الكتاب: ثمرات النظر في علم الأثر المؤلف: محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، الكحلاني ثم الصنعاني، أبو إبراهيم، عز الدين، المعروف كأسلافه بالأمير (المتوفى: 1182هـ) المحقق: رائد بن صبري بن أبي علفة الناشر: دار العاصمة للنشر والتوزيع - الرياض - السعودية الطبعة: الأولى، 1417هـ - 1996م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- ثمرات النظر في علم الأثر الصنعاني الكتاب: ثمرات النظر في علم الأثر المؤلف: محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، الكحلاني ثم الصنعاني، أبو إبراهيم، عز الدين، المعروف كأسلافه بالأمير (المتوفى: 1182هـ) المحقق: رائد بن صبري بن أبي علفة الناشر: دار العاصمة للنشر والتوزيع - الرياض - السعودية الطبعة: الأولى، 1417هـ - 1996م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] مُقَدّمَة المُصَنّف بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم حمدا لَك يَا واهب كل كَمَال وشكرا لَك يَا مانح الجزيل من النوال وَيَا فاتح الأقفال عَن أَبْوَاب كل إِشْكَال وصلاتك وسلامك على من ختمت ببعثه سلسلة الْإِرْسَال وعَلى آله أَئِمَّة المعارف والعوارف خير آل وَبعد فَإِنَّهُ لما من الله بمذاكرة مَعَ بعض الْأَعْلَام فِي شرح نخبة الْفِكر لِلْحَافِظِ الإِمَام الْعَلامَة الشهَاب أَحْمد بن عَليّ بن حجر أَفَاضَ الله عَلَيْهِ شآبيب الإنعام وأنزله بفضله بحبوحة دَار السَّلَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وانتهت إِلَى بحث الْجرْح وَالتَّعْدِيل عرضت عِنْد المذاكرة فروع ناشئة عَن ذَلِك التأصيل فَرغب ذَلِك الْقَلَم إِلَى تحريرها فِي الأوراق تحريرا للفظها وحفظا لمعناها وإبانة للحق النافع يَوْم يعنو كل نفس مَا عناها فَأخذت فِي رقم مَا وَقع ثمَّ اتَّصل بِهِ مَا هُوَ أرفع قدرا وأنفع وَالله أسأله أَن يخلص لوجهه الْأَعْمَال ويعيذنا من موبقات الْأَفْعَال والأقوال وسميته ثَمَرَات النّظر فِي علم الْأَثر رِوَايَة صَاحب الْبِدْعَة المكفرة والمفسقة فَأَقُول قسم الْحَافِظ ابْن حجر رَحمَه الله تَعَالَى الْبِدْعَة فِي النخبة إِلَى قسمَيْنِ إِلَى مَا يكون بمكفر أَو بمفسق وَاخْتَارَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 فِي شرحها أَن الأول لَا يكون قادحا فِي الرَّاوِي إِلَّا إِذا كَانَ ردا لأمر مَعْلُوم من الدّين ضَرُورَة أَو عَكسه أَي إِثْبَاتًا لأمر مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ أَنه لَيْسَ مِنْهُ وَإِنَّمَا فسرنا الْعَكْس بِهَذَا لِأَن ذكر الِاعْتِقَاد لَا دخل لَهُ فِي كَون الْفِعْل بِدعَة فَلَا بُد من حمله على إِثْبَات أَمر ليقابل إِنْكَار أَمر فَيكون إلماما بالأمرين اللَّذين هما مرجع الْبِدْعَة ومنشؤها وهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 النَّقْص فِي الدّين وَالزِّيَادَة فِيهِ كَمَا صرح بذلك صَاحب الإيثار فَالْأول إِشَارَة إِلَى الثَّانِي وَالثَّانِي إِشَارَة إِلَى الأول أَو هما إِلَّا إِذا كَانَ ردا لأمر مَعْلُوم وَلَقَد وهم من فسر الْعَكْس بإنكار أَمر واعتقاد خِلَافه وزحلق الْعبارَة عَمَّا تفيده إِذْ لَا بُد من حمل الِاعْتِقَاد على إِثْبَات أَمر مجَازًا من بَاب إِطْلَاق السَّبَب على الْمُسَبّب وَكَانَ حق الْعبارَة أَن يَقُول أَو إِثْبَات غَيره أَي إِثْبَاتًا لأمر فِي الدّين مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ أَنه لَيْسَ مِنْهُ قلت إِلَّا أَنه لَا يخفى أَنه من كَانَ بِهَذِهِ الصّفة فَهُوَ كَافِر لرده مَا علم من الدّين ضَرُورَة وإثباته مَا لَيْسَ مِنْهُ ضَرُورَة وكلا الْأَمريْنِ كفر وَإنَّهُ تَكْذِيب للشارع وتكذيبه فِي أَي أَمر علم من الدّين ضَرُورَة إثْبَاته أَو نَفْيه كفر فَهَذَا لَيْسَ من مَحل النزاع إِذْ النزاع فِي مُجَرّد الابتداع لَا فِي الْكَافِر الْكفْر الصَّرِيح فَلَا نزاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 فِيهِ وَإِذا كَانَ من هُوَ بِهَذِهِ الصّفة فقد جَاوز رُتْبَة الابتداع إِلَى أشر مِنْهُ وَأَنه لَا يرد من أهل ذَلِك الْقسم إِلَّا هَذَا عرفت أَنه لَا يرد أحد من أهل هَذَا الْقسم وَأَن كل مُبْتَدع مَقْبُول وَأما مَا يكون ابتداعه بمفسق فقد اخْتَارَهُ لنَفسِهِ وَنَقله عَن الجماهير أَنه يقبل مَا لم يكن دَاعِيَة وَحِينَئِذٍ فَرده لأجل كَونه دَاعِيَة إِلَى بدعته لَا لأجل بدعته فَتحصل من هَذَا أَن كل مُبْتَدع مَقْبُول سَوَاء كَانَ بمكفر أَو بمفسق واستثناؤه لمن رد مَا علم فَاثْبتْ من الدّين ضَرُورَة أَو زَاد فِيهِ مَا لَيْسَ بضرورة لَيْسَ لأجل بدعته بل لرده وإثباته مَا لَيْسَ من الدّين ضَرُورَة وَكَذَا رد الداعية لأجل دَعوته لَا لأجل بدعته وَالْكل لَيْسَ من مَحل النزاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 ثمَّ لَا يخفى أَن الْحَافِظ وَأهل مذْهبه لَا يرَوْنَ التَّكْفِير بالتأويل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فَكَأَنَّهُ قسم الْبِدْعَة على رَأْي غَيره إِذْ لَا يرى كفر أحد من أهل الْقبْلَة والآتي بِمَا يكفره بِهِ من يرى كفر التَّأْوِيل مُبْتَدع وَاضح الْبِدْعَة كَمَا قَالَ ابْن الْحَاجِب وَمن لم يكفر فَهُوَ عِنْده وَاضح الْبِدْعَة انْتهى مَسْأَلَة قبُول كَافِر التَّأْوِيل وفاسقه وَهَذِه هِيَ مَسْأَلَة قبُول كَافِر التَّأْوِيل وفاسقه وَقد نقل صَاحب العواصم إِجْمَاع الصَّحَابَة على قبُول فساق التَّأْوِيل من عشر طرق فِي كتبه الْأَرْبَعَة وَنقل أَدِلَّة غير الْإِجْمَاع وَاسِعَة إِذا عرفت هَذَا فَحق عبارَة النخبة أَن يُقَال ونقبل المبتدع مُطلقًا إِلَّا الداعية وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي الْمِيزَان فِي تَرْجَمَة أبان بن تغلب مَا لَفظه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الْبِدْعَة على ضَرْبَيْنِ فبدعة صغرى كغلو التَّشَيُّع أَو كَانَ التَّشَيُّع بِلَا غلو وَلَا تحرق فَهَذَا كثير فِي التَّابِعين وتابعيهم مَعَ الدّين والورع والصدق فَلَو ذهب حَدِيث هَؤُلَاءِ لذهب جملَة من الْآثَار النَّبَوِيَّة وَهَذِه مفْسدَة بَيِّنَة ثمَّ بِدعَة كبرى كالرفض الْكَامِل والغلو فِيهِ والحط على أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَالدُّعَاء إِلَى ذَلِك فَهَذِهِ النَّوْع لَا يحْتَج بهم وَلَا كَرَامَة انْتهى قلت هَذَا المثيل لأحد أَنْوَاع الابتداع وَإِلَّا فَمن الابتداع النصب بل هُوَ شَرّ من التَّشَيُّع لِأَنَّهُ التدين ببغض عَليّ رَضِي الله عَنهُ كَمَا فِي الْقَامُوس فالأمران بِدعَة إِذْ الْوَاجِب وَالسّنة محبَّة كل مُؤمن بِلَا غلو فِي الْمحبَّة أما وجوب محبَّة أهل الْإِيمَان فأدلته طافحة كَمَا فِي صَحِيح مُسلم مَرْفُوعا (لَا تدخلون الْجنَّة حَتَّى تؤمنوا وَلَا تؤمنوا حَتَّى تحَابوا) الحَدِيث بل حصر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِيمَان فِي الْحبّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 فِي الله كَمَا فِي حَدِيث (وَهل الْإِيمَان إِلَّا الْحبّ فِي الله) الغلو فِي الدّين وَأما تَحْرِيم الغلو فِي كل أَمر من أُمُور الدّين فثابت كتابا وَسنة {لَا تغلوا فِي دينكُمْ} (إيَّاكُمْ والغلو فِي الدّين فَإِنَّمَا أهلك من كَانَ قبلكُمْ الغلو فِي الدّين) أخرجه أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَابْن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 مَاجَه وَالْحَاكِم إِلَّا أَنه لَا يتَحَقَّق الغلو إِلَّا بِإِطْلَاق مَا لَا يحل إِطْلَاقه فِي المحبوب المغلو فِي حبه أَو فعل مَا لَا يحل فعله أَو ذكر الْغَيْر بِمَا لَا يحل لأَجله وَأما زِيَادَة صُحْبَة الشَّخْص لبَعض أهل الْإِيمَان مَعَ محبته لَهُم جَمِيعًا فَهَذَا لَا إِثْم فِيهِ وَلَا قدح بِهِ وَإِن سمي غلوا وَقد كَانَ بعض الْمُؤمنِينَ عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحب إِلَيْهِ من بعض واشتهر أَن أُسَامَة ابْن زيد رَضِي الله عَنهُ حب رَسُول الله وَكَانَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أحب نِسَائِهِ إِلَيْهِ إِذا عرفت هَذَا فالشيعي الْمُطلق قد أَتَى بِالْوَاجِبِ من محبَّة هَذَا الْبَعْض من الْمُؤمنِينَ فَإِن كَانَ غاليا فقد ابتدع بالغلو وأثم إِن أفْضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 بِهِ إِلَى مَا لَا يحل وَأما مُجَرّد زِيَادَة الْمحبَّة والميل فَهُوَ إِذا صَحَّ أَنه غلو فَلَا إِثْم فِيهِ أَقسَام التَّشَيُّع وَقد اتَّضَح لَك أَن الْحَافِظ الذَّهَبِيّ قسم التَّشَيُّع ثَلَاثَة أَقسَام الأول تشيع بِلَا غلو وَهَذَا لَا كَلَام فِيهِ كَمَا أَفَادَهُ قَوْله أَو كَانَ التَّشَيُّع بِلَا غلو وَلَا تحرق وَلَا يخفى أَنه صفة لَازِمَة لكل مُؤمن وَإِلَّا فَمَا تمّ إيمَانه إِذْ مِنْهُ مُوالَاة الْمُؤمنِينَ سِيمَا رَأْسهمْ وسابقهم إِلَيْهِ فَكيف يَقُول فول ذهب حَدِيث هَؤُلَاءِ يُرِيد الَّذين والوا عليا رَضِي الله عَنهُ بِلَا غلو وَمَا الَّذِي يذهبه بعد وَصفه لَهُم بِالدّينِ والصدق والورع لَيْت شعري أيذهبه فعلهم لما وَجب من مُوالَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ الَّذِي لَو أخلوا بِهِ لأخلوا بِوَاجِب وَكَانَ قادحا فيهم وَللَّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 در كثير من التَّابِعين وتابعيهم فقد أَتَوا بِالْوَاجِبِ ودخلوا تَحت قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين جاؤوا من بعدهمْ يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلا للَّذين آمنُوا} وَتَحْت قَوْله تَعَالَى {وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان} وَمن هَا هُنَا تعلم أَن القَوْل بِأَن مُطلق التَّشَيُّع بِدعَة لَيْسَ بِصَحِيح والقدح بِهِ بَاطِل وَلَا قدح بِهِ حَتَّى يُضَاف إِلَيْهِ الرَّفْض الْكَامِل وَسَب الشَّيْخَيْنِ رَضِي الله عَنْهُمَا وَحِينَئِذٍ فالقدح فِيهِ بسب الصَّحَابِيّ لَا بِمُجَرَّد التَّشَيُّع وَالْقسم الثَّانِي من غلا فِي التَّشَيُّع وأسلفنا لَك أَنه أَتَى بِوَاجِب وابتدع فِيهِ إِن سلم أَن مُجَرّد الغلو بِدعَة إِلَّا أَنَّهَا بِدعَة لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 تفض بصاحبها إِلَى كفر وَلَا فسق فَهُوَ غير مَرْدُود اتِّفَاقًا إِذْ قد قيل عِنْد الجماهير من أفضت بِهِ بدعته إِلَى أَحدهمَا كَمَا سلف آنِفا الثَّالِث من أَقسَام التَّشَيُّع من غلا وَحط على الشَّيْخَيْنِ فَهَذَا قد أفْضى بِهِ غلوه إِلَى محرم قطعا وَهُوَ سباب الْمُسلم وَقد ثَبت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن سباب الْمُؤمن فسوق فَهَذَا فَاعل الْمحرم قطعا خَارج عَن حد الْعَدَالَة فَاسق تَصْرِيحًا فَاعل لكبيرة كَمَا يَأْتِي وتارك أَيْضا لواجب وَحِينَئِذٍ فَرده والقدح فِيهِ لَيْسَ لأجل مُطلق تشيعه وَهُوَ موالاته لعَلي رَضِي الله عَنهُ بل لسبه الْمُسلم وَفعله الْمحرم فَعرفت أَن التَّشَيُّع الْمُطلق لَيْسَ بِصفة قدح وجرح من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 حَيْثُ هُوَ بل هُوَ صفة تَزْكِيَة لِأَنَّهُ لَا بُد لِلْمُؤمنِ من مُوالَاة أهل الْإِيمَان فَإِذا عرف بهَا صَارَت تَزْكِيَة فَإِذا وَقع فِي عباراتهم الْقدح بقَوْلهمْ فلَان شيعي فَهُوَ من الْقدح الْمُبْهم لَا يقبل حَتَّى يتَبَيَّن أَنه من النَّوْع القادح وَهُوَ غلو الرَّفْض تَعْرِيف النصب وَأما النصب فَعرفت من رسمه عَن الْقَامُوس أَنه التدين ببغض عَليّ رَضِي الله عَنهُ فالمتصف بِهِ مُبْتَدع شَرّ ابتداع أَيْضا فَاعل لمحرم تَارِك لواجب فَإِن محبَّة عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَأْمُور بهَا عُمُوما وخصوصا أما الأول فَلِأَنَّهُ دَاخل فِي أدلته إِيجَاب محبَّة أهل الْإِيمَان وَأما الْخَاصَّة فأحاديث لَا يَأْتِي عَلَيْهَا الْعد آمرة بحبه ومخبرة بِأَنَّهُ لَا يُحِبهُ إِلَّا مُؤمن وَلَا يبغضه إِلَّا مُنَافِق وَقد أودعنا الرَّوْضَة الندية شرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 التُّحْفَة العلوية من ذَلِك شطرا من الْأَحَادِيث بِحَمْد الله معزوة إِلَى مَحَله مصححة ومحسنة فالناصبي أَتَى بِمحرم قطعا وَلم يَأْتِ بِالْوَاجِبِ الآخر من مُوالَاة سَائِر أهل الْإِيمَان كالصحابة إِذْ لَيْسَ من لَازمه محبَّة بَقِيَّة الصَّحَابَة وهب أَنه من لَازمه فَلَا يُخرجهُ عَن الْإِخْلَال بِوَاجِب محبَّة عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَفعله لمحرم من بغضه فالشيعي الْمُطلق فِي رُتْبَة علية أَتَى بِالْوَاجِبِ وَترك الْمحرم والناصبي فِي أدنى رُتْبَة وأخفضها فَاعل للْمحرمِ وتارك للْوَاجِب فَإِن انْتهى نَصبه إِلَى إِطْلَاق لِسَانه بسب الْوَصِيّ رَضِي الله عَنهُ فقد انْتَهَت بِهِ بدعته إِلَى الْفسق الصَّرِيح كَمَا انْتَهَت بالشيعي الساب بِدعَة غلوه إِلَى ذَلِك وَخير التَّشَيُّع تشيع من قَالَ (أَنا شيعي لآل الْمُصْطَفى ... غير أَنِّي لَا أرى سبّ السّلف) (أقصد الْإِجْمَاع فِي الدّين وَمن ... قصد الْإِجْمَاع لم يخْش التّلف) (لي بنفسي شغل عَن كل من ... للهوى قرض قوما أَو قذف) والشيعي إِن انضاف إِلَى حبه لعَلي رَضِي الله عَنهُ بغض أحد من السّلف فقد سَاوَى مُطلق الناصبي فِي بغضه لبَعض أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الْإِيمَان فَإِن قلت هَل يقْدَح فِي دينه ببغضه لبَعض الْمُؤمنِينَ قلت البغض أَمر قلبِي لَا يطلع عَلَيْهِ فَإِن اطلع عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الْمَفْرُوض هُنَا كَانَ قدحا إِذْ الْكَلَام فِي الناصبي وَلَا يعرف أَنه ناصبي إِلَّا بالاطلاع على بغضه لرأس أهل الْإِيمَان فَمن عرف بِمثل هَذِه الْمعاصِي ردَّتْ رِوَايَته لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعدْل على تَعْرِيف ابْن حجر للعدالة إِذْ قد حد فِي رسمها اللّغَوِيّ عدم الابتداع وَلَا يتم إِلَّا بخلو الْقلب عَن بغض أهل الْإِيمَان كَيفَ وَقد ثَبت أَن بغضه رَضِي الله عَنهُ عَلامَة النِّفَاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وَبِهَذَا عرفت أَن الناصبي الْمُطلق خَارج عَن الْعَدَالَة فَإِن انضاف إِلَى نَصبه إِطْلَاق لِسَانه فِيمَن يبغضه فقد ازْدَادَ عَنْهَا بعدا والشيعي الْمُطلق مُحَقّق الْعَدَالَة وَإِن أبْغض وَسَب فَارق الْعَدَالَة وَحِينَئِذٍ يتَبَيَّن لَك أَنه كل التَّمْثِيل ببدعة النصب للابتداع الخارم للعدالة أولى إِذْ هُوَ على كل حَال بِدعَة قادحة بِخِلَاف التَّشَيُّع فالمطلق مِنْهُ لَيْسَ ببدعة بل فعله وَاجِب وَقَالَ الْحَافِظ ابْن حجر فِي مُقَدّمَة الْفَتْح التَّشَيُّع محبَّة عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام وتقديمه على الصَّحَابَة فَمن قدمه على أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا فَهُوَ غال فِي التَّشَيُّع وَيُطلق عَلَيْهِ رَافِضِي وَإِلَّا فشيعي فَإِن انضاف إِلَى ذَلِك السب وَالتَّصْرِيح بالبغض فغال فِي الرَّفْض انْتهى كَلَامه فقسم التَّشَيُّع أَيْضا ثَلَاثَة أَقسَام رفض وغلو فِي الرَّفْض وتشيع فَالْأول انضاف إِلَى محبته لعَلي رَضِي الله عَنهُ تَقْدِيمه على الشَّيْخَيْنِ وَالثَّانِي انضاف إِلَيْهَا بغض الشَّيْخَيْنِ والسب لَهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وَالثَّالِث الْمُحب فَقَط وَهَذَا التَّقْسِيم وَقع فِي ذكره لبدعة التَّشَيُّع وَأَقُول أما محبته مُطلقًا وَهُوَ الْقسم الثَّالِث فَإِنَّهُ شَرط فِي إِيمَان كل مُؤمن وَلَيْسَ من الْبِدْعَة فِي دبير وَلَا قبيل وَهل الْإِيمَان إِلَّا الْحبّ فِي الله وَحِينَئِذٍ عرفت أَن كل مُؤمن شيعي وَأما الساب فسب الْمُؤمن فسوق صحابيا كَانَ أَو غَيره إِلَّا أَن سباب الصَّحَابَة أعظم جرما لسوء أدبه مَعَ مصحوبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولسابقتهم فِي الْإِسْلَام وَقد عدوا سبّ الصَّحَابَة من الْكَبَائِر كَمَا يَأْتِي عَن الْفَرِيقَيْنِ الزيدية وَمن يُخَالف مَذْهَبهم وَقد عرفت أَنه دلّ كَلَام الذَّهَبِيّ وَكَلَام الْحَافِظ ابْن حجر على أَن التَّشَيُّع بِكُل أقسامه بِدعَة وَلَا يخفى أَن مُطلق التَّشَيُّع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 الَّذِي هُوَ مُوالَاة عَليّ وَاجِب وفاعل الْوَاجِب لَا يكون مبتدعا فَإِن قلت هَذَا كُله مَبْنِيّ على أَن قَول الْحَافِظ وتقديمه على الصَّحَابَة لَيْسَ من جملَة رسم التَّشَيُّع وَأي مَانع عَن جعله قيدا فيقيد أَن التَّشَيُّع محبَّة عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَعَ تَقْدِيمه على الصَّحَابَة فَلَا يتم أَن مُجَرّد محبته تشيع قلت يمْنَع عَنهُ أَنه إِن حمل لفظ الصَّحَابَة فِي كَلَامه فِي الرَّسْم على من عدا الشَّيْخَيْنِ لزم أَن من قدمه على أَي صَحَابِيّ وَلَو من الطُّلَقَاء أَو مِمَّن ثَبت لَهُ مُجَرّد اللِّقَاء يكون شِيعِيًّا لِأَن لفظ الصَّحَابَة للْجِنْس فَهُوَ فِي قُوَّة من قدمه على أَي صَحَابِيّ وَهَذَا لَا يَقُوله أحد فَإِنَّهُ من السَّابِقين الْأَوَّلين من الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ وهم مقدمون على غَيرهم بالنصوص وَلِأَنَّهُ بالِاتِّفَاقِ لَيْسَ يُسمى الشيعي من قدم عليا على أَي فَرد من أَفْرَاد الصَّحَابَة أَو حمل على الشَّيْخَيْنِ فَقَط فَيكون التَّشَيُّع محبَّة عَليّ رَضِي الله عَنهُ وتقديمه على الشَّيْخَيْنِ فَهَذَا بِعَيْنِه هُوَ الَّذِي أَفَادَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 بقوله فَمن قدمه على أبي بكر وَعمر فَهُوَ غال فَحِينَئِذٍ تدَاخل الْأَقْسَام وَلَا يَشْمَل كَلَامه وضابطه رسم التَّشَيُّع الْمُطلق أَو حمل على الْمَشَايِخ الثَّلَاثَة فَهَذَا الْإِشْكَال بَاقٍ إِذْ من قدمه على الثَّلَاثَة فقد قدمه على الشَّيْخَيْنِ مَعَ الْخلَل الَّذِي عَرفته أَيْضا وَإِنَّمَا بلغت عِبَارَته إِلَى هَذَا الْخلَل على التقادير الْأَرْبَعَة بِسَبَب جعل قَوْله تَقْدِيمه على الصَّحَابَة قيدا تعين حملهَا على مَا تصح بِهِ وتفيد وَأَن قَوْله وتقديمه استئنافية وَالْوَاو للاستئناف قدمهَا إرهاصا لقَوْله فَمن قدمه على أبي بكر وَعمر وَأَن المُرَاد من الصَّحَابَة الشَّيْخَانِ ذكرهمَا أَلا إِجْمَالا ثمَّ ثَانِيًا تَفْصِيلًا وَأَن قَوْله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 محبَّة عَليّ فَقَط هُوَ رسم مُطلق التَّشَيُّع وأيد هَذَا قَوْله وَإِلَّا فشيعي فَإِن مُرَاده وَألا يقدمهُ على الشَّيْخَيْنِ لدي بل يُحِبهُ فَقَط وَهَذَا هُوَ الْمُطلق وأيده أَيْضا بِمَا عَرفْنَاهُ من تصرفاتهم فِي كتب الرِّجَال وَتسمع من كلامنا الْآتِي كثيرا من عباراتهم فِي ذَلِك وأيده قَول الْحَافِظ الذَّهَبِيّ فِي ضابطه أَو كَانَ التَّشَيُّع بِلَا غلو فهذان الحافظان يوافقان أَن التَّشَيُّع أَقسَام ثَلَاثَة تشيع مُطلق هُوَ محبته رَضِي الله عَنهُ فَقَط ومحبته مَعَ تَقْدِيمه على الشَّيْخَيْنِ ومحبته مَعَ التَّقْدِيم والسب الأول شيعي وَالثَّانِي غال فِي التَّشَيُّع وَيُطلق عَلَيْهِ رَافِضِي الثَّالِث غال فِي الرَّفْض هَذَا مفَاد كَلَام الحافظين وهما إِمَامًا الْفَنّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وعَلى كَلَامهمَا وَقع الْبَحْث فِي هَذِه الرسَالَة حَقِيقَة الْبِدْعَة ثمَّ اعْلَم أَن الْبِدْعَة وحقيقتها الفعلية الْمُخَالفَة للسّنة وَلها تعاريف حاصلها مَا لم يكن على عَهده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتنقسم إِلَى ثَلَاثَة أَنْوَاع لَا يَقْتَضِي كفرا وَلَا فسقا وَهِي الَّتِي قَالَ فِيهَا عمر رَضِي الله عَنهُ فِي جمَاعَة التَّرَاوِيح نعمت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الْبِدْعَة قَالَ الْمَنَاوِيّ فِي كِتَابه فِي التعاريف قد يكون من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الْبِدْعَة مَا لَيْسَ بمكروه فتسمى بِدعَة مُبَاحَة وَهُوَ مَا يشْهد لحسنه أصل الشَّرْع واقتضته مصلحَة تنْدَفع بهَا مفْسدَة والنوعان الْآخرَانِ مَا يؤول إِلَى أحد الْأَمريْنِ كَمَا عرفت فَالْأولى لَا قدح بهَا اتِّفَاقًا وَلَا تخل بِالْعَدَالَةِ وَإِن دخلت فِي مُسَمّى الْبِدْعَة وشملها اشْتِرَاط فقدها فِي حُصُول الْعَدَالَة وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْهَا طَائِفَة بل يكَاد أَنه لَا يَخْلُو عَنْهَا فَرد إِلَّا فِي عصمَة الله وَإِن كَانَت عباراتهم فِي رسم الْعَدَالَة عَامَّة وَالْأَحَادِيث الْآتِيَة دَالَّة على أَنه لَا فرق بَين أَنْوَاعهَا إِلَّا أَنهم كَمَا عرفت قسموها هَذَا التَّقْسِيم وقسموها أَيْضا إِلَى مستحسنة وَغير مستحسنة وَمَا أَظن هَذَا التَّقْسِيم إِلَّا من جملَة الابتداع وَهَا هُنَا أبحاث تتَعَلَّق بكلامهم اشْتِرَاط الْعَدَالَة فِي رسم الصَّحِيح وَالْحسن الأول أَنهم أخذُوا فِي رسم الصَّحِيح وَالْحسن عَدَالَة الرَّاوِي كَمَا سبق لِلْحَافِظِ فِي النخبة وَمثله فِي كتب صَاحب العواصم وَفِي جَمِيع كتب أصُول الحَدِيث وَفسّر الْحَافِظ الْعَدَالَة بِأَنَّهَا ملكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 تحمل على مُلَازمَة التَّقْوَى والمروءة وَفسّر التَّقْوَى بِأَنَّهَا اجْتِنَاب الْأَعْمَال السَّيئَة من شرك أَو فسق أَو بِدعَة فَأفَاد أَن الْعَدَالَة شَرط للراوي وَقد عرفت أَن ترك الْبِدْعَة من مَاهِيَّة الْعَدَالَة فالعدل لَا يكون عدلا إِلَّا باجتناب الْبِدْعَة بأنواعها وَلَا يخفى أَن هَذَا يُنَاقض مَا قَرَّرَهُ الْحَافِظ من القَوْل بِقبُول المبتدع مناقضة ظَاهِرَة على أَن فِي رسم الْحَافِظ للتقوى قصورا فَإِنَّهَا اجْتِنَاب الْمُحرمَات والإتيان بالواجبات وَقد اقْتصر على الْفَصْل الأول من فَصلي رسمها وَمِنْهُم من فَسرهَا بالاحتراز عَمَّا يذم شرعا وَهُوَ صَحِيح شَامِل للأمرين إِن قلت أَخذهم الْفسق فِي رسم الْعَدَالَة فِيهِ أَيْضا إخلال فبأنهم قبلوا فَاسق التَّأْوِيل وَقد أخذُوا الْعَدَالَة لَهُ شرطا فِي الرَّاوِي وَأخذُوا عدم الْفسق فِي رسمها فالفاسق غير عدل قلت يتَعَيَّن حمل الْفسق فِي الرَّسْم على الْفسق الصَّرِيح لِأَنَّهُ الْمُتَبَادر عِنْد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 الْإِطْلَاق وليندفع التَّنَاقُض ذمّ المبتدعة المبحث الثَّانِي لَا يخفى مَا ورد فِي السّنة من الْأَحَادِيث الواسعة فِي ذمّ المبتدعة والوعيد الشَّديد لَهُم أخرج مُسلم وَابْن مَاجَه وَغَيرهمَا من حَدِيث جَابر قَالَ خَطَبنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِيه أما بعد فَإِن خير الحَدِيث كتاب الله وَخير الْهدى هدي مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَشر الْأُمُور محدثاتها وكل بِدعَة ضَلَالَة وَأخرج الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أنس مَرْفُوعا إِن الله حجب التَّوْبَة عَن كل صَاحب بِدعَة حَتَّى يدع بدعته قَالَ الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ إِسْنَاده حسن وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا وَابْن أبي حَاتِم فِي كتاب السّنة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ لَفظه أَبى الله تَعَالَى أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 يقبل عمل صَاحب بِدعَة حَتَّى يدع بدعته وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا من حَدِيث حُذَيْفَة مَرْفُوعا وَلَفظه لَا يقبل الله تَعَالَى لصَاحب بِدعَة صوما وَلَا حجا وَلَا عمْرَة وَلَا جهادا وَلَا صرفا وَلَا عدلا وَيخرج من الْإِسْلَام كَمَا تخرج الشعرة من الْعَجِين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وَفِي الزواجر لِابْنِ حجر الْأَخير أَنه صَحَّ لعن من أحدث حَدثا وَأخرج الطَّبَرَانِيّ مَا من أمة ابتدعت بعد نبيها بِدعَة إِلَّا أضاعت مثلهَا من السّنة وَقد صَحَّ حَدِيث سِتَّة لعنهم الله وكل نَبِي مجاب الدعْوَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وَقد عد مِنْهُم تَارِك السّنة قَالَ فِي الزواجر وَقد عد شيخ الْإِسْلَام الصّلاح العلائي فِي قَوَاعِده والجلال البُلْقِينِيّ وَغَيرهمَا الْبِدْعَة من الْكَبَائِر وَلَفظ الْجلَال البُلْقِينِيّ فِي تعداد الْكَبَائِر السَّادِسَة عشرَة الْبِدْعَة وَهِي المُرَاد بترك السّنة إِذا عرفت هَذَا فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَقُول قَائِل المبتدع عدل وَإِن ابتداعه لَا يخل بعدالته فَهَذَا رُجُوع عَن رسم الْعَدَالَة بِمَا ذكره فَهَذِهِ الْأَحَادِيث وأقوال الْعلمَاء منادية على أَن الابتداع من الْكَبَائِر وَقد رسموا الْكَبِيرَة بِمَا توعد عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ وَهُوَ صَادِق على الْبِدْعَة وَمن هُنَا ينقدح لَك أَن من حذف الْبِدْعَة من رسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الْعَدَالَة فلدخولها فِي لفظ الْكَبَائِر الْمَذْكُورَة فِي الرَّسْم أَو يَقُول إِنَّهَا تخل بِالْعَدَالَةِ فَهَذَا يعود على شَرْطِيَّة الْعَدَالَة فِي الرَّاوِي بِالنَّقْضِ تَفْسِير الْعَدَالَة المبحث الثَّالِث تَفْسِير الْعَدَالَة بِمَا ذكره الْحَافِظ تطابقت عَلَيْهِ كتب الْأُصُول وَإِن حذف الْبَعْض قيد الابتداع إِلَّا أَنهم الْكل اتَّفقُوا أَنَّهَا ملكة إِلَى آخِره وَهَذَا لَيْسَ مَعْنَاهَا لُغَة فَفِي الْقَامُوس الْعدْل ضد الْجور وَهُوَ إِن كَانَ كَلَامه فِي هَذِه الْأَلْفَاظ قَلِيل الإفادة لِأَنَّهُ يَقُول والجور نقيض الْعدْل فيدور وَفِي النِّهَايَة الْعدْل الَّذِي لَا يمِيل بِهِ الْهوى وَهُوَ وَإِن كَانَ تَفْسِيرا للعادل فقد أَفَادَ المُرَاد فِي غَيرهَا الْعدْل الاسْتقَامَة وللمفسرين فِي قَوْله تَعَالَى {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 أَقْوَال فِي تَفْسِيره قَالَ الرَّازِيّ بعد سرده للأقوال إِنَّه عبارَة عَن الْأَمر الْمُتَوَسّط بَين طرفِي الإفراط والتفريط وَهُوَ قريب من تَفْسِيره بالاستقامة وَقد فسر الاسْتقَامَة الصَّحَابَة وهم أهل اللُّغَة بِعَدَمِ الرُّجُوع إِلَى عبَادَة الْأَوْثَان وَأنكر أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ على من فَسرهَا بِعَدَمِ الْإِتْيَان بذنب وَقَالَ حملتم الْأَمر على أشده وفسرها الْوَصِيّ كرم الله وَجهه بالإتيان بالفرائض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 نقد الْعَدَالَة بالملكة الْمَذْكُورَة وَالْحَاصِل أَن تَفْسِير الْعَدَالَة بالملكة الْمَذْكُورَة لَيْسَ مَعْنَاهَا لُغَة وَلَا أَتَى عَن الشَّارِع حرف وَاحِد بِمَا يفيدها وَالله تَعَالَى قَالَ فِي الشُّهُود {وَأشْهدُوا ذَوي عدل} {مِمَّن ترْضونَ من الشُّهَدَاء} وَهُوَ كالتفسير للعدل والمرضي من تسكن النَّفس إِلَى خَبره ويرضى بِهِ الْقلب وَلَا يضطرب من من خَبره ويرتاب وَمِنْه {تِجَارَة عَن ترَاض} وَفِي كَلَام الْوَصِيّ رَضِي الله عَنهُ حَدثنِي رجال مرضيون وأرضاهم عمر وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا أَتَاكُم من ترْضونَ دينه وخلقه فأنكحوه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 فالعدل من اطْمَأَن الْقلب إِلَى خَبره وسكنت النَّفس إِلَى مَا رَوَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وَأما القَوْل بِأَنَّهُ من لَو هَذِه الملكة الَّتِي هِيَ كَيْفيَّة راسخة تصدر عَنْهَا الْأَفْعَال بسهولة يمْتَنع بهَا عَن اقتراف كل فَرد من أَفْرَاد الْكَبَائِر وصغائر الخسة كسرقة لقْمَة والتطفيف بِحَبَّة تَمْرَة والرذائل الْجَائِزَة كالبول فِي الطرقات وَأكل غير السوقي فِيهِ فَهَذَا تَشْدِيد فِي الْعَدَالَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 لَا يتم إِلَّا فِي حق المعصومين وأفراد من خلص الْمُؤمنِينَ بل قد جَاءَ فِي الْأَحَادِيث أَن كل بني آدم خطاؤون وَخير الْخَطَّائِينَ التوابون) وَأَنه مَا من نَبِي إِلَّا عصى أَو هم بِمَعْصِيَة فَمَا ظَنك عَمَّن سواهُم وَحُصُول هَذِه الملكة فِي كل راو من رُوَاة الحَدِيث عَزِيز الْحُصُول لَا يكَاد يَقع وَمن طالع تراجم الروَاة علم ذَلِك وَأَنه لَيْسَ الْعدْل إِلَّا من قَارب وسدد وَغلب خَيره شَره وَفِي الحَدِيث (الْمُؤمن واه) أَي واه لدينِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 بِالذنُوبِ راقع لَهُ بِالتَّوْبَةِ فالسعيد من مَاتَ على رقعه أخرجه الْبَزَّار وَإِن كَانَ فِيهِ ضعف فَهُوَ منجبر بِحَدِيث (لَو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بِقوم يذنبون فيستغفرون فَيغْفر لَهُم) وَهُوَ حَدِيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 صَحِيح فالمؤمن المرضي الْعدْل لَا بُد مقارفته لشَيْء من الذُّنُوب لَكِن غَالب حَاله السَّلامَة وَيَأْتِي عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ قَول حسن فِي الْعَدَالَة وَهَذَا بحث لغَوِيّ لَا يُقَلّد فِيهِ أهل الْأُصُول وَإِن تطابقوا عَلَيْهِ فَهُوَ مِمَّا يَقُوله الأول ثمَّ يُتَابِعه عَلَيْهِ الآخر من غير نظر إِذا عرفت مَا أسلفناه وَقد عرفت نقل الْإِجْمَاع عَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي قبُول خبر المبتدع كَمَا قَالَ الإِمَام الْمَنْصُور بِاللَّه عبد الله بن حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ إِن من تصفح آثَارهم واقتص أخبارهم عرف أَنهم لما صَارُوا أحزابا وَتَفَرَّقُوا فرقا وانْتهى الْأَمر بَينهم إِلَى الْقَتْل والقتال كَانَ بَعضهم يروي عَن بعض من غير مناكرة بَينهم فِي ذَلِك بل اعْتِمَاد أحدهم على رِوَايَة من يُخَالِفهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 كاعتماده على رِوَايَة من يوافقهم وَمثله قَالَ الشَّيْخ أَحْمد الرصاص فِي كتاب الْجَوْهَرَة إِن الْفِتْنَة لما وَقعت بَينهم كَانَ بَعضهم يحدث عَن بعض من غير مناكرة ويسند الرجل إِلَى من يُخَالِفهُ كَمَا يسند إِلَى من يُوَافقهُ علمت أَن ذَلِك يسْتَلْزم الْإِجْمَاع على أَن مدَار قبُول الرِّوَايَة ظن صدق الرَّاوِي لَا عَدَالَته المفسرة بِحَدّ الْحَافِظ وَغَيره قَالَ ابْن الصّلاح كتب الْأَئِمَّة طافحة بالرواية عَن المبتدعة غير الدعاة قلت مَا ذَاك إِلَّا لكَون الابتداع غير مخل بِالْعَدَالَةِ قطعا بل هُوَ مخل بهَا لكنه دَار الْقبُول على ظن الصدْق وَذَلِكَ لأدلة الأول أَن خبر المبتدع يُفِيد الظَّن وَالْعَمَل بِالظَّنِّ حسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 عقلا الثَّانِي أَن فِي مخالفتهم مضرَّة مطنونة وَدفع الضَّرَر المظنون عَن النَّفس وَاجِب الثَّالِث إِمَّا أَن يحصل بخبرهم الرجحان أَو لَا إِن حصل فإمَّا أَن يعْمل بِهِ أَو بالمرجوح أَو يُسَاوِي بَينهمَا وَقد علمت أَن تَرْجِيح الْمَرْجُوح على الرَّاجِح أَو الْمُسَاوَاة بَينهمَا فِي التَّرْجِيح قَبِيح عقلا فَوَجَبَ الْعَمَل بالراجح إِذا عرفت أَنه يُفِيد الظَّن وَأَنه يجب الْعَمَل بِالظَّنِّ عقلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الْأَدِلَّة على وجوب الْعَمَل بِهِ شرعا كَثِيرَة الْآيَة الأولى قَوْله تَعَالَى {فَمن جَاءَهُ موعظة من ربه فَانْتهى فَلهُ مَا سلف} وَهُوَ عَام فِي كل مَا جَاءَ عَن الله تَعَالَى سَوَاء كَانَ من كَلَامه أَو كَلَام رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسَوَاء كَانَ مَعْلُوما أَو مظنونا فَكل خبر عَن الله تَعَالَى أَو عَن رَسُوله حصل الظَّن بِهِ فقد صدق عَلَيْهِ أَنه جَاءَنَا عَن الله تَعَالَى الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى {خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة} فَهَذَا عَام فِيمَا أَتَانَا عَن الله تَعَالَى وَالْآيَة وَإِن كَانَت خطابا لأهل الْكتاب فَهِيَ فِي حَقنا كَذَلِك وَتَقْرِير الْحجَّة بهَا كَمَا سلف الثَّالِثَة قَوْله {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} الْآيَة وتقريرها كَمَا سلف وَالْخَبَر المظنون عَن الرَّسُول قد أَتَانَا عَنهُ فَيجب الْعَمَل بِهِ والأدلة من هَذَا النَّوْع وَاسِعَة جدا أَو ناهضة على الْمُدَّعِي وَقد ثَبت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 اسْتَطَعْتُم) فَيجب فِي تعرف مَا أَتَانَا الله تَعَالَى وأمرنا بِأَخْذِهِ بذل الوسع فِي ذَلِك بِحَسب الطَّاقَة كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} وَهنا رتب ثَلَاث الأولى أَن يعلم اللَّفْظ الْوَارِد عَن الشَّارِع وَالْمعْنَى وَهَذَا يكون كثيرا فِي الْقُرْآن وَالسّنة المتواترة الثَّانِيَة أَن يعلم اللَّفْظ ويظن الْمَعْنى وَذَلِكَ أَيْضا يكون فِي الْقُرْآن كثيرا والمتواتر من السّنة الثَّالِثَة أَن يظنّ اللَّفْظ وَالْمعْنَى أَو يعلم الْمَعْنى ويظن اللَّفْظ وَكِلَاهُمَا فِي السّنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 فَإِن قلت يلْزم على هَذَا قبُول خبر الْكَافِر وَالْفَاسِق الصَّرِيح أَيْضا إِذا حصل الظَّن لوُجُود الْعلَّة قلت منع مِنْهُ الْإِجْمَاع فخصص الْعلَّة قبُول فَاسق التَّأْوِيل وَاعْلَم أَنه قد اسْتدلَّ فِي العواصم على قبُول خبر فَاسق التَّأْوِيل بِحَدِيث أَنه قبل الْأَعرَابِي الَّذِي شهد بِرُؤْيَة هِلَال رَمَضَان فَقَالَ لَهُ (أَتَشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله قَالَ نعم قَالَ يَا بِلَال أذن فِي النَّاس أَن يَصُومُوا غَدا) أَو بِنَحْوِهِ من الْأَدِلَّة إِلَّا أَن فِي استدلاله بذلك بحثا لِأَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 بناه على أَن عَدَالَة أهل ذَلِك الْعَصْر كَانَت غير منوطة بِإِسْلَامِهِمْ وَهُوَ قَائِل بِخِلَافِهِ لذهابه إِلَى أَن أهل ذَلِك الْعَصْر كَانَت الْعَدَالَة مِنْهُم منوطة بِالْإِسْلَامِ وَالْقِيَام بأركانه وَاجْتنَاب معاصي الْخَوَارِج كَمَا نَقله عَن أبي طَالب وَاخْتَارَهُ فَهَذَا لَا يتم بِهِ الِاسْتِدْلَال على قبُول قَول المبتدعين إِذْ قد بني على عَدَالَة أهل ذَلِك الْعَصْر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 النَّبَوِيّ إِلَّا من ظهر مِنْهُ مَا يخرج بِهِ الْكَلَام الْآن مَعَه على من تحقق جرح عَدَالَته وَأَنه إِنَّمَا قبل لحُصُول الظَّن بِخَبَرِهِ وَكَذَلِكَ استدلاله بِخَبَر الْأمة السَّوْدَاء الَّتِي سَأَلَهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (هَل هِيَ مُؤمنَة فَأَشَارَتْ أَن الله رَبهَا فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هِيَ مُؤمنَة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وَكَذَلِكَ ذكره الحَدِيث (إِن ابْني هَذَا سيد وَيصْلح الله بِهِ بَين طائفتين عظيمتين من الْمُسلمين) قَالَ فِي الأول هَذَا دَلِيل على قبُول كل من آمن بِاللَّه وَرَسُوله من أهل الْإِسْلَام مَا لم يثبت فِيهِ فعل مَا يجرح بِهِ وَقَالَ فِي الثَّانِي فسماهم مُسلمين وَالْمُسلم مَقْبُول مَا لم يظْهر جرحه فَإِنَّهُ يُقَال هَذَا يَقْتَضِي أَنَّك تُرِيدُ أَن من أسلم وآمن من أهل ذَلِك الْعَصْر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 فَإِنَّهُ عدل وَهُوَ الظَّاهِر من كَلَامه وَهَذَا غير مَحل النزاع إِذْ الْكَلَام مَعَ من يرد فساق التَّأْوِيل والمبتدعة لَا يُقَال لَعَلَّ صَاحب العواصم يخْتَار فِي رسم الْعَدَالَة غير مَا يختاره الْجُمْهُور وَأَنه من ثَبت إِسْلَامه ثبتَتْ عَدَالَته من أهل ذَلِك الْعَصْر وَغَيره لأَنا نقُول هَذَا مُسلم فِي أَنه اخْتَارَهُ لَكِن فِي حق الصَّحَابَة وَأهل الْعَصْر النَّبَوِيّ إِذْ الظَّاهِر فيهم الْعَدَالَة كَمَا سبق نقل اخْتِيَاره لَهُ وَبِه قَالَ المحدثون وَأهل الْأَثر وَأما فِي حق غَيرهم فَغير مُسلم وَجعله ظن الصدْق عِلّة فِي قبُول الرِّوَايَة دَلِيل على أَنه لَا يرى ذَلِك وَإِلَّا لما افْتقر إِلَى إِقَامَة الْأَدِلَّة على ذَلِك ولكان أحْوج على إِقَامَة الدَّلِيل على هَذَا الأَصْل الْكَبِير وَلِأَنَّهُ صرح أَن ظَاهر الْعلمَاء الْعَدَالَة مَا لم يظْهر مَا يجرحهم وينفي الْعلم بِالظَّاهِرِ وَجعل هَذَا القَوْل الْمُخْتَار الْقوي حَيْثُ قَالَ الْمُخْتَار الْقوي مَا ذهب إِلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 أَبُو عمر بن عبد الْبر وَأَبُو عبد الله بن الْمواق وَهُوَ أَن كل حَامِل علم مَعْرُوف بِالْعَدَالَةِ فَإِنَّهُ مَقْبُول فِي علمه مَحْمُول أبدا على السَّلامَة حَتَّى يظْهر مَا يجرحه وَذكر أَدِلَّة هَذَا القَوْل وَهَذَا ظَاهر فِي أَنه يرى رَأْي الْجُمْهُور فِي أَن الأَصْل الْفسق وَلذَا عين هَذِه الطَّائِفَة بِالْعَدَالَةِ وسرد أَدِلَّة ذَلِك هُنَالك إِلَّا أَنه يخْتَار فِي الصَّحَابَة وَأهل الْعَصْر النَّبَوِيّ أَن الظَّاهِر فيهم الْعَدَالَة مَا نَقله هُوَ عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ قَالَ مَتى سلم أَن الْعَدَالَة هِيَ ترك جَمِيع الذُّنُوب والمعاصي عز وجودهَا فِي جَمِيع الْمَوَاضِع الَّتِي يشْتَرط فِيهَا كعقد النِّكَاح وَالطَّلَاق على السّنة وَعقد الْبيُوع والعقود وَالْحُدُود وَقد دلّ الشَّرْع على مَا تبين أَن الْعَدَالَة مرتبَة دون هَذِه الْمرتبَة وَقد حسن ابْن كثير حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا (من طلب قَضَاء الْمُسلمين حَتَّى يَنَالهُ ثمَّ غلب عدله جوره فَلهُ الْجنَّة وَمن غلب جوره عدله فَلهُ النَّار) وَمن ذَلِك مَا ورد فِي الحَدِيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وأجمعت الْأمة عَلَيْهِ من أَنه لَا يقبل من بَينه وَبَين أَخِيه إحْنَة مَعَ أَنه مَقْبُول على من لَيْسَ بَينه وَبَين أَخِيه إحْنَة فَلم يخرج الْمُسلم الثِّقَة بالإحنة الَّتِي بَينه وَبَين أَخِيه مَا لم يسرف فِي الْعَدَاوَة إِلَى حد لَا يتَجَاوَز إِلَيْهِ أهل الدّين كَلَام مستحسن للشَّافِعِيّ فِي الْعَدَالَة قَالَ وَقد قَالَ الشَّافِعِي فِي الْعَدَالَة قولا استحسنه كثير من الْعُقَلَاء من بعده قَالَ لَو كَانَ الْعدْل من لم يُذنب لم نجد عدلا وَلَو كَانَ كل ذَنْب لَا يمْنَع من الْعَدَالَة لم نجد مجروحا وَلَكِن من ترك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الْكَبَائِر وَكَانَت محاسنه أَكثر من مساوئه فَهُوَ عدل انْتهى قلت وَهَذَا قَوْله حسن وَيُؤَيِّدهُ أَن أهل اللُّغَة فسروا الْعدْل بنقيض الْجور وَلَيْسَ الْجور عبارَة عَن ملكة راسخة توجب إتْيَان كل مَعْصِيّة وَلَا الجائر لُغَة كل من يَأْتِي مَعْصِيّة بل من غلب جوره على عدله وَفِي الحَدِيث (بعثت فِي زمن الْملك الْعَادِل) يَعْنِي كسْرَى وَإِن كَانَ الحَدِيث ضَعِيفا وَمَعْلُوم أَنه يَأْتِي من الْجور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 جانبا لَو لم يكن إِلَّا كفره بِاللَّه وَرُسُله هَذَا وَأما القَوْل بِأَن الأَصْل الْفسق كَمَا قَالَ الْعَضُد فِي شرح مُخْتَصر الْمُنْتَهى وَتَابعه عَلَيْهِ الآخذون من كِتَابه وَغَيرهم وَاسْتدلَّ بِأَن الْعَدَالَة طارئة وَلِأَنَّهُ أَكثر فَفِيهِ تَأمل لِأَن الْفسق أَيْضا طارىء فَإِن الأَصْل أَن كل مُكَلّف يبلغ من سنّ تَكْلِيفه على الْفطْرَة فَهُوَ عدل فَإِن بَقِي عَلَيْهَا من غير مُخَالفَته لم يفسق وَيَأْتِي بِمَا يجب فَهُوَ على عَدَالَته مَقْبُول الرِّوَايَة وَإِن لابس المفسقات فَلهُ حكم مَا لابسه ثمَّ رَأَيْت السعد فِي شرح الشَّرْح قد أَشَارَ إِلَى هَذَا وَتعقبه صَاحب الْجَوَاهِر بِمَا لَيْسَ بجيد وَأما الِاسْتِدْلَال بِأَن الأَصْل هُوَ الْغَالِب وَالْفِسْق فِي الْمُسلمين أغلب فقد قيد هَذَا بعض الْمُحَقِّقين بِأَن الأغلبية إِنَّمَا هِيَ فِي زمن تبع تبع التَّابِعين لَا فِي زمن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم لحَدِيث (خير الْقُرُون قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ يفشو الْكَذِب) قلت وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (ثمَّ يفشو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الْكَذِب) يشْعر بِأَن الْخَيْرِيَّة بِالنّظرِ إِلَى صدق الْأَقْوَال وَأما اسْتِدْلَال من اسْتدلَّ على أغلبية الْفسق بقوله تَعَالَى {وَقَلِيل مَا هم} {وَقَلِيل من عبَادي الشكُور} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 {وَمَا أَكثر النَّاس وَلَو حرصت بمؤمنين} فَغير جيد إِذْ المُرَاد أَن الْمُؤمنِينَ قَلِيل بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكفَّار كَمَا يدل عَلَيْهِ سِيَاق الْآيَات إِلَّا أَن أهل الْعَدَالَة قَلِيل بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسلمين الَّذين لَيْسُوا بعدول ثمَّ قَالَ فَيحمل الْفَرد الْمَجْهُول على الْأَعَمّ الْأَغْلَب فَهَذَا بعد تَسْلِيم أَن الْأَغْلَب الْفسق لَيْسَ لنا أَن نحمل الْمُسلم الْمَجْهُول الْعَدَالَة على الْأَعَمّ الْأَغْلَب وَهُوَ فسقه لِأَنَّهُ إِضْرَار بِهِ وتفسيق لَا بِنَصّ وَلَا قِيَاس وَلَا شَيْء من الْأَدِلَّة مَعَ أَنه قد تقرر أَنه لَا تفسيق إِلَّا بقاطع ثمَّ نعود إِلَى الِاسْتِدْلَال على أَن المعتد فِي قبُول الْأَخْبَار حُصُول ظن الصدْق وَأَن مَجْهُول الْعَدَالَة مَقْبُول خَبره لما ثَبت عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ يسْتَحْلف الرَّاوِي وَمَعْلُوم أَنه لَا يحلف مَعْرُوف الْعَدَالَة إِذْ الْعَدَالَة مَانِعَة من الْكَذِب ومحصلة للظن بِصدق خَبره وَلَا يحلف الْمَعْرُوف بِالْفُجُورِ وَعدم الْعَدَالَة إِذْ يَمِينه لَا ترفع الرِّيبَة عَن خَبره فالمحلف من يجهل حَاله فَيجوز أَن تكون يَمِينه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 رَافِعَة للريبة محصلة للظن وَلذَا قَالَ وحَدثني أَبُو بكر وَصدق فَإِنَّهُ لما عرف عَدَالَته لم يستحلفه كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَامه وَلَفظه كنت إِذا سَمِعت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثا يَنْفَعنِي الله بِهِ مَا شَاءَ أَن يَنْفَعنِي وَإِن حَدثنِي غَيره اسْتَحْلَفته وحَدثني أَبُو بكر وَصدق ذكره الْحَافِظ الذَّهَبِيّ فِي تَذكرته وَقَالَ هُوَ حَدِيث حسن وسَاق طَرِيقه فَفِيهِ دَلِيل أَن منَاط الْقبُول ظن الصدْق وَطلب الظَّن الْأَقْوَى مهما أمكن من وَظِيفَة من يَتَّقِي الله حق تُقَاته وَقد أمكن هَا هُنَا تَحْصِيله بِيَمِين الرَّاوِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وَيدل لذَلِك أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقبل خبر من يُخبرهُ وَمَعْلُوم أَنه لظَنّه بِالصّدقِ حَتَّى يبين الله لَهُ بِالْوَحْي عدم صدق الْمخبر مثل خبر زيد ابْن أَرقم حِين أخبرهُ بمقالة عبد الله بن أبي ثمَّ لما جَاءَ ابْن أبي وعاتبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا قَالَه وبلغه وَأقسم بِاللَّه مَا قَالَ شَيْئا وَإِن زيدا كَاذِب فعذره وَصدقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ لزيد عَمه مَا أردْت إِلَى أَن كَذبك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وفشت الْمَلَامَة لزيد فِي الْأَنْصَار وكذبوه حَتَّى أنزل الله تَعَالَى سُورَة الْمُنَافِقين بِتَصْدِيق زيد رَضِي الله عَنهُ وَتَكْذيب ابْن أبي فقد قبل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خبر زيد أَولا ورتب عَلَيْهِ عتاب ابْن أبي ثمَّ قبل حَدِيث ابْن أبي ورتب عَلَيْهِ النَّاس تَكْذِيب زيد فَإِن قلت ابْن أبي مُنَافِق وَالْمُنَافِق كَافِر فَيلْزم قبُول خبر الْكَافِر قلت قد ثَبت بِالْإِجْمَاع بِأَن الْمُنَافِقين لَهُم فِي الدُّنْيَا أَحْكَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الْمُؤمنِينَ وَمِنْهَا قبُول أَخْبَار من يظنّ صدقه مِنْهُم وَهَذَا الحَدِيث من أدلته فِي الْبَاب وَغَيره من الْأَدِلَّة فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل خَبره مَعَ علمه بنفاقه حَتَّى أكذبه الله وَكَذَلِكَ قصَّة بني أُبَيْرِق وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (هم أهل بَيت يذكر عَنْهُم إِسْلَام وَصَلَاح) لما أخبرهُ مخبر أَنهم كَذَلِك ثمَّ أخبرهُ تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 بِحَقِيقَة حَالهم وَأنزل فيهم الْآيَات فِي سُورَة النِّسَاء فقد كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقبل خبر من يُخبرهُ عَن هَؤُلَاءِ ويرتب عَلَيْهِ أحكاما وَمَعْلُوم أَنه لَا يعْمل إِلَّا بِظَنّ أَو بِعلم لَا سَبِيل إِلَى الثَّانِي هُنَا فَهُوَ يعْمل استنادا فِي حُصُول الظَّن بخبرهم أَو إِحْسَان الظَّن بهم فَإِنَّهُم لَا يكذبُون فَإِنَّهُ قد كَانَ يتنزه عَن الْكَذِب الْكفَّار لقبحه عِنْدهم بل أبلغ من هَذَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بغزو بني المصطلق لما أخبرهُ الْوَلِيد بن عقبَة أَنهم تجمعُوا لرد رَسُوله حَتَّى أنزل الله تَعَالَى {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الْآيَة إِن قلت لَعَلَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ماكان يعْمل بأخبار أهل ذَلِك الْعَصْر إِلَّا لعدالتهم لَا بِمُجَرَّد حُصُول الظَّن بأخبارهم قلت الْإِنْصَاف أَن أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 ذَلِك الْعَصْر كغيرهم فيهم العصاة وَأهل التَّقْوَى ففيهم من ارْتكب فَاحِشَة الزِّنَى وَفِيهِمْ من شرب الْمُسكر وحد عَلَيْهِ وَمِنْهُم من قذف الْمُحْصنَات وَفِيهِمْ من قتل النَّفس الَّتِي حرم الله وَفِيهِمْ من غل من الْمغنم وَفِيهِمْ من سرق وَقطعت يَده هَذَا فِي حَيَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِيهِمْ المُنَافِقُونَ لَا يعلمهُمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من الْأَعْرَاب مُنَافِقُونَ وَمن أهل الْمَدِينَة مَرَدُوا على النِّفَاق لَا تعلمهمْ نَحن نعلمهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مرَّتَيْنِ} وَفِيهِمْ المرجفون {لَئِن لم ينْتَه المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض والمرجفون فِي الْمَدِينَة} وَإِذ كَانَ لَا يعلمهُمْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يعرف نفاقهم فيكف يُمَيّز الْعدْل عَن غَيره وَأما المُنَافِقُونَ المعروفون بالنفاق كَابْن أبي فسلف آنِفا قبُول أخبارهم ومعاملتهم مُعَاملَة من يظنّ صدقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمُؤمنِينَ مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 لم يكذبهم الله نعم من صحب الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاتبعهُ حق الإتباع أُمَم من أهل ذَلِك الْعَصْر متقون رَضِي الله عَنهُ وَرَضوا عَنهُ وَأعد لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا إِلَّا أَنه لَا يَقْتَضِي الحكم على أهل كل عصر بِالْعَدَالَةِ إِن قلت قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (خير الْقُرُون قَرْني) الحَدِيث تَزْكِيَة مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأهل عصره وَمن بعدهمْ مِمَّن ذكرهم قلت تقدّمت الْإِشَارَة إِلَى أَنه إِخْبَار عَن خيريتهم بِالنّظرِ إِلَى الصدْق وَالْعَدَالَة أخص مِنْهُ وَكَذَلِكَ الصدْق شعار الْأَغْلَب مِنْهُم وَلذَا قَالَ ثمَّ يفشو الْكَذِب فَإِنَّهُ يشْعر أَن ثمَّ كذبا فِي تِلْكَ الْأَعْصَار المخبرة إِلَّا أَنه لَا فشو غَلَبَة فَإِن قلت الممادح جملَة الْوَارِدَة كتابا وَسنة أَدِلَّة على عَدَالَة أهل ذَلِك الْعَصْر قلت قد وَردت الممادح فِي جملَة الْأمة وَلَا تَقْتَضِي تَزْكِيَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الْأَفْرَاد اتِّفَاقًا فَكَذَلِك هُنَا لِأَن الثَّنَاء على الْجُمْلَة لَا يَقْتَضِي الثَّنَاء على كل فَرد فَرد فَإِن قلت قبُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأخبار أهل ذَلِك الْعَصْر دَلِيل على عدالتهم وَلَا يقْدَح فِيهِ أَنه أَتَاهُ الْوَحْي أَن فيهم كَذَّابين وَأَن مِمَّن أخبرهُ فَاسِقًا قلت وَمَتى سلمنَا أَن الْعَدَالَة الَّتِي رسموها شَرط فِي قبُول الرِّوَايَة وَأَيْنَ دليلها وَلَا يتم الِاسْتِدْلَال بِأَن قبُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَلِيل لَهَا حَتَّى يتم أَنَّهَا شَرط وَإِلَّا فَهُوَ دور فَإِن قلت قد دَار قبُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأخبارهم على أحد الْأَمريْنِ إِمَّا حُصُول الظَّن أَو عَدَالَة الرَّاوِي فَحَمله على أحد الْأَمريْنِ دون الآخر تحكم قلت عَدَالَة الرَّاوِي مَا قَامَ الدَّلِيل على شرطيتها وَظن الصدْق أَمر لَا بُد مِنْهُ إِذْ لَا عمل إِلَّا عَن علم أَو ظن فحملناه على الْمُتَيَقن وَنحن فِي مقَام النَّفْي لشرطية الْعَدَالَة الْمَخْصُوصَة فالدليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الْمُثبت على أَنه قد قَامَ الْإِجْمَاع على قبُول غير الْعدْل على رسمهم الْعَدَالَة وَالْعَمَل بروايتهم من كل الْأمة كَمَا سنحققه الْآن فِي سرد من رووا عَنهُ فِي الْأُمَّهَات الَّتِي هِيَ عُمْدَة أهل الْإِسْلَام من غير الْعُدُول على رسمهم الْعَدَالَة قف على هَذِه النُّكْتَة ثِقَة المبتدع وَقد قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر فِي مُقَدّمَة فتح الْبَارِي إِنَّه لَا أثر للتضعيف مَعَ الصدْق والضبط انْتهى وهما مظنتا حُصُول الظَّن بِصدق الرَّاوِي وَرووا عَن الْخَوَارِج وهم أَشد النَّاس بِدعَة لأَنهم يكفرون من يكذب فقبولهم لحُصُول الظَّن بخبرهم قَالَ أَبُو دَاوُد لَيْسَ فِي أهل الْأَهْوَاء أصح حَدِيثا من الْخَوَارِج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وَفِي البُخَارِيّ من المبتدعة أُمَم لَا يُحصونَ وَفِي غَيره من الْأُمَّهَات وناهيك أَنه أخرج لعمران بن حطَّان الْخَارِجِي المادح لقَاتل عَليّ رَضِي الله عَنهُ بالأبيات الْمَشْهُورَة السائرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ الْمبرد وَكَانَ عمرَان بن حطَّان رَأس القعد من الصفرية وخطيبهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وشاعرهم انْتهى والقعد قوم يَقُولُونَ بقول الْخَوَارِج وَلَا يرَوْنَ الْخُرُوج بل يزينونه وَكَانَ عمرَان دَاعِيَة إِلَى مذْهبه أخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي المتابعات وَأخرج البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ لعمران بن مُسلم الْقصير قَالَ يحيى الْقطَّان كَانَ يرى الْقدر وَهُوَ مُسْتَقِيم الحَدِيث وَأخرج السِّتَّة للفضل بن دُكَيْن وَهُوَ شيعي وَأخرج السِّتَّة لأبي مُعَاوِيَة الضَّرِير قَالَ الْحَاكِم احتجا بِهِ وَقد اشْتهر عَنهُ الغلو قَالَ الذَّهَبِيّ غلو التَّشَيُّع وَقد وَثَّقَهُ الْعجلِيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وأخرجوا أَيْضا لعدي بن ثَابت وَقد قَالَ فِيهِ ابْن معِين شيعي مفرط وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ رَافِضِي غال وَأخرج البُخَارِيّ لإِبْرَاهِيم بن طهْمَان وَقد رَمَوْهُ بالإرجاء وَأخرج البُخَارِيّ لإسماعيل بن أبان وَهُوَ أحد شُيُوخه قَالَ الْجوزجَاني كَانَ مائلا عَن الْحق وَلم يكن يكذب فِي الحَدِيث قَالَ ابْن عدي يَعْنِي مَا عَلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ من التَّشَيُّع قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر الْجوزجَاني كَانَ ناصبيا منحرفا عَن عَليّ فَهُوَ ضد الشيعي المنحرف عَن عُثْمَان وَالصَّوَاب مُوَالَاتهمْ جَمِيعًا وَلَا يَنْبَغِي لنا تسمع قَول مُبْتَدع فِي مُبْتَدع انْتهى وَأخرج الشَّيْخَانِ لأيوب بن عايذ بن مُدْلِج وثقة ابْن معِين وَأَبُو حَاتِم وَالنَّسَائِيّ وَالْعجلِي وَأَبُو دَاوُد وَزَاد أَبُو دَاوُد وَكَانَ مرجئا وَقَالَ البُخَارِيّ وَكَانَ يرى الإرجاء إِلَّا أَنه صَدُوق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وَأخرج الْجَمَاعَة لثور بن يزِيد الديلمي شيخ مَالك وثقة ابْن معِين وَأَبُو زرْعَة وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهم وَقَالَ ابْن عبد الْبر صَدُوق لم يتهمه أحد وَكَانَ ينْسب إِلَى رَأْي الْخَوَارِج وَالْقَوْل بِالْقدرِ وَلم يكن يَدْعُو إِلَى شَيْء من ذَلِك وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِيهِ سُئِلَ مَالك كَيفَ رويت عَن دَاوُد بن الْحصين وثور بن يزِيد وَذكر غَيرهمَا وَكَانُوا يرَوْنَ الْقدر فَقَالَ كَانُوا لَئِن يخروا من السَّمَاء إِلَى الأَرْض أسهل عَلَيْهِم من أَن يكذبوا وَأخرج البُخَارِيّ لثور بن يزِيد الْحِمصِي وَاتَّفَقُوا على تثبته فِي الحَدِيث مَعَ قَوْله بِالْقدرِ وَكَانَ يرْمى بِالنّصب قَالَ يحيى بن معِين وَكَانَ يُجَالس قوما ينالون من عَليّ رَضِي الله عَنهُ لكنه كَانَ لَا يسب قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر رَحمَه الله تَعَالَى احْتج بِهِ الْجَمَاعَة وَأخرج البُخَارِيّ وَأَصْحَاب السّنَن لحريز بن عُثْمَان الْحِمصِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وَوَثَّقَهُ أَحْمد وَابْن معِين وَالْأَئِمَّة وَقَالَ الفلاس كَانَ يبغض عليا رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ أَبُو حَاتِم لَا أعلم بِالشَّام أثبت مِنْهُ وَلم يَصح عِنْدِي مَا يُقَال فِيهِ من النصب قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر جَاءَ عَنهُ ذَلِك من غير وَجه وَجَاء عَنهُ خلاف ذَلِك وَرُوِيَ عَنهُ أَنه تَابَ من ذَلِك وَأخرج البُخَارِيّ عَن شَيْخه خَالِد الْقَطوَانِي قَالَ ابْن سعد كَانَ متشيعا مفرطا وَقَالَ صَالح جزرة ثِقَة إِلَّا أَنه يتشيع وَأخرج البُخَارِيّ وَأَصْحَاب السّنَن لحصين بن نمير الوَاسِطِيّ أَبُو مُحصن الضَّرِير وَوَثَّقَهُ أَبُو زرْعَة وَغَيره وَقَالَ أَبُو خَيْثَمَة كَانَ يحمل على عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَلم أعد إِلَيْهِ وَأخرج البُخَارِيّ وَغَيره لهشام بن عبد الله الدستوَائي أحد الْأَثْبَات مجمع على ثقته وإتقانه قَالَ مُحَمَّد بن سعيد كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 حجَّة ثِقَة إِلَّا أَنه كَانَ يرى الْقدر وَأخرج البُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ ليحيى بن صَالح أَبُو حائطي الْحِمصِي وَثَّقَهُ ابْن معِين وَأَبُو الْيَمَان قَالَ إِسْحَاق بن مَنْصُور كَانَ مرجئا إِذا عرفت هَذَا فَهَؤُلَاءِ جمَاعَة بَين مرجىء وقدري وشيعي وناصبي غال وخارجي أخرجت أَحَادِيثهم فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا ووثقوا كَمَا سَمِعت وهم قَطْرَة من رجال الْكتب السِّتَّة الَّذين لَهُم هَذِه الْبدع وحكموا بِصِحَّة أَحَادِيثهم مَعَ الابتداع الَّذِي لَيْسَ وَرَاءه وَرَاء وَهل وَرَاء بِدعَة الْخَوَارِج من شَيْء فَهُوَ دَلِيل ناهض على إِجْمَاعهم على أَن عُمْدَة قبُول الرِّوَايَة وعلتها حُصُول الظَّن بِصدق الرَّاوِي وَعدم تلوثه بِالْكَذِبِ أَلا ترى قَول مَالك فِي جمَاعَة لَا عَدَالَة لَهُم كَانُوا لَئِن يخروا من السَّمَاء إِلَى الأَرْض أسهل عَلَيْهِم من أَن يكذبوا فَمَا لاحظ إِلَّا ظَنّه بصدقهم وَقَول من قَالَ فِي إِسْمَاعِيل بن أبان كَانَ مائلا عَن الْحق إِلَّا أَنه كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 لَا يكذب فِي الحَدِيث مناقشة غَرِيبَة وَكَذَا توثيقهم لجَمِيع من سَمِعت مَعَ ذكرهم لعظائم بدعهم مَا ذَاك إِلَّا لِأَن الْمدَار على ظن الصدْق لَا غير وَكَفاك بقول الْحَافِظ ابْن حجر إِنَّه لَا أثر للتضعيف مَعَ ظن الصدْق والضبط وَإِذا عرفت هَذَا اتَّضَح لَك مَا فِي رسم الصَّحِيح وَالْحسن من الاختلال حَيْثُ أخذُوا عَدَالَة الرَّاوِي شرطا فيهمَا وفسروا الْعَدَالَة بِمَا لَا بِدعَة مَعَه ووصلوا إِلَى مَحل التَّصْحِيح والتحسين فحكموا على أَحَادِيث المبتدعة بهما وَقد أطبقت على تِلْكَ الشريطة كتب أصُول الحَدِيث وَكتب أصُول الْفِقْه حَتَّى إِنَّه لم يسْتَدلّ ابْن الْحَاجِب فِي مُخْتَصر الْمُنْتَهى وَلَا من تَابعه كمؤلف نِهَايَة السؤل وَشَرحهَا على شَرْطِيَّة الْعَدَالَة فِي الرَّاوِي وَإِنَّمَا اشتغلا بتفسيرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 كَأَن شرطيتها أَمر قد علم من الدّين ضَرُورَة أَقسَام الروَاة إِنَّمَا قسموا الروَاة ثَلَاثَة أَقسَام مَعْرُوف الْعَدَالَة ومعروف الْفسق ومجهول الْحَال لَا يعرف فسقه وَلَا عَدَالَته وَاسْتَدَلُّوا على عدم قبُول الآخرين وَأَشَارَ ابْن الْحَاجِب إِلَى دَلِيل قبُول الْعدْل بِالْإِجْمَاع وَلَكِن قبُوله على غير شرطيته إِذْ مَعْنَاهُ الْعدْل مَقْبُول وَمَعْنَاهَا لَا يقبل إِلَّا الْعدْل وَكَأَنَّهُم يَقُولُونَ إِذا تمّ الدَّلِيل على عدم قبُول الآخرين علم أَنه لَا بُد من شَرْطِيَّة الْعَدَالَة إِلَّا أَن مَا سمعته من أَحْوَال رُوَاة الصَّحِيح وَالْحسن يقْلع هَذَا الِاشْتِرَاط لهَذِهِ الْعَدَالَة الْمَعْرُوفَة عِنْدهم كَمَا عرفت بِالْكُلِّيَّةِ مَعَ أَنه إِنَّمَا يلْزم الْعلم بذلك لَو كَانَت الْقِسْمَة حَاضِرَة وَهِي لَيست كَذَلِك لِإِمْكَان وَاقع وَهُوَ مفترق متغاير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 الْحَسَنَة الْفرق بَين الشَّهَادَة وَالرِّوَايَة إِن قلت لَعَلَّهُم يَقُولُونَ دَلِيل شَرْطِيَّة عَدَالَة الرَّاوِي الْقيَاس على عَدَالَة الشُّهُود الثَّابِتَة بِالنَّصِّ قلت اخْتِلَافهمَا فِي الشُّرُوط يمْنَع عَن الْإِلْحَاق فَإِنَّهُ شَرط فِي الشَّهَادَة الْعدَد والذكورة وَعدم الْقَرَابَة للْمَشْهُود لَهُ وَعدم الْعَدَاوَة للْمَشْهُود عَلَيْهِ وَلم يشْتَرط فِي الرِّوَايَة ذَلِك فَلَا سَبِيل إِلَى الْإِلْحَاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 مَعَ أَنهم قد صَرَّحُوا أَنه لَا يلْزم فِي الرِّوَايَة مَا يلْزم فِي الشَّهَادَة لِأَن بَاب الشَّهَادَة أضيق ولإلحاق الأخف على الأغلظ وَبعد هَذَا يظْهر لَك أَنه لَا اعْتِمَاد إِلَّا على ظن الصدْق وَكَون الرَّاوِي مصونا عَن الْكَذِب كَمَا عرفت من نُصُوص أَئِمَّة الحَدِيث نعم الْإِشْكَال عَلَيْهِم فِي قبُول رِوَايَة الرافضي الساب للصحابة والناصبي الساب لعَلي رَضِي الله عَنهُ مَعَ عدهم السب للصحابة من الْكَبَائِر كَمَا صرح بِهِ فِي جمع الْجَوَامِع وَفِي الْفُصُول فَإِذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 قبلوا فَاعل الْكَبِيرَة وَلَيْسَ إِلَّا لظن صدقه مَعَ أَن مرتكب الْكَبِيرَة فَاسق تَصْرِيح لَا تَأْوِيل وَقد سبق فِي تَفْسِير الْعَدَالَة أَنه لَا بُد من السَّلامَة مِنْهُ وَقد نقل الْإِجْمَاع على عدم قبُول قَول فَاسق التَّصْرِيح كَمَا فِي الْفُصُول وَغَيره وَاسْتدلَّ لَهُ صَاحب الْفُصُول بقوله تَعَالَى {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الْآيَة وَأصَاب فِي الِاسْتِدْلَال بهَا على ذَلِك لِأَنَّهَا نزلت فِي الْوَلِيد ابْن عقبَة كَمَا تطابق عَلَيْهِ أَئِمَّة التَّفْسِير وَهُوَ فَاسق تَصْرِيح بشربه الْخمر كَمَا فِي صَحِيح مُسلم وَذكره بِشرب الْخمر ابْن عبد الْبر والذهبي وَإِن كَانَ نزُول الْآيَة لسَبَب قَضيته مَعَ بني المصطلق وَكذبه عَلَيْهِم كَمَا هُوَ مَعْرُوف وَلم يصب ابْن الْحَاجِب وَصَاحب الْغَايَة فِي الِاسْتِدْلَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 بهَا على رد فَاسق التَّأْوِيل لما سَمِعت من أَنَّهَا نزلت فِي فَاسق التَّصْرِيح وَلَا يُقَال لَا يقصر الْعَام على سَببه بِنَاء على أَن الْفِعْل فِي سِيَاق الشَّرْط يُفِيد الْعُمُوم كَمَا ذكره شَارِح جمع الْجَوَامِع وَنسبه إِلَى ابْن الْحَاجِب لِأَنَّهُ بعد تَسْلِيم ذَلِك فسق التَّأْوِيل ففسق التَّأْوِيل اصْطِلَاح عرفي لَيْسَ لَهُ فِي اللُّغَة ذكر وَالْآيَة لَا تحمل على الْمعَانِي الْعُرْفِيَّة الْحَادِثَة والاصطلاح الْجَدِيد اتِّفَاقًا فعلى تَسْلِيم الْعُمُوم شَمل كل فَاسق تَصْرِيح على أَن فِي الِاسْتِدْلَال بهَا على عدم قبُول خَبره أبحاث ذكرهَا فِي العواصم تُشِير إِلَى شَيْء من ذَلِك وَهُوَ أَنه تَعَالَى قَالَ {فَتَبَيَّنُوا} أَي فتوثقوا فِيهِ وتطلبوا بَيَان الْأَمر وانكشاف الْحَقِيقَة وَلَا يعْتَمد قَول الْفَاسِق لِأَن من لَا يتحامى عَن جنس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الفسوق لَا يتحامى الْكَذِب الَّذِي هُوَ نوع مِنْهُ هَذَا كَلَامه وَلَا يخفى أَنه قد مر غير مرّة فِي هَذِه الرسَالَة التَّصْرِيح بِعَدَمِ لُزُوم الْكَذِب للفسق بل للكفر وَأَنه تتنزه عَنهُ الْكفَّار فضلا عَن الْفُسَّاق وَسَيَأْتِي تصريحه بتنزه الْفُسَّاق عَنهُ فِيمَا سننقله من تنقيحه وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فتثبتوا والتثبت والتبين متقاربان وهما طلب الثَّبَات وَالْبَيَان والتعرف وَفِي تَفْسِير الْبَيَان أوجب الله تَعَالَى على الْمُؤمنِينَ التبين والتثبت عِنْد إِخْبَار الْفَاسِق وشهادته قلت فالآية أمرت بالتبين كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل الله فَتَبَيَّنُوا} الْآيَة وَلَيْسَ أمرا بِالرَّدِّ كَمَا فِي قَوْله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 تَعَالَى عِنْد الْأَمر بِالْقَذْفِ {وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا} وَفِي غَيرهم {وَلَوْلَا إِذْ سمعتموه قُلْتُمْ مَا يكون لنا أَن نتكلم بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم} وَفِي الْآيَة الْأُخْرَى {لَوْلَا إِذْ سمعتموه ظن الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بِأَنْفسِهِم خيرا وَقَالُوا هَذَا إفْك مُبين} فَإِن قلت الْأَمر بالتبين لخبره فِي معنى الْأَمر برده قلت لَا بل رتب الله تَعَالَى وَاجِبا على خَبره هُوَ التبين فقد ثَبت بِخَبَرِهِ حكم بِخِلَاف الرَّد فَإِنَّهُ لم يثبت بالمردود حكما أصلا إِنَّمَا بَقِي شَيْئا مَعَه على الأَصْل وَهُوَ بَرَاءَة الذِّمَّة عدم الحكم بِشَيْء فوجوده وَعَدَمه سَوَاء وَقد عد صَاحب العواصم فِي الِاسْتِدْلَال على عدم دلَالَة الْآيَة على رد خبر فَاسق التَّأْوِيل كَمَا صنع ابْن الْحَاجِب وَصَاحب الْغَايَة مَا ينيف على خَمْسَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 عشر إشْكَالًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وَإِذا تتبعت مَا سلف علمت أَن الْآيَة دلّت على أَنه يتَوَقَّف فِي خبر الْفَاسِق تَصْرِيحًا لَا يرد بل يَقْتَضِي الْبَحْث عَمَّا أخبر بِهِ لَا رد خَبره فَإِن قلت قد وَقع الْإِجْمَاع على عدم قبُول خَبره ورده فيكف نافى الْإِجْمَاع الْآيَة قلت لَا نسلم الْإِجْمَاع كَيفَ وَهَؤُلَاء أَئِمَّة الحَدِيث رووا عَن فساق التَّصْرِيح الَّذين يسبون الشَّيْخَيْنِ ويسبون عليا وَغَيرهم وَحِينَئِذٍ فَلَا بُد من تَخْصِيص الْكَبَائِر فِي رسم الْعَدَالَة بِمَا عدا سبّ الْمُسلم وَمن هُنَا تزداد بَصِيرَة فِي أَن رسم الْعَدَالَة بذلك الرَّسْم لَا يتم فِي حق الروَاة وَأَن الْمرجع لَيْسَ إِلَّا فِي ظن الصدْق فَإِن قلت قد أبطل الله تَعَالَى شَهَادَة الْقَاذِف فَقَالَ {وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا} وَالْقَذْف كَبِيرَة فَيلْحق بِهِ سَائِر الْكَبَائِر فِي عدم الْقبُول لأخبار مرتكبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 قلت أما أَولا فَإِنَّهُ قِيَاس فَاسد الْوَضع لمصادمته آيَة التبين وَثَانِيا إِنَّه لَا قِيَاس لكبيرة على كَبِيرَة لعدم معرفَة الْوَجْه الْجَامِع وَإِلَّا لزم إِيجَاب حد الْقَذْف فِي كل كَبِيرَة بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ فَالْحق أَن الْقَذْف لعظم حُرْمَة الْمُؤْمِنَات وهتك حجاب عفتهن كَانَت عُقُوبَة الْقَاذِف شَدِيدَة فِي الدُّنْيَا بأمرين جلده ثَمَانِينَ جلدَة ثمَّ إِسْقَاطه عَن قبُول الشَّهَادَة وَلَو فِي حَبَّة خَرْدَل فَلَا يحلق بِهِ غَيره فَإِن قلت وَكَيف يعرف أَن الْمخبر يُفِيد خَبره الظَّن فَإِنَّهُ إِنَّمَا يعرف ذَلِك من خالط الْمخبر قلت مَا يعرف بِهِ عَدَالَة المخبرين الَّذين لم يلقهم الْمخبر لَهُ يعرف صدق المخبرين فَإِن معرفَة أَحْوَال الروَاة من تراجمهم يُفِيد ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 المبتدع الداعية إِلَى بدعت تَنْبِيه سبقت الْإِشَارَة إِلَى أَنهم قد استثنوا من المبتدعة الداعية فَقَالُوا وَلَا يقبل خَبره قَالَ فِي التَّنْقِيح فَإِن قلت مَا الْفرق بَين الداعية وَغَيره عِنْدهم قلت مَا أعلم أَنهم ذكرُوا فِيهِ شَيْئا وَلَكِن نظرت فَلم أجد غير وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن الداعية شَدِيد الرَّغْبَة فِي استمالة قُلُوب النَّاس إِلَى مَا يَدعُوهُم إِلَيْهِ فَرُبمَا حمله عَظِيم ذَلِك على تَدْلِيس أَو تَأْوِيل الْوَجْه الثَّانِي أَن الرِّوَايَة عَن الداعية تشْتَمل على مفْسدَة وَهِي إِظْهَار أَهْلِيَّته للرواية وَأَنه من أهل الصدْق وَالْأَمَانَة وَذَلِكَ تغرير لمخالطته وَفِي مُخَالطَة من هُوَ كَذَلِك للعامة مفْسدَة كَبِيرَة قلت وَهَذَا الْوَجْه الآخر قد أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو الْفَتْح الْقشيرِي نَقله عَنهُ الْحَافِظ ابْن حجر ثمَّ قَالَ فِي التَّنْقِيح وَالْجَوَاب عَن الأول أَنَّهَا تُهْمَة ضَعِيفَة لَا تَسَاوِي الْوَرع أَي الْمَانِع الشَّرْعِيّ الَّذِي يمْنَع ذَلِك المبتدع المتدين من الفسوق فِي الدّين وارتكاب دناءة الْكَذِب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الَّذِي يتنزه عَنهُ كثير من الفسقة المتمردين كَيفَ والكاذب لَا يخفى تزويره وَعَما قَلِيل ينْكَشف تدليسه وتغريره ويفهمه النقاد وتتناوله أَلْسِنَة أهل الأحقاد وَأهل المناصب الرفيعة يأنفون من ذَلِك فَكيف إِذا كَانُوا من أهل الْجمع بَين الصيانة والديانة وَقد احْتَجُّوا بقتادة لما قويت عِنْدهم عَدَالَة أَمَانَته وَهُوَ دَاعِيَة على أصولهم إِلَى بِدعَة الاعتزال قَالَ الذَّهَبِيّ فِي التَّذْكِرَة كَانَ يرى الْقدر وَلم يكن يقنع حَتَّى كَانَ يَصِيح بِهِ صياحا ثمَّ قَالَ صَاحب التَّنْقِيح وَالْجَوَاب عَن الثَّانِي أَنا نقُول إِمَّا أَن يقوم الدَّلِيل الشَّرْعِيّ على قبولهم أَو لَا إِن لم يدل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وجوب قبولهم لم نقبلهم دعاة كَانُوا أَو غير دعاة وَإِن دلّ على وجوب الْقبُول لم يصلح مَا أوردهُ مَانِعا من امْتِثَال الْأَمر وَلَا مسْقطًا انْتهى فَعلمت من هَذَا كُله قبُول من لم يتهم بِالْكَذِبِ وَعدم شَرْطِيَّة الْعَدَالَة بِالْمَعْنَى الَّذِي أرادوه وَهُوَ أَنه لَا يرد من المبتدعة إِلَّا من أجَاز الْكَذِب لنصرة مذْهبه كالخطابية جلالة الصَّحَابَة وَاعْلَم أَنَّهَا سبقت إِشَارَة إِلَى شَأْن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم عِنْد ذكرنَا أهل الْعَصْر النَّبَوِيّ فَهُوَ أَعم من أَصْحَابه وَأما الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَلهم شَأْن جليل وشأو نبيل ومقام رفيع وحجاب منيع فارقوا فِي دين الله أهلهم وأوطانهم وعشائرهم وإخوانهم وأنصارهم وأعوانهم وهم الَّذين أثنى الله جلّ جَلَاله عَلَيْهِم فِي كِتَابه وأودع ثناءهم شرِيف كَلَامه وخطابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وَفِيهِمْ الممادح النَّبَوِيَّة وَالْأَخْبَار الرسولية بِأَنَّهُ لَا يبلغ أحد مد أحدهم وَلَا نصيفه وَلَو أنْفق مثل أحد ذَهَبا إِلَّا أَن تَفْسِير الصَّحَابِيّ بِمن لقِيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبُو بِمن رَآهُ وتنزيل تِلْكَ الممادح عَلَيْهِ فِيهِ بعد يأباه الْإِنْصَاف وَلَا يُقَال لرعية الْملك أَصْحَاب الْملك وَإِن رَأَوْهُ ورآهم ولقوه ولقيهم بل أَصْحَابه من لَهُم بِهِ اخْتِصَاص وهم طَبَقَات فِي ذَلِك مُتَفَاوِتَة نعم هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 اللَّفْظ الَّذِي هُوَ لفظ الصاحب فِيهِ توسع فِي اللُّغَة كثير يُطلق على من لابس أَي شَيْء وَلَو من الجمادات {يَا صَاحِبي السجْن} {أَصْحَاب الْجنَّة} و {أَصْحَاب النَّار} وعَلى من لَيْسَ على مِلَّة من أضيف إِلَيْهِ {قَالَ لَهُ صَاحبه وَهُوَ يحاوره أكفرت} وَبِالْجُمْلَةِ فاللفظ متسع نطاق إِطْلَاقه غير مُقَيّد بِشَيْء يَخُصُّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 إِلَّا أَن الْفَرد الْكَامِل عِنْد إِطْلَاقه على الملازم لمن أضيف إِلَيْهِ وَإِن أطلق على من رَآهُ أَو لقِيه فَإِنَّهُ أقل من الأول قطعا اسْتِعْمَالا وتبادرا حَال الْإِطْلَاق وَلَيْسَ كل من رأى من أضيف إِلَيْهِ يصلح إِطْلَاقه عَلَيْهِ فَإِن أهل الْجنَّة يرَوْنَ النَّار وَأَهْلهَا {وَإِذا صرفت أَبْصَارهم تِلْقَاء أَصْحَاب النَّار} {فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيم} وَلَا يُقَال لَهُم أَصْحَاب النَّار وَلم يدر الْإِطْلَاق على الرُّؤْيَة كَمَا دَار على الْمُلَازمَة فَإِنَّهُ يُطلق على من لم يره المصاحب وَلَا لاقاه كَمَا يُقَال قتل من أَصْحَاب الْملك فِي المعركة الْفُلَانِيَّة كَذَا وَمن أَصْحَاب عدوه كَذَا وَلَعَلَّ فِيمَن قتل من لم يلق الْملك وَلَا رَآهُ بل يُقَال لمن فِي مصر مثلا أَصْحَاب السُّلْطَان وَمَا رَآهُمْ وَلَا رَأَوْهُ لما كَانُوا ينتسبون إِلَيْهِ فِي أَي أَمر وَإِذا تقرر هَذَا فَهُوَ وَإِن صَحَّ الْإِطْلَاق على من لاقاه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو لَحْظَة من ليل أَو نَهَار إِلَّا أَن الممادح القرآنية وَالْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة وَالصِّفَات الشَّرِيفَة الْعلية الَّتِي كَانَت هِيَ الدَّلِيل على عدالتهم وعلو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 مَنْزِلَتهمْ ورفعة مكانهم تخص الَّذين صحبوه صُحْبَة مُحَققَة ولازموه مُلَازمَة ظَاهِرَة الَّذين قَالَ الله تَعَالَى فيهم {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم تراهم ركعا سجدا يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم من أثر السُّجُود} فَهَذِهِ الصِّفَات إِمَّا كاشفة أَو مُقَيّدَة وعَلى كل تَقْدِير فَلَيْسَ كل من رَآهُ لَهُ هَذِه الصِّفَات ضَرُورَة وَكَذَلِكَ الصِّفَات الَّتِي بعْدهَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمثلهمْ فِي الْإِنْجِيل} نعم لمن رَآهُ مُؤمنا بِهِ ولاقاه واكتحل بأنوار محياه شرف لَا يجهل وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (طُوبَى لمن رَآنِي وَلمن رأى من رَآنِي طُوبَى لَهُم وَحسن مآب) أخرجه الطَّبَرَانِيّ وَفِيه بَقِيَّة إِلَّا أَنه صرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 بِالسَّمَاعِ فَزَالَ مَا يخَاف من تدليسه كَمَا قَالَه الهيثمي إِلَّا أَنه قَالَ لَا يبلغ إِلَى مَحل من لاقاه ولازمه فِي صباحه ومساه ولازمه فِي حلّه وأرحاله وَتَابعه فِي جَمِيع أَفعاله وأقواله وَاسْتمرّ على طَرِيقَته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا بعد وَفَاته فَهَؤُلَاءِ هم أَعْيَان الصَّحَابَة وهم أَعنِي هَؤُلَاءِ أُمَم لَا يُحصونَ أهل بدر وَأحد وَالْحُدَيْبِيَة وبيعة الرضْوَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 والمحدثون وَإِن أطْلقُوا أَن كل الصَّحَابَة عدُول فقد ذكرُوا قبائح لجَماعَة لَهُم رُؤْيَة تخرجهم عَن عُمُوم دَعْوَى الْعَدَالَة كَمَا قَالَ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ فِي النبلاء فِي مَرْوَان بن الحكم لَعنه الله مَا لَفظه بعد سِيَاق طرف من أَحْوَاله وَحضر الْوَقْعَة يَوْم الْجمل وَقتل طَلْحَة وَنَجَا وليته مَا نجا انْتهى وَفِي الْمِيزَان مَرْوَان بن الحكم لَهُ أَعمال موبقة نسْأَل الله السَّلامَة رمى طَلْحَة بِسَهْم وَفعل وَفعل فَهَذَا تَصْرِيح بِفِسْقِهِ وَقَالَ فِي تَرْجَمَة طَلْحَة من النبلاء إِن مَرْوَان بن الحكم قَاتل طَلْحَة ثمَّ قَالَ قَاتل طَلْحَة فِي الْوزر كقاتل عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ ابْن حزم فِي أَسمَاء الْخُلَفَاء وَالْأَئِمَّة أَن مَرْوَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ابْن الحكم أول من شقّ عَصا الْمُسلمين بِلَا شُبْهَة وَلَا تَأْوِيل وَذكر أَنه قتل النُّعْمَان بن بشير أول مَوْلُود فِي الْإِسْلَام للْأَنْصَار صَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر أَنه خرج على ابْن الزبير بعد أَن بَايعه على الطَّاعَة وَقَالَ ابْن حبَان فِي صَحِيحه عائذا بِاللَّه أَن يحْتَج بِمَرْوَان وَذَوِيهِ فِي شَيْء من كتبنَا وكل من أَئِمَّة الحَدِيث تكلم بِمَا هُوَ وَقع مِنْهُ وَالْعجب من الْحَافِظ ابْن حجر حَيْثُ قَالَ مَرْوَان بن الحكم يُقَال لَهُ رُؤْيَة فَإِن ثبتَتْ فَلَا يعرج على من تكلم فِيهِ ثمَّ قَالَ فَأَما قتل طَلْحَة فَكَانَ فِيهِ متأولا كَمَا قَرَّرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ وَغَيره ثمَّ قَالَ إِنَّمَا حمل عَنهُ من روى عَنهُ البُخَارِيّ عَن مَرْوَان أَنه قبل خُرُوجه على ابْن الزبير ثمَّ قَالَ وَقد اعْتمد مَالك على حَدِيثه ورأيه وَالْبَاقُونَ سوى مُسلم انْتهى فَقَوله إِن ثبتَتْ لَهُ رُؤْيَة فَلَا يعرج على من تكلم فِيهِ هُوَ مَحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 التَّعَجُّب كَادَت الرُّؤْيَة تجَاوز حد الْعِصْمَة وَأَن لَا يخرج من ثبتَتْ لَهُ بقتل نفس معصومة وَلَا غَيرهَا من الموبقات وَكَلَام الذَّهَبِيّ فِيهِ هُوَ الْإِنْصَاف دون كَلَام الْحَافِظ وَلَو اقْتصر فِي الْعذر لرِوَايَة البُخَارِيّ وَغَيره عَنهُ بِمَا نَقله عَن عُرْوَة بن الزبير أَن مَرْوَان بَاغ كَانَ لَا يتهم فِي الحَدِيث لَكَانَ أقرب وَأَن الْعُمْدَة تحري الصدْق وَأما اعتذاره بِأَنَّهُ قتل طَلْحَة متأولا فعذر لَا يبْقى مَعَه لعاص مَعْصِيّة بل يَدعِي لَهُ التَّأْوِيل وَهُوَ كتأويل من تَأَول لمعاوية فِي فواقره أَنه مُجْتَهد أَخطَأ فِي اجْتِهَاده مَعَ أَنه قد نقل الْعَلامَة العامري الْإِجْمَاع على أَنه بَاغ والباغي غير مُجْتَهد فِي بغيه وَإِلَّا لما سمي بَاغِيا وَفِي العواصم وَقد اعْترف أهل الحَدِيث بأجمعهم بِأَن الْمُحَاربين لعَلي رَضِي الله عَنهُ مُعَاوِيَة وَمن تبعه بغاة عَلَيْهِ وَأَنه صَاحب الْحق انْتهى وَأما قبُول روايتهم عَن الْبُغَاة فَلَمَّا عرفت من الْإِجْمَاع على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 قبولهم وَأَنه لَيْسَ مدَار الرِّوَايَة إِلَّا على ظن الصدْق وَأحسن من قَالَ (قَالُوا النواصب قد أَخطَأ مُعَاوِيَة ... فِي الِاجْتِهَاد وَأَخْطَأ فِيهِ صَاحبه) (وَالْعَفو فِي ذَاك مرجو لفَاعِله ... وَفِي أعالي جنَّات الْخلد رَاكِبه) (قُلْنَا كَذبْتُمْ فَلم قَالَ النَّبِي لنا ... فِي النَّار قَاتل عمار وسالبه) ثمَّ قَوْله فَلَا يعرج على من تكلم فِيهِ إِن ثبتَتْ لَهُ الرُّؤْيَة مُرَاده إِلَّا إِذا لم يثبت فَيقبل فِيهِ الْقدح وَقد نقضه آخر لما قَالَ إِنَّمَا روى عَنهُ من روى قبل خُرُوجه على ابْن الزبير انْتهى إِلَّا أَن يُقَال مُرَاده أَنه لم يَصح ثُبُوتهَا لَهُ وَلَو سلمنَا أَنه سمع فِيهِ الْقدح فيجاب عَنهُ بِأَنَّهُ لَا يضر ذَلِك فِي الرِّوَايَة عَنهُ قبل وُقُوع مَا جرح بِهِ فَلَا يخدش ذَاك فِي هَذَا وَقد خَالف المحدثون ابْن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 حجر فَإِنَّهُم صَرَّحُوا بفسق من لَهُ رُؤْيَة كبسر بن أَرْطَاة قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ كَانَت لَهُ صُحْبَة وَلم تكن لَهُ استقامة بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ ابْن عبد الْبر كَانَ ابْن معِين يَقُول إِنَّه رجل سوء قَالَ ابْن عبد الْبر وَذَلِكَ لعظائم ارتكبها فِي الْإِسْلَام وَكَذَلِكَ الْوَلِيد بن عقبَة قَالَ الذَّهَبِيّ فِي النبلاء فِي تَرْجَمته كَانَ يشرب الْخمر وحد على شربهَا وَرُوِيَ شعره فِي شربهَا قَالَ وَهُوَ الَّذِي صلى بِأَصْحَابِهِ الْفجْر أَرْبعا وَهُوَ سَكرَان ثمَّ الْتفت إِلَيْهِم وَقَالَ أَزِيدكُم وَقد ذكر المحدثون فِي كتب معرفَة الصَّحَابَة من ارْتَدَّ وَكفر من الصَّحَابَة بعد إِسْلَامه وَالْكفْر أعظم الْكَبَائِر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وَالْقَصْد من هَذَا بَيَان أَن أَقْوَال الْحَافِظ إِن ثبتَتْ رُؤْيَة لمروان فَلَا يعرج على من تكلم فِيهِ فِي أَنه جعل الرُّؤْيَة كالعصمة وَكَلَامه خلاف مَا عَلَيْهِ أَئِمَّة الحَدِيث وَلَا يُقَال من ارْتَدَّ فقد استثنوه من اسْم الصُّحْبَة لأَنا نقُول لَيْسَ مرادنا إِلَّا أَن الرُّؤْيَة لَيست بمانعة من ارْتِكَاب الْمعاصِي وَلَا يُقَال فِيهَا إِن ثبتَتْ فَلَا يعرج على كَلَام من تكلم فِي صَاحبهَا فَإِن هَذَا أصل لم يُوَافق قَائِله عَلَيْهِ وَلَا يُطَابق مَا عرف من كَلَام أَئِمَّة الحَدِيث نتائج الْبَحْث وَإِذا أحطت علما بِمَا أسلفناه فها هُنَا فَوَائِد هِيَ كالنتائج وَالْفُرُوع لما قدمْنَاهُ الأولى أَن التوثيق لَيْسَ عبارَة عَن التَّعْدِيل فِي اصطلاحهم بل عَن أَن الموثق اسْم مفعول صَادِق لَا يكذب مَقْبُول الرِّوَايَة كَمَا سمعته من توثيقهم من لَيْسَ بِعدْل فالعدالة فِي اصطلاحهم أخص من التوثيق وَوُجُود الْأَعَمّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 لَا يسْتَلْزم وجود الْأَخَص الثَّانِيَة التَّعْدِيل بِأَنَّهُ أخرجه لَهُ الشَّيْخَانِ كَمَا يَقُولُونَهُ كثيرا أَو أَحدهمَا أَو احتجا بِهِ أَو أَحدهمَا لَيْسَ تعديلا بل هُوَ تَوْثِيق أَيْضا فَقَوْل الشَّيْخ أبي الْحسن الْمَقْدِسِي فِي الرجل الَّذِي يخرج عَنهُ فِي الصَّحِيح هَذَا جَازَ القنطرة حَتَّى لَا يلْتَفت إِلَى مَا قيل فِيهِ كَأَنَّهُ يُرِيد كثير مِنْهُم جازها وَإِلَّا فَكيف يجوزها النواصب وغلاة الشِّيعَة وَأهل الإرجاء والمبتدعة مِمَّن هم فِي الصَّحِيح الثَّالِثَة قدح المبتدع فِي المبتدع لَا يقبل على أصلهم كَمَا قَالَ الْحَافِظ فِي الرَّد على الْجوزجَاني فِي قدحه على إِسْمَاعِيل بن أبان بالتشيع وَهَذِه فَائِدَة جليلة تُؤْخَذ من غُضُون الأبحاث وَقد صرح بهَا الأصوليون حَيْثُ قَالُوا لَا يقبلان أَي الْجرْح وَالتَّعْدِيل إِلَّا من عدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وَلكنه لَا يتم إِلَّا لمن عد ترك الْبِدْعَة من مَاهِيَّة الْعَدَالَة كَمَا فعله الْحَافِظ وَابْن الْحَاجِب لَا كَمَا نَقله صَاحب غَايَة السؤل فَإِنَّهُ حذف قيد الابتداع وَلم يبين فِي شَرحه وَجه حذفه كَأَنَّهُ لما قَالَه السعد فِي شرح الشَّرْح إِن فِي كَون الْبِدْعَة مخلة بِالْعَدَالَةِ نظر انْتهى وَلم يبين وَجه النّظر إِلَّا يكون أَن الْغَزالِيّ لم يذكرهَا فِي رسم الْعَدَالَة وَلم يتَكَلَّم صَاحب جَوَاهِر التَّحْقِيق على هَذَا وَقد عرفت مِمَّا أسلفناه أَن الأولى ترك قيد الابتداع إِلَّا أَن يدرج فِي الْكَبَائِر لما عرفت من نهوض الْأَدِلَّة على أَنَّهَا مِنْهَا وَقد عده صَاحب الزواجر مِنْهَا وَهُوَ صَادِق عَلَيْهِ حَدهَا بِأَنَّهَا مَا توعد عَلَيْهِ بِعَيْنِه كَمَا فِي الْفُصُول وَجمع الْجَوَامِع فَمَا نظره السعد غير صَحِيح إِلَّا أَن يُرِيد أَنَّهَا قد دخلت فِي قيد من قيود حد الْعَدَالَة وَإِلَّا صَحَّ أَن هَذَا مُرَاده فَإِنَّهُ جعل مَحل النّظر إخلالها بِالْعَدَالَةِ وَإِذا عرفت أَنه لَا يقبل مُبْتَدع فِي مُبْتَدع فقد قل من خلا عَن الابتداع من الجارحين لغَيرهم فَلَا يَنْبَغِي على مَا قَالُوا إِنَّه يقبل قَول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 جارح حَتَّى يعلم خلوه من الْبِدْعَة بِجَمِيعِ أَنْوَاعهَا لإطلاقهم إِيَّاهَا فِي الرَّسْم الرَّابِعَة من يقبل فساق التَّأْوِيل وينقل الْإِجْمَاع على قبولهم كالأمير الْحُسَيْن صَاحب الشِّفَاء فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابه شِفَاء الأورام فِي كتاب الْوَصَايَا وَأما الْفَاسِق التَّأْوِيل فَإنَّا لَا نبطل كفاءته فِي النِّكَاح كَمَا تقدم ونقبل خَبره الَّذِي نجعله أصلا للْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة لإِجْمَاع الصَّحَابَة على قبُول أَخْبَار الْبُغَاة على أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِ السَّلَام وإجماعهم حجَّة انْتهى فَلَا يعاب عَلَيْهِ رِوَايَته عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة أول حَدِيث فِي كِتَابه وَغَيره يعاب عَلَيْهِ قدحه فِي جرير بن عبد الله ورده لخبره بعد مَا جعل غَيره مَقْبُولًا مَعَه وَهُوَ الْبَغي الْخَامِسَة قَول الْأُصُولِيِّينَ من طرق التَّعْدِيل رِوَايَة من لَا يروي إِلَّا عَن عدل طَريقَة عزيزة الْوُجُود بل عديمة فَإِن هذَيْن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الشَّيْخَيْنِ صَاحِبي الصَّحِيح هما أحسن النَّاس رجَالًا وَكَذَلِكَ النَّسَائِيّ قَالَ الذَّهَبِيّ وَابْن حجر يتعنت فِي الرِّجَال وَقد سَمِعت مَا فِي كتبهمْ مِمَّن لَيْسَ بِعدْل أَو غَيرهم أبعد وَأبْعد عَن ذَلِك الِالْتِزَام وَبِه يعلم أَن قَول الْحَافِظ ابْن حجر إِن شَرط الصَّحِيح أَن يكون رِوَايَة مَعْرُوفا بِالْعَدَالَةِ فَمن زعم أَن أحدا مِنْهُم أَي مِمَّن فِي الصَّحِيحَيْنِ مَجْهُول الْعَدَالَة فَكَأَنَّهُ نَازع المُصَنّف أَيْضا فِي دَعْوَاهُ أَنه مَعْرُوف وَلَا شكّ أَن الْمُدَّعِي لمعرفته مقدم على من يَدعِي عدم مَعْرفَته لما مَعَ الْمُثبت من زِيَادَة الْعلم انْتهى هَذَا مُسلم فِي هَذَا النَّوْع لَكِن كَيفَ يتم فِيمَن عرف بِعَدَمِ الْعَدَالَة كعمران بن حطَّان من رجال البُخَارِيّ ومروان من رجالهما لما عرفت من اعْتِمَاد مَالك على مَرْوَان واعتماد الشَّيْخَيْنِ على مَالك وَقَوْلهمْ لَيْسَ لمروان فِي مُسلم سلم لَكِن مَالك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 رجال مُسلم وَرُبمَا كَانَ فِيهِ من حَدِيث مَرْوَان من طَرِيقه وَقد تقرر أَن الْجَارِح أولى من الْمعدل لِأَن عِنْده زِيَادَة علم وَلِأَن قبُوله عمل بالجارح والمعدل والإعمال أولى من الإهمال إِن قلت مَا روى مُلْتَزم الرِّوَايَة عَن الْعُدُول إِلَّا عَن عدل فِي ظَنّه وَلَعَلَّه لم يطلع على مَا فِيهِ من قدح أَو كَانَ يرى إِنَّمَا قدح بِهِ لَيْسَ بجارح عِنْده لاخْتِلَاف أنظار النظار إِلَى ذَلِك قلت مَعْلُوم أَن هَذَا مُرَاد الْمُلْتَزم وعذره إِلَّا أَنا نقُول بعد تتبع النقاد لرِوَايَة ذَلِك الْمُلْتَزم ووجودهم فِي رِوَايَة الْمَجْرُوحين وَغير الْعُدُول شكك ذَلِك على النَّاظر فِي عَدَالَة من روى عَنهُ هَؤُلَاءِ الملتزمون لعدالة الروَاة لتجويز أَنه لَيْسَ بِعدْل وَدَلِيل التجويز ظُهُور غير الْعدْل فِي روايتهم وَحِينَئِذٍ فَلَا يبْقى مُجَرّد رِوَايَات من لَا يروي إِلَّا عَن عدل تعديلا وَهَذَا أوضح وَيَأْتِي هَذَا فِي الْفَائِدَة الْعَاشِرَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 السَّادِسَة من الْبعد عَن الْإِنْصَاف قَول ابْن الْقطَّان إِن فِي رجال الصَّحِيحَيْنِ من لَا يعلم إِسْلَامه فضلا عَن عَدَالَته وَكم بَين هَذَا وَبَين قَول الْحَافِظ السَّابِق آنِفا وَكَلَام ابْن الْقطَّان وَإِن تَلقاهُ بعض محققي الْمُتَأَخِّرين بِالْقبُولِ فَلَيْسَ بمقبول إِذْ من الْمَعْلُوم أَنه لَا يروي أحد من أهل الْعلم كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن غير مُسلم فَلَا بالإفراط وَلَا بالتفريط وكلا طرفِي قسط الْأُمُور ذميم السَّابِعَة قَول الذَّهَبِيّ إِن أهل الْبِدْعَة الْكُبْرَى الحاطين على الشَّيْخَيْنِ الدعاة إِلَى ذَلِك لَا يقبلُونَ وَلَا كَرَامَة غير صَحِيح فقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 خَرجُوا الْجَمَاعَة من أهل هَذَا الْقَبِيل كعدي بن ثَابت وَتقدم لَك أَنه قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ رَافِضِي غال وَأخرج السِّتَّة لأبي مُعَاوِيَة الضَّرِير قَالَ الذَّهَبِيّ إِنَّه غال فِي التَّشَيُّع وَوَثَّقَهُ الْعجلِيّ وَلَا يخفى من وثقوه من أهل هَذِه الصّفة وَلَا تراهم يعولون إِلَّا على الصدْق كَمَا قَالَ البُخَارِيّ فِي أَيُّوب ابْن عَائِذ بن مُدْلِج كَانَ يرى الإرجاء إِلَّا أَنه صَدُوق وَقد وَثَّقَهُ من سلف وَالْعجب من قَول غلاة الشِّيعَة ورد مثل الْحَارِث الْأَعْوَر والقدح فِيهِ بالتشيع حَتَّى تكلّف مُسلم فِي مُقَدّمَة صَحِيحه بِذكر أَشْيَاء عَن الْحَارِث لَا تعد قدحا وَلَا جرحا كَقَوْلِه إِنَّه قَالَ تعلمت الْوَحْي فِي سنتَيْن أَو فِي ثَلَاث سِنِين وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى الْقُرْآن هَين الْوَحْي شَدِيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 قَالَ فِي شرح مُسلم للنووي ذكر مُسلم هَذَا فِي جملَة مَا أنكر على الْحَارِث الْأَعْوَر وجرح بِهِ وَأخذ عَلَيْهِ من قَبِيح مذْهبه وغلوه فِي التَّشَيُّع وَكذبه انْتهى قلت الْعجب من الْقدح بِهَذِهِ الْعبارَات الَّتِي مَا يكَاد يتَبَيَّن المُرَاد بهَا مَعَ صِحَة حملهَا على مَا لَا ضير فِيهِ كَمَا تسمعه عَن الْخطابِيّ وأعجب من ذَلِك قَول شَارِح مُسلم إِنَّهَا من قَبِيح مذْهبه وغلوه فِي التَّشَيُّع وَأي مآس لهَذِهِ الْأَلْفَاظ بالتشيع مَا هَذَا بإنصاف وَلَقَد أحسن القَاضِي عِيَاض حَيْثُ قَالَ أَرْجُو أَن هَذَا يَعْنِي الْكَلَام الَّذِي نَقله مُسلم عَن الْحَارِث من أخف أَحْوَاله لاحْتِمَاله الصَّوَاب فقد فسره بَعضهم بِأَن الْوَحْي هُنَا الْكِتَابَة وَمَعْرِفَة الْخط قَالَ الْخطابِيّ يُقَال أوحى ووحي إِذا كتب وعَلى هَذَا لَيْسَ على الْحَارِث فِي هَذَا دَرك انْتهى إِن قلت قد قَدَحُوا فِيهِ بِالْكَذِبِ قلت تعجبنا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 قدحهم فِيهِ بالتشيع وَمن إثباتهم كلَاما لَيْسَ فِيهِ شَيْء من قدح وَلَا تشيع الثَّامِنَة أهل الحَدِيث اتّفق لَهُم فِي مُخَالفَة فروعهم لأصولهم مِثْلَمَا اتّفق لأهل سَائِر الْفُنُون أصلوا أَنه لَا يقبل الداعية وَسمعت قبولهم لَهُ وأصلوا أَنه لَا يقبل غلاة الروافض وَسمعت قبولهم لَهُم وأصلوا أَنه لَا يقبل غلاة أهل الإرجاء ونراهم يقبلونهم وأصلوا أَنه لَا يقبل أهل الْقدر ونراهم يقبلُونَ من اتّصف بِهِ وَهَذَا كُله يرشدك إِلَى صِحَة مَا قَرَّرْنَاهُ من أَنه لَا يُلَاحظ إِلَّا ظن الصدْق وَأَنه مدَار الرِّوَايَة وَلَقَد كرر فِي العواصم أَن الْمُعْتَبر فِي الرَّاوِي ظن الصدْق التَّاسِعَة كَلَام الأقران والمتضادين فِي الْمذَاهب والعقائد لَا يَنْبَغِي قبُوله فقد فتح بَاب التمذهب عداوات وتعصبات قل من سلم مِنْهَا إِلَّا من عصمَة الله قَالَ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ فِي تَرْجَمَة أَحْمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ابْن عبد الله بن أبي نعيم مَا لَفظه كَلَام الأقران بَعضهم فِي بعض لَا يعبأ بِهِ لَا سِيمَا إِذا لَاحَ لَك أَنه لعداوة أَو لمَذْهَب أَو لحسد لَا ينجو مِنْهُ إِلَّا من عصمه الله وَمَا علمت أَن عصرا من الْأَعْصَار سلم أَهله من ذَلِك سوى النَّبِيين وَالصديقين فَلَو شِئْت لسردت لَك من ذَلِك كراريس انْتهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وَهَذَا كَلَام الذَّهَبِيّ وَنَصه وَقد عيب عَلَيْهِ مَا عابه عَلَيْهِ غَيره قَالَ ابْن السُّبْكِيّ فِي الطَّبَقَات نقلا عَن الْحَافِظ صَلَاح الدّين العلائي مَا لَفظه الشَّيْخ شمس الدّين الذَّهَبِيّ لَا شكّ فِي دينه وورعه وتحريه فِيمَا يَقُول وَلكنه غلب عَلَيْهِ منافرة التَّأْوِيل والغفلة عَن التَّنْزِيه حَتَّى أثر ذَلِك فِي طبعه انحرافا شَدِيدا عَن أهل التَّنْزِيه وميلا قَوِيا إِلَى أهل الْإِثْبَات فَإِذا ترْجم لأحد مِنْهُم أطنب فِي محاسنه وتغافل عَن غلطاته وَإِذا ذكر أحدا من أهل الطّرف الآخر كالغزالي وإمامه الْجُوَيْنِيّ لَا يُبَالغ فِي وَصفه وَيكثر من أَقْوَال من طعن فِيهِ وَإِذا ظفر لأَحَدهم بغلطة ذكرهَا وَكَذَا فِي أهل عصرنا إِذا لم يقدر على التَّصْرِيح يَقُول فِي تَرْجَمته وَالله يصلحه وَنَحْو ذَلِك وَسَببه الْمُخَالفَة فِي العقيدة انْتهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 قَالَ ابْن السُّبْكِيّ وَقد وصل يُرِيد الذَّهَبِيّ من التعصب وَهُوَ شَيخنَا إِلَى حد يسخر مِنْهُ وَأَنا أخْشَى عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة من غَالب عُلَمَاء الْمُسلمين وَالَّذِي أُفْتِي بِهِ أَنه لَا يجوز الِاعْتِمَاد على شَيخنَا الذَّهَبِيّ فِي ذمّ أشعري وَلَا مدح حنبلي وَأَقُول الصّلاح العلائي وَابْن السُّبْكِيّ شافعيان إمامان كبيران والذهبي إِمَام كَبِير الشَّأْن حنبلي الْمَذْهَب وَبَين هَاتين الطَّائِفَتَيْنِ فِي العقائد وَفِي الصِّفَات وَغَيرهَا تنافر كلي فَلَا يقبلان عَلَيْهِ تعين مَا قَالَاه وَقَالَ ابْن السُّبْكِيّ قد عقد ابْن عبد الْبر بَابا فِي حكم قَول الْعلمَاء بَعضهم فِي بعض بَدَأَ فِيهِ بِحَدِيث الزبير دب إِلَيْكُم دَاء الْأُمَم قبلكُمْ الْحَسَد والبغضاء قَالَ ابْن السُّبْكِيّ وَقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 عيب على ابْن معِين كَلَامه فِي الشَّافِعِي وتكلمه فِي مَالك بن أبي ذِئْب وَغَيره قلت إِذا كَانَ الْأَمر كَمَا سَمِعت فَكيف حَال النَّاظر فِي كتب الْجرْح وَالتَّعْدِيل وَقد غلب التمذهب والمخالفة فِي العقائد حَتَّى إِنَّه يُوصف الرجل بِأَنَّهُ حجَّة أَو يُوصف بِأَنَّهُ دجال بِاعْتِبَار اخْتِلَاف حَال الاعتقادات والأهواء فَمن هُنَا كَانَ أصعب شَيْء فِي عُلُوم الحَدِيث الْجرْح وَالتَّعْدِيل فَلم يبْق للباحث طمأنينة إِلَى قَول أحد ثمَّ مَا بعد قَول ابْن السُّبْكِيّ إِنَّه لَا يقبل قَول الذَّهَبِيّ فِي مدح حنبلي وَلَا ذمّ أشعري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وَقد صَار النَّاس عَالَة على الذَّهَبِيّ وَكتبه وَلَكِن الْحق أَنه لَا يقبل على الذَّهَبِيّ بِمَا ذكره هُوَ وَبِمَا ذكره الذَّهَبِيّ أَنهم لَا يقبلُونَ الأقران بَعضهم على بعض ثمَّ إِن كَانَ مُرَادهم بالأقران المتعاصرون فِي قرن وَاحِد والمتساوون فِي الْعُلُوم فَهُوَ مُشكل لِأَنَّهُ لَا يعرف حَال الرجل إِلَّا من عاصره وَلَا يعرف حَاله من بعده إِلَّا بأخبار من قارنه إِن أُرِيد الأول وَإِن أُرِيد الثَّانِي فَأهل الْعلم هم الَّذين يعْرفُونَ أمثالهم وَلَا يعرف أولي الْفضل إِلَّا ذَوُو الْفضل فَالْأولى إناطة ذَلِك لمن يعلم أَن بَينهمَا تنافسا أَو تحاسدا أَو شَيْئا يكون سَببا لعدم الثِّقَة لقبُول بَعضهم فِي بعض لَا لكَونه من الأقران فَإِنَّهُ لَا يعرف عَدَالَته وَلَا جرحه إِلَّا من أقرانه وَأعظم مَا فرق بَين النَّاس هَذِه العقائد وَالِاخْتِلَاف فِيهَا فليحذر عَن قبُول الْمُخْتَلِفين فِيهَا بَعضهم فِي بعض قبل الْبَحْث عَن سَبَب الْقدح والتثبت فِي صِحَة نسبته إِلَيْهِ وأعون شَيْء على معرفَة ذَلِك فِي هَذِه الْأَعْصَار الْبَحْث فِي كتب الرِّجَال المتعددة الْمُخْتَلف مؤلفوها وسنقرر آخرا مَا يكْشف هَذِه الْغُمَّة الْعَاشِرَة وجود الحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ أَو أَحدهمَا لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 يقْضِي بِصِحَّتِهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي سبق لوُجُود الرِّوَايَة فيهمَا عَمَّن عرفت أَنه غير عدل فَقَوْل الْحَافِظ ابْن حجر أَن رواتهما قد حصل الِاتِّفَاق على تعديلهم بطرق اللُّزُوم مَحل نظر لقَوْله إِن الْأمة تلقت الصَّحِيحَيْنِ بِالْقبُولِ هُوَ قَول سبقه إِلَيْهِ ابْن الصّلاح وَأَبُو طَاهِر الْمَقْدِسِي وَأَبُو عبد الرَّحِيم عبد الْخَالِق وَإِن اخْتلف هَؤُلَاءِ فِي إِفَادَة هَذَا التلقي الْعلم أَو الظَّن وَبسط السَّيِّد مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْأَمِير رَحمَه الله سَبَب الْخلاف فِي كتبه وَأَنه جَوَاز الْخَطَأ على الْمَعْصُوم فِي ظَنّه أَو عَدمه وَطول الْكَلَام فِي ذَلِك أَيْضا وَلنَا عَلَيْهِ أنظار وأودعناها رسالتنا الْمُسَمَّاة حل العقال وَصِحَّته فِي حيّز الْمَنْع بَيَان ذَلِك أَنا نورد عَلَيْهِ سُؤال الاستفسار عَن طرفِي هَذِه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الدَّعْوَى فَنَقُول فِي الأول هَل المُرَاد أَن كل الْأمة من خَاصَّة وَعَامة تلقتها بِالْقبُولِ أَو المُرَاد عُلَمَاء الْأمة المجتهدون وَمن الْبَين أَن الأول غير مُرَاد وَأَن الثَّانِي دَعْوَى على كل فَرد من أَفْرَاد الْأمة الْمُجْتَهدين أَنه تلقى الْكِتَابَيْنِ بِالْقبُولِ فَلَا بُد من الْبُرْهَان عَلَيْهَا وإقامته على هَذِه الدَّعْوَى من المتعذرات عَادَة كإقامة الْبَيِّنَة على دَعْوَى الْإِجْمَاع الَّذِي جزم بِهِ أَحْمد بن حَنْبَل وَغَيره أَن من ادَّعَاهُ فَهُوَ كَاذِب وَإِن كَانَ هَذَا فِي عصره قبل عصر تأليف الصَّحِيحَيْنِ فَكيف من بعده وَالْإِسْلَام لَا يزَال منتشرا وتباعد أَطْرَاف أقطاره وَالَّذِي يغلب بِهِ الظَّن أَن من الْعلمَاء الْمُجْتَهدين من لَا يعرف الصَّحِيحَيْنِ إِذْ معرفتهما بخصوصهما لَيست شرطا فِي الِاجْتِهَاد وَبِالْجُمْلَةِ فَنحْن نمْنَع هَذِه الدَّعْوَى ونطالب بدليلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 السُّؤَال الثَّانِي على تَقْدِير تَسْلِيم الدَّعْوَى الأولى فَهَل المُرَاد بالتلقي بِالْقبُولِ تلقي أصل الْكِتَابَيْنِ وجملتهما وأنهما لهذين الْإِمَامَيْنِ الجليلين الحافظين فَهَذَا لَا يُفِيد إِلَّا الحكم بِصِحَّة نسبتهما إِلَى مؤلفيهما وَلَا يُفِيد الْمَطْلُوب أَو المُرَاد بالتلقي بِالْقبُولِ لكل فَرد من أَفْرَاد أحاديثهما وَهَذَا هُوَ الْمُفِيد الْمَطْلُوب إِذْ هُوَ الَّذِي رتب عَلَيْهِ الِاتِّفَاق على تَعْدِيل رواتهما فَإِن المتلقي بِالْقبُولِ هُوَ مَا حكم الْمَعْصُوم بِصِحَّتِهِ ظنا كَمَا رسمه بذلك السَّيِّد مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم رَحمَه الله وَهُوَ يلاقي قَول الْأُصُولِيِّينَ إِنَّه الَّذِي يكون الْأمة بَين عَامل بِهِ ومتأول لَهُ إِذْ لَا يكون ذَلِك إِلَّا فِيمَا صَحَّ لَهُم وَيحْتَمل أَنه يدْخل فِي الْحسن فَلَا يلاقي رسمه رسمهم إِلَّا أَنه لَا يخفى عدم صِحَة هَذِه الدَّعْوَى وبرهان ذَلِك مَا سمعته مِمَّا نَقَلْنَاهُ من كَلَام الْعلمَاء من عدم عَدَالَة كل من فيهمَا بل بَالغ ابْن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الْقطَّان فَقَالَ فيهمَا من لَا يعلم إِسْلَامه وَهَذَا تَفْرِيط وَقد تَلقاهُ بعض محققي الْمُتَأَخِّرين كَمَا أسلفناه وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه تَفْرِيط لما علم من أَنه لَا يروي أحد من أَئِمَّة الْمُسلمين عَن غير مُسلم أَحَادِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا أَن دَعْوَى عَدَالَة كل من فيهمَا إفراط وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَمن أَيْن يتلَقَّى بِالْقبُولِ إِلَّا أَنه قد اسْتثْنى ابْن الصّلاح من التلقي بِالْقبُولِ لأحاديثهما مَا انتقاه الْحفاظ كالدارقطني وَابْن مَسْعُود الدِّمَشْقِي وَأبي عَليّ الغساني قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر وَهُوَ احْتِرَاز حسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وَقَالَ وعده مَا اجْتمع لنا من ذَلِك مِمَّا فِي كتاب البُخَارِيّ وشاركه مُسلم فِي بَعْضهَا مئة وَعشرَة أَحَادِيث وتتبعها الْحَافِظ فِي مُقَدّمَة الْفَتْح وَأجَاب عَن الْعِلَل الَّتِي قدح بهَا وَبسط الْأَجْوِبَة وَقَالَ آخر لَيست كلهَا وَاضِحَة بل أَكْثَرهَا الْجَواب عَنهُ ظَاهر والقدح فِيهِ مندفع وَبَعضهَا الْجَواب عَنهُ مُحْتَمل واليسير مِنْهُ فِي الْجَواب عَنْهَا تعسف انْتهى معنى كَلَامه وَأَقُول فِيهِ أَن الْمُدَّعِي تلقي الْأمة بِالْقبُولِ وَهُوَ أخص من الصِّحَّة وَقد ذهب الْأَكْثَر وَمِنْهُم ابْن حجر إِلَى إفادته الْعلم بِخِلَاف مَا حكم لَهُ لمُجَرّد الصِّحَّة فغاية مَا يُفِيد الظَّن مَا لم يَنْضَم إِلَيْهِ غير ذَلِك فيفيده وَهَذِه الْأَحَادِيث مخرجة عَن الصَّحِيحَيْنِ لَا عَن التلقي بِالْقبُولِ فَإِن كَانَ مَا لم يَصح غير متلقي فَالصَّوَاب فِي الْعبارَة أَن يُقَال غير صَحِيحَة لَا غير متلقاه بِالْقبُولِ لإيهامه أَنَّهَا صَحِيحَة إِذْ لَيْسَ عَنْهَا إِلَّا التلقي بِالْقبُولِ وَهُوَ أخص من الصِّحَّة وَنفي الْأَخَص لَا يسْتَلْزم نفي الْأَعَمّ وَالْحَال أَنَّهَا لَيست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 بصحيحة وَأما قَول السَّيِّد مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْأَمِير رَحمَه الله إِن الْأمة تلقتها بِالْقبُولِ وَإِن صَاحب الْكَشَّاف والأمير الْحُسَيْن ذكرا الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظ الصَّحِيح وَنقل مِنْهُمَا ذَلِك فَفِي الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الْإِطْلَاق توقف عِنْدِي لِأَن لفظ صَحِيح البُخَارِيّ وصحيح مُسلم صَارا لقبين للكتابين فإطلاق ذَلِك عَلَيْهِمَا من إِطْلَاق الألقاب على مسمياتها وَلَا يلْزم مِنْهُ الْإِقْرَار بِالْمَعْنَى الْأَصْلِيّ الإضافي نعم لَا شكّ أَن الصَّحِيحَيْنِ أشرف كتب الحَدِيث قدرا وَأَعْظَمهَا ذكرا وَأَن أحاديثهما أرفع الْأَحَادِيث دَرَجَة فِي الْقبُول من غَيرهَا لخصائص اختصا بهَا مِنْهَا جلالة مؤلفيها وإمامتهما فِي هَذَا الشَّأْن وبلوغهما غَايَة فِي الدّيانَة والإتقان ثمَّ مَا رزق هَذَانِ الكتابان من الْحَظ وَالْقَبُول عِنْد أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وفرسان ذَلِك الميدان فَبَحَثُوا عَن رجالهما وَتَكَلَّمُوا على كل ذرة فيهمَا مِمَّا لَهما وَعَلَيْهِمَا فغالب أَئِمَّة الْإِسْلَام وأعلام الْأَعْلَام مَا بَين خَادِم لَهما بالْكلَام عَلَيْهِمَا على رجالهما أَو معانيهما أَو على لغتهما أَو على إعرابهما أَو مُخْتَصر فيهمَا أَو مخرج عَلَيْهِمَا فهما أجل كتب الحَدِيث وأحاديثهما السالمة عَن التَّكَلُّم فيهمَا أقرب الْأَحَادِيث تحصيلا للظن الْمَطْلُوب وَنَفس الْعَالم أسكن إِلَى مَا فيهمَا مِنْهَا إِلَى مَا فِي غَيرهمَا هَذَا شَيْء يجده النَّاظر من نَفسه إِن أنصف وَكَانَ من أهل الْعلم إِنَّمَا لَا ندعي لَهما زِيَادَة على مَا يستحقانه وَلَا يهضم مِنْهُمَا مَا هُوَ أهل لَهُ وَأما قَول البُخَارِيّ لم أخرج فِي هَذَا الْكتاب إِلَّا صَحِيحا وَمَا تركت من الصَّحِيح أَكثر وَقَوله مَا أدخلت فِي كتابي الْجَامِع إِلَّا مَا صَحَّ فَهُوَ كَلَام صَحِيح إِخْبَار عَن نَفسه أَنه تحري الصَّحِيح فِي نظره وَقد قَالَ زين الدّين إِن قَول الْمُحدثين هَذَا حَدِيث صَحِيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 مُرَادهم فِيمَا ظهر لنا عملا بِظَاهِر الْإِسْنَاد لِأَنَّهُ مَقْطُوع بِصِحَّتِهِ فِي نفس الْأَمر لجَوَاز الْخَطَأ وَالنِّسْيَان على الثِّقَة انْتهى قلت فَيجوز الْخَطَأ وَالنِّسْيَان على البُخَارِيّ نَفسه فِيمَا حكم بِصِحَّتِهِ وَإِن كَانَ تجويزا مرجوحا لِأَنَّهُ بعد تتبع الْحفاظ لما فِي كِتَابه فإظهار مَا خَالف هَذَا القَوْل الْمَنْقُول عَنهُ فِيهِ من الشّرطِيَّة مَا ينْهض التجويز ويقود الْعَالم الفطن النظار إِلَى زِيَادَة الاختبار وَهَذَا مَا وعدنا بِهِ فِي آخر الْفَائِدَة الْخَامِسَة على أَن البُخَارِيّ وَمُسلمًا لم يذكرَا شرطا للصحيح وَإِنَّمَا استخرج الْأَئِمَّة لَهما شُرُوطًا بالتتبع لطرق رواتهما وَلم يتَّفق المتتبعون على شَرط مَعْرُوف بل اخْتلفُوا فِي ذَلِك اخْتِلَافا كثيرا يعرف ذَلِك من مارس كتب أصُول الحَدِيث وَالْأَقْرَب أَنَّهُمَا لَا يعتمدان إِلَّا على الصدْق والضبط كَمَا اخترناه وَقد صرح بِهِ الْحَافِظ ابْن حجر فِيمَا أسلفناه عَنهُ أَنه لَا أثر للتضعيف مَعَ الصدْق والضبط وأنهما لَا يُريدَان الْعدْل إِلَّا ذَلِك إِن ثَبت عَنْهُمَا أَنَّهُمَا شرطا أَن لَا تكون الرِّوَايَة إِلَّا عَن عدل وَسلمنَا ثُبُوت اشتراطهما الْعَدَالَة فِي الرَّاوِي فَمن أَيْن علم أَن مَعْنَاهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 عِنْدهمَا مَا فسرتموها بِهِ مِمَّا أسلفناه فِي رسمهما قَالَ ابْن طَاهِر شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم أَن يخرجَا الحَدِيث الْمجمع عَلَيْهِ ثِقَة نَقله إِلَى الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور قَالَ زين الدّين لَيْسَ مَا قَالَه بجيد لِأَن النَّسَائِيّ ضعف جمَاعَة أخرج لَهما الشَّيْخَانِ أَو أَحدهمَا قَالَ السَّيِّد مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم رَحمَه الله لَيْسَ هَذَا مِمَّا اخْتصَّ بِهِ النَّسَائِيّ بل قد شَاركهُ غير وَاحِد فِي ذَلِك من أَئِمَّة الْجرْح وَالتَّعْدِيل كَمَا هُوَ مَعْرُوف فِي كتب هَذَا الشَّأْن وَلكنه تَضْعِيف مُطلق غير مُبين السَّبَب وَهُوَ غير مَقْبُول على الصَّحِيح انْتهى قلت لَيْسَ مَا أطلقهُ السَّيِّد مُحَمَّد رَحمَه الله بِصَحِيح فكم من جرح فِي رجالهما مُبين السَّبَب كَمَا سمعته فِيمَا سلف وَلَئِن سلم فَأَقل أَحْوَال الْجرْح الْمُطلق أَن يُوجب توقفا فِي الرَّاوِي وحثا على الْبَحْث عَن تَفْصِيل أَحْوَاله وَمَا قيل فِيهِ وَلَا شكّ أَن هَذَا يفت فِي عضد الْقطع بِالصِّحَّةِ وَهَذِه فَائِدَة مُسْتَقلَّة أَعنِي تَأْثِير الْقدح الْمُطلق توقفا فِي الْمَجْرُوح يُوجب عدم الْعَمَل بروايته حَتَّى يفتش عَمَّا قيل وَإِلَّا لزم الْعَمَل وَالْقطع بالحكم مَعَ الشَّك وَالِاحْتِمَال وَذَلِكَ يُنَافِي الْقطع قطعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وَلَا نغتر بقَوْلهمْ الْجرْح الْمُطلق لَا يعْتَبر بِهِ فَفِيهِ مَا سَمِعت فَإِن قلت إِذا كَانَ الْحَال مَا ذكرت من أَنه لَا يقبل الأقران بَعضهم فِي بعض وَلَا التمذهب فِي غير أهل مَذْهَبهم فقد ضَاقَ نطاق معرفَة الْجرْح وَالتَّعْدِيل وَلَا بُد مِنْهُمَا للنَّاظِر لنَفسِهِ وَأهل الْمذَاهب فِي هَذِه الأزمة كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ وكل فريق فِي غَيرهم يقدحون قلت إِن شددت يَديك على مَا أسلفناه لَك من الْأَدِلَّة أَنه لَيْسَ الشَّرْط فِي قبُول الرِّوَايَة إِلَّا صدق الرَّاوِي وَضَبطه هان عَلَيْك هَذَا الْخطب الْجَلِيل وَحصل لَك فِي أصل الرِّوَايَة أصل أصيل وَذَلِكَ أَن غَالب الْجرْح والتضعيف بِمثل القَوْل بِالْقدرِ والرؤية وبالإرجاء وبغلو التَّشَيُّع وَغَيرهَا مِمَّا يعود إِلَى العقائد والمذاهب كخلق الْقُرْآن وَمَسْأَلَة الْأَفْعَال وَلَيْسَت عندنَا هَذِه قوادح فِي الرَّاوِي من حَيْثُ الرِّوَايَة وَإِن كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 بَعْضهَا قادحا من حَيْثُ الدّيانَة فباب الرِّوَايَة غير بَاب الدّيانَة وَإِذا كَانَ قد تحقق الْإِجْمَاع عل قبُول رِوَايَة من سفك دم أهل الْإِسْلَام كسفك دِمَاء عَبدة الْأَوْثَان وأقدم عَلَيْهِم بِالسَّيْفِ والسنان وأخاف إخوانه من أَعْيَان أهل الْإِيمَان لظن صدقه فِي الرِّوَايَة وتأويله فِي الْجنان وَإِن كَانَ تَأْوِيله ترده الْعُقُول وَلَا تقبله الفحول كتأويل مُعَاوِيَة أَن قَاتل عمار رَضِي الله عَنهُ هُوَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّهُ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِلَى رماحهم وألقاه بَين سيوفهم وكفاحهم وَقد ألزمهُ عبد الله بن عمر بِأَن قَالَ حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأفحمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 فَالْأولى قبُول من يرى الإرجاء وَالْقدر وَنَحْوهمَا فَإِنَّهُ لم يعْتَقد ذَلِك وَيَدْعُو إِلَيْهِ إِلَّا لاعْتِقَاده أَنه دين الله تَعَالَى الَّذِي قَامَت عَلَيْهِ الْأَدِلَّة فَلم يبْق الْقدح عندنَا إِلَّا بِالْكَذِبِ أَو سوء الْحِفْظ أَو الْوَضع وَمَا لاقاه فِي مَعْنَاهُ مَعَ أَن الْكَذِب عَنهُ رادع طبيعي فِي الجبلة وَلذَا قيل يطبع الْمُؤمن على كل خلق لَيْسَ الْخِيَانَة وَالْكذب وَلَيْسَ بِحَدِيث كَمَا قد توهم وَقد كَانَ يتنزه عَنهُ أشر خلق الله كالتسعة الرَّهْط الَّذين يفسدون فِي الأَرْض وَلَا يصلحون فَإِنَّهُم قَالُوا {لنبيتنه وَأَهله ثمَّ لنقولن لوَلِيِّه مَا شَهِدنَا مهلك أَهله وَإِنَّا لصادقون} فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ جَار الله رَحمَه الله وَفِي هَذَا دَلِيل قَاطع على أَن الْكَذِب قَبِيح عِنْد الْكَفَرَة الَّذين لَا يعْرفُونَ الشَّرْع ونواهيه وَلَا يخْطر ببالهم أَلا ترى أَنهم قصدُوا قتل نَبِي الله وَلم يرْضوا لأَنْفُسِهِمْ أَن يَكُونُوا كاذبين حَتَّى سووا للصدق فِي خبرهم حِيلَة يتصونون بهَا عَن الْكَذِب انْتهى وَفِي خبر أبي سُفْيَان مَعَ هِرقل الَّذِي سَاقه البُخَارِيّ أَوَائِل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 صَحِيحه أَنه ترك الْكَذِب لِئَلَّا يُؤثر عَنهُ هَذَا فَكيف لَا يتنزه عَنهُ الْمُسلمُونَ بل أعيانهم وهم رُوَاة كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن الرَّاوِي قد يلابس بعض مَا يُنكر عَلَيْهِ وَلَا يصدر عَنهُ الْكَذِب فِي رِوَايَته وَهَذَا الزُّهْرِيّ كَانَ يخالط خلفاء الأموية ويلبس زِيّ الأجناد وَيفْعل مَا عابه عَلَيْهِ نظراؤه من أهل الْعلم فِي عصره وعدوه قبيحا عَلَيْهِ وَلما ذكر لَهُ بعض خلفائهم كلَاما فِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِي تولى كبره مِنْهُم} الْآيَة وَكذب الزُّهْرِيّ لما ذكر لَهُ الْحق قَالَ مَا مَعْنَاهُ وَالله لَو كَانَ إِبَاحَة الْكَذِب بَين دفتي الْمُصحف أَو نَادَى مُنَاد من السَّمَاء بإباحته لما فعلته انْتهى فتحرز عَن الْكَذِب وَبَالغ فِي التَّنَزُّه عَنهُ مَعَ غشيانه لما عيب عَلَيْهِ وَأما حَدِيث ثمَّ يفشو الْكَذِب فَلَا يُنَافِي أَن تكون طَائِفَة من الْأمة متحرزة عَنهُ فقد ثَبت أَنَّهَا لَا تزَال طَائِفَة من الْأمة على الْحق ظَاهِرين لَا يضرهم من خالفهم وَأي طَائِفَة أعظم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 رُوَاة حَدِيثه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيُؤَيّد ذَلِك حَدِيث (إِنَّه يحمل هَذَا الْعلم عَن كل خلف عدوله) صَححهُ ابْن عبد الْبر وَرُوِيَ عَن أَحْمد بن حَنْبَل أَنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 حَدِيث صَحِيح وَاعْلَم أَنه لَيْسَ مرادنا من هَذَا نفي وُقُوع الْكَذِب من الروَاة بل قد تحقق وُقُوعه بِلَا ريب بل مرادنا أَنه لَا يقبل الْقدح بِالْكَذِبِ والوضع إِلَّا فِيمَن علم خلاعته وتساهله فِي الدّين وارتكابه للعظائم فَإِنَّهُ لَا يقدم على الْكَذِب عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا من كَانَ لَا ديانَة لَهُ مُحَققَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 فَلَا يُقَال يُعَارض مَا ذكرت من الْوَرع عَنهُ الدَّاعِي إِلَيْهِ وَهُوَ مَا فِي النُّفُوس من محبَّة الرِّئَاسَة بالتسمي بالمحدث والترفع وَالدَّعْوَى الْبَاطِلَة بِأَنَّهُ حَافظ للأحاديث راولها صَاحب الرِّوَايَات حَافظ الْعَصْر وَنَحْو ذَلِك من الألقاب القاطعة للأعناق الحاملة على تحلي الْإِنْسَان بِغَيْر مَا هُوَ أَهله لأَنا نقُول هَذَا لَا يكون إِلَّا لمن لَهُ إِلْمَام بمخافة الله وتقواه السَّامع للوعيد فِيمَن تَقول عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا لم يقلهُ وَلَا يصدر هَذَا إِلَّا عَن خليع تفضحه خلاعته وتنفر عَنهُ وَعَن الرِّوَايَة عَنهُ وَعَن قبُوله وَلَا يخفى على ناقد حَقِيقَة حَاله وَمثل هَذَا لَا يكون بِحَمْد الله مَقْبُولًا عَن أحد من طوائف الروَاة وَلَا يقبل ترويجه بل هُوَ أقرب شَيْء إِلَى الافتضاح فَهُوَ مَأْمُون دُخُوله فِي الروَاة الَّذين قبلهم أساطين الْحفاظ المفتشين عَن كل ذرة والمتتبعين كل لَفْظَة وَلَا يكون الْكَذِب إِلَّا لخليع لَا يُبَالِي بالهتك كَمَا قَالَ بعض الْخُلَفَاء وَقد عوتب على الْكَذِب لَو غرغرت بِهِ لهواتك مَا فارقته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 كَمَا قيل لكذاب هَل صدقت قطّ فَقَالَ لَوْلَا أَنِّي صَادِق فِي قَول لَا لقلتهَا وأمثال هَؤُلَاءِ قد صان الله أَحَادِيث رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَكُونُوا من رواتها وَقد جعل الله لكَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رونقا وطلاوة وحلاوة يكَاد يعرف الممارسين لأحاديثه كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كَلَام غَيره فَإِنَّهُ قد أُوتِيَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَوَامِع الْكَلم وَأَتَاهُ الله من البلاغة مَا لم يُؤْت أحدا من الْعَالمين ولمعاني كَلَامه ومقاصده مَا يعرف بِهِ كَلَامه من كَلَام غَيره فِي الْأَغْلَب وَقد أخرج أَحْمد وَأَبُو يعلى عَن أبي أسيد وَأبي حميد مَرْفُوعا إِذا سَمِعْتُمْ الحَدِيث عني تعرفه قُلُوبكُمْ وتلين لَهُ أَشْعَاركُم وَأَبْشَاركُمْ وترون أَنه مِنْكُم قريب فَأَنا أولاكم بِهِ وَإِذا سَمِعْتُمْ الحَدِيث عني تنكره قُلُوبكُمْ وتنفر مِنْهُ أَشْعَاركُم وَأَبْشَاركُمْ وترون أَنه بعيد عَنْكُم فَأَنا أبعدكم مِنْهُ وَإِن كَانَ قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ضعف فَمَعْنَاه حسن فَإِن قلت إِذا كَانَت أَئِمَّة الْجرْح وَالتَّعْدِيل قد قيل فيهم مَا قيل فَكيف يَأْمَن النَّاظر لَدَيْهِ أَن يَقُولُوا فِيمَن خَالف مَذْهَبهم كَاذِب أَو وَضاع وَلَيْسَ كَذَلِك فَكيف الثِّقَة بهم قلت قد عرفنَا من تتبع أَحْوَالهم الْإِنْصَاف فِيمَا يَقُولُونَهُ أَلا تراهم يَقُولُونَ ثِقَة إِلَّا أَنه كَانَ يتشيع كَانَ حجَّة إِلَّا أَنه كَانَ يرى الْقدر كَانَ ثِقَة إِلَّا أَنه كَانَ مرجئا كَانَ مائلا عَن الْحق وَلم يكذب فِي الحَدِيث كَانَ يرى الْقدر وَهُوَ مُسْتَقِيم الحَدِيث فَهَذَا دَلِيل أَن الْقَوْم كَانُوا يذكرُونَ فِي الشَّخْص مَا هُوَ عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 واتصف بِهِ من خير وَشر وَلَا يتقولون عَلَيْهِ إِذْ لَو كَانُوا يتقولون لرموا من خالفهم فِي الْمذَاهب بِالْكَذِبِ وَلما وثقوا شِيعِيًّا وَلَا قدريا وَلَا مرجئا وهب أَنهم يتَّفق لَهُم شَيْء من ذَلِك فَلَا تَأْخُذ بِأول قَول يطْرق سَمعك من إِمَام جرح وتعديل بل تتبع مَا قَالَه فِيهِ غَيره واستقراء الْقَرَائِن فَلَا بُد وَأَن يحصل لَك ظن تعْمل بِهِ أَو تقف على الْعَمَل بِهِ وَصدق من درج من قبلنَا وَحسن حَاله أَو قبحه لَا يعرف إِلَّا بقرائن تُؤْخَذ مِمَّا يسرده عَنهُ الروَاة والمؤرخون وَأهل الْمعرفَة بأحوال النَّاس وأيامهم وَهَذِه قَرَائِن دلّت على إنصاف أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن وَإِن كَانَت لَهُم هفوات فَإِنَّهُ لم يثبت إِلَّا عصمَة الْأَنْبِيَاء من نوع الْإِنْسَان فَإِن قلت مَا أردْت من جمع هَذِه الْكَلِمَات قلت فَوَائِد جمة وَأُمُور مهمة يعرف قدرهَا من هُوَ فِي هَذَا الشَّأْن من الْأَئِمَّة فقد اشْتَمَلت على نفائس الأنظار وعَلى عُيُون مسَائِل يظمأ إِلَى معينها حَملَة الْآثَار وَبَيت قصيدها وعمدة مقصودها بَيَان أَنه لَا يشْتَرط فِي قبُول الروَاة إِلَّا ظن صدق الرَّاوِي وَضَبطه وَلَا يرد إِلَّا بكذبه وَسُوء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 حفظه وَنَحْوهمَا وَأَن هَذَا شَرط مُتَّفق عَلَيْهِ بَين كل طَائِفَة وَالْخلاف فِي الْقدح وَمَا عداهُ قد أَقَمْنَا الْأَدِلَّة على أَنه لَا قدح بِهِ فِي الرِّوَايَة وَالله سُبْحَانَهُ ولي كل توفيق وهداية نَسْأَلهُ أَن يرزقنا معرفَة الْحق واتباعه ويجعلنا أَهله وَأَتْبَاعه وَصلى الله على من نرجو بجاهه الشَّفَاعَة فِي يَوْم الْحَشْر والنشر وَقيام السَّاعَة وعَلى آله وأزواجه أَصْحَاب الْمُؤمنِينَ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين انْتهى بِحَمْد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151