستفهام، كأن الأصل: أي رجل؟ على الاستفهام الذي يراد به التفخيم والتهويل، وإنما دخله التفخيم لأنهم يريدون إظهار العجز والإحاطة بوصفه، فكأنه مما يستفهم عنه إذ يجهل كنهه. فأدخلوه في باب الاستفهام الذي هو موضوع لما يجهل، لذلك قال الله سبحانه: (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) و (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) . أي: إنها لا يحاط بوصفها. فلما ثبت هدا اللفظ في باب التفخيم والتعظيم للشيء قرب من النعت والوصف، حتى أدخلوه في باب النعت، وأجروه في الإعراب ما قبله. ونظائر هذا فىِ كلامهم كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ويدلك على دخول الاستفهام في باب النعت قول الراجز: حتى إذا كاد الظلام يختلط ... جاءوا بمذق هَلْ رأَيتَ الذِّئْبَ قَطْ؟ ؟ أي: فإنه في لون الذئب، إن كنت رأيت الذئب. ويقول القائل: مررت بفارس شجاع هل رأيت الأسد؟ أي: فإنه مثله. ويشبه هذه المسألة في التدريج ما نذكره في باب النعت (من قولهم) : مررت برجل حسن أبوه. (والأصل: حسن أبوه) بالرفع. والله المستعان، (وبه التوفيق) . * * * (باب النعت) النعت: تخصيص الاسم بصفة هي له، أو لسبب يضاف إِليه. وهو مصدر نعت الشيء أنعته، ثم سموا الاسم التابع للمنعوت نعتاً. وإنما هو اسم منعوت به، كما يقال: درهم ضرب الأمير. و" هؤلاء خلق الله "، أي: مخلوقون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 فإن قيل: فالاسم الأول كان أحق أن يسمى نعتاً، لأنه المنعوت في الحقيقة. والثاني انما هو منعوت به؟ فعن ذلك جوابان: أحدهما: أن الاسم الثاني الذي هو نحو " عاقل " و " عالم " هو المقصود ببيان أحكامه، فوقعت التسمية عليه. الجواب الثاني: - وهو التحقيق -: أن اللفظ الدال على المعنى هو النعت على الحقيقة في هذا الباب، لأنه فعل الناعت، دون المعنى الذي يعبر عنه، وذلك في ألفاظ النحويين كثير، إذ من ألقاب النحوية ما هو نفس العبارة في الحقيقة، كقولهم: تمييز، وتوكيد، بأن هذه كلمات هي أنفس العبارة، فهي مصادر على الحقيقة، وليس كذلك الظرف والفاعل والمفعول، فإنها واقعة على المسميات والمعاني المعبر عنها، ألا ترى إلى قول أبي القاسم: فالاسم ما جاز أن يكون فاعلًا أو مفعولًا. يريد الشخص المسمى لأنه الفاعل دون اللفظ. ثم قال: أو دخل عليه حرف من حروف الخفض. والخفض لا يدخل على المسمى ولكن على اللفظ الذي هو الاسم. * * * فصل (في أقسام النعت) النعت في المحدثين يكون بالصفة المعنوية نحو: عاقل وعالم، وبصفة في معنى النفي كقولك: واحد وظاهر، لأنها، لا تدل على معنى زائد موجود في نفس المنعوت، وإنما تدل على نفي شيء عنه. ويكون بصفة فعلية، إلا أنها الفعل في المحدثين راجع إلى الصفة المعنوية، لأن الفعل منهم هو حركة الفاعل، والحركة معنى في الذات، بخلاف أفعال الباري - سبحانه - فإنها ليست بحركة فاعل. وإنما هي في غيره لا في نفسه. وأما الصفة النفسية نحو فولك: " جوهر متحيز " و " جسم متألف " فلا تجدها نعتاً في كلام العرب، لأن المخاطب إن عرف النفس المنعوتة فقد عرف صفاتها النفسية، فاستغنى عن النعت، وإن لم يعرفها أخبر بما فيها حتى يعرفها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 فخرج من مضمون ما قلناه أن النعت قسمان: صفة معنوية، وصفة نفس، وأن الصفة الفعلية نحو: رجل قائم، معنوية (أيضاً) ، لأن الفعل حركة كما تقدم. وثم قسم ثالث، وهو النعت المنبئ عن الكثرة والجمع، وذلك ليس بصفة تقوم بالمنعوت، كقولك: رجل طويل، لأن الطول ينبئ عن كثرة أجزاء، ومال كثير وبيت كبير، وأشباه ذلك. وجميع ما تقدم من أقسام النعوت يختص بالجواهر دون الأعراض، إلا النعت المنبئ عن الكثرة والزيادة في الأدوات، فلا يكون في الجواهر والأعراض، تقول: علم كثير وحركة سريعة، وهو مجاز، لأن سرعة الحركة راجع في التحقيق إلى حركات كثيرة متواليات. نعم، وقد يوجد في كلام نعت الأعراض بالصفات النفسية نحو قولهم: سواد شديد، وبياض ناصع، وحمرة قانية، وحرارة شديدة إلا أن هذه النعوت راجعة عند الأشعرية إلى كثرة الأجزاء المتصفة بها، وليست عندهم كصفات الألوان ولا الأعراض، لا معنوية ولا نفسية. وذهب غيرهم من المنطقيين إلى أنها صفات نفسية وعبروا عنها بالكيفيات وإلى هذا القول ذهبوا، فما تميز سواد من سواد، ولا بياض من بياض حتى صارت أنواعاً مختلفة إلا بصفات ذاتية وأحوال نفسية، وهي الكيفيات، ولكن اللغات ضاقت عن وضع ألقاب لجميع أنواع الأعراض، فرجعت إلى وصفها بما هو مجاز في حقها، أو بتمييز بعضها من بعض بالإضافة إلى جواهرها، كقولهم: رائحة مسك، ورائحة تفاح. فنعوت الجواهر ثلاثة أقسام سوى الصفة النفسية، ونعوت الأعراض ثلاثة: صفة نفسية وصفة نفي بهو لا حادث، وصفة تنبئ عن كئرة ذوات وليست بصلة في الحقيقة، وإنما الصفة في الحقيقة ما يضاف إلى ذات واحدة. وأما صفات الباري - سبحانه - فلا نرى أن نسميها نعوتاً، تحرجا من إطلاق هذا اللفظ لعدم وجوده في الكتاب والسنة. وقد وجدنا لفظ الصفة في الصحيح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 حيث قال عليه السلام للرجل الذي كان يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) في كل ركعة: لم تفعل؟ فقال: أحبها لأنها صفة الرحمن "، فإذا ثبت ذلك فصفاته - سبحانه - تنقسم أربعة أقسام: نفسية كقولك: موجود، وإله، وذات، وشيء. ومعنوية كقولك: عالم وقادر، لأنها تنبئ عن معنى زائد على ذاته سبحانه. وصفة نفي كقولك: واحد وقدوس، لأنها تنبئ عن نفي ثان، وعن نفي النقائص وما لا يليق بجلاله سبحانه. وصفة فعل كقولك: خالق، ورازق، وهي معنوية في المحدثين، كما تقدم. وعندي قسم خامس وهو الأسماء الجملية، وهو ما دل كل واحد منها على معان لا على معنى مفرد، كقولك: عظيم ومجيد وكريم، فإن كل واحد من هذه الأسماء لا ينبئ عن معنى مفرد، فإن العظيم من اتصف بصفات كثيرة من صفات المدح، والمجيد كذلك إنما هو في معنى الزيادة في الشرف على غيره، " استمجد المرخ والعفار "، و " أمجد الناقة علفاً ". وكذلك تعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطلب الزيادة من ربه تعالى حين سأله الصلاة عن نفسه، وعلَّم أمته كيف يصلون عليه، فقال: " كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد "، (فطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المزيد من صلاته التي صلاها أن يصلي عليه. كما صلى على إبراهيم، وتعرض للمزيد بقوله: " إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ " لما سمعه يقول: (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) . ولم يصرح بطلبه تأدباً مع أبيه الخليل عليه السلام، فجمع عليه السلام بين الأمرين، إذ في ذكر الاسم من أسمائه - سبحانه وتعالى - تعرض من العبد لطلب مقتضاه وما يدل عليه فحواه، فإذا قلت: يا غفور، فأنت طالب للمغفرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وإذا قلت: يا رزاق، فأنت طالب للرزق، وكذلك لما أعطى - عليه الصلاة والسلام - درجة أبيه إبراهيم - صلى الله عليهما - في النبوة والخلة، ولم يستحل عنده المزيد. ولا أمكنه التصريح به تأدباً، كما قلناه - تعرض إليه بقوله: (إنك حميد مجيد) . ويشهد بصحة ما قلناه قول المفسرين في قول المسيح عليه السلام: (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) . ولم يقل: " إنك أنت الغفور الرحيم " قالوا: " لأنه لم يرد أن يستغفر لهم ". * * * فصل (في الذي ينعت به) والاسم المفرد لا يكون نعتاً، ونعنى بالمفرد ما دل على معنى واحد، نحو: علم وقدرة وإنما لم يكن نعتاً لأنه لا رابط بينه وبين الاسم الأول، لأنه اسم جنس على حاله، فإن قلت: ذو علم، وذو قدرة كان الرابط بينه وبين الاسم المنعوت قولك: ذو. وإن قلت: عالم وقادر كان الرابط بينه وبين المنعوت الضمير المستتر فيه العائد على ما قبله. فكل نعت وإن كان مفرداً في لفظه فهو دال على معلومين، حامل ومحمول. فالحامل هو الاسم المضمر، والمحمول هو الصفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وإنما أضمر في هذا الاسم وأشباهه ولم يضمر في المصدر الذي هو الصفة في الحقيقة، لأن هذا الاسم مشتق من الفعل، والفعل هو الذي يضمر فيه دون المصدر، لأنه إنما صيغ من المصدر ليخبر به عن فاعل، فلا بد له مما صير من أجله إما ظاهراً وإما مضمراً، وليس كذلك المصدر، لأنه اسم جنس، فحكمه حكم سائر الأجناس، ولذلك ينعت الاسم بالفعل لاحتماله اللضمير، تقول: مررت برجل ذهب، فيجري مجرى ذاهب. فإن قيل: وأيهما هو الأصل في باب النعت؟. (قلت: الاسم أصل للفعل في باب النعت) ، والفعل أصل لذلك الاسم في غير باب النعت. وإنما قلنا ذلك لأن حكم النعت أن يكون جارياً على المنعوت في رفعه ونصبه وخفضه، لأنه هو هو مع زيادة معنى، ولأن الفعل أصله أن يكون له صدر الكلام لأنه عامل في الأسماء، وحق العامل التقديم على المعمول، لا سيما على قول من زعم أن النعت يعمل فيه العامل في المنعوت. فعلى هذا القول لا يتصور كون الفعل أصلاً في باب النعت، لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال. وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى. * * * فصل (في نعت النعت) إذا ثبت ما قدمناه، (فينبغي أن لا يجوز أن ينعت النعت) ، فتقول: مررت برجل عاقل كريم، على أن يكون " كريم " نعتاً لعاقل، ولكن نعتاً للاسم الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وكذلك: عزيز حكيم، وسميع عليم، لأن النعت ينبئ عن الاسم المضمر وعن الصفة، والمضمر لا ينعت، ولأنه قد صار بمنزلة الجملة من حيث دلَّ على الفعل والفاعل، والجملة لا تنعت، ولأنه يجري مجرى الفعل في رفعه للأسماء، والفعل لا ينعت. وكذلك قال (ابن جني) هذا كله. ولا يمتنع عندي نعته في بعض المواطن، بعد أن يجري النعت الأول مجرى الاسم الجامد فيكون خبراً عن مبتدأ أو بدلاً (من اسم جامد، وأما نعتاً محضا يقوى فيه معنى الرفع، فما أراه) يجوز ذلك فيه. * * * (فصل) ولما قدمناه من افتقاره للضمير فإنه لا يجوز إقامة النعت مقام المنعوت. فتقول: جاءني طويل، و: رأيت شديداً وخفيفاً. وامتناع ذلك لوجهين: أحدهما: احتماله (الضمير) ، فإذا حذف المنعوت لم يبق للضمير ما يعود عليه. والثاني: عموم الصفة، فلا يدري الموصوف بها ما هو؟. فإن أجريت الصفة مجرى الاسم مثل: جاءني الفقيه، و: جالست العالم. خرج عن الأصل الممتنع وصار كسائر الأسماء. وإن جئت بفعل مختص بنوع من الأسماء وأعملته في نعت مختص بذلك النوع، كما حذف المنعوت حسناً، كقولك: أكلت طيباً، و: لبست ليناً، و: ركبت فارها. ونحو من هذا: أقمت طويلاً، و: صحوت سريعاً، لأن الفعل يدل على المصدر وكثرة الزمان، فجاز حذف المنعوت ههنا لدلالة الفعل عليه. وقريب منه فوله تعالى: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) . لدلالة الذرية على الموصوف بالصفة. وإن كان في كلامك حكم منوط بصفة، اعتمد الكلام على تلك الصفة واستغنى عن ذكر الموصوف كقولك: مؤمن خير من كافر، و: غني أحظى من فقير، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 و: المؤمن لا يفعل كذا، و: (لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) : " الكافر يأكل في سبعة أمعاء ". وكقولهم في الشعر: وأبيض كالمخراق وأسمر خطي. . . . .. وأشباه ذلك، لأن الفخر أو المدح إنما يتعلق بالصفة دون الموصوف. فمضمون هذا الفصل ينقسم خمسة أقسام: 1 - نعتٌ لا يجوز حذف منعوته (كقولك: رأيت سريعاً، و: لقيت خفيفاً. 2 - ونعت يقبح حذف منعوته، وهو مع ذلك جائز كقولك: لقيت ضاحكاً، أو: رأيت جاهلاً، وإنما جاز لاختصاص الصفة بنوع واحد من الأسماء. 3 - ونعت يستوي فيه حذف الموصوف وذكره، كقولك: أكلت طيباً. و: شربت عذباً، لاختصاص الفعل بنوع من المفعولات. 4 - وقسم يقبح فيه ذكر الموصوف لكونه حشواً في الكلام، كقولك: أكرم الشيخ، و: وقر العالم، و: أرفق بالضعيف، لتعلق الأحكام بالصفات واعتمادها عليها بالذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 5 - وقسم لا يجوز فيه ألبتَّة ذكر الموصوف، كقولك: دابة، وأبطح وأبرق، وأجرع - للمكان - وأسود - للحية - وأدهم - للقيد - وأخيل - للطائر. فهذه في الأصول نعوت، ألا تراهم لا يصرفونها ويقولون في المؤنث: بطحاء، وجرعاء، وبرقاء. ولكنهم لا يجرونها نعتاً على منعوت، فنقف عندما وقفوا ونترك القياس إذا تركوا. والله المستعان. * * * فصل (وهو الموعود به في آخر باب الفاعل والمفعول) إذا نعت الاسم بصفة هي لسببه، فإن فيه ثلاثة أوجه: أحدها - وهو الأصل - أن تقول: مررت برجل حسن أبوه، بالرفع. وإنما قلنا: إن هذا هو الأصل، لأن الحسن ليس له فيجري صفة عليه. وإنما ذكرت الجملة لتميز بها بين الرجل وبين من ليس عنده أب كأبيه، فلما تميز بالجملة من غيره صارت هي موضع النعت وتدرجوا من ذلك إلى أن قالوا: حسن أبوه، فأجروه نعتاً على الأول، وإن كان للأب، من حيث تميز به وتخصص كما يتخصص بصلة نفسه. والوجه الثالث، برجل حسن الأب، فيصير نعتا للأول، وتضمر فيه ما يعود عليه، حتى كان الحسن له. وإنما فعلوا ذلك مبالغة وتقريباً للسبب، وحذفاً للمضاف وهو الأب وإقامة للمضاف إليه مقامه وهو الهاء، فلما قام الضمير مقام الاسم المرفوع صار ضميراً مرفوعا، فاستتر في الفعل، ففلت: برجل حسن، ثم أضفته إلى السبب الذي من أجله صار حسنا وهو الأب، ودخول الألف واللام على السبب إنما هي لبيان الجنس، على ما يأتي بيانه في باب الصفة، إن شاء الله تعالى. وهذا الوجه الثالث لا يجوز إلا في الموضع الذي يجوز فيه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. وذلك غير جائز على الإطلاق وإنما يجوز حيث يقصدون المبالغة وتفخيم الأمر، وإن بعد السبب كان الجواز فيه أبعد، كقولنا: نابح كلب الجار، و: صاهل فرس العبد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وما امتنع في هذا الفصل فإنه يجوز في الفصل الذي قبله، من حيث لم يقيموا فيه مضافاً إليه مقام المضاف. وإنما حكمنا باختلاف المعاني في هده الوجوه الثلاثة، من حيث اختلف اللفظ فيها، لأن الأصل ألا يختلف لفظان إلا لاختلاف معنى، ولا يحكم باتحاد المعنى مع اختلاف اللفظ إلا بدليل. فمعنى الوجه الأول تمييز الاسم من غيره بالجملة التي بعده. ومعنى الوجه الثاني: تمييز الاسم من غيره مع انجرار الوصف إليه بمدح أو ذم. ومعنى الوجه الثالث: نقل الصفة كلها إلى الأول على حذف المضاف مع تبيين السبب الذي صيره كذلك. وأكثر ما يكون هذا الوجه فيما قرب سببه جداً، كقولك: عظيم القدر، وشريف الأب، لأن شرف الأب شرف له، وكذلك القدر والوجه. وههنا يحسن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، كما تقدم. * * * مسألة (في عدم نعت الضمير) قوله: " النعت تابع للمنعوت في رفعه ونصبه وخفضه وتعريفه وتنكيره ". وقد زاد الناس عليه في هدا الفصل فقالوا: " وفي تثنيته وجمعه وإفراده، وتأنيثه وتذكيره " وينبغي أن تزاد كلمة أخرى، فيقول: وفي إظهاره، لأن المضمر لا ينعت ولا ينعت به فلا بد أن يكون نعت الاسم الظاهر (ظاهراً) مثله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وقد اعتل (أبو القاسم) في امتناع نعت المضمر بما ذكره في آخر الباب، ولا أراها علة كافية، لأن غير المضمر من المعارف لا يستغني عن النعت، وإن كان المخاطب قد عرفه، وليس النعت بآلة تعريف، ولكن الغرض به قد يكون تحلية للمنعوت، وقد يكون تمييزا بينه وبين غيره ورفعاً للالتباس. والمضمر قد يحتاج إلى هذا كله، ألا تراه يبدل منه للبيان، ويؤكد وإنما المانع من نعته غير ما ذكره (أبو القاسم) وهو أن المضمر إشارة إلى المذكور، والإشارة لا تنعت إنما ينعت المشار إليه، فإذا أضمرت بعد ذكر، ثم أردت أن تنعت فإنما يجري النعت على الظاهر لا على علامة الإضمار التي هي إشارة إليه. وكذلك المبهم عندي أيضاً لا ينعت إنما يبين بالجنس الذي يشير إليه. كقولك: هذا الرجل، فالرجل تبيين لـ " هذا " أي: عطف بيان، وتبيينه بالجنس الذي يشير إليه آكد من تحليته بالنعت. فإذا عرفت المخاطب ما الذي تشير إليه قححِنثذ فانعته إن شئت أو لا تنعته، ولا معنى لوصف " هذا " و " ذلك " بصفة مضافة. وهو إشارة كالإشارة باليد والرأس، حتى يذكر المشار إليه. * * * مسألة (من الإضافة) قوله: " والمعرفة خمسة أجناس. . . " إلى آخر الفصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 التعريف ينقسم قسمين: تعريف معنوي وتعريف لفظي، فالتعريف المعنوي كالعلمية في الأسماء الأعلام، لأن لفظها واحد قبل التسمية وبعده، والتعريف اللفظي كتعريف ما فيه " الألف واللام ". والمبهم والمضمر عندي تعريف لفظي، لأن صيغة الإضمار والإبهام لفظ بمنزلة الألف واللام. فإذا ثبت هذا فكل ما كان تعريفه لفظياً فلا يجوزتنكيره مع وجود آلة التعريف، وما كان تعريفه معنوياً فقد يجوز تنكيره في بعض الأحوال، تقول: " مررت بعمرو وعمرو آخر ". وبأحمد وأحمد آخر ". ومن التعريف المعنوي " سحر " إذا أردته ليوم بعينه، و " أجمع "، " جمع " في باب التوكيد، إلا أن " أجمع " و " جمع " لا يجوز تنكيره، لأن تعريفه - وإن كان معنوياً - فإنه كاللفظي، من حيث كان الاسم الذي هو مضاف إليه في المعنى كالموجود في اللفظ، لأنه ضمير يعود على مذكور، وهو الاسم المؤكد. ولا بد لـ " أجمع " أن يكون تابعاً لذلك الاسم، فقد صار تعريفه من جهة اللفظ اللازم له. وسيأتي بيانه في باب التوكيد، إن شاء الله تعالى. وأما المضاف إلى معرفة فإنه اكتسب التعريف من الاسم الثاني واتصاله له. وحلوله منه محل التنوين، فصار بمنزلة اسم واحد، فانسحب التعريف على جميعه. فإن قيل: ولم اكتسب الأول التعريف من الثاني، ولم يكتسب الثاني التنكير من الأول إذ هو مقدم عليه في اللفظ، لا سيما والتنكير أصل في الأسماء والتعريف فرع عليه، فكان ينبغي إذ جعلا كاسم واحد أن ينسحب التنكير من أول الاسم إلى آخره، فلم غلبوا التعريف؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنهم قد غلبوا حكم المعرفة على النكرة في غير هذا الموطن كقولهم: هذا زيد ورجل ضاحكين، على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 الحال. ولا يجوز: ضاحكان، على النعت تغليباً منهم لحكم المعرفة، وذلك أنهم رأوا الاسم المعرفة يدل على معنيين: الرجل وتعيينه، والشيء وتخصيصه من غيره، والنكرة لا تدل إلا على معنى مفرد، فكان ما يدل على معنيين أقوى مما يدل على معنى واحد، وهذا بديع لمتأمله، وأصل نافع لمحصله. والجواب الثاني أن تقول: الاسم المضاف إليه بمنزلة (آلة) التعريف. فصار كالألف واللام والصيغة الدالة على الإبهام، ولم ينسحب تعريفه على الأول لأنه لم يكتسب منه العلمية، وإنما اكنسب تعريفاً آخر كما اكتسب من الألف واللام التي هي آلة التعريف، ألا ترى أنه إذا أضيف إلى المضمر لم يكتسب منه إضماراً، وإنما اكتسب تعريفاً وكذلك إذا أضيف إلى المبهم لم ينسحب عليه معنى الإبهام فدل على أن الإضافة بمجردها هي الموجبة لتعريف الاسم والمضاف إليه بمنزلة آلة داخلة، فلم يلزم أن يقتبس الثاني من تنكير الأول، ولا أن يقتبس الأول من علمية الثاني وحاله في المعرفة، وإنما تعرف بالإضافة إلى أي نوع كان من المعارف. والمضاف إليه في كل هذا كالآلة الداخلة على الاسم لمعنى، وهذا أغمض من الأول وأدخل في باب التحقيق، وبالله التوفيق. * * * مسألة (في تفسير المضمرات) اعلم أن الكلام صفة قائمة في نفس المتكلم يعبر للمخاطب عنه بلفظ أولحظ أو (بخط) ، ولولا المخاطب ما احتيج إلى التعبير عما في نفس المتكلم. فإذا تقدم في الكلام اسم ظاهر ثم أعيد ذكره (أومأ المتكلم إليه بأدنى لفظ. ولم يحتج إلى إعادة اسمه لتقدم ذكره) . فإذا أضمره في نفسه - أي: أخفاه - ودل المخاطب عليه بلفظة مصطلح عليها، سميت تلك اللفظة اسماً مضمراً، لأنها عبارة عن الاسم الذي أضمر استغناء عن لفظه الظاهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وإذا ثبت هذا فالمضمرات في كلام العرب نحو من ستين، (منها) منفصل يختص بالرفع نحو: أنا وأنت. ومنها متصل مختص بالرفع، ومنها ما يختص بالنصب متصلا ومنفصلًا. وأما ما يختص بالخفض فلا يكون إلا متصلاً بما قبله، لأن المخفوض كله نوع واحد ولا يكون إلا متصلًا بما قبله اتصال البعض بالكل. وكل ما ذكرناه معلوم، وإنما قصدنا كشف أسرار الباب والتنبيه من واضع اللغة في تخصيص ألفاظ المضمرات بما اختصت به، فنبدأ بضمير المتكلم المنفصل فنقول: إن المتكلم لما استغنى عن الظاهر في حال الإخبار، لدلالة المشاهدة عليه. جعل مكانه لفظاً يومئ به إليه، وذلك اللفظ مؤلف من " همزة " و " نون "، أما " الهمزة " فلأن مخرجها من الصدر، وهو أقرب مواضع الصوت إلى المتكلم إذ المتكلم في الحقيقة محله وراء حبل الوريد، ألا ترى إلى قوله سبحانه: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) . ألا تراه - تعالى - يقول: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ) يعني: ما يلفظ المتكلم فإذا كان المتكلم على الحقيقة محله هناك، وأردت من الحروف ما يكون عبارة عنه، فأولاها بذلك ما كان مخرجه من جهته وأقرب المواضع إلى محله، وليس إلا " الهمزة " أو " الهاء " والهمزة أحق بالمتكلم لقوتها بالجهر والشدة، وضعف الهاء بالخفاء، فكان ما هو أجهر وأقوى أولى بالتعبير عن اسم المتكلم الذي الكلام صفة له، وهو أحق بالاتصاف به وأما تآلفها مع " النون "، فلما كانت " الهمزة " بانفرادها لا تكون اسما منفصلًا، كان أولى ما وصلت به النون أو حروف المد واللين، إذ هي أمهات الزوائد، ولم تكن حروف المد مع " الهمزة "، لذهابها عند التقاء الساكنين إذا قلت: أنا الرجل، و: أنا الغلام، و: أنا المخبر، وهذا كثير من كلام فلو حذف الحرف الثاني لبقيت " الهمزة " في أكثر الكلام منفردة مع لام التعريف، فتلتبس بالألف التي هي أخت اللام، فيختل أكثر الكلام. فكان أولى ما قرن به النون لقربها من حروف المد واللين. ثم بينوا النون - لخفائها - بالف في حال السكت، أو بهاء في لغة من قال: إنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 ثم لما كان المخاطب مشاركاً للمتكلم في معنى الكلام، إذ الكلام مبدؤه من المتكلم ومنتهاه عند المخاطب، ولولا المخاطب ما كان كلام المتكلم لفظاً مسموعاً، ولا احتاج إلى التعبير عنه، فلما اشتركا في المقصود بالكلام وفائدئه، اشتركاً في اللفظ الدال على الاسم الظاهر، وهو الألف والنون، وفرق بين ضمير المخاطب وضمير المتكلم بالتاء خاصة فقالوا: أنت، وخصت " التاء " بذلك لثبوتها علامة الضمير المخاطب الفاعل في (فعلت) إلا إِنها هناك اسم، وفي " أنت " لا موضع لها من الإعراب. وأما ضمير المتكلم المخفوض فإنما كان " ياء "، لأن الاسم الظاهر لما ترك لفظه استغناء ولم يكن بد من علامة دالة عليه، كان أولى الحروف بذلك حرفاً من حروف الاسم المضمر؛ وذلك لا يمكن لاختلاف أسماء المتكلمين. وإنما أرادوا علامة تختص بكل متكلم في حال الخفض، والأسماء مختلفة الألفاظ متفقة في حال الإضافة إليها، في الكسرة التي هي علامة الخفض، إلا أن " الكسرة " لا تستقل بنفسها حتى تمكن فتكون ياء، فجعلوا الياء علامة لكل متكلم مخفوض، ثم شركوا النصب مع الخفض في علامة الإضمار، لاستوائهما في المعنى واتفاقهما في كثير من الكلام، إلا أنهم زادوا نوناً في ضمير المنصوب للعلة التي تقدم ذكرها في باب الفاعل. وأما ضمير المتكلمين المتصل، فعلامته واحدة في الرفع والنصب والخفض. تقول: فعلنا، و: هذا غلامنا، وسر ذلك ما قدمناه، وهو أنه لما تركوا الاسم الظاهر وأرادوا من الحروف ما يكون علامة للمخاطب عليه، أخذوا من الاسم الظاهر ما يشترك جميع المتكلمين فيه في حال الجمع والتثنية، وهي النون التي في آخر اللفظ، وهي موجودة في التثنية والجمع في حال الرفع والنصب والخفض، فجعلوها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 علامة للمتكلمين جمعاً كانوا أو اثنين في حال رفع ونصب وخفض، وزادوا بعدها ألفاً كيلا تشبه التنوين أو النون الخفيفة، ولحكمة أخرى وهي القرب من لفظ " أنا " لأنها ضمير المتكلمين، و " أنا " ضمير متكلم، فلم يسقط من لفظ " أنا " إلا الهمزة التي هي أصل في المتكلم الواحد. وأما جمع المتكلم وتثنيته ففرع طارئ على الأصل، فلم تكن فيه الهمزة التي تقدم اختصاصها بالمتكلم، حتى خصت به " أفعل " وخص المخاطب بالتاء في تفعل، للحكمة البديعة المذكورة في باب الأفعال، وفي هذا الفصل طرف منها. وأما ضمير المرفوع المتصل فتاء، وإنما خصت " التاء " به لأنهم حين أرادوا حرفاً يكون علامة على الاسم الظاهر المستغنى عن ذكره، كان أولى الحروف بذلك حرفا من الاسم، والاسم يختلف، فتارة يكون زيداً، وتارة يكون عمراً. أخذوا من الاسم ما لا تختلف الأسماء فيه في حال الرفع، وهي الضمة، والضمة لا تستقل بنفسها ما لم تكن واواً. ثم رأوا الواو لا يمكن تعاقب الحركات عليها لثقلها، وهم يحتاجون إلى الحركات في هذا الضمير فرقاً بين المتكلم، والمخاطب المؤنث. والمخاطب المذكر، فجعلوا " التاء " مكان الواو، لقربها من مخرجها، ولأنها قد تبدل منها في كثير من الكلام نحو: تراث، و: تخمة، فاشترك ضمير المتكلم والمخاطب في " التاء "، كما اشتركا في " الألف والنون " من " أنا " و " أنت " لأنهما شريكان في الكلام، لأن الكلام من حيث كان للمخاطب كان لفظاً، ومن حيث كان للمتكلم كان معنى قائماً بنفسه. ثم وقع الفرق بين ضميريهما بالحركة دون الحروف للحكمة المذكورة. وأما ضمير المخاطب في حال النصب والخفض فكاف، ولم يكن " ياء " لأن الياء قد اختص بها المتكلم في حال الخفض والنصب، فلو سكنت فيه الحركات أو وجد ما يقوم مقامها في البدل، كما كانت " التاء " مع " الواو "، لشرك المخاطب مع المتكلم في حال الخفض كما شرك معه في التاء في حال الرفع، فلما لم يكن ذلك، ولم يكن بد من حرف يكون علامة إضمار، كانت (الكاف) من بين سائر الحروف أحق بهذا الموطن، لأن المخاطبين، وإن اختلفت أسماؤهم الظاهرة، - فكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 واحد منهم مكلَّم ومقصود بالكلام الذي هو اللفظ، ومن أجله احتيج إلى التعبير بالألفاظ عن الكلام الذي في نفس المتكلم فجعلت (الكاف) المبدوء بها في لفظ (الكلام) علامة إضمار التكلم، ألا تراها لا تقع علامة إضمار له إلا بعد كلام كالفعل والفاعل نحو: ضربتك، لأن الفعل والفاعل كلام، والفعل وحده دون الفاعل لا يسمى كلاماً، فلذلك لم يكن علامة المضمر " كاف " إلا بعد كلام من فعل وفاعل، أو مبتدأ وخبر، نحو: ضربتك، و: هذا غلامك. ولم يقل في ذهبت: ذهبك، ولا في قصدت: قصدك، لأن " ذهب " ليس بكلام إلا بعد ذكر فاعلها كما تقدم. فإن قيل: فالمتكلم أيضاً " هو " صاحب الكلام، فهو أحق بأن تكون الكاف المأخوذة من لفظ الكلام علامة لاسمه؟ قلنا: الكاف لفظ فهي أحق بالمخاطب، لأن الكلام لم يكن لفظا إلا من أجله، ولولا المتكلم المخاطب ما احتيج إلى التعبير عن الكلام القائم بالنفس بعبارة ولا إشارة. فعمدة " الكلام " الذي هو اللفظ إنما هو التكلم المخاطب، فالكاف الذي هو جزء من لفظ الكلام أولى به. وأما ضمير الغائب المنفصل فـ " هاء " بعدها " واو " خصت " الهاء " بذلك، لأن الغائب لما كان مذكوراً بالقلب واستغنى عن اسمه الظاهر بتقدمه، كانت الهاء التي مخرجها من الصدر قريبا من محل الذكر، أولى بأن تكون عبارة عن المذكور بالقلب، ولم تكن " الهمزة " لأنها مجهورة شديدة، فكانت أولى بالمتكلم الذي هو أظهر، والهاء - لخفائها - أولى بالغائب، الذي هو أخفى وأبطن، ثم وصلت بالواو لأنه لفظ يرمز به إلى المخاطب، ليعلم ما في النفس من مذكور. والرمز بالشفتين، والواو مخرجها من هناك، فخصت بذلك. ثم طردوا أصلهم من ضمير الغائب المنفرد فجعلوه في جميع أحواله " هاء "، إلا في الرفع. وإنما فعلوا ذلك لأنهم رأوا الفرق بين الحالات واقعاً باختلاف الضمير، لأنه إذا دخلت عليه حروف الجر كسرت " الهاء " لضرورة اللفظ، وانقلبت واوه ياء. وإذا لم يدخل عليه بقي مضموماً على أصله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وإذا كان في الرفع لم يكن له علامة في اللفظ، لأن الاسم الظاهر قبل الفعل علم ظاهر يغني المخاطب عن علامة إضمار في الفعل، بخلاف المتكلم والمخاطب، لأنك تقول في الغائب: زيد قام، فتجد الاسم الذي يعود عليه الضمير موجوداً ظاهراً في اللفظ، ولا تقول في المتكلم: زيد قمت، ولا في المخاطب أن كان اسمه كذلك: زيد قمت - فلما اختلفت أحوال الضمير الغائب لسقوط علامته في الرفع، وتغير الهاء بدخول حروف الخفض، قام ذلك عندهم مقام علامات الإعراب في الظاهر، أو ما هو بمنزلتها في الضمير كالتاء المبدلة من الواو، والياء المنبئة عن الكسرة، والكاف المختصة بالمفعول والمجرور الواقعين بعد الكلام التام، ولا يقع بعد الكلام التام إلا منصوب أو مجرور، فكانت الكاف المأخذوة من لفظ الكلام علامة على المنصوب والمجرور إذا كان مكلماً مخاطباً. وأما " نحن " فهي ضمير منفصل للمتكلمين جماعة كانوا أو اثنين، وخصت بذلك لما لم يمكنهم التثنية والجمع في المتكلم المضمر، لأن حقيقة التثنية ضم شيء إلى مثله ذي اللفظ، والجمع ضم شيء إلى أكثر مما يماثله في اللفظ، فإذا قلت: زيدان، فمعناه: زيد وزيد، وإذا قلت: أنتما، فمعناه: أنت وأنت. وكذلك الزيدون أنتم والمتكلم لا يمكنه أن يأتي باسم مثنى أو مجموع في معناه، لأنه لا يمكن أن يقول: " أنا أنا " فيضم إلى نفسه مثله في اللفظ فلما عدم ذلك، ولم يكن بد من لفظ يشير إلى ذلك المعنى، وإن لم يكن هو في الحقيقة،، جاؤوا بكلمة تقع على الاثنين والجمع، لاشتراك التثنية والجمع في هذا الموطن، والجمع المعبر به عنهما. ثم كانت الكلمة نوناً في أولها ونوناً في آخرها، إشارة إلى الأصل المتقدم الذي لم يمكنهم الإتيان به، وهو تثنية " أنا "، التي هي بمنزلة عطف اللفظ على مثله. فإذا لم يمكنهم ذلك اللفظ مثنى، كانت النون المكررة تنبيهاً عليه وتلويحا إليه. وخصت النون بذلك دون الهمزة لما تقدم من السر البديع فىِ اختصاص ضمير الجمع بالنون، واختصاص ضمير المتكلم المنفرد بالهمزة، ثم جعلوا بين النونين " حاء " ساكنة لقربها من مخرج الألف الموجودة في ضمير المتكلم قبل النون وبعدها، ثم بنوها على الضم - دون الفتح والكسر - إشارة إلى أنه ضمير مرفوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 ويشهد لجميع ما قلناه في هذا الباب، من دلالة الحروف المقطعة على المعاني والرمز بها إليها، كثير من منظوم الكلام ومنثوره، كقول الراجز: قلت لها قفي فقالت قاف. وكقول الآخر لأخيه: ألاتا؟ فيقول له: ألافا. يريد: ألا فارتحل. وكقولهم: بالخَيْرِ خَيْراتٍ وإِنْ شَرًّا فآ ولا أُرِيدُ الشَّرَّ إلا أَنْ تَآ يريد: إن شراَ فشراً، ولا أريد الشر إلا أن تشاء. وكقولهم: أيش؟ يريدون: أي شيء؟ وكقولهم: م الله. يريدون: أيمن الله. ومن هذا الباب حروف التهجي من أوائل السور. وقد رأيت لابن فورك نحواً من هذا في اسم الله سبحانه، قال: الحكمة في وجود الألف في أوله أنها من أقصى مخارج الصوت قريبا من القلب الذي هو محل المعرفة إليه، ثم الهاء في آخره مخرجها من هناك أيضاً، لأن المبتدأ منه والمعاد إليه، والإعادة أهون من الابتداء، وكذلك لفظ الهاء أهون من لفظ الهمزة، هذا معنى كلامه. فلم نقل ما قلناه في المضمرات إلا اقتضاباً من أصول السلف، واستنباطاً من كلام اللغة، وبناء على قواعدها، وجرياً على طريقة علمائها. فتأمل هذه الأسرار بقلبك، والحظها بعين فكرك، ولا يذهلنك فيها نبو طباع أكثر الناس عنها، واشتغال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 العالمين بظاهر من الحياة الدنيا عن الفكر فيها، والتنبيه عليها، فإني لم أفحص عن هذه الأسرار، وخفي التعليل في الظواهر والإضمار، إلا قصداً للتفكر والاعتبار، في حكمة من خلق الإنسان وعلمه البيان، فإنه الخالق للعبارات، والمقدر للطائف والإشارات (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) ، (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، فمتى لاح لك من هذه الأسرار سر، وكشف لك عن مكنونها فكر، فاشكر الواهب للنعمى، (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) . * * * مسألة (في المبهمات) قوله: " والمبهم نحو: هذا وهذان ". تسميتهم هذه الأسماء المبهمة، مأخوذة من " أبهمت الباب "، إذا أغلقته. و" استبهم عليَّ الجواب "، أي: استغلق. وكذلك هذه الأسماء إنما وضعت في الأصل لما استبهم على المتكلم اسمه، أو أراد هو إبهامه على بعض المخاطبين دون بعض، فاكتفى بالإشارة إليه، أو كانت الإشارة إليه أبين من اسمه عند المخاطب. وإذا ثبث ما قلناه فالاسم في هذا الباب هو الذال واحدها دون الألف خلافاً لبعض البصريين، يدل على ذلك سقوطها بالتثنية وفي المؤنث إذا قلت: هذه، وتلك. وخصت الذال بهذا المعنى لأنها من طرف اللسان، والاسم المبهم مشارٌ إليه، فالمتكلم يشير نحوه بلحظه أو بيده، ويشير مع ذلك بلسانه، لأن الجوارحَ خَدَمُ القلب، فإذا ذهب القلب إلى الشيء ذهاباً معقولا ذهب الجوارح نحو ذلك الشيء ذهاباً محسوسا. والعمدة في الإشارة في هذا الموطن على اللسان، ولا يمكن إشارة اللسان إلا بحرف يكون مخرجه من عذبة اللسان، التي هي آلة الإشارة دون سائر أجزائه، فليس إلا الذال أو الثاء، فأما الثاء فمهموسة رخوة، فالمجهور أو الشديد من الحروف أولى منها للبيان، والذال مجهورة فخصه بالإشارة إلى المذكر، وخصت التاء بالإشارة إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 المؤنث للفرق بينهما، وكانت أولى بها لهمسها، ولأنها قد ثبتت علامة للتأنيث في غير هذا الباب. ثم بينوا حركة الذال بالألف، كما فعلوا في النون من " أنا "، وربما شركوا المؤنث مع المذكر في الذال واكتفوا، " بالكسرة " والياء فرقا بينهما. وربما اكتفوا بمجرد لفظ التاء في الفرق فقالوا: " هاتا هند ". وربما جمعوا بين لفظ التاء والكسرة، حرصاً على البيان فقالوا: هات. وأما في المؤنث الغائب فلا بد من لفظ التاء مع الكسر، لأنه أحوج إلى البيان، للدلالة على الحاضر، فتقول في الغائب: تيك، وربما زادوا اللام للتوكيد - كما زادوها في المذكر الغائب - فقالوا: تلك، إلا أنها ساكنة في المؤنث لئلا تجتمع الكسرات مع التاء، وذلك ثقيل عليهم ومرفوض في كلامهم. وكانت اللام أولى بهذا الموطن حين أرادوا الإشارة إلى البعيد، فكثروا الحروف حين كثرت مسافة الإشارة، وقللوها حين قلت، لأن اللام قد وجدت في كلامهم توكيداً، وهذا الموطن موطن توكيد، وقد وجدت بمعنى الإضافة للشيء، وهذا الموطن شبيه به، لأنك إذا أومأت إلى الغائب بالاسم المبهم، فأنت تشير إلى من تخاطب ومقبل عليه لينظر إلى من تشير، إما بالعين وإما بالقلب، ولذلك جئت بالكاف للخطاب فكأنك تقول له: لك أقول، أو: لك أرمز بهذا الاسم. ففي اللام طرف من هذا المعنى، كما كان ذلك في الكاف، وكما لم تكن الكاف هنا اسماً مضمراً، لم تكن اللام لام جر، وإنما في كل واحدة منهما طرف من المعنى دون جميعه فلذلك خلعوا من الكاف معنى الاسمية، وبقي فيها معنى الخطاب، واللام كذلك إنما اجتلبت لطرف من معناها الذي وضعت له في باب الإضافة. وأما دخول " ها " التي للتنبيه على هذه الأسماء، فلأن المخاطب يحتاج إلى تنبيه على الاسم الذي يشير به إليه، لأن للإشارة قرائن حال يحتاج إلى أن ينظر إليها، فالمتكلم كأنه آمر له بالالتفات إلى المشار إليه أو منبه له، فلذلك اختص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 هذا الموطن بالتنبيه، وقلما يتكلمون به في المبهم الغائب، لأن كاف الخطاب تغني عنها، مع أن المخاطب مأمور بالالتفات بلحظه إلى المبهم الحاضر، فكان التنبيه في أول الكلام أولى بهذا الموطن، لأنه بمنزلة الأمر الذي له صدر الكلام. وعندي أن حرف التنبيه بمنزلة حرف النداء وسائر حُروف المعاني لا يجوز أن تعمل معانهيا في الأحوال ولا في الظروف، كما لا يعمل معنى الاستفهام الذي في " هل " ومعنى النفي الذي في " ما ". ولا نعلم حرفاً يعمل معناه في الحال والظرف إلا كان وحدها، لحكمه تذكر في بابها إن شاء الله تعالى. فدع عنك ما شغبوا به في مسائل الحال في هذا الباب، من قولهم: هذا قائماً زيد، و: قائماً هذا زيد، فإنه لا يصح من ذلك إلا تأخير الحال عن الاسم الذي هو " ذا " لأن العامل فيها معنى الإشارة " دون " التثنية فلا يصح تقدمها والعامل معنوي. فإن قيل: ولم جاز أن يعمل فيها معنى الإشارة، ولم يجز أن يعمل فيها معنى التنبيه، وكلاهما معنى غير ملفوظ به؟ قلنا: معنى الإشارة تدل عليه قرائن الحال من الإيماء باللحظ واللفظ الخارج من طرف اللسان وهيئة المتكلم، فقامت تلك الدلالة مقام التصريح بلفظ الإشارة، لأن الدال على كلام النفس إما لفظ وإما إشارة وإما حق، فقد جرت الإشارة مجرى اللفظ، فلتعمل فيما عمل فيه اللفظ - وإن لم تقو قوته - في جميع أحكام العمل. وأصح من هذا كله عندي أن معنى الإشارة ليس هو العامل، إذ الاسم الذي هو " هذا " ليس بمشتق من أشار بشير، ولو جاز أن تعمل أسماء الإشارة لجاز أن تعمل علامات الإضمار لأنها أيضاً إيماء وإشارة إلى مذكور، وإنما العامل فعل مضمر تقديره: " انظر "، وأضمر لدلالة الحال عليه من التوجه واللفظ. وقد قالوا: " لمن الدار مفتوحا بابها " فاعملوا في الحال معنى " انظر "، ودل عليه التوجه إليه من المتكلم بوجهة نحوها، فكذلك: (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا) ، وهذا أقوى في الدلالة لاجتماع اللفظ مع التوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وإذا ثبث هذا فلا سبيل لتقديم الحال، لأن العامل المعنوي لا يعمل حتى يدل عليه الدليل اللفظي أو التوجه أو ما شاكله، والله المستعان. * * * مسألة (في العامل في النعت) (قوله) : " وإذا تقدم نعت النكرة عليها نصب على الحال ". تقدم في صدر هذا الفصل العامل في النعت، وفيه فولان: أحدهما: أن العامل في المنعوت هو العامل في النعت، وكان سيبويه إلى هذا ذهب حين منع أن يجمع بين نعتي الاسمين إذا اتفق إعرابهما واختلف العامل فيهما نحو: جاء زيد وهذا محمد العاقلان. وذهب قوم إلى أن العامل في النعت معنوي، وهو كونه في معنى الاسم المنعوت، فإنما ارتفع أو انتصب من حيث كان هو الأول في المعنى، لا من حيث كان الفعل عاملاً فيه، وكيف يعمل فيه وهو لا يدل عليه، إنما يدل على فاعل أو مفعول أو مصدر دلالة واحدة من جهة اللفظ، وأما الظروف فمن دليل آخر. وإلى هذا القول أذهب، وليس فيه نقص لما منعه سيبويه من الجمع بين نعتي الاسمين المتفقين في الإعراب إذا اختلف العامل فيهما، لأن العامل في النعت - وإن كان معنوياً - فلولا العامل في المنعوت لما صح رفع النعت ولا نصبه، فكان الفعل هو العامل في النعت، فامتنع اشتراك عاملين في معمول واحد، ولو لم يكونا عاملين فيه في الحقيقة، ولكنهما عاملان فيما هو هو في المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وإنما قوي عندنا هذا القول الثاني لوجوه، منها: امتناع تقديم النعت على المنعوت، ولو كان الفعل عاملاً فيه لما امتنع أن يليه معموله، كما يليه المفعول تارة والفاعل أخرى، وكما يليه الحال والظرف، ولا يصح أن يليه ما عمل فيه غيره. لو قلت: قام زيداً ضارب، (تريد: ضارب زيداً) ، أو: ضربت عمراً رجلًا ضارباً، تريد: ضربت رجلًا ضارباً عمراً لم يجز. فلا يلي العامل إلا ما عمل فيه، فلذلك لا يلي " كان " إلا ما علمت فيه. وكذلك خبر إن المرفوع ليس بمعمول لإن، وإنما هو على أصله في باب المبتدأ، ولولا ذلك لجاز أن يليها، وإنما وليها إذا كان مجروراً، لأنها ممنوعة من العمل فيه بدخول حرف الجر، مع أن المجرور رتبته التأخير، فلم يبالوا بتقديمه في اللفظ إذ كان موضعه التأخير، ولأن المجرور ليس هو بخبر على الحقيقة، وإنما هو متعلق بالخبر، والخبر منوي في موضعه، أعني بعد الاسم المنصوب (بإن) . فإن قيل: ولعل امتناع النعت من التقديم على المنعوت إنما هو من أجل الضمير الذي فيه والضمير حقه أن يترتب بعد الاسم الظاهر؟ قلنا: هذا ليس بمانع، لأن خبر المبتدأ حامل للضمير، ويجوز تقديمه، ورب مضمر يجوز تقديمه على الظاهر إذا كان موضعه التأخير. فإن قيل: ولعل امتناع تقديم النعت إنما وجب من أجل أنه تبيين للمنعوت وتكملة لفائدته، فصار كالصلة من الموصول؟ قلنا: هذا باطل، لأن الاسم المنعوت يستقل به الكلام ولا يفتقر إلى نعته افتقار الموصول إلى صلته ومما يبين لك أن الفعل العامل في الاسم لا يعمل في نعته، أن النعت صفة لمنعوت لازمة له قبل وجود الفعل وبعده، فلا تأثير للفعل فيه، ولا تسلط له عليه، وإنما التأثير فيه للاسم المنعوت، إذ بسببه يرتفع وينتصب وينخفض، وإن لم يجز أن تكون الأسماء عوامل في الحقيقة. وهذا بخلاف الحال، لأن الحال - وإن كان صفة كالنعت، وفيها ضمير يعود على الاسم كالنعت وضاحكا إذا كان حالاً من زيد، هو زيد في المعنى، كما يكون إذا كان نعتا كذلك - لكن الحال ليست بصفة لازمة للاسم كالنعت، وإنما هي صفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 الاسم في حين وجود الفعل (خاصة، فالفعل) إذاً أولى بها من الاسم، فعمل فيها دونه، فلما عمل فيها (الفعل) جاز تقديمها إليه، كقولك: جاء ضاحكاً زيد. وتقديمها عليه كقولك: ضاحكاً جاء زيد، وتأخرها بعد الفاعل كقولك: جاء زيد ضاحكاً، لأنها كالمفعول، لعمل الفعل فيها. والنعت بخلاف هذا كله، وسنبين فيما بعد - إن شاء الله تعالى - فصلًا عجيباً في أن الفعل لا يعمل بنفسه إلا بثلاثة أشياء: الفاعل، والمفعول به، والمفعول المطلق، أو ما هو صفة لأحد هذه الثلاثة في حين وقوع الفعل، ويخرج عن هذا الفصل الظرف من الزمان، والظرف من المكان، والنعوت، والأبدال، والتوكيدات. وجميع الأسماء المعمول فيها، وتقيم هنالك البرهان القاطع على صحة هذا المعنى، بعون الله تعالى. * * * فصل (في حكم الحال من النكرة) حق النكرة إذا جاءت بعدها الصفة أن تكون جارية عليها، ليتفق اللفظ، وأما نصب الصفة على الحال فيضعف عندهم لاختلاف اللفظ من غير ضرورة. هذا منتهى قول النحويين، وكان شيخنا أبو الحسين - رحمه الله تعالى - يريد هذا القول بالقياس والسماع. (أما) القياس فكما جاز أن يختلف المعنى في نعت المعرفة والحال منها إذا قلت: جاءني زيد الكاتب، وجاءني زيد كاتباً، وبينهما من الفرق في المعنى ما تراه. فما المانع من اختلاف المعنى كذلك في النكرة إذا قلت: مررت برجل كاتب، أو: برجل كاتباً؟ وإذا كان كذلك فلا بد من الحال إذا احنيج إليها. (وأما السماع) ففي الحديث: " صلى خلفه رجال قياماً ". وأما " وقع أمر فجأة " فليس بحال من " الأمر "، وإنما هو حال من " الوقوع " كما تقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أحسن من سقي ناقة، إنما هو حال مما دل عليه " سقي "، (وهو) المصدر. ومنه أقبل رجل مشياً، هو حال من الإقبال. وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. والذي قاله الشيخ صحيح، ولكن أكثر الكلام على ما قاله النحويون، إيثاراً لاتفاق اللفظ، ولتقارب ما بين المعنيين في النكرة، وتباعد ما بينهما في المعرفة، لأن الصفة في النكرة مجهولة عند المخاطب حالاً كانت أو نعتاً، وهي في الصرفة بخلاف ذلك، فتأمله تعرفه إن شاء الله تعالى. ولو كانت الحال من النكرة ممتنعة، وكان رديئاً في الكلام لعلة التنكير، لما اتفقت العرب على جعلها حالاً إذا كانت مقدمة على الاسم. كما أنشد سيبويه: لِمَيَّةَ مُوحِشاً طَلَلُ وتَحتَ العوالي والقنا مستكنة ... ظباء أعارتها العيونَ الجآذر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 فإن قيل: وما حمل سيبويه وغيره على أن يجعلوا (مُوحِشاً) حالاً من (طَلَلُ) . و" قائم " حالاً من رجل، إذا قلت: فيها قائماً رجل، وهو لا يقول بقول الأخفش: إن قولك: رجل وطللاً فاعل " بالاستقرار الذي تعلق به الجار؟ فلو قال بهذا القول عذرناه، ولكن الاسم النكرة عنده مبتدأ، وخبره في المجرور قبله، ولا بد في خبر المبتدأ من ضمير (يعود) على المبتدأ، تقدم الخبر أو تأخر، فلم لا تكون هذه الحال من ذلك الضمير ولا تكون من النكرة؟ ما الذي دعاهم إلى هذا؟ فالجواب: أن هذا السؤال يجب التقصي (عنه) والاعتناء به؟ فقد كع عنه أكثر الشارحين للكتاب، والمؤلفين في هذا الباب، بل ما رأيت أحداً منهم أشار فيه إلى (جواب) مقنع، وأما أكثرهم فلم يتنبه للسؤال، ولا تعرض إليه بحال. والذي أقوله - وبالله التوفيق -: أن هذه المسألة في النحو، بمنزلة مسائل الدور في الفقه، ونضرب منه مثالاً فنقول: رجل شهد مع آخر (في عبد) أنه حر، فعتق العبد وقبلت شهادته، ثم شهد ذلك الرجل مرة أخرى فأريد تَجريحُه، فشهد العبد المعتق فيه بالجرحة، فإن قبلت شهادته ثبتت جرحة الشاهد، (وإن ثبتت جرحة الشاهد) بطل عتق العبد، وإن بطل عتقُ العبد سقطت شهادته، وإن سقطت شهادته لم يصح جرحة الشاهد، واستدارت المسألة هكذا. وكل نوع يؤول إلى إسقاط أصله فهو أولى أن يسقط في نفسه. وكذلك مسألة هذا الفصل: فأنت إن جعلت الحال من قولك: فيها قائماً رجل، من الضمير، لم يصح تقدير المضمر إلا مع تقدير فعل يتضمنه، ولا يصح تقدير فعل بعده، مبتدأ، لأن معنى الابتداء يبطل ويصير المبتدأ فاعلاً، وإذا صار فاعلاً بطل أن يكون في الفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ضمير لتقدم الفعل على الفاعل، وإذا بطل وجود الضمير بطل وجود الحال منه، وهذا بديع في النظر. فإن قيل: إن المجرور ينوى به التأخير، لأن خبر المبتدأ (حقه) أن يكون مؤخراً. قيل: وإذا نويت به التأخير لم يصح وجود الحال مقدمة على المبتدأ، لأنها لا تتقدم على عاملها إذا كان معنوياً. فبطل كون الحال من شيء غير الاسم النكرة، الذي هو مبتدأ عنه سيبويه، وفاعل عند الأخفش. وهذا السؤال لا يلزم " الأخفش " على مذهبه، وإنما يلزم سيبويه ومن قال بقوله، ولولا الوحشةُ من مخالفة الإمام (أبي بشر) لنصرتُ قول الأخفش نصراً مؤزراً، وجلوت مذهبه في منصة التحقيق مفسراً! ولكن النفس إلى نصرة سيبويه أميل، والله الموفق للصواب، واليه المآب. وسيأتي في باب الابتداء من إقامة البرهان على بطلان قول الأخفش ما ينافي إشارتي ههنا إلى نصرته. * * * مسألة (في قطع النعت) (قوله) : " وإذا تكررت النعوت فإن شئت أتبعتها الأول ". جعل " أبو القاسم " تكرار النعوت شرطاً في جواز القطع من الأول، ولا يلزم هذا الشرط على الإطلاق ولكن الاسم إذا كان معروفاً عند المخاطب، ولم يقصد تمييزه من غيره، لم يكن النعت حينئذ من تمامه، وإنما يقصد به مدح أو ذم فلم يمتنع القطع من الأول، كما قال سيبويه: " سمعت العرب تقول: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ) فسألت يونس عنها، فزعم أنها عربية ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وأما إذا كان المنعوتُ غير متميز عند المخاطب إلا بنعته، فلا بدَّ حينئذ أن يكون تابعا للمنعوت، ثم يكون تكرارُ النعوت شرطاً في جواز القطع، كما قال أبو القاسم. وفائدةُ القطع من الأول أنهم أرادوا تجديد مدح أو ذم غير المذكور في أول الكلام، لأن تجدد لفظ غير الأول دليل على تجدد معنى، وكلما كثرت المعاني وتجدد المدحُ كان أبلغ. وقد رأيت هذا المعنى للفراء فاستحسنته. * * * مسألة (من عطف النعوت بعضها على بعض) قال: " وإن شئث عطفت بعض النعوت على بعض ". الأصل في باب العطف أن لا يعطف الشيء على نفسه، وإنما يعطف على غيره، وعلة ذلك أن حروف العطف بمنزلة تكرار العامل، وتكرار العامل يلزم معه تكرير المعمول. فإذا ثبت هذا ووجدت شيئاً معطوفاً على ما هو في معناه مثل قوله: " كذباً وزوراً " و " كذباً وميناً "، فما ذلك إلا لمعنى زائد خفي في اللفظ الثاني، أو لضرورة الشعر، فيشبه حينئذ تغاير اللفظين بتغاير المعنيين، فيعطف أحدهما على الآخر، كما فعل بأشياء أضيف فيها الشيء إلى نفسه لتغاير اللفظين. وقد تقدم شرح ذلك في أوائل الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وإذا كان الأمر كذلك بعد كل (البعد) أن تقول: جاءني محمد وأبو عبد الله. وهو هو، أو: " رضي الله عن عتيق وأبي بكر " (وقد علم أن أبا بكر هو عتيق، لأنك عطفت الشيء على نفسه، و " الواو " إنما تجمع بين الشيئين لا بين الشيء الواحد، فإن كان في الاسم الثاني فائدة زائدة على معنى الاسم الأول، كنت مخيراً بين العطف وتركه، فإن عطفت فمن حيث قصدت تعداد الصفات، وهي متغايرة، وإن لم تعطف فمن حيث كان في كل واحد منها ضمير هو الأول، فتقول في الوجه الأول: زيد شاعر وكاتب، وعلى الثاني: شاعر كاتب. كأنك عطفت بالواو الكتابة على الشعر، وحين لم تعطف أتبعت الثاني الأول، لأنه هو، من حيث اتحد الحامل للصفات. فأما في كتاب الله - تعالى - فقلما تجد أسماءه الحسنى معطوفة بالواو، نحو: (الرحمن الرحيم) و (العزيز الحكيم) و (الملك القدوس) ، إلى آخرها. لأنها أسماء له - سبحانه -، والمسمى بها واحد، فلم تجر مجرى تعداد الصفات المتغايرة ولكن مجرى الأسماء المترادفة، نحو: الأسد والليث، وغير ذلك. فأما فوله سبحانه: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) ، فلأنها ألفاظ متضادة المعاني في أصل موضوعها، فكان دخول " الواو " صرفاً لوهم المخاطب - قبل التفكر والنظر - وعن توهم المحال، واجتماع الأضداد من المحال، لأن الشيء لا يكون ظاهراً باطناً من وجه واحد، وإنما يكون ذلك من وجهين مختلفين، فكان العطف ههنا أحسن من تركه، لهذه الحكمة الظاهرة، بخلاف ما تقدم مما لا يستحيل اجتماعه من الصفات في محل واحد. وأما قوله سبحانه وتعالى: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ) فإنما حسن العطف بين الاسمين الأولين لكونهما من صفات الأفعال. وفعله - سبحانه - في غيره لا في نفسه، فدخل حرف العطف للمغايرة الصحيحة بين المعنيين، ولتنزلهما منزلة الجملتين، لأنه - سبحانه - يريد تنبيه العباد على أنه يفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ هذا. ويفعل هذا، ليرجوه ويؤملوه. ثم قال: (شَدِيدِ الْعِقَابِ) بغير واو، لأن الشدة راجعة إلى معنى القوة والقدرة وهو معنى خارج عن صفات الفعل، فصار بمنزلة ما تقدم من قوله: (الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) . وكذلك قوله: (ذِي الطَّوْلِ) ، لأن لفظ (ذي) عبارة عن ذاته - سبحانه - فصح جيمع ما أصَّلْناه، والحمد لله. وفي هذه الآية تصديق لقوله - عليه الصلاة والسلام - " إنَّ الله - تعالى - كتب كتاباً هو عنده فوق عرشه، فيه: إن رحمتي غلبت غضبي ". وذلك أن في أولها: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ، وعلمه محيط بما فوق العرش وما دونه. ثم قال: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ) ، فهاتان صفتان من صفة الرحمة. ثم قال: (شَدِيدِ الْعِقَابِ) فهذه صفة واحدة، وقد سبقتهما صفتان من صفات الرحمة، واثنتان تغلب واحدة، وهما سابقتان لها في الذكر، فصحت رواية من روى: " سبقت "، ورواية من روى " غلبت غضبي ". والله يجيرنا من غضبه ويتغمدنا برحمته وكرمه، لا ربَّ غيره. * * * مسألة قالت الخرنق بنت هفان: هذا الاسم يقال فيه: " الخرنق "، بالألف واللام، والقياس سقوطها، لأنه اسم علم، والعلم إذا نقل من الأجناس لم تدخله الألف واللام وفي حال العلمية، كمرأة تسمى " مزنة " أو رجل يسمى " كعباً "، أو " قرداً "، أو " فيلاً ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 فإن كان منقولاً من الصفة كالحارث والعباس، جاز إدخال الألف واللام فيه، لأن الألف واللام تدل على المعنى المعهود فيما دخلت عليه، وهم يريدون الإشارة إلى ثبوت هذه الصفة في المسمى، ولا يريدون الإشارة إلى معنى الأرنب والقرد، ونحوهما في المسمى بذلك. وإنما هي علامة وضعت للشخص ولفظه، ولا يراد بها إلا ميزة عن غيره، كما قال " بيهس "، الملقب بنعامة حين سخر النعمان بن منذر منه، واستقبح اسم نعامة، فقال: أبيت اللعن، إن الاسم علامةُ وليس بكرامة، ولو كان حسن الاسم شرفاً للمسمى لاشترك الناس في اسم واحد "، فكانت هذه من حكمه المأثورة. فإذا ثبت هذا فالقياس أن لا يقال: الخرنق - بالألف واللام - في الاسم العلم، إلا أن له وجهاً يخرج عليه، وهو أن يراد وصف المرأة باللين وملاسة الجلد، أو غير ذلك من الصفات الموجودة في الخرنق، فيدخل الاسم معنى الصفة المنقولة إلى العلمية، فيدخله الألف واللام، كما قالوا: الرباب، والرباب منقولة من الأجناس لأنه السحاب، ولكنه مشتق من رببت الشيء أربه، فكأنه يرب النبات بماثة ويصلحه، ثم سموا المرأة رباباً، فتارة يدخلون الألف واللام، كأنهم يريدون معنى الصفة، وتارة يجرون الاسم مجرى المنقول من الأجناس، كما قال: علق القلب ربابا ومما يقوي دخول معنى الصفة في " الخرنق " ونحوه ما حكاه سيبويه من قولهم: مررت بسرج خز صفته، وبرجل أسد أبوه، فإذا كانوا قد أجروا الخز مجرى النعت في إعرابه، لموضع اللين الذي فيه، وهو اسم جنس، فلا يبعد أن يشار إلى ذلك المعنى في الأسماء المنقولة إلى العلمية، وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 مسألة قوله: لا يبعدن قومي يسأل ههنا عن علامة الرفع في الفاعل الذي هو قومي فيقال: أمعرب هو أم مبني؟ ومحال أن يكون مبنياً، لأنه لا علة فيه توجب البناء، ولأنه متمكن بالإضافة، وإذا كان معرباً فأين (حرف) الإعراب؟ أهو الياء أم الميم؟ ومحال أن يكون الياء حرف إعراب، لأنه الاسم المضاف إليه، وليست من الاسم المضاف في شيء. فلم يبق إلا أن تكون " الميم " من " قومي " هي حرف الإعراب، وإذا كان كذلك فأين علامة الإعراب في حال الرفع والنصب؟ والجواب: أن الضمة التي هي علامة الرفع في الفاعل هي " واو " قصيرة الصوتِ، كما تقدم، و " الواو " تنقلب " ياء " عند مجاورة الباء، فتقول: هؤلاء مسلمي. فالواو - وهي علامة الرفع - قد انقلبت بالمجاورة ياء، فكذلك الضمة إذا قلت: مسلم، تنقلب كسرة إذ أضفته إلى نفسك، كما انقلبت الواو في الجمع المسلم حين أضفت إلى نفسك. وإذا كان الواو - وهي أقوى من الحركة - تنقلب ياء في هذا الموطن، فما ظنك بالحركة وهي أضعف منها؟ فالكسرة الموجودة في اللفظ إذا قلت: قومي، عين الضمة التي قبل الإضافة، كما كانت الياء الأولى من قولك: مسلمي، هي الواو بعينها التي كانت في قولك: مسلمون، قبل الإضافة. وأما في حال الخفض، فالكسرة التي هي علامة الخفض ممتزجة بصوت الياء إذا كانت الياء ساكنة، وباقية على حالها إذا كانت الياء متحركة، فاستوى اللفظ في حال الرفع والخفض إذا قلت: قومي، أو: غلامي، كما استوى في الجمع إذا قلت: هؤلاء مسلمون، مررت بمسلمي. وأما الفتحة فقد غلب عليها صوت الياء، فاستوت مع الكسرة، وإذا كان الواو من " خاف " يغلبون عليها صوت الكثرة في حال الإمالة، حتى يكون اللفظ بها كاللفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 بباع إذا أميلت فما ظنك بالفتحة التي هي حركة، والحركة أضعف من الحروف، ولا سيما والفتحة أضعف الحركات؟ فاستوى لفظ علامات الإعراب في هذا الباب، لما ذكرناه من العلل والأسباب. * * * مسألة قوله: سم العداة. .. السم - بالفتح -: عندي مصدر " سممته سما "، إذا أطعمته السم، كما تقول: زبدته زبداً "، إذا أطعمته بالزبد. وأما الزبد فهو الاسم. فإذا فتحت السين فالعداة مخفوض في موضع نصب، لأنه المفعول في المعنى، وإذا ضممت " السين " فلا موضع له إلا الإضافة المحضة. ورواية من رواه بفتح السين أحصن للغة وأصح في المدح، لأنك تجعل العداة مفعولين بهذا المصدر، فإذا ضممت " السين " فالسم اسم، فترجع إضافته إضافة ملك واستحقاق لا على نحو إضافة المصدر إلى المفعول، فيكون كقولك: رماح العداة، أو: سلاح العداة، فيكون كالكلام المحتمل للمدح وغيره. وإذا كان مصدراً كان فى معنى الفعل، تريد أنهم يسمون العداة، أي: يقتلونهم. ولا بد من المجاز في كل هذا، فمجاز الكلام إذا جعلته مصدراً حذف المضاف، كأنك قلت: ذوو سم العداة، وإذا جعلته اسماً، فمجازه التشبيه، أي: إنهم بمنزلة السم. وقد تخرج رواية الضم على وجه، وهو أن السم لا يكون إلا قاتلاً، ولا يراد إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ليقتل به، وليس كالرماح والسلاح لاختلاف المنافع والأغراض، فصار معنى الكلام: إنهم قاتلو العداة. وعبر بالسم عن هذا المعنى. ورواية الفتح أبين بصحيح الكلام. وأما قوله: وآفة الجزر فمجازه أيضاً التشبيه، جعلهم بمنزلة الآفة للجزر. والآفة اسم ليس بمصدر عندي، لأنه على وزن " فعلة "، كالعظمة والحدبة وغير ذلك، وإن كان قد وجد في المصادر هذا المثال، كالعجلة والحركة. ولكن لما لم نجد منه فعلاً ولا اسم فاعل، حكمنا بأنه اسم غير مصدر. فإن قيل: فقد قالوا: " رجل مؤوف ": إذا كانت به آفة؟ قلنا: باب " مؤوف "، كباب " محموم " و " مجنون "، والحمى ليست بمصدر. وكذلك " الجان، و " الجنة ". ولكن العرب قد تجعل ما فيه الشيء بمنزلة المفعول. وما له الشيء بمنزلة الفاعل وإن لم يكن له فعل، كقولهم: فيمن له رمح: رامح، وفيمن له نبل نابل، وفيما فيه الحمى: محموم. ومكان مضبوب ومسبوع، من الضباب والسباع. ومنه طعام مسوس ومدود إذا وقع فيه السوس والدود. على أنه قد يقال: ساس الطعام وداد، وسوس ودود، فهو مسوس ومدود. ولكن الأول مقول أيضاً. فثبت من هذا أن " الجزر " مخفوض بالإضافة، وليس له موضع إلا الخفض بخلاف " العداة " إذا فتحت السين من " سم ". وأما " العداة " فجمع " عاد "، كما تقول: " دُعاة " في جمع " داع ". وأما " أعداد " فجمع " عدا "، كما تقول: " أضلاع، في جمع " ضلع ". وأما " عداً " فليس له واحد من لفظه، وإنما هو اسم للجمع كقوم ورهط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وأما " عدو " فيقع للواحد والاثنين والجمع، لأنه - والله أعلم - بمنزلة ما جرى من المصادر على فعول: كالولوع والقبول، فلذلك لم يثن ولم يجمع، قال الله سبحانه: (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ) . وقد يجوز أيضاً أن يكون أعداء (جمعاً) لعدو، على تقدير حذف الحرف لا الزائد، فيكون كالثلاثي المجموع على أفعال، يقوي ذلك أنهم قد قالوا في المؤنث: " عَدوَّة الله ". ولو كان مصدراً ما ساغ فيه ذلك، والوجهان متكافئان في القياس والنظر، وبالله التوفيق. وأما " الجزر " فيجمع " جزوراً " وهي فعول بمعنى مفعول. وقد كان قياسه أن يكون بهاء التأنيث كالحلوبة والركوبة، ولكنهم جعلوه اسماً مخصوصاً بالإبل دون غيرها، فضعف الاعتماد على الفعل، الذي هو الجزر، وسار الاسم الذي لا ضمير فيه، فلم تدخله تاء التأنيث، إذ لا يؤظط في الصفات إلا ضمائرها، ولا في الأفعال إلا فاعلوها. وسيأتي بيان ذلك. وقد مَرَّ منه أصل في باب الفاعل والمفعول. فإن قيل: ما الحكمة في ثخصيص " النازلين " بالنصب على الإضمار، ورفع " الطيبين "؟ وهل ذلك لمعنى؟ أو الحكم فيهما سواء؟ فالجواب: أن القطع في " النازلين " بنصبه على الإضمار أولى، والرفع في " الطيبين " أولى من النصب، لأن معه واو العطف، فصار في حكلم المعطوف على " سم العداة " و " آفة الجزر "، وليس في " النازلين " واو تشركه مع ما قبله في الرفع، فكان أولى بالنصب ومخالفة الإعراب. فإن قيل: فهلا أدخل الواو على " النازلين " دون " الطيبين "، أو أدخلها عليهما معا؟ فالجواب: أن " واو " العطف وضعت لتعطف الشيء على غيره، لا لتعطف الشيء على نفسه، فإذا تغايرت معاني الصفات حسن العطف، كقولك: الكاتب والشاعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وإذا تقاربت معانيها قبح العطف، كقولك: الخطيب الفصيح. وههنا " النازلين " في معنى سم العداة، لأنهما في معنى الشجاعة. وأما " الطيبون " ففي معنى الصفات، وهو مخالف بمعنى الشجاعة والسخاء. فدخلت " الواو " للعطف كما دخل في قوله: " وآفة الجزر " عطفاً على " سم العداة " لتغاير الصفات. والله - سبحانه وتعالى - أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 (باب العطف) العامل في المعطوف مضمر يدل عليه حرف العطف، وهو في معنى العامل في الاسم الأول وكأنك إذا قلت: قام زيد وعمرو، قلت: قام زيد وقام عمرو، وأغنت الواو عن إعادة الفعل، وإنما قلنا ذلك للقياس والسماع. أما القياس فإنه ما بعد حرف العطف لا يعمل فيه ما قبله، ولا يتعلق به إلا في باب المفعول معه، لعلة تذكر هناك. ووجه آخر، وهو: أن النعت هو المنعوت في المعنى، وليس بينه وبين المنعوت واسطة، ومع ذلك فلا يعمل فيه ما يعمل في المنعوت في أصح القولين، فكيف بالمعطوف الذي هو غير المعطوف عليه. وبينهما واسطة وهو الحرف؟ وأما ما يدل على إضمار العامل من السماع، فقول الأنماري: بل بني النجار إن لنا ... فيهم قتلى وإن تره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 أرادة قتلى وترة، ثم أظهر " إن "، فدل على ما قلناه. وهذا الأصل مستتب في جميع حروف العطف إلا في " الواو " الجامعة، وهي التي تعطف الاسم على اسم لا يصح انفراده، كقولك: اختصم زيد وعمرو، وجلست بين زيد وعمرو، فإن " الواو " ها هنا تجمع بين الاسمين في العامل، فكأنك قلت: اختصم هذان، واجتمع الرجلان، إذا قلت: اجتمع زيد وعمرو. ومعرفة هذه الواو أصل ينبني عليه فروع كثيرة، منها أنك تقول: رأيت الذي قام زيد وأخوه، على أن تكون " الواو " جامعة، وإن كانت عاطفة لم يجز، لأن التقدير: قام زيد وقام أخوه، فخلت الصلة من عائد يعود على الموصول. ومنه قوله سبحانه: (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) . غلب المذكر على المؤنث لاجتماعهما، ولو قلت: طلع الشمس والقمر، يقبح ذلك، إلا أن تريد الواو الجامعة، وأما فى الآية فلا بد أن تكون جامعة، لأن لفظ " جمع " يدلُّ عليها. * * * (فصل) وأما " الفاء " فهي موضوعة للتعقيب، وقد تكون للتسبيب والترتيب، وهما راجعان إلى معنى التعقيب، لأن الثاني بعدهما أبداً إنما يجيء في عقب الأول. والتسبيب نحو: " ضربتُه فبكى "، والترتيب مثل قوله سبحانه وتعالى: (أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا) ، دخلت الفاء لترتيب اللفظ، لأن الهلاك يجب تقديمه في الذكر، لأن الاهتمام به أولى، وإن كان مجيء البأس قبله في الوجود. ومثله: إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد بعد ذلك جده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 دخلت " ثم " لترتيب الكلام، لا لترتيب المعنى في الوجود. وأما قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) . فالفاء على أصلها من التعقيب، وإن كانت الاستعاذة قبل القراءة، إلا أن العرب تخبر بالفعل عن ابتدائه تارة، وتعبر به عن انتهائه والفراغ منه أخرى، فعلى هذا يكون معنى (قرأت) في الآية: أي شرعت في القراءة. وأخذت في أسبابها. ونحو منه ما جاء في الحديث من قوله: " فصلى الصبح حين طلع الفجر " يريد ابتداء الصلاة. وأما قوله: ثم صلاها من الغد بعد أن أسفر يريد الفراغ منها. وحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في إِمامة جبريل: صلى الظهر حين زالت الشمس، معناه ابتداء الصلاة. وأما قوله: (وصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله) فيحتمل أن يكون عبر بالفعل عن ابتدائه، أو عن الفراغ منه. ومن ههنا نشأ الخلاف بين الفقهاء في دخول الظهر على العصر، والعصر على الظهر. * * * مسألة وأما " حتى " فموضوعة للدلالة على أن ما بعدها غاية لما قبلها، وغاية كل شيء حده، ولذلك كان لفظها كلفظ الحد: " حاء " قبل تاءين. والحد: حاء قبل دالين، والدال كالتاء في خرجها وشدتها، لا تفارقها إلا في الجهر، فكانت لقوة الجهر أولى بالمعنى القوي وهو الاسم والفعل. و" حتى " حرف معناه في غيره لا في نفسه بخلاف الاسم، ومن حيث كانت " حتى " للغاية خفضوا بها كما يخفضون بـ (إلى) التي لانتهاء الغاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 والفرق بينهما أن " حتى " غاية لما قبلها وهو منه، وما بعد (إلى) ليس مما قبلها، بل عنده انتهى ما قبل الحرف، ولذلك فارقتها في أكثر أحكامها. ولم تكن " إلى " عاطفة لانقطاع ما بعدها عما قبلها، بخلاف " حتى ". ومن حيث دخلت " حتى " في حروف العطف، لم يجز دخولها على المضمر المخفوض إذا كانت خافضة، لا تقول: قام القوم حتاك، كما لا تقول: قام القوم وك. ومن حيث كان ما بعدها غاية لما قبلها لم يجز في العطف: قام زيد حتى عمرو، ولا: أكلت خبزاً حتى تمراً، لأن الثاني ليس بحد للأول ولا طرف. * * * مسألة أو: وضعت للدلالة على أحد الشيئين المذكورين معها، ولذلك وقعت في الخبر المشكوك فيه، من حيث كان الشك تردداً بين أمرين من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، لا أنها وُضِعت للشك، فقد تكون في الخبر ولا شك فيه إذا أبهمتَ على المخاطب ولم تقصد أن تبين له. كقوله سبحانه: إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) . أي: إنهم من الكثرة بحيث يقال فيهم: هم مائة ألف أو يزيدون. فـ (أَوْ) على بابها دال على أحد الشيئين، إما مائة ألف بمجردها. وأما مائة ألف مع زيادة، والمخبر في كل هذا لا يشك. وقوله تعالى: (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) . ذهب الزجاج في هذه، والتي في قوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) . إلى أنها (أَوْ) التي للإباحة، أي: فقد أبيح للمخاطبين، أن يُشَبَّهوا بهذا أو هذا. وعندي أن (أَوْ) لم توضع للإباحة في شيء من الكلام، ولكنها على بابها. أما قوله تعالى: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) فإنه ذكر مثلين مضروبين للمنافقين في حالتين مختلفتين، فهم لا يخلون من (إحدى) الحالتين، فـ (أَوْ) على بابها من الدلالة على أحد المعنيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وهذا كما تقول: " زيد لا يخلوا أن يكون في الدار أو في المسجد "، ذكرت (أَوْ) لأنك أردت أحد الشيئين. وتأمل الآية مع ما قبلها في التفسير تجدها كما ذكرت لك. وأما قوله تعالى: (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) . فإنه ذكر قلوباً ولم يذكر قلباً واحداً، فهي على الجملة قاسية، وعلى التعيين: إما كالحجارة، ففيها ما هو كذلك. وإما أشد قسوة ففيها ما هو كذلك أيضاً. ومثل هذا قول ابن عُلْيَة: فقالوا لنا ثنتان لا بد منهما أي: لا بد منهما على الجملة: ثم قال: صدور رماح أشرعت أو سلاسل يريد في حق كل منهم على التعيين، لا بد له من هذا أو من هذا. وأما في الجملة فالأمران واقعان جميعاً. وقد يجوز في قوله عز وجل: (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) أن يكون مثل قوله: (مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) . وأما أو التي للتخيير فعلى أصلها، لأن المخبر إنما يريد أحد الشيئين. وأما (أَوْ) التي زعموا أنها للإباحة نحو: جالس الحسن أو ابن سيرين، فلم توجد الإباحة من لفظ (أَوْ) ولا من معناها، وإنما أخذَتْ من صيغة الأمر مع قرائن الأحوال. و (أَوْ) غير معتمدة في هذا الكلام، وإنما دخلت لغلب العادة في أن المشتغل بالفعل الواحد لا يشتغل بغيره، وأن المجالس للحسن أو ابن سيرين غير جامع بينهما معاً، ألا ترى أن المأمور بهذا لو جمع بين الشيئين المباحين لم يكن عاصياً، علماً بأن (أَوْ) ليست ههنا معتمدة. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 مسألة وأما " لَكِنَّ " فأصح القولين فيها: أنها مركبة من " لا " و " إنَّ ". و" الكاف ". و " الكاف " التي هي للخطاب - في قول الكوفيين - ما أراها إلا كاف التشبيه، لأن المعنى يدل عليها إِذا قلت: ذهب زيد لكنَّ عمراً مقيم، تريد: لا كفعل عمرو. فلا لتوكيد النفي عن الأول، وإن لإيجاب الفعل الثاني، وهو المنفي عن الأول، لأنك ذكرت الذهاب الذي هو ضده فدل على انتفائه. فلا تقع " لَكِنَّ " إلا بين كلامين متنافيين، فلذلك تركبت من " لا " و " الكاف و" إن "، إلا أنهم لما حذفوا " الهمزة " المكسورة، كسروا الكاف إِشعاراً بها. ولا بد بعدها من جملة إذا كان الكلام قبلها موجباً، شَدَّدْتَ نونها أو خَفَّفْت، فإذا كان ما قبلها منفياً اكتفيت بالاسم المفرد بعدها إذا خففت النون منها، لعلم المخاطب أنه لا يضاد النفي إلا الإيجاب، فلما اكتفت باسم مفرد - وكانت إذا خففت نونها لا تعمل - صارت كحروف العطف، فألحقوها بها، لأنهم حين استغنوا عن خبرها بما تقدم من الدلالة، كان إجراء ما بعدها على ما قبلها أولى وأحرى، ليتفق اللفظ كما اتفق المعنى. فإن قيل: أليس مضادة النفي للوجوب بمثابة مضادة الوجوب للنفي، وهي في كل حال لا تقع إلا بين كلامين متضادين، فلم قالوا: ما قام زيد لكن عمرو، اكتفاء بدلالة النفي على نقيضه وهو الوجوب، ولم يقولوا: قام زيد لكن عمرو اكتفاء بدلالة الوجوب على نقيضه وهو النفي؟ فالجواب: أن الفعل الموجب قد يكون له معان تضاده وتناقض وجوده، كالعلم فإنه يناقض وجوده الظن والشك والغفلة والموت، وأخص أضداده به الجهل، فلو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 قلت: قد علمت الخبر لكن زيد، لم يدر ما تضيف إلى زيد، أظن أم شك أم غفلة أم جهل؟ فلم يكن بُدٌّ من جملة قائمة بنفسها ليعلم ما تريد، فإذا تقدم النفي نحو قولك: ما علمت الخبر لكن زيد، اكتفىِ باسم واحد، لعلم المخاطب أنه لا يضاد نفي العلم إلا وجوده، لأن النفي يشتمل على جميع الأضداد المنافية للعلم. * * * (فصل) فإن قيل: ولم إذاً خففت " لكن " وجب إلغاؤها، بخلاف " إن " و " أن " و" كأن " فإنه يجوز فيها الوجهان مع التخفيف، كما قال: كأنه ظبية تعطو إلى وارق السلم؟ قلنا: زعم الفارسي أن القياس فيهن كلهن الإلغاء إذا خففن، ولذلك ألزموا " لَكِن " إذا خففت الإلغاء، تنبيها على أن ذلك هو الأصل في جميع الباب. وهذا القول مع ما يلزم عليه من الضعف والوهن ينكسر عليه بأخواتها، فيقال له: فلم خصت " لكن " بذلك دون " إن " و " أن " و " كأن "؟ ولا جواب له على هذا. وإنما الجواب في ذلك إنما لما كانت مركبة من " لا " و " إن " ثم حذفت الهمزة اكتفاء بكسر (الكاف) ، بقي عمل (إن) لبقاء العلة الموجبة للعمل، وهى فتح آخرها، وبذلك ضارعت الفعل، فلما حذفت النون المفتوحة وقد ذهبت الهمزة للتركيب، ولم يبق إلا النون الساكنة - وجب إبطال حكم العمل بذهاب طرفيها وارتفاع علة المضارعة للفعل، بخلاف أخواتها إذا خففن، فإن معظم لفظها باق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 فجاز أن يبقى حكمها، على أن الأستاذ أبا القاسم بن الزماك - رحمه الله تعالى - قد أفادني رواية عن (يونس) أنه حكى الإعمال في (لكن) مع تخفيفها. وكان أبو القاسم - رحمه الله - يستغرب هذه الرواية، ورأيته حين ذكرني بها متعجباً منها، وكان إماماً في هذه الصناعة رحمه الله تعالى. * * * فصل (في دخول الواو على لكن) واعلم أن " لكن " لا تكون حرف عطف مع دخول (الواو) عليها، لأنه لا يجتمع حرفان من حروف العطف، فمتى رأيت حرفا من حروف العطف مع الواو، فالواو هي العاطفة دونه، فمن ذلك " إما " إذا قلت: إما زيد وإما عمرو. وكذلك " لا " إذا قلت: ما قام زيد ولا عمرو ودخلت " لا " لتوكيد النفي. وكذلك لا لتوكيد النفي، ولئلا يتوهم أن " الواو " جامعة، وأنت نفيت قيامها في وقت واحد. * * * فصل (في لا العاطفة) ولا تكون " لا " عاطفة إلا بعد إيجاب، وشرط آخر، وهو: أن يكون الكلام قبلها يتضمن مفهوم الخطاب نفي الفعل عما بعدها، كقولك: جاءني رجل لا امرأة، ورجل عالم لا جاهل. ولو قلت: مررت برجل لا زيد، لم يجز، وكذلك: مررت برجل لا عاقل، لأنه ليس في مفهوم الكلام ما ينفي الفعل عن الثاني، وهى لا تدخل إلا لتوكيد نفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 فإن أردت ذلك المعنى جئت بلفظ (غير) فتقول: مررت برجل غير زيد. وبرجل غير عالم، ولا تقول: برجل غير امرأة، ولا بطويل غير قصير، لأن في مفهوم " الخطاب " ما يغنيك عن معنى النفي الذي في " غير "، وذلك المعنى الذي دَلَّ عليه المفهوم حين قلت: بطويل لا قصير. وأما إذا كانا اسمين مُعَرفين نحو: مررت بزيد لا عمرو، فجائز هنا دخول (غير) لجمود الاسم العلم، وأنه ليس له مفهوم خطاب عند الأصوليين إلا (الضيْرَفي) من الشافعية، بخلاف الأسماء المشتقة وما جرى مجراها كرجل، فإنه بمنزلة قولك " ذكر "، ولذلك دَلَّ بمفهومه على انتفاء الخبر عن المرأة، ويجوز أيضاً: مررت بزيد لا عمرو، لأنه اسم مخصوص بشخص فكأنك حين خصصته بالذكر، نفيت المرور عن عمرو، ثم أكدت ذلك النفي بلا. أما الكلام المنفي فلا يعطف عليه بلا، لأن نفيك الفعل عن " زيد " إذا قلت: ما قام زيد، لا يفهم منه نفيه عن " عمرو "، فيؤكد بلا. فإن قلت: أُؤكد بها النفي المتقدم. قيل لك: وأي شيء يكون حينئذ إعراب " عمرو "، وهو اسم مفرد، ولم يدخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 عليه عاطفٌ بعطفه على ما قبله؟ فهذا لا يجوز إلا أن تجعله مبتدأ وتأتي له بخبر، فتقول: مما قام زيد لا عمرو وهو القائم، وأما أن أردت تشريكهما في النفي فلا بد من الواو، إما وحدها وإما مع " لا "، ولا تكون " الواو " عاطفة ومعها " لا " إلا بعد نفي. وأما قوله سبحانه وتعالى: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) . فإن معنى النفي موجود في " غير ". فإن قيل: فهلا قلت: " لا المغضوب عليهم ولا الضالين؟. فالجواب: أن في ذكر (غَيْرِ) بيان الفضيلة للذين أنعم الله عليهم، وتخصيصاً لنفي صفة الغضب والضلال عنهم، وأنهم الذين أنعم الله عليهم بالنبوة والهدى دون غيرهم. ولو قال: " ولا المغضوب عليهم " لم يكن ذلك إلا تأكيد نفي إضافة الصراط إلى المغضوب عليهم، كما تقول: هذا غلام زيد لا عمرو، أكدت نفي الإضافة عن عمرو، بخلاف قولك: هذا غلام الفقيه غير الفاسق ولا الخبيث، فإنك جمعت بين إضافة الغلام إلى الفقيه دون غيره، وبين نفي الصفة المذمومة عن الفقيه، فافهمه. فإن قيل: وأي شيء أكدت " لا " حين أدخلت عليها الواو، وقد قلت: إنها لا تؤكد النفي المتقدم، وإنما تؤكد نفياً يدل عليه اختصاص الفعل الواجب بوصف ما، كقولك: جاءني عالم لا جاهل؟ فالجواب: أنك حين قلت: ما جاءني زيد، لم يدل الكلام على نفي المجيء عن " عمرو " كما تقدم، فلما عطف بالواو دل الكلام على انتفاء الفعل عن عمرو، كما انتفى عن الأول، لمقام الواو مقام تكرار حرف النفي، فدخلت لا لتأكيد النفي عن الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 مسألة (في أم العاطفة) قوله وأما أم فلا يعطف بها إلا بعد استفهام. هو كما قال، إذا أردت المعادلة بين أمرين متساويين، إما على جهة الاستفهام وإما على جهة التقرير أو التوبيخ، ثم قد تكون أم إضراباً ولكن ليس بمنزلة بل كما زعم بعضهم، ولكن إذا مضى كلامك على اليقين ثم أدركت الشك مثل قولهم: " إنها لإبل. أم شاء؟ " أضرب عن اليقين ورجع إلى الاستفهام حين أدركه الشك. ونظيره قول الزباء حين تكلمت بعسى،، ثم أدركها اليقين فقالت: " عسى الغوير " وهي متوقعة شراً، ثم غلب على ظنها الشر فختمت الكلام بحكم ما غلب على ظنها لا بحكم عسى، لأن عسى لا يكون خبرها اسماً غير حدث، فكأنها قالت: " صار الغويرا بؤسا ". وهذه أم التي هي مشوبة المعنى بالإضراب والاستفهام، ولا ينبغي أن تكون في القرآن، وإن كانت فعلى جهة التقرير، نحو قوله (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي. . .؟) . وأحسب جميع ما وقع منها في القرآن إنما هو على أصلها الأول من المعادلة. وإن لم يكن قبلها ألف استفهام، نحو قوله: (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ) و (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ. . .؟) . لأن القرآن كله مبني على تقريع الجاحدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وتبكيت المعاندين، وهو كله كلام واحد، كأنه معطوف بعضه على بعض، فإذا وجدت أم وليس قبلها استفهام في اللفظ، فهو متضمن في المعنى معلوم بقوة الكلام، كأنه يقول: أتقولون كذا، أم تقولون كذا؟ و: أبلغك كذا أم حسبت أن الأمر كذا؟ ونظيره ما يتكرر في القرآن من قوله سبحانه: (وإذ قلنا) و (إذ فرقنا) . بواو العطف من غير ذكر عامل يعمل في " إذ "، لأن الكلام في معرض تعداد النعم وتكرار الأقاصيص، فيشير بالواو العاطفة إليها، كأنها مذكورة في اللفظ، لعلم المخاطب بالمراد. ومن هذا الباب الواو المتضمنة لمعنى (رب) ، فإنك تجدها في أول الكلام كثيراً إشارة منهم إلى تعداد المذكور قبلها، من فخر أو مدح أو غير ذلك. فهذه كلها معان مضمرة في النفس، وهذه الحروف عاطفة عليها، وربما صرحت العرب بذلك المضمر، كقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: (دع ما حاك في نفسك، وإن أفتوك عنه وأفتوك. .) . ولذلك حذف كثير من الجوابات في القرآن لدلالة الواو عليها، لعلم المخاطب أن الواو عاطفة، ولا يعطف بها إلا على شيء، كقوله تعالى: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ) . وكقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) . وهو كثير مما يحذف فيه الجواب، وعطف بالواو على المحذوف. ومن المسألة الأولى قوله تعالى: (مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ) ليس على معنى بل، ولكن عطفاً على الاستفهام المتضمن في الكلام، كأنه يقول: أحضر أم كان من الغائبين؟ ألا تراه يقول: (مَا لِيَ) كالمستفهم عن نفسه. إن كان حاضراً فمالي لا أراه؟ ولولا هذا التقدير والإضمار لقال: ما للهدهد لا أراه؟ ولم يقل: لا أرى الهدهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 مسألة (في حذف حرف العطف) لا يجوز إضمار حروف العطف، خلافاً للفارسي ومن قال بقوله، لأن الحروف أدلة على معان في نفس المتكلم، فلو أضمرت لاحتاج المخاطب إلى وحي يسفر به عما في نفس مُكلِّمه وحكم حروف العطف في هذا حكم حروف النفي والتوكيد والتمني والترجي وغير ذلك، اللهم إلا أن حروف الاستفهام قد يسوغ إضمارها في بعض المواطن، لأن للمستفهم هيئة تخالف هيئة المخبر، إلا أنهم احتجوا لمذهبهم بآي من كتاب الله تعالى، وأشياء من كلام العرب هي عند التأمل والتحصيل حجة عليهم، كقول الشاعر: كيف أصبحت كيف أمسيت ... مما يثبت الود في فُؤاد الكريم هو عندهم على إضمار حرف العطف، ولو كان كذلك لانحصر إثبات الود في هاتين الكلمتين من غير مواظبة ولا استمرار عليهما. ولم يرد الشاعر ذلك، وإنما أراد أن يجعل أول الكلام ترجمة على سائره. يريد الاستمرار على هذا الكلام والمواظبة عليه، كما تقول: قرأت ألفاً باء، جعلت ذكر هذين الحرفين ترجمةً لسائر الباب وعنواناً للغرض المقصود. ولو قلت: قرأت ألفاً وباء، لأشعرت بانقضاء المقروء حيث عطفت الباء على الألف دونما بعدها، فكان مفهوم الخطاب أنك لم تقرأ غير هذين الحرفين. ألا ترى كيف أشعرت الواو العاطفة في قوله سبحانه: (وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، على انقضاء العدد المتنازع فيه. وما مثلوا به من قولهم: " اضرب زيداً عمراً خالداً "، ليس كما ظنوه من إضمار الواو ولو كان كذلك لاختص الأمر بالمذكورين، وإنما المراد الإشارة بهم إلى ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 بعدهم ومنه قولهم: " بَوَّبتُ الكتاب باباً باباً " و" قَسَمت المالَ درهماً درهماً "، ليس على إضمار حرف العطف، ولو كان كذلك لانحصر الأمر في " درهمين وبابين " وأما ما احتجوا به من قوله سبحانه: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ) . فليس على معنى الواو كما توهموه. ولكن جواب إذا في قوله: قلت: لا أجد، وقوله تعالى: (تولوا وأعينهم) إخبار عنهم وثناء عليهم، لأنها نزلت في قوم مخصوصين، وهم سبعة ذكرهم ابن إسحاق وغيره، والكلام غير محتاج إلى العطف بالواو، لأنه مرتبط بما قبله كالتفسير له. وبلغني عن بعض أشياخنا الجلَّة أنه جعل من هذا الباب قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: " لا يَغُرنك هذه التي أعجبك حسنها حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها ". وقال: المعنى: حسنها وحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها. وبلغ الاستحسان بالسامعين لهذا القول إلى أن علقوه في الحواشي من كتاب الصحيح للبخاري، رحمه الله تعالى وليس الأمر كذلك، ولكن الحبَّ بدلٌ من قوله (هذه) بدل اشتمال في موضع رفع.* * * مسألة (في أن " الواو " لا تدل على الترتيب ولا التعقيب) تقول: صمت رمضان وشعبان، وإن شئت: شعبان ورمضان. بخلاف الفاء وثم إلا أنهم يقدمون في كلامهم ما هم به أهم، وهو ببيانه أعنى، وإن كانا جميعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 يهمانهم ويعنيانهم. هذا لفظ سيبويه، وهو كلام مجمل يحتاج إلى بسط وتبيين. فيقال: متى يكون أحد الشيئين أحق بالتقديم ويكون المتكلم ببيانه أعنى؟ والجواب: أن هذا أصل يجب الاعتناء به، لعظم منفعته في كتاب الله تعالى. وحديث رسوله - صلى الله عليه وسلم - إذ لا بد من الوقوف على الحكمة في تقديم ما قدم في القرآن وتأخير ما أخر، كنحو: (السمع والبصر) . و (الظلمات والنور) ، و (الليل والنهار) و (الجن والإنس) في أكثر الآي. وفي بعضها: (الإنس والجن) وتقديم السماء على الأرض في الذكر، وتقديم الأرض عليها في بعض الآي ونحو قوله تعالى: (سميع عليم) ، ولم يجئ: (عليم سميع) ، وكذلك: (عزيز حكيم) ، و (غفور رحيم) ، وفي آية أخرى: (الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) إلى غير ذلك مما لا يكاد ينحصر، وليس شيء من ذلك يخلو عن فائدة وحكمة، لأنه كلام الحكيم الخبير. وسنقدم بين يدي الخوض في هذا الغرض أصلًا يقف بك على الأصح. ويرشدك بعون الله إلى الطريق الأوضح، فنقول: ما تقدم من الكلام فتقديمه في اللسان على حسب تقدم المعاني في الجنان. والمعاني تتقدم بأحد خمسة أشياء: إما بالزمان، وإما بالطبع، وإما بالرتبة، وإما بالسبب وإما بالفضل والكمال. فإذا سبق معنى من المعاني إلى الخلد والفكر بأحد هي الأسباب الخمسة، أو بأكثرها سبق اللفظ الدال على ذلك المعنى السابق، وكان ترتيب الألفاظ بحسب ذلك. نعم، وربما كان ترتيب الألفاظ بحسب الخفة والثقل لا بحسب المعنى. كقوله: (ربيعة ومضر) وكان تقديم مضر أولى من جهة الفضل، ولكنهم آثروا الخفة، لأنك لو قدمت (مضر) في اللفظ كثرت الحركات وتوالت، فلما أخرت وقف عليها بالسكون. قلت: ومن هذا النحو " الجن والإنس "، فإن الإنس أخف لفظاً لمكان النون، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الخفيفة والسين المهموسة، فكان (تقديم) الأثقل أولى بأول الكلام من الأخف لنشاط المتكلم وجماحه. وأما في القرآن فلحكمة أخرى سوى هذه قدم الجن على الإنس في الأكثر والأغلب. وسنشير إليها في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى. وأما ما تقدم بتقدم الزمان فكـ (عاد وثمود) ، و (الظلمات والنور) . فإن الظلمة سابقة للنور في المحسوس والمعقول، وتقدمها في المحسوس معلوم بالخبر المنقول، وتقدم الظلمة المعقولة معلوم بضرورة العقل. قال سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) . وانتفاء العلم ظلمة معقولة، وهي متقدمة بالزمان على نور الإدراكات، ولذلك قال سبحانه ونعالى: (فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ) ، فهي ثلاث محسوسات: ظلمة الرحم، وظلمة البطن، وظلمة المشيمة، وثلاث معقولات وهي: عدم الإدراكات الثلاثة المذكورة في الآية المتقدمة، إذ لكل آية ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع، قال علي رضي الله عنه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله خلق عباده في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره ". ومن المتقدم بالطبع نحو: (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) ، ونحوه: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) الآية. وما يتقدم من الأعداد بعضها على بعض إنما يتقدم بالطبع كتقدم الحيوان على الإنسان، والجسم على الحيوان. ومن هذا الباب تقدم العزيز على الحكيم، لأنه عزَّ فلما عزَّ حكم. وربما كان هذا من تقدم السبب على المسبب، ومثله كثير في القرآن والكلام، نحو قوله: (يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) ، لأن التوبة سبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 الطهارة، وكذلك: (كل أفاك أثيم) ، لأن الإفك سبب الإثم. وكذلك: (كل معتد أثيم) . وأما تقدم (هَمَّازٍ) على (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) فبالرتبة، لأن المشي مترتب على القعود في المكان، والهَمَّازٍ هو: المغتاب، وذلك لا يفتقر إلى حركة وانتقال من موضعه، بخلاف النميمة. وأما تقدم (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) على (مُعْتَدٍ) فبالرتبة أيضاً، لأن المناع يمنع خير نفسه، والمعتدي يعتدي على غيره، ونفسه في الرتبة قبل غبره. ومن المقدم بالرتبة قوله تعالى: (يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) ، لأن الذي يأتي رجالًا يأتي من المكان القريب، والذي يأتي على الضامر يأتي من المكان البعيد، على أنه قد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: " وددت أني حججت راجلًا) ، لأن الله قدم الرجالة على الركبان في القرآن. فجعله ابن عباس رضي الله عنهما من تقديم الفاضل على المفضول، والمعنيان موجودان، وربما قدم الشيء لثلاثة معاني وأربعة وخمسة، وربما قدم لمعنى واحد من الخمسة. ومما قدم للفضل والشرف قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) وقوله تعالى: (مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) . ومنه تقديم " السمع " على " البصر "، (وتقديم (سميع) على (بصير) . ومنه تقديم (الجن) على (الإنس) في أكثر المواضع، لأن الجن يشتمل على الملائكة (وغيرهم) مما اجتن على الأبصار، قال الله سبحانه وتعالى: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا) . وقال الأعشى: وسَخَّرَ من جِنِّ الملائِكِ تِسعةً ... قِياماً لَدَيْهِ يَعْمَلونَ بلا أَجْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وأما قوله تعالى: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ) . وقوله تعالى: (لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) . وقوله: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) . فإن لفظ الجن هاهنا لا يتناول الملائكة بحال، لنزاهتهم عن العيوب، وأنهم لا يتوهم عليهم الكذب ولا سائر الذنوب. فلما لم يتناولهم عموم لفظ الجن، لهذه القرينة، بدأ بلفظ الإنس لفضلهم وكمالهم. وأما تقديم " السماء " على " الأرض " فبالرتبة أيضاً وبالفضل والشرف. وأما تقديم (الأرض) من قوله تعالى: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) فبالرتبة، لأنها منتظمة بذكر ما هي أقرب إليه، وهم المخاطبون بقوله تعالى: (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) . فاقتضى حسن النظم تقديمها مرتبة في الذكر مع المخاطبين الذين هم أهلها، بخلاف الآية التي في " سبأ "، فإنها منتظمة بقوله تعالى: (عَالِمِ الْغَيْبِ) . وأما تقديم المال على الولد في كثير من الآي، فلأن الولد بعد وجود المال نعمة ومسرة، وعند الفقر وسوء الحال هم ومضرة، فهذا من تقديم السبب على المسبب، لأن المال سبب تمام النعمة بالولد. وأما قوله تعالى: (حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ) . فتقديم النساء على البنين بالسبب، وتقديم البنين على الأموال بالرتبة. ومما قدم بالرتبة ذكر بالسمع والعلم من قوله تعالى: (سميع عليم) ، حيث وقع، فإنه خبر يتضمن التخويف والتهديد، فبدأ بالسمع لتعلقه بما قرب كالأصوات وهمس الحركات، فإن من يسمع حسك وخفي صوتك أقرب إليك - في العادة - ممن يقال لك: إنه يعلم، وإن كان علم الباري - سبحانه - متعلقا بما ظهر وبطن، وواقعاً على ما قرب وشطن، ولكن ذى السميع أوقع في باب التخويف من ذلك العليم. فهو أولى بالتقديم. وأما تقديم (الغفور) على (الرحيم) فهو أولى بالطبع، لأن المغفرة سلامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 والرحمة غنيمة، والسلامة مطلوبة قبل الغنيمة، ألا ترى لقوله عليه السلام لعمرو بن العاص - رضي الله عنه -: " أبعثُك وجهاً يسلمك الله تعالى ويغنمك، وأرغب لك رغبة من المال ". فهذا من الترتيب البديع، بدأ بالسلامة قبل الغنيمة، وبالغنيمة قبل الكسب، والعطية الأولى من التقدم بالطبع، والثانية من التقدم بالسبب. وأما قوله: (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) في (سبأ) ، فالرحمة هناك متقدمة على المغفرة، إما بالفضل والكمال، وإما بالطبع، لأنها منتظمة بذكر أوصاف الخلق من المكلفين وغيرهم من الحيوان، فالرحمة تشمهلم والمغفرة تخصهم، والعموم بالطبع قبل الخصوص كقوله تعالى: (فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) . وكقوله تعالى: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) . افتتح بالعموم، الذي هو متقدم بالطبع على الخصوص. ومما قدم للفضل قوله: (اسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) ، لأن السجود أفضل، قال عليه السلام: " أقرب ما يكون العبد إلى الله إذا كان ساجداً ". فإن قيل: فالركوع قبل السجود بالزمان والطبع والعادة لأنه انتقال من علو إلى انخفاض والعلو بالطبع قبل الانخفاض فهلا قدم في الذكر على السجود لهاتين العلتين؟ فالجواب أن يقال لهذا السائل: انتبه لمعنى هذه الآية من قوله: (ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) ، ولم يقل: اسجدي مع الساجدين، فإنما عبر بالسجود عن الصلاة كلها، وأراد صلاتها في بيتها، لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل لها من صلاتها مع قومها. ثم قال لها: (ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) ، أي: صلي مع المصلين في بيت المقدس، ولم يرد أيضاً الركوع وحده دون سائر أجزاء الصلاة، ولكنه عبر بالركوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 عن الصلاة كلها، كما تقول: ركعت ركعتين وركعت أربع ركعات، إنما تريد الصلاة لا الركوع بمجرده، فصارت الآية متضمنة لصلاتين: صلاتها وحدها، عبر عنها بالسجود، لأن السجود أفضل حالات العبد، وكذلك صلاة المرأة في بيتها أفضل لها، ثم صلاتها في المسجد عبر عنها بالركوع، لأنه في الفضل دون السجود، وكذلك صلاتها مع المصلين دون صلاتها وحدها في بيتها ومحرابها، وهذا نظم بديع وفقه دقيق، وبالله التوفيق. وهذه نبذ تشير لك إلى ما وراء، أو تنبذن وأنت صحيح بالعراء، إن شاء الله تعالى. ومما يليق ذكره بهذا الباب ما تضمنه قوله تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) من الحكم الباهرة، والفوائد الباطنة والظاهرة، فإنه تعالى بداً بالطائفين للرتبة والقرب من البيت المأمور بتطهيره من أجل الطوافين، وجمعهم جمع السلامة، لأن جمع السلامة أدلُّ على لفظ الفعل الذي هو علة يتعلق بها حكم التطهير، ولو قال مكان الطائفين: الطواف، لم يكن في هذا اللفظ من بيان قصد الفعل ما في قوله: (الطائفين) . ألا ترى أنك تقول: يطوفون، كما تقول: طائفون، فاللفظ مضارع للفظ. فإن قيل: فهلا أتي بلفظ الفعل بعينه فيكون أبين، فيقول: طهر بيتي للذين يطوفون؟. فالجواب: أن الحكم معلل بالفعل لا بذوات الأشخاص. ولفظ (الذين) ينبئ عن الشخص والذات، ولفظ " الطواف " يخفي معنى الفعل ولا يبينه، فكان لفظ (الطائفين) أولى بهذا الموطن. ثم يليه في الترتيب (القائمين) ، لأنه في معنى العاكفين، وهو في معنى قوله تعالى: (إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) ، أي: مثابراً ملازماً، وهو كالطائفين في تعلق حكم التطهير به، ثم يليه بالرتبة لفظ الركع، لأن المستقبلين البيت بالركوع لا يختصون بما قرب منه كالطائفين والعاكفين، ولذلك لم يتعلق حكم النطهير بهذا الفعل الذي هو الركوع، وأنه لا يلزم أن يكون في البيت ولا عنده، فلذلك لم يجئ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 بلفظ الجمع المسلم، إذ لا يحتاج فيه إلى بيان لفظ الفعل كما احتيج فيما قبله. ثم وصف الركع بالسجود، ولم يعطف بالواو كما عطف ما قبله، لأن الركع هم السجود، والشيء لا يعطف بالواو على نفسه، ولفائدة أخرى، وهو أن " السجود " في الأغلب عبارة عن المصدر، والمراد به هاهنا الجمع، فلو عطفت بالواو لتوهم أنه يريد السجود الذي هو المصدر دون الاسم الذي هو النعت. وفائدة ثالثة، وهو أن الراكع إن لم يسجد فليس براكع في حكم الشريعة، فلو عطفت بالواو لتوهم أن الركوع حكم يجري على حياله. فإن قيل: فلم قال: (السجود) على وزن فعول، ولم يقل السُّجَّد كما قال الرُّكَّع، وكما قال في آية أخرى: (رُكَّعًا سُجَّدًا) ؟ وما الحكمة في جمع ساجد على سجود، ولم يجمع راكع على ركوع؟ فالجواب: أن السجود - في أصل موضوعه - عبارة عن الفعل، وهو في معنى الخشوع والخضوع، وهو يتناول السجود الظاهر والباطن، ولو قال: " السُّجَّد " جمع ساجد لم يتناول إلى المعنى الظاهر. وكذلك الرُّكَّع، ألا تراه يقول: (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) : يعني رؤية العين، وهي لا تتعلق إلا بالظاهر، والمقصود هاهنا الركوع الظاهر لعطفه على ما قبله مما يراد به قصد البيت، والبيت لا يتوجه إليه إلا بالعمل الظاهر، وأما الخشوع والخضوع الدي يتناوله لفظ الركوع، دون لفظ الركع فليس مشروطاً بالتوجه إلى البيت. وأما السجود فمن حيث أنبأ عن المعنى الباطن، جعل وصفاً للركع ومتمماً لمعناه، إذ لا يصح الركوع الظاهر إلا بالسجود الباطن، ومن حيث تناول لفظه أيضاً السجود الظاهر الذي يشترط فيه التوجه إلى البيت، حسن انتظامه أيضاً بما قبله، مما هو معطوف على الطائفين الدين ذكرهم بذكر البيت، فمن لحظ هذه المعاني بقلبه، وتدبر هذا النظم البديع بلُبِّه، ترفع في معرفة الإعجاز عن التقليد، وأبصر بعين اليقين أنه تنزيل من حكيم حميد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 مسألة من باب التوكيد قوله: " الأسماء التي يؤكد بها المذكر: كله، ونفسه، وعينه " إلى آخر الفصل. الكلام في كل في ثلاثة فصول: في كونه توكيداً، وفي كونه مبتدأ مضافاً، وفي كونه مفرداً عن الإضافة مخبراً عنه، والأصل من هذه الثلاثة أن يكون توكيداً لجملة أو ما هو في حكم الجملة مما يتيقن، لأن موضوعه الإحاطة من حيث كان لفظه مأخوذاً من لفظ الإكليل والكلة، والكلالة، مما هو في معنى الإحاطة بالشيء. وهو اسم واحد في لفظه جمع في معناه، أو لم يكن معناه معنى الجمع لما جاز أن يؤكد به الجمع، لأن التوكيد تكرار للمؤكد فلا يكون إلا مثله، إن كان جمعا فجمع، وإن كان واحداً فواحد. وأما كونه مضافاً غير توكيد فحقه أن يكون مضافاً إلى اسم منكور شائع في الجنس من حيث اقتضى الإحاطة، فإن أضفته إلى جملة معرفة كقولك: كل إخوتك ذاهب، قبح إلا في الابتداء، لأنه إذا كان مبتدأ في هذا الموطن كان خبره بلفظ الإفراد، تنبيها على أن أصله أن يضاف إلى نكرة، لأن النكرة شائعة في الجنس. وهو إنما يطلب جنسا يحيط به (فكأنما تقول) : كل واحد من إخوتك ذاهباً. فيدل إفراد الخبر على المعنى الذي هو الأصل، وهو إضافة إلى اسم مفرد نكرة. فإن لم تجعله مبتدأ وأضفته إلى جملة معرفة، كقولك: رأيت كل إخوتك. وضربت كل القوم لم يكن في الحسن بمنزلة ما قبله، لأنك لم تضفه إلى جنس، ولا معك في الكلام خبر مفرد يدل على معنى إضافته إلى جنس كما كان في قولهم: كلهم ذاهب، وكل القوم عاقل، فإن أضفته إلى جنس معرف بالألف واللام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 كقوله عز وجل: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) حسن ذلك، لأن الألف واللام للجنس لا للعهد ولو كانت للعهد لقبح، كقولك: خذ من كل الثمرات التي عندك والتي من شأنها كذا، لأنها إذا كانت جملة معرفة معهودة، وأردت معنى الإحاطة فيها، فالأحسن أن تأتي بالكلام على أصله، فتؤكد المعرفة بـ كل، فتقول: خذ من الثمرات كلها، لأنك لم تضطر إلى إخراجها عن التوكيد، كما اضطررت في النكرة حين قلت: " لقيت كل رجل "، لأن النكرة لا تؤكد، وهي أيضاً شائعة في الجنس كما تقدم. فإن قيل: فإذا استوى الأمران في قوله: كل من كل الثمرات، وكل من الثمرات كلها، فما الحكمة في اختصاص أحد الجائزين بأن يكون من نظم القرآن دون الآخر؟ قلنا: لو كان هذا السؤال من كلام غير هذا الكلام العزيز لم يحفل به، لأن الفصيح يتكلم بما شاء من الوجوه الجائزات ولا اعتراض عليه، ولكن الكلام الإلهي والنظم المعجز الخارق للعادات يقتضي حكمة ومزيد فائدة في اختصاص أحد الوجهين دون الآخر. أما قوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) فمن هاهنا لبيان الجنس لا للتبعيض والمجرور في موضع المفعول لا في موضع الظرف، إنما يريد الثمرات بأنفسها، لا أنه أخرج منها شيئا، وأدخل من لبيان الجنس كله. ولو قال: أخرجنا به (من) الثمرات كلها، لقيل؟ أي شيء أخرج منها؟ وذهب الوهم إلى أن المجرور في موضع ظرف، وأن مفعول أخرجنا فيما بعد، ولم يتوهم ذلك مع تقديم كل، لعلم المخاطبين أن كلا إذا تقدمت تقتضي الإحاطة بالجنس، وإذا تأخرت - وكانت - توكيداً - اقتضت الإحاطة بالمؤكد خاصة، جنساً شائعاً كان أو معهوداً معروفا. وأما قوله عز وجل: (كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) . ولم يقل: من الثمرات كلها، ففيها الحكمة التي في الآية قبلها. ومزيد فائدة وهو أنه قد تقدمت في النظم قوله: (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ) ، لأن الألف واللام إنما تردك إلى المعهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 عندك، أو المتقدم في الخطاب، فكان الابتداء بـ كل أحصن للمعنى، وأجمع للجنس، وأرفع للبس، وأبدع في النظم المعجز لذوي الألباب. والله الموفق للصواب. وأما الفصل الثالث، وهو أن تكون مقطوعة عن الإضافة مفردة مخبراً عنها. فحقها أن تكون ابتداء، ويكون خبرها جمعاً، ولا بد من مذكورين قبلها، لأنها إن لم يذكر قبلها جملة، ولا أضيفت إلى جملة، بطل معنى الإحاطة فيها، ولم يعقل لها معنى. وإنما وجب أن يكون خبرها جمعاً لأنها اسم في معنى الجمع، فتقول: كل ذاهبوان إذا تقدم ذكر قوم، لأنك معتمد في المعنى عليهم، وإن كنت مخبراً عن كل فصارت بمنزلة قولك: الرهط ذاهبوان والنفر منطلقون. لأن الرهط والنفر اسمان مفردان، ولكنهما في معنى الجمع. والشاهد لما قلناه قوله سبحانه وتعالى: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) ، و (كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) ، (وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ) . فإن كانت مضافة إلى ما بعدها في اللفظ، لم تجد خبرها إلا مفرداً، للحكمة التى قدمناها قبل، وهي أن الأصل إضافتها إلى النكرة المفردة، فتقول: " كل إخوتك ذاهب " أي: كل واحد منهم ذاهب، ولم يلزم ذلك حين قطعتها عن الإضافة فقلت: كلهم ذاهبون لأن اعتمادها إذا أفردت على المذكورين قبلها، وعلى ما في معناها من معنى الجمع، واعتمادها إذا أضفتها على الاسم المفرد، إما لفظاً وإما تقديراً، كقوله عليه الصلاة والسلام " كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته ". ولم يقل: " راعون " ولا " مسؤولون "، وكقوله: " أحسنوا الملأ، كلكم سيروي " وكقول عمر - رضي الله عنه -: " أو كُل الناس يجد ثياباً ". ولم يقل: " يجدون " ومثله قوله سبحانه وتعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) ولم يقل: فانون، كما قال عز وجل: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) وقوله تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) . إلى غير ذلك من الشواهد التي يغني عن غايتها الشاهد. فإن قيل: فقد ورد في القرآن موضعان أفرد فيها الخبر عن " كل "، وهي غيم مضافة إلى شيء بعدها، وهما قوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) و (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) ، ولم يقل: كذبوا؟. فالجواب: أنه في هاتين الآيتين قرينة تقتضي تخصيص المعنى بهذا اللفظ دون غيره أما قوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) فلأن قبلها ذكر فريقين مختلفين، وذكر مؤمنين وظالمين، فلو قال: " كل يعملون " وجمعهم في الإخبار عنهم لبطل معنى الاختلاف، فكان لفظ الإفراد أدل على المراد، كان يقول: " كل فريق يعمل على شاكلته ". وأما قوله تعالى: (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) ، فلأنه ذكر قروناً وأمماً، وختم ذكرهم بذكر قوم تُبَّع، فلو قال: كل كذبوا، و (كُلٌّ) إذا أفردت إنما تعتمد على أقرب المذكورين إليها، فكان يذهب الوهم إلى أن الإخبار عن قوم تبع خاصة، أنهم كذبوا الرسل، فلما قال: (كُلٌّ كَذَّبَ) علم أنه يريد كل قرن منهم كذب، لأن إفراد الخبر عن (كُلٌّ) حيث وقع إنما يدل على هذا المعنى كما تقدم، ومثله قوله تعالى: (كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ) . وأما قولنا في: (كُلّ) إذا كانت مقطوعة عن الإضافة فحقها أن تكون مبتدأة فإنما تريد أنها مبتدأة مخبر عنها، أو مبتدأة منصوبة بفعل بعدها لا قبلها، أو مجرورة يتعلق خافضها بما بعدها، كقولك: كلًّا ضربت، وبكل مررت، قال الشاعر: كلًّا بلوت فلا النعماء تبطرني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وقال الخثعمي: بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خير من البعد ويقبح تقديم الفعل العامل فيها إذا كانت منفردة، كقولك: ضربت كلا. ومررت بكل من أجل أن يقطعها عن المذكورين قبلها في اللفظ، لأن العامل اللفظي له صدر الكلام، وإذا قطعتها عما قبلها في اللفظ لم يكن لها شيء تعتمد عليه قبلها ولا بعدها، قبح ذلك. وأما إذا كان العامل معنوياً نحو: كل ذاهبون، فليس بقاطع لها عما قبلها من المذكورين، لأنه لا وجود له في اللفظ، فإذا قلت: ضربت (زيداً) وعمراً وخالداً، وشتمت كلاً، أو ضربت كلًّا، وما أشبه ذلك، لم يجز ولم يعد بخبر لما قدمناه، والله أعلم. وأما " كلا " فاختلاف النحويين فيها مشهور، واحتجاج البصريين والكوفيين مذكور، لكننا نشير إلى ضروب من الترجيح لكل فريق، ترشد الناظر فيها إلى واضح الطريق، فنقول: أما من ذهب إلى أنها اسم مفرد وألفها لام الفعل وليست ألف التثنية، فمعظم حجته أنها في الأحوال الثلاثة مع الظاهر على صورة واحدة، أعني حال الرفع والنصب والخفض، وإنما تنقلب ياء في حال الخفض والنصب مع المضمر خاصة كما ينقلب ما ليس بألف التثنية، نحو: لديهما وعليهما. وهذا معنى قول الخليل وسيبويه، ولمْ يبعد عن الصواب من عول عليه.! ومما احتج لهذا المذهب قول العرب: كلاهما ذاهب، ولم يقل: ذاهبان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وكِلا يَومَيْ أُمامةَ يوْمُ صَدٍّ. وقوله سبحانه وقعالى: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا) ، فأفرد الخبر عن (كلا) . ولا حجة فيه، ولذلك عدل سيبويه في الاستدلال عنه، بما تقدم من أنك تضيف كلى كلا فتفرد الخبر عنه، فتقول: " كلكم راع " حملا على المعنى، إذ المعنى: كل واحد منكم راع. وكذلك (كلا) إنما معناه: كل واحد مئهما ذاهب. فإن قيل: إنما أفرد الخبر عن " كل " لأنه اسم مفرد، وكذلك (كلا) لا للعلة الني ذكرت؟ قلنا: فلم وكد الجمع بها، والجمع لا يوكد بالواحد، كما لا ينت بالواحد. وهو في التوكيد أبعد، لأنه تكرار للمؤكد؟ ولم يقل عز وجل: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) و (كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) وقد ثبت بما تقدم من الشواهد السمعية والأدلة القياسية أنه اسم للجمع بمنزلة قوم، وأنت لا تقول: قوم ذاهب، ولا قومك خارج فثبت أنه ليس باسم مفرد، وإنما هو اسم للجمع. وإنما التعديل لمن ذهب مذهب سيبويه على الحجة الأولى، على أنها معارضة بضروب من الاحتجاج، منها: أنها توكيد للاثنين ولا يؤكد الاثنان بواحد، كما لا ينعت الاثنان بواحد، وليس لقائل أن يقول فيها كما في " كل " إنها اسم للجمع، لأن الجمع تختلف صوره فيكون مسلما ومكسراً وأسماء الجمع لا واحد لها كرهط وقوم. ولا يكون للتثنية إلا صورة واحدة وحد واحد، وإذا بطل أن يكون واحداً في معنى التثنية، وبطل توكيد الاثنين بواحد ولم يبق إلا أن يكون (كلاهما) لفظاً مثنى تقلب ألفه ياء في النصب والخفض مع المضمر خاصة، لأنك إذا أضفته إلى مظهر استغنيت عن قلب ألفه ياء فى الخفض والنصب، بانقلاب ألف المظهرين اللذين تضيف إليهما إذا قلت رأيت كلا أخويك. ولو قلت: رأيت كلا أخويك، كنت قد جمعمتا بين علامتي إعراب في اسم واحد، لأنهما لا ينفصلان أبداً ولا تنفك " كلا " هذه عن الإضافة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 بحال، ألا ترى كيف رفضوا: ضربت رأسي الزيدين، وعدلوا إلى أن قالوا: رؤوسهما، لما رأوا المضاف والمضاف إليه كاسم واحد. هذا مع أن الرؤوس اسم ينفصل عن الإضافة في أكثر الكلام، وكذلك القلوب من قوله تعالى: (صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ، فإذا كانوا قد رفضوا علامة التثنية هناك مع أن الإضافة عارضة فما ظنك بهذا الموضع الذي لا تفارقه الإضافة ولا ننفك عنه؟ فهذا الذي حملهم على أن لا يقولوا: ضربت كل أخويك، ومررت بكلى أخويك وألزموها الألف في جميع الأحوال مع الظاهر، ولم يبعد ذلك كما لم يبعد في لغة طيء وخثعم وبني الحارث بن كعب أن يقولوا: رأيت الزيدان، ومررت بالزيدان، فلم يستنكروا هذا في كلامهم والتزموه بوجود التثنية في الاسم اللازم له، وهو المضاف إليه، فإذا أضافوه إلى المضمرين قلبوا ألفه في النصب والخفض ياء، لأن المضاف إليه لا يثنى بالياء في نصبه ولا في خفضه، ولكنه أبداً بالألف، كقولك: ضربت كلاهما، ومررت بكليهما، فقد زالت العلة التي رفضوها في كلا أخويك حين لم يجتمع علامتا نصب ولا علامتا خفض في المضمر. ومن الحجة لهذا القول الآخر أيضا أن (كلا) يفهم من لفظه ما يفهم من لفظ (كل) ، وهو موافق له في فاء الفعل وعينه، وأما اللام فمحذوفة كما حذفت في كثير من الأسماء فمن ادعى أن لام الفعل " واو "، وأنه من غير لفظ " كل "، فليس له دليل يعضده ولا اشتقاق يشهد له ويؤيده. فإن قيل لهم: ولم كسرت الكاف من " كلا " وهي في " كل " مضمومة؟ فلهم أن يقولوا: كسرت إشعاراً وتنبيهاً على معنى الاثنين، كما يبدأ لفظ الاثنين بالكسر، ألا تراهم كسروا العين من عشرين إشعاراً بتثنية العشر. ومن حجتهم أن كلتا بمنزلة " بنتا " و " ثنتا "، والألف في " ثنتا " لا خلاف أنها ألف تثنية، فكذلك كلتاهما. ومن ادعى أن الأصل فيهما " كلواهما "، فقد ادعى ما تستبعده العقول، ولا يقوم عليه الدليل ولا البرهان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ومن حجتهم أيضاً أن تقول في التوكيد: مررت بإخوتك ثلاثتهم وأربعتهم. فتؤكد بالعدد فاقتضى القياس أن تقول في الثثنية كذلك: مررت بأخويك اثنيهما، فاستغنوا عنه بكليهما لأنه في معناه، وإذا كان في معناه فهو تثنية مثله - فإن قيل: فإنك تقول: كلا أخويك جاء، ولا تقول: اثنا أخويك جاء، فكيف يكون في معناه؟ قلنا: العدد الذي تؤكد به إنما يكون توكيداً مؤخراً تابعاً لما قبله، فأما إذا قدم لم يجز ذلك، لأنه في معنى الوصف، والوصف لا يقدم على الموصوف، فلا تقول: ثلاثة إخوتك جاءوني. وهذا بخلاف كل وكلا، لأن فيهما معنى الإحاطة، فصار كالحرف الداخل لمعنى فيما بعده، فحسن تقديمهما في حال الإخبار عنهما، وتأخيرهما في حال التوكيد (بهما) والله المستعان. * * * مسألة (في التوكيد بأجمع وأجمعين) أما أجمع فاسم يؤكد به الاسم الذي لا يتبعض، ولا يؤكد به من يعقل، لأن حقيقته لا تتبعض. فإن قيل: فقد تقول: رأيت زيداً أجمع، إذا رأيته بارزاً من طاق أو نحوه. فليس هذا توكيداً لزيد في الحقيقة، لأنك لا تريد نفسه وحقيقته، وإنما تريد بدنه أو ما تدرك العين منه. وأجمع هذا اسم معرفة، تعرف بمعنى الإضافة، لأن معنى " قبضت المال أجمع " بمعنى " قبضته كله "، فلما كان مضافا في المعنى تعرف ووكد به المعرفة. وإنما استغنى عن التصريح بلفظ المضاف إليه معه، ولم يستغن عن لفظ المضاف إليه مع كل إذا قلت: قبضت المال كله، لأن " كلا " تكون توكيداً وغير توكيد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وتتقدم في أول الكلام إذا قلت: كلكم ذاهب، فصار بمنزلة نفسه وعينه، لأن كل واحد منهما يكون توكيداً وغير توكيد، وإذا أكدت به لم يكن بدٌّ من إضافته إلى ضمير المؤكد حتى يعلم أنه توكيد، وليس كذلك " أجمع " لأنه لا يجيء إلا تابعاً لما قبله، فاكتفى بالاسم الظاهر المؤكد، واستغنى به عن التصريح بضميره كما فعل بـ " سحر " حين أردته ليوم بعينه، فإنه عرف بمعنى الإضافة واستغنى عن التصريح بالمضاف إليه اتكالاً على ذكر اليوم قبله. فإن قيل: ولم لم يقدم " أجمع " كما قدم " كل "، فتقول: " قبضت أجمع مالك؟ " فالجواب: أن " أجمع " فيه معنى الصفة، لأنه مشتق من جمعت فلم يقع إلا تابعاً، بخلاف (كل) . ومن أحكامه أنه لا يثنى ولا يجمع على لفظه، لا تقول: قبضت الدرهمين أجمعين، ولا يقال في جمعه: أجامع، كما تقول في جمع الأفضل: الأفاضل، ولا جمع كلما تقول في أحمر: حمراً. أما امتناع التثنية فيه فلأنه وضع لتوكيد الاسم المفرد الذي يتبعض، فلو ثنيته وقلت: هذا الدرهمان أجمعان، لم يكن في قولك " أجمعان " توكيد لمعنى التثنية، كما يكون في قولك " كلاهما "، لأن التوكيد تكرار لمعنى المؤكد، إِذا قلت " درهمان ": علم أنهما اثنان، فإذا قلت " كلاهما " أكدت ذلك المعنى، كأنك قلت: " اثناهما ". ولا يستقيم ذلك في قوله " أجمعان "، لأنه بمنزلة من يقول: " أجمع وأجمع " كما أن (الزيدان) بمنزلة زيد وزيد، فلم يفدك أجمعان تكرار بمعنى التثنبة، وإنما أفادك تثنية واحدة، بخلاف (كلاهما) إلا أنه ليس بمنزلة قولك: (كلًّا) و (كل) ، وكذلك " اثناهما " الذي استغنى عنه بكلاهما لا ينفرد فيقال فيه: اثن واثن، (فإنما هي) تثنية لا تنحل ولا تنفرد، فلم يصلح لمعنى التوكيد تثنية غيرها، فلا ينبغي أن يؤكد معنى التثنية والجمع إلا بما لا واحد له من لفظه، لئلا يكون بمنزلة الأسماء المفردة المعطوفة بعضها على بعض بالواو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وهذه علة امتناع الجمع فيه، لأنك لو جمعنه كان جمعاً لواحد من لفظه، ولا يؤكده معنى الجمع إلا بجمع لا ينحل إلى الواحد. وسنبين بعد هذا أن " أجمعين " و " أكتعين " لا واحد له من " لفظه، وإن شئت قلت: إن أجمع فيه معنى " كل "، و " كل " لا يثنى ولا يجمع، إنما يثنى الضمير الذي يضاف إليه كل. وأما قولهم في تأنيثه: جمعاء ولم يقولوا: جمعى،، كما يقولون في تأنيث " الأكبر " الكبرى، " والأصغر ": الصغرى، إذا كان فيه الألف واللام، أو كان مضافاً فلأنه أقرب إلى باب " أحمر " و " حمراء " منه إلى باب " الأفعل " و" الفعلى "، لأنه لا يدخله الألف واللام. ولا يضاف إضافة مصرحاً بها في اللفظ، فكان أقرب إلى باب " أفعل، الذي مؤنثه " فعلاء "، وإن كان قد يخالف أيضاً من وجوه، ولكنه أشبه به. فإن قيل: كيف قلتم إنه لا يجمع، وأنتم تقولون: جاء الزيدون أجمعون، وهل " أجمعون " إلا كقولك " الأكرمون " جمع أكرم؟ وقلتم: إنه أقرب إلى باب " أحمر وحمراء " والعرب لا تقول: الأحمرون والأصفرون، وإنما تقول: الحمر والصفر؟ والجواب: ما تقدم من أن (أجمعين) ليس جمعاً لأجمع، ولا له واحد من لفظه، وإنما هو بمنزلة قولك: الياسمين، وبمنزلة قولك: أبَينُون تصغير أبناء. فهذا جمع مسلم وليس له واحد من لفظه. ولو كان واحد " أجمعين " أجمع، لما قالوا في مؤنثه جمع، لأن " فعل " - بفتح العين - لا يكون واحده فعلاً، وجمعاء التي هي مؤنث أجمع ولو جمعت لقيل: جمعاوات أو " جمع " - على وزن حُمْر - وأما فعل فإنما هو جمع لفعلي، بضم الفاء. وإنما جاء أجمعون بناء على " الأكرمون " و " الأرذلون "، لأنه طرفاً من معنى التفضيل كما في الأكرمين والأرذلين، وذلك أن الجموع تختلف مقاديرها فإذا كثر العدد احتيج إلى كثرة التوكيد، حرصاً على التحقيق ورفع المجاز، فإذا قلت: جاء القوم كلهم، وكان العدد كثيراً، توهم أنه قد شذ منهم البعض فاحتيج إلى توكيد أبلغ من الأول، وهو أجمعون وأكتعون، فمن حيث كان أبلغ من التوكيد الذي قبله، دخله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 معنى التفضيل، ومن حيث دخله معنى التفضيل جمع جمع السلامة، كما يجمع " أفعل " الذي فيه ذلك المعنى، وجمع مؤنثه على " فعَل " كما يجمع مؤنث ما فيه التفضيل. وأما أجمع الذي هو توكيد الاسم الواحد، فليس فيه من معنى التفضيل شيء، فكان كباب " أحمر "، ولذلك استغني أن يقال: " كلاهما أجمعان "، كما يقال: " كلهم أجمعون " لأن التثنية أقل من أن تحتاج في توكيدها إلى هذا المعنى فثبت أن " أجمعون " لا واحد له من لفظه، لأنه توكيد لجمع من يعقل، وأنت لا تقول فيمن يعقل: " جاءني زيد أجمع "، فكيف يكون: " جاءني الزيدون أجمعون " جمعاً له، وهو غير مستعمل في الإفراد؟. وحكمة هذا ما تقدم من أنهم لا يؤكدون معنى الجمع والتثنية إلا بجمع لا واحد له من لفظه، أو تثنية لا واحد لها مستعملاً، ليكون توكيداً على الحقيقة، لأن كل جمع ينحل لفظه إلى واحد فهو عارض في معنى الجمع، فكيف يؤكد به معنى الجمع، والتوكيد تحقيق وتثبيت ورفع للبس والإبهام، فوجب أن يكون فيما يثبث لفظاً ومعنى. وأما حذف التنوين من " جمع " فكحذفه من " سحر "، لأنه مضاف في المعنى. فإن قيل: ونون الجمع أيضا محذوفة في الإضافة. قلنا: الإضافة المعنوية لا تقوى على حذف النون المتحركة التي هي كالعوض من الحركة والتنوين، ألا ترى أن نون الجمع تئبت مع الألف واللام مع أنهما مانع لفظي وتثبت في الوقف، والتنوين بخلاف ذلك، فقويت بالإضافة المعنوية على حذفه، ولم تقو على حذف النون إلا الإضافة اللفظية. فإن قيل: ولم كانت الإضافة اللفظية أقوى من المعنوية، والعامل اللفظي أقوى من المعنوي؟ قلنا: اللفظ لا يكون إلا متضمناً لمعناه، فاجتمعا معاً، بخلاف المعنى المفرد عن اللفظ، فوجب أن يكون أضعف، وهذا بديع لمن أنصف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 مسألة (في التوكيد بنفسه وعينه، وتحقيق معني العين والذات) أما قولهم: (جاءني زيد عينهاً، فالعين هنا يراد بها حقيقة الشيء المدركة بالعيان، أو ما يقوم مقام العيان، وليست اللفظة على أصل موضوعها، لأن أصلها أن تكون مصدراً وصفةً لمن قامت به، ثم عُبِّر عن حقيقة الشيء بالعين، كما عُبِّرَ عن الوحش بالصيد، وإنما الصيد في أصل موضوعه مصدر، من (صاد يصيد) . ومن هاهنا لم ترد في الشريعة عبارة عن نفس الباري سبحانه، لأن نفسه - سبحانه - غير مدركة بالعيان في حقنا اليوم، وأما عين القبلة وعين الذهب وعين الميزان، فراجعة إلى هذا المعنى. وأما العين الجارية فشبيه بعين الإنسان لموافقتها لها في كثير من صفاتها، وأما عين الإنسان فمسماة بما هو أصله أن يكون صفة ومصدراً، لأن العين في أصل الوضع مصدر كالزين والدين والبين والأين وما جاء على بنائه، ألا تراهم يقولون: " رجل عيون وعائن " ويقولون: " عنته ": أصبته بالعين و: " عاينته: رأيته (بالعين) ، فرقوا بين المعنيين، وجاء: " عاينته " على وزن " فاعلته "، لأنه يتضمن معنى قابلته، لأن الرؤية في العادة لا تكون إلا مع مقابلة، بخلاف رؤية الباري سبحانه، ولذلك تقول في الباري - تعالى -: (رأى) ، ولا تقول: (عاين) لتقدسه عن معنى قابل. ومما يدلك (أيضاً) أنها مصدر في الأصل قوله سبحانه: (عين اليقين) . كما قال تعالى: (علم اليقين) ، فكما أن العمل المضاف إلى اليقين مصدر وصفة فكذلك العين. وإذا ثبت هذا فالعين التي هي الجارحة سميت عيناً لأنها آلة ومحل لهذه الصفة التي هي العين، وهذا من باب قولهم: " امرأة ضعيف وعدل ". وهو تسمية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الفاعل بالمصدر، والعين - التي هي حقيقة الشيء ونفسه - من باب تسمية المفعول بالمصدر، كصيد. فإذا علمت هذا فاعلم أن العين إذا أضيفت إلى الباري - سبحانه - كقوله تعالى: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) فهي حقيقة لا مجاز، كما توهم أكثر الناس، لأنها صفة في معنى الرؤية والإدراك، وإنما المجاز في تسمية العضو بها، وكل شيء يوهم الكفر والتجسيم فلا يضاف إلى الباري حقيقة ولا مجازاً، ألا ترى كيف كفر الرومية النصارى حين قالوا في عيسى عليه السلام: " إنه ولد، على المجاز لا على الحقيقة "، فكفروا ولم يعذروا ألا ترى كيف لم يضف - سبحانه إِلى نفسه ما هو في معنى عين الإنسان كالمقلة والحدقة حقيقة ولا مجازاً، نعم ولا لفظ الإبصار، لأنه لا يعطى معنى البصر والرؤية مجرداً، ولكنه يقتضى مع معنى البصر معنى التحديق والملاحظة ونحوهما، وكذلك لا يضاف إليه سبحانه شيء من آلات الإدراك كالأذن ونحوها، لأنها في أصل الوضع عبارة عن الجارحة لا عن الصفة التي هي آلة لها، فلم ينقل لفظها إلى الصفة، أعني السمع مجازاً ولا حقيقة، إلا أشياء وردت على جهة المثل، مما يعرف بأدق نظر أنها أمثال مضروبة، نحو قوله في الحجر الأسود: " يمين الله في الأرض ". و" قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ". وأشباه ذلك مما عرفت العرب المراد به بأول وهلة. وأما اليد فهي عندي في أصل الوضع كالمصدر، عبارة عن صفة لموصوف. ألا ترى قول الشاعر: يَدَيْتُ على ابنِ حَسْحاسِ بنِ وَهبٍ ... بأَسْفَلِ ذِي الجِذاةِ يَدَ الكَريمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 فيديت: فعل مأخوذ من مصدر لا محالة والمصدر صفة لموصوف، ولذلك مدح سبحانه بالأيدي مقرونة مع الأبصار في قوله تعالى: (الأيدي والأبصار) . ولم يمدحهم بالجوارح لأن المدح لا يتعلق إلا بالصفات لا بالجواهر. وإذا ثبت هذا فصح قول أبي الحسن الأشعري: أن (اليد) من قوله: (وخلق آدم بيده) ، ومن قوله تعالى: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) ، صفة ورد بها الشرع، ولم يقل إنها في معنى القدرة كما قال المتأخرون من أصحابه، ولا في معنى (النعمة) ، ولا قطع بشيء من التأويلات تحرزاً منه لمخالفة السلف، وقطع بأنها صفة تحرزاً منه عن مذاهب أهل التشبيه والتجسيم. فإن قيل: وكيف خوطبوا بما لا يفهمون ولا يستعملون، إذ اليد بمعنى الصفة لا يفهم معناه؟ قلنا: ليس الأمر كذلك، بل كان معناها مفهوماً عند القوم الذين نزل القرآن بلغتهم، ولذلك لم يستفت أحد من المؤمنين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن معناها، ولا خاف على نفسه توهم التشبيه، ولا احتاج مع فهمه إلى شرح وتنبيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وكذلك الكفار لو كانت اليد عندهم لا تعقل إلا في الجارحة لتعلقوا بها في دعوى التناقض واحتجوا بها على الرسول، ولقالوا: زعمت أنه ليس كمثله شيء ثم تخبر أن له يداً كأيدينا، وعينا كأعيننا؟ ولما لم ينقل ذلك عن مؤمن ولا كافر علم أن الأمر كان فيها عندهم جلياً لا خفياً، وأنها صفة سميت الجارحة بها مجازاً، ثم استمر المجاز فيها حتى نسيت الحقيقة. ورب مجاز كثر واستعمل حتى نسي أصله وتركته حقيقته. والذي يلوح في معنى هذه الصفة أنها قريب من معنى القدرة، إلا أنها أخص منها معنى، والقدرة أعم، كالمحبة مع الإرادة والمشيئة، فكل شيء أحبه الله فقد أراده، وليس كل شيء أراده أحبه، وكذلك كل شيء حادث فهو واقع بالقدرة وليس كل واقع بالقدرة واقعاً باليد، (فاليد) أخص معنى من القدرة، ولذلك كان فيها تشريف لآدم عليه السلام. ومن فوائد هذه المسألة أن يسأل عن المعنى الذي من أجله قال: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) بحرف " على ". وقال في موضع آخر: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) . وكذلك: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا) . والفرق بين الموضعين أن الآية الأولى وردت في إظهار أمر كان خفياً وإبداء ما كان مكتوبا، فإن الأطفال إذ ذاك كانوا يغذون ويصنعون سراً، فلما أراد الله أن يصنع موسى ويغذي ويربي على حال أمن وظهور أمر، لا تحت خوف واستسرار، دخلت " على " في اللفظ تنبيها على المعنى، لأنها تعطى معنى الاستعلاء، والاستعلاء ظهور وابتداء، فكأنه يقول سبحانه: ولتصنع على أمن لا تحت خوف، وذكر (العين) لتضمنها معنى الرعاية والكلاءة. وأما قوله تعالى: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) ، فإنه إنما يريد: برعاية منا وحفظ، ولا يريد إبداء شيء ولا إظهاره بعد كتم، فلم يحتج في الكلام إلى معنى على بخلاف ما تقدم. وأما (النفس) فعلى أصل موضوعها، إنما هي عبارة عن حقيقة الموجود دون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 معنى زائد، وقد استعمل أيضاً من لفظها: النفاسة والشيء النفسي، فصلحت للتعبير عن الباري سبحانه وتعالى. بخلاف ما تقدم من الألفاظ المجازية. وأما " الذات "، فقد استهوى أكثر الناس - ولا سيما المتكلمين - القول فيها، إنها في معنى النفس والحقيقة، ويقولون: (ذات الباري هي نفسه) ، ويعبرون بها عن وجوده وحقيقته، ويحتجون في إطلاق ذلك بقوله عليه السلام في قصة إبراهيم: " ثلاث كذبات كلها في ذات الله ". وقول خبيب: وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع وليست هذه اللفظة إذا استقريتها في اللغة والشريعة كما زعموا، ولو كان كذلك لجاز أن يقال: " عبدت ذات الباري سبحانه "، و " احذر ذاته ". كما قال تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) ، أو: " فعلت ذاته ":. وذلك غير مسموع، ولا يقول إلا بحرف (في) الجارة، وحرف " في " للوعاء، وهو معنى مستحيل على نفس الباري سبحانه، إذا قلت: " جاهدت في الله "، و " أحببتك في الله " محال أن يكون هذا اللفظ حقيقة، لما يدل عليه هذا الحرف من معنى الوعاء، وإنما هو على حذف المضاف، أي: في مرضاة الله وطاعته، فيكون الحرف على بابه ومعناه، كأنك قلت: فعلى هذا محسوب في الأعمال التي فيها مرضاة الله - تعالى - وطاعة له. وأما أن تدع اللفظ على ظاهره فمحال، وإذا ثبت هذا فقوله: " في ذات الله " و " في ذات الإله "، إنما يريد في الديانة أو الشريعة التي هي ذات الله، فذات وصف للديانة. وكذلك هي في أصل موضوعها نعت لمؤنث، ألا ترى أن فيها " تاء " التأنيث؟ وإذا كان الأمر كذلك فقد صارت عبارة عما تشرف بالإضافة إلى الله - عز وجل - لا عن نفسه. وهذا هو المفهوم من كلام العرب، ألا ترى إلى قول النابغة: مَجَلَّتُهم ذاتُ الإِله ودِيُنهم قَوِيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 فقد بانَ غلط من جعل هذه اللفظة عبارة عن نفس ما أضيفت إليه، وبانَ غلط من قال من الفقهاء: " إنه فوق عرشه المجيد بذاته "، وغلط من جهة اللفظ والمعنى. أما اللفظ فهو ما قدمناه، وأما المعنى فمذكور في كتب الأصول، ومعلوم بأدلة العقول. * * * مسألة (من باب البدل) استشهد في هذا الباب بقوله عز وجل: (لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) . فإن قيل: ما فائدة البدل من المعرفة وتبيينها بالنكرة، فإن كانت الفائدة في النكرة المنعوتة فلم ذكرت المعرفة؟ وإن كانت الفائدة في المعرفة فما بال ذكر النكرة والتبيين بها؟ فالجواب أن تقول: الآية نزلت في رجل بعينه، وهو أبو جهل، ثم تعلق حكمها بكل من اتصف بصفته، فلو اقتصر على الاسم المعرفة لاختص الحكم به دون غيره، ولو اقتصر على الاسم النكرة لخرج عن هذا الوعيد الشديد من نزلت الآية بسببه. وكذلك حكم المعرفة إذا أبدل منها النكرة أن تكون النكرة منعوتة، وإلا لم يقع بها فائدة، ولا كانت بيانا لما قبلها. وأما قوله سبحانه: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 ثم قال: (شَيْئًا) ، على البدل من (رِزْقًا) ، و " رزق " أبين من " شيء ". لأنه أخص منه، والأخص أبين من الأعم، فإنما ذلك من أجل تقدم النفي، لأن النكرة إنما تفيد بالإخبار عنها بعد النفي، فلما اقتضى النفي العام ذكر الاسم العام الذي هو أنكر النكرات، ووقعت الفائدة به من أجل النفي، صلح أن يكون بدلاً من (رِزْقًا) ألا ترى أنك لو طرحت الاسم الأول واقتصرت على الثاني لم يكن إخلالاً بالكلام. على أنه قد قيل: إن (شَيْئًا) هاهنا مفعول بالرزق، وأن الرزق مصدر. والأشهر أنه اسم لأنه على وزن الطحن والذبح، ولو أراد المصدر لفتح الراء، كما جاء في الشعر من نحو قوله في عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: واقصد إلى الخير ولا توقه ... وارزق عيال المسلمين رزقه * * * مسألة واستشهد أيضا بقوله سبحانه: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) وفي هذه الآية ضروب من الأسئلة، منها أن يقال: ما فائدة البدل في الدعاء، والداعي مخاطب لمن لا يحتاج إلى البيان، والبدل يقصد به بيان الاسم الأول؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 ومنها أن يقال: ما فائدة تعريف الصراط المستقيم بالألف واللام، وهلَّا أخبر بمجرد اللفظ دونهما، كما قال: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) ، وكما قال: (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) . ومنها أن يقال: ما معنى الصراط؟ ومن أي شيء اشتقاقه؟ ولم جاء على وزن فعال؟ ولم ذكر في أكثر المواضع في القرآن بهذا اللفظ. وذكر في سورة الأحقاف بلفظ الطريق، فقال: (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) ؟ ومنها أن يقال: ما الحكمة في إضافته إلى (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بهذا اللفظ، ولم يقل: النبيين ولا الصالحين، وجاء باللفظ مبهماً غير مفسر؟ ومنها أن يقال: لم عبر عنه بلفظ " الذين " موصولة بصلتها، وقد كان أوجز وأخصر أن يقال: المنعم عليهم، إذ الألف واللام في معنى الذي، كما قال: (المغضوب عليهم) ولم يقل: " الذين غضبت عليهم؟ ". ومنها أن يقال: لم وصفهم بـ (غير) ، وقد كان الظاهر أن يقول هاهنا " لا المغضوب عليهم "، كما تقول: " مررت بزيد لا عمرو، وبالعاقل لا الأحمق ". ومنها أن يقال: لم استحق اليهود دون النصارى اسم المغضوب عليهم. والمغضوب عليهم أيضاً النصارى؟ ولم استحق النصارى اسم (الضالين) ، وقد ضلت اليهود؟ ومنها أن يقال: لم قدم (المغضوب عليهم) على (الضالين) في اللفظ؟ ولم جاء لفظ (الضالين) على وزن " الفاعلين "، ولم يجئ على وزن " المفعولين "، كماجاء ما قبله، من قوله تعالى: (المغضوب عليهم) ومن قوله: (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، لأن معناه: المنعم عليهم، بلفظ المفعول؟. ومنها أن يقال: ما فائدة العطف بـ " لا " من قوله: (ولا الضالين) . ولو قال: (الضالين) ، لما اختل الكلام، وكان أوجز؟ ولم عطف بـ " لا "، وهي لا يعطف بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 مع " الواو " إلا بعد نفي، ولو كانت وحدها لعطف بها بعد إيجاب، كقولك: مررت بزيد لا عمرو؟. والجواب عن السؤال الأول، وهو: ما فائدة البدل في الدعاء؟ أن الآية وردت في معرض التعليم للعباد الدعاء، وحقُّ الداعي أن يستشعر عند دعائه ما يجب عليه اعتقاده مما لا يتم الإيمان إلا به. إذ " الدعاء مخ العبادة ". والمخ لا يكون إلا في عظم، والعظم لا يكون إلا تحت دم ولحم، فإذا وجب إحضار معتقدات الإيمان عند الدعاء، وجب أن يكون الطلب ممزوجاً بالثناء، فمن ثم جاء لفظ الطلب: للهداية ولفظ الرغبة مشوبا بالخير تصريحاً من الداعي به بمعتقده، وتوسلاً من الداعي بذلك المعتقد إلى ربه، فإذا قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) . والمخالفون للحق يزعمون أنهم على الصراط المستقيم أيضا، والداعي يجب عليه اعتقاد خلافهم وإظهار الحق الذي في نفسه، فلذلك أبدل وبين ليمرن اللسان على ما اعتقده الجنان، فأخبر مع الدعاء أن الصراط المستقيم هو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين. لا من خالفهم من الكافرين. وأما تعريف (الصِّرَاط) بالألف واللام، فإن الألف واللام إذا دخلت على اسم موصوف اقتضت أنه أحق بتلك الصفة من غيره، ألا ترى قولك: جالس فقيها أو عالما، ليس كقولك: جالس الفقيه أو العالم؟ ولا: أكلت طيباً، كقولك: أكلت الطيب؟ ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام: " أنت الحق ووعدك الحق "، ثم قال: " ولقاؤك حق والجنة حق، والنار حق "، فلم يدخل الألف واللام على الأسماء المحدثة، وأدخلها على اسم الباري - سبحانه وتعالى - وما هو صفة له، وهو القول والوعد. فإذا ثبت هذا فلو قال: " صراطاً مستقيماً " لكان الداعي إنما يطلب الهداية على صراط مستقيم على الإطلاق، وقد علم أنه على صراط مستقيم وهو الإسلام، فإنما يطلب ما هو أقوى من طريقته التي هو عليها في علمه، لأن كل فريق من المسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 مستقصر لنفسه في العمل، وراغب إلى ربه، في التوبة والهداية إلى الأفضل، حتى ينتهي الأمر إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فيقولها أيضاً، لأنها أخوف لربه، وأكثر استقصاراً لعمله، وكان يستغفر ربه - عز وجل - ويتوب إليه في اليوم مائة مرة، وقال في الحديث: " نظرت إلى جبريل كأنه حلس لاط، فعرفت فضل عمله علي ". فإن قيل: فقد قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) وقد كان على الصراط الأقوم، فضلاً عن صراط مستقيم على الإطلاق؟ فالجواب: أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية، وكان المسلمين قد كرهوا ذلك الصلح ورأوا أن الرأي خلافه، وكان الله ورسوله أعلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلم يرد صراطاً مستقيماً في الدين، وإنما أراد صراطاً مستقيماً في الرأي والحرب والمكيدة وقوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) . أي: تهدي من الكفر والضلال إلى صراطٍ مستقيم. ولو قال في هذا الموطن: " الصراط المستقيم "، لجعل للكفر والضلال حظاً من الاستقامة، إذ الألف واللام تنبئ أن ما دخلت عليه من الأسماء الموصوفة أحق بذلك المعنى مما تلاه في الذكر، أو ما قرن به في الوهم، ولا يكون أحق به إلا والآخر فيه طرف منه. وأما اشتقاق الصراط فمن " سرطت الشيء أسرطه "، إذا بلعته بلعاً سهلاً. فالصراط هو الطريق السهل القويم، وجاء على وزن " فعال "، لأنه مشتمل على سالكة اشتمال الحلق على الشيء المسروط، وهذا الوزن كثير في المشتملات على الأشياء كاللحاف والخمار والرداء، وكذلك الشكال والعنان، إلى سائر الباب. وأما ذكره بلفظ (الطريق) في سورة الأحقاف خاصة، فلأنه انتظم بقوله سبحانه: (سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى) . وإنما أراد أنه سبيل مطروق قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 مرت عليه الرسل قبله، وأنه ليس ببدع، كما قال في السورة نفسها، فاقتضت البلاغة والإعجاز لفظ " الطريق "، لأنه " فعيل " بمعنى " مفعول ". أي: إنه مطروق مشت عليه الرسل والأنبياء قبل، وليس في المواضع الأُخر ما يقتضي هذا المعنى. فكان لفظ الصراط بها أولى، لأنه أمدح من جهة الاشتقاق والوزن كما تقدم. وأما إضافته إلى اللفظ المجمل، ولم يقل: " صراط النبيين والصالحين ". فلفائدتين: إحداهما: نفي التقليد عن القلب، واستشعار العمل بأن من هدي إلى هذا الصراط فقد أنعم عليه، ولو ذكرهم بأعيانهم لم يكن فيه هذا المعنى. والفائدة الأخرى أن الآية عامة في طبقات المسلمين مسيئهم وصالحهم. والمسيء لا يطلب درجة العالي حتى ينال التي هي أقرب إليه، ولفظ (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) يشمل الجميع، وجميع المأمورين بهذا الدعاء يطلب صراط الذين أنعم الله عليهم، وهم أصناف، كما أن السائلين لدرجاتهم أصناف. وأما قوله تعالى: (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، ولم يقل: " المنعم عليهم "، فلأن ذكر نعمة المنعم والثناء بها عليه وذكر النعم شكر، وإبراز ضمير الفاعل العائد على الله سبحانه من قوله: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ذكر لله تعالى باللسان والقلب، ولو قال: " المنعم عليهم " لخلا هذا اللفظ من هذه الفوائد المقرونة بالدعاء، وهي الشكر والذكر، ألا ترى إلى قول إبراهيم عليه السلام: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) ؟ فأضاف الفعل إلى ربه، ثم قال: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) . ولم يقل: " أمرضني "، كما قال: (يُطْعِمُنِي) ، إذ ليس في قولك " أمرضني " إلا الإخبار المجرد عن الشكر والثناء، وربما اقترن به تسخط وتضجر، فعدل عنه إلى قوله: (مَرِضْتُ) . ولذلك قال سبحانه: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) ولم يقل: " الذين غضبت عليهم "، إذ ليس في الإخبار عنه بالغضب من الشكر والإحسان ما في قوله: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ؟ فكان اللفظ الوجيز أولى. ولفائدة أخرى وهي أن الغضب صفة ينبغي للعبد أن يشترك فيها مع الرب فيغضب لغضب الله تعالى، فاليهود قد غضب عليهم لغضب الله وجميع المؤمنين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 فاستشعر الداعي هذا المعنى فلم يقل: " الذين غضبت عليهم ". إذ لو قال ذلك لأخرج نفسه عن أن يغضب لغضب الله، كما أخرج نفسه عن أن ينعم، وأفرد الرب بالإنعام فقال: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) . وفائدة أخرى، وهو أن الألف واللام في (المغضوب) ، وإن كانت بمعنى " الذين " فليست مثلها في التصريح والإشارة إلى تعيين ذات الاسم، فإن قولك: " الذين فعلوا " معناه: القوم الذين فعلوا، وقولك: " الضاربون والمضربون " ليس فيه ما في قولك " الذين ضَرَبوا أو ضُرِبوا "، وإذا صح هذا وتأملته فالذين أنعمت عليهم بلفظ (الذين) إشارة إلى تعرفهم بأعيانهم، وتعرفهم من الدين ولا سيما النبيين. بخلاف من غضب الله عليهم فوجب الإعراض عنهم وترك الالتفات إلى ذاتهم، فاقتصر على الصفة المذمومة دون أن يعينوا بالذين. وأما قوله: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) نعتاً للذين، ولم يقل: " إلا الغضوب عليهم " فلفائدة وهو أن اليهود والنصارى يدعون أن الله - تعالى - أنعم عليهم بالكتابين، وأنهم على الصراط المستقيم، فبين سبحانه أن الذين أنعم عليهم هم غير المغضوب عليهم، وهم اليهود، ولم يقل اليهود، " تجريداً للفظ، ليخرجهم بذكر الغضب عن صفة المنعم عليهم، وكذلك الضالين. وقد تقدم في باب العطف ذكر " لا " في هذا الموضع، وأنها تعطي العطف بعد إيجاب فلو عطف بها هاهنا لم يكن في الكلام أكثر من نفي إضافة الصراط إلى اليهود والنصارى، فلما جاء بغير، وهي اسم ينعت بها، زاد في الكلام فائدة الوصف والثناء للذين أنعم عليهم. وأما استحقاق اليهود لهذا الاسم فلنزول غضب الله بهم في الدنيا، لتسليطه الملوك عليهم وانتزاع الملك منهم، كما قال تعالى: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) . فمن حيث أخبر عنهم أنهم قد باؤوا بغضب سماهم (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) . وأما تقديمهم على (الضالين) فقد تقدم من أصول التقديم في باب العطف ذكر التقديم بالزمان، وذكر التقديم بالرتبة. واليهود متقدمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 بالرتبة والمكان، لأنهم كانوا مجاورين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمخاطبين بالآية. وأقرب إليهم (ذكراً) من النصارى. وأما ذكر (الضالين) بلفظ " فاعلين "، ولم يرد بلفظ المفعولين، لئلا يكون كالعذر لهم، وإنما ينبغي أن يخبر عنهم باكتسابهم ضلالهم، لا بإضلال الله - عز وجل - إياهم وأما فائدة العطف بلا مع " الواو " فلتأكيد النفي الذي تضمنه (غير) ، فلولا ما فيها من معنى النفي لما عطف بلا مع " الواو ". وفائدة هذه التوكيد أن لا يتوهم أن " الضالين " داخل في حكم (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) ، أو وصف لهم، ألا ترى أنك إذا قلت: " ما مررت بزيد وعمرو "، توهم أنك إنما تنفي الجميع بينهما خاصة، فإذا قلت: " ما مررت بزيد وعمرو "، علم أنك تنفي الفعل عنهما جميعاً، على كل حال من اجتماع وافتراق؟ * * * مسألة (في ذكر بدل البعض من الكل وبدل المصدر من الاسم) وهما جميعاً يرجعان في المعنى والتحصيل إلى بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة، إلا أن البدل في هذين الموضعين لا بد من إضافته إلى ضمير المبدل منه، بخلاف (بدل) الشيء من الشيء وهما لعين واحدة. أما اتفاقهم في المعنى فلأنك إذا قلت: رأيت القوم أكثرهم أو نصفهم، فإنما تكلمت بالعموم وأنت تريد الخصوص، وهو شائع في اللغة لا ينكر جوازه أحد، وإذا كان كذلك فإنما أردت: لقيت بعض القوم، وجعلت أكثرهم أو نصفهم تبييناً لذلك البعض وأضفته إلى ضمير القوم، كما كان الاسم المبدل مضافاً أيضاً إلى القوم، فقد آل الكلام إلى أنك أبدلت شيئاً من شيء وهما لعين واحدة. وأما بدل المصدر من الاسم فكذلك أيضاً، لأن الاسم من حيث كان جوهراً أو جسما لا يعجب ولا ينفع ولا يضر، وإنما يتعلق المدح والإعجاب وغير ذلك من المعاني بصفات وأعراض قائمة بالجسم، وعلم ذلك ضرورة حتى استغني عن ذكرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 لفظاً وهي معلومة المعنى، فإذا قلت: " نفعني عبد الله "، علم أن النافع فيه صفة وعرض مضاف إليه، فبينت ذلك العرض ما هو، فقلت: " علمه أو رأيه،، ثم أضفت العلم إلى ضمير الاسم، كما كان الاسم المبدل منه مضافاً إليه في المعنى، فصار التقدير: " نفعني صفة زيد أو خصلته " ثم بينت بقولك: " علمه "، فعلم ما هي - تلك الخصلة، فآل المعنى إلى بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة. وإذا ثبت هذا فلا يصح في بدل الاشتمال أن يكون الاسم الثاني جوهراً، لأنه لا يبدل جوهر من عرض، ولا بد من إضافته إلى ضمير الاسم لأنه بيان لما هو مضاف إلى ذلك الاسم. والعجب كل العجب من إمام صنعة النحو في زمانه، وفارس هذا الشأن ومالك عنانه، يقول في كتاب " الإيضاح " في قوله سبحانه: (النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ) : إنها بدل من (الأخدود) بدل الاشتمال، والنار جوهر وليست بعرض، ثم ليست مضافة إلى ضمير الأخدود، وليس فيها شرط من شروط بدل الاشتمال. . . وذهل أبو علي عن هذا، وترك ما هو أصح في المعنى وأليق بصناعة النحو، وهو حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، كأنه قال: " قتل أصحاب الأخدود، أخدود النار ذات الوقود ". فيكون من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، كما قال: رَضيعَيْ لِبانِ ... ثَدْيِ أُمٍّ تَحالَفَا وفي رواية الخفف، أراد: لبان ثدي أم، فحذف المضاف إيجازاً واختصاراً. * * * مسألة واستشهد في هذا الباب بقول الله عز وجل: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) . و (حِجُّ الْبَيْتِ) مبتدأ، خبره في أحد المجرورين قبله، والذي يقتضيه المعنى أن يكون في قوله (عَلَى النَّاسِ) ، لأنه وجوب، والوجوب متعد بـ على. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 فإن قيل: إذا كان موضع الخبر ومقر الفائدة فيه، فلم أخر وقد قال سيبويه: " متى جعلته مسنقراً قدمته ". فالجواب: إن تقديم المجرور الأول لفائدتين: إحداهما: أنه اسم للموجب لهذا الغرض، فيقدم تقدم السبب على المسبب. والفائدة الأخرى: أن الاسم المجرور من حيث كان اسماً لله - سبحانه - وجب الاهتمام بتقديمه، تعظيما لحرمة هذا الواجب الذي أوجبه، وتخويفا من تضييعه، إذ ليس ما أوجبه الله سبحانه بمثابة ما يوجبه غيره. وأما (مَن) فهي بدل كما ذكره. وقد استهوى طائفة من الناس القول بأنها فاعل بالمصدر، كأنه قال: " أن يحج البيت من استطاع ". وهذا القول يضعف من وجوه: أحدهما: من جهة المعنى، وهو أن الحج فرض على التعيين بلا خلاف، ولو كان التأويل ما ذكروه لكان فرض كفاية، فإذا حج المستطيعون برئت ذمم غيرهم وفرغت ساحتهم من التكليف، وليس الأمر كذلك، بل الحج فرض على جميع الناس حج المستطيعون أو قعدوا، ولكنه عذر بعدم الاستطاعة إلى أن توجد الاستطاعة، ألا ترى أنك إذا قلت: " واجب على أهل هذا القطر أن يجاهد منهم الطائفة المستطيعون للجهاد "، فإذا جاهدت تلك الطائفة سقط وجوب الجهاد عن الباقين، مستطيعين كانوا أو غير مستطيعين، بخلاف الحج. ومما يضعف به ذلك القول، أن إضافة المصدر إلى الفاعل - إذا وجد - أولى من اضافته إلى المفعول، ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل منقول أو معقول، فلو كان " مَن " هو الفاعل لأضيف المصدر إليه. وإذا ثبت أن " من " بدل بعض من كل، وجب أن يكون في الكلام ضمير يعود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 إلى الناس، كأنه قال: " من استطاع منهم "، وحذف هذا الضمير قبيح في أكثر الكلام، وحسنه هاهنا أمور، منها: أن " مَن " واقعة على من يعقل كالاسم المبدل منه، فارتبطت به. ومنها أنها موصولة بما هو أخص من الاسم الأول، ولو كانت أعم لقبح حذف الضمير العائد مثال ذلك أنك لو قلت: " رأيت إخوتك مَن ذهب إلى السوق "، تربد: مَن ذهب منهم، لكان قبيحاً، لأن الذاهب إلى السوق زعم من الإخوة. وكذلك لو قلت: " البس الثياب ما حسن وكمل "، تريد: ما حسن منها، ولم تذكر الضمير، لكان أبعد في الجواز، لأن لفظ ما أعم من لفظ الثياب، وكذلك الحسن والكامل. وحق بدل البعض من الكل أن يكون أخصَّ المبدل منه، فإن كان أعم وأضفته إلى ضمير، أو قيدته بضمير يعود إلى الأول، ارتفع العموم وبقي الخصوص. ومما حسن حذف الضمير في هذه الآية أيضا مع ما تقدم، طول الكلام بالصلة والموصول. وأما المجرور من قوله: (إليه) فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون في موضع حال من (سبيلاً) ، كأنه نعت نكرة قدم عليها. لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لسبيل. والثاني: أن يكون متعلقاً بسبيل. فإن قيل: وكيف يتعلق به وليس فيه معنى الفعل؟ قلنا: " السبيل " هاهنا عبارة عن الموصل إلى البيت من قوة وزاد ونحوهما. فلما كان في معنى الفعل الموصل، ولم يقصد به السبيل الذي هو الطريق، صار فيه معنى (الفعل) وصلح تعلق المجرور به، واقتضى حسن النظم وإعجاز اللفظ تقديم المجرور وإن كان موضعه التأخير، لأنه ضمير يعود على البيت، والبيت هو المقصود به الاعتناء، وإنما يقدمون في كلامهم ما هم به أهم، وهم ببيانه أعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 مسألة واستشهد أيضاً في الباب بقوله سبحانه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) الآية في هذه الآية دليل على أن ما وقع به الفعل - أو فيه - فإنه مشتمل عليه كما يشتمل الفاعل على الفعل الذي هو حركة له أو صفة فيه، ولذلك أضيف المصدر إلى المفعول كما يضاف إلى الفاعل، وأخبر (به) عما لم يسم فاعله، وبني بناء فاعل في نحو قوله تعالى: (عيشة راضية) في أحد الأقوال. وإذا ثبت هذا صح البدل في قوله، وهو عمر - رضي الله عنه - لحفصة: " لا يغرنَّك هذه التي أعجبها حسنها، حبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياها) ، فحب بدل من (هذه) ، وإن لم يكن فعلاً لها، وإنما هو واقع بها، كما أن " القتال " بدل من الشهر فإن لم يكن فعلاً له، وإنما هو واقع فيه. ومن فوائد هذه الآية أن يسأل عن قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ) : " لم قدم الشهر الحرام؟ ، ولم يقل: يسألونك عن قتال الشهر الحرام، وهم لم يسألوا عن الشهر إلا من أجل القتال فيه، فكان الاهتمام بالقتال والتقديم له أولى في الظاهر؟. والجواب أن يقال: هذا السؤال لم يقع إلا بعد وقوع القتال في الشهر، وتشنيع الكفرة عليهم انتهاك حرمة الشهر، فاغتمامهم واهتمامهم بالسؤال إنما وقع من أجل حرمة الشهر، فلذلك قدم في الذكر. وفيها سؤال آخر، وهو أنه أعاد ذكر القتال بلفظ الظاهر، وكان القياس أن يعيد بلفظ المضمر فيقول: " قل: هو كبير "، كما لو سأل إنسان عن رجل في الدار لقال: هو فلان، أو: هو طويل أو قصير، بلفظ المضمر، ويقبح أن يقول بلفظ الظاهر، لأن المضمر - إذا عرف المعنى - أوجز وأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 والجواب أن يقال: في إعادة لفظ الظاهر هنا فائدة، وهي عموم الحكم، ولو جاء بلفظ المضمر فيقول: " هو كبير "، لاختص الحكم بذلك القتال الواقع في القصة، وليس الأمر كذلك، وإنما هو عام في كل قتال وقع في شهر حرام. ونظير هذه ال مسألة قوله - صلى الله عليه وسلم - وقد قيل له: أنتوضأ بماء البحر؟ فقال: " هو الطهور ماؤه ". ولم يقل: نعم، توضؤوا منه، لئلا يتوهم أن الحكم مخصوص بالسائل، فلما أخبر عنه أنه الطهور ماؤه استمر الحكم فيه على العموم ولم يتوهم قصره على السبب. وكذلك هذا حين قال: (قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) ، فجعل الاسم المخبر عنه (قِتَالٌ) . وخصصه بالمجرور الذي هو ضمير الشهر، فتعلق الحكم به على العموم متى وقع، لأن اللفظ المضمر لا تقتضي صيغته إلا تخصيص الخبر بما يعود عليه. * * * مسألة وأنشدوا في هذا الباب قول كثير: وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 أجاز بعض النحويين في " رجل صحيحة " أرجلًا صحيحة، على أنها حال موطأة بالنعت، مثل قوله تعالى: (لِسَانًا عَرَبِيًّا) لأن الحال من النكرة غير ممتنع من حيث كان الاسم الأول نكرة كما تقدم في باب النعت. وقالوا: هي حال من المضاف إليه، لأن الحال من المضاف إليه كثير نحو قوله: كأن حواميه مدبرا وهذا غلط، لأن الحال من المضاف إليه لا يجوز على الإطلاق، لأنها مفعول فيها فهي كالظرف والمفعول، فلا بد لها من عامل يعمل فيها، ولا يجوز أن يعمل فيها معنى الإضافة، لأنه أضعف من لام الإضافة، ولام الإضافة لا يعمل معناه في ظرف ولا حال، فمعناها - إذا لم يلفظ بها - أضعف وأجدر ألا يعمل. لو قلت: " هذا غلام هند ضاحكة "، لم يجز لما ذكرناه. فإن قلت: يعمل فيها ما يعمل في الغلام المضاف، فهو محال. لأن " ضاحكة " من صفة هند، لا من صفة " الغلام "، فبطل من كل وجه، ولكنه يجوز الحال من المضاف إليه إذا كان في المضاف معنى الفعل نحو: " هذا ضارب هند قائمة " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 أو: أعجبني خروجها راكبة "، ونحو قوله تعالى: (النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا) ، لأن ما في المضاف من معنى الفعل واقع على المضاف إليه وعامل فيما هو حال منه، بخلاف الغلام ونحوه مما ليس فيه معنى فعل. وقد يجوز أيضاً الحال من المضاف إليه نحو: " رأيت وجه هند قائمة "، لأن البعض يجري عليه حكم الكل، فيعمل في الحال ما يعمل في البعض من حيث أجروا البعض مجرى الكل في قوله: " ذهبت بعض أصابعه " و: " شرقت صدر القناة "، و: " تواضعت سور المدينة "، وهو كثير، فعلى هذا جاء: كأن حواميه مدبرا ومنه قول حبيب: والعلم في شهب الأرماح لامعة وأنشد في هذا الباب قول الأعشى: لقد كان في حول ثواء ثويته ... تقضى لبانات ويسأم سائم نصب " يسأم " بإضمار (أن) كيلا ينعطف الفعل على الاسم، وإنما استحال أن ينعطف الفعل على الاسم كيلا يشترك معه في العامل الذي يعمل فيه، إذ لا تعمل عوامل الأسماء في الأفعال، فأضمروا (أن) لأنها مع الفعل في تأويل الاسم. فإن قيل: وكيف يجوز إضمار الناصب وأنتم لا تجيزون إضمار الخافض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 ولا الجازم، نعم ولا إضمار الحروف الناصبة للأسماء، وعوامل الأسماً عندكم أقوى من عوامل الأفعال؟ فالجواب: أنا لا نجيز إضمار " أن " إلا بإحدى شرائط، أما مع الواو العاطفة على مصدر، نحو قوله: للبس عباءة وتقر عيني تقضي لبانات ويسأم سائم ألا ترى أنك لو جعلت مكان " اللبس " و " التقضي " اسماً غير مصدر فقلت: يعجبني زيد ويذهب عمرو " لم يجز، وإنما جاز هذا مع المصدر لأن الفعل المنصوب بأن مشتق من المصدر ودال عليه بلفظه، فكأنك عطفت مصدراً على مصدر. فإن قيل: فكان ينبغي إذاً أن يستغنى بمجرد لفظ الفعل عن إضمار " أن "؟ قلنا: هو فعل مضارع معرب، وعطفه بالواو على ما قبله يشركه معه في الإعراب والعامل، وهما لا يشتركان في عامل واحد، فأضمرت " أن " واكتفي بأثرها وعملها عن ظهور لفظها، وكانت " الواو " كالعوض منها كما كانت " حتى " و " لام " العلة، و " لام " الجحود و " الفاء " في باب الجواب وغير ذلك كالعوض من " أن " الناصبة للفعل، وكما كان الاستفهام كالعوض من الجار في قولك: " الله لأفعلن؟ " ونحوه. وقد جاء عطف الفعل على الاسم في معنى الفعل، نحو قوله تعالى: (صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) ونحو: (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 لأن الاسم المعطوف عليه حامل للضمير، فصار بمنزلة الفعل مع الاسم، ولو كان مصدراً لم يجز، كما تقدم في: للبس عباءة وتقر عيني لأن المصدر ليس بحامل للضمير، فلا يجوز العطف عليه إلا بإضمار " أن ". فإن قيل: فإذا جاز عطف الفعل على الاسم الحامل للضمير، فينبغي أن يجوز عطف الاسم على الفعل، فيقول: " مررت برجل يقوم وقاعد "؟ قلنا: هذا ممتنع على قبح، والزجاج قد أجازه في (المعاني) قياسا على الأول، وليس هو مثله، لأنك إذا عطفت الفعل على الاسم المشتق منه رددت الفرع إلى الأصل، لأن الاسم المشتق من الفعل فرع للفعل، فهو متضمن لمعناه، فجاز عطف الفعل عليه. وإذا عطفت الاسم المشتق على الفعل كنت قد رددت الأصل فرعاً، وصيرت الفعل في المعنى الاسم، وهو فعل محف، وإن كان قد وقع موقع الاسم فلم يقع موقع اسم جامد، وإنما وقع موقع اسم في تأويل فعل، فلم يخرجه ذلك إلى أن يكون في تأويل الاسم. وإنما هو فعل محض فلا يجوز عطف الاسم عليه، لأنك تشرك الاسم مع الفعل في عامل واحد، وإذا قلت: " مررت برجل قائم ويقعد "، ففي يقعد ضمير فاعل، كما في " قائم " ضمير فاعل، فكأنك إنما عطفت جملة على جملة، وتوهمت في " قائم " الفعل المحض من حيث كان مشتفا منه وفرعاً عليه، ولم يمكنك أن تتوهم في " يقوم " الاسم المحض ولا الاسم المشتق أيضا، لأن الفرع يتضمن الأصل ويدل عليه، والأصل لا يدل على الفرع بنفسه، لأنه كالمستغنى عنه. فافهمه فإني لم أقصد الإطالة إلا لأسد أبواب الاعتراض، وأحمي جنبات الكلام من الطعن عليه، والله الموفق لما يزلف لديه. وأبين من هذه العبارة أن يقال: عطف الفعل على الاسم في مثل قوله تعالى: (صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ) ونحو: " مررت برجل قائم ويقعد "، لأن الاسم معتمد على ما قبله، وإذا كان (اسم الفاعل) معتمداً على عمل الفعل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 والاعتماد أن يكون نعتاً أو خبراً، والذي بعد (الواو) ليس بمعتمد، ولو عكست المسألة فقلت: " برجل يقوم وقاعد " أو: " يصففن وقابضات "، قبح، لأن ما بعد (الواو) اسم محض وليس بمعتمد فيجري مجرى الفعل. * * * مسألة (من باب أقسام الأفعال) الفعل غير المتعدي هو الذي لزم محله ولم يجاوزه إِلى غيره، فهو فعل الفاعل في نفسه، ولذلك جاء مصدره مثقلاً بالحركات، إذ الثقل من صفة ما لزم محله ولم ينقل وجميع مصادر الأفعال المتعدية الواقعة بمحل غير الفاعل الحامل لها والمتصف بها، فكان خفة اللفظ في هذا الباب موازياً للمعنى الذي هو ثبوت في محل الفعل واختصاص به وعدم تجاوز له، فما لزم مكانه فهو الثقيل، وما تجاوزه وتعداه فهو الخفيف لفظا ومعنى. ومن ههنا يرجح قول سيبويه إن " دخلت البيت " غير متعد إلى مفعول، لأن مصدره الدخول، فهو كالخروج والقعود ونحوه، إِلا أن الفعل منه لم يجئ على " فعل " لأنه ليس بطبع في الفاعل ولا خصلة ثابتة فيه، فإن كان الفعل عبارة عما هو طبع وخصلة ثابتة، ثقل بضم العين، كظرف وكرم. فهذا الباب ألزم للفاعل من باب " قعد "، فكان أثقل منه لفظا. وباب " قعد " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 ألزم للفاعل من المتعدي إلى المفعول، فكان أثقل منه مصدراً، وإن اتفقا على لفظ الفعل. ولزم مصدر " فعل " - الذي هو طبع وخصلة - وزن الفعل نحو: الجمال والكمال والبهاء والسناء والجلال والعلاء، هذا إذا كان المعنى عاماً يشتمل على خصال ولا يختص بخصلة واحدة، فإن اختص المعنى بخصلة واحدة صار كالمحدود ولزمته " هاء " التأنيث لأنَّ هاءالتأنيث تدل على نهاية ما دخلت عليه كالضربة من الضرب، وحذفها في هذا الباب وفي أكثر الأبواب يدل على انتفاء النهاية، ألا ترى أن الضرب يقع على القليل والكثير إلى غير نهاية، وكذلك التمر والبر وسائر الأجناس، وإنما استحقت " الهاء " ذلك لأن مخرجها من منتهى الصوت وغايته فصلحت للغايات، ولذلك قالوا: علامة ونسابة أي: غاية في صفتيهما. فإذا ثبت هذا فالجمال والكمال كالجنس العام من حيث لم يكن فيه " الهاء " المخصوصة بالتحديد والنهاية. وقولك: ملح ملاحة، وفصح فصاحة، على وزن: جمل جمالاً، كمل كمالاً، إلا في تاء التأنيث، لأن الفصاحة خصلة من خصال الكمال، فحددت بالهاء، لأنها ليست بجنس عام كالجمال، فصارت تشبه باب الضربة والتمرة من الضرب والتمر، لمكان التحديد والنهاية، ألا ترى إلى قول خالد بن صفوان - وقد قالت له عرسه -: " إنك لجميل "، فقال: " أتقولين ذلك وليس عندي عمود الجمال ولا رداؤه ولا برنسه؟ ولكن قولي: إنك لمليح ظريف ". فجعل الملاحة خصلة من خصال الجمال، فبان صحة ما قلناه. وعلى هذا قالوا: الحلاوة والأصالة والرجالة، وكذلك في ضد هذا المعنى نحو: السفاهة والوضاعة والرذالة والحماقة، لأنها كلها خصال محدودة بالإضافة إلى السفال، والسفال في مقابلة العلاء والكمال، لأنه جنس يجمع الأنواع التي تحته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وهذا الأصل في هذا الباب، ولا يشرد عن هذا القياس شيء إلا ويمكن رده إليه، إلا أن تكون ألفاظ قد أدخلت في هذا الباب بوجه من المجاز، فنجد مصادرها مخالفة لهذا الأصل في وزنها أو شيء من أحكامها، وليس ذلك إلا لنقلها بالاستعارة والمجاز عن أصل موضوعها، لقولهم: شرف الرجل شرفاً، ولم يقولوا: شرافا، كقولك: جمالاً وكمالاً ولا: شرافة، كقولك: جلالة، لأن الشرفْ رفعة في الآباء. والآباء شيء خارج عن محل الفعل، فهو مستعار من شرف الأرض، والشرف في الأرض كالهدف والعلم، فاستعيد للرجل الرفيع في قومه، كأنَّ آباءه الذين ذكر بهم وارتفع بسببهم شرف له، إذ الشرف من الأرض يرتفع بسببه ويظهر منه. وكذلك قالوا في هذا الباب: الحسب، لأنه من باب القبض والقنص، وليس من باب المصادر، لأن الحسب ما يحسب الإنسان لنفسه من خصال كرام وخصال حميدة، فقد تبين أنه لا يخرج عن هذا الباب شيء إلا لسبب ما، وأن الأصل ما تقدم، واستحق الاسم العام في هذا الباب الفعال - بفتح الفاء والعين - بعدهما ألف والألف فتح، ليكون اللفظ بتوالي الفتح فيه موازيا لانفتاح المعنى واتساعه. وكذلك اطرد في الجمع الكثير نحو: " مفاعل، و " فعائل "، وبابه، واطرد في باب " تفاعل " نحو: تقاتل، وتخاصم، ونحو: تمارض، وتغافل، وتراقد، لأنه إظهار للأمر وانتشار له. ومن هذا الباب مما يوافقه في وجهٍ ويخالفه في وجه آخر حلم، لأنه يدل على ثبات الصفة، فوافق ما قبله في الضم وخالفه: في المصدر مخالفته له في المعنى. لأنه صفة نفي، وليس بصفة عرضية معنوية، وإنما هو عبارة عن تملك المعاقبة ونفيها. ومن هذا الباب: " كبر " و " صغر "، هو موافق لما قبل في ثبوت الفعل فجاء على وزنه، وهو مخالف له في الحدث، لأن الصغر والكبر وما كان على هذا البناء عبارة عن كثرة أجزاء الجسم وقلتها، لا عن عرض ومعنى زائد كالجمال ونحوه. واستقصاء المصادر والأفعال وتتبع نوادرها وأسرارها، يأتي في بابها إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 فصل ومن غير المتعدي " انفعل "، نحو: " انطلقاً، وهو أيضاً فعل الفاعل في نفسه بعد تقدم منع واستدعاء من فعل آخر، فيسمونه فعل المطاوعة، ونحو: كسرته فانكسر، وشويته فانشوى، فمن حيث كان فعل الفاعل في نفسه لم يتعد، ومن حيث لم يقع من فاعله إلا بعد استدعاء وسبب زيدت النون في أوله قبل الحروف الأصلية، وزيدت ساكنة كيلا تتوالى الحركات، ثم وصل إليها بهمزة الوصل. وقد تقدم أن الزوائد في الأفعال والأسماء موازية للمعاني الزائدة على معنى الكلمة، فإن كان المعنى الزائد مترتبا قبل المعنى الأصلي، كان الحرف الزائد قبل الحروف الأصلية، كالنون في انفعال، وكحروف المضارعة في بابها، وإن كان المعنى الزائد على الكلمة آخراً كان الحرف الزائد على الحروف الأصلية آخراً، كعلامة التأنيث وعلامة التثنية. ومن هذا الباب: " تفعلل " و " تفاعل " و " تفعل ". أما " تفعلل " فلا يتعدى ألبتَّة، لأن التاء فيه بمثابة النون في انفعل، إلا أنهم خصوا الرباعي بالتاء، وخصوا الثلاثي بالنون فرفاً بينهما، ولم تكن التاء ههنا ساكنة كالنون، لسكون عين الفعل. فلم يلزم فيها من توالي الحركات ما لزم هناك. وأما " تفاعل " فقد توجد متعدية لأنها لا يراد بها المطاوعة كما أريد بتفعلل. وإنما هو فعل دخلته التاء زيادة على " فاعل " المتعدية، فصار حكمه - إن كان متعدياً إلى مفعولين قبل دخول التاء أن يتعدى بعد دخول التاء إلى مفعول نحو: " نازعت زيداً الحديث "، ثم تقول: " ما تنازعنا الحديث " وإن كان متعدياً إلى مفعول لم يتعد بعد دخول " التاء " إلى شيء آخر، نحو: خاصمث زيداً. وتخاصمنا. وأما " احمرَّ " و " احمارَّ " ففعل مشتق من الاسم، كانتعل من النعل، وتمسكن من المسكنة، لأن الحمرة والصفرة ونحوهما أسماء لأعراض ثابتة عند الفلاسفة، أو في حكم الثابتة عند الأشعرية، إذ ليس عندهم عرض ثابت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وسيأتي استقصاء هذا الفصل والبحث عليه في باب التعجب، إن شاء الله تعالى. إلا أن أبا سليمان الخطابي زعم أن معنى " احمرَّ " مخالف لمعنى " احمارَّ " وبابه، وذهب إلى أن " افعلَّ " يقال فيما لم يخالطه لون آخر، وافعالَّ يقال لما خالطه لون آخر. والخطابي ثقة في نقله، والقياس يقتضي صحة قوله، لأن الألف لم تزد في أضعاف حروف الكلمة إلا لدخول معنى زائد بين أضعاف معناها - وقد تقدم هذا الأصل. * * * مسألة وقال في الفعل المتعدي إلى مفعولين: " أعطى زيد عمراً درهما ". وهذا وأشباهه من المنقول الذي صير فاعله مفعولاً. وقد اختلفوا: أهو قياس مستتب في جميع الأفعال أم لا؟ وليس مذهب سيبويه فيه طرد القياس في جميع الأفعال، وهو الصحيح. ولكني أشير لك إلى أصل ينبني عليه هذا الباب، وهو أن تنظر إلى كل فعل حصل منه في الفاعل صفة ما، فهو الذي يجوز فيه النقل، لأنك إذا قلت: أفعلته، فإنما معناه: جعلته على هذه الصفة. وقلما ينكسر هذا الأصل في غير المتعدي إِذا كان ثلاثيا نحو: قعد وأقعدته، وطال وأطلته. وأما المتعدي فمنه ما يحصل للفاعل منه صفة في نفسه ولا يكون اعتماده في الثاني على المفعول فيجوز نقله، مثل: طعم زيد الخبز وأطعمته، وكذلك: جرع الماء وأجرعته، وكذلك بلع، وشم وسمع، لأنها كلها يحصل منها للفاعل صفة في نفسه، غير خارجة عنه، ولذلك جاءت أو أكثرها على فعل - بكسر العين - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 مشابهة لباب: فزع وحذر وحزن ومرض، إلى غير ذلك مما له أثر في باطن الفاعل وغموض معنى فيه، ولذلك كانت حركة العين كسراً، لأن الكسر خفض للصوت وإخفاء له، فشاكل اللفظ المعنى. ومن هذا النحو: لبس الثوب وألبسه إياه، لأن الفعل - وإن كان متعدياً - فحاصل معناه في نفس الفاعل، كأنه لم يفعل بالثوب شيئا، وإنما فعل بنفسه. ولذلك جاء على فعل مقابلة لعرى، وكذلك كسى، ولم يقولوا: أكسيته الثوب، لأن الكسوة ستر للعورة، فجاء على وزن سترته وحجبته ونحو ذلك. وأما أكل وأخذ وضرب فلا تنقل، لأن الفعل واقع بالمفعول، ظاهر أثره فيه غير حاصل في الفاعل منه صفة، فلا تقول: أضربت زيداً عمراً، ولا: أقتلته خالداً. لأنك لم تجعله على صفة في نفسه كما تقدم. وأما " أعطيته " فمنقول من: " عطا يعطو " إذ أشار للتناول، وليس معناه الأخذ. ألا تراهم يقولون: " عاط بغيو أنواط "، فنفوا أن يكون وقع هذا الفعل بشيء، فلذلك نقل كما نقل غير المتعدي لقربه منه، فقالوا: أعطيت زيداً درهماً، أي: جعلته عاطياً له. وأما " أنلت " فمنقول من " نال " المتعدية، وهي بمنزلة " عطا يعطو "، لا تنبئ إلا عن وصول إلى المفعول دون تأثير فيه ولا وقوع ظاهر به، ألا ترى إلى قوله سبحانه: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى) . ولو كان فعلاً مؤثراً في مفعوله لم يجز هذا، إنما هو منبئ هو الوصول فقط. وأما " آتيت المال زيداً " فمنقول من " أتى "، لأنها غير مؤثرة في المفعول، وقد حصل منها للفاعل صفة. فإن قيل: يلزمك أن تجيزت " أتيت زيداً عمراً، أو المدينة "، أي: جعلته يأتيهما؟ قلنا: بينهما فرق، وهو أن إتيان المال زيداً كسب وتمليك، فلما اقترن به هذا المعنى صار كقولك: أكسبته مالاً أو: أملكته إياه، وليس كذلك: " أتى زيد عمراً، فهذا الفرق بينهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وأما " شرب زيد الماء " فلم يقولوا فيه: أشربته، لأنه بمثابة الأكل والأخذ ومعظم أثره في المفعول، وإن كان قد جاء على " فعل " مثل (بلع) ، ولكنه ليس مثله، إلا أن تريد أن الماء خالط أجزاء الشارب له وحصلت من الشرب صفة في الشارب فيجوز حينئذ، كما قال سبحانه: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) . وعلى هذا يقال: " أشربت الخبز اللبن،، لأن شرب الخبز اللبن والماء ليس كشرب زيد له، فتأمله. وأما " ذكر زيد عمراً " فإن كان من ذكر اللسان لم تنقله، لأنه بمنزلة شتم ولطم. وإن كان من ذكر القلب نقلته فتقول: " أذكرته الحديث "، بمنزلة أفهمته وأعلمته، أي: جعلته على هذه الصفة. * * * مسألة وقال في الباب: " اخترت الرجال زيداً "، واستشهد بالآية. والأصل في هذا التعدي بحرف الجر وهو (مِن) ، لأن المعنى إخراج شيء من شيء، وإنما حذف لتضمن الفعل معنى فعل آخر متعد، كأنك حين قلت: اخترت من الرجال، أردت: نخلت الرجال ونقدتهم فأخذت منهم زيداً، فمن ههنا أسقط حرف الجر كما أسقط في: " أمرتك الخير " إذا كان الأمر تكليفاً، كأنك قلت: كلفتك هذا الأمر. وإذا ثبت هذا فللمسألة أحكام نذكرها، منها: أن الاختيار تقديم الاسم المجرور إذا لم يسقط حرف الجر، يجوز فيه التأخير، تقول: " اخترت من الرجال عشرةً " ولو قدمت العشرة لم يحسن، لأن المخاطب يتوهم أن المجرور في موضع النعت للعشرة وليس في موضع المفعول الثاني. وأيضاً فإن الرجال معرفة فتقديمه أحق بالاهتمام، كما لزم تقديم المجرور الذي هو خبر عن النكرة من قولك: " في الدار رجل "، لكون المجرور معرفة، فكأنه المخبر عنه. فإذا حذفت حرف الجر لم يكن بدٌّ من التقديم للاسم الذي كان مجروراً نحو: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 " اخترت الرجال عشرةً " ولو قلت: " اخترت عشرة قومك " أو اخترت فرساً الخيل، لم يجز. والحكمة في ذلك أن المعنى الذي من أجله حذف حرف الجر هو معنى غير لفظ، فلم يقو على حذف الجر إلا بعد اتصاله به وقربه منه. ولوجه آخر أيضاً وهو أن القليل الذي اختير من الكثير إذا كان مما يتبعض ثم ولي الفعل الذي هو " اخترت " يوهم أنه مختار منه أيضاً، لأن كل ما يتبعض يجوز أن يختار منه وأن يختار، فألزموه التأخير وقدموا الاسم المختار منه، وكان أولى بذلك لما سبق من القول، فإن كان مما لا يتبعض نحو: زيد، وعمرو، فربما جاز على قلة من الكلام نحو قوله: منا الذي اختير الرجال سماحة وليس حكم هذا حكم قولك: " اخترت فرسا الخيل "، لأن الفرس اسم جنس فقد يتبعض مثله ويختار منه، و " زيد " من حيث كان جسما يتبعض، ومن حيث كان " زيداً "، أي: اسما علما للشيء بعينه لا يتبعض، فتأمل هذا ولا تغفله، فقلما رأيت مشتغلاً به، وهو أصل يجب تفقده، والقياس والسماع يعضده، وبالله التوفيق. * * * مسألة وقال في هذا الباب: " استغفر زيدٌ ربَّه ذنبه ". هذه المسألة في تأخير الاسم المسقط منه حرف جر، بخلاف التي قبلها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 لأن التي قبلها وهي: " اخترت الرجال " كان الأصل فيها حرف الجر، فأسقط للمعنى الذي ذكرناه في الفعل عند اتصال الفعل به. وأما هذه فالأصل فيها سقوط حرف الجر، وأن يكون " الذنب " مفعولاً بالغفران الذي لا يتعدى بحرف، لأنه من " غفرت الشيء "، إذا غطيته وسترته، مع أن الاسم الأول هو فاعل في الحقيقة وليس كذلك " زيد " وسبعين رجلاً في باب (اختار) فلذلك تقول: " استغفر زيد ذنبه ربه! في جيد الكلام. فإن قيل: فإن كان سقوط حرف الجر هو الأصل، فمن إذاً زائدة، كما قال الكسائي، وليس كما قال سيبويه ولا الزجاجي: إنما حذفت حرف الجر ثم نصبت. قلنا: إنما سقوط حرف الجر أصل في الفعل المشتق منه نحو: " غفر "، وأما إذا قلت: " أستغفر "، أو " أستغفر أنا الله "، ففي ضمن الكلام ما لا بد له من حرف الجر، لأنك لا تطلب كفراً مجرداً من معنى التوبة والخروج من الذنب، وإنما تريد الاستغفار خروجا من الذنب وتطهيراً منه، فلزمت " مِن " في الكلام لهذا المعنى فهي متعلقة بالمعنى لا بنفس اللفظ، فإن حذفتها تعدى الفعل ونصب، وكان بمنزلة قولك: " أمرتك الخير ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 فإن قيل: فما قولكم في نحو قوله تعالى: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ) و (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ) ؟. قلنا: هي متعلقة بمعنى الإنقاذ والخروج من الذنوب، وإنما دخلت لتؤذن. بهذا المعنى ولكن لا يكون ذلك في القرآن إلا حيث يذكر الفاعل الذي هو المذنب، نحو قوله: لكم، لأنه المنقذ المخرج من الذنوب بالإيمان، ولو قلت: (يغفر من ذنوبكم) - دون أن تذكر الاسم المجرور - لم يحسن إلا على معنى التبعيض، لأن الفعل الذي كان في ضمن الكلام وهو الإنقاذ، قد ذهب بذهاب الاسم الذي هو واقع عليه. فإن قلت: فقد قال: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) وقال في سورة الصف: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) فما الحكمة في سقوطها ههنا؟ وما الفرق؟. فالجواب: أن هذا إخبار عن المؤمنين الذين قد سبق لهم الإنقاذ من ذنوب الكفر بإيمانهم، ثم وعدوا على الجهاد بغفران ما اكتسبوا في الإسلام من الذنوب، وهي غير محيطة بهم كإحاطة الكفر المهلك بالكافر، فلم يتضمن الغفران معنى الاستنقاذ، إذ ليس ثم الإحاطة من الذنب بالمذنب، وإنما تضمن معنى الإذهاب والإبطال للذنوب، لأن الحسنات يذهبن السيئات، بخلاف الآيتين المتقدمتين فإنهما خطاب للمشركين وأمر لهم بما ينقذهم وبخلصهم مما أحاط بهم وهو الكفر، وأما المؤمنون فقد أنقذوا. وأما قوله في آية الصدقات: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) . فهي في موضع (مِن) التي للتبعيض، لأن الصدقة لا تذهب جميع الذنوب كالجهاد. ومن هذا النحو قوله عليه السلام: " فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير ". فأدخل في كلامه " عن " لتؤذن بمعنى الخروج عن اليمين، لما ذكر الخارج الفاعل وهو الضمير المستتر في (يكفر) فكأنه قال: فليخرج بالكفارة عن يمينه، ولما لم يذكر الفاعل المكفر في قوله سبحانه: (ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ) . لم يدخل " عن " ولا احتيج إليها، وأضيفت (الكفارة) إلى (الأيمان) إضافة المصدر إلى المفعول، وإن كانت الأيمان لا تكفر وإنما يكفر الحنث والإثم، ولكن الكفارة حل لعقدة اليمين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 فمن هنالك أضيفت إلى اليمين كما يضاف الحل إلى العقد، إذ اليمين عقد والكفارة حل له، والله المستعان. * * * فصل (من مسألة النقل والتعدية) المفعول (الثاني) من نحو قولك: " ألبست زيداً الثوب " ليس منتصباً بأفعلت. لما تقدم من أنك لا تنقله عن الفاعل ويصير الفاعل مفعولاً، حتى يكون الفعل حاصلاً في الفاعل ولكن المفعول الثاني منتصب بما كان منتصبا به قبل دخول الهمزة والنقل، وذلك أنهم اعتقدوا طرحها حين كانت زائدة، كما فعلوا في تصغير " حميد " و " زهير "، وكما فعلوا حين قالوا: (أورث النبت فهو وارس) ، ولم يبنوه على " أورس ". وقال الله - سبحانه وتعالى -: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا) . فلم يجئ بالمصدر على " أنبت ". ومما يوضح لك هذا أنهم أعلوا الفعل فقالوا: " أطال الصلاة وأقامها "، فلم يقولوا: " أطول "، ولا " أقوم "، مراعاةً لحكم الفعل قبل دخول " الهمزة "، ألا ترى أنهم حيث نقلوه في التعجب واعتقدوا ثبات " الهمزة " لم يعدوه إلى مفعول ثان، بل قالوا: ما أضرب زيداً لعمرو باللام، لأن التعجب تعظيم لصفة المتعجب منه، وإذا كان الفعل صفة في الفاعل لم يتعد، ومن ثم صححوه في التعجب فقالوا: ما أقومه وأطوله، حيث لم يعتقدوا سقوط الهمزة، كما صححوا الفعل من " استحوذ " و " استنوق الجمل "، حيث كانت الهمزة والزوائد لازمة له غير عارضة فيه، والحمد لله. * * * مسألة حذف " الباء " من " أمرتك الخير " إنما يكون بشرطين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 أحدهما: اتصال الفعل بالمجرور فإن تباعد منه لم يكن بد من " الباء ": نحو قولك: " أمرت الرجل يوم الجمعة بالخير " يقبح حذف الباء، لأن المعنى الذي من أجله حدفث " الباء " ليس بلفظ، وإنما هو معنى في الكلمة، وهو ما تضمنته في معنى " كلفتك " فلم يقو على الحذف إلا مع القرب من الاسم كما كان ذلك في (اخترت) ، وقد تقدم، ألا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ) كيف أعاد حرف الجر في البدل لما طال الأول بالصلة وكذلك قوله: (يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا) ، على أحد القولين، فإذا أعيد حرف الجر مع البدل لطول الاسم الأول، فإثبات الحرف من نحو: " أمرتك الخير " إذا طال الاسم أجدر والشرط الثاني: أن يكون المأمور به حدثاً، فإن كان جسماً أو جوهراً، لم تحذف الباء من نحو: " أمرتك بزيد "، ولا تقول: أمرتك زيداً، لأن الأمر في الحقيقة ليس به ولا للتكليف به متعلق، وإنما تدخل الباء عليه مجازاً، كأنك قلت: أمرتك بضرب زيد أو إكرامه "، ثم حدفت. وأما " نهيتكن عن الشر " فلا يجوز حذف الحرف الجار فتقول: نهيتك الشر، لأنه ليس في ضمن الكلام ما يتضمن النصب، والنهي عن الشيء إبعاد عنه وكف وزجر، وكل هذه المعاني متعدية بـ عن، فلم يكن بد منها، بخلاف الأمر فإنه إغراء بالشيء وإلزاق به فمن ثم تعدى بالباء وهو أيضا بمعنى التكليف والإلزام، فمن ثّمَّ جاز إسقاط الباء. * * * مسألة (في " عرفت " و " علمت " ونحوهما) أما " عرفت " فأصل وضعها لتمييز الشيء وتعيينه حتى يظهر للذهن منفرداً من معنى زائد عليه، وهذه اللفظة مأخوذة من لفظ " العرف "، وهو ما ارتفع من الأرض حتى يظهر ويتميز. وأما " علمت " فأصل موضوعها للمركبات لا لتمييز المعاني المفردة، ومعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 التركيب إضافة الصفة إلى المحل، وذلك أنك تعرف " زيداً " على حدته، وتعرف معنى " القيام " على حدته، ثم تضيف القيام إلى " زيد " فإضافة القيام إلى زيد هو التركيب، وهو متعلق العلم. فإذا قلت: (علمت) فمطلوبها ثلاثة معان: جوهر وهو المحل، وصفة وهو القيام، وإضافة الصفة إلى المحل، فهي ثلاث معلومات متلازمة في العقل: الجوهر (منها معروف) وماهية الصفة معروفة على حدتها، والحدث الذي هو مركب من الجوهر والصفة معلوم متضمن ثلاث معلومات. إذا ثبت هذا فلا يضاف إلى الله - سبحانه - إلا العلم. ولا يقال فيه: " عرف " ولا " يعرف "، لأن علمه متعلق بالأشياء كلها، مركبها ومفردها، تعلقاً واحداً، بخلاف علم المحدثين فإن معرفتهم بشيءآخر. ومازعموه من قولهم: قد يكون " علمت " بمعنى " عرفت "، واستشهادهم بالآي التي استشهدوا بها، ليس هو حقيقة، لأن تعدي " علمت " إلى مفعول واحد في اللفظ لا يخرجها إلى معنى " عرفت "، ولكن على جهة المجاز والاختصار. فقوله: (لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) ، ليس ينفي عنه معرفة أعيانهم وأسمائهم، وإنما ينفي عنه العلم بعداوتهم ونفاقهم، وما تقدم من الكلام يدل على ذلك. وكذلك توله عز وجل: (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ) ، فربما كانوا يعرفونهم ولا يعلمون أنهم أعداء، فيتعلق العلم بالصفة المضافة إلى الموصوف، وذاته، وإنما مثل من يقول: إن " علمت " يكون بمعنى " عرفت "، من أجل أنه رآها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 متعدية إلى مفعول واحد في اللفظ، كمثل من يقول: إن (سألت) تتعدى إلى غير الآدميين فيقول: اسالت الحائط والدابة، ويحتج بقوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) وإنما هذا جهل بالمجاز والحذف، وكذلك ما تقدم. وأما نصب (علمت) و (ظننت) لمفعولين، فليس هما مفعولان في الحقيقة. وإنما هو المبتدأ والخبر، وهو حديث إما معلوم وإما مظنون، فكان حق الاسم الأول أن يرتفع بالابتداء والثاني بالخبر، ويلغى الفعل؛ لأنه لا تأثير له في الاسم، وإنما التأثير لعرفت المتعلقة بالاسم المفرد تعييناً وتمييزاً، ولكنهم أرادوا تشبث " علمت " بالجملة التي هي الحديث، كيلا يتوهم الانقطاع بين المبتدأ وبين ما قبله. لأن الابتداء عامل في الاسم وقاطع له مما قبله، وهم إنما يريدون إعلام المخاطب بأن هذا الحديث معلوم، فكان إعمال (علمت) فيه ونصبه له إظهاراً لتشبثها، ولم يكن عملها في أحد الاسمين أولى من الآخر، فعملت فيهما معا. وكذلك " ظننت "؛ لأنه لا يتحدث بحديث حتى يكون عند المتكلم إما مظنونا وإما معلوما، فإن كان مشكوكاً فيه أو مجهولًا عنده لم يسغ له الحديث، فمن ثم لم يعملوا (شككت) ولا (جهلت) فيما عملت فيه ظننت وعلمت، لأن الشك تردد بين أمرين من غير اعتماد على أحدهما، بخلاف الظن فإنك معتمد فيه على أحد الأمرين، وأما العلم فأنت فيه قاطع بأحدهما، ومن ثم تعدى الشك بحرف (في) لأنه مستعار من " شككت الحائط بالمسمار ". * * * شَكَّ الفَريصَةَ بالمِدْرى. . .. وشك الحائط إيلاج فيه من غير ميل إلى أحد الجانبين، كما أن الشك في الحديث تردد فيه من غير ترجيح لأحد الجانبين. ونظير إعمالهمم " علمت " وأخواتها في المبتدأ والخبر اللذين هما بمعنى الحديث، إعمالهم " كان " وأخواتها في الجملة، وإنما (كان) أصلها أن ترفع فاعلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 واحداً نحو: " كان الأمر "، أي: حدث، فلما خلعوا منها معنى الحدث ولم يبق فيها إلا معنى الزمان، ثم أرادوا أن يخبروا بها عن الحدث الذي هو (زيد قائم) أي: إن زمان هذا الحديث ماض أو مستقبل - أعملوها في الجملة ليظهر تشبثها بها ولا يتوهم انقطاعها عنها، لأن الجملة قائمة بنفسها. و" كان " كلمة قد يوقف عليها أو تكون خبراً عما قبلها، فكان عملها في الجملة دليلًا على تشبثها بها، وأنها خبرٌ عن هذا الحديث، ولم تكن لتنصب الاثنين لأن أصلها أن ترفع ما بعدها، ولم تكن لترفعهما معا فلا يظهر عملها، فلذلك رفعت أحدهما ونصبت الآخر. نعم، ومنهم من يقول: " كان زيد قائم "، فيجعل الحديث هو الفاعل بكان، فيكون معمولها معنوياً لا لفظياً، كأنك قلت كان هذا الحديث. وإن أضمرت الأمر والشأن ودلت عليه قرينة حال فالمسألة على حالها، لأن الجملة، حينئذ بدل من ذلك المضمر لأنها في معنى الحديث، وذلك الحديث هو الأمر المضمر، فهذا بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة. ونظير هذا المعمول المعنوي الذي هو الحديث، معمول (علمت) و (ظننت) إذا ألغيت نحو: " زيد ظننت قائم "، كأنك قلت: ظننت هذا الحديث، فلم تعملها لفظا إنما أعملتها معنى. ومن هذا الباب إعمالهم " إن " وأخواتها، وإنما دخلت لمعان في الجملة والحديث، إلا أنها كلمات يصح الوقف عليهن، لأن حروفهن ثلاثة فصاعداً، ألا ترى إلى قوله: ويَقُلْنَ شَيْبٌ قد عَلا ... كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وقال الآخر: ليث شعري. . وأين مني ليت؟ . . .. وقال حبيب: . . . . . . . . . . . . . . . . عسى وطن يدنوا بهم ولعلما وإذا كان هذا حكمها فلو رفع ما بعدها بالابتداء على الأصل، لم يظهر تشبثها بالحديث الذي دخلت لمعنى فيه، فكان إعمالها في الاسم المبتدأ إظهاراً لتشبثها بالجملة وكيلا يتوهم انقطاعها عنها، وكان عملها نصباً لأن المعاني التي تضمنتها لو لفظ بها لنصبت نحو: التوكيد والترجي والتنمي، فإنها معان في نفس المتكلم تقديرها: أؤكد وأتمنى، وليست هذه المعاني مضافة إلى الاسم المخبر عنه، فإن (زيداً) من قوله: (إِن زيداً) ، و (ليت زيداً) لم يؤكد شيئا ولا تمناه، ولكن الحديث هو المؤكد أو المتمني، فكان عملها نصباً بهذا، وبقي الاسم الآخر مرفوعاً لم يعمل فيه، حيث لم تقل أفعالاً كعلمت وظننت فتعمل في الجملة كلها، وإنما أرادوا إظهار تشبثها بالجملة فاكتفوا بتأثيرها في الاسم الأول، يدلك على أنها لم تعمل في الاسم الثاني أنه لا يليها، لأنه لا يلي العامل ما عمل فيه غيره، فلو عملت فيه لوليها، كما يلي (كان) خبرها، ويلي الفعل مفعوله. نعم، ومن العرب من أعملها في الاسمين جميعاً، وهو قوي في القياس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 لأنها دخلت لمعانٍ في الجملة فليس أحد الاسمين أولى بأن يعمل فيه من الآخر. قال الراجز: إنَّ العجوزَ خَبَّةً جَرُوزا ... تأكلُ كلَّ ليلةٍ قَفيزا واعلم أن معاني هذه الحروف لا تعمل في حال ولا ظرف، ولا يتعلق بها مجرور، لأنها في نفس المتكلم كالاستفهام والنفي وسائر المعاني التي جعلت الحروف أمارات لها وليس لها وجود في اللفظ، فإذا قلت: هل زيد فائم؟ فمعناه: استفهم عن هذا الحديث. وكذلك " لا " معناها أن الحديث نفي، وكذلك " ليس معناها انتفاء الحديث. وكذلك حين أرادوا إظهار تشبثها بالجملة لم ينصبوا بها الاسم الأول، كما نصبوا بأن، حيث لم يكن معناها يقتضي نصباً إذا لفظ به، كما يقتضي معنى (إن) و (لعل) إذا لفظ به. وأما (كأنَّ) فمفارقة لأخواتها من وجه، وهي أنها تدل على التشبيه، وهو معنى في نفس المتكلم واقع على الاسم الذي بعدها فكأنك تخبر عن الاسم بعدها أنه مشبه غيره، فصار معنى التشبيه مسنداً إلى الاسم بعدها، كما أن معاني الأفعال مسندة إلى الأسماء بعدها، فمن ثَمَّ عملت في الحال والظرف، تقول: " كأن زيداً يوم الجمعة أمير "، فيعمل التشبيه في القول، ومن ذلك قوله: كأنَّه خارِجٌ من جَنْبِ صَفْحَتِهِ ... سَفُّوْدُ شَرْبٍ نَسُوْهُ عند مُفْتَأَدِ ومن ثم وفعت في موضع الحال والنعت، كما تقع الأفعال المخبر بها عن الأسماء، تقول: " مررت برجل كأنه أسد "، و: " جاءني رجل كأنه أمير "، وليس ذلك في أخواتها لا تكون في موضع نعت ولا في موضع حال، بل لها صدر الكلام كما لحروف الشرط والاستفهام لأنها داخلة لمعان في الجمل فانقطعت مما قبلها، وإنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 كانت " كأن " مخالفة لأخواتها من وجه وموافقة من وجه، من حيث كانت مركبة من " كاف " التشبيه، و " أن " التي للتوكيد، فكان أصلها: " إن زيداً الأسد "، أي: مثل الأسد، ثم أرادوا أن يبينوا أنه ليس هو بعينه فأدخلوا الكاف على الحديث المؤكد إن، لتؤذن أن الحديث مشبه به. وحكم " إن " إذا دخل عليها عامل أن تفتح الهمزة منها، فصار اللفظ: (كأن زيداً الأسد "، فلما في كلمة من التشبيه المخبر به عن " زيد "، صار " زيد " بمنزلة من أخبر عنه بالفعل، فوقع موقع النعت والحال، وعمل ذلك المعنى وتعلقت به المجرورات ومن حيث كان في الكلمة وعني إن دخلت في هذا الباب، ووقع في خبرها الفعل نحو قولك: " كأن زيداً يقوم ". والجملة نحو: " كأن زيداً أبوه أمير ". ولو لم يكن إلا مجرد التشبيه لم يجز هذا، لأن الاسم لا يشبه بفعل ولا بجملة، ولكنه حديث مؤكد بإن، والكاف تدل على أن خبراً أشبه من هذا الخبر، وذلك الخبر الذي شبه بهذا الخبر هو الذي دل عليه " زيد "، فكان المعنى: زيد قائم وكأنه قاعد. و" زيد أبوه وضيع وكأن أبوه أمير "، فشبهت حديثا بحديث، والذي يؤكد الحديث " أن " والذي يدل على التشبيه " الكاف "، فلم يكن بد من اجتماعهما. * * * فصل وكل هذه الحروف تمنع ما قبلها أن يعمل فيما بعدها لفظا أو معنى. أما اللفظ فلأنه لا يجتمع عاملان في اسم واحد، وهذه الحروف عوامل. وأما المعنى فلا تقول: " سرني زيد قائم "، أي: سرني هذا الحديث. ولا " كرهت زيد قائم " أي: كرهت هذا الحديث، كما يكون ذلك في كان وليس لأن كان ليست بفعل محض فجاز أن تقول: " كأن زيد قائم ". أي: كأن هذا الحدبث، ولم يجز في " سرني " ولا " بلغني ". فإن أدخلت " ليت " أو " لعل " أو " إن " المكسورة لم يجز أيضا، لأن هذه المعاني ينبغي أن يكون لها صدر الكلام فلا يقع قبلها فعل معمل ولا ملغى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 فإن جئت بـ " أن " المفتوحة قلت: " بلغني أن زيداً منطلقاً، فأعملت الفعل في معمول معنوي، وهو الحديث، لأن الجملة الملفوظ بها حديث في المعنى. وإنما جاز هذا لامتناع الفعل أن يعمل فيما عملت فيه " أن "، ولا بد له من معمول فيه، فتسلط على المعمول المعنوي وهو الحديث، حيث لم يمكن أن يعمل في اللفظي الذي عملت فيه " أن ". وكذلك: " كرهت أن زيداً منطلق "، المفعول وهو الحديث، وهو معنى لا لفظ. فإن قيل: وهلَّا كان لأن صدر الكلام كما كان لليت ولعل ولجميع الحروف الداخلة على الجمل؟. قلنا: ليس في " أن " معنى زائد على الجملة أكثر من التوكيد، وتوكيد الشيء هو بمثابة تكراره لا بمثابة معنى زائد فيه، فصح أن يكون الحديث المؤكد بها معمولاً لما قبلها، حيث منعت هي من عمل ما قبلها في اللفظ الذي بعدها، فتسلط العامل الذي قبلها على الحديث، ولم يكن له مانع في صدر الكلام يقطعه عنه كما كان ذلك في غيرها. فإن كسرت همزتها كان الكسر فيها إشعاراً بتجريد المعنى الذي هو التأكيد عن توطئة الجملة للعمل في معناها. فليس بين المكسورة والمفتوحة فرق في المعنى، إلا أنهم إذا أرادواً توطئة الجملة لأن يعمل الفعل الذي قبلها في معناها وأن يصيروها في معنى الحديث. فتحوا الهمزة، وإذا أرادوا قطع الجملة مما قبلها وأن يعتمدوا على التوكيد اعتمادهم على الترجي والتمني كسروا الهمزة ليؤذنوا بالابتداء والانقطاع عما قبل، وأنهم قد جعلوا التوكيد صدر الكلام، لأنه معنى كسائر المعاني، وإن لم يكن في الفائدة مثل غيره. وكان الكسر بهذا الموطن أولى لأنه أثقل من الفعل، والثقل أولى ما يعتمد عليه ويصدر الكلام به، والفتح أولى بما جاء بعد الكلام لخفته، وأن المتكلم ليس في عنفوان نشاطه وجمامه، مع أن المفتوحة قد تلي الضم والكسر من قولك: لأنك، وبأنك، وعلمت أنك، فلو كسرت لتوالي الثقل. فإن قيل: فما المانع من أن تكون هي وما بعدها في موضع المبتدأ، كما كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 فى موضع الفاعل والمفعول والمجرور؟ أليس قد صيرت في الجملة في معنى الحديث فلم لا تقول " أنك منطلق معجب لي "، وما الفرق بينها وبين أن التي هي وما بعدها في تأويل الاسم نحو: " أن يقوم زيد خير من أن يجلس "، فلم تكون تلك في موضع المبتدأ، ولا تكون هذه كذلك؟. والجواب: أن المبتدأ يعمل فيه عامل معنوي، والعامل المعنوي لولا أثره في المعمول اللفظي لما عقل، وهذه الجملة المؤكدة بأن إنما يصح أن تكون معمولا لعامل لفظي، لأن العامل معنى والمعمول معنى أيضاً، وهذا لا يفهمه المخاطب ولا يصل إلى علمه إلا بوحي، فامتنع أن تكون هذه الجملة المؤكدة في موضع المبتدا لأنه لا ظهور للعامل ولا للمعمول، ومن ثم لم تدخل عليها عوامل الابتداء من " كان " وأخواتها و " إن " وأخواتها، لأنها قد استغنت بظهور عملها في الجملة عن حرف يصير الجملة في معنى الحديث المعمول فيه، فلا تقول: " كان أنك منطلق "، لا حاجة إلى " أن " مع عمل هذه الحروف في الجملة. وجواب آخر، وهو أنهم لو جعلوها في موضع المبتدأ لم يسبق إلى الذهن إلا الاعتماد على مجرد التوكيد دون توطئة الجملة للإخبار عنها، فكأنك تكسر همزتها. وقد تقدم أن الكسر إشعار بالانقطاع عما قبل، واعتماد على المعنى الذي هو التوكيد، فلم يتصور فتحها في الابتداء إلا بتقدم عامل لفظي يدل على المراد بفتحها، لأن العامل اللفظي يطلب معموله، فإن وجده لفظا فهذا غير ممنوع منه، وإلا تسلط على المعنى، والابتداء بخلاف هذا. فإن قيل: فلم قالوا: " علمت أن زيداً قائم " و" ظننت أنك ذاهب "، هلا اكتفوا بعمل هذه الأفعال في الأسماء عن تصيير الجملة في معنى الحديث، كما اكتفوا في باب (كان) و (أن) ؟. والجواب: أن الفرق بينهما أن هذه أفعال تدل على الحدث والزمان، وليست بمنزلة (ليس) و (كان) ، ولا بمنزلة (إن) و (ليت) ، فأجريت مجرى (كرهت) و (أحببت) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 فلذلك فالوا: علمت أنك منطلق، كما قالوا: أحببت أنك منطلق إلا أنها تخالف كرهت وأحببت وسائر الأفعال، لأنها لا تطلب إلا الحديث خاصة ولا تتعلق إلا به، فمن ثم قالوا: علمت زيداً منطلقاً وزيد - عملت - منطلق،، ولم يقولوا: " كرهت زيداً أخاك، لأنه لا متعلق لكرهت وسائر الأفعال بالحديث، إنما متعلقها الأسماء، إلا أن تمنعها " أن " من العمل في الأسماء، فتصير متعلقة بالحديث، فافهمه. * * * فصل إن قيل: فما العامل في هذا الحديث المؤكد بأن من قولك: لو أنك ذاهب فعلت، لا سيما و (لو) لا يقع بعدها إلا الفعل، ولا فعل ههنا؟ فما موضع (أن) وما بعدها؟. فالجواب: أن " أن " في معنى التوكيد، وهو تحقيق وتثبيت، فذلك المعنى الذي هو التحقيق اكتفت به (لو) ، حتى كأنه فعل وليها، ثم عملت ذلك المعنى في الحديث كأنك قلت: " لو ثبت أنك منطلق "، فصارت كأنها من جهة اللفظ عاملة في الاسم الذي هو لفظ، ومن جهة المعنى عاملة في المعنى الذي هو الحديث. فإن قيل: ألم يتقدم أن لا يعمل عامل معنوي في معمول معنوي؟. قلنا: هذا في الابتداء حيث لا لفظ يسد مسد العامل اللفظي، فأما ههنا فلو لشدة مقارنتها للفعل وطلبها له، تقوم مقام اللفظ بالعمل الذي هو التحقيق والتثبيت الذي دلت عليه " أن " بمعناها. ومن ثم عمل حرف النفي المركب مع (لو) من قولك " لولا زيد " عمل الفعل، فصار زيد فاعلاً بذلك المعنى حتى كأنك قلت: لو انعدم زيد، أو: غاب زيد، ما كان كذا وكذا. ولولا مقارنة (لو) لهذا الحرف لما جاز هذا، لأن الحروف لا تعمل في الأسماء معانيها أصلاً، فالعامل في هذا الاسم الذي بعد (لولا) كالعامل في هذا الاسم الذي هو الحديث من قولك: " لو أنك ذاهب لفعلت كذا ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وأما اختصاص " لا " بالتركيب معها في باب " لولا زيد ذاهب لفعلت كذا ". فلأن " لا " قد تكون منفردة تغني عن الفعل، إذ قيل لك: هل قام زيد؟ فتقول: لا. فقد أخبرت عنه بالقعود. وإذا قيل لك: هل قعد؟ فقلت: لا. فكأنك مخبر بالقيام. وليس شيء من حروف النفي يكتفى به في الجواب حئى يكون بمنزلة الإخبار إلا هذا الحرف، فمن ثم صلح الاعتماد عليه في هذا الباب، وساغ تركيبه مع حروف لا تطلب إلا الفعل، فصارت الكلمة بأسرها بمنزلة حرف وفعل، وصار " زيد " بعدها بمنزلة الفاعل. ولذلك قال سيبويه: " إنه " مبني على " لولا ". وهذا هو الحق، لأن ما يهذون به من أنه مبتدأ وخبره محذوف، لا يظهر، وخامل لا يذكر. * * * مسألة (أعلمت زيداً عمراً قائما) زكر سيبويه أنه لا يجوز الاقتصار على المفعول الأول. وتأول أصحابه قوله، قالوا: " لا يجوز: لا يحسن، لأن المعمول الأول هو الفاعل في المعنى، والفاعل يجوز الاقتصار عليه فتقول: علم زيد. وإنما الذي لا يجوز الاقتصار عليه المفعول الثاني الذي هو الأول قبل النقل. وعندي أن كلام سيبويه محمول على الظاهر، لأنك لا تريد بقولك: " أعلمت زيداً " أي: جعلته عالماً على الإطلاق، وهذا محال، إنما تريد: أعلمته بهذا - الحديث، فلاِ بد إذاً من ذكر الحديث الذي أعلمته به. فإن قيل: فهل يجوز: " أظننت زيداً عمراً قائما "، كما تقول: أعلمت؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 قلنا: الصحيح امتناعه، لأن الظن إن كان بعد علم - والعلم ضروري - فمحال أن يرجع ظنا، وإن كان العلم نظرياً لم يرجع العالم إلى الظن إلا بعد النسيان أو الذهول عن ركن من أركان النظر. وهذا ليس من فعلك أنت به، فلا تقول: " أظننته " بعد أن كان عالما. وإن كان قبل الظن شاكاً أو جاهلاً أو غافلاً فلا يتصور أيضاً أن تقول: " أظننته "، لأن الظن لا يكون عن دليل يوفقه عليه أو خبر صادق يخبر به كما يكون العلم. لأن الدليل لا يقتضى ظنا ولا يقتضيه أيضاً شبهة كما بينه أصحاب الأصول. فثبت أن الظن لا تفعله أنت به، ولا تفعل شيئاً من أسبابه، فلم يجز: " أظننته " أي: جعلته ظاناً، وكذلك يمتنع: " أشككته " من الشك، أي: جعلته شاكاً ولكنهم قد يقولون " شككته "، إذا حدثته بحديث يصرفه عن حال الظن إلى حال الشك. فلذلك جاء على وزن " حدثته ". والله أعلم. * * * مسألة وقوله: " وفعل يتعدى بحرف جر وبغير حرف جر ". أصل هذا الفصل أن كل فعل يقتضي مفعولاً ويطلبه، فلا يصل إلى ما بعده إلا بحرف الجر، ثم قد يحذف المفعول لعلم السامع به ويبقى المجرور. وربما تضمن الفعل معنى فعل آخر متعد بغير حرف، فيسقط حرف الجر من أجله، وربما كان الفعل يتعدى بغير حرف وفي ضمن الكلام ما يطلب الحرف، فيدخل الحرف من أجله، فالأول نحو: " نصحت لزيد ". و" شكرت له "، و " كلت له ": المفعول في هذا كله محذوف، والفعل واصل إلى ما بعده بحرف، لأن " نصحت " مأخوذ من قولك: نصح الخائط الثوب: إذا أصلحه وضم بعضه إلى بعض، ثم استعير في الرأي فقالوا: " نصحت له رأيه ". والتوبة النصوح إنما هي لما تمزق من الدين كنصح الثوب، ولكنهم يقولون: نصحت زيداً، فيسقطون الحرف، لأن النصيحة متضمنة للإرشاد، فكأنهم قالوا: أرشدت زيداً. وكذلك " شكرت " إنما هو تفخيم للفعل وتعظيم له، من " شكر بطنه ": إذا امتلأت، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 فالأصل: " شكرت لزيد فعله "، ثم قد يحذف المفعول فتقول: شكرت لزيد، ثم يحذف الحرف لأن " شكرت " متضمنة لحمدت أو مدحت، لأن من شكر فعلاً للرجل فقد حمده، أو مدحه. وأما " كلت لزيد "، ووزنت له فمفعولها غير " زيد "، لأن مطلوبهما ما يكال أو بوزن فالأصل دخول اللام، ثم قد يحذف لزيادة فائدة، لأن كيل الطعام ووزنه يتضمن معنى المبايعة والمعاوضة إلا مع حرف اللام، فإن قلت: كلت لزيد، أخبرت بكيل الطعام خاصة، وإذا قلت: " كلت زيداً " فقد أخبرت بمعاملة ومبايعة مع الكيل، كأنك قلت: بايعت زيداً بالكيل والوزن. قال الله - سبحانه وتعالى -: (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) أي: بايعوهم كيلاً ووزناً. وأما قوله: (اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ) ، فإنما دخلت " على " لتؤذن أن الكيل على البائع للمشتري، ودخلت التاء في (اكتالوا) لأن افتعل في هذا الباب كله للأخذ، لأنها زيادة على الحروف الأصلية تؤذن بمعنى زاد على معنى الكلمة، لأن الأخذ للشيء كالمبتاع والمكتال والمشتري ونحو ذلك يدخل فعله من التناول والاحتراز إلى نفسه والاحتمال إلى رحله ما لا يدخل فعل المعطي والبائع، ولهذا قال سبحانه: (لَهَا مَا كَسَبَتْ) يعني من الحسئات، (وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) ، يعني من السيئات، لأن الذنوب يوصل إليها بواسطة الشهوة والشيطان، والحسنة تنال بهبة من الله - تعالى - من غير واسطة شهوة ولا إغواء عدو، فهذا الفرق بينهما. وأما قولهم: " سمع الله لمن حمده "، فمفعول (سمع) محذوف، لأن السمع متعلق بالأقوال والأصوات دون ما عداها، فاللام على بابها، إلا أنها تؤذن بمعنى زائد وهو الاستجابة المقارنة للسمع، فاجتمع في الكلمة الإيجاز والدلالة على المعنى الزائد وهو الاستجابة لمن حمده. وهذا مثل توله تعالى: (عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) . ليست " اللام " لام المفعول - كما زعموا - ولا هي زائدة، ولكن ردف فعل متعمد ومفعولها غير هذا الاسم، كما كان مفعول " سمع " غير الاسم المجرور، ومعنى ردف: تبع وجاء على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 الأثر، فلو حملته على الاسم المجرور، لكان المعنى غير صحيح إذا تأملته، ولكن المعنى: ردف لكم استعجالكم وقولكم، لأنهم قالوا: (متى هذا الوعد) ، ثم حذف المفعول الذي هو القول والاستعجال، اتكالاً على فعل السامع، ودلت اللام على الحذف لمنعها الاسم الذي دخلت عليه أن يكون مفعولاً، وآذنت أيضاً بفائدة أخرى وهي معنى " عجل لكم "، فهي متعلقة بهذا المعنى. فصار معنى الكلام: قل: عسى أن يكون عجل لكم " بعض الذي تستعجلون، فردف قولكم واستعجالكم فدلت ردف على أنهم قالوا: واستعجلوا، ودلت اللام على المعنى الآخر، فانتظم ْالكلام أحسن نظام واجتمع الإيجاز مع التمام. ومما يتصل بهذا الفصل: " قرأت الكتاب واللوح ونحوهما "، فإنها متعدية بغير حرف، وأما قرأت بأم القرآن و " قرأت بسورة كذا "، فإنما يكون إذا أرددت هذا المعنى، ولا بد من حذفها إذا لم ترده. وأما (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) ، فالباء متغلقة بما تضمنه الخبر من معنى الأمر بالاكتفاء لأنك إذا قلت: " كفى الله " أو: " كفاك زيد "، فإنما تريد أن يكتفي هو به، فصار اللفظ لفظ الخبر والمعنى معنى الأمر، فدخلت الباء لهذا، فليست زائدة في الحقيقة، وإنما هي كقولك: حسبك بزيد، ألا ترى أن حسبك مبتدأ وله خبر، ومع هذا فقد يجزم الفعل في جوابه فتقول: " حسبك ينم الناس "، فينم جزم على جواب الأمر الذي في ضمن الكلام. حكى هذا سيبويه عن العرب. * * * مسألة من باب ما تتعدى إليه الأفعال المتعدية وغير المتعدية. وهي تعدي الفعل إِلى المصدر وتعديه إليه على ثلاثة أنحاء، على أن يكون المصدر مفعولًا مطلقا، أو توكيداً، أو حالاً، قال سيبويه: " وإنما تذكرة لتبيين أي فعل فعلت، أو توكيداً ". وأما الحال فنحو: مشيت مشياً، وأنت تريد ماشياً، فقد تقول: مشيت ماشياً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وقعدت قاعداً، يجعلها حالاً مؤكدة. وعلى وجه أقرب من هذا وهو أن تريد نعت المصدر نحو قوله: مشيت مشياً شديداً أو مشيت مشياً، تريد: مشيا ما، فيكون مثل قوله: (لِسَانًا عَرَبِيًّا) ، وهي الحال الموطأة، لأن الصفة وطأت الاسم الجامد أن يكون حالاً، فإن حذفت الاسم وبقيت الصفة وحدها لم يكن في الحال إشكال. ويبين ما قلناه نحوه: سرت شديداً، وهي أيضاً حال من المصدر الذي دل عليه الفعل، فإذا أردت بالمصدر هذا المعنى كان بمنزلة الحال. ويجوز تقديمه وتأخيره إذا كان مفعولاً مطلقا أو حالاً، ولا يجوز تقديمه على الفعل إذا كان توكيداً له، لأن التوكيد لا يتقدم على المؤكد. والعامل فيه إذا أردت معنى الحال الفعل نفسه، والعامل فيه إذا كان مفعولاً مطلقا ليس هو لفظ الفعل بنفسه، وإنما هوما يتضمنه من معنى فعل - الذي هو: فاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وعين ولام - لأنك إذا قلت: - ضربت ضرباً، فالضرب ليس بمضروب، ولكنك حين قلت: ضربت تضمن ضربت معنى قلت لأن كل ضرب فعل، وليس كل فعل ضرباً. فصار هذا بمنزلة تضمن الإنسان والحيوان، إذ كل إنسان حيوان، وليس كل حيوان إنساناً. وإذا كان الأمر هنا كذلك، فضرباً منصوب بفعلت المدلول عليها بضربت. حتى كأنك قلت: فعلت ضرباً. ولا يكون المصدر مفعولاً مطلقاً حتى يكون منعوتا أو في حكم المنعوت. وإنما يكون توكيداً للفعل لأن الفعل يدل عليه دلالة مطلقة ولا يدل علمِه محدداً ولا منعوتا. وقد يكون مفعولاً مطلقاً وليس له نعت في اللفظ إذا كان في حكم المنعوت، كأنك تريد: ضربا ما، فلا يكون حينئذ توكيداً، إذ لا يؤكد الشيء بما فيه معنى زائد على معناه، لأن التوكيد تكرار محض. وقد احتج القتبي على القائلين من المعتزلة بأن تكليم الله لموسى - عليه السلام - مجاز، بقوله: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) ، فأكد الفعل بالمصدر، ولا يصح المجاز مع التوكيد. فذاكرت بقوله هذا شيخنا أبا الحسين - رحمه الله تعالى - فقال: هذا حسن لولا أن سيبويه قد أجاز في مثل هذا أن يكون مفعولًا مطلقا، وإن لم يكن منعوتا في اللفظ فيحتمل على هذا أن يريد، تكليماً ما، فلا يكون في الآية حجة قاطعة. والحجاج عليهم كثيرة لا يحتاج معها إلى الاحتجاج بالمحتملات. وقد سألته عن العامل في المصدر إذا كان توكيداً للفعل، والتوكيد لا يعمل فيه المؤكد إذ هو هو في المعنى، فما العامل فيه؟ فسكت قليلاً ثم قال: ما سألني عنه أحد قبلك! فأرى أن العامل فيه ما كان يعمل في الفعل قبله لو كان اسماً، لأنه لوكان اسماً كان منصوبا بفعلت المتضمنة فيه. ثم عرضت كلامه على نفسي وتأملت الكتاب، فإذا هو قد ذهل عما لوح إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 سيبويه في باب المصادر، بل صرح، وذلك أنه جعل المصدر المؤكد منصوباً بفعل هو التوكيد على الحقيقة، واختزل ذلك الفعل، وسد المصدر الذي هو معموله مسده، كما سدت (إياك) و (رويداً) مسد العامل فيهما، فصار التقدير: ضربت ضرباً، فضربت الثانية هي توكيد على الحقيقة، وقد سد ضربا مسدها، وهو معمولها، وإنما يقدر عليها فيه أنه مفعول مطلق لا توكيد. هذا معنى فول صاحب الكتاب مع زيادة في الشرح. ومن تأمله هناك وجده كذلك. والذي أقول به الآن قول الشيخ أبي الحسين، لأن الفعل المختزل معنى. والمعاني لا يؤكد بها وإنما يؤكد بالألفاظ، وقولك ضربت فعل مشتق من المصدر، فهو يدل عليه، فكأنك قلت: فعلت الضرب. فضربت يتضمن الضرب المفعول ولذلك تضمره فتقول: من كذب فهو شر له، أي: فالكذب شر له وتقيده بالحال فتقول: قمنا سريعا، فسريعا حال من القيام، فكما جاز أن تقيده بالحال وأن تكتني عنه بـ هو، جاز أيضاً أن تؤكده بـ (ضرباً) ، كان قلت: ضرباً ضربا ونصب ضرباً الأول ضربا وبه يعمل في الثاني معنى فعلت، كما كان ذلك في المفعول المطلق إذا قلت: ضربت ضرباً شديداً، أي: فعلت ضرباً شديداً ليس المؤكد كذلك، إنما ينتصب كما ينتصب زيداً الثاني في قولك: ضربت زيداً زيداً مكرراً، انتصب من حيث كان هو الأول لا أنك أضمرت له فعلاً، فتأمله. * * * مسألة (فيما بؤكد من الأفعال بالمصادر وما لا يؤكد) قد أشرنا إلى أن الفعل قسمان: خاص وعام، فالعام منه نحو: فعلت وعملت وصنعت، وأعمها كلها فعلت، لأن عملت عبارة عن حركات الجوارح الظاهرة مع دؤب، ولذلك جاء على وزن فعل كـ تعب ونصب ومن ثم لم تجدها يخبر بها عن الله - عز وجل - إلا أن يرد بها سمع فيحمل على المجاز المحض، ويلتمس له التأويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وإذا ثبت هذا ففعلت وما كان نحوها من الأحداث العامة الشائعة لا تؤكد بمصدر، لأنها في الأفعال بمنزلة شي وجسم في الأسماء، لا يؤكد لأنه لم تثبت حقيقته عند المخاطب أحوج إلى ذكر المفعول المطلق الذي تقع به الفائدة منه إلى توكيد فعلت، فلو قلت له: فعلت فعلت، وأكدته بغاية ما يمكن التوكيد، ما كان الكلام إلا غير مفيد وكذلك لو قلت: فعلت فعلاً، على التوكيد، لأن المصدر الذي كنت تؤكد به - لو أكدت - قياسه أن يكون مفتوح الفاء، لأنه ثلاثي، والمصدر الثلاثي قياسه أن يكون على هذا الوزن مفتوح الفاء، كما أن فعله مفتوح الفاء. فإذا ثبت هذا فلا يقع بعد فعلت إلا مفعول مطلق، إما من لفظها فيكون عاما نحو: فعلت فعلاً حسناً، ومن ثم جاء مكسور الفاء لأنه كالطحن والذبح، أي: إنه ليس بمصدر اشتق منه الفعل، بل هومشتق من فعلت. وإما أن يكون خاصا نحو: فعلت ضرباً، فضربا أيضاً مفعول مطلق من غير لفظ فعل فصار فعلت فعلاً كطحنت طحناً وفعلت ضربا كطحنت دقيقاً. فإن قيل: ألم يجيزوا في ضربت ضربا وقتلت قتلاً أن يكون مفعولاً مطلقا. فلم يكن مكسور الأول إذا كان مفعولاً مطلقا، ومفتوحاً إذا كان مصدراً مؤكداً؟ قلنا: حدث حديثين امرأة! ، ألم يقدم في أول الفصل أنه لا يعمل في ضرباً إذا كان مفعولاً مطلقا إلا معنى فعلت، لا لفظ، ضربت، فلو عمل فيه لفظ ضربت لقلت: ضربت ضربا، مكسور الأول، مثل: طحنت طحناً، ولكن هذا محال، لأن الضرب لا يضرب، ولكن إذا اشتققت له اسماً من فعلت الئي هي عاملة فيه على الحقيقة فقلت: هو فعل. وإن اشتققت له اسماً من ضربت التي لا يعمل لفظها فيه، لم يجز أن تجعله كالطحن والذبح، لأن الاسم القابل لصورة الفعل إنما يشتق لفظه من لفظ ما عمل فيه، فثبت من هذا كله أن فعلت وعملت استغني بمفعولها المطلق عن مصدرها، لأنها لا تتعدى إلا إلى حدث، وذلك الحدث مشتق له اسم من لفظها، فيجتمع اللفظ والمعنى ويكون أفيد عند المخاطب من المصدر الذي اشتق منه الفعل، ولذلك لم يقولوا: صنعت صنعاً بفتح الصاد، ولا: عملت عملاً، بسكون الميم، مثل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 حمدت حمداً. ولا: فعلت فعلاً، بفتح الفاء، استغناء عن المصادر بالمفعولات المطلقة، لأن العمل مثل: القنص والقبض، والصنع مثل: الدهن والخبز، والفعل مثل الطحن، فكلها بمعنى المفعول لا بمعنى المصدر الذي اشتق منه الفعل. وجميع هذه الأفعال العامة لا تتعدى إلى الجواهر والأجسام إلا أن يخبر بها عن خالق الجواهر والأجسام وفاعلها في الحقيقة. وإنما يتعدى إلى الجواهر بعض الأفعال الخاصة نحو: ضربت زيداً. ولذلك تقول: زيد مضروب على الإطلاق. وإن اشتققت له من لفظ فعلت لقلت: مفعول به، أي فعل به ضرب ولم يفعل هو. وأما حلمت في النوم حلماً، فإن حلمت في المنام بمنزلة فعلت وصنعت في اليقظة، لأن جميع أفعال النوم يشتمل عليها حلمت وكأن جميع أفعال اليقظة يشتمل عليها فعلت، فمن ثم لم يقولوا: حلمت حلماً على الأصل، لأن حلمت مغنية عن المصدر، كما كانت فعلت مغنية عنه، وإنما مطلوب المخاطب معرفة المحلوم والمفعول، فلذلك قالوا: حلماً، ولذلك جمعوه على أحلام وحلوم، لأن الأسماء هي التي تجمع وتثنى، وأما الفعل، أو ما فائدته كفائدة الفعل من المصادر فلا تجمع ولا تثنى. وقولهم: إنما جمعت الحلوم والأشغال لاختلاف الأنواع. بل يقال لهم: وهل اختلف الأنواع إلا من حيث كانت بمثابة الأسماء المفعولة؟ ألا ترى أن الشغل على وزن فعل كالدهن، فهو عبارة عما يشتغل المرء به، فهو اسم مشتق من الفعل وليس الفعل مشتقاً منه، إنما هو مشتق من الشغل، والشغل هوالمصدر، كما أن الجعل والجعل كذلك. فعلى هذا ليس الأشغال والأحلام بجمع المصدر، إنما هو جمع اسم، والمصدر على الحقيقة لا يجمع، لأن المصادر وكلها جنس واحد. من حيث كانت كلها عبارة عن حركة الفاعل، والحركة تماثل الحركة ولا تخالفها بذاتها، ولولاهاء التأنيث في الحركة ما ساغ جمعها، فلو نطقت العرب بمصدر حلمت الذي استغنى عنه بالحلم، وبمصدر شكرت الذي استغنى عنه بالشكر لما جاز جمعه، لأن اخئلاف الأنواع ليس راجعاً إليه، إنما هو راجع إلى المفعول المطلق. ألا ترى أن الشكر عبارة عما يكافأ به المنعم من ثناء أو فعل وكذلك نقيضه - وهو الكفر - عبارة عما يقابل به المنعم من جحد وقبح فعل، فهو مفعول مطلق لا مصدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 اشتق منه الفعل، إلا أن الكفر يتعدى بالباء لتضمنه معنى التكذيب، وشكوت يتعدى باللام، التي هي لام الإضافة، لأن المشكور في الحقيقة هي النعمة، وهي مضافة إلى المنعم، وكذلك المكفور لي الحقيقة هي النعمة ولكن كفرها تكذيب وجحد. فلذلك قالوا: كفر بالله، وكفر بأنعمه وشكر لزيد، وشكر له نعمته. وإذا ثبت أن الشكر من قولك: شكرت شكراً مفعول مطلق، وهو مختلف الأنواع، لأن مكافأة النعم تختلف، فجائز أن يجمع كما جمع الحلم والشغل. فيحمل قوله سبحانه: (لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) على أنه جمع الشكر، وكذلك: كفر كفوراً، ولا يجعل بمنزلة القعود والجلوس، لأنه متعد، ومصدر الفعل المتعدي لا يجىء على الفعول. ويزيد هذا الفصل بيانا ووضوحاً قوله: أحببت حباً، فالحب ليس بمصدر لأحببت، إنما هو عبارة عن الشغل بالمحبوب، ولذلك جاء على وزنه مضموم الأول. ومن ثم جمع كما جمع الشغل والحلم، قال الشاعر: ثلاثَةُ أحبابٍ فَحُبُّ علاقةٍ ... وحُبُّ تِمِلاَّقٍ وحُبُّ هو القتلُ فقد انكشف لك بقولهم: " أحببت حباً " ولم يقولوا: " إحباباً " استغناء بالمفعول المطلق، الذي هو أفيد عند المخاطب من الإحباب - أن حلمت حلماً وشكرت شكراً وكفر كفراً وصنع صنعاً، كلها واقعة على ما هو اسم للشيء المفعول، وناصبة له نصب المفعول المطلق. وهو في هذه الأفعال أجدر أن يكون كذلك، لأنها أعم من أحببت إذ الشكر واقع على أشياء مختلفة، وكذلك الكفر والشغل والحلم. وكلما كان الفعل أعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وأشيع لم يكن لذكر مصدره معنى، وكان فعل ويفعل، مغنياً عنه. ولولا كشف الشاعر لاختلاف أنواع الحب ما كدنا نعرف ما فيه من العموم. ولكنه لما فيه من العموم وأنه في معنى الشغل صار أحببت كشغك، وصار الحب كالشغل. ولو قال: أحباباً، لكان بمنزلة شغلت شغلاً، بفتح الشين. ولعلنا أن نستوفي مسألة أحببت في باب حبذا، إن شاء الله تعالى، ألا ترى أنهم لا يجمعون من المصادر ما كان على وزن الإفعال، نحو: الإكرام، وعلى وزن (الانفعال والافتعال، وعلى وزن التفعيل، نحو: التكبير والتضريب، إلا أن يكون محدوداً. فهذا يدلك على أنهم لا يجمعون مصدراً ألبتَّة، إلا أن يكون محدوداً فيكون كالتمرة من تمر والبرة من بر. وأما أن بجمع لاختلاف أنواع فلا اختلاف أنواع فيه، إنما اختلاف الأنواع فيما كان اسما مشتقاً من الفعل استغنى به عن المصدر لخصوصه وعموم المصدر، وذلك لا نجده من الثلاثي إلا على وزن فعل أو فعل ألا ترى أنهم لا يجمعون الفرق والحذر، ولا شيئا من ذلك الباب نحو: الرمد، والعمش، والبرص، والبرش، والحوص والخفش، والظمأ والعطش. فإن قيل: فقد قالوا: سقم وأسقام، والسقم مصدر يسقم، فهذا جمع لاختلاف الأنواع لا لأنه اسم كما ذكرت. قلنا: هذا غفلة أليس قد قالوا: سقم، بضم السين، فهو عبارة عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 الداء الذي به يسقم الإنسان، فصار كالدهن والشغل، وهو في ذاته مختلف الأنواع، فجمع. وأما المرض فقد يكون عبارة عن (السقم) والعلة، فيجمع على أمراض، وقد يكون مصدر المرض فلا يجمع. فإن قيل: تفريقك بين الأمرين دعوى، فما دليلها؟ قلنا: العرق، من قولك: عرق يعرق عرقا، لا يخفى على أحد أنه مصدر لعرق، والعرق الذي هو جسم مائع سائل من الجسد، لا يخفى على أحد أنه غير العرق الذي هو المصدر، وإن كان اللفظ واحداً، فكذلك المرض يكون عبارةً عن المصدر، وعبارة عن السقم والعلة، فعلى هذا تقول: تصبب زيد عرقاً، فيكون له إعرابان: تمييز - إذا أردت المائع - ومفعول من أجله، أو مصدر مؤكد - إذا أردت المصدر. وكذلك: دميت إصبعي دما، إذا أردت المصدر فهو الدمي، مثل العمى. فإن أردت الشيء المائع فهو دم مثل يد، وقد يسمى المائع بالمصدر. قال الشاعر: ولكن على أقدامنا تقطر الدما وقال الآخر: جَرَى الدَّميَانِ بالخبرِ اليقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 فصل (في الحال من المصدر وفيما ورد من المصادر على وزن فعل) ومن حيث امتنع أن يؤكد الفعل العام بالمصدر لشيوعه كامتناع النكرة من التوكيد لشيوعها، وأنها لم تثبت لها عين - فمن ثم لم يجز أن يخبر عنه كما لا يخبر عن النكرة، لا تقول: من فعل كان شراً له بخلاف: من كذب كان شراً له، لأن كذب فعل خاص فجاز الإخبار عما تضمنه من المصدر، ومن ثم لم يقولوا: فعلت سريعاً ولا: عملت طويلاً، كما تقول: سرت سريعاً، وقعدت طويلاً على الحال من المصدر كما يكون الحال من الاسم الخاص ولا يكون من النكرة الشائعة. فإن قلت: اجعله نعتاً للمفعول المطلق، كأنك قلت: فعلت فعلاً سريعاً وعملت عملاً كثيراً. قلنا: لا يجوز إقامة النعت مقام المنعوت إلا على شروط، وفد تقدمت في باب النعت، فليس قولهم: سرت سريعاً نعتاً لمصدر نكرة محذوف، إنما هو حال من مصدر في حكم المعرفة بدلالة الفعل الخاص عليه. ففد استقام المنسم للناظر في فصول هذه المسألة، واستتب القياس فيها من كل وجه، والحمد لله. فإن قيل: فما قولكم في علمت علماً، أليس هو مصدراً لعلمت، فلم جاء مكسور الأول كالطحن والذبح؟ قلنا: العلم يكون عبارة عن المعلوم، كما تقول: قرأت العلم، ويكون عبارة عن المصدر نفسه الذي اشتق منه علمت إلا أن ذلك المصدر مفعول لعلمت، لأنه معلوم بنفس العلم لأنك إذا علمث الشيء فقد علمت، وعلمت أنك قد علمته بعلم واحد، فقد صار العلم معلوماً بنفسه، فلذلك جاء على وزن الطحن والذبح. وليس له نظير في الكلام إلا قليل، لا أعلم فعلاً يتناول المفعول ويتناول نفسه إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 العلم والكلام، لأنك تقول للمخاطب: تكلم. فيقول: قد تكلمت. فيكون صادقاً وإن لم ينطق قبل ذلك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي حين قال له يا ابن عبد المطلب -: قد أجبتك ". فكان قد أجبتك جواباً وخبراً عن الجواب، فتناول القول نفسه. وكذلك تعبدنا في التلاوة أن نقول: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) . لأن قل أمر يتناول ما بعده ويتناول نفسه، فمن ثم جاء مصدر القول على القيل، كما جاء مصدر علمت على لعلم، وجاء أيضا على القال، وهو على وزن القبض لأن القول قد يكون مقولاً بنفسه. وجاء أيضا على الأصل مفتوح الأول. وأما العلم فلم يجئ إلا مكسوراً كان مصدراً أو مفعولًا، لأنه لا يكون أبداً إلا معلوما بنفسه، والقول بخلاف ذلك، قد يتناول نفسه في بعضر الكلام وقد لا يتناول إلا المقول، وهو الأغلب فيه، والله المستعان. وأما الفكر فهو كالعلم لقربه منه في معناه، ومشاركته له في محله، وليس باسم عند سيبويه، ولذلك منع من جمعه فقال: لا يجمع الفكر على أفكار، حمله على المصادر التي لا تجمع. وقد استهوى الخطباء والقصاص خلاف هذا القول. والله الموفق للصواب. وأما الذكر فبمنزلة العلم، لأنه نوع منه. * * * فصل (فيما يحدد من المصادر بالهاء، وفيه بقايا من الفصل الأول) قد تقدم أن الفعل لا يدل على مصدره إلا مطلقاً غير محدود ولا منعوت، وأنك إذا قلت: ضربت ضربة فإنما هي مفعول مطلق لا توكيد، لأن التوكيد لا يكون في معناه زيادة على المؤكد، ومن ثم لا تقول: سير زيد سريعة، تريد: سيرة سريعة، ولا: قعدت طويلةً، لأن الفعل لا يدل بلفظه على المرة الواحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ومن ثم بطل ما أجازه (النحاس) ، وغيره من قولهم: زيد ظننتها منطلق. تريد الظنة، لأن الفعل لا يدل عليها. وإذا ثبت هذا فالتحديد في المصادر ليس يطرد في جميعها، ولكن فيما كان منها حركة للجوارح الظاهرة ففيه يقع التحديد غالباً، لأنه مضارع للأجناس الظاهرة التي يقع الفرق بين الواحد فيه والجنس بهاء التأنيث نحو: تمرة وتمر، ونخلة ونخل. وكذلك نقول: ضربة وضرب. وأما ما كان من الأفعال الباطنة نحو: علم وحذر وفرق ووجل، وكذلك ما كان طبعا نحو: ظرف وشرف - فلا يقال في شيء من ذلك: فعلة، لا يقال: فهم فهمة، ولا: ظرف ظرفة. وكذلك ما كان من الأفعال عبارة عن الكثرة والقلة نحو: طال وقصر، وكبر وصغر، وقل وكثر، لا تقول: كبرة ولا: صغرة. وأما قولهم: الكبرة، في الهرم، فعبارة عن الصفة وليست بواحدة من الكبر. وكذلك الكبرة ليست كالضربة من الضرب، لأنك لا تقول: كثر كثراً. وأما حمداً فما أحسبه يقال في تحديده: حمدة، كما تقول: مدحته مدحة. لأن حمد فعل يتضمن الثناء مع العلم بما يثني به، فإن تجرد عن العلم كان مدحاً ولم يكن حمداً، فكل حمد مدح وليس كل مدح حمداً. ومن حيث كان يتضمن العلم بخصال المحمود جاء فعله على حمد بالكسر موازياً لعلم، ولم يجئ كذلك مدح. فصار المدح في الأفعال الظاهرة كالضرب ونحوه، ومن ثم لم نجد في لكتاب ولا في السنة: حمد ربنا فلاناً. وفد تقول: مدح الله - سبحانه - فلاناً، وأثنى على فلان. ولا تقول حمد إلا لنفسه. ولذلك قال الله - سبحانه -: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) بالألف واللام التي للجنس. فالحمد كله له إما ملكاً وإما استحقاقاً، فحمده لنفسه استحقاق، وحمد العباد له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وحمد بعضهم لبعض ملك له، فلو حمد هو غيره لم يسغ أن يضاف إليه على جهة الاستحقاق وقد تعلق بغيره. فإن قيل: أليس ثناؤه ومدحه لأوليائه إنما هو بما علم، فلم لا يجوز أن يسمى مسمى حمداً؟ قلنا: لا يسمى حمداً على الإطلاق إلا ما ينضمن (العلم) بالمحاسن على الكمال، وذلك معدوم في غيره سبحانه، فإذا مدح فإنه يمدح بخصلة هي ناقصة في حق العبد، وهو أعلم بنقصانها، وإذا حمد نفسه حمد بما علم من كمال صفاته. وقد تعدينا طورنا في الفصل فلنرجع إليه ونقول: كل ما حدد من المصادر فيجوز تثنيته وجمعته، وما لم يحدد فعلى الأصل الذي تقدم لا يثني ولا يجمع. وقولهم: إلا أن تختلف أنواعه، لا تختلف أنواعه، إلا إذا كان عبارة عن مفعول مطلق اشتق من لفظ الفعل لا عند مصدر اشتق الفعل منه، ولذلك تجده على وزن فعل بالكسر، وعلى وزن فعل نحو شغل، وعلى وزن فعل نحو عمل. والذي هو مصدر حقيقة إنما تجده على وزن فعل، نحو ضرب وقتل. وأما الشرب والشرب، فالشرب هو المصدر بالفتح والشرب عبارة عن المشروبات أو عن الحدث الذي هو مفعول مطلق في الأصل، وربما اتسع فيه فاجرى مجرى المصدر الذي اشتق الفعل منه، كما قال: (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) . فإن قيل: فإن الفهم والعقل والوهم والظن، مصادر وليست مما ذكرت، وقد جمعت فقلت: أفهام وعقول؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 قلنا: هذه مصادر في أصل وضعها، ولكنها قد أجريت مجرى الأسماء، حيث صارت عبارة عن صفات لازمة وعن حاسة باطنة كالبصرة، ألا ترى أنك إذا قلت: عقلت البعير عقلاً، لم يجز في هذا المصدر الجمع، فإذا أردت به المعنى الذي استعير له - وهو عقل الإنسان - جاز جمعه، إذ صار للإنسان كأنه حاسة باطنة كالبصر، ألا ترى أن البصر حيثما ورد في القرآن مع السمع فهو مجموع، والسمع غير مجموع في أجود الكلام، لبقاء السمع على أصله من بناء المصادر الثلاثية، ولكون البصر على وزن " فعل " كالأسماء، ولأنه يراد به الحاسة. وقد يجوز في السمع - على ضعف - أن تجمعه إذا أردت به الحاسة دون المصدر كما تجمع الفهم على أفهام، ولكن لا يكون ذلك إلا بشرط، وهو أن يكون الأفهام والأسماع ونحوهما مضافة إلى جمع، نحو: أفهام القوم، وأسماع الزيدين. ولو كان هذا الجمع إنما هو لاختلاف أنواع المصدر، لما جاز أن تقول: عرفت أفهام القوم في هذه المسألة، وعرفت علومهم بزيد، لأن الصفة لا تختلف عند اتحاد متعلقها، بل هي متماثلة وإن اختلفت محالها، فعلم زيد وعلم عمرو، إذا تعلقا بشيء واحد فهما مثلان، وعلم زيد بشيء واحد وعلم بشيء آخر مختلفان، لاختلاف المعلومين، ولا نطول بإقامة البرهان على هذا الأصل، فإنه ثابت في كتب الأصول وإنما أردنا أن نبين أن الأفهام والعقول لم تجمع لاختلاف أنواعها، لأنها قد تجمع حيث لا تختلف وهي عند اتفاق أفهام على مفهوم واحد. وتجيء مفردة عند اختلافها نحو: فهم زيد بالحساب وفهمه بالنحو وفهمه بغير ذلك. لا يقال: عرفت أفهام زيد بالصناعات، ولكن تقول: " عرفت فهم زيد " بالإفراد مع اختلاف متعلقه، واختلاف متعلقه يوجب اختلافه. وإذا ثبت هذا فلم يجمع " الفهم " على أفهام إلا من حيث كانت بمنزلة حاسة باطنة للإنسان، فإذا أضيف إلى أناسي كثيرة جمع، وإذا أضيف إلى إنسان واحد لم يجمع، لأنه كالحاسة الواحدة، وإن كان في أصله مصدراً، فرب مصدر أجري مجرى الأسماء كقولهم: ضيف وضيوف، وعدل وعدول، وصيد وصيود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وأما رؤية العين فليست الهاء فيها للتحديد، وإنما هي لتأنيث الصفة كالكدرة والحمرة والصفرة، وكان الأصل أن يكون مصدر " رأيت ": " رأياً "، ولكنهم إنما يستعملون هذا المصدر مضافاً إلى العين. نحو قوله تعالى: (رَأْيَ الْعَيْنِ) . فإذا لم يضف استعمل في الرأي المعقول، واستعملت الرؤية في المعنى الآخر للفرق. وأما " الظن " فمصدر لا يثنى ولا يجمع، إلا أن تريد به الأمور المظنونة. نحو قوله تعالى: (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) أي: تظنون به أشياء وأموراً كاذبة. فالظنون - على هذا - مفعول مطلق، لا عبارة عن الظن الذي هو المصدر في الأصل، والله أعلم. * * * مسألة قال: " واعلم أن سحراً إذا أردته ليوم بعينه، لم تصرفه. . . . . " إلى آخر ال فصل . حكم (سحر) إذا كان ليوم بعينه - معرفة كان اليوم أو نكرةً - إذا كان اليوم ظرفا ولم يكن مفعولاً ولا فاعلاً - فحكم " سحر " حينئذ أن يكون ظرفاً غير منون لأنه معرفة إما بمعنى الإضافة كأنك تريد: سحر ذلك اليوم، فانحذف التنوين لهذا، كما انحذف في " أجمع " و " أكتع " حيث كان مضافاً في المعنى. فهذا وجه قد قيل. وأحسن منه ما ذهب إليه سيبويه من أنه معرف بالألف واللام كأنك حين ذكرت يوماً قبله وجعلته ظرفاً، ثم ذكرت " سحر "، فكأنك أردت: السحر الذي من ذلك اليوم، واستغنيت عن " الألف واللام " بذكر اليوم. وإنما اخترت هذا القول عن الأول للفرق الذي بين (سحر) وبين (أجمع) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 فإن (أجمع) توكيد بمنزلة: " كله " و " نفسه "، فهو مضاف في المعنى إلى ضمير المؤكد، واستغنى عن إظهار الضمير بذكر المؤكد من (أجمع) لا يكون إلا تابعا له، ولا يكون مخبراً عنه بحال. وليس كذلك " السحر "، لأنه بمنزلة (الفرس) و (الجمل) ، فإن أضفته لم يكن بد من إظهار المضاف إليه، وإنما هو معرف بالألف واللام، كما قال سيبويه. وهذا كله لما كان اليوم ظرفاً ولم يكن مفعولاً، فلو جعلته مفعولاً وفاعلاً لم يكن " سحر " ظرفا، ولكان بدلاً مضاف إلى ضمير اليوم، مثال ذلك أن تقول: كرهت يوم الخميس سحره، كما تقول: " أكلت سمكة رأسها ". فإن قيل: فهلا جعلتموه بدلاً إذاً كان ما قبله ظرفاً، لأنه بعض اليوم، فيكون بدل البعض من الكل، كما كان ذلك إذا كان اليوم مفعولاً؟. قلنا: الفرق بينهما أن البدل يعتمد عليه ويكون المبدل منه في حكم الطرح. ويكون الفعل مخصوصا بالبدل بعدما كان عموماً في المبدل منه. فإذا قلت: " أكلت السمكة رأسها "، لم يتناول الأكل إلا رأسها وخرج سائرها من أن يكون مأكولاً. وليس كذلك: " خرجت يوم الجمعة سحر "، لأن الظرف مقدر بـ (في) ، وجعل " سحر " ظرفا لا يخرج اليوم عن أن يكون ظرفا أيضاً، بل يبقى على حاله، لأنه ليس من شرط الظرف أن يملأه ما يوضع فيه، فالكلام معتمد عليه كما كان قبل ذكر " سحر ". نعم، وما هو أوسع من اليوم في المعنى نحو الشهر والعام الذي فيه ذكر اليوم، وما هو أوسع من العام كالزمان، كل واحد من هذه ظرف للفعل الذي وقع في " سحر ". وتخصيصك سحر بالذكر لا يخرج شيئاً من هذه أن يكون ظرفاً لذلك الفعل. فلذلك اعتمد الكلام على اليوم، واستغنى به عن تجديد آلة التعريف. بخلاف قولك " كرهت يوم الخميس سحره "، أو: " السحر منه "، بل لا بد من البدل من أحد هذين الأمرين. فقد بانَ لك الفرق بين المسألتين، وبانَت علة ارتفاع التنوين، لأنه لا يجتمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 مع " الألف واللام "، ولا مع معناها، وإن كان في حكم المضاف - كما زعم بعضهم - فلذلك أيضاً يمتنع من تنويه. وأما الذي يمنع من تصوفه وتمكنه، فإنك أردته ليوم هو ظرف، فإن تمكن خرج عن أن يكون من ذلك اليوم، لأن الظرفية كانت رابطة بينهما ومشعرة بأن السحر من ذلك اليوم فإذا قلت: سير زيد يوم الجمعة " سحر " وجعلته مفعولاً على سعة الكلام، لم يجز لعدم الرابط بينه وبين اليوم. فإن أردت هذا المعنى فقل: " سير زيد يوم الجمعة سحر " أو: " السحر منه "، حتى يرتبط به، لأنك لا تقدر " الألف واللام " من غير أن يلفظ بهما إلا إذا كان في الكلام ما يغني عنهما. وأما إذا كان اسما متمكناً كسائر الأسماء، فلا بد من تعريفه بما تعرف به الأسماء، أو تجعله نكرة فلا يكون من ذلك اليوم. فإن قلت: فقد أجازوا: " سير زيد يوم الجمعة سحر " برفع " اليوم " ونصب " سحر " فلم لا يجوز أيضاً: " يوم الجمعة سحر "، بنصب " اليوم " ورفع " سحر "؟ قلنا: لأن اليوم - وإن اتسع فيه - فهو ظرف في معناه، وهو يشتمل على " السحر " ولا يشتمل " السحر " عليه، فلا يجوز إذاً أن يتعرف " السحر " تعريفاً معنويا حتى يكون ظرفا بمنزلة اليوم الذي هو منه، ليكون تقدم اليوم مع كونه ظرفاً معيناً عن آلة التعريف. * * * فصل وأما " ضحوة "، و " عشية " و " مساء " ونحو ذلك، فإنها مفارقة لسحر من حيث كانت منونة وإن أردتها اليوم بعينه، وهي موافقة له في عدم التصرف والتمكن. والفرق بينهما أن هذه الأسماء فيها معنى الوصف، لأنها مشتقة مما توصف به الأوقات التي هي ساعات اليوم، فالعشي من العشاء. والضحوة من قولك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 " فرس أضحى " و " ليلة أضحيان "، تريد البياض. والصباح من " الأصبح " وهي لون بين لونين فإذا قلت: خرجت اليوم عشيّاً وظلاماً وضحى وبصراً - حكاه سيبويه - فإنما تريد: خرجت اليوم في ساعة وصفها كذا. أو: خرجت يوماً مظلماً أو مبصراً أو مغشياً، أو نحو ذلك. فقد بانَ لك أنها أوصاف لنكرات، وتلك النكرات هي أجزاء اليوم وساعاته، ألا ترى أنك إذا قلت: خرجت اليوم ساعةً منه، أو: مشيت اليوم وقتا منه - لم يكن إلا منونا، إلا أن الساعة ووقتاً غير معين وضحوة وعشية قد تخصصا بالصفة، ولكنه لم يتعرف وإن كان ليوم بعينه، لأنه غير معرف بمعنى الألف واللام كما كان سحر، لأن " سحر " اسم جامد يتعرف كالأسماء ويخبر عنه، وأما اسمه النعت فلا يكون كذلك. لأن النعت لا يكون فاعلاً ولا مفعولاً، ولا يقام مقام المنعوت الأعلى شروط ذكرت في باب النعت. فإن قلت: أليست هذه الأوقات معروفة عند المخاطب من حيث كانت ليوم بعينه، فلم لا تكون معرفة كما كان " سحر " إذا كان ليوم بعينه؟. قلنا: إن " سحر " لم يتعرف بشيء إلا بمعنى الألف واللام، لا من حيث كان ليوم بعينه، فقد تعرف المخاطب الشيء بصفته، كما تعرفه بآلة التعريف، فتقول لزيد مثلاً: " رأيت رجلا من صفاته كذا "، وتنعته حتى يعلم أنه أبوه، فيسرى إليه التعريف والاسم مع ذلك نكرة. وكذلك " ضحوة " و " عشية "، وإنما استغنى عن ذكر المنعوت بهذه الصفات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 لتقدم ذكر اليوم الذي هو مشتمل على الأوقات الموصوفة لهذه المعاني، كما استغنى عن ذكر المنعوت إذا قلت: زيد قائم، ولا شك أن المعنى: زيد رجل قائم، ولكن ترك ذكر الرجل لأنه " زيد ". وكذلك: جاءني زيد صالحاً، أي: رجلاً صالحاً. ولكن زيداً هو الرجل. فأغناك عن ذكره. وكذلك ما نحن بسبيله من هذه الأسماء التي هي نفسها أوصاف لأوقات أغنى ذكر اليوم - الذي هو له - عن ذكرها لاشتمالها عليه. ولم يكن ذلك في " سحر ". ومن ثم أيضاً لم تتمكن، فتقول: سير عليه يوم الجمعة ضحوة وعشية، لأن تمكنها يخرجها إلى حيز الأسماء ويبطل منها معنى الصفة، فلا ترتبط حينئذ باليوم الذي أردتها له. وتنضاف إلى هذه العلة علة أخرى قد تقدمت في فصل " سحر ". وكذلك كل ما كان من الظروف نعتاً في الأصل نحو: " ذا صباح " و" ذات مرة "، و " أقمت طويلاً " و" جلست قريباً " - لا يتمكن ولا يخرج عن الظرف. ويلحق بهذا الفصل " نهاراً " إذا قلت: خرجت اليوم نهاراً، لأنه مشتق من قوله - عليه الصلاة والسلام -: " أَنْهِرُوا الدَّمَ بِمَا شِئْتُمْ ". يريد الانتشار والسعة. ومنه " النهر من الماء، لأنه بالإضافة إلى المفجرة بمنزلة النهار بالإضافة إلى فجره، لأن النهار ما ينتشر ويتسع، فما انفجر من الماء بمنزلة ما انتشر واتسع من فجر الضياء، واليوم أوسع من النهار في معناه، فصار قولك: " خرجت اليوم نهاراً " كقولك " خرجت اليوم ظهراً وعشياً ". معنى الاشتقاق فيها كلها بين، فجرت بمعنى الأوصاف النكرات في تنوينها وعدم تمكنها. * * * فصل وأما " غدوة " و " بكرة " فهما اسمان علمان، وعدم التنوين فيهما للتعريف والتأنيث، والذي أخرجهما من باب " ضحوةا " و " عشية " - وإن كان فيهما معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 الغدو والبكور - كما كان في أخواتها معنى الفعل - أنهما قد بنيا بناء لا تكون عليه المصادر ولا النعوت وغيرتا للعملية كما غير " عمارة " و " عمر " وأشباههما، وكما غير " الدبران " وفيه معنى الدبور، إيذاناً بالعملية وتحقيقاً لمعناها، ألا ترى أن " ضحوة " على وزن " صعبة " من النعوت، وعلى وزن " ضربة " من المصادر، والمصادر ينعت بها. و" ضحى " على وزن " هدىً " وعلى وزن " حُطم " من النعوت. وكذلك سائر تلك الأسماء. و " غدوة " و " بكرة " بخلاف ذلك قد غيرتا من لفظ الغدو والبكور تغييراً بيناً، ففارقتا الفصل المتقدم. فإن قيل: فلعل امتناع التنوين منهما بمثابة امتناعه في " سحر " إذا أردته ليوم بعينه؟. قلنا: كلام العرب يدل على خلاف ذلك، لأنهم لا يكادون يقولون: خرجت اليوم في الغدوة، ولا: الغدوة خير من أول النهار، كما يقال: السحر خير من أول الليل. فالسحر كسائر الأجناس في تنكيره وتعريفه، وغدوة وبكرة من اليوم بمنزلة رجب وصفر من العام. فقد تبين مخالفتهما لسحر وضحوة وأخواتها، وأنها بمنزلة الشهور الأعلام وأسماء الأيام الأعلام، نحو السبت والجمعة. وإذا ثبت هذا فهما اسمان متمكنان يجوز إقامتهما مقام الفاعل إذا قلت: " سير زيد يوم الجمعة غدوة ". ولا يحتاج إلى إضافة ولا إلى لام التعريف. وتقول أيضاً: " سير زيد يوم الجمعة غدوة "، على الظرف فيهما جميعا، لأنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 بعض اليوم كما تقول: " سرت العام رجباً كله ". وتقول أيضاً: " سير زيد يوم الجمعة غدوة " برفعهما، كأنها بدل من اليوم، ولا يحتاج أيضاً إلى الضمير كما يحتاج في بدل البعض من الكل، لأنها ظرف في المعنى. ولو قلت: " كره يوم الخميس غدوة " - على البدل - لم يكن بد من إضافة " غدوة " إلى ضمير المبدل منه، لأن اليوم ليس بظرف، فيكون كقولك: " كرهت يوم الخميس سحره، إذا أردت البدل، لأن المكروه هو السحر دون سائر اليوم، وإنما يستغني عن ضمير يعود على اليوم إذا تركته ظرفاً على حاله، لأن بعض اليوم إذا كان ظرفا لفعل، كان جميع اليوم ظرفاً لذلك الفعل، وقد تقدم هذا. واعلم أنه ما كان من الظروف له اسم علم، فإن الفعل إذا وقع فيه تناول جميعه، وكان الظرف مفعولاً، على سعة الكلام. فإذا قلت: " سرت غدوة " فالسير وقع في الوقت كله. وكذلك: " سرت السبت والجمعة "، و " سرت المحرم وصفر ". وكل هذا مفعول على سعة الكلام لا ظرف للفعل، لأن هذه الأسماء لا يطلبها الفعل ولا هي في أصل موضوعها زمان، إنما هي عبارة عن معان أخر، فإن أردت أن تجعل شيئا منها ظرفاً، ذكرت لفظ الزمان وأضفته إليها، كقولك: " سرت يوم السبت، و " شهر المحرم ". فالسير واقع في الشهر ولا يتناول جميعه إلا بدليل، والشهر ظرف. وكذلك اليوم. قال سيبويه: " ومما لا يكون الفعل إلا واقعاً به كله، " سرت المحرم وصفر ". هذا معنى كلامه. وإذا ثبت هذا فرجب ورمضان وأشباههما أسماء أعلام إذا أردتهما لعام بعينه، أو كان في كلامك ما يدل على عام تضيفهما إليه. فإن لم يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 ذلك صار الاسم نكرة، تقول: " صمت رمضان ورمضاناً آخر ". و" صمت الجمعة وجمعة أخرى "، إنما أردت جمعة أسبوعك ورمضان عامك. وإذا كان نكرة لم يكن إلا شهراً واحداً، كما تكون النكرة في قولك: " ضربت رجلاً "، إنما تريد وأحداً. وأما إذا كان معرفة يكون بما يدل على التمادي وتوالي الأعوام، لم يكن حينئذ واحداً، كقولك: " المؤمن يصوم رمضان "، فهو معرفة لأنك لا تريده لعام بعينه، إذ المعنى: يصوم رمضان من كل عام على التمادي، وذكر الإيمان قرينة تدل على المراد، ولو لم يكن في الكلام ما يدل على هذا لم يكن محمله إلا على العام الذي أنت فيه أو عام تقدم له ذكر. وإذا ثبت هذا فانظر إلى قوله سبحانه: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: " من صام رمضان إيماناً واحتساباً ". وقال: " إذا دخل رمضان فتحت. . . " الحديث. وترك لفظاً الشهر ". ومحال أن يكون فعل ذلك إيجازاً واختصاراً، لأن القرآن أبلغ إيجازاً وأبين إعجازاً، ومحال أيضاً أن يدع - عليه السلام - لفظ القرآن مع تحريه لألفاظه، وما علم من عادته من الاقتداء به، فيدع ذلك لغير حكمة، بل لفائدة جسيمة ومعان شريفة اقتضت الفرق بين الموضعبن وقد ارتبك الناس في هذا الباب، فكرهت طائفة منهم أن يقولوا: " رمضان " ولا " شهر رمضان ". واستهوى ذلك الكتاب. واعتان بعضهم في ذلك برواية منحولة إلى ابن عباس - رضي الله عنه - أن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولذلك أضيف إليه الشهر، وبعضهم يقول: إن رمضان من الرمضاء، وهو الحر، وتعلق الكراهية بذلك، وبعضهم يقول: إنما هذا استحباب واقتداء بلفظ القرآن. وقد اعتنى بهذه المسألة أبو عبد الرحمن النسوي، لعلمه وحذقه فقال في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 مصنفه: باب جواز أن يقال: دخل رمضان، أو: " صمت رمضان ". وذلك فعل البخاري وأورد الحديث المتقدم. وإذا أردت معرفة الحكمة والتحقيق في هذه النكتة، فقد تقدم أن الفعل إذا وقع على هذه الأسماء الأعلام فإنه يتناول جميعها ولا يكون ظرفاَ مقدراً بفي حتى يذكر لفظ الشهر أو اليوم الذي أصله أن يكون ظرفاً. وأما الاسم العلم فلا أصل له في الظرفية. وإذا ثبث هذا فقوله سبحانه: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) في ذكر الشهر فائدئان، وربما كانت أكثر من ذلك: الأولى: أنه لو قال: " رمضان الذي أنزل فيه القرآن،، لاقتضى اللفظ وقوع الإنزال على جميعه، كما تقدم من قول " سيبويه ". وهذا خلاف المعنى، لأن الإنزال كان في ليلة واحدة منها، في ساعة منها، فكيف يتناول جميع الشهر؟ فكان ذكر الشهر - الذي هو غير علم - موافقاً للمعنى، كما تقول: " سرت في شهر كذا " فلا يكون السير متناولاً لجميع الشهر. والفائدة الأخرى: أنه لو قال: (رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) لكان حكم المدح والتعظيم مقصوراً على شهر واحد بعينه، إذ قد تقدم أن هذا الاسم وما هو مثله، إذا لم تقترن به قرينة تدل على توالي الأعوام التي هو فيها، لم يكن محمله إلا العام الذي أنت فيه، أو العام المذكور قبله. فكان ذكر الشهر - الذي هو الهلال في الحقيقة. قال الشاعر: والشهر مثل قلامة الظفر يريد الهلال - فكان ذكره مضافاً إلى " رمضان " مقتضياً لتعليق الحكم الذي هو التعظيم بالهلال والشهر المسمى بهذا الاسم، متى كان، وفي أي عام كان. مع أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 " رمضان " وما كان مثله، لا يكون معرفة في مثل هذا الموطن، لأنه لم يرد العام بعينه، ألا ترى أن الآية في سورة البقرة، وهي من آخر ما نزل. وقد كان القرآن أنزل قبل ذلك بسنين. ولو قلت: " رمضان حج فيه زيد "، نريد فيما سلف، لقيل لك: " أي رمضان كان؟ ". ولزمك أن تقول: حج في رمضان من رمضانات، حتى تريد عاماً بعينه، كما سبق. وفائدة أخرى في ذكر " الشهر "، وهو التبيين في الأيام المعدودات، لأن الأيام لتبين بالأيام وبالشهر ونحوه، ولا تتبين بلفظ " رمضان "، لأنه لفظ مأخوذ من مادة أخرى، وهو أيضاً علم فلا ينبغي أن تبين به الأيام المعدودات، حتى يذكر الشهر الذي هو في معناها ثم تضاف إليه. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - " من صام رمضان "، ففي حذف الشهر وترك ذكره فائدة (أيضاً) ، وهو تناول الصيام لجميع الشهر، فلو قال: " من صام شهر رمضان "، لصار ظرفاً مقدراً بـ في ولم يتناول الصيام جميعه. فرمضان في هذا الحديث مفعول على السعة، مثل قوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) ، لأنه لو كان ظرفاً لم يحتج الى قوله: (إِلَّا قَلِيلًا) . فإن قيل: فينبغي أن يكون قوله: من صام رمضان مقصوراً على العام الذي هو فيه، لما تقدم من قولكم: إنه إنما يكون معرفة علماً إذا أردته لعامك أو لعام بعينه؟. قلنا: قوله: " من صام رمضان " على العموم، خطاب لكل قرن ولأهل كل عام، فصار بمنزلة قولك: " من صام كل عام رمضان غفر له "، كما تقول: " إن جئتني كل يوم سحراً أعطيتك "، فقد اقترنت به قرينة تدل على التمادي وتنوب مناب ذكر كل عام. وقد اتضح الفرق بين الحديث والآية. فإذا فهمت فرق ما بينهما بعد تأمل هذه الفصول وتدبرها، ثم لم تعدل عندك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 هذه الفائدة جميع الدنيا (بأسرها) فما قدرتها حق قدرها. والله المستعان على واجب شكرها. * * * مسألة (تشتمل على فصول من الباب) الفعل لا يعمل في الحقيقة إلا فيما يدل عليه لفظه، كالمصدر والفاعل والمفعول به أو فيما كان صفة لواحد من هذه نحو: " سرت سريعاً ". و" جاء زيد ضاحكا "، لأن الحال هي صاحب الحال في المعنى. وكذلك النعت والتوكيد والبدل، كل واحد من هذه هو الاسم الأول في المعنى، فلم يعمل الفعل إلا فيما دل عليه لفظه، لأنك إذا قلت: " ضرب " اقتضى هذا اللفظ: " ضرباً " و " ضارباً " و " مضروباً ". وأقوى دلالته على المصدر، لأنه هو الفعل في المعنى، ولا فائدة في ذكره مع الفعل إلا أن نريد التوكيد أو تبيين النوع منه، وإلا فلفظ الفعل مغن عنه. ثم دلالة الفعل على الفاعل أقوى من دلالته على المفعول به من وجهين: أحدهما: أنه يدل على الفاعل بعمومه وخصوصه، نحو: فعل زيد، عمل زيد. وأما الخصوص فنحو: ضرب زيد عمراً. ولا تقول: فعل زيد عمراً، إلا أن يكون الفاعل هو الباري سبحانه. والوجه الآخر: أن الفعل هو حركة الفاعلٍ، والحركة لا تقوم بنفسها، وإنما هي متصلة بمحلها، فوجب أن يكون الفعل متصلا بفاعله لا بمفعوله. ومن ثم قالوا: ضربت، فجعلوا ضمير الفاعل كبعض حروف الفعل. ومن ثم قالوا: ضرب زيد لعمرو، وضرب زيد عمراً، فأضافوه إلى المفعول باللام تارة وبغير اللام أخرى. ولم بضيفوه إلى الفاعل باللام أصلاً، لأن اللام تؤذن بالانفصال، ولا يصح انفصال الفعل عن الفاعل لفظاً، كما لا ينفصل عنه معنى. فإن قيل: فإن الفعل لا يدل على الفاعل معيناً، ولا على المفعول معيناً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وإنما يدل عليهما مطلقا، لأنك إذا قلت: " ضرب "، لم يدل على " زيد " بعينه، وإنما يدل على " ضارب ". (وكذلك " المضروب "، فكان ينبغي أن لا يعمل حتى تقول: " ضرب ضارب " مضروباً "، بهذا اللفظ، لأن لفظ " زيد " لا يدل عليه لفظ الفعل ولا يقتضيه؟. قلنا: الأمر كما ذكرت، ولكن لا فائدة عند المخاطب في الضارب المطلق. ولا في المفعول المطلق، لأن لفظ الفعل قد تضمنها، فوضع الاسم المعين مكان الاسم المطلق تبيينا له، فعمل فيه الفعل، لأنه هو هو في المعنى، وليس بغيره. وإذا ثبت ما قلناه، فما عدا هذه الأشياء - فلا يصل إليه الفعل إلا بواسطة حرف، نحو: " المفعول معه " و " الظرف " من المكان، نحو: قمت في الدار، لأنه لا يدل عليه بلفظه. وأما " الظرف " من الزمان فكذلك أيضاً، لأن الفعل لا يدل عليه بلفظه ولا ببنيته وإنما يدل ببنيته على اختلاف أحوال الحدث، وبلفظه على الحدث نفسه. وهكذا قال سيبويه في أول الكتاب، وإن تسامح في موضع آخر. وأما الزمان فهو حركة الفلك فلا ارتباط بينه وبين حركة الفاعل إلا من جهة الاتفاق والمصاحبة إلا أنهم قالوا: " الفعل فعلت اليوم "، لأن اليوم ونحوه أسماء وضعت للزمان ليؤرخ بها الفعل الواقع فيها، فإذا سمعها المخاطب علم المراد بها، واكتفى بصيغتها عن الحرف الجار. فإن أضمرتها لم يكف لفظ الإضمار، ولا أغنى عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 الحرف لأن لفظ الإضمار يصلح للزمان ولغيره فقلت: " يوم الجمعة خرجت فيه ". وقد تقول: " خرجت في يوم الجمعة "، لأنها وإن كانت أسماء موضوعة للتاريخ - فقد يخبر عنها فتقول: " ذهب اليوم "، كما يخبر عن المكان، إلا أن الإخبار عن المكان المحدود أكثر وأقوى، لأن الأمكنة أشخاص كزيد وعمرو، وظروف الزمان بخلاف ذلك، فمن ثم قالوا: " سرت اليوم " و" سرت في اليوم "، ولم يقولوا: " جلست الدار "، بغير حرف الوعاء. * * * فصل (في تعدي الفعل إلى الظرف) فإن كان الظرف مشتقاً من فعل، تعدي الفعل إليه بنفسه، لأنه في معنى الصفة التي لا تتمكن ولا يخبر عنها. وذلك نحو " قبل " و " بعد " و " قريباً " منك، لأن في " قبل " معنى المقابلة، وهو من لفظ " قبل ". و " بعد " من لفظ " بعد "، وهذا المعنى هو من صفة المصدر، لأنك إذا قلت: " جلست قبل جلوس زيد "، فما في " قبل " من معنى المقابلة فهو من صفة جلوسك. ولم يمتنع الإخبار عن " قبل " و " بعد " من حيث كان غير محدود، لأن الزمان والدهر قد يخبر عنهما، وهما غير محدودين، تقول: " قمت في الدهر مرة ". وإنما امتنع " قمت في قبلك " للعلة التي ذكرناها. ومن هذا النحو ما تقدم في فصل " غدوة " و " عشية "، من امتناع تلك الأسماء من التمكن لما فيها من معنى الوصف، وما فيها من معنى الوصف راجع إلى الاسم الذي هو الفاعل، نحو: " خرجت بصراً وظلاماً "، أي: مبصراً ومظلماً، وكذلك " عشياً " و " ضحى ". وإن كنا قد قدمنا أن هذه المعاني أوصاف للأوقات فليس بمناقض لما قلناه آنفاً، لأن هذه الأوقات قد توصف بهذه المعاني مجازاً، وأما في الحقيقة فالأوقات هي الفلك، والحركة لا توصف بصفة معنوية، لأن العرض لا يكون حاملاً للوصف. ومن هذا الفصل: " خرجت ذات يوم " و " ذات مرة "، لأن " ذات " في أصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وضعها وصف للخرجة ونحوها، كأنك قلت: " خرجت خرجة ذات يوم "، أي: لم تكن إلا في يوم واحد، فمن ثم لا يجز فيها إلا النصب، ولم يجز دخول الجار عليها. وكذلك: " ذا صباح " و " ذا مساء " في غير لغة خثعم. فإن قيل: فلم أعربها النحويون ظرفاً إذا كانت في الأصل مصدراً؟. قلنا: لأنك إذا قلت: " ذات يوم "، عُلِم أنك تريد يوماً واحداً، وقد اختزل المصدر ولم يبق إلا لفظ اليوم مع الذات، فمن ثم أعربوه ظرفاً. وسره في اللغة ما تقدم. وأما " مرة " فإن أردت بها فعلة واحدة من مرور الزمان، فهي ظرف زمان، وإن أردت بها فعلة واحدة من المصدر مثل قولك: " لقيته مرة. أي: لقيته) لقية، فهي مصدر، وعبرت عنها بالمرة، لأنك لما قطعت اللقاء ولم تصله بالدوام صار بمنزلة شيء مررت به ولم تقم عنده، فإذا جعلت المرة ظرفاً فاللفظ حقيقة، لأنها من مرور الزمان، وإن جعلتها مصدراً فاللفظ مجاز، إلا أن تقول: " مررت مرة "، فيكون حينئذ حقيقة. * * * فصل (في تعدي الفعل إلى الظرف) ومن هذا القبيل: جلست خلفك وأمامك، وكذلك: فوق وتحت وإزاء وتلقاء وحذاء. وكذلك قربك وعندك، لأن عندك في معنى القرب، وهي أيضاً من لفظ " العند " قال الراجز: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 كُلُّ شيء يُحِبُّ ولَدَهُ ... حتى الحُبَارَى فتطير عنده أي: إلى جنبه. وهذه الألفاظ كلها ليس يخفي بأدنى نظر أنها مأخوذة من لفظ الفعل فخلف من " خلفت "، و " قدام " من " تقدمت "، و " فوق " من فقت ". و" أمام " وأم من " أممت "، أي: قصدت. وكذلك سائرها، إلا أنهم لم يستعملوا فعلاً من " تحت "، ولكنها مصدر في الأصل أميت فعله. وإذا كان الأمر فيها كلها كذلك، فقد صارت قبل وبعد في الزمان، وكعشي وقريب، وصار فيها كلها معنى الوصف. فلذلك عمل الفعل بنفسه، كما يعمل فيما هو وصف للمصدر أو وصف للفاعل أو المفعول به، لأن الوصف هو الموصوف في المعنى، فلا يعمل الفعل إلا في هذه الثلاثة أوما هو في معناها، لأنه لا يدل بلفظه إلا عليها كما تقدم. فقد بانَ لك أنه لم يمتنع الإخبار عنها ولا دخول الجار عليها من جهة الإبهام، كما قالوه، لأنه لا فرق بينها وبين غير المبهم في انقطاع دلالة الفعل عنها، إذ لا يدل الفعل بلفظه على مبهمها ولا على محدودها ولا على حركة فلك، وإنما يدل بلفظه على مصدره وفاعله إذا كان الفاعل مطلقا، وعلى المفعول به كذلك. فإن قيل: فأين لفظ الفعل في " ميل " و " فرسخ "؟ وأي معنى للوصف فيه والفعل قد تعدى إليه بغير حرف، وعمل فيه بلا واسطة؟. قلنا: المراد بالميل والفرسخ تبيين مقدار المشي لا تبيين مقدار الأرض، فصار الميل عبارة عن عدة خطا، فكأنك قلت: " سرت خطا عدتها كيت وكيت "، فلم يتعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الفعل في الحقيقة إِلا إِلى المصدر المقدر بعدد معلوم، كقولك: " ضربت ألف ضربة " و " مشيت ألف خطوة "، ألا ترى أن " الميل " عندهم ثلاثة آلاف وخمسمائة، والفرسخ أضعاف ذلك ثلاث مرات. فلم ينكسر ما أصلناه من أن الفعل لا يتعدى إِلا إلى ما ذكرناه. وإنما سموا هذا المقدار من الخطا والأذرع ميلاً لأنهم كانوا ينصبون في رأس ثلث فرسخ نصبا كهيئة الميل الذي يكتحل به، إِلا أنه كبير، ثم يكتبون في رأسه عدد ما مشوه ومقدار ما تخطوه، ذكر قاسم بن ثابت أنَّ هشام ابن عبد الملك مر في بعض أسفاره بميل، وأمر أعرابياً أن ينظر في الميل كم مكتوباً فيه؟ وكان الأعرابي أمياً، فنظر فيه، ثم رجع إليه فقال: أفيه محجن، وحلقة، وثلاثة كأطباء الكلية، وهامة كهامة القطا ". فضحك هشام وقال: معناه خمسة أميال. فقد وضح لك أن الأمثال مقادير المشي، والمشي مصدر، فمن ثم عمل فيه الفعل، ومن ثم عمل في المكان نحو: " جلست مكان زيد، لأنه مفعل من الكون، فهو في أصل وضعه مصدر عبر به عن الموضع. والموضع أيضاً من لفظ الوضع، فلا يعمل الفعل في شيء من هذا القبيل بحرف. والذي قلناه في مكان أنه من الكون هو قول الخليل في كتاب " العين "، إلا أنهم شبهواً (الميم) بالحرف الأصلي للزومها، فقالوا في الجمع " أمكنة ". حتى كأنه على وزن في " فعال "، وقد فعلوا ذلك في ألفاظ كثيرة، شبهوا الزائد بالأصلي نحو: " تمدرع " و " تمسكن "، ولهما نظائر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وأما: " جلست يمينك وشمالك "، فليس من هذا ال فصل ، ولكنه مما حذف منه الجار لعلم السامع به، أرادوا: " عن يمينك وعن شمالك " أي: الجارحتين، ثم حذف الحرف الجار، فتعدى الفعل فنصب. فهو من باب " أمرتك الخير ". وإنما حذف (الحرف) لما تضمنه الفعل مرة من معنى الناصب، لأنك إذا قلت: " جلست عن يمينك " فمعنى الكلام: قابك يمينك وحاذيته، ونحو ذلك. * * * فصل ومن هذا الأصل تعدي الفعل إلى الحال بنفسه، ونعني بالحال صفة الفاعل التي فيها ضمير، أو صفة المفعول، أو صفة المصدر الذي عمل فيها، لأن الصفة هي الموصوف من حيث كان فيها الضمير الذي هو الموصوف. وذلك نحو: " سرت سريعاً " و " جاء زيد ضاحكاً " و " ضربته قائماً ". فلم يعمل الفعل في هذا النحو من حيث كان حالًا، لأن الحال غير الاسم الذي يدل عليه الفعل، ألا ترى أنك لو صرحت بلفظ الحال لم يعمل فيها الفعل إلا بواسطة الحرف نحو: جاء زيد في حال ضحك ولا تقول: " جاء زيد حال ضحك " لأن الحال غير " زيد ". وكذلك لا تقول: " جاء زيد ضحكاً "، لأن الضحك غير " زيد "، وغير المجيء فلا يعمل " جاء " فيه إلا بواسطة. فإذا قلت: " ضاحكاً " عمل فيه، لأن الضاحك هو زيد. وإذا قلت: " جاء زيد مشياً "، عمل فيه أيضاً لا من حيث كان صفة لزيد، لأنه لا ضمير فيه يعود على " زيد "، ولكن من حيث كان صفة للمصدر الذي هو (المجيء) فيعمل فيه " جاء " كما يعمل في المصدر. وأما عمله في المفعول من أجله، فإنه لم يعمل فيه بلفظه عندي، ولكنه دل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 على فعل باطن من أفعال النفس والقلب، آثار هذا الفعل الظاهر، وصار ذلك الفعل الباطن عاملاً في المصدر الذي هو المفعول من أجله في الحقيقة، والفعل الظاهر دال عليه، ولذلك لا يكون المفعول من أجله منصوباً حتى يجتمع فيه ثلاثة شروط: الأول: أن يكون مصدراً. والثاني: أن لا يكون من أفعال الجوارح الظاهرة. والثالث: أن يكون من فعل الفاعل المتقدم ذكره. نحو: " جاء زيد خوفاً "، و " رغبة فيك "، فإن الخوف والرغبة من أفعال النفس الباطنة وهو من فعل الفاعل المذكور في الجملة. فلو قلت: " جاء زيد قراءة للعلم " أو: " قتلاً للكافر " - لم يجز أن يجعل ذلك مفعولاً من أجله، لأنها أفعال ظاهرة، فقد بانَ لك أن المجيء إنما يظهر ما كان باطناً خفيا حتى كأنك قلت: جاء زيد مظهر بمجيئه الخوف والرغبة أو الحرص وأشباه ذلك. فهذه الأفعال الظاهرة تبدي لك الباطنة، فهي مفعولات في المعنى والظاهرة دالة على ما ينصبها فإن جئت بمفعول من أجله من غير هذا القبيل الذي ذكرنا، لم يصل الفعل إليه إلا بحرف نحو: " جئت لكذا " أو: " من أجل كذا "، والله أعلم. ثم نرجع إلى الحال فنقول: إذا كانت صفة لازمة للاسم كان حملها عليه على جهة النعت أولى بها، وإذا كانت مساوية للفعل غير لازمة للاسم إلا في وقت الإخبار عنه بالفعل، صلح أن تكون حالاً، لأنها مشتقة من التحول، فلا تكون إلا صفة يتحول عنها، وكذلك لا تكون إلا مشتقة من فعل، لأن الفعل حركة غير ثابتة. وقد تجيء غير مشتقة ولكنها في المعنى كالمشتق، نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: يتمثل لي الملك رجلاً ". أي: يتحول عن حال إلى حال، ويرجع متصوراً في صورة الرجال. فصار قولك: " رجلأ " كقولك: متصوراً على هذه الصورة، ومتحولاً إلى هذه الحال ". وأما قولهم: جاء زيد رجلاً صالحاً، فالصلة وطأت الاسم للحال. ولولا " صالحاً " ما كان " رجلاً " حالًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وكذلك قوله تعالى: (لِسَانًا عَرَبِيًّا) . فإن قيل: وما فائدة ذكر الاسم الجامد؟ وهلا اكتفى بصالح وعربي؟. قلنا: في ذكر الاسم موصوفاً بالصفة، في هذا الموطن، دليل على لزوم هذه الحال لصاحبها، وأنها مستمرة له، وليس كقولك: " جاء زيد صالحاً "، لأن " صالحاً " ليس فيه غير لفظ الفعل، والفعل غير دائم. وفي قولك: " رجلاً صالحاً " لفظ رجل وهو دائم، فلذلك ذكر. فإن قيل: فكيف يصح في قوله عز وجل: (لِسَانًا عَرَبِيًّا) أن يكون حالاً. والحال تعطي التحول والانتقال إليها عن حالة أخرى. وأنت لو قلت: جاء زيد قرشياً أوحبشياً "، لم يجز، لأنه لم يزل كذلك؟. فالجواب: أن قوله عز وجل: (لِسَانًا عَرَبِيًّا) حال من الضمير في (مُصَدِّقٌ) . لا من (كتاب) ، لأنه نكرة والعامل في الحال ما في (مُصَدِّقٌ) من معنى الفعل. فصار المعنى: أنه مصدق لك في هذه الحال، والاسم - الذي هو صاحب الحال - قديم، وقد كان غير موصوف بهذه الصفة حين أنزل معناه لا لفظه على موسى وعيسى وداود عليهم السلام، وإنما كان عربيا حين أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - مصدقاً له ولما بين يديه من الكتاب، فقد أوضحت فيه معنى الحال، وبرح الإشكال. وأما قوله عز وجل: (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا) ، فقد حكوا أنها حال مؤكدة. ومعنى الحال المؤكدة أن يكون معناها كمعنى الفعل، لأن التوكيد هو المؤكد في المعنى، وذلك نحو: " قم قائماً " و " مشيت ماشياً "، و " أما: زيد معروفاً "، هذه هى الحال المؤكدة في الحقيقة. وأما (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا) فليسث بحال مؤكدة، لأنه قال: (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ) . وتصديقه لما معهم ليس في معنى الحق، إذ ليس من شروط الحق أن يكون مصدقاً لفلان ولا مكذباً له، بل الحق في نفسه (حق) وإن لم يكن مصدقاْ لغيره. ولكن (مُصَدِّقًا) ههنا حال من الاسم المجرور من قوله تعالى: (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ) وقوله: (وَهُوَ الْحَقُّ) جملة في معنى الحال أيضاً، والمعنى: كيف تكفرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 بما وراءه وهو في هذا الحال؟ أعني مصدقاً لما معهم، كما تقول: لا تشتم زيداً وهو أمير محسناً إليك فالجملة حال، " ومحسناً " حال بعدها، والحكمة في تقديم الجملة التي في موضع الحال على قولك " محسناً " و (مصدقا) - أنك لو أخرتها لتوهم أنها في موضع الحال من الضمير الذي في " محسن، و (مصدق) ، ألا ترى أنك لو قلت: " أتشتم زيداً محسناً إليك (وهو أمير) - لذهب الوهم إلى أنك تريد؟ محسناً إليك في هذه الحال. فلما قدمتها اتضح المراد وارتفع اللبس. هذا وجه لا يبعد في هذا الموضع. ووجه آخر يطرد في هذه الآية، وفي الأخرى التي في سورة فاطر، قوله: (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) ، وهو أن يكون (مُصَدِّقًا) ههنا حالاً يعمل فيها ما دلت عليه الإشارة المنبئة عنها " الألف واللام "، لأن " الألف واللام " قد تنبئ عما تنبئ عنه أسماء الإشارة، حكي سيبويه: " لمن الدار مفتوحاً بابها؟ ". (فقولك: مفتوحاً بابها) لا يعمل فيه الاستقرار الذي يتلق به " لمن "، لأن ذلك خلاف المعنى المقصود، وتصحيح المعنى: " لمن هذه الدار مفتوحا بابها؟ " فاستغنى بذكر " الألف واللام " وعلم المخاطب أنه مشير وتنبه المخاطب بالإشارة إلى النظر، وصار ذلك المعنى المنبه عليه عاملاً في الحال. وكذلك قوله تعالى: (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا) ، كأنه يقول: " هو ذلك الحق "، لأن الحق قديم ومعروف بالعقول والكتب المتقدمة. فلما أشار نبهت الإشارة على العامل في الحال، كما إذا قلت: " هذا زيد قائما "، نبهت الإشارة المخاطب على النظر، فكأنك قلت: " انظر إلى زيد قائماً " لأن الاسم الذي هو " ذا " ليس هو العامل، ولكنه مشعر ومنبه على المعنى العامل في الحال، وذلك المعنى هو " انظر ". وسنزيد هذا المعنى وضوحا فيما بعد إن شاء الله تعالى. ومما أغنت فيه " الألف واللام " عن أسماء الإشارة قولهم: " اليوم قمت "، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 و " الساعة تكلمت " " الليلة فعلت "، تريد: " هذا اليوم " و " هذه الليلة "، اكتفيت بالألف واللام عن أسماء الإشارة والإبهام، والله ولي التوفيق والإفهام. * * * مسألة (في الحال) " هذا بُسْراً أطيبُ منه رُطباً ". فيه أسئلة: أحدها: ما العامل في هاتين الحالين، هل واحد أم لا؟ والئاني: متى يجوز أن يعمل عامل واحد في حالين؟ ومتى لا يجوز؟. الثالث: من أي اسم هي حال؟ أعني الأولى. ومن أي اسم هي - الثانية - حال؟ وهل هما حالان من اسم واحد أم لا؟ الرابع: هل يجوز التقديم والتأخير فيهما جميعاً أم لا؟. الخامس: كيف تصورت الحال في اسم غير مشتق، وهو " البسر " ونحوه؟. السادس: إلى أي شيء هي الإشارة في قولهم: هذا بسراً؟. السابع: لم عول في إعرابهما على الحال، واختاره " سيبويه "، وعدلتم عن إضمار كان؟ وتركتم قول من قال: إن التقدير: هذا إذا كان بسراً أطيب منه إذا كان رطبا؟ أما العامل في الحال الأولى فهو ما في " أطيب " من معنى الفعل، لأنك تريد: طيبه في حال البسرية يزيد على طيبه في حال الرطبية. (فالطيب) أمر واقع في هذه الحال، فلذلك قال سيبويه: هذا باب ما ينصب من الأسماء على إنها أحوال وقعت فيها الأمور وأما الحال الثانية وهي " رطباً "، فالعامل فيها مضى الفعل الذي تعلق به الجار في قولك: منه، لأن (منه) متعلق بمعنى غير الطيب. لأن " طاب يطيب " لا يتعدى بمن، ولكن صيغة (أفعل) تقتضي التفضيل بين شيئين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 مشتركين في صفة واحدة، إلا أن أحدهما متميز من الآخر ومنفصل منه بزيادة في تلك الصفة فمعنى التميز والانفصال الذي تضمنه أفعل هو الذي تعلق به حرف الجر وهو الذي يعمل في الحال الثانية، كما عمل معنى الفعل الذي تعلق به حرف الجر من قولك: " زيد في الدار قائماً " في الحال التي هي قائما. فإن قيل: فهلا أعمل فيهماجميعا ما في " أطيب " من معنى الطيب؟. قلنا: لو تجرد ما فيه من معنى الطيب من معنى التفضيل فقلت: " هذا طيب بسراً " لم يصح عمله إلا في حال واحدة، لأن الفعل الواحد لا يقع في حالتين ولا في ظرفين لا تقول: " زيد قائم يوم الجمعة يوم الخميس ". فإن قلت: " زيد أقوم يوم الجمعة منه يوم الخميس "، جاز، لأن العامل في أحد اليومين غير العامل في اليوم الثاني، لأنك فضلت حين قلت: " أقوم "، قياماً على قيام آخر، وفضلت حالاً من حال بمزية وزيادة. وكذلك حين قلت: " هذا بسر أطيب منه رطباً ". وليس يجوز أن يعمل عامل واحد في حالين ولا ظرفين، إلا أن يتداخلا ويصح الجمع بينهما نحو قولك:، زيد خارج يوم الجمعة ضحوةا ". لأن الضحوة في يوم الجمعة. وكذلك " سرت راكباً مسرعاً "، ولو قلت: " مسرعاً مبطئأ " لم يجز، لاستحالة الجمع بينهما وكذلك: " بسراً " و " رطبا " يستحيل أن يعمل فيهما عامل واحد، لأنهما غير متداخلين كما سبق. وفد فرغنا من السؤال الثاني. وأما السؤال الثالث، وهو عن صاحب الحال ههنا، فإن الاسم المضمر في " أطيب " الذي هو راجع على المبتدأ من خبره هو صاحب الحال الأول، فبسراً حال منه، و " رطباً " حال من الضمير المجرور بمن وان كان المجرور بمن هو المرفوع المستتر في " أطيب " من جهة المعنى، ولكنه تنزل منزلة الأجنبي، ألا ترى أنك لو قلت: " زيد قائماً أخطب من عمرو قاعداً،، لكان قاعداً " حال من الاسم المخفوص بمن - وهو عمرو - فكذلك (رطبا) حال من الاسم المضمر المجرور بمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 وأما السؤال الرابع - وهو جواز التقديم والتأخير - فإن الحال الأولى يجوز فيها ذلك لأن العامل فيها لفظي، وهو ما في " أطيب " من لفظ الفعل: فلك أن تقول: " هذا بسراً أطيب منه رطبا "، وأن تقول: هذا أطيب بسراً منه رطباً " وهو الأصل. فإن قيل: فإذا كان هذا هو الأصل، فلم مثل " سيبويه " بها مقدمة، وكان ذلك أحسن عنده من أن يؤخرها؟ فالجواب: أنه أراد تأكيد معنى الحال فيها، لأنه ترجم عن الحال فلو أخرها لأشبهت التمييز، لأنك إذا قلت: " هذا الرجل أطيب بسراً وفلان ". فبسراً - لا محالة - تمييز، وإذا قدمت " بسراً " على " أطيب من كذا ". فبسراً - لا محالة - حال ولا يصح أن يخبر بهذا الكلام عن رجل ولا عن شيء سوى التمر وما هو في معناه. فإذا قلت: " هذا أطيب بسراً "، احتمل الكلام قبل تمامه وقبل النظر في قرائن أحواله أن يكون " بسراً " تمييزاً وأن يكون حالاً، وبينهما في المعنى فرق عظيم، فاقتضى تحصين المعنى والحرص على البيان للمراد تقديم الحال الأولى على عاملها، ولو أخرت لجاز. وأما الحال الثانية فلا سبيل إلى تقديمها على عاملها، لأنه معنوي، والعامل المعنوي لا يتصور تقديم معموله عليه، لأن العامل اللفظي إذا تقدم عليه منصوبه الذي حقه التأخير، قلت فيه: " مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى "، فقسمت العبارة بين اللفظ والمعنى. فإذا لم يكن للعامل وجود في اللفظ لم يتصور تقديم المعمول عليه: لأنه لا بد من تأخير المعمول عن عامله في المعنى، فلا يوجد إلا بعده، وعامله متقدم عليه، لأنه منوي غير ملفوظ به، فلا تذهب النية والوهم إلى غير موضعه. بخلاف اللفظي فإن محل اللفظ اللسان ومحل المعنى القلب، فإذا ذهب اللسان باللفظ إلى غير موضعه لم يذهب القلب بالمعنى إلا إلى موضعه وهو التقديم، فتأمله. وأما السؤال الخامس، وهو الاشتقاق، فإن الاشتقاق لا يلزم في الحال، إنما يلزم فيها أن تكون صفة متحولة، لأن الحال مشتقة من التحول، فإذا كان صاحب الحال قد أوقع الفعل في صفة غير لازمة للفعل، فلا تبال أكانت مشتقة أم غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 مشتقة، فقد جاء في الحديث: " يتمثل لي الملك رجلًا ". فرجلا: حال، لأن صورة الرجل طارئة على الملك في حال التمثل، وليست لازمة للملك إلا في وقت وقوع الفعل منه وهو التمثل، فهي إذاً حال لأنه قد تحول إليها. ومثله: (يخرجكم طفلًا) . ومثله قولك: " مررت بهذاً العود شجراً ثم مررت به رماداً ". فهذه كلها أحوال وإن كانت جامدة لأنها صفات يتحول الفاعل إليها وليس يلزم في الصفات أن تكون كلها فعلية، بل منها نفسية ومعنوية وعدمية، وهي صفة النفي، وإضافية وفعلية، ولا يكون من جميعها حالًا إلا ما كان الفعل واقعاً فيه وجاز خلوه عنها، وأما ما كان لازما الاسم فيها لا يجوز خلوه عنه، فلا يكون حالاً منتصبة بالفعل، نحو قولك: " قرشيا " و" حبشياً " و " ابناً لزيد " و " أخاً لعمرو "، فإذا أردت النسب لا يكون شيء من هذا كله حالاً، فافهمه. وأما السؤال السادس، وهو: (ما) المشار إليه في قولك: " هذا بسراً "، فهي الشيء الذي تتعاقب عليه هذه الأحوال. وهو ما تخرجه النخل من أكمامها فيكون بلحاً ثم سيابا، ثم جدالاً ثم بسراً إلى أن يكون رطباً. ورأيت لبعض الأشياخ أنه قال: " إذا قدرته بإذا فالإشارة إلى الجدال. والتقدير: " هذا الجدال إذا كان بسراً ". وإذا قدرته بإذ فالإشارة إلى الرطب، والتقدير: " هذا إذا كان بسراً ". وهذا تكلف لا معنى له، لأنا سنبطل إضمار " إذ " و " إذا " فيما بعد وإضمار " كان " وهو السؤال السابع. ووجه آخر يبطل ما ذهب إليه هذا الشيخ، وهو أنه لا معنى لتخصيص " الجدال " و " الرطب "، فإنها مسألة لا تختص بهذا المعنى، بل تقول: " زيد قائماً أخطب منه قاعداً "، و " هو راكباً أسرع منه ماشياً ". فالإخبارُ إنما هو عن الاسم الحامل للصفة التي هي حال، وقولك " هذا وأنت تشير إلى الجدال أو السياب، إن كنت تريد الصفة التي هي الجدالية فهو محال، لأن البسرية ليست صفة للجدالية. وإنما هي صفة وحال للجوهر الموصوف. فلم يبق إلا أن تكون الإشارة إلى الجوهر الذي تتعاقب عليه الأحوال. وكذلك أيضاً يبطل قول من زعم أن معنى الإشارة في هذا هو العامل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 " بسراً " إِذ لا تختص هذه المسألة بهذه الصورة بل قال ابن سلام لعثمان رضي الله عنهما: أنا خارجاً أنفع مني لك داخلاً. وكذلك: " زيد فارساً أشجع منه راجلاً "، لا إِشارة ههنا ولا معنى إِشارة، فبطل هذا القول، ورأيته منسوبا إلى " النسوي "، وليس بشيء فافهم. وأما السؤال السابع - وهو اختيار نصبهما على الحال دون إضمار " كان " وإذا - فإذا " كان " لا تضمر، قال سيبويه: " لو قلت: عبد الله المقتول تريد: كن عبد الله المقتول لم يجز ". وبرهان قوله في ذلك أن " كان " الزمانية ليست عبارة عن الحدث: وإنما هي عبارة عن الزمان، والزمان لا يضمر، وإنما يضمر الحدث إذا كان في الكلام ما يدل عليه وليس في الكلام ما يدل على الزمان الذي يقيد به الحدث، إلا أن يلفظ به، فإن لم يلفظ به لم يعقل. فإن قلت: تضمر " كان " التامة، وتكون " بسراً " حالاً تعمل فيه " كان " التامة؟ قلنا: هذا كلام من لم يفهم " كان " فإن " كان " الزمانية و " كان " التامة يرجعان إِلى أصل واحد، ولا يجوز إضمار واحد منهما. وكشف سرهما يطول، وليس هدا موضع ذكره. " وإذا لم يجز إضمار " كان " على انفرادها فكيف يجوز إضمار " إذا " و " إذ " معها وأنت لو قلت: سآتيك جاء زيد، تريد: " إذا جاء زيد "، كان خلفاً من الكلام بإجماع. وإذا كان كذلك كان من هدا الموطن أبعد، فإنه لا يدري ههنا إذ تريد أم إذا؟ وفي قولك: " سآتيك " لا يحتمل إلا أحدهما، بخلاف قولك: زيد قائماً أخطب منه قاعداً. وإذا بعد كلّ البعد إضمار الظرف ههنا فإضماره مع " كان " أبعد، ومن قدره من النحويين فإنما أشار إلى شرح المعنى بضرب من التقريب على المبتدئين. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 باب الابتداء أو الرفع الرافع للاسم المبتدأ كونه مخبراً عنه، لآن كل مخبر عنه مقدم في الرتبة، فاستحق من الحركات أثقلها، لأن أوائل الألفاظ والكلام أولى بالثقل وأحمل له، ألا ترى أن الحذف والتغييرات إنما تلحق الأواخر تخفيفا. ووجه آخر في استحقاق المخبر عنه الرفع، وذلك أنه أقوى حظاً في الحديث من المفعولات والمجرورات، فلما كان حظه من الخبر أقوى، كان أولى الحركات به أقواها، وقوة الضمة وثقلها معلوم بالحس وموجود بالضرورة، فاختيرث للمخبر عنه ليتشاكل اللفظ المقول، والمعنى المنقول، كما تقدم فيما مضى من الأصول، فقد اشترك الفاعل والمبتدأ في استحقاق الرفع، إلا أن العامل في الفاعل لفظي فلا يدخل عليه ما يزيله، لأن العامل اللفظي أقوى من المعنوي، إذ هو متضمن اللفظ والمعنى جميعاً بخلاف المعنوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 ومن ثم يبطل الرفع في المبتدأ بدخول (إن وأخواتها) (وظن وأخواتها) . وقد تقدم في باب أقسام الأفعال في التعدي شرح عملها في المبتدأ، فأغنى عن إعادته ههنا. * * * فصل (في تقديم الخبر) وأما رفع الخبر فمن حيث كان هو الاسم الأول في المعنى، كما في النعت (والبدل) الجريان على المنعوت والمبدل منه واتباعه في الإعراب لازماً. وإذا كان الأمر كذلك فالقول إذاً ما قاله الخليل - رحمه الله تعالى - في امتناع تقديم الخبر عليه قياساً على النعت والبدل والتوكيد. إلا أن حال الخبر في التقديم أخفّ من تقديم التوابع، لأن التوابع من تمام الاسم المتبوع، وليس الخبر من تمام المبتدأ ولكنه من تمام الكلام الذي فيه المبتدأ، ألا ترى أن النعت مع المنعوت لا يكون كلاماً كما يكون الخبر مع المبئداً كلاماً، فقد صار النعت كجزء من الاسم المنعوت فلا يتقدم عليه بإجماع، وخبر المبتدأ - وإن كان العامل فيه معنوياً - فالعامل المعنوي لا يتقدم معموله عليه للسر الذي ذكرناه في غير هذا الموضع، ولكنه يفارق النعت والبدل قليلاً بما قدمناه من الفرق. فإن قيل: كيف يستقيم من الخليل منع تقديم الخبر مع كثرته في القرآن والكلام الفصيح نحو قوله سبحانه: (وآية لهم الليل) . ونحو ما استشهد به سيبويه من قولهم: " مسيء أنت " و " مسكين فلان "، لاسيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وفي الحديث: "مسكين رجل لا زوجة له! مسكينة امرأة لا زوج لها ". قلنا: لا يخفى على مثل الخليل مثل هذه الشواهد ولكنه أراد منع تقديم الخبر الذي هو خبر محض مجردٌ من المعاني التي هي نحو المدح والذم والترحم والتعظيم وغير ذلك، لأن تلك المعاني إِذا دخلت في الكلام حسَّنت تأخيرَ المبتدأ، لأنه قد صار بسببها مفعولا في المعنى؛ ألا ترى أنك إذا قلت: " حسنٌ زيد! "، فإن المعنى: أستحسن زيداً. وإذا قلت: "مسيءٌ عمرو! "، فالمعنى: أذُمّ عمراً. وإذا قلت: " مسكين فلان! " فالمعنى: أرحم فلاناً وأرق له. وأشعرتْ هذه الصفات كلها بهذا المعنى الذي لو لُفظ به مصرحاً لكان مقدماً والاسم مؤخرا. وذلك الاسم هو المبتدأ في اللفظ وهو المذموم أو المرحوم في المعنى. وأما إذا تجرد الخبر من هذه القرائن كلها مثل قولك: " قائم زيد " و"ذاهب عمرو " و "خياط أخوك " فهو الذي أراد الخليل أنه يقبح تقديمه. والله أعلم. وأما ما حكاه سيبويه من قولهم: " قائم أنا "، فليس " أنا " مبتدأ، إنما هو تأكيد للمضمر في " قائم "؛ لأن " قائم " خبر لمبتدأ محذوف؛ وكان قائلاً قال له: ما أنت؟! فقال: " قائم ". ثم أكد بقوله: " أنا ". ولا يمنع الخليل مثل هذا. فقد يجوز على هذا " فائمٌ زيد! " إذا سألك سائل أو توهمت منه إرادة السؤال عن زيد، فتقول: " قائم "، أي: " هو قائم "، فيكون حينئذ " زيد " بدلاً من الضمير المستتر في قائم، وذلك الضمير عائد على أول الكلام لا على " زيد ". فإن عاد على " زيد " لا على شيء في أول الكلام فـ " زيد " مبتدأ و" قائم " خبر عنه مقدم، وهو الذي منعه الخليل. فقف على هذا الأصل تُحكِمْ جميعَ هذا الفصل - إن شاء الله تعالى - وأكثر هذا الكلام قد رأيته للأستاذ " أبي الحسين بن الطراوة " رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 فصل (في مسوغات الابتداء بالنكرة) وحد المبتدأ أن يكون معرفة أو مخصوصاً وإلا فلا فائدة في الإخبار عنه فإن لم يكن منعوتاً ولا مخصوصاً ولامستفهماً (عنه) ولامنفياً نحو: (لَا لَغْوٌ فِيهَا) ، فلا يخبر عنه، إلا أن يكون الخبر مجروراً معرفة مقدماً (عليه) ، لأن الخبر إذا كان مقدماً ومعرفة فإن كان في اللفظ خبر المبتدأ فإنه في المعنى مخبر عنه، لأن التعريف والتقديم يجران إليه ذلك المعنى، فكأنك إذا قلت: " على زيد دين " إنما قلت: " زيد مديان " وإذا قلت: " في الدار امرأة " إنما أردت: " الدار فيها امرأة ". فلذلك حسن الإخبار عن النكرة ههنا في اللفظ لأنه ليس خبراً عنهما في الحقيقة، ألا ترى أنك إذا قدمت الاسم المبتدأ فقلت: " رجل في الدار "، كيف يبقى الكلام ناقصاً؛ لأن النكرة تطلب الوصف طلباً حثيثاً، فيسبق إلى الوهم أن الجار والمجرور وصف لها لا خبر عنها، إذ ليس من عادتها أن يخبر عنها إلا بعد الوصف لها. فإذا قدمت الجار والمجرور عليها استحال أن يكون وصفاً لها، لأن الوصف لا يتقدم الموصوف فذهب الوهم إلى أن الاسم المجرور المعرفة الذي هو في موضع خبر عن النكرة هو المخبر عنه في المعنى وإن كان مجروراً في اللفظ. فكم من مجرور في اللفظ مخبر عنه في الحقيقة، مثل قولهم: له صوت صوت " حمار "، ونظائره أكثر من أن تحصى. فهذا موضع يكون المبتدأ فيه نكرة مع ما تقدم من ذكر المستفهم عنه والمنفي. وفي العربية أبواب رفعت فيها النكرة بالابتداء سوى ما ذكرناه، ولكن لمعان مازجت الكلام، وقرائن أحوال حسنت النظام. من ذلك التفضيل نحو قول عمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 - رضي الله عنه - " تمرة خير من جرادة "، ونحو ما قدر سيبويه من قوله تعالى: (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي: طاعة أمثل، ولم يقل: " مثيلة " ولا حسنة، لأن النكرة لا يخبر عنها كما تقدم إلا على الشروط المذكورة أو تريد التفضيل فتقول: " تمرة أفضل من كذا " أو: " طاعة أفضل "، لأنك حين قلت: أفعل من كذا، علم أنك تريد أن تقول: أفضل تمرة لم وأوثر طاعة، ونحو هذا المعنى. فخرجت النكرة عن أن تكون مبتدأ محضاً ومخبراً عنه حقيقة، والله تعالى أعلم. * * * فصل (في بعض مسوغات الابتداء) ومما ابتدى به - وهو نكرة - ما دخله معنى الدعاء أو معنى يخرجه عن أن يكون الكلام خبراً محضاً كما تقدم في التفضيل. فمن ذلك ما أريد به التزكية نحو قوهم: " أمت في الحجر لا فيك "، لأنهم لم يقولوا: " أمت في الحجر "، ويسكنوا ههنا حيت قرنوه بقول: " لا فيك "، فصار معنى الكلام: إضافة " الأمت " إلى " الحجر " أقرب من إضافته إليك، والأمت والحجر أليق به منك ونحو هذا، لأنهم أرادوا تزكية المخاطب ونفي العيب عنه ولم يريدوا الأخبار عن " أمت " أنه في الحجر، بل هو في حكم النفي عن الحجر وعن المخاطب معاً، إلا أن نفيه عن المخاطب أوكد. وإذا دخل الحديث معنى النفي فلا غرو أن يبتدأ بالنكرة، فقد تقدم حسن الإخبار عنها في النفي لما فيه من العموم والفائدة، وهو بديع لمن تأمله. ويشبهه: " شر ما جاء به " و " شر ما جاء به إلى مخه عرقوب ". لأن معنى الكلام " ما جاء به إلا شر "، فقامت " ما " الزائدة مقام شيئين: حرف النفي، وحرف الإيجاب، كما أدت هذين المعنيين في قولك: إنما زيد قائم، أي: ما زيد إلا قائم. وفي قوله عز وجل: (قليلًا ما يؤمنون) ، أي: ما يؤمنون إلا قليلاً. و (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) ، أي: ما لعناهم إلا بنقض ميثاقهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 فإن قيل: من أين أفادت " ما " الزائدة معنيين، وهي إذا كانت موضوعة موضعها لا تفيدُ إلا معنى النفي وحده؟ قلنا: لم تفد النفي والإيجاب بمجردها، ولكن باجتماعها مع القرائن المتصلة بها. أما في قولهم: " شر ما جاء به " فبانتظامها بالاسم النكرة، والنكرة لا يبتدأ بها، فلما قصد إلى تقديمها علم أن فائدة الخبر مخصوصة بها، ووكد ذلك التخصيص بما، وانتفى الأمر من غير الاسم المبتدأ أو لم يكن إلا له، وصار ذلك بمنزلة من يقول: ما جاء به إلا شر. واستغنينا بما ههنا عن " ما " النافية، وبالابتداء بالنكرة عن " إلا ". وأما قولك: " إنما زيد قائم " فقد انتظمت بإن وامتزجت معها، وصارتا كلمة واحدة. و " إن " تعطي الإيجاب الذي تعطيه " إلا "، و " ما " تعطي النفي، ولذلك جاز " إنما يقوم أنا، و " أنا " لا تكون فاعلة إلا إذا فصلت من الفعل بإلا، تقول: " ما يقوم إلا أنا "، ولا تقول: " يقوم أنا "، فإذا قلت: " إنما " صرت كأنك قد لفظت بما مع " إلا ". قال الشاعر: أدافع عن أعراض قومي وإنما ... يدافع عن أعراضهم أنا أو مثلي وكذلك فعلت مع اتصالها بحرف الجر. نحو قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) . وبالمنصوب نحو قوله: (قَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) ، دلت على النفي بلفظها. وعلى الإيجاب بتقدم ما حقه التأخير وارتباطها به، كما تقدم في قولهم: " شر ما جاء وأما ما دخله معنى الدعاء فابتدئ به وهو نكرة، فلا يكون إلا في معنى الأحداث والمصادر فما ارتفع منه نحو: " سلام عليكم ". و" ويل له "، فإنما يرتفع لوجهين: أحدهما: أنك لما كنت داعياً، وكان الاسم المبتدأ نكرة هو المطلوب بالدعاء، صار كالمفعول ووقع موقعه، كأنك قلت: " أسال الله سلاماً عليك "، أو: " أطلب منه ويلاً للكافرين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 ولكنك لم تنصبه (كما نصبت) : سقياً ورعياً وجدعاً وعقراً، لأنك تريد أن تشوب الدعاء بالخبر، كأنك تريد: " سلام مني عليكم "، فصار السلام في حكم المنعوت بقولك: " متى " فقوي الرفع فيه على الابتداء، لأن النكرة المنعوتة يبتدأ بها. وهذا هو الوجه الثاني من الوجهين المحسنين للابتداء بها والتقديم لها، ألا ترى أن كل من يقول: " سلام عليكم " إنما تريد أن يشعر بأنه مسلم ومحيي، فالسلام صادر منه لأنه في معنى التحية. وليس كذلك: سقياً وجدعاً، لأن المتكلم بها ليس بساق ولا جادع ولا عاقر، وإنما هو طالب من الله تعالى هذه الأشياء، فهي مفعولة. وأما " خيبة له "، و " ويحا " و " ويساً " و " ويلاً "، فيجوز فيها النصب، لأنها في حكم المطلوب بالدعاء، ويجوز فيها الرفع إذا كان المتكلم بها يريد أن يجعل لنفسه حظاً في هذه المعاني، فإذا قال للسائل: " خيبة له "، فلا يريد محضَ الدعاء كما أراد بقوله: " عقراً "، و " جدعا ". ولكن يريد: " تخيبت مني "، كأنه يخبر عن الخيبة وأنها صادرة منه، كما كان ذلك في السلام إذا أراد به التحية، ولو أراد به السلامة والعافية لقال: " سلاماً لك "، " سلامة لك " بالنصب، لأن سلامة المخاطب ليست من فعل المتكلم. وكذلك " السقي " " والرعي "، فلا بدَّ من النصب على هذا الوجه، وأما " ويح " و " ويل " فترحم واستقباح، و " ويس " استصغار، فتارة تكون نصباً كما تكون " خيبة " وذلك إذا أردت محض الدعاء، وإن أردت أن تشوب الدعاء بخبر عن نفسك رفعت كلما رفعت " سلام عليك " إذا أردت التسليم والتحية، لأنك مترحم كما أنك مسلم. فيكون التقدير " ويح مني لك " و " استقباح مني له "، لأن الويل قبوح، ولا يتصور هذا في " تباً له " ولذلك منع " سيبويه " الرفع " تباً،، وأنكر على من أجازه، ولم يبين العلة ولا كشف السر لا هو ولا من شرح " الكتاب ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وقس على هذا " مرحبا بك " فإنه يجوز فيه الرفع والنصب، لأنك مرحب إذا رفعت، وإذا نصبت فإما سائل الرحب وأما مبشر للضيف بأن قد صادفت الرحب. فتأمل هذه الدقائق، وتعرف هذه الحقائق، والله - تعالى - يهدينا لأحسن الطرائق بمنه وكرمه. * * * فصل (في سرِّ آية من سورة الذاريات) مما يتصل بما تقدم قوله - عز وجل -: (قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ) . نصب الأول لأنه لم يقصد الحكاية، ولكنه جعله قولاً حسناً، وسماه سلاماً لأنه يؤدي معنى السلام في رفع الوحشة ووقوع الأنس. وحكى عن ابراهيم - عليه السلام - قوله، فرفع بالابتداء، وحصل من الفرق بين الكلامين في حكاية هذا ورفعه ونصب ذلك، إشارة لطيفة وفائدة شريفة، وهو أن السلام من دين الإسلام، والإسلام ملة إبراهيم عليه السلام، وقد أمرنا بالاتباع والاقتداء به، فحكي لنا قوله ولم يحك لنا قول أضيافه، إذ لا فائدة في تعريف كيفيته، وإنما الفائدة في تبيين قول إبراهيم وكيفية تحيته، ليقع الاقتداء به. وأخبر عن قول الأضياف على الجملة، إلا على التفصيل، وعن قول إبراهيم - عليه السلام - مفصلاً محكياً لهذه الحكمة، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 فصل (في مواضع تصريف كلمة السلام) إدخال " الألف واللام " على " سلام " يشعر بذكر الله سبحانه. لأن السلام من أسمائه تعالى، ويشعر أيضاً بطلب معنى السلامة منه، لأنك متى ذكرت اسما من أسمائه ففد تعرضت لطلب المعنى الذي اشتق ذلك الاسم منه أيضاً. ويشعر أيضاً - في بعض المواضع - بعموم التحية التحية وأنها غير مقصورة على المتكلم، فأنت ترى أنه ليس قولك: (سلام عليك) . أي: " سلام مني "، بمنزلة قولك: السلام في العموم. فقف على هذا الأصل تلح لك أسرار كثيرة، منها: إِجماع الأمة على أن السلام من الصلاة بالألف واللام، إذ الصلاة كلها ذكر لله - تعالى - فلا يدخل فيها إلا باسم من أسمائه، قال الله سبحانه: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ، فسبح من " السبحة "، وهي الصلاة. وكذلك لا يخرج منها إلا باسم من أسمائه، وهو السلام معرفاً بالألف واللام، فاجتمع فيه الذكر والتحية معاً. ومن أسرار هذا الفصل أيضاً حذف الألف واللام في القرآن من قوله تعالى: (سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ) و (سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ) ، لاستغناء هذه المواطن عن الفوائد الثلاث التي تقدم ذكرها في " الألف واللام "، لأن المتكلم ههنا هو الله سبحانه فلم يقصد تبركا بذكر الاسم الذي هو السلام، ولا تعرضاً وطلباً كما يقصده العبد، ولا عموما في التحية منه ومن غيره، لأن سلاماً منه - سبحانه - كاف من كل سلام، ومغن عن كل تحية، ومرب على كل أمنية، فلم يكن لذكر " الألف واللام " معنى ههنا، كما كان لها في قول المسيح - عليه السلام -: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ) ، لأن هذا العبد الصالح يحتاج كلامه إلى هذه الفوائد الثلاثة، وأوكدها كلها العموم، لأنه مستحيل أن يقع سلامه على نفسه خاصة، ويبعد أيضاً رغبته عن ذكر مولاه، وتركه التعرض لمعنى الاسم ومقتضاه! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 ومن فوائد هذا الأصل أيضاً إجماعهم في الرد على قولهم: (السلام عليك) : بالألف واللام، لأنها لو سقطت ههنا لصار الكلام خبراً محضاً كما تقدم في قوله: " عليك دين "، و " في الدار رجل " أنه خبر عن المجرور في الحقيقة، وإذا صار خبراً بطل معنى التحية والدعاء، لأن المسلم يبدأ بالأهم وهو ذكر السلام، فليس بمسلم من قال: (عليك) ، إنما المسلم من قال: " السلام عليك) ، لأن موضوع السلام للأحياء إنما هو للأنس ورفع الوحشة والإشعار بسلامة الصدور، والدعاء لا بد فيه من ذكر المدعو، وهو السلام بالألف واللام، فإن نكرته فليس باسم من أسمائه، فعرف بالألف واللام إشعاراً بالدعاء للمخاطب وأنك راد عليه التحية لا مخبر، فلم يكن بدٌّ من " الألف واللام " فاعرفه، والله المستعان. وأما أوائل الرسائل فقد أجمع على إسقاط الألف واللام فيها، إذ قد تقدم أنها مشعرة بالعموم، والكاتبُ مؤكد لخصوص نفسه بالتسليم، مشعر بسلامة وده للمكتوب إليه، ولا سيما عند افتتاح الكلام، ليشعر المكتوب إِليه الأنس والسلام من الكاتب على الخصوص من غير التفات إلى طلب العموم. وهذا المعنى كله إنما يحصل بإسقاط " الألف واللام ". فإذا ختم الرسالة قال: " والسلام عليك " معرفاً، وذلك لثلاث فوائد: إحداها: أن الخصوص بسلام الكاتب قد حصل في أول الكتاب ووقع الأنس به، فكان العموم هنا أبلغ في الدعاء، فإنه لا يخص نفسه بل يجمع له سلامة وسلام غيره. والفائدة الثانية: أن يختم باسم من أسماء الله تعالى، كما فعل في الصلاة. طلباً للأجر وتبركا بالذكر. واكتفى في أول الرسالة بـ بسم الله الرحمن الرحيم. وحسبك به ذكراً. والفائدة الثالثة بديعة جداً، وهي أن " الواو " العاطفة توجب بناء الكلام على ما تقدم لا تقول كما قال القتبي: " إنهم أرادوا السلام المتقدم عليكم "، لما رأى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 " الألف واللام " تكون للعهد، فإن في ذلك نقصاً في الأدب، وشحا بسلام مجدد، وإخلالاً بمقاصد السلف، لأنهم لا يردون: السلام المتقدم عليك. وهذا غث من القول! ولكن أشعرت " الواو " بعطف فصل على فصل من الكتاب، فلما فرغ منها قال: " والسلام عليك " يريد: وبعد هذا كله " السلام عليك ". وقد تقدم أن " السلام " إذا انبنى على اسم مجرور قبله كان بالألف واللام. كقولك: (عليك السلام) ، وإن لم يكن ههنا مجرور فالواو مشعرة به ومغنية عن ذكره. وهذا المعنى الذي لحظه كتَّابُ السلف وقلدهم فيه الخلف، بل ما تقول إلا أنها حكمة نبوية وفصاحة شرعية موروثة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والسعيد من فهم عنه، واقتبس العلم من لدنه، والحمد لله. * * * فصل خبر المبتدأ إذا كان جملة فلا بد من مضمر يعود على المبتدأ، لأن الجملة كلام مستقل بنفسه، فإن لم يكن فيه ضمير يعود على المبتدأ وإلا انقطع الكلام منه واستغنى عنه، فإن كان اسماً مفرداً جامداً لم يحتج إلى رابط يربطه بالأول، لأن المخاطب يعرف أنه مسند إليه من حيث (كان) لا يقوم بنفسه، لا كما زعم المنطقيون أن الرابط بينهما لا بدَّ منه مضمراً أو مظهراً! وكيف يكون مضمراً ويدل على ارتباط أو غيره والمخاطب لا يستدل إلا بلفظ يسمعه لا بشيء تضمره في نفسك. ولو احتجنا إلى " هو " مضمرة أو مظهرة لاحتجنا إلى " هو " أخرى تربط الخبر بها، وذلك تسلسل. فإن كان الخبر اسماً مفرداً مشتقا من فعل، كان فيه ضمير فاعل بذلك الفعل. لا من حيث كان خبر للمبتدأ، ولكن من حيث كان فيه معنى الفعل، والفعل لا بد له من فاعل فإن قيل: وما برهانه أن فيه ضميراً في اعتقاد العرب؟ قلنا: تأكيدهم له وإبدالهم منه، وليس له ظهور في التثنية ولا في الجمع. أعني إذا كان اسما، إنما يكون له علامة في التثنية والجمع إذا كان فعلاً نحو: " يذهبان " ويذهبون. وأما " ذاهبان " و " ذاهبون "، فالواو والألف علامتا إعراب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 لا علامتا إضمار، فهما حرفان، وهما في الفعل اسمان، برهان ذلك أنهما - أعني الواو والألف إذا كانتا في الاسم انقلبتا " ياء " في الثثنية والجمع في حال النصب والخفض، كما تنقلب فيما لا ضمير فيه، نحو: " الزيدين " و" الرجلين "، ولو كانت هي ضمير الفاعل لبقيت على لفظ واحد، كما تقول في الفعل: " هؤلاء رجال يذهبون "، و " مررت برجال يذهبون "، ورأيت رجالاً يذهبون، فلا يتغير لفظها. لأنها هي الفاعل وليست علامة إعراب للفعل. فتثبث بها صحة دعوى النحويبن على العرب، حيث زعموا أن الضمير المستتر في الاسم المشتق لا يظهر في تثنية ولا جمع، وأن الضمير المستتر في الفعل يظهر في التثنية والجمع، ولولا الدليل المتقدم لما عرف هذا أبداً، لأن العرب لم تشافهنا بهذا مشافهة، ولا أفصحت عن أغراضها في هذا ونحوه إلا باستقراء كلامها والتتبع لأنحائها ومقاصدها، الموصل إلى غرائب هذه اللغة وفرائدها. فإن قيل: فقد عرفنا صحة دعوى النحويين في الفرق بين الموضعين، فما الحكمة التي هن أجلها فرق واضع اللغة بين الموطنين، فجعلها علامة إضمار في الأفعال ولم يجعلها كذلك في الأسماء المشتقة من الأفعال، مع أن الضمير فيها في التثنية والجمع والإفراد، ولكن لا علامة له في اللفظ، وإنما يستدل عليه بالتوكيد والبدل والعطف؟ قلنا: الحكمة في ذلك بديعة، وهي أن الأسماء لما كان أصلها الإعراب. كانت أحوج إلى علامة إعراب منها إلى علامة إضمار، والأفعال أصلها البناء. ولم يكن لها بد من الفاعل ضرورة، كانت أحوج إِلى علامة إضمار الفاعلين منها إلى علامة إعراب، مع أن هذه العلامة في الأسماء علامة تثنية وجمع وحرف إعراب أيضاً، والأفعال لا تثنى ولا تجمع، إذ هي مشتقة من المصدر وهو لا يثنى ولا يجمع، لأنه يدل على الفليل والكثير من جنسه. ولعلة أخرى أصح منها وأدق وأجدر أن تكون هي الحق، ذكرناها في أول الكتاب، فلترها هنالك. وإذا ثبت أنها لا تثنى ولا تجمع، وعلامة التثنية والجمع هي حروف الإعراب، فلا تكون " الواو " و " الألف " إلا علامة إضمار، ولا تكون في الأسماء - وإن احتملت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 الضمائر - إلا علامة تثنية وجمع، أو حرف إعراب على قول سيبويه، أو هي إعراب على قول محمد بن المستنير، أو دليل إعراب على قول سعيد، ومحمد بن يزيد. * * * فصل (في متعلق الخبر إذا كان ظرفاً) خبر المبتدأ إذا كان ظرفا أو مجروراً يُعلق بالفعل، ويقدر تقدير " مستقر " وكذلك إذا كان في موضع نعت أو حال أو صفة أو صلة، وكان في ذلك الاستقرار ضمير يعود على المبتدأ، كما يكون في " مستقر " إذا لفظ به، لأن تعلق الجار به يدل عليه دلالة اللفظ، لكنه لا يجوي مجرى العوامل اللفظية في تقدم الحال عليه، ولا في نصب المفعول معه. فإن قيل: فهل تقديره تقدير الفعل المحض أو تقدير الاسم المشتق من الفعل؟ فالجواب: أن النحويين إنما يقدرونه تقدير الاسم المشتق فيقولون: " زيد في الدار "، أي: مستقر في الدار. وكان الظاهر أن يذكروا الفعل لأنه الأصل في تعلق الجار به، لأن حرف الجر إنما تعلق بالاسم المشتق من حيث كان فيه معنى الفعل لا من حيث كان اسما. وقد سأل ابن جنى أبا علي عن هذه المسألة فلم يراجعه بجواب بين ولا شاف أكثر من أن قال له: " تقدير الاسم ههنا أولى، لأن خبر المبتدأ في أغلب أحواله اسم ". ولم يبين ابنُ جنى فيه شيئاً أيضا.. والصحيح في التعليل والتقدير أن يقال: الجار هنا لا يتصور تعلقه بفعل محض، إذ الفعل المحض ما دل على حدث وزمان. ودلالته على الزمان ببنيته فإن لم يكن له وجود في اللفظ لم يكن له بنية تدل على الزمان مع أن الجار لا تعلق له بالزمان ولا يدل عليه، إنما هو في أصل وضعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 التقييد الحدث وجره إلى الاسم على وجه ما من الإضافة، فلا تعلق له إلا بالحدث، والحدث الذي هو المصدر لا يمكن تقديره ههنا لأنه خبر المبتدأ، والمبتدأ ليس هو الحدث، فبطل أن يكلون التقدير: زيد استقر في الدار، وبطل أيضاً أن يكون التقدير: " زيد استقر في الدار ". ألا ترى أنه يقبح أن يقال: " زيد في الدار أمس ". أو: " أول من أمس ". وإذا بطل القسمان، أعني إضمار المصدر وإضمار الفعل، لم يبق إلا القسم الثالث وهو إضمار اسم الفاعل لتصح الفائدتان: إحداهما: أن يكون خبراً عن المبتدأ، ويضمر فيه ما يعود عليه، إذ لا يمكن ذلك في المصدر. والثانية: أن يصح تعلق الجار به، إذ مطلوبه الحدث، واسم الفاعل متضمن للحدث لا للزمان، والله المستعان. * * * فصل (في إعراب الاسم المرفوع بعد الظرف) إذا ثبت هذا فلا يصح ارتفاع اسم بعد الظرف والمجرور بالاستقرار على أنه فاعل، وإن كان في موضع خبر أو نعت، وإنما يرتفع بالابتداء كما يرتفع في قولك: " قائم زيد " بالابتداء، لا بقائم، خلافاً للأخفش على ما سيأتي برهانه، إن شاء الله تعالى. فإن قيل: أليس قد يرتفع الاسم بقائم إذا كان " قائم " معتمداً على مبتدأ، أو كان نعتاً، أو حالاً، أو كان قبله الاستفهام وما يطلب الفعل، فيرتفع أيضاً ههنا به؟ قلنا: قد توهم: قوم أن هذا هو مذهب سيبويه، وأنه يجيز أن يرتفع بالظرف إذا قلت: " وزيد في الدار أبوه " و " مررت برجل معه صقر ". وليس هذا مذهب الرجل، وقد بين أبو سعيد السيرافي مراد سيبويه، وشرح وجه الغلط عليه بما فيه غنية. والفرق بين الظرف وبين اسم الفاعل مشتق وفيه لفظ الفعل موجود، فإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 اقترنت به ألف الاستفهام أو قرينة من القرائن المتقدمة التي يقوي بها معنى الفعل، عمل عمل الفعل. والظرف في قولك: " زيد في الدار أبوه " لا لفظ للفعل فيه، إنما هو معنى معلق به الحرف ويدل عليه، فلم يكن في قوة القرينة التي اعتمد عليها أن تجعله كالفعل، كما لم يكن في قوته إذا كان ملفوظاً به دون قرينة أن يكون كالفعل. حتى يجتمع (الاعتماد) المقوي لمعنى الفعل مع اللفظ المشتق من الفعل. فيعمل حينئذ عمل الفعل، فتقول: " زيد ذاهب غلامه ". و" مررت برجل قائم أبوه ". ووجه آخر من الفرق بين المسألتين، وهو أنك إذا قلت: مررت برجل قائم أبوه، فالقيام - لا محالة - مسند إلى الأب في المعنى، وهو في اللفظ جار على ما قبله، وفي المعنى مسند إلى ما بعده، فأما الظرف والمجرور فليس للصفة المشتقة لفظ يجري على ما قبله، إنما هو معنى يتعلق به الجار، وذلك المعنى مسند إلى الاسم المرفوع وخبر عنه، فصح أنه مبتدأ والمجرور خبر عنه، والجملة في موضع نعت أو خبر. فإن قيل: فيلزمكم إذا قدمتم الظرف في موضع الخبر وقدرتم فيه ضميراً يعود على المبتدأ أن تجيزوا: " في الدار نفسه زيد و " فيها أجمعون إخوتك " وهذا لا يجيزه أحد وفي هذا حجة للأخفش ولمن رفع بالظرف. قلنا: إنما قبح توكيد المضمر إذا كان الظرف خبراً مقدماً، لأن الظرف في الحقيقة ليس هو الحامل للضمير، إنما هو متعلق بالاسم الحامل للضمير وذلك الاسم غير موجود في اللفظ حتى يقال: إنه مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى، وإذا لم يكن ملفوظاً به فهو في المعنى والرتبة بعد المبتدأ، والمجرور المقدم قبل المبتدأ دال عليه، والدال على الشيء غير الشيء، فلذلك قبح: " فيه أجمعون الزيدون "، لأن التوكيد لا يتقدم على المؤكد، ولذلك صح تقديم خبر " إن " على اسمها إذا كان ظرفا، لأن الظرف ليس هو الخبر في الحقيقة، إنما هو متعلق بالخبر. والخبر منوي في موضعه مقدر في مكانه ولذلك لم ينكسر أصل الخليل في منعه تقديم خبر المبتدأ مع كثرة هذا النحو في الكلام، أعني: " في الدار زيد "، ولذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 عدل " سيبويه " في قولهم: " فيها قائما رجل " و " لِمَيَّةَ مُوحِشاً طَلَلُ " إلى أن جعلها حالاً من نكرة، ولم يجعلها من الضمير الذي في الخبر. لأن الخبر مؤخر في النية هو العامل في الحال، وهو معنوي، والحال لا تتقدم على العامل المعنوي. فهذا كله ينبئك أن الظرف والمجرور ليس هو الخبر في الحقيقة، ولا الحامل للضمير، ولا العامل في شيء من الأشياء، لا في حال، ولا في ظرف، ولا في فاعل. ومن جهة العقل أن " الدار " إذا انفردت بلفظها لم يصح أن تكون خبراً عن " زيد " ولا عاملة، ولا حاملة للضمير. وكذلك (في) و (من) سائر حروف الجر أو انفردت لم يكن فيها شيء من ذلك، فقد وضح لك أن الخبر هو غيرها، وموضعه موضعه، والحمد لله. * * * فصل (في إعراب الوصف غير المعتمد) وأما ما حكاه الزجاجى في هذا الباب عن بعض النحويين من قولهم: " قائم زيد " أن " قائم " مبتدأ، و " زيد " فاعل، فقد قدمنا أن هذا باطل في القياس، لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 اسم الفاعل اسم محض، واشتقاقه من الفعل لا يوجب له عمل الفعل، إذا كنا نعمل كل اسم مشتق من الفعل كمسجد، ومرقد، ومروحة، ومغرفة. ولكن إنما نعمل إذا تقدم ما يطلب الفعل أو كان في موضع لا يدخل عليه العوامل اللفظية نحو النعت والخبر، فيقوي حينئذ معنى الفعل فيه. ويعضد هذا من السماع أنهم لم يحكوا عن العرب: " قائم الزيدان " ولا: " ذاهب إخوتك "، إِلا على الشرط الذي ذكرناه. ولو وجد الأخفش ومن قال بقوله مسموعا لاحتجوا به على الخليل وسيبويه، فإذا لم يكن مسموعاً، وكان بالقياس مدفوعا، فأخلق به أن يكون باطلاً ممنوعاً! * * * فصل (في إعراب الوصف المعتمد) وإذا ثبت هذا فجائز أن يكون اسم الفاعل في حال الاعتماد على ما قبله، ومع القرائن المقوية رافعاً للفاعل، وخبراً مقدماً والاسم بعده مبتدأ، الوجهان جائزان. نحو: " زيد قائم أخواه " و " زيد قائمان أخواه "، إلا في موضع واحد وهو أن يكون الفاعل ضميراً منفصلاً نحو: " زيد قائم أنت إليه " " أقائم هو؟ ". فإن هذا لا يكون إلا مبتدأ وخبراً، لأن المنفصل لا يكون فاعلاً مع اتصاله بالعامل، إنما يكون فاعلاً إذا لم يمكن اتصاله به نحو: " ما قائم إلا أنت " ونحو: " الضاربة هو "، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - لورقة بن نوفل: " أو مخرجي هم؟ ". لم يروه أحد إلا بتشديد " الياء " لأنه خبر مقدم، و " هم " مبتدأ، فجمع من أجل الضمير الذي في الخبر، وصار تقديره: " أو مخرجوي هم "، ثم أدغم " الواو " في " الياء "، ولو كان " هم " فاعلاً لقال: " أو مخرجي هم؟! بتخفيف الياء، كما تقول: " أضاربي إخوتك " فإن جعلته مبتدأ قلت: أضاربيَّ، بالتشديد، والحمد لله. * * * فصل ذكر: ظروف الزمان لا تكون إخباراً عن الجثث، ولكن تكون إخباراً عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 المصادر. ولم يعلل النحويون هذا الأصل باكثر من أن قالوا: إنما لم يجز ذلك لأنه لا فائدة فيه. . ولم يكشفوا عن سر عدم الفائدة. وسره أن الزمان لما كان أحداثاً تحدث عن حركة الفلك، وكان البشر يحتاجون إلى تقييد إحداثهم وتأريخها بأحداث تقارنها معلومة عند المخاطب. كما يقيدونها بالأماكن التي تقع فيها، جعل الله - تعالى - لهم في حركات الفلك حوادث تختلف بما يقارنها من النور والظلمة، وارتفاع الشمس وانحدارها، لأن الحركات لا تختلف لذواتها ولا تمييز بأنفسها. ولما كانت هذه الحوادث التي هي أجزاء الزمان معلومة عند جميع المخاطبين، جعلوها تأريخا وتقييداً لأفعالهم وحياتهم وموتهم وجميع الأمور النازلة بهم، فلا معنى لوقت الفعل إلا أنه حادث يقارنه حادث معلوم عند من يخاطبه، فإذا أخبرته أن فعلك قارن ذلك الحادث المعلوم عنده توقت له وتقيد، فسميناه وقتا، وهو في الأصل مصدر: " وقت الشيء أوقته ": إ ذا حددته وقدرته. ولو أمكن أن تقيد وتؤرخ بما يقارن الفعل من الحوادث التي هي غير الزمان استغنيت عن الزمان، نقول: قمت عند خروج الأمير، وخرجت عند قدوم الحاج، أو: مع قدوم الحاج، لكان ذلك أيضا توقيتاً وتأريخاً. ولكن الذي هو معلوم عند جميع المخاطبين إنما هي أجزاء الزمان كالشهر والسنة واليوم وما دون ذلك، وإذا كان الأمر كذلك فلا معنى لقولك: " زيد اليوم " و" الغلام غدا " لأن الجثث ليست بأحداث فيحتاج إلى تقييدها بما يقارنها وتأريخها بما يحدث معها، ولذلك تقول: " إن أول مخلوق خلقه الله - تعالى - لم يكن في وقت "، ولو كان في وقت لافتقر ذلك الوقت إلى وقت، إلى غير نهاية، وهذا محال فقد وضح لك أن الذي ليس بحدث فلا معنى لتقييده بالحدث الذي هو الزمان. ومع هذا فإذا أردت حدوث الجثة ووجودها فهو أيضاً حادث، فجائز أن تخبر عنه بالزمان إذا كان الزمان يسع مدتها، مثل ما يقول: " نحن في زمان كذا "، و " كان الحجاج في زمن ابني أمية "، وإن جهل المخاطب وجود زمن قيدته بزمان يسعه، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 كان الزمان أقصر من مدة الوجود لم يجز في شيء من الحوادث، كما لا يجوز: " شب زيد غدوة "، ولا: " شاخ ضحوة "، لأن الوقت أقل من المؤقت، كذلك لا تقول على هذا: نحن يوم السبت " ولا: الحجاج يوم الخميس ". فإن قلت: فقد قالوا: " زيد حين بقل وجهه "؟ قلنا: إنما جاز ذلك لقرينة أخرجته عن معنى الظرف من الزمان إلى معنى الوصف بمقدار السنين، وهي إضافة الوجه إليه حين قلت: " بقل وجهه " و " طر شاربه ". ولو قلت: " يوم بقل وجهه -، لم يجز، لما في " حين " من لفظ " حان يحين الذي يصح أن يكون خبراً عن زيد. * * * فصل ومما ألحق بهذا الفصل قوله سبحانه: (سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ) و (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) . زعم بعض النحويين أن " سواء " خبر، وأن المبتدأ محذوف، وأن التقدير: سواء عليهم الإنذار وتركه، ثم فسرته الجملة المصدرة بألف الاستفهام. وصاحب هذا القول يلزمه أن يجيز: " سواء أقمت أم قعدت "، دون أن يقول: " عليَّ " أو " عليك ". ويلزمه أن يجيز: " سيان أذهب زيد، أم جلس " و" متفقان أقام زيد أم قعد ". وما كان نحو هذا مما لا يجوز فىِ الكلام ولا روي عن أحد. وقالت طائفة: سواء ههنا مبتدأ والجملة الاستفهامية في موضع الخبر. وإنما قالوا هذا - وإن كان " سواء " نكرة - لأن الجمل لا تكون في موضع المبتدأ أبداً ولا في موضع الفاعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 ثم لزمهم أن يكون في الجملة ضمير يعود على " سوا " إذ لا تكون جملة في موضع خبر إلا وفيها عائد يعود على المبتدأ. فأجابوا عن هذا بأن قالوا: " سواء " مبتدأ في اللفظ وهو في المعنى خبر، لأن المعنى: " سواء عليهم الإنذار وتركه "، ولا يلزم أن يعود من المبتدأ ضمير على الخبر، فلما كان خبراً في المعنى دون اللفظ روعي ذلك المعنى، كما لم يعد على " ضربي "، من قولك: " ضربي زيد قائماً " ضمير من الحال التي سدت مسد الخبر، لأن معناه: اضرب زيداً، أو: ضربت زيداً، والفعل لا يعود عليه ضمير، وكذلك: " أقائم أخوك "، لأن " أخوك " وإن سد مسد الخبر فإنه فاعل في المعنى، و " قائم " معناه كمعنى الفعل الرافع للفاعل، فروعيت المعاني في هذه المواضع وترك حكم اللفظ إلا من جهة الرفع بالابتداء، فهي كلها مرفوعة بالابتداء متضمنة لمعنى يخالف معنى الابتداء المخبر عنه، فحكم لذلك المعنى. فلم يعد على اللفظ ضمير. وهذا كله حسن، إلا أنه في هذه المسألة خاصة على خلاف ما قالوه، لأن العرب لم تنطق بمئل هذا في " سواء " حتى قرنته بالضمير المجرور بعلى، نحو (سواء عليهم) و " سواء عليَّ أقمت أم قعدت ". ولا يقولون: " سيان أقمت أم قعدت " ولا: " مثلان " ولا: " شبهان ". ولا يقولون ذلك إلا في " سواء " مع المجرور بـ على. فوجب البحث عن السر في ذلك، وعن مقصد القوم في هذا الكلام. وعن المساواة بين أي شيئين هي؟ وفي أي الصفات هي من الاسمين الموصوفين بالتساوي؟ فوجدنا معنى الكلام ومقصوده إنما هو تساو في عدم المبالاة بقيام أو قعود، أو إنذار أو ترك إنذار. ولو أرادوا المساواة في صفة موجودة في الذات لقالوا: " سواء الإقامة والشخوص "، كما تقول: " سواء زيد وعمرو،. و " سيان " و" مثلان " تعني استواءهما في صفة لذاتهما، فإذا أردت أن تسوي بين أمرين في عدم المبالاة وترك الالتفات لهما وأنهما قد هانا عليك وخفا عليك، قلت: " سواء عليَّ أفعل أم لم يفعل ". كما تقول: " لا أبالي أفعل أم لم يفعل "، لأن المبالاة، فعل من أفعال القلب، وأفعال القلب تلغي إذا وقعت بعدها الجمل المستفهم عنها أو المؤكدة باللام، تقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 " لا أدري أقام زيد أم قعد،) ، و: " علمت ليقومن زيد ". ولكن لا تلغى هذه الأفعال القلبية حتى يذكر فاعلها في اللفظ أو في المعنى، فتكون حينئذ في موضع المفعول بالعلم. * * * فصل فإذا ثبت هذا فسواء مبتدأ في اللفظ، و " على " أو " عليهم " مجرور في اللفظ. وهو فاعل في المعنى المتضمن في مقصود الكلام، إذ قولك: " سواء على " في معنى: " لا أبالي "، " وفي أبالي " فاعل، فذلك الضمير الفاعل هو المجرور بـ على في المعنى، لأن الأمرين إِنما استويا عليك في عدم المبالاة، وإذا لم تبال بهما لم تلتفث بقلبك إليهما، وإذا لم تلتفت فكأنك قلت: " لا أدري أقمت أم قعدت "، فلما صارت الجملة الاستفهامية في معنى المفعول بفعل من أفعال القلب، لم يلزم أن يكون بها ضمير يعود على ما قبلها، إذ ليس قبلها في الحقيقة إلا معنى فعل يعمل فيها، وكيف يعود من المفعول فيه ضمير يعود على عامله؟ ولولا قولك: " على " و " عليهم " ما قوي ذلك المعنى، ولا عمل في الجملة. ولكن لما تعلق الجار به صار في حكم المنطوق به، وصار المجرور هو الفاعل في المعنى كالفاعل في " علمت " و " دريت " و " باليت " ونحو ذلك. ألا ترى كيف صار المجرور في قولهم: " له صوت صوت غراب ". بمنزلة الفاعل في " يصوت " حتى كأنك تصف، فنصبت " صوت غراب " لذلك. وإذا قلت: " عليه نوح نوح الحمام "، رفعت: نوح الحمام لأن الضمير المخفوض بـ على ليس هو الفاعل الذي ينوح، كما كان في مسألة " له صوت صوت حمار ". وكذلك المجرور في (سواء عليهم) هو الفاعل الذي في قولك: لا يبالون ولا يلتفتون إذ المساواة إنما هي في عدم المبالاة والالتفات، والمتكلم لا يريد غير هذا بوجه، فصار الفاعل مذكوراً، والمبالاة مفعولة مقصودة، فوقعت الجملة الاستفهامية مفعولاً لها. ونظير هذه المسألة - حذو النعل بالنعل - قوله تعالى: (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 بدا: فعل ماض، فلا بد له من فاعل، والجملة المؤكدة باللام " لا تكون في موضع فاعل أبداً، وإنما تكون في موضع مفعول بعلمت أو علموا، فهي ههنا في موضع المفعول، وإن لم تكن في اللفظ " علموا " ففي اللفظ ما هو في معناه، لأن قوله: " بدا " معناه: ظهر للقلب لا للعين، وإذا ظهر الشيء للقلب فقد علم. والمجرور من قوله: " لهم " هو الفاعل، فلما حصل معنى العلم وفاعله متقدماً على الجملة المؤكدة باللام، صارت الجملة مفعولاً لذلك العلم، كما تقول: " علمت ليقومن زيد "، و " لام " الابتداء و " ألف " الاستفهام يكون قبلهما أفعال القلب ملغاة، فكذلك، (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) ، وقعت الجملة الاستفهامية في المعنى بعد فعل من أفعال القلب وبعد فاعله، كما تقدم بيان ذلك، حين قدرناه بقولك: " لا يبالون ". فالواو في " يبالون " هو الفاعل، والضمير في " عليهم " هو الفاعل في المعنى. ألا ترى كيف اختص بـ على من بين حروف الجر، لأن المعنى إذا كان يرجع إلى عدم المبالاة فقد هان عليك الأمران وصار أخف شيء على من لا يباليهما، ولا يلتفت إليهما. فتأمله تجد المعاني صحيحة والفوائد كثيرة مزدحمة تحت هذا اللفظ الوجيز. فكذلك نبت عنه كثير من الإفهام حتى تناقضت عليهم الأصول التي أصلوها، واضطربوا في الجواب عن الاعتراضات التي ألزموها، مع ما غاب عنهم من فوائد هذه الآيات وإعجازها، وسمانة هذه الكلمات على إيجازها، وبالله التوفيق. * * * فصل فإن قيل: فما بال الاستفهام في هذه الجملة، والكلام خبر محض؟. قلنا: الاستفهام مع " أم " يعطي معنى التسوية، فإذا قلت: " أقام زيد أم قعد؟ "، فقد سويت بينهما في علمك. فهذا جواب فيه مقنع. وأما التحقيق في الجواب فأن تقول: ألف الاستفهام لم يخلع منها ما وضعت له ولا عزلت عنه، وإنما معناه: " علمت أقام زيد أم قعد؟ ". أي: علمت ما كنت أقول فيه هذا القول، وأستفهم عنه بهذا اللفظ، فحكيت الكلام كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 كان، ليعلم المخاطب أن ما كان مسنفهماً عنه معلوم، كما تقول: قام زيد فترفعه لأنه فاعل ثم تقول: " ما قام زيد " فيبقى الكلام كما كان وتبقى الجملة محكية على لفظها، لتدل على أن ما كان خبراً متوهما عند المخاطب فهو الذي نفي بحرف النفي. ولهذا نظائر يطول ذكرها، فكذلك قوله تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) . لما لم يبالوا بالإنذار ولا نفعهم ولا دخل في قلوبهم منه شيء، صار في حكم المستفهم عنه أكان أم لم يكن. فلا تسمي الألف ألف التسوية، كما فعل بعضهم. ولكن " ألف " الاستفهام بالمعنى الذي وضعت له ولم تزل عنه. * * * فصل فإن قيل: فلم جاء بلفظ الماضي - أعني قوله: (أَأَنْذَرْتَهُمْ) ، وكذلك: (أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ) . و" أقام زيد أم قعد " - ولم يجئ بلفظ الحال ولا المستقبل؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن في الكلام معنى الشرط، والشرط يقع بعده المستقبل بلفظ الماضي، تقول: " إن قام زيد غداً قمت "، وههنا يتقدر ذلك المعنى كأنك قلت: " إن قام زيد أو قعد لم أباله "، ولا ينفع القوم إن أنذرتهم أو لم تنذرهم ". فلذلك جاء بلفظ الماضي. وقد قال الفارسي قولاً غير هذا ولكنه قريب منه في اللفظ، قال: " إن ألف الاستفهام تضارع " إن " التي للجزاء، لأن الاستفهام غير واجب كما أن الشرط ليس بحاصل إذا عدم الشروط ". وهذه العبارة، فاسدة من وجوه يطول ذكرها، ولو راعى المعنى الذي قدمناه لكان أشبه، على أنه عندي مدخول أيضاً لأن معنى الشرط يطلب الاستقبال خاصة دون الحال والمضي. وقوله: (سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ) و (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) لا يختص بالاستقبال بل المساواة في عدم المبالاة موجودة في كل حال، بل هي أظهر في فعل الحال، ولا يقع بعد حرف الشرط فعل حال بوجه. والتحقيق في الجواب أن تقول: قد أصلنا في " نتائج الفكر " أصلاً، وهو أن الفعل لم يشتق من المصدر مضافاً إلا ليدل على كون الاسم مخبراً عنه - أعني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 الفاعل الذي كان المصدر مضافاً إلا ليدل على كون الاسم مخبراً عنه - أعني الفاعل الذي كان المصدر مضافاً إليه - ولم تختلف أبنيته بعدما اشتق من المصدر إلا لاختلاف أحوال الحدث من مضي واستقبال، فإن كان قصد المتكلم ألا يقيد الحدث بزمان دون زمان، ولا بحال استقبال دون حال مضي، بل يجعله مطلقاً بلفظ الماضي الذي لا زوائد فيه، فيكون أخف على اللسان وأقرب إلى لفظ الحدث المشتق منه، ألا ترى أنهم يقولون: " لا أفعله ما لاح برق " و " ما طار طائر "، بلفظ الماضي خاصة لما أرادوا مدة مطلقة غير مقيدة، وأنه لا يفعل هذا الشيء في مدة لوح البرق وطيران الطائر ونحو ذلك، فلم يجاوز لفظ الماضي لأنه لا يريد استقبالاً ولا حالاً على الخصوص. فإن قلت: ولا يريد أيضاً ماضياً، فكيف جاء بلفظ الماضي؟. قلنا: قد قرن معه " لا أكلمه "، فدل على أن قوله: " ما لاح برق " يريد به لوحاً قد انقضى وانقطع، وإنما يريد مقارنة الفعل المنفي للفعل الآخر في المدة على الإطلاق والدوام، فليس في قوله " لاح " إلا معنى اللوح خاصة، غير أنه ترك لفظ المصدر ليكون " البرق " مخبراً به عنه كما تقدم. فإذا أردت هذا ولم ترد تقييداً بزمام فلفظ الماضي أخف وأولى. وكذلك قوله تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) . أضاف الإنذار إلى المخاطب المخبر عنه به. فاشتق من الإنذار الفعل ليدل على أن المخاطب هو فاعل الإنذار، وترك الفعل بلفظ الماضي لأنه مطلق في الزمان كله، وأن القوم لم يبالوا بهذا ولا يبالون، ولا هم في حال مبالاة، فلم يكن لإدخال الزوائد الأربع معنى، إذ ليس المراد تقييد الفعل بوقت ولا تخصيصه بآن. فإن قلت: لفظ الماضي تخصيصه بالانقطاع؟. قلنا: " حدث حديثين امرأة "، فيما قدمناه ما يفى عن الجواب، مع ما في قوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) من ثبوت هذه الصفة فيهم وحصولها في الحال وفي المآل، ولا تقول: سواء ثوباك أو غلاماك، إذا كان الاستواء فيما مضى وهما الآن مختلفان. فهذه القرينة تنفي الانقطاع الذي يتوهم في لفظ المضي، كما كان لفظ الحال في قولك: إلا أكلمه ما دامت السماوات والأرض " ينفي الانقطاع المتوهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 " دام ". وإذا انتفى الانقطاع وانتفت الزوائد الأربع بقي الحديث مطلقا غير مقيد في المسألتين جميعاً. فتأمل هذا تجده صحيحا، والحمد لله. * * * فصل (في مسألة من باب الاشتغال) ومن باب اشتغال الفعل عن المفعول بضميره، ربطوا في هذا الباب اختيار النصب على الرفع بالأمر والنهي والاستفهام والجحد والجزاء. وليس مقصوراً على هذه المواضع، بل كل موضع يكون القصد فيه إلى الفعل والفائدة في ذكره أقوى كان النصب فيه هو الوجه، ألا ترى إلى قوله سبحانه: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) كيف أجمع القراء على نصبه، ودل ذلك على قبح الرفع فيه، لأن مقصد الآية المدح بالفعل والاقتدار على خلق الأشياء وتقديرها، مع أنه لو قال: " إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ "، لذهب الوهم إلى الصفة لا إلى الخبر في قوله: (خَلَقْنَاهُ) ، فكان يكون فيه للقدرية متعلق بأن يقولوا: " نعم " كل شيء خلقه فهو بقدر يقدره، وكل شيء لم يخلقه فهو بخلاف ذلك، لأن فعل الإنسان عندهم غير مخلوق للرب. تعالى عن قولهم. وكذلك قول الشاعر: فلو أنها إياك عضتك مثلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 ينصب لأنه موضع يقصد فيه إلى الفعل، والله أعلم - * * * فصل ومن هذا الباب ما ذكره سيبويه على وجه ضرورة الشعر، ثم اعترف أنه في الكلام بمنزلة في الشعر، أي: إنه لو جاء على الأصل لم بنكسر الشعر، وهو قولهم: عليَّ ذنباً كلُّه لم أَصْنَعِ ثلاث كلهن قتلت عمداً جعله في القبح مثل: " زيد ضربت "، برفع زيد، مع عدم الضمير. وليس مثله لوجوه منها: أن الجملة هنا في موضع صفة، فلو نصب لولى الاسم غير الصفة، لأن الفعل والفاعل والجملة هي الصفة، فإذا قدمت مفعولها عليها لم تل موصوفها، فإذا رفعت بالابتداء وليت الجملة التي هي في موضع الصفة موصوفها. ووجه آخر، وهو أن (كلا) يقبح أن يليه العوامل اللفظية، لأنه في الأصل توكيد، والتوكيد لا يليه العوامل اللفظية ويحسن رفعه بالابتداء، إذ الابتداء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 ليس بعامل لفظي فأما ما ذكر من قولهم: " شهر ترى، وشهر ثرى، وشهر مرعى ". وجعله من هذا الباب بمنزلة " كله لم أصنع " و " زيد ضربته "، فيا بعدما بينهما هذا نكرة وما بعدها صفة لها لا خبر عنها، فلم يصح نصبه بها، لأن الصفة لا تعمل في الموصوف. وحسن حذف الضمير لأن الحذف في الصفة أحسن منه في الخبر. وزاده حسناً ههنا ازدواج الكلام وطلب السجع، فشهر في هذه الكلمات مبني على ما قبله، كأنه يقول: والسنة شهر ترى، وشهر ثرى ". أو: " من السنة ". وكذلك ما بعده من قوله: فثوب نسيت وثوب أجر والله أعلم. انتهى الكلام في نتائج الفكر والْحَمْدُ لِلَّهِ حمداً كثيراً كما هو أهله. والصلاة والسلام الأطيبان الأكملان على سيد سائر خلقه سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338